تَقْرِيبُ تَهْذِيبِ الأصول المجلد 6

هوية الکتاب

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء السادس

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.

منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

ص: 1

اشارة

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء السادس

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.

منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

© جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 2

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأُصُول

الجزء السادس

آية الله السيد

علي الموسوي السبزواري

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

(لا يَخْفى أنَّ الأُصولَ مُقدمَّةٌ وَآلةٌ لِلْتَعرُّفِ على الفِقهِ؛ وَلَيسَ هُوَ مَطلُوباً بالذّاتِ, فَلا بُدَّ أَنْ يَكونَ البَحْثُ فِيهِ بِقَدَرِ الإحْتياجِ إِلَيهِ فِي ذِي المُقدِّمَة؛ لا زائِدَاً عَلَيهِ, وَأَنْ تَكُونَ كَيْفيَّة الإِسْتِدلالِ فِيهِ مِثلها فِي الفِقه فِي مُراعاةِ السُّهُولةِ, وَما هُوَ أَقْرَبُ إلى الأَذْهانِ العُرفيَّةِ, لابْتِناءِ الكِتابِ وَالسُنَّةِ اللَّذَينِ هُما أَساس الفِقْهِ عَلى ذلِك, فَالأُصُولُ مِنْ شُؤُونِ الفِقْهِ؛ لا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ خُصُوصيّاته مِنْ كُلِّ جِهَةٍ)(1).

فَقِيهُ عَصْرِهِ وَفَرِيدُ دَهْرِهِآيَةُ الله العُظْمى

السَّيِّد عَبْدُ الأَعْلى المُوسَويُّ السَّبْزَوارِيُّ قدس سره

ص: 5


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص6.

ص: 6

الفصل الخامس: في الأقل والأكثر

اشارة

الفصل الخامس(1) في الأقل والأكثر

تمهيد فيه أمور:

الأمر الأول: قد عرفت سابقاً أنَّ الشك إمّا أنْ يكون متعلقه نفس الحكم؛ والمرجع فيه البراءة العقلية والنقليّة, وإمّا أنْ يكون الشك في المحصل؛ والمرجع فيه قاعدة الإشتغال والإحتياط؛ لتحقق العلم بالتكليف بتمام حدوده وقيوده من دون أنْ تكون شبهة أو إجمال فيه ثبوتاً ولا إثباتاً, فقد إنحصر الشك في الموضوع الخارجي من حيث كونه ممّا يوجب فراغ الذمة عمّا اشتغلت به, كما إذا اغتسل أو توضأ وفي إصبعه خاتم وشك في وصول الماء إلى البشرة معه, وفي مثله يجب الإحتياط عقلاً وشرعاً, وقد تقدم تفصيل الكلام في كلّ واحد منهما فراجع.

وقد يكون الشك في الأكثر عند الدوران بينه وبين الأقل, والكلام في المقام يقع في بيان الفرق بين الشك في المحصل والشكّ في الأكثر عند الدوران بينه وبين الأقل بعد إشتراك كلّ واحد من الموضوعين في العلم بأصل التكليف, ولكن إذا كان الشك في الواجب من حيث أنّ الوجوب فيه قد تعلق بالأقل أو الأكثر؛ فإنّ الأقل ممّا عُلم تعلق التكليف به ثبوتاً وإثباتاً, والشكّ إنَّما هو في تعلق التكليف بالنسبة إلى الأكثر ثبوتاً وإثباتاً فلا علم بالتكليف بالنسبة إليه؛ وبذلك اختلف الأقل والأكثر عن الشك في المحصل فلا ربط لأحدهما بالآخر.

وبعبارة أخرى: يكون الوجوب في الأقل والأكثر معلوماً ولكن تردّد الواجب بين الأقل والأكثر, وفي المحصل يكون الوجوب معلوماً من كلّ جهة ثبوتاً وإثباتاً, ولا شكّ فيه إلا في المحصل للتكليف المعلوم.

ص: 7


1- . من فصول مباحث الأصول العملية.

الأمر الثاني: قسَّم الأصوليون الأقل والأكثر إلى قسمين:

القسم الأول: الأقل والأكثر الإستقلاليّين؛ والمراد بهما عدم ارتباط الأجزاء بعضها مع بعض في مقام الإمتثال, فيكون لكلّ جزء امتثال مستقل إن أُتي به؛ لأنّ الأكثر الذي هو الزائد على تقدير وجوده يكون واجباً مستقلاً عن وجوب الأقل, كما إذا علم بأصل الدين وتردد مقداره بين درهم أو أكثر, وظاهرهم الإتفاق على الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى الأكثر عقلاً ونقلاً, بعد تنجز وجوب الأقل للعلم التفصيلي به، ولا إشكال في ذلك من أحد, إلا ما يظهر الخلاف في بعض الموارد، فقد نُسب إلى المشهور في الفائتة المرددة بين الأقل والأكثر؛ فإنّهم أفتوا بوجوب الأكثر مع أنّه من الأقل والأكثر الإستقلاليين, وقد تقدم أنّه لا دليل لهم على ذلك, والقاعدة فيها ما ذكرناه.

القسم الثاني: الأقل والأكثر الإرتباطيين؛ ويُعنى به ما إذا كان لجميع الأجزاء امتثال واحد ومخالفة واحدة فيكون وجوباً واحداً، وهذا الوجوب متعلق؛ إمّا بالأقل أو الأكثر كأجزاء الصلاة وشرائطها؛ فلو علم المكلف بوجوب الصلاة عليه وتردّدت عنده بين عشرة -أجزاء وشرائط- أو تسعة, وله موارد كثيرة في الفقه.

وكلّ واحدٍ من القسمين؛ إمّا أنْ يكون التردّد بين الكل والجزء, أو بين الجنس والنوع, أو بين المشروط والشرط, ومنشأ النزاع في الشرط إمّا جهة خارجية أو ذهنيّة أو اعتبارية, ويأتي مثال كلّ واحدٍ منها وتفصيل الكلام فيها.

الأمر الثالث: وقع نزاع بين الأصوليين في منجزية الأقل والأكثر الإرتباطيين، ومنشأ النزاع يرجع إلى أنّ الدوران فيهما هل يرجع بحسب الحقيقة إلى الأقل والأكثر, أو أنّه يرجع إلى المتباينين؛ وإنْ كان بحسب الظاهر دوراناً بين الأقل والأكثر فلا يكون التكليف منحلاً.

ص: 8

والتحقيق كما عليه أهله أنّه من الدوران بين الأقل والأكثر، والرجوع إلى البراءة عقلاً ونقلاً بالنسبة إلى الأكثر, فيكون حكم جميع موارد الأقل والأكثر مطلقاً واحداً؛ وهو الرجوع إلى البراءة في الأكثر لأدلة البراءة العقلية والنقلية, ولكن ذهب جمعٌ إلى الإحتياط في القسم الآخر.

الأمر الرابع: ذكر بعض الأصوليين(1) في القسم الأخير أنّ النزاع فيه يرجع إلى تصوير الأقل والأكثر؛ والتردّد فيهما بالنسبة إلى الواجب فيها بحسب العوالم، إذ قد يختلف حالهما فيها؛ ففي بعضها يكون الدوران بين المتباينين, وفي بعضها الآخر يكون من الأقل والأكثر, وتعيين الميزان بين اللحاظين يكون في ذكر تلك العوالم والحالات، وهي:1- عالم الجعل ولحاظ المولى؛ ومنه يكون المولى إمّا قد لاحظ الواجب الإرتباطي بلحاظين متباينين, أو بلحاظ الأقل والأكثر.

2- عالم الوجوب والإلزام؛ أي عالم الملحوظ لا اللحاظ, فقد يكون الأمر في عالم اللحاظ من المتباينين؛ ولكن بلحاظ الإلزام والوجوب يكون الأكثر ملحوظاً بمزيد من الوجوب والضيق, بينما يكون اللحاظ الزائد في الأقل يستلزم التوسعة.

3- عالم العقل؛ وحكمه باشتغال ذمة المكلف به وتسجيله في عهدته, فإنّه قد يختلف الحكم في هذا العالم عن عالمي الجعل والوجوب.

4- عالم التطبيق الخارجي والإمتثال؛ فإنّه قد يكون الأمر فيه دائراً بين الأقل والأكثر؛ بمعنى أنَّ مقداراً ممّا يقع في الخارج يصلح في الخارج أنْ يكون امتثالاً للأمر بالأقل, فإذا انضم إليه الزائد صار امتثالاً على كلِّ تقدير, وقد لا يكون الأمر كذلك؛ بل يكون الفعل الذي يقع به امتثال الأكثر غير الذي قد يقع به امتثال

ص: 9


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص326.

الأقل؛ كما إذا دار الأمر بين وجوب أحد الخصال أو خصوص العتق فإنّ عتق الرقبة مباين مع الإطعام والصوم.

ثمّ أنّه قدس سره ذكر أنّه بالتأمل في كيفية لحاظ الحكم يظهر أنّ أوسع العوالم في قابليته لأن يكون الدوران فيه بين الأقل والأكثر هو عالم التحميل العقلي وشغل الذمة.

والحقُّ؛ إنّ ما ذكره وإن كان صحيحاً ثبوتاً, ولكن في مرحلة الإثبات لا بُدَّ من الرجوع إلى الدليل والإستفادة من ظاهره فإنْ فهم العقلاء منه أنّه من المتباينين حكم به, وإلا فهو من الأقل والأكثر, وإنْ تردّد العرف ولم يستفد منه شيئاً يكون المرجع هو الحكم العقلي.

ومّما ذكرناه يظهر أنّ النزاع صغروي؛ فإنّ من يقول بالبراءة فإنّه يرى بأنّ المستفاد من الأدلة هو الوجوب بالنسبة إلى الأقل, والشك بالنسبة إلى الأكثر يكون شكاً في أصل التكليف والمرجع فيه البراءة بالإتّفاق, ولو كان معلوماً لوجب الإحتياط, ومن يقول بالإحتياط فإنّه يرى أنّ التكليف معلوم بالنسبة إلى الأكثر فيجب الإمتثال, ولو كان مشكوكاً يصح الرجوع إلى البراءة, فيرجع النزاع إلى شمول التكليف للأكثر. والمرجع في التشخيص هو المتعارف بين العقلاء وفهمهم؛ فإنْ حكموا بتمامية البيان والحجة بالنسبة إلى الأكثر فلا محيص إلا من الإحتياط, وإنْ حكموا بالعدم أو تردّدوا فيه فلا محالة يتحقق موضوع البراءة, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

فيصح لنا تأسيس الضابط في المقام ليشمل جميع الأقسام التي يدور الأمر فيها بين حكمين يكون امتثال أحدهما مساوقاً لإمتثال الآخر عقلاً دون العكس, فيشمل موارد الدوران بين الأقل والأكثر بحسب الأجزاء والشرائط, كما يشمل مواردالدوران بين التعيين والتخيير الشرعي والتعيين والتخيير العقلي أي الجامع والحصة.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في جهاتٍ:

ص: 10

الجهة الأولى: في الدوران بين الأقل والأكثر في الأجزاء.

اشارة

كما إذا تردّد أمر الصلاة بين تسعة أجزاء أو عشرة؛ وقد اختلف المحققون فيه إلى ثلاثة أقوال:

القول الأول: جريان البراءة عن الزائد مطلقاً؛ وقد اختاره الشيخ الأنصاري قدس سره (1).

القول الثاني: عدم جريان البراءة مطلقاً؛ وهو مختار المحقق الخراساني في حاشيته على الرسائل(2).

القول الثالث: جريان البراءة الشرعية دون العقلية؛ وهو مختار المحقق الخراساني قدس سره (3) .

ولا ريب أنّ المرجع في تعيين موضوع البراءة هم العقلاء؛ فإذا رجعنا إليهم نراهم يعترفون بأنّ قيام الحجة بالنسبة إلى الأكثر ليس كقيامها بالنسبة إلى الأقل, وليس ثبوت الأكثر على كاهل المكلف كثبوت الأقل عليه؛ بل يمكن القول بأنّ هذا الفرق وجداني لكلّ من غفل عن الشبهات ورجع إلى فطرته ووجدانه, وكلّ ما لم تتمّ الحجة بالنسبة إليه يكون من مجاري البراءة, فيكون الأكثر من مجاري البراءة، وهذا قياس من الشكل الأول الذي يكون بديهي الإنتاج, نرجع إليه في كلّ الموارد التي تقدم ذكرها, إلا أن يتم مانع عنه ولا بُدَّ من التفتيش عنه. وقد ذكروا جملة من الموانع:

المانع الأول: وجود العلم الإجمالي بالتكليف عن إجراء البراءة؛ والمراد منه هو العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو وجوب الأكثر المشتمل على الزائد الذي هو أمر مباين مع الأقل؛ لأنّ الوجوب إرتباطي والإرتباطيّة تساوق الوحدة, وهي تساوق التباين؛ إذ لا

ص: 11


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص460.
2- . كفاية الأصول؛ ص185.
3- . المصدر السابق؛ ص367.

يُتعقل أقلّ وأكثر حقيقة إلا مع فرض الكثرة, فيكون العلم الإجمالي في المقام بحسب الحقيقة علماً إجمالياً بين متباينين, ومعه لا يمكن إجراء الأصل لنفي وجوب الزائد لكونه من أحد طرفي العلم الإجمالي. وقد أُجيب عنه بوجوهٍ:

1- ما ذكره المحقق الأنصاري من أنّ هذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل على كلّ تقدير, إمّا وجوباً نفسياً أو وجوباً غيرياً؛ لكونه جزء الواجب ومقدمة داخلية له.وأورد عليه:

تارةً؛ بما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنّ هذا العلم التفصيلي معلول للعلم الإجمالي وفي طوله فلا ينحلّ به.

وفيه: إنَّ حدوث علم تفصيلي في مورد يوجب انحلال العلم الإجمالي؛ لاستحالة بقاءه إذا كان له نوع ارتباط بالعلم الإجمالي ومتعلقه بلا فرق بين أن يكون العلم التفصيلي في طول العلم الإجمالي أو في عرضه, وعلى فرض التنزل والقول بعدم استحالة بقاء العلم الإجمالي فإنّ ذلك لا ينافي أن يكون العلم التفصيلي موجباً لإلغاء أثره ومنجزيته؛ لأنّه متأخر عن ذاته لا أن يكون متأخراً عن أثره ومنجزيته.

وأخرى؛ إنَّ الإنحلال إنَّما يحصل إذا كان المعلوم التفصيلي مصداقاً للجامع المعلوم بالإجمال, وليس الأمر كذلك في المقام؛ لأنّ الجامع المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي, والمعلوم التفصيلي هو وجوب الأقل ولو غيرياً, أي أنّ المعلوم هو الجامع بين أحد طرفي العلم الإجمالي وهو الوجوب النفسي للأقل ووجوب آخر هو الوجوب الغيري, وهذا لا يوجب الإنحلال.

ص: 12


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص98، ونهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص384- 385.

وفيه: إنّ الجامع المعلوم بالإجمال إذا كان هو الوجوب النفسي؛ فإنّ المعلوم التفصيلي هو مطلق الوجوب الجامع للنفسي والغيري, فيكون موجباً لانحلال الأول كما هو واضح. وبذلك يظهر الجواب أنّ الجامع للنفسي والغيري ليس منجزاً , وإنّما المنجز هو الوجوب النفسي فقط, فلا يكون العلم بالجامع بين الوجوب النفسي أو الغيري للأقل علماً بوجوب منجز على كلّ تقدير, فإنّ العلم التفصيلي بالجامع المنجز في ضمن أحد الوجوبين يكفي ذلك في حلّ العلم الإجمالي المتعلق بالوجوب النفسي, فما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره من انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي المتعلق بالأقل صحيح لا إشكال فيه.

1- إنّ العلم الإجمالي المذكور منحلّ بالعلم التفصيلي بالوجوب النفسي للأقل على كل حال؛ سواء كان هو الواجب مستقلاً أم كان الوجوب عارضاً عليه مع زيادة.

وهذا الجامع المعلوم التفصيلي مصداق للجامع المعلوم بالإجمال؛ فينحل به العلم الإجمالي, وقد حاول المحققون الجواب عنه بإثبات التباين بين وجوب الأقل ووجوب الأكثر, فلا يكون العلم بوجوب الأقل على كل حال علماً بأحد طرفي العلم الإجمالي حتى ينحلّ بالعلم التفصيلي. وقد ذكروا في وجه التباين بينهما أحد وجهين:الوجه الأول: إنّ المعلوم بالإجمال هو وجوب الأقل استقلالاً أو الأكثر استقلالاً؛ أي وجوب الأقل بحدّه والأكثر بحدّه، وبملاحظة الحدّ في كل واحد من الوجوب الإستقلالي للأقل والوجوب الإستقلالي للأكثر يتضح أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل لا يكون موجباً للإنحلال؛ لأنّه ليس علماً بالوجوب الإستقلالي للأقل.

ويرد عليه: إنّه لا وجه لملاحظتهما كذلك، بل يكون خلاف المتعارف لأنّ الأقل في نظرهم ملحوظ بعنوان اللاشرطية فيجتمع مع الأكثر, لا أن يكون ملحوظاً بحدّ الأقليّة حتى يباين الأكثر.

ص: 13

وبعبارة أخرى: إن أُريد من الحدّ في الوجوب هو الأقل بشرط لا عن الجزء العاشر؛ فلا ريب إنّه يرجع إلى الدوران بين الجزئية والمانعية وهما متباينان قطعاً, وإن أريد من حدّ الوجوب أي الواجب بما هو واجب مع عدم الغفلة عن إمكان إنتزاع الإستقلاليّة منه؛ فإنّه ينتزع عن حدّ الوجوب أيضاً, وهو هنا مردد بين التسعة والعشرة. وهذا صحيح، ولكن حدّ الإستقلاليّة بهذا المعنى لا يقبل التنجز ولا يدخل في العهدة؛ فالعلم الإجمالي بالوجوب النفسي الإستقلالي لم يكن منحلاً لعدم كون معلوم هذا العلم داخلاً في العهدة؛ لعدم قابلية حدّ الوجوب والإستقلالية للتنجز, فالعلم الإجمالي بذات الوجوب المحدود بقطع النظر عن حدّه هو الذي ينجّز معلومه ويدخله في العهدة, وهذا هو العلم التفصيلي المتقدم.

الوجه الثاني: إنّ المقام يرجع إلى المطلق والمقيد؛ لأنَّ وجوب الأقل إذا كان إستقلالياً فمتعلقه مباين مع الأقل إذا كان واجباً ضمنياً لأنه على التقدير الأول تكون التسعة المطلقة متعلق الوجوب, وعلى التقدير الثاني تكون التسعة المقيدة بالجزء العاشر, والمطلق يباين المقيد.

والجواب عنه يتبّن من خلال بيان حقيقة التقييد في الوجوب الإرتباطي بعضها بالبعض, فقد ذُكرت فيه آراء ثلاثة:

الرأي الأول: إنّ التقييد والتخصيص فيه بمعنى أنَّ الوجوب الإرتباطي يتعلق بالأجزاء مع فرض تقييد كلّ جزءٍ بسائر الأجزاء, وليس المراد من الشرطية فيه هو الشرطية في الوجود حتى يستلزم الدور؛ باعتبار أنّ كلَّ جزء شرطٌ للجزء الآخر, ويكون مقدماً عليه رتبة ومشروطاً به, وفي نفس الوقت يكون متأخراً عنه فيستلزم الدور, بل المراد من الشرطية مجرد التخصيص فليس الركوع متوقفاً على السجود أو العكس, بل نسبة كل

ص: 14

منهما إلى الآخر، ومقارنته معه متوقفة عليهما معاً فلا دور. وهذا النحو من التقييد والتخصيص أمر معقول بين أجزاء الواجب الإرتباطي.

ولكن أورد عليه بأنّه لا حاجة إليه فإن كان المبرر هو إيجاد الوحدة في متعلق الوجوب بأنْ يكون وجوباً واحداً -والحال أنّ الوجوب الإرتباطي وجوبٌ واحدعلى كل حال- فيستحيل تعلقه بالمتكثر بما هو متكثر؛ فلا بُدَّ من فرض وحدة في الرتبة السابقة على عروض الوجوب وهذا يكون بتقييد كل منهما بالباقي.

ولكن ذلك غير تام، فإنّ تعلق الوجوب الواحد بما هو متكثر وإن كان مستحيلاً إلا أنّ ذلك لا يحصل بمجرد تقييد كلّ جزء بالباقي, فإنّ تقييد الأجزاء لا يوحدها, بل غايته تبدل الأجزاء المتكثرة بما هي ذوات إلى متكثرة بما هي مقيدات, وهذا غير توحيد المتكثر وله نظائر في الفقه.

وإنْ كان المبرّر له أنّ الجزء الواجب الإرتباطي لو بقي غير مقيد بالأجزاء الأخرى؛ فإمّا أنْ يفترض إطلاقه أو إهماله من ناحيتها؛ والأول يلزم منه تحقق الإمتثال حتى لو جيء به وهو خلف الإرتباطيّة, والثاني مستحيل ثبوتاً فلا بُدَّ من افتراض التقييد.

وأجيب عنه بأنّ الإطلاق ليس معناه لحاظ عدم القيد والسريان إلى كلّ الحصص, وإنّما يعيّن عدم لحاظ القيد مع الطبيعة، وحينئذٍ يمكن القول بأنّ عدم إتصاف الجزء المنفرد في الوجود بالمطلوبيّة والوجوب؛ ولكن ليس لعدم الإطلاق في الموضوع, بل لعدم قابلية المحمول وهو الوجوب النفسي للإنبساط عليه؛ لكونه جزءً مشدوداً إلى سائر الأجزاء الضمنيّة للوجوب.

والحقُّ أنْ يقال: إنّ الإطلاق والتقييد في المقام إعتباري يمنحهما المولى حين يجعل الوجوب على شيء مع شيء آخر لأغراض معينة, فربّما يكون الوجوب باعتبار له إطلاق, وبلحاظ

ص: 15

واعتبار آخر مقيداً. وحينئذٍ؛ قد يكون الجعل في الأحكام الإنحلالية الإستقلالية واحداً, مع عدم استلزامه الإرتباطية إذا لوحظ بما هو كذلك, وإن كان بلحاظ المجعول التابع لمرحلة الفعلية يكون من الإرتباطية ويكون مطلوباً.

الرأي الثاني: ما أفاده المحقق العراقي قدس سره (1) من أنّ وحدة الوجوب وتعدده تتّبع وحدة الملاك وتعدده لا وحدة معروضه وتكثره، نعم لا إشكال في أنّ وحدة الوجوب تستلزم وحدة الواجب إلا أنّ هذه الوحدة ليست مأخوذة في معروض الوجوب ومتقدمة عليه بل متأخرة عنه.

وذلك لأنّ الشيء المتكثر بذاته قد يصبح واحداً بوحدة عرضية ناشئة من وحدة ما عرض عليه، كما إذا طرأ اللحاظ الواحد أو الشوق الواحد أو الملاك الواحد على أمور متكثرة, فيحصل لها وحدة عرضية؛ إمّا لحاظية أو شوقية أو ملاكية وهذا واضح.

والواجب الإرتباطي بذاته وإنْ كان عبارة عن أمور متكثرة, لكن تعرض عليها الوحدة من ناحية وحدة عوارضها كاللحاظ والشوق والملاك والوجوب, إلا أنّهذه الوحدة يستحيل أخذها في معروض الوجوب؛ لأنّ الوحدة الناشئة من وحدة الوجوب هي في طول الوجوب فلا يعقل أخذها في متعلقه, وهكذا يظهر أنّه لم يثبت وجود وحدة سابقة على الوجوب مأخوذة في متعلقه إلا الوحدة الناشئة من وحدة الملاك؛ فإنّها إنْ كانت واحدة كان الوجوب واحداً أيضاً, وهذه وحدة طولية وليست في متعلق الوجوب الإرتباطي فإنّه متكثر, وإنّما الوحدة تكون بوحدة الوجوب العارض عليه الناشئة عن وحدة الملاك وعدم تكثره، وهي وحدة طولية ثابتة حتى في الجعل الواحد للواجبات الإستقلالية الإنحلالية.

ص: 16


1- . المصدر السابق.

ومن ذلك يظهر أنّ المتعلق وهو الأقل والأكثر في الوجوب الإرتباطي متكثر وإن كانا مشتركين في الوجوب العارض عليهما, ولكن هذه الوحدة غير كافية في رفع التكثر.

وأُورد عليه بأنّه إذا كان المراد من التكثر هو التكثر في الخارج فلا إشكال, ولكنه خارج عن البحث؛ إذ لم يتوهم أحد إنّ أجزاء الصلاة مثلاً في الخارج أمر واحد, لأنّها ماهيات ومقولات مختلفة. وإن أريد بأنّ متعلق الوجوب الإرتباطي متكثر في عالم النفس ومن لحاظ المولى مع وحدة الوجوب العارض عليها فهذا مستحيل؛ لأنّ الوجوب كالحب والإرادة والعلم من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة إلى متعلقاتها, وهذه الإضافة داخلة في قوامها بحسب الحقيقة, من دون أن تكون إثنينيّة بينهما إلا بالتحليل العقلي، وحينئذٍ يستحيل أن تكون معروضاتها الحقيقية؛ أي المعلوم بالذات والمحبوب بالذات والواجب بالذات متكثرة مع وحدة العلم والحب والوجوب, في وحدة الوجوب والإرادة والحب, تابعة لا محالة لوحدة متعلقاتها بالذات في عالم النفس, أي وحدة الملحوظ من خلالها وهي وحدة متقدمة رتبةً على الوجوب.

ويمكن الإشكال عليه بأنّه إذا كان المراد من الوحدة هي الدقيّة العقلية الفلسفيّة؛ والأثر كذلك لأنّ العوارض حقيقية, وأمّا إذا كان مثل الوجوب الذي هو اعتبار خاص فالأمر فيه يختلف؛ إذ المعروض في الأمور الإعتبارية يتبع الإعتبار؛ فقد يكون المتكثر في هذا العالم واحدا إعتبارياً, وقد يكون الواحد فيه متكثراً كذلك كما هو معلوم, فكلام المحقق العراقي قدس سره والمناقش له كليهما لا يفيد في إثبات التكثر بين الأقل والأكثر لأنّ الواحد في هذا العالم قد يكون متكثراً باعتبارات كما هو واضح، فتدبر.

الرأي الثالث: إنّ متعلق الوجوب الإرتباطي عنوان وحداني ذهناً, ولو بالوحدة الإعتبارية, وإنْ كان متكثراً خارجاً؛ فإنّ العناوين إمّا ينتزعها الذهن من الخارج كعنوان الإنسان

ص: 17

والبياض ونحو ذلك, وإمّا يخترعها الإنسان ويصطنعها من نفسه, وتسمى بالمفاهيم والعناوين الإصطناعيّة, وهي لا تخرج عن كونها إنتزاعيّة أيضاً؛ كعنوان أحدهما المتعلق به العلم الإجمالي, أو عنوان المجموع والكل ونحوذلك, فإذا فرض أنّ الملاك في موردٍ كان في مجموع أمورٍ بحيث لو تُرك جزءٌ منها لم ينفع الباقي أصلاً فلا محالة ينقدح من النفس حب وإرادة نحو المجموع, وبما إنّ الحب والإرادة والوجوب من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة ولها متعلق بالذات في النفس ومتعلق بالعرض في الخارج؛ والأول لا بُدَّ أن يكون في ظرف العروض واحداً -كما تقدم آنفاً- فتضّطر النفس إلى اصطناع عنوان المجموع ليكون حاوياً لِما في الخارج من الأمور المتكثرة, فتعرض عليه الإرادة الواحدة والوجوب الواحد, فيكون التكثر بلحاظ الخارج الذي هو المعروض بالعرض لا بالذات.

وهذا الوجه هو أحسن الوجوه التي تذكر في المقام وغيره في جمع المتفرقات والمتكثرات, بل تفريق المجتمعات والمؤتلفات, وتنحلّ كثير من المناقشات التي ترد على هذا الموضوع, وهو توحيد المتكثرات. وقد تقدم التنويه عنه في غير موضع من أبحاثنا الأصولية. ولكن الكلام في الإنتفاع بهذه الآراء في إثبات التباين بين الأقل والأكثر.

وكيف كان؛ فإنّه بعد وضوح كيفية تفسير الواجب الإرتباطي على ضوء تلك الآراء والنظريات يمكن الجواب عنها:

أمّا بناءً على النظرية الأولى؛ التي ترى بأنّ كل جزءٍ قد أخذ قيداً في الجزء الآخر؛ فإن قلنا بأنّ الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد مع الطبيعة, لا لحاظ عدم القيد معها, فإنّه لا تباين بين أفراد الواجب الإرتباطي المعلوم في المقام, لأنّ الملحوظ مردد بين أنْ يكون التسعة أو هي بقيد العاشر, فالتسعة ملحوظة على كل حال ولا يعني وجوب الأقل

ص: 18

-وهو التسعة- إلا كونها ملحوظة, وهو معلومٌ على كلّ حال, نعم حدّ اللحاظ للمتعلق غير معلوم, لكنه خارج عن الإطلاق ومعروض الوجوب.

وأمّا إذا قلنا بأنَّ الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد مع الطبيعة فإنَّ المتعلق بناءً على الأقل غير البناء على الأكثر ومباين معه, إلا أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ الإطلاق بهذا المعنى لا يدخل في العهدة؛ لأنّه يقوم في الصورة الذهنية وليس له محكي ليراد إيجابه على ذات الطبيعة, فإنّ المولى لا يريد من المكلف إيجاد الصورة الذهنيّة, بل يريد إيجاد محكيّها الخارجي. وعليه؛ فإن لوحظ عالم المعروض الذهني للوجوب فإنّ الواجب فيه دائر بين متباينين, وإنْ لوحظ ما ثبت في العهدة عقلاً وهو المحكي الخارجي دائر بين الأقل والأكثر, فإذا أريد إثبات تنجيز العلم الإجمالي بالإطلاق والتقييد, فهو غير ممكن؛ لأنّ الإطلاق لا يقبل التنجيز, وإنْ أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالوجوب بالقدر الذي يقبل التنجيز ويدخل في العهدة, فهو دائر بين الأقل والأكثر.وأمّا بناءً على النظرية الثانية التي تبناها المحقق العراقي قدس سره فالمفروض فيها تكثر المتعلق في الواجب الإرتباطي وعدم أخذ وحدة سابقة فيه, وحينئذٍ سوف يوجد بالنسبة إلى المتعلق إنحلال حقيقي, إذ يعلم بأنّ التسعة بما هي متكثرة واجبة ويشك في أخذ العاشر, والمرجع البراءة فيه, وأمّا بناءً على النظرية الثالثة فإنَّ الوحدة الذهنيّة الإصطناعيّة للصورة الذهنيّة لا تدخل في العهدة, بل محكيّها ومعنونها, وما يقتضيه من الضيق في مقام الإمتثال يدخل فيها, وفي هذه المرحلة يكون الأمر دائراً بين الأقل والأكثر فيها.

ومن جميع ذلك يتحصل أنّ محاولة جعل العلم الإجمالي دائراً بين طرفين متباينين غير صحيحة, إذ لو كان النظر فيها بلحاظ ما يدخل في العهدة من التكليف, فهو باطل ولا يمكن أن يكون دليلاً على الإحتياط بعدم الإكتفاء بالأقل, وإن كان بلحاظ عالم عروض

ص: 19

الوجوب فهو صحيح إلا أنّ متعلق العلم بهذا المعنى ليس هو الذي يتنجز على المكلف ويدخل في عهدته.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (1) من أنّ الأصل الجاري في الأكثر لا يعارضه الأصل الجاري في وجوب الأقل لأنّه؛ إنْ أُريد به التأمين في حالة ترك الأقل مع الإتيان بالأكثر فهو غير معقول, وإن أُريد به التأمين في حالة ترك الأقل وترك الأكثر بتركه رأساً فهو غير ممكن أيضاً لأنّه يستلزم المخالفة القطعية, ولا يمكن التأمين بلحاظها. ومنه يعرف أنّ الأصل من وجوب الأقل ليس له دور معقول فلا يُعارض الأصل الآخر, وهذا الوجه يستبطن وجود علم إجمالي دائر بين الأقل والأكثر، ولا يكون منجزاً لجريان الأصل في أحد طرفيه من دون أنْ يجري في الطرف الآخر حتى يعارضه.

لكن يرد عليه: إنّ الذي يقول بوجود العلم الإجمالي, يعلم بأنّ الأصل المؤمن الذي يجري في الأقل, يستلزم ترك الواجب رأساً, بخلاف الأصل المؤمن الذي يجري في الأكثر, فإنّه لا يستلزم منه ذلك, وهذا المقدار من الفرق لا يضر إذا كان كلّ واحد منهما طرفاً للعلم الإجمالي, ولا يجري الأصل في كلّ منهما وإن كان أحد الأصلين ممّا يوجب ترك الواجب رأساً.

فالصحيح من الوجوه الثلاثة المتقدمة هو الوجهين السابقين من انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي بوجوب الأقل على كلّ حال؛ فإنّه هو الظاهر عرفاً من عروض العلم التفصيلي في مورد العلم الإجمالي, وكان له نحو ارتباط بمتعلق العلم الإجمالي بوجه من الوجوه, فلا حاجة إلى ما ذكره السيد الصدر قدس سره (2) في المقام فإنّه لا يخلو من تعقيد وهو يبدو بعيداً عن النظر الواضح، مضافاً إلى أنّه من التطويل بلا طائل تحته فراجع.

ص: 20


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص433- 434.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص335.

المانع الثاني: إنّ وجوب الأقل منجز على كلّ حال؛ لأنّه مردد بين كونه إستقلالياً أو ضمنياً, وفي حالة الإقتصار على الإتيان بالإقل لا يحرز سقوطه لأنّه إذا كان ضمنياً لا يسقط إلا في ضمن الكلّ كما هو المفروض في الواجبات الضمنيّة, فيكون من الشك في المحصل. والإشتغال اليقيني بالتكليف المعلوم يستدعي الفراغ فيجب الإحتياط الذي يرجع إلى رعاية تكليف الأقل المنجز بالعلم واليقين كما عرفت, لا الإحتياط بإتيان الأكثر, حتى يقال بأنَّه ممّا يشك في تكليفه.

وأجيب عنه:

أولاً: إنَّ الأقل وإن كان جزءً من الواجب, ويعبّر عنه بالمقدمة الداخلية؛ ولكنا ذكرنا في بحث المقدمة أنّ الأجزاء لا تتصف بالوجوب المقدمي إذ لا تعدد بينها وبين الكل بحسب الوجود؛ فهي عين الكلّ وجوداً، والكلّ عينها كذلك, بل هي تتّصف بالوجوب الإنبساطي, فيكون وجوب الأجزاء عينُ وجوب الكلّ وبالعكس. ومن هنا أنكر جمعٌ إطلاق عنوان المقدمة على الأجزاء, وحينئذٍ يكون مرجع الشك في المقام إلى أنّ الوجوب المنبسط هل انبسط على تسعة أو عشرة أجزاء, والقاعدة هي العمل بالمعلوم والرجوع في المشكوك إلى البراءة, وهذا في الأجزاء تام كما هو واضح. وأما في الشرط والمشروط؛ فلا ريب في أنّ وجوب الشرط تابع لأصل وجوب المشروط من دون تحديد بحدٍّ خاص, والمفروض في المقام ثبوت وجوب الأقل يقيناً, فيكون وجوب الشرط تابعاً لوجوبه لا محالة.

ثانياً: إنَّ المكلف إذا ترك الزائد فهو وإنْ أحتُمل حصول مخالفة الوجوب الضمني, ولكن هذا الإحتمال هنا ليس من جهة أنّ هذا العمل فيه مخالفة, ولكنه شكّ في حصول العمل أو عدمه, كما لو علم بأنّ في ترك الصلاة مخالفة وشكّ في أنّه ترك الصلاة أم لا ليكون

ص: 21

مجرى الإشتغال, بل الشك في المخالفة في المقام حصل من أنّه لا يدري أنّ وجوب الأقل هل فيه مخالفة واحدة وهي ترك الأقل, أو يكون بنحوٍ يكون له مخالفتان؛ إحداهما ترك الأقل, والأخرى ترك الأكثر, فتجري البراءة عن أصل ثبوت المخالفة الثانية؛ لأنّه تكليف زائد غير معلوم, فتجري البراءة عن الوجوب المشكوك أو البراءة عن المخالفة الزائدة.

ولكن هذا الوجه يبتني على عدم إنكار الوجوب الضمني والمقدمي للجزء, وقد عرفت الكلام فيه.

المانع الثالث: إنّ الإقتصار على الأقل في مقام الإمتثال إمتثال إجمالي, بخلاف إتيان الأكثر فإنّه تفصيلي, ولا تصل النوبة إلى الأول مهما أمكن إلى الثاني من سبيل. ولكن هذا الوجه قد عرفت الجواب عنه مكرراً أنّ كيفية الإمتثال تابع لأصل الإشتغال, فإذا لم يكن إشتغال إلا بالأقل فيدور الإمتثال مداره أيضاً.

المانع الرابع: إنّ الأمر بلحاظ متعلق الوجوب وإن كان دائراً بين الأقل والأكثر؛ ولكنه بلحاظ الغرض المعلوم يكون من الشك في المحصل؛ لأنّ الغرض أمروحداني لا يعلم بأنّه يتحقق بالأقل أم لا, فيجب الإحتياط من هذه الناحية, لِما ذكر من أنّ الغرض والمحبوب حاله حال متعلق الوجوب, يحكم العقل بلزوم تحصيله؛ لأنّه روح الحكم بل حقيقته.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ الغرض يمكن أن يكون مردداً بين الأقل والأكثر كنفس الواجب لأنّ الأغراض تختلف باختلاف الإعتبارات والجهات, فإنّه قد يكون متعلقاً بعنوان الطاعة من طول الأمر, وقد يكون متعلقاً ببعض المراتب أو كلّها, أو يكون الغرض المترتب على الفعل

ص: 22

متعدداً بعدد الأفعال, وغير ذلك من الوجوه المعقولة, وحينئذٍ يشكّ أنّ الكمال في مجموع تسعة من تلك الأغراض أو عشرة, فيكون دائراً بين الأقل والأكثر, فيجري فيه ما يجري في الواجب.

ثانياً: إنّ الغرض إنَّما يتنجز عقلاً كالتكليف بالوصول, فإذا وصل مقروناً بتصدّي المولى لتحصيله تشريعاً, فما لم يثبت ذلك بالنسبة إلى الأكثر, لا يكون منجزاً فيجري الأصل فيه, فلا وجه للقول بقيام ذلك الغرض بالأكثر.

المانع الخامس: ما حكى عن المحقق العراقي قدس سره من ثبوت علم إجمالي منجز؛ إمّا بوجوب إتمام الصلاة وحرمة قطعها, وإمّا بوجوب الإعادة.

ولا يخفى أنّ ذلك مخصّص بالواجبات التي يحرم قطعها إذا شرع فيها كالصلاة, فإنّ المكلف في هذه الصورة إذا شكّ في وجوب السورة -مثلاً- فإنّه في ابتداء الأمر يجري البراءة عن وجوبها, ولكنه إذا ترك السورة إلى أن دخل في الركن فلم يمكنه تداركها فبناءً على المشهور من عدم جريان قاعدة لا تُعاد في حالة الجهل ولو مع معذوريّة الجاهل أو فرض أنّ الشك في جزءٍ لا تشمله لا تعاد كالطهارة أو شكّ في الإكتفاء بالتكبيرة الملحونة مثلاً, فحينئذٍ يحصل له علم إجمالي إمّا بوجوب إتمام هذه الصلاة عليه وحرمة قطعها إذا كان الواجب هو الأقل أو تجب عليه الإعادة, فلا بُدَّ من الإحتياط لمنجزية هذا العلم الإجمالي. والأصل الجاري عن وجوب الزائد معارض بالأصل الجاري عن حرمة القطع, وقد ورد في تقريراته هذا الأمر بوجهٍ آخر غير سديدٍ فراجع.

وحاول المحقق العراقي قدس سره نفسه الجواب عنه بأحد وجهين:

الأول: إنّ هذا العلم الإجمالي حصل في طول عمله بما كان معذوراً فيه من ترك السورة عقلاً وشرعاً, والعمل الواقع من المكلف معذوراً فيه من غير قبح؛ فيستحيل أن ينقلب إلى ما فيه القبح ويكون غير معذور فيه, ويصبح قبيحاً.

ص: 23

وأُشكل عليه بأنّ البراءة عن وجوب السورة إنَّما تؤمّن عنها فقط, ولا تؤمّن عن تكليف آخر, يصبح منجزاً بالعلم الإجمالي بعد الشروع في العمل؛ لأنّ التأمين عنه ليس تأميناً مطلقاً عن ذلك التكليف, حتى إذا صار طرفاً لعلمٍ إجمالي منجز, بل تأمين عنه مادام مشكوكاً, ومن ناحية العلم الإجمالي الدائر بين الأقل والأكثر,لا كلّ علم إجمالي آخر كالعلم الإجمالي الحاصل بعد الشروع في العبادة الدائر بين المتباينين؛ باعتبار حرمة القطع ووجوب الإتمام.

ولكن الصحيح في ردّ هذا الوجه والإشكال عليه أن يقال بأنّ حرمة قطع الصلاة موضوعها الصلاة التي تكون وظيفة المكلف هو الإقتصار عليها في مقام الإمتثال بحسب وظيفته؛ إذ لا إطلاق في دليل حرمة القطع لما هو أوسع من ذلك, ومن الواضح أنّ انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة عن وجوب الزائد وإلا لما جاز الإقتصار عليها عملاً, وعلى هذا تكون حرمة قطع الصلاة مترتبة على جريان البراءة عن الزائد, فلا يعقل أن تكون أصالة البراءة عنها معارضة مع أصالة البراءة عن وجوب الزائد.

الثاني: إنّ العلم الإجمالي الحاصل بعد شروعه في الصلاة بوجوب إتمام ما بيده, أو وجوب الإتيان بصلاة أخرى مع الزائد, أحد طرفيه منجز في نفسه, وهو وجوب إتمام الصلاة التي بيده، لأنّه قبل إخلاله بالجزء المشكوك كان يعلم بوجوب إتمام هذه الصلاة؛ إمّا بالإتيان بالجزء الزائد مع سائر الأجزاء إذا كان الواجب هو الأكثر, أو بالإتيان بسائر الأجزاء إذا كان الواجب هو الأقل, وهذا العلم الإجمالي بوجوب الإتمام مردد بين الأقل والأكثر, فينحلّ إلى العلم بوجوب الإتيان بسائر الأجزاء في هذه الصلاة بعد الركوع, ومنجز عليه على كلّ حال, فلا أثر للعلم الإجمالي بوجوبه, أو وجوب الإتيان بصلاة

ص: 24

أخرى مع السورة لأنّ أحد طرفيه متنجز في نفسه في المرتبة السابقة, والمتنجز لا يتنجز؛ فيجري الأصل عن الطرف الآخر بلا محذور, ولكن هذا الوجه إنَّما يتم فيما إذا وجد علم تفصيلي في أحد طرفي العلم الإجمالي, فإنّه يوجب انحلال العلم الإجمالي كما بيناه سابقاً, فلو كان المقام من هذا القبيل لكان ما ذكره وجيهاً، وإلا فلا.

والمقام ليس كذلك؛ لأنّه وإن علم قبل الركوع بأنّه يجب عليه إتمام الركوع وما بعده؛ إمّا فقط أو مع السورة, أي استقلالاً أو ضمناً, ولكنه بعد أن ركع سقط عنه الوجوب الضمني بالمخالفة بترك السورة, فلم يبق منجز لذلك إلا طرفيته للعلم الإجمالي بالوجوب الضمني أو الإستقلالي, واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال فيه, وإحتمال ذلك كإحتمال إنطباق المعلوم بالعلم الإجمالي الحاصل بعد الركوع عليه, فهما يؤثّران في عرض واحد, فالصحيح ما ذكرناه في الإنحلال.

المانع السادس: وهو يبتني على ما هو المشهور في العبادات؛ من قصد الأمر المتعلق بالعبادة, فلو قصد أمراً آخراً وهميّاً, على وجه التقييد لا الإشتباه في التطبيق, بطل العمل؛ فإنّه بناءً عليه يقال في المقام بأنّ العلم الإجمالي فيه سوف يكون دائراً بين عامين من وجه والذي يكون حكمه هو الأخذ بمادة الإجتماع وترك مادتي الإفتراق, لا أن يكون دائراً بين الأقل والأكثر؛ فإنّه من المعلوم أنّ الواجب تارةً؛ يدور أمره بين المتباينين كالظهر والجمعة, وأخرى؛ بين عامين منوجه كإكرام العادل وإكرام الهاشمي, وثالثةً؛ بين الأقل والأكثر الذي هو مورد البحث في المقام. وحكم الثانية أنّه لا يجوز الإقتصار على مادة الإفتراق, بخلاف الحالة الأولى فإنّه يجب الإحتياط بالجمع بين الفعلين لتنجز العلم الإجمالي.

إذا عرفت ذلك نقول: إذا تردّد الواجب بين التسعة والعشرة كما في المقام وكان عبادياً فإنّ النسبة بين امتثال الأمر على تقدير تعلقه بالأقل وامتثاله على تقديره بالأكثر, تكون من

ص: 25

العموم من وجه, لِما عرفت من المشهور بين الفقهاء من أنه من قصد الأمر في الإمتثال، لا الدوران بين الأقل والأكثر. ومن المعلوم أنّ مادة الإفتراق من ناحية الأقل هي الإتيان بالتسعة فقط, ومادة الإفتراق من ناحية الأمر بالأكثر هي الإتيان بالأكثر بداعي الأمر المتعلق به على وجه التقييد بحيث لو كان الأمر متعلقاً بالأقل فقط لَمَا انبعث عنه, فيتحقق الإمتثال من ناحيته فقط على تقدير ثبوته. ومادة الإجتماع هي الإتيان بالإكثر بداعي مطلق الأمر.

ومن ذلك يظهر أنّ العلم الإجمالي في المقام ينقلب إلى علم إجمالي بواجب مردد بين عامين من وجه, فيجب الإحتياط حينئذٍ بإتيان مادة الإجتماع, والإجتناب عن مادتي الإفتراق.

ويرد عليه: إنّ ذلك إنَّما يتم على المبنى الفقهي من وجوب قصد الأمر, وهو موضع بحثٍ مذكور في الفقه, وعلى فرض قبوله كما هو المشهور فإنّ المعتبر في الإمتثال هو الإنبعاث عن الأمر الفعلي المطلق ولا يشترط أكثر من ذلك, فلا يضر بصدق الإمتثال التقييد المفروض, والتفصيل موكول إلى محله في الفقه.

المانع السابع: وهو يختصّ بالواجبات التي تكون الزيادة فيها مانعة ومبطلة كالصلاة, وإنّ الزيادة هي الإتيان بالزائد بقصد الجزئية للمركب مع عدم وقوعه جزءً له شرعاً, وحينئذٍ إذا شك في جزئيّة السورة يعلم إجمالاً إمّا بوجوب الإتيان بها وإمّا بأنّ الإتيان بها بقصد الجزئية مبطل؛ لأنّها إن كانت جزءاً وجب الإتيان بها, وإلا كان الإتيان بها بقصد الجزئية زيادة مبطلة, وهذا العلم الإجمالي منجز, وتحصل الموافقة القطعية بالإتيان بها برجاء المطلوبيّة دون قصد الجزئية.

وفيه: إنّ العلم الإجمالي منحلّ؛ لأنّ الشاكَّ في الجزئية يعلم تفصيلاً بمبطليّة الإتيان بالسورة بقصد الجزئية, حتى لو كانت جزءاً في الواقع؛ لأنّه من التشريع المحرم ما دام شاكاً في

ص: 26

الجزئية, فلا يشمله الوجوب الضمني للسّورة. ومن مجموع ما ذكرناه ظهر؛ إنّه لا شيء من الموانع المذكورة يصلح لأن يمنع من إجراء البراءة في الأكثر المشكوك بعد وجود المقتضي فيه, فيصح الإقتصار على الأقل, فلا يكون العلم الإجمالي الدائر بين الأقل والأكثر من الأجزاء الإرتباطيّة منجزاً لوجوب الأكثر كما استقرّ عليه رأي المحققين (قدّست أسرارهم).

تنبيهات علی صاحب الکفاية

تنبيهات

ينبغي التنبيه على أمورٍ تتعلق بما ذكره المحقق الخراساني في الكفاية وحاشيتها؛

التنبيه الأول: إتضح مّما سبق عدم منجزية العلم الإجمالي الدائر بين الأقل والأكثر, ولكن حاول المحقق الخراساني قدس سره البرهنة على عدم انحلال هذا العلم الإجمالي بلزوم الخلف والتهافت, لأنّ الوجوب الإرتباطيّ -الذي هو مفروض الكلام- كما لا يتبعض في الإمتثال والفعلية, كذلك يستحيل أن يتبعض في التنجيز بأن يتنجز بعض أجزاءه دون بعضٍ؛ لأنّ فيه وجوباً واحداً؛ جعلاً وفعلية وتنجزاً وامتثالاً؛ فإمّا أن يتنجز هذا الوجوب الواحد في الكلّ, أو لا يتنجز شيء منه, فانحلال العلم الإجمالي بلحاظ عالم التنجز متوقف على تنجز الأقل على كلّ تقدير, مع أنّ أحد محتملاته هو تعلق الأمر بالأكثر, فلا بُدَّ من الفراغ من تنجز الأمر بالأقل ولو كان متعلقاً بالأكثر, وهذا يُساوق تنجز الأمر بالأكثر بلحاظ الزائد؛ لما عرفت من عدم تبعض الواجب الإرتباطي في التنجّيز. فالنتيجة هي إنّ فرض الأقل متوقّف على تنجز الأكثر, فانحلاله به خُلفٌ وتهافت.

ويرد عليه: إنّه لا دليل على كبرى ما ذكره من أنّ الواجب الإرتباطي لا يتبعض في التنجّيز, فإنّ التنجّيز يتقوم بوصول الجعل لا واقعه, والوصول قابل للتبعّيض، فإذا وصل تعلق الوجوب ببعض الأجزاء تنجز, وما لم يصل لا يتنجز, وهذا هو معنى الإنحلال. ولا

ص: 27

يقاس التنجز بباب الجعل والفعلية والإمتثال, فإنّ الإرتباط بين الوجوبات المتعددة ينشأ من وحدة الوجوب ومتعلقه ولو اعتباراً.

التنبيه الثاني: فصّل صاحب الكفاية قدس سره في الكفاية بين البراءة العقلية؛ فمنع عن جريانها بلحاظ وجوب الأكثر, وبين البراءة الشرعية التي أقرّ بجريانها فيه, واعترض عليه أكثر المحققين من أنّ وجه المنع لو تمّ في البراءة الشرعية يجري في البراءة العقلية, فيمنع عن جريانهما معاً. ومن أجل هذا عدل عمّا ذكره في حاشيته على الكفاية.

وكيف كان؛ فقد ذكر قدس سره وجه منع البراءة العقلية أحد وجهين:

أولهما: أنَّ الغرض في الواجب الإرتباطيّ أمر واحد معلوم يُشكّ في تحصيله بالأقل, فيجب الإحتياط, وإن فُرض انحلال العلم الإجمالي بلحاظ الوجوب.

ثانيهما: العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر والذي لم ينحلّ بلحاظ عالم الجعل والوجوب, فلا تجري البراءة العقلية, وأمّا البراءة الشرعية؛ فهي تجري عن الجزئية المشكوكة عند المحقق الخراساني قدس سره ، وبلحاظها يكون الإنحلال حقيقياً, وهذا بخلاف المحقق النائيني قدس سره فإنّه قد أجرى البراءة الشرعية عن التقييد في مرحلة الظاهر, فأثبت به الإطلاق ظاهراً مع انضمام أدلة الأجزاء والشرائط. وبذلك يثبت التفصيل بين البرائتين.

واستشكل السيد الخوئي قدس سره (1) على المحقق النائيني قدس سره (2)؛ بأنّ إجراء البراءة عن تقييد الأقل بانضمام الأجزاء المشكوكة لا يُثبت تعلق التكليف بالأقل على نحو الإطلاق إلا

ص: 28


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص273، ومصباح الأصول؛ ج2 ص432.
2- . راجع فوائد الأصول؛ ج4، ص54-57، ج1ص67- 72، وأجود التقريرات؛ ج2، ص293-294، ج1 ص38-40.

على القول بالأصل المثبت؛ إذ التقابل بين الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت هو التضاد؛ لأنّ الإطلاق هو لحاظ عدم القيد والسّريان, ومعه لا يمكن إثبات الإطلاق بنفي التقييد إلا بناءً على الأصل المثبت كما هو واضح.

ويرد على كلا الوجهين:

أمّا الأول؛ فلأنَّ البراءة الشرعية كالبراءة العقلية بالنسبة إلى الغرض، فإنّ التكاليف الشرعية إنَّما شرّعت بلحاظ ما وراءها من الأغراض والمبادئ, ومع قطع النظر عنها تكون التكاليف مجرد عبارات لا معنى للتنجيز والتعذير منها, فالبراءة الشرعية الجارية عن التكاليف المشكوكة تؤمّن بالدلالة العرفية المطابقية عن روح التكليف وجوهره, وهو الغرض من ورائه. فلا وجه للتفصيل بين البرائتين بالقول بأنّ الغرض أمر وحدانيّ ومعلوم فلا انحلال فيه.

وأمّا الثاني؛ فإنّ الذي ينفي القيد إمّا أن يكون أمارة فلا محالة يثبت الإطلاق فيكون الواجب الواقعي هو الأقل, وهذا خارج عن مفروض الكلام, وإمّا أن يكون أصلاً عملياً يُثبت الواقع كالإستصحاب؛ فإنّه يثبت عدم وجود القيد في عالم الجعل، فيتجه التفصيل بين ما إذا كان الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد, أو لحاظ عدمه؛ فعلى الأول يثبت ظاهراً بالإستصحاب, وعلى الثاني لا يثبت لكونه ملازمة عقلية، وإمّا أن يكون النافي للقيد أصلاً عملياً ينظر إلى مرحلة الجري العملي والإحتياط لا إلى مرحلة الواقع كأصل البراءة الذي مدلوله نفي إيجاب الإحتياط. ومن الواضح أنّ هذا المدلول لا يمكن أن يثبت الإطلاق؛ سواءً كان عبارة عن عدم لحاظ القيد, أم لحاظ عدمه لأنّه غير ناظر إلى الواقع أصلاً؛ إذ لا ربط لدليل البراءة كحديث الرفع بالإطلاق الذي هو في مقابل التقييد في عالم الجعل والواقع, فانحلال العلم الإجمالي لا يمكن أن يثبت بالإطلاق والأمر

ص: 29

بالأقل بإجراء البراءة عن التقييد, كما عليه المحقق النائيني ولا بإجرائها عن الجزئية كما عليه المحقق الخراساني, لأنّ دليل البراءة ينظر إلى مرحلة غير مرحلة الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال.

التنبيه الثالث: قد يُستشكل على صاحب الكفاية في وجه عدوله عن إجراء البراءة الشرعية عن وجوب الأكثر إلى إجرائها عن جزئيّة الجزء المشكوك أو شرطيته؛ فربّما يظهر منه وجه آخر للتفصيل بين البراءة العقلية والشرعية الذي تقدم بيانه.فقيل في ردّ ذلك وجوهاً:

الوجه الأول: إنّ البراءة الشرعية عن وجوب الأكثر تعارض البراءة الشرعية عن وجوب الأقل, وبعد التساقط يكون المرجع البراءة عن جزئيّة القيد الزائد بلا معارض؛ لكونها أصلاً طولياً, حيث إنّ الشك في الجزئية مسبب عن الشك في وجوب الأكثر والأمر به.

وأورد عليه:

1- إنّ الجزئية انتزاع عقلي من وجوب الأكثر لا أنه ترتب شرعي, فنفي وجوب الأكثر لا يترتب عليه نفي الجزئية إلا بالملازمة.

وفيه: ما سيأتي البحث في الأحكام الوضعية التي منها الجزئية والشرطية من أنّها إنتزاع شرعي.

2- إنّ البراءة عن الجزئية على تقدير جريانها, تعارض البراءة عن كليّة الأقل المنتزعة عن وجوب الأقل بحدّه.

3- إنّ الجزئية والشرطية لا تقبل الوضع الظاهري؛ بمعنى إيجاب الإحتياط تجاه احتمالها حتى يُرفع ظاهرياً برفع إيجاب الإحتياط تجاهها, وإنّما الذي يقبل الوضع والرفع الظاهريين منشأ انتزاعهما هو الوجوب. وأمّا الجزئية -كحكم وضعي-

ص: 30

فهي تُنتزع عقلاً؛ إمّا من الواجب الواقعي فتكون جزئيّة واقعية, وإمّا من الواجب الظاهري فتكون جزئيّة واقعية لواجب ظاهري.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ الجزئية والشرطية ضيق على المكلف لما يترتب عليها من الحكم الشرعي, فيشملهما حديث الرفع, كما يشمل غيرهما مّما فيه الضيق على المكلفين إذا تعلق الشك من دون لحاظ منشأهما لحديث عموم الرفع, نعم إذا جرت البراءة في المنشأ ينتفي ما يترتب عليه قطعاً.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من عدم جريان البراءة الشرعية عن الحكم التكليفي بالأكثر, أو الزائد؛ لإثبات وجوب تمحّض الشك في الشك في الإمتثال فحسب.

وتفصيل الكلام فيه؛ إنّ التخيير لا يجري في المقام لأنّ نفي أحد طرفي العلم الإجمالي لا يُثبت طرفه الآخر إلا بالأصل المثبت, وهذا بخلاف البراءة عن الجزئية بمعنى تقييد الواجب به في مقام الجعل؛ فإنّ المطلق عبارة عن وجوب الأقل من دون تقييد, ووجوب الأقل ثابت بالوجدان, وعدم التقييد يثبت بالبراءة عن التقييد.

ويرد عليه: إنّ إجراء البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي ينفي وجوبه فقط, وترتب وجوب الآخر يكون قهرياً لأنّ الأمر لا يعدوهما وليس من الأصل المثبت.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (2) في وجه إجراء البراءة الشرعية عن الجزئية؛ من أنّ نسبة حديث الرفع بعد تطبيقه على الجزئية إلى أدلة الأجزاء والشرائط تكون نسبة الإستثناء إلى المستثنى منه؛ لأنّ دليل الجزئية أو الشرطية وإنْ كان ظاهره جعلها مطلقاً في جميع الحالات من العلم والشكّ, ولكن مقتضى أدلة الرفع تقييد الإطلاق المذكور, فتكون نسبته نسبة الإستثناء إلى المستثنى منه, فيجمع بينهما بالتقييد.

ص: 31


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص49.
2- . كفاية الأصول؛ ص360.

وأورد عليه بأنّ مدلول أدلة الرفع والبراءة هو الرفع الظاهري لا الواقعي, بينما مدلول أدلة الجزئية والشرطية والمانعية هي أحكام واقعية, فلا تنافي بينهما حتى يُجمع بينهما بالتخصيص الذي هو فرع التنافي والتعارض.

وفيه: ما تقدم في بحث البراءة من أنّ حديث الرفع وإن لم يكن يرفع الواقع, ولكنه يثبت جواز الترك والمعذريّة في مرحلة الظاهر بلسان الرفع, فيمكن إثبات التنافي بينهما من هذه الناحية كما هو المستفاد من الجمع بين الأدلة عرفاً.

الجهة الثانية: دوران الأقل والأكثر في الشرائط.

يظهر ممّا سبق أنّ ما يجري في الأجزاء يجري في الشرائط, وقد اخترنا جريان البراءة في الزائد المشكوك, فتجري البراءة عن وجوب الشرط المشكوك مطلقاً أيضاً؛ سواء كان شرطاً لمتعلق التكليف كالطهارة في الصلاة, أم شرطاً لمتعلق, كاشتراط الإيمان في عتق الرقبة؛ فإنّ المناط في الجميع واحد, لا أنّ الشرطية ترجع إلى تقيّد الواجب بقيدٍ زائد وانبساط الأمر عليه, فيكون الشك فيه شكّاً في الأمر بالتقييد الزائد على الأمر بذات المقيد, فيكون من الدوران بين الأقل والأكثر بهذا اللحاظ وهو الدخول في العهدة, وإن لم يكن بلحاظ حدّ الواجب أو الوجوب, فيكون الأقل معلوماً, والشكّ في أنّ الزائد داخل في العهدة, ومرجعه البراءة عنه بلا فرق في جميع أقسام الشرط المشكوك. هذا ولكن نُسب إلى المحقق العراقي قدس سره (1) التفصيل بين ما إذا كان الشرط للمتعلق فتجري البراءة, وما إذا كان الشرط لمتعلق المتعلق فلا تجري لأنّ الشرطية المحتملة على تقدير ثبوتها؛ تارةً؛ يكون مفادها أنّ المكلف عند إتيانه بالأقل لا بُدَّ أن يضمّ إليه شيئاً, وأخرى؛ يكون مفادها إلغاء ما أتى به والإنصراف عمّا فعله إلى فردٍ آخرٍ واجد للشرط.

ص: 32


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص399-400.

ومُثّل للأول أن يعتق رقبةً كافرة؛ فإنَّ شرطية الإيمان تتطلّب منه أن يجعلها مؤمنة, وحيث إنّ جعل الكافر مؤمناً ممكن, فالشرطية لا تقتضي إلغاء الأقل رأساً، بل يكمّله؛ وذلك بأن يجعل الكافر مؤمناً عند عتقه له, فيعتقه وهو مؤمن. وشروط المتعلق كلّها من هذا القبيل. ومُثّل للثاني أن يُطعم فقيراً غير هاشميّ؛ فإنَّ شرطية الهاشمية تتطلّب منه إلغاء ذلك رأساً, وصرفه إلى الإتيان بفردٍ جديدٍ منالإطعام؛ لأنّ غير الهاشمي لا يمكن جعله هاشمياً. وعليه؛ فإنّ الحالة الأولى تجري البراءة عن الشرطية المشكوكة لأنّ مرجع الشك فيها إلى الشك في إيجاب ضمّ أمرٍ زائدٍ على ما أتى, أو يريد أن يأتي به في الخارج, وهو يرجع إلى العلم بالأقل والشكّ في وجوب الزائد, فالأقلّ محفوظ على كلّ حال والشكّ في الزائد.

وأمّا الحالة الثانية فلا تجري فيها البراءة لأنّ الشك بحسب الحقيقة يرجع إلى وجوب هذا الفعل أو الفعل الآخر, فليس الأقلّ محفوظاً فيه على كلّ حال حتى يرجع الشك إلى ضمّ أمرٍ زائدٍ إلى ما أتى به, أو يريد أن يأتي به في الخارج, فلا يكون الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر.

ولكن الصحيح, هو عدم الفرق بين الحالتين؛ لأنّ الميزان في الدوران بين الأقلّ والأكثر؛ هو كون الأقلّ معلوماً على كلّ حال, والشكّ في تكليف الجعل الزائد, ففي المقام ذات الطبيعي معروض الوجوب, والشكّ في عروضه على التقييد, فتجري البراءة.

الجهة الثالثة: في الشك في المانعية

ويظهر حكمه مّما ذكرناه من المناط في جريان البراءة عند الشك في الشرطية ووجوب التقييد؛ إذ لا فرق بين كون القيد المشكوك أمراً وجودياً, وهو المعبّر عنه بالشرط, أو يكون عدم أمرٍ وجودي, وهو المسمى بالمانع, فكما لا يجب إيجاد ما يحتمل شرطيته كذلك لا يجب على المكلف الإجتناب عمّا يحتمل مانعيته لوحدة الملاك في الجميع.

ص: 33

والحاصل؛ إنّه في الموارد الثلاثة من الشك في الجزئية, والشكّ في الشرطية, والشكّ في المانعية؛ لا مانع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الأكثر, وكذلك لا مانع من جريان أدلة البراءة الشرعية بعد تحقق المقتضي في الجميع, وهو الشك في التكليف فيصح الإقتصار على الأقلّ, وقد استقرّ عليه رأي المحققين بلا فرقٍ بين جميع موارد الأقلّ والأكثر في الشبهات الوجوبية والتحريمية؛ نفسية كانت أم غيريّة حتى في الشبهات الموضوعية كما سيأتي توضيح ذلك إنْ شاء الله تعالى.

الجهة الرابعة: دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

المشهور في الفقه والأصول فيه هو التعيين لقاعدة الشغل بعد العلم بأصل الوجوب, ولِما مرّ في مباحث الألفاظ من أنّ مقتضى الإطلاق كون الوجوب تعينيّاً نفسياً, فيطابق الأصل اللفظي مع العملي على التعيينية.

ولكن الصحيح هو الرجوع إلى البراءة؛ لأنّ خصوصية التعيينية قيد زائد مشكوك, فتكون من مجاري البراءة بعدم العلم بأصل التكليف بحدوده وقيوده, وعدم تمحض الشك فی الشك، وهو على قسمين: فتارةً يكون التخيير عقلياً, وأُخرى يكون شرعياً فيما إذا دار أمر الواجب بين التخيير والتعيين فيهما. والكلام يقع في مقامين:المقام الأول: دوران الأمر بين التعيين والتخيير الفعليين؛ وهو ما إذا علم بوجوب عنوان خاص أو عنوان أعمّ منه صدقاً، كما إذا علم بوجوب مطلق الحجّ أو التمتع، أو مطلق النكاح أو المنقطع, أو بوجوب الإطعام إمّا لطبيعي الحيوان أو لنوع خاص منه كالإنسان؛ فإنّ الحيوان مباين للإنسان مفهوماً, وإن كان أعمّ منه صدقاً.

وهنا قد يقال: بالتفصيل بين حالتين في ملاك الإنحلال عند التغاير بين المفهومين:

الأولى: أن يكون التغاير على أساس الإجمال والتفصيل في اللحاظ كما في الجنس والنوع؛ فإنّ الأول مندمج في الثاني ولكن على نحو الإجمال والتفصيل.

ص: 34

الثانية: أن يكون التغاير في ذات الملحوظ لا مجرد إجمالية اللحاظ وتفصيليته, كما لو علم بوجوب إكرام زيد كيفما اتفق, أو وجوب إطعامه بالخصوص فإنّ مفهوم الإكرام ليس محفوظاً في مفهوم الإطعام إنحفاظ الجنس في النوع.

أما الحالة الأولى؛ فهي تدخل في موارد دوران الأقل والأكثر بلحاظ الوجوب والثابت في العهدة, ولا تكون من الدوران بين المتباينين لأنّ تباين المفهومين في الإجمال والتفصيل وهما من خصوصيات اللحاظ التي لا تدخل في العهدة, وإنّما الذي يدخل فيها هو ذات الملحوظ؛ وهو مردد بين الأقل وهو الجنس, أو الأكثر وهو النوع.

بخلاف الحالة الثانية؛ فإنّ التباين بين المفهومين فيها لمّا كان في مرحلة ذات الملحوظ؛ يكون الدوران فيها بين متباينين, وإن كان إتيان أحدهما يساوق الآخر لكونه أخصّ منه. وعليه يكون العلم الإجمالي ثابتاً من دون انحلال، ولكن مع ذلك تجري البراءة عن وجوب أخصّ العنوانين صدقاً, كما تقدم بيانه في الجهة الأولى.

ولكن الصحيح إنّه لا وجه لهذا التفصيل؛ ففي مقام الإمتثال لا فرق بين الحالتين, والنتيجة الأصولية واحدة فيهما, إلا ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) وهو أيضاً غير تام؛ بناءً على ما ذكرناه في انقسام الإنحلال من أنّه لا ثمرة عملية, بل لا عملية تترتب على تلك فراجع.

المقام الثاني: في الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي؛ وقد اختلفوا في حكمه بسبب اختلافهم في بيان حقيقة التخيير الشرعي؛ إذ لهم فيها مبانٍ:

المبنى الأول: ما هو المعروف من أنّ مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين؛ وشرط كلّ منهما ترك متعلق الآخر, فإنّ العتق مشروط بترك الإطعام, وهو كذلك مشروط بترك

ص: 35


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص354.

العتق, وعليه يكون مرجع الدوران إلى العلم بوجوب العتق في حال ترك الإطعام, والشكّ في وجوبه حال فعل الإطعام, فيرجعالشك فيه إلى أنّ وجوب العتق يكون مطلقاً, أو يكون مشروطاً, فينحلّ إلى العلم بوجوب العتق في حال تحقق الشرط, والشكّ فيه في حال عدم تحققه, فتجري البراءة عنه, فينتج عن ذلك التخيير, ومع ذلك فقد ذهب بعض الأصوليين إلى التعيين في المقام على هذا المبنى, وذكروا وجهين لذلك:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنّ الوجوب التخييري وإن كان مشروطاً بترك الآخر, إلا أنّه مشروط به بقاءً لا حدوثاً؛ فإنّ وجوب العتق -مثلاً- ثابت من أول الأمر, غاية الأمر يُشكّ في سقوطه بالإطعام, والشكّ في السقوط مجرى الإحتياط, فيقتضي التعيين لا التخيير.

ويرد عليه: إنّه لا وجه للقول بأنَّ الشرطية في مرحلة البقاء؛ فإنّه تكفي في مرحلة الحدوث, فإنّه إذا علم بجعل الوجوب من أول الأمر كذلك, فإنّه يستكشف منه عدم ثبوت وجوب العتق لمن أطعم ستين مسكيناً, ثمّ على فرض القبول؛ فإنّه لا وجه للقول باختصاص البراءة بموارد الشك في حدوث التكليف, بل تجري في موارد الشك في التكليف بقاءً؛ لأنّ المناط في جريان البراءة كون الشك في أصل ثبوت التكليف أو سعته وحدوده وقيوده سواءً كان في مرحلة الحدوث أم البقاء لإطلاق دليلها, ولا وجه لتخصيصها بموارد الشك في حدوث تكليف, إلا أن يكون الشك في الإمتثال فإنّه لا تجري البراءة كما هو معلوم.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقق العراقي قدس سره (2)؛ من أنّ هذا علم إجمالي غير منحلّ، متعلقه وجوب العتق تعييناً, أي عدم جواز تركه أو عدم جواز ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق,

ص: 36


1- . فوائد الأصول؛ ج3 ص156، وأجود التقريرات؛ ج2، ص215.
2- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص289.

فإنّ الواجب إذا كان تخيّيرياً فالمخالفة إنَّما تكون بضمّ ترك أحدهما إلى ترك الآخر, وهو يعني إنّ في كلّ واحدٍ من الوجوب التعييني للعتق, والوجوب التخييري حيثية إلزامية يفقدها الآخر, فالحيثية لا يشملها الوجوب التخييري.

والحيثية الإلزامية في الوجوب التخييري للعتق والإطعام؛ هي تحريم ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق؛ إذ بهذا الضمّ تتحقق المخالفة, وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التعييني لأحدهما؛ لأنّ المخالفة فيه متحققة بنفس ترك ذاك الواجب, ولا يضر ضمّ ترك الآخر؛ إليه لأنّه من ضمّ ترك المباح إلى ترك الواجب, فيتشكل علم إجمالي بأحد الإلزامين, فتكون البراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الإطعام ممّن ترك العتق, ولا يوجد ما يوجب الإنحلال، وهو يقتضي التعيين.ويرد عليه بأنّ البراءة عن وجوب العتق لمن أطعم لا تعارض بالبراءة الثانية؛ لأنّ فرض جريانها هو فرض وقوع المخالفة القطعية, ولا يعقل التأمين مع هذا الفرض, بخلاف فرض جريان البراءة الأولى فإنّه فرض المخالفة الإحتمالية.

المبنى الثاني: ما إختاره المحقق الخراساني قدس سره (1) في بعض موارد الواجب التخييري؛ من أنّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجود غرضين لزوميين فعليين للمولى, غير أنّهما متزاحمان في مقام التحصيل، بمعنى أنّ استيفاء أحدهما يجعل المكلف يعجز عن استيفاء الآخر, وعليه يحكم المولى بوجوب كلّ من الفعلين مشروطاً بترك الآخر, وبناءً على هذا المبنى يكون الحكم هو وجوب الإحتياط؛ لأنّ مرجع الشك في وجوب العتق تعييناً أو تخييراً إلى الشك في أنّ الإطعام هل يوجب العجز عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق أو لا، فيكون من الشك في القدرة الذي تجري فيه الإشتغال, والحكم حينئذٍ هو التعيين.

ص: 37


1- . كفاية الأصول؛ ص183.

المبنى الثالث: ما اختاره جمعٌ من رجوع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي, بمعنى أنّ الواجب هو عنوان أحدهما, وحينئذٍ يصح أن يقال بانحلال الوجوب بلحاظ ما يدخل في العهدة, حيث بوجوب أحدهما يشكّ في وجوب الخصوصية التعينيّة فتجري البراءة عنه.

ويرد عليه بأنّ هذا الوجه خلط بين عنوان أحدهما وواقع أحدهما؛ فإنّ الواجب على تقدير التعينية واقع أحدهما, وعلى تقدير التخييرية عنوان أحدهما الإنتزاعي, وهما متغايران في المفهوم, وليس حالهما حال الجنس والنوع من الجوامع الحقيقية الذاتية؛ حيث يُعبِّران عن مفهومٍ واحدٍ وإن اختلفا في كيفية اللحاظ.

المبنى الرابع: ما إختاره المحقق العراقي قدس سره (1)؛ من إرجاع الوجوب التخييري إلى عدّة وجوبات بعدد البدائل, لا على نحو الإطلاق في الوجوب, بل على فرض ضيق فيه على نحو ما تقدم في المبنى الأول, فيكون التعليق والإشتراط في المتعلق لا في الوجوب؛ بأن يكون الواجب بعض مراتب وجود المتعلق، بمعنى سدّ بعض أبواب عدمه المقارن مع عدم العِدل الآخر. وحكم المسألة على هذا المبنى حكم ما على المبنى الأول من الشك في وجوب سدّ باب العتق مطلقاً, أو في خصوص حال عدم الإطعام فتجري البراءة عن وجوبه وينتج التخيير, ولا يعارَض بالبراءة عن حرمة ضمّ ترك الإطعام إلى تركه كما عرفت في المبنى الثاني.

والحقّ؛ إنّ جميع ذلك من التطويل الذي لا طائل تحته, وأنّ الجميع يرجع إلى ما ذكرناه في ابتداء البحث من أنّ البراءة تجري في كل مورد يتحقق الشك بالنسبةإلى التكليف, وسعته وضيقه, من حيث القيود والشروط؛ لأنّ الشك فيها يرجع إلى الشك بالتكليف فيكون مورد جريان البراءة والشكّ في التعينية يرجع إلى الشك في خصوصيات التكليف من

ص: 38


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص289.

جهة سعته وضيقه, ولا يضر في ذلك اختلافهم في حقيقة التخيير الشرعي. وقد تقدم التفصيل في مباحثنا السابقة فراجع.

ثمّ إنّه يظهر من جميع ما ذكرناه صحة الرجوع إلى البراءة في موارد الأقل والأكثر بأقسامه المتقدمة.

نقاط ختاميّة

وفي الختام لا بُدَّ من بيان أمورٍ تتعلق بالبحوث المتقدمة في ضمن نقاط:

النقطة الأولى: قد يتمسك لوجوب الأكثر في موارد الدوران المتقدمة بالإستصحاب لإثبات وجوب الإحتياط والإتيان بالإكثر, كما أنّه قد يتمسك به أيضاً لإثبات البراءة عن الأكثر والإكتفاء بالأقل, والمراد به أصالة عدم وجوب الأكثر بالعدم الأزلي باعتبار أنّ التكليف لم يكن بأقلّه وأكثره قبل البلوغ ثمّ وجب, أو استصحاب عدم الوجوب قبل البلوغ أو قبل الوقت.

أمّا الوجه الأول من الإستصحاب لإثبات الإحتياط؛ فلأنَّ التكليف المعلوم بعد الإتيان بالأقل يُشكّ فيه, هل يسقط أو أنه لا يزال باقياً؛ فإن كان متعلقاً بالأقل فقد زال قطعاً, وإن كان متعلقاً بالأكثر فهو لا يزال موجوداً يقيناً, فيجري استصحاب الوجوب الجامع بين الفردين القصير والطويل, فيكون من القسم الثاني من استصحاب الكلي.

وقد ردّ هذا الإستصحاب بوجوهٍ:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من عدم جريان الإستصحاب في موارد الشك في الإشتغال؛ لأنّه إن أُريد به إثبات الفرد الطويل فهو من الأصل المثبت, وإن أُريد به إثبات الإشتغال ووجوب الإحتياط فهو ثابت وجداناً في موارد الشك في الإشتغال, فلا معنى للتعبديّة.

ص: 39

وفيه: إنّ هذا الوجه إذا تمّ في موارد الدوران بين المتباينين فإنّه لا يتم في المقام؛ لأنّ الإشتغال غير ثابت فيه وجداناً لولا هذا الإستصحاب كما تقدم بيانه مفصلاً.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (1) من أنّ أصالة عدم الفرد الطويل -أي وجوب الأكثر- حاكم على هذا الإستصحاب, ويكون مؤمّناً من ناحية الوجوب على تقدير كونه الأكثر؛ نظير ما إذا كان شخصٌ محدثاً بالأصغر وخرج منه بلل مشتبه فإنّه لا إشكال في عدم وجوب الغسل عليه بعد إتيانه بالوضوء لمجرد احتمال بقاء الحدث المعلوم بالإجمال؛ وذلك لجريان استصحاب عدم كونه محدثاً بالأكبر المنقّح بوجوب الوضوء عليه.ويرد عليه: إنّه إذا كان المراد حكومة استصحاب عدم الفرد الطويل على استصحاب الجامع في المقام لعدم معارضته باستصحاب عدم الفرد القصير, فهو واضح الضعف؛ لأنّ ترتب الجامع على الفرد إثباتاً ونفياً يكون عقلياً لا شرعياً, فلا وجه لافتراض حكومة الأصل النافي للفرد الطويل على استصحاب الجامع.

وإن كان المراد به استصحاب عدم جعل الوجوب على الأكثر لإثبات الأقل من جهة ثبوت أصل جعل الوجوب على الفعل, وإنّما الشك في تقييده بالزائد؛ فيكون من موارد إحراز جزء الموضوع بالوجدان وجزءه الآخر بالتعبد.

وفيه: إنّ ما يثبت بهذا الأصل وجود الفرد القصير، لا أنّ الجامع الموجود يكون في ضمن الفرد القصير؛ فإنّ هذا لازم عقلي, مع أنّ ما ذكره لا ينسجم مع مبناه في أنّ الإطلاق أمر وجودي لا يثبت بالأصل, لا أن يكون أمراً عدمياً.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الصدر قدس سره (2) من أنّه لو أُريد باستصحاب جامع الوجوب بإثبات الزائد -أي العشرة مثلاً- فهو من الأصل المثبت؛ لأنّه لازم بقاء الجامع عقلاً, وإن

ص: 40


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص280.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص360.

أُريد به الإقتصار على إثبات جامع الوجوب فهذا لا أثر له؛ إذ لا يزيد من العلم الوجداني بهذا الجامع, وقد تقدم أنّ العلم به لا ينجّز سوى الأقل, وهو حاصل بحسب الفرض.

والظاهر أنّ هذا هو مراد القوم المستفاد من كلماتهم في المقام وغيره, فلا وجه لهذا الإستصحاب لإثبات وجوب الأكثر.

وأما الوجه الثاني من الإستصحاب الذي اختلف العلماء في التعبير عنه, وهو إستصحاب عدم وجوب الأكثر؛ إمّا بالعدم الأزلي, أو عدم التكليف قبل الشرع, أو قبل البلوغ, أو قبل الوقت.

فإنّه يرد عليه:

1- إنّه لا حاجة إليه بعدما عرفت من أنّ الشك في وجوب الأكثر يكفي في الرجوع إلى البراءة عنه وإن كان الإستصحاب في حدّ نفسه تام الأركان في المقام, فيكون مؤيداً لا دليلاً.

2- ما أورده السيد الخوئي قدس سره من أنّه معارض باستصحاب عدم الوجوب الإستقلالي للأقلّ بحدّه؛ لأنّ هذا الوجوب بحدّه يكون بمعنى الإطلاق, وهو أمر ترخيصي يجري فيه إستصحاب عدمه.

وفيه: إنّ إستصحاب عدم الوجوب الإستقلالي للأقل لا أثر له يجري؛ لأنّه إن أُريد به إثبات وجوب الزائد بالملازمة, فهو من الأصل المثبت, وإن أُريد به التأمين في حالة ترك الأقل فهو غير صحيح لأنّه يستلزم المخالفة القطعية, ولا يصح التأمين بالأصل العملي إلا عن المخالفة الإحتمالية كما هو واضح.

النقطة الثانية: في الأقلّ والأكثر في المحرمات

إذا علم بحرمة شيء مردد بين الأقلّ والأكثر وهو تارةً؛ يكون في الشبهة الموضوعية، وأُخرى؛ في الشبهة المفهومية.

ص: 41

أمّا الأولى؛ فإنّه يجري فيها كلّ ما سبق ذكره في الواجب الإرتباطي عند الدوران بين الأقل والأكثر, فلو علم بحرمة الغيبة وتردّد كلام بين كونه من الغيبة المحرمة أولا، أو علم بحرمة الغناء، وتردّد صوتٌ بين كونه من الغناء المحرم أولا، أو علم بحرمة تصوير ذوات الأرواح وتردّد بين كون صورةٍ معينةٍ منه أولا؛ فإنّه في جميع ذلك ينحلّ الحكم بانحلال الموضوع فيتحقق الأقل ونرجع في الأكثر إلى البراءة عنه, كما في الواجبات المرددة بينهما. ولكن أستشكل بعض الأصوليين في ذلك، وذكروا أنّ الدوران في باب الحرام يختلف عنه في باب الواجب.

وأمّا الثانية؛ وهي الشبهة المفهوميّة كما إذا تردّد مفهوم البكاء الحرام في الصلاة بين كونه مع الصوت أو بلا صوت؛ فإنّ المتيقن هو البكاء مع الصوت, ويرجع في غيره إلى الأصل, وحينئذٍ تختلف الشبهة المفهوميّة عن المصداقية, حيث إنّ الأكثر في الأولى هو المتيقن, والأقلّ هو المشكوك فيُرجع فيه إلى البراءة, ولكنهما يشتركان في جهةٍ واحدةٍ, وهي عند الدوران بين الأقل والأكثر في الشبهة التحريمية، والمرجع هو البراءة في المشكوك، وربّما يقال باختلاف الوجوب والتحريم من جهاتٍ:

الأولى: إنّ حرمة الأكثر في باب الحرام تناظر وجوب الأقل في باب الواجب من حيث كونه متيقناً على كلّ حال, ويكفي في امتثال حرمة الأكثر ترك أيّ جزءٍ منها؛ فلذا كانت أخفّ مؤونة من وجوب الأكثر في باب الواجب حيث يكون الأشدّ مؤونة.

الثانية: ما ذكرهُ المحقق العراقي قدس سره (1) من أنّ جريان البراءة هنا أولى من جريانها في الشبهة الوجوبية؛ لأنّ بعض وجوه المنع عن جريانها في جانب الوجوب لو تمّ هناك لا يجري هنا, فقد ذكر صاحب الفصول قدس سره من أنّ وجوب الأقلّ متيقن على كلّ حال,

ص: 42


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص400-401.

إمّا ضمناً أو استقلالاً, والشّغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقني, وهذا لا يتحقق إلا بالإتيان بالأكثر؛ إذ بالأقل لا يُقطع بالفراغ. وهذا الوجه لا يتم في الشبهة التحريمية لأنّ المتيقن حرمته هو الأكثر, ويقطع بتركه إذا تُرك جزءٍ منه, فما هو متيقن الحرمة -وهو تصوير كامل حجم الحيوان مثلاً- متروك مطلقاً, وما لم يترك -وهو تصوير بعض منه- مشكوك الحرمة من أول الأمر.

الثالثة: ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) من أنّ جريان البراءة بين الأقل والأكثر في الحرام يكون من الإنحلال الحكمي لا الإنحلال الحقيقي.

والحقّ؛ إنّ ما ذكر في الأولى والثانية هو من الآثار الوضعية المترتبة على الحرمة دون الوجوب؛ فإنّ بينهما اختلافاً من ناحية موضوع الإلزام, فإنّ متعلق الإلزام في الوجوب هو الفعل, بينما يكون متعلقه في الحرمة هو الترك, ولكن ذلك لا يضّر بمورد البحث في المقام, وهو جريان البراءة عن المشكوك عند التردّد بين الأكثر والأقل في كلا الموردين.

وأمّا ما ذكره السيد الصدر قدس سره ؛ فقد تقدم الكلام فيه, حيث ذكرنا أنّه لا ثمرة عملية, بل ولا علمية مترتبة بين الإنحلال الحقيقي والإنحلال الحكمي.

النقطة الثالثة: الدوران بين الجزئية والمانعية.

كما إذا تردّد الأمر بشيء بين كونه جزءً من الواجب أو مانعاً؛ فإنّه يرجع إلى العلم الإجمالي بوجوب زائد؛ إمّا أن يرجع بتقيّد وجود شيء أو تقيّده بعدمه, وهذا العلم الإجمالي منجز, وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئية مع أصالة البراءة عن المانعية, فيجب على المكلف الإحتياط بتكرار العمل تارةً؛ مع وجود ذلك الشيء, وأخرى؛ بدونه.

ص: 43


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص363.

ولا موجب لانحلال هذا العلم الإجمالي إلا ما قيل من أنّه لا مانع من جريان البراءتين معاً بناءً على أنّ عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إنَّما هو من جهة استلزامه المخالفة العملية, وفي المقام لا يُؤدي إلى المخالفة القطعية العملية؛ لأنّ المكلف إمّا أن يأتي بذلك المشكوك أو يتركه, وعلى كلا التقديرين تكون المخالفة احتمالية. نعم، تحصل المخالفة القطعية بترك الصلاة رأساً, فلا يجري فيه الأصلين أبداً لأنّه يستلزم منه المخالفة القطعية على كلّ حال كما هو واضح, فما يثبت بالأصلين من الترخيص لا يؤدي إلى المخالفة القطعية العملية.

وقد رُدّ ذلك بأنّ المخالفة العملية تكون ممكنةً إذا أتى المكلف بالفعل القربي مع الجزء المشكوك بدون وجه القربة, أو يأتي به بدونه مع ترك وجه القربة, فيكون مخالفاً للمعلوم بالإجمال على كلّ تقدير؛ فيستلزم من جريان الأصلين معاً الأذن في ذلك, فيتعارض الأصلان ويتساقطان.

ويظهر من الشيخ الأعظم قدس سره جريان الأصل عن المانعية والجزئية معاً؛ لكون الدوران فيه بين المحذورين ولا يمكن مخالفتهما القطعية. وقد نقض عليه السيد الخوئي(1) بموارد الدوران بين القصر والتمام, والذي أفتى فيها بالإحتياط, مع أنهابالدقّة داخلة في مسألتنا فإنّ المكلف بعد التشهّد يدور أمره بين أن يجب السلامُ عليه أو لا, فتكون زيادة مانعة.

والحقّ أنّ ما ذكره الشيخ الأعظم صحيحٌ لعدم إمكان المخالفة القطعية في موارد الدوران بين المحذورين, ونقضُ السيد الخوئي غيرُ واردٍ عليه لأنّ المكلف فيما فرضه يعلم إجمالاً ما يوجب السلامَ عليه, أو وجوب تركه, إلا أنّ الواجب ليس مطلق الترك, بل الترك الخاص؛ وهو المتعلق بالركعتين الأخيرتين, فإذا ترك السلام من دون إتيانهما يكون قد

ص: 44


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص487.

خالف علمه الإجمالي لا التفصيلي, بخلاف المسألة التي نحن بصدد البحث عنها؛ فإنّ ترك الصلاة رأساً تكون فيه مخالفة تفصيليّة.

ولكن المختار في مورد الدوران بين الجزئية والمانعية؛ هو الإحتياط بتكرار العمل تارةً مع الجزء المشكوك, وأُخرى بدونه لمنجزية العلم الإجمالي كما تقدم.

النقطة الرابعة: الشبهة الموضوعية في الأقلّ والأكثر.

ذكرنا أنّه لا فرق في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية فيما إذا كان سبب الشك الجهات الخارجية لا التشريع والجعل؛ كما إذا علم المكلف بأنّ ما لا يؤكل لحمه مانع في الصلاة, وشكّ في أنّ اللباس الذي عنده مّما لا يؤكل لحمه أو لا؛ فإنّ البراءة تجري عن مانعيته في الصلاة, أو أصالة البراءة عن تقيّد الصلاة بعدمه. أو عَلِم بوجوب إكرام العلماء وتردّد شخصٌ بين كونه عالماً أو لا؛ فإنّ المرجع هو البراءة عن إكرامه. وذكر المحقق النائيني قدس سره (1) أنّ الشبهة الموضوعية إنَّما يمكن تصويرها للواجب الضمني إذا كان لهذا الواجب تعلق بموضوعٍ خارجي, أي له متعلق المتعلق, فيشكّ فيه خارجاً, كما في مثال إكرام العلماء. أمّا إذا لم يكن له موضوع خارجي؛ كما في القراءة الواجبة, فلا يعقل تصوير الشبهة الموضوعية فيه.

ولكن الصحيح إمكان تصوير ذلك باعتبار حالات المكلف, فلو وجبت السورة على غير المريض في الصلاة وشكّ المكلف في مرضه فهو يشكّ في جزئية السورة مع أنّها واجب ضمني لا تعلق لها بموضوعٍ خارجي, والحكم هو البراءة. اللّهمّ إلا أن يكون مقصود المحقق النائيني عدم تعلق الشك بنحو الشبهة الموضوعية من ناحية متعلق أو قيود الحكم, ولكن ذلك بعيدٌ عن ظاهر كلامه؛ فهو قدس سره نفى تصوير الشبهة الموضوعية في الواجب الضمني إذا لم يكن له متعلق المتعلق.

ص: 45


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص200.

النقطة الخامسة: الدوران بين الأقلّ والأكثر في المحصل الشرعي.

والمراد بالمحصل الشرعي في المقام ما إذا كان المسبب أمراً مجعولاً أو أمراً تكوينياً كشف عنه الشارع, ومترتباً على السبب الخارجي فشُكّ في ذلك السبب؛كما في الطهارة المجعولة شرعاً على الغسل والمسح, فإذا شكّ في أنّها مجعولة على الغسل مرةً أو مرتين. وأُلحق بذلك أيضاً ما إذا كان المسبب تكوينياً ولكن سببه لم يتعيّن بفهم العرف، بل يكشف عنه الشارع؛ كما إذا إفترضنا الطهارة حالة نورانية تكوينية كشف عنها الشارع. وقد نُسب إلى الميرزا الشّيرازي قدس سره (1) القول بجريان البراءة, وذهب المحقق النائيني قدس سره (2) إلى لزوم الإحتياط بلا فرق بين أن يكون الشك في المحصل الشرعي وغيره, ولا تجري البراءة لأنّها متقومة بالشكّ, وكون المشكوك من المجعولات الشرعية يكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع, وأن يكون في الرفع توسعة ومنّة على المكلف؛ فإذا تمّت هذه الأركان جرت البراءة, وإلا فلا تجري كما في الشك في المحصل؛ فإنّ هذه الأركان غير متوفرةٍ فيه. واستدل على ذلك بوجوهٍ ثلاثة:

الوجه الأول: إنّ البراءة إذا أُريد إجراؤها عن أصل وجوب الطهارة في الصلاة فهو غير مشكوكٍ فيه, بل هو معلوم. وإن أُريد إجراؤها عن سببية الأكثر -وهو الغسلتين مثلاً- لها, فهي أيضاً معلوم؛ إذ يُعلم بحصولها بذلك. وإن أُريد إجراؤها عن سببية الأقل -أي الغسلة الواحدة- لها, فرفع ذلك بالبراءة يعني التضيّيق على المكلف, ولزوم إتيانه بالأكثر, وعدم الإقتصار على غسلة واحدة, فالركن الأول من أركان البراءة منتفٍ.

ص: 46


1- . وردت في فوائد الأصول؛ ج3 ص360؛ حسب طبعة جماعة المدرّسين نسبة ذلك إلى بعض الأعلام من دون تسمية السيد ميرزا حسن الشيرازي، والظاهر أنّ الأعلام يعلمون أنّه هو المقصود.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص55 و47- 49، وأجود التقريرات؛ ج2، ص178-180.

وفيه: إنّ سببية الأكثر غير معلومة؛ وإنّما المعلوم حصول الطهارة عند حصول الأكثر, ولكنها غير سببية الأكثر بما هو أكثر, فتجري البراءة عن سببية الأكثر كما هو واضح.

الوجه الثاني: إنّ السببية أو جزئيّة الزائد للسبب وغير ذلك؛ كلّها أمور وضعية إنتزاعية, وليست مجعولة للشارع, فلا يتوفر الركن الثاني من أركان البراءة.

وفيه: إنّه خلاف مبناه في جريان البراءة عن الجزئية والمانعية؛ باعتبار أنّها مجعولة بالتبع, وإن لم تكن مجعولة بالأصالة يكون أمر رفعها ووضعها بيد الشارع كما سيأتي في بحث الإستصحاب. وإنّ المحصل والأمور الوضعية؛ إمّا أن يكون رفعها ووضعها باعتبار منشأ انتزاعها الذي يكون تحت سلطة الشارع, وإمّا أن تكون عرفية, بحيث تكون عرفيتها قرينة على إدخالها في عهدة المكلف, كما إذا قال (أقتل المشرك) فيجب الإحتياط عند الشك في محصله, وهذا لا إشكال فيه. أو يكون الشك في المحصل ناتجاً عن الشك في دخوله في غرض المولى الذي اهتمّ به, فالقدر المتيقن من السبب يجب تحصيله, وفي غيره يكون مجرىالبراءة؛ لكونه شكّاً في دخالة الزائد في السبب, وعلى هذا تجري البراءة عن الوضعيات المترتبة على الأحكام الشرعية؛ مثل الشرطية والمانعية ونحوها.

أمّا الطهارة الحاصلة من الوضوء والغسل؛ فقد اختلفت الأقوال فيها:

فقيل: إنّ الطهارة هي نفس الغسلات والمسحات, ولا شيء أكثر من ذلك.

وقيل: إنّها مجعول شرعي مترتب على الغسلات والمسحات.

وقيل: إنّها أمرٌ تكويني يترتب عليها كشف الشرع عنها.

وكيف كان؛ فإنّها مجعولة بجعل السبب شرعاً, فتشملها أدلة البراءة عند الشك في تحصيلها, وإنّما يتحقق الشك فيها في السبب, فلا إشكال حينئذٍ في الرجوع إلى البراءة؛ لأنّ المحصل مجعول شرعي على كلّ حال. وأمّا إذا لم نقل بكونها مجعولاً شرعياً, ولكن

ص: 47

يمكن القول بأنّ المحصلات الشرعية وإن لم تنالها يد الشرع, إلا أنّ الأدلة لها ظهور في لزوم تحصيل الغرض مهما أمكن, فيكون السبب هو الذي يتنجز بمقدار تبيانه شرعاً, فيكون هو الواجب؛ فإذا شُكّ في شرطية سبب في تحصيله, فالقدر المتيقن يجب إتيانه, وفي الزائد المشكوك يرجع فيه إلى البراءة.

الوجه الثالث: إنّ البراءة لو جرت عن سببية الأكثر, فهي لا تثبت سببية الأقل للطهارة, والمفروض تقيّد الواجب وإشتغال الذمة بها, وللزوم تحصيلها في الصلاة يجب الإحتياط.

وفيه: إنّ الذي يتنجز ويدخل في العهدة ليس هو المسبب مطلقاً بما هو, بل بالمقدار المبيّن من سببه من قبل الشارع كما تقدم بيانه.

أقسام الخلل في الواجب.

النقطة السادسة: في الخلل في الواجب.

وهي وإن كان موطنها الفقه؛ لأنّها من الأحكام الفقهية, ولكن يذكر في الأصول القواعد المرعيّة فيها.

والخلل على أقسام؛ فإنّه إمّا أن يكون عن عمدٍ أو جهلٍ أو سهوٍ أو إكراهٍ أو إضطرارٍ, وعلى الجميع إمّا أن يكون بالنقصان أو بالزيادة.

والقاعدة الكلية في المقام هي: إنّه إذا ثبت شرعاً دخالة قيدٍ سواء كان جزءً أم شرطاً في الواجب الإرتباطي فيجب مراعاته، والإخلال به يوجب بطلان العمل, فلا معنى للوجوب إلا أنّ التعمّد في تركه يوجب البطلان ما لم يكن دليل على الخلاف, فإن ثبت الإطلاق لدليل الجزء أو الشرط فيثبتان في كلّ الحالات كالصّحة والمرض والنسيان والعلم والجهل وغيرها, فلا إشكال. وأمّا لو شُكّ في إطلاقه؛ كما إذا عُلم دخالته في حال الصحة مثلاً, وشُكّ في دخالته في حال المرض فإنّ مرجعه في الواقع إلى دوران الواجب بين الأقل والأكثر بلحاظ حالة الشك.

ص: 48

وحينئذٍ فإن لم يثبت لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأصل العملي؛ وهو يقتضي البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة, وهذا واضح لا غبار عليه على نحو الكليّة والإجمال, ولكن تفصيل الكلام يقتضي ذكر الأقسام:

القسم الأول: في الإخلال العمدي؛ وقد عرفت بطلان العمل بالنقيصة السهويّة إلا إذا دلّ دليل على الصحة كما في بعض أفعال الحج؛ حيث إنّ تركه العمدي لا يوجب البطلان والقول بأنّ الصحة تعقل فيه أيضاً مع فرض الجزئية والترك العمدي؛ فإن كان ذلك مع بقاء وجوب الجزء فهو من التناقض, وإن كان مع زواله فهو خلف مردودٌ ببقاء الوجوب ويترتب عليه العصيان والكفارة.

وبعد ذلك ينزّل الشارع العمل الناقص منزلة التمام إمتناناً وتسهيلاً على الأنام. هذا كله في حالة العلم والعمد؛ وأمّا في حال الجهل فقد ادُّعى الإجماع على أنّ الجاهل بالحكم كالعامد إلا ما خرج بالدليل, كما أنّ ظاهرهم التسالم على أنّ النقص عن إكراه واضطرار يوجب البطلان أيضاً إلا ما خرج بالدليل, ولولاه لأمكن التمسك بحديث الرفع على ما تقدم ويأتي.

القسم الثاني: في الإخلال السهوي بالنقيصة؛ فإذا نسي المكلف جزءً من الواجب الإرتباطي, ثمّ التفت إلى نقصان ما أتى به فالحكم تارةً؛ يكون من ناحية الأصل العملي، وأُخرى؛ من ناحية الأصل اللفظي الأولي، وثالثة؛ بحسب الأدلة الخاصة الثانوية. فالكلام يقع من ثلاث حيثياث:

أمّا الحيثية الأولى(1)؛ فالصحيح أنّ المقام من موارد الدوران بين الأقل والأكثر, فإنّ حالة النسيان وحالة الذكر كحالتي الصحة والمرض, حيث لا يُعلم بأنّ الناسي مكلف بالجامع

ص: 49


1- . من ناحية الأصل العملي.

بين التمام والناقص عن النسيان, أو أنّه مكلف بالتمام بالخصوص, فيكون من الدوران بين التعيين والتخيير الذي تقدم أنّه من مصاديق الأقلّ والأكثر.

واستشكل الشيخ الأعظم قدس سره (1) في المقام مّما صعب على العلماء حلّه؛ وهو إنّه لا ريب في سقوط التكليف بالنسبة إلى خصوص المنسي؛ لأنّ التكليف به مع فرض النسيان تكليف بما لا يطاق, ومع زواله خلف الفرض, ولكن الكلام في التكليف بالباقي؛ فإنّ الناسي لا يمكن تكليفه لا بالأكثر لكونه ناسياً, ولا بالأقل لأنّ الناسي لا يرى نفسه ناسياً, فلو جعل خطاب مخصوص بالناسي فلا يمكن أن يصل إليه إلا إذا التفت إلى كونه ناسياً فيخرج عن كونه ناسياً.

وعليه؛ يكون الشك بحسب الحقيقة في سقوط الواجب بالأقل, وهو مجرى الإحتياط لا البراءة.وقد اختلفت كلمات الأصحاب في توجيه هذا الإشكال والجواب عنه, والكلام يقع من ناحيتين:

الناحية الأولى: في إمكان تكليف الناسي بالأقل؛ فقد ذكر الشيخ قدس سره عدم إمكانه.

وأجيب عنه بوجوهٍ:

الوجه الأول: التكليف بالجامع، تارةً؛ يتحقق بالجامع بين الصلاة الناقصة المقرونة بالنسيان والصلاة التامة, وهو تكليف موجه إلى طبيعي المكلف, فلا يلزم منه عدم إمكان وصوله, كما ادّعاه الشيخ قدس سره ؛ لأنّ موضوعه كلّ مكلف، غاية الأمر أنّ الناسي يرى نفسه متذكراً دائماً وآنياً بالتكليف الجامع, ولا محذور في أنّه قد أتى بالناقص منه فإنّ التكليف منبعث عن الأمر بالجامع. وأخرى؛ يتحقق بجعل التكليف على الإتيان بما

ص: 50


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص263.

يتذكره المكلف من الأجزاء فيتحرك نحو المقدار الملتفت إليه, وهو يختلف من شخص إلى آخرٍ بمقدار تذكره.

ومن المعلوم أنّ كلّ مكلف يتخيل أنّه تام التذكر والإلتفات, وعلى كلّ حال يكون الإنبعاث أيضاً من الأمر الواحد المتعلق بالجامع, فيرجع إلى سابقه روحاً, وهو الخطاب بالجامع دائماً ولكنهما يختلفان في كيفية صياغة الجامع المتعلق به الأمر.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من تعدد التكليف بين الناسي والمتذكّر؛ فإذا استحال تكليف الناسي فيمكن افتراض تكليفين؛ أحدهما متكفّل إيجاب الأقل على طبيعي المكلف, والآخر متكفّل إيجاب الزائد على المتذكّر فلا يلزم منه المحذور. وهذا الجواب وإن تكفّل جانب الثبوت وعالم الجعل إلا أنّ المحقق النائيني قدس سره (2) لاحظ الجانب الإثباتي وكيفية إيصال الخطاب إلى الناسي أيضاً. ولكن ذلك لا يحلّ المحذور الذي ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره من عدم معقولية خطاب الناسي؛ لعدم إمكان وصوله إليه وتحركه منه.

كما أنّه يرد عليه:

1-إنّ الأقلّ في الخطاب الأول لا يخلو؛ إمّا أن يكون مقيداً بالزائد, أو مطلق من ناحيته, أو مقيد بلحاظ المتذكّر ومطلق بلحاظ الناسي, أو مهمل. والأول خلف أو معناه عدم كون الناسي مكلفاً بالأقل, والثاني كذلك لأنّ معناه كون المتذكّر مكلفاً بالأقل بحيث يسقط عنه التكليف بصدور الأقل ولو لم يأتِ بالأكثر, والثالث معناه وجود خطاب بالأقل مطلقاً مخصوص بالناسي وخطاب مخصوص

ص: 51


1- . كفاية الأصول؛ ص418.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص55-56، وأجود التقريرات؛ ج2 ص304.

بالذاكر وهو رجوعٌ إلى نفس إشكال الشيخ الأعظم قدس سره ، والرابع غير معقول لأنّ الإهمال في عالم الثبوت غير1- معقول لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الجعل تقابل السلب والإيجاب كما عرفت مكرّراً. فلا تندفع الشبهة بفرض تعدد الخطاب.

2- إنّ المنسي ليس شيئاً واحداً دائماً, بل يختلف بالنسبة إلى المكلف الواحد فضلاً عن عامة المكلفين؛ فلو فرضنا أنه قد صلّى جمعٌ الظهر -مثلاً- فنسي أحدهم الفاتحة, والآخر السورة, وثالث الأذكار الواجبة, ورابع السجدة, وخامس التشهّد, وهكذا؛ فلا يتصور الحدّ المشترك بين ذاكرهم وناسيهم, كما لا يمكن تصوير خطاب يختصّ بخصوص الذاكر منهم.

ويمكن الجواب عنه؛ بأنّه يمكن تصوير الجامع أيضاً كما تقدم بيانه في بحث الصحيح والأعم.

الوجه الثالث: إنّ التكليف المتوجه إلى الناسي ليس بعنوان النسيان حتى يلزم المحذور, بل بعنوان الملازم له غالباً.

وفيه: إنّه مع التفاته إلى الملازمة يلزم المحذور قهراً, ومع عدم التفاته يصير ملتفتاً لا محالة؛ لأنّه يسأل عن وجه اختصاصه بالخطاب فيلتفت فيعود المحذور.

الوجه الرابع: إنّ التكليف والجزئية متقومان في الواقع بالملاك, والجعل كاشف عنه, وسقوطه لا يستلزم سقوط الملاك كما هو معلوم, فيصح تكليفه بالبقيّة ثبوتاً كما يشهد له العرف.

والصحيح؛ إنّه يمكن تصوير تكليف الناسي بالتكليف بالجامع, أو بما عدا المنسي كما تقدم.

ص: 52

الناحية الثانية: في تحقيق الربط بين تكليف الناسي وما يجري في المقام من الأصل العملي إمّا البراءة أو الإحتياط؛ فقد ذكر السيد الخوئي قدس سره (1) إنّه بناءً على عدم إمكان تكليف الناسي وكون التكليف بالأكثر فيكون الشك في المسقط فتجري أصالة الإحتياط، وبناءً على إمكان تكليف الناسي بالأقل يكون من الدوران بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عنه.

وأورد عليه السيد الصدر قدس سره (2) بأنّ النسيان إمّا أن يستوعب الوقت كله, وإمّا أن لا يكون كذلك فيرتفع في أثنائه؛ ففي الحالة الأولى لا يكون الواجب بالنسبة إلى الناسي مردداً بين الأقل والأكثر, بل يكون من الشك في تكليف جديد, سواء قلنا بإمكان تكليف الناسي بالأقل أم استحالته؛ لأنّ الناسي في تمام الوقت لم يكن مكلفاً بالأكثر؛ إمّا من أجل أدلة رفع التكليف بالنسيان, وإمّا لعدم معقولية تكليفه به كالعاجز, وحينئذٍ يعلم بأنّه؛ إمّا أن يكون ما أتى به صحيحاً مجزياً, أو يجب عليه القضاء الآن وهو يرجع إلى الشك في وجوبٍ جديدٍ في حقه الذي هو مجرىالبراءة. وأمّا في الحالة الثانية فإنّ التكليف لما كان فعلياً غير أنه متعلق؛ إمّا بالجامع الشامل للصلاة الناقصة الصادرة حال النسيان, أو الصلاة التامة فقط. وعلى الأول معناه اختصاص جزئيّة المنسي بغير حال النسيان, وعلى الثاني معناه إطلاق الجزئية لحال النسيان فيكون من الدوران بين التعيين والتخيير فيكون مجرى البراءة, بل يكون في المقام أولى من الدوران بين الأقل والأكثر لأنّه يتم على القول باستحالة تكليف الناسي, ولا يكون من مجاري الإشتغال لأنّ الأقلّ الصادر من الناسي إذا كان وافياً بالملاك فإنه يفيد وجوب الأكثر لا محالة فيما إذا لم يأت المكلف بالأقل نسياناً

ص: 53


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص465.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص371 وما بعدها.

بنحو شرط الوجوب, فيكون من الشك في أصل حدوث التكليف وهو مجرى البراءة.

والحق أن يقال: إنّه بعد إمكان تكليف الناسي فالأمر واضح؛ فإنّه يكون من موارد جريان البراءة عن المنسيّ والإعادة مطلقاً, وأمّا بناءً على عدم معقولية تكليفه فإنّ الشك يرجع إلى أنّ ما أتى به يجزي عن التكليف, أو يجب عليه الإعادة, فالمرجع أيضاً فيه البراءة فيكون مقتضى جريان البراءة في موارد الشك في إطلاق دليل الجزئية والشرطية لحال النسيان لكونه من الدوران بين الأقل والأكثر, أو يكون من الشك في أصل التكليف, ولا يكون من الشك في المحصل حتى يجب الإحتياط.

فلا ربط لهذا بما أثاره الشيخ الأعظم قدس سره من عدم معقولية تكليف الناسي, مع أنّه غير صحيح في نفسه.

هذا كلّه بحسب الأصل العملي.

وأمّا الحيثية الثانية(1)؛ أي الإطلاق, مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة الثانوية التي تتكفّل حال النسيان؛ فإنّه تارةً يفترض وجود إطلاق لدليل اعتبار القيد ليشمل حال النسيان أيضاً فتثبت بذلك جزئيّته أو شرطيته, وأخرى يفترض عدم الإطلاق له.

أمّا الأولى؛ فإن ثبت الإطلاق لدليل القيد؛ فإنّه كاشف عن دخل الجزء والشرط في قوام المركب والمشروط, وهذا هو معنى قولهم أنّ مقتضى الأصل اللفظي هو ركنيّة القيد في الواجب, فحينئذٍ يستفاد منه عدم اعتبار ما أتى به الناسي, ولا تدلّ أيٌّ من الدلالات على وجوب البقية عند عروض النسيان, بل يكون مقتضاه ما ارتكز في الأذهان من أنّ المركب ينتفي بانتفاء جزءه.

ص: 54


1- . بحسب الأدلة الأوّليّة والأصل اللفظي.

وقد استُشكل على ثبوت مثل هذا الإطلاق؛ إمّا بإبراز المانع الداخلي عن التمسك به, وإمّا بإبراز المانع الخارجي عنه, فلا يمكن معها التمسك بالإطلاق.أمّا المانع الداخلي؛ فقيل بأنّه يختص بما إذا كان دليل الجزئية بلسان الأمر والإنشاء, لا الإخبار عن الجزئية أو الشرطية لأنّ الأمر لا يشمل في نفسه حالات التعذر بالنسيان أو العجز لإشتراطه بالقدرة, فلا معنى للتمسك بإطلاق دليل الأمر بالقيد للناسي, بل يتعين التمسك بإطلاق دليل الواجب, أو الرجوع إلى الأصل العملي.

وأجيب عنه:

أولاً: إنّ الأمر بالجزء أو الشرط إرشاد إلى الجزئية والشرطية, لا أن يكون مولوياً؛ إذ لو كان كذلك لاختصّ بالقادر, فيفهم منه الإرشاد إلى الجزئية أو الشرطية, فيكون مفاده ممكناً في حقّ العاجز أيضاً, فيتمسك بإطلاقه.

واعترض عليه بأنّ انسلاخ الأمر بالقيد عن المولوية أمر مستهجن عرفاً لاستنكار العرف فيما إذا صرّح المولى بالإطلاق ليشمل حال العجز, بل الأمر لا يزال مولوياً وإن لم يكن بداعي ملاك نفسي ضمني أو استقلالي, بل بداعي الجزئية أو الشرطية ولهذا يكون مشروطاً دائماً بفرض الإتيان بالصلاة؛ إمّا صريحاً كما في آية الوضوء أو بحسب المتفاهم العرفي من الكلام كما إذا قال المولى إقرأ السورة في الصلاة؛ فإنّ العرف يفهم منه الجزئية وأنّ الداعي من وراء الأمر هو الجزئية سواء كان في صلاةٍ واجبة أم في صلاةٍ مندوبةٍ, ولكن في الثانية يكون الأمر بالسورة ندبيّاً لا إلزامياً. وعلى أيّ حال لا معنى لسلب المولوية نحو الأوامر المتعلقة بالأجزاء وحرفها إلى الإرشاد إلى الجزئية أو الشرطية.

ثانياً: إنّ الأمر بالقيد يمكن أن يكون مفاده سقوط الوجوب بسقوط الجزء بالعجز؛ لأنّ المولى بصدد بيان أنّ للجزء دخلاً في قوام المركب وماهيّته, فيسقط الواجب بسقوط الجزء.

ص: 55

واستفادة ذلك؛ إمّا أن يكون من تصريح المولى, أو بأدوات العموم, أو بالفهم العرفي فتثبت الملازمة المطلقة بين وجوب الكلّ ووجوب ذلك الجزء. ومن أجل ذلك استفاد الفقهاء من الأمر بالجزء أو الشرط الجزئية والشرطية الواقعية حتى لحال العجز.

وأورد عليهم المحققون بانسلاخ الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط عن المولوية, وقالوا أنّها إرشاد إلى الجزئية والشرطية ليصح التمسك بإطلاقها للعاجز. ولكن لا حاجة إلى ذلك, بل يمكن القول بأنّ إطلاقها لبيان الملازمة بين وجوب الكلّ ووجوب الجزء بحيث كلّما سقط وجوب الجزء بالعذر, سقط وجوب الكل. وعلى هذا يكون إثبات الإطلاق لدليل القيد بوجوب سقوط التكليف بالواجب عند تعذّر الإتيان بالجزء بسبب العذر. وأمّا إذا إفترضنا عدم الإطلاق لدليل الجزء فإن فرضنا وجود إطلاق لدليل أصل الواجب فنتمسك به لإثبات وجوبالأقل على الناسي, وعدم اعتبار القيد في حقه, وإن فرضنا عدم وجود الإطلاق لدليل الجزء فنرجع إلى الأصل العملي كما عرفت.

والإشكال على التمسك بإطلاق دليل الواجب بأنّه من تكليف الناسي غير معقول مردود بما عرفت في الجواب السابق فراجع.

وأمّا المانع الخارجي؛ فسيأتي البحث عنه في الأدلة الثانوية.

وأمّا الحثيثية الثالثة(1)؛ فقد وردت أدلة كثيرة تدلّ على وجوب الباقي والإكتفاء بما عدا المنسي (منها)؛ حديث الرفع فقد ذكر في وجه التمسك به تارة؛ بأنّ المستفاد منه رفع المنسيّ في عالم التشريع, بمعنى رفع حكمه من الجزئية والشرطية.

وأخرى؛ بأنّ الرفع تنزيلي, بمعنى تنزيل ترك السورة مثلاً خارجاً منزلة عدم الترك تعبداً وتنزيلاً, فيثبت صحة العمل.

ص: 56


1- . بحسب الأدلة الثانويّة الخاصة.

وأشكل عليه بأنّ حديث الرفع غايته رفع الأمر بالجزء المنسيّ, لا رفع الجزئية التي هي حكم وضعي منتزع من الأمر بالجزء, فالملازمة بين إيجاب الكلّ وإيجاب الجزء لا يمكن نفيها بحديث الرفع ليثبت وجوب الأقل على الناسي.

وفيه: ما تقدم في بحث البراءة؛ إنّ حديث الرفع كما يرفع الحكم الشرعي, يرفع الحكم الوضعي برفع منشأه.

وثالثة؛ إنّ وجوب الإعادة أو القضاء مطلوب فيكون مرفوعاً.

ورابعة؛ دعوى إنّ النسيان لمّا كان موجباً للتدارك بالإعادة أو القضاء فيكون ثابتاً بثبوت المقتضي ثبوتاً إقتضائياً, وهذا النحو من الثبوت يصح لتعلق الرفع التشريعي له لا رفع النسيان حقيقةً حتى يقال إنّه غير قابل للرفع, ولا رفع العمل المنسيّ فيه عن صفحة العيّان حتى يكون خلاف الإمتنان, إذ تجب الإعادة أو القضاء حينئذٍ.

وهناك أدلةٌ أخرى ثانوية مذكورة في الفقه في الموارد المناسبة لها والتي يستفاد منها صحة العمل في موارد النقيصة السهويّة.

والحاصل؛ إنّه يمكن التمسك بحديث الرفع وغيره من الأدلة الثانوية, كما يصح التمسك بأصالة عدم المانعية, والبراءة, وبالإطلاق, على ما تقدم تفصيله.

صور النسيان في العمل

اشارة

الأولى: أن يستوعب النسيان الوقت كله ثمّ يتذكر بعد الوقت.

الثانية: أن لا يستوعب النسيان جميع الوقت, بل يتذكر في أثنائه. وقد تقدم حكم هاتين الصورتين.

الثالثة: أن يتذكر الناسي للجزء المنسيّ في أثناء الصلاة بعد فوات محلّ تداركه بالدخول في الركن اللاحق. وهنا ينشأ علمٌ إجمالي دائر بين متباينين؛ إمّا وجوب إتمام هذه الصلاة

ص: 57

وحرمة قطعها, أو الإتيان بالأكثر ضمن فرد آخر. وقد تقدم البحث عن مثل هذا العلم الإجمالي والجواب عنه؛ وهو إنّ وجوب الإتمام كان منجزاً عليه بالعلم التفصيلي من أول الأمر, فينحلّ العلم الإجمالي.

وأشكل عليه بأنّ هذا العلم التفصيلي قد زال بعد التذكّر وحصول العلم الإجمالي.

وفيه: إنّه لم يزل, بل صار طرفاً للعلم الإجمالي الحادث فيجري الأصل فيه باستصحابه دون الآخر حيث يجري الأصل المؤمن فيه بلا معارض؛ لأنّ حرمة القطع ليس موضوعها الصلاة الواقعية, بل الصلاة التي يجوز للمكلف بحكم وظيفته العملية الإجتزاء بها, فتكون حرمة القطع في طول جريان الأصل عن الزائد, فلا يمكن أن يعارضه.

الرابعة: التذكّر بعد التجاوز عن المنسي وقبل الدخول في الركن اللاحق. وفي هذه الصورة إن احتمل عدم لزوم التدارك وكفاية الأقل الصادر نسياناً؛ فإن فرض أنّ التدارك لم يكن مستلزماً لوقوع الزيادة المبطلة فيكون العلم الإجمالي بوجوب الإتمام أو التدارك والإتمام دائراً بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عن التدارك. وأمّا إذا فرض أنّ التدارك على تقدير عدم وجوبه يكون زيادةً مبطلةً فقد يقال بإنّه يدور أمر التدارك بين الجزئية والمانعية, فيكون العلم الإجمالي بين المحذورين والذي يثبت فيه التخيير لعدم إمكان الإحتياط. ولكن الصحيح منجزية العلم الإجمالي في حقّ المكلف, فلا بُدَّ له من الجمع بين الإتمام والإعادة.

الخامسة: ما إذا كان متذكّراً للسورة في أول الوقت ولم يصلّ، ثمّ نسي وصلّى واستمر نسيانه إلى آخر الوقت؛ ففي هذه الحالة ذكر السيد الصدر قدس سره (1) يتشكّل للمكلف علم إجمالي بلحاظين؛ لحاظ داخل الوقت, ولحاظ ما بعد النسيان وخروج الوقت.

ص: 58


1- . بحوث في علم الأصول؛ج5 ص375.

وباللحاظ الأول يعلم إجمالاً بأنّ الواجب عليه داخل الوقت إمّا الأكثر تعييناً أو الجامع بينه وبين الأقل الصادر نسياناً, وكلا طرفي هذا العلم الإجمالي خارج عن محلّ إبتلائه, فلم يتنجز عليه.

وباللحاظ الثاني يعلم إمّا بوجوب الناقص عليه في حال النسيان ولو ملاكاً لو قيل باستحالة تكليفه, أو وجوب الكامل عليه الآن قضاءً, وهذا العلم الإجمالي أحد طرفيه خارج عن محلّ ابتلاءه.

والصحيح؛ إنّ ذلك تطويلٌ لا طائل تحته فإنّ العلم الذي لم يتنجز عليه لخروجه عن محلّ ابتلاءه لا معنى لإدراجه في الإحتمال, فيبقى اللحاظ الثاني وهو يرجع إلى الشك في وجوب القضاء عليه, فيرجع فيه إلى حديث الرفع كما عرفت.القسم الثالث(1): الخلل من حيث الزيادة.

والبحث تارةً؛ يكون في تصويرها, وأخرى؛ في أقسامها, وثالثة؛ في حكمها. فالكلام يقع في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: في إمكان تصوير الزيادة في الواجب

والإشكال فيه ينشأ من أنّ المركب إن كان ملحوظاً بشرط عدم الزيادة, فمع الإتيان بهذا الشرط لم يأت بالمأمور به أصلاً, فلا تتحقق الزيادة, بل ترجع إلى النقيصة, وإن كان ملحوظاً لا بشرط بالنسبة إلى الزيادة فلا تضرّ حينئذٍ حيث لا تتصور الزيادة حتى يبحث عن بطلان العمل بسببها.

ص: 59


1- . من أقسام الخلل في الواجب.

والجواب عن هذا الإشكال يظهر إذا عرفنا أقسام الجعل الضمني للزائد ثبوتاً وهي:

القسم الأول: أنْ يؤخذ عدم الزيادة شرطاً في الواجب, وهو معقول بلا ريب ولا إشكال؛ إذ من الممكن أن يكون ذلك الأمر مانعاً عن تحقق ملاك الواجب فيؤخذ عدمه شرطاً فيه.

القسم الثاني: أن يؤخذ عدم الزيادة جزءً للواجب كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) فيكون الإخلال به يرجع إلى النقيصة التي تقدم أنها توجب البطلان عمداً.

وكلّ نحوٍ من أنحاء الجعل لا بُدَّ أن يكشف عن ملاكٍ مناسبٍ له, ولا يعقل في المقام أن تكون عدم الزيادة جزءً من أجزاء العلة لحصول الملاك, لاستحالة تأثير الأمر العدمي في الأمر الوجودي.

ويمكن الجواب كما استشكله:

أولاً: إنّه يمكن أن يكون الملاك أمراً عدمياً, ويعقل تأثير عدم الزيادة في ذلك الأمر العدمي.

وثانياً: إنّه لا مانع عقلاً أن يجعل المولى عدم الزيادة في خطابه بنحو الجزئية في مرحلة الإعتبار, وإن كانت الزيادة مانعة في مرحلة الملاك.

وثالثاً: ذكرنا مراراً أنّ ملاكات الأحكام كلّها ترجع إلى أمرٍ واحدٍ, وهو جعل الإستعداد في العبيد والقابلية لتلقّي الفيوضات الإلهية, ويعقل تأثير الأمر العدمي فيه.

فلا إشكال في إمكان تصوير ذلك, وهذا الوجه ممكنٌ أيضاً كالوجه الأول, والذي يكون هو الأنسب إلى الفهم العرفي, والمنصرف من قول الشارع بأنّ الزيادة مبطلة.القسم الثالث: أن يكون عدم الزيادة مأخوذاً في الجزء, كما إذا كان الركوع مثلاً مشروطاً بعدم التكرار.

ص: 60


1- . كفاية الأصول؛ ص368.

وذكر المحقق الخراساني قدس سره بأنّ هذا يرجع إلى النقيصة بحسب الحقيقة؛ إذ لم يأتِ بالركوع الجزء, وهو صحيحٌ إن أراد به مجرد تحقق النقيصة بلحاظ الجزء, وأمّا إذا أراد به إنكار الزيادة موضوعاً, فهو غير صحيح؛ إذ لا تقابل بين حصول الزيادة وحصول النقيصة في المقام, إذ أنّه كما حصلت النقيصة -إذ لم يأتِ بالجزءِ الواجب- حصلت الزيادة أيضاً إذ الركوع الثاني, بل والركوع الأول, بعد سقوط الجزئية يكون زيادة على جميع الأقوال الفقهية في تفسير الزيادة.

ولعله من أجلِ ذلك, حاول المحقق الإصفهاني قدس سره (1) بيان مقصود أستاذه بأنّ المراد هو إنكار الزيادة حكماً لا موضوعاً, بمعنى أنّ الركوع الثاني وإن سمي زيادة ولكنه لا يمكن أنْ يكون مانعاً بحيث يؤخذ عدمه في الصلاة أيضاً لأنّ المانعية فرع تمامية المقتضي, والمفروض عدم المقتضي بنقصان الجزء.

وهذا التوجيه لا يستقيم مع مبناه من استحالة أخذ عدم الزيادة بنحو الجزئية في الواجب؛ إذ لا معنى لذلك إلا مانعية الزيادة عن تأثير الجزء, ولا منافاة بين أن تكون الزيادة مانعة عن تأثير الجزء نفسه ومانعة عن تأثير سائر الأجزاء في عرض واحد, فلا قصور في المقتضي.

وكيف كان؛ فإنّ هذه الوجوه الثلاثة في تصوير الزيادة لا ترفع الإشكال الذي ذكرنا في أصل معقولية الزيادة على كلّ تقدير؛ إذ سواءً كان الجزء مشروطاً بعدم الزيادة أم فرض لا بشرط منها فإنّ الزيادة لا تُعقل؛ لأنّ الأول يرجع إلى النقيصة, والثاني يرجع إلى عدم الزيادة. وقد أجيب عنه بوجوهٍ, وهي:

1- إنّه يمكن تصوير الزيادة بحسب الأدلة الشرعية وظواهرها التي تدلّ على تعيّن الواجب المركب في أجزاء خاصة يكون إتيان غيرها زائداً عليها بمقتضى هذه

ص: 61


1- . نهاية الدراية؛ ج4 ص349.

الأدلة, ويشهد له ما ورد في سجدة العزيمة من أنّها (زيادة في المكتوبة)(1) فتكون الزيادة تشريعية.

2- يمكن تصوير الزيادة بحسب الأنظار العرفية؛ فيما إذا فُرض كون المركب من أجزاءٍ, فالمتشرّعة يحكمون بأنّ كلّ ما زيد عليها يكون زائداً, فتكون الزيادة عرفية متشرعية.

3- يصح تصوير الزيادة بحسب الدّقة العقلية أيضاً بالقول بأنّ الأجزاء مأخوذة في المركب على نحو صرف الوجود المنطبق على أول وجوداتها قهراً فيسقط أمرها لا محالة, فيكون المأتي به ثانياً زائداً عليها, لا أن تكون مأخوذة بشرط عدم الزيادة أو بنحو لا بشرط حتى لا تُتصورالزيادة فتكون الزيادة حقيقية.

4- ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (2) من أنّ الجزء إمّا أن يُفرض بشرط لا عن الزيادة, وإمّا أن يُفرض لا بشرط؛ بمعنى كون الجزء هو الجامع بينه وبين الزيادة بنحو التخيير بين الأقل والأكثر, وفي هذين الفرضين لا تتصوّر الزيادة, كما ذُكر في الأشكال.

وإمّا أن يُفرض لا بشرط؛ بمعنى إنّ ضمّ الزيادة إليه كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان, بحيث لا يضر ولا ينفع, فلا يكون المجموع جزءً, بل تكون هناك زيادة.

ويرد عليه: إنّه لا حاجة إلى الفرض الثالث, بعد إمكان تصوير الزيادة التشريعية أو العرفية أو الحقيقية كما عرفت، مضافاً إلى أنّه لا يمكن تصوير ذلك في الواجبات الشرعية بحيث تكون الزيادة كالحجر في جنب الإنسان لا يضر ولا ينفع كما هو معلوم في الفقه.

ص: 62


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج7 ص105.
2- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص293، ومصباح الأصول؛ج 2 ص446-447.

وأمّا ما ذكره السيد الصدر قدس سره في المقام؛ فهو يرجع إلى ما ذكرناه من إمكان تصوير الزيادة, إمّا زيادة حقيقية أو عرفية أو متشرعية, وإن كان كلامه الطويل يشمل على ما هو قابل للمناقشة بعد الإطلاع على ما ذكرناه فراجع.

الجهة الثانية: في أقسام الزيادة بالواجب

بعدما عرفت من إمكان تصوير الزيادة ثبوتاً, والجواب عمّا استشكل عليها نقول: إنّ الزيادة التي يأتي بها المكلف في الواجب تكون على أنحاء ثلاثة:

1- أنْ يأتي بها بقصد الجزئية.

2- أنْ يأتي بها بقصد عدمها.

3- أنْ يأتي بها لا بقصد بالنسبة إليهما.

وقد يقع الخلاف في تحقق الزيادة في جميع تلك الأنحاء أو بعضها؛ فذهب جمعٌ إلى الأول لصدق الزيادة عرفاً في الجميع, ويشهد له ما ورد في الأخبار من النهي عن قراءة العزيمة في المكتوبة من أنّ السجدة زيادة في المكتوبة.

فإنّ اطلاقه يشمل جميع تلك الأقسام, ولكن مورد بحث الفقهاء (قدّس الله أسرارهم) في الزيادة المبطلة, خصوص القسم الأول دون الأعمّ منه ومن الأخيرين, كما يظهر من كلماتهم واستدلالهم على البطلان, كما يظهر أيضاً من مورد بحث الأصولي لأنّهم يستدلون أيضاً بمثل ما استدل به الفقهاء ويناقشون فيها, وسيأتي مزيد بيان أيضاً.

ص: 63

الجهة الثالثة: في حكم الزيادة

والكلام يقع في مقامين:

المقام الأول: في الأصل العملي؛ إذا شك في مبطليّة الزيادة, وقد قُرّر ذلك في الأصول التالية:

1- أصالة عدم المانعية مطلقاً؛ سواء كانت الزيادة عمديّة أم غيرها, وكانت بقصد الجزئية أصلاً أم لا, إلا أن يكون دليلٌ على الخلاف.

2- أصل البراءة عن مبطلية الزيادة؛ سواءً كان المحتمل مبطليته للواجب إبتداءً أم للجزء, ومن باب النقيصة في الواجب لأنّ كلّ ذلك مرجعه إلى الشك في التكليف الدائر بين الأقل والأكثر بالمعنى الأعمّ من الجزئية أو الشرطية. وقد تقدم جريان البراءة فيه على جميع الأحوال.

3- الأصل الموضوعي؛ وهو استصحاب تلبّس المكلف بما كان متلبّساً به, وعدم خروجه عمّا كان عليه, فيجب عليه الإتمام ويحرم عليه القطع.

4- إستصحاب بقاء الصورة الإعتبارية؛ لأنّ كلّ مركب -عرفياً كان أو شرعياً- له وحدة صورية إعتبارية حاصلة من اعتبار المعتبر شارعاً كان أم غيره, كما يستفاد ذلك مما ورد في الصلاة أنّ أولها تكبيرة وآخرها تسليمة، مع ملاحظة أدلة الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع؛ فتحصل صورة اعتبارية لها, وعند الشك في زوالها يُستصحب بقاؤها, فيجب الإتمام ولا يجب التدارك.

ودعوى أنّه من الأصل المثبت إذا أُريد من هذا الإستصحاب مانعيتها وعدم قاطعيتها؛ مردودةٌ؛ لأنّها مبنية على أنّ الإستصحاب لا يجري في الأحكام الوضعية الشرعية, وهو ممنوعٌ لما عرفت من أنّ الإستصحاب يكفي فيه ترتب مطلق الأثر الشرعي تكليفياً كان أم شرعياً وضعياً.

ص: 64

5- إستصحاب الصحة التأهيلية للأجزاء السابقة.

والصحيح؛ عدم جريانه للقطع ببقاء تلك الصحة, فلا شكّ حتى يجري الأصل.

6- إستصحاب أثر المركب.

وفيه: إنّه مقطوعٌ بعدم تحققه بعد؛ لأنّه يتحقق بعد تمام العمل المركب وإتمامه من كلّ جهة.

7- إستصحاب الصحة الفعلية مطلقاً.

ويرد عليه: إنّه من الشك في الموضوع، مع تحقق الزيادة التي يحتمل البطلان معها.وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (1)؛ إنّه لا حاجة للرجوع إلى الأصل مطلقاً؛ لأنّ المانعية تدور مدار إحراز المنع, ولا أثر لمشكوك المانعية أصلاً, فلا تصل النوبة حينئذٍ إلى الأصل. ويمكن استفادة ذلك من قول الصادق علیه السلام : (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفُخُ فِي دُبُرِ الإِنْسَانِ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْه أَنَّه قَدْ خَرَجَ مِنْه رِيحٌ؛ فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إلا رِيحٌ تَسْمَعُهَا أَوْ تَجِدُ رِيحَهَا)(2).

وإطلاق قوله علیه السلام : (لَا تُعَوِّدُوا الْخَبِيثَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِنَقْضِ الصلاة)(3) وهو المناسب لسهولة الشريعة وسماحتها.

وذكر السيد الصدر قدس سره (4) إنّه لا بُدَّ من الإشارة إلى أنه في الواجبات الإرتباطيّة التي يُشترط فيها الترتيب يكون الشك في الجزئية مساوقاً مع الشك في الزيادة, كما إذا شكّ في جزئية الشهادة الثانية فأجرى فيها البراءة وتركها، فيشكّ في أنّ الإتيان بالجزء الآخر وهو

ص: 65


1- . تهذيب الأصول ج2 ص221.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص264.
3- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص358.
4- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص393.

الصلاة على النبي صلی الله علیه و آله و سلم زيادةً أو لا، إذ على تقدير اعتبار الشهادة الثانية تكون زيادةً -ولو فرض كونها غير مبطلة- فلا يمكن الإتيان بها بقصد الجزئية في هذا الموضوع لأنّه تشريع, والبراءة لا تثبت إطلاق الواجب, فلا بُدّ أنْ يُؤتى بها رجاءً.

ولكن ذلك إن تمّ في أصل البراءة فإنّه لا يتم في بقية وجوه الإستصحاب, وهو غير تام كما يظهر أيضاً مّما سنذكره.

المقام الثاني: في الإستدلال على مبطليّة الزيادة العمديّة بوجوهٍ:

الوجه الأول: إنّها إن كانت من القراءة والذكر تكون من الكلام الآدمي المبطل, وإن كانت من الأفعال فتخلّ بالموالاة.

ويرد عليه: إنّ الكلام الآدمي المبطل لا يشمل القراءة والذكر ومنصرف عنهما, والإخلال بالموالاة في مطلق الزيادة العمدية ممنوع, وعلى فرضه فلا ربط له بالزيادة من حيث هي.

الوجه الثاني: إنَّ الزيادة إنَّما تكون مبطلة, من ناحية لزوم التشريع والإخلال بقصد القربة؛ وذلك فيما إذا أتى المكلف الزيادة بقصد الجزئية مع عدم كونه جزءً في الواقع.

وهذا الوجه كسابقه يثبت البطلان من جهةٍ أخرى لا من جهة أنّ الزيادة تكون مبطلة من حيث نفسها.وكيف كان؛ لا بُدَّ من بيان أقسام التشريع أولاً, ثمّ الجواب عن الدليل الذي ذكروه، وهنا نقول: إنّ التشريع الذي هو التصرف في سلطة الشارع التشريعية وأوامره يكون على أنحاءٍ:

النحو الأول: التصرف في هذه السلطة بتشريع الأمر مع غضّ النظر عن الأمر الشرعي المتعلق بالعمل بحيث ينبعث عن هذا الأمر الجعلي, ولا إشكال في حرمته وبطلان العمل, وأنّ فاعله لم يعبد ربّه؛ إذ لم يمتثل أمره, بل تحرّك من رأيه وتشريعه.

ص: 66

النحو الثاني: أن لا يغضّ عن الأمر الشرعي المتعلق بالعمل, ولكن يُفترض أنّ هناك أمراً قد تعلق بالعمل مع الزيادة إلى جانب ذلك الأمر. وفي هذه الصورة إن كان الأمر الشرعي وحده هو الباعث على العمل وكان كافياً في الدعوة فالعمل صحيح لتحقق قصد القربة, وإن اشتمل على التشريع المحرم ولكن لم يكن تحرّكه من ناحيته.

النحو الثالث: نفس القسم السابق, ولكن كان تحركه نحو العمل من ناحية الأمر الذي شرعه فقط, من دون الأمر الشرعي المتعلق بالعمل مجرداً عن الزيادة, ففي هذه الصورة يكون العمل باطلاً كما ذكرنا في الصورة الأولى.

النحو الرابع: أن يكون التشريع في تحديد الأمر الشرعي بالنسبة إلى الزيادة؛ بأن يُفترض أنّ الركوع الأول -مثلاً- مقيد بشرط الركوع الثاني, أو أنّ الجزء هو الجامع بين ركوع واحد وركوعين, وفي هذا القسم يكون تحركه واقعاً من الأمر الموجود وإن تحقق تشريع في حدّه بافتراضه موسّعاً ليشمل الزيادة. وقد وقع الكلام في مبطليّة التشريع مطلقاً, ليشمل جميع الأقسام أو أنه يختصّ ببعضها كما عرفت.

وبعد معرفة هذه الأنحاء نقول: إنّ المكلف الذي أتى بالعمل, وفيه الزيادة تارةً؛ يكون قصده امتثال الأمر الواقعي الصادر من الشارع, ولكنه يشتبه في اعتقاده ويخطأ في أنّه متعلق بالمجموع من الزائد والمزيد عليه, وهذا العمل صحيح لأنّه تحرّك عن الأمر الواقعي, ولكنه كان عن اعتقاد خاطئ. وأخرى؛ يكون الخطأ بنحو التقييد, وهو ما إذا تحرّك عن الأمر الواقعي, على تقدير كونه متعلقاً بالزائد, لا على كلّ تقدير, وهذا هو مورد الإشكال المزبور, فحكموا بالبطلان لأنّه لم يتحرّك عن الأمر الواقعي.

ويرد عليه:

أولاً: إنّه لا إشكال في وجود قبحٍ فاعلي؛ حيث إنه اعتقد في الأمر كذلك, ولكن بطلان العمل مبني على سراية القبح الفاعلي إلى القبح الخارجي في الفعل, وهو غير معلوم.

ص: 67

ثانياً: إنّه مبني على كون الزيادة عن اقتضاء عدم الجزئية, وهو غير معلوم إذ يمكن أن يكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الزيادة في الواقع, وإنّما لم يُؤمر بها تسهيلاً.

ثالثاً: إنّه يمكن القول بأنّ التحريك دائماً لا يكون أولاً عن الأمر الواصل وصولاً علمياً أو احتمالياً, ولا يعقل التحرّك عن الأمر الواقعي بوجوده الواقعي, فلا يبقى وجهٌ معقول لهذا التشقيق؛ لأنّ المكلف؛ إمّا أن يتحرّك عن الأمر المتخيّل الذي يعتقد أنّه هو الواقع وهذا هو الإشتباه في التطبيق.

وإمّا أنْ يتحرّك عن الأمر بوجوده العلمي أو الإحتمالي للأمر بالزائد وهذا هو المسمّى بالخطاب لتقييد التحرّك في كليهما بالقربة إذ لم يكن إلا من أجل أمر المولى بحيث لو لم يكن لم يتحرك ولو كان في تصوّره بشكل آخر.

إلا أنْ يقال بأنّه من مظاهر التجري على المولى، فلا يصلح للتقرب به, ولكنه فاسدٌ لأنّه متوقف على ثبوت المبغوضيّة في الفعل المُتجرى به, وهو غير ثابت كما تقدم في بحث القطع, وتفصيل الكلام موكول إلى الفقه.

الوجه الثالث: التمسك بإطلاق قول أَبي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ)(1).

وفيه: إنّه لا بدَّ من تقييده بالركن أو بالركعة، كما ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام حين سُئل عَنْ رَجُلٍ صَلَّى فَذَكَرَ أَنَّهُ زَادَ سَجْدَةً؛ قَالَ: (لَا يُعِيدُ صَلَاةً مِنْ سَجْدَةٍ وَيُعِيدُهَا مِنْ رَكْعَةٍ)(2).

والحاصل؛ إنّه لا دليل على البطلان بالزيادة مطلقاً يمكن الإعتماد عليه, والبطلان بالعمديّة من المسلّمات بين الأصحاب, والتفصيل موكول إلى محله في الفقه.

ص: 68


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 8 ص231.
2- . المصدر السابق؛ ج 6 ص319.

القسم الرابع(1): الخلل الحاصل من العجز والشكّ في إطلاق القيد لحال العجز

والبحث فيه لا يختلف عمّا ذكر في القسم الثاني من الخلل الحاصل من النسيان, إلا أنّه يتميز عن سابقه ببعض الخصوصيات والنكات, ولا بُدَّ من تقديمِ أمورٍ:

الأمر الأول: إذا ثبت جزئية شيء أو شرطيته, فهل أنّ مقتضى القاعدة ثبوتهما مطلقاً؛ حتى يسقط التكليف بالكلّ والمركب عند تعذرهما؟ أو أنّ مقتضاها ثبوتهما في الجملة؛ حتى يسقط تكليفهما فقط دون التكليف بالكلّ والمشروط؟ كلّ ذلك محتمل, ولا بُدَّ من الرجوع إلى الأدلة واستفادة أحدهما منها. ويأتي التفصيل إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: ذكروا في توجيه بحث المقام وارتباطه بمباحث أخرى وجوهاً؛فقيل: إنّه من فروع بحث الصحيح والأعم, فعلى الأول يكون البحث هنا من اللغو؛ لانتفاء الصّحة بتعذّر الجزء أو الشرط, وعلى الثاني يكون للبحث مجالاً.

ويردُ عليه: إنّ البحث عن الصحيح والأعم؛ إنَّما هو بلحاظ المستعمل فيه اللفظ, مع غضّ النظر عن الجهات الأخرى, والمقام إنَّما هو بلحاظ الإستظهار من الأدلة, فاختلف البحثان باختلاف اللحاظين. نعم؛ لو كان البحث في المقامين بلحاظ الأدلة لكان المقام من فروع الأول.

وقيل باختصاص بحث المقام بما إذا لم تثبت الجزئية أو الشرطية بمثل (لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُور)(2)، أو (لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب)(3) وأمثالهما؛ فإنّها تدل على نفي الحقيقة عند عدم الجزء أو الشرط كما هو واضح.

ص: 69


1- . من أقسام الخلل في الواجب.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص315.
3- . عوالي اللئالي؛ ج1 ص196.

وفيه: ما تقدم سابقاً من أنّ هذه التراكيب سيقت لبيان الجزئية أو الشرطية كما هو المعروف بينهم, وعليه؛ فلا فرق من هذه الجهة بينها وبين غيرها, وإنْ كان هذا الأسلوب يدلّ على شدّة الإهتمام بما ذكر فيه من الجزء والشرط وتقديمها على غيرها عند الدوران.

وقيل: إنّ البحث في المقام يبتني على ثبوت الأجزاء أو الشروط بأوامر متعددة دون ما إذا كان بأمر واحد.

وفيه: ما تقدم من أنّ الأمر الواحد المتعلق بالمركب ينحلّ بانحلال القيود المعتبرة فيه, وانبساطه على الجميع, فيرجع الأمر الواحد إلى الأوامر المتعددة؛ فلا فرق من هذه الجهة.

الأمر الثالث: إنّه تقدم شبهة استحالة توجيه التكليف بالأقل للناسي, ولكن هذه الشبهة لا تجري في المقام؛ إذ أنَّ العاجز متوجه إلى عجزه, ولا مانع من توجيه التكليف بالأقل إليه حال عجزه, وهذا الفرق لا يُثمر بعدما عرفت من إمكان تكليف الناسي بالأقل, وإمكان جريان البراءة عن الزائد مطلقاً؛ صحّت الشبهة أم بطلت, ولكنه يُثمر بناءً على رأي السيد الخوئي قدس سره الذي ربط بين الموضوعين كما تقدم بيانه.

الأمر الرابع: تقدم في صور النسيان أنّه إذا كان في جزء الوقت ولم يكن مستوعباً له, يكون التكليف فيه مردداً بين التعذير والتنجيز الذي هو من موارد الأقل والأكثر, وإنْ كان النسيان مستوعباً للوقت كان من الدوران بين المتباينين؛ لأنّه مردد بين القضاء خارج الوقت, أو الإكتفاء بالأقل الذي امتثله في الوقت, وبما أنّ أحد طرفيه خارج عن الإبتلاء بالإمتثال فلا يتنجز هذا العلم عليه فلا يجبالقضاء, نعم؛ إذا لم يكن للواجب قضاء خارج الوقت فلا تكليف على الناسي, فيخرج حينئذٍ عن الأقل والأكثر موضوعاً.

وأمّا المقام؛ فإنّ العاجز ملتفت إلى تكليفه من أول الأمر, فإنّه حينئذٍ يحصل له علم إجمالي في صورة عدم استيعاب العجز لتمام الوقت بوجوب الأكثر أو الجامع بينه وبين الأقل

ص: 70

حال العجز, وهو العلم الإجمالي الدائر بين التعيين والتخيير, فتجري البراءة عن التعيين. وأمّا إذا كان العجز مستوعباً للوقت كله, فإذا كان للواجب قضاء؛ يعلم إجمالاً بوجوب الأقل عليه في داخل الوقت, أو الأكثر -أي القضاء في خارجه-, وهو من العلم الإجمالي بين المتباينين, مع عدم خروج شيء من طرفيه عن محلّ الإبتلاء ويكون منجزاً عليه فيجب الإحتياط, إلا أنّه لا يتنجز هذا العلم الإجمالي بناءً على رأي المحقق النائيني قدس سره ؛ لأنّ منجزيته تُناط بإمكان وقوع المخالفة القطعية بالفعل خارجاً, وهي غير حاصلة في المقام إذا أتى المكلف العاجز بالأقل في حال عجزه, كانت المخالفة احتمالية في هذا العلم بما هو علم إجمالي.

الأمر الخامس: المحتملات في دليل القيد والمقيد من جهةِ الإطلاق والإهمال أربعة:

1- فإمّا أنْ يكون كلّ واحدٍ منهما مطلقاً من كلّ جهة.

2- وإمّا أنْ يكون دليل المقيد مهملاً, ودليل القيد مطلقاً.

3- وإمّا أنْ يكون عكس ذلك فيكون دليل المقيد مطلقاً, ودليل القيد مهملاً.

4- وإمّا أنْ يكون كلّ واحدٍ منهما مهملاً من جميعِ الجهات.

والبحث في تعيّنها تارةً؛ يكون في مرحلةِ الثبوت وأُخرى؛ في مرحلةِ الإثبات.

أمّا في مرحلةِ الثبوت؛ فإذا ثبت إطلاق دليل المقيد والقيد كما في الإحتمال الأول, فلا إشكال في سقوط المأمورِ به عند تعذر القيد؛ لإطلاق دليل القيد الشامل له, ولا أثر لإطلاق المقيد؛ لأنّ إطلاق دليل القيد بمنزلة القرينة المتصلة, التي تكشف عن أنّه لا تكليف بالمقيد مع تعذّر القيد, فلا وجه لإطلاق المقيد حينئذٍ.

وأمّا الإحتمال الثاني؛ فالأمر فيه كذلك, لثبوت إطلاق القيد الشامل له حتى مع تعذره, وكذلك الحال في الإحتمال الرابع؛ فإنّه مع عدم ثبوت الإطلاق لهما فلا تتمّ الحجة إلا في

ص: 71

صورة وجود القيد, ففي جميع هذه المحتملات الثلاثة (الأول والثاني والرابع) يسقط المقيد عند تعذر القيد.

وأمّا الإحتمال الثالث؛ وهو إهمال دليل القيد مع إطلاق دليل المقيد, فلا إشكال في وجوب إتيان البقية بعد تعذر القيد, لفرضِ إطلاق دليل المقيد الشامل لصورة التمكن من القيد وعدمه.

هذا كله بحسب مقام الثبوت.

وأمّا في مرحلةِ الإثبات؛ فإنّه لا بدَّ من الرجوع إلى القرائن والأدلة الخارجية واستفادة واحدٍ منها, والمشهور بين الفقهاء الإحتمال الثالث, واستدلوا على ذلك بأمورٍ:

الأول: التمسك بالإطلاقات عند تعذّر القيد يدلّ على ظهور الأدلة في هذا الإحتمال.

الثاني: التمسك باستصحاب وجوب الباقي عند تعذّر القيد.

الثالث: قاعدة الميسور؛ ويأتي البحث عنها إنْ شاء الله تعالى.

الرابع: التمسك بحديث الرفع في نفي القيديّة وإثبات وجوب البقيّة.

وقد أُشكل على الأخير بأنّ حديث الرفع من الإمتنانيات التي يرفع التكليف, لا أنْ يُثبته.

وأُورد عليه بأنّ إثبات التكليف إنَّما كان بالأدلة الأولية لا بحديث الرفع حتى يلزم الإشكال, فيكون الموضوع بحديث الرفع وجوب الإعادة أو القضاء عند ترك الجزء المعذور ووجوب البقيّة إنَّما كان بالأدلة الأولية.

كما أُشكل على الإستصحاب بأنّ الوجوب المعلوم للأقل هو الوجوب الضمني الغيري, وهو مقطوع الإرتفاع, والوجوب الذي يثبت بالإستصحاب هو الوجوب الإستقلالي للأقل, وهو مشكوك, فيكون استصحاب أصل الوجوب من القسم الثالث من استصحاب الكلي.

ص: 72

وأُجيب عنه بعدّة وجوه:

الوجه الأول: إنّ الإشكال يبتني على كون وجوب الأجزاء غيرياً, وأمّا بناءً على أنّ وجوبها عين وجوب الكلّ بنحو الإنبساط, فلا إشكال؛ حيث يُستصحب عين الوجوب الشخصي المنبسط على الأجزاء, فليس ذلك من استصحاب الكلي كما لا يخفى.

الوجه الثاني: إجراء استصحاب جامع الوجوب المردد بين الإستقلالي والضمني.

وأُورد عليه:

1- إنّه لا يرفع الإشكال؛ لأنّ الوجوب الضمني المتيقن سابقاً معلوم الإرتفاع, وإنّما يحتمل بقاء الجامع في ضمن فردٍ آخرٍ منه, وهو الوجوب الإستقلالي وهو مشكوك الحدوث, فهو من القسم الثالث من استصحاب الكلي.

ويُجاب عنه بما ذكرناه في الوجه الأول فلا إشكال.

2- إنّ الجامع بين الوجوب الضمني للأقل, الذي لا يَقبل التنجز الآن للعجز عنه, والوجوب الإستقلالي له لا يَقبل التنجز لو علم به وجداناً, فضلاً عن الإستصحاب, هذا إذا أُريد إثبات جامع الوجوب وتنجيزه, وإن أُريد إثبات فرده وهو الوجوب الإستقلالي للأقل؛ كان من الأصل المثبت.

وفيه: إنّه يمكن رفع الإثبات بالمسامحة العرفية في موضوع الإستصحاب.

3- ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1)؛ بأنّ هذا الإستصحاب محكوم باستصحاب بقاء جزئيّة الجزء المتعذر؛ لأنّ الشك في وجوب الأقل مسبب عن الشك في جزئية المتعذر في هذا الحال.

ص: 73


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث ص451.

وأورد عليه السيد الصدر قدس سره (1)؛ بأنّ الجزئية إنْ كان المراد منها أنّ لها دخلٌ في تجعيل الغرض والملاك فهذا مسبب عقلي لسقوط الوجوب الشرعي وليس أثراً شرعياً, وإنْ كان المراد منها كونه واجباً بالوجوب الضمني فهو مقطوع العدم حال التعذر, وإنْ كان المراد الملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب هذا الجزء فهي مشكوكةٌ من أول الأمر؛ لأنّ المتيقن الملازمة بينهما في حال القدرة وعدم التعذر؛ وهو مقطوع البقاء, وإنْ كان المراد منها حالته في مسمّى الصلاة -كما لعلَّه مراد المحقق المزبور- فإنّ هذا ليس حكماً شرعياً, ولا موضوعاً لحكم شرعي؛ لأنّ الواجب هو دافع المأمور به لا مسمّى الصلاة.

والحقُّ؛ إنّ ما ذكره إنَّما هي تقسيمات عقلية خارجة عن مقصودِ المحقق قدس سره الذي يمكن دفعُ إشكاله بأنّ جزئيّة الجزء المتعذّر قد ارتفعت الحصةُ الخاصةُ منها بالتعذر, واستصحاب بقاء الكلي لإثبات حصة معينة من الأصل المثبت, فلا مجال لاستصحابها حتى يكون حاكماً على استصحاب وجوب الباقي كما سيتضح مِمّا سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثالث: إنّ الجزء المتعذّر إمّا أنْ يكون ركناً, فلا يجري الإستصحاب؛ لأنّ الركنية منتفية بالتعذر, فلا موضوع وينتفي الإستصحاب بإنتفائه, وأمّا إذا لم يكن ركناً, فلا إشكال في إستصحابه؛ لأنّ هذه الحيثية تعليلية لا أنْ تكون تقييدية, والمعروف أنّ مع إنتفاء الحيثية التعليلية يجري الإستصحاب في الموضوع الذي كان واجباً سابقاً وإن تغيرت هذه الحيثية.

وفيه: إنّ ما ذُكر صحيحٌ فيما إذا كانت الحيثية التعليلية دخيلة في الموضوع حدوثاً, أو شُكّ في كونها دخيلة حدوثاً فقط أو حدوثاً وبقاءً, كما لو شكّ في أنّ زوال تغيير الكرّ بالنجاسة هل يوجب زوال نجاسته أم لا؟ فيقال بأنّ التغير مثلاً حيثية تعليلية للماء, لا أنْ تكون

ص: 74


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص380.

تقييدية فيجري استصحاب نجاسته, وأمّا إذا كانت الحيثية مّما يُعلم بدخالتها حدوثاً وبقاءً, بحيث يوجب انتفاء شخص ذلك الحكم فلا مجال للإستصحاب حينئذٍ؛ للقطع بزوال الحكم المتيقن, وما نحنُ فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المفروض دخالة الجزء المتعذّر في الواجب بحيث يسقط بتعذّر شخص ذلك الوجوب يقيناً, وإنّما يُشكّ في حدوث وجوبٍ آخر, فلا يندرج المقام تحت ضابطة كون الحيثية المتعذرة تعليلية أو تقييدية, على أنّ أصل هذهالضابطة مورد بحثٍ ونقاش؛ فإنّه ليست كلّ حيثية تقييدية إذا انتفت ينتفي الحكم, كما أنّه ليست كلّ حيثية تعليلية عند انتفائها لا ينتفي الحكم, بل المناط هو أنّ الحيثية مطلقاً -إذا كانت لها الدخل في الحكم حدوثاً أو شُكّ في ذلك-؛ كان انتفائها لا يوجب انتفاء الحكم, والشكّ فيه يجري الإستصحاب, وأمّا إذا كان لها الدخالة حدوثاً وبقاءً فإنّ انتفائها يوجب إنتفاء الحكم وزواله مطلقاً كانت تقييدية أو تعليلية.

الوجه الرابع: إنّ وجوب الباقي بعد تعذّرِ أحد الأجزاء هو عين وجوبه قبله, والإختلاف إنَّما يكون في حدّ الوجوب, حيث أنّه كان منبسطاً على الجزءِ المتعذّر والآن يقف عليه, فيستصحب ذات المحدود مع قطع النظر عن الحدود, نظير إستصحاب ذات الحمرة مع قطع النظر عن حدّها إذا زالت شدّتها.

وأُورد عليه بأنّ الوجوب لا يعقل فيه الإنبساط والإشتداد لكي تُستصحب مرتبة منه, وإنّما هو اعتبار وتكليف متعلق بالكل أو بالباقي, وأحدهما غير الآخر ومباين له في الوجود, فما كان يُعلم من وجوبِ الباقي يُقطع بزواله وسقوطه, وإنّما يُشكّ في ثبوتِ شخص وجوبٍ آخر عليه.

وفيه: إنّ الحكم بأيّ معنى أُعتبر قابل للإشتداد والإنبساط؛ لأنّ اعتباره بيد المعتبر, فإنّه لا شكّ في أنّ وجوب حفظ النفس المحترمة أشدّ إعتباراً من وجوب ردّ السلام, كما إنّ إنبساط وجوب الكلّ على الأجزاءِ عرفي يقرّه العقل أيضاً.

ص: 75

والحقُّ أنّ جميع ما ذكر في توجيه الإستصحاب والردّ عليه لا يسلم من الإشكال, والصحيحُ؛ ما ذكرناه من تمامية الإستصحاب لأصل الوجوب الشخصي المنبسط على الأجزاء, لا أنْ يكون وجوب الأجزاء يختلف عن وجوب الكلّ حتى يُستشكل على الإستصحاب بمثل ما ذُكر, كما لا حاجة إلى تصوير الجامع حتى يُورد عليه بما ذكره السيد الصدر بعدم جريان استصحابه أصلاً؛ لأنّ الجامع مردد بين وجوبٍ لا يقبل التنجيز لانقضائه, وبين وجوبٍ يقبل التنجيز, لأنّ هذا الجامع لو عُلم به وجداناً لا يكفي في المنجزية فضلاً عن التعبدية, وقد عرفت عدم تمامية ذلك كله.

قاعدة الميسور

والتمسك فيها يكون لإثبات وجوب الباقي، والكلام فيها يقع من جهاتٍ:

الجهة الأولى: في الدليل عليها

وقد استدلّ عليها ببعض الروايات, وهي تتلخّص في ثلاثٍ:

1- النبوّي الوارد عنه صلی الله علیه و آله و سلم : (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما أستطعتم)(1).

2- ما ورد في عوالي اللئالي عن أمير المؤمنين علیه السلام : (الميسور لا يسقط بالمعسور)(2).

3- ما ورد فيه عن أمير المؤمنين علیه السلام أيضاً: (ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه)(3).

وقد نُوقش في أسانيد هذه الروايات؛ بأنّ الأولى عاميّة لم ترد في كتبنا ورواياتنا, وفي كتبِ العامةِ لا سند لها أيضاً, والأخيرتان مرسلتان في كتاب الغوالي, ولم ترد في الكتب المعتبرة. ومن أجل ذلك قال بعضهم لا يحتمل عمل السابقين حتى يكون جبراً لضعفها, لكن

ص: 76


1- . عوالي اللئالي؛ ج4 ص58.
2- . المصدر السابق.
3- . المصدر السابق.

ذهب آخرون -منهم السيد الوالد قدس سره (1)- إلى أنّ تسالم الأصحاب قديماً وحديثاً على نقلها والإستدلال بها كما جرت السيرة عليه مِمّا يجبر ضعفها, على أنّ هذه القاعدة التي هي متن الحديث الثاني من القواعد الإرتكازية في الجملة ولم يرد ردع عنها في الشرع, بل قرّرها في الجملة؛ كما هو مقتضى تلك الروايات, فالمناقشة السنديّة مردودةٌ بجبر قصور السند بالعمل والإهتمام بنقلها وكونها قاعدة عقلائية في الجملة.

الجهة الثانية: في دلالتها.

أمّا الرواية الأولى؛ فقد استشكل عليها بما يلي:

أولاً: إنّ الرواية وردت في جواب سؤال صحابي عن لزوم الحجّ كلّ عامٍ, فأجاب النبيُ صلی الله علیه و آله و سلم ؛ بأنّه لو قلتُ نعم لوجب كلّ عام, ولو وجب لما استطعتم ولَكفرتم, ثمّ قال: إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم, فقد طبق الكل والجزء في مورد الكلي والفرد, فيكون المراد من الشيء فيه الكلي لا الكلّ؛ لأنّه لم يتناسب مع مورد الحديث.

ويرد عليه بأنّ الشيء له من العموم ما يشمل الكلي وأفراده, والكلّ وأجزائه, كما هو المعروف في هذه اللفظة؛ حيث أنّها متمحضة في العموم.

ثانياً: إنّ كلمة (منه) بيانيّة و(ما) وقتيّة, والدليل على صرف ظهور (منه) من التبعيض إلى البيانيّة قرينة المورد حيث كان في الكلي والفرد, أو تكون (منه) زائدة؛ أي فأتوه ما استطعتم, ومعه لا يمكن الجمع بين المتنافيين.

وفيه: إنّ كلمة (من) ظاهرة في التبعيضية بالمعنى العام الشامل للجزء والفرد, كما أنّ الظاهر من (ما) الموصولة؛ ولا قرينة على صرفهما عن ظهورهما في مدلولهما, وما ذُكر في الصرف غير تام كما عرفت, ولعله من أجل ما ذكرناه ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره أنّه لا

ص: 77


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص226.

نُسلّم وضع (من) للتبعيض المخصوص بباب الكلّ والجزء بل هي موضوعةٌ للتبعيض؛ بمعنى الإقتطاع وإخراج البعض؛ سواءً كانت نسبته إليه نسبة الجزء إلى المركب أم نسبة الفرد إلى الكلي, حيث أنّ للكلّ نحو إحاطة وشمول على أفراده؛ فلا منافاة بين المعنيين.ثالثاً: إنّ ظاهر الحديث أنّ السؤال يمكن أنْ يكون محركاً للتشريع ومنبّهاً إليه, بحيث لو سُئل لوجب؛ وهو غريب, لأنَّ التشريع يتبع المصالح والمفاسد الواقعية لا سؤال السائلين وفحصهم.

وفيه: إنَّ هذا الإشكال غريبٌ في حدّه؛ إذ ربّما يُشرع الحكم عقاباً على تعنت المعاندين وخروج العبد عن الطاعة بسؤاله, وهو كثيرٌ لا يمكن إنكاره, كما في قصّة البقرة مع قوم موسى بن عمران علیه السلام , كما أنّه يمكن أنْ يكون التشريع واجداً للملاك اللزومي؛ لا يُشرع إلا بعد السؤال.

رابعاً: إنّ ظاهر الحديث أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم لو قال نعم لوجب, ولو وجب لما استطاعوا فيتركوا ويكفروا, ولكن مع عدم الإستطاعة يرتفع الوجوب فلا يعقل أنْ يكونوا كفاراً.

وفيه: إنّ المراد من عدم الإستطاعة عدمُ الوفاء؛ بقرينة رجوعهم كفاراً؛ لا عدم القدرة, فإنّه لا إشكال في سقوط التكليف ولو كان مرةً واحدةً.

خامساً: إنّ الحديث يدلّ على أنّ الحدّ الأقصى للإمتثال أنْ لا يلزم منه حرجٌ ولا مشقّة, وهو بعيدٌ عن مسألة لزوم الباقي بعد تعذر القيد من الجزء والشرط.

وفيه: إنّ عدم الإستطاعة للإمتثال؛ سواء كان من جهة الحرج أم المشقة أم التعذر؛ فإنّه يوجب سقوط حكم غير المستطاع, ولا يوجب سقوط الأمر بالكلّ, فيدلّ على وجوب الباقي, فلا غموض في دلالة الحديث.

ص: 78

أمّا الرواية الثانية؛ فقد أشكلوا على الإستدلال بها بأنّ المراد بالميسور هو الكلي, كما أنّه هو المراد بكلمة (ما) في (ما لا يُدرك كله) أيضاً, وقد عرفت الجواب عنه بِما ذكرناه في الرواية الأولى من التعميم للكلي والكلّ ولا وجه للتخصيص.

ولتوضيح السؤال والجواب ينبغي ذكر المحتملات في تفسيرها وهي ثلاثة:

الإحتمال الأول: أن يكون نهياً بلسان النفي, نظير قوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)(1) على بعض التفاسير, وكالجمل الخبرية في مقام الإنشاء.

الإحتمال الثاني: أنْ يكون نفياً تشريعياً, بحيث يقصد منه جعل الحكم الشرعي لا الإخبار عن الخارج كقول الإمام الرضا علیه السلام : (ولَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ ووَلَدِهِ رِباً)(2), فإنّ المقصود منه جواز الربا بينهما لا نفي وقوعه خارجاً.

الإحتمال الثالث: أنْ يكون نفياً إخبارياً, كقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(3).

وعلى ضوء هذه الإحتمالات إختلفت كلماتُ القوم, فذكروا اعتراضات عديدة:الإعتراض الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (4) من وقوع التعارض بين ظهور هيئة (لا يسقط) في اللزوم مع إطلاق الميسور للمستحبات عند تعذّر بعض أجزائها, وبعد التعارض لا يبقى ما يدلّ على لزوم الباقي حتى في الواجبات, وهذا الإعتراض يبتني على التفسير الأول فقط كما لا يخفى, ولكن هذا التفسير خلاف الظاهر لوجوهٍ:

أولها: ظهور حرف السلب الداخل على الفعل المضارع في النفي لا النهي, إلا إذا كانت قرينةٌ على صرفهِ عن ظهوره الأولي.

ص: 79


1- . سورة البقرة؛ الآية 197.
2- . مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل؛ ج 13 ص339.
3- . سورة الحج؛ الآية 78.
4- . كفاية الأصول؛ ص371.

ثانيها: خصوص مادة (يسقط) التي هي مدخول حرف النفي لا تناسب النهي؛ لأنّ سقوط الميسور عن عهدة المكلف ليس فعلاً للمكلف مباشرةً كما هو مفروض الكلام, فلا يُناسب النهي عنه.

والقول بأنَّ النهي إذا صحّ إنَّما هو بلحاظ ترتيب آثار السقوط من قبل المكلف خارجاً؛ نظير (وَلَا تَنْقُضِ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشك)(1)؛ مردودٌ بأنّ النقض من فعل المكلف فيصح تعلق النهي به, بخلاف سقوط الميسور فإنّه من فعل الشارع, نعم الإسقاط من فعل المكلف, إلا أنّ المادة هي السقوط لا الإسقاط, إلا أنْ يُقرأ الحديث (لا يُسقط) بصيغة المجهول ولكنه خلاف المشهور على ألسنةِ الفقهاء, وإنْ كان الإشكال لا يرد أصلاً بناءً على ما هو الموجود في بعض نسخ عوالي اللئالي (لا يترك الميسور بالمعسور).

ثالثها: لو فرض التسليم وحملنا الحديث على النهي فمع ذلك لا تعارض بين النهي وإطلاق الميسور للمستحبات؛ لأنّ مفادها النهي عن السقوط من ناحية تعذّر بعض الأجزاء, وهو لا يُنافي جواز ترك أصل المستحب من ناحية أخرى.

الإعتراض الثاني: ما ذكره بعضهم من أنّ مفاد الحديث هو النفي التشريعي -أي التفسير الثاني- فيكون ناظراً إلى باب الكلي والفرد, كما إذا وجب إكرام كلّ عالم وتعذّر إكرام بعضهم, فيكون النفي إرشاداً إلى عدم سقوط وجوب سائر الأفراد, ولا نظر للحديث إلى بابِ الكلّ والجزء في المركبات الإرتباطيّة, إذ لو كان كذلك كان النهي مولوياً لا إرشاديّاً, ولا يمكن الجمع بينهما في خطابٍ واحدٍ فيصير الحديثُ مجملاً, ولا يمكن تعيين المولوية, لأنّ موردها ما إذا كان الموضوع المنظور إليه مُشخصاً ويُشكّ في المولوية والإرشادية, لا ما إذا كان الموضوع مشكوكاً في أنّه الأمر المناسب مع المولوية أو المناسب مع الإرشادية.

ص: 80


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص245.

ويرد عليه:

1- إنّ الخطاب مولوي على كلّ حال سواءً كان المراد به الكلي والفرد أم الكلّ والجزء, غاية الأمر على الأول يكون الحكم المولوي نفس الجعل الأول بخلافه على الثاني, فلا مانع من شمول إطلاق الميسور لكلا البابين, وإن إنتزعت التأسيسية بلحاظ أحدهما وهوالكلّ والجزء, والتأكيديّة بلحاظ الآخر وهو الكلي والفرد, ولا يضر ذلك؛ لأنّ التأسيسية والتأكيديّة تُنتزعان بلحاظ أمر خارج عن مدلول اللفظ, وهو سبق خطاب الأمر بالكلي أو المركب.

2- إنّ المولوية والإرشادية ليستا مدلولين لفظيين تصوريين للخطاب؛ وإنّما هما خصوصيتان ترتبطان بمرحلة المدلول التصديقي والمراد الجدي, وأمّا اللفظ فقد إستعمل في معناه الموضوع له من النسبة الإنشائية أو الإخبارية, فلو كان المدلول التصديقي مّما يُناسب الجمع بين المولوية والإرشادية في موردٍ, فلا محذور فيه, ولا موجب لتخصيص الخطاب موضوعاً, ولا يلزم من ذلك إستعماله في معنيّين؛ لأنّ هذه الخصوصية ليست مدلولاً لفظياً.

الإعتراض الثالث: إنّه بناءً على كون المراد من (الميسور) في الحديث هو الكلي والفرد؛ يكون النفي حقيقياً, وأمّا بناءً على كونه راجعاً إلى الكلّ والجزء؛ يكون النفي عنائياً مسامحياً؛ لأنّ وجوب الباقي وجوب جديد غير الوجوب الساقط بالتعذر بحسب الدقة.

ويرد عليه: إنّه مبني على أنّ إيجاب الباقي يكون بأمرٍ جديد كما عليه المشهور, وهو خلاف التحقيق كما تقدم.

وعلى فرض القبول وقلنا أنّه بوجوب جديد لكن حمل النفي على العنائي يحتاج إلى تقدير, اي إسناد السقوط إلى حكم الميسور وهو خلاف الأصل؛ وإنّما أُسند السقوط إلى نفس

ص: 81

الميسور باعتبار كونه ثابتاً في عهدة المكلف في الجملة, وإختلاف منشأ الثبوت في العهدة من الوجوب الضمني إلى الإستقلالي لا يجعل الساقط متعدداً عرفاً؛ لأنّ المنشأ حيثية تعليلية.

ومن جميع ذلك يظهر أنّه يصح التمسك بقاعدة الميسور لإثبات وجوب الباقي بلا مانع, وتعضده الأدلة الإمتنانية التسهيلية التي وردت في أبواب الخلل كقاعدة لا تُعاد وغيرها.

الجهة الثالثة: في بعض ما يتعلق بتطبيقها

أولاً: لا إشكال في أنَّ للميسور مراتب متفاوتة جداً, فلا بُدّ في التمسك بهذه القاعدة من صدق الميسور؛ إمّا بدليل شرعي يدلّ عليه من نصٍّ أو إجماع, وإمّا صدقه في عرف المتشرعة, ومع عدم ذلك لا وجه للتمسك بها.

ثانياً: موارد تطبيقها في الفقه كثيرة لا مجال لاستقصائها في المقام لأنّه من شؤون الفقه, ومن المعلوم أنَّ أغلب موارد تطبيق هذه القاعدة وردت فيها أدلة خاصة تدلّ على لزوم الإتيان بالباقي الميسور في الواجبات وعلى استصحابه في المستحبات نذكر بعضاً منها:

فمنها؛ إذا تعذّر تعدد الغسل في المتنجس بالبول بالماء القليل, وهو متمكن من غسله مرة واحدة, بجريان القاعدة لوجوب تخفيض النجاسة مهما أمكن إليه من سبيل.ومنها؛ ما إذا ولغ الكلب في الإناء؛ فإذا لم يقدر على التعفير هل يكتفي بالغسل بالماء القراح لقاعدة الميسور.

ولكن الصحيح أنّ الشارع جعل سبب التطهير هو تعدد الغسل في البول والتعفير في الولوغ, فإذا لم يتحقق السبب لم يتحقق المسبب وهو الطهارة, فيبقى الإناء على نجاسته في الفرعين, نعم؛ إنَّما يلزم تخفيف النجاسة بالميسور ولا إشكال فيه.

ومنها؛ ما ورد في بعض المستحبات من قراءة السور المتعددة كما ورد في عمل أم داود, أو السورة الواحدة مرات كثيرة كما ورد في أعمال ليلة القدر أو بعض ليالي العشر الأواخر

ص: 82

من شهر رمضان, وما ورد من اللعن على العصابة القتلة ومشايعيهم والسلام على الحسين وأصحابه وأولاده علیهم السلام مائة مرة في زيارة عاشوراء؛ فلو لم يقدر على إتيان الجميع في تلك الموارد ولكنه قادر على إتيان البعض فيها فالظاهر جريان قاعدة الميسور؛ فإنّ تعذر البعض لا يوجب سقوط الإستحباب عن الجميع, وعلى هذا لو تعذّر إتيان الإستغفار سبعين مرة في صلاة الليل ولكنه قادر على ثلاثين مثلاً فليأتِ به إستحباباً, وغير ذلك من الفروع التي ذكرت في أبواب الفقه فراجع.

ثمّ إنّ السيد الوالد قدس سره ذكر في ختام هذا البحث دوران الأمر بين المانعية والجزئية في العبادة, مثل الجهر والإخفات في الصلاة يوم الجمعة, فحكم بوجوب الإحتياط للعلم بأصل التكليف والشكّ في الفراغ, وتقدم الكلام فيه مفصلاً فراجع(1).

خاتمةٌ في شرائط جريان الأصول العملية

اشارة

إعتاد الأصوليون ذكر شرائط جريان الأصول العملية في ختام بحث البراءة, والكلام يقع في موردين:

المورد الأول: ما يتعلق بالإحتياط

لا ريب في أنّه لا يُعتبر في الإحتياط شيء إلا حسنه, فما دام يكون حسناً لدى العقلاء يصح ولو مع وجود الحجة المعتبرة على التكليف وجوداً أو عدداً, وإذا حكم العقلاء بعدم حسنه يكون لغواً, بل ربّما يكون قبيحاً ومحرماً, كما إذا كان الإحتياط موجباً لاختلال النظام, أو وصل إلى حدّ العسر والحرج أو الوسواس, بلا فرق في ذلك كلّه بين العبادات والمعاملات, ولا بين التمكن من الإمتثال التفصيلي وعدمه, ولا بين ما كان مستلزماً للتكرار وغيره, كلّ ذلك للأصل وإطلاقات الأدلة وعموماتها, من غير ما يصلح

ص: 83


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص227-228.

للتخصيص والتقييد إلا أموراً ذكروها, وهي ظاهرة الخدشة؛ وهي:

الأمر الأول: إنّ الإحتياط مخالف لاعتبار قصد الوجه والجزم بالنيّة.ويرد عليه:

1- إنّه لا دليل من عقلٍ أو نقلٍ على اعتبارهما في العمل, بل مقتضى الأصل والإطلاقات عدم الإعتبار.

2- إنّه على فرض الإعتبار يكفي قصد الوجه بالتكليف الواقعي الموجود في البين, بل يصح قصد الوجه في كلّ واحدٍ من المحتملات طريقاً إلى الواقع لا بنحو الموضوعية فيه.

الأمر الثاني: إنَّ مراتب الإمتثال أربعة, وهي:

1- الإمتثال العلمي التفصيلي.

2- الإمتثال العلمي الإجمالي.

3- الإمتثال الظني.

4- الإمتثال الإحتمالي.

ولا تصل النوبةُ إلى كلّ لاحقٍ مع التمكن من سابقه.

وفيه: إنّ التقسيم وإنْ كان صحيحاً في الجملة ولكن الحكم بأنّه لا تصل النوبة إلى اللاحق مع التمكن من سابقه؛ إنْ كان دليله ما ذكروه من اعتبار قصد الوجه والجزم بالنية أو إستلزامه التكرار المستهجن؛ فهي مخدوشةٌ كما عرفت ويأتي. وإنْ كان لدليل خاص فهو مردود؛ إذ لا دليل عليه من نصٍّ أو إجماعٍ.

الأمر الثالث: إنّ الإحتياط المستلزم للتكرار لهوٌ وعبث بأمر المولى مع التمكن من الإمتثال التفصيلي.

ص: 84

وفيه: إنّ اللهو والعبث إمّا إن يكون قصدياً أو انطباقياً قهرياً.

والأول مفروض الإنتفاء, والثاني مفروض العدم.

وعلى فرض الصدق فإنّ الكلام يقع في أنّ مثل هذا القسم من اللهو والعبث؛ إمّا أنْ يكون حراماً نفسياً, أو غيريّاً, أو يكون موجباً لفقد شرطٍ أو جزء في المأمورية.

والأولان منفيان بالأصل, والثاني مفروض العدم؛ لأنّ الفرض كون العمل واجداً لجميع الشروط والأجزاء, وعلى فرض كون هذا القسم من العبث الحرام فهو في كيفية الإمتثال, لا أنْ يكون في أصله حتى يوجب البطلان, ومن أجل ذلك إستقرت آراء المحققين على جواز التقليد مع التمكن من الإجتهاد, وعلى جواز الإجتهاد مع التمكن من التقليد, وعلى جواز تركهما والعمل بالإحتياط, ولا دليل على ذلك إلا ما ذكرناه.

وإذا ثبت جواز الإحتياط حينئذٍ فإنّه يجزي فيه الإتيان بالإحتمالات المعتنى بها عند العقلاء والفقهاء, ولا يجب الإتيان بجميع الإحتمالات؛ لا سيما إذا استلزم الوسواس؛ فإنّه ربّما يوجب الحرمة كما تقدم.المورد الثاني: شروط جريان الأصول الثلاثة الأخرى؛ البراءة, والتخيير, والإستصحاب, وقد ذكروا لهما شرطين أساسيين؛ أحدهما؛ وجوب الفحص عن الحجة على التكليف الإلزامي. والآخر؛ عدم استلزامها الضرر كما ذكره الفاضل التوني قدس سره (1), مع شرطٍ آخر يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى(2).

ص: 85


1- . الوافية؛ ص193.
2- . في نهاية الجهة التاسعة، وقبل البحث في قاعدة لا ضرر مباشرةً.

الشرط الأول: وجوب الفحص عن الحجة على التكليف الإلزامي

اشارة

فالكلام فيه يقع من جهات:

الجهة الأولى: في وجوب الفحص عن الحجة على الإلزام قبل إجراء الأصول المؤمنة

والكلام يقع تارةً؛ في الشبهات الحكمية, وأخرى؛ في الشبهات الموضوعية.

أمّا الأولى؛ فقد إستدلوا على وجوب الفحص فيها بالأدلة الأربعة؛ فمن الكتاب آية النفر: ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (1), وآية السؤال: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(2), فإنّها تدلّ عرفاً على إيجاب الفحص على المؤمنين وعدم جواز إهمالهم.

ومن السنة؛ الأخبار المستفيضة التي تدلّ على طلب العلم والحث عليه والترغيب إليه, بل التوبيخ على تركه كما لا يخفى لمن راجعها في كتب حديث أصحابنا (قدّس الله أسرارهم), وسيأتي ذكرها والمستفاد منها.

وقد أدُّعي الإجماع عليه من الإمامية بل المسلمين, وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (3)؛ أنّ موضوع الأصول مطلقاً الشك المستقر, ولا استقرار له قبل الفحص, فهو خارج عن مورد إعتبار الأصول تخصصاً, وإطلاق جميع تلك الأدلة يقتضي عدم الفرق في وجوب الفحص بين الشبهات الحكمية والموضوعية, ولكن سيأتي الكلام في الشبهات الموضوعية في الجهة الثانية إنْ شاء الله تعالى.

نعم، إنْ كان لها المعرضية العرفية للوقوع في خلاف الواقع ولم يكن مطلق الجهل عذراً ولو مع التقصير, كان القول بوجوبِ الفحص فيها وجيهاً كما سيأتي بيانه.

ص: 86


1- . سورة التوبة؛ الآية 122.
2- . سورة الأنبياء؛ الآية 7.
3- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص231.

كما لا فرق أيضاً بين الأصل المؤمن العقلي كالبراءة العقلية والأصل الشرعي؛ فإنّهما يختصان لِما بعد الفحص وعدم العثور على دليل يدلّ على الإلزام, خلافاً للمحقق الإصفهاني(1) حيث ذهب إلى عدم الإختصاص.

كما أنكر السيد الصدر قدس سره (2) أصل البراءة العقلية؛ بناءً على مختاره من عدم وجود حكم عقلي بالبراءة في حقّ المولى الحقيقي, وإنْ كان صحيحاً في الموالي العرفية, فتكون القاعدة عقلائية لا عقلية, فاختار فيها الإختصاص بما بعد الفحص, لأنّ حكم العقلاء بعدم حقّ الطاعة في موارد الجهل مختص بما إذا فحص المكلف عن الحكم الإلزامي ولم يجده, لا ما إذا ترك الفحص عنه رأساً.

وتفصيل الكلام في ذلك:

أمّا البراءة الشرعية؛ فإنّ المشهور أنّ أدلتها وإنْ كانت مطلقة, إلا أنّ هناك مانع عقلي أو شرعي عن التمسك بهذا الإطلاق كما عرفت آنفاً.

وأمّا قول المحقق الإصفهاني قدس سره فسيأتي الكلام فيه.

وأمّا قول السيد الصدر قدس سره فقد تقدم في بحث البراءة نقله والإشكال عليه, فلا فرق بين كون القاعدة عقلية أو عقلائية كما اختاره قدس سره في الإختصاص بما بعد الفحص؛ لإطلاق الأدلة التي تقدم ذكرها.

فالحكم في البراءة مطلقاً كما عرفت؛ هو إختصاصها بما بعد الفحص وعدم العثور على التكليف بالالزام.

ص: 87


1- . نهاية الدراية؛ ج2 ص465.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص395-396.

وقد استدلوا على ذلك مضافاً إلى ما ذكرناه بأدلةٍ عديدةٍ:

الدليل الأول: ما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) من خروج الشك قبل الفحص عن مورد اعتبار الأصول المؤمنة تخصصاً, لأنّ موضوعها الشك المستقر ولا استقرار للشك قبل الفحص, فهو خارج عن مورد اعتبارها تخصصاً, وهو صحيحٌ لا غبار عليه بمقتضى فهم العقلاء وسيرتهم في مثل ذلك.

الدليل الثاني: عدم الإطلاق لأدلة البراءة الشرعية قبل الفحص, فيكون قصوراً في مقتضى البراءة؛ وذلك لأنّ الإرتكاز العقلائي يقيّد إطلاق ما ورد في البراءة, فتنصرف إلى إمضاء القانون العقلائي بمعذرية الجهل بما بعد الفحص, فلا ينعقد إطلاق لدليل البراءة. وأُشكل عليه؛ بأنَّ ما يثبت بهذا الوجه عدم الدليل على البراءة الشرعية في الشبهة الحكمية قبل الفحص, وهذه المسألة الأصولية بنفسها شبهة حكمية, فلو فحص فيها المجتهد ولم يجد دليلاً على الإحتياط في الشبهاتالحكمية قبل الفحص, وحينئذٍ يمكنه إجراء البراءة الشرعية عن وجوب الإحتياط, وهو حكم ظاهري حصل في الشبهة بعد الفحص يؤمن به عن الواقع.

ويرد عليه: إنّ الإرتكاز العقلائي المذكور تشمل البراءة أيضاً وإن كانت بعد الفحص عن جعل إيجاب الإحتياط؛ لأنّها تثبت التأمين عن الواقع, فما دام المكلف لم يفحص عن الواقع لا يمكنه إجراء البراءة الطولية أيضاً, مع أنّ الشارع الأقدس قد أمضى طريقة العقلاء في منجزية الإحتمال قبل الفحص في الشبهة الحكمية مطلقاً؛ سواء كان في الإحتياط أم البراءة.

ص: 88


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص231.

الدليل الثالث: قصور المقتضي بعد ملاحظة مجموع أدلة البراءة بعضها مع بعض؛ فإنّ قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)(1), وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)(2) يدلان بلحاظ عقد المستثنى على عدم البراءة عند الإيتاء والتبيين للناس, فيتعارضان مع الإطلاق المفروض في بعض الروايات كحديث الرفع, ويقدم إطلاق الكتاب على إطلاق الرواية لكونه قطعي السند, ولو فرض التكافؤ فيتعارضان ويتساقطان ويرجع حينئذٍ إلى الإحتياط, وقد عرفت في الوجه السابق أنّ البراءة الطولية داخلة في البراءة قبل الفحص أيضاً.

الدليل الرابع: إنّ الخطاب إذا احتمل فيه وجود قرينة متصلة معه يصير مجملاً؛ سواء كانت القرينة لبية أم إرتكازية, وفي المقام؛ إحتمال وجود القرينة يوجب صرف إطلاق الخطاب عن موارد ما قبل الفحص, والقرينة اللبية الصارفة في المقام أنّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة علیهم السلام كانوا يُبدون شدّة اهتمامهم بنشر الأحكام وتبليغها وترويجها وتعليمها للناس؛ فإنّ هذا الأمر المعلوم من حال الشارع إنْ لم يوجب القطع بكونه قرينة لبية صارفة فلا أقل من احتمال قرينيته الموجب للإجمال, ولا يكفي سكوت الراوي لنفيها؛ لكونه أمراً إرتكازياً لِما ثبت في محلّه من أنّ سكوت الراوي عن ذكر القرائن اللبية الإرتكازية لا يوجب نفيها.

الدليل الخامس: حكم العقل البديهي بوجوب الفحص عن الأحكام, ولا عذر في إغماض العين عنه وإجراء البراءة من دون التفحص والتحري عن الحكم الإلزامي, وهذا بنفسه قرينة على عدم إرادة الإطلاق من أدلة البراءة لِما قبل الفحص, فإنّه كالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد الإطلاق.

ص: 89


1- . سورة الطلاق؛ الآية 7.
2- . سورة التوبة؛ الآية 115.

وأُشكل بأنّ هذا الحكم العقلي وإنْ كان مسلماً إلا أنّه حكم تعليقي على عدم ورود الترخيص والإذن الشرعي, وإلا كان رافعاً لموضوعه؟ فكيف يكون هذا الحكم التعليقي العقلي مانعاً عن الإطلاق.

ولكن الصحيح أنّ هذا الحكم العقلي تام ولا يضر تعليقيته في هذا الحكم وإجراء البراءة قبل الفحص؛ لأنّ المعلق عليه مشكوك الإطلاق.الدليل السادس: إنَّ دليل البراءة مقيد بعدم قيام أمارة معتبرة على خلافها, وقبل الفحص يكون التمسك بإطلاقه تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة, بناءً على أنّ الحجة مانع عن البراءة بوجودها الواقعي, وأنَّ الأحكام الظاهرية متنافية بوجوداتها الواقعية وإن لم تصلنا.

إنْ قلت: إنّ مقتضى ذلك عدم إمكان التمسك بالبراءة حتى بعد الفحص؛ لاحتمال وجود حجة إلزامية واقعاً ولم تصل إلينا.

قلنا: لا يستفاد من الأدلة على حجية خبر الثقة أو الظهور فيما إذا لم يكونا في معرض الوصول, وهذه الوجوه إنَّما تُثبت عدم المقتضي لدليل اعتبار الأصول ليشمل ما قبل الفحص, ومن مجموعها نستفيد الحكم قطعاً وإنْ لم يسلم بعضها عن بعض الإشكالات.

الدليل السابع: دعوى وجود المانع عن التمسك بإطلاق أدلة البراءة للشبهة قبل الفحص لو تمّ إطلاق فيها, والمانع هو العلم الإجمالي بالإلتزام ضمن دائرة الشبهات قبل الفحص, أو العلم الإجمالي بوجود أمارات معتبرة إلزامية, وقد إعترض عليه بعدة اعتراضات:

الإعتراض الأول: ما ذكره المشهور من أنّ هذا العلم الإجمالي بالتكاليف كما يوجب سقوط البراءة في الشبهة قبل الفحص يوجب سقوطها بعده أيضاً؛ لأنّ العلم الإجمالي لا ينحصر بموارد الأمارات الإلزامية, بل هو علم إجمالي في مجموع الشبهات, وهذا هو العلم الإجمالي الذي تمسك به الإخباري لإثبات الإحتياط, فإذا تنجزت أطرافه لم يجز الرجوع إلى الأصل

ص: 90

مطلقاً حتى بعد الفحص؛ لأنّ تنجز العلم الإجمالي في بعض الأطراف بمنجز آخر بعد حصول العلم لا يوجب الرجوع إلى الأصول المتعارضة في سائر الأطراف.

ومن أجل هذا الإعتراض كان للإصوليين في التوفيق بين موقفهم في إبطال تمسك الإخباري بالعلم الإجمالي في مجموع الشبهات لإثبات الإحتياط, وموقفهم في المقام؛ حيث تمسكوا بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الأخبار, أو بالعلم الإجمالي بالأخبار الإلزامية لإثبات عدم جريان البراءة قبل الفحص, أجوبة عديدة:

1- ما أفاده المحقق العراقي قدس سره (1) من أنّ الأصول قبل الفحص في الشبهات ليست متعارضة ومتساقطة بل غير جارية, لكون الشبهة قبل الفحص, أو لاحتمال وجود المنجز وهو خبر الثقة قبل الفحص على حدّ تعبيره قدس سره , وعليه ففي كلّ موردٍ يتحقق الفحص ولم يُعثر على حجة على الإلزام تجري البراءة, ولا تعارض بالبراءة في سائر الشبهات لأنّها في نفسها ليست مجرى للبراءة قبل الفحص.

وهذا الجواب يرجع إلى قصور مقتضى البراءة في الشبهة قبل الفحص, ولو فُرض تمامية المقتضي وأُريد الإعتماد على مانعية العلم الإجمالي رجع إشكال الإخباري لا محالة.

2- ما ذكره السيد الوالد قدس سره (2) من أنّ الشبهات قبل الفحص مع العلم بوجود الإلزام إجمالاً مِمّا يجعل الشك من غير المستقر, ولا يصحّ الرجوع فيها إلى البراءة التي عرفت أنّ موضوع دليلها مقيد بالشك المستقر, ولا يمكن للإخباري إنكار

ص: 91


1- . لم نجد ما ذكر في كلمات المحقق العراقي، وإنما هو يرى أنّ دليل البراءة الشرعية يشمل ما قبل الفحص ما لم يوجد مانع كالعلم الإجمالي. راجع مقالات الأصول؛ ج2 ص108 ونهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث ص469. نعم؛ يذهب إلى ما ذُكر السيد الخوئي في مصباح الأصول؛ ج2 ص493.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص232.

ذلك أيضاً, وبعد الفحص يستقر لعدم العثور على الحجة على الإلزام, فلا مانع من الرجوع إلى البراءة فيها.

3- إنّ العلم الإجمالي الكبير في مجموع الأمارات والأخبار المعتبرة مقارن زماناً مع العلم الإجمالي الصغير بالتكاليف الواقعية ضمن أخبار معتبرة, وهو يوجب انحلال الأول من أول الأمر لا أنْ يُثبت الكبير ثم ينحلّ بالصغير واختصاص منجزيته بدائرة العلم الإجمالي الكبير والصغير, وغاية الأمر؛ أنه قبل الفحص تكون كل شبهة طرفاً من أطراف العلم الإجمالي الكبير والصغير معاً, بخلافها بعد الفحص وعدم وجدان أمارة معتبرة فيها؛ فإنّه تحرز خروجها عن دائرة العلم الإجمالي الصغير فتجري البراءة فيها بلا محذور.

وهذا الوجه صحيحٌ لا إشكال فيه بناءً على رأي الأصوليين, أمّا إذا ناقشنا في دعوى انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير كما تقدم بيانه في بحث البراءة فهو غير تام.

4- إنّ البراءة الشرعية مقيدة موضوعاً بغير موارد الأمارات المعتبرة, ومعه لا يمكن الرجوع إلى البراءة في الشبهة قبل الفحص, لا ابتداءً للشكّ في موضوعها؛ لكونه من اشتباه الحجة باللاحجة, ولا يتوسط إجراء أصل طولي موضوعي كاستصحاب عدم الحجة في مورده؛ للعلم الإجمالي بوجود حجج وأمارات معتبرة ضمن الشبهات, وتحصل عليها بعد الفحص, وهذا العلم الإجمالي بوجود الحجج والأمارات بوجوب سقوط الأصول المؤمنة الموضوعية قبل الفحص وبعد الفحص وعدم الظفر بالأمارة في البين يصح التمسك فيه بالبراءة عن الواقع.وهذا الوجه روحه يرجع إلى الوجه الثاني, الذي ذكرنا أنّه مختار السيد الوالد قدس سره .

ص: 92

الإعتراض الثاني: ما ذكره في الكفاية(1) من أنّ الإستدلال بالعلم الإجمالي لا يفي بإثبات المدعى؛ لأنّه ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف بعد الفحص في جملة من الشبهات, فيلزم عدم وجوب الفحص في باقي الشبهات.

وقد حاول المحقق النائيني قدس سره دفعه(2) بأنّ المعلوم بالإجمال ذو علاقة متميزة, فكيف يعقل انحلاله قبل الفحص والظفر بالمقدار المعلوم بما له من العلامة والتمييز؟ نظير أنْ يعلم إجمالاً بدين مردد بين الأقل والأكثر مع العلم بكونه مضبوطاً في الدفتر, فإنّه لا يتوهم أحدٌ جواز الرجوع إلى البراءة في المقدار الزائد على المتيقن قبل الفحص عمّا في الدفتر.

واستشكل عليه:

أولاً: إنّه لا يوجد ميز كذلك؛ فإنّ المعلوم بالإجمال متطابق مع المعلوم بالتفصيل بعد الفحص في جملةٍ من الشبهات.

ثانياً: كفاية ذلك في الإنحلال ولو حكماً.

ولكن الصحيحّ أنّ اعتراض المحقق الخراساني قدس سره غير وارد, فإنّ العلم الإجمالي لم ينحلّ حتى بعد الحصول على المقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف الإلزامية تفصيلاً في موارد الشبهات التي فحصنا عنها؛ لأنّه لا تحتمل خلو كلّ الشبهات الباقية خصوصاً إذا كانت أبواباً فقهية بكاملها عن حكم إلزامي أو رواية معتبرة, ويشهد لذلك أنّنا حتى مع حصول العلم التفصيلي في كثير من التكاليف لكن يبقى الشك غير مستقر قبل الفحص عند العرف.

ص: 93


1- . كفاية الأصول؛ ص375.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص279-280، وأجود التقريرات؛ ج2 ص328-329.

الإعتراض الثالث: إذا وجد في بعض الأطراف أصل غير مسانخ, فهذا العلم الإجمالي لا يُؤثر في إسقاطه عن الحجية؛ لما عرفت في بحوث ملاقي طرف العلم الإجمالي من أنّ الأصل غير المسانخ يبقى سليماً عن المعارضة بعد تعارض الأصول المؤمنة المسانخة وتساقطها, كما إذا شكّ في طهارة شيء بنحو الشبهة الحكمية كانت أصالة البراءة, أو الإباحة في الشبهات أصلاً ترخيصياً مسانخاً, فتتساقط وتجري أصالة الطهارة في هذه الشبهة بلا مُعارض.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ عدم سقوط الأصل غير المسانخ بسبب العلم الإجمالي في موردٍ, لا يوجب رفع اليد عن قاعدة عدم جريان الأصول قبل الفحص؛ لما عرفت من عدم تحقق موضوعه قبل الفحص.والحاصل من جميع ذلك: إنّ المانع عن جريان الأصول قبل الفحص هو العلم الإجمالي, وإنّه هو السبب في جعل الشك الذي هو موضوع الأصل المؤمن غير مستقر كما عرفت, وما ذُكر من الإعتراض غير وارد.

الدليل الثامن: الإستظهار من نفس دليل الحكم الواقعي أنّ الشارع يهتم به في مرحلة الظاهر أيضاً بمقدار موارد العلم به ولو إجمالاً بنحو الشبهة المحصورة, وكذلك موارد ما قبل الفحص؛ فإنّه بحكم العقل وإنْ كان يمكن أنْ لا يهتم المولى بأغراضه الإلزامية بمجرد الشك والتردد, إلا أنّ ذلك خلاف المرتكز عرفاً. وعليه؛ فقد انعقد للخطاب الدال على الحكم الواقعي دلالة إلتزامية عرفية على إبراز الإهتمام وإيجاب الإحتياط اتجاه الواقع بهذا المقدار, وإذا كانت الشبهة قبل الفحص واحتملنا وجود خطاب واقعي لم يجز الرجوع إلى البراءة, لأنّ دليلها ليس بصدد نفي الخطاب الإلزامي الواقعي, بل أنّ دليله ينفي البراءة لا محالة؛ سواء كانت البراءة شرعية أم عقلية. وهذا الإستظهار عرفي, يكون مقيداً لإطلاق البراءة لما قبل الفحص لو كان له هذا الإطلاق, في أيّة شبهة حكمية.

ص: 94

الدليل التاسع: التمسك بأخبار وجوب التعلم كما تقدم في أول البحث.

وقد اعترض عليه المحقق العراقي(1) بوجوهٍ:

الأول: إنّه بالإمكان حملها على موارد العلم الإجمالي بالتكليف, الذي هو الغالب في موارد الشك قبل الفحص.

وفيه: إنّه خلاف إطلاقها, بل خلاف ظهورها في أنّ منشأ التنجز كونه لا يعلم لا كونه يعلم بالتكليف إجمالاً.

الثاني: إنّ هذه الأخبار مسوقة للإرشاد إلى حكم العقل بوجوب الفحص ولزوم الإستناد إلى حجة, فيكون حالها حال حكم العقل في الشبهة قبل الفحص من حيث كونه تعليقياً ومرفوعاً بأدلة البراءة الشرعية لو تمّ إطلاقها.

وفيه: إنّه لو سلمنا أنّ مفادها عدم جواز إهمال الوظيفة العملية عند الشك ولكن هذا الإرشاد من قبل المولى إلى حكم العقل يكون كاشفاً عن عدم جعله للبراءة, فيكون بلحاظ هذا المدلول متعارضاً مع إطلاق أدلة البراءة لا محالة.

الثالث: إنّ هذه الأخبار أخص من المدعي؛ لاختصاصها بما إذا كان التكليف الإلزامي بنحوٍ بحيث لو سئل عنه لوصل إلى المكلف, كما في حق المعاصرين للمعصوم علیه السلام , فلا تتم لمثل زماننا وأحوالنا.

ويرد عليه: إنّ المستفاد من مجموع روايات التعلم أنّها تكون دليلاً على تنجز الواقع قبل الفحص بنفس احتمال التكليف؛ فيجب السؤال والتفحص.

ص: 95


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث ص474-475.

وهذه الأخبار تنقسم إلى طوائفٍ:

الطائفة الأولى: تلك التي تدلّ على أنّ طلب العلم فريضة؛ وهي روايات عديدة منقولة عند الفريقين, ولمعروفيتها بينهم مما يوجب الإطمئنان بصدورها عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم :

منها؛ ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ)(1) وفي روايةٍ عنه عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مسلم؛ أَلَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ)(2).

ومنها؛ ما رُوي عن الإمام الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: (الْعَالِمُ بَيْنَ الْجُهَّالِ كَالْحَيِّ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ وإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ حَتَّى حِيتَانُ الْبَحْرِ وهَوَامُّ الْأَرْضِ وسِبَاعُ الْبَرِّ وأَنْعَامُهُ فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ فَإِنَّهُ السبب بَيْنَكُمْ وبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مسلم)(3).

ومنها؛ ما عن الإمام الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن أمير المؤمنين علیه السلام قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم يَقُول: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مسلم، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ فِي مَظَانِّهِ، واقْتَبِسُوهُ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنْ تَعَلُّمِهِ لِلَّهِ حَسَنَةً، وطَلَبِهِ عِبَادَةِ، والْمُذَاكَرَةِ فِيهِ تَسْبِيحٌ، والْعَمَلُ بِهِ جِهَادِ، وتَعْلِيمُهُ مِنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةَ، وبَذَلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ إلى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ مَعَالِمَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ، ومَنَارُ سُبُلِ الْجَنَّةِ، والمؤنس فِي الْوَحْشَةِ، والصَّاحِبِ فِي الْغُرْبَةِ والْوَحْدَةِ، والْمُحْدِثُ فِي الْخَلْوَةِ، والدليل فِي السراءِ والضَّرَّاءِ، والسِّلَاحَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، والزَّيْنَ عِنْدَ الأخلاء؛ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً فَيَجْعَلُهُمُ فِي الْخَيْرِ قَادَةَ، تقتبس آثَارِهِمْ، ويُهْتَدَى بفعالهم، ويُنْتَهَى إلى آرَائِهِمْ،

ص: 96


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص30.
2- . المصدر السابق.
3- . الأمالي (للمفيد)؛ ص29.

تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خلتهم، وبِأَجْنِحَتِهَا تمسهم، وفِي صَلَاتِهَا تَبَارَكَ عَلَيْهِمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلِّ رَطْبٍ ويَابِسٍ حَتَّى حِيتَانُ الْبَحْرِ وهَوَامُّهُ، وسِبَاعِ الْبِرِّ وأنعامه.

إِنْ الْعِلْمِ حَيَاةِ الْقُلُوبِ مِنْ الْجَهْلِ، وضِيَاءُ الْأَبْصَارُ مِنْ الظلمةِ، وقوة الْأَبْدَانِ مِنْ الضعف، يَبْلُغَ بِالْعَبْدِ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ، ومَجَالِسِ الْأَبْرَارِ، والدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدنيا والْآخِرَةِ، الذَّكَرِ فِيهِ يَعْدِلُ بِالصيام، ومدارسته بِالْقِيَامِ، بِهِ يُطَاعُ الرَّبِّ ويُعْبَد، وبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامِ، ويَعْرِفُ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، الْعِلْمِ إِمَامٍ الْعَمَلِ والْعَمَلِ تَابَعَهُ، يلهم بِهِ السُّعَدَاءَ ويُحَرِّمْهُ الْأَشْقِيَاءِ، فَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهِ مِنْهُ حَظُّهُ)(1).

ولا إشكال في دلالة هذه الطائفة على لزوم طلب العلم مطلقاً, والمراد به مطلق المعرفة الإسلامية وثقافتها الراجعة إلى العقائد والطاعات من دون اختصاصبالأحكام, فضلاً عن الأحكام اللزومية الواقعية في محل الإبتلاء, نعم؛ في الأخير يكون آكد ولزومه أشد, كما أنّ المراد من العلم مطلق الإنكشاف, سواءً كان عن التقليد والسؤال عن الفتوى, وكل ما له دخل في توسيع معرفة الإنسان لدينه وما يوجب ارتباطه بخالقه, أي بمعنى المعرفة البسيطة, أم العلم بمعنى الإنكشاف الذي هو المصطلح عليه اجتماعياً منذ عصر الأئمة علیهم السلام ؛ فإنّ العلم يطلق على مرتبة مخصوصة ومعمقة من المعرفة, فكلّ أقسام العلم وأنواعه ومراتبه داخلة في مضمون هذه الطائفة, وهي وإنْ دلّت على الوجوب العيني التعييني, إلا أنّ ما دلّ على سقوطه بقيام من به الكفاية في كلّ زمانٍ يحتمل القسم الأخير من أنواع العلم, وهو المعرفة الخاصة المتميّزة على نحو الوجوب الكفائي, ولكن لا يوجب سقوط دلالة هذه الطائفة على الوجوب مطلقاً في بقية أقسام المعرفة, فعلى الجاهل تعلّم أحكامه الشرعية ولو عن طريق التقليد وغيره على المعرفة الخاصة إنْ وجدت فيه

ص: 97


1- . الأمالي (للطوسي)؛ ص487-488.

الشروط المطلوبة, وهي تدلّ على الوجوب مطلقاً, فهو في حق كل مسلم يحتمل التكليف, فلا يحق الرجوع إلى الأصول المؤمنة حتى يتحقق الفحص بالسؤال في العامي وفي الأدلة في العالم, وبه يتم المطلوب.

الطائفة الثانية: وهي التي تأمر بالتفقه في الدين, كرواية عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقول: (تَفَقَّهُوا فِي الدين, فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ مِنْكُمْ فِي الدين فَهُوَ أَعْرَابِيٌ؛ إِنَّ اللَّهَ يَقول فِي كِتَابِهِ: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(1))(2).

وحديث عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقول: (عَلَيْكُمْ بِالتفقه فِي دِينِ اللَّهِ ولَا تَكُونُوا أَعْرَاباً(3)؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِ اللَّهِ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ(4), ولَمْ يُزَكِّ لَهُ عَمَلًا)(5).

ولسان هذه الطائفة لسان الطائفة السابقة؛ في أنّ كلّ مسلم يلزمه التفقه في الدين؛ سواءً كان عن تقليد أم اجتهاد فلا يحقّ له الرجوع إلى الأصل, فهي تدلّ على منجزية الإحتمال مطلقاً حتى يتحقق العلم بالتكليف, وإلا كان أعرابياً متخلفاً عن الهجرة إلى الإسلام.

الطائفة الثالثة: ما ورد فيها الأمر بالسؤال عن الأئمة علیهم السلام والرجوع إليهم؛ لأنّهم أهل الذّكر, كما ورد في تفسير قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(6)؛ نحن أهل

ص: 98


1- . سورة التوبة؛ الآية 122.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص31.
3- . أي: لا تكونوا كالأعراب؛ جاهلين بالدين، غافلين عن أحكامه، معرضين عن تعلمها.
4- . كناية عن سخطه وغضبه عليه, وعدم الإعتداد به وسلب رحمته وفيضه وإحسانه وإكرامه عنه، وحرمانه عن مقام القرب.
5- . المصدر السابق.
6- . سورة الأنبياء؛ الآية 7.

الذّكر فتجب عليكم المسألة, وهي تامة من حيث الدلالة, لكن يأتي فيها اعتراض المحقق العراقي إختصاصها بالسؤال عن الإمام الذي يحصل العلم بالسؤال منه, ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ تفسير الإمام يكون من باب الجري والتطبيق فيشمل العلماء, وإنَّ من أظهر مصاديقهم وأكملها الأئمة الهداة علیهم السلام , فيشمل علماء الحق الذين إنْ سئل منهم أورث الإطمئنان بالحقّ؛ لأنّهم بالأخرة يرجعون إلى الروايات المنقولة عن الأئمة علیهم السلام , هذا إذا لم نقل بأنّ هذه الروايات منصرفة إلى ردّ العامة, ونفي مرجعية المصادر الأخرى للعلم غير أهل البيت علیهم السلام , وإلا تكون أجنبية عن المقام.

الطائفة الرابعة: ما يدلّ على استحقاق من خالف الواقع العقاب؛ من جهة عدم السؤال, كمعتبرة مَسْعَدَةَ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ علیه السلام وقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)(1)؛ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقول لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَبْدِي؛ أَ كُنْتَ عَالِماً؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ قَالَ لَهُ: أَ فَلَا عَمِلْتَ بِمَا عَلِمْتَ؟ وإِنْ قَالَ كُنْتُ جَاهِلًا قَالَ لَهُ: أَ فَلَا تَعَلَّمْتَ حَتَّى تَعْمَلَ؛ فَيَخْصِمُهُ؛ وذَلِكَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)(2). وقريب منها غيرها.

وهذه الطائفة لا إشكال في دلالتها على المطلوب؛ لأنّها ناظرة إلى منجزية الإحتمال وحجيته قبل الفحص والسؤال, وهي مطلقة من حيث العلم بانكشاف الواقع على تقدير السؤال وعدمه.

ومن جميع ذلك يظهر صحة الإستدلال بالأخبار على وجوب الفحص في الشبهات الحكمية.

الدليل العاشر(3): ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (4)؛ وهو التمسك بأخبار وجوب الإحتياط والتوقف بعد الجمع بينهما وبين أخبار البراءة, حيث تُحمل على الشبهة قبل الفحص

ص: 99


1- . سورة الأنعام؛ الآية 149.
2- . الأمالي (للمفيد)؛ ص227-228.
3- . ممّا استدلّ به على وجوب الفحص.
4- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص309، مصباح الأصول؛ ج2 ص494.

لكونها المتيقن منها, بل جملة منها واردة في ذلك فتكون كالنص بالنسبة إلى أخبار البراءة, فيقيد إطلاقها فتخرج منها حالات الشبهة الحكمية قبل الفحص, فتتقلب النسبة بين أخبار البراءة وبين أخبار الإحتياط إلى العموم المطلق.

ويرد عليه:

أولاً: ما تقدم من عدم تمامية دلالة أخبار الإحتياط على إيجابه, كما عرفت التفصيل.ثانياً: عدم تمامية نظرية انقلاب النسبة التي وردت في كلمات المحقق النائيني كثيراً, وبعض تلامذته, كما سيأتي في بحث التعارض إنْ شاء الله تعالى.

ثالثاً: على فرض التنزل فإنّه لا بُدّ من تقديم أخبار التوقف على فرض تمامية سندها ودلالتها على أخبار البراءة؛ لأنّ تلك الأخبار أخصّ من الأخيرة, فإنَّ أخبار البراءة تشمل حتى الشبهات الموضوعية, بخلاف أخبار الإحتياط فتتقدم على أخبار البراءة بالأخصية حتى في الشبهات بعد الفحص.

والحاصل من كلّ ما ذكرناه ثبوت هذه القاعدة الأصولية؛ وهي عدم جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص في الشبهات الحكمية.

الجهة الثانية في الشبهات الموضوعية

الجهة الثانية(1): في الشبهات الموضوعية

والمعروف عدم وجوب الفحص فيها, فيصح الرجوع إلى البراءة فيها مطلقاً؛ لأدلةٍ خاصة يأتي بيانها إنْ شاء الله تعالى.

وفصّل السيد الصدر قدس سره (2) بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية بناءً على مبناه من إنكارها إلا كقاعدة عقلائية مرتكزة بالنسبة إلى الموالي العرفية دون المولى الحقيقي؛ فإنّ

ص: 100


1- . من جهات الشرط الأول؛ وجوب الفحص عن الحجة على التكليف الإلزامي.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص415.

حقّ الطاعة بالنسبة إليه أسبق من البراءة العقلية, وذكر أنّه بناءً على هذه القاعدة العقلائية الإرتكازية فإنّها تختص بما بعد الفحص ولا تشمل ما قبله حتى بلحاظ الشبهة الموضوعية في الجملة؛ فإنّ مرتبة من الفحص لازم فيها, بحيث لا يصدق عليه أنّه تهربٌ عن الحكم وإهمالٌ له, وأمّا البراءة الشرعية؛ فإنّ إطلاق أدلتها تشمل الشبهات الموضوعية قبل الفحص, ولم يقم دليل على سقوطها في المقام إلا الوجه الأول والثاني من الوجوه السابقة, التي تدلّ على عدم الرجوع إلى البراءة في الشبهات الموضوعية قبل الفحص كالحكمية, وأمّا سائر الوجوه فإنّها تختص بالشبهات الحكمية.

وكيف كان؛ فقد استدل على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية بما يلي:

أولاً: الإجماع.

ويرد عليه بعدم تحققه؛ لذهاب جمع إلى وجوبه في جملة من موارد الشبهات الموضوعية.

ثانياً: إنّ بيانها ليس من عهدة الشارع حتى يتفحص عنها في الأدلة.

وفيه: إنّه لا يعتبر في الفحص أنْ يكون في الأدلة مطلقاُ, وإنّما يختص ذلك بخصوص الأصول الحكمية, وأمّا غيرها فإنّ الفحص فيه يكون فيما إذا كان في تركه لمعرضية العرفية للوقوع في خلاف الواقع, إلا في مسألة الطهارة والنجاسةوغيرها ممّا عُلم من مذاق الشرع التسهيل والمسامحة فيها؛ فإنّه لا وجه للفحص فيها.

ثالثاً: الإستدلال بروايات خاصة في بعض أبواب الفقه تدلّ على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية, فمنها؛ صحيحة زرارة الواردة في الإستصحاب ..... فَهَلْ عَلَيَّ إِنْ شَكَكْتُ فِي أَنَّهُ أَصَابَهُ شَيْ ءٌ أَنْ أَنْظُرَ فِيهِ؟ قَالَ علیه السلام : (لَا, ولكنكَ إنَّما تُرِيدُ أَنْ تُذْهِبَ الشَّكَ الذي وَقَعَ فِي نَفْسِكَ)(1)؛ فإنّها تدلّ على عدم وجوب الفحص.

ص: 101


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج3 ص466.

ومنها؛ ماورد في باب الطهارة والنجاسة عن أمير المؤمنين علیه السلام يقول: (مَا أُبَالِي أَ بَوْلٌ أَصَابَنِي أَوْ مَاءٌ إذا لَمْ أَعْلَمْ)(1).

ومنها؛ الروايات التي وردت في موارد الشك في تذكّية ما يُؤخذ من سوق المسلمين, أو كونها ميتة أو فيه الميتة, وهي صريحة في عدم لزوم الفحص والسؤال, ففي بعضها: (لَيْسَ عَلَيْكُمُ الْمَسْأَلَةُ), وفي بعضها الآخر إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام كَانَ يَقول: (إِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِجَهَالَتِهِمْ؛ إِنَّ الدِّينَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ)(2).

وهذه الرواية تدلّ على عدم لزوم الفحص والسؤال ممّا لم يُعلم أنّه ميتة؛ فهو حلال طاهر.

والحقّ؛ إنّ الموارد المذكورة التي وردت فيها ما يدلّ على عدم لزوم التصدي للفحص, قد عُلم من مذاق الشارع التسهيل, كما في موارد الطهارة والنجاسة وسوق المسلمين, وفي غيرها لا بُدّ من دليل خاص يدلّ على عدم لزوم الفحص, مع أنّه قد ذكرنا أنّ إطلاق دليل البراءة لا يشمل ما قبل الفحص؛ للوجه الأول والثاني ممّا ذكرنا في الشبهة الحكمية, فحينئذٍ نقول أنّ المرتكز العقلائي يقتضي لزوم التصدي للفحص؛ فيما إذا استلزم من تركه إهمال الحكم الشرعي والتهرب منه أو الوقوع في خلاف الواقع إذا كان فيه المعرضية كذلك.

ويدلّ على ذلك ما ورد في بعض موارد الفقه من لزوم الفحصِ, كما ورد في الزكاة وغيرها, وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات؛ فراجع.

الجهة الثالثة: في مقدار الفحص اللازم في الشبهتين

من المعلوم أنّه في الشبهات الحكمية حتى يحصل اليأس المتعارف عن الظفر بالدليل, وفي الشبهات الموضوعية حتى تخرج الشبهة عن المعرضيّة للوقوع في خلاف الواقع, أو يخرج

ص: 102


1- . المصدر السابق؛ ص467.
2- . المصدر السابق؛ ص491.

عن عنوان الإهمال والتهرب عليه, وقد أطال الكلامالسيد الصدر قدس سره ؛ حيث جعل المناط في تحديد الفحص بالرجوع إلى الوجوه المتقدمة في إثبات وجوب الفحص.

والحقّ إنّه تطويل لا طائل تحته؛ فإنّ الأمر متروك إلى الطريقة المتعارفة عند أهل الخبرة في هذا الفن في الشبهات الحكمية والموضوعية, فإذا تمكن المكلف نفسه بالرجوع إلى الأخبار سنداً ودلالةً والبحث فيها والإستقصاء حتى يحصل له الإطمئنان بالعدم من جهة وجود مدركٍ للحكم من رواية وغيرها, ومن حيث الدلالة والظهور, ولو كان بالتوسل بالأعلم لتتمة الإستظهار فلا بأس به؛ لأنّه من الطرق المتعارفة في هذا السبيل, وإنْ كان مقلداً فيرجع إلى من يُقلده في الأحكام, وإلى أهل الخبرة في الموضوعات.

الجهة الرابعة: عدم جريان البراءة وسائر الأصول العملية في الشبهات الحكمية قبل الفحص

وهي أصالة التخيير والطهارة والإستصحاب الترخيصي؛ أمّا أصالة التخيير في موارد الدوران فلإنّه حكم عقلي ولا يحكم به إلا بعد الفحص؛ لأنّ ملاك حكمه هو العجز وعدم القدرة على الإمتثال القطعي, فلا يجري قبل الفحص لإحتمال القدرة على الإمتثال الواقعي فيكون منجزاً.

وهذا البيان لا يختص بالدوران بين المحذورين في الشبهة الحكمية, بل يجري في الشبهة الموضوعية أيضاً, والتفصيل السابق فيها يجري أيضاً.

أمّا أصالة الطهارة والإستصحاب الترخيصي في الشبهات الحكمية؛ فإنّ الوجه الأول من الوجوه العشرة التي سبق ذكرها في عدم جريان البراءة قبل الفحص يجري فيها أيضاً, لأنّ موضوع الأصول المؤمنة مقيد بالشكّ المستقر, ولا إستقرار قبل الفحص, كذلك الوجه الثالث؛ فإنّ البيان يشمل موارد وجوده قبل الفحص, فتقع المعارضة بين عقد المستثنى في الآية وإطلاق أدلة هذه الأصول كما عرفت سابقاً.

ص: 103

كذلك يجري الوجه الرابع؛ وهو: إحتمال القرينة المتصلة اللبية بلحاظ ظهور حال المعصومين علیهم السلام في شدّة إهتمامهم بإيصال الأحكام إلى المكلفين, فإنّه لا مانع من جريانه في هذه الأصول أيضاً.

وكذلك الوجوه الأخرى؛ فإنّها كما تجري في أصالة البراءة تجري في الأصول الترخيصية أيضاً. وأمّا الأخبار فهي لقوة ظهورها تأبى عن التخصيص بالبراءة, فهي تدلّ على عدم معذرية الجهل الناشئ عن عدم السؤال, وهو لا يُفرق فيه بين البراءة وقاعدة الطهارة, وكذلك الإستصحاب الترخيصي؛ فهو وإنْ كان لسانه جعل الطريقية, ولكنه لا يحقّق صغرى العنوان الوارد في هذه الأخبار, وهو عدم معذرية الجهل الناشئ عن عدم السؤال.

الجهة الخامسة: في استحقاق العقوبة

لا إشكال في استحقاق العقوبة إذا ترك الفحص وإقتحم الشبهة, وتورط في مخالفة الواقع, ولكن وقع الكلام في أنّ العقاب على مخالفةِ الواقع أو على ترك التفحص الواجب أو على المجموع المركب منهما؟.

ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) أنّ العقاب لا يمكن أنْ يكون على الواقع؛ لكونه غير مُبيّن فيقبح العقاب عليه, ومجرد الأمر بالفحص والسؤال لا يجعل غير المبين مبيناً, كما لا يمكن العقاب على مخالفة الأمر بالفحص والتعلم بما هي؛ لأنّه أمر طريقي, كما هو ظاهر جميع الأوامر المتعلقة بعناوين لها الدخل في التوصل إلى امتثال التكليف, فإنّها تكون طريقية من أجلِ التحفظ على الملاكات الواقعية, فلا تكون بملاكات نفسية مستقلة عن الواقع, فلا يُعاقب على تركها بما هي هي, وإنّما العقاب على المجموع المركب من مخالفته ومخالفة الواقع, أي على ترك التعلم والإحتياط المؤدي إلى ترك الواقع, فيكون تركاً خاصاً

ص: 104


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص331-333، فوائد الأصول؛ ج4 ص101.

بما هو منظور إليه بعين الخطاب الطريقي أنّه تركٌ للحكم الواصل, فلا يكون العقاب عليه بلا بيان, وبما هو منظور إليه بعين الخطاب النفسي يكون نفسياً؛ فلا يردُ عليه إشكال عدم العقاب على مخالفة الخطابات الطريقية.

ويرد عليه بأنّه منافٍ لمبناه في إيجاب الفحص للعلم الإجمالي بوجود تكاليف في الجملة فيما بأيدينا من الكتب, وقد إدّعى عدم إنحلال هذا العلم الإجمالي إلا بالفحص عنها جميعاً, فلو فُرض جريان البراءة العقلية في الشبهة البدوية قبل الفحص, فكيف يقال بها في موارد العلم الإجمالي؟ والصحيح؛ إنّ المكلف يعاقب على أنّه عاصٍ لمخالفته تكليفاً نفسياً للمولى إذا صادف مخالفة الواقع, وعقابه على تجريه إذا لم يُصادف بناءً على ثبوته فيه.

الجهة السادسة: في ثبوت العقوبة على الواقع والظفر به أو مطلقاً

بعدما عرفت من ثبوت العقاب على المخالفة قبل الفحص بلحاظ الواقع يقع البحث في أنّه هل يثبت العقوبة على الواقع في خصوصه وما إذا فُرض وجود أمارة على طبقه, بحيث لو فحص لظفر بها, أو أنّها تثبت عليه مطلقاً؛ أمارة كانت أم لا؟.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى التفصيل؛ بين ما إذا كان الوجه في تنجيز الواقع ووجوب الفحص للعلم الإجمالي بالتكاليف, فالعقوبة ثابتة على الواقع مطلقاً؛ سواء كانت أمارة في البين أم لم تكن, وبين ما إذا كان الوجه في تنجيز الواقع أدلة وجوب التعلم والفحص شرعاً لحكم طريقي, فهذا ينجز الواقع بتوسطالأمارة, لأنّه يدلّ على لزوم الفحص عن الأمارة, والإحتياط يكون بلحاظها, فلو لم تكن أمارة في البين فالحكم الطريقي بالفحص لم يصادف واقعه.

ص: 105


1- . المصدر السابق.

وتفصيل ما ذكره قدس سره ؛ إنّ القول بتنجيز الواقع تارةً يكون بملاك العلم الإجمالي, وأخرى بملاك حكم العقل بمنجزية الإحتمال قبل الفحص, وثالثةً بملاك الحكم الشرعي الطريقي بوجوب الإحتياط والتفحص.

أمّا على الفرض الأولى؛ فإنّه يتعين على مبنى المحقق النائيني قدس سره إنكار العقاب على الواقع لو لم تكن أمارة في البين, لأنّ المفروض عنده انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم في ضمن ما بأيدينا من الأمارات, فاحتمال ثبوت الواقع في نفسه ليس بمنجز بعد انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير, واحتمال ثبوت الواقع الذي دلت عليه الأمارة غير مطابق للواقع بحسب الفرض, فلا ملاك للعقاب حينئذٍ إلا على ملاك التجري عند القائلين به, والمحقق النائيني قدس سره لا يقول به.

وأمّا على الفرض الثاني؛ فعلى فرض قبوله فإنّه يعني تمامية البيان قبل الفحص؛ فإمّا أنْ يريد من البيان منجزية الإحتمال وثبوت حقّ الطاعة للمولى قبل الفحص, فالعقاب يكون مطلقاً أيضاً.

وإنْ أريد من البيان الأمارة التي تكون في معرض الوصول, بحيث يكون عدم جريان هذه القاعدة من باب الشبهة المصداقية له كان العقاب منوطاً بوجود الأمارة في معرض الوصول فلا يُعاقب عقاب معصية على تقدير عدم وجودها, وأمّا عقاب التجري فالمحقق النائيني لا يقول به, مع أنّه على فرض القول به فلا بُدّ أنْ يكون ملاكه كون عمله ظلماً, باعتبار أنّ العبد عليه أنْ لا يرتكب ما يحتمل كونه ظلماً للمولى, وهذا حقٌّ له على عبده, وهذا الملاك غير ملاك عقاب التجري المعروف الذي يشترك مع العصيان فيه, وهو البيان الواصل, ويمكن القول بأنّ الملاك في العقاب مطلقاً هو ظلم العبد على المولى, وترك حقه الذي يكون على درجاتٍ ومراتبٍ.

ص: 106

ولكن كلّ ذلك مبني على ثبوت هذه القاعدة, وهي حكم العقل بمنجزية الإحتمال قبل الفحص, وأمّا إذا أنكرناها -كما ذهب إليه السيد الصدر قدس سره - فالحكم يكون واضحاً, لأنّ العقاب يكون مطلقاً؛ لثبوت حقّ الطاعة في موارد إحتمال التكليف.

وأمّا على الفرض الثالث؛ فإنّه إذا قلنا بأنَّ إيجاب الإحتياط والفحص تنجيز للواقع إبتداءً فالعقاب ثابت على مخالفته مطلقاً, وأمّا إذا قلنا أنّه تنجيز للأمارات الموجودة في معرض الوصول فالعقاب يثبت في خصوص فرض وجود الأمارات كذلك, لكن لا وجه لهذا التفصيل؛ لأنّ الأحكام الظاهرية كلّها تنجزالواقع وتكون بملاكه لكونها من أجل حفظ الواقع, فتكون العقوبة ثابتة على الواقع, وسيأتي تتمة البحث إنْ شاء الله تعالى.

الجهة السابعة: موارد تنجز الواقع قبل الفحص.

ذكر الأصوليون موارد قد يخفى فيها تنجز الواقع قبل الفحص, نذكر منها:

1- ما إذا كان المكلف غافلاً رأساً عن إحتمال وجود التكليف في المورد, مع كونه ملتفتاً إجمالاً إلى وجود تكاليف في الشريعة فيترك الفحص, فإنّه قد يتوهم عدم التنجيز للتكليف الذي هو غافلٌ عنه فعلاً, لاشتراط الوصول ولو كان احتمالياً في تنجز التكليف.

ولكن الصحيح هو كفاية الإلتفات الإجمالي لتنجيز التكاليف من ناحية العلم والفحص, وتجري الوجوه السابقة في المقام أيضاً, فيكفي الإلتفات الإجمالي ثبوتاً وإثباتاً.

2- ما إذا كان في الوقت متسع فترك الفحص في أول الوقت, وحصلت له الغفلة في آخره, فقد يتوهم أنّه لا عقاب لجواز التأخير له في أول الوقت وارتفاع شرط التكليف في آخره.

ص: 107

والصحيح أنْ يقال: إنّه إذا كان جازماً في أول الوقت في أنّه لو أخره لن يغفل عنه في آخر الوقت فإنّه لن يتنجزعليه لو غفل وكذلك لو كان غافلاً عنه طول الوقت. وأمّا إذا لم يكن كذلك؛ فالتنجيز ثابت, إذ يكفي احتمال التفويت بالتأخير وترك التعلم في التنجيز ثبوتاً وإثباتاً.

3- ما إذا كان الواجب مضيقاً ولم يمكنه التعلم في الوقت؛ فإنّه ربّما يتوهم عدم التنجز, لا قبل الوقت لعدم الوجوب, ولا داخل الوقت لعدم التمكن من التعلم, إذا فرضنا توقّف الإمتثال على التعلم, لا ما إذا توقّف على الموافقة القطعية؛ فإنّه حينئذٍ يجب عليه الإحتياط عقلاً لثبوت التكليف في الوقت واقعاً, فيجب التعلم قبل الوقت لتحصيل الفراغ اليقيني, فالإشكال يتحقق فيما إذا توقّف الإمتثال على التعلم, كما في مثل العبادات فقد يقال إنّه داخل ضمن المقدمات المفوتة, وكيفية وجوبها عقلاً قبل وقت الواجب.

وقد أُجيب عن هذا الإشكال بوجهين:

الوجه الأول: ما احتمله المحقق الخراساني قدس سره (1)؛ من إرجاع الواجبات المشروطة جميعاً إلى واجبات معلقة, يكون الوجوب فيها فعلياً, والواجب إستقبالياً, فتجب من أول زمان البلوغ مع التعليق في الفعل المتعلق به؛ وذلك تبريراً لإيجاب تعلّم أحكامها من أول البلوغ, وقد تقدم الكلام في صحة الواجب المعلق في بحوث الواجب المطلق والمشروط.وأشكل عليه المحقق العراقي قدس سره (2) بأنّ لازم القول بوجوب الواجبات من أول البلوغ الإلتزام بالترتب, فإنّ صوم شهر رمضان مثلاً واجب من أول البلوغ, وقضاؤه على تقدير

ص: 108


1- . كفاية الأصول؛ ص377.
2- . مقالات الاصول؛ ج2 ص110.

تركه واجب كذلك, مع أنّ قضاؤه والتكفير عن تركه يستحيل أنْ يجتمع مع صوم شهر رمضان؛ فإنّ الأمر بالمتقابلين من الأمر بالضدين.

ويرد عليه: إنَّ الواجب إنْ كان ذات الصوم بعد شهر رمضان أو الكفارة على من أفطر في شهر رمضان فهذا ليس مضاداً مع صوم شهر رمضان, نعم؛ لا يقعان معاً على صفة الوجوب, وهذا ليس من باب التزاحم.

وإنْ كان الوجوب عنوان التدارك الذي لا يجتمع مع وقوع صوم شهر رمضان, فالتضاد يكون بين متعلقي الوجوبين, إلا أنّ الأمر بالتدارك مشروط بترك الصوم في الزمان الأول, والأمر بشيء لا يقتضي ترشح الوجوب الغيري نحو مقدمات وجوبه, وهذا الوجوب وإنْ كان فعلياً من أول البلوغ بنحو الواجب المعلق إلا أنّه لا بُدّ أنْ يفرض أنّه من ناحية هذا الشرط لا اقتضاء له ولا فاعلية, فلا مضادة بين فاعلية الأمرين في زمان واحد الذي هو المحذور عند صاحب الكفاية فيرتفع الإشكال.

لكن الكلام في كيفية إثبات أنّ الواجبات كلّها من الواجب المعلق تبريراً لوجوب تعلمها من أول الأمر, مع أنّ ظاهر أدلتها أنّ القيود ترجع إلى مدلول الهيئة والوجوب, لا أنْ ترجع إلى المادة حتى تكون بنحو الواجب المعلق, نعم يتوقف انحصار وجه إيجاب الواجبات التي لا يمكن إثباتها حين إيجابها إلا بالتعلم قبل وقتها في كونها بنحو الواجب المعلق على ضمّ دلالة أخبار التعلم على تنجزها, والعقاب على تركها الناشئ من ترك التعلم ولو قبل الوقت الذي أوجب العجز عنه.

الوجه الثاني: إنّ المقدمات المفوتة يمكن أنْ تكون واجبة قبل وقت إيجاب الفعل؛ إمّا بدعوى فعلية ملاك الواجب, وكون القدرة غير دخيلة فيه, فيحكم العقل بقبح تفويته ولو من جهة ترك مقدماته المفوتة قبل الوقت إذا أمكن تحصيله للمولى.

ص: 109

وإمّا بدعوى أنّ وجوب التعلم وجوب نفسي للتهيؤ والإستعداد, وهو يرجع إلى فعلية ملاك الواجب وعدم دخل القدرة فيه.

ولكن قد يقال بأنّ استفادة فعلية الملاك لا يمكن من الخطابات الأولية, لفرض سقوط دلالتها الإلتزامية على الملاك في موارد العجز بعد سقوط دلالتها المطابقية, أو من جهة فرض عدم تمامية مبنى إطلاق المادة بلحاظ محمولها الثاني.وكِلا الفرضين مورد الخلاف؛ فالفرض الأول يخالفه المحقق العراقي قدس سره , والثاني يُخالفه المحقق النائيني قدس سره . وحقّ الكلام في كلّ ذلك سيأتي في بحث مستقل في وجوب التعلم عن قريب إنْ شاء الله تعالى.

وهناك بعض الموارد التي قد يختفي فيها تنجز الواقع قبل الفحص؛ منها؛ ما إذا كان المكلف غافلاً رأساً عن احتمال وجود تكليف في المورد مع كونه ملتفتاً إجمالاً إلى وجود تكاليف في الشريعة فيترك الفحص، فقد يتصور عدم التنجيز للتكليف الذي هو غافل عنه فعلاً لاشتراط الوصول؛ ولو باحتمال في تنجّز التكليف.

والصحيح؛ كفاية الإلتفات الإجمالي لتنجّز التكاليف من ناحية الفحص والتعلم ثبوتاً، كما أنّ كافة الوجوه المتقدمة للتنجيز إثباتاً جارية في المقام مع الإلتفات الإجمالي.

ومنها؛ ما إذا كان في الوقت متسع؛ فترك الفحص في أول الوقت وحصلت له الغفلة في آخره، فقد يتصور أنه لا عقاب لجواز التأخير له في أول الوقت وارتفاع شرط التكليف في آخره, وقد تقدم بيان ذلك.

والصحيح؛ ثبوته أيضاً إذا لم يكن جازماً في أول الوقت بأنه سوف لن يغفل في آخره أو غافلاً عنه؛ إذ يكفي احتمال التفويت بالتأخير وترك التعلّم في التنجّز ثبوتاً وإثباتاً.

ص: 110

ومنها؛ ما إذا كان الواجب مضيقاً ولم يمكن التعلم في الوقت، فيقال بعدم التنجّز لا قبل الوقت لعدم الوجوب، ولا داخل الوقت؛ لعدم التمكن من التعلّم، مع فرض توقف القدرة على الإمتثال على التعلّم لا توقف الموافقة القطعية عليه؛ إذ على الثاني تثبت فعلية التكليف في الوقت واقعاً، وهو يوجب الإحتياط عقلاً ولو بتعلّمه قبل الوقت لتحصيل الفراغ اليقيني، فالإشكال له صورة فنية في مورد توقف الإمتثال عقلاً على التعلّم كما في مثل العبادات.

ومنها؛ موارد الحكم بصحة الصلاة تماماً أو إخفاتاً في مورد القصر والجهر, ممّا يستفاد منه صحة عمل الجاهل رغم كونه عاصياً في ارتكاب المخالفة إنْ كان مقصّراً في ترك التعلم على ما هو المشهور؛ فإنّه يقع الإشكال من ناحية كيفية الجمع بين صحة ما أتى به, وبين ترتب العقوبة على ترك الصلاة الأخرى.

وقد حاول المحققون الجواب عن هذه الموارد بوجوه، وقبل بيانها لا بُدّ أنْ نذكر ما يتعلق بوجوب التعلم وبعض خصوصياته, وإنْ كنا قد ذكرنا في مطاوي بحوثنا ما يرشد إلى ذلك.

الجهة الثامنة: في وجوب التعلم وما يتعلق به

وبيانه يتحقق في ضمن أمورٍ:الأمر الأول: ذكرنا أنّه يجب التعلم, وقد أُستدل عليه ببعض الأمور؛ منها؛ قاعدة دفع الضرر المحتمل في تركه, مضافاً إلى الأخبار التي تقدم بعضاً منها, ثم ذكرنا إنّه وقع الخلاف في أنّ وجوبه نفسي أو مقدمي أو طريقي محض.

وقلنا: إنّه لا سبيل إلى الأول؛ لعدم ثبوت الملاك في وجوبه في مقابل الواقع, ولا دليل على قبول مثل هذا الملاك على فرض ثبوته, بل مقتضى تسالم الجميع على أنّه طريق إلى الواقع,

ص: 111

وأنّه مطلوب لأجل العمل, وإنْ استدل للنفسية باعتبار التّهيؤ والإستعداد, وهو لم يثبت كونه ملاكاً له.

كما أنّه لا دليل على كونه مقدمياً؛ فإنّه إمّا أنْ تكون مقدمة الوجود وشرط الصحة, وهو خلاف ما ثبت من صحة عمل الجاهل مطلقاً إنْ طابق الواقع.

وإمّا أنْ يكون شرط الوجوب؛ وهو خلاف ما تسالموا عليه من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل مطلقاً؛ فيتعين الأخير فيكون وجوب التعلم طريقياً محضاً, وحينئذٍ لا بُدّ من حمل ما يستفاد منه كونه مقدمياً على الطريقية المحضة, أو كون المقدمية حكمة الإيجاب, لا أنْ يكون قيداً في الوجوب.

ولعلّ من ذهب إلى أنّ وجوب التعلم نفسي إنَّما اختاره لدفع الشبهة التي وردت في المقام, التي سيأتي الجواب عنها إنْ شاء الله تعالى. فيكون وجوب التعلم نظير وجوب الإحتياط الذي لا وجه لاحتمال النفسية والمقدمية فيه.

الأمر الثاني: قد عرفت إنّ ملاك وجوب التعلم هو التحفّظ على الواقعيات والإهتمام بها, وإمكان الوصول إليها, ويمكن القول بأنّ هذا من قبيل اللوازم الذاتية للتعلم لا يتغير ولا يتبدل بعد تنجز الواقع أو قبله.

ومن أجل ذلك قلنا بأنّه لو لم يدخل وقت التكليف, وعلم المكلف بأنّه لو ترك التعلم قبل الوقت لفات عنه التكليف بعده, فإنّ العقل والعقلاء يحكمون بوجوب التعلم قبل الوقت, بعين الملاك الذي يحكمون بالوجوب بعده, ويعتبر ذلك من الوجدانيّات لكلّ من رجع إلى وجدانه, بل في مراجعة العرف والوجدان غنىً وكفاية عن إقامة البرهان.

ومن ذلك يظهر إندفاع الإشكال المعروف الذي استصعبه القوم وأُطيل الكلام في دفعه؛ وهو أنّه لو ترك المكلف التعلم قبل الوقت ففات عنه التكليف في وقته فإنّه لا وجه لعقابه

ص: 112

لأنّه إنْ كان على ترك نفس التكليف في وقته فإنّه يكون من العقاب على غير المقدور لأنَّ القدرة على الشيء متوقّفة على التعلم به, وإنْ كان على ترك التعلم فلا وجه للعقاب عليه؛ لأنّ وجوبه ليس بنفسي, وهو لا بُدّ أنْ يكون على ترك الواجب النفسي, فإنّه يندفع الإشكال بأنَّ العقاب على ترك الواجب النفسي المنتهي بالآخرة إلى الإختيار, وهو ترك التعلم فإنّه يصدق عرفاً إنّه ترك الواجب بعمده وإختياره فيصح عقابه عليه, فلا حاجة إلى القول بالوجوب النفسي للتعلم أو القول بالواجب المعلق؛ بدعوى أنّ الوجوب للتكليف قبل الوقت فعليوالواجب إستقبالي, أو تصحيح ذلك بالشرط المتأخر كما تقدم ذكرها في الجهة الخامسة, إذ أنّ كلّ ذلك بعيدٌ عن الأذهان العرفية وخلاف المشهور مع عدم الدليل عليها ولا ملزم لقبولها لا سيما إنْ أمكن دفع الإشكال بوجه مقبول كما عرفت.

الأمر الثالث: ذكرنا مراراً أنّ صحة العمل وبطلانه يدوران مدار مطابقته للوظيفة المقررة وعدمها, فكلّ عملٍ يصدر من المكلف مطلقاً؛ عالماً كان أو جاهلاً, قاصراً أو مقصراً, ملتفتاً أو غير ملتفت؛ إنْ طابق الوظيفة المقررة الشرعية صحّ, وإلا فلا يصح حتى لو كان صادراً من عالم, إلا أنْ يكون العلم من حيث هو له دخل في الصحة, فحينئذٍ تختص الصحة بصورة العلم فقط ولكنه خارج عن محلّ البحث, ولم يكن له مورد في الفقه.

ومن هنا صحّ ما اشتهر بين العلماء من صحة عمل تارك الإحتياط والإجتهاد والتقليد إنْ طابق الواقع؛ ولا معنى لذلك إلا أنّ كون التعلم طريقاً محضاً, وهو أوضح من أنْ يخفى.

الأمر الرابع: يظهر ممّا ذكرناه تلازم الصحة وسقوط العقاب, فهما متلازمان شرعاً وعرفاً بل وعقلاً أيضاً, فكلّ موردٍ صحّ العمل فيه لا وجه للعقاب بالنسبة إليه, وكلّ موردٍ يعاقب على العمل لا وجه للصحة فيه, وقد خرج عن هذه الكلية الجهر في موضع الإخفات وبالعكس إن كان عن جهلٍ, والإتمام في موضع القصر كذلك؛ فإنّهم حكموا

ص: 113

بالصحة للنص الخاص فيهما, وحكموا أيضاً بتحقق الإثم مع التقصير وعدم وجوب الإعادة أو القضاء ولهما نظائر في الفقه كما لا يخفى على الخبير, فقد حصل إشكالٌ معروف في المقام؛ من أنّه لا وجه للجمع بين الصحة وتحقق الإثم, لأنّهما متنافيان, وإنْ كان الإثم من أجل ترك الصلاة الأخرى.

وقد حاول الأصوليون الجواب عن ذلك بوجوهٍ:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية(1)؛ من أنّ المأتيّ به واجدٌ لمقدارٍ من المصلحة لا تبلغ المصلحة التامة, ولا يمكن درك المصلحة التامة مع الإتيان بما فيه المصلحة الناقصة, فيصح لوجود المصلحة في الجملة, ويأثم لتفويت المصلحة التامة التي لا يمكن تداركها, فقد فرض مصلحة إلزامية في الجامع ومصلحة أخرى إلزامية زائدة في الصلاة الأخرى تفوت بالصلاة التي جاء بها المكلف, بحيث لا يمكن استيفاؤها بعد ذلك, فيقع التمام صحيحاً من ناحية كونه محققاً للجامع المأمور به, وما فيه من المصلحة اللزومية, ولكنه في نفس الوقت يكون المكلف عاصياً لتفويته المصلحة الملزمة الأخرى.وقد استشكل على نفسه؛ بلزوم صحة الإتيان بالتمام في حال العلم أيضاً لتحقق الجامع به, مع أنّ الفتوى ببطلانه, فأجاب بأنّ الجامع الواجد للمصلحة هو الجامع بين القصر والتمام المقيد بالجهل لا مطلقاً.

واعترض عليه جمعٌ من المعلقين على الكفاية بالإعتراضات التالية:

الإعتراض الأول: ما ورد في تقريرات الكاظمي لبحث المحقق النائيني (قدّس سرّاهما)(2)؛ من أنّ مصلحة القصر إنْ لم تكن مقيدة بعدم سبق التمام فلماذا لا يُعيدها قصراً؟ وإذا

ص: 114


1- . كفاية الأصول؛ ص377.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص102.

كانت مقيدة بذلك فلا مصلحة فيه عند الإتيان بالتمام, فالأمر يدور بين وجود المصلحة فلا بُدّ من استيفائها بالإعادة, وبين عدمها فلا مصلحة في القصر عند الإتيان بالتمام.

ويرد عليه بأنّه خلط بين شروط الإتّصاف وشرط الترتب الذي هو من تنقيحات المحقق النائيني قدس سره نفسه, فإنّ عدم سبق التمام إنْ أخذ قيد الواجب في القصر فيكون من شروط ترتب المصلحة, وإنْ أخذ قيد الوجوب يكون من شروط الإتّصاف, والفرق بينهما واضح.

الإعتراض الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من منافاة هذه الفرضية مع ما تقدم من صاحب الكفاية في بحث تبديل الإمتثال بالإمتثال؛ من أنّ فعل المكلف ليس إلا مقدمة إعدادية لترتب الملاك وليس علة تامة له, ولهذا أمكن تبديله بفردٍ أفضل ليختار الله تعالى أحبهما, فإنّه إذا كان الأمر كذلك في الصلاة فلماذا لا يمكن إعادتها قصراً بعد التمام.

ويرد عليه بأنَّ يمكن فرض كون عمل المكلف علة إعدادية في تحقيق المصلحة, ويكون تأثيره في إبطال إعادة القصر وعدم جدواه على نحو العلة التامة.

الإعتراض الثالث: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره تارةً؛ في الدّراسات(2)؛ من استبعاد فرضية المحقق الخراساني, وهذا الرد ليس بشيء كما هو واضح, وأخرى؛ ما جاء في أجود التقريرات(3)؛ من أنّه إذا فرضنا أنّ مصلحة الجامع مترابطة مع مصلحة الخصوصية, بحيث لا يمكن التفكيك بينهما, فيلزم منه عدم صحة التمام لعدم واجديته لمصلحة الخصوصية, وإنْ فرضنا إستقلالهما لزم تعدد العقاب, وهو واضح البطلان.

ص: 115


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص333.
2- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص315.
3- . أجود التقريرات؛ ج2 ص335.

ويرد عليه بأنّ فرضية المحقق الخراساني قدس سره لم تدخل غرضاً وملاكاً مولوياً جديداً في المقام, وإنّما هو تحليل الواحد إلى غرضين لزوميين, فلا يستلزم تعددالعقاب, وعلى فرضه يكون تعدد العقاب في المقام بمقدار العقاب الواحد في العالم بالقصر التارك له, أي العقاب في الكيف لا في الكم, وقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) في الرد عليه كلاماً لا يرجع إلى محصل فراجع.

الإعتراض الرابع: ما ذكره صاحب الكفاية نفسه(2)؛ من أنّ هذه الفرضية تؤدي إلى مانعية التمام عن القصر فيحرم الإتيان به, فلا يمكن أن يكون مأموراً به ولا قربياً, ثمّ أجاب عنه؛ بأنّ الأمر بين الملاكين إنَّما هو بنحو التمانع والتضاد, وعدم أحد الضدين لا يمكن أنْ يكون علة للضرر الآخر, كما ثبت في مبحث الضد.

وأورد عليه المحقق الإصفهاني قدس سره (3) بأنّ التّضاد إنَّما هو بين معلولي التمام والقصر, ومن المعلوم أنّ عدم أحد الضدين ممّا يتوقف عليه وجود الضد الآخر, لكون وجود الضد مانعاً عن اقتضاء مقتضى الضد الآخر وتأثيره, على ما تقدم في بحث الضد.

الإعتراض الخامس: إنّ فرضية المحقق الخراساني يعوزها وجود تعدد الخطاب في حقّ الجاهل, وإنْ أمكن تصحيحها على مستوى الملاك, وسيأتي الكلام فيه أيضاً, وهذا هو الصحيح في الإعتراض.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (4) من وجود واجبين إستقلاليين؛ أحدهما أصل الصلاة والآخر القصر أو الجهر فيهما بنحو واجب في واجب, فإذا صلّى تماماً أو

ص: 116


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص425 وما بعدها.
2- . كفاية الأصول؛ ص378.
3- . نهاية الدراية؛ ج3 ص339-340.
4- . فوائد الأصول؛ ج4 ص103-105، أجود التقريرات؛ ج2 ص337-339.

إخفاتاً جهلاً صحت صلاته بلحاظ الإيجاب الأول, وعُوقب على تركه الواجب الثاني, بخلاف عدم صحة التمام أو الإخفات مع العلم؛ فقد فرض في تفسيره أنّ العلم بوجوب القصر أو الجهر إستقلالاً يوجب انقلابه إلى الوجوب الضمني, ولا محذور لإمكان أخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر.

واعترض عليه بعدّة إعتراضات:

منها؛ ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1)؛ من أنّ هذا يلزم منه أخذ عدم العلم بشيء -كوجوب القصر أو الجهر الإستقلالي مثلاً- في موضوع المعلوم, وكون العلم بشيء رافعاً للمعلوم؛ وهو محال.

ورُدّ؛ بإمكان أخذ العلم بالجعل, أو عدم العلم به في موضوع فعلية المجعول.

ومنها؛ إنّه يلزم عدم قابلية الخطاب النفسي الإستقلالي للتنجز؛ لأنّه ما لم يعلم به تجري البراءة عنه وإذا علم به إرتفع التكليف بإرتفاع موضوعه وجعل خطاب لا يقبل الوصول والتنجز لغوٌ محض.وفيه: إنّ عدم الوصول وعدم العلم ليس مساوقاً مع البراءة والتأمين, بل هو من تبعات ترك التفحص, فلا تجري الأصول المؤمنة مطلقاً كما تقدم, فهذا التكليف قابل للتنجز.

ومنها؛ إنّ التكليف وإنْ كان قابلاً للتنجيز ولكنه غير قابل للحركية؛ لأنّ المراد من الجهل على ما هو ظاهر الكلمات الجهل المركب, أي إعتقاد وجوب التمام, أو الإخفات أو ما بحكم الجهل كالغفلة, فلا يشمل موارد التردد والشك مع الإلتفات الذي يمكن فيها الإحتياط والتحرك, وعليه فلا يعقل محركية وجوب الجهر, أو القصر الإستقلالي؛ لا حال الجهل لِما عرفت, ولا حال العلم لارتفاع موضوعه, فيكون جعله لغواً.

ص: 117


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث ص487.

ويرد عليه بأنّ عدم العلم بوجوب القصر أو الجهر لا يرفع أصل إيجابه وإنّما يرفع حدّ الوجوب الإستقلالي مع ثبوت أصله وتأكده, وهذا لا ينافي المحركية؛ لأنّ ذات الوجوب وأصله قابل للمحركية وهو يكفي فيها. وبهذا يُجاب عن الإعتراضِ السابق أيضاً.

والصحيح أن يقال في ردّ هذا الوجه؛ إنّه خلاف ظاهر الأدلة التي تدلّ على أنّ التكليف واحد, مشتملٌ على أجزاءٍ وشرائطٍ, فهذا الوجه صحيح ثبوتاً, ولا دليل على إثباته, بل ظاهر الدليل خلافه.

الوجه الثالث: إنّ ما حكم به من صحة العمل والعقاب من باب تعدد المطلوب فقد تعلق طلب بذات المأمور به وطلب آخر بالخصوصية, فامتثل أحدُ الطلبين وفوّت الآخر عن تقصير, فيصح ما امتثله لوجود المقتضي وفقد المانع, ويُعاقب على ترك الآخر المنتهي إلى تقصيره, وهو إمّا يرجع إلى ما ذكره المحقق الخراساني, أو إلى ما ذكره المحقق النائيني.

وفيه: إنّه لا دليل عليه إثباتاً, وإنْ كان حسن ثبوتاً, بل ظاهر الأدلة خلافه.

الوجه الرابع: إنّ المأتي به غير مأمورٍ به, إنَّما هو شيء مُسقط للواجب.

ويرد عليه: إنّه خلاف ظواهر الأدلة وكلمات الأعلام.

الوجه الخامس: إنّ المقام من صغريات الترتب كما ذكره الشيخ الأكبر كاشف الغطاء قدس سره (1), وقد فسّره تارةً؛ بأنْ يكون الأمر بالتمام في حقّ الجاهل مشروطاً بترك القصر لكونه أقلّ ملاكاً.

وأخرى؛ بالتزام أمرين:

أحدهما؛ تعلق بالجامع الذي أحد فرديه مقيد بحال الجهل كما تقدم.

والآخر؛ بأحد الفردين بالخصوص, وهو يرجع روحاً إلى فرضية المحقق الخراساني, أو إلى الوجه الثالث, وقد عرفت فسادهما.

ص: 118


1- . ذكره في بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص425.

أمّا التفسير الأول الذي يُعتبر أنّه تفسير حقيقي للترتب, فإنّه يرد عليه؛ بأنّ الترتب إنَّما يكون في ما إذا كان في البين أمران فعليان من كلّ جهة, مع تمامية الملاك والمصلحة في كلّ منهما, والمقام ليس كذلك, وقد تقدم في بحث الترتب البحث عن شروطه والإعتراضات عليه, ونحن نذكرُ بعضاً منها في المقام:

الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1)؛ من أنّ الترتب إنَّما يتحقق بين الضدين الّلذين لهما ثالث ليعقل عصيان الأمرين معاً لا الضدين اللذين لا ثالث لهما؛ إذ لا يعقل تركهما معاً, والمقام من هذا القبيل, لأنّ الصلاة إمّا أنْ تكون إخفاتية أو جهرية, وإمّا أنْ تكون مقصورة أو تامة.

وأُجيب عنه بأنّ الواجب هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية ويمكن تركهما معاً, مع أنّ الترتب ليس بين الأوامر الضمنية, بل الإستقلالية بأصل الصلاة جهراً أو إخفاتاً, تماماً أو قصراً, ولا تضاد بينهما, فضلاً عن أنْ لا يكون لهما ثالث.

الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره أيضاً(2)؛ من أنّ الأمر الترتبي موضوعه عصيان الأمر بالأهم المترتب عليه, وفي المقام لا يعقل جعل الأمر بالتمام مشروطاً بعصيان الأمر بالقصر, لأنّ موضوعه عصيان الأمر بالقصر الذي لا يمكن أنْ يصل إلى المكلف؛ إذ لو علم به لخرج عن موضوع وجوب التمام, والأمر الذي لا يمكن وصوله لا يعقل جعله.

وأُورد عليه بأنّ الشرط ترك الأهم وهو القصر لا العصيان بعنوانه, وترك القصر يمكن أنْ يصل إلى المكلف. وهو ليس بشيء؛ فإنّه لا يرفع الإشكال, وهو إنّ التكليف الذي لا يمكن وصوله لا يعقل جعله.

ص: 119


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص372، أجود التقريرات؛ ج1 ص310-311.
2- . المصدر السابقين؛ وفي أجود التقريرات؛ ص311 .

الثالث: ما يستفاد من كلمات المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنّ الأمر بالتمام إمّا أنْ يكون مترتباً على ترك القصر في تمام الوقت أو في الآن الأول أو على إتيان التمام الذي يفوّت إمكان تدارك ملاك القصر, وكلّها غير صحيحة؛ أمّا الأول؛ فلأنّه يلزم منه صحة الإتيان بالقصر إذا ما التفت إلى وجوبه, وهذا خلاف فتوى الفقهاء. والثاني؛ يلزم منه إيجابهما معاً عليه بعد مضي جزءٌ من الوقتِ, وهو واضح البطلان. والثالث محال؛ لأنّ الأمر بشيء مشروط بتحققه تحصيل للحاصل.ويمكن الجواب عنه بأنّه يمكن افتراض أنّ الشرط هو جامع تفويت الملاك بنحو الشرط المتأخر, سواءً كان من جهة ترك القصر في تمام الوقت أم الإتيان بالتمام المستلزم لتفويته.

والحقّ؛ إنّ جميع هذه الوجوه والإعتراضات كلّها إفتراضات تبتني على ثبوت العصيان والعقاب عليه.

ويمكن الإشكال في أصل ثبوت العصيان؛ إذ لم يستفاد من الروايات الواردة في الموارد الثلاثة ثبوته, ويمكن أنْ يكون العقاب على فرض ثبوته إنَّما هو من أجل التحفظ على التكاليف والإهتمام بها وعدم التقصير في المستقبل.

الجهة التاسعة: في وجوب التعلم قبل الإبتلاء

تقدم أنّه يجب تعلم الأحكام الشرعية, وملاك هذا الوجوب هو الإهتمام بالأحكام والتحفظ على الواقعيات وإمكان الوصول إليها, وذكرنا؛ أنّه من أجل ذلك قلنا بوجوب تعلّمها قبل الوقت بعين الملاك في وجوبه بعد الوقت, بلا فرق في ذلك بين العلم بالإبتلاء بها في المستقبل في مسألة من المسائل وبين الشك في ابتلائه فيها, ولا دليل على سقوطه في الأخير إلا ما يقال بجريان إستصحاب عدم الإبتلاء مستقبلاً, باعتبار أنّ الإستصحاب

ص: 120


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص342.

كما يجري بلحاظ ما سبق يجري بلحاظ المستقبل إذا تمّت أركانه على ما سيأتي في بحث الإستصحاب, وبذلك يبقى موضوع وجوب التعلم.

وأشكل عليه السيد الخوئي قدس سره (1) بأنّ عدم الإبتلاء ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي؛ لأنّ وجوب الفحص وعدمه ليس دائراً مدار الإبتلاء الواقعي وعدمه وإنّما يدور مدار العلم بعدم الإبتلاء وعدمه, حيث يخرج من إطلاق أخبار التعلم ما يعلم بعدم الإبتلاء به, لأنّ وجوب التعلم طريقي محض لا أنْ يكون نفسياً, وحينئذٍ فإنْ قلنا يُشترط في المستصحب أنْ يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكمٍ شرعي لم يجر هذا الإستصحاب, وإنْ لم نشترط ذلك واكتفينا في الإستصحاب أنْ يكون فيه أثر عملي وقلنا بقيام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي جرى الإستصحاب؛ لأنّه يحقق علماً تعبدياً بعدم الإبتلاء فيكون حاكماً على دليل وجوب الفحص المقيد بعدم العلم بعدم الإبتلاء.

لكن لو أجرينا الإستصحاب يلزم خروج أكثر الشبهات والمسائل التي يحتمل المكلف فيها عدم ابتلائه به من أول بلوغه فيلزم منه إلغاء أخبار التعلم, فلا بُدّ من تقديمها على الإستصحاب.

والحقّ؛ إنّه لا حاجة إلى هذا التفصيل لِما يلي:

أولاً: إنّ ملاك وجوب التعلم هو التحفظ على الواقعيات وإمكان الوصول إليها بعد أنْ علم الإنسان بأنّه يختلف عن الجمادات والبهائم بجريان قلم التكليف عليه, فلا يُفرّق حينئذٍ من جهة الإبتلاء وعدمه.

ثانياً: إنّ الإنسان إذا علم بتعلق ذمته بالتكاليف الشرعية يجب تعلمها, وإنْ كان شكّ في الإبتلاء من ناحية المتعلق فإنّه لا إشكال في وجوب تعلم الأحكام؛ لأنّ الإشتغال اليقيني

ص: 121


1- . هامش أجود التقريرات؛ ج1 ص311-312.

يستدعي الخروج اليقيني عنه, ولا يحصل ذلك إلا بالتعلم, واستصحاب عدم الإبتلاء لا يُجدي شيئاً مع العلم بالإشتغال.

نعم؛ لو كانت التكاليف مشروطة بشرط يشك المكلف في حصوله والإبتلاء به, كصلاة الزلزلة مع الشك في ابتلائه بها فإنّه يمكن إجراء استصحاب عدم الإبتلاء إذا كان موضوع وجوب التعلم هو الإبتلاء الواقعي, فإنّ هذا الإستصحاب يجري لأنّ إستصحاب عدم الزلزلة يكون استصحاباً لموضوع حكم شرعي.

وإنْ قلنا بأنّ موضوع وجوب التعلم هو عدم العلم بعدم الإبتلاء, أي مجرد احتمال الإبتلاء فلا يجري الإستصحاب مطلقاً, حتى على فرض قيام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي, وعدم إشتراط كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي, فإنّه لا أثر عملي للمستصحب, مع أنّه ليس كلّ إستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي إلا إذا ورد الدليل الخاص على أخذ عدم العلم في الموضوع, كما في قولهم (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر), وإلا فلا بُدّ من القول بتقديم الإستصحاب مقام الأمارات لأنّها مغيّاة بعدم العلم بالخلاف, ولم يقل أحدٌ بذلك.

وهذا التفصيل صحيحٌ على مبنى القوم في ملاك وجوب التعلم والفحص, وهو إحتمال المنجزية, ولكن ذكرنا أنّ الملاك فيه هو الإهتمام بالأحكام والتحفظ على الواقعيات وإمكان الوصول إليها, فلا يفرق فيه حينئذٍ بين العلم بالإبتلاء في مستقبل حياة المكلف أو الشك فيه, ولا يجري الإستصحاب لعدم الشك حينئذٍ.

هذا كله بالنسبة إلى الشرط الأول من شروط جريان البراءة وسائر الأصول المؤمنة.

ص: 122

الشرط الثاني: عدم استلزام الحجة الضرر

اشارة

الشرط الثاني(1): عدم استلزام الحجة الضرر

وهو الذي ذكره الفاضل التوني على ما نقله الشيخ الأعظم (قدّس سرّاهما) عنه(2)؛ وهو عدم لزوم ترتب الضرر من جريان البراءة على النفس أو الغير ممن يكون محترماً شرعاً, كما إذا استلزم من شرب التتن الضرر على نفسه أو على غيره,وقبل بيان ما يتعلق بهذا الشرط لا بُدَّ من البيان على أنّ الفاضل التوني قدس سره ذكر شرطاً آخر؛ وهو أنْ لا يثبت من إعمال الأصل حكماً شرعياً من جهة أخرى, فإنْ كان مراده أنّ مثبتات أصالة البراءة ليست معتبرة فهذا لا يختص بالبراءة, بل مثبتات الأصول مطلقاً لا اعتبار لها, بل لا اعتبار بمثبتات الأمارات أيضاً ما لم يرد دليل على اعتبارها كما سيأتي بيانه في مبحث الإستصحاب.

وإنْ كان مراده أنْ من إجراء الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي لا يثبت الحكم المعلوم بالإجمال في الطرف الآخر؛ فهو أيضاً صحيحٌ, ولكنه لا اختصاص له بالبراءة, بل الإستصحاب أيضاً كذلك, مع أنّه لا وجه لجريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي كما تقدم.

وإنْ كان مراده أنّ الأصل لا يثبت موضوع حكم شرعي فلا دليل عليه من عقل أو نقل, إلا إذا كان موضوع الحكم الآخر نفي الحكم واقعاً وفي اللوح المحفوظ, ولا ريب أنّ بالأصل لا يثبت ذلك ولكنه من مجرد الفرض؛ إذ الفقه مبني على الأحكام الظاهرية التي تكون مؤديات الأمارت ومجاري الأصول, وإثبات حكم ظاهري في موضوع بجريان الأصل في موضوع آخر كثير وشايع في الفقه؛ كمن بلغ ماله إلى حد الإستطاعة وشك أنّ

ص: 123


1- . مرَّ ذكر الشرط الأول في المورد الثاني من موارد الخاتمة قبل بيان الجهات، وقد كان الشّرط هو: جريان الأصول الثلاثة الأخرى وهي البراءة والتخيير والإستصحاب بشرط عدم إستلزامها الضرر.
2- . الوافية؛ ص193-194، فرائد الأصول؛ ج2 ص529-533.

عليه دَين أو لا؟ فإنّه بأصل البراءة عن الدَين يجب عليه الحج. وكمن شكّ في أنّ عليه صوم واجب أو لا؟ فإنّه بأصل البراءة ينفي الوجوب, فيستصحب عليه الصوم المندوب ويصح منه. وكمن كان عنده ماءٌ وشك في حليته وحرمته, وبأصالة الإباحة تثبت إباحته, فتجب عليه الطهارة المائية دون الترابية, إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى.

إذا عرفت ذلك فإنّ الفاضل التوني قدس سره ذكر من شروط جريان البراءة أنْ لا يستلزم من إعماله ضرراً على النفس أو الغير ممن هو محترمٌ شرعاً, والكلام فيه:

أولاً: إنّه لا اختصاص له بأصل البراءة, بل لا مجرى للإصول العملية مع قاعدة من القواعد الشرعية والعقلانية بلا فرق بين قاعدة الضرر وغيرها؛ فإنّ الشبهة إذا كانت مورد قاعدة لا ضرر فإنّها حاكمة على الأمارات فضلاً عن البراءة, باعتبار أنّه بعد ثبوتها بدليل شرعي تكون حاكمة على الإطلاقات الأولية, وإنْ لم تكن الشبهة مورداً للقاعدة جرت البراءة لا محالة.

وعلى أيّة حالٍ؛ فإنّ القواعد الشرعية والعقلائية مقدمة على الأمارات المثبتة للأحكام فضلاً عن الأصول العملية, فليس هذا شرطاً مرتبطاً بالبراءة.

ثانياً: قال السيد الخوئي قدس سره (1) بأنّ البراءة لا تجري في مورد الضرر ولو فُرض عدم تمامية قاعدة لا ضرر؛ لأنّ مثل حديث الرفع الذي يدلّ على البراءةقد سِيقَ مساق الإمتنان على الأمة, فلا يشمل موارد الإضرار بالغير لكونه خلاف الإمتنان.

وهو صحيحٌ لو كان الدليل في البراءة مختصاً بحديث الرفع, مع أنّ دليلها إمّا البراءة العقلية أو أدلة أخرى, مثل الخبر المعروف في الكتب الأصولية؛ (كُلُّ شَيْ ءٍ فِيهِ الْحَلَالُ والْحَرَامُ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ فَتَدَعَهُ بِعَيْنِهِ)(2).

ص: 124


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص318-319، مصباح الأصول؛ ج2 ص513.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج25 ص119.

وذكر السيد الصدر في رده(1) أنّ الميزان في الإمتنان في حديثِ الرفعِ أن يكون الرفعُ إمتناناً بالنسبة إلى الشخص المرفوع عنه التكليف لا كلّ الناس, ولكنه غيرُ تام؛ لأنّ المفهوم من هذا الحديث عرفاً أنْ لا يستلزم من رفع التكليف عن شخص خلاف الإمتنان على شخص آخر, وهو حاصل في موردِ الضرر. وكيف كان؛ فإنّ ما ذكرناه في الردّ على الفاضل التوني قدس سره تام وهو الإشكال المنهجي, ولا حاجة إلى ما ذكره العلمين (قدّس سرّاهما).

قاعدة لا ضرر
اشارة

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم قدس سره (2) ذكر في المقام ما يرتبط بقاعدة لا ضرر, وقد تبعه الأعلام من بعده, ونحن نذكر أيضاً ما يتعلق بهذه القاعدة على سبيل الإجمال في مقامات:

المقام الأول: في الدليل على هذه القاعدة
اشارة

لا ريب في أنّ هذه القاعدة مشهورة بين الفريقين, بل من المسلمات عند المسلمين, وقد ذكرت في رواياتهم إمّا بنحو الكبرى, أو بنحو التطبيق, أمّا عند الإماميّة فقد وردت أحاديث كثيرة وعلى إستفاضتها تضمنت هذه القاعدة أيضاً, كذلك على سبيل الكبرى, وأمّا كتطبيقٍ لها يمكن تصنيفها على طوائفٍ:

الطائفة الأولى: وهي الواردة في قضية سَمُرَةُ بْنِ جُنْدَبٍ, التي نقلت في رواياتنا بشيء من التفصيل دون روايات العامة؛ وهي ثلاث روايات:

الرواية الأولى: ما نقله الصدوق في الفقيه؛ عن أبيه عن محمد بن موسى بن المتوكل عن علي بن الحسين السعد آبادي عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن الحسن بن زياد الصيقل عن أبي عبيدة الحذّاء؛ إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لسَمُرَةُ: (مَا أَرَاكَ يَا سَمُرَةُ إِلَّا

ص: 125


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص434.
2- . فرائد الأصول؛ ج2 ص533.

مُضَارّاً؛ اذْهَبْ يَا فُلَانُ فَاقْطَعْهَا واضْرِبْ بِهَا وَجْهَه)(1).

ولم يرد في هذا الحديث كبرى (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ).

الرواية الثانية: ما في الكافي والفقيه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ زُرَارَةَ, وقد ورد فيها: (اذْهَبْ فَاقْلَعْهَا وارْمِ بِهَا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)(2).

الرواية الثالثة: ما في الكافي عن ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ زُرَارَةَ أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لسَمُرَةُ: (إِنَّكَ رَجُلٌ مُضَارٌّ, ولَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ عَلَى مُؤْمِنٍ)(3).

ولا ريب أنّ عدم ذكر الكبرى في الأولى لمعلوميتها بما ورد في الروايتين الأخريين فيكون المورد من تطبيقها.

الطائفة الثانية: الروايات التي نقلت جملةً من أقضية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في فصل الماء والأرض؛ فقد ورد في رواية عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق علیه السلام قال: (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مَشَارِبِ النَّخْلِ؛ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ نَفْعُ الشيء, وقَضَى صلی الله علیه و آله و سلم بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؛ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ؛ وقَالَ: لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)(4).

وفي رواية أخرى عنه أيضاً (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم بِالشُّفْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْأَرَضِينَ وَالْمَسَاكِنِ وَقَالَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَار)(5).

وقد وردت أيضاً في روايات العامة؛ فقد رواها أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت في جملة أقضية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (6).

ص: 126


1- . من لا يحضره الفقيه؛ ج3 ص103.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص292-293.
3- . المصدر السابق؛ ص294.
4- . المصدر السابق؛ ص293-294.
5- .المصدر السابق؛ ص280.
6- . مسند ابن حنبل؛ ج37 ص436 ح22778.

الطائفة الثالثة: المراسيل؛ كمرسلة الصدوق قدس سره (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ)(1).

ومرسلة الشيخ في كتاب الشفعة (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ), ومرسلته في كتاب البيع (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ), ورواه ابن الأثير في نهايته, والعلامة في التذكرة, والإحسائي في عوالي اللئالي.

الطائفة الرابعة: جملة من التطبيقات الروائية, نذكر منها:

1- صحيحة البزنطي عن حماد عَنِ الْمعلى بْنِ خُنَيْسٍ عن الإمام الصادق علیه السلام قَالَ: (..... ومَنْ أَضَرَّ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً فَهُوَ ضَامِنٌ)(2).

2- صحيحة أَبِي الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (مَنْ أَضَرَّ بِشَيْ ءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ)(3).فإنَّ معناها؛ إمّا إنّ من أضرّ في الطريق على أحدٍ بشيء فهو له ضامن؛ بأنْ يكون لفظا (الباء ومن) في الروايتين بمعنى (في), ويكون المجرور متعلقاً بقوله (أضر) ويكون (الطريق) ظرفاً للإضرار.

وإمّا أنْ يكون (الطريق) ظرفاً للشيء ويكون المجرور متعلقاً بمحذوفٍ, فيكون المعنى: من أضر شيئاً كائناً في طريق المسلمين, أو بشيء كائن فيه فهو له ضامن, ومآل المعنيين واحد.

وإمّا أن يكون المجرور بياناً للشيء, وتكون الباء في الحديث بمعنى (من), فيكون المعنى: من أضرّ بشيء من الطريقِ ممّا يوجب الضرر على المسلمين فهو ضامن لِما يتلف بسبب ذلك الضرر, فيكون هذا المعنى أخصّ من سابقيه, بما إذا كان الضرر يسبب إحداث شيء في الطريق.

ص: 127


1- . معاني الأخبار؛ ص281.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج19 ص238.
3- . المصدر السابق؛ ج29 ص241.

ويُؤيّد هذا المعنى ما رواه المشايخ الثلاثة عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (كُلُّ شَيْ ءٍ يضر بِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَصَاحِبُهُ ضَامِنٌ لِمَا يُصِيبُهُ)(1)؛ والجميع يرشد إلى أنّ الإضرار حرام ويكون موجباً للضمان في الجملة.

3- رواية طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ أَبِيهِ علیه السلام قَالَ: (..... وإِنَّ الْجَارَ كَالنفس؛ غَيْرَ مُضَارٍّ ولَا آثِمٍ)(2), والمراد منه ظاهراً؛ إنّ الرجل كما لا يُضار نفسه ولا يوقعها في الأثم, كذلك ينبغي أنْ لا يُضار جاره ولا يُوقعه في الإثم, ولا يعدّ عليه الأمر إثماً.

4- مكاتبة محمد بن الحسين عن أبي محمد علیه السلام وفي آخرها وقّع علیه السلام (يتقي الله عزّ وجلّ ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضارّ بأخيه المؤمن)(3).

إلى غير ذلك من الروايات التي ادعى فخر الدين تواترها في مبحث الرهن من كتابه, ولعلّ مراده تواترها في فقرة (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) فراجع عبارته.

الكلام في رواية (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)

والبحث فيها يقع في نقاطٍ:

النقطة الأولى: في سند الرواية

ونقول فيه:

أولاً: إنّ حديث (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) من المسلّمات بين المسلمين كافة؛ قديماً وحديثاً, قولاً وعملاً, حتى صارت من الأمثال عندهم.

ص: 128


1- . المصدر السابق؛ ص243.
2- . المصدر السابق؛ ج15 ص68.
3- . المصدر السابق؛ ج25 ص432.

ثانياً: إنّها رويت في كُتبنا؛ سواء كانت بهذه الفقرة أم بالتطبيقات الكثيرة, بحيث جعلها الأئمة الهداة علیهم السلام أساساً لتفريعات كثيرة كما تقدم نقل بعضها, وجرت سيرتهم على التمسك بها كقاعدة.

ثالثاً: إنّها إنْ لم تكن متواترة فهي مستفيضة قد نقلت في أكثر من مورد ومن أكثر من راوٍ؛ ولعلّه من أجل ذلك لم يهتم العلماء في توثيق الحديث, أو توثيق هذه الفقرة التي وردت في كتب الفريقين.

رابعاً: إنّهم أرسلوها على أساس أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قالها, ولا يذكرون مثل هذا التعبير إلا بعد أنْ يحصل لهم الإطمئنان بصدور القول عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

خامساً: إنّ هذه القاعدة مصدرها بديهةُ العقل وشرعية الوحي؛ فإنّ الضرر يرفضه الإنسان بالفطرة والغريزة, ويعتبره العقلاء من المقبحات على النفس والعرض والمال, ويؤاخذون من تصدى لذلك ويعاقبونه وعلى ذلك يدور نظام معاشهم, هذا إذا عدت القاعدة قائمة برأسها فتكون الروايات إرشاداً إلى هذا الحكم الفطري الغريزي أو العقلائي.

وأمّا إذا كانت من صغريات أصالة احترام النفس والعرض والمال, التي هي من أهم الأصول النظامية العقلائية فالأمر أوضح.

وكذلك يمكن أنْ يقال بأنّ الضرر من الظلم الثابت بالأدلة الأربعة قبحه, فيكفي في مثل هذه القاعدة العام البلوى عدم وصول الردع عنها من الشارع, فكيف وقد ورد التقرير وبنسب مختلفة.

سادساً: إنّ الروايات الواردة في هذا المقام متعددة, وعن صاحب الوسائل كثرة الأخبار, وفي رسائل شيخنا الأنصاري(1) ضبط عشرة منها, ومنها الموثّق وغيره, وفي الإيضاح

ص: 129


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص533 وما بعدها.

دعوى التواتر كما تقدم. ومن جميع ذلك يظهر؛ أن لا وجه معقول لأن يُبحث ويحقّق في سند (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) إلا إذا ارتاب في وجود الشمس والقمر والنجوم.

مع ذلك فقد حاول بعض الأصوليين تثبيت سند هذه القاعدة من الروايات بوجوهٍ لا تخلو عن النقض والإبرام كالسيد الصدر قدس سره (1)؛ فقد أتعب نفسه في ذلك بما لا طائل تحته, مع أنّ ما ذكره لا يخلو من إشكال يظهر بعد التّمعّن فيما ذكرناه, ونحن نذكرُ بعضاً منها:

1- ما ذكره في الطريق الثاني من دعوى التواتر الإجمالي؛ فإنّ روايات الباب وإنْ لم تكن بلفظ واحد ولم تكن قصة واحدة إلا أنّ فيما بينها وحدة1- موضوع تتفق عليها جميعاً ممّا يوجب القطع ولو إجمالاً بصحة ذلك الموضوع رغم عدم تكثّر الروايات بدرجة يوجب العلم بصدق بعضها.

ثمّ أورد عليه بقلة روايات الباب بدرجة لا تكفي حتى مع وحدة الموضوع المطروق فيها جميعاً لحصول التواتر.

وهذا الإيراد غير تام؛ فإنّه لو نظر إلى طائفة من تلك الطوائف يجدها تامة في نفسها، ولعل ما ذكره يكون وجهاً للتأمل، ولكن المجموع التي وردت في هذا الباب يستفاد منها التواتر الإجمالي؛ فإنّها إمّا ذكرت على نحو الكبرى, أو ذكرت على نحو التطبيق, ولا تهافت في ثبوتها, فإنّها إمّا مطلقة أو مقيدة؛ فإذا لم يثبت التقييد يكون المطلق على إهماله ثابتاً, وكذا إذا دار الأمر بين مقيدين مختلفين ثبت ذات المطلق من دون القيدين كما هو معلوم.

ص: 130


1- . بحوث في علم الأصول ج5 ص435 وما بعدها.

2- ما ذكره في الطريق الثالث في تصحيح مرسلة الصدوق؛ حيث نقل عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ), بدعوى أنّ الخبر المرسل إذا كان بلسان قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم , لا بلسان رُوي عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يكون بمنزلة الإخبار الحسّي الحاصل من التواتر الذي وصل إلى الصدوق قدس سره , فأصبح واضح الصدور عنده, فيُتعامل معه كخبر قطعي السند.

وأشكل عليه بعدة وجوه وهي غير تامة؛ لأنّ من نقل هذا القول غير منحصر بالصدوق وحده, على أنّ تلك المناقشات إنَّما حصلت من نسبة التواتر إلى ما نقله الصدوق قدس سره كما زعمه, ولكن لا حاجة إلى ذلك, بل نقول أنّ نسبة ذلك إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بلسان القول لا بلسان الرواية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا حصل لهم الإطمئنان بصحة صدور هذا القول عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم , ولا حاجة إلى القول بأنّه على نحو التواتر أو غيره حتى يستشكل عليه بما ذكره قدس سره .

وكيف كان؛ فإنّ صحة صدور هذه الفقرة عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم من الوضوح بمكانٍ لا وجه للتشكيك فيها, لا سيما أنّ مثل هذا النقاش لم يكن موافقاً للمنطق العلمي في مثل هذا الحديث المقطوع صدوره.

النقطة الثانية: في متن الحديث

قد يظهر التهافت في متن ما نقل في هذه القاعدة, وقد عرفت أنّ المنقول فيها على طوائفٍ:

أمّا الطائفة الأولى؛ فقد نقلنا ثلاث رواياتٍ فيها؛

الأولى؛ ما نُقل عن ثقة الإسلام الكليني قدس سره , وفيها: عَنْ زُرَارَةَ أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لسَمُرَةُ: (إِنَّكَ رَجُلٌ مُضَارٌّ, ولَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ عَلَى مُؤْمِنٍ)(1).

ص: 131


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص294.

الثانية؛ ما نُقل عن الصدوق قدس سره , وقد ورد فيها: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لسَمُرَةُ: (مَا أَرَاكَ يَا سَمُرَةُ إِلَّا مُضَارّاً؛ اذْهَبْ يَا فُلَانُ فَاقْطَعْهَا واضْرِبْ بِهَا وَجْهَه)(1).

الثالثة؛ ما رواها المشايخ الثلاثة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ زُرَارَةَ, وقد ورد فيها: (اذْهَبْ فَاقْلَعْهَا وارْمِ بِهَا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)(2).

وهذه الوجوه من النقل في الموضوع واحدة, وفيها الزيادة والنقصان ممّا يوجب التهافت والتعارض بين أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة فيما إذا فرضنا أنّ الزيادة والنقيصة مؤثرة في المعنى ومغيرة له, وأمّا إذا لم تكن كذلك أو شكّ في ذلك فلا تهافت ولا تعارض؛ لأنّ ظاهر حال الراوي أنْ لا ينقل ما يغير المعنى ويزيد عليه أو ينقص.

وعلى هذا الأساس ذكروا وجوهاً للتهافت في قضية سَمُرة:

الوجه الأول: عدم وجودِ جملة (لَا ضَرَرَ) رأساً في رواية الصدوق قدس سره , بخلاف رواية زرارة, فيقع التهافت من هذه الناحية.

وأجيب عنه بأنّ الزيادة لا تغير المعنى, مع أنّه ذكرنا أنّ ظاهر رواية الصدوق أنّها تطبيق لهذه الكبرى لم يذكرها لمعلوميتها, وهو لم يقصد نقل أزيد من محصل النبي صلی الله علیه و آله و سلم .

الوجه الثاني: ورود فاء التفريع في رواية إبن بكير على نقل الكليني والشيخ ممّا يدلّ على أنّ القاعدة تفريع على الأمر بقلع الشجرة, بخلاف نقل الصدوق الذي لم يرد فيه ذلك؛ فإنّه يحتمل أنْ يكون خطاباً مستقلاً أو تفريعاً على الحكم التكليفي الذي توجه إلى سَمُرة.

والجواب عنه بمثل الجواب السابق؛ فإنّ هذه الزيادة لا تغير المعنى ولا تزيد عليه, فلم يكن تهافت في البين إنْ لم نقل بأظهرية نقل الكليني قدس سره , ونقل الصدوق لا ينفي

ص: 132


1- . من لا يحضره الفقيه؛ ج3 ص103.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص292-293.

التفريع, وهو قدس سره إنَّما نقل فعل النبي صلی الله علیه و آله و سلم , ولم يكن بصدد نقل لفظ الرواية فلم يناسب ذكر الفاء.

الوجه الثالث: إنّ جملة (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) في روايةِ إبن مسكان عن زرارة خُوطب بها سَمُرة بعد قوله صلی الله علیه و آله و سلم (إِنَّكَ رَجُلٌ مُضَارٌّ), وعليه؛ فلا يكون مربوطاً بقلع الشجرة ولا تفريعاً عليه.

وفيه: إحتمال صدور هذه الجملة مرتين؛ مرة لسَمُرة ومرة أخرى للأنصاري كما في رواية إبن بكير, فلا تهافت أيضاً, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الرابع: زيادة كلمة (عَلَى مُؤْمِنٍ) في رواية إبن مسكان عن زرارة بخلاف الروايتين الأخريين, وثبوت هذه الكلمة يجعل الحديث ظاهراً في الحرمة التكليفية.ويرد عليه:

1- إنْ قلنا بأنّ هذه القاعدة فطرية إرتكازية عقلائية تشمل الجميع, فيكون ذكر (عَلَى مُؤْمِنٍ) أو (في الْإِسْلَامِ) من باب التشريف وذكر أفضل الأفراد, أو من باب إقتضاء الحال.

2- إحتمال صدور هذه الجملة مرتين؛ مرةً خُوطب بها سَمُرة وأخرى الأنصاري كما عرفت, وفي الأولى لم يذكر هذه الكلمة لعدم مناسبة خطاب سَمُرة بها.

3- إنّ مناسبة هذه الكلمة للحرمة التكليفية لا يضر باستفادة أصل المطلب الذي نُريد إثباته من حديث لا ضرر, وهو نفي الحكم الضرري؛ لأنَّ استفادة مطلبين من حديث واحد بسبب دلالة الكلمات الواردة فيه غير عزيز, فإنّ الحكم التكليفي استفيد من كلمة (عَلَى مُؤْمِنٍ) بقرينة التطبيق, واستفادة نفي الأحكام الضررية من (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)؛ فلا تهافت في البين أيضاً.

ص: 133

4- على فرض ثبوت التهافت بين الزيادة والنقيصة؛ فإنّه لا بُدَّ من الرجوع إلى البحث المعروف في أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة عند تعارضهما, ويأتي الكلام فيه, إذ لا يختصّ هذا التهافت في خصوص عبارة (عَلَى مُؤْمِنٍ) بل يجري في عبارة (في الْإِسْلَامِ) الواردة في بعض روايات المقام أيضاً.

هذا كلّه ما يتعلق بالطائفة الأولى من الروايات التي تحكي قضية سَمُرة بن جندب مع الأنصاري.

أمّا الطائفة الثانية؛ التي تنقل قضايا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؛ فقد ورد فيها (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) بطرقنا عن عُقبة بن خالد, لا تفيد قاعدة؛ لأنّه وردت فيها تذييلاً لحديث الشفعة منع فضل الماء والكلاء, ولم يرد كقاعدة مستقلة إلا في طرق العامة.

والصحيح في الجواب أنْ يقال: بأنَّ هذه قاعدة مستقلة ذكرت في الشفعة وفضل الماء والكلاء من باب كونهما من تطبيقاتها, وسيأتي أنّ هذه الجملة كما أنّها تثبت قاعدة في نفي الأحكام الضررية تثبت أحكاماً تكليفية في موارد التطبيقات, فالجمع بينهما في هذه الأقضية من أجل بيان هاتين الجهتين, ويأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ولكن ذكر المحقق شيخ الشريعة الإصفهاني قدس سره (1) في المقام أنّ ذكر هذه الجملة في الموردين من أجل تعزيز فهم السائل للقاعدة وأنّها حكم تكليفي بحرمة الإضرار بالآخرين, وسيأتي مزيد بيان لكلامه ومناقشته.وذكر بعض الأصوليين؛ إنّ هذه الروايات التي قد صدرت بكلمة (قال) كما في رواية عُقبة بن خالد عن الصادق علیه السلام قال: (قَضَى صلی الله علیه و آله و سلم بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؛ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ؛ وقَالَ: لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)(2).

ص: 134


1- . قاعدة لا ضرر؛ ص14.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص293-294.

وفي رواية الشفعة إحتمالان:

الأول: أنْ يكون من كلام الراوي الذي نقل الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام , فيكون المعنى؛ إنّ الإمام الصادق علیه السلام قال (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) عطفاً على قوله (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم ), ففي الواقع نقل قولين للإمام علیه السلام في رواية واحدة؛ أحدهما حكاية قضاء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والثاني قول الإمام علیه السلام نفسه.

الثاني: أنْ لا يكون للإمام الصادق علیه السلام ؛ فيكون المعنى أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال: (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ).

والإحتمال الأول يناسب ما يريده شيخ الشريعة إلا أنّه خلاف الظاهر الذي يناسب كون الكلام كلّه مقول قول واحد إلا أنْ ينصب قرينة على التعدد وإنّ الكلام انتهى في مقطع معين, وهي مفقودة في المقام فيكون كلمة (وقال) جزء من كلام الإمام الصادق علیه السلام الذي يرجع إلى كلام الرسول صلی الله علیه و آله و سلم , فيتعين الإحتمال الثاني.

وعلى فرض ذلك الإحتمال يكون من الجمع في الرواية من قبل الإمام الصادق علیه السلام , وقد جمع علیه السلام بين حديثين للرسول صلی الله علیه و آله و سلم لبيان كونه تعليلاً لقضائه وإنْ لم يكن قد ذكر النبي صلی الله علیه و آله و سلم كتعليل, إذ لا حاجة إليه في كلام الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ولكن الإمام فهم ذلك وفهمه حجة علينا.

وبالجملةِ؛ إنّ الجمع بين القضاء والقاعدة في رواية واحدة إنَّما هو من أجل بيان الحكم التكليفي في مورد الشفعة وفضل الماء تطبيقاً لهذه القاعدة, وتكون من الجمع بينهما تثبيتاً لهذه القاعدة, وتبياناً للحكم التكليفي في الموردين, وقد جمع الإمام علیه السلام فيهما عند النقل عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم , وكِلا الإحتمالين صحيح ولا تنافي بينهما.

ص: 135

وبذلك يثبت ما استفاده المشهور من هذا الحديث كقاعدة نافية للأحكام الضررية, إلا أنْ يثبت شيخ الشريعة قدس سره خلاف ذلك, من أنّ الجمع بينهما يكون من الجمع بين المتشتتات, وقد بذل عناية فائقة في هذا المجال لإثبات ذلك وادعى وقوع المعارضة بين رواية عبادة ابن صامت عند العامة ورواية عُقبة بن خالد عندنا في كون الحديث ذيلاً لقضاء أو كونه قضاءً مستقلاً وقدم ظهور رواية عبادة على رواية عقبة, وكلامه لا يخلو من اضطراب.وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) نكات لتعزيز ما ذهب إليه شيخ الشريعة؛ من كونه ذيلاً لقضاء النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالشفعة, ولا بُدّ من ذكر كلامهما وبيان ما يستفاد منه؛ وقبل بيان كلامهما لا بُدّ من التنبيه على أمر يرتبط بما يفهم من جميعِ الروايات الواردة في المقام, وهو أنّ الأصوليين إنَّما يريدون إثبات (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) كقاعدةٍ لنفي الأحكام الضررية في الشرع الآلهي, وهذا يحتاج إلى عناية غير ما تدل عليه بعض الروايات الواردة من إثبات حكم تكليفي في مواردها, ولرفع التهافت لا بُدّ من إرجاع أحدهما إلى الآخر؛ إمّا بأنْ يكون تلك من تطبيقات تلك القاعدة, ويشهد له أنّه ربّما يجمع بينهما في بعض الروايات. وإمّا أنْ نجعل لهذه القاعدة خصوصية زائدة وعناية فائقة؛ بأنْ يكون لها ميزة تثبيت أحكام تكليفية في بعض الموارد؛ فتحرم الفعل الضرري أو تُلزم شيئاً لدفع الضرر كما سيأتي بيانه مفصلاً, فتندفع الإشكالات الواردة في المقام.

إذا عرفت ذلك نقول: أمّا كلام شيخ الشريعة فإنّه يستند إلى أمورٍ ثلاثةٍ:

الأول: وثاقة عبادة بن صامت في نقله, كما ورد في مدحه وتوثيقه, ولتطابق روايته على طولها مع رواية عُقبة بن خالد من طرقنا وإنْ كانت موثقة.

ص: 136


1- . منية الطالب؛ ج2 ص207-208.

الثاني: إنّ عُقبة بن خالد قد سمع أقضية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من الإمام الصادق علیه السلام في وقت واحد ونقلها في رواية واحدة, إلا أنّ الأصحاب قطّعوها حسب مبناهم على ذكر كلّ مقطع في المورد المناسب له, وبذلك يضعف ظهور رواية عُقبة في التعليل.

الثالث: إنّ الإختلاف بين نقل عبادة بن صامت للأقضية وبين نقل عُقبة بن خالد لها يسيرٌ جداً؛ بحيث لا يوجب الإختلاف سوى كون الضرر ذيلاً لقضاءٍ آخر أو قضاءً مستقلاً, ولو فرض ظهور حديث عُقبة في الذيلية والتعليل فإنّه يرفع اليد عنه بواسطة معارضته مع رواية عبادة بن صامت؛ لسهولة الجمع بعد كون الإختلاف يسير, لأنّ نقل عبادة للأقضية متيقن؛ وفي الجميع نظر؛

أمّا الأول؛ فيرد عليه بأنّ عبادة بن صامت على فرض ثبوت وثاقته لا فائدة فيه بالنسبة إلينا, لأنّ الطريق إليه مروي بوسائط متعددة مجهولة وقد تفرد بنقل روايته أحمد بن حنبل في كتبهم. أمّا كون التطابق بين الروايتين موجباً لاعتبار رواية عبادة فقد أُشكل عليه كبرى وصغرى؛ أمّا الكبرى؛ فلأنّه ليس كلّ تطابق يكفي في حصول الجزم بالوثاقة إلا إذا كانت روايات كثيرة متطابقة, وأمّا الصغرى؛ فلأنّه لا يوجد تطابق بين الروايتين, إذ بينهما اختلاف في بعض الموارد, مع أنّ الأقضية الواردة في رواية عُقبة هي ثلث ما ورد في رواية عبادة, وهناك أقضية لغير عُقبة بن خالد, كما أنّ هناك أقضية يرويها عبادة لمتُنقل من طرقنا, كقضائه صلی الله علیه و آله و سلم أنّ الزوجة لا يجوز لها أن تتصرف في مالها بدون إذن زوجها, ولكن لنا كلام في ذلك ذكرناه في الفقه.

وأمّا الثاني؛ فقد استدلّ عليه بوجهين:

الوجه الأول: وحدة الراوي عن عُقبة بن خالد؛ ممّا يُستبعد كونها روايات متعددة.

وأُشكل عليه بأنّ عُقبة بن خالد له كتاب نقله النجاشي بسند ينتهي إلى الراويين الموجودين في تمام روايات عُقبة بن خالد, وربّما وصل هذا الكتاب إلى الكليني بسند ينتهي إلى هذين

ص: 137

الراويين أيضاً, والأقضية وردت في هذا الكتاب, فوحدة الرواة نشأت من وحدة الكتاب لا أنْ تكون وحدة الرواية, ويشهد له أنّ سائر روايات عُقبة عبر الأقضية أيضاً تنقل عنه بواسطة هذين الراويين.

وفيه: إنّ ذلك لا يضر بما قصده الشيخ الإصفهاني؛ فإنّه ربّما كان نظره إلى هذا المطلب أيضاً بأنْ كان المقصود وحدة الكتاب الذي جمع فيه أقضية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المنتهي إلى الرواويين اللذين يرويان عن عُقبة بن خالد, وقد قطعها الأصحاب حسب ما جائتهم.

الوجه الثاني: إنّ الأقضية المجتمعة في رواية واحدة لعبادة قد توزعت في أخبارنا وتفرعت, وهو ما لا يحصل إلا بأحد وجوه؛ إمّا أنّها صدرت من النبي صلی الله علیه و آله و سلم مرتين؛ نقل عبادة أحدهما ونقل الإمام الصادق علیه السلام الأخرى.

وإمّا أنْ يكون من ناحية تقطيع نفس الإمام الصادق علیه السلام أو الرواة.

وإمّا أنْ يكون من ناحية تقطيع أصحاب الجوامع حسب المواضع المحتاجة, والأولان مستبعدان فيتعين الثالث, وهو يوجب ضعف ظهور رواية عقبة بن خالد كما ذكره الإصفهاني قدس سره .

وفيه: إنّ الأقضية لم تكن في رواية واحدة وفي وقت واحد, وقد صدرت عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم في مجلس واحد, وإنّما هي روايات عديدة جمعها عبادة في كتابه من باب الجمع بين متفرقات بجامع كونها أقضية النبي صلی الله علیه و آله و سلم , والإمام الصادق علیه السلام لم يكن مسؤولاً عن سلوك عبادة.

وأمّا الثالث؛ وهو شدة المطابقة بين رواية عبادة ورواية عقبة ممّا يوجب فقدان الظهور في رواية عُقبة بن خالد في الذيلية او التعليل.

وفيه: ما عرفت من أنّه لا مطابقة بينهما في كثير من الأمور.

والحقُّ أنْ يقال بأنّ كلام المحقق شيخ الشريعة الإصفهاني بعيدٌ جداً عن مساق الرواية؛ فإنّ فيها من القرائن ممّا يوجب الظهور في الذيلية والتعليل, فإنّه على فرض توزيع أصحاب

ص: 138

الجوامع الروائية فإنّهم لم يوزعوا الروايات كيفما اتفق, فإنّه خلاف أمانة النقل والتوزيع الصحيح للروايات, بل لا بُدّ أنْ يكون توزيعهم حسب القرائن الواصلة إليهم, ممّا يحصل لنا الإطمئنان بذلك, فيوجب حفظ ظهور رواية عُقبة في الذيليّة والتعليل لقضاء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في الشفعة وفضل الماء والكلاء, يضاف إلى ذلك أنّ كلّ تلك الأقضية قد ذكر في صدرها جملة (قَضَىرَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم ) أو من قضاء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم , فكيف يجعل قدس سره كلمة (قال) دليلاً على الإستقلاليّة؟ وعلى فرض كونه قضاءً مستقلاً فلماذا كرر هؤلاء الموزعون الحديث ذكر (لَا ضَرَرَ) مرتين؛ مرة في الشفعة والثانية في فضل الكلاء والماء؟ وفي باب الضرار لم يذكروه كما عن الكليني؛ كلّ ذلك ممّا يوجب الإطمئنان على أنّ ذكر (لَا ضِرَارَ) في حديث الشفعة وحديث فضل الماء والكلاء على نحو التعليل والذيلية.

وما ذكره من أنّه على فرض ظهور الحديث في الذيلية والتعليل لا بُدّ من رفع اليد عن هذا الظهور بظهور رواية عبادة موهونٌ بأنّ ظهور حديث عبادة لا يخرج عن ظهور رواية عُقبة, ولا خلاف بين الظهورين لإحتمال صدور حديث الشفعة مرتين عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ؛ مرةً مع الذيل وأخرى بدونه, واحتمال إسقاط عبادة الذيل لعدم تأثيره في تغيير المعنى؛ فإنّ الحكم ثابتٌ، ولا ضرر تعليلٌ له ومن مصاديقه كما عرفت.

فما ذكره الشيخ الإصفهاني قدس سره لا يمكن قبوله.

وأمّا المحقق النائيني فقد ذكر نُكاتٍ لتأييد شيخ الشريعة من إنكار كون القاعدة ذيلاً لقضاء النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالشفعة, نذكر بعضاً منها:

الأولى: إنّ نفي الضرر لو كان ذيلاً للزم عدم نقل عقبة قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم ب- (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) وخلو روايته عنه, مع أنّ المشهور المعروف صدوره عنه صلی الله علیه و آله و سلم .

وفيه: إنّه لا ينافي المشهور؛ فإنّ أصله مذكور في رواية عقبة ككبرى تطبيقها على مورد الرواية, ولا يفرق فيه بين أنْ يكون قضاءً مستقلاً أو تذييلاً للشفعة, وربما ترك عُقبة القضاء المستقل

ص: 139

في روايته؛ إمّا لمعروفيته أو لأجل ذكره في ذيل قضاِ الشفعة ومنع فضل الماء.

الثانية: إنّ حكم الشفعة غير مربوط بقاعدة لا ضرر؛ لأنّه حكم خاص, ولولا النص عليه لمَا قلنا بالشفعة في الفقه على أساس قاعدة لا ضرر, فكيف يحتمل أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم قد طبّق القاعدة على موردٍ لا تنطبق عليه, وكذلك في التي عن فضل الماء.

ويرد عليه: ما ذكره في الفقه من صحة تطبيق قاعدة لا ضرر على الشفعة ووضع فضل الماء, وهما من مصاديق نفي الضرر عن الجار وعن الناس في الصحراء, وعلى فرض التنزل والقول بعدم كونهما من مصاديق لا ضرر بالمعنى المعروف لكن لا بُدّ من حمل الرواية على ما يوافق التطبيق على المورد لا حمل كلام الراوي على الإشتباه والتخطئة؛ فإنّه خلاف الأصل وظهور الكلام بعد ملاحظة خصوصياته وموجبات الوثوق بصدور الرواية عن المعصوم كما عرفت. ثم أنّهم اختلفوا في كيفية تطبيق لا ضرر على الشفعة, وذكروا كلاماً طويلاً ليس المقام محل ذكره.الثالثة: إنّ جملة لا ضرار غير مرتبطة بالشفعة؛ لأنّ الضرار بمعنى الإصرار على الضرر, وبيع الشريك حصته إنْ كان فيه الضرر لكن ليس فيه الإصرار.

وفيه: ما سيأتي في معنى الضرار؛ فإنّه يأتي قريباً ونذكر المناسب منها ممّا يصدق على الشفعة أيضاً, مع أنّ القاعدة نقلت بهذه الكيفية: (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ), ولا حاجة إلى تطبيق كلّ جملها على الموارد بل يكفي شطراً منها, فقد ذُكرت القاعدة بكِلا شطريها لكن المقصود شطراً منها, ومثل ذلك كثير في الفقه والمحاورة في التطبيق.

ومن جميع ذلك يظهر صحة ما ذهب إليه الكثير من العلماء من دلالة رواية عُقبة على هذه القاعدة ومشروعيتها, بل يعتبر من أمتن الأخبار؛ حيث ذكر فيها أصل القاعدة وتطبيقها ممّا يوجب تثبيتها.

هذا كلّه ما يتعلق بالطائفة الثانية.

ص: 140

أمّا الطائفة الثالثة؛ وهي المراسيل التي ورد فيها (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ), فقد يقال بوقوع التهافت فيها أيضاً باعتبار أنّه قد ورد في بعضها قيد (في الْإِسْلَامِ) فيما لم يرد في بعضها الآخر, أو وقوع التهافت بينها وبين الطائفتين السابقتين, ولا يخفى أنّ هذا الأخير موهون فإنّه يفرض فيما إذا كان وحدة القضية والموضع فيها, مع أنّه لا دليل على ذلك.

أمّا الأول؛ فقد ذكرنا في كلمة (على المؤمن) أنّه يوجب التهافت, من حيث المعارضة بين أصالة عدم النقيصة وأصالة عدم الزيادة والمعروف تقديم الأخيرة على الأولى في المحاورات.

ويرد عليه:

أولاً: تقدم أنّ المعارضة إنَّما تقع فيما إذا كانت الزيادة أو النقيصة مؤثرة في المعنى ومغيرة له, والمقام ليس كذلك, فلا تهافت ولا تعارض.

ثانياً: ذكر أنّ القاعدة إرتكازية فطرية لا ترتبط بدين الإسلام والشرائع الآلهية, بل هي قاعدة عقلائية أيضاً, فيكون ذكر الإسلام والمؤمن من أجل أنّ الإسلام أكمل الأديان وأتمها وإنّ المؤمن هو الأجدر بالإحترام لأنّه العزيز عند الله تعالى فلا بُدَّ أنْ يهتم المسلمون بعدم الضرر والإضرار بالغير -لا سيما بالمؤمن- إهتماماً زائداً أكثر من غيرهم.

هذا وقد ذكر المحقق النائيني في المقام أنّه على فرض التنزل والقبول بتقديم أصالة عدم الزيادة كبروياً كما ثبت في محله, إلا أنّ في المقام قرينتين تدلان على تقديم أصالة عدم النقيصة على عدم الزيادة:

الأولى: إنّ الزيادة وردت في رواية واحدة بينما النقيصة وردت في روايات عديدة, فيكون احتمال عدم النقيصة أقوى.

ويرد عليه: ما ذكرناه من أنّ عدم ذكر كلمة (على المؤمن) في الرواية التي يخاطب الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فيها سَمُرة إنَّما هو من أجل عدم لياقته بخطابه, فعدم اشتماله على الذيل من أجل

ص: 141

السالبة بانتفاء الموضوع, بينما اشتملت الرواية الأخرى على الزيادة لأجل انتفاء هذا المانع, فليس النقل الخالي عن الزيادة متعدداً.

الثانية: إنّ كلمة (على المؤمن) أو الإسلام؛ إنَّما أُضيفت باعتبار كونه ملائماً مع الذوق, ومناسبات الحكم والموضوع لمثل هذه القاعدة الإمتنانية والتي هي إحسان على العباد, فلا يكون اشتباه إضافة الكلمتين بعيداً, بخلاف سائر الزيادات التي لا تكون من هذا القبيل.

وفيه: إنّه خلاف الأصل العقلائي الدائر في المحاورات, مع أنّ مجرد مناسبة الزيادة مع أصل الكلام لا يكفي في رفع اليد عن هذا الأصل, كما أنّ المناسبة إذا كانت شديدة فإنّها كما تجري في الزيادة تجري في النقيصة أيضاً, ممّا يجعل ذهن الراوي منصرفاً إلى أنّ المطلق في قوة المقيد وإنْ لم يذكر القيد.

نعم؛ لا مجال في إنكار قاعدة مناسبة الحكم والموضوع في التشريع, ولكن ذلك صحيحٌ فيما إذا كانت المناسبة بلغت درجة من الوضوح بحيث يوجب أنس الذهن إليها ويُورث الظن النوعي, ولكن ذلك لم يحصل في المقام ولم توجد قرائن نوعية عليه ممّا توجب الظن النوعي الذي هو المناط في الحجة دون الظن الشخصي الحاصل في المقام ولا اعتبار به.

أمّا الطائفة الرابعة؛ فهي كلّها تطبيقات لقاعدة لا ضرر على سبيل إثبات حكم أو نفي حكم, وقد تقدم أنّه ممّا يوجب تثبيت (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) كقاعدة, وتبين حكماً تكليفياً في موارد تطبيقها.

ولا يخفى أنّ هذا النزاع الطويل لا يُؤثر في مفاد الأحاديث المتقدمة ولا ثمرة فيه من حيث دلالتها على القاعدة, لكن ذكرنا تلك المطالب إتماماً للفائدة فقط.

ص: 142

النقطة الثالثة: في البحث عن مفردات الحديث
اشارة

وقد ورد فيه فقرتان: لا ضرر, ولا ضرار. وفي بعض الأحاديث الإضرار.

والكلام يقع تارةً؛ في معنى الضرر, وأُخرى؛ في معنى الضرار.

معنى الضرر

أما تصريف هذه الكلمة، فقيل فيها: ضرّه, وضرّ به, وأضرّه, وضارّه مضارّة وضراراً.

أمّا معناه فقد قيل فيه:1- الضرر خلاف النفع, وهو الذي ذكره جمعٌ كثير من اللغويين في هذا الخبر, وقال في المصباح(1): الضَّر -بفتح الضاد- مصدر ضره يضره, من باب قتل إذا فعل به مكروهاً, وأضر به يتعدى بنفسه ثلاثياً, وبالباء رباعياً, والأسم الضرر, وقد يُطلق على نقص في الأعيان, وضارّه مضارّة وضراراً بمعنى ضرّه, وقيل: الضرر هو الأسم والضّرار هو المصدر, واختلافهم في كونه مصدراً أوأسم مصدر لا يوجب الإختلاف في الحكم المعلق عليها.

2- النقصُ في الأعيان.

3- الضرر بسوء حال الإنسان, وكلّ فعلٍ يتضمنه أيّاً كان مظهره.

4- إنّه عبارة عمّا يحدث للإنسان من ضيق أو كراهة.

5- إخراج ما في يد شخص من الأعيان والمتاع بلا عوض له.

6- إنّه الشدة والحرج والضيق وغير ذلك.

ولا ريب أنّ المعنى الأول هو الأشمل والجامع لكلّ ما ذكر, كما يقال الخير ضدّ الشّر؛ فإذا كان الضرر في الأموال يكون بمعنى تلف شيء من مال شخص أو من مال نفسه؛ عيناً

ص: 143


1- . المصباح المنير؛ ص360.

كان أو منفعة بلا عوض له, وإنْ كان في الأفعال فهو إتلاف شيء من أملاك شخص أو نفسه. وأمّا عند العرف والمحاورات فهو النقص؛ سواءً كان مالياً أم نفسياً أم عرضياً, وبينه وبين النفع تضاد عرفاً كما يقال الخير ضد الشر؛ فيمكن إرتفاعهما؛ كَمَن باع متاعه برأس المال مثلاً فلا يصدق بالنسبة إليه النفع والضرر وإنْ لم نقل بالتضاد بينهما يكون تفسيره بعدم النفع من التفسير بالأعم كما عليه عادة اللغويين.

والحقُّ أنْ يقال: إنّ الضرر عنوان إنتزاعي مما يحصل من الحدث والخلل في الفرد في حياته وشؤونه من جاهه وعنوانه أو عرضه أو ماله؛ سواءً كان راجعاً إلى نفسه أم إلى أحد متعلقيه فيشمل جميع ما ذكره اللغويون والفقهاء وغيرهم, مثل عنوان ما يكرهه أو ما يسؤه أو تسوء به حاله أو ينقص منه ممّا هو ضد النفع, فلا يختص بالضرر المادي بل يشمل الضرر المعنوي أيضاً كما يشمل الأعيان والمنافع, وهذا المعنى الجامع هو الذي تؤيده القوانين الوضعية الدائرة في الفقه المدني المعاصر, بعدما كان الإتجاه السائد في الفقه الإسلامي والمدني غير المعاصر هو حصر الضرر بالجانب الحسي في المسؤولية المدنية.

وبناءً على ما ذكرناه تنحل معضلات شاقة بعد انفتاح العالم ودخول أمور لم تكن يتوقعها الإنسان قبل فترة وجيزة, فتشمل الشركات وحقيقتها, والبنوك وفروعها, والمواصلات بأنواعها؛ السلكية وغير السلكية, وشبكات التواصل الإجتماعي ومايترتب عليها, وغير ذلك. فإذا اقتصرنا على الجانب الحسي فقط فإنّه يستلزم خروج كثير من تلك الموارد عن هذه القاعدة, إلا أنّ القول بهذه التوسعة لمعنى الضرر لا بُدّ له من مقومات بعد ذكر العلماء الصغريات الخاصة لها, إلا أنْ نقول بأنّها من باب المثال وما وصلت إليه مدركاتهم, وأمّا بعد التوسعة الهائلة في مصاديق الضرر والنفع فلا بُدَّ من توجيه جديد ليشملها جميعاً, وإذا أردنا أنْ نذكر الأمثلة لَطال بنا الكلام, بعد إمكان اختصاره في بيان

ص: 144

الكبرى وتطبيقها على مصاديقها. ويشهد لما ذكرناه العرف المعاصر الذي يختلف عن العرف القديم الذي كان محدوداً بما توصل إليه من الحس, ولكن لا بُدَّ أنْ يكون له شاهد عرفي على صدق الضرر, وإلا فليس كلّ ضيق على الإنسان يسمى ضرراً عرفاً, ويمكن أنْ يستفاد ممّا ذكره العلماء من الأمثلة للضرر ومقوماته التي إنْ توفرت شمله الحديث.

وقبل بيان ذلك لا بُدّ من التنبيه على أمور:

1- الضرر مفهوم عرفي؛ لا بُدَّ في تعيينه من الرجوع إلى العرف, وهذا الأمر ممّا لا إشكال فيه عند الجميع.

2- ربّما يختلف العرف بحسب الزمان والمكان؛ فربّما يكون عنوان ضرري في العرف القديم لم يكن كذلك في العرف المعاصر والعكس صحيح أيضاً, كما هو الأمر كذلك بالنسبة إلى الأمصار والأمكنة.

3- العرف؛ تارةً؛ يكون دقياً مبنياً على ضوابط ومقررات عند العقلاء, وأخرى يكون مسامحياً يرى كلّ هم وغم يحصل للإنسان من شخص آخر هو ضرر. والمدار في العرف هو القسم الأول؛ أي العرف الدقي المبني على فهم دقيق عند العقلاء.

4- يختلف نظر العرف تبعاً لانتماءاتهم الفكرية وانغمارهم في الماديات, بحيث يوجهون كلّ عنوان على الفكر المادي كما في الزمن المعاصر؛ فإنّ القيم الخلقية التي كانت بمعزل عن التفسير المادي قد أصبحت تفسر بالتفسير المادي وبما يرجع إلى المصالح الخاصة الدنيئة وبما يجلب لهم المادة لا لكونها خيراً محضاً, لها الدخل في سعادة الإنسان وقربه إلى الكمالات الواقعية, فقد اعتبروا الصدق الذي يعد من أهم الأخلاق الفاضلة صدقاً إذا كان سبباً في جلب المادة من المال والجاه عندهم, والكذب يعد عند الإنسان المعاصر خُلقاً كريماً إذا رفع عنه الضرر

ص: 145

أو جلب المال له وهذا هو أساس ضياع الإنسان المعاصر؛ حيث لم تعد عنده قيم يرجع إليها, فأصبح الإنسان يفتش عن الطرق المختلفة في دفع تهافته وصار في منحدر أخلاقي لا يعلم عواقب الأمور وما يؤول إليه عاقبته إلا الله تعالى, وعلى ضوء هذه الأمور تتضح مقومات الضرر وأركانه.

مقومات وأركان الضرر:

1- أنْ يحكم العرف بأنّه ضرر وليس المدار على ما يحكم فيه الشخص المتضرر أو أفراد معدودين.

2- أنْ يكون الضرر ممّا يوجب نقصاً مادياً أو ما يحكم به العرف أنّه من قبيل المادي.

3- لا ينطبق الضرر على ما يوجب الهم والغم للإنسان, وإنْ عدَّهُ بعض الأفراد من الضرر فإنّه من التوهم والمجاز لا أنْ يكون من الحقيقة بشيء.

4- لا يختص عنوان الضرر بالفرد الحقيقي بل يشمل الفرد الإعتباري, كالشركات والبنوك ونحوها.

فإذا تحققت هذه الأركان ينطبق عليه عنوان الضرر ويشمله الحديث فيدخل فيه كثير من المصاديق التي ذكرها الفقهاء قديما وما أدرجه العلماء في عصرنا الحاضر, وفي كلّ موردٍ يُشكّ في انطباق الضرر عليه لا بُدّ من الرجوع إلى القواعد والأصول المناسبة, فيشمل النقص المادي كلاً أو جزءً, كما يشمل النقص المنفعي او الإنتفاعي؛ كما يشمل النقصان الحاصل من تحديد سلطة المالك من التصرف في ماله, كما في الغاصب الذي يمنع الإنسان من التسلط على ماله أو التصرف فيه, كما يشمل الأضرار الأدبية التي توجب الإساءة إلى العرض وسقوط الإنسان من أعين الناس وفقدان شخصيته المعنوية, كما يشمل المنع من المنافع؛ كما إذا كانت له شجرة مثمرة فاستعمل الضار دواءً أوجب تعطيل قدرتها على

ص: 146

الإثمار مع بقاء أصلها بحيث لولا هذا الدواء لأنتجت الثمرة بحكم أهل الخبرة. وهكذا لو فعل في الدابة فعلاً أوجب عدم قدرتها على الحمل أو المشي, وكذا في السيارات الحديثة؛ فإنّ العرف يحكم في جميع هذه الحالات بالضرر, إذ لم يفرق عندهم بين قطع الشجرة أو ما يوجب توقفها عن الإثمار, وكذا ما إذا فعل حدثاً في البئر ممّا أوجب غور مائها أو جفافه, كما لا فرق بين أنْ يكون الضرر متعلقاً بالنفس أو بالغير, فإنّ الضرر هو ما أوجب خللاً في العناصر الحيوية في الأشياء؛ إمّا بإزالتها أو تعطيلها ممّا لا يمكن الإنتفاع منها, او إهدار نفع حاصل فعلاً, بحيث يُحدث عملاً يوجب الضرر من دون إذن المالك.

وبعد معرفة معنى الضرر يتوجه على ذلك بعض الإشكالات لا بُدّ من دفعها:

الإشكال الأول: أقوال اللغويين الذين ذكروا المعاني الخاصة التي تقدم ذكرها, فإنّه لا بُدَّ من متابعتهم لأنّهم أهل الخبرة في هذا الفن.

ويرد عليه: ما تقدم في البحوث السابقة من عدم حجية قول اللغوي إلا إذا أوجب الإطمئنان؛ فإنّ اللغويين إنَّما يذكرون موارد الإستعمالات, فهم أهل خبرة فيها, لا أنْ يكونوا أهل خبرة في المعنى الموضوع له, فإنّهم غالباً ما يذكرون موارد استعمال اللفظ ويفسرون الألفاظ بالأعم فقد يكون ما ذكروه هو المعنى الحقيقي؛ففي المقام إنَّما يذكرون للضرر معنى سوء الحال مثلاً, وهو عنوان عام ينطبق على النقص مطلقاً من البدن أو المال, كما ينطبق على ما إذا هتكت حرمته ونحو ذلك, فهو معنى عام يشمل النقص المادي وغيره, ولكن ذكرنا في حجية الظواهر أنّ استبعاد قول اللغوي على الإطلاق غير سديد؛ فإنّ اللغويين على قسمين؛ قسمٌ يذكر المعاني المستعملة ودوره في ذلك هو في تعيين هذه المعاني من دون أنْ يكون أهل خبرة في تمييز المعنى الحقيقي والمعنى المجازي الذي هو المناط في معرفة المعنى الموضوع له وهو الغالب فيهم.

ص: 147

وقسمٌ آخر منهم؛ لهم الباع الطويل في تحقيق المعنى الموضوع له اللفظ وتمييز المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ويدقق في ذلك؛ فإنّ مثل هؤلاء يكونون من أهل الخبرة في هذا الفن, وحجية قول أهل الخبرة من المسلّمات, ولعلّ هذا القسم هو المراد من قول بعض الأصوليين من حجية قول اللغوي إذا أوجب الإطمئنان.

وكيف كان؛ فإنّه بعد معرفة ما ذكرناه من أقوال اللغويين في معنى الضرر فإنّ المستفاد منها أنّهم يذكرون المعاني العامة المستعملة لا المعنى الموضوع له لفظ الضرر, فلا يمكن الإعتماد على أقوالهم في تمييز المعنى الحقيقي عن المعنى المجازي.

الإشكال الثاني: أقوال الفقهاء التي تقدم نقل بعضها؛ فإنّه يقال باعتبارها لأنّهم أهل خبرة في هذا المجال أيضاً, فلا يصح التعدي عن أقوالهم.

ولكن الحقُّ أنّ الفقهاء لم يتعدوا عمّا ذكره اللغويين في هذا المجال, فهم قد يدونون ما ذكروه في كتبهم الفقهية عن أقوال اللغويين, وربّما ذكروا ما فهمه العرف من هذا اللفظ, وهو صحيح بعدما لم يرد من الشرع الحنيف في تحديد معنى الضرر لنتعبد به, وقد عرفت آنفاً أنّ المعنى العرفي هو المتعيّن في المقام لكن بعد توفر أركانه ومقوماته كما تقدم بيانها. والحاصل؛ إنّه لا بُدَّ من إرجاع كلمات الفقهاء المختلفة إلى ما ذكرناه أو تأويلها بما يوافق ذلك لأنّه المعنى الأقرب إلى العرف المعاصر, وسيأتي مزيد بيان لذلك إنْ شاء الله تعالى.

معنى الضرار

الكلام فيه يقع من جهتين؛ المبنى اللفظي، والمعنى الحقيقي.

الجهة الأولى: في المبنى اللفظي؛ فالضرار هو من مادة الضرر من حيث صيغته؛ إمّا مصدر أو إسم مصدر, والمحتملات فيه ثلاثة:

الأول: أنْ يكون مصدراً من باب المفاعلة المأخوذ من الثلاثي المجرد فيكون فعال من المفاعلة.

الثاني: أنْ يكون مصدراً للثلاثي المجرد, أي ضرّ من باب كتب كتاباً, وحسب حساباً.

ص: 148

الثالث: أنْ يكون مصدراً من باب المفاعلة غير المزيد فيه, أي غير المأخوذ من الثلاثي المجرد؛ من قبيل سافر المأخوذ من السفر, لا أنْ يكون مأخوذاً عن سفر فإنّه بمعنى الكشف.

وعلى الإحتمال الأول؛ ذكر المشهور أنّ الأصل في المفاعلة أنْ يكون بين إثنين, فيكون معناه إضرار أحد الطرفين بالآخر.

واعترض عليه المحقق الإصفهاني قدس سره (1)؛ بأنّ المفاعلة لا يُشترط فيها أنْ تكون بين إثنين, واستشهد عليه بأنّه يستعمل في موارد من دون أنْ يؤخذ فيه ذلك, مثل قوله تعالى للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم حين أسري به: (يَا مُحَمَّدُ؛ مَنْ أَهَانَ لِي ولياً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)(2) وغير ذلك من الشواهد التي ذكرها من القرآن الكريم والسنة الشريفة.

وقد إستشكل عليه السيد الصدر قدس سره (3)؛ وقبل بيان إشكاله لا بُدَّ من إيراد ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره وبيان مختاره؛ وحاصل كلامه ينقسم إلى مقاطع ثلاثة:

المقطع الأول: ذكر الشواهد القرآنية والروائية التي لم يؤخذ فيها هذا الشرط؛ وهو كونه فعلُ الإثنين من قبيل خادع ونافق وغيرهما.

المقطع الثاني: إقامة البرهان على عدم كون باب المفاعلة بين الإثنين بعد ذهاب المشهور إلى اعتباره فيه, كما قالوا في مضارب من أنّه لا يتحقق إلا بين طرفين كلّ واحد منهما يضرب الآخر, فهو نظير باب التفاعل وإنْ كان فرق بينهما؛ وذلك في أنّ النسبتين في باب التفاعل في عرض واحد, ومن أجله يرفع فيه كلا المعمولين كما في قولهم تضارب زيدٌ وعمروٌ, وأمّا باب المفاعلة طوليان وتكون إحداهما في الهامش, ولهذا يرفع أحد المعمولين وينصب الآخر, كما في قولهم ضارب زيدٌ عمرواً.

ص: 149


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص437-438.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج2 ص352.
3- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص456-459.

وقد اعترض عليهم المحقق الإصفهاني بأنَّ المحتملات في المفاعلة ثلاثة, فإمّا أنْ نقول بأنّ باب المفاعلة يدلّ على إحدى النسبتين فقط, فيكون ضارب بمعنى ضرب من هذه الناحية. وإمّا أنْ نقول بأنّه يدلّ على النسبتين كما في باب التفاعل, إلا أنّ الدلالة عليهما تكون بمعنى الدلالة على ما ينتزع من النسبتين وهي نسبة ثالثة. وإمّا أنْ نقول بأنّه يدلّ على نفس النسبتين مع طولية بينهما في باب المفاعلة, بخلاف باب التفاعل فإنّه لا طولية بينهما؛ وهذا هو مختار المشهور.

أمّا الأول؛ فهو الذي اختاره في قبال المشهور. وأمّا الثاني؛ فإنّه يرد عليه بأنّه لا يبقي فرق بناء عليه بين باب المفاعلة وباب التفاعل, مع أنّه لا إشكال في وجود الفرق بينهما, وأمّا الثالث؛ فإنّه يرد عليه:1- إنّ دلالة الهيئة على نسبتين غير صحيحة على حدّ عدم صحة دلالة اللفظ على معنيين.

2- إنّه لا يتعقل الطولية بين النسبتين, فإنّ اللفظ يدلّ على مجرد معناه ونسبتهما إلى فاعلهما, ومن الواضح أنّهما نسبتان في عرضٍ واحدٍ, هذا إذا أريد دلالة الهيئة على النسبتين بالمطابقة مع فرضِ طوليةٍ بينهما ثبوتاً.

وأمّا إذا أريد الطولية بين النسبتين إثباتاً؛ بأنْ تدلّ الهيئة على إحدى النسبتين بالمطابقة وعلى الأخرى بالإلتزام من دون لزوم إستعمال الهيئة في معنيين, لأنّه لم تستعمل إلا في إحدى النسبتين التي دلّت عليها الهيئة مطابقة؛ فإنّه يرد عليه بأنّ هذا فرعُ وجودِ ملازمة بين النسبتين مع أنّه ليس هناك أيّ ملازمة بينهما.

المقطع الثالث: بيان المختار؛ وهو أنّ باب المفاعلة يدلّ على إحدى النسبتين كالثلاثي إلا أنّه يدلّ على التعدية, فإنْ كان الفعل لازماً يصبح متعدياً في هذا الباب, فتكون المفاعلة

ص: 150

من قبيل إلحاق حرف التعدية على الفعل, فمعنى جالستُ زيداً مثل جلستُ إلى زيدٍ, وأمّا إذا كان الفعل متعدياً قبل هيئة فاعل, فبدخولها عليه تصبح التعدية ملحوظة وجلية وهو نوع توكيد وتثبيت للتعدية, وهذا كله محصل كلام المحقق الإصفهاني قدس سره في المقام.

واستشكل السيد الصدر قدس سره على جميع مقاطعه, وأمّا المقطع الثالث فأورد عليه:

1- إنّ ما ذكره عن عدم تغير معنى الفعل المتعدي عند دخوله في باب المفاعلة فهو غير صحيح, بل التحقيق تغير المعنى بملاحظة الأفعال التي يتغير مفعولها بعد تغير معناها بدخولها في باب المفاعلة, كقولك طرحتُ الثوب, وطارحتُ زيداً الثوب, فالمفعول أصبح زيداً بعد أنْ كان هو الثوب, ولعلّ الخلط نشأ من ملاحظة الأفعال التي لا يتغير مفعولها بعد دخولها في باب المفاعلة كضرب زيداً وضاربته, فيتخيل أنّ المعنى لا يتغير.

2- إنّ ما ذكره من الفرق بين صيغة المفاعلة وبين الثلاثي المجرد المتعدي بنفسه؛ من أنّ المفاعلة موضوعة للتعدي الملحوظ مستقلاً, فإنّه يرد عليه بأنّه إنْ أريد به وضع المفاعلة لمفهوم التعدية فهو واضح الفساد, لأنّه مفهوم إسمي ولا يحتمل إرادته ذلك, وإنْ أريد أنّها تدلّ على منشأ انتزاع التعدية فمنشأه نفس معنى الفعل الذي يدلّ عليه الثلاثي أيضاً, وإنْ أريد كما هو ظاهر ذيل عبارته أنّ المفاعلة تدلّ على تقصد الفاعل حيث إصدار الفعل بلوغ الفعل إلى المفعول وتعديته إليه, فقولك خدعه يدلّ على أنّه ألبس عليه الأمر, ولا يستفاد منه كونه قلبياً متقصداً بخلاف خادعه, ففيه منع مساعدة العرف على ذلك خصوصاً في بعض الموارد كقابلته, فإنّه يصح أنْ يقال قابلته إتفاقاً, أو صادفته؛ حيث أنّ المادة لا تنسجم مع التقصد والعمد.

ص: 151

3- إنّ ما أفاده من أنّ باب المفاعلة يفيد في حق الثلاثي اللازم ما يفيده حرف الجر والتعدية وهوخلط بين معنيين للتعدية؛ أحدهما؛ التعدية الحقيقية التي تعني كون الفعل صدورياً من أحدهما وينتهي إلى الآخر, أي يتقوم بنسبة ذات طرف فاعل وطرف مفعول به, لا ذات طرف واحد كما في الأفعال الحلولية.

والآخر؛ التعدية بالحرف الذي لا يعني تغير معنى الحلولي إلى الصدوري, فإنّه غير معقول في نفسه, بل بمعنى تخصيص النسبة الحلولية, أي المادة المنتسبة وتقييدها بالمجرور. والتعدية الحاصلة في باب المفاعلة من النوع الأول لا الثاني؛ فإنّه فرق كبير بين جالست زيداً وجلست إلى زيدٍ, من حيث أنّ جالست يعطي معنىً متقوماً بطرفين؛ فاعل ومفعول ويكون صدورياً, بخلاف جلست إلى زيد الذي لا يفيد إلا الجلوس إلى زيدٍ دون عمرو.

ومن جميع ذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره ؛ من أنّ باب المفاعلة لتعدية الأفعال اللازمة فتكون بحكم حرف التعدية.

والحقّ أنْ يقال: إنّ ما ذكره قدس سره غير تام؛ فإنّ الذي بينه إنَّما انطلق من فكرة الإثنينية المتقوم بها باب المفاعلة, التي اعتبرت من المرتكزات في الأذهان وعليه أساس فهم المشهور, وقد بيَّن المحقق الإصفهاني أنّ ذلك غير تام على نحو الكلية, فهو لم ينفِ أنّ بعض موارد باب المفاعلة يتقوم بالإثنينية, وبعضها لا يمكن تصوير الإثنينية فيه, وإنْ كان الغالب تصور الإثنينية فيها ممّا فهم المشهور منها المشاركة بين الطرفين, ولكن يمكن إثبات هذه المشاركة بوجه آخر مقبول في المفاعلة, بمعنى قيام الشخص الفاعل بإيجاد المبدأ وتحقق أثره في الطرف الآخر, وإنْ لم يستلزم أنْ يكون فعل الطرفين.

ص: 152

توضيح ذلك: إنّه لا ريب في اختلاف مفاد باب المفاعلة والفعل الثلاثي, فإنّ قتل وخدع وصبر ونحو ذلك تفيد معنىً, بينما قاتل وخادع وصابر وجاهد تفيد معنى زائداً على الأفعال الثلاثية منها, فالمشهور يذهب إلى المشاركة في باب المفاعلة, بمعنى أنْ يكون المبدأ حاصلاً من الطرفين, لأنّ أغلب الموارد تكون كذلك, فاستفيد منها الشرطية على فهم المشهور, ولكن الصحيح أنّ هذه الموارد لا تدلّ على ذلك, بل المقصود من هذه التعابير تعلق الفعل وارتباطه بالإثنين.نعم؛ قد يكون المبدأ بنفسه في بعض الأحيان يقتضي صدوره من الطرفين قبل لفظ المشاركة لأنّ طبيعة هذه المادة تقتضي ذلك, وكذلك المقاتلة وغيرهما, فإنّ المقاتلة والمشاركة تعطي معنى الإثنينية, إلا إنّه في غير هذه الموارد لا يستفاد أنّ المشاركة في باب المفاعلة صدور المبدأ من كلٍّ من الطرفين, بل بمعنى أنّ المبدأ متعلق باثنين ولو كان دور أحدهما الفاعل والآخر دور المنفعل الذي يوجه إليه الفعل؛ فيكون معنى (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)(1) أنّهم يفعلون فعل المخادع لله والذين آمنوا, فتكون هيئة فاعل توحي بوجود شخص آخر؛ إمّا أنْ يكون قصد الفاعل إظهار أثر فعله عليه حقيقة أو إدّعاءً وتحكماً ونحو ذلك, لكن في جميع ذلك مع قطع النظر عن المادة, وهذا هو مقصود المحقق الإصفهاني قدس سره من كلامه المزبور, فليس مقصوده إسقاط المشاركة من باب المفاعلة حتى يُورد عليه بما ذكره السيد الصدر قدس سره من الإعتراض بالنقض في موارد لا تكون من تطبيقات ما أراده المحقق الإصفهاني قدس سره , ولعلّ تغيير المفعول وعدمه في بعض موارد باب المفاعلة يرجع إلى ما ذكرناه.

ص: 153


1- . سورة البقرة؛ الآية 9.

والحاصل من جميع ذلك:

أولاً: إنّ باب المفاعلة تقتضي الأثنينية وصدور المبدأ من الطرفين في موارد لا يمكن إنكارها كالمشاركة والمقاتلة.

ثانياً: إنّ في بعض موارد باب المفاعلة لا يتغير مفعولها كضرب زيداً وضاربته.

ثالثاً: إنّ باب المفاعلة يجعل الفعل اللازم متعدياً كحرف التعدية, لكن باب المفاعلة يزيد معنى بخلاف حرف التعدية؛ كما يقال إنّ التعدية في باب المفاعلة تجعل النسبة ذات طرفين, وأمّا حرف التعدية فلا يجعل المعنى الحلولي صدورياً.

رابعاً: إنّ باب المفاعلة في الفعل المتعدي يجعل فيه ميزة خاصة لا توجد في نفس الفعل المتعدي؛ سواءً كانت هذه الميزة في لبس التعدية بمعنى تقصد الفاعل إظهار أثر المبدأ في الطرف, أم جعله بحيث يكون طرفاً تحكماً وإدعاءً ونحو ذلك.

خامساً: إنّ باب المفاعلة على العموم -إلا في بعض المصاديق والموارد- يفيد وجود شخص آخر في البين يكون دوره دور المنفعل؛ سواءً كان حقيقياً أم إدعاءً أو تقصداً, وغير ذلك من الوجوه المحتملة.

ومن جميعِ ذلك يظهر أنّ ما ذكره السيد الصدر قدس سره لا يمكن قبوله, وأمّا ما ذكره في الفعل اللازم والمتعدي من أقوال النحاة وغيرهم فله موضع آخر لا ربط له بالأصول. هذا كلّه في المقطع الأخير من كلام المحقق الإصفهاني قدس سره .

أمّا المقطع الثاني؛ فقد أورد السيد الصدر قدس سره (1) على ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره من دلالة المفاعلة على نسبتين طوليتين بأنّه غير صحيح, بل المستفاد من كلامهم من أنّ المفاعلة وضعت لنسبة المادة إلى الفاعل مضمناً معنى الشركة, فقولك ضارب زيد عمراً

ص: 154


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص455.

معناه صدور الضرب المقيد بكونه مشاركاً فيه مع عمرو من زيد, فكأنّما قال شارك زيداً عمراً, فباب المفاعلة لا يخرج أنْ يكون بين الإثنين بنحوٍ يكون أحدهما فاعلاً والآخر مفعولاً ودالاً على نسبة الفعل إلى الفاعل مع تطعيمه معنى المشاركة, وبهذا يختلف عن باب التفاعل فلا يلزم دلالة الهيئة على معنيين ولا عدم الفرق مع باب التفاعل ولا سلخه عن فعل الإثنين.

ويرد عليه: إنّه قد ذكرنا بأنّ معنى المفاعلة هو صدور الفعل من الفاعل وانتهاؤه إلى الغير بالتفصيل المذكور, فلا وجه للتطعيم بل لا معنى له إلا إذا رجع إلى ما ذكرناه, مع أنَّ التطعيم وتضمين فعل معنى فعل آخر يحتاج إلى عناية خاصة كما هو المعروف في علم الفصاحة والبلاغة, إذ ليس كلّ مورد يصح ذلك؛ لا سيما إذا أمكن تصحيحه بوجه آخر مقبول, وقد عرفت أنّ باب المفاعلة يفيد وجود شخص آخر في البين يكفي أنْ يكون دوره دور المنفعل, ولا حاجة إلى تضمين المفاعلة معنى الشركة؛ فإنّه بعيد جداً فما ذكره خلاف التحقيق.

وأمّا المقطع الأول؛ فقد أورد عليه عدّة إيرادات يظهر الجواب عنها ممّا سلف ذكره فلا وجه للإعادة.

ثمّ إنّه قدس سره ذكر أنّه يمكن تصوير معنى باب المفاعلة بنحوٍ آخر بالقول بأنّ صيغة المفاعلة كضارب تدلّ على أمورٍ ثلاثة:

1- مادة الفعل كالضرب الدال على طبيعة الضرب؛ صيغة فاعل أو الألف الزائدة الدالة على تحصيص المعنى المستفاد من تلك المادة, وفرض الضربين عملية واحدة تبدأ في الذهن من زيدٍ وتنتهي إلى عمرو.

ص: 155

2- مجموع الأمرين من هيئة الثلاثي المجرد المحفوظة لا بحدِّها ضمن صيغة فاعل, أو القول هيئة الفعل الدالة على المعنى الأصلي للمادة, والتحصيص الزائد المستفاد من هذا الباب إلى الفاعل, وبهذا المعنى يمكن تفسير كلّ الوجدانات اللغوية مطلقاً.

والصحيح؛ إنّ ذلك يرجع إلى ما ذكرناه من المعنى العرفي في باب المفاعلة, لكن مع توجيه كلامهُ بأنّه لم يلاحظ في هذا المعنى الضربين والنسبتين وإلا عاد الإشكال؛ إذ ليس في هذا الباب إلا نسبة واحدة نشأت من إسناد الضرب إلى الفاعل.

هذا كلّه في صيغة المفاعلة, وتثبت بها كلمة الضرار.

الجهة الثانية: في المعنى الحقيقي للضرار

وقد ذكروا له معانٍ متعددة عمدتها أربعة:

1- أنْ يكون بمعنى الضرر بناءً على كونه مصدراً للثلاثي المجرد وإنّما ذكر تأكيداً وإهتماماً بنفيه.

وأورد عليه بأنّ تكرار صيغة المصدر من ضرر إلى ضرار مرة ثانية لا بُدَّ أنْ يكون من أجل تغيير في المعنى تصوراً وأخذ عناية زائدة فيه, كالإصرار والتعمد ونحو ذلك, وإلا كان تكراراً صرفاً.

وفيه: إنّه ليس من التكرار الصرف إذا كان بعناية التأكيد والإهتمام بنفي الضرر إلا إذا قام دليل على نفيه, كما يقال إنّ الحديث الذي ورد فيه جملة (إنّك رجل مُضار) ينفي التأكيد ويبعده.

2- أنْ يكون فعل الإثنين حقيقة؛ نظراً إلى ظاهر هيئة المفاعلة التي تدلّ على أنَّه فعل الإثنين.

ص: 156

وفيه:

أولاً: ما عرفت من نفي كون الأصل في باب المفاعلة من الطرفين.

ثانياً: عدم مناسبة هذا المعنى لِما ورد في أخبار المقام؛ لأنّ الضرر فيه كان من طرف واحد, وهو الحاصل من سمرة بن جندب الأنصاري لا من الطرفين وإنْ فُرض أنّ هناك دعوى من سمرة بأنّه يتضرر من عدم دخوله على نخلته فإنّه لم يكن ضرراً عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم مع أنّه على فرضه يستلزم من استعماله التكرار, لأنّ نفي الضرر يكون بنفيه من الطرفين.

وفيه: إنّ المعروف أنّ المورد لا يخصص العام؛ فإنّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم في مقام إلقاء قاعدة كلية تشمل كلّ ضرر فردي, أو الضرار الجمعي, والحاصل من الطرفين أو الأطراف.

3- أنْ يكون المراد منه الضرر الشديد المؤكد.

وردّ بأنّ هذا يلزم منه التكرار لأنّ الضرر الشديد أيضاً منفي بلا ضرر.

ويمكن الجواب عنه بأنّ عناية التأكيد والتشديد فيه ينفي التكرار.

4- أنْ يكون بمعنى الضرر المتعمد, وهو الذي ركز عليه المحقق النائيني(1) وتبعه جمعٌ مِمَّن تأخّر عنه, ويدلّ على هذا المعنى أغلب التعبيرات الواردة في النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة الشريفة, ومنها؛ قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ)(2), ولا ريب أنّ مفهوم مسجد الضرار هو الذي أريد به الإضرار بالمجتمع الإسلامي بإيجاد الفرقة بين صفوفهم.

ومنها؛ قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا)(3).

ص: 157


1- . منية الطالب؛ ج3 ص379.
2- . سورة التوبة؛ الآية 107.
3- . سورة البقرة؛ الآية 231.

ومنها؛ قوله تعالى: ( لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا )(1), فإنّ تعمد الإضرار ظاهر في هذه الموارد.

ومنها؛ ما رواه هَارُونَ بْنِ حَمْزَةَ الْغَنَوِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي رَجُلٍ شَهِدَ بَعِيراً مَرِيضاً وهُوَ يُبَاعُ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ, فَجَاءَ وأَشْرَكَ فِيهِ رَجُلًا بِدِرْهَمَيْنِ بِالرَّأْسِ والْجِلْدِ, فَقُضِيَ أَنَّ الْبَعِيرَ بَرَأَ فَبَلَغَ ثَمَنُهُ دَنَانِيرَ؛ قَالَ: فَقَالَ لِصَاحِبِ الدِّرْهَمَيْنِ: خُذْ خُمُسَ مَا بَلَغَ. فَأَبَى؛ قَالَ أُرِيدُ الرَّأْسَ والْجِلْدَ. فَقَالَ علیه السلام : (لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ هَذَا الضِّرَارُ وقَدْ أُعْطِيَ حَقَّهُ إذا أُعْطِيَ الْخُمُسَ)(2)؛ فإنّ إصرار الشريك على أخذ الرأس والجلد إضرار متعمد, مع أنّ حصته هي الخمس.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ هذا الحديث الشريف من جوامع كلماته الشريفة التي تميز به علیه السلام فقد ألقى هذا الكلام على نحو القاعدة الكلية التي تجمع جميع ما يمكن أنْ يدخل تحتها من الصغريات المتصورة, وهو بإسلوبه الخاص يفيد قانوناً شاملاً فيه التأكيد والإهتمام بهذا الموضوع المهم الذي يعلم صاحب الشرع الحنيف ابتلاء الناس بمفرداته من الضرر والضرار, فهو قد اشتمل على جميع ما ذكروه في معنى الضرر والضرار, نذكر منها:

1- إنّه يشمل الضرر الشديد كما يشمل غيره.

2- يشمل الضرر المتعمد وغيرها.

3- يشمل الضرر المتقابل وغيره.

4- يشمل الضرر الحاصل من فرد واحد والحاصل من الجمع في الضرر الفردي وغيره ممّا يبتني على اتخاذ الضرر ذريعة إلى ضرر الآخرين.

5- إنّه بأسلوبه الخاص يدلّ على التأكيد والإهتمام بنفي الضرر مطلقاً.

ص: 158


1- . سورة البقرة؛ الآية 233.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص293.

6- إنّه يشمل الضرار المادي, أي النقص في المال أو في حقٍ من الحقوق أو ما يوجب الشدة والضيق في الكرامة.

ولا يستلزم من اشتماله على تلك المعاني إستعمال اللفظ في أكثر من معنى؛ فإنّها لم تخرج عن المعنى الكلي للضرر والضرار الجامع لجميع المصاديق بداعي التأكيد والإهتمام به, فقد جمع الحديث بين التأسيس والتأكيد بلحاظات مختلفة.

وحينئذٍ يظهر أنّ ما قيل في معنى الضرار والإشكال في بعضها من لزوم ما يلزم, وليست فيه ثمرة مهمة فقهية أو علمية, وقد أحسن السيد الوالد قدس سره صنعاً؛ حيث ترك هذا البحث الطويل فراجع.

تنبيهات

بعد كلّ ما ذكرناه ينبغي التنبيه على أمور:

التنبيه الأول: تقدم الكلام في معنى الضرر تفصيلاً, والمناط في الضرر هو الشخصي؛ سواءً كان ضرراً نوعياً أيضاً أم لا, كما أنّ الظاهر أنّ المراد به الضرر الواقعي دون الإعتقادي, نعم؛ لو كان اعتقاد الضرر مستلزماً لحصول الخوف وكان تحققه موجباً لرفع الحكم شرعاً يترتب رفع الحكم حينئذٍ على الإعتقاد من هذه الجهة؛ لأنّ الخوف أمر وجداني لا واقع غير وجدانه, فلا يكون اعتقاد الضرر موجباً لرفع الحكم كما هو واضح.

ولعل السر في جميع ذلك أنّ الضرر ينقسم إلى مطلق ومقيد من جهات؛ فتارة؛ يكون من ناحية الموضوع, فقد يكون الضرر مطلقاً كمن يخترق داره فيتضرر, وقد يكون بالنسبة إلى الغرض الذي يهدف إليه الفرد, كالتاجر عندما لا يربح في تجارته فإنّه ضرر بالنسبة إلى هذا الفرض الخاص في التجارة فيكون الضرر مقيداً, والحديث لا يشمل هذا النوع من الضرر المقيد إلا إذا كانت هذه الحيثية عامة عرفاً بحسب الأنظار العرفية.

ص: 159

وأخرى؛ من ناحية الناظر والحاكم بصدق الضرر؛ فقد يكون الضرر حقيقياً وواقعياً كقطع اليد, وقد يكون إعتقادياً مقيداً ببعض الأنظار والقوانين, كمن يتلف الخمر التي يرجع إلى الغير, فإنّه ليس ضرراً عليه في شرع الإسلام وقانونه, ونظيره الحكم بعدم ملكية المحيي للأرض التي أحياها في النظام الإشتراكي ما يعدّ ضرراً في النظام الإسلامي والرأسمالي.

ولا ريب في شمول حديث الضرر للحقيقي, وأمّا شموله للضرر الإعتقادي المقيد ببعض الأنظار والقوانين, فهو مبني على كون ذلك مقبولاً عند الشارع الأقدس حتى يكون حقيقياً إعتبارياً.

وبالجملة؛ إنّ المناط في الضرر هو الشخصي والواقعي ولو كان بنظر الشارع.

التنبيه الثاني: تقدم إنّ بعض الأصوليون وغيرهم فسروا الضرر بالنقص, ولا ريب في صدقه بالنسبة في البدن والمال, وأمّا صدقه في النقص في العرض والكرامة, فقد إستشكله بعضهم؛ باعتبار أنّ الضرر إنَّما يصدق على النقص في المال أو النفس والطرف فلا يشمل غيره.

وقد عرفت ممّا ذكرناه في تعريف الضرر أنّه يشمل النقص في العرض والكرامة فيما إذا استلزم سلب حقّ من حقوق الإنسان تجاه عرضه وكرامته, كما في سلب حقّ الأنصاري في ناموسه وعرضه. وأمّا إذا لم يكن كذلك كالنظر إلى عرض الغير؛ فإنّه ليس مستلزماً للنقص والضرر وإنْ كان محرماً شرعاً فلا يشمله الحديث.

هذا إذا جعلنا الضرر بمعنى النقص.

وأمّا إذا قلنا بأنّه فعل ما يكره الناس؛ فإنّه يشمل ما ذكر في النقص كما يشمل غيره, كما إذا منع الناس من الخروج من البلد, أو منعهم في اشتراك شخص في أيّة شركة تجارية, كما في الإحتكارات والإمتيازات للشركات التجارية؛ فإنّه وإنْ لم يوجب نقصاً ولكنه فعل ما

ص: 160

يكره ويتضايق منه, ولكنه صحيحٌ فيما إذا استلزم من ذلك سلب حقّ من حقوقه, كسلب حقّ العمل أو تضييق حريته؛ فإنّه ينطبق عليه عنوان الضرر حتى على تفسيره بالنقص, ولا بُدّ في هذه الحالة من تقييدها بما إذا لم يكن سلب الحقّ نتيجة احتكار إمتياز العمل التجاري ونحوه ممّا هو متعارف في عصرنا الحاضر؛ فإنّ المنع لا يسمى ضرراً حينئذٍ إذا لم يكن حقّ يسلبه, بل هو رفع موضوع قدرته.

فلا بُدَّ من التمييز بين سلب الحق الثابت, وبين رفع موضوع الحقّ برفع قدرته عليه بالإمتياز ونحوه, ومن أجل ذلك كان سلب الحق الثابت للجميع, كما في الثروات الطبيعية, نحو منع فضل الماء ضرراً؛ لأنّه حقّ ثابت سابقاً على احتكار المحتكرين لا أنفسهم.

التنبيه الثالث: تقدم أنّ الضرر يطلق عرفاً مقابل النفع وبينهما التضاد العرفي, وقد يحكم العرف بارتفاعهما في بعض الموارد, كمن باع متاعه برأس المال مثلاً فلا يصدق عليه الضرر كما لا يصدق عليه النفع, وذكرنا أنّ من فسّر الضرر بعدم النفع فإنْ أراد ما ذكرناه فهو, وإلا يكون تفسيراً بالأعمّ.

ولكن ذكر المحقق الخراساني قدس سره (1) أنّ الضرر والنفع متقابلان تقابل العدم والملكة, فاعترض عليه المحقق الإصفهاني قدس سره (2) بأنّ الضرر هو النقص عن حدّ الكمال, والنفع الزيادة عليه, فليس النقص عدم تلك الزيادة ليكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة, كما أنّهما ليسا من المتضادين؛ لأنّ الضرر أمر عدمي والضدان لا بُدَّ أنْ يكونا وجوديين.

ص: 161


1- . كفاية الأصول؛ ص381.
2- . نهاية الدراية؛ ج4 ص440.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ تفسير الضرر بالنقص عن حدّ الكمال, والنّفع بالزيادة عليه لا يقره العرف الذي هو المناط في تفسيره, وقد عرفت أنّ الضرر عندهم أعمّ من ذلك, فإنّه يصدق عندهم على كلّ ما يوجب الخلل والنقص في الشيء وغيرهما.

ثانياً: قد عرفت أنّ التضاد بين الضرر والنفع لم يكن حقيقياً, بل هو عرفي كما بيناه.ثالثاً: إنّ الضرر ليس أمراً عدمياً, بل هو أمر إنتزاعي عن خلو الشيء عمّا يوجب كماله وتمامه في مورد شأنه أنْ يكون كذلك, ولعلّه هو مراد المحقق الخراساني قدس سره حيث جعله من تقابل العدم والملكة, وإنْ كان قوله مردود.

رابعاً: إنّ ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره مبني على الدقة والفهم الفلسفي الذي هو ليس المناط في هذا الأمر العرفي, كما عرفت.

النقطة الرابعة: في الهيئة التركيبية لجملة (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ).

لا ريب في عدم إمكان إرادة النفي الحقيقي للضرر بوجوده الخارجي, بداهة وجوده في الخارج؛ فلا بُدَّ من التأويل والتقدير في جملة (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ), ومن أجل ذلك اختلفت أنظار العلماء في تخريج الحديث الشريف, وحدثت إتجاهات عديدة:

الإتجاه الأول: الحذف والإضمار, أي لا ضرر غير مُتدارك في الإسلام, وهو ما ذهب إليه الفاضل التوني قدس سره .

الإتجاه الثاني: إنّ النفي بمعنى النهي, أي يحرم الضرر والإضرار على النفس والغير في الإسلام, كما في قوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)(1).

ص: 162


1- . سورة البقرة؛ الآية 197.

وقول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِطَامٍ)(1) وغيرها ممّا هو كثير, وهو مختار شيخ الشريعة قدس سره .

الإتجاه الثالث: إنّ النفي حقيقي بالنسبة إلى الحكم, وادعائي بالنسبة إلى الموضوع, أي إنّ الموضوع الضرري لا حكم له, ويصير من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع, وهو ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره (2).

الإتجاه الرابع: نفي تشريع ما يوجب الضرر مطلباً موضوعاً أو حكماً وتكليفاً أو وضعاً؛ فيكون إخباراً عن نفيه في مقام التشريع لا في الخارج حتى يلزم الكذب؛ فإنّه لا يُنافيه, نظير حديث الرفع, حيث تقدم أنّ الرفع في مقام التشريع لا ينافي الوجود التكويني, وهو الذي ذهب إليه المحقق الأنصاري قدس سره وجمع غفير من العلماء.

وعلى ضوء ذلك تكون أحكام الإتجاهات ما يلي:

الأول: ما يدخل تحت الإتجاه الأول؛ الذي ذهب إليه الفاضل التوني قدس سره .

1- إستفادة نفي الضرر غير المتدارك؛ بمعنى جعل وجوب التدارك على من أضر بالغير.1- إستفادة الأعم من ذلك ومن نفي الحكم الضرري إذا كان الضرر مربوطاً بالحكم لا بفعل المكلف.

الثاني: تحريم الضرر, وهو الذي يُناسب الإتجاه الثاني الذي اختاره شيخ الشريعة, ويدخل تحته مسلكان.

1- تحريم الضرر تكليفاً فقط.

2- إستفادة تحريم الضرر تكليفاً ووضعاً.

ص: 163


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص443.
2- . كفاية الأصول؛ ص381.

الثالث: إنّ مفاد هذه القاعدة نفي الأحكام الضررية, وفيه مسلكان.

1- نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر مطلقاً, سواء كان من نفس الحكم, أم من الجري على طبقه, أي من متعلقه أم من مقدماته, وهذا هو الذي يُناسب الإتجاه الرابع الذي ذهب إليه المحقق الأنصاري قدس سره ومن تبعه.

2- رفع الحكم الضرري برفع موضوعه, فلا يشمل ما إذا لم يكن الموضوع الذي تعلق به الحكم ضررياً بل كانت مقدماته ضررية, وهذا ما اختاره المحقق الخراساني قدس سره الذي يُناسب الإتجاه الثالث. ولا ريب أنّ هذه المحتملات الفقهية لا بُدَّ أنْ يكون لها دليل شرعي صحيح, ومستند مقبول. وقد ذكروا لكلّ واحدٍ من تلك المحتملات الفقهية وجوهاً تظهر من توضيح أدلة تلك الإتجاهات التي ذكروها في الحديث الشريف؛ فلا بُدَّ من بيانها وما قيل في صحتها أو فسادها.

أمّا الإتجاه الأول؛ وهو نفي الضرر غير المتدارك الذي إختاره الفاضل التوني قدس سره كما عرفت, فقد قيل في توجيهه بأنّ المراد بالضرر هو المستقر الثابت, وأمّا الضرر المتدارك والمضمون لا يعدُّ ضرراً عرفاً, فحينئذٍ؛ إمّا أنْ يجعل (لا) ناهية, فيكون الحاصل تحريم الضرر غير المتدارك على المكلفين فقط, وهذا هو القول الأول على هذا الإتجاه. وإمّا أنْ يجعل (لا) نافية للضرر غير المتدارك, فيثبت وجوب التدارك إذا كان الضرر من فعل الإنسان, ونفي الحكم الضرري إذا كان مسبباً عن الحكم الشرعي, وهذا هو القول الثاني تحت هذا الإتجاه.

وأورد على هذا الإتجاه:

أولاً: إنّه خلاف الأصل والظاهر.

ثانياً: إذا كان في مقام الإخبار فإنّه يعود المحذور, وإذا كان في مقام إنشاء إيجاب التدارك فإنّه يحتاج إلى قرينة وهي مفقودة, ولا يخفى أنّ هذا الإتجاه وإنْ إستشكلنا عليه إلا أنّ له جذور عرفية بعد أنْ لم يمكن إرادة نفي واقعية الضرر ولم يمكن إرادة النفي الحقيقي, فلا بُدَّ

ص: 164

من توجيهه بأنّ على الشارع أنْ يتدارك هذا الضرر بتشريع الضمان حتى يصير الضرر بمنزلة العدم, فمن يخسر أموالاً طائلة في العمليات التجارية كالشحن في الطائرات أو السيارات وحفظها في الأماكن المعدة لها ثم يعوض ذلك بالأرباح التي يحصل عليها في عملية التسويق؛ فإنّ العرف لا يراه ضرراً, وكذا لو أتلف إنسان سيارة غيره مثلاً وعوض عليه ثمن سيارته وما ترتب عليه من الخسارة؛فإنّ العرف يحكم بأنّه لم يتضرر, وأمثال ذلك كثير, وحينئذٍ فلو أغلق الشارع على المتضرر كلّ أبواب الوصول إلى العوض لكان حكماً ضررياً, فلا بُدَّ من رفع خسارته بوجه من الوجوه؛ إمّا بتجويز الضرر المتقابل, وهذا يستلزم منه اختلال النظام, فلا بد من تشريع الضمان حتى يكون الضرر بمنزلة العدم, وهذا صحيح واقعاً, ولكن إستفادته من لفظ الحديث يحتاج إلى عناية خاصة, وقد عرفت الإشكال فيها, ويشبه هذا المعنى القاعدة المعروفة في القانون المدني (الضرر يزال), أي من أحدث ضرراً فعليه إزالته ويلزمه الضمان.

وأمّا الإتجاه الثاني؛ وهي كون النفي بالمعنى الذي حاول شيخ الشريعة الإصفهاني قدس سره تأكيده تأكيداً كبيراً, ومرجع ذلك إلى كون النفي في المقام مستعملاً في النهي, والإنشاء مجازاً على نحو المدلول المطابقي, أو يكون على نحو المدلول الكنائي, بمعنى نفي الضرر, حيث يكنى عن إرادة إعدام الشيء وجوده, كما يعبر عن وجود الشيء بالإخبار عنه مثلاً كإستعمال الجملة الخبرية في مقام الطلب مثل: يعيد الصلاة, باعتبار أنّه يخبر عن إعادة صلاته فيخبر عنه بصيغة الخبر للدلالة على وقوعه, ولذلك لا يطلبه بعنوان الطلب بل بعنوان الخبر؛ ولهذا قلنا فيما سبق أنّ الجملة الخبرية آكد في الطلب, ففي المقام إنّ الجملة مستعملة في الإخبار والنفي, ولكن المراد الجدي منه الإنشاء والنهي, فيكون معنى (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) يحرم الضرر والضرار, ويعضد هذا الإتجاه موارد كثيرة في الكتاب والسنّة, واستعمالات العظماء نظماً ونثراً, ولو أردنا ذكرها لطال بنا المقام, والمستفاد منها شيوع

ص: 165

هذا المعنى في مثل هذا التركيب. وعلى ضوء هذا الإحتمال ثبت الإحتمالان الفقهيان؛ وهما النهي تكليفاً فقط, أو تكليفاً ووضعاً كما تقدم.

وهذا الوجه وإنْ كان حسن ثبوتاً ولكن يرد عليه:

أولاً: إنّه لا دليل عليه إثباتاً؛ فإنَّ استعمال النفي بمعنى النهي وإنْ كان ليس بعزيز, إلا أنّه لم يثبت ظهور في المقام, فإنّ مجرى استعمال النفي في النهي لا يعني أنّ كلّ ما كان من هذا القبيل يكون كذلك بعد عدم ثبوت الظهور.

ثانياً: إنّ إستعمال النفي في النهي لم يكن معهوداً ولا مألوفاً وإنْ كان قد استُعمل كذلك, كما في استعمال الخبر في الأمر لإفادة الطلب, إلا أنّ الفرق بينهما في الإثبات والنفي, ولكن كلّ منهما يحتاج إلى قرينة؛ إمّا عامة أو خاصة, ففي استعمال الجملة الخبرية في مقام الطلب ربّما يكون أمراً مألوفاً ومتعارفاً, ولكن استعمال الجملة الخبرية السلبية في مقام النهي لا يكون كذلك.

ثالثاً: إنّ هناك موارد ليست بقليلة مشابهة لا معنى للنهي فيها أصلاً مثل: (ولَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ ووَلَدِهِ رِباً)(1), و(لا شك لكثير الشك)(2), و(لَا سَهْوَ فِي نَافِلَةٍ )(3) ونحو ذلك, بل تعدّ هذه الموارد أكثر من تلك التي استعمل النفي فيها بمعنى النهي.

ص: 166


1- . مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل؛ ج 13 ص339.
2- . هذا اللفظ لا يوجد له عين في لسان الروايات، والظاهر أنه مصطلح فقهي كثر استعماله مأخوذ من ظاهر الروايات؛ كرواية الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص359 حيث قال علیه السلام : (إذا كثر عليك السهو فامضِ في صلاتك فإنه يوشك أن يدعك، إنما هو من الشيطان)، وما رواه في الفقيه؛ ج1 ص339 قوله علیه السلام : (إذا كثر عليك السهو في الصلاة فامضِ على صلاتك ولا تعد), وقريب منه ما في التهذيب؛ ج2 ص343: (فامضِ في صلاتك) ، ووسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج8 ص227.
3- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص360. ولكن لا يظهر أنها من كلام أبي عبد الله علیه السلام ، وقد ذكرها الشيخ النائيني في منية الطالب ج3 ص385 على أنها رواية عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، ولكنها أيضاً قاعدة فقهية؛ إذ ليس لها وجود في الكتب الروائية. وما ورد هو قوله: (لا سهو في نافلة) [وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 8 ص241- 242].

وبالجملة؛ إنّ مجرد وجود تراكيب يُقصد بها هذا المعنى لا تكون دليلاً على الظهور فيه؛ لأنّ الظهور كما ذكرنا في مباحث الألفاظ لا بُدَّ أنْ يكون له أساس لغوي؛ وهو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له إلا أنْ تنصب قرينة على خلاف ذلك, كما هو الأمر كذلك في الموارد التي استدلّ بها على النفي, وأمّا مع التجرد عن القرائن من إثبات الظهور اللفظي؛ ولا سيما أنّ لها في بعض الموارد لا معنى للحرمة فيها, كما في الأمثلة التي ذكرناها.

لكن لا يخفى أنّ ما استقربه شيخ الشريعة قدس سره له جذور في فهم علماء الشريعة وشرّاح القانون المدني, فقد قالوا في هذا الحديث: لا يُباح في الإسلام الضرر ولا الإضرار؛ بمعنى لا يقوم الرجل بالضرر ولا أنْ يقابله بالمثل, فالقاعدة عند شرّاح المجلة العثمانية, والإتجاه في الفقه الإسلامي المعاصر ترمي إلى نفي مشروعية الضرر ومنع مقابلة الضرر بمثله؛ إذ أنّ الظلم لا يقاس بالظلم, وإنّما يرفع بالقانون.

وقد أيّد شيخ الشريعة الإصفهاني ما اختاره بوجهين:

الأول: إنّ الثابت صدور هذا الحديث الشريف في قضية سَمُرة بن جندب, وثبت فيها (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ عَلَى مُؤْمِنٍ) ولا شكّ أنّ اللفظ بهذه الزيادة ظاهر في النهي.

الثاني: إنّ قوله صلی الله علیه و آله و سلم لسَمُرة (إِنَّكَ رَجُلٌ مُضَارٌّ, ولَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ عَلَى مُؤْمِنٍ) كما في رواية إبن مسكان عن زرارة, يكون بمنزلة صغرى وكبرى, فلو أُريد التحريم؛ كان معناه إنّك رجلٌ مضار, والحكم الموجب للضرر منفي, وترضى الأذهان المستقيمة بهذا المعنى, ومن أجلها لا بُدَّ أنْ يحمل النفي على النهي.

ويرد على كليهما؛ إنّ الأول قيد (على مؤمن) غاية ما يستفاد منه شدّة اهتمام الشارع بالمؤمن في قبال غيره كما تقدم بيانه سابقاً.

ص: 167

وإنّ الثاني في جملة (إنّك رجلٌ مضار) كما تناسب الحرمة التكليفية -كما هو مختاره- تناسب التشريعية وعدم جعل الحكم الضرري -كما هو مُختار المحقق الأنصاري قدس سره - الذي يناسب الحرمة التكليفية والأحكام الوضعية, كالخيار ورفع اللزوم ونحو ذلك.

والمُتحصل؛ إنّ الإحتمال الذي ارتضاه شيخ الشريعة من أنّ هذه الجملة واردة في مورد النهي ليس له ما يُسنده, لأنّه مجرد وجود تراكيب يقصد بها هذا المعنى لا تكون دليلاً على الظهور الذي لا بُدَّ أنْ يستند إلى أساس لغوي, إلا أنْ تقوم قرائن تدلّ على إرادة النهي من النفي, كما في الموارد التي استشهد بها على النفي؛ فإنّ استعمال النفي في مقام النهي كاستعمال الإثبات في مقام الأمر إنَّما يكون على نحو الكناية, لا استعمال اللفظ في المعنى, ولا ريب في أنّ ذلك تتبّع للقرائن؛ فإنْ لم تكن قرينةٌ في البين فلا معنى للحرمة, كما في الاستعمالات الأخرى التي لا معنى لإرادة النهي فيها كما عرفت آنفاً.

وأمّا الإتجاه الثالث؛ وهو أنْ يكون المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع, فيكون معنى (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)؛ نفي حكم الضرر, أي الحكم الوارد على الموضوع الضرري بحيث يرفع الحكم بلسان رفع الموضوع, فيكون النفي حقيقياً بالنسبة إلى الحكم وادعائياً بالنسبة إلى الموضوع, فكلّ موردٍ من موارد الضرر لا حكم له؛ ولذا قلنا باختصاص هذا الوجه بما إذا كان موضوع الحكم ضررياً, فالوضوء الضرري لا حكم له, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الضرريان لا حكم لهما, وهكذا في كلّ موضوع من الموضوعات التي تعلق بها حكم إيجابي أو تحريمي, فإنّه يرتفع فيما إذا كان الموضوع ضررياً, فالحديث يُرشد إلى نفي الحكم الذي تعلق بموضوعٍ ضرري, مثل لا شكّ لكثير الشك, حيث نفى حكم الشك بلسان نفي الشك, وفي (ولَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ ووَلَدِهِ رِباً)؛ إنّ حكم الرّبا مرتفع بين الوالد وولده, فهو ليس ربا, وفي قوله (وَلَا سَهْوَ فِي نَافِلَةٍ)

ص: 168

حيث نفى حكم السهو بنفي السهو, وقد جعل قدس سره هذا المعنى هو الموافق لقواعد اللغة العربية وغير خفي على من له معرفة بالبلاغة.

ولتوضيح مرامه قدس سره لا بُدَّ من تبيين هذه المقولة (نفي الحكم بلسان نفي موضوعه) التي هي على نحوين:

النحو الأول: ما اصطلح عليه بالحكومة؛ ولا ريب أنّه بناءً على هذا المصطلح لا يرتفع الحكم, ولا ينفى أصله, بل المنفي إطلاق الحكم؛ لأنّ النكتة فيه هي افتراض الحكم لازم ذاتي للموضوع ولا ينفك عنه. فإذا أُريد نفي إطلاقه يمكن بيان ذلك بنفيالموضوع الملزوم, فيعبر بنفي الملزوم لإفهام نفي اللازم, كقول أمير المؤمنين علیه السلام : (يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ ولَا رِجَالَ)(1), حيث يفرض أنّ الوفاء والبطولة والثبات من لوازم الرجولة التي لا تنفك عنها.

وهذا القسم من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع, كما يمكن أن يكون في النفي التركيبي كالأمثلة المتقدمة؛ (ولَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ ووَلَدِهِ رِباً), و(لا شك لكثير الشك), و(وَلَا سَهْوَ فِي نَافِلَةٍ), كذلك يمكن أنْ يكون في النفي البسيط كقول الإمام الباقر علیه السلام : (التَّائِبُ مِنَ الذنب كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ)(2)؛ فإنّه ينفي وجود الذنب بنفي آثاره التي ترتب عليه قبل التوبة, فما عن المحقق النائيني قدس سره (3) من اختصاص هذا القسم بالنفي التركيبي غيرُ صحيح, نعم؛ قد يحصل إختلاف في بعض الموارد؛ إنّه من النفي التركيبي أو النفي البسيط, ولا يضر ذلك بأصل المقصود, وهو أنّ هذا القسم يختص بنفي إطلاق الحكم لا أصله؛ لأنّه

ص: 169


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص6.
2- . المصدر السابق؛ ج2 ص435.
3- . منية الطالب؛ ج2 ص209.

بعد فرض كون الحكم من لوازم الموضوع غير المنفك عنه فإنّه لا ينسجم مع نفي أصل الحكم, إذ بذلك يخرج عن كونه لازماً له.

النحو الثاني: ما يمكن تصوير نفي أصل الحكم بنفي الموضوع كما في مثل (لا رهبانية في الإسلام)(1) وهذا على أقسامٍ ثلاثة:

القسم الأول: بالوجود الإعتباري بالنظر إلى عالم الجعل والتشريع والتقنين؛ فإنّ الحكم في هذا العالم له نحو ثبوت موضوعاً ومحمولاً، وله وجود إعتباري بلحاظ لوح التشريع, فإذا كان النظر إلى هذا العالم أمكن نفي الحكم بلسان نفي موضوعه, بشرط أنْ يكون كذلك في نظر العرف ومأنوساً لديهم؛ إمّا لثبوته لدى العقلاء ومرتكزاتهم, أو في الشرائع الإلهية السابقة كالرهبانية التي كانت عند النصارى ونفيت في الإسلام.

وهذا الوجه هو المستفاد من كلام المحقق الأنصاري قدس سره , وهو ممكنٌ, ولكنه يحتاج إلى عناية خاصة فائقة, فيقتصر على الموارد المعينة التي تكون فيها تلك العناية؛ ولهذا لا يصح أنْ يقال لا طلاق في الإسلام فينفي الحكم بنفي موضوعه باعتبار حرمته في المسيحية, كما أطلق (لا رهبانية في الإسلام) باعتبار وجوده فيها.

القسم الثاني: أنْ يكون النظر إلى الوجود المقبول للمنفي؛ فإنّ الأمر المقبول المستساغ في شريعة كأنّه نحو وجود في تلك الشريعة لا لكونه موضوعاً لحكم,وإلا كان العنوان المحرم أيضاً لذلك, بل لكونه مباحاً أو مستحباً أو واجباً, فيكون له نحو تحقق من هذه الجهات في تلك الشريعة, فينفي الجواز أو الإستحباب, والوجوب ينفي الموضوع, فمقتضى نفي هذا الوجود المقبول بنفي تمام مراتب المقبولية؛ حتى الإباحة.

ص: 170


1- . دعائم الإسلام؛ ج2 ص193.

ويرد عليه: إنَّ هذا الوجه بعيدٌ عن الأذهان العرفية؛ إذ قد يكون في نظرهم نفي بعض مراتب الحكم لا جميعها, كما هو واضح.

القسم الثالث: أنْ يكون الحكم المقبول الإستساغي مصدر وجود الموضوع خارجاً, فيكون نفي الحكم بلسان نفي موضوعه أي وجوده الخارجي, فيكون من نفي السبب بنفي مسببه ومعلوله, فيكون الفرق بين هذا الوجه عن الوجه السابق أنّه في هذا الوجه يكون نفي الوجود الخارجي, وفي السابق نفي وجوده التشريعي.

ويرد عليه: إنّ هذا الوجه صحيحٌ في الموارد التي يثبت كون الحكم المقبول سبباً في وجود الموضوع وليس كذلك في جميع الأحكام, إلا أنْ يكون على نحو العناية الخاصة ونتبع تلك العناية.

هذا كلّه ما ذكروه بالنسبة إلى هذه المقولة, وأمّا تطبيقها على عبارة (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ), فإنَّه بالنحو الأول الذي يكون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع فلا ينطبق في المقام, ولو يجعل الضرر عنواناً منطبقاً على الموضوع الناشئ منه الضرر باعتباره مسبباً توليدياً عرفاً كما يقوله المحقق النائيني قدس سره (1), حتى بنحو الحكومة بمعنى نفي إطلاق الحكم؛ فإنّه غير ممكن مطلقاً؛ لا على نحو النفي البسيط ولا على النفي التركيبي؛

أمّا النفي البسيط؛ فلأنّه يختص بموضوع الحكم الضرري كالعقد الغبني, ولا يتناسب مع متعلق الحكم الضرري كالوضوء الضرري, إذ لا ينتفي الحكم بانتفاء متعلقه وإنّما ينتفي بانتفاء موضوعه الملزوم له, بخلاف المتعلق؛ فإنّه يستدعيه الحكم ولا ينتفي بانتفائه. وأمّا النفي التركيبي؛ فإنّه وإنْ لم ينطبق عليه ما ذكر آنفاً, لأنّ المقصود من النفي التركيبي هو أنّ نفي الضرر نفي كون الوضوء الذي انطبق عليه الضرر وضوءً؛ لأنّ انتفاء كونه وضوء

ص: 171


1- . منية الطالب؛ ج3 ص385.

يستلزم عدم وجوبه, إلا أنّ هذا المعنى لا يمكن استفادته من (لا ضرر) باعتبار أنّ المنفي فيه عنوان الضرر لا عنوان الوضوء عن الوضوء الضرري, لأنّ معناه إسناد النفي إلى الوضوء لا إلى الضرر, هذا مع أنّ الأصل يقتضي أنْ يراد النفي البسيط لا النفي التركيبي؛ إلا أنْ تقوم قرينة على الثاني.

وأمّا نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بالنحو الثاني الذي له أقساماً ثلاثة كما عرفت, فلا بُدَّ من ملاحظة كلّ قسم منها:أمّا القسم الأول؛ وهو الوجود الإعتباري, أي نفي الوجود الإعتباري للضرر بلحاظ لوح التشريع؛ فهو مضافاً إلى أنّه غير صحيح إلا بعناية خاصة كما تقدم, فإنّه غير تام في المقام إلا بعناية أنّ عنوان الضرر منطبق عرفاً على العقد الغبني -الموضوع الضرري- أو الوضوء الضرري -المتعلق الضرري- حقيقة باعتباره مسبباً توليديّاً عنهما, فيكون انطباق ذلك عليهما كأنّه نحو وجود الضرر في لوح التشريع, وإنْ لم يكن التشريع حكماً لعنوان الضرر بل لمعنونه.

أمّا القسم الثاني؛ نفي الوجود المقبول الإستساغي للضرر, من قبيل (لا رهبانية في الإسلام), وهو ينتج تحريم الضرر والإضرار, وعدم جواز إيقاعه خارجاً, ولكن هل يمكن تخريج نفي الأحكام الضررية كما ذكرنا في الأحكام الفقهية المتقدمة.

ذكر السيد الصدر قدس سره (1) أنّه يمكن ذلك؛ لأنّ وجود أحكام تستوجب الضرر خارجاً كالوضوء الضرري يكون مقبولاً من قبل الشريعة للضرر, كما لو كانت للشريعة أحكام تستوجب الرهبنة بحسب النتيجة, فيكون نفي الوجود الإستساغي المقبول للضرر رفعاً لها بلسان نفي موضوعها.

ص: 172


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص466.

ولكن القول بالفرق بين الأحكام التي تلازم الضرر؛ فإنّها غير مستساغة ومقبولة, وبين الأحكام التي قد تستوجب الضرر خارجا؛ فإنّها لم تدخل تحت عنوان الضرر, إذ ما من حكم إلا ويترتب عليه ضررٌ في بعضِ الأوقات, ومثل ذلك لا يدخل في عنوان الضرر حتى يكون مستساغاً ومقبولاً, نعم؛ جعل الشارع علاجاً لهذه الحالات الضررية كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

أمّا القسم الثالث؛ نفي الوجود الخارجي للضرر لنفي حكمه الإستساغي المقبول, فهو ينتج حرمة الضرر والإضرار, وأمّا نفي الأحكام الضررية -الإتجاه الفقهي الأول- فاستفادته من هذا القسم مبني على إعمال العناية, وهي اعتبار أنّ عنوان الضرر ينطبق على موضوعاتها باعتباره مسبباً توليدياً عرفاً كما يقوله المحقق النائيني, فينتفي وجوب الوضوء الضرري ولو لم ينتفي تمام مراتب المقبولية, وهناك وجهٌ آخر يدعى أنّه تلفيق بين بعض الأقسام وبعضها الآخر.

والحقُّ؛ إنّ جميع تلك الوجوه والعنايات التي ذكروها في المقام بعيدةٌ عن الأذهان العرفية.

وكيف كان؛ فإنّ عبارة المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية يستفاد منها أنّه من تطبيق ملاك الحكومة, أي نفي إطلاق الحكم بلسان نفي الموضوع بنكتة التلازم بين الحكم وموضوعه, بقرينة تشبيهه بأمثال: (يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ ولَا رِجَالَ) و(لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ)(1) الذي هو نفي للأثر بلسان نفي ذي الأثر.

وأمّا عبارته في حاشيته على الرسائل(2)؛ فإنّه يريد نفي أصل الحكم, لأنّه شبهه بمثل (لا رهبانية في الإسلام) و(لا سرقة في الإسلام)(3) والذي يكون نفي الموضوع بوجوده

ص: 173


1- . دعائم الإسلام؛ ج1 ص148.
2- . درر الفوائد؛ ص168 (نشر بصيرتي).
3- . لا توجد رواية بهذا اللسان، وإنما هو مما تداولته كلمات الفقهاء والأصوليين.

المقبول الإستساغي, وإنْ أمكن حمل عبارته أيضاً على نفي الوجود الإعتباري أو الحقيقي, وقد جعل ذلك منشأً لعدم إمكان استفادة نفي الأحكام الضررية من الحديث, بل مجرد تحريم الضرر بينهما في الكفاية جعل الضرر عنواناً للموضوع الضرري فرفع بذلك الأحكام الضررية.

إذا عرفت ذلك كلّه؛ فإنّ الكلام يقع في أنّ هذه الوجوه هل تنسجم مع عبارة المحقق الخراساني قدس سره الذي استدلّ على ما ذهب إليه بأنّه موافق للبلاغة واستعمال العظماء في كلماتهم, حيث أنّ تلك الوجوه العقلية أو الإعتبارية هي بعيدة عن أذهانهم, مع أنّها كما عرفت تحتاج إلى عنايات فائقة وقرائن في الكلام, يُضاف إلى ذلك أنّ ما ذهب إليه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا مع القرينة؛ لأنّه يرجع إلى التقدير والإضمار, كما أنّه لا يخلو عن تعقيد كما لا يخفى, فإنّ كلامه يحتمل معنيان:

الأول: إنّ ما قام به سَمُرة ليس بضررٍ أصلاً على نحو (ولَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ ووَلَدِهِ رِباً) باعتبار أنّ المال الزائد الذي يأخذه الأب من إبنه ليس رباً, بل هو من ماله, ولا ربا بين المرء ونفسه. وهذا الإحتمال بعيدٌ جداً عن حديث لا ضرر؛ فإنّ معناه أنّ دخول سَمُرة على الأنصاري بدون إذنه ليس ضرراً أصلاً.

الثاني: أنْ يكون مراده أنّ المعنون, أي المضرر وهو قلع الشجرة ورميها في الطريق ليس ضرراً, بدعوى؛ إنّ هذا الرجل وصل من الحقارة مبلغاً كان نظيراً أشباه الرجال ولا رجال, فلا احترام لماله, فيكون قلع الشجرة ورميها إليه ليس ضرراً, فيكون مفاد كلامه قدس سره كما ذكره السيد البجنوردي قدس سره (1) وغيره حكمه المرفوع وهو حرمة الإضرار, وهذا ينتج عكس ما أراده من هذه الجملة تماماً؛ فإنّه يرجع إلى نفي الأحكام الضررية

ص: 174


1- . القواعد الفقهية؛ ج1 ص221.

بنفي الضرر, وهو خلف, ولأجل ذلك وصف المحقق العراقي قدس سره (1) هذا الوجه بأردأ الوجوه, ولكنه حاول الدفاع عن المحقق الخراساني قدس سره حيث قال؛ إنّ المراد المعنون وهو المضر لا العنوان إلى الضرر؛ لأنّ العنوان إنَّما هو مرآة للمعنون, فالمنفي بحسب هذا التوجيه الفعل الخارجي الذي هو مصداق الضرر أي المضر, ونفيه يكون بنفي آثاره.

والحاصل؛ إنّ هناك فرقٌ بين أنْ يكون للفعل حكم معين ويأتي النفي عليه, كما في (ولَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ ووَلَدِهِ رِباً), فلا ربا بمعنى الحكم الشرعي يرتفع في هذاالمورد, وهكذا لا شك في كثير الشك, فللشك حكم شرعي إرتفع في مورد كثير الشك.

وأمّا بالنسبة إلى حديث لا ضرر؛ فإنّ المفروض أنّ النفي توجه لنفس الضرر, وإذا أردنا قياس المقام على الربا والشك المرتفعين فيكون المعنى لا حرمة لتوجيه الضرر على الآخر, وهذا خلاف المقصود من لا ضرر, ولا يمكن الإلتزام به.

قد يقال: إنّه لا مانع من رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر, أو الحكم الضرري الذي يتعنون بالضرر تماماً, كما يقال في حديث الرفع؛ (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ؛ الْخَطَأُ والنسيانُ ... ومَا لَا يَعْلَمُونَ ...)(2)؛ فإنّ المرفوع ليس الخطأ أو النسيان أو ما لا يعلمون, بل المرفوع الحكم المتعلق بالفعل الذي تعلق به الخطأ أو الإكراه أو النسيان أو الجهل, فيكون المقام من هذا القبيل, أي رفع الحكم المتعلق بالفعل الذي يترتب عليه الضرر.

فإنّه يقال:

أولاً: إنَّ ذلك صحيحٌ إذا كان رفع الحكم الفعلي الذي تعلق به الضرر, بحيث كان الضرر عنواناً للفعل باعتبار أنّه مرآة للمعنون وليس للعنوان مدخلية, ولا أنْ يكون متعلقاً

ص: 175


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص328.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج15 ص369.

للتكليف كما قلنا في باب اجتماع الأمر والنهي من أنّ العناوين ليست متعلقاً للتكليف على تفصيلٍ مذكور في محله.

وأمّا في المقام؛ فإنّ الضرر الحاصل من الفعل كما في الوضوء الضرري, الذي يكون فعل الوضوء سبباً للضرر, ليس حاله حال العنوان بالنسبة إلى المعنون ليقال بأنّ الحكم إثباتاً ونفياً يتعلق بالمعنون, والعنوان يكون مرآتاً حاكية له, بل يكون الضرر والفعل من قبيل نسبة السبب إلى المسبب, ولا يعقل في مثل ذلك أن يقال؛ بأنّ الحكم المتعلق بالسبب يرتفع عن المسبب, إذ ليس هناك نفي المسبب لنفي السبب, بل المتعارف نفي المعلول بنفي علته, لا نفي العلة بنفي معلولها.

والحاصل؛ إنّ استعمال نفي المسبب لنفي السبب ونفي السبب ينفي حكمه, وإنْ كان صحيحاً لكنه خلاف الظاهر والمتعارف؛ فإنّ المتعارف نفي المسبب بنفي سببه, كما هو واضح, وأمّا نفي المسبب فلا يقتضي نفي سببه, لأنّ العلة قد تكون أعم.

ثانياً: إنّ حديث (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) في مقام رفع الأحكام الثابتة في الأفعال المترتبة عليها الضرر, وأمّا حديث الرفع فإنّه يفيد رفع الأحكام التي يشكّ في ثبوتها, أو رفع الفعل ولو برفع إيجاب الإحتياط كما تقدم بيانه.

ومن جميع ذلك يظهر أنّه لا وجه معقول لمِا ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره في توجيه (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ).

أمّا الإتجاه الرابع؛ الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سره ومن تبعه؛ فهو وإنْ كان من أمتن الوجوه التي قيل في توجيه حديث (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ), أي نفي تشريع ما يوجب الضرر مطلقاً؛ موضوعاً كان أو حكماً, تكليفاً أو وضعاً, فيكون إخباراً عن نفي الضرر في مقام التشريع لا في الخارج حتى يستلزم المحذور وهو الكذب, وقد تقدم في حديث الرفع

ص: 176

أنّ الرفع في مقام التشريع لا ينافي الوجود التكويني, ومن أجل ذلك قالوا أنّه لا ريب في عدم تشريع للضرر في الشريعة المقدسة الإسلامية مطلقاً, بل يمكن دعوى إطباق العقلاء على ذلك, وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنّه لولا مخالفة المحقق الخراساني قدس سره لشيخه الأنصاري وتصريحه بتضعيفه لأمكن إرجاع قوله إلى مقالة أستاذه, ولكنه ذكر ثمرات بين القولين؛ منها ما ذكره في بحث الإنسداد من عدم حكومة دليل نفي الضرر والحرج على الإحتياط وإنْ كان ضررياً أو حرجياً؛ لأنّ الموضوع الضرري لا حكم له والأحكام الواقعية المجهولة لا ضرر في موضوعها أبداً وإنّما الضرر يحصل من الجمع بين المحتملات في الإمتثال, فلا مورد للقاعدة بناءً على مختاره حتى تجري ويرتفع الإحتياط, بخلاف مختار الشيخ الأعظم قدس سره ؛ فإنّه يرجع إلى أنّه لا تشريع لمنشأ الضرر أبداً, والإحتياط التام منشأ للضرر في الشريعة فيرتفع بالقاعدة.

وكيف كان؛ فقد ذكر الشيخ في فرائده(2): (إنّ المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر, بمعنى أنّ الشارع لم يشرع حكماً يلزم منه ضررٌ على أحد؛ تكليفياً كان أو وضعياً, فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر, وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك, وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلا بثمن كثير, وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى شجرته وإباحته له من دون إستئذانٍ من الأنصاري, وكذلك حرمة الترافع إلى حكام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه).

ويكون حاصل الفرق بين مختاري العلمين (قدّس سرّاهما)؛ إنّ صاحب الكفاية ركز على صورة رفع الحكم المتعلق بالموضوع الضرري ولم يجعل المدلول رفع الحكم الضرري,

ص: 177


1- . تهذيب الأصول؛ ج2ص239.
2- . فرائد الأصول؛ ج2ص534-535.

بخلاف صاحب الفرائد؛ حيث ركز على الثاني, ولهذا كان الخلاف بينهما في مسألة الإحتياط حال الإنسداد كما عرفت, فإنْ قلنا بأنّ مفاد لا ضرر نفي الحكم الضرري يكون معناه لا حكم أصلاً حتى يكون موضوعاً لحكم العقل بوجوب الإحتياط, فينتفي هذا الحكم بانتفاء موضوعه.وأمّا على رأي صاحب الكفاية فلا يسقط وجوب الإحتياط؛ باعتبار أنّ وجوبه في مورد الضرر لم ينشأ من جعل الشارع الحكم على الموضوع الضرري, وإنّما نشأ من حكم العقل لا من حكم الشرع, ولا يكون دليل لا ضرر حاكماً على أدلة وجوب الإحتياط؛ وإنّما يكون حاكماً على الأدلة الشرعية فقط.

وبالجملة؛ إنّ الشيخ الأنصاري قدس سره يرى أنّ حديث (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) مثل قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(1), فكما أنّ دليل لا حرج يرفع الحكم الشرعي الذي يلزم منه الحرج, كذلك دليل لا ضرر, فقد أطلق لفظ (الضرر) وأراد به السبب, وهو الحكم الشرعي, أو على نحو الكناية؛ أي نفي الضرر في الشريعة كناية عن نفي الحكم الشرعي, بل قد استعملت هذه الجملة في المقام في الإخبار فلا مجاز.

ولكن هذا الإتجاه يشتمل على التقييد بالضرر الحاصل من الشارع, وهذا التقييد على نحوين:

1- إمّا من ناحية الأسباب, أي لا ضرر مسبب عن الحكم.

2- وإمّا من ناحية الظروف والحالات, أي لا ضرر في فرض تطبيق الحكم أو تطبيق السلطة التشريعية للمولى خارجاً والذي يرتبط بالشارع, فالأضرار التكوينية وإن كانت موجودة إلا أنّها ليست داخلة تحت السلطة التشريعية للمولى, وإنّما يرتبط بعالم التكوين, وكِلا النحوين من التقييد يستلزمان نفي الحكم الضرري لا محالة.

ص: 178


1- . سورة الحج؛ الآية 78.

إلا أنّ هذا الوجه يواجه إيرادين:

الإيراد الأول: الموارد التي لم يتحقق فيها حكم شرعي, وإنّما عالجها الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم , أو الأئمة الهداة علیهم السلام بحكم الولاية العامة الثابتة لهم, فيصدرالنبي صلی الله علیه و آله و سلم حكماً بما هو حاكم, مثل الضرائب التي تفرضها الحكومات كالبلديات أو الدفاع المدني ونحو ذلك؛ باعتبار أنّها يحتاجها النظام العام, ولكن الشارع جعلها لولي الأمر تبعاً للمصلحة التي تتغير بتغير الأحوال والأزمان, وقد جعل بعض الفقهاء منها قضايا التسعير ومنع الإحتكار وغيرهما من القضايا التنظيمية.

وبالجملة؛ إنّ الأمور التي يعالجها النبي صلی الله علیه و آله و سلم لا بصفة كونه رسولاً ومشرعاً, بل بصفته حاكماً وولياً فإنّ البحث يأتي فيها؛ هل أنّ لها امتداد لكلّ الأزمنة وتعالجها بربطها بالمصلحة فتتجاوز الزمان والمكان وعصر الرسول والأئمة الهداة علیهم السلام .

الإيراد الثاني: إنَّ هذا الإتجاه إنَّما يصحّ فيما إذا كان للشرع الحنيف أحكاماً إذا استلزم منها أو من تطبيقها ضرراً على المكلف, وأمّا إذا فرض أنّ مورداً إنَّما يستلزم الضرر من عدم الحكم فيه, كما في الزوجة التي طرأ على زوجها العنن فلم يتمكن من مقاربتها, أو الزوجة التي غاب عنها زوجها ولم تصبر على تركالمقاربة بحيث يحدث ضرراً عليها؛ فإنّ الحكم في الأول واضحٌ, وهو أنّ الطلاق بيد من أخذ بالساق, وفي الثاني لا بُدَّ من رفع أمرها إلى الحاكم الشرعي والصبر أربع سنوات, ولا دليل على أمر الزوج بالطلاق, أو يتصدى الحاكم الشرعي لطلاقها, فإنّ أمره بالطلاق لو فرض يستلزم منه الضرر عليه, كما أنّ عدم أمره يستلزم الضرر على الزوجة, وكذا إذا لم يتدخل الحاكم الشرعي بالطلاق في الفرض الثاني يستلزم منه الضرر على الزوجة في هذه المدة, فإنَّ حديث الضرر لا يشمل ذلك؛ حيث أنّه لا حكم حتى يستلزم منه الضرر, وقد يعبر عن هذه الحالة بمنطقة الفراغ عند بعض العامة أيضاً.

ص: 179

ومن أجل ذلك حاول بعض الفقهاء المعاصرين قدس سره (1) توجيه الحديث الشريف؛ بأنّ النفي في (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) مفادها النهي, ولكنه ليس نهياً تشريعياً, بل نهى سلطاني وولايتي؛ لأنّ للرسول صلی الله علیه و آله و سلم مناصب عديدة:

الأول: منصب الرسالة والنبوة الذي منه التشريع.

الثاني: منصب التبليغ.

الثالث: منصب القضاء والولاية والحاكمية, أي السلطة الظاهرية؛ وهي التي تفرض على الأمة إطاعته فيها يأمر به وينهى عنه, كما في قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(2).

وحينئذٍ لا بُدَّ من ملاحظة الأحكام الصادرة عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم من الأوامر والنواهي؛ هل هي صادرة عنه كرسول ومبلغ عن الله تعالى أو كحاكم وسلطان يصدر أحكامه السلطانية التي تتصل بتنظيم الواقع الإسلامي فيما أوكل الله إليه.

وإذا رجعنا إلى حديث الضرر والضرار والموارد التي ورد فيها وملاحظة السياق الذي ورد فيه؛ فإنّنا نجد أنّه صدر منه صلی الله علیه و آله و سلم على نحو الأحكام السلطانية, ومن موقع الحاكم وولي أمر المسلمين, لا في مقام التشريع والتبليغ؛ إذ المسألة لم تكن مورد الشبهة لدى سَمُرة أو الأنصاري حتى يكون دور النبي تبليغ الأحكام, كما أنّه لم تكن المسألة من الجهل بالموضوع حتى تكون من موارد القضاء وتطبيق الكبرى على الصغرى, وإنّما كانت المسألة أنّ الأنصاري كان مقهوراً وكان سَمُرة قاهره, فشكاه إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم لينقذه من تمرده وإيذائه بما هو سلطان وحاكم الذي يملك الأمر فيُحي الناس من تمرد المتمردين والظالمين.

ص: 180


1- . تهذيب الأصول (تقريرات الشيخ السبحاني لبحث الإمام الخميني)؛ ج3 ص112-122، 533.
2- . سورة النساء؛ الآية 65.

فليس الحكم في الحديث حكماً تشريعياً؛ لأنّ المقام ليس مقام التشريع للأحكام, فإنّه إنَّما يأتي فيما إذا كان شبهة وخلاف في معرفة حكم الله تعالى, أو في تطبيق حكم الله تعالى على الواقع ليدخل في باب القضاء, بل المورد فيه قاهر ومقهور, ومتمرد ومتمرد عليه, فقد تدخل الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بما هو حاكم ومتولّي أمر المسلمينوأمر بقلع الشجرة. فذكر الحديث حكماً كلياً يمثل خطاً عاماً؛ وهو عدم إضرار أحد غيره؛ المتضمن حكماً جزئياً, وهو هنا قلع الشجرة, وهذا الذي وقع فيه النزاع والخلاف وصار منشأً لإطلاق حكم سلطاني؛ يكون خطاً عاماً تنطلق منه الدول والمتولين للأمور, وهو صدور أحكام عامة لتنظيم النظام العام للمسلمين وحماية بعضهم من بعض.

وقد إستشهد عليه بأمرين:

الأمر الأول: إنّه قد ورد في بعض روايات المقام التي تقدم ذكرها (وقضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ) حيث يستفاد منه إنّ الموضوع مّما دخل تحت سلطة النبي صلی الله علیه و آله و سلم ؛ باعتبار أنّ له منصب القضاء وفصل الخصومات وقطع مادة الفساد, وهذه ترجع إلى كونه حاكماً.

ومن أجل ذلك لا يقال: قضى بوجوب الصلاة, أوقضى بحرمة شرب الخمر, بل القضاء يُستعمل فيما إذا كان الحكم في مورد راجعاً إلى دوره كحاكم, أو سلطانٍ يريد تنفيذه لقطع الخصومة.

الأمر الثاني: إنّ رواية عُبادة بن الصّامت إشتملت على جملةٍ من أقضية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مثل: (قَضَى صلی الله علیه و آله و سلم بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؛ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ)(1) وغيره, وهي قضايا تتصل بالواقع العملي للمسلمين, وحياة الناس بعضهم مع بعض, بحيث لا يضر أحد غيره ولا يطعن أحد على أحد, فهي تدخل في الجهة التنظيمية للواقع الإسلامي

ص: 181


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص293-294.

وقد صدرت عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم بما هو سلطان وولّي لأمر المسلمين وحاكماً عليهم, كما جعله نبياً عليهم.

وعلى هذا الأساس؛ فليست قاعدة (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) من القواعد الفقهية التشريعية الحاكمة على أدلة الأحكام الشرعية الأولية, وإنّما هي حكم سلطاني يمتد تأثيرها بامتداد السلطنة وإطلاقها, وحيث أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم سلطان في حياته وبعد مماته فقد أطلق هذا الحكم السلطاني من خلال حاكميته على الأمة، لا من خلال أشخاص معينين؛ ولذلك يمتد هذا الحكم بامتداد الإسلام والمسلمين, فهو حكم مارسه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وأطلقه على الأمة بما هو سلطان, فليست أحكاماً سلطانية مؤقتة بعصرٍ أو زمانٍ أو موضعٍ معينٍ, فهو حكم أصدره السلطان ويمتد حتى إشعار آخر.

وقبل مناقشة هذا الإتجاه نقول؛ إنّه لا ريب في أنّ للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم جميع تلك المناصب الراجعة إلى النبوة والتشريع والقضاء والتطبيق والتنفيذ, بل غيرها من المناصب العالية التي جعلته أعظمُ إنسانٍ وأكملُ فردٍ حتى صار حبيب ربّ العالمين وبلغ مقام قاب قوسين أو أدنى, كما أنّه لا إشكال في أنّ الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم يختلف عن سائر الأنبياء؛ حيث أسّس دولة وأرسى قواعدها وأركانها, وقاتل المشركين والمنافقين, فقد إجتمعت في شخصه الكريم جميع السلطات التي تتقوم بها الدولة مطلقاً؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية, ولم تجتمع كلّها في غيره البته, وهذه كلّها من المسلمات التي لا خلاف فيها بين المسلمين, وهذه السلطات مجتمعة في شخصيته العظيمة كوحدةٍ واحدةٍ؛ فهو صلی الله علیه و آله و سلم في عينِ كونه نبياً رسولاً فهو حاكم ومتولي لأمر المسلمين يكون قاضياً منفذاً لتشريعاته, يدبر أمر الناس على الوجه المطلوب, فقضاؤه عين تشريعه وعين سلطته, وهي عين نبوته ورسالته, فكلّ أقواله وأفعاله وتدبيراته تشريع لا اختلاف بينها, والتمييز - كما ذكره صاحب هذا

ص: 182

الوجه- نشأ من قياس مناصبه المقدسة على المناصب الدنيوية التي تقمصها المنتحلون والبغاة والحكام غيرُ الشرعيين.

وحينئذٍ يقضي صلوات الله عليه وآله ويحكم ويشرع؛ إمّا على نحو العموم, وتكون قواعد عامة ترجع إلى حياة الأمة وعلاقات أفرادها, فيصح أنْ يقال في حقه؛ إنّه قضى أنْ (لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَعَ بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ), كما يصح أنْ يقال حَكَمَ كذلك, كما يصح أنْ يقال قضى بحرمة شرب الخمر ووجوب الصلاة, أو حَكَمَ بهما؛ فهو الحاكم القاضي المشرع؛ لا بُدَّ أنْ تحمل جميع ما صدر عنه بأيّ نحوٍ كان على العموم والتأييد, وممارساته القضائية كحاكم وسلطان على التأييد في إقامة الدولة وتنظيمها, إلا إذا قام دليلٌ خاصٌ على كونه في موردٍ معينٍ فيؤخذ به على نحو التعبد, فلا وجه لما ذكره صاحب هذا الإتجاه, ومع ذلك فيرد عليه:

أولاً: إنَّ عالم السلطة والقضاء إنَّما ينطلق من الأمور الجزئية والمسائل التنظيمية, التي تتبع المصالح الخاصة الوقتية, أمّا بالنسبة إلى القضايا العامة التي تمس حياة الأمة وتنظيم العلاقات العامة الراجعة إلى الناس بعضهم مع بعض وواقعها فهي ليست متصلة بالمجال القضائي وحكم السلطة.

ثانياً: على فرض التنزل؛ فإنّ الدولة والحكومة والحاكم إنَّما تمارس السلطة على ضوء الدستور العام من خلال القانون, فلو أصدر الحاكم أمراً إنَّما يصدره على ضوء تعليمات وضعية تطبيقية, ويرجع إلى القانون المنظم لشؤونه وممارساته, فلا بُدَّ أنْ يرجع إلى أمور التشريع وليست مجرد كون أوامره سلطانية, بل إنّ ممارسة السلطان والسلطة في عالم التطبيق تابعٌ للخطوط العامة.

ص: 183

ثالثاً: إنّ ما ذكره مخالف لموارد استعمال الضرر في النصوص الشرعية؛ حيث يستفاد منها أنّها كتطبيقٍ للقاعدة العامة, واعتبار ذلك من مجرد حالة قضائية أو سلطنة غيرُ صحيحٍ, وهو إنَّما يتم فيما إذا لم يكن تشريع عام في البين كما في حديث لا ضرر, إذ المفروض أنّنا استفدنا منه عنواناً عاماً نظير القواعد العامة, ويُرشد إلى ذلك ورود كلمة (قضى) في رواية المقام, حيث يستفاد منها أنّه فيمقام تطبيق القاعدة على الجزئيات, فما ذكره بعض المعاصرين ينافي استفادة القاعدة العامة من هذا الحديث تكون حاكمة على أدلة الأحكام الأولية.

ختام البحث

لا ريب أنّ هذه الإتجاهات وغيرها ممّا ذكر في حديث لا ضرر إنَّما ترجع إلى رفع الإشكال المعروف الذي قيل في المقام؛ وهو أنّه لو أبقينا الحديث على ظاهره يستلزم نفي كلّ ضررٍ خارجي في العالم وهو بديهي البطلان, وقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) أنّ للحديث ظهورات عديدةٍ أنهاها إلى سبعة لا بُدَّ من معالجتها ورفع اليد عنها ليستقيم معنى الحديث ويرفع الإشكال عنه وهي كما يلي:

1- ظهوره في النفي دون النهي؛ فإنّ إستعمال (لا) الداخلة على الإسم في النهي يكون مجازاً.

2- ظهوره في عدم التقدير, وإنّ المنفي هو المذكور في الكلام صريحاً؛ وهو الضرر لا الحكم الناشئ من الضرر.

3- عدم المجازية في الضرر بإرادة الحكم الضرري منه.

ص: 184


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص469.

4- عدم العنائية بإرادة نفي الموضوع لنفي حكمه؛ لكونه لازماً وغيره من العنايات كما تقدم.

5- ظهور الكلام في أنَّ المنفي هو الوجود الحقيقي للضرر لا التشريعي أو الإستساغي.

6- ظهوره في أخذ الضرر على نحو الموضوعية لا الطريقية, الذي ينفي احتمال المحقق النائيني قدس سره .

7- الظهور الإطلاقي في أنّ المنفي مطلق الضرر.

فلو أريد التحفظ على هذه الظهورات فإنّه يلزم منه نفي كلّ ضرر خارجي في العالم, وهو بديهي البطلان, فلا بُدَّ من رفع اليد عن بعض هذه الظهورات, وهي وإنْ كانت متفاوتة من حيث الضعف كالثلاث الأخيرة, والقوة كغيرها, وحينئذٍ يقدم الظهور الضعيف في السقوط على غيره. وذهب السيد الصدر قدس سره إلى تقديم إسقاط بعضها على البعض الآخر, فذكر في سقوط الظهور الإطلاقي -وهو الظهور الأخير-؛ إمّا لكونه إطلاقياً والبقية ظهور وضعي, وإمّا لأجل كونه إطلاق في طرف الموضوع فيرفع اليد عنه, لا أنْ ترفع اليد عن الظهورات الوضعية في طرف المحمول والحكم, وإمّا من أجل القرينة الموجود في الحديث, حيث أنّ نظر الرسول صلی الله علیه و آله و سلم إلى الضرر الراجع إلى الشريعة دون الضررالتكويني؛ فهو قرينة متصلة بالخطاب يمنع من انعقاد الظهور الإطلاقي دون الظهورات الوضعية, لكونها إقتضائية لا سكونية.

والحقُّ أنْ يقال: إنّ هذه القرينة المتصلة كما ترفع الظهور الإطلاقي توجب سقوط الظهور الوضعي أيضاً, فالحديث الشريف لا بُدَّ من رفع اليد من ظهوره مطلقاً؛ وضعياً كان أو إطلاقياً, وإنّما الخلاف في تعيين المراد منه, وقد عرفت الإتجاهات السابقة والإشكالات عليها, فما ذكره السيد الصدر من التطويل الذي لا طائل تحته.

ص: 185

النقطة الخامسة: في الإعتراضات التي أُثيرت حول الحديث

في كلية هذا الحديث وعمومه وإستفادة المعنى النهائي منه؛ وذلك بعد إمكان اقتناص نفي الحكم الضرري منه، فقد ذُكر لذلك عدّة إشكالات:

الإشكال الأول: لا ريب في أنّها من القواعد العامة التي استقرت السيرة على التمسك بها في مقام العمومات المثبتة للأحكام, وقد أشكل على عمومها بتخصيص الأكثر؛ فقد وردت تخصيصات كثيرة عليها من الأحكام الضررية المجعولة شرعاً, بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي, فلا يصح التمسك بعمومها حينئذٍ, فقد ورد كثيراً من الأحكام الفقهية التي تتضمن الضرر؛ كالحدود والتعزيزات والديات والقصاص والضمان والخمس والزّكاة والجهاد والحج, وغير ذلك ممّا هو كثير.

فالقول بالعموم ثمّ ورود التخصيص الكثير عليه يكون من التخصيص المستهجن القبيح في المحاورات العرفية, ولذا ذهب بعضهم إلى إجمال الحديث وعدم إمكان العمل به, أو يعمل بالحديث في حدود ما عمل به المشهور, كما اختاره بعضٌ.

وقد أُجيب عن هذا الإشكال بوجوهٍ:

الوجه الأول: إنّ القول بأكثرية الخارج من مجرد الدعوى, فإنّ الأحكام المجعولة التي يحتمل فيها الضرر أقلّ بكثير ممّا يورد الناس بعضهم على بعض من الضرر, بل قيل أنّ نسبتها هي العشر, بل أدنى من ذلك, فلا يعدّ مثل ذلك من التخصيص المستهجن.

الوجه الثاني: إنّ ما يُتوهم فيه الضرر كالصدقات الواجبة والحج والجهاد والحدود والديات لا يعدّ ضرراً.

أمّا الصدقات؛ فلا يعدّ ذلك ضرراً عرفاً إذا كانت منافعها ترجع إلى الناس أنفسهم.

ص: 186

وأمّا الحج؛ فهو نظير سائر الأسفار المتعارضة, فإنّ من سافر وأنفق في سفره مالاً كثيراً لغرضٍ صحيحٍ لا يقال أنّه تضرر, فكيف بالسّفر إلى الله تعالى الذي فيه منافع للناس دنيوياً وأخروياً.وأمّا الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فإنّه من أجلّ المفاخر عند الإنسان, وفيه من الفضل الكبير والثواب الجزيل ممّا لا يصح أنْ يطلق عليه الضرر, ولا يرضى الشهيد أنْ يقال في حقه بأنّه تضرر ببذل مهجته في سبيل الله تعالى.

وأمّا الحدود والدّيات؛ فإنّها ترجع إلى دفع الضرر عن الأفراد وإيصال كلّ ذي حقّ حقه.

هذا مع أنّه لا ريب ولا إشكال أنّ جميع الأحكام الإلهية إنَّما شُرعت في سبيل الكمال اللائق والوصول إلى المقامات العالية, ونيل السعادة والفلاح دنيوياً وأخروياً, ولا يصح أنْ يُطلق عليها أنّها تستلزم الضرر, ويستهجنه ممّن له أدنى مسکة ودراية.

الوجه الثالث: إنّه على فرض صدق الضرر عليها, فإنّ المراد من الضرر المنفي ما لم يكن أصل جعله وتشريعه ضررياً لمصالح كثيرة دنيوية وأخروية, بل يصح لنا القول بأنّ الضرر حصل بعد الجعل والتشريع لجهاتٍ خارجية, فيكون خروجها حينئذٍ تخصصاً لاتخصيصاً حتى يلزم منه تخصيص الأكثر.

الوجه الرابع: ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس سره (1) من أنّه على فرض التخصيص, ولكنه ليس من التخصيص الأكثر, لأنّ المخصص عنوان واحد وهو التكاليف الضرورية, فيصير المحصل أنّه (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) في الإسلام, إلا التكاليف الضررية الراجعة لمصالح الناس تغلب على ضرريتها بمراتب كثيرة.

ص: 187


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص537.

وأشكل عليه صاحب الكفاية قدس سره (1) بأنّ النوع الواحد طريق إلى الأفراد الخارجية, فإذا كانت الأفراد الخارجية التي تحت العام أكثر ممّا بقي تحته يكون مستهجناً؛ سواء كان ذلك بنوعٍ واحدٍ أم بإخراج نفس الأفراد, نعم؛ لو كان العام أيضاً نوعياً وكان ما بقي تحت العام أكثر ممّا خرج عنه من حيث النوع, فلا بأس به؛ وإنْ كان الخاص أكثر أفراداً ممّا بقي تحت العام من الأنواع.

ويمكن الجواب عنه بأنّ العام في المقام نوعي, فإنَّ متعلق النفي نوع ضرر النفس, ونوع ضرر العرض, ونوع ضرر المال, لا نوع الضرر الحاصل من التكاليف المجعولة.

والقول بأنّ النوع لا تحقق له في الخارج حتى يتعلق به النفي مردودٌ؛ بأنّه ليس المراد منه النوع المنطقي حتى لا يكون له تحقق خارجي, بل الطبيعي منه الذي هو عين الأفراد الخارجية, فيصح قول الشيخ قدس سره ولا يرد عليه إشكال صاحب الكفاية.والصحيح؛ إنّه لا فرق بين ما إذا كان العام نوعياً أو فردياً بعد أنْ كان النوع طبيعياً, أو طريقاً محضاً إلى الأفراد الخارجية, فلا أثر لِما فصله صاحب الكفاية, إذ المدار كلّه على الأفراد والنوع طريق محض إليه, فيرجع كثرة الخارج وقلة الباقي إلى الأفراد.

والحقُّ في الجواب ما ذكرناه من أنّ الأحكام الشرعية بل مطلق الشريعة بحسب مرتكزات العقلاء إنَّما تشتمل على قواعد وأنظمة تحقق العدالة الإجتماعية, وبها يتم تنظيم الحياة العامة للناس ويصل كلّ ذي حقٍ إلى حقه, وفي أعلى المراتب إرشاد الإنسان إلى الكمالات الواقعية. ولا ريب أنّ جميع تلك المقاصد والأغراض تحتاج إلى التحميل على الناس أو التحديد لهم ووضع القيود والشروط, فلا يعدّ ذلك ضرراً بلحاظ المشرّع, وإنْ عده الفرد كذلك باعتبار تحميله الشيء, بل خلو الشريعة من تلك الأنظمة يعتبر ضرراً؛ فإنّه لا

ص: 188


1- . كفاية الأصول؛ ص382.

يُتصور عدم تضمين من أتلف مال الغير, أو عدم الإقتصاص ممّن جنى على أحد, أو عدم معاقبة سارق, أو لا تفرض الصدقات من أجل الفقراء؛ فإنّ عدمها هو الذي يكون ضرراً, فلا تكون الأحكام المشروعية أحكاماً ضررية بحسب مناسبات الحكم والموضوع وما يفرضه بديهة العقل, فلا تصل النوبة إلى القول بأنّها تخصيص الأكثر.

وعلى ضوء ذلك لا فرق بين الأحكام الإجتماعية والأحكام العبادية المفروضة وإنْ كان فيها تقييد للحريات؛ فإنّه لا حرية ولا ملكية للعبد تجاه مولاه الحقيقي ليكون تكليفه ضرراً, مع أنّ تلك الأحاكم التعبدية من أعظم الوسائل لنيل السعادة والفلاح.

ومن ذلك كلّه يظهر أنّه لا ضرر في التشريعات الإلهية, وإنْ تحقق ضررٌ فإنّه يحصل من جهات خارجية, أو من تحميل الناس بعضهم على بعض, وهما منفيان بهذه القاعدة, فلا يرد إشكال تخصيص الأكثر. وحينئذٍ لا حاجة إلى جواب الشيخ الأنصاري قدس سره ؛ من فرض النوع لا الأفراد كما عرفت.

كما لا حاجة إلى جواب المحقق الخراساني قدس سره ؛ من ظهور القاعدة في مانعية الضرر, فلا يشمل ما إذا كان الضرر بنفسه مقتضياً للحكم, فإنّه موهونٌ؛ بأنّ المصالح والمقاصد هي المقتضية للحكم لا أنْ يكون الضرر كذلك وإنْ كانت المصالح ملازمة مع الضرر.

كما لا حاجة إلى جواب المحقق النائيني قدس سره (1)؛ من أنّ حديث لا ضرر حاكم على أدلة الأحكام بملاك الأولية بملاك النظر إليها, فلا بُدّ أنْ يفترض ثبوت ذلك الحكم في المرتبة السابقة, فلا يمكن للحديث أنْ يرفع أصل الحكم الضرري, وإنّمامفاده ينحصر في نفي إطلاق الحكم الضرري, وهذا يقرب من الجواب الثالث الذي ذكرناه آنفاً؛ فإنّ الحديث ناظر إلى أصل الشريعة بمجموعها لا إلى كلّ فرد من الأحكام, وهو ينفي ثبوت الحكم

ص: 189


1- . رسالة في قاعدة لا ضرر (مطبوعة ضمن کتاب منیة الطالب)؛ ص211-212.

الضرري فيها؛ سواء كان أصله ضررياً أم إطلاقه, وأمّا الشريعة فهي مفترضة في المرتبة السابقة, وغير ذلك من الوجوه التي ذكروها في المقام, فإنّها لا تخلو عن المناقشة.

ثمّ إنّهم إختلفوا في توجيه ضررية الأحكام التي ذكروها في المقام كالخمس والزّكاة والقصاص والديات وغيرها وأطالوا الكلام فيها بالنقض والإبرام.

والحقّ؛ إنّ جميع ما ذكروه من مجرد الفرض والتقدير لم يستند إلى نصٍ شرعي, ومن أجل ذلك لا وجه لنقلها وسردها؛ فإنّه من لزوم ما لا يلزم؛ لا سيما بعدما عرفت إنّ الغرض الأسمى من التكاليف الإلهية والشريعة المقدسة إظهار عبودية العباد وإيصالهم إلى الكمال المنشود والفوز بالفلاح وتحقق العدالة الإجتماعية وتنظيم الحياة العامة للناس ونيلهم للسعادة الأبدية.

الإشكال الثاني: إنّ الحديث طبّق في مسألة الشفعة في بعض رواياته مع أنّ بيع الشريك لحصته لا يكون ضرراً على شريكه إلا نادراً بنحوٍ قد يكون مقدمة إعدادية للضرر, كما إذا كان المشتري رجلاً خبيثاً قد يضر الشريك الأول, ومثل هذه المقدمات الإعدادية للضرر لا تمنع عن ترتب الحكم الشرعي.

وقد أُجيب عنه تارةً؛ بأنّ ذلك من الجمع في الرواية لا المروي, فلا يرتبط حديث لا ضرر بحكم الشفعة كما تقدم بيانه في أول بحث الضرر. وأخرى؛ بأنّ الضرر في باب الشفعة من باب الحكمة لا العلة. وثالثةً؛ بأنّ لا ضرر تفريع على حكم الشفعة لا علة له؛ بمعنى: إنّ حقّ الشفعة مجعول للشريك, وإن لم يترتب على بيع الشريك ضرر خارجاً لإمكان فسخه من قبل الشريك الأول, وعليه يسقط الإستدلال بالحديث على القاعدة.

والصحيح في الجواب أنْ يقال بأنّ حقّ الشفعة من الحقوق العرفية الثابتة للشريك, فإذا أردنا نفيه عنه يكون إضراراً بالنسبة إليه, ولا فرق في الضرر أنْ يكون حقيقياً كقطع اليد

ص: 190

ونحوه, أو ضرراً عرفياً؛ إنْ لم نقل أنّه من الضرر الحقيقي أيضاً, فإذا نفينا هذا الحقّ المركوز عقلائياً يكون إضراراً به, وقد تقدم أنّ الضرر المنفي في الحديث يشمل جميع ما يعدّ ضرراً عرفاً؛ سواء كان حقيقياً أم غير حقيقي كما عرفت التفصيل.

ومن هنا يثبت الضرر في منع فضل الماء وما أشبه ذلك في الثروات العامة الطبيعية التي خلقها الله تعالى للناس عموماً لأنْ ينتفعوا منها ويُشبعوا حاجاتهم, فيكون منع الزائد على الحاجة منه إضراراً بالآخرين, كما أنّه من هذه الجهة نقول بتطبيق القاعدة على مثل خيار الغبن أو خيار تبعّض الصفقة, مع أنّه لا ضرر في تبعض الصفقة وتبعض الثمن تبعاً له, فإنّ هذه الحقوق عقلائية, إذا أردنا نفيهاعن المكلف يستلزم منه الإضرار عقلائياً, فيكون مشمولاً للقاعدة؛ فتكون إمضاءً لمثل هذه الحقوق وغيرها ممّا يثبت الحقّ عقلائياً, وقد حصل الإشكال في تخصيص الضرر بخصوص الضرر الحقيقي, وقد تقدم التفصيل في ما ذكرناه في معنى الضرر فراجع.

وحينئذٍ لا وجه لِما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1)؛ من أنّ هذه القاعدة إنَّما تتمّ إذا افترضنا في المرتبة السابقة قواعد, فتكون قاعدة لا ضرر متمّمة لها, نظير ما ذُكر في حديث الإمام الباقر علیه السلام : (كُلُّ شَيْ ءٍ فِيهِ الْحَلَالُ والْحَرَامُ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ فَتَدَعَهُ بِعَيْنِهِ)(2) الواردة في مورد السوق واليد ونحو ذلك, فإنّه بناءً على ما ذكره من متممية القاعدة التأسيسية فتكون إرشاداً إلى قواعد مجعولة في موردها, ويأتي مزيد بيان لذلك إنْ شاء الله تعالى.

ص: 191


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص123.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج25 ص119.

الإشكال الثالث: إنَّ الحديث طبّق في بعض أطرافه على مورد منع فضل الماء, مع أنّه ليس بضرر على الثاني وإنّما هو من باب عدم النفع, فإنْ قلنا بأنّ الضرر مجرد عدم النفع فلا إشكال في الشمول, ولكن لا يلتزمون بذلك بل لا يمكن أنْ يكون الضرر حكمة للحكم بحرمة منع فضل الماء, ومن أجل ذلك جعل بعضهم هذا من الجمع في الرواية لا المروي.

ولكن عرفت آنفاً الجواب عن ذلك؛ من أنّ حقّ الإنتفاع من فضل الماء ممّا ثبت عند العقلاء؛ لأنّ الله تعالى خلق الثروات الطبيعية لانتفاع الناس منها, فيكون منع الزائد على الحاجة منه إضراراً بالآخرين, فكأنّ القاعدة تكون إمضاءً لمثل هذه الحقوق.

الإشكال الرابع: إنّ تطبيق الحديث على قضية سَمُرة بن جندب لا يخلو من إشكال؛ لأنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم قد طبّق ذلك لإثبات جواز قلع النخلة التي يملكها سَمُرة, مع أنّ الحكم الضرري إنَّما هو جواز الدخول بغير استئذان من الأنصاري, فلا بُدَّ أنْ يرفع هذا الحكم لا حرمة قطع الشجرة, ومن هنا جعل بعضهم ذلك تعليلاً لعدم جواز الدخول بلا استئذان, لا لجواز قلع النخلة, بل كان الحكم بقلعها من باب كونه حاكماً وولي الأمر. وأُجيب عنه تارةً؛ بأنّ أمره صلی الله علیه و آله و سلم بقلع النخلة لأجل أنّ سَمُرة غيرُ مبال بعرض الأنصاري وفي مقام التعدي على هتكه, ولا ريب في أنّه إضرارٌ له, وكان منشأ ذلك النخلة, فأمر صلی الله علیه و آله و سلم بقلع منشأ الإضرار, فينطبق الحديث على المورد, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

وأخرى؛ ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره من أنّ صعوبة فهم هذا التطبيق لا يمنع من التمسك بأصل القاعدة في نفسها.وفيه: إنّ إجمال التطبيق على مورد القاعدة في هذا الحديث يسري لا محالة إلى أصل القاعدة؛ لأنّه من الممكن أنْ تغيّر نكتة التطبيق من ظهور القاعدة نفسها.

ويرد عليه؛ إنّه لا إجمال في التطبيق حتى تصل النوبة إلى ما ذكر.

ص: 192

وثالثة؛ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنّ تطبيق القاعدة إنَّما كان بلحاظ الحكم الأول, وهو المنع من الدخول بلا إستئذان لا بلحاظ قلع العذق, فإنّه حكم آخر صدر منه صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه ولي الأمر؛ تأديباً لسَمُرة بن جندب.

وفيه: إنّه خلاف ظاهر الحديث؛ لأنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم أمر سَمُرة بالإستئذان من الأنصاري, فلم يقبل ثمّ أراد أنْ يشتري منه العذق, فلم يقبل أيضاً ثمّ أمر بقلع النخلة ورميها بوجهه؛ بأنّه (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ), فهو واضح الظهور إنّه تعليلٌ للحكم بالقلع.

ورابعة؛ ما ذكره السيد الصدر قدس سره (2)؛ من أنّ تطبيق القاعدة على قصّة سَمُرة, إنَّما هو بلحاظ الإضرار لا بلحاظ الضرر, بقرينة قوله صلی الله علیه و آله و سلم في روية أُخرى (إِنَّكَ رَجُلٌ مُضَارٌّ), و(مَا أَرَاكَ يَا سَمُرَةُ إِلَّا مُضَارّاً).

وفيه: إنّه لايحلّ المشكلة, كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

والصحيح؛ ما ذكرناه في الوجه الأول؛ من أنّ سَمُرة كان في مقام التعدي على عرض الأنصاري, وإنّما حصل هذا التعدي والهتك بسبب النخلة التي كان يمتلكها, والحديث تام التطبيق عليه, حيث أمر صلی الله علیه و آله و سلم بقلع منشأ الضرر والإضرار, حيث كان عازماً على ذلك بعد عدم قبول ما عرض عليه النبي صلی الله علیه و آله و سلم من الشراء والإغداق في الثمن, وقد ذكرنا سابقاً أنّ المشكلات المزبورة وغيرها إنَّما نشأت من الإختلاف في معنى الضرر والإضرار, والإقتصار على كون الضرر مقابل النفع أو النقص فقط وغيره ممّا ذكرناه سابقاً. ولكن بعد توضيح معنى الضرر وشموله لكلّ ما يعدّ ضرراً عرفاً, ممّا يوجب خللاً فيما من شأنه أنْ يكون صحيحاً خالياً من كلّ نقص؛ سواء كان حقيقياً أم غير حقيقي, عيناً أم حقاً, فيشمل تلك الموارد عرفاً.

ص: 193


1- . منية الطالب؛ ج2 ص209.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص476.

وبعد وضوح شمول لا ضرر لقضية سَمُرة وأمره صلی الله علیه و آله و سلم بقلع عذقه؛ لأنّه كان منشأ الضرر في المورد, يبقى الغموض في تخريج لزوم الإستئذان من قبل سَمُرة في الدخول على عذقه كحكم, فيكون نهيه على أساس قاعدة لا ضرر, فقد ذكر المشهور في تخريج ذلك بأنّ حقّ سَمُرة في الدخول في صورة عدم الإستئذان ضرري فينفى بالقاعدة.

وقد علّق المحقق العراقي قدس سره (1) عليه بأنّ نفي القاعدة لحقِّ سَمُرة يكون خلاف الإمتنان عليه والحديث ظاهر الإمتنان فلا يمكن تطبيقه بهذا الإعتبار, ولكنالحديث إنَّما أثبت حقاً للأنصاري في حفظ عياله؛ لأنّ عدمه ضرر عليه, فيقع تزاحم بين هذا الحقّ وحقّ سَمُرة في الدخول إلى عذقه فيُقدم عليه لأهميته؛ لا بقاعدة لا ضرر حتى يلزم كونها خلاف الإمتنان.

ويمكن مناقشته بما يلي:

أولاً: إنّ امتنانية لا ضرر لا يتنافى مع تضرر من منه الضرر كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

ثانياً: إنّ تحقق التزاحم بين حقّ الأنصاري وحقّ سَمُرة فرعُ ثبوت الأخير له؛ بأنْ يكون مجعولاً له بشكل مستقل, والمفروض أنّه ليس كذلك في المقام؛ لأنّ ثبوت حقه متوقف على دخوله في دار الأنصاري مقدمة له, وفي مثل ذلك لا يقع تزاحم بين حقّه وحقّ الأنصاري في حفظ عياله وعدم الدخول عليهم بلا استئذان؛ فإنَّ المطلوب مجرد إخبارهم بالدخول من أجل التستر لا توقف دخوله على إذنه حتى تصل النوبة إلى أنْ لا يؤذن له بالدخول, ولا ريب أنّ هذه المقدمة ممكنة ومقدورة لسَمُرة, فلا يقع التزاحم بين الحقّين, فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق حقّه في عذقه للضرر أو للتزاحم.

ص: 194


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص114.

ويدلّ على ذلك أنّ الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أمره إبتداءً بالإستئذان والإخبار بالدخول, ومن أجل ذلك فإنّ قاعدة لا ضرر إنَّما شملت المورد باعتبار ثبوت هذا الحقّ للأنصاري, وحرمة الدخول عليه بغير استئذان كما عرفت, نعم؛ كلام المحقق العراقي قدس سره إنَّما يتم فيما إذا كان حقّ سَمُرة ثابتاً له مستقلاً, فيقع التزاحم بين حقّه وحقّ الأنصاري, ويقدم الأخير لأهميّته, وليس فيه مخالفة للإمتنان.

ومن جميع ذلك يظهر عدم تمامية شيء من الإعتراضات على كلية هذه القاعدة وعمومها.

المقام الثاني: في الإعتراضات التي أُثيرت حول التطبيقات الفقهية للقاعدة
اشارة

من المعلوم أنّ قاعدة لا ضرر من القواعد العامة التي تجري في جميع أقسام الفقه وتمام أبوابه, وجرت سيرة الفقهاء على التمسك بها في موارد كثيرة يعسر إحصائها؛ من دون إنكار أحد منهم بعد تمامية الأحاديث المتقدمة سنداً ودلالةً واستفادة القاعدة منها, ولكن إعترض المحقق العراقي قدس سره (1) بشأن تطبيقات هذه القاعدة في الأبواب المختلفة من الفقه بدعوى أنّ هذه القاعدة لا تنطبق بالدقة على تلك الموارد, فإنّها ليست قاعدة مستقلة في نفسها يصح استنباط الحكم منها, وإنّما هي إشارة إلى قواعد أخرى ثابتة في المرتبة السابقة في تلك الموارد أدركها الفقهاء بارتكازاتهم العقلائية أو المتشرعية, فيكون إستنادهم إلى القاعدة لمجرد الإستئناس، واستدلّ على ذلك بأنّ موارد التطبيق المتنوعة تكون النتيجة الفقهيةالمستنبطة فيها؛ إمّا أوسع من مفاد القاعدة, أو أضيق منه, فلا يمكن أنْ تكون هي مستندهم في كلّ ذلك, وتأكيداً لِما ذكره تصدّى لذكر جملةً من تلك الأمثلة والتطبيقات:

المثال الأول: ما ذكروه من سقوط الوضوء الضرري, مستشهدين بقاعدة لا ضرر, مع أنّ مستندهم الواقعي فيه قاعدة أخرى؛ وهي إمتناع إجتماع الأمر والنهي, وتقديم الأخير على الأول.

ص: 195


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص116-123.

وقد وضح ذلك بوجوهٍ ثلاثة:

الوجه الأول: إنّ الفقهاء حكموا ببطلان الوضوء الضرري ولم يقولوا بنفي وجوبه, مع أنّه لو كان مستندهم قاعدة الضرر فإنّها لا تنفي أكثر من الوجوب ولكن يبقى الملاك على حاله, فيكون مقتضياً للصحة لولا النهي والحرمة الذين أوجبا القول بالبطلان, فلم يكن المستند إلا اجتماع الأمر والنهي وتقديم الأخير على الأول؛ لا قاعدة نفي الضرر.

وأشكل على هذا التوضيح:

أولاً: إنَّ الحكم بالبطلان لا يعني عدم استنادهم إلى قاعدة نفي الضرر في نفي الوجوب حقيقة؛ إذ ربّما كان نفيهم للوجوب بلا ضرر لحرمة الإضرار بالنفس ويكون مدركهم على نفي الوجوب كلا الأمرين حينئذٍ.

ويرد عليه بأنّه تبعيدٌ للمسافة من غير مبرر؛ إذ يكفي في نفي الوجوب حقيقة التمسك بقاعدة لا ضرر التي تدلّ على حرمة الإضرار بالنفس في المقام, وقد تقدم سابقاً أنّ قاعدة لا ضرر قد تُثبت حكماً في بعض الموارد كما تنفيه في موارد أخرى.

ثانياً: إنَّ إثبات الصحة بعد نفي الوجوب بلا ضرر مبني على القول بإمكان إحراز الملاك بعد سقوط الخطاب؛ إمّا على أساس عدم التبعية بين الدلالتين؛ المطابقية والإلتزامية في الحجية, أوعلى أساس إطلاق المادة؛ وكلا المبنيين غير صحيح في نفسه.

وفيه: إنّه إذا فرضنا أنّ قاعدة لا ضرر تنفي الوجوب في الوضوء الضرري, ولكن يبقى الملاك بعد سقوط الخطاب, وهو وإنْ كان مورد النزاع بين الأصحاب لِما تقدم في أحد مباحثنا من أنّ سقوط الملاك وعدمه إنَّما يستفاد من ظواهر أدلة الخطاب, فإنْ استفدنا منها اتّحاد الملاك والخطاب حدوثاً وبقاءً, فيسقط الملاك إذا سقط الخطاب, وأمّا إذا لم نستفد ذلك فإنّ سقوط الخطاب لا يوجب سقوط الملاك, وعند الشك نرجع إلى استصحاب

ص: 196

بقاء الملاك, ولكن ممّا يهون الخطب في الوضوء الضرري أنّهم تمسكوا بقاعدة نفي الضرر لإثبات حرمة الوضوء الضرري, فلا دخل لموضوع تبعية الملاك للخطاب أو عدمها.هذا إذا قلنا بحرمة الوضوء الضرري, ولكن الصحيح فقهياً صحة الوضوء الضرري؛ إمّا بالأمر الإستحبابي المتعلق به, إذ دليل الضرر لا ينفيه فلا يسقط, أو يتحقق الملاك بعد الخطاب, إلا إذا استفدنا من الدليل حرمة الوضوء فلا محالة تسقط الصحة, كما هو واضح كما عرفت.

الوجه الثاني: إنَّ العلماء إتفقوا على صحة الوضوء الضرري إذا جهل المكلف بالضرر, وهذا ينسجم مع كون مدرك البطلان في صورة العلم بالضرر مسألة اجتماع الأمر والنهي وتغليب جانب النهي, فيكون حكم الأصحاب بصحة العبادة مع الجهل بالحرمة, ليس من جهة قاعدة لا ضرر التي تنفي الوجوب الواقعي مطلقاً على كلّ حال.

وفيه: إنّه يمكن القول بصحة الوضوء الضرري في حالة الجهل بالضرر حتى لو كان المستند قاعدة لا ضرر؛ لأنّه لا موجب لرفع اليد عن الوجوب, إذ رفعه معناه إبطال عمله ولزوم التيمم عليه بعد أنْ توضأ, ولكن لا ينفي عنه الضرر خارجاً, مع أنّ المنساق من حديث لا ضرر هو رفع الحكم عن المكلف لئلا يقع في الضرر خارجاً, لكون هذا منّة وتسهيلاً عليه, مع الفرض بأنّه لا يمكن تنبيه الجاهل ورفع غفلته عن الضرر إلا بنسخ وجوب الوضوء عليه رأساً في الشريعة, وهو ممّا لا يمكن استفادته من القاعدة, ولعلّ هذا المرتكز العرفي هو مستند الفقهاء (قدّست أسرارهم), فلم يستفيدوا إطلاق النفي لحال الجهل بالضرر, فتامل.

الوجه الثالث: إنّ المكلف إذا علم بالضرر وجهل بوجوب الوضوء عليه يلزم القول بصحة وضوئه إذا توضأ رجاءً؛ إذا كان مدرك نفي الوجوب هو قاعدة نفي الضرر, إذ

ص: 197

نفي وجوبٍ غيرُ منجز لا امتنان عليه ولا تشمله القاعدة؛ لعدم كون الحكم غير المنجز منشأً للضرر مع أنّ الأصحاب حكموا بالبطلان في ذلك, وهو ممّا يدلّ على أنّ مدركهم فيه حرمة الضرر وتغليبها على الأمر الذي لا يفترق فيه حال العلم بالوجوب أو الجهل به.

ويرد عليه: أولاً: ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1)؛ من إمكان استنادهم إلى القاعدة وحرمة الضرر معاً, فما ذكره المحقق العراقي من التوضيح لا ينفي صحة استنادهم إلى القاعدة في نفي وجوب الوضوء الضرري في حال العلم بأصل الوجوب.

وفيه: ما ذكرناه آنفاً من أنّه تبعيدٌ للمسافة؛ فإنّ القاعدة إذا دلت على حرمة الضرر بالنفس تكون وحدها كافية في الحكم ببطلان الوضوء الضرري, ولا حاجة إلى ضمِّ شيء آخر إليها, إلا على سبيل التأييد, لا الإشتراك في الدلالة.ثانياً: إنّ ثبوت وجوب الوضوء الضرري للجاهل بوجوبه بالخصوص؛ إمّا غير معقول, كما ذهب إليه المحقق الإصفهاني قدس سره (2), أو غير عرفي على الأقل, فيكون نفي وجوبه على العالم به دالاً على نفيه مطلقاً؛ حتى على الجاهل بوجوبه.

ويرد عليه: إنّ سقوط الخطاب بالنسبة إلى الجاهل بوجوب الوضوء وإنْ كان لأحد الوجهين السابقين ولكن لا يوجب سقوط الملاك ورجاء دركه في الواقع كما تقدم آنفاً, وعرفت الإشكال والجواب عنه.

المثال الثاني: ما ذكره المحقق العراقي ؛ الخيارات التي استند الأصحاب فيها على قاعدة نفي الضرر, كخيار العيب وخيار الغبن وخيار تبعض الصفقة؛ مع أنّه:

أولاً: إنّ هذا الإستناد لا يعدو أنْ يكون من قبيل التعليل بعد الوقوع؛ لأنّ تبعض الصفقة

ص: 198


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص479.
2- . حاشية كتاب المكاسب للإصفهاني (ط. الحديثة)؛ ج2 ص53.

-مثلاً- ليس فيه ضررٌ مالي على المشتري حتى يوجب الخيار عليه, غايته انتفاء الغرض والداعي إذا كان متعلقاً بالمجموع, وتخلفه شايع من دون أنْ يوجب الخيار للمشتري.

ثانياً: إنّ غاية ما يقتضيه لا ضرر في هذه الموارد نفي اللزوم المستوجب للضرر, ولكن الفقهاء حكموا بثبوت الخيار للمشتري القابل للإسقاط والإرث وغير ذلك من أحكام الخيار, وهذه الحيثيات أيضاً لا يمكن استفادتها من القاعدة لو كانت هي المدرك لهم.

وقيل في الجواب عن ذلك أنّه لا بُدَّ من بيان كيفية تطبيق القاعدة على الخيارات؛ ولو على سبيل الإيجاز, والتفصيل موكولٌ إلى الفقه في الموضع المناسب.

كيفية تطبيق القاعدة على الخيارات

الخيار الأول: خيار الغبن

وتطبيق القاعدة عليه يكون على أحد وجوه:

الوجه الأول: كون الغبن ضرراً مالياً على المشتري, وقد نُوقش ذلك بمناقشات عديدة:

المناقشة الأولى: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره من أنّ الضرر المالي ناشئ من صحة المعاملة لا من لزومها فحسب فتنفي القاعدة صحتها, وعليه؛ يرتفع موضوع الخيار؛ هذا إذا جعلنا الخيار حكماً آخر غير الصحة بقاءً, وإلا كان التعبير الأصح أنّ لا ضرر ينفي حدوث الصحة لأنّ منها الضرر المالي.

ولكنه قدس سره حاول الجواب عنه بوجهين؛ إمّا بأنّ الضرر بوجوده الحدوثي قد خرج عن مورد القاعدة بالإجماع فيُتمسك بها لنفي الضرر بوجوده البقائي, وهويعني رفع اللزوم. وإمّا بأنّ نفي الصحة خلاف الإمتنان, بخلاف نفي اللزوم؛ الذي يستوجب غالباً إعطاء فرصة للمكلف للتفكير باختيار الأفضل له من الفسخ أو الإمضاء.

ص: 199

وأورد عليها: إنّه إذا كان المقصود من إجراء قاعدة لا ضرر هو إعطاء الفرصة للمكلف للتفكير باختيار الأفضل لأنّ الغبن ضررٌ مالي بالنسبة إليه؛ فإنّ نفي الصحة رأساً عن المعاملة أَولى؛ لأنّه أفضل للمكلف؛ فإنّ ضرر المشتري ثبت من صحة المعاملة وبانتفائها بقاعدة الضرر يكون فيه الإمتنان عليه, بخلاف القول بصحة المعاملة وإثبات الخيار له, وعلى فرض القول به فإنّ الإمتنانية في الحديث ليس بمعنى اختيار أفضل الأحكام وأوفقها بحاله فحسب, بل تشمل ما إذا كان المكلف أحسن حالاً بعد جريان القاعدة في حقّه منه قبل جريانها, وهو متحقق أيضاً في أصل الصحة؛ فلا يكون في نفيها خلاف الإمتنان, وسيأتي مزيد بيانٍ إنْ شاء الله تعالى.

والحقّ في الجواب؛ إنّ لا ضرر كما ينفي الضرر الإبتدائي ينفي الضرر البقائي, كما أنّ الإمتنانية ليست العلة في هذه القاعدة, بل هي تجري حتى لو لم يكن امتنان, بشرط رفع الضرر ودفعه.

المناقشة الثانية: إنّ ظاهر حديث لا ضرر نفي أصل الضرر وحدوثه, وفي المقام قد حدث أصل الضرر بصحة البيع قطعاً, وإنّما يراد نفيه بقاءً, وهذا ما لا يمكن استفادته من القاعدة, وهذه المناقشة مبنية على استظهار كون المنفي حدوث الضرر وأصله, واستظهار أنّ مصب النفي الضرر الخارجي أو الحكم الضرري بعد فرض أنّ الصحة واللزوم حكم واحد؛ وقد أُجيب عنه بجوابٍ بعيد. والصحيح؛ إنّ الضرر بالمعنى الواسع الذي ذكرناه في بداية البحث لا يختص بالضرر المالي وبالنقص وغيره بل هو أوسع من ذلك, فيشمل كلّ ما يوجب الضيق وسلب الحرية, وغير ذلك ممّا يعدّهُ العرف ضرراً, ومن المعلوم أنّ صحة البيع حدوثاً لا ينشأ منها الضرر, بمعنى النقص الذي لا يمكن رفعه أو تضايقه, وإنّما ينشأ من اللزوم والصحة بقاءً, والأحكام المترتبة على الحكم الأخير, فيكون هو المرفوع بلا ضررٍ, ومنه يظهر الجواب عن المناقشة الأولى أيضاً.

ص: 200

المناقشة الثالثة: إنَّ فرض الخيار ليس نفياً للضرر بل تدارك له بعد وقوعه, وظاهر الحديث نفيه لا تداركه.

وفيه: إنّ إثبات الخيار في المعادلة الغيبية نفي للضرر أيضاً لا أنْ يكون تداركاً له, والتدارك إنَّما يتحقق في الأرش ونحوه, والمقام ليس كذلك.

المناقشة الرابعة: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره -كما تقدم بيانه- من أنّ لا ضرر لا يمكن أنْ يثبت الجواز الحقّي, وهو الخيار, وإنّما يثبت جامع الجواز المناسب مع الجواز الحكمي, وهو يختلف عن الجواز الحقّي؛ الذي يترتب عليه آثار خاصة؛ كقابليته الإسقاط والإرث, ونحو ذلك.وأورد عليه: بأنّ إثبات الجواز الحقّي بلا ضرر ممكن؛ باعتبار أنّه مقابل اللزوم الحقّي, الذي هو عبارة عن تمليك الإلزام, فإنّ العقد اللازم كالبيع يدلّ بالمطابقة على التمليك, وبالإلتزام يدلّ على نقل اللزوم وتمليكه, إلا إذا شرط الخيار في متن العقد؛ فإنّه حينئذٍ يبقى الجواز الحقّي, فالجوازُ واللزوم تارةً؛ يكون حكمياً من قبل الشرع مثل الجواز في الهبة واللزوم في النكاح, حيث لا يكون فيه الإقالة. وأخرى؛ يكون حقياً حتمياً كالجواز في العقد إذا ثبت فيه الخيار شرعاً, أو اللزوم الحقّي الذي يثبت بالعقد على تمليك عين, فإنّ قاعدة الضرر تنفيه ولا إشكال فيه, حيث أنّ هذه القاعدة إذا نفت اللزوم يثبت الجواز الحقّي؛ بل يساوقه.

المناقشة الخامسة: إنّ قاعدة الضرر يمكن إجرائها في المعاملة الغبنية ويثبت بها الأرش لا الخيار.

وفيه: إنّ الأرش تدارك الضرر لا نفي له, ومفاد القاعدة نفي الضرر حدوثاً أو بقاءً.

المناقشة السادسة: إنّ في جعل الخيار خلاف الإمتنان بالنسبة لِمن عليه الخيار, ولا ضرر قاعدة إمتنانية.

ص: 201

وفيه: ما عرفت سابقاً من أنّ الإمتنانية ليست علة لتشريع هذه القاعدة, فلا كلية في ذلك, وعلى فرض التنزل؛ إنّه لا يُشترط فيه أنْ لا يكون على خلاف الإمتنان بالنسبة لغير من يجري في حقّه, ما لم يبلغ مرتبة الضرر به.

المناقشة السابعة: إنّ الخيار ضرر على من عليه الخيار؛ لأنّه قد ملك الثمن بالبيع, فإرجاعه في قبال ما هو أقلّ قيمة منه ضرر عليه, فيكون من تعارض الضرر.

وفيه: إنّه لا ضرر على من عليه الخيار؛ لأنّ المال الناقص كان له من أول الأمر, فهو يسترد ثمنه الذي ملكه, ولم يملك الزائد عنه؛ فلا ضرر عليه.

وممّا ذكرناه يظهر الجواب عن المناقشة الأخيرة؛ وهي إنّ ثبوت الخيار للمغبون ضرر على الغابن, لأنّه يستلزم تمليك الغابن إلتزامه بتمليك العين إلى المغبون؛ دون العكس, وهذا بنفسه ضررٌ؛ لأنّ تمليك الإلتزام من المتعاقدين لا بُدَّ أنْ يكون على نحو التقابل لا من طرف واحد.

فإنّه يرد عليه: إنَّ التّمليك من الطرفين حاصل؛ فإنّ المشتري يملك التزام نقل الثمن العرفي إلى البايع, وهو يلتزم نقل المبيع إليه, فالضرر حاصل للمشتري؛ حيث ملك البايع الزائد من دون مقابل, فإثبات الخيار له دفعٌ لضرره من دون أنْ يحصل ضررٌ على الغابن, نعم لو رضي المغبون بتملك الغابن الزائد وأسقط حقّه, أو التزم بالبيع بعد علمه بالغبن؛ يسقط حقّه بحسب الإرتكاز العقلائي, ولذا حكم الفقهاء بسقوط خيار الغبن بذلك. ومن جميع ذلك يظهر صحة تطبيق لا ضرر على خيار الغبن؛ باعتبار الضرر المالي, ويجري ذلك في خيار العيب أيضاً, وكذلك خيار تبعض الصفقة.الوجه الثاني(1): وهو ما كان باعتبار الضرر الحقّي في المعاملة الغبنية؛ لأنّ العقلاء يرون أنّ للمغبون حقّاً على الغابن على فسخ العقد, فسلبه عنه يوجب الضرر عليه, فيُدفع بقاعدة

ص: 202


1- . من وجوه تطبيق قاعدة لا ضرر على خيار الغبن.

لا ضرر, فتكون إمضاءً لحقّ الخيار المجعول عقلائياً, وهذا الوجه وإنْ سلم عن أغلب المناقشات المزبورة ولكن تخريج ملاك جعل العقلاء مثل هذا الحقّ يكون على أنحاءٍ:

النحو الأول: جعل الغبن منشأً لحقّ الخيار للمغبون إبتداءً.

النحو الثاني: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من كون هذا الخيار بملاك تخلف الشرط الضمني؛ لأنّ المتعاقدين يشترط كلّ منهما على الآخر ضمناً حفظ مالية ماله في العوضين وعدم غبنه فيه, والعرف يرى أنّ فوات هذا الشرط يكون موجباً لضمانه, وهو يكون بالخيار وحقّ الفسخ.

النحو الثالث: نفس الفرض السابق مع افتراض أنّ تخلف الشرط يوجب عند العقلاء حقّ الخيار إبتداءً لا بتوسط الضمان كما في الفرض السابق حتى لا يقال لماذا يكون الضمان بالخيار بالخصوص دون الأرش؟.

النحو الرابع: إرجاع خيار الغبن إلى خيار تخلف الشرط, كما في الفرض السابق, وهو يرجع إلى شرط الخيار ضمناً عند تخلف الشروط, وهذا مبنى المحقق النائيني في أمثال هذه الخيارات, وتفصيل الكلام في ذلك موكولٌ إلى محله إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثالث: تطبيق قاعدة لا ضرر على خيار الغبن بلحاظ الغرض المعاملي للمتعاقدين؛ فإنّه لا شكّ في تعلقه بالعوضين, مع التحفظ عن نفس المقدار من المالية فيهما معاً.

وقد أورد عليه المحقق العراقي قدس سره بأنّه لا عبرة في باب لا ضرر بتخلف الأغراض, وإلا لزم ثبوت الخيار في كثيرٍ من الموارد, والفقهاء لا يلتزمون بذلك.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الأغراض متفاوتة عند العقلاء وعرفهم, فإنّه قد يكون الغرض شخصياً؛ فلا يقول الفقهاء بالخيار عند تخلفه, وقد يكون نوعياً -كما في الغبن ونحوه- لا يُلحظ فيه شخص معين فهو ثابت عند الجميع وإنْ لم يستشعر به بعضهم, فإنّ مقتضى

ص: 203

الإرتكاز على شدّة اتصال الغرض بهم يوجب تخلفه تطبيق قاعدة لا ضرر عليه, فلا إشكال من هذه الجهة.

والحقّ؛ إنّ ثبوت خيار الغبن المعاملي يرجع إلى البناء العقلائي في المعاملات, التي تبتني على حفظ مالية العوضين والتبادل بينهما بحسب النظر العرفي, فإذاتجاوز ذلك البناء العقلائي يستلزم ثبوت حقّ للطرف المغبون أو المتضرر, وهذا الحقّ يُساوق الخيار, ولا حاجة إلى تلك التطويلات التي ربّما تُوجب الغموض في هذا الأمر العرفي العقلائي الواضح, الذي هو من مقومات المعاملات المالية, وسيأتي تفصيل الكلام في محلّه إنْ شاء الله تعالى.

المثال الثالث: ما إذا غاب الزوج ولم يُنفق على زوجته؛ فإنَّ الفقهاء حكموا بأنّ للحاكم الشرعي أنْ يطلّقها رفعاً للضرر. وسيأتي في المباحث القادمة التكلم حولهما إنْ شاء الله تعالى.

وبناءً على ما ذكره قدس سره يمكن ذكر أمثلةً أخرى أيضاً. وكما عرفت من أنّ قاعدة لا ضرر من القواعد العامة التي تجري في جميع أبواب الفقه, وقد استدلّ بها الفقهاء في موارد كثيرة يصعب إستقصائها, نعم؛ ربّما يكون في مورد جريان القاعدة دليل آخر يتمسك به الفقهاء وهو أمرٌ عام غير عزيزٍ في الفقه, لا أنْ يكون هو الدليل, والقاعدة كاشفة عنه كما يزعمه المحقق العراقي قدس سره .

المقام الثالث: نسبة القاعدة إلى أدلة الأحكام الأولية
اشارة

لا ريب في تقدم قاعدة لا ضرر على جميع الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام بعناوينها الأولية أو الثانوية؛ كالنذر والعهد واليمين وأمر الوالدين؛ وجوبية كانت أو تحريمية, وضعية أو تكليفية, بمعنى أنّه يُستكشف من القاعدة أنّه لا جعل لتلك الأحكام مطلقاً في مورد الضرر أبداً, وقد اختلفوا في وجه التقديم؛ إنّه على وجه التخصيص أو على وجه الحكومة أو على نحو الجمع العرفي, وذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنّه لا ثمرة عملية في تلك المصطلحات,

ص: 204


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص242.

بل ولا علمية معتنى بها أصلاً بعد اتّفاق العلماء, بل العقلاء على تقديمها عليها, وظاهرهم سقوط الأحكام في مورد الضرر مطلقاً, ومع ذلك فقد ذكروا لتقديم القاعدة على أدلة الأحكام الأولية عدة وجوهٍ:

الوجه الأول: تقديم إطلاق القاعدة على إطلاق أدلة تلك الأحكام من دون ملاحظة النسبة بينهما, حتى لو كانت النسبة عموماً من وجه؛ باعتبار قطعية سند القاعدة, فإنّه كلّما تعارض ظني مع دليل قطعي السند سقط عن الحجية في مقدار التعارض.

وقالوا إنّ هذا الوجه يبتني على أمورٍ ثلاثة:

الأول: أنْ يكون سند ذلك الحكم الأولي ظنياً لا قطعياً.

الثاني: أنْ يثبت تواتر دليل القاعدة ولو إجمالاً.

الثالث: أنْ لا يتم جمع دلالي بين إطلاقها وإطلاق دليل الحكم الأولي، كما سيأتي.واستشكل بعضهم في الوجه الثاني وأنكر تواتر دليل القاعدة, وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلاً فراجع؛ وقلنا بأنّ حديث لا ضرر تحتف به من القرائن العديدة ممّا تجعله قطعي الصدور.

الوجه الثاني: التقديم من جهة التخصيص؛ إنّ دليل القاعدة أخص من إطلاقات أدلة الأحكام الأولية عند ملاحظة النسبة بينهما, وإنْ كانت النسبة بينه وبين دليل كلّ حكم منها العموم من وجه.

واعترض عليه السيد الخوئي قدس سره (1) بأنّ المعارضة إنَّما تكون بين القاعدة وبين كلّ واحد من تلك الأدلة, ولا يوجد عندنا دليل يسمى بمجموع الأدلة حتى تلحظ النسبة بينه وبينها.

ويرد عليه؛ بأنّ مجموع الأدلة إنَّما يتحقق فيما إذا كان الشارع قد نصب قرينة عامة على أنّه

ص: 205


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص333.

يتدرج في بيان أحكامه, وحينئذٍ إذا أريد اقتناص المفاد النهائي من كلامه لا بُدَّ من الجمع بينها مهما أمكن, فلا إشكال حينئذٍ.

الوجه الثالث: التقديم من جهة اللغوية؛ لأنّ تقديم كلّ إطلاقات الأدلة الأولية على القاعدة يوجب سقوطها رأساً, بخلاف العكس, وتقديم بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح, فيقع التعارض فيما بينها وتتساقط لا محالة.

وأشكل عليه السيد الخوئي قدس سره (1) بأنّ الأدلة الأولية بعضها بالإطلاق وبعضها بالعموم, والعام مقدم على الإطلاق, فينحصر التعارض بين الإطلاقات الأولية وإطلاق القاعدة فتتساقط.

وفيه: إنّه لا يبطل أصل الإستدلال بهذا الوجه مع أنّه يمكن القول بأنّ نصوصية لا ضرر في الجملة يقدم على كلّ الإطلاقات والعمومات الأولية فيقدم على المجموع, ويقع التعارض فيما بينها أنفسها, وحينئذٍ إمّا أنْ يقدم العام على المطلق أو يحكم بالتساقط.

والإشكال هو أنَّ الإطلاقات الأولية تتعارض مع العمومات من ناحية ومع إطلاق دليل القاعدة من ناحية أخرى فيسقط الجميع في عرض واحد, فلا وجه لملاحظة المعارضة الأولى والحكم بسقوط طرفيها والرجوع إلى إطلاق دليل القاعدة بلا معارض؛ فإنَّه مردودٌ؛ بأنَّ تقديم الإطلاقات على إطلاق القاعدة مبتلى بمحذور ترجيحها على العمومات المتعارضة معها بالعرض, فلا بُدَّ من رفع هذا المحذور إبتداءً, وهو يتحقق بالتساقط أو تقديم العام كما عرفت, ثم تقديم إطلاق دليل لا ضرر بلا معارض.

الوجه الرابع: التقديم من جهة التعارض بين إطلاق القاعدة وإطلاقات الأدلة الأولية الإلزامية والرجوع إلى البراءة التي تكون مطابقة مع مفاد القاعدة بحسب النتيجة.

ص: 206


1- . المصدرالسابق؛ ص333-334.

وأورد عليه السيد الخوئي قدس سره بأنّ هذا المقدار لا يكفي لترتيب سائر الآثار المترتبة على جريان القاعدة في موارد الأحكام الإلزامية, كما إذا نفينا وجوب الوضوء الضرري بالقاعدة فإنّه يثبت وجوب التيمم, بينما لا يمكن إثبات ذلك بالرجوع إلى البراءة؛ فإنّها لا تنفي وجوب الوضوء واقعاً ليثبت التيمم بل يتشكّل علمٌ إجمالي فيجب الإحتياط بالوضوء الضرري والتيمم.

وأورد عليه السيد الصدر قدس سره (1) بأنّ إطلاق دليل لا ضرر وإنْ سقط بالمعارضة في وجوب الوضوء الضرري ولكنه لا يسقط بالنسبة إلى إيجاب الإحتياط الذي ثبت بالدليل العقلي في مورد العلم الإجمالي لا بالدليل الشرعي, فيمكن رفعه بالقاعدة ويثبت الطرف الآخر وهو التيمم, وإلا تتحقق المخالفة القطعية من دون لزوم ضرر منه, وعليه؛ تثبت النتيجة المطلوبة.

والحقّ أن يقال: إنّ الرجوع إلى البراءة بحدّ نفسها لا تنفي الوجوب الواقعي كما ذكره السيد الخوئي قدس سره , ولكن إذا ضممنا إليها حكم العقلاء بسقوط الأحكام في مورد الضرر فإنّه ينتج سقوط وجوب الوضوء فيجب التيمم, ولا حاجة إلى ما ذكره السيد الصدر فإنّه لا يخلو من إشكال؛ إلا أنْ يريد ما ذكرناه.

الوجه الخامس: التقديم من جهة الإمتنان, وهو ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) من أنّ القاعدة باعتبار ورودها مورد الإمتنان والإرفاق على الأمة فإنَّها تتقدم على سائر الأدلة, وهذا الوجه إنَّما يتم بإضافة أحد أمرين على سبيل منع الخلو:

1- إنَّ سياق الإمتنان والإرفاق يأبى عن التخصيص, أو يكون ظهوره أقوى من إطلاقات الأدلة الأولية؛ فتتقدم بالأظهرية.

ص: 207


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص507.
2- . رسالة في قاعدة لا ضرر؛ ص314-315.

2- إنَّ سياق الإمتنان يستبطن الفراغ عن ثبوت مقتضى الأحكام الأولية الإلزامية؛ وهو يعني نظر دليل القاعدة إليها, فتتقدم القاعدة عليها بالحكومة, وهذا ما سيأتي الحديث عنه إنْ شاء الله تعالى.

الوجه السادس: تقديم القاعدة على الإطلاقات الأولية على نحو الحكومة, ولتوضيح ذلك لا بُدَّ من بيان الضابط في الفرق بين الحكومة والتخصيص, ثمّ تطبيقها على دليل القاعدة بالنسبة إلى أدلة الأحكام الأولية, وهو وإنْ كان سيأتي بيانه في مبحث الإستصحاب مفصلاً, ولكن نذكر في المقام على سبيل الإيجاز, وقد فصّل المحقق النائيني قدس سره في المقام, ومحصل ما ذكره؛ إنَّ الملاك فيالتخصيص يختلف عن ملاك الحكومة, فإنَّ التخصيص ملاكه التنافي بين الخاص والعام عقلاً للتضاد بينهما والحكم بتقديم الخاص؛ لكونه أظهر وأقوى دلالة من العام, وأمّا الحكومة؛ فإنّما تكون بملاك النظر من دليل الحاكم بالنسبة إلى دليل المحكوم نظر التبيان والتفسير والشرح؛ توسعة أو تضييقاً؛ إمّا في عقد الموضوع في دليل المحكوم كما في دليل لا ربا, أو في عقد المحمول في المحكوم كما في أدلة نفي العسر والحرج, وفي كلّ ذلك لا تلحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم أبداً, فالقرينية في الحكومة عرفية وفي التخصيص عقلية ولكن النتيجة واحدة فيهما؛ ولذا قد لا يُفرق بينهما, فإنّه إذا قال (أكرم العلماء), ثمّ قال (لا تُكرم زيداً), فإنّ بينهما التعارض بالعموم والخصوص, فيقتضي الدليل الثاني إخراج زيد من تحت حكم العام, ولكن إذا قال (أكرم العلماء), ثمّ قال: (زيد ليس بعالم), فإنَّ المقصود إخراجه عن الحكم العام, وإنْ فرض كونه عالماً, فالنتيجة واحدة في كِلا الإسلوبين.

وتوضيح ذلك؛ إنّ الفرق بين الإسلوبين -التخصيص والحكومة- إنَّما يكون في اللسان أو في المدلول والمضمون, فلسان الدليل في المعارض سواء كان على نحو التخصيص أم

ص: 208

التباين عدم التعرض للدليل الآخر بحيث يمكن أنْ يكون مستقلاً بقطع النظر عنه, كما في مثال (لا تُكرم زيداً)؛ فإنّه دليل مستقل لا علاقة له بدليل (أكرم العلماء) ولكن العقل يحكم بالجمع بين العام والخاص بالتخصيص؛ لكونهما دليلين متنافيين من هذه الجهة، وأنّ حكم العام إيجابي، وحكمَ الخاص سلبي مع فرض أنّه من أفراد العام, وحينئذٍ يُلاحظ أقوى الدليلين وأظهرهما فيكون قرينة على الدليل الآخر, فالعقلُ يحكم بالجمع بينهما وهو الذي يلاحظ النسبة بينهما؛ فالدليل المعارض هو الدليل المنافي للدليل الآخر من غير لحاظ مضمونه ومدلوله.

وأمّا الحكومة؛ فإنّ دليل الحاكم هو الدليل الناظر للدليل المحكوم, بحيث لا يعقل الدليل الحاكم إلا بلحاظ الدليل المحكوم, مثال ذلك: قوله علیه السلام : (ولَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ ووَلَدِهِ رِباً)؛ فإنّه ينظر إلى الدليل الذي دلّ على حرمة الرّبا, وإلا فلو لم يكن كذلك فلا وجه لنفي حكمه بين الوالد وولده, فالدليل الحاكم ناظر إلى عقد الموضوع في دليل المحكوم. كذلك ورد (لا شكّ لكثير الشك) الحاكم على دليل (من شكّ بين الركعة والركعتين فصلاته باطلة), فإنّه إذا لم يكن حكم للشك لمَا كان وجهاً لقوله (لا شكّ لكثير الشك), ومن هذه الجهة قال صاحب الكفاية قدس سره (1) بأنّ الدليل الحاكم مُفسّر للدليل المحكوم بعنوان (أي), واستشكل عليه بأنَّ الأمرليس كذلك دائماً, نعم؛ يكون التفسير في بعض الموارد والحالات, والحاصل؛ إنّ الدليل الحاكم ليس له معنى دون الدليل المحكوم, وهذا هو معنى الحكومة.

ص: 209


1- . كفاية الأصول؛ ص383.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ الفرق بين الحكومة والتخصيص من جهاتٍ أربعة:

الأولى: إنّ الدليل الحاكم متعرض للدليل المحكوم؛ إمّا على نحو التضييق مثل (لا شكّ لكثير الشك), و(لا سهو في النّافلة), أو على نحو التوسعة مثل (أكرم العلماء) و(زيد عالم), أو (الطّواف بالبيت صلاة).

الثانية: إنّ القرينة في الحكومة عرفية بخلاف التخصيص, حيث أنّ القرينة عقلية.

الثالثة: الإختلاف باللسان؛ فإنّ لسان الحاكم لا ينافي لسان المحكوم وإنّما يتعرض له بالبيان, بينما لسان الدليل المخصص لسان التنافي مع العام.

الرابعة: في الحكومة لا يُلاحظ قوة الدليل الحاكم مطلقاً أو ضعفه أو كانا متساويين, بينما في التخصيص يُلاحظ قوة الخاص في الدلالة النصوصية أو الأظهرية, كما أنّه في الحكومة لا نلاحظ النسبة بين الدليلين مطلقاً, وفي التخصيص يُلاحظ تلك النسبة, والحكومة تارةً؛ يكون فيها النظر إلى عقد الوضع في دليل الحاكم, وأخرى؛ يكون في عقد الحمل.

أمّا الأولى؛ وهي تعرّض دليل الحاكم إلى موضوع دليل المحكوم بالتوسعة أو التضييق كما في قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا)(1), أي أنّ كلّ ربا فرض وجوده في الخارج فهو حرام, وكذا في الشك بين الإثنين والثلاث فهو مبطل؛ فإنّ الدليل الحاكم لا يتعرض لوجود الموضوع في الدليل المحكوم, وإنّما مدلوله ثبوت الحكم على نحو القضية الحقيقية؛ بمعنى لو فُرض وجود الموضوع فحكمه الحرام أو البطلان, ولكن الدليل الحاكم يكون لسانه وجود الموضوع في هذا الفرد وعدم وجوده فيه ولذلك لا يكون بينهما التّنافي؛ والوجه في تقديم دليل المحكوم على الحاكم مجعول على موضوعٍ لا يتعرض لحجم موضوعه من حيث السعة والضيق, وإنّما هو حكم مجعول على تقدير وفرض وجود الموضوع, فيُقدم الدليل

ص: 210


1- . سورة البقرة؛ الآية 276.

الحاكم على المحكوم لبيان السعة والضيق للموضوع؛ إمّا تعبداً كما في المثالين, أو من حيث الواقع كما في مثال (زيدٌ ليس بعالمٍ) بعد (وأكرم العلماء).

وأمّا الثانية؛ فهي ما إذا كان الدليل الحاكم متعرضاً لحال الحاكم مثل: (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ), أو (ما جعل عليكم في الدين من حرج)؛ فإنّ دليل الضرر يبين أنّ إطلاق دليل المحكوم لا يكون مراداً ليشمل حتى في الحالات الضررية, بمعنى أنّ الشارع لم يجعل الحاكم في مورد الضرر, وكذا بالنسبة إلى الحرج والعسر؛ فإنّالإطلاق والعموم في الأدلة الأولية لا يكون مراداً عند الشارع في مورد الضرر والحرج فلا تنافي بينهما, فالدليل الحاكم في مرتبة الموضوع هو يتعرض لوجود الموضوع أو عدمه, مع فرض أنّ دليل المحكوم لا يتعرض لوجود الموضوع فعلاً, والدليل الحاكم في مرتبة المحمول يتعرض لعدم وجود الإطلاق والعموم في مورده, ومن أجل ذلك نقول بتقديم لا ضرر على مجمل الأحكام الأولية؛ سواء كانت أقوى دلالة أم أقوى سنداً.

هذا كلّه تفصيل ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في المقام فالتقديم يكون على نحو الحكومة لا من جهةٍ أخرى.

واستشكل السيد الصدر قدس سره (1) التمييز بين التخصيص والحكومة بأنّ القرينة في الأول عقلية وفي الثاني عرفية؛ بأنّه غيرُ صحيحٍ؛ فإنّ القرينة في كليهما عقلية, بمعنى أنّ التنافي بينهما بملاك التضاد وعدم إمكان الإجتماع مع فعلية موضوعهما معاً, وإنّما الفرق بينهما أنّ قرينية الحاكم شخصيته من قبل المتكلم نفسه وتفسيره لمرامه من المحكوم, وقرينية التخصيص نوعية.

ص: 211


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص509.

والحقُّ أنْ يقال: إنّ التزاحم في الموردين؛ التخصيص والحكومة وغيرها -كما سيأتي بيانه- أمرٌ مركوزٌ في أذهان الناس وإنْ لم يلتفتوا إليها تفصيلاً, فلا مشكلة حينئذٍ بين أنْ تكون القرينة في التخصيص والحكومة عقلية أو عرفية؛ فإنّه لا يضر بأصل المطلوب, وكلّ واحدة منها ترجع إلى الأخرى في الحقيقة, وإنّما الفرق بين الحكومة والتخصيص؛ إنّ الأُولى من شؤون المعنى أولاً وبالذّات, والثاني من شؤون الألفاظ في المحاورات, كما عرفت في كلا الموردين أنَّ العرف يحكم بذلك, كما أنّ في كِلا الموردين أراد المتكلم نفسه البيان والتخصيص, ولكن روح الفرق يرجع إلى ما ذكرناه؛ فإنْ كان مراد العلماء ذلك فلا إشكال وإلا فالمناقشة في كلماتهم واضحة وسيأتي مزيد بيان لذلك في بحث الإستصحاب إنْ شاء الله تعالى.

وممّا ذكرناه يظهر الجواب عمّا ذكره السيد الصدر معلقاً على كلام المحقق النائيني (قدّس سرّاهما)؛ فإنّه من لزوم ما لا يلزم, لأنّ القرينة في كلا الموردين نوعية إذا لوحظ بلحاظ النوع فإنّهم يرون ذلك من مورد التزاحم إذا لوحظ بلحاظ المتكلم فيما ذكره.

وما أحسن ما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) من أنّه لا ثمرة عملية في هذا النزاع وفي شرح هذه الإصطلاحات, بل ولا ثمرة علمية بعد اتّفاق العلماء بل العقلاء علىتقديم أحد الدليلين على الآخر في مورد التزاحم, وفي المقام تقديم لا ضرر على أدلة الأحكام الأولية.

ثمّ ذكر السيد الصدر قدس سره إنّه قد لا يستلزم نفي الضرر النظر إلى الأحكام الأولية فلا بُدَّ من بذل عناية في ذلك لإثبات نظر القاعدة إلى تلك الأحكام, وذكر عدّة تقريبات:

1- إرتكاز المتشرعة بأنّ القاعدة ناظرة إلى الأحكام الأولية, فكأنّه قال: لا ضرر من ناحية الشريعة والإسلام.

ص: 212


1- . تهذيب الأصول؛ ج2ص242.

وقد عرفت أنّ هذا المرتكز هو الأساس في التقديم في مورد المتزاحمين مطلقاً, ومن جهة أقوائية الملاك كما ذكرنا, فهذا هو الوجه في جميع موارد التزاحم.

2- سياق الإمتنان يقتضي أنّ هناك مقتضياً للأحكام الضررية وإلا لم يكن هناك امتنان, وهو بنفسه ملاك للنظر والفراغ عن ثبوت الإقتضاء لتلك الأحكام الضررية, ولكن عرفت أنّ سياق الإمتنان لا كليّة فيه.

3- نفي لا ضرر لإطلاق الأحكام الضررية؛ فإنّ القاعدة تنفي ذلك, فإنّه لو لم يكن في القاعدة هذا النظر لكان مفادها لغواً.

وفيه: إنّه إنْ أرجع إلى أحدِ الوجهين السابقين من الحكومة أو التخصيص فلا بأس به, وإلا فهو ممنوعٌ جداً.

فما ذكره قدس سره من التطويل الذي لا طائل تحته, إلا أنْ يريد من ما ذكره أحد الوجوه السابقة, وقد عرفت أنّها ترجع إلى أمرٍ واحدٍ؛ وهو تقديم لا ضرر على الأحكام الأولية, ولا إشكال فيه من أحدٍ, وإنْ عُدَّ هذا التقديم بأحد الإصطلاحات المتقدمة ولا مشاحة في الإصطلاح بعدما لم يكن ثمرة عملية أو علمية في البين, وسيأتي مزيد بيان في بحث الإستصحاب إنْ شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ ظاهر العلماء والعقلاء سقوط الأحكام في مورد الضرر خطاباً وملاكاً, لاخطاباً فقط حتى يكون من المتزاحمين اللذين يقدم أحدهما على الآخر مع تحقق الملاك فيهما بمراعاة الأهمّ والمهمّ.

وعلى ما ذكرنا يكون تقديم قاعدة الضرر على الأحكام على نحو العزيمة لا الرخصة, بخلاف قاعدة الحرج؛ حيث ذهب جمعٌ إلى أنّ تقديمها على الأحكام من باب الرخصة لا العزيمة, فمن توضأ مع كون الوضوء ضررياً بالنسبة إليه يبطل وضوءه, بخلاف ما إذا

ص: 213

كان حرجياً فإنّه يصح, هذا كلّه مع العلم والعمد, أمّا في صورة الجهل بالضرر أو النسيان؛ ففيها كلام ذكرنا بعضه فيما سبق, والتفصيل مذكورٌ في الفقه.

وذكر السيد الوالد قدس سره من لطيف المعارضة أنّ الأحكام بناءً على كونها ضررية تتقدم على القاعدة تخصصاً, وأمّا إذا كانت تلك الأحكام مستلزمة للضرر زائداً على جعلها تتقدم قاعدة الضرر عليها حينئذٍ حكومة على ما عرفت.

موارد تخصيص القاعدة

ذكر العلماء أنّه قد تخصص قاعدة الضرر التي عرفت أنّها تتقدم على جميع الأحكام في مواردٍ:

المورد الأول: ما ذكره بعض الفقهاء من أنَّ من أجنب عمداً مع العلم بكون استعمال الماء مضراً له وجب عليه الغسل وإنْ أضرَّ به؛ مستنداً إلى خبرٍ يدلّ عليه, وقد تعرض الفقهاء لهذا الفرع في مباحث التيمم في الفقه فراجع.

المورد الثاني: تقديم قاعدة السلطنة وقاعدة الحرج, بل الضرر عند تعارضه مع مثله على قاعدة نفي الضرر في بعض الموارد, وتفصيل الكلام في كلّ واحدٍ من هذه الموارد تقع في مواقع ثلاثة:

الموقع الأول: تعارض قاعدة السلطنة مع قاعدة الضرر

كما إذا إستلزم تصرف المالك في ماله الضرر لغيره؛ وذلك فيما إذا إراد مثلاً أنْ يحفر بالوعةً في داره وكان مضراً بالجار, فهل تقدم قاعدة سلطنة المالك, أو تقدم القاعدة, والكلام يقع في جهتين:

الجهةُ الأولى: ما تقتضيه القواعد الأولية بقطع النظر عن القاعدة.

الجهة الثانية: في ملاحظة القاعدة ونسبتها إلى القواعد الأولية.

ففي الجهة الأولى؛ قد يقال بأنّنا لو قطعنا النظر عن قاعدة لا ضرر, كان مقتضى قاعدة السلطنة جواز التصرفات الضارة بالآخرين إذا كان تصرفاً في ملكه, وقال الشيخ الأعظم

ص: 214

قدس سره : (الأوفق بالقواعد تقديم المالك)(1), لأنّ حجره عن التصرف في ماله ضرر عليه وإنْ كان يعارضه ضرر الغير, والمرجع هو قاعدة السلطنة, ثمّ قال قدس سره : (والظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشد من ضرر الغير أو أقل منه).

ويرد عليه بوجوهٍ:

الوجه الأول: إنّ عموم السلطنة معارض لعموم سلطنة الغير على رفع الضرر من نفسه وماله.

وأشكل على هذا الوجه بأنّه لو سلمنا وجود إطلاق لهذه القاعدة لكلّ أنحاء التصرف, فلا تعارض في المقام, إذ المستفاد منها بقرينة كلمة (على أموالهم) تجويز التصرفات التكوينية أو الإنشائية الإعتبارية كالبيع والأجارة في المال, وليس المستفاد منها ثبوت حقّ المحافظة ونحو ذلك؛ فإنّه ليس مصداقاً للتصرف في المال ليكون مشمولاً لإطلاقها.

الوجه الثاني: إنّ قاعدة السلطنة لم ترد في رواية معتبرة؛ وإنّما مدركها الإجماع والسيرة, وهما دليلان لبيان يقتصر فيها على القدر المتيقن, وهو غير موارد الإضرار بالآخرين.وفيه: إنّ القاعدة عقلائية ممضاة من قبل الشرع, وقد أثبت العقلاء لها الإطلاق إلا إذا عارضته سيرة عقلائية أخرى.

الوجه الثالث: إنّه لو فرض وجود دليل لفظي معتبر لهذه القاعدة فإنّه لم يكن فيها إطلاق؛ إمّا لاحتمال أنْ يراد بهذه القاعدة نفي الحجر على المالك وأنّ الأصل الأولى في الإنسان المالك لشيء عدم الحجر عليه إلا ما ثبت بدليلٍ خاص, فلا تدلّ القاعدة على جواز كلّ تصرف وإنّما تنفي الحجر عليه, فإثبات جواز كلّ تصرف يحتاج إلى دليل آخر. وإمّا بأنّ القاعدة تدلّ على جواز التصرف, إلا أنّها تدلّ على جوازه من حيث هو تصرف أو إتلاف

ص: 215


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص539.

للمال, وأمّا المنع من ناحية أخرى تكليفاً أو وضعاً؛ فلا يمكن أنْ ينفى بهذه القاعدة, ومنها حرمته من ناحية كونها إضراراً بالآخرين.

والحقّ أن يقال: إنّ قاعدة السلطنة من القواعد العقلائية المعروفة عند العقلاء, وقد ورد عليها الشرع, ويكفي في إمضائها من قبله عدم الردع عنها, فكيف بما إذا ورد الإمضاء بقول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (إِنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ)(1), ولا ريب أنّ العقلاء بما فيهم رأسهم أثبتوا لها إطلاقاً يشمل جميع الحالات, وعموماً ليشمل جميع الأفراد والموارد فلا معارض لهذه القاعدة في تصرف الإنسان في ماله وملكه, إلا أنّ هذه القاعدة قد قُيّدت بحكمٍ عقلائي آخر وسيرة عقلائية ممضاة شرعاً بما إذا لم يستلزم الضرر بالآخرين, على أنّ التصرف الصادر من الإنسان في ملكه إذا أوجب الضرر بالآخرين فإنّه يُمنع -المالك- عن التصرف في ملكه إنْ كان تضرر غيره معتداً به عند العقلاء؛ فإنّه لا يجوز له التصرف في ملكه, ولعلّ فتوى الفقهاء لهذا التفصيل مدركها ارتكازاتهم العقلائية أيضاً.

وفي الجهة الثانية؛ إعترض بعضهم على التمسك بقاعدة لا ضرر لنفي سلطنة المالك في المقام بوجهين:

الوجه الأول: إنّ جريانها خلاف الإمتنان والإرفاق على المالك.

ويرد عليه:

1- ما مرَّ من أنَّ امتنانية القاعدة على فرض قبولها؛ ليست على نحو العلة التامة.

2- إنّ امتنانية القاعدة إنَّما هي بالنسبة إلى من تجري بحقّه, وهو الجارُ في المقام, وليس اللازم كونها إرفاقاً بحقّ الآخرين, نعم؛ لا بُدَّ أنْ لا يكون في جريانها ضررٌ بحقّ الآخرين, فإنّه يدخل في تعارض الضررين حينئذٍ.

ص: 216


1- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج2 ص272.

الوجه الثاني: التعارض بين جريانها بحقّ الجار؛ لكونه متضرراً بتصرف المالك في ملكه وبين جريانها في حقّ المالك؛ لأنّ منعه عن التصرف في داره ضرر عليه أيضاً.

والجواب عنه يظهر ممّا سيأتي بيانه عند التكلم في تعارض الضررين.

الموقع الثاني: فيما إذا تعارض الضرر بمثله, وتقديم قاعدة الضرر على نفسها

والكلام فيه يقع من ناحيتين:

الناحية الأولى: في بيان الصور في تعارض الضررين وهي:

الصورة الأولى: أنْ يكون التعارض بين الضررين بالنسبة إلى شخص واحد, كما إذا أكره شخص على الإضرار بزيدٍ -مثلاً-؛ إمّا بهذا الضرر أو بذاك الضرر.

الصورة الثانية: نفس الصورة بالنسبة إلى شخص واحد لكن من حيث التحمل, كما إذا دار الأمر بين تحمله بنفسه لهذا أو بذلك.

والحكم في هاتين الصورتين؛ إنْ كان تفاوتٌ في الضررين بالشدة والضعف فلا إشكال في تقديم الأخف على الأشد كما هو مقتضى سيرة المتشرعة, بل العقلاء, بل الرجوع إلى الوجدان فيه غنىً عن إقامة البرهان.

وإنْ كانا متساويين؛ فالحكم هو التخيير, لقبح الترجيح بلا مرجح.

الصورة الثالثة: الإكراه على الإضرار إمّا بزيد أو بعمرو, فمع التساوي يتخير, ومع التفاوت قد يقال بالتخيير أيضاً؛ لأنّ قاعدة الضرر إمتنانية بالنسبة إلى الجميع, وبعد جواز ارتكابه لدليل الإكراه لا فرق بين الخفيف والشديد, وفيه إشكالٌ سيأتي بيانه؛ هذا إذا قلنا بعدم وجوب تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير كما ادّعي عليه الإجماع بأنْ كان الضرر متوجهاً أولاً وبالذات إلى الغير, بأنْ أكره الشخص على الإضرار به.

ص: 217

الصورة الرابعة: دوران الأمرين؛ الإضرار إمّا بنفسه أو بالغير, ولكن كان الضرر متوجهاً إلى نفسه على دفع مال من نفسه أو الأخذ من غيره, فلا إشكال في عدم جواز الإضرار بالغير.

الصورة الخامسة: دوران الأمر بين الإضرار بنفسه أو بغيره, وكان الضرر متوجهاً إلى الغير, ولكن تحمله لم يكن بتوجه إليه.

ولا ريب عندهم في عدم وجوب تحمل الضرر, بل عدم جوازه في بعض الصور.

الصورة السادسة: أنْ يكون الضرر متوجهاً إليه ولو صرفه إلى غيره لم يتضرر.

ولا ريب أيضاً في عدم جوازه.الصورة السابعة: أنْ يكون الضرر بالنسبة إليه وإلى غيره في عرضٍ واحدٍ, كما في المثال السابق فيما لو احتاج شخصٌ إلى بالوعة في داره ولو حفرها يتضرر الجار ولو لم يحفرها يتضرر هو بنفسه.

وهذه الصورة هي مورد البحث والنقاش؛ وذكرنا أنّ المشهور تقديم قاعدة السلطنة على قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى حقّ الجار؛ لأنَّ حجره عن التصرف في ماله ضررٌ يعارض ضرر الغير, فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج.

وقد عرفت أنّ قاعدة السلطنة وإنْ كانت قاعدة عقلائية أمضاها الشارع لكن خُصّصت بسيرة عقلائية ممضاة من الشرع أيضاً؛ بأنْ لا يستلزم سلطنة المالك على ملكه ضرراً على الغير إنْ كان الضرر معتداً به عند العقلاء, ولعلّه من أجل ذلك قالوا بأنَّ قاعدة السلطنة معارضة بقاعدة السلطنة في حقّ الغير على رفع الضرر على ماله, وإنْ كان عرفت الإشكال فيه كما تقدم, ولكل واحدةٍ من هذه الصور لها فروعٌ مذكورةٌ في الفقة.

الناحية الثانية: في دعوى المعارضة بين جريان قاعدة لا ضرر في حقّ الجار لكونه متضرراً, وجريانها بحقّ المالك لأنّ منعه يستلزم الضرر عليه أيضاً, والبحث فيه تارةً؛ يقع في صغرى التعارض بين الضررين, وأخرى؛ في كبرى حكم هذا التعارض.

ص: 218

أمّا الصغرى؛ فقد يقال بأنّ مجرد منع المالك عن حفر البالوعة في داره لا يكون ضرراً, إلا أنْ يستلزم من منعه الحفر تضرر داره وخراب جزءٍ منها؛ فإنَّه حينئذٍ يكون من تعارض الضررين.

ولكن يمكن دفعه بما يلي:

أولاً: إنَّ النزاع الصغروي لا يليق بالعلماء؛ فإنّه يرجع فيه إلى العرف في تشخيصه.

وثانياً: إنَّ هذا الإيراد ناشئ من سعة دائرة السلطنة, ولكن الصحيح أنّ سعة دائرة سلطنة المالك وضيقها يرجع فيها إلى المرتكز العقلائي الذي هو الدليل في هذه القاعدة كما تقدم؛

فإنْ حَكَمَ العقلاء بسعة دائرة سلطنة المالك وحقّه في التصرف في أمواله؛ حتى لو كان مُوجباً للإضرار بالآخرين؛ كان منعه عن حقّه ضرراً عقلائياً عليه. وإنْ حَكَمَ العقلاء بتضيق هذه الدائرة فلم يكن مجرد المنع ضرراً ما لم يقم دليل على ذلك, وقد عرفت عدم مساعدة الإرتكاز العقلائي على هذه السعة؛ إلا أنْ يثبت من منعه ضرراً على المالك مستقبلاً غير مندك في جانب ضرر الجار.

وأمّا الكبرى؛ وهي حكم هذا التعارض, فقد ذكر في المقام عدّة آراء:

الرأي الأول: ما تقدم عن الشيخ الأنصاري من أنّ الأوفق بالقواعد تقديم السلطنة وإنْ تضرر الغير من تصرف المالك في داره؛ لأنّ حجره عن التصرف ضررٌ عليه؛ وإنْ كان يُعارضه ضرر الغير؛ فالمرجع قاعدة السلطنة.ولكن عرفت الإشكال فيه؛ من عدم ثبوت هذه السعة للسلطنة ليشمل الإضرار بالغير بحكم العقلاء, فراجع.

الرأي الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنّ قاعدة لا ضرر تجري بالنسبة إلى تصرف المالك الضرري فيحرم عليه ذلك التصرف الموجب للإضرار بالغير, ولا تجري لنفي الضرر

ص: 219


1- . رسالة في قاعدة لا ضرر؛ ص225.

عنه؛ لأنّ حرمة التصرف على المالك إنَّما ثبتت من نفس القاعدة فلا يعقل نفيها بها من جديد, فإنّ القاعدة إنَّما تكون حاكمة ورافعة للأحكام الأولية الثابتة بالأدلة الأخرى ولا تكون حاكمة على نفسها إلا ما نقض به على نفسه قدس سره في باب حجية الخبر الواحد من أنّ القضية الحقيقية يمكن أنْ تشمل نفسها بعد أنْ كانت إنحلالية.

ولكنه أجاب عن النقض؛ بأنّ هذا إنَّما يصح فيما إذا لم تكن القضية المجعولة مسوقة مساق النظر إلى الأحكام الأولية, وأمّا إذا كانت كذلك كما هو المفروض في دليل لا ضرر فهي تتقيد لا محالة بمقدار ما تنظر إليه ولا يمكن أنْ تنظر إلى نفسها؛ فإنّه تهافت.

وأشكل عليه السيد الصدر قدس سره (1) بأنّ ذلك إنَّما يكون له وجهٌ إذا فُرض بأنَّ ملاك الحكومة هو النظر بنحو التخصيص لكلّ حكم من الأحكام الأولية, وأمّا إذا قلنا بأنَّ في الحكومة يكفي النظر إلى لوح التشريع والشريعة ككل, ويكون نظرها توضيحياً وتفسيرياً؛ بأنّها ليس فيها حكم ضرري، لا تقييدياً, فلا محذور في شمول القاعدة للحكم الثابت بنفسها, فحينئذٍ يكون كلّ واحدٍ من جواز التصرف وعدم جوازه حكم ضرري يكون مشمولاً لإطلاق القاعدة, فيقع التعارض بين إطلاقيها.

والصحيح؛ هو الرجوع إلى النظر العرفي؛ فإنَّ حكم العرف بأنّ دليل لا ضرر لا يشمل مورد جريان القاعدة لاستلزامه التهافت وعدم المعقولية؛ فلا بُدَّ من القول بعدم الشمول لنفسها, وإنْ حكم العرف بعدم التهافت كما في المقام فإنّه إذا شملت القاعدة المالك وحرّمت عليه التصرف الضرري فإنّها تشمل نفي الضرر عن الجار أيضاً, فيقع التعارض بلا فرق في ذلك أنْ تكون الحكومة بلحاظ التخصيص الذي عرفت عدم تماميّته أو كانت بلحاظ البيان والتوضيح, كما أنّه لا يفرق فيه بين أنْ يكون النظر إلى لوح التشريع والشريعة ككل أو يكون النظر إلى آحاد الأحكام الأولية.

ص: 220


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص513.

ولعلّ نظر المحقق النائيني قدس سره يرجع إلى التهافت العرفي, ولكنه غير تام؛ إذ أنَّ العرف لايرى تهافتاً في شمول لا ضرر لنفس القاعدة, غاية الأمر يقع التعارض.

وكيف كان؛ فإنّ لذلك أمثلة كثيرة في حياتنا اليومية المعاصرة.

الرأي الثالث: ما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره (1) من التفصيل بين ما إذا كان الحفرُ يتلف عين مال الغير أو وصفاً حقيقياً من أوصافه, كما إذا أوجب قلة ماء البئر أو اختلاطه بالأوساخ فيضمن, وما إذا لم يوجب شيئاً من ذلك وإنّما أوجب التنفر الطبيعي النوعي الموجب لقلة ثمن ماء البئر في السوق, فلا ضمان حينئذٍ؛ لأنّ مجرد فعل ما يوجب قلة مالية مال الغير في السوق لا يستوجب الضمان ولا الحرمة تكليفاً, كما إذا نافس تاجرٌ تاجراً آخر في السوق بإصدار نفس البضاعة وبقيمةٍ أقل, فأوجب قلة مالية بضاعة التاجر الأول, فإنّه لا يكون ضامناً ولا مرتكباً للحرام.

وما ذكره قدس سره له تطبيقاتٌ كثيرةٌ في الفقه يُتمسك به لنفي ضمان المالية فيها, منها المقام, ومنها ما إذا غصب شخصٌ مال الغير في وقتٍ يرغبُ إليه الناس وتكون له قيمة عالية, وهو يرجعه في وقتٍ لا يرغب إليه في السوق كالثلج في الشتاء والعباءة الصيفية في الشتاء, فإنّهم قالوا؛ لا ضمان لماليته لأنّ المالية لا تُضمن, وقالوا فيه بمثل ما قاله المحقق العراقي قدس سره ؛ وقد كان له نظائر كثيرة في عصرنا الحاضر حيث تعددت الأعيان وتحددت أوقات استعمالها.

والظاهر؛ إنّ ما ذكروه يرجع إلى تفسيرهم للضرر بما ذكرناه من النقص المادي كما عرفت, ولكنه تفسير ناقص لا يشمل أقسام الضرر في عصرنا الحاضر الذي يعدها العقلاء من الضرر وإنْ لم يكن فيه نقص مادي, وقد تقدم بيانه مفصلاً.

ص: 221


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص119-120.

ومحصل ما ذكرناه؛ إنّ الضرر لا يختص بالنقص المادي بل يشمل كلّ أنحاء الضرر الشامل للنقص المادي العيني والنقص في المنفعة والنقص في المالية والنقص في القيمة؛ ممّا هو متعارف في عصرنا الحاضر ممّا يُعدّ عرفاً من الضرر.

ومن المعلوم أنّ نقصان المالية له أسباب متعددة؛ منها نقصان القيمة السوقية التي تتأثر بقانون العرض والطلب, ومنها المنافرة الذاتية, ومنها ذهاب بعض المنافع, ومنها قرب انتهاء مدة الإستعمال, وغيرُ ذلك؛ فإنّ في جميع موارد النقص في المالية تثبت القيمة التبادلية فيما إذا لا تعد العين تالفة أو بمنزلة التالف, حيث لا يرى العرف فيها للعين أيّ قيمة تبادلية, فلا يختص النقصان بالقيمة الإستعمالية والمنفعة الذاتية للشيء على اختلاف المراتب, فإنّه في جميع تلك المراتب يصدق الضرر والضمان, كسائر الحيثيات والأوصاف القائمة بالشيء؛ كسواده ونعمومته وبهائه ونظافته والزمان, حيث أنّ لها الدخل في القيمة التبادلية, فإنّ في جميع تلكيتحقق الضمان؛ لصدق الضرر عرفاً, ومنه يظهر حكم العباءة الصيفية في الشتاء, والبئر التي تأثرت بالأوساخ, أو بثّ أحد دعاية أو فعل فعلاً أو وهّم الأطراف بأنّ المكان مسكون من الجن فنزلت قيمته, أو صنع شيئاً شبيهاً وطبع عليه أحد الماركات المعروفة العالمية ممّا أوجب نقص مالية البضاعة المصنوعة من أصل الشركة العالمية, وغير ذلك ممّا هو كثير في عصرنا الحاضر؛ فإنَّ في جميع ذلك يتحقق الضمان على حدّ الضمان في سائر الأوصاف الحقيقية في الشيء.

هذا إذا كان النقصان في القيمة السوقية التبادلية من تلك الجهات المزبورة, وأمّا إذا كان نقصان القيمة السوقية التبادلية لا من تلك الجهات بل من جهة تكثير العرض في السوق؛ فلا يُعدّ ذلك ضرراً عرفاً ولا نقصاً ولا تصرفاً في مال الغير, فلا يكون مشمولاً لدليل الضمان لعدم كونه ضرراً عرفاً, وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات في هذا المجال, والتفصيل

ص: 222

موكولٌ إلى محلّه, والصحيح في موارد تعارض الضررين هو الرجوع إلى تشخيص الضرر إلى العرف, ثمّ الرجوع إلى ما يرجّح أحد الضررين على الآخر من مرجحات كالضرر العيني أو المنفعي في أحدهما دون الآخر والشدة والضعف ونحو ذلك.

الموقع الثالث: تعارض قاعدة لا ضرر مع قاعدة نفي الحرج

كما لو فرضنا أنّ عدم تصرف المالك في ماله وإنْ لم يوجب تضرره، إلا أنّه حيث يكون تصرفه لجلب منفعة وتعلق غرض عقلائي به فيكون ذلك حرجاً، فهو حجرٌ للمالك عن الإنتفاع بماله, وفيه یکون الحرج واضحاً، فیکون تصرفه في ملكه موجباً لتضرر جاره.

وفي هذا المورد وأمثاله اختلفت كلمات الأعلام، والأقوال في المقام هي:

الأول: ما اختاره الشيخ الأعظم (1) من تقديم قاعدة نفي الحرج لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر.

الثاني: تقديم قاعدة لا ضرر نظراً إلى موافقة قاعدة نفي الحرج لها في أكثر مواردها، فلو تقدمت قاعدة نفي الحرج في مورد التعارض لزم كون تأسيسها لغواً.

الثالث: يعامل معهما معاملة المتعارضين الذين تكون النسبة بينهما العموم من وجه فتقدم قاعدة نفي الحرج للشهرة، فإنّ المشهور بين الأصحاب جواز التصرف في الفرض، وهو موافق للكتاب أيضاً. أو يحكم بتساقطهما فيرجع إلى قاعدة السلطنة، على الخلاف بين المسلكين في التعارض بالعموم من وجه.

الرابع: ما اختاره المحقق الخراساني (2)؛ بأنْ يُعاملا معاملة المتزاحمين، فيقدم الأقوى منهما لو كان، وإلا فيحكم بالتخيير.

ص: 223


1- . فرائد الأصول؛ ج 2 ص538.
2- . كفاية الأصول؛ ص383.

والحقّ أنّ هذه الوجوه وما يمكن أنْ يذكر لا يخلو من بعض الإيرادات:

أمّا الأول؛ فیُقال فیه إنّ حكومة قاعدة نفي الحرج باطلة لوجهين:

أحدهما: إنّ كلاً من القاعدتين حاكمة على عمومات الأحكام المجعولة في الشريعة ومبينة

للمراد منها من غير أنْ يكون فيهما جعل وتشريع، فجعل إحداهما ناظرة إلى الأخرى وشارحة لها مع ما عرفت؛ لا معنى له.

والآخر: إنّ كلاً منهما ناظرة إلى نفي الأحكام في مرتبة واحدة، وليست قاعدة نفي الحرج ناظرة إلى قاعدة نفي الضرر بنحو التصرف في موضوعها أو محمولها.

وأمّا الثاني؛ فيرد علیه بأنّ موارد الضرر ليس بأقل، إذ المراد بالحرج المشقة التي لا تتحمل عادة، والمعروف أنّ الوقوع في الضرر لا يستلزم ذلك بقول مطلق.

هذا وإنّ أقلية المورد إنَّما توجب التقديم لو كانا متضادين بحيث يلزم من تقديم الأكثر مورداً عدم بقاء المورد للأقل، وليس المقام كذلك لو قدمنا قاعدة نفي الحرج فإنَّه لا يلزم طرح قاعدة لا ضرر، بل يبقى لها مورد وهو مورد توافقهما.

وأمّا الرابع؛ فيرد عليه إنّ التزاحم إنَّما یکون بين الحكمين، والقاعدتان نافيتان للأحكام ولا يثبت بشي ء منهما حكمٌ أصلاً فلا معنى للتزاحم. أما إذا أريد به التزاحم بين المقتضيين فيردّه إنّ باب تزاحم المقتضيين لا ربط له بباب تزاحم الأحكام المجعولة، ولا حكومة لهما على عدم الحكم. والأمر في مثل المقام لا يخلو من کون التصرف المذكور إمّا مباحاً مع قطع النظر عن القاعدتين، وهو ما إذا لم يكن تصرفاً في مال الجار ولامُتلفاً لماله، كما إذا حفر بئراً في داره قريباً من بئر الجار وصار ذلك سبباً لنقص ماء بئر الجار، وإمّا أنْ يكون محرماً كما لو استلزم تصرفاً في مال الغير، وعلى کلا التقديرين لا مورد إلا لإحدى القاعدتين, إذ ليس إلا حكم واحد والآخر هو عدم الحكم، ففي الفرض الأول هو السلطنة على المال، وفي الثاني حرمة الإضرار بالغير.

ص: 224

فإذا كان هناك حكمٌ كسلطنة المالك على ماله، وکان الحکم حرجياً أو ضررياً فيشمله ما دلّ على نفي الحرج أو دليل نفي الضرر. وهو لا یجري فيما لو فرضنا أنّ عدم ذلك الحكم كان كذلك فلا يكون ذلك مشمولاً لأيٍّ منهما ولا يثبت به ذلك الحكم، لأنّ عدم الحكم وعدم السلطنة ليس مجعولاً حتى يرتفع بإحدى القاعدتين، فالقاعدتان لا تجتمعان في مورد.

المقام الرابع: في امتنانية لا ضرر

المعروف على ألسنة العلماء أنّ قاعدة لا ضرر من القواعد الإمتنانية وقد جعلوا ذلك من مقومات حكومتها على الأحكام الأولية وأرسلوه إرسال المسلّمات, واستدلّوا على هذه المقولة بأنّ الحديث ورد في مورد الإمتنان فإذا استلزم من جريان لا ضرر خلاف الإمتنان فلا مجرى لهذه القاعدة, وقد رتّبوا على ذلك نتائج كثيرة, منها ما تقدم في مسألة الوضوء الضرري إذا كان جاهلاً بالضرر أو بالحكم, حيث أنّ الحكم ببطلان الوضوء الضرري ووجوب إعادة الصلاة التي صلاها مع الوضوء ووجوب التيمم خلاف الإمتنان فالدليل لا يشمله.

والحقّ؛ إنّ ما ذكروه يحتاج إلى عناية زائدة بعد عدم وضوح كون الحديث قد ورد في سياق الإمتنان, وإنّه ليس لنا أصل نعتمد عليه في أنّ مجرد رفع حكم في جعله مفسدة, أو لا مصلحة فيه يكون كجعلٍ فيه مصلحة لأنّه قد ورد مورد الإمتنان, والمحتملات فيما ذكروه هي:

1- إنّ قاعدة لا ضرر وغيرها من القواعد الثانوية الحاكمة على الأحكام الأولية, وجميعها هي من مجموعة الشريعة الإلهية والتكاليف الربانية, وكلّها واردة في مورد الإمتنان؛ فإنّه من الطبيعي أنّ أيّ حكم يُشرعه الله لمصلحة في متعلقه فهو منّة من الله على المكلفين, كما أنّ أيّ حكم يشرعه الله تعالى فيه مفسدة يكون فيه منّة من الله

ص: 225

عزّ وجلّ, فلا يفرق حينئذٍ في ذلك الأحكام الإلهية سواء كان حكماً أولياً أم ثانوياً فلا تختص قاعدة لا ضرر بذلك.

2- إنَّ ما ورد في أحاديث لا ضرر من مصاديق الإمتنان, ولكنه غير كافٍ لتأييد ما ذكروه, إذ ليس مجرد كونه من مصاديق الإمتنان يكون كافياً في إثبات قاعدة كلية كذلك.

3- إنّه قد أخذ فيه المنّة في مثل حديث الرفع الذي يشبه قاعدة لا ضرر من هذه الجهة, ولكن الحقّ عدم كون المنّة علة تامة بحيث يكون الرفع في مورده يدور مدار كونه منّة فإنه يكفي كونه منّة على نوع المكلفين, مع أنّه إذا أخذ قيد المنّة في حديث الرفع لكنه لم يرد ذلك في أحاديث لا ضرر إلا على نحو القياس وهو باطل.

4- فهمُ العرف من أحاديث لا ضرر أنّها وردت مورد الإمتنان نظير الإمتنان في قصر الصلاة في السفر.

ولكن يرد عليه أنّ مقتضى الإمتنان هو الترخيص في القصر دون العزيمة وصحة الصوم فيه لا البطلان والعقوبة على الصوم فيه مع أنّ قضية سمرة تشهد على الخلاف.

5- إنّ الإستحسان يقتضي ورود حديث لا ضرر مورد الإمتنان.وفيه؛ إنّ الإستحسان لا اعتبار به في إثبات مطلب كهذا.

فالحقّ إنّ ما ذكروه في المقام لا يخلو من غرابة, نعم؛ إنّه من الإمتنان النوعي وحكمة تشريعية لا أنْ يكون علة تُعمم أو تُخصّص؛ لأنّ الإمتنان ليس مأخوذاً على المعنى الدقي, بل المراد إنّ الشارع لا يريد الإضرار بالمكلف, ويرفع حكم الضرر عن كلّ المكلفين؛ سواءً كان الرفع بنحو الرخصة أم بنحو العزيمة؛ فهو امتنان على كلِّ حال.

ص: 226

المقام الخامس: شمول القاعدة للأحكام العدمية
اشارة

لا ريب في أنّ لا ضرر يشمل الأحكام الوجودية التي يستلزم منها الضرر, كما في الوضوء الضرري والمعاملة الغبنية, فتكون القاعدة حاكمة عليها فترفع وجوب الوضوء ولزوم المعاملة الغبنية, أو يرفع حرمة الترافع إلى حكام الجور إذا توقف تحصيل الحقّ على الرجوع إليهم, وغيرها من الأحكام ولا إشكال في ذلك؛ إلا أنّ الكلام في أنّه هل يمكن أنْ تشمل هذه القاعدة الأحكام العدمية التي لم يجعلها الشارع, بحيث تكون نتيجة قاعدة لا ضرر جعل الحكم الذي يلزم من عدمه الضرر, كما لو حبس شخصٌ فرداً له عمل أو مهنةٍ كالفلّاح أو المهندس -لا مثل العاطل- الذي يفوت عليه شيء, ممّا يوجب تعطيل عمله وخسارته, فيُوضع حكماً كجبران خسارته يكون عدمه ضرراً عليه؛ كما مثّل الفقهاء بأنّه لو فتح إنسان قفصاً فيه طائرٌ فطار, فهل يمكن أنْ يقال أنّ قاعدة لا ضرر تثبت حكماً عليه بحيث لو لم يكن هذا الحكم يكون ضرراً عليه.

وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة.

وقد اختار المحقق النائيني قدس سره وتبعه بعض تلامذته إلى عدم استفادة ذلك من قاعدة لا ضرر, وإستدل على ذلك بأمرين:

الأمر الأول: دعوى عدم الإطلاق فيها فيرجع إلى قصور المقتضي في دليل القاعدة؛ لأنّها تتعرض للأحكام المجعولة من قبل الشارع ولا تشمل الحكم الذي لم يجعله الشارع, لأنّ القاعدة لا تثبت حكماً وإنّما تنفي الحكم المجعول, فلا تكون مفاد القاعدة أنّ الشارع يجعل الحكم في المورد الذي لو لم يجعله فيه لحصل الضرر, فلا مقتضي في القاعدة لشموله المقام.

الأمر الثاني: دعوى وجود المانع؛ وهو لزومُ فقه جديد.

ص: 227

وأورد على كلا الأمرين:

أمّا الأمر الأول؛ فقد ذكر في تقريبه وجوهاً:

الوجه الأول: وجود إطلاق للحديث يشمل كِلا الموردين؛ فإنّه كما ينظر إلى ما جعله الشارع من الأحكام ينظر إلى عدم الحكم أيضاً, فإنّه وإنْ لم يكن مجعولاً لكن يشمله الاطلاق.

وأشكل عليه بأنَّ ذلك إنَّما يصح على بعض تفاسير حديث لا ضرر, ولا يتم بناءً على بعضٍ آخر مثل تفسير السيد الصدر قدس سره (1)؛ حيث ذهب إلى أنّ النفي فيه منصبّ على الأضرار الخارجية, وقد خرج من إطلاقها بمقيد تلك الأضرار غير المرتبطة بالشارع والذي لا يستطيع الشارع بما هو مشرّع رفعه أو وضعه, فيبقى ما عداها تحت الإطلاق؛ سواءً كان من جهة حكم من الشارع أم من جهة عدم حكم من قِبله كالترخيص, أو بناءً على تفسير المحقق النائيني قدس سره للحديث(2)؛ بأنّ مفاد نفي الحكم الضرري أي النفي التشريعي

ص: 228


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص492-495.
2- . للسيد الخوئي في بعض التفريعات على (لا ضرر) والتي لا تناسب هذا المبنى، من قبيل ما ذكره في التنبيه الأوّل من تنبيهاته في (الدراسات؛ ج3 ص329)، ولكن في (المصباح؛ ج2 ص533- 534) إختار أنّ حرمة الإضرار لا تستفاد من( لا ضرر)، بل تستفاد من( لا ضرار) على أنّ مفاد (لا ضرر) وإن كان هو نفي الحكم الضرري لا النهي عن الضرر، ولكنه يثبت بذلك حرمة الإضرار بالغير لكون الترخيص فيه ضررياً. والمستفاد من عبائره؛ أنّ (لا ضرر) وإن كان ناظراً بذاته إلى الأحكام المجعولة، ولكن عدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم، ولا سيّما مع ورود الحديث عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (مَا حَجَبَ اللَّهُ عِلْمَهُ عَنِ الْعِبَادِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ). [وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص163]. وهو بمنزلة التصريح بجعل عدم التكليف فيما لم يجعل فيه تكليف. ونحوه ما في (المصباح؛ ج2، ص560)، إلّا أنّه أبدل الإستشهاد بحديث (ما حجب) بالإستشهاد بما ورد من: (إنّ اللّه سبحانه لم يترك شيئا بلا حكم). وبهذا يتّضح أنه لو أثبت السيد الخوئي حرمة الإضرار عن طريق (لا ضرر)، فهذا لا ينافي مبناه من اختصاص (لا ضرر) بنفي الأحكام المجعولة، لأنّه يرى الجواز وعدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل جعلاً للعدم على حدّ تعبير المصباح، أو بمنزلة جعل العدم على حدّ تعبير الدراسات، ويرى أنّ نفي الجواز يثبت الحرمة، لعدم خلوّ الواقعة من الحكم.

للضرر, نعم؛ لفظ الحكم وإنْ لم يرد في لسان الحديث كما هو واضح ليستظهر إختصاصه بالضرر الناشئ من الحكم والنفي التشريعي للضرر, كما يُناسب نفي الحكم الناشئ منه الضرر يناسب كذلك نفي الترخيص الناشئ منه الضرر.

ولكن الحقّ؛ إنّ هذا الإشكال غير واردٍ على هذا التقريب مطلقاً, فإنّه لِما عرفت من أنّ الحديث غير ناظر إلى الجعل والحكم الشرعي المجعول, بل هو ناظر إلى كلّ موقفٍ شرعي يتسبب منه الضرر؛ سواءً كان حكماً أم ترخيصاً فينفيه حديث الضرر.

الوجه الثاني: أنْ يكون المراد من نفي الترخيص؛ نفي نفي الحكم, وهو بالمعنى الفلسفي والمنطقي معقول, لأنّه يُعطي الإثبات, ولكنه خلاف الذوق العرفي؛ حيث لا يستفيد الإثبات من لسان النفي.وفيه: إنّ هذا التفسير بعيدٌ عن سياق الحديث بعد معرفة أنّه يرجع إلى نفي الموقف الشرعي الناشئ من عدم الحكم, فلا حاجة إلى توجيه النفي حتى يقال أنّه المدلول الإستعمالي للكلام.

الوجه الثالث: إنَّ كلمة (في الإسلام) التي وردت في بعض أخبار لا ضرر قرينة على إرادة الأحكام المجعولة, وإنّ عدم الحكم ليس من الإسلام.

ويرد عليه: إنّ هذه الكلمة يراد بها مجموعة المواقف التشريعية المعينة؛ سواءً كانت وجودية أم عدمية, إلزامية أم ترخيصية, والحاصل؛ إنّ إطلاق الحديث ثابت, فهو يشمل الأحكام العدمية من دون إشكال.

نعم؛ قد يُستشكل بأنّ عدم الحكم لا يُنسب إلى الشارع, لأنّ العدم أزلي وكان موجوداً قبل الشارع والشريعة.

ولكنه مردودٌ بأنّ للشارع أنْ يُزيل هذا العدم بالجعل, كما هو كذلك بالنسبة إلى الأعدام الأزلية في المجعولات وإزالة عدمها بالوجود فهو العلة على أزليته, فيكون قادراً على إبقائه, فيمكن أنْ يقال؛ إنّ الشارع في عدم جعله للحكم تسبب في الضرر فهو مرفوع

ص: 229

بالحديث, وبالجملة؛ إنّ البحث يقع دائماً عن علة الوجود لا أنْ يكون عن وجود علة للعدم؛ فإنّ العدم لا يحتاج إلى علة إلا أنّه بحسب البقاء يستند إلى الشارع, وقد تقدم بعض الكلام في مباحث النواهي, ومنه يظهر الجواب عمّا يقال بأنَّ المحقق النائيني قدس سره يرى أنّه لا يصح إسناد العدم إلى الشارع, لأنّ عدم الجعل ثابت من الأساس, فإنّه موهونٌ بما عرفت من أنّ عدم جعل الحكم من الشارع موقوف منه, وقد تقدم أنّ حديث لا ضرر يشمل كلّ موقف شرعي ينشأ معه الضرر ولو كان من جهة عدم الحكم.

نعم؛ قد يقال: إنّ الترخيص عرفاً وبالمسامحة حكم وجودي أيضاً وإنْ كان بالدقة عدمياً. أو يقال بأنّ الإباحة الشرعية حكمٌ وجودي كباقي الأحكام الخمسة, أو يقال إنّ عدم الضمان حكمٌ مجعول فيُنفى بلا ضرر.

ويرد عليه:

1- إنّ عدم الحكم ليس دائماً مساوقاً مع الإباحة أو الترخيص, كما إنّ عدم الضمان ليس دائماً حكماً شرعياً حتى يكون أحد الأحكام الخمسة.

2- إنّ الترخيص قد لا يكون حكماً وجودياً بل هو مجرد عدم الإلزام, أي نفي الإباحة بالمعنى الوجودي, فلا يثبت الحرمة التي هي المطلوب لنفي الضرر.

ودعوى؛ إنّ نفي الإباحة كحكم وجودي يستلزم الحرمة بعد ضمّ كبرى عدم خلو أية واقعة عن حكم من الأحكام الخمسة, أو بدعوى الملازمة العرفية من باب دفع اللغوية؛ مردودةٌ؛ بأنّ مقولة عدم خلو واقعة عن حكم من الأحكام الإلهية يراد منها عدم نقص الشريعة وأنّها ليست مُهملة لبعض الوقائع, وهذا أعمّ من الإلزاموالترخيص بمعنى عدم الحكم, وقرينة اللغوية إنَّما تتمّ فيما إذا نُفيت الإباحة بالخصوص لا بالإطلاق ونحوه؛ فإنّ اللغوية تمنع حينئذٍ عن انعقاد الإطلاق.

ص: 230

ومن جميع ذلك يظهر إنّه يصح الرجوع إلى قاعدة لا ضرر وجعل الضمان في مورد العامل المحبوس, أو جعل حقّ الطلاق بيد الزوجة عند امتناع الزوج عن الإنفاق أو المواقعة, والضمان في مورد فتح القفص وخروج الطائر.

وأمّا الأمر الثاني ممّا ذكره المحقق النائيني قدس سره ؛ وهو لزوم تأسيس فقه جديد إذا شملت القاعدة للأحكام العدمية, وقد ذكر قدس سره عدّة تطبيقات لتوضيح ذلك نذكر المهمّ منها:

فمنها؛ رفع عدم ولاية الزوجة على الطلاق عند ضررها منه؛ وذلك فيما إذا امتنع الزوج عن الإنفاق عصياناً أو امتنع عن المواقعة كذلك.

وذكر السيد الخوئي قدس سره في توضيحه؛ بأنَّ قاعدة لا ضرر لا تثبت ولاية الطلاق للزوجة أو لوليها وهو الحاكم الشرعي حتى لو قلنا بعموم القاعدة للأحكام العدمية؛ وذلك لأنَّ الضررية تنشأ من عدم الإنفاق لا من الزوجية أو عدم الطلاق, فالقاعدة تدلّ على وجوب الإنفاق لرفع الضرر, وهذا لا ربط له بالولاية على الطلاق.

ولكن هذا الإعتراض مبني على تفسير الضرر بالمادي فتختص القاعدة بالضرر المالي أي النقص في المال, ولكن عرفت سابقاً؛ إنّ الضرر يشمل الضرر الإعتباري وغيره أيضاً التي منه سوء حال الزوجة في مفروض المقام التي تنشأ من عدم ولاية الزوجة على الطلاق من زوجها؛ إمّا بنفسها أو من قبل الحاكم الشرعي مع عدم إنفاق الزوج على زوجته, أو عدم مواقعته معها؛ وهي من أجلى مصاديق الضرر, ولا يمكن أنْ يُرفع عنها إلا بولايتها على الإنفكاك من مثل هذه الزوجية بالطلاق.

ومنها؛ إشكال المحقق النائيني قدس سره على تطبيق القاعدة بلحاظ عدم الضمان على المُتلف للمتلف له؛ وذلك إمّا لأنّ القاعدة تنفي الضرر لا أنْ تثبت التدارك والضمان وتدارك الضرر, أو من أجل الإنتقاض بموارد التلف, فإنّ من تلف ماله أيضاً يكون عدم الضمان في حقّه ضررياً, فلا بُدَّ من الضمان من بيت المال, وهذا ممّا لا يُلتزم به فقهياً.

ص: 231

وأشكل عليه:

أولاً: إنَّ الضمان ليس تداركاً للضرر, بل هو ارتكاز عقلائي لثبوت حقّ الضمان على المتلف بعد القول بأنّ القاعدة تشمل هذه الأضرار العقلائية الإعتبارية أيضاً, أو يقال بالتطبيق العرفي باعتبار أنّ نظر العرف المسامحي يقتضي أنّ الضمان نفي للضرر ولو بمرتبة من المراتب, وإنْ كان بالنظر الدقي العقلي إنّ الضمانإنَّما هو تدارك للضرر, والمناط على النظر العرفي المسامحي, والأول يرجع إلى الأخير فافهم.

ثانياً: إنّ التلف السماوي لا يتم فيه ما ذكرناه؛ لأنّ التلف لم يكن منتسباً إلى الحكم الشرعي في المقام, وتداركه من بيت المال ليس من باب نفي الضرر بل هو مجرد تفضل وإحسان عليه.

وعلى فرض التنزل؛ فإنّ القول بعدم انطباق القاعدة على باب الضمان لكونه تداركاً للضرر لا نفياً له لا يستدعي نفي عموم القاعدة وعدم شمولها للأحكام الترخيصية العدمية كعدم حرمة الإضرار مثلاً.

هذا ما ذكروه في توجيه عموم القاعدة للأحكام العدمية والإشكالات التي أُثيرت حوله.

تفصيل المحقق النائيني في الضمان في قاعدة لا ضرر

وتفصيل الكلام في ما ذكره قدس سره والجواب عنه يقتضي البحث في نقاط متعددة:

النقطة الأولى: لا ريب أنّ الشارع دوره هو تقريب الناس إلى ما يوجب صلاح أحوالهم وما يرجع إلى سعادتهم وإبعادهم عمّا يُفسد حياتهم ويعكّر صفوها؛ فلا يغفل أيّة واقعة تتضمن مصلحة للمكلف أو يُهمل ما يوجب الضرر عليه, والحكومة الدينية لم تخرج عن هذه القاعدة في أنّها تلاحظ كلّ حاجات أفراد الناس وقضاياهم فتُشرّع لهم الأحكام التي تصلح أمورهم وتنظم حياتهم, وتخرج الحكومات الوضعية عن هذه القاعدة الفطرية,

ص: 232

فالحكومات مطلقاً لم توضع إلا لتلبي حاجات الناس ورفع الأضرار عنهم؛ وحينئذٍ فكلّ ما يُخالف ذلك يُعتبر ابتعاداً عن المسؤولية التي اتخذتها الحكومات والدول على عاتقها, وتعتبر الدولة قد أضرت بالناس إذا واجهوا ضرراً من بعضهم البعض, أو من خلال الأوضاع الإقتصادية, أو من خلال مواجهتهم المشاكل إذا لم تبادر الدولة إلى حلها بواسطة تشريع القوانين الرادعة أو بواسطة تنفيذها, وهو من الواضحات التي لا جدال فيه عند الجميع.

وهكذا الحال في الشارع؛ فإنّه إذا جعل حكماً ضرراً ولم يرفعه فيكون هو السبب في إيقاع الناس في الضرر, كذلك لو كانت هناك حالة ضررية فلا بُدَّ أنْ يتدخل الشارع في جعل حكم فيها يوجب إنقاذ الناس من الضرر, فلو لم يبادر في هذا المجال فإنّه يعتبر أنّ الشارع أوقع الناس في هذا الضرر ويصح نسبته إليه وكلّ ذلك خلاف حكمة التشريع.

النقطة الثانية: إنّه بناءً على المقولة المعروفة (ما من واقعة إلا ولله فيها حكم حتى أرش الخدش) بأيّ معنى أريد منها لا بُدَّ أنْ يكون كلّ واقعة فيها حكمٌ شرعي؛ فإنّه حينئذٍ يصح أنْ يُسأل أنّ بعض الوقائع التي هي محلّ النزاع ما هو الحكم الشرعي فيها؟ كما إذا حبس أحدٌ شخصاً عاملاً يوجب تفويت منافع عمله,فإنّ الحكم التكليفي في هذه المسألة واضح؛ حيث لا يجوز لإنسانٍ أنْ يحبس إنساناً آخر كما هو المعروف, وأمّا الحكم الوضعي وهو ضمان الحابس لمنافع عمله ففيه كلامٌ؛ فهل هناك حكم شرعاً بالضمان فيما لو أتلف عمل إنسان؟ فإذا ظهر أنّ الشارع لم يصدر حكماً بالضمان فمعناه أنّه حكم ببراءة ذمة الحابس, فيتحول الحكم العدمي إلى حكم وجودي فتشمله قاعدة لا ضرر, وعلى ضوء ذلك لا تندرج القضية فيما ذكره المحقق النائيني قدس سره ومن تبعه في أنّ حديث لا ضرر لا يوحي بذلك, فعلى الشارع أنْ يتدارك الضرر.

ص: 233

والحاصل؛ إنّ مقتضى تلك المقولة المعروفة لا بُدَّ أنْ يجعل الشارع حكماً في هذه الواقعة؛ إمّا إشتغال الذمة أو براءتها, والمفروض أنّه بناءً على رأي المحقق النائيني قدس سره أنّه ليس هناك حكم باشتغال الذمة فتبقى براءة الذمة التي هي حكم وجودي, والحكمُ الوجودي مشمول لدليل لا ضرر باعتراف الجميع -حتى المحقق النائيني قدس سره - فلم يكن هناك فراغ في التشريع, فإنّه لا بُدَّ أنْ يكون في كلّ موردٍ من الموارد تشريع؛ سواءً كان وجودياً أم عدمياً, كان مباشرة من الشارع أم بواسطة ولي الأمر الذي أوكل الشارع أمره إليه, فلم يغفل عن التشريع ولكنه جعل الأمر تابعاً لولي الأمر الذي يُعالج القضايا التي تتصل بحياة الإنسان من حيث العلاقات التي يحصل منها الضرر على الناس أو القضايا الإقتصادية التي تحصل منها المشاكل الإقتصادية التي تحصل بين الناس, وأمّا الحاصلة من الوضع العام أو ما يأتي من خلال الأوضاع الكونية فهذا يرتبط بالتخطيط العام الذي هو من مختصات الدولة التي لا بُدَّ أن تضع خططاً معنية لمواجهة مثل هذه المشاكل الإجتماعية التي تحصل للناس بوجه عام أو خاص, وقد وضع الشرع الحنيف بعض التشريعات لحلّها أيضاً كما هو الحال في النظام الضريبي في الإسلام, وهذا كلّه أمر آخر لا يرتبط بالبحث الذي نحن فيه وهو عالم الضرر وعدمه, ومن ذلك يُعرف أنّ نقض المحقق النائيني ليس في محلّه, لأنّ موضوع البحث هو الأحكام الفردية أو العامة التي تشمل علاقات الناس بعضهم مع البعض فيما يحصل منهم الضرر, أو الحكم العام الذي يوجب الفشل في تطبيقه, أو وجود مانع منه؛ فلا بُدَّ من علاجه بحكم وتشريع؛ إمّا مباشرة أو بواسطة ولي الأمر الذي أوكله الله عزّ وجلّ في حلها.

النقطة الثالثة: مع قطع النظر عمّا ذكرناه؛ فإنّه لو رجعنا إلى العرف والذوق العرفي العام في عالم الإتلاف والضرر الذي ينشأ من تعنّت آخر بحيث يمنع الحقوق الثابتة له, كما في حبس

ص: 234

الإنسان الحرّ أو منع النفقة عن الزوجة أو عدم المقاربة معها؛ فإنّ العرف يحكم بالضرر والإتلاف فتشملها القاعدة, لأنّ العلة واحدة في الجميع بلا فرق بين أنْ يُتلف عيناً أو جهداً أو رغبةً مُلحةً قد عالجها الشارع كالشهوة العارمة التي في الإنسان, ووضع قوانين الزواج وتحصينالإنسان نفسه وغير ذلك ممّا هو كثير؛ فإنّه في الجميع فإنَّ العرفُ يرى أنَّ علاجها يكون بالتدارك ورفع الضرر عنه بلا فرق بين القول بشمول دليل لا ضرر لها أو لا, فإنّ الشارع لم يُهمل هذا الجانب أيضاً بالنظر العرفي والذوق العام عند العرف.

وممّا ذكرنا يظهر الحكم في مسألة الزوجة المعطلة من ناحية النفقه والوقاع؛ فإنّ الفقهاء حكموا ببقاء الزوجية وأمر الزوج بالنفقة والمواقعة, وقد استدلوا عليه تارةً؛ بأنّ الضرر إنَّما نشأ من ناحية عدم الإنفاق ويرتفع بالأمرِ بالإنفاق, ولم يأتِ الضررية من ناحية عدم الولاية على الطلاق لها أو لوليها, ولكن عرفت أنّ ذلك مبنيٌ على تفسير الضرر بالمادي, ولو عممناه إلى الضرر الإعتباري الحاصل من سوءِ الحالة الذي يحدث للزوجة من عدم الإنفاق وغيره فإنّ حديث لا ضرر يشمله, ولا ريب في أنّ ذلك من أظهر مصاديق الضرر عرفاً, فإنّ بقاء هذه المرأة معطلة ليس لها شيء من حقوق الزوجية على الوجه المطلوب شرعاً مع منعها من مطالبة رفع حرمانها ضررٌ عليها, هذا بالنسبة إلى التمسك بقاعدة الضرر. وأخرى؛ التمسك بالأخبار التي وردت فيمن ترك المواقعة أو فقد عنها زوجها (هِيَ امْرَأَةٌ ابْتُلِيتُ فَلْتَصْبِرْ)(1), ولكن يمكن جعل هذه الأخبار معارضة مع روايات الإيلاء, أو مع تلك التي تدلّ على أنّ الزوجة لها الحقّ إذا منعها زوجها من الإنفاق أنْ ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي, أو مع قوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)(2), وحينئذٍ إذا منعها زوجها من حقّها الجنسي فإنَّ لها الخيار بعد أربعة أشهر؛ بين

ص: 235


1- . مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل؛ ج 15 ص337.
2- . سورة البقرة؛ الآية 229.

المواقعة وبين الطلاق؛ فإذا امتنع منهما طلّقها الحاكم الشرعي؛ إلا أنْ يُستشكل -كما عن المحقق النائيني- بأنّه يلزم أنْ يكون الطلاق أو الفسخ بيد الزوجة والشارع إنَّما جعل الطلاق بيد الزوج فقط, فإذا امتنع؛ يُطلّقها الحاكمُ الشرعي لأنّه ولي الممتنع.

ويمكن القول بأنّ الضرر في هذا المورد إنَّما جاء من لزوم عقد الزوجية في حال امتناع الزوج عن النفقة أو المواقعة, وعدم جعل الطلاق أو الفسخ حينئذٍ فيكون هذا الحكم ضرري يرتفع بدليل لا ضرر, وحينئذٍ فإنَّ الإحتمالات المتصوّرة فيما إذا قلنا بانتفاء لزوم الزواج وعقد النكاح هما: إمّا فسخ الزوجية, أو إجبار الزوج على الطلاق, أو يطلقها الحاكم الشرعي؛ كما يستفاد من روايات الإيلاء من أنّ الحاكم الشرعي يرسل خلف الزوج ويجبره على الطلاق أو يحبسه ويضيّق عليه في المطعم والمشرب, وإلا يتخير ويفرّق بينهما الإمام؛ وذلك لأنّ الضرر وإنْ جاء من خلال امتناع الزوج لكنه يصدق على الحكم بلزوم الزواج نظير الوضوءالضرري فإنّ إلزام الشارع بالوضوء ضررٌ, والحكم المجعول على الموضوع الضرري ضرري أيضاً.

ومن جميع ذلك يظهر بأنَّ دليل لا ضرر حاكم على الأحكام العدمية كما أنّه حاكمٌ على الأحكام الوجودية, إلا أن يثبت دليل على الخلاف من إجماع وغيره, فدليل لا ضرر يشمل كلا القسمين من الأحكام؛ ظاهراً أو من جهة إرجاع الأحكام العدمية إلى الأحكام الوجودية كما تقدم بيانه, فما ذكره المحقق الأنصاري والمولى النراقي (قدّس سرّاهما)(1) من أنّ دليل لا ضرر حاكم على الأحكام الوجودية والعدمية هو الحقّ. وما ذكره المحقق النائيني وغيره في بيان عدم شموله للأحكام العدمية لا يمكن المساعدة عليه كما عرفت, ويأتي تفصيل الكلام في الموضع المناسب إنْ شاء الله تعالى.

ص: 236


1- . مشارق الأحكام؛ ص280.
المقام السادس: في شمول القاعدة للأحكام الترخيصية

لا ريب في شمول القاعدة للأحكام الإلزامية؛ سواءً كانت وجوبية أم تحريمية, تكليفية كانت أم وضعية, وقد عرفت بعض الأمثلة لكلّ واحدٍ منها, وذكرنا أنّ وجود الضرر في مورد التوضؤ بالماء مثلاً فإنّ دليل الضرر يرفع وجوبه, كذلك يحرم التّرافع إلى حكّام الجور ولكن إذا توقف استنقاذ الحق عليه بحيث كان المكلف يتضرر من هذا الحكم بذهاب ماله ولا يمكن تحصيله إلا عن هذا الطريق فيرتفع التحريم بلا ضرر, وغير ذلك من الأمثلة.

وأمّا الأحكام الترخيصية؛ فقد يقال بعدم جريان القاعدة فيها نظراً إلى جواز تركها من قبل المكلف, والأمثلة لذلك كثيرة في حياة الإنسان؛ فمثلاً يجوز له أنْ يبني حماماً قريباً من جدار الجار بحيث يترك آثاراً سلبية على جداره, أو له أنْ يضع مولدة كهربائية يُزعج جيرانه بالأصوات الصادرة منها -لا سيما في الليل- بحيث يسلب منهم الهدوء, وغير ذلك من الأمثلة التي فيها أحكام ترخيصية التي يُباح للإنسان فعلها ولكن يتضرر الغير بفعلها؛ فإنّه يرتفع الحكم بالإباحة والجواز بدليل لا ضرر لأنّه يستلزم من فعله الضرر على الآخرين, ومعنى ذلك لزوم تركه عرفاً إذ لا واسطة بين الجواز وبين الحرمة, فإنّه إذا ارتفع الجواز ثبتت الحرمة.

وأشكل على ذلك بأنّه إذا قلنا بأنَّ لا ضرر إذا انطبق على الأحكام الإلزامية يوجب الإباحة أو الجواز أو عدم الوجوب أو الترخيص, وإذا انطبق على الأحكام الترخيصية يوجب الحرمة ولزوم الترك, وهو من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ فهم الإستفادة عرفي؛ فإنّه في مورد الترخيص يفهم العرف لزوم الترك والتحريم, وفي الإلزام يفهم العرف الإباحة أو الترخيص ونحوهما.

ص: 237

ثانياً: إنّ المرفوع هو الحكم الذي جاء منه الضرر, وهو تارةً يستلزم التحريم, وأخرى يستلزم الترخيص والجواز والإباحة فلا إشكال في البين.

المقام السابع: في أنّ الضرر المنفي هو الضرر الواقعي أو لا
اشارة

ويتبعه سؤال؛ وهو هل أنّ ذلك يكون سواءً علم به المتضرر أم لم يعلم, أو يراد به الضرر العلمي؟.

وفي مقام الجواب عن كلّ هذا نقول: لا يخفى أنّ موضوعات الأحكام تارةً؛ يكون المناط فيها الواقع دون العلم به, وإنْ أخذ العلم به فإنّه تكون على نحو القطع الطريقي ولكن المناط هو على الواقع كما في باب الضمان بالنسبة إلى الإتلاف؛ فإنّ من أتلف مال الغير يضمنه ولا يدخل للعلم به, فمتى ما تحقق الموضوع -وهو الإتلاف- يتحقق الحكم, وهو الضمان؛ بدليل (من أتلف مال الغير فهو له ضامن) ولا مدخل للقطع فيه.

وأخرى؛ يُؤخذ العلم بالموضوع موضوعاً للحكم الشرعي, وليس مجرد الواقع له الدخل في الحكم بل العلم به له الدخل فيه, كما في عدالة إمام الجماعة؛ فقد اعتبر فيه العلم بعدالته موضوعاً لجواز الإئتمام به, فلا تكفي العدالة الواقعية لو لم يعلم بها بل لا بُدَّ من العلم بها.

وثالثة؛ يكون الموضوع مركباً من الواقع والعلم به كما في حرمة شرب الخمر, أو ما يقال في عدالة شهود الطلاق, وهذا التقسيم يجري في الضرر؛ فإنّه تارةً يكون العلم به مأخوذاً على نحو الطريقية كما في موارد الغبن, وأخرى يُؤخذ على نحو الموضوعية كما في الوضوء الضرري, ومدركُ هذا التقسيم في الموضوعات هو لسان الدليل الذي أخذ فيه الموضوع, وليست لنا قاعدة كلية يُعتمد عليها في الموضوعات على نحو الطريقية مطلقاً أو على نحو الموضوعية كذلك, فلا بُدَّ من مراجعة الأدلة واستفادة أحدها من لسان الدليل ولا يمكن تأسيس ضابطة فيه, ومن أجل ذلك نرى أنّ الفقهاء يختلفون في بعض الموارد التي يكون

ص: 238

الوجوب فيها حكماً ضررياً يرتفع بلا ضرر, فقد يحكمون بالصحة والجزاء مع الجهل حيث لم يدلّ دليل على أخذ العلم جزءً من الموضوع.

إذا عرفت ذلك فقد بحث العلماء في أنّ المراد من الضرر -الذي هو الموضوع في حديث (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ)- هو الضرر الواقعي أو المراد به الضرر العلمي, وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) في المقام أنّ مقتضى وضع الألفاظللمعاني الواقعية لا المعلومة كون المراد بالضرر المنفي هو الضرر الواقعي لا المعلوم.

ولكن يظهر من الشيخ الأنصاري قدس سره (2) في باب الوضوء اشتراط علم المكلف بكون الوضوء ضررياً في جريان دليل نفي الضرر؛ فلو توضأ وهو يعتقد عدم الضرر فبانَ الضرر كان وضوءه صحيحاً.

كما أنّه اشترط جمعٌ من الفقهاء في المعاملة الغبنية الجهل بالغبن في جريان دليل لا ضرر لإثبات الخيار؛ فلو علم بالغبن فلا يثبت له الخيار, ولكنهم في غير هذين الموردين جعلوا المدار على الضرر الواقعي؛ عَلِمَ به أم لم يعلم, ولذلك حكموا بأنّه ليس للمالك حفرُ البئر في داره إذا استلزم الضرر للجار ولو لم يعلم الجار به.

ويستفاد من ذلك؛ إنّ الخلاف والإشكال نشأ من بعض المسائل في الفقه ممّا كانت قاعدة لا ضرر هي الأساس فيها, ففي موردٍ يكون اعتبار العلم بالضرر هو المناط كما في مورد الوضوء واعتبار الجهل في مورد البيع الغبني, وفي موردٍ يُحكم بعدم اعتبار العلم ولا الجهل.

وتحقيقُ الكلام أنْ يقال: إنّ الظاهر أنّ المراد به الضرر الواقعي دون الإعتقادي, نعم؛ لو كان اعتقاد الضرر مستلزماً لحصول الخوف, وكان تحققه مُوجباً لرفع الحكم الشرعي

ص: 239


1- . رسالة في قاعدة لا ضرر؛ ص215.
2- . كتاب الطهارة (ط.1)؛ ص151.

يترتب رفع الحكم على الإعتقاد من هذه الجهة؛ لأنّ الخوف أمرٌ وجداني لا واقع له غير وجدانه لا أنْ يكون اعتقاد الضرر مُوجباً لرفع الحكم.

والدليل على ذلك هو أنّ الموضوعات التي وردت في الأدلة الشرعية وأخذت موضوعاً لحكمٍ شرعي إنَّما تُحمل على معانيها الواقعية إذا لم يكن هناك قرينة صارفة عن ذلك تدلّ على مراعاة الحالات الطارئة التي تعرض على موضوع الكلمة من علم أو جهل أو ما أشبه ذلك؛ فإنّه ممّا لا خلاف في أنّ مقتضى الوضع وطبيعة التعبير ذلك, فالمناط كلّه على الضرر الواقعي من دون تقييد بجهل أو علم, وإنّما الخلاف نشأ من بعض المسائل التي وردت في الفقة ممّا استدلّ فيها بقاعدة لا ضرر.

الخلاف في مسائل قاعدة لا ضرر

المسألة الأولى: ثبوت خيار الغبن وخيار العيب اللذين أساسهما لا ضرر؛ حيث أنّ الملاك في ثبوت الخيار للمغبون هو الضرر, وعليه؛ وقع الكلام في أنّ المدار هو الضرر الواقعي أو الضرر الإعتقادي؛ وعلى الأول لا دخل لعلم المغبون وجهله في ثبوت الخيار إذا تحقق الغبن واقعاً, بينما نرى أنّ الحكم بالفسخ يختص بصورة الجهل بالغبن.وهكذا في خيار العيب الذي كان المناط في ثبوته فيه هو دليل لا ضرر, فلو كان عالماً بالعيب فلا خيار له؛ مع أنّ الضرر موجود, فلو كان المناط هو واقع الضرر فالإقدام وعدمه سواءٌ حينئذٍ.

وبالجملة؛ فلو كان المناط هو الضرر الواقعي في الحديث فلا وجه لاشتراط الجهل بالغبن والعيب في خيارهما.

المسألة الثانية: الوضوء الضرري؛ فإنّه لو توضأ المكلف وكان جاهلاً بتضرره من الوضوء, فإنّهم يحكمون بصحة وضوئه فيختص بطلان وضوئه بصورة العلم بالضرر مع أنَّ الحكم إذا كان دائراً مدار الضرر الواقعي فلا يُفرّق في الصورتين من حيث البطلان.

ص: 240

المسألة الثالثة: في الصوم إذا اعتقد عدم الضرر فيه؛ فإنّهم حكموا بصحة الصوم مع ثبوت الضرر الواقعي.

وقد تصدّى جمعٌ إلى حلّ الإشكال المزبور وتوجيهه بوجوهٍ:

أمّا المسألة الأولى؛ فقد ذُكر فيه وجوهاً:

منها؛ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من ثبوت خيار الغبن بملاك الضرر إذا كان المغبون جاهلاً بالغبن؛ فإنّ التقييد بالجهل لا يرجع إلى عدم أخذ الضرر الواقعي موضوعاً, بل يرجع إلى جهةٍ أخرى يقتضيها المقام بالخصوص, وهي: إنّه إذا وقعت المعاملة مع العلم بالغبن فقد أقدم على الضرر, ومع إقدامه عليه لا يكون الضرر مستنداً إلى الحكم الشرعي على نحوٍ يكون هو الجزء الأخير لعلة الضرر, بل يستند الضرر إلى إقدام المشتري, ويكون الحكم الشرعي من المقدمات الإعدادية للضرر, وهو لا يرتفع بحديث نفي الضرر؛ لأنّ ما يرتفع به هو الحكم الذي يستند إليه الضرر استناد المعلول إلى الجزء الأخير من علته, لا أنْ يكون الضرر مستنداً إلى إقدام المشتري مع علمه بالغبن دون الحكم الشرعي.

وبعبارةٍ أخرى؛ إنّ المرفوع بدليل لا ضرر ما كان جزءً أخيراً للعلة التامة للضرر, لا ما كان معدّاً له, أي ما يكون الضرر الخارجي ناشئاً منه بحيث يُنسب إليه لا ما كان مقدمة أجنبية.

وقيل في ردّ هذا الوجه بأنّ الضرر على إقدام المشتري على الشراء إنَّما يترتب على حكم الشارع بعد الإقدام على الشراء بلزوم المعاملة, فيكون هذا الحكم هو الجزء الأخير للعلة في الضرر, فيكون مرفوعاً بحديث لا ضرر.

والحقُّ أن يقال: إنّه لا حاجة إلى ذلك؛ إذ هو بعيدٌ عن لسان حديث لا ضرر, فإنّه ليس الكلام في السبب الواقعي الخارجي للضرر حتى نلتمس ذلك, بل الكلام في أنّ الضرر

ص: 241

هل تحقق من ناحية الحكم الشرعي حتى يكون مرفوعاً بحديث لا ضرر؟! والمرجع في ذلك هو النظر العرفي, ولعلّ في صورة علم المشتري بالغبن لا يرى العرف أنّ الضرر مستند إلى الحكم الشرعي.بل يمكن القول؛ بأنّ المقام من تعارض قاعدة لا ضرر وقاعدة الإقدام, والترجيح مع الأخيرة كما هو مفصلٌ في الفقه.

ومنها؛ ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (1) من أنَّ خيار الغبن والعيب لا علاقة له بقاعدة لا ضرر, فإنَّ دليل خيار الغبن بناءُ العقلاء في معاملاتهم على حفظ المالية مع تبدل نوعية العوضين, فيكون خيار الغبن من أجل تخلف الشرط وليس على حساب القاعدة, وكذا خيار العيب؛ فإنّه يثبت من ناحية تخلف الشرط الضمني؛ باعتبار أنّ الإنسان إنَّما يشتري شيئاً بشرط السلامة, وإنّما لم يذكر في متن العقد إعتماداً على أصالة السلامة, فإذا انكشف العيب يرى العقلاءُ أنّ له حقّ الإعادة, وعليه؛ فكلّ واحدٍ من الخيارين لم ينطلقا من قاعدة لا ضرر حتى يرتبط الحكم به حتى يبحث أنّ المراد هو الضرر الواقعي أو العلمي, ولكن سيأتي في محلّه؛ أنّ ما ذكره قدس سره غير تام على إطلاقه لِما يلي:

أولاً: إنّ أغلب الناس يغفلون عن هذا البناء والشرط, وإذا تنبّهوا إليه يذكرونه على نحو الشرط في العقد.

ثانياً: إنَّ بناء الناس على التغافل من هذه الجهة, بل كانت معاملاتهم مبنية كذلك.

ثالثاً: على فرض التنزل؛ إنّ القول بأنَّ بناء العقلاء على حفظ مالية أموالهم في المعاملات أو اعتمادهم على أصالة السلامة في المعاوضات لا يمنع من قبولهما للقيود والشروط الموضوعة عندهم فيها, فإنّه قد يصدق تبادل المالية وحفظها في معاملة مع تحقق الضرر الإعتباري

ص: 242


1- . غاية المأمول؛ ج2 ص493.

لأحدهما, وكذا في العيب؛ فلا بُدَّ من رفعه بدليلٍ خاص؛ إمّا قاعدة الضرر أو بناءٍ عقلائي آخر.

وبعبارةٍ أخرى؛ إنّ المعاملات تدور مدار الأغراض الصحيحة عند العرف؛ سواءً لوحظ فيها المالية أم لا.

ومنها؛ ما قد يقال؛ بأنّ الحكم برفع اللزوم في صورة العلم بالغبن أو العيب خلاف المنّة والتسهيل, بخلاف ما إذا كان جاهلاً بالغبن أو العيب.

وفيه: ما عرفت من أنّ ورود الحديث في سياق الإمتنان موضعُ منعٍ وإنْ كان الحديث يُمثّلُ واقع المنّة, وهو صحيحٌ لا إشكال فيه.

ومنها؛ إنَّ الضرر في خياري الغبن والعيب في صورة العلم بهما يستندُ إلى كلّ واحدٍ من البايع والمشتري بالإشتراك, والمُستفاد من حديث لا ضرر أنْ يكون مستنداً إلى أحدهما خاصةً بأنْ يكون مستنداً إلى البايع خاصة فلا يشمل الحديثُ الفرضَ المذكور.

وهو وجهٌ حسنٌ والعرف يُساعد عليه, ولذا قلنا؛ إنّ النظر العرفي يحكمُ باستناد الضرر إلى الحكم الشرعي في مثل هذه المعاملة حتى يكون مرفوعاً بحديث لا ضرر.وأمّا المسألة الثانية؛ أي الوضوء الضرري؛ فإنَّه إذا كان المكلف عالماً بالضرر فإنّ الحكم بالوضوء يرتفع بحديث لا ضرر ويصار إلى التيمم, بخلاف ما إ ذا كان جاهلاً بالضرر وتوضأ ثمّ بَانَ كونه ضررياً؛ فإنّ حديث لا ضرر لا يشمله ويحكم الفقهاء بصحة وضوئه, وهذا يُخالف التزامهم بأنّ المناط في لا ضرر هو الضرر الواقعي.

وأجيب عنه بوجوهٍ أيضاً:

الوجه الأول: إنّ قاعدة لا ضرر إمتنانية وردت بملاك الإمتنان فلا تجري في موردٍ إذا كان إجرائها يستلزم خلاف الإمتنان, وفي المقامِ؛ الحكمُ بإعادة الطهارة والصلاة كلفة على المكلف بعد الحكم ببطلان وضوئه وصلاته, وهو ينافي التسهيل والإمتنان.

ص: 243

وفيه: ما عرفت مكرراً من بطلان هذه المقولة.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره أيضاً ممّا تقدم بيانه؛ من أنّ حديث لا ضرر إنَّما يرفع الحكم إذا كان مُوجباً للضرر بحيث يكون جزءاً أخيراً للعلة التامة للضرر لا ما كان مُعدّاً له, وفي المقام ليس الحكم بوجوب الوضوء كذلك؛ فإنّ الضرر يستندُ إلى جهل المكلف وإعتقاده عدم الضرر, ولو فُرض انتفاء الحكم في الواقع لوقع المكلف في الضرر لجهله, وقد عرفت في أول مباحث قاعدة الضرر أنّ المحقق النائيني يرى أنّ الحديث يتكفل نفي الحكم بلسان نفي الضرر, باعتبار أنّ نفي السبب ملازم لنفي المسبب, وهذا المعنى لا يأتي في المقام, لأنّ نفي الحكم فيه لا يستلزم نفي الضرر, فإنَّ المكلف يقع في الضرر على كلّ حالٍ؛ سواء كان الحكم بالوضوء متحققاً أم لا.

هذا وقد تقدم أنّ الفرق بين ما قاله المحقق الخراساني وما قاله المحقق النائيني (قدّس سرّاهما)؛ إنّ الأول يذهب إلى نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بمعنى الحكم الضرري كالبيع والوضوء الضرريين فلا حكم لها, وعلى هذا يكون الضرر قيداً للموضوع الذي يرفع حكمه لا أنْ يكون قيداً للحكم الذي يرفع.

بينما يذهب المحقق النائيني إلى أنّ التقدير في حديث لا ضرر أنّه لا حكم ضرري؛ فالمرفوع هو الحكم الضرري وليس الحكم المتعلق بالموضوع الضرري.

والثمرة بين القولين؛ إنّه بناءً على رأي المحقق النائيني قدس سره يكون الضرر ناشئاً إمّا من جعل الحكم أو الواقع الخارجي في صورة العلم أو الجهل, ولكن على رأي المحقق الخراساني قدس سره يكون العلم شرطاً فيه, ومن أجل ذلك أشكل عليه بأنّ لا دليل على اعتبار العلم في الضرر؛ فإنّه ليس لدينا حكم للوضوء الضرري المعلوم ضرره، بل لا حكم للوضوء الضرري, وما ذهب إليه المحقق النائيني يدفع هذا الإشكال.

ص: 244

وعلى ما أفاده قدس سره يُعتبر الأمرين في عدم وجوب الوضوء الضرر الواقعي والعلم به؛ ولذا أشكل عليه بأنّ لازم ذلك أنّه لو اعتقد الضرر ولم يكن ضرراً في الواقع لم يسقط عنه وجوب الوضوء, فلو صلّى حينئذٍ مع التيمم لزمه إعادة الصلاة لعدم انتقال فرضه إلى التيمم؛ مع أنّ المشهور هو عدم وجوب الإعادة؛ ممّا يكشف عن كون اعتقاد الضرر له الموضوعية بحدّ نفسه.

ولكنه قدس سره دفع هذا الإشكال؛ بأنّ ظاهر عدم الوجدان في الآية الشريفة: ﱥﭐﱧ ﱨ ﱩﱤ(1) هو الأعمّ من الواقعي والعلمي, وإنّ اعتقاد الضرر يدرج المكلف في من لم يجد الماءَ؛ لأنّ المراد من عدم الوجدان عدم التمكن من استعمال الماء؛ إمّا لعدم وجوده وإمّا لعدم القدرة على استعماله لمانعٍ شرعي أو عادي. ثمّ ذكر فرعاً استطراديّاً في المقام؛ وهو إنّه إذا انقلب الفرض إلى التيمم؛ كما لو كان الوضوء ضررياً وعلم به فهل يصح وضوءه إذا أراد أنْ يتوضأ؟. ذهب قدس سره إلى عدم صحته, والتفصيل يُطلب في محلّه.

وكيف كان؛ فإنّه يرد على ما ذكره قدس سره :

أولاً: إنّ ما أفاده خلاف المتفاهم العرفي من حديث لا ضرر؛ فإنّ العرف يرى أنّ الحكم الشرعي إذا كان مُوجباً للضرر على المكلف فإنّه يرتفع بحديث لا ضرر؛ سواء كان الحكم الجزء الأخير من العلة أم من المعدّات, ولا نظر للعرف إلى الواقع الخارجي وسببيته واقعاً بل المناط هو أنّ الشارع هل جعل حكماً ضررياً أم لا؟ وفي المقام جعل وجوب الوضوء في حالة الضرر يكون ضررياً مع قطع النظر عن الواقع الخارجي, وعليه يرجعُ الإشكال المزبور ويبقى على حاله.

ص: 245


1- . سورة المائدة؛ الآية 6.

ثانياً: إنّ ذلك كلّه مبني على كون الحكم في المثال مبنياً على قاعدة لا ضرر, فيرتفع وجوب الوضوء ويجب التيمم حينئذٍ, وأمّا إذا قلنا بأنّ الملاك فيه الأدلة الواردة في المقام حيث فرضت المكلفين إمّا واجداً للماء بمعنى التمكن منه وإمّا فاقداً له بمعنى غير المتمكن منه, والأول موضوع وجوب الوضوء, والثاني موضوع التيمم, والمُستفاد من ذلك أنّه لا يشرع التيمم على المتمكن كما لا يشرع الوضوء على غيره.

وعليه؛ نقول: إنّ الضرر الناشئ من استعمال الماء؛ سواءً كان واقعياً أم معلوماً؛ إمّا أنْ يصدق معه عدم التمكن من استعمال الماء فلا يشرع الوضوء لانتفاء موضوعه, وإمّا أنْ لا يستلزم ذلك فيصدق عليه أنّه متمكن فيجب عليه الوضوء, ولا مجال للرجوع إلى قاعدة الضرر في كلتا الحالتين, فإدراج مسألة الوضوء والتيمم في مصاديق قاعدة لا ضرر غير سديدٍ؛ إذ لا مجال لتحكيمها في كل الحالات, فلا وجه لمِا ذكره المحقق النائيني من الوجهين السابقين مع ما عرفتعدم صحتهما؛ وعليه؛ فإذا صدق عرفاً على من اعتقد عدم الضرر أنّه متمكن من استعمال الماء ولو كان مضراً واقعاً فيجب عليه الوضوء ويكون صحيحاً, ومع اعتقاد الضرر وليس في الواقع كذلك يكون الوضوء حرجياً, والإقدام على ما يعتقد إضراره حرجي فيصدق عليه عدم التمكن عرفاً فيصح تيممه وإنْ لم يكن الماء في الواقع ضررياً.

وثالثاً: إنّ صحة التيمم مع اعتقاد الضرر من دون أنْ يكون في الواقع كذلك من جهة عدم الوجدان الذي هو الأعم من الإعتقادي والعلمي بالبيان الذي ذكرناه آنفاً, وقد جعل المحقق النائيني قدس سره ذلك دليلاً على صحة التيمم في الفرض المذكور, مع أنّ هذا يُنافي ما ذكره من الإعتماد على حديث لا ضرر وأنّ المأخوذ فيه هو الضرر الواقعي أو العلمي, وحينئذٍ نقلُ الكلام منه إلى مدلول الآية الشريفة خلطٌ؛ إذ مفاد لا ضرر لا يُعيّن مفاد الآية الكريمة مع أنّ العمل بها لا يُبقى مجال للعمل بالقاعدة.

ص: 246

وأمّا المسألة الثالثة؛ أي الصوم المضر إذا كان معتقداً عدم الضرر؛ فإنّهم حكموا بصحة الصوم مع ثبوت الضرر واقعاً, ولا ريب أنّ الصوم يختلف عن الوضوء, فإنّه ليس في الصوم تكليفان حتى يُبحث إجزاء أحدهما عن الآخر؛ فإنّ فيه تكليف واحد ومن أجله لا يجري الإشكال الآخر الذي ذكروه في الوضوء, وهو ما إذا اعتقد الضرر فأفطر ولم يكن في الواقع مضراً, إذ لا يحتمل إجزاء الإفطار عن الصوم حتى يُبحث في صحته, وأمّا في الوضوء إذا اعتقد الضرر فتيمم فإنّه يُبحث فيه أنّ التيمم يُجزي عن الوضوء أو لا, أمّا في غير هذه الحالة وهي ما إذا اعتقد عدم الضرر في الصوم وصام فبانَ أنّه مضر له؛ فإنّ الفقهاء حكموا بصحته؛ مع أنّ مقتضى قاعدة لا ضرر هو عدم الصحة, لأنّ المناط فيها هو الضرر الواقعي.

والصحيح في الجواب أنْ يقال: إنّ المأخوذ في موضوع الصوم خوف الضرر لا نفسه, ومن المعلوم أنّ الخوف لم يتحقق عند اعتقاده عدم الضرر فيكون الصوم مشروعاً, وهذا هو الذي ذكرناه في بداية هذا البحث من أنّه لو كان الضرر اعتقادياً وأوجب الخوف وكان تحققه مُوجباً لرفع الحكم الشرعي يترتب رفع الحكم على الإعتقاد من هذه الجهة؛ لأنّ الخوف أمر وجداني لا واقع له غير وجدانه, ولهذا قالوا بصحة صوم من اعتقد عدم الضرر في الصوم وصام ثمّ تبين خلاف ذلك لأنّه لم يحصل له الخوف الذي هو المُوجب لسقوط الصوم عنه.

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني في المقام من أنّ حديث لا ضرر ورد مورد الإمتنان والتسهيل ولا منّة في المثال لو قلنا ببطلان صومه وقضائه, وعرفت الجواب عن ذلك فيما تقدم فراجع, وتفصيل الكلام في كتاب الصوم إنْ شاء الله تعالى.

والمتحصل من جميع ذلك؛ إنّه لا إشكال في كون المناط في الضرر هو الضرر الواقعي لا الإعتقادي بلا تقييد بالجهل والعلم, نعم؛ يكون العلم والجهل دخيلاً في تطبيق القاعدة

ص: 247

في بعض الموارد لأجل خصوصية في المورد, ولو قلنا بأنّ المناط في الضرر هو الأعم من الواقعي والإعتقادي يندفع به الإشكالات المزبورة أيضاً, إلا أنّ هذا الإحتمال يستلزم بعض المحاذير التي يمكن دفعها أيضاً, وتفصيل الكلام في محلّه إنْ شاء الله تعالى.

المقام الثامن: في المراد بالضرر هل هو النوعي منه أو الشخصي

المراد بالضرر النوعي إمّا ما يترتب بالنسبة إلى عامة المكلفين أو ما يترتب على غالب أفراد الفعل؛ فإمّا أنْ يراد نوع المكلف أو نوع الفعل والضرر, والشخصي يُقابل ذلك؛ أي ما كان الضرر فعلياً وارداً على كلّ شخصٍ, فإذا قلنا بأنّ المناط فيه الضرر الشخصي فإنّه يختلف الحكم في الحالة الواحدة بين شخصٍ وآخر, ففي الوضوء أو الغسل مثلاً بالماء البارد في الشتاء البارد قد يكون مضراً لإنسان وقد لا يكون كذلك بالنسبة إلى شخصٍ آخر, فإذا كان المناط هو الضرر الشخصي يسقط الغسل بالنسبة إلى من يضره الماء البارد في تلك الحالة ولا يسقط بالنسبة إلى من لا يضره. وأمّا إذا قُلنا بأنّ المراد بالضرر النوعي منه بأنْ يقال؛ إنّ الوضوء أو الغسل في الشتاء إذا كان الغالب فيه التضرر فإنّه يرتفع عن المكلفين بأجمعهم, والظاهر كون المراد بالضرر في القاعدة الضرر الشخصي؛ سواءً كان ضرراً نوعياً أيضاً أم لم يكن كذلك, كما في الحرج في قاعدة نفي الحرج, لأنّ لفظ الضرر كسائر الألفاظ موضوعٌ للمفاهيم الواقعية, وهو ظاهر في الفعلية دون الإقتضائية أو النوعية فيكون ظاهر النفي الوارد في الحديث هو الفعلي الوارد على المكلف ولا مُوجب لحمل الكلام على خلاف ظاهره وهذا واضحٌ لا يخفى على أحدٍ.

واستدلّ المحقق النائيني قدس سره على كون المراد هو الضرر الشخصي بقوله: (إنّ الحديث ورد مورد الإمتنان ولذا كان حاكماً على أدلة الأحكام الأولية)(1).

ص: 248


1- . رسالة في قاعدة لا ضرر؛ ص222.

بيان ذلك: إنّ الحكومة معناها أنّ الشارع لم يجعل حكماً ضررياً, فالأحكام المجعولة على موضوعاتها لا تشمل موارد الضرر, فلو نسبنا قاعدة لا ضرر إلى تلك الأحكام نستفيد أنّ الحكم لم يُجعل في مورد الضرر, بخلاف ما إذا لم يستلزم الحكم ضرراً على المكلف؛ فلا مقتضى لرفعه, ويُعدّ ورود حديث لا ضرر مورد الإمتنان بكون الضرر مختصاً بمن يكون في رفع الحكم عنه منّة عليه, ولا منّة في رفع الحكم بالنسبة إلى من لم يتضرر شخصياً وإنْ كان طبيعة الحكم تُوجب الضرر نوعاً.وقال السيد الخوئي قدس سره (1)؛ إنّه لو قلنا بأنّ المقصود من كلمة الضرر في حديث لا ضرر, أو كلمة الحرج في قاعدة (لا حرج) هو الضرر والحرج النوعيين لكان اللازم أنْ يكون كمدركٍ في حديث (رفع الخطأ والنسيان), بمعنى أنْ يكون من شأنه أنْ يقع الخطأ فيه, وما من شأنه أنْ يقع النسيان فيه, لأنّ جميعها تقع في مجرى واحد بالنسبة إلى هذا الموضوع واللازم باطل فالملزوم مثله.

والحقُّ؛ إنّ ما ذكره العَلمان لا يمكن المساعدة عليه؛ أمّا ما ذكره المحقق النائيني قدس سره ففيه:

أولاً: إنّ مقولة كون قاعدة لا ضرر مسوقة سياق الإمتنان والتسهيل لا صحة لها كما عرفت مفصلاً.

ثانياً: إنّ ورود لا ضرر مورد الإمتنان وحكومته على أدلة الأحكام الأولية لا يستفاد منها كون الضرر شخصياً, فإنّه على فرض كون الحديث وارداً مورد الإمتنان فإنّ المناسب حينئذٍ وروده مورد الإمتنان النوعي, ومع ذلك يكون حاكماً على أدلة الأحكام الأولية إذا ترتب عليها الضرر نوعاً, وبالجملة؛ الإلتزام بإرادة الضرر النوعي لا ينافي الإلتزام بالحكومة والإمتنان.

ص: 249


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج1 ص10.

وأمّا ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من أنّه إذا كان المراد هو الضرر النوعي للزم أنْ يكون الرفع في الخطأ والنسيان ونحوهما النوع منهما فإنّه غير تامٍ؛ حيث أنّ طبع الخطأ والنسيان كونهما حالة قائمة بالشخص لا الفعل المنسيّ أو الفعل الذي وقع الخطأ فيه فالتصور غير ممكن فيهما, بخلاف الضرر والحرج؛ فإنّه من الممكن تصوير النوع فيهما, فلا وجه لقياس الخطأ والنسيان على الضرر والحرج.

والحاصل؛ إنّ ظهور كلمة الضرر والحرج في الشخصي منهما لا إشكال فيه, باعتبار كلّ لفظٍ موضوع لمعنى فعلي فإذا أطلق ينصرف إلى فعلية المعنى الذي يدلّ عليه اللفظ, فحمله على الشأنية والنوعية يكون على خلاف الظاهر.

ولكن يمكن أنْ نقول بأنّ ذلك صحيح في كثير من الموارد, إلا أنّه ربّما يشتبه في باب المعاملات ولا يكون واضحاً فيها إذا كان الدليل فيها قاعدة لا ضرر كالمعاملة الغبنية؛ بأنّ الضرر ليس ملازماً دائماً للمعاملة الغبنية, فربّما يكون واضحاً إذا كان الوضع الإقتصادي طبيعياً ويتداول الناس في السوق كلّ البضائع بحيث إذا اختلفت القيمة المتبادلة في المعاملة بأنْ يكون الثمن في المعاملة أكثر من ثمن المثل يوجب تضرر المشتري وبالعكس في المبيع؛ بأنْ يكون أقل من ثمن المثل يوجب تضرر البايع ممّا يستلزم نقص المالية في كلّ واحد من الثمن أو المبيع, وأمّا في غير هذه الحالة التي لا تكون رغبة عامة في بضاعة معينة بحيثلا يتضرر البايع بالبيع بأقلّ من ثمن المثل أو حاجة المشترى إلى المبيع بأنْ يشتريه بأكثر من ثمن المثل, فإنّه في الموردين يرغب كلٌ من البايع بالبيع والمشتري بالشراء فإنّه إذا باع كلُّ واحد منهما في حال جهلهما بالأسعار فإنّه لا يستلزم ذلك تضررهما لوجود الرغبة من كلّ واحد منهما, ومع ذلك قالوا بثبوت خيار الغبن في هذه الحالة, بل أيضاً حكم بعض الفقهاء أنّ خيار الغبن يثبت حتى في صورة استعداد الغابن

ص: 250

دفع العوض والفرق إلى المغبون لحديث لا ضرر الشامل لكلّ ذلك, وكذا في خيار العيب فيما إذا لم يكن العيب مصدر ضرر للطرف لجهة من الجهات, وكذا في قضية الشفعة؛ حيث ذكر بعضهم بأنّ الأساس في ثبوت حقّ الشفعة هو حديث لا ضرر, مع أنّه في بعض الموارد قد لا يوجب بيع الشريك حصته الضرر على الشريك الآخر مع أنّ الفقهاء حكموا بثوت حقّ الشفعة مطلقاً, ولكن البحث في جميع ما يأتي في محلّه إنْ شاء الله تعالى.

وكيف كان؛ فإنّ هذه الموارد لا تضر بأصل المقصود والدليل عليه كما بينّاه.

المقام التاسع: في الإضرار بالنفس.

والبحث فيه يقع من جهتين:

1- في حرمة الإضرار بالنفس, كالإضرار ببدنه أو بماله والدليل عليه.

2- نسبة دليل حرمة الإضرار بالنفس مع سائر الأدلة الشاملة بعمومها لمورد الضرر ورفع التعارض بينها.

أمّا الجهة الأولى؛ الإضرار بالنفس وهو على أنحاءٍ؛ فإمّا أنْ يُؤدي إلى تلف النفس؛ فلا ريب في حرمته, ويمكن الإستدلال عليه بقوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(1), وبالأدلة التي تدلّ على حرمة قتل الإنسان نفسه.

وإمّا أن يكون الإضرار مُوجباً لتلف عضو من أعضائه, كما إذا قطع رجليه أو يديه أو إحداها من دون أنْ يكون في البين ضرورة كمرض معدٍ ونحوه ممّا يحكم أهلُ الخبرة بأنّه لو لم يقطعها أوجب المرض هلاك النفس وهو حرام أيضاً, وإنْ استشكل في هذه الصورة بعض المعاصرين ممّا سيأتي بيانه.

ص: 251


1- . سورة البقرة؛ الآية 195.

وإمّا أنْ لا يكون الإضرار كذلك؛ بأنْ كان ممّا يوجب الجرح أو المرض أو شلل عضو ونحو ذلك, وهذا القسم من الإضرار بالنفس هو السائد في العصر الحاضر بل هو داخل في حياة الناس اليومية والواقع الذي يعيشوه؛ سواء كان الإضرار كذلك متخذاً صبغة دينية كالشعائر -ولا سيما الشعائر الحسينية- أم حب شخصية دينية، أم صبغة وطنية، أم على مستوياتٍ أخرى, فإنّ المشهور بين الفقهاء حليّة مثل هذا النوع من الإضرار؛ مستدلّين عليه تارةً؛ بأنَّ الإضرار بالنفس إنَّما يكون محرّماً إذا أدى إلى التهلكة, ومثل هذه لا تؤدي إليها, وأخرى؛ بما ذكره السيدالخوئي من أنّ مثلُ ذلك لا يُعدّ ضرراً عرفاً لأنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان في نفسه أو في ماله لغرضٍ عقلائي لا يُعتبر ضرراً عرفاً, وقد مُثّل للضرر المالي ما إذا صرف المال للسياحة والزيارة أو في الولائم غير الإستعراضية ونحو ذلك؛ أما إذا كان صرف المال في ما إذا لم يكن فيه غرض عقلائي مُعينٍ يُعدّ ضرراً عرفاً كما إذا صرف المال في الولائم الإستعراضية, ولا يمكن الإستدلال بحديث لا ضرر على الإضرار بالنفس مطلقاً؛ لأنّه مبني على الإستفادة من تحريم الضرر العموم ليشمل ضرر النفس, وهو غيرُ تام لأنّ ظاهر لا ضرر ضررُ الغير لا النفس فلا يصح الإستدلال به على حرمة ضرر النفس.

ولعلّه من أجل ذلك لم يتعرض بعض العلماء إلى بحث الإضرار بالنفس في المقام وأوكله إلى مراجعة الأدلة في الأبواب المختلفة.

وبالجملة؛ إنّ ضرر النفس له مظاهر مختلفة في عصرنا الحاضر المنتشر بين الناس أمثال المخدرات والتنباك والتتن, أو بعض الرياضات أو السهر ممّا يُؤدي إلى المرض, أو استعمال حبوب منع الحمل التي تضر بالجسد ضرراً بالغاً كما يقولون, وغير ذلك ممّا هو كثير ويُؤدي إلى الضرر بالنفس والمال, بل تتعدى دائرة الضرر عن الجسد إلى الروح والمال

ص: 252

والبيئة والمجتمع مثل استعمال المخدرات والأفيون وقد يتمسك بعضهم على أنّه لا دليل على حرمتها باعتبار أنّه ليس مسكراً, والمحرم ما كان كذلك فالأصل هو الحلية والإباحة بعد فقدان الدليل على الحرمة, واستثنى بعضهم وقال؛ إنّه حرامٌ إذا أدى إلى الإدمان أو أدى إلى الضرر فعلاً؛ فإنّه يُحرم بهذا العنوان.

وكيف كان؛ فإنَّ ما قالوه في هذا القسم من الضرر على النفس لا يخلو من إشكال بل هو مردودٌ؛ إمّا لأنّ الغرض العقلائي الذي جعلوه المناط في حلية مثل هذا الضرر إذا كان موافقاً له فإنّ مفهومه له مصاديق متعددة تختلف العقلاء في كثير منها، ولا إشكال في تحققه في بعض مصاديقه؛ فإنّ الإنسان إذا سهر لطلب العلم والكمالات أو من أجل حفظ نفسٍ محترمة من الضرر الذي يُحيط به, أو يُتعب نفسه لأجل كسب مالٍ يصرفه على نفسه أو عياله وراحتهم وشهواته المحللة, أو يتعب نفسه في مقام الدعوة لدينٍ أو فكرٍ صحيحٍ وأمثال ذلك؛ فإنّه لا إشكال في صدق الغرض العقلائي عليها حيث يندفع العقلاء بنظرتهم إلى ممارستها من حيث الأهداف الصحيحة عند العقلاء وارتباطها بالوسائل واندماجها في الأهداف مع الوسائل عندهم, كما إذا قطع شيئاً من جسده لإنقاذ نفسٍ محترمة أو يصرف ماله في السياحة ونحو ذلك, ولكن لا يصدق الغرض العقلائي في بعض الأفراد والموارد أو يشكون فيها؛ كإتعاب النفس في السهر الخالي عن المحرمات وإلا كان محرماً بلا ريب, فإنّ مثل هذا النوع من السهر في المحرمات وغيرها ممّا يرفضه العقلاء, أو ما يحدث في حالات الإنفعال كخدشِ المرأة وجهها أو نتفشعرها, أو أنْ يصلب الإنسان نفسه باعتبار أنّ السيد المسيح قد صُلب ونحو ذلك, فإنّ صدق الغرض العقلائي عليها محلُّ إشكالٍ مهما كثرُ أعداد الذين يفعلون ذلك, فإنَّ العدد الكثير لا يكون دليلاً على الحلية التي هي حكمٌ شرعي أيضاً بل إدراجه في الغرض العقلائي محلّ

ص: 253

منعٍ؛ فإنّ العقلاء بأنفسهم يستنكرون كثير ما هو متعارف عند الناس, هذا إذا لم يرد نهيٌ شرعي في البين كما في خمش المرأة وجهها أو نتف شعرها, أو السهر مع ارتكاب المحرمات وغير ذلك, فإنّه لا إشكال في الحرمة وإنْ كان شايعاً يستسيغه العرف وبعض العقلاء, ولعلَّه من كلّ ما ذكرناه ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره (1) إلى حرمة الإضرار بالنفس, واستدلّ بالعقل الذي يستقلّ بالحكم بقبح الضرر. وإنْ اعترض بعضٌ عليه بأنّ العقل لا يستقل بذلك ولكنه موهون, لأنّ العقل الذي استقل بقبح الإضرار بالغير لا يفرق عنده بين الإضرار بالنفس أو بالغير فإنّه يصدق الضرر عرفاً عليهما.

ويمكن الإستدلال على حرمة الإضرار بالنفس بأنّه من مصاديق الظلم للنفس؛ فإنّ من يفقأ عينه أو يكسر يده أو يتناول شيئاً يوجب الشلل أو يجعل نفسه عقيماً باستعمال دواءٍ معينٍ أو يُعطل أحد حواسه الخمس وغير ذلك؛ فإنّه يُعتبر ظلماً للنفس وعليها كما لو فعل ذلك بالنسبة إلى الآخرين, وظلم النفس مطلقاً مذمومٌ ومرفوضٌ بكلّ صوره كما يدلّ عليه قوله تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(2)؛ فإنّه يدلّ على أنّ جعل النفس في الهلاك والعذاب مرفوضق بكلّ أقسامه وصوره, والعرفُ يحكم على أنّ من يضر نفسه يكون قد ظلم نفسه, وهذا المقدار يكفي في حرمة الإضرار, ولعلّ مقصود الشيخ الأنصاري قدس سره من إستقلال العقل بقبحه يرجع إلى أنّه إيذاءٌ للنفس من دون غرضٍ عقلائي صحيح يحكم به العقلاء بأنّه قد ظلم نفسه.

وقد استدلّ بعضهم في خصوص تلك التي اتخذت الصبغة الدينية بقوله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ

ص: 254


1- . رسائل فقهية؛ ص116.
2- . سورة النحل؛ الآية 118.

اَللَّهَ شَاکِر عَلِيمٌ)(1), باعتبار أنّ تلك الأضرار داخلة في عنوان تعظيم الشعائر الذي ندب إليه الشارع ورغّب الناس إليه.

ولكن الحقّ أن يقال؛ إنّ الآية الكريمة تشتمل على أمورٍ لها الدخل في حقيقة هذا العنوان:

الأمر الأول: أنْ تُنسب الشعيرة إلى الله عزّ وجلّ وتكون محترمة ومعظمة من أجل هذه النسبة, مثل الصفا والمروة اللذين جعل لهم الله عزّ وجلّ القداسةوالإحترام والتعظيم, فانتسبت إليه عزّ وجلّ من هذه الجهة وأصبحت من العلامة البارزة لعبادة الله تعالى وتعظيمه وتقديسه, فلو انتفت هذه النسبة لم يكن لها هذا الإحترام والتعظيم, فليس كلّ من يُعظم شيئاً هو ما يُنسب إليه عزّ وجلّ.

الأمر الثاني: أنْ يكون التعظيم نابعاً من تقوى القلب خالصاً لوجهه الكريم وكاشفاً عن خلوص النّية ومن مظاهر التّقوى, وبدون هذا الأمر لا يمكن أنْ يكون من تعظيم شعائر الله.

الأمر الثالث: إنّ الشعائر هي ليست من الأمور التي يمارسها الناس على حسب أهوائهم ومشتهياتهم؛ بل هي ممّا يتحرك الناس بها من خلال العناوين التي وضعها الله تعالى لهم, فلا تشمل العادات التي تنجزها الناس وإلا لو كان الأمر كذلك فلا بُدَّ أنْ نقول بأنّ ما يتخذه أرباب الديانات في طقوسهم الدينية من الشعائر أيضاً.

فإذا اجتمعت هذه المقومات تكون من شعائر الله ويكون تعظيمها مطلوباً لديه عزّ وجلّ ومرغوباً إليه, ومن هنا يُعرف أنّ كثيراً ممّا يُمارسه العوام ويجعلونه من مصاديق التعظيم لشعائر الله هي من مجرد العادات أو ممّا دخلت فيه الأهواء النفسية التي لا تكشف عن تقوى القلب أو نابعة من العواطف التي تغلب على الحكمة والعقل وغير ذلك ممّا يُشكّ

ص: 255


1- . سورة البقرة؛ الآية 158.

في انطباق عنوان تعظيم الشعائر عليها, ولا بُدّ للمؤمنين التنبه إلى ذلك حتى لا يشملهم قوله تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)(1).

هذا ما أردنا إثباته في المقام على نحو الإيجاز, والتفصيل موكول إلى محلّه.

والحاصلُ من جميع ذلك؛ إنّه يحرم الإضرار بالنفس مطلقاً بالأدلة الثلاثة؛

فمن العقل؛ حكمه بقبح الضرر والإضرار مطلقاً على النفس والغير, وحكم العقلاء بأنّه إيذاء للنفس والغير وهما قبيحان ومرفوضان عندهم.

ومن الكتاب؛ قوله تعالى: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(2)؛ فإنّ من أظهر مصاديق الظلم هو إيذاء النفس بإلقائها في التهلكة أو العذاب والألم.

ومن السنة؛ حديث لا ضرر الشامل بعمومه للإضرار بالنفس وبالآخرين, وقد تمسك به الفقهاء في نفي حكم الوضوء إذا استلزم الضرر على النفس, وكذا في الصلاة الضررية وغيرهما. وقد تقدم وجه دلالة لا ضرر على الحرمة؛ لا سيما إذا أخذنا بمقالة شيخ الشريعة الإصفهاني وغيره ممّن قال بأنّ مدلول لا ضرر هو الحرمة, أمّا مناقشة السيد الخوئي قدس سره وغيره في الإستدلال بهذا الحديث موهونة فراجع.ومن السنة أيضاً؛ رواية طلحة بن زيد المروية في الكافي عن الإمام الصادق علیه السلام عَنْ أَبِيهِ علیه السلام قَالَ: (قَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ علیه السلام أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم كَتَبَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ والْأَنْصَارِ ومَنْ لَحِقَ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ؛ إِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ ولَا آثِمٍ)(3)؛ حيث نزّل الجار منزلة النفس؛ فكما لا يجوز الإضرار بالنفس لا يجوز أيضاً بالنسبة إلى الجار, وإشكال السيد

ص: 256


1- . سورة الكهف؛ الآية 104.
2- . سورة النحل؛ الآية 118.
3- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج2 ص666.

الخوئي بأنّه حكمٌ أخلاقي لا تشريعي مرفوضٌ كما لا يخفى؛ فلا إشكال في الحكم بحرمة الإضرار بالنفس مطلقاً إلا إذا كان هناك دليلٌ شرعي أو حكمٌ عقلي أو بناءٌ عقلائي أو غرضٌ عقلائي يحكم بحسنه العقلاء يدلّ على جواز الإضرار بالنفس من غير إهلاكها وقتلها, فإنّه لا يجوز إلا إذا كان حكم شرعي خاص فيه والتفصيل موكولٌ إلى محلّه.

وأمّا الجهة الثانية؛ وهي نسبة دليل حرمة الإضرار بالنفس مع سائر الأدلة الأخرى الشاملة بعمومها لمورد الضرر, وتحقيقُ الكلام فيه يقع تارةً؛ فيما إذا كان الدليل المعارض حكماً ترخيصياً, وأخرى؛ ما إذا كان الدليل حكماً إلزامياً.

أمّا الحكم الترخيصي كأصالة الإباحة والحلية؛ فإنّه بحسب مقام الثبوت فيه احتمالات:

الأول: إحتمال أنْ يكون ملاك الإباحة هو كون الفعل لا اقتضاء بالنسبة إلى الحكم الإلزامي بأحد طرفيه فكان وجوده وعدمه على حدٍّ سواء.

وعلى هذا الإحتمال لا يُعارض دليل حرمة الإضرار بالنفس؛ لأنّ دليل الحرمة إنَّما يُثبت حكماً إلزامياً فيكون هو الحكم, ولا ينافيه الدليل الذي يدلّ على اقتضاء الترك فيه لأجل الضرر؛ لِما هو المعروف من أنّ ما لا اقتضاء فيه لا ينافي مع ما فيه الإقتضاء كما هو واضح.

الثاني: أنْ تكون الإباحة من أجل وجود مصلحة اقتضائية في عدم الإلزام بأحدِ الطرفين فيباح الفعل حينئذٍ, فتكون المصلحة الملزمة في جعل الإباحة إنَّما تكون في خصوص الفعل.

وبناءً على هذا الإحتمال يكون دليل حرمة الإضرار بالنفس مثبتاً لوجود المقتضي للإلزام بالترك في موردِ الضرر فيخرج المورد عن موارد مصلحة جعل الإباحة.

الثالث: أنْ يكون ملاك الإباحة لأجل وجود مصلحة ملزمة في جعلها من دون أنْ يتقيّد موضوعها بما لا اقتضاء فيه للإلزام, بل المصلحة الملزمة إنَّما تكون في جعل الإباحة في مطلق موارد الفعل.

وبناءً على هذا الإحتمال يكون دليل الإباحة معارضاً لدليل حرمة الضرر.

ص: 257

وأمّا بحسب مقام الإثبات؛ فالظاهر من دليل الإباحة كونه من النحو الأول, ومن هنا لا يرى العرف تعارضاً بين دليل السلطنة على النفس أو المال وبين دليلتحريم إضرار الغير أو النفس, فلا يشمل دليل السلطنة موارد الإضرار بالغير عرفاً كما تقدم بيانه.

ومن جميع ذلك يظهر الحكم في تعارض دليل الإستحباب مع دليل حرمة الضرر بالنفس, أمّا الحكم الإلزامي -كالوجوب- فهو على نحوين:

الأول: أنْ يكون عموم الدليل بديلاً ويكون الفرد الضرري من أفراده, كالصلاة بالكيفية المخصوصة.

الثاني: أنْ يكون العموم شمولياً ويكون الضرر في أصل الطبيعة كالوضوء الضرري أو الصوم الضرري الواجب كصوم شهر رمضان أو المنذور.

أمّا النحو الأول؛ فإنّه لا تعارض بين دليل التحريم الشامل لهذا الفرد وبين دليل الواجب؛ لأنّ دليل الوجوب يتعلق بالطبيعة ويترتب عليه الترخيص في تطبيق الواجب على كلّ فردٍ من أفراده, فيكون التعارض في الحقيقة بين دليل الترخيص في تطبيق الطبيعة على هذا الفرد الضرري وبين دليل تحريم الضرر, وقد عرفت آنفاً حكم تعارض دليل الترخيص مع دليل حرمة الضرر وهو ينطبق على هذه الصورة أيضاً؛ لأنّ الترخيص في تطبيق الطبيعة على كلّ فردٍ دائماً هو بلحاظ تساويها في تحصيل الواجب بلا مانع, ومع وجود ملاك التحريم في أحدها بلحاظ الضرر فلا يشمل دليل الترخيص هذا الفرد لوجود المصلحة الملزمة فلا وجه للترخيص عقلاً أو شرعاً فيه.

أمّا النحو الثاني؛ فإنّه يتحقق التعارض بين الدليلين لأنّ مقتضى إطلاق دليل الوجوب ثبوت الحكم حتى في مورد الضرر, ومقتضى إطلاق دليل الحرمة ثبوت الحرمة في مورد الوجوب, فيقع التنافي بين الوجوب الثابت للفرد ولو بحسب ذاته وبين الحرمة الثابتة له

ص: 258

بلحاظ العنوان الثانوي الطارئ, وهذه الخصوصية لم تكن موجودة في دليل الإباحة لأنّه وإنْ شمل بإطلاقه مورد الضرر إلا أنّه يدلّ على إباحة الشيء بلحاظ نفسه, ولا تنافي بين إباحة الشيء بعنوانه الأولي وبين حرمته بعنوانٍ ثانوي كما هو واضح, لكن ممّا يُهوّن الخطب أنّ دليل تحريم الضرر رافع لموضوع الوجوب, كما في الوضوء الضرري والصوم الواجب الضرري لأخذ القدرة العرفية فيهما والضرر يرفعها, والممنوع شرعاً كالممنوع عقلاً, فلا تصل النوبة إلى المعارضة.

المقام العاشر: في نسبة قاعدة لا ضرر مع قاعدة لا حرج

لا ريب في أنّ قاعدة لا حرج من القواعد المعتبرة ويدلّ عليها الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ)(1), والسنة المستفيضة التي وردت في أبوابٍ متفرقة, وإجماع الإماميّة بل المسلمين, بل ويصح أنْ يقال بأنّ هذه القاعدة من القواعد العقلائية لأنّ العقلاء يستنكرون التكاليف الحرجية التي تصدر من المواليالعرفية بالنسبة إلى عبيدهم, وهي من القواعد العامة التي تجري في جميع أبواب الفقه.

قد يقال: بأنّ مقتضى قوله تعالى: ( رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)(2), وما ورد من أنّ بني إسرائيل كانوا إذا أصابتهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض؛ جواز التكليف الحرجي؟.

ولكن يرد عليه:

إنّ الآية الكريمة وضحت ما يلي:

أولاً: إنّ الإصر عبارة عن الضيق والثقل ومُطلق المشقة وهو أعمّ من الحرج وغيره؛ فإنّ العناوين المذكورة في المقام وغيره ثلاثة؛ المشقة, والحرج, والضرر, ولا ريب في أنّ الأول

ص: 259


1- . سورة الحج؛ الآية 78.
2- . سورة البقرة؛ الآية 286.

أعمّ من الأخيرين والثاني أعمّ من الثالث؛ فإنّ إتيان الصلاة مثلاً في المسجد فيه ضيق ولكنه ليس حرجياً, وكذا فورية قضاء الصلوات والصيام ونحو ذلك فإنّ فيها الضيق دون الحرج, وأمّا الصلاة في مهبّ الريح الشديد أو مع وجود الألم في عضوٍ من أعضاء المصلي فهي حرجية من دون أن تكون ضررية, كما أنّ الصلاة في حالة تُوجب زيادة المرض تكون ضررية, فيكون المراد من الآية الشريفة عدم تحميلنا هذا النحو من الضيق والمشقة لا الحرج وما لا طاقة للمكلف به، والذي يكون هو المقصود من قوله تعالى في نفس الآية: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)(1).

ثانياً: إنّه إذا كان المراد من الإصر هو الحرج فهو إنَّما كان في بني إسرائيل عقوبة لهم على ما صدر منهم من المعاصي, فهي عقوبات دنيوية مستعجلة وقد رفعت عن أمة نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم كما رُفع عنهم عذاب الإستئصال إكراماً من الله عزّ وجلّ له صلی الله علیه و آله و سلم ؛ حيث أرسله رحمةً للعالمين.

ثالثاً: إنّه لم يُعلم أنّ تلك كانت أحكاماً وتشريعات إلهية حتى يقال بأنّها منفية بآية نفي الحرج, بل الظاهر أنّ المراد هو وزر الأعمال وآثارها السيئة, فيكون المحصل من الآيات الكريمة الواردة في هذا الموضوع أنّه لا حرج في التشريعات الإلهية والأحكام الربانية بل يُعتبر ذلك من أهمّ مقومات دين الله تعالى, كما يدلُ عليه قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبراهِیمَ)(2) منضمّاً إلى قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)(3) فكانت الدلالة على ما ذكرناه واضحة.

ص: 260


1- . سورة البقرة؛ الآية 286.
2- . سورة الحج؛ الآية 78.
3- . سورة البقرة؛ الآية 286.

وأمّا الخبر؛ فإنّه يجري فيه ما ذكرناه آنفاً من أنّه لم يُعلم كونه حكماً شرعياً بل عقوبة مستعجلة لهم في الدنيا, مع أنّه ربّما كان ذلك أمراً عادياً عندهم بعدما أخبر سبحانه وتعالى عن أحوال الأمم السابقة من أنّهم كانوا أعظم أبداناً وأشدّ قوةوتميزوا بضخامة أجسادهم، وهذا ما يقتضيه قانون التطور ودلّت عليه الإكتشافات الحديثة, كما أنّ المُستفاد من بعض النصوص أنّ الإنسان في بداية أمره في هذا العالم كان عظيم الجثة ذو قوة شديدة ولكن إدراكاته العقلية كانت بسيطة, وبحكم قانون الأدوار والأطوار إنعكس الأمر فأصبحت إدراكاته العقلية أقوى وتميزت بالدقة والحذاقة بخلاف جسمه وبدنه حيث بلغ مرتبة دانية من الحجم والقوة, وقد صحّ بالتجربة والبرهان قانون التطور وقانون البقاء للأصلح كما قال أمير المؤمنين علیه السلام : (بَقِيَّةُ السَّيْفِ أَنْمَى عَدَداً وَأَكْثَرُ وَلَداً)(1).

ثمّ إنّه كلّما قيل في فقه قاعدة (لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَارَ) يجري في قاعدة -لا حرج في الدين- بلا فرقٍ بينهما من هذه الجهة, فتجري الأقوال الأربعة المتقدمة, كما أنّ مفادها ترخيصي وليس على نحو العزيمة فيصح العمل لو تحمل الحرج وأتى به, وما استشكل به في قاعدة لا ضرر يجري في المقام أيضاً فقد قيل: من أنّه إذا سقط الأمر لأجل الحرج لا وجه لصحة العمل العبادي لتقومها بقصد الأمر.

وقد عرفت الجواب عنه بأنّ سقوط الأمر من أجل العذر لا يوجب سقوط الملاك الكاشف عن بقائه, مضافاً إلى إطلاقات إستصحاب البقاء بعد كون السقوط ترخيصياً لا عزيمة, وما يُتوهم من أنّه يستلزم منه التخيير بين الطهارة المائية والطهارة الترابية مثلاً في ما إذا كانت المائية مستلزمة للحرج مردودٌ؛ بأنّه لا ريب في الإختلاف الرتبي بينهما ثبوتاً وإثباتاً, فلا معنى لثبوت التخيير الذي يعتبر فيه التساوي من كلّ جهةٍ, ثمّ إنّ ظاهر الفقهاء

ص: 261


1- . عيون الحكم والمواعظ (للّيثي)؛ الحكمة 4004.

التسالم على عدم حلية المحرمات من أجل الحرج, فمن كان في حرج من عدم الكذب أو عدم الإغتياب ونحوها لا تحلّ له؛ بلا فرق بين الصغائر والكبائر, كما هو ظاهر كلماتهم ودليلهم الإجماع, ولأنّ مفسدة الإرتكاب أكثر بمراتب من مصلحة الترخيص ما لم يكن في ترك الإرتكاب ضرر أهم.

وبهذا افترقت قاعدة الحرج عن قاعدة لا ضرر, كما أنّها تفترق عن قاعدة لا ضرر في أنّ الأخيرة حاكمة على الأدلة التي تتكفل بيان الأحكام بعناوينها الأولية أو الثانوية كالنذر والعهد واليمين كما تقدم بيانه, وإنّ الظاهر هو سقوط الأحكام في مورد الضرر خطاباً وملاكاً لا خطاباً فقط حتى يكون من المتزاحمين اللذين يقدم أحدها على الآخر مع تحقق الملاك فيهما. أمّا تقديم قاعدة لا حرج فإنّما يكون من باب الرخصة دون العزيمة, فمن توضأ مع علمه بكونه ضرراً بالنسبة إليه يبطل وضوئه, بخلاف ما إذا كان حرجياً؛ فإنّه يصح وضوئه, فلا تنفي قاعدة لا حرج التكاليف الأولية المجعولة لِما عرفت, وربّما تتقدم قاعدة نفي الحرج على قاعدة لا ضرر في بعض الموارد, كما إذا كان المالك في حرجٍ ومشقة من عدم البالوعة في داره مثلاً وإنْ لم يكن متضرراً بذلك ولكن يتضرر الجار منها فإنّهيجوز للمالك حفرها, لأنّ تحمل الحرج لدفع الضرر عن الغير منفي بقاعدة نفي الحرج فتكون حاكمة على قاعدة لا ضرر كحكومة قاعدة السلطنة عليها في الجملة, ولكن عرفت الإشكال في بعض الصور كما تقدم بيانه مفصلاً فراجع.

هذا ما يتعلق بقاعدة نفي الحرج والتفصيل في الفقه إنْ شاء الله تعالى.

المقام الحادي عشر: في بعض تطبيقات القاعدة

منها؛ ما إذا أقدم المكلف على موضوع يترتب عليه حكم ضرري, كمن أجنب متعمداً مع كون الغسل ضرراً بالنسبة إليه, ومثله ما لو شرب دواءً يتضرر معه الصوم؛ فالمعروف أنّ الإقدام لا يوجب عدم جريان قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى الغسل فينتقل حكمه إلى التيمم

ص: 262

في الفرع الأول ويسقط عنه الصوم في الفرع الثاني لقاعدة لا ضرر, وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) في وجه ذلك من أنّ المجنب نفسه وشارب الدواء لم يكونا مكلفين بالغسل والصوم لأنّهما ضرريان بالنسبة إليه فيكون الضرر مستنداً إلى الحكم الشرعي, والإقدام في الموردين لا ينفي الإسناد المذكور؛ لأنّ فعله بمنزلة المقدمة الإعدادية لثبوت الحكم الضرري لأنّه كان في ظرف مباح لا ضرر فيه.

ومنها؛ ما لو استأجر أرضاً إلى مدّة وبنى فيها بناءً أو غرس شجراً فيها تبقى بعد انقضاء مدّة الإجارة؛ فقال قدس سره : بأنَّ لمالك الأرض هدم البناء أو قلع الشجر وإنْ تضرر المستأجر؛ وذلك لأنّه مع علمه بعدم استحقاقه للغرس والبناء بعد مضي مدّة الإجارة فقد أقدم على الضرر, ولا يستند الضرر إلى الحكم الشرعي بل إلى إقدامه.

ومنها؛ ما لو غصب لوحاً من شخص ونصبه في سفينة, ويجري في غيرها من الآلات والأجهزة الحديثة, كمن نصب جزءً حساساً مغصوباً في جهاز من الأجهزة الحديثة التي يملكها فقال بأنّ لمالك ذلك الشيء المغصوب نزعه من السفينة أو الجهاز وإنْ تضرر مالكهما وبلغ ما بلغ الضرر؛ مالم يستلزم منه تلف نفس محترمة أو مال, فالإقدام في مثل هذا الفرع يمنع من جريان قاعدة لا ضرر في حقّ الغاصب. وتمسك المحقق النائيني قدس سره لعدم شمول قاعدة لا ضرر في الفرع الأخير بوجهين آخرين:

الأول: إنّ كسر السفينة أو الجهاز ليس ضرراً على صاحبها؛ لأنّه مع كون اللوح مغصوباً فإنّ صاحب السفينة لا يكون مالكاً لتركيبة السفينة وهيئتها فإذا لم يكن مالكاً لها لم يكن رفعها ضرراً عليه, لأنّ الضرر هو النقص في المال الذي يملكه فحال نزع اللوح بعد النصب حال انتزاعه من الغاصب قبل النصب.

ص: 263


1- . رسالة في قاعدة لا ضرر؛ ص218.

الثاني: إنّه قد دلّ الدليل على أنّه ليس لعرق ظالم حقّ.

ثمّ أطال الكلام في الفرق بين الفروع الثلاثة بعد بيان الضابط في الفرق بين العباديات وغيرها, ففي العباديات؛ فإنّ الإقدام لا يمنع من جريان قاعدة لا ضرر, بخلاف المعاملات؛ فإنّه يمنع من جريان القاعدة فيها, والمتحصل من جميع ما ذكره قدس سره أنّه تمسك بوجوهٍ ثلاثة في المعاملات كما عرفت.

ويمكن الإشكال على ما ذكره:

أمّا الوجه الأول؛ وهو دعوى استناد الضرر إلى إقدامه وعصيانه التكليف بالرد الثابت قبل النصب في الجهاز والسفينة؛ فإنّه يرد عليه:

1- إنّه يبتني على كون التكليف بالرد تكليفٌ واحد, ولكن الحقّ إنّه لا ينحصر التكليف بالرد في وقت معين بل ينحلّ إلى تكاليف عديدة بتعدد الأزمنة, فيتعدد الإمتثال والعصيان بعدد الآنات, وعليه يكون التكليف قبل النصب غير التكليف به بعد النصب؛ لأنّ في الأول لم يحدث ضرراً بخلاف الثاني فإنّه ضرري, وفيه يكون الضرر مستنداً إلى الحكم بالرد لا إلى إقدام المكلف وحده فإنّه بمنزلة المقدمة الإعدادية لثبوت الحكم بالرد بعد النصب فيكون ضررياً, وهذا الجواب مبني على ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من أنّ قاعدة لا ضرر إنَّما تجري فيما إذا كان الحكم علة للضرر, وأمّا على ما اخترناه من أنّه لا حاجة إلى هذه الدقة في جريان قاعدة لا ضرر, بل يكفي الإستناد العرفي, وهو صادق في المقام وإنْ لم يكن الحكم الجزء الأخير من العلة للضرر, وعلى كِلا الإحتمالين فإنّ الضرر في كِلا الفرعين السابقين؛ الإجارة وغصب اللوح والجهاز وغيرها مستنداً إلى الحكم الشرعي بالرد في هذه الحالة, فالإقدام على الضرر إنَّما هو

ص: 264

مقدمة إعدادية لثبوت الحكم الضرري, فما ذكره المحقق المزبور إنَّما يستند إلى أنّ التكليف بالرد تكليف واحد وهو غير صحيحٍ كما عرفت.

2- ما يستفاد من كلمات المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنّ الإقدام على الضرر إنَّما يصدق إذا كان الضرر يستند إليه لا إلى الحكم؛ وذلك إذا فرضنا عدم شمول حديث لا ضرر لمورد الإقدام وإلا فلا ضرر حتى يقال إنّه أقدم عليه, فعدم شمول لا ضرر يتوقف على ثبوت الإقدام على الضرر بحيث يصح إسناد الضرر إلى الإقدام لا إلى الحكم, وهو دورٌ واضح.

وتوضيح ذلك: إنّ الإقدام على الضرر إنَّما يصدق إذا كان المكلف عالماً بعدم رفع الحكم الضرري, أمّا إذا لم يعلم ذلك بأنْ أقدم على العمل موطّناً نفسه على مايحكم به الشارع بعد ذلك فلا يكون ذلك إقداماً على الضرر, بل هو إقدام على الضرر على تقدير حكم الشارع عليه لا له, فلا يمكن أنْ يحكم الشارع عليه إستناداً إلى إقدامه على الضرر فإنّه خلفٌ كما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره في بحث خيار الغبن في حاشيته على المكاسب.

وأمّا الوجه الثاني؛ وهو إنّ نزع اللوح عن السفينة أو نزع الأداة عن الجهاز لا يوجب ضرر على مالكهما لعدم ملكية الهيئة التركيبية الحاصلة من نصب اللوح, ففيه؛ إنّه خلاف مفروض الكلام الذي كان فيما إذا استلزم النزع ضرراً زائداً على فوات الهيئة التركيبية.

وأمّا الوجه الثالث؛ وهو التمسك بما ورد من أنّه ليس لعرق ظالم حقّ, فإنّ المراد منه عدم احترام مال الظالم والغاصب المرتبط بنفس المغصوب, كأن يوجِد عملاً في المغصوب كما لو غصب فضة فصاغها خاتماً فإنّه لا يحكم بشركته في الخاتم أو ثبوت الأجرة له, لا أنْ يكون المراد من الحديث عدم احترام جميع أمواله، فإنّه لا قائل به, بل هو بعيدٌ عن سياق

ص: 265


1- . حاشية كتاب المكاسب للإصفهاني (ط. الحديثة)ج4 ص250.

الخبر, وعليه؛ فإنّ غصب اللوح لا يقتضي عدم إحترام بقية الألواح التي يملكها أو المال المحمول على السّفينة. والمتحصل من جميع ذلك؛ يظهر أنّ ما ذكره قدس سره من الوجوه الثلاثة غير تام في اللوح المغصوب وغيره من المسائل المستحدثة.

وقد يُستدلّ بما هو المعروف في الألسنة بأنّ الغاصب يُؤخذ بأشقّ الأحوال على جواز نزع مالك اللوح وإنْ أوجب ضرراً على الغاصب, ولكن ذلك لم يثبت بحديث يصحّ الإستناد عليه, ولم يأخذ الفقهاء بمفاده على الإطلاق, وتفصيل الكلام موكول إلى كتاب الغصب.

ومن جميع ذلك يظهر حكم الفرع الآخر الذي تقدم ذكره وهو بقاء الغرس والبناء بعد انقضاء مدّة الإجارة؛ فإنّ فيه تفصيلاً قد ذكره الفقهاء في خيار الغبن.

ومن التطبيقات لقاعدة الضرر؛ التّولي من قبل الجائر الذي هو حرامٌ بلا إشكال ولكنه يمكن أنْ يتّصف بغير الحرمة إذا أكرهه الظالم على التولي, وهو على نحوين:

الأول: أنْ يكون المُكره عليه هو الإضرار بالغير بحيث يكون الضرر أولاً وبالذات متوجهاً على الغير من قبل المكره؛ كما إذا أمره السلطان بضرب شخص أو هدم داره وتوعده على تركه بإضراره.

الثاني: أنْ يكون المكره عليه أمراً ضررياً بالنسبة إلى المكره, ولكن من الممكن له دفع الضرر عن نفسه بإضرار الغير.

أمّا النحو الأول؛ فإمّا أنْ ينحصر ظلم الغير بالمكره بحيث إذا تركه لا يقوم به غيره, وإمّا أنْ لا يكون كذلك بل يتحقق على يد غيره.

أمّا الإحتمال الأول؛ فإنّه لا ريب في ارتفاع الحكم التكليفي عنه بالإكراه وهو حرمة إتلاف مال الغير أو التصرف فيه بدون رضاه ونحو ذلك؛ لعموم أدلة رفع الإكراه ودليل نفي الضرر. وأمّا الحكم الوضعي -وهو الضمان- فقد يقال بارتفاعه أيضاً عن المكره؛

ص: 266

لأنّه لو أثبتنا الضمان عليه يستلزم منه ارتداعه عن إتلاف مال الغير, وارتداعه يستلزم الضرر المتوعد عليه لأنّه يخالف الظالم الجائر فيُرفع عنه هذا الضرر بحديث لا ضرر.

ويرد عليه بأنّ رفع الضمان عنه يستلزم الضرر على الغير وهو من أتلف ماله, وفي مثل ذلك لا تجري قاعدة لا ضرر في حقّ المُتلف, وحينئذٍ يثبت الضمان عليه بمقتضى دليل (من أتلف مال غيره فهو له ضامن).

وأمّا الإحتمال الثاني؛ فلا إشكال في ارتفاع الحكم التكليفي أيضاً لما ذكرناه آنفاً من أدلة نفي الإكراه ودليل نفي الضرر, وأمّا الحكم الوضعي فقيل برفعه أيضاً لما تقدم من أنَّ جعله على المُكره يترتب عليه الإرتداع منه المستلزم لإضرار الجائر به, ولا يعارضه هذا الضرر الواقع على الغير, لأنّه واقع على كلّ حال؛ منه أو من غيره فلا يكون تركه مستلزماً لرفع الضرر عن الغير كما هو كذلك في الإحتمال الأول.

والصحيح؛ إنّه لا بُدَّ من مُلاحظة الضررين؛ المُكره عليه والمُتوعّد عليه من حيث الأهميّة وتقديم ما هو الأقل ضرراً على الأكثر, وعند التساوي يتخيّر المكلف المُكرَه إنْ لم يكن رفعه بالأقل ضرراً ونحوه.

أمّا النحو الثاني؛ فيما إذا كان المُكره عليه أمراً ضررياً بالنسبة إلى المُكرَه مع إمكان رفع الضرر عن نفسه بإضرار الغير, فإنّه لا إشكال في عدم جواز إضرار الغير لدفع الضرر عنه؛ لأنّ دفع الضرر عن نفسه مُعارض بإضرار الغير, وهذا واضحٌ.

لكن يمكن القول هنا أيضاً؛ بأنّ إضرار الغير إذا كان أقلّ من إضرار نفسه فإنّه يجوز مع الضمان, هذا كلّه فيما إذا لم يكن الضرر المُكره عليه هو القتل, وإلا فلا يجوز ولو استلزم قتل المُكره للحديث المعروف (إنّما شُرّعت التقية لحقن الدّماء؛ فإذا بلغت الدّم فلا تقية) وتفصيل الكلام في الفقه.

ص: 267

ومن التطبيقات ما إذا وضع آلة في جهاز بحيث لا يمكن إخراجها إمّا بإتلافها أو بإتلاف الجهاز, وقد مثّل الفقهاء لذلك في كتبهم بما إذا ادخلت الدابة رأسها في القدر بحيث يدور الأمر بين قتل الدابة وتخليص القدر أو كسر القدر وتخليص الدابة, وقد ذكروا صوراً ثلاث في المقام:

الصورة الأولى: أنْ لا يكون ذلك من فعل شخص, كما إذا تحقق بدون اختيار أحد, وفي هذه الصورة إحتمالاتٍ:الإحتمال الأول: ما إذا تساويا في الثمن؛ فإنْ قلنا بجواز قتل الدابة من قبل صاحب القدر لتخليص قدره فهو يُخالف حرمة إتلاف مال الغير, وإنْ قلنا بجواز كسر القدر من قبل صاحب الدابة لتخليص دابته فهو يُخالف حرمة إتلاف مال الغير أيضاً, وكِلا الحكمين ضرري بالنسبة إلى المكلف فهما مرتفعان بحديث لا ضرر. ولكن يصح أنْ نقول بأنّ لكلّ واحدٍ منهما تخليص ماله مع ثبوت الضمان عليه بالنسبة إلى الآخر, ولا يُعارض الضرر الناشئ عن تحريم التصرف فيه لارتفاعه بلا ضرر, كما أنّه لا تعارض بين إجراء لا ضرر في أحدهما وإجرائه في الآخر, ولا يجري فيه ما ذكرناه في الإحتمال الثاني السابق.

والحقّ؛ إنّ ما ذُكر لا يرفع النزاع بين المالكين لأنّه مع الحكم بالضمان لا يقدم أحدها على تخليص ماله بخسارة ما يساوي قيمة ماله الذي يريد تخليصه, فلا بُدَّ من جعل طريقة لتخليص أحد المالين وعدم بقائهما محجوزين من الإنتفاع. والأصحُّ؛ هو الرجوع إلى الحاكم الشرعي أو قاعدة العدل والإنصاف أو القرعة في تعيين من يخلّص ماله؛ فإنّها لكلّ أمرٍ مُشكل, وقيل بتوزيع الضرر عليهما بالسوية لقاعدة العدل والإنصاف المعروفة؛ فإذا خلّص أحدها ماله يدفع إلى الآخر نصف قيمة ماله ولكن الصحيح هو الأول أو الثاني؛ لعدم قطع الأخير النزاع؛ إذ كلّ واحدٍ منهما يريد تخليص ماله, والخلاف في من هو

ص: 268

له الحقّ بالسبق, ويتحقق إمّا بالقرعة أو الرجوع إلى الحاكم الشرعي في تعيين الأسبق أو عدول المؤمنين كذلك.

الإحتمال الثاني: ما إذا اختلفا في الثمن فإنّه لا بُدَّ من تخليص ما هو أكثر قيمة بإتلاف ما هو الأقل وضمان قيمته على المتلف, لأنّه بإتلاف الأكثر قيمة ضرر على صاحبه فلا وجه لتحمله مع دفعه بالأقل والضمان.

الصورة الثانية: أنْ يكون ذلك من فعل أجنبي؛ فإنّه لا إشكال في ضمانه لقيمة إحدى العينين سواءً كانت قيمتهما متساوية أم بالإختلاف, لكن الدليل ليس الإضرار بكلٍّ من المالكين؛ إذ لم يتحقق من فعله إتلاف المالين, كما أنّه لم يتحقق منه إتلاف أحدهما المردد أو لا مالية للمردد بعد عدم وجوده, بل الدليل إنّه بعد إتلاف أحدهما وتخليص الآخر يجب على الأجنبي دفع قيمة ما أتلف إلى من أتلف ماله, وحينئذٍ قد حصل أحدهما على ماله والآخر على قيمة ماله. هذا وأمّا تقديم إتلاف أحدهما المعيّن؛ فإمّا أنْ نرجع فيه إلى ما هو أخفّ ضرراً أو أقلّ قيمة, أو يُرجع إلى القرعة إذا تحقق تنازع بين المالكين إنْ لم تتحقق المصالحة بينهما بوجه من الوجوه.

الصورة الثالثة: ما إذا كان ذلك بفعل أحد المالكين فيكون الذي أوجب ضرر صاحبه في ملكه فيلزمه أنْ يخسر قيمة ما أتلفه على الآخر, وهذا هو الموافق للذوق الفقهي.

وأشكل عليه بأنَّ تطبيق ذلك على القواعد الصناعية مشكل, بل مقتضى قاعدة العدل والإنصاف في جميع الصور المتقدمة هو توزيع الضرر على المالكين بالسوية, فإذا خلّص أحدهما ماله يدفع إلى الآخر نصف قيمة ماله, وأمّا من يقوم بذلك فنرجع فيه إلى القرعة أو الحاكم الشرعي فيتولى بنفسه ذلك التعيين, ولكنهُ تبعيد للمسافة؛ فإنّه بعد الرجوع إلى أهل الخبرة في تعيين خصوصيات الضمان ومن أوجبه تكون الخسارة عليه فتشمله قاعدة الإتلاف الشاملة للعين والوصف فيستحق من تلف عين ماله تمام القيمة بلا إشكال.

ص: 269

وقد أفاد السيد الخوئي قدس سره (1) في الصورة الثالثة المتقدمة أنّ اللازم إتلاف مال المسبب معللاً بلزوم ردّ المال إلى صاحبه, وقيل في الإشكال عليه؛ بأنّه صحيحٌ فيما إذا كان المسبب قد ضمن مال صاحبه بوضع اليد عليه فيجب ردّه إلى مالكه صحيحاً وإتلاف مال نفسه, وأمّا إذا لم يتحقق ذلك؛ بأنْ كان إدخال الثور رأسه في القدر بسبب فعله ومن دون أنْ يجعل يده على القدر حتى يضمنه فالحكم ما ذكرناه.

لكن يمكن الرد على هذا الإشكال؛ بأنّ من كان سبباً في ذلك يُعد عند العرف بمنزلة وضع اليد عليه. والصحيح من الإيراد هو أنّه لا بُدَّ من الرجوع إلى ما ذكرناه من تقديم الأقلّ قيمة أو الأخف ضرراً وإلا تحمل المالك ما زاد عن الضرر إنْ أراد استخلاص ماله الأقلّ والأخفّ؛ فافهم.

كما أنّه ذكر أنّ الضرر المردد الوارد في هذا القسم بجميع صوره ليس ضرراً من جهة الحكم الشرعي بل هو ثابت مع قطع النظر عنه.

ويرد عليه؛ إنّ الضرر إنَّما نشأ من جهة حكم الشارع بحرمة تصرف كلٍّ منهما في ملك الآخر وعدم جواز إتلافه كما هو واضح.

ومن جميع ذلك يظهر؛ إنّ قاعدة الضرر هي من القواعد العامة وتتقدم على جميع الأحكام, ولكن ذكر بعضهم أنّها قد تتخصص في مواردٍ فلا يصح الرجوع إليها, كما في مسألة إجناب المرء نفسه مع العلم يكون استعمال الماء مضراً له؛ فإنّه يجب عليه الغسل وإنْ تضرر؛ إستناداً إلى خبرٍ ورد في ذلك, ولكن فيه كلامٌ يأتي في بحث التيمم إنْ شاء الله تعالى.

ص: 270


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص563.
المقام الثاني عشر: تقدم ما يتعلق بتعارض الضررين وصوره

نكتفي في المقام بما أفاده المحقق النائيني قدس سره عند الكلام في قاعدة لا ضرر, فقد ذكر أنّ تصرف المالك في ملكه المستلزم للضرر على جاره له صورٌ أربع:

الأولى: أنْ يكون التصرف في ملكه لدفع ضرر يتوجه عليه بترك التصرف.الثانية: أنْ يكون التصرف في ملكه لجلب نفع من دون أنْ يكون هناك ضرر فيتركه.

الثالثة: أنْ يكون التصرف في ملكه لا لجلب نفع ولا لدفع ضرر, لكن مع قصد الإضرار بالجار.

الرابعة: أنْ يكون التصرف عبثاً من دون قصد الإضرار.

أمّا الصورة الأولى؛ فقد ذكر قدس سره أنّ ظاهر الأصحاب رعاية ضرر المالك, فيجوز تصرفه ولو كان ضرر الجار أعظم, بل هو من مصاديق عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عن الغير, وقد عرفت كلام المحقق الأنصاري؛ بأنّ المرجع في هذه الحالة عمومُ الناس مسلّطون على أموالهم.

وأورد المحقق النائيني قدس سره ؛ بأنّه ليس في هذه الصورة تعارض ضرر المالك وضرر الجار حتى نلتمس الترجيح فيُقدم أحدهما على الآخر بما ذكر, بل لا يمكن أنْ يصدر حكمان متضادان من الشرع, فالحكم المجعول منه إمّا جواز تصرف المالك في ملكه, وإمّا عدم جوازه؛ فإذا كان الحكم هو جواز التصرف -كما هو مفاد عموم الناس مسلطون على أموالهم- فيكون مطلقاً حتى لو كان ذلك مُوجباً للضرر على الغير, إذ لو كان مرفوعاً بقاعدة لا ضرر وإنْ استلزم الضرر على المالك فإنّ هذا الضرر الناشئ من ناحية حكومة لا ضرر على قاعدة السلطنة لا يمكن أنْ يكون مشمولاً بقاعدة لا ضرر.

وإنْ كان الحكم هو حرمة تصرف المالك فهو ضرري على المالك فيكون مرفوعاً بقاعدة لا ضرر, فلو استلزم رفعه الضرر على الجار فلا يشمله عموم لا ضرر؛ لأنّه لا يشمله الضرر

ص: 271

الناشئ من ناحية تحكيمها, ولعلّ السر يرجع إلى أنّ قاعدة لا ضرر حاكمة على الأحكام الثابتة في الشريعة, فتُوجب عمومها على غير موارد الضرر, ومن الواضح أنّ ذلك يستلزم أنْ نفرض الحكم في مرحلة سابقة على القاعدة لتقدم المحكوم رتبة على الحاكم, وعليه؛ فلا يمكن أنْ يكون دليل لا ضرر شاملاً للضرر الناشئ من تحكيمه؛ لأنّه يستلزم أنْ يكون ناظراً إليه ومتأخراً عنه, إذ المفروض أنَّ هذا الضرر متأخر عن دليل لا ضرر؛ فكيف يكون محكوماً لدليل لا ضرر, فهو خلفٌ.

وحاصل ما أفاده قدس سره في هذه الصورة؛ إنّه في ابتداء كلامه قرب حكومة لا ضرر على قاعدة السلطنة بحسب الصناعة الأصولية.

وعليه؛ فلا يجوز للمالك التصرف في ملكه إذا استلزم الضرر على الجار, ولكن في آخر كلامه ذهب إلى تقديم قاعدة السلطنة على قاعدة لا ضرر لأنّها وردت مورد الإمتنان, وهو يقتضي أنْ لا يكون رفع الضرر موجباً للوضع, فسلطنة المالك لا ترتفع بضرر الجار إذا كان ترك التصرف موجباً لوقوعه في الضرر,فهذه الصورة لا تدخل في عموم قاعدة لا ضرر فتبقى قاعدة السلطنة بلا تخصيص, وبالجملة؛ لا يمكن أنْ يكون مورد تعارض ضرر المالك مع ضرر الجار, إذ ليس من موارد تعارض الحكمين الضرريين, بل ليس هنا إلا حكمٌ واحدٌ ضرري، ورفعه وإنْ استلزم الضرر لكن الضرر الناشئ من تطبيق قاعدة لا ضرر لا يمكن أنْ يكون مشمولاً لدليل نفي الضرر للزوم الخلف.

ثمّ ناقش المحقق الأنصاري قدس سره في بعض مواضع كلامه المذكور في محلّه فراجع.

والحقّ؛ إنّ ما ذكره قدس سره لا يمكن المساعدة عليه لِما ذكرناه في البحوث السابقة من أنّه يمكن الإلتزام بانحلال نفي الضرر إلى أفراد متعددة بتعدد الأحكام الضررية, فيكون النفي المتعلق بالحكم الناشئ من قاعدة لا ضرر غير النفي الذي نشأ منه الحكم الضرري,

ص: 272

فلا خلف نظير ما ذكر في شمول دليل حجية الخبر لخبر الواسطة, وقد تقدم مزيد كلام فراجع.

وقال بعض الأعلام (قدّست أسرارهم) في توجيه كلام المحقق النائيني قدس سره ؛ إنّ دليل نفي الضرر إذا تكفّل نفي السلطنة فلا يجوز للمالك التصرف؛ لكونه ضررياً على الجار ويحرم عليه التصرف في ملكه, فلو أريد تطبيق لا ضرر بالنسبة إلى هذه الحرمة باعتبار أنّها ضررية على المالك كان معنى ذلك نفي لا ضرر, لأنّ الحرمة ثبتت بالقاعدة, فإذا فُرض نفيها كان معناه عدم جريان القاعدة, وهذا يقتضي أنْ يلزم من وجود القاعدة عدمها, وهذا معنى نفي قاعدة لا ضرر, ومنشأ ذلك هو إطلاق لا ضرر الشامل للضرر الناشئ من تطبيقها, فيكشف ذلك عدم وجود هذا الإطلاق بحيث يشمل الضرر الناشئ من قبل نفس القاعدة, وعليه؛ فإنّ القاعدة لا تشمل الحرمة الناشئة من تطبيق لا ضرر في قاعدة السلطنة لِما ذكرناه من المحذور العقلي من استلزام وجود الشيء عدمه, ويشبه هذا المحذور ما ذكر في المثال المعروف (كل خبري كاذب) الشامل لنفسه وكذا كلّ ما يتكفل حكماً سلبياً, ولكن لا يتأتى هذا المحذور في مثل (كل خبري صادق) في شموله لنفسه أو مثل (صدّق العادل) في شموله لخبر الواسطة, فإنَّ المحذور فيه ليس إلا محذور الطولية والتقدم والتأخر الرتبي الذي يندفع بالإلتزام بالإنحلال أو بتنقيح المناط ونحو ذلك ممّا تقدم بيانه.

ويرد على هذا التوجيه أيضاً بأنّه إنَّما يلزم إذا كان موضوع نفي الضرر هو الحكم الضرري المحقق نظير (كل خبري كاذب) في كون موضوعه الخبر المتحقق خارجاً, ولكن الأمر ليس كذلك؛ إذ يمتنع أنْ يكون المنفي بلا ضرر هو الحكم الثابت المحقق خارجاً, إذ نفيه خلف تحققه, بل المنفي بقاعدة لا ضرر هو الحكم الضرري المقدر بمعنى أنّ كلّ حكم إذا

ص: 273

فُرض وجوده كان ضررياً فهو مرتفعٌ وغير ثابت, وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع أنْ يشمل أحد أفراد نفي الضررحكماً ضررياً ناشئاً من فردٍ آخر ولا يلزم منه المحذور المتقدم؛ لأنّ شموله لذلك الحكم ليس متفرعاً على تحققه حتى يكون نفيه مستلزماً لانتفاء ذلك الفرد, فيكون الفرد محققاً لموضوع ما ينفيه وهو ممتنع.

وكيف كان؛ فما ذكره المحقق النائيني قدس سره في ظاهر كلامه وما قيل في توجيهه غير تام.

والحقّ أنْ يقال في هذه الصورة؛ إنّه يجوز للمالك التصرف في ملكه وإنْ استلزم الضرر للجار لقاعدة السلطنة, ولا تشمله قاعدة لا ضرر إلا إذا كان الضرر جسيماً بحيث لا يتحمله العرف وكان أعظم من الضرر الذي يُصيب المالك لو منع عن التصرف في ملكه؛ وبذلك يمكن الجمع بين القاعدتين -قاعدة السلطنة في الملك وقاعدة نفي الضرر- إذا استلزم من تصرف المالك في ملكه ضرر الغير.

وقيل في جواز تصرف المالك وجهين آخرين:

الأول: إنّ الجواز والإباحة ليس من الأحكام المستتبعة للضرر فلا يلزم من جعلها الضرر كما لا يلزم من رفعها رفع الضرر, فإنّ عدم جعل الإباحة لا يعني التحريم.

وفيه: إنّه مبني على عدم جريان القاعدة في الأحكام الترخيصية, ولكن تقدم من أنَّ الجواز والإباحة قد يقعان مورد قاعدة نفي الضرر إذا استلزم منها الضرر على الغير, وإطلاق القاعدة يشمل الإلزامية والترخيصية على حدٍّ سواء فراجع.

الثاني: إنَّ عموم السلطنة لا يشمل مورد ترتب الإضرار على الغير من التسلط, فهو لا يتكفل سوى جعل السلطنة في الجملة, فدليل السلطنة يقصر عن شمول ما نحن فيه حتى يكون مشمولاً لنفي الضرر, وعليه؛ فالحكم الذي يكون مورداً للقاعدة ليس إلا حرمة الإضرار بالغير أو إتلاف ماله, وبما أنّ حرمة الإتلاف ضرر على المالك فيرتفع بلا ضرر, فيثبت جواز التصرف له؛ فليس المورد من تعارض الحكمين الضرريين.

ص: 274

ويرد عليه بأنّه لا مانع من شمول قاعدة السلطنة للمورد وإنْ استلزم تصرف المالك الضرر للغير لعموم القاعدة, ولكن لا بُدَّ من ملاحظة ذلك الضرر مع ضرر المالك إذا مُنع من التصرف في ملكه, فإذا أجيز له التصرف فلا بُدَّ من تدارك ضرر الجار وضمانه؛ سواءً كان الضرر على الغير مالياً أم غير مالي كالضرر العرضي أو الأذى النفسي, والإقتصار على الأول لأنّه مورد القاعدة, قد عرفت الجواب عنه في ابتداء البحث عن هذه القاعدة فراجع.

هذا كلّه فيما يتعلق بالصورة الأولى, وكذلك الأمر في الصورة الثانية من الصور الأربعة المزبورة إذا قلنا بأنّ منع المالك من التصرف في ملكه يوجب سلب النّفع منه وهو ضرر فيشمله حديث لا ضرر, ولكن ذلك على إطلاقه ممنوع كما عرفت في أوائل البحث.وأمّا الصورة الثالثة؛ فلا إشكال في حرمة الإضرار بالغير ولا وجه لارتفاعها بحديث لا ضرر, لعدم كونها ضررية على المالك بحسب الفرض, وكذلك الحكم في الصورة الرابعة فلاحظ.

ثمّ ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره (1) في مطاوي بحثه إلى التمسك بقاعدة نفي الحرج لو مُنع المالك من التصرف في ملكه, وقال: يمكن القول بحكومة هذه القاعدة على قاعدة نفي الضرر.

فأشكل عليه المحقق النائيني قدس سره بوجهين(2)؛ أحدهما: إنّ قاعدة لا حرج لا عموم لها ليشمل الحرج الجوانحي فهي تختص بالحرج الجوارحي. والآخر: لا حكومة لقاعدة نفي الحرج على قاعدة لا ضرر.

وكِلا الوجهين غير تامين كما هو واضح.

ص: 275


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص538.
2- . رسالة في قاعدة لاضرر؛ ص224.

ومن جميع ما ذكرناه في هذه القاعدة يتبين أنَّه لا إشكال في هذه القاعدة سنداً ومتناً وهي من القواعد العامة وتتقدم على جميع الأحكام الثابتة في الشرع, وقد تتخصص في بعض الموارد فلا يصح الرجوع إليها كما قيل. كما أنّه تتقدم بعض القواعد عليها كقاعدة السلطنة وقاعدة نفي الحرج في بعض الموارد كما عرفت ذلك مفصلاً, والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ص: 276

الفصل السادس الإستصحاب

اشارة

الفصل السادس(1) الإستصحاب

الإستصحاب من الأصول المعتبرة عند جميع المسلمين ومن القواعد العامة الجارية في جميع أبواب الفقه, ويتميز هذا الأصل عن سائر الأصول العملية من جهات عديدة كما سيأتي بيانها؛ فإنّه لوجود اليقين والشك فيه إختلفوا فيه فاعتبره بعضهم من الأحكام الفقهية, وآخرٌ من الأصل العملي, كما عدّه ثالث من الأمارات؛ والقواعد باختلاف الحيثيات والجهات كما ستعرف إنْ شاء الله تعالى.

ولقد عُرّف بتعاريفٍ عديدة تدلّ على أهمية هذا الأصل عند الجميع وجميعها تُشير إلى المعنى المعهود عندهم إذ هي ليست حدود حقيقية حتى يستشكل عليها بالنقض والإبرام ولكنها تكشف عدم اختلافهم في حقيقة الإستصحاب من حيث كونه قاعدة أو أمارة أو أصل أو حكم فقهي, فكلٌّ يريد التعبير عن مبناه في تفسيره للإستصحاب, ولعلّ تعريف السيد الوالد قدس سره بأنّه (إسراء أثر ما يُعتذر به سابقاً إلى زمان الشك فيه)(2) يشمل جميع المباني كما سيأتي بيان ذلك إنْ شاء الله تعالى.

والكلام فيه يقع في عدّة مباحث, وقبل الدخول في التفاصيل لا بُدَّ من تقديم أمور.

المقدمة؛ وفيها أمور:

اشارة

الأمر الأول: تقدم مكرراً في بحوثنا الأصولية السابقة الفرق بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية والمسألة الفقهية, وحاصل ما ذكرناه:

إنّ المسألة الأصولية؛ هي الكبرى الكلية التي يُستنتج منها الأحكام الشرعية, فإذا قيل (كلُّ أمرٍ ظاهرٍ في الوجوب) فإنّه بضميمة (إنَّ هذا أمر) يُستنتج منه الوجوب لا محالة.

ص: 277


1- . من فصول مباحث الأصول العملية.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص247.

وأمّا القاعدة الفقهية؛ فهي التي تبحث عمّا يتعلق بالإنسان من حيث الوظيفة الشرعية, وهي لا تختص بباب دون باب, كقاعدة نفي الحرج ونفي الضرر وغيرهما من القواعد العامة, وقد تختص القاعدة الفقهية ببعض الأبواب كقاعدة (لا تُعاد الصلاة إلا من خمس) وقاعدة (لا شكّ لكثير الشك) ونحوهما, ولا يضر ذلك بأصلِ المطلوب.

وأمّا المسألة الفقهية؛ فهي التي تبحث عمّا يتعلق بوظيفة الإنسان العملية وتختص بباب خاص كوجوب الصلاة مثلاً, وقد تُطلق على ما لا يختص بباب, كوجوب الوفاء بالعقود الذي يجري في جميع أبواب المعاملات مطلقاً, ووجوب أداء حقوق الناس الجارية في الزكاة والفطرة والخمس والمعاوضات والنفقات والديات وغيرها.

ويمكن التمييز بين القاعدة الفقهية والمسألة الفقهية؛ بأنّ الأولى ما لوحظ فيها جهة الكلية في الجملة وإنْ اختصت بباب خاص, والمسألة الفقهية ما لم تُلحظ فيها تلك وإنْ لم تختص بباب، فالملاك في كلّ واحدة من هذه الثلاثة يختلف عن الأخرى وإنْ كان التمييز في بعض الموارد صعباً؛ ولذا يقع الخلاف عند العلماء في تعيين الملاك فيه. ولكنه لا يضر بعد وضوح أصل المناط في كلّ واحدٍ منها.

ومن الموارد التي وقع الخلاف فيه هو الإستصحاب؛ فإنّ فيه ملاك الأصل العملي وملاك الأمارة والقاعدة, فعبّر جمعٌ عن الإستصحاب بأنّه أصلٌ من الأصول العملية, وعدّه جمعٌ آخر من الأمارة, وجعله ثالث من القاعدة الفقهية فعبّر عنه بقاعدة الإستصحاب, والظاهر أنّ النزاع لم يرجع إلى حقيقة الإستصحاب واختلافهم فيها بل لأنَّ الإستصحاب اجتمع فيه ملاك كلّ واحدٍ منها فصار برزخاً بين الجميع, ويصح إنطباق تعريف الجميع عليه وجعله في كلّ بحث من مسائله كما هو الشأن في كثير من مسائل علم الأصول؛ حيث يكون فيها ملاك جملة من العلوم كما نبهنا في بحوثنا الأصولية.

ومن أجل ذلك يصح لنا القول -كما هو الظاهر من أدلة الإستصحاب- بأنّه من المسائل

ص: 278

الفقهية إذا جرى الإستصحاب في الموضوعات, ومن المسائل الأصولية إذا جرى في الأحكام لصحة وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي أو ما يصح الإعتذار به, ويكون حينئذٍ أمارة إذا لوحظ فيه حصول الظن النوعي منه بنحو الحكمة لا العلية, ويمكن أنْ يكون أصلاً إذا قطع النظر عن ذلك, فيكون الإستصحاب مجمعاً لعناوين كثيرة كما هو الشأن في كثير من المسائل الأصولية.

وممّا ذكرنا يظهر سرّ الإختلاف بين الأصوليين في حقيقة الإستصحاب؛ حيث اقتصر كلّ طائفة على جهة معينة في الإستصحاب وخصه بها وأقام البراهين عليه كما يظهر ذلك بوضوح عند مراجعة كلماتهم ونحن في غنىً عن ذكرها بعد ما عرفت, وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات ورفع النزاع بينهم فيكون لفظياً لا يضر بحقيقة الإستصحاب.

الأمر الثاني: وقع الخلاف بين الأصوليين في حقيقة الإستصحاب جعلاً بأنّه حكم ظاهري تشريعي أو أنّه أمارة أو قاعدة فيه النظر إلى الواقع؛ فاختار جمعٌ منهم أنّه حكمٌ شرعي ظاهري واستدلوا على ذلك ببعض الأمور, ولا بُدَّ من بيان حقيقة الحكم الظاهري, فقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) في إيضاحه وجهين:

الأول: إنَّ الحكم الظاهري حكم شرعي طريقي يجعله المولى نتيجة التزاحم الواقع بين الأحكام الإلزامية والأحكام الترخيصية الواقعية المشتبهة في مقام الحفظ التشريعي, فيرجح المولى ما هو الأقوى ملاكاً وأهميته على غيره بجعل حكم ظاهري على طبقه إلزاماً أو ترخيصاً, وسماه قدس سره بالتزاحم الحفظي في مقابل التزاحم الإمتثالي الذي ذكره المحقق النائيني قدس سره (2), والتزاحم الملاكي الذي ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره (3).

ص: 279


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص9.
2- . فوائد الأصول؛ ج3 ص621.
3- . كفاية الأصول؛ ص155.

الثاني: إنّ ترجيح الأحكام الواقعية المتزاحمة إمّا أنْ يكون بحسب المرجحات الموضوعية وإمّا أنْ يكون بحسب المرجح الذاتي, والأولى على أقسامٍ؛ فهو تارةً؛ يكون على أساس كيفي, أي قوة نوع المحتمل وأهميته, كما إذا كانت الأغراض اللزومية أهم عند المولى من أغراضه الترخيصية فيُجعل إيجاب الإحتياط عند الشك.

وأخرى؛ يكون الترجيح على أساس كمّي, أي قوة الإحتمال بلحاظ مجموع الأحكام التي تتضمنها تلك الدائرة, كما إذا كانت الأغراض اللزومية في دائرة الشبهات قبل الفحص أكثر من الترخيصية مثلاً, ولا يضر ذلك وجود غرض لزومي واحد ليس بأهم من غرض ترخيصي واحد, فإنّ الملحوظ هو المجموع لا الآحاد, وحينئذٍ يجعل المولى إيجاب الإحتياط فيها أيضاً تحفظاً على الكمية الأكبر من تلك الأغراض.

وثالثة؛ يكون الترجيح على أساس كمي, أي قوة الإحتمال كالسابق لكن بلحاظ النظر الإستغراقي إلى كلّ مورد فيرى أنَّ هناك قوة لأحد الإحتمالين على الآخر, فيجعل الحكم الظاهري على طبق ذلك الإحتمال والذي قد يكون إلزامياً وقد يكون ترخيصياً كعنوان ما أخبر به الثقة, وهذا القسم من جعل الحكم الظاهري هو الذي تكون مثبتاته حجة كما سيأتي البحث عنه مفصلاً بخلاف القسمين السابقين.

ورابعة؛ لا يكون مرجح كمي ولا كيفي في شبهة؛ فحينئذٍ تصل النوبة إلى المرجحات الذاتية, أي غير مربوطة بالواقع المشتبه بل لخصوصيات ذاتية نفسية ونحوها, فيرجح أحد الحكمين على أساس ذلك, ولا يُنافي ذلك مع طريقية الحكمالظاهري كما لا يستلزم التّصويب؛ لأنّ هذا الترجيح كان في طول التساوي بين الحكمين الواقعيين المتزاحمين في مقام الحفظ, وعلى ضوء ذلك ذهب قدس سره إلى جعل الإستصحاب كحكمٍ ظاهري على أساس الترجيح بقوة الإحتمال بالنظر المجموعي؛ بأنْ يرى المولى بقاء أكثر الحالات

ص: 280

السابقة المتيقنة في دائرة اليقين السابق والشك اللاحق, ثمّ احتمل أنْ يكون الترجيح على أساس قوة الإحتمال بالنظر الإستغراقي, أي أمارية الحالة السابقة أو اليقين السابق على البقاء في نفسه, كما احتمل أنْ يكون على أساس الترجيح بعامل ذاتي لا موضوعي بعد فرض التساوي في المرجحات الموضوعية الكيفية والكمية في موارد اليقين السابق والشك اللاحق, واعتبر النكتة الذاتية للترجيح هي الإنسجام في الميل والرغبة الشخصية للمكلف للسير على وفق يقينه السابق.

والصحيح أنْ يقال: إنّ ما ذكره قدس سره في كِلا الأمرين لا يمكن المساعدة عليه؛

أمّا الأول؛ فلأنّ الحكم الظاهري إنَّما جعله المولى نتيجة الإشتباه في الأحكام الواقعية وعدم إمكان وصول المكلف إليها بالطرق المعهودة شرعاً لأسباب كثيرة معلومة عند الجميع, فقد جعل الشارع طرقاً أخرى لبيان الحكم الظاهري, ولا ريب أنّه ربّما تكون المصلحة الموجودة في تشريع الحكم الشرعي الطريقي غير المصالح الواقعية الموجودة في الأحكام الواقعية, ويمكن أنْ تشترك جميع الأحكام الواقعية والظاهرية في مصلحة واحدة وهي تثبيت رسم العبودية عند المكلفين وإظهار طاعتهم لله تعالى؛ وبذلك يمكن حلّ جملة من الإشكالات التي تُورد على جعل الأحكام الظاهرية التي هي تشريعات إلهية في مقام التعذر من الوصول إلى الحكم الواقعي فيكون تشريعاً ظاهرياً حتى يتبين الحكم الواقعي, فهو علاج مؤقت عند مخالفته للواقع الذي يبقى على حاله من دون أنْ يلزم التصويب, ولا حاجة إلى التماس السبب في جعل التزاحم؛ سواء كان حفظياً أم ملاكياً أم إمتثالياً؛ فإنّ كلّ ذلك من لزوم ما لا يلزم وتبعيدٌ للمسافة, ويمكن تصحيح تلك الأقوال أيضاً باعتبار تعدد الحيثيات والجهات؛ فيكون الإختلاف لفظياً ولكنه كما ذكرناه تطويل لا طائل تحته, وعلى فرض التنزل؛ فإنّ التزاحم إنَّما يكون في مرحلة الثبوت ومرحلة

ص: 281

التشريع وهو معلومٌ لا اشتباه فيه, والكلام في مقام الإمتثال حيث يكون الإشتباه عند المكلفين, فيُرجع إمّا إلى التزاحم الملاكي أو الإمتثالي الذي هو الأجدر بالقبول.

وأمّا الثاني؛ فلأنّ الترجيح إنَّما يكون من شؤون المولى, فإذا كان مولىً حقيقياً لم نعلم وجه الترجيح إلا ما يبينه لنا, وإلا فتتدخل فيه الإحتمالات؛ منها ما ذكره قدس سره , ومنها ما ذكرناه آنفاً من رفع حيرة المكلف واضطرابه أو إظهار عبوديته وتثبيت الطاعة في نفسه, وهذا الإحتمال هو أقوى ممّا ذكره قدس سره كما هو واضح, مع أنّ استفادة الترجيح الموضوعي بأقسامه الثلاثة أو الذاتي لا بُدَّ فيه منالرجوع إلى أدلة الحكم الظاهري المعتبرة والإستفادة منها في تعيين أحد الأقسام المزبورة, وفي صورة الإجمال نرجع إلى ما يستفيده العقلاء في وضع الأحكام الجعلية, ويمكن القول بأنّه إذا كان المقصود جعل القاعدة والقانون في هذا المضمار فيترجح المرجح الموضوعي المجموعي, وإنْ كان المقصود إثبات الوظيفة العملية للمكلف فيكون النظر الإستغراقي هو الأَولى, وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات.

وممّا ذكرناه يظهر فساد ما ذكره جملةٌ من الأصحاب؛ من أنّ الإستصحاب غير ناظرٍ إلى الأحكام الواقعية وملاكاتها, وإنّما هو تعبد ظاهري صرف كأصالة الإباحة؛ فإنّ هذه المقولة لا تختص بالإستصحاب وأصالة الإباحة بل تجري في جميع الأحكام الظاهرية عند الإشتباه في الأحكام الواقعية, والجواب عنها يظهر ممّا تقدم؛ فإنّ تشريع الأحكام الظاهرية إنَّما كان لحفظ الأغراض الواقعية وحفظ الملاكات الواقعية المتزاحمة, وقد عرفت أنّ الغرض في تشريع الأحكام الواقعية من الإلزامية الترخيصية هو نفسه في تشريع الأحكام الظاهرية وكلّها من أجل حفظ الواقع مطلقاً, كما ذكر آخرون أنّ جعل الإستصحاب كأصالة الإحتياط هو التحفظ على الواقع بقطع النظر عن مسألة الأمارية والكاشفية, ولكن عرفت أنّ مسألة الأمارية والكاشفية لا بُدَّ فيها من الرجوع إلى ما يستفاد من أدلة

ص: 282

اعتبار الحكم الظاهري وفهم العقلاء في هذا الموضوع لا إلى ما ذكره السيد الصدر قدس سره من أنّ جعل حكم ظاهري على أساس المرجح الكيفي أو المرجح المجموعي أو الإستغراقي أو النفسي بعد اتضاح الأمر في هذا الموضوع وبيان حقيقة جعل الإستصحاب.

كما أنّه يظهر من جميع ذلك أنَّ إطلاق الحجة على الإستصحاب إنَّما هو من جهة التعبد الشرعي في مورد الشك في البقاء, ولا يهمنا بعد ذلك أنّ إطلاق الحجة من قبيل إطلاق الحجة على المفاهيم, أي يكون مفروغاً عن حجيته على تقدير وجوده, فالبحث في الحقيقة في المفهوم يرجع إلى ثبوته وعدمه لا عن حجيته؛ لكونه من مصاديق الظهور, أو يكون إطلاق الحجة على الإستصحاب من قبيل إطلاق الحجة على خبر الواحد, أي يكون البحث عن الحجية وعدمها بعدما كان مفروغ الوجود, أو يكون إطلاق الحجة على الإستصحاب يغاير القسمين المتقدمين, بل إطلاق الحجية على الأصول العملية مطلقاً ومنها الإستصحاب عين التعبد الشرعي ولا يمكن التفكيك بينهما عقلاً كما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره (1), والظاهر أنّ هذا النزاع يرجع إلى اختلافهم فيما هو المجعول في باب الإستصحاب من كونه نفس الحكم بالبقاء أو نفس اليقين السابق أو الشك اللاحق,ومبانيهم في ذلك مختلفة كما سيأتي, وقد تقدم وجه ذلك من بيان السيد الصدر قدس سره , وعرفت التفصيل فيه فافهم.

الأمر الثالث: تقدم أنّ الإستصحاب من المفاهيم المعروفة عند الجميع وحقيقته لا تخفى على أحدٍ, ولكن ذكر الأصوليون له تعاريف قلنا أنّها تكشف عن اختلافهم في المجعول في الإستصحاب واختلاف مبانيهم فيه, ونحن نذكر بعضاً منها للإيضاح لا للنقض والإبرام؛ لِما عرفت من أنّها تعاريف لفظية لا أنْ تكون حقيقية فلا تستحق الإشكال.

ص: 283


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص342.

فالإستصحاب لغةً هو أخذ الشيء مصاحباً, وأمّا إصطلاحاً فقد عُرِّف بتعاريف:

التعريف الأول: ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره (1)؛ من أنّه (إبقاء ما كان) واعتبره أخصر التعاريف وأسدها, والمراد بالإبقاء هو الحكم بالبقاء لا الإبقاء التكويني؛ حتى يُورد عليه بأنّه لا محصل له كما عن المحقق النائيني قدس سره (2), وقد اعترض عليه بعدّة اعتراضات:

منها؛ ما ذكره المحقق النائيني من أنّه لا محصل له.

ومنها؛ ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (3) من أنّه إنْ كان المراد بالإبقاء هو الإبقاء العملي فهو لا ينسجم مع حكم العقل الذي يُدرك البقاء وليس له حكم عملي, وإنْ كان المراد بالإبقاء الإبقاء الحكمي فهو لا ينسجم مع بناء العقلاء الذين يبنون عملياً على البقاء لا أنْ يحكموا.

ومنها؛ ما عرّفه السيد الخوئي(4) من أنّ الإستصحاب يختلف باختلاف المباني في حجيته, فلا وجه لإعطاء تعريف عام مع أنّه ينسجم مع كون الإستصحاب أصلاً عملياً, ولا ينسجم مع كونه أمارة.

التعريف الثاني(5): بأنّه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق, واعتبره الشيخ الأنصاري قدس سره (6) أزيف التعاريف؛ لأنّه تعريف للإستصحاب بمورده ومحلّه لا أنْ يكون التعريف لنفس الإستصحاب.

ص: 284


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص542.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص343.
3- . نهاية الدراية؛ ج5 ص7.
4- . مصباح الأصول؛ ج3 ص5-6.
5- . القوانين المحكمة؛ ج3 ص122.
6- . فرائد الأصول؛ ج2 ص541.

التعريف الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّه الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه, وهو بالأحرى توضيح لِما أجمله الشيخ الأنصاري في تعريفه السابق.

التعريف الرابع: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) من أنَّه الحكم الشرعي ببقاء الإحراز السابق من حيث الجري العملي, وهو تفسير بما يستفاد من الأخبار.

التعريف الخامس: إنّه عبارة عن الإبقاء العملي.

التعريف السادس: ما ذكره السيد الوالد قدس سره بأنّه إسراءُ أثر ما يُعتذر به سابقاً إلى زمان الشك فيه.

والتّحقيق؛ إنّه إنْ أريد تعريف الإستصحاب بما ينسجم مع مباني القوم المختلفة وأراؤهم المتفاوتة بحيث يكون جامعاً مانعاً فإنّ مثل هذا لا يمكن تحققه خارجاً؛ لأنَّ آراء الأصوليين تتفاوت وتتطور تدريجاً حسب الزمان فلا يمكن الوصول إليها, وإنْ أريد به التعريف اللفظي الذي يقع مورد البحث عندهم بحسب ما يستفيدونه من الأدلة التي يستدلون بها على حجيته فهو قائمٌ في كلّ تعريف من تلك التعاريف فلا وجه للإعتراض عليها, ولعل أفضل تلك التعاريف ما ذكره السيد الوالد قدس سره , والأخصّ منه ما ذكره الشيخ من أنه (إبقاء ما كان).

الأمر الرابع: لا ريب في أنّ اليقين والشك في الإستصحاب من أهمّ أركانه, وهما ركنان أيضاً في قاعدة المقتضي والمانع, وقاعدة اليقين المعبر عنها بالشك الساري في الإستصحاب القهقرائي, فإنّها تشترك في اليقين والشك وتتشابه من هذه الناحية, وإنْ كان لكلّ واحدة منها أحكام خاصة؛ فقد يتخيل إنّ الدليل الذي دلّ على عدم نقض اليقين بالشك يتكفل

ص: 285


1- . كفاية الأصول؛ ص384.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص343.

اعتبار هذه القواعد أيضاً, ولكن الأمر ليس كذلك؛ فلا بُدَّ من بيان الفرق الموضوعي بينها؛ قال السيد الوالد قدس سره : (إنّ متعلق اليقين والشك إمّا أنْ يتعدد وجوداً أو لا؟ وعلى الثاني؛ إمّا أنْ يسري الشك إلى اليقين ويزيله أو لا؟ فإنّ الأول قاعدة المقتضي والمانع, والثاني قاعدة الشك الساري والثالث الإستصحاب)(1).

وتفصيل ما ذكره قدس سره ؛ أمّا الإستصحاب؛ فإنّ موضوعه اليقين بشيء والشك في بقائه مطلقاً من دون اعتبار تقدم اليقين زماناً وعدمه, فيشمل الإستصحاب القهقرائي.

وأمّا قاعدة اليقين؛ فإنّ موضوعها تعلق اليقين بشيء في زمان معين والشك بعد ذلك في نفس ذلك الشيء بلحاظ ذلك الزمان؛ بأنْ يسري الشك إلى ذلك اليقينويُزيله, كما إذا تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة ثمّ شُكّ في عدالته يوم الإثنين إنّه عادلٌ يوم الجمعة, وإنّ أصل هذا يعبر عنه بالشك الساري فيكون متعلق اليقين والشك أمر واحد في جميع الخصوصيات, وإنّما الإختلاف في زمان اليقين والشك؛ بخلاف الإستصحاب؛ فإنّ متعلق اليقين والشك وإنْ اتّحدا ذاتاً ولكنهما يختلفان زماناً.

وأمّا قاعدة المقتضي والمانع؛ فإنّ موضوعها تعلق اليقين بوجود المقتضي للأثر والشك إنَّما هو في وجود المانع عنه, فيكون متعلق اليقين مختلفاً عن متعلق الشك ذاتاً؛ بخلاف الإستصحاب؛ فإنّه متقوم بوحدة متعلق اليقين والشك, كما إذا استفيد من الدليل أنّ ملاقاة الماء للنجس يقتضي انفعاله وإنّ الكرية مانعةٌ عنه, فإذا لاقى ماءٌ مشكوك كريته شيئاً نجساً فإنّه بناءً على هذه القاعدة لا بُدَّ أنْ نلتزم بنجاسة الماء كما بنى عليها بعض المحققين؛ لأنّ المقتضي للنجاسة معلومٌ وهو ملاقاته للنجس, والشك إنَّما يكون في المانع عن التأثير وهو الكرية. والمقتضي على أقسامٍ كما سيأتي ذكرها إنْ شاء الله تعالى.

ص: 286


1- . تهذيب الأصول؛ ج2ص248.

وأمّا الإستصحاب القهقرائي؛ فإنّ موضوعه كون المشكوك هو المتقدم زماناً على المتيقن, بخلاف الإستصحاب العادي؛ فإنّ المتيقن سابقٌ على المشكوك ولذا يُعبّر عن الإستصحاب القهقرائي بأصالة الثبات, وهو أصلٌ عقلائي في اللغة, فإنّه إذا عُلم بالمدلول اللغوي لكلمة في الحال ولكن يُشكّ في ثبوته في زمان صدور النص فيبني على الثبات, فيقال بأنّ هذا المعنى بنفسه كان ثابتاً في السابق أيضاً فيكون مرجع هذا الإستصحاب إلى استصحاب بقاء الحالة السابقة على ما هو عليه في هذه الحال عكس الإستصحاب العادي.

وهذه الفروق بين القواعد الثلاث إنَّما هي على سبيل الإجمال وإنْ كان يحصل إلتباسٌ بينها في بعض الموارد نُشير إلى بعضها:

فمنها؛ إنّ الإستصحاب وإنْ كان المعروف فيه وحدة متعلق اليقين والشك لكن الشك إنَّما يتعلق بالبقاء بعد القطع بالحدوث, ولكن قد يقال بأنّ ذلك لا يكون من مقوماته, بل إنّ قوامه هو الشك في شيء بعد الفراغ في ثبوته, والثمرة تظهر فيما إذا علمنا إجمالاً بحدوث شيء؛ إمّا الآن أو قبل ساعة, وعلى تقدير حدوثه قبل ساعة يحتمل بقاؤه؛ فإنّه يجري فيه الإستصحاب رغم أنّ الشك في البقاء ليس فعلياً على كلّ تقدير, ولكن كان الشك في ثبوت شيء فرغ عن ثبوته, وهذا المقدار يكفي في صدق نقض اليقين بالشك, وإنْ أمكن الجواب عنه بأنّه لا حاجة إلى اعتبار الشك الفعلي بل يكفي التقديري أيضاً كما سيأتي التفصيل إنْ شاء الله تعالى.

ومنها؛ إنّ الفرق بين الإستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع وإنْ كان صحيحاً ولكن قد يُتصور عدم الفرق بين القاعدة وبين استصحاب عدم المانع عند الشك فيه الذي يثبت الحكم بعد إحراز مقتضيه بناءً على الأمارية.

ويمكن الجواب عن ذلك باختلاف الملاك في كلّ واحد منهما؛ فإنّ ملاك حجية الإستصحاب

ص: 287

غلبة البقاء على تقدير الثبوت, وملاك حجية قاعدة المقتضي والمانع على تقدير القول بها أمارية ثبوت المقتضي بنفسه, وكيف كان فإنّ حجية الإستصحاب ممّا لا إشكال فيها.

وأمّا قاعدة المقتضي والمانع وقاعدة اليقين؛ فإنّه يكفي في عدم حجيتها الأصل، بعد عدم الدليل عليها؛ لأنّ ظهور الأخبار في الإستصحاب دون غيره, والشك في الشمول يكفي في عدم جواز التمسك بها لأنّه من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه, ويمكن القول بأنّ الإستصحاب القهقرائي هو أصلٌ بنفسه من دون حاجة إلى إدراجه في الإستصحاب ويُسمى بأصالة الثبات، كما سيأتي بيانه.

الأمر الخامس: تقسيم الإستصحاب

أقسام الإستصحاب

ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ للإستصحاب أقساماً مختلفة:

القسم الأول: بحسب زمان اليقين والشك

وهو على أنحاء:

الأول: أنْ يكون زمان اليقين والمتيقن سابقاً, وزمان الشك والمشكوك لاحقاً, وهذا هو الغالب في الإستصحابات المتداولة.

الثاني: أنْ يكون زمان حدوث اليقين والشك واحداً مع كون زمان المتيقن سابقاً وزمان المشكوك لاحقاً, كما إذا علم فعلاً بأنَّ الماء كان كراً في الأمس وشكّ فعلاً أيضاً في كريته في ذلك الزمان.

الثالث: أنْ يكون زمان حدوث الشك سابقاً وزمان حدوث اليقين لاحقاً مع سبق زمان المتيقن على زمان حدوث الشك, كما إذا شكّ فعلاً في طهارة الماء ثمّ حصل له اليقين بأنّه كان طاهراً قبل حدوث الشك.

ص: 288


1- . المصدر السابق؛ ص249-251.

لا إشكال في شمول أدلة حجية الإستصحاب للأول, وإنّما الخلاف في الثاني والثالث؛ وقد ذهب جمعٌ من الأصوليين إلى اعتبار الإستصحاب فيهما أيضاً, لأنَّ المناط كلّه في اعتبار الإستصحاب إختلاف زمان وجود المتيقن والمشكوك مع تقدم الأول على الثاني؛ سواءً اختلف زمان حصول اليقين والشك أم اتّحدا, وسواءً سبق حصول الشك أم كان بالعكس, فالمقتضي لشمول الأدلة لهما موجود, ولا مانع في البين كما سيأتي التفصيل.الرابع: أنْ يكون زمان المشكوك سابقاً وزمان المتيقن لاحقاً؛ والمعبّر عنه بالإستصحاب القهقرائي, وقد اتفق أكثر العلماء على عدم اعتباره؛ إذ لا دليل عليه؛ لا من الشرع ولا من بناء العقلاء, لكن ذكرنا آنفاً أنّه يمكن جعله أصلاً مستقلاً بنفسه وتسميته بأصالة الثبات من دون حاجةٍ إلى إدراجه في الإستصحاب حتى يُستشكل عليه بعدم اندراجه تحت أدلة الإستصحاب.

القسم الثاني: تقسيمه من جهة منشأ الشك

فإنّه إمّا في المقتضي, أو في الرافع, أو في الغاية؛ والمقتضي عبارة عن قابلية الشيء للبقاء؛ سواءً كانت القابلية تكوينية أم تشريعية, أي ملاك المجعول أو حكمة نفس الجعل ثبوتاً, والمستكشف ذلك كلّه؛ إمّا بالأدلة الشرعية أو الإستظهارات العرفية, ولا ريب في شمول الشك في المقتضي للجميع, وعن بعض اختصاص الشك في المقتضي بخصوص المقتضي الإثباتي, أي ما يستفاد من مقام الإثبات من الأدلة؛ فهو اصطلاح خاص به ولا مشاحة في الإصطلاح وإنْ كان لا وجه له ظاهراً, وسيأتي التفصيل إنْ شاء الله تعالى؛ وملخصه: إنّ المقتضي على أقسام ثلاثة:

أولها: مجرد الإقتضاء الواقعي من دون تحقق ما فيه الإقتضاء خارجاً, كما إذا أراد أنْ يتوضأ -مثلاً- ثمّ بعد مدّة شكّ في أنّه حصل له مانع عن إرادته أم لا, وهذا هو موضوع قاعدة المقتضي والمانع التي ذهب المشهور إلى عدم اعتبارها.

ص: 289

وثانيها: ما إذا تحقق ما فيه الإقتضاء في الخارج وأحرز بدليلٍ معتبر بقاء اقتضائه مدّة خاصة, وشكّ في أثناء تلك المدّة في أنّه هل حصل رافع عن استمرار وجوده الخارجي أم لا؛ وهذا هو مورد الشك في الرافع بعد إحراز بقاء المقتضي.

وثالثها: ما إذا تحقق المقتضي في الخارج وعدم إحراز مقدار استعداد تحققه الخارجي, ودار بين القليل والكثير بحسب ذاته؛ وهذا هو الشك في المقتضي الذي ذهب شيخنا الأنصاري قدس سره (1) إلى عدم جريان الإستصحاب فيه, ويأتي التفصيل إنْ شاء الله تعالى.

والرافع؛ عبارة عمّا يوجب إنعدام الموضوع أو الحكم مع إحراز إرسالهما وعدم التحديد لهما بحدٍّ خاص, فهو قد يشكّ في أصل وجوده فيعبّر عنه بالشك في الرافع, وقد يُشكّ في شيء أنّه رافع أم لا ويعبر عنه بالشك في رافعية الموجود.

والمانع؛ عبارة عمّا يُزاحم المقتضي عن أصل اقتضائه, ويُطلق أيضاً على ما يرفع المقتضي بعد تحققه واقتضائه فيتّحد هذا مع الرافع حينئذٍ.

والغاية؛ عبارة عن تحديد الحكم أو الموضوع في ظاهر الدليل بحدٍّ خاص معين, والشك في حصوله يكون من الشك في الغاية.القسم الثالث: التقسيم بحسب الدليل الدال على المستصحب

فإنّه تارةً؛ يكون هو الكتاب, وأخرى؛ السنة, وثالثةً؛ الإجماع, ورابعةً؛ العقل.

القسم الرابع: التقسيم بحسب المستصحب

فهو إمّا وجودي أو عدمي أو كلي أو جزئي أو تكليفي أو وضعي ونحو ذلك, وسيأتي التعرض لها إنْ شاء الله تعالى, ولكن المهمّ منها ثلاثة التي وقعت مورد النقض والإبرام.

ص: 290


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص619.

الأول: التفصيل بين الحكم الشرعي المستفاد من العقل وغيره, فلا يجري في الأول وقد قرّبه الشيخ الأنصاري قدس سره (1).

الثاني: التفصيل بين الأحكام الشرعية الكلية وبين الموضوعات الخارجية والأحكام الجزئية, فلا يجري في الأول كما هو مختار بعض منهم السيد الخوئي قدس سره (2).

الثالث: التفصيل بين ما إذا كان الشك ناشئاً من الشك في المقتضي وبين ما كان ناشئاً من الشك في الرافع, فلا يجري في الأول؛ وهو مبنى المحقق الأنصاري(3) ومن تبعه(4).

وقد وقع الكلام في المراد من المقتضي كما أشرنا إليه آنفاً, وينبغي تحقيقُ الكلام في هذه الأقوال والآراء.

التفصيل الأول: ذكر السيد الوالد قدس سره (5) إنّ الدليل على المستصحب إنْ كان هو العقل واستكشف حكم الشرع منه بقاعدة الملازمة فإنّه يشكل جريان الإستصحاب فيه؛ وذلك لأنّ العقل لا يحكم بشيء إلا بعد الإحاطة بوجود جميع المقتضيات وفقد جميع الموانع, فمع تحقق ذلك كلّه يحكم العقل وإلا فلا يحكم, فلا يتصور الشك في حكمه؛ مع أنّ الإستصحاب متقوم بالشك, ومع فقده لا موضوع له, وهو مفقود في المقام لا بالنسبة إلى نفس حكم العقل لِما عرفت ولا بالنسبة إلى حكم الشرع المستفاد منه بقاعدة الملازمة؛ لعدم تمامية الملازمة مع حكم العقل, فلا يجري الإستصحاب؛ لا في حكم العقل ولا في حكم الشرع المستند إليه.

ص: 291


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص554.
2- . مصباح الأصول؛ ج3 ص63.
3- . فرائد الأصول؛ ج2 ص619.
4- . أجود التقريرات؛ ج2 ص378.
5- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص251.

وتوضيح ما ذكره قدس سره ؛ إنّ هذا القول يحتمل فيه وجوهاً:

الوجه الأول: إنَّ حكم العقل بيّنٌ ومفصلٌ ومحدَّد الموضوع باعتبار أنّ الحاكم لا يمكن أنْ يتردد في حدود حكمه ومقدار سعته, وعلى هذا يكون الحكم الشرعي المستند إليه معلوم الموضوع بحدوده, وحينئذٍ يمتنع الإستصحاب لعدم وجودالشك؛ فإنّه إمّا أنْ يكون من أجل الشك في بقاء الحكم؛ وهو لا بُدَّ أنْ يكون ناشئاً من الشك في بقاء الموضوع, فلو كان باقياً بخصوصياته لمَا حصل الشك وإلا فلا بقاء له فلا يصح إجراء الإستصحاب, وإمّا من أجل امتناع الشك في البقاء؛ لأنّ الموضوع إنْ كان موجوداً كان الحكم موجوداً لا محالة وإلا يرتفع الحكم قهراً لانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه, فلو فُرض حكم شرعي في هذه الحالة فهو حكمٌ جديد حادث لموضوعٍ جديد لا أنْ يكون بقاءً لذلك الحكم.

ويرد عليه:

1- إنَّ الشك في بقاء الحكم وإنْ كان لا بُدَّ أنْ يكون ناشئاً في بقاء الموضوع لاحتمال تغير بعض ما له المدخلية في الحكم ولكن ذلك لا يعني أنّ موضوع الحكم لا بُدَّ أنْ يكون موضوعاً دقياً عقلياً بإحراز كلّ ما له الدخل في الحكم, بل المناط في الموضوع الذي يُعتبر بقاؤه في الإستصحاب هو الموضوع العرفي وما يراه العرف معروضاً للحكم بحسب المناسبات العرفية وأذهان العرف, ومن الواضح أنّ الموضوع بنظر العرف قد يكون باقياً حتى مع الجزم بزوال بعض الخصوصيات الملحوظة في حدوث الحكم.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ ما لا يُتصور الشك فيه من حكم العقل إنَّما هو ما إذا كان دقياً حقيقياً من كلّ جهةٍ وكانت جميع الخصوصيات الملحوظة مقومة لموضوعية الموضوع شرعاً, وليس الأمر كذلك, بل الظاهر أنّه لا يوجد لذلك مثال في الأحكام الشرعية؛ لابتناءها جميعاً على العرفيات مما هو المتعارف بين الناس.

ص: 292

2- إنَّ دعوى امتناع الشك في البقاء بالبيان المتقدم مردودةٌ؛ بأنّ زوال حكم العقل بزوال بعض الخصوصيات المقومة للحكم بنظر العقل لا يستلزم زوال حكم الشرع في تلك الحالة؛ لاحتمال أنّ الخصوصية الزائلة غير دخيلة في ملاك الحكم واقعاً, وقد اطّلع الشارع على ذلك لإحاطته بالأمور فيكون حكمه باقياً لبقاء ملاكه, ولم يطّلع العقل عليه لقصور إدراكه فلم يحكم عند زوالها بنظره, ولا يُنافي ذلك الإلتزام بالملازمة بين الحكمين؛ إذ المقصود الملازمة بينهما في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت, فلا يمتنع أنْ يحكم الشارع بشيء من دون أنْ يحكم به العقل.

هذا ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية(1).

وبعبارةٍ أوضح؛ إنّه لا ملازمة بين عدم الشك في حكم العقل وعدم تصوره في حكم الشرع المستفاد منه, لأنّ قاعدة الملازمة إنَّما تدلّ على تبعية حكم الشرع لحكم العقل ثبوتاً في الجملة, وأمّا كون موضوعه تابعاً لموضوع حكم العقل من كلّ حيثية وجهة بقاء أيضاً فلا دليل عليه بل الظاهر خلافه, لأنّ سهولة الشريعةالمقدسة وسماحتها تقتضي التسهيل في موضوع حكمه وأوسعيته من موضوع حكم العقل.

الوجه الثاني: إنّ الخصوصيات المأخوذة في الحكم العقلي كلّها خصوصيات تقييدية, فإذا انتفت إحداها يوجب انتفاء الحكم قهراً, لا أنْ تكون ملحوظة على نحو الحيثية التعليلية بمعنى ملاحظتها علة لثبوت الحكم لمعروضه. وعليه؛ يكون الشك في بقاء الخصوصية مستلزماً الشك في الموضوع قهراً, وقد يستفاد هذا من كلمات المحقق الإصفهاني قدس سره (2) في مبحث مقدمة الواجب؛ من أنّ عنوان المقوميّة جهة تقييدية لا أنْ يكون جهة تعليلية, كما إختاره صاحب الكفاية(3).

ص: 293


1- . كفاية الأصول؛ ص386.
2- . نهاية الدراية؛ج2 ص16.
3- . كفاية الأصول؛ ص90.

ويرد عليه: إنّه لم يقم دليل على كون جميع الخصوصيات هي جهات تقييدية في موارد الأحكام العقلية؛ لا سيما بعد العلم بأنّ العقل لم يكن محيطاً بجميع الخصوصيات إلا العقل الكلي المحيط وهو غير متوفر في ما هو موضوع البحث, مع أنّه قد عرفت آنفاً من أنّ المدار في موضوع الإستصحاب على نظر العرف لا نظر العقل, فإنّه على فرض كون الخصوصية تقييدية في نظر العقل لكنه لا يجدي في الحكم الشرعي الذي يكون المناط فيه النظر العرفي الذي يعتبر كون تلك الخصوصيات طوارئ وحالات الموضوع.

الوجه الثالث: إنّ الخصوصية المشكوكة متقومة بنظر العرف؛ فلا مجال للإستصحاب أيضاً؛ وذلك لأنّه إمّا أنّ الكلام في الأحكام الشرعية التي تتبع الأحكام العقلية التي تختص بباب التحسين والتقبيح, وعليه؛ فكلّ خصوصية لها دخل في حكم العقل بالحسن أو القبح فهي تكون قيداً لفعل المكلف المحكوم بالحسن أو القبح لا قيداً في الموضوع, وبعبارة أخرى: إنّ الخصوصيات المأخوذة في حكم العقل العارض على فعل المكلف إنَّما تكون مأخوذة قيداً لمتعلق الحكم لا موضوعه, فلا محالة يتقيّد الحكم الشرعي بتلك الخصوصية. وإمّا أنْ يكون متعلق الحكم العقلي هو نفس الخصوصية, والأفعال إنَّما تكون مصاديق للخصوصية ويتبعه الحكم الشرعي في ذلك, فالحرام هو الظلم والمحبوب هو الإحسان مثلاً, فإذا كان الحكم العقلي بالقبح لم يتعلق بالصدق حال إضراره -مثلاً- حتى يقع الكلام في أنّ جهة الضرر مقومة عرفاً أو ليست مقومة, بل ليس لدينا إلا الحكم العقلي بحسن الإحسان وقبح الظلم والحكم بقبح الصدق المهلك أو حسن الكذب النافع؛ من جهة أنّ الأول مصداقٌ للظلم القبيح عقلاً والثاني مصداق الإحسان الحسن عقلاً؛ لا أنْ يكون الحكم العقلي بالقبح تعلق بالصدق مباشرة بملاحظة أضراره, وعليه؛ فمع الشك في بقاء الخصوصية يكون من الشك في ثبوت متعلق الحكم مباشرة, فلا معنى للإستصحاب؛ بلا فرق في ذلك بين الشبهة المصداقية والشبهة الحكمية.

ص: 294

فالأولى؛ نظير استصحاب حرمة ما ثبت حرمته بالدليل الشرعي عند الشك في انطباق موضوع الحرمة عليه كما لو كان كلام كذباً ثمّ شكّ في أنّه كذب أو ليس بكذب فإنّه لا معنى لاستصحاب حرمته مع الشك المزبور, وكذلك في الشبهة الحكمية كما لو فُرض زوال عنوان الظلم عن الصدق ومع ذلك احتمل بقائه على حرمته فإنّه لا معنى لاستصحاب حرمته؛ إذ متعلق الحرمة السابقة زال قطعاً والصدق فعلاً ليس من أفراده جزماً فيمتنع صدق البقاء, واعتبر بعض المحققين أنّ هذا الوجه متين لا دافع له, وهو ممّا يمكن استفادته من عبارة الشيخ قدس سره في الرسائل؛ حيث قال: (لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقلي للحسن والقبح كلّها راجعة إلى قيود فعل المكلف)(1).

ولا يرد عليه ما أُورد على الوجهين السابقين؛ لعدم ارتباطه به.

والحاصلُ؛ إنّ الخصوصية الدخيلة في الحكم العقلي من القبح أو الحسن إمّا من قيود الفعل المتعلق, وإمّا هي نفس المتعلق.

ويمكن الإشكال عليه بما يلي:

أولاً: إنَّ متعلق الحكم نفس موضوع الحكم في قاعدة الملازمة؛ فإنّ المكلف إنَّما يتّصف بالحسن الذي هو موضوع حكم العقل عرفاً وإنْ كان هناك اختلاف بينهما بالنظر الدقي, كما أنّه يمكن القول بأنّ الإختلاف بينهما إنَّما يكون من حيث الكلي وهو الحسن المنطبق على الجزئي, وهو فعل المكلف كما يشهد له الوجه الثاني.

ثانياً: بعدما عرفت انطباق العنوان على فعل المكلف بالنظر العرفي فإنّ العرف ربّما يشكّ في صدق القبح على الصدق الضار أو صدق الحسن على الكذب النافع من جهة الموضوع وقيوده, أو الشك في الحكم من ناحية تحقق مصداقه كما هو واضح فيجري الإستصحاب بلا إشكال.

ص: 295


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص554.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1)؛ حيث منع جريان الإستصحاب في الحكم الشرعي المستفاد من حكم العقل؛ من جهة أنّ الشك في الخصوصية ممّا يوجب القطع بزوال الموضوع وهو يستلزم القطع بزوال الحكم؛ وذلك لأنّ الحكم العقلي بالقبح ليس متعلقه هو الفعل مع الخصوصية بوجودها الواقعي بل بوجودها العلمي, فالصدق المضر المعلوم إضراره قبيحٌ لا ذات الصدق المضر وإنْ لم يعلم إضراره؛ لأنّ القبح لا يتعلق إلا بالفعل الإختياري الصادر من التفات وعمد وقصد فلا يثبت إلا في مورد العلم, وعليه؛ فمع الشك في بقاء خصوصية الإضرار يقطع بعدم موضوع القبح وهو العلم بالضرر فيعلم بعدم القبح العقلي ويتبعه عدم الحكم الشرعي لانتفاء مناطه.ولكن المحقق الإصفهاني قدس سره إنَّما ذكر هذا الوجه في الأحكام العقلية العملية فلا يجري الإستصحاب فيها دون الأحكام العقلية النظرية, فإنّه يجري الإستصحاب في الحكم الشرعي المستند إليها.

ويمكن الإشكال عليه بوجوهٍ؛

أولها: إنّ ما أفاده من زوال الموضوع جزماً عند الشك في الخصوصية غير تام, فإنّ إناطة القبح بالفعل الإختياري مسلّم, لكن القصد والإختيار لا يتوقف على العلم بل يتوقف على الإلتفات الموجود حال الشك أيضاً, ولذا لم يختلف أحدٌ في ترتب آثار الفعل الإختياري على من رمى شبحاً لم يعلم أنّه إنسان أو جدار مع جهله بالقتل والظلم ولكنه ملتفت إليه في الجملة, وعليه؛ فمع الشك في أنّ الصدق مضر أو لا فإنّه لا يقطع بزوال الموضوع لتحقق الإلتفات والقصد في الجملة.

ص: 296


1- . نهاية الدراية؛ ج5 ص24.

وثانيها: على فرض التنزل والتسليم بأخذ العلم في الموضوع وزواله عند الشك, لكن لم يعلم أنّ هذه الخصوصية الزائلة هي مقومة بنظر العرف فحينئذٍ لا إشكال في أنّ مجرد دخلها في موضوع الحكم العقلي لا أثر له من هذه الجهة ولا يستلزم منع الإستصحاب مع الشك في بقاء الحكم حينئذٍ.

وثالثها: إنّ ما ذكره إنَّما يتم على فرض التسليم في الشبهة الموضوعية, وأمّا في الشبهة الحكمية؛ فإنّ منشأ الشك فيها ليس هو الشك في بقاء الخصوصية حتى يقال بأنّ العلم بالخصوصية دخيل وهو مفقودٌ مع الشك بل يُعلم بزوال الخصوصية, وإنّما الشك في بقاء الحكم من جهة احتمال أنّ الخصوصية -بعد دخلها في حدوث الحكم- لها الدخل في بقائه أيضاً وإلا فلا يجري الإستصحاب. فالملاك في الشبهة الحكمية في نفي الإستصحاب غير الملاك في الشبهة الموضوعية.

ومن جميع ذلك يظهر؛ إنّه لا وجه مقبول يدلّ على منع جريان الإستصحاب في الأحكام الشرعية التي تستند إلى الأحكام العقلية بقاعدة الملازمة.

هذا كلّه في الأحكام العقلية غير ما تطابقت عليه آراء العقلاء في أمور معاشهم ومعادهم, وإلا فلا ريب في تصور الشك فيها عندهم فيحقق موضوع الإستصحاب في كلّ ما حكم به العقل وحكم به الشرع فيها كما هو واضح؛ بلا فرق فيما ذكرناه من جريان الإستصحاب في الأحكام الشرعية المستندة إلى الأحكام العقلية؛ بين أنْ تكون وجودية أو عدمية, كما لا فرق بين الأحكام العقلية النظرية والأحكام العملية، وفي البين رأيان تفصيليان:

الرأي الأول: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره (1)؛ من أنّه لا فرق في جريان الإستصحاب في الأحكام الشرعية المستندة إلى الأحكام العقلية بين كونها وجوديةأو عدمية إلا مع

ص: 297


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص576.

استناد العدم إلى القضية العقلية, كعدم وجوب الصلاة على ناسي السورة فإنّه لا يجوز استصحابه عند زوال النسيان, ولا وجه للتمسك به في إثبات الإجزاء كما صدر عن البعض. نعم؛ لو لم يكن العدم مستنداً إلى القضية العقلية وإنْ كان من موردها فلا بأس باستصحابه, كاستصحاب البراءة والنفي.

ولكنه مردودٌ؛ بأنّ استصحاب عدم الوجوب المترتب سابقاً على النسيان يختلف عن الذي أفاده قدس سره في الوجه الثالث, فإنّه وإنْ كان مورد النسيان مشتركاً مع ما تقدم في ثبوت الحكم بالقبح غير أنّ القبح هناك متعلق بفعل المكلف, وقد تقدم أنّ الخصوصية الدخيلة في القبح إمّا من قيود الفعل المتعلق, وإمّا هي نفس المتعلق, وأمّا القبح هنا فإنّه متعلق بفعل الشارع فيكون المكلف بالإضافة إلى التكليف من قبيل الموضوع لا من قبيل المتعلق, فالنسيان مأخوذ في موضوع عدم التكليف لا في متعلقه فلا يأتي الوجهان السابقان اللذان ذكرناهما في الوجه الثالث في منع الإستصحاب ههنا؛ إذ النسيان يختلف من هذه الناحية أي الخصوصية المقومة للقبح أو الحسن العقلي.

ولكن عرفت إنّ ما ذكر في الوجهين السابقين لا يمنعان من جريان الإستصحاب, فلا فرق بين المقامين في صحة الإستصحاب إلا أن يدلّ دليلٌ على عدم جريانه بعد زوال النسيان, أو القول بأنّ النسيان مقوم للموضوع عرفاً لا دقة كما عرفت في الوجه الأول والثاني.

الرأي الثاني: ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني قدس سره من التفصيل بين الأحكام العقلية العملية فمنع من جريان الإستصحاب فيها بالبيان المتقدم في الوجه الرابع, وبين الأحكام العقلية النظرية فيجري الإستصحاب في الحكم الشرعي المستند إليها؛ فإنّه لا يجري فيه ما ذكر من الوجهين السابقين.

ص: 298

والحقّ؛ إنّه إذا قلنا بمنع جريان الإستصحاب في الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي فلا يفرق فيه بين الحكم العقلي العملي والحكم النظري بعد ثبوت أنّ الخصوصية الملحوظة من القيود الحقيقية التي لا بُدَّ من العلم بها في تثبيت الحكم العقلي, ومع الشك ينتفي الموضوع فينتفي الحكم بانتفائه إلا أنْ يقال بالفرق؛ من جهة أنّ الحكم بقبح تكليف الناسي وإنْ كان من حكم العقل العلمي لكن متعلق القبح فيه هو فعل المولى, فلا يتصور الشك في فعل المولى عزّ وجلّ حتى يقال بزوال الموضوع بالشك كما ذكره بعضٌ؛ فإنّه غيرُ سديدٍ بعدما عرفت من أنّ القيود المقومة للموضوع أو الفعل هي قيود عرفية لا دقية عقلية, وليست هي داخله في فعل المولى أبداً حتى يجري فيه ما ذكره, ولذا يجري فيه الشك في أنّ فعل الله تعالى من التكليف وعدمه عند الشك في الخصوصية فالإستصحاب يجري في كِلا الحكمين بعد الإحاطة بما ذكرنا, إلّا إذا ثبت أنّ الحكم من أفعال الله التي لا يتطرق فيها الشك، أو دلَّ على عدم جريان الإستصحاب فيه كما تقدم.ثمّ أنّه ذكر بعض الأعلام أنّه يمكن القول بجريان استصحاب عدم التكليف في مورد النسيان حتى على فرض كون خصوصية النسيان خصوصية مقومة للموضوع أو المتعلق مع قطع النظر عمّا ذكره المحقق الأنصاري وغيره في المقام وفي بحث البراءة؛ من المناقشة في استصحاب عدم التكليف بقولٍ مطلق ولو لم يستند إلى القضية العقلية وذلك بوجهين:

الأول: إستصحاب عدم الجعل بلحاظ حال ما قبل الشرع؛ فإنّه لم يكن في تلك الحالة جعل بالنسبة إلى هذا الموضوع الخاص وهو الشخص بعد زوال نسيانه, وبعد الشرع يشكّ في ثبوت الجعل بالنسبة إليه فيُستصحب عدمه, وسيأتي توضيحٌ لذلك, كما تقدم في بحث الأقل والأكثر.

ص: 299

الثاني: إستصحاب عدم المجعول بالنسبة إلى الموضوع الخاص بمفاد ليس التامة, أي أنّ هذا الموضوع الخاص وهو المكلف بعد زوال نسيانه لم يكن الحكم الفعلي في حقّه ثابتاً قبل تحققه, فالحكم الفعلي للمتعلق منتفٍ موضوعه, وبعد وجوده وتحققه يُشكّ في ثبوت حكم فعلي له فيُستصحب.

والحقّ؛ إنّ ذلك تطويلٌ لا طائل تحته مع أنّه لا يخلو من إشكال؛ لا سيما بعد صحة استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي مطلقاً؛ سواءً كان من الحكم العدمي أم من قبيل حكم العقل بقبح تكليف الناسي كما عرفت.

التفصيل الثاني: وهو الفرق بين الأحكام الشرعية الكلية فلا يجري فيها الإستصحاب، بخلاف ما إذا كان حكماً جزئيّاً أو موضوعاً خارجياً فيجري، وذهب إلى هذا التفصيل الفاضل النراقي(1) وتبعه السيد الخوئي(2) كما تقدم.

وتحقيق الكلام فيه: إنّ الشك في بقاء الحكم الشرعي على أنحاء:

الأول: أنْ يرتبط بمقام الجعل والتشريع, كما إذا ثبت جعل وجوب الحجّ على المستطيع في الشرع ثمّ شكّ في بقاء هذا التشريع, ولو لم يكن مستطيعاً فعلاً فلا شكّ في جريان استصحاب الجعل؛ وهذا هو المعبّر عنه باستصحاب عدم النسخ؛ ولا كلام في ذلك.

الثاني: أنْ يرتبط الشك بمقام المجعول, كما لو ثبت الحكم الفعلي في زمانٍ ثمّ شُكّ في بقائه, كالشّك في بقاء حرمة وطئ الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الغسل, ومنشأ الشك في بقاء الحكم الفعلي أحد أمرين:

فتارةً؛ يكون المنشأ هو الأمور الخارجية مع العلم بحدود الحكم المجعول من قبل الشارع سعةً وضيقاً ويعبر عنه بالشبهة الموضوعية؛ كما لو علم بعدم حرمة الوطئ بعد انقطاع

ص: 300


1- .مستند الشيعة؛ ج2 ص495، ومناهج الأحكام؛ ص242.
2- . مصباح الأصول؛ ج2 ص42-43.

الدم وقبل الغسل ولكن شكّ في تحقق انقطاع الدم وجريان الإستصحاب في الحكم, أو في الموضوع، وهو خارج عمّا نحن فيه.وأخرى؛ يكون المنشأ هو الشك في حدود المجعول الشرعي سعةً وضيقاً, فيشكّ في أنّ المجعول شرعاً هل هو حرمة الوطأ حين وجود الدم أو إلى حين الغسل, ويعبر عنه بالشبهة الحكمية, وهي على صورتين:

الصورة الأولى: أنْ يكون الزمان مفرداً للموضوع بنحو يكون كلّ آنٍ من الزمان موضوعاً للحكم على حدة؛ فينحلّ الحكم بتعدد أفراد الزمان الطولية وذلك كحرمة وطئ الحائض؛ فإنّها تنحلّ إلى أحكام متعددة بتعدد أفراد الوطئ الطولية بحسب الزمان, ولا يجري الإستصحاب في هذه الصورة مع الشك؛ لتعدد أفراد الحرمة بتعدد أفراد الوطئ بلحاظ عمود الزمان, فالفرد المشكوك حرمته من الوطئ يكن حكمه متيقناً سابقاً بل هو مشكوك الحدوث رأساً لأنّه فرد حادث لا أنْ يكون سابقاً.

وسيأتي مزيدُ بيان إنْ شاء الله تعالى.

الصورة الثانية: أنْ يكون الحكم واحداً مستمراً باستمرار الزمان ولا يتعدد ولا يتفرد بتعدد الآنات الزمانية, كنجاسة الماء المتغير؛ فإنّه حكمٌ واحدٌ مستمرٌ من حين حدوث النجاسة إلى زوالها وموضوعها واحدٌ عرفاً وهو الماء؛ فإنّه وجودٌ واحد مستمر بنظر العرف, وليست النجاسة في كلّ آنٍ حكماً غير النجاسة في الآن الآخر, وهذه هي الشبهة الحكمية الكلية والتي هي محلّ الكلام في هذا البحث؛ فيقع الكلام في جريان استصحاب الحكم المشكوك بقاؤه, كما لو شكّ في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره بنفسه, وقد عرفت أنّ الفاضل النراقي قدس سره منع جريانه؛ واستدلّوا على ذلك بأنّ استصحاب الحكم في مثل ذلك مبتلى بالمعارض دائماً وهو استصحاب عدم الجعل, واختلف الأصوليون في

ص: 301

بيان المراد من هذه المقولة, وقبل بيانه لا بُدَّ أنْ يعلم إنّ هذا الأصل إنَّما يكون معتبراً ويترتب عليه الأثر إذا توفرت فيه شروطٌ ثلاثة مبتنية على أمورٍ ثلاثة:

الأول: إنّ استصحاب عدم الجعل ممّا يترتب عليه أثر عملي مباشر وإلا كان لغواً أو مثبتاً.

الثاني: إنّ عدم الجعل ممّا يمكن أنْ يكون مورد التعبد الشرعي وإلا لايصح إجراء الإستصحاب فيه, لأنّه ليس بمجعولٍ شرعي كما أنّه ليس بموضوعٍ لأثرٍ شرعي.

الثالث: أنْ يختلف الجعل سعةً وضيقاً باختلاف المجعول كذلك, وإلا فلو كان على نحوٍ واحدٍ كان المجعول متسعاً أو ضيقاً فلا يجوز استصحاب عدم الجعل فيما نحن فيه.

وجميع هذه الأمور محل بحث وكلام, فيقع الكلام في جهات:

جهات بحث

الجهة الأولى: إنّ استصحاب عدم الجعل

الجهة الأولى: إنّ استصحاب عدم الجعل قد رتّب الأثر عليه الفاضل النراقي وغيره, بخلاف المحقق النائيني قدس سره ؛ فإنّه قال بعدم ترتب الأثر عليه, وذلك لأنّ الآثار العملية العقلية من لزوم الإطاعة والتنجيز ونحوها إنَّما تترتب على الحكم المجعول العقلي بفعلية موضوعه, وأمّا نفس الجعل فلا يترتب عليه أي أثر عملي؛ لأنّ الجعل عبارة عن إنشاء الحكم في مقام التشريع, والأحكام الإنشائية لا تترتب عليها الآثار الشرعية, بل ولا العقلية من لزوم الإطاعة والتنجيز, وعليه؛ يكون التعبد بعدم الجعل لغواً لعدم أثر عملي مترتب عليه, فلا يصح جريان الإستصحاب فيه؛ لفرض أنّ التعبد الإستصحابي إنَّما هو بلحاظ الأثر العملي, نعم؛ إنَّما يترتب على الجعل أثر بواسطة المجعول به فيكون الترتب بالملازمة وهو مُوجب لأنْ يكون الإستصحاب مثبتاً.

وبالجملة؛ إنّ استصحاب عدم الجعل لا يجري؛ إمّا لكونه لغواً بملاحظة الأثر المترتب عليه مباشرة, وإمّا مثبت بملاحظة المجعول على الجعل بالملازمة الفعلية.

ص: 302

وأورد عليه المحقق العراقي بوجهين(1):

الوجه الأول: إنَّ الأثر العقلي إذا ترتب على المستصحب إنَّما يجعل الإستصحاب مثبتاً إذا كان من آثار الوجود الواقعي للمستصحب, أمّا إذا كان من آثار ثبوت المستصحب الأعم من الواقعي والظاهري فلا مانع من الإستصحاب بلحاظه لترتبه عليه عقلاً, ولا يكون ذلك من الأصل المثبت نظير وجوب الإطاعة؛ فإنّه يترتب عقلاً على وجود الحكم أعمّ من الواقعي والظاهري فيصح التعبد بالحكم ويكون أثره العملي الإطاعة, وما نحن فيه كذلك؛ لأنّ المجعول يترتب على الجعل بوجوده الواقعي والظاهري فالجعل الظاهري يستتبع المجعول ظاهراً, وعليه؛ يكون نفي الجعل ظاهراً مستتبعاً لنفي المجعول, لأنّه من آثار عدم الجعل الواقعي والظاهري, إذن لا يكون استصحاب عدم الجعل من الأصول المثبتة بل يترتب عليه الأثر العملي عليه بلا محذور, واستدلّ على ذلك بأنّه لولا ذلك لمَا صحَّ استصحاب عدم النسخ لأنّ مرجعه إلى استصحاب بقاء الجعل, مع أنّ جريانه وترتب الأثر عليه من المسلّمات لدى الجميع, وليس ذلك إلا لأنّ المجعول لازم للجعل أعمّ من الوجود الواقعي والظاهري.

الوجه الثاني: إنّ الجعل والمجعول متّحدان وجوداً كالإيجاد والوجود وإنّما يختلفان اعتباراً, فهما كالتّصور والمتصور فإنّه لا وجود حقيقة للتصور غير وجود المتصور, وعليه؛ فاستصحاب الجعل بنفسه إثبات للمجعول بلا ملازمة, كما أنّ إستصحاب عدم الجعل بنفسه إثبات لعدم المجعول بلا ملازمة, والمتحصل؛ إنّ استصحابعدم الجعل يستلزم نفي الأثر العملي بلا لزوم محذور الأصل المثبت, وقد ارتضى هذا الوجه السيد الخوئي قدس سره (2)

ص: 303


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص161.
2- . في مصباح الأصول؛ ج2 ص43.

الواجب المشروط؛ حيث ذهب إلى أنّ الإعتبار تعلق بالوجوب على تقدير, بمعنى أنْ يكون الوجوب ثابتاً في ظرف الإعتبار والإنشاء لكن الثابت هو الوجوب الخاص وهو على تقدير.

وأشكل على كِلا الوجهين:

أمّا الأول؛ فلأنّه لا إشكال في أنّ الجعل في مرحلة الظاهر وإنْ كان يلازم تحقق المجعول؛ باعتبار أنّ الجعل يرجع إلى إنشاء الحكم والإنشاء لا ينفكّ عن المنشأ, فالجعل الظاهري يستتبع مجعولاً وحكماً ظاهرياً لا محالة لتقومه به عقلاً, وعليه؛ ثبوت الجعل ظاهراً تترتب عليه آثار المجعول لتحققه به لكن عدم الجعل في مرحلة الظاهر لا يستتبع سوى عدم المجعول ظاهراً, كاستتباع عدم الجعل واقعاً لعدم المجعول واقعاً, وهذا لا يجري في نفي آثار الواقع المحتمل ولا يستلزم تأميناً وتعذيراً عنه, لأنّ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع يترتب على نفس الواقع لا على الظاهر, فلا بُدَّ من إثبات عدم المجعول واقعاً بالتعبد الظاهري بعدم الجعل واقعاً, وإثباته إنَّما يكون بالملازمة العقلية للتلازم واقعاً بين عدم الجعل وعدم المجعول فيكون الأصل من الأصول المثبتة.

وأمّا الثاني؛ فإنّ وحدة الجعل والمجعول إنَّما هي تامة فيما إذا قلنا بأنّ الإنشاء عبارة عن إبراز الإعتبار النفساني؛ بدعوى أنّ المنشئ اعتباراً شخصياً للمنشأ من وجوب أو ملكية أو غيرهما, ولا يترتب الأثر عليه إلا بعد إبرازه بمبرزٍ قولي أو فعلي, فليس للجعل حقيقة سوى الإعتبار الشخصي وهو عين المعتبر وجوداً وإنْ اختلف معه اعتباراً.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الإنشاء عبارة عن التسبيب قولاً أو فعلاً لتحقق الإعتبار العقلائي أو من بيده الإعتبار من دون أنْ يكون للمنشئ أي اعتبار, بل غايةُ فعله هو نفس إيجاد الموضوع للإعتبار العقلائي فلا يتم ما ذكره المحقق من الوحدة؛ إذ ليس الجعل إلا الإنشاء الذي

ص: 304

يكون سبباً للإعتبار العقلائي في ظرفه, والمجعول هو ما يعتبره العقلاء في ظرف الموضوع, ومن الواضح تغايره مع الجعل وجوداً وذاتاً.

ومع غضّ النظر عن ذلك؛ فإنّ الأثر العملي إنَّما يترتب على الجعل بضميمة وجود الموضوع, فيكون نفي الجعل بالأصل مستلزماً لعدم ترتب الأثر, فلو سلّمنا وحدة الجعل والمجعول ولكن لا نسلّم أنّ الأثر العملي إنَّما يترتب على تقدير وجود الموضوع؛ لأنّ مجرد الجعل قبل تحقق الموضوع لا يضاف به الوجوب إلى المكلف الخاص, فلا يقال مثلاً للمكلف قبل الزوال أنّه ممّن وجبت الصلاة عليه وإنّما تتحقق الإضافة بعد الموضوع كتحقق الزوال بالنسبة إلى الصلاة.وبالجملة؛ مجرد جعل الحكم الكلي لا يترتب عليه الأثر, وإنّما الأثر لمرحلة الإنطباق وإضافة الوجوب إلى فرد المكلف, وعليه؛ فإنّ استصحاب عدم الجعل ممّا لا يترتب عليه نفي الأثر العملي إلا بتوسط نفي إضافة المجعول إلى المكلف وهذا من اللوازم العقلية, فيكون من الأصول المتثبتة؛ نظير إستصحاب عدم الكر في الحوض في نفي كرية ماء الحوض التي هي مورد الأثر العملي.

والصحيح؛ إنّ ما ذكر غير تام لِما يلي:

أولاً: إنّه بعد فرض أنّ الجعل في مرحلة الظاهر يلازم تحقق المجعول ظاهراً لعدم انفكاك الإنشاء عن المُنشأ فالجعل الظاهري يستتبع مجعولاً ظاهرياً ونفيه يستتبع نفياً واقعياً وهو يكفي في المعذرية, ومجرد احتمال الجعل في الواقع مع وجود ما يعتذر به ظاهراً, والمؤمن كذلك يكون كافياً في التعبد الظاهري في نفي المجعول واقعاً, ولا يكون من الأصل المثبت كما زعمه المستشكل المزبور.

ثانياً: إنّ الإنشاء بأيّ معنى أريد؛ سواء كان بمعنى التسبيب قولاً أو فعلاً, أو كونه بمعنى إبراز الإعتبار؛ فإنَّه لا ينفكّ عن المجعول عند العقلاء؛ الذين هم الأساس في الأمور

ص: 305

الإعتبارية, فإنّ الإنشاء عندهم إبراز ذلك الإعتبار العقلائي في وعاء المنشأ قولاً وفعلاً, وعلى هذا يكون الإنشاء والمنشأ متّحدان في الوجود وإنْ اختلفا بالإعتبار, أمّا جعل الإنشاء عبارة عن التسبيب قولاً أو فعلاً لتحقق الإعتبار العقلائي أو من بيده الإعتبار من دون أنْ يكون للمنشيء أي اعتبار فهو خلطٌ بين عالم الثبوت والإثبات, وعلى فرض صحته لا يرفع وحدة الجعل والمجعول؛ فإنَّ التسبيب لإيجاد الموضوع للإعتبار العقلائي هو نفس المعتبر عندهم.

ثالثاً: لا إشكال في أنّ الأثر العملي إنَّما يترتب على تقدير وجود الموضوع, ولكن الجعل قبل تحقق الموضوع يكفي في نظر العرف إضافة الوجوب إلى المكلف الخاص بعد افتراض وجوده, وهذا النظر العرفي يكفي في جريان الإستصحاب وإخراجه من الأصل المثبت كما سيأتي بيانه, فما ذكره المحقق العراقي تام لا يردُ عليه الإشكالين المزبورين.

والحقُّ؛ أنّ الجعل من الإعتبارات الصحيحة العرفية العقلائية نحو تحقق اعتباري في عالم الإعتبار, فيكون للأحكام الكلية وجود اعتباري صحيح, ويكفي مثل هذا الوجود أنْ يكون منشأ للأثر ويتحقق به موضوع الإستصحاب, وكلُّ ما قيل تطويلٌ لا طائل تحته. وأمّا أصالة عدم الجعل لنفي المجعول وكونه من الأصول المثبتة فسيأتي الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

الجهة الثانية: في إمكان تعلق التعبد بعدم الجعل؛ فقد ذكروا عدم إمكانه, والكلام فيه

الجهة الثانية: في إمكان تعلق التعبد بعدم الجعل؛ فقد ذكروا عدم إمكانه, والكلام فيه تارةً؛ في عدم صحة التعبد بالجعل. وأخرى؛ في صحة التعبد بعدم الجعل.

أمّا الأولى؛ فلا إشكال في أنّ التعبد إنَّما يتعلق بالأمور الإعتبارية التي يكون وجودها بالجعل والإعتبار ولا يتعلق بالأمور التكوينية الخارجية حيث أنّها لاتقبل الجعل, ومن المعلوم أنّ الجعل والإعتبار الصادر من المولى إنَّما هو فعلٌ تكويني للمولى ومن أفعاله

ص: 306

الإختيارية النفسية التي لها وجودٌ واقعي وليس من الأمور الإعتبارية, نعم؛ متعلق الإعتبار من الأحكام الشرعية يكون اعتبارياً, فإذا كان الإعتبار كذلك امتنع أنْ يكون مورداً للتعبد والإعتبار, فإذا كان مفاد دليل الإستصحاب هو التعبد بوجود المتيقن بقاءً لم يشمل الجعل فلا يجري الإستصحاب فيه, ولا معنى محصل له, ولكن سيأتي إمكان تصحيحه بناءً على بعض المباني في الإستصحاب, وأمّا استصحاب الجعل في مورد الشك في النسخ فهو؛ إمّا أنْ يرجع إلى التمسك بإطلاق الدليل الأول على الحكم بالنسبة إلى الزمان وامتداده؛ فتكون تسميته بالإستصحاب على نحو المسامحة, وإمّا أنْ يرجع إلى إستصحاب المجعول التعليقي لا الفعلي؛ وسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا الثانية؛ أي عدم صحة التعبد بعدم الجعل؛ فإنّه بعدما عرفت عدم قابلية الجعل للتعبد والإعتبار لكونه فعلاً تكوينياً للمولى ولا يشمله دليل الإستصحاب إذا تكفّل التعبد بالمتيقن السابق؛ فإنّه يكون امتناع التعبد بعدم الجعل من الواضحات, لأنّ ما لا يقبل الوضع الشرعي لا يقبل الرفع إلا على بعض المباني وهو شمول المدلول المطابقي لعموم (لا تنقض اليقين بالشك) وهو حرمة النقض العملي ولزوم معاملة المتيقن السابق معاملة الباقي, وهذا المعنى يشمل عدم الجعل ويكون إرشاداً إلى ثبوت التعبد في مورده بما يُناسبه ويرجع إلى التعبد بعدم المجعول, فاستصحاب عدم الجعل يقيّد التعبد بعدم المجعول يعني عدم التكليف, ولكن الكلام في أنّ عدم التكليف هل يمكن التعبد وتعلق الجعل به؟.

إنّ ظاهر كلام الشيخ الأنصاري قدس سره (1) في مبحث البراءة عدم صحة تعلق التعبد بعدم التكليف لأنّه غير اختياري.

ص: 307


1- . فرائد الأصول؛ج1 ص322-323.

وأورد عليه بأنّ التكليف إذا كان تحت سلطة الشارع يكون عدمه أيضاً كذلك, إذ نسبة القدرة على طرفي الوجود والعدم على حدٍّ سواء, وعليه؛ فعدم التكليف بيد الشارع ولا يُعتبر في المستصحب إلا أنْ يكون تحت سلطة الشارع وبيده.

وقيل: إنّ ما يمنع عن التعبد بعدم التكليف غير ما ذُكر؛ فإنّ عدم التكليف والتعبدية إمّا أنْ يكون واقعياً أو يكون ظاهرياً, فإذا كان واقعياً؛ بأنْ اعتبر الشارع عدم التكليف في الواقع وجعل عدم التكليف واقعاً فإنّه لا يخلو؛ إمّا أنْ يكون التكليف ثابتاً في الواقع أو لا يكون ثابتاً في الواقع, فعلى الثاني يلغو جعل العدم؛ إذ مجرد عدم جعل التكليف في الواقع يكفي في تحقق عدم التكليف وترتب الأثر عليه بلا حاجة إلى اعتبار العدم, فإنّه مؤونة زائدة, وعلى الأول يكون من الجمع بين المتنافيين بلحاظ الآثار المترتبة عليهما وبلحاظ المبدأ لكلّ منهما.وإذا كان عدم التكليف ظاهرياً؛ فتارةً؛ يراد به جعل العدم ظاهراً فهو مضافاً إلى عدم ترتب الأثر عليه من التعذير والتأمين, لأنّ المدار في ذلك عدم التكليف واقعاً؛ أنّه لا حاجة إليه فانه يكفي عنه مجرد عدم جعل التكليف في الظاهر.

وأخرى؛ يراد به جعل عدم التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر, بمعنى جعل عدم التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر كسائر الأحكام الظاهرية المجعولة بلسان الواقع, وهو غير صحيح أيضاً؛ لأنّ التكليف الواقعي إنْ لم يكن له ثبوت كفى عدمه في ترتب الآثار بلا حاجة إلى جعل عدمه في مرحلة الظاهر. وإنْ كان له ثبوتٌ؛ فإمّا أنْ لا يترتب عليه أثر عقلي وجودي في مقام الشك, بحيث يحكم العقل بالمعذرية والتأمين من العقاب فلا أثر لجعل العدم؛ إذ غايةُ ما يراد به هو إثبات المعذورية والمفروض أنّها ثابتة عقلاً مع قطع النظر عن جعل العدم. وإمّا أنْ يترتب عليه أثر وجودي عقلي, بحيث يحكم العقل

ص: 308

بمنجزيته ولزوم الإتيان بمتعلقه في ظرف الشك إمتنع جعل العدم لمنافاته لحكم العقل بلزوم الإحتياط كما في موارد العلم الإجمالي, إلا إذا كان حكم العقل بالإحتياط تعليقياً بعدم جعل الشارع عدم التكليف ولكنه من مجرد الفرض؛ لأنّ حكم العقل تنجيزيّ لا أنْ يكون تعليقياً.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما قيل من الجواب عن مقالة الشيخ قدس سره غير تام.

وكيف كان؛ فإنّ ما يتحصل من جميع ذلك أنّه لا معنى محصل للتعبد بعدم الجعل, وعدم صحة شمول دليل الإستصحاب له.

الجهة الثالثة: في أنّ الجعل يختلف سعةً وضيقاً باختلاف المجعول

الجهة الثالثة: في أنّ الجعل يختلف سعةً وضيقاً باختلاف المجعول كذلك, أو لا يكون كذلك؛ بأنْ يكون الجعل على نحوٍ واحد؛ ولا إشكال في أنّ المجعول قد تتسع دائرته وقد تضيق باتساع دائرة متعلقه وضيقها, فإذا أوجب المولى الجلوس من الزوال إلى الغروب فإنّه أضيق دائرة من وجوب الجلوس من الزوال إلى نصف الليل, وحينئذٍ يأتي السؤال في أنّ الجعل في مثل هذه الحالة هل يتضيق تبعاً لضيق دائرة المجعول باعتبار أنّ الجعل كالعرض, ولا إشكال في أنّ الأعراض الخارجية التي تعرض على الجسم كالبياض فإنّها تزيد بسعة الجسم وتتضيق بضيقه, ونظير التصور بالنسبة إلى المتصور؛ فإنّه كذلك يزيد بسعة المتصور ويضيق بضيقه, أو أنّ الجعل لا يتأثّر بدائرة المجعول ولا يختلف سعةً وضيقاً, فهو على كلّ تقدير واحد؛ فإنّ قلنا بتأثّر الجعل من ناحية المجعول سعةً وضيقاً فإنّه إذا شكّ في سعة المجعول وامتداده في الزمان المشكوك، وحينئذٍ يُشكّ في زيادة الجعل فإنّه يمكن استصحاب عدمه مع قطع النظر عمّا ذكرناه من الإيرادات السابقة, وأمّا إذا قلنا بعدم تأثر الجعل من ناحية المجعول سعةً وضيقاً فلا يُشكّ في زيادة الجعل بعد العلم بوجوده وإنّما الشك في كيفيته وأنّه بماذا تعلق؟ وهذا ممّا لا يمكن إجراء الأصل فيه؛ إذ لا حالة سابقة له, فلا مجال لجريان أصالة عدم الجعل.

ص: 309

وكيف كان؛ فإنّ جريان أصالة عدم الجعل يبتني على سعة الجعل وضيقه تبعاً لسعة المجعول وضيقه حتى يكون زيادة الجعل مشكوك الحدوث بسبب الشك في سعة المجعول واستمراره فتكون مجرى أصالة عدم الجعل.

ومُجملُ الكلام فيه؛ إنّ ذلك يبتني على معنى الإنشاء، والمسالك فيه ثلاثة:

الأول: إنّه عبارة عن التسبيب لتحقق الإعتبار العقلائي في ظرفه؛ بمعنى إستعمال اللفظ في المعنى بداعي تحقق اعتباره من قبل العقلاء في ظرفه المناسب له, فلم يصدر من المنشئ سوى الإستعمال بالقصد المزبور, وهذا هو المشهور في معنى الإنشاء.

الثاني: إنّه عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعاً للإعتبار العقلائي أو الشرعي في ظرفه, فما يصدر من المنشئ هو الإستعمال بقصد تحقق وجود إنشائي للمعنى.

الثالث: إنّه عبارة عن إبراز الإعتبار النفساني الشخصي؛ بدعوى أنّ للمنشئ إعتباراً شخصياً يكون مورداً للآثار العقلائية إذا أبرز بمبرز؛ من لفظ أو غيره؛ وهو مختار بعض المتأخرين.

وليس المقام تقييم هذه الأقوال؛ فإنّه تقدم في محلّه تفصيل الكلام فيه, إلا أنّ الكلام في المقام أنّه بناءً على الرأي الأخير يكون الجعل ممّا يختلف سعةً وضيقاً تبعاً لسعة المجعول وضيقه, وذلك لأنّ مرجع الجعل إلى الإعتبار الشخصي الصادر من المُعتبر, ومن الواضح أنّ الإعتبار في السعة والضيق يتبع الأمر المعتبر, فإنّ نسبته إليه نسبة التصور إلى المتصور والوجود إلى الموجود, فمع سعة الأمر الإعتباري يتّسع الإعتبار ومع ضيقه يضيق, وكذلك الأمر بناءً على الرأي الثاني؛ فإنّ مرجع الجعل إلى إيجاد الحكم بوجودٍ إنشائي، ومن الواضح اتساع دائرة الوجود وضيقها باتساع دائرة الموجود وضيقه.

ص: 310

وأمّا على الرأي الأول -الذي هو المشهور-؛ فلا يكون الجعل ممّا يقبل السعة والضيق بسعة المجعول وضيقه, لأنّ الجعل هو الإستعمال بقصد تحقق الإعتبار في ظرفه من قبل مَن بيده الإعتبار, ومن الواضح أنّ المستعمل فيه لو كان مفهوماً إسمياً فإنّه يقبل السعة والضيق لأنّه أنشأ الوجوب بمفهومه الإسمى فيجري البيان المزبور فيه من أنّ الإستعمال يرجع إلى جعل اللفظ حاكياً عن المعنى والحكاية تتسع وتضيق بسعة المحكي وضيقه, فمع الشك في زيادة الحكاية للشك في سعة المحكي تكون مجرى أصالة العدم.

وهذا وإنْ كان صحيحاً لكنه نادر؛ إذ غالباً ما يكون الإنشاء بالصيغة, وهي لا تتكفل إنشاء الوجوب بمفهومه الإسمي القابل للسعة والضيق, بل بالمفهوم الحرفي الذي ليس له إلا نحو واحد وهو المعبّر عنه بالوجود الرابط الذي يقبل السعة والضيق فلا يتّصف الإنشاء بهذا المعنى بالسعة والضيق, بل له وجود واحد مرددبين نحوين متباينين فلا مجال حينئذٍ لأصالة العدم فيه بعد كون الشك في كيفيته وأنّه تعلق بهذا أو بذاك لا في أصل وجوده وليس الإنشاء نفس القصد القلبي حتى يتّصف بالسعة والضيق بملاحظة متعلقه, بل القصد مأخوذٌ في الإنشاء قيداً؛ بمعنى: إنّ الإنشاء هو الإستعمال الخاص وهو المقترن بالقصد لا أنْ يكون هو نفس القصد.

هذا ما ذكره الأعلام في ردّ ما استدلّ به الفاضل النراقي وغيره في وجه عدم جريان الإستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية, وما ذكروه تبعيدٌ للمسافة وتطويلٌ لا طائل تحته, وإنّ أقصى ما يمكن الإستدلال على مقولة النراقي هو أحد وجهين:

أولهما: يرجع إلى عدم المقتضي؛ لجريان الإستصحاب في الأحكام الكلية, لأنّها ليست إلا صورٌ ذهنية لا تحقق لها في الخارج.

وثانيهما: يرجع إلى وجود المانع؛ وهو معارضة الإستصحاب باستصحاب عدم الجعل الأزلي.

ص: 311

وكِلا الوجهين فاسدان؛ أمّا الأول؛ فلأنّ الأحكام الكلية اعتبارات صحيحة عرفية عقلائية لها نحو تحقق اعتباري ووجود في عالم الإعتبار, ويكفي هذا النحو من الوجوه أنْ يكون منشأً للأثر في الإستصحاب, وعلى فرض التنزل؛ فإنّ الصورة الذهنية تكون ملحوظة طريقاً إلى الخارج لا بقيد الذهن فلا إشكال من هذه الجهة.

وأمّا الثاني؛ فإنَّ العلم الإجمالي بنقض استحصاب العدم في الأحكام الإبتلائية يمنع عن جريانه فيها.

والحقّ؛ إعتبار الإستصحاب مطلقاً من غير تخصيصه بموردٍ دون آخر لوجود المقتضي وفقد المانع, وسيأتي أنّ أدلة الإستصحاب تشمل جميع الموارد من دون أنْ يكون قصور فيها لوجود الإطلاق أو لعموم فيها الشامل لجميع الشبهات الحكمية والموضوعية, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ الفاضل النراقي ذهب إلى أنّ الإستصحاب في الأحكام الكلية معارض باستصحاب عدم الجعل, وعرفت أنّ المراد منه هو أنّ الإستصحاب المجعول معارض دائماً باستصحاب عدم الجعل فلا يمكن البناء على استصحاب الحكم الشرعي في مورد الشك.

وقد أورد عليه الشيخ الأنصاري(1) بأنّ الزمان إنْ لوحظ مفرداً للموضوع بنحوٍ يكون كلّ حصة فرداً منفصلاً عن الحصة الأخرى فلا مجال لاستصحاب الوجود لعدم وحدة الموضوع, وإنْ لوحظ ظرفاً للموضوع تعيّن إجراء استصحاب الوجود ولا يجري استصحاب العدم؛ لانقطاعه بالوجود, فلا يجري الإستصحابان معاً حتى يتحقق التعارض.

ص: 312


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص647-648.

توضيح ذلك؛ إنّ الأحكام الواردة على الموضوعات المتعددة المتباينة, فإنّه يستلزم تعدد الجعل ولو كان إنشاؤها واحداً بالصورة, فإذا قال المولى: (أكرم العالم)؛ فإنّه ينحلّ إلى إنشاءات متعددة بتعدد الموضوعات خارجاً فيتعدد الجعل حقيقة وإنْ كان واحداً صورة, وعلى هذا فإنَّ ما أورده الشيخ الأنصاري قدس سره على الفاضل النراقي قدس سره ؛ من أنّه مع مفردية الزمان لا معنى لاستصحاب الحكم, ومع ظرفيته لا معنى لاستصحاب عدم البقاء, لأنّه إنْ لوحظ الزمان قيداً كان الفعل في كلّ حصة زمانية موضوعاً مستقلاً فلا مجال لجريان استصحاب الوجود لتعدد الموضوع, بل يتعيّن استصحاب عدم الجعل للشكّ في حدوثه بالنسبة إلى هذه الحصة المشكوكة.

وأمّا إذا لوحظ الزمان ظرفاً كان الحكم الثابت على تقدير استمراره واحداً فلا مجال لاستصحاب عدم الجعل لعدم الشك فيه ولا في زيادته لعدم قابليته للسعة والضيق, بل الشك في كيفيته وهي لا تكون مجرى لأصالة العدم بل يتعين استصحاب وجود المجعول, فلا إشكال على عبارة الشيخ قدس سره ؛ لأنّه ليس نظره إلى وحدة مجرى الإستصحابين حتى يورد عليه بأنّ مجراهما مختلف بل نظره إلى أنّ استصحاب عدم الجعل لا مجال له إلا إذا لوحظ الزمان قيداً, ومعه لا مجال لاستصحاب المجعول, فالإشكال عليه نشأ من عدم التأمل في كلامه.

والحاصل؛ إنّ جريان أصالة عدم الجعل وجعلها طرفاً لمعارضة أصالة بقاء المجعول لا يمكن الإلتزام به لِما عرفت تفصيل الكلام فيه آنفاً, وعليه؛ فلا مانع من استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية ولا معنى لمعارضته مع أصالة عدم الجعل.

ثمّ إنّه بناءً على الإلتزام بجريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها لاستصحاب المجعول؛ فهل يختصُّ ذلك بما إذا كان المجعول المشكوك من الأحكام الإلزامية أو يعمُّ ما إذا كان من الأحكام الترخيصية كالإباحة؟.

ص: 313

يظهرُ من كلام المحقق النراقي التعميم لمطلق موارد الشك في الحكم الشرعي الكلي؛ إلزامياً كان أو ترخيصياً, والتزم السيد الخوئي قدس سره بالإختصاص بالإلزامات فقط.

وتحقيقُ الكلام فيه نقول؛ إنّ الإباحة إمّا أنْ تكون حكماً مجعولاً شرعياً؛ كما هو ظاهر كلماتهم في تقسيمهم الأحكام التكليفية إلى خمسة أحدها الإباحة, أو لا تكون الإباحة حكماً شرعياً مجعولاً بل هي منتزعة عن عدم طلب الفعل أو الترك, إذ لا أثر عقلياً لجعل ما يسمى بإطلاق العنان وتعلق الإعتبارية؛ فإنّ اللاحرجية في الفعل والترك تترتب على مجرد عدم الإلتزام بأحدهما بلا حاجة إلى اعتبار ذلك.

وبالجملة؛ الأثر العملي العقلي المقصود ترتبه على الإباحة يترتب على مجرد الإلزام بأحد الطرفين وإنْ لم تكن الإباحة مجعولة فيكون جعلها لغواً.فإنّه بناءً على الثاني؛ لا معنى لاستصحاب عدم جعل الإباحة في الزمان المشكوك إباحة الفعل فيه لغرض أنّها غير مجعولة, كما لا يجري استصحاب المجعول وهو الإباحة لعدم تعلق الجعل بها حتى يتعبد بها بالإستصحاب؛ فيخرج المورد عن مورد البحث في استصحاب الأحكام الكلية الشرعية, فحينئذٍ إمّا أنْ ترجع إلى أصالة عدم الإلزام المشكوك إنْ جرى هذا الأصل بناءً على صحة استصحاب عدم الجعل, وإمّا الرجوع إلى أصالة البراءة, وعلى كلّ حالٍ؛ فلا مجال للإستصحاب مع الشك في الحلية البتة.

وأمّا بناءً على الأول؛ فلا مانع من جريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها لاستصحاب بقاء الإباحة؛ إذ المفروض جعلها وهو حادثٌ لا محالة؛ سواءً كان حدوثه في هذه الشريعة أم الشرايع السابقة, فإنّه إذا تحقق الشك في جعل الإباحة في أيِّ زمان كان بالنسبة إلى الزمان الخاص فالمرجعُ أصالة عدم الجعل ومعارضتها مع استصحاب الإباحة كما هو الشأن في الأحكام الإلزامية, وقد تقدم التفصيل.

ص: 314

ونفسُ النزاع يجري في الأحكام الوضعية اللا إقتضائية كالطهارة مقابل النجاسة؛ فإنّه إنْ قلنا بأنّ الطهارة ليست إلا عدم النجاسة والقذارة فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الطهارة في الزمان المشكوك كما لا مجال لاستصحاب الطهارة نفسها.

وأمّا إذا قلنا بجعل الطهارة كان استصحاب عدم جعلها معارضاً لاستصحاب بقائها بالبيان المتقدم.

وكذا الكلام في النجاسة؛ فإنّه إذا قلنا بأنّها غير مجعولة لأنّها عبارة عن عدم الطهارة.

ومن جميع ذلك يظهر وجه الخدشة في كثيرٍ من كلماتِ القوم في المقام, وسيأتي نقل بعضها ووجه الإشكال فيها إنْ شاء الله تعالى.

أمّا التفصيل الثالث؛ وهو الشك في المقتضي فلا يجري الإستصحاب فيه, والشك في المانع فلا إشكال في جريانه فيه, فإنّه سيأتي تفصيل الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

وذكرنا أنّ بعض الأصوليين ذهب إلى التفصيل بين العدميات والوجوديات فيجري الإستصحاب في الأولى دون الثانية؛ لاتّفاقهم على اعتبار جملةٍ من الأصول العدمية كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم المزاحم وأصالة عدم السهو والغفلة, ونحوها ممّا اتّفق عليها الجميع.

وهذا بخلافِ الوجودات؛ فإنّ الخلاف فيها كثير.

ولكن الصحيح؛ إنّ اتّفاقهم في العدميات لا ينافي شمول الإطلاق والعموم للوجوديات أيضاً, فإنّ المناط في كلٍّ منهما واحد, فلا بُدَّ من تنقيح أصل الكبرى الشامل للجميع, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 315

مباحث الإستصحاب

اشارة

إذا عرفت جميع ما ذكرنا يقع الكلام في مباحث:

المبحث الأول: في الأدلة على حجية الإستصحاب

ويمكن تقسيمها إلى أصناف ثلاثة:

الأول: حجيته على أساس إفادته الظن النوعي.

الثاني: حجيته على أساس السيرة العقلائية.

الثالث: حجيته على أساس الأخبار المعتبرة.

وحاصل ما يمكن أنْ يستدلّ به ما يلي:

الدليل الأول: إنّ الحالة السابقة تورث الظن بالبقاء

فيكون إمّا من باب الظن الشخصي أو الظن النوعي, فيكون الإستصحاب معتبراً حتى إذا لم يورث الظن في مورد خاص لوجود مانع؛ كما هو الشأن في حجية ما يقوم على هذا الإساس.

إلا أنّ الكلام في هذا الدليل يقع من ناحيتين:

الأولى: في الكبرى؛ وهي حجية مثل هذا الظن, فإنّه لا بُدَّ من وجود دليل على اعتباره؛ إمّا دليل الإنسداد على حجية كلّ ظن, وإمّا ضمّ أحد الأدلة القادمة.

الثانية: في الصغرى؛ وهي إنّ حصول الظن في الحالة السابقة لا بُدَّ أنْ يكون على مبنى السيرة العقلائية, حيث إنّهم لا يبنون عادة على شيء من باب التعبد الصرف, بل يكون بناؤهم من باب الأمارية والكاشفية؛ ولو النوعية، فتكون حينئذٍ شاهداً على إفادة الإستصحاب الظن ولو النوعي منه.

ص: 316

ولكن يُورد على ذلك بأحد وجهين:

الأول: عدم كون الحالة السابقة مورّثة للظن لو خليت وطبعها, بل هذا الظن له مناشئ باختلاف الموارد والأشخاص ومقدار البقاء وغير ذلك, ومن أجلها تحقق اختلاف العلماء في حجية الإستصحاب سعةً وضيقاً. والإستدلال بالسيرة العقلائية على حصول الظن غير وجيهٍ؛ لأنّه لا يُعلم كونه على أساس الكاشفية الموضوعية وحصول الظن, إذ ربّما يكون على أساس الأنس الذهني ببقاء الحالة السابقة, ويشهد له ما قيل من ثبوت الجري على الحالة السابقة حتى في الحيوانات فتكون هذه الحالة الذاتية قابلة للإشتداد والضعف تبعاً لتأكد الحالة السابقة وعدم التصاقها بالإنسان بحيث كان أكثر ابتلاءً بها ممارسة لها فتكون العادات والرسوم العرفية لها التأثير التام في ذلك.الثاني: عدم الدليل على حجية مثل هذا الظن على فرض حصوله وليس هو دليل الإنسداد لعدم تماميته, ولا دليل خاص لعدم ثبوته إلا أنْ يكون المراد الرجوع إلى أحد الأدلة القادمة ولكنها غير متوقفة على الظن كما ستعرف, فيكون هذا الدليل ممنوعٌ؛ كبرى وصغرى.

الدليل الثاني: دعوى الإجماع

ويرد عليه أنّه إنْ رجع إلى بناء العقلاء والسيرة فسيأتي الكلام فيه, وإلا فهو لم يكن إجماعاً تعبدياً لمعلومية المدرك مع أنّه لم يتحقق الإجماع في مثل المقام لكثرة الخلاف فيه؛ فالعمدة هو الإستدلال ببناء العقلاء وسيرتهم على الأخذ بالحالة السابقة والعمل على بقائها, فإنّ الشك عندهم تارةً؛ يكون بدوياً والمرجع فيه بعد الفحص البراءة. وأخرى؛ يكون في أطراف العلم الإجمالي, وقد استقر بناؤهم على الإحتياط فيه ما لم يكن مانعٌ عنه. وثالثةً؛ يكون الشك مسبوقاً بالثبوت والتحقق, وقد استقر بناء العقلاء على الأخذ بالحالة

ص: 317

السابقة ما لم تكن قرينة على الخلاف؛ سواء حصل لهم الظن بالبقاء أم لم يحصل, وفي مثل هذه السيرة لا حاجة إلى إمضاء الشرع لها بل يكفي عدم ورود الردع عنها مع أنّه قد ثبت الإمضاء أيضاً بما ورد من الأخبار؛ إلا أنْ يقال بثبوت الردع بما ورد في الكتاب والسنة من النهي عن اتّباع غير العلم.

ولكنه مردودٌ؛ بما تقدم مكرراً من أنّ المراد بغير العلم في الكتاب والسنة ما لا يعتمد عليه العقلاء دون ما يعتمدون عليه في معاشهم ومعادهم.

ومن هذا يظهر التهافت في كلام المحقق الخراساني قدس سره (1)؛ حيث ذهب في المقام إلى صلاحيته للردع مع ذهابه إلى العدم في الخبر الموثوق به, فلا إشكال في ثبوت أصل السيرة والبناء العقلائي على طبق الحالة السابقة في الجملة ولا حاجة إلى التفحص عن منشأ ذلك؛ هل هو الأنس الذهني أو الوهم أو سكون النفس وعدم اعتنائها باحتمال الخلاف, ومن أجل ذلك اعتمد أكثر العلماء على السيرة في المقام حتى قال بعضهم(2) أنّه لولاها لاختل نظام المعاش، وهو صحيحٌ؛ فإنّ كثيراً من الأمور في حياة الإنسان العملية إنَّما تمشي ببركة هذا البناء والغفلة عن احتمال الخلاف, ولولاه لاضطرب نظام المعاش لو أريد إقامته على أساس الإحتياط أو الظن المعتبر.

ومع ذلك فقد نُوقش في ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره جملةٌ من المحققين؛ من أنّ هذه السيرة لم تكن على أساس مرجعية الحالة السابقة واعتبارها, بل يكون العمل والبناء على الحالة السابقة لو فُرض إنَّما يكون على أساس نكتةٍ أخرى كالإطمئنان بالبقاء, كما في التاجر الذييُرسل الأموال إلى وكيله

ص: 318


1- . كفاية الأصول؛ ص387.
2- .حاشية فرائد الأصول (الفوائد الرضوية على الفرائد المرتضوية)؛ ص467.

في بلادٍ بعيدةٍ إطمئناناً منه ببقائه ولهذا لو شكّ في ذلك لمَا أرسلها, أو الرّجاء والإحتياط في بعض الموارد. أو الغفلة عن انتقاض الحالة السابقة رأساً كالخارج من داره حيث يرجع إليها من غير توجهٍ منه إلى احتمال خرابه أصلاً.

ويرد عليه: إنّ إنكاره أصل السيرة والبناء العقلائي على العمل على طبق الحالة السابقة في الجملة مكابرةٌ واضحة,وقد ذكرنا أنَّه لا وجه إلى التماس المنشأ والأساس لذلك بعد ثبوت أصل البناء العقلائي وعدم إنكار العلماء لها.

الوجه الثاني: إنّ هذه السيرة والبناء العقلائي لا يمكن تصويرها بحيث يكون عدم الردع عنها دليلاً على إمضاء الإستصحاب إلا أنْ يكون بأحد أنحاءٍ ثلاثة:

1- دعوى سريان البناء العقلائي والجري العملي في أغراضهم التكوينية إلى موارد الأفعال والأحكام الشرعية بعد دخولها في محلّ ابتلاء الناس, وقد حصل ذلك في عصر الشارع نفسه.

2- دعوى أنّ السيرة وإنْ فُرض عدم الجزم بسريانها إلى دائرة الأحكام الشرعية إلا أنّها على أيّة حال تدخل على أغراض المولى لكونها في معرض أنْ تسري إليها, فلو لم يرضَ الشارع بذلك لردع عنها.

3- دعوى ثبوت هذه السيرة عند العقلاء في دائرة الأحكام الثابتة بين الموالي العرفية, وهذا ممّا يهدّد الأغراض الشرعية المولوية, فلو لم يكن الشارع راضياً بذلك لردع عنها.

والحقُّ؛ إنّ الشارع رأس العقلاء ورئيسهم ولم يخرج عن بناء العقلاء في أمور معاشهم, فلو كان له طريقة خاصة به لبيّنه أو ردع عن بناء العقلاء, فإذا لم يتحقق فإنّه يدلّ على رضائه بالبناء العقلائي؛ فالوجوه الثلاثة صحيحة ويرجع كلّ واحدٍ منها إلى الآخر, وبذلك يمكن تثبيت صغرى السيرة.

ص: 319

الوجه الثالث: ثبوت الردع عن هذه السيرة؛ وقد عرفت أنّه الأدلة الناهية عن العمل بغير العلم كتاباً وسنةً, أو أدلة البراءة أو الإحتياط؛ كما اعترف به المحقق الخراساني قدس سره في المقام رغم إنكاره في بحث حجية خبر الواحد.

ولذا إعترض عليه بأنّه من التهافت؛ إذ لا وجه للتفرقة بين المقامين.

ويمكن الجواب عنه بما تقدم مكرراً من أنّ المراد بغير العلم في الكتاب والسنة ما لا يعتمد عليه العقلاء دون ما يعتمدون عليه في معاشهم ومعادهم, فلا تشمل تلك الأدلة الناهية السيرة والبناء العقلائي, ومن هنا ظهر التفاوت في كلام المحقق الخراساني قدس سره وإنْ حاول جمعٌ من العلماء رفع التهافت بين الموردين وإثبات الفرق بينهما بما يلي:

أولاً: إنَّ السيرة في حجية الثقة قد بلغت من الرسوخ والإرتكاز حتى كانت أكثر رسوخاً في وجدان العقلاء وارتكازهم فكانت بحاجةٍ إلى ردعٍ أقوى وأوضح قد لايكتفي لبعض مراتبها بمثل العمومات والمطلقات الكلية, بل لا بُدَّ من الصراحة والتنصيص؛ هذا بخلاف السيرة على الإستصحاب.

وفيه: إنّه من مجرد الدعوى؛ فإنَّ السيرة إذا قامت على أمرٍ يخصّ حياة العقلاء في معاشهم ومعادهم إنَّما تكون حجةً إذا لم يردع عنها الشارع؛ من دون فرقٍ بين أنْ تكون السيرة أعمق وأكثر رسوخاً أو لا تكون كذلك, بل السيرة بحدّ نفسها لا تتصف بذلك إلا إذا بلغت من الشيوع بين الأفراد والرسوخ بحيث تكون حاضرةً في وجدان العقلاء, وإلا فلا تكون سيرة, فلا فرق بين موارد السير العقلائية.

ثانياً: ما أفاده السيد الخوئي قدس سره (1)؛ من أن الأدلة الناهية عن اتّباع غير العلم إذا لم يكن جعلها رادعة للسيرة ولا مخصصة بها فيُشكّ في حجية خبر الثقة, فيمكن استصحابها

ص: 320


1- . مصباح الأصول؛ ج3 ص12.

لثبوت الإمضاء في أول التشريع وقبل صدورِ تلك الأدلة فتثبت الحجية فيه, وأمّا في المقام؛ فإنّ البحث في حجية الإستصحاب يكون بعد الشك والتردد فلا يمكن إثبات الحجية بالإستصحاب.

ويرد عليه: إنّ مدرك الإستصحاب خبر الثقة؛ فكيف يمكن إثبات حجية خبر الثقة به, مع أنّ السيرة التي قامت على خبر الثقة هي نفسها قائمة على الأخذ بالحالة السابقة كانتا موجودتين قبل الشرع, والأدلة المذكورة إمّا أنْ تشملهما أو لا تشملهما, فلا وجه للتفريق بينهما.

ثالثاً: إنّ أدلة النهي عن العمل بالظن لا ربط لها بنفي الحجية الثابتة بالسيرة؛ لا في المقام ولا في خبر الثقة لأنّها تطلب الركون إلى العلم, وهذا حاصل في موارد الحجج مطلقاً أيضاً, وإنّما المهم في الردع مثل أخبار البراءة وهي باعتبارها ثابتة بخبر الواحد, فلا يمكن أنْ تكون رادعة عن حجيته, بخلاف المقام بعد الفراغ عن حجية خبر الثقة.

وفيه: إنّه لا فرق بين الموردين؛ فإنّ احتمال رادعية أخبار البراءة عن خبر الثقة متحقق فلم تثبت حجيته, نعم؛ يكون ذلك لو قلنا بكفاية عدم ثبوت الردع في حجية السيرة.

وكيف كان؛ فإنّ ما ذكره بعد أنْ كان المقصود من أدلة النهي عن اتّباع غير العلم هو الركون إلى العلم ولا يشمل الحجية مطلقاً لا يبقى فرقٌ بين المقامين, وأمّا إثبات الرادعية بغير تلك الأدلة فهو موضوعٌ آخر.

رابعاً: إنّ السيرة على العمل بخبر الثقة -على ما يستفاد من كلام المحقق الخراساني قدس سره (1)- تسري في مجال الأحكام الشرعية ومعمول بها لدى أصحاب الأئمة علیهم السلام ؛ وهذا هو الذي يكون كاشفاً عن عدم الردع وعدم صلاحية الأدلة المذكورة للردع عنها, وأمّا

ص: 321


1- . كفاية الأصول؛ ص303.

في المقام؛ فالأمر لم يكن كذلك فإنّ السيرة على الإستصحاب لم يُعلم سريانها إلى مجال الأحكام الشرعية وعمل العقلاء بها في الأحكام, فلا يمكن إثبات عدم الردع بذلك بل يحتمل أنْ تكون رادعة عنها.

وفيه: ما عرفت آنفاً من أنّ السيرة على الإستصحاب داخلة في الأحكام, والشارع رأس العقلاء ورئيسهم يعلم بها فقد دخلت في حياة العقلاء الدنيوية والأخروية, فلا فرق بين السيرتين.

خامساً: إنّ ارتكازية حجية الثقة في زمن المعصومين علیهم السلام يوجب على الأقل إجمال دليل البراءة وعدم إطلاقها لمورد قيام خبر الثقة, ومثل هذا الإرتكاز غير ثابت في حقّ الإستصحاب.

وفيه: إنَّ ارتكازية الإستصحاب كارتكازية خبر الثقة؛ كلاهما ثابتان في عصر الأئمة علیهم السلام من دون فرق بينهما كما عرفت التفصيل فيما سبق.

سادساً: ما يستفاد من كلمات المحقق الخراساني قدس سره من أنّ السيرة العقلائية على حجية خبر الثقة وكفايته في مقام التنجيز والتعذير؛ فلو قام خبر الثقة على الترخيص يوجب القصور في حقّ الطاعة فلا يثبت في هذا المورد, فلا حاجة حينئذٍ إلى إثبات عدم الردع في خبر الثقة, وهذا بخلاف الإستصحاب الذي لم يثبت ارتكاز العمل به عند الموالي في مقام التنجيز والتعذير؛ وإنّما كان من جهة احتمال حظر العمل به إلى مجال الأحكام فإنّه لا بُدَّ من إثبات عدم الردع فيه.

ويرد عليه: ما ذكرناه آنفاً من أنَّ الإرتكاز في خبر الثقة مثل الإرتكاز في الإستصحاب بلا فرقٍ بينهما, وبه يثبت التنجيز والتعذير.

سابعاً: ما يستفاد من كلمات المحقق النائيني قدس سره (1)؛ من أنّ المجعول في باب حجية خبر الثقة عند العقلاء هو الطريقية والعلمية فيكون حاكماً على أدلة الردع ورفع ما لا يعلمون,

ص: 322


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص416، 494.

بخلاف الإستصحاب الذي لم يُجعل فيه إلا المنجزية والمعذرية فلا يكون حاكماً على تلك الأدلة فتصلح للرادعية عنه.

وفيه: ما تقدم في بحث الحجج من أنّ ما ذكره غير تام.

والحاصل؛ إنّه لا فرق بين السيرتين في حجية خبر الثقة وحجية الإستصحاب, وما ذكر من الوجوه المتقدمة لإثبات الفرق بينهما غير تام, فمن قال بالتفاوت إنَّما هو تهافت.

الأستدلال بالأخبار
اشارة

الدليل الثالث: الإستدلال بالأخبار على حجية الإستصحاب

وهي جملةٌ من الأخبار الواردة في أبواب متفرقة استفاد العلماء منها كبرى كلية وهي عدم جواز نقض اليقين بالشك المعبّر عنها بقاعدة الإستصحاب أو أصل الإستصحاب وهي:

الخبر الأول: مُضمرة زرارة؛

الخبر الأول: مُضمرة زرارة؛ ولا يضر الإضمار, لأنّ مثل زرارة لا يسأل إلا عن المعصوم علیه السلام , ولذا عبّروا عنها بالصحيحة.

عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ أَصَابَ ثَوْبِي دَمُ رُعَافٍ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ شَيْ ءٌ مِنْ مَنِيٍّ فَعَلَّمْتُ أَثَرَهُ إلى أَنْ أُصِيبَ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَأَصَبْتُ وحَضَرَتِ الصَّلَاةُ ونَسِيتُ أَنَّ بِثَوْبِي شَيْئاً وصليتُ, ثُمَّ إِنِّي ذَكَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ علیه السلام : (تُعِيدُ الصَّلَاةَ وتَغْسِلُهُ. قُلْتُ: فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُ مَوْضِعَهُ وعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ فَطَلَبْتُهُ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ, فَلَمَّا صليتُ وَجَدْتُهُ؟ قَالَ علیه السلام : تَغْسِلُهُ وتُعِيدُ. قُلْتُ: فَإِنْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ ولَمْ أَتَيَقَّنْ ذَلِكَ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئاً, ثُمَّ صليتُ فَرَأَيْتُ فِيهِ؟ قَالَ علیه السلام : تَغْسِلُهُ ولَا تُعِيدُ الصَّلَاةَ. قُلْتُ: لِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ علیه السلام : لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ؛ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ أَبَداً. قُلْتُ: فَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ ولَمْ أَدْرِ أَيْنَ هُوَ فَأَغْسِلَهُ؟ قَالَ علیه السلام : تَغْسِلُ مِنْ ثَوْبِكَ النَّاحِيَةَ الَّتِي تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهَا؛ حَتَّى تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ. قُلْتُ: فَهَلْ عَلَيَّ إِنْ شَكَكْتُ فِي أَنَّهُ أَصَابَهُ شَيْ ءٌ أَنْ أَنْظُرَ فِيهِ؟ قَالَ علیه السلام : لَا؛ ولَكِنَّكَ إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تُذْهِبَ الشَّكَّ الَّذِي وَقَعَ فِي

ص: 323

نَفْسِكَ. قُلْتُ: إِنْ رَأَيْتُهُ فِي ثَوْبِي وأَنَا فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ علیه السلام : تَنْقُضُ الصَّلَاةَ وتُعِيدُ إذا شَكَكْتَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ ثُمَّ رَأَيْتَهُ, وإِنْ لَمْ تَشُكَّ ثُمَّ رَأَيْتَهُ رَطْباً قَطَعْتَ الصَّلَاةَ وغَسَلْتَهُ ثُمَّ بَنَيْتَ عَلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ شَيْ ءٌ أُوقِعَ عَلَيْكَ؛ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ)(1).

والرواية تتضمن عدّة أسئلة لا بأس بطرحها لبيان فقه الرواية:

الأول: إذا صلّى الإنسان في ثوبٍ يعلم بنجاسته نسياناً؛

فالحكم فيه: وجوب إعادة الصلاة, وتدلّ عليه جملةٌ من الأخبار غير هذه الصحيحة وقد عللّ في بعضها بأنّ الناسي قد تهاون في التطهير؛ دون الجاهل.

الثاني: لو علم إجمالاً بالنجاسة في بعض جوانب الثوب ولم يتمكن من تشخيص موضعه بعد الفحص؛

فالحكم فيه: وجوب غسل الثوب وإعادة الصلاة أيضاً, والمراد من قول السائل (ولم أقدر عليه) عدم إمكان تشخيصه؛ لا زوال العلم وحصول الشك.

الثالث: إذا ظنّ الإصابة فتفحص ولم يرَ النجاسة فصلّى فيه, ثمّ رأى فيه النجاسة؛

فالحكم فيه: قوله علیه السلام (تَغْسِلُهُ ولَا تُعِيدُ ..... لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ؛ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ أَبَداً).

الرابع: لو علم إجمالاً بالإصابة ولم يشخص موضعها؛

فالحكم فيه: وجوب غسل أطراف العلم الإجمالي حتى يحصل له اليقين بالطهارة.الخامس: لو شكّ في أصل الإصابة؛

فالحكم فيه: عدم وجوب الفحص؛ إلا إذا أراد الإحتياط ونفي الشك من نفسه.

ص: 324


1- . تهذيب الأحكام؛ ج1 ص421-422.

السادس: لو رأى النجاسة في أثناء الصلاة؛

فالحكم فيه: ما فصّله الإمام علیه السلام بقوله: (تَنْقُضُ الصَّلَاةَ وتُعِيدُ إذا شَكَكْتَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ ثُمَّ رَأَيْتَهُ, وإِنْ لَمْ تَشُكَّ ثُمَّ رَأَيْتَهُ رَطْباً قَطَعْتَ الصَّلَاةَ وغَسَلْتَهُ ثُمَّ بَنَيْتَ عَلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ شَيْ ءٌ أُوقِعَ عَلَيْكَ؛ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ).

وأمّا موضع الإستشهاد بهذه الصحيحة على حجية الإستصحاب فهو فقرتان:

الأولى: قوله علیه السلام : (تَغْسِلُهُ ولَا تُعِيدُ ..... لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ؛ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ أَبَداً).

والثانية: قوله علیه السلام : (وإِنْ لَمْ تَشُكَّ ثُمَّ رَأَيْتَهُ رَطْباً قَطَعْتَ الصَّلَاةَ وغَسَلْتَهُ ثُمَّ بَنَيْتَ عَلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ شَيْ ءٌ أُوقِعَ عَلَيْكَ؛ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ).

أمّا الفقرة الأولى؛ فقد قيل أنّ فيها احتمالات:

الإحتمال الأول: أنْ يكون المراد من الفحص وعدم الرؤية هو حصول العلم بعدم الإصابة لأنّه لم يكن يعلم بالنجاسة من أول الأمر وإنّما كان يظنّ بها وقد زال الإحتمال بالتفحص, ثمّ إنّه بعدما وجدها بعد الصلاة علم بأنّها نفس النجاسة التي قد ظنّ بها.

ويرد عليه: إنّه بناءً على هذا الإحتمال لا يكون المورد مصداقاً لقاعدة عدم نقض اليقين بالشك, ولا أنْ تكون صحة الصلاة مستندة إليها؛ سواء أريد منها الإستصحاب أم قاعدة اليقين؛ لأنّه لم يكن شاكاً؛ لا في حال الصلاة ولا بعدها, بل كان عالماً بالطهارة في الأثناء وعالماً بالنجاسة بعد الصلاة, مع أنّ الإمام علیه السلام يفترض وجود الشك ليطبق عليه القاعدة وتصحيح الصلاة بها؛ فيعلم من ذلك عدم إرادة هذا المعنى في الرواية.

الإحتمال الثاني: أنْ يحصل العلم بعدم الإصابة بعد الفحص ولكن عندما وجد النجاسة احتمل أنّها نجاسة طارئة, وعليه؛ يكون شاكاً بعد الصلاة في وقوعها مع النجاسة فيكون

ص: 325

مورداً لعدم نقض اليقين بالشك؛ سواء أريد به الإستصحاب أم قاعدة اليقين؛ لأنّه كان على يقينٍ بالطهارة حال الصلاة, وإنّما حصل له الشك الساري بعد الصلاة, فالشك الحاصل بعد الصلاة إذا كان بلحاظ اليقين الذي حصل له بالطهارة من الفحص حين الصلاة فيكون موضوعاً لقاعدة اليقين, وإذا كان بلحاظ اليقين بالطهارة الثابت قبل ظنّ الإصابة يكون موضوعاً لقاعدة الإستصحاب.الإحتمال الثالث: عدم حصول العلم بالطهارة من عدم الرؤية حين الصلاة, وبعد رؤية النجاسة بعد الصلاة علم بأنّها هي التي ظنها ابتداءً والتي كانت سابقةً على الطهارة؛ وعليه؛ يصدق عدم نقض اليقين بالشك أي الإستصحاب بلحاظ حال الصلاة, لأنّه كان عالماً بالطهارة قبل الصلاة شاكاً فيها حين الصلاة؛ وإنْ انكشف له خلاف ذلك بعد الصلاة, ولا تصدق قاعدة اليقين في حقه, لعدم حصول اليقين بالطهارة حين الصلاة بحسب الفرض, فيتم الإستدلال به على قاعدة الإستصحاب.

الإحتمال الرابع: عدم حصول العلم بالطهارة حين الصلاة وعدم حصول العلم بعد الصلاة ووجدان النجاسة بأنّها كانت السابقة على الصلاة؛ وعليه؛ تجري قاعدة الإستصحاب أيضاً بلحاظ حال الصلاة وحال السؤال معاً ولا تجري قاعدة اليقين.

والحاصل من جميع ذلك؛ إنّ قول السائل (فرأيت فيه) يحتمل فيه أنَّه رأى النجاسة التي ظنّها قبل الصلاة بحيث علم بوقوع صلاته مع النجاسة, كما يحتمل أيضاً فيه أنّه رأى النجاسة ولم يعلم أنَّها حادثة بعد العمل أو هي التي ظنّها؛ وقد استظهر الأكثر الإحتمال الأول, فحينئذٍ يكون المراد من اليقين والشك في قوله علیه السلام : (كنت على يقينٍ فشككت) هما اليقين قبل ظنّ الإصابة والشك في أثناء العمل الذي يدلّ عليه قوله (فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقن ذلك), وعلى هذا يشكل تطبيق قاعدة الإستصحاب عليه.

ص: 326

توضيح الإشكال: إنّه بعد أنْ حكم الإمام علیه السلام بعدم وجوب الإعادة وعللّه بحرمة نقض اليقين بالشك بمعنى ثبوت الحرمة الفعلية للنقض؛ فإمّا أنْ يكون الملحوظ في قوله علیه السلام : (فليس ينبغي لك أنْ تنقض اليقين بالشك أبداً) هو حرمة النقض فعلاً بحيث يكون المراد ثبوت الإستصحاب في حال ما بعد الصلاة ولو كان الموضوع هو اليقين والشك السابقين كما هو الظاهر من الرواية.

وإمّا أنْ يكون الملحوظ هو ثبوت الإستصحاب وحرمة النقض في حال الصلاة.

أمّا على الأول؛ يكون ظاهر التعليل أنّ الإعادة من مصاديق نقض اليقين بالشك فتثبت لها الحرمة فيكون من تطبيقات الكبرى التي تكون متعلقاً للحكم على مورد التعليل, كما إذا قال: لا تشرب هذا المائع لحرمة شرب المسكر؛ فيكون هذا المايع من مصاديق المسكر, وبناءً عليه؛ لا تكون الإعادة نقضاً لليقين بالشك حال الصلاة حتى تثبت لها الحرمة, بل هي نقضٌ لليقين باليقين بوقوع الصلاة مع النجاسة. وبالجملة؛ إنّ الإعادة لو ثبتت فهي من آثار العلم اللاحق بالنجاسة وعمل به, لا من آثار الشك السابق حتى يصدق نقض اليقين بالشك فلا يتضح وجه لتطبيق كبرى حرمة نقض اليقين بالشك على المورد.

وأمّا على الثاني؛ أي إجراء الإستصحاب بلحاظ حال الصلاة؛ فلا يمكن التعليل بالكبرى.لإنّ حرمة النقض الثابتة أثناء العمل لا يعقل أنْ تتعلق بالإعادة بعد العمل إذ لا معنى لتعلق الحرمة السابقة بفعل متأخر بحيث لا تكون حرمة في ظرف العمل, فلا يمكن أنْ يكون من مصاديق حرمة النقض بقول مطلق, فلا يكون التعليل من التعليل بالكبرى, فيكون المراد من التعليل؛ إنّ الإعادة منافية لحرمة النقض لا أنّها نقض حتى تتعلق بها الحرمة, وعليه؛ يكون الربط بين العلة والمعلول مشكلاً بل يكون مستهجناً عرفاً.

وخلاصة الإشكال؛ إنّ التعليل إنْ كان بلحاظ ثبوت حرمة النقض بما بعد الصلاة كان ممتنعاً لعدم انطباقه على الإعادة, وإنْ كان بلحاظ ثبوت حرمة النقض حال الصلاة كان

ص: 327

مستهجناً عرفاً لعدم وضوح الربط بين العلة والمعلول, ولا يتأتى عليه حديث كون الإعادة نقضاً باليقين لا بالشك لِما عرفت من امتناع تعلق الحرمة السابقة بالإعادة, فلا موضوع لهذا الحديث.

هذا وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره (1) هذا الإشكال في عبارةٍ فيها قصورٌ في تحريره؛ حيث أنّه نظر إلى الشق الأول من الإشكال خاصةً عملاً بظاهر الرواية.

فاستشكل عليه بأنّ الإعادة ليست نقضاً لليقين بالشك بل باليقين.

ثمّ قال: نعم؛ يمكن أنْ يجري الإستصحاب فيما قبل الصلاة ليصح تعليلاً لجواز الدخول في الصلاة.

كما أنّ المحقق الخراساني قدس سره (2) خلط إحدى جهتي الإشكال بالأخرى؛ فراجع كلماتهم. والعمدة في الجواب عن الإشكالين يظهر من الإحتمالات التي ذكرناها آنفاً في هذه الفقرة من الحديث الشريف, ومع ذلك فقد قيل إنّ الإشكال من الجهة الأولى لا رافع له, وأمّا الإشكال من الجهة الثانية فقد ذُكر في دفعه وجوهاً؛ كلّها ترجع إلى بيان الربط بين العلة والمعلول, وهي:

الوجه الأول: ما أشار إليه الشيخ وصاحب الكفاية (قدّس سرّاهما)(3) من التعليل بثبوت الإستصحاب في حال العمل بملاحظة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء الثابت في حدِّ نفسه, فالتعليل يرجع إلى بيان صغرى الإجزاء, وقد تمسك البعض بهذا النص لإثبات قاعدة الإجزاء في الأوامر الظاهرية بقولٍ مطلق.

ص: 328


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص565.
2- . كفاية الأصول؛ ص393.
3- . كفاية الأصول؛ ص395.

ولكن هذا الوجه إنَّما يصح فيما إذا كانت الملازمة بين الأمر الظاهري والإجزاء واضحة عرفاً أو عند المخاطب, بحيث ينتقل إلى الحكم بمجرد بيان الصغرى, فقيل إنّ الأمر ليس كذلك, فإنّ إجزاء الأمر الظاهري ليس من الأمور الواضحة.ويمكن دفعه بأنّ شخصية زرارة المخاطب عنده من الفقاهة والنباهة ما يكشف من الصغرى حكم الكبرى, فالإشكال عليه بأنّه من الأمور الخفية حتى عند السائل لا وجه له, لكن الإشكال على هذا الوجه أنّه من مجرد الإحتمال الذي لا إشارة إليه في الصحيح وغيره.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ؛ من أنّ الشرط واقعاً هو إحراز الطهارة لا نفسها, فتكون الصلاة مع إحراز الطهارة واجدة للشرط واقعاً وتكون صحيحةً فلا تجب الإعادة, وحينئذٍ يكون التعليل بالإستصحاب في عدم وجوب الإعادة من أجل أنّه مع الإستصحاب قد أحرز الطهارة فيتحقق الشرط الواقعي ويكون وجوب الإعادة حينئذٍ منافياً لحكم الشارع بالإستصحاب.

وأشكل عليه من ناحيتين:

الأولى: في صحة أصل المبنى في نفسه؛ فإنّه قد يقال بأنّ الشرط الواقعي إذا كان هو إحراز الطهارة لا نفس الطهارة فلم تكن الطهارة ذات أثر شرعي فلا يصح إجراء الإستصحاب فيها لِما سيأتي من أنّ صحة الإستصحاب إنَّما تتوقف على أنْ يكون ذا أثر شرعي, فلا يمكن تصحيح الصلاة باستصحاب الطهارة.

ويرد عليه: إنّ اشتراط صحة الإستصحاب على أنْ يكون للمستصحب أثر شرعي إنَّما هو في ما إذا كان من الأمور الخارجية التكوينية كالعدالة ونحوها لعدم قابليته للتعبد إلا بلحاظ أثره, وأمّا إذا كان من الأمور الشرعية فلا يعتبر فيه ذلك لأنّه يقبل التعبد بنفسه

ص: 329

كالوجوب والحرمة, نعم؛ يعتبر أنْ يترتب عليه أثرٌ عملي ولو كان عقلياً كترتيب لزوم الإطاعة على استصحاب الوجوب, ولا يخفى أنّ الطهارة من الأمور الشرعية التي هي بنفسها قابلة للتعبد, ولكن لا بُدَّ من ترتب الأثر العملي على التعبد بها حتى لا يكون لغواً, ويكفي في المقام ترتب الإجزاء وواجدية العمل للشرط الواقعي؛ فهذا الإشكال غير وارد.

الثانية: في علاج ما ذكره من الإشكال في الرواية؛ فقيل أنّ هذا البيان وإنْ كان مُوجباً لكون الإستصحاب السابق علة لعدم وجوب الإعادة لكنه لا يصحح تعليل عدم الوجوب بالإستصحاب الوارد في الرواية لكونه ليس من الأمور الواضحة عرفاً حتى ينتقل إليها السائل رأساً, واحتمال معلوميته لدى السائل خاصة مندفعٌ بعدم ظهوره من النّص.

وفيه: ما ذكرناه آنفاً من أنّ مثل زرارة الذي يعتبر من فقهاء أصحاب الإمام الصادق علیه السلام قد بلغ مرتبة من العلم والفقاهة ليكون ذلك معلوماً عنده.

الوجه الثالث: ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره (1) من أنّ المأخوذ في الصلاة مانعية العلم بالنجاسة لا شرطية العلم بالطهارة, وعليه؛ فيتحقق الربط بين عدم وجوب الإعادة والإستصحاب حال العمل لنفي النجاسة تعبداً بواسطة استصحابالطهارة؛ فتكون الصلاة واجدة للشرط الواقعي, لكن عبارة المحقق النائيني لم يوجد فيها الحل فيكون خلاف ما ذكره فراجع تقريرات الكاظمي.

وأشكل عليه بأنّ ذلك لا يدفع الإستهجان العرفي, لأنّه ليس من الأمور الواضحة عرفاً التي تصحح التعليل عرفاً, بل هو من الأمور الدقية الخفية ويكون الوصول إليها بالفحص والبحث.

ص: 330


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص348.

وفيه: إنّ الأمور العرفية على مراتب من الوضوح, فقد تكون من الواضحات المبينات حتى عند الأذهان الساذجة وبعضها تحتاج إلى إمعان النظر عندهم, وموضوع الرواية من هذا القبيل ولا تصل إلى درجة أنّها من الأمور الدقية الخفية العقلية, فإنّ العرف إذا عرف مضمون الرواية وخصوصياتها ينتقل ذهنه إلى الربط بين الإستصحاب حال الصلاة وعدم وجوب الإعادة, وهذا ممّا لا يمكن إنكاره.

ثمّ إنّه قد يُثار إشكالٌ حول ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من أنّ المأخوذ في الصلاة مانعية العلم بالنجاسة, فقيل أنّه لو كان الأمر كذلك فمع الشك يحرز عدم المانع لعدم العلم مع الشك فلا حاجة إلى الإستصحاب وغيره لإحراز الطهارة.

ولعلّ الجواب عن ذلك؛ بأنَّ المحقق النائيني قدس سره إنَّما اعتبر ذلك بعد ملاحظة الأدلة الخاصة الواردة والجمع بينها وبين أدلة شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة الظاهرة بدواً في النجاسة الواقعية, التزم بأنّ المانع هو العلم بالنجاسة لكن ليس العلم بما هو صفة قائمة في النفس ولا بما هو طريق إلى الواقع, بل بما هو منجز للواقع ومعذر عنه, وهو بهذه الملاحظة ممّا يصح أنْ تقوم مقامه جميع الطرق والأصول؛ المحرزة وغير المحرزة, لأنّها جميعها تتكفل جهة التنجيز والتعذير.

وبالجملة؛ إنّ المانع في الصلاة هو النجاسة المعلومة بما هو منجز أو النجاسة المنجزة, وعليه؛ تكون منجزية النجاسة المشكوكة غير المعلومة لا يمكن نفي مانعيتها إلا بسبب قيام دليل أو أصل معذر ولو عقلاً, والتفصيل موكول إلى محلّه.

وهناك وجوهٌ أخرى لدفع هذا الإشكال لا تخلو عن وهن واضطراب فراجع.

والحقُّ أنْ يقال في الجواب عن الإشكالين المزبورين: بعد عدم دلالة الحديث على قاعدة اليقين إذ لا قرينة فيها تدلّ على حصول اليقين بعد الفحص والنظر, وعلى فرضه فإنّه لا

ص: 331

قرينة على أنّه المراد, بل المتفاهم من الرواية عرفاً اليقين بالطهارة قبل ظنّ الإصابة, فلا وجه لاستفادة قاعدة اليقين فإنّها تدلّ على اعتبار الإستصحاب أيضاً؛ إمّا بالفحوى أو باعتبار تعدد اللحاظ كما ذكرناه في الإحتمال الثاني من الإحتمالات الأربعة المتقدمة.وأمّا إذا قلنا بأنّه مع رؤية النجاسة بعد الصلاة يكون من نقض اليقين باليقين لا النقض بالشك فلا وجه للتعليل لعدم وجوب الإعادة بأنّه نقضٌ لليقين بالشك, بل الإعادة نقضٌ لليقين بالطهارة السابقة باليقين بوقوع الصلاة بالنجاسة.

وعليه؛ بناءً على ما سبق من الإشكالين ظهر الجواب عن جميع ذلك بذكر المحتملات في قوله (فرأيت فيها نجاسة):

1- العلمُ بأنّ النجاسة قد حدثت بعد الصلاة؛ ولا ريب في صحة الصلاة وصحة الإستصحاب بالنسبة إلى اليقين والشك قبل الصلاة.

2- الشك في أثناء الصلاة ولم يعلم المصلي بالنجاسة إلا بعد الفراغ منها؛ وتصحّ الصلاة أيضاً لأنّه من صغريات الجهل بالنجاسة, ويصح الإستصحاب بالنسبة إلى ما قبل الصلاة كما مرَّ في سابقه.

3- التردد في أنّ النجاسة هي السابقة أوالحادثة بعد الصلاة أو في أثنائها؛ وتصحّ الصلاة أيضاً للإستصحاب أيضاً ولا شيء عليه.

4- العلمُ بأنّ النجاسة هي السابقة مع الغفلة حين الصلاة والإعتماد على إحراز الطهارة بالإستصحاب؛ وتصحُّ الصلاة لأنّ الطهارة الخبثية شرطٌ إحرازي لا واقعي, والمفروض أنّه أحرز الشرط, ويصح الإستصحاب أيضاً بالنسبة إلى ما قبل الصلاة, والعلم الحادثُ بعد الصلاة بأنّ النجاسة هي عين النجاسة لا يضر بصحة الصلاة والإستصحاب لغرض أنّ الشرط إحرازي لا أنْ يكون واقعياً.

ص: 332

5- نفس الإحتمال السابق مع التردد أو الإلتفات إلى حاله حين الصلاة؛ فإنْ جرى الإستصحاب قبل الصلاة تصحُّ لإحراز الطهارة الخبثية بالأصل, وإنْ لم يجرِ من أجل عدم اليقين السابق أو التردد فيه لا تصحّ الصلاة فتجري قاعدة الإشتغال.

قد يقال: إنّ الطهارة الخبثية وإنْ كانت شرطاً إحرازياً وليس فيها تبين الخلاف حينئذٍ ولكن لا بُدَّ من إحرازها حين الدخول في الصلاة, وفي بعض الصور المذكورة لا إحراز في البين.

فيقال: بأنَّ المناط فرض وجود الإحراز بحسب الموازين الشرعية؛ توجه إليه المكلف أم لا, ولا ريب في إمكان فرض وجود الإحراز كما عرفت.

هذا كلّه ما يتعلق بالفقرة الأولى من الإستشهاد في الرواية.

وأمّا الفقرة الثانية؛ ما ورد في المضمرة: (قُلْتُ: إِنْ رَأَيْتُهُ فِي ثَوْبِي وأَنَا فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: تَنْقُضُ الصَّلَاةَ وتُعِيدُ إذا شَكَكْتَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ ثُمَّ رَأَيْتَهُ, وإِنْ لَمْ تَشُكَّ ثُمَّ رَأَيْتَهُ رَطْباً قَطَعْتَ الصَّلَاةَ وغَسَلْتَهُ ثُمَّ بَنَيْتَ عَلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ شَيْ ءٌ أُوقِعَ عَلَيْكَ؛ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِ)؛ فإنّ فيه تفصيل بين صورتين؛ صورة الشك إبتداءً ثمّ رؤية النجاسة حال الصلاة فيُعيد, وصورة عدم الشك في الإبتداء ثمّ وجدان النجاسة في أثناء الصلاة فحكمَ بصحة الصلاة بعدغسل النجاسة في أثنائها بما لم يستلزم منافيات الصلاة وهو الذي كان مورد السؤال السادس من الأسئلة الواردة في الحديث كما عرفت.

ودلالة هذه الفقرة على الإستصحاب واضحة لا يمكن إنكارها, فإنّها في مقام بيان حكم عام يكون المورد من مصاديقه, ولا تأتي فيها الإشكالات التي أثيرت في الموضع الأول, لكن مع ذلك فقد قيل بأنّ في هذه الفقرة إحتمالان:

الأول: أنْ يكون المراد بالشك الشبهة البدوية, ويكون المقصود حينئذٍ أنّه إذا كنت قد شككت في موضعٍ منه ثمّ رأيته فيه بحيث علمت بأنّه من السابق أعدت الصلاة, وأمّا إذا

ص: 333

لم يكن شكّ لك ثمّ رأيته فلعلّه شيء أوقع عليك في الأثناء؛ فالحكمُ هو صحة الصلاة لقاعدة نقض اليقين بالشك, وإنّما تغسل الثوب لِما تبقى من الصلاة فتبني عليها.

الثاني: أنْ يكون المراد بالشك الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي, أي الشك في موضعٍ من الثوب بعد فرض العلم بأصل النجاسة, فيكون المراد بقوله: (وإنْ لم تشكّ) في الشطر الثاني من الجواب نفي الشبهة المقرونة بالعلم, ويُفهم على هذا التقدير حكم الشبهة البدوية, مع العلم بأنّ ما وجده كان هو المشكوك إبتداءً من مفهوم التعليل في قوله: (لأنّك لا تدري؛ لعلّه أوقع عليك), ومعناه بطلان الصلاة مع العلم بأنّ النجاسة كانت من أول الأمر, وقد قرّب كلّ واحدٍ من الإحتمالين:

أمّا الإحتمال الأول؛ فتقرّبه عدّة أمور:

منها؛ ظهور الشك في الشبهة البدوية؛ لا سيما في قوله (وإن لم تشكّ) فإنّه لم يقيده بموضع منه ليتوهم كونه من الشبهة في أطراف العلم الإجمالي.

ومنها؛ ظهور الجملة في دخالة رؤية النجاسة بعد الشك في البطلان, ومع فرض العلم الإجمالي بالنجاسة تكون الصلاة باطلة, ولا دخل لرؤية النجاسة في ذلك.

ومنها؛ لزوم التكرار إذا أريد من الشك الشبهة المقرونة بالعلم؛ لأنّه في السؤال الرابع بيَّن حكم العلم الإجمالي بالنجاسة ولزوم الغسل فيه, ولا فرق في ذلك بين أنْ يكون العلم الإجمالي بذلك حاصلاً قبل الدخول في الصلاة أو في أثنائها.

أمّا الإحتمال الثاني؛ فقد قيل في تقريبه وجهان:

الأول: ظهور تقييد الشك بموضعٍ من الثوب في الفراغ عن أصل النجاسة, وإنّما الشك في موضعها.

الثاني: إنّ فرض الشبهة البدوية لا يُساوق بطلان الصلاة لو رأى النجاسة بعد ذلك؛ فإنّ مجرد ذلك لا يستلزم العلم بالنجاسة من أول الأمر, بل يمكن فرض أنّه شيء أوقع عليك

ص: 334

في الأثناء, فذِكرُ الإمام علیه السلام هذه النكتة في الصورة الثانية قرينةٌ على إرادة الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي والفراغ عن أصل النجاسة في الشطر الأول, والصحيح؛ عدم تمامية كِلا الوجهين؛ أمّا الأول فلأنّه خلاف ما يستفاد من قوله (إنْ شككت في موضع منه) الذي يناسب الشك البدوي أيضاً, والنكتة في التقييد بموضعٍ منه تظهر أنّه في حال رؤية النجاسة في نفس الموضع يحصلالعلم غالباً بكونها نفس النجاسة المشكوكة إبتداءً, بخلاف ما إذا لم يكن كذلك؛ بأنْ تصيب النجاسة الثوب إجمالاً, ومنه يظهر اندفاع الوجه الثاني, مضافاً إلى احتمال ورود السؤال السادس من زرارة في مورد السؤال الخامس, أي ما إذا شكّ في أنّه أصابه شيء وكونه تتمة له, فالضّمير في قوله (إنْ رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة) راجع إلى نفس ذلك الشيء.

والحقُّ؛ إنّ جميع ذلك من التطويل الذي لا طائل تحته؛ فإنّ هذه الفقرة من هذه الصحيحة لها ظهور عرفي في كون الشك من الشك البدوي وإثبات حكم عام لينطبق على مورد السؤال, ومجرد الإحتمال لا يصرف الظهور العرفي ولا يعتنى به, ومن أجل هذا الوضوح لم يتطرق السيد الوالد قدس سره إلى ذلك.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري قدس سره ذكر أنّ بين جواب الإمام علیه السلام في هذه الفقرة -وهو الحكم ببطلان الصلاة مع إنكشاف وقوع جزءٍ منها مع نجاسة مجهولة في الأثناء- وبين ما تقدم في جواب السؤال الثالث بناءً على الإحتمال الثالث من الحكم بصحة الصلاة مع وقوع تمامها مع النجاسة؛ تهافتٌ؛ فإنّه لا يمكن أنْ يكون وقوع بعض الصلاة مع النجاسة المجهولة أسوأ حالاً من وقوعها بتمامها كذلك.

ولكن عرفت فيما ذكرناه من الإحتمالات الخمسة إنّ الدخول في الصلاة مع الطهارة الإحرازية ولو بالأصل يوجب صحّتها, ومن هنا قُلنا بصحة الصلاة وصحة الإستصحاب

ص: 335

بخلاف ما ورد في هذه الفقرة, حيث لم يعتمد المصلي على ما يحرز به الطهارة كما في الصورة الأولى فلذا حكم الإمام علیه السلام ببطلان الصلاة هنا؛ فلا تهافت في البين.

ومن ذلك يظهر الجواب عمّا ذكره السيد الخوئي قدس سره في الجواب عن ذلك؛ بأنّنا لا نعلم ملاكات الأحكام التعبدية, فلعل المصلحة الواقعية بنحوٍ تقتضي ذلك, فإنّه لا تصل النوبة إلى ملاحظة الملاكات, فإنّ الدليل هو الذي فرّق بين الموردين كما عرفت.

وأورد السيد الصدر قدس سره (1) على ما ذكره السيد الخوئي قدس سره بأنّه لا يشفي الغليل ولا يدفع الإشكال إذا لوحظ التهافت بين الدلالات المستفادة من الرواية, ثمّ ذكر جواباً عن الإشكال المزبور, وهو إبراز نكتة يحتمل العرف على أساسها الفرق بين الصورتين, فذكر عدّة خصوصيات فيما إذا وجد المصلي نجاسةً سابقةً في أثناء الصلاة في كلامٍ طويلٍ, ولكن ما ذكره من الخصوصيات خلاف المتفاهم العرفي ولا يمكن الإعتماد عليها في إبراز النكتة التي يدّعيها, فإنّ العرف يفهم من الصحيحة أنّه إذا وجد المصلي النجاسة في ثوبه في أثناء الصلاة بعد تنجزالعلم عليه فلا بُدَّ أنْ يعمل وفق علمه, ومقتضاه؛ التفصيل الذي ذكره الإمام علیه السلام في جوابه المتقدم من أنّه إذا شكّ ودخل في الصلاة ثمّ رأى النجاسة فلا بُدَّ من الإعادة, أمّا إذا لم يشكّ بل وجد النجاسة في أثناء الصلاة فهي صحيحة؛ لأنّه حين دخوله في الصلاة كان على علمٍ بالطهارة ثمّ شكّ أنّ النجاسة كانت من ابتداء الأمر أو شيء أوقع عليه فلا ينقض اليقين بالشك, ومن هنا قلنا بظهور الصحيحة في تطبيق حكم العام على مورد الرواية وهو المتفاهم العرفي منه فلا إشكال حينئذٍ.

والحاصلُ من جميع ما ذكرناه في الإستدلال بهذه الصحيحة في كلا الموضعين فيها؛ إنّه لا إشكال في ثبوت كبرى الإستصحاب بهذه الصحيحة؛ لا سيما أنّ جملة (فليس ينبغي لك

ص: 336


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص44.

أنْ تنقض اليقين بالشك) وردت في كلا الموضعين ولها ظهور في إعطاء قاعدة كلية, وهو ممّا لا يمكن الشك فيه والإشكال عليه, ويرشد إلى ذلك بل يدلّ عليه أيضاً أنّها صريحةٌ في التعليل بهذه القاعدة فكأنّ هذه الكبرى كانت مركوزة عند السائل حيث قال علیه السلام : (لا ينبغي لك).

وقد ذكرنا أنّ هذه الكبرى -وهي عدم نقض اليقين بالشك- تلائم الإستصحاب كما تلائم قاعدة اليقين, لكن عرفت أنّ الصحيحة بعيدةٌ عن الأخيرة إذ لم يفرض اليقين في قاعدة اليقين في كلام السائل ولا في كلام الإمام, بخلاف اليقين الذي هو ركن الإستصحاب؛ فإنّ المصلي كان عالماً بالطهارة قبل الصلاة, فأركان الإستصحاب واضحةٌ في كلام الإمام والسائل.

نعم؛ لا يفرق في الإستصحاب الذي أجراه الإمام علیه السلام بين أنْ يكون بلحاظ حال الصلاة أو يكون بلحاظ ما بعد الصلاة كما عرفت ذلك مفصلاً, وفي المسألة بحثٌ فقهي موضعه علم الفقه؛ وهو شرطية الطهارة الخبثية في الصلاة في أنّه العلم بالطهارة أو الطهارة المحرزة أو عدم العلم بالنجاسة, وقد أشرنا إليها فيما سبق فراجع.

الخبر الثاني: صحيحة زرارة في الوضوء

وهي مضمرةٌ أيضاً؛ وقد عرفت أنّ الإضمار لا يضر؛ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: الرَّجُلُ يَنَامُ وهُوَ عَلَى وُضُوءٍ؛ أَ تُوجِبُ الْخَفْقَةُ والْخَفْقَتَانِ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ؟. فَقَالَ علیه السلام : (يَا زُرَارَةُ؛ قَدْ تَنَامُ الْعَيْنُ ولَا يَنَامُ الْقَلْبُ والْأُذُنُ, فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ والْأُذُنُ والْقَلْبُ وَجَبَ الْوُضُوءُ. قُلْتُ: فَإِنْ حُرِّكَ إلى جَنْبِهِ شَيْ ءٌ ولَمْ يَعْلَمْ بِهِ؟. قَالَ علیه السلام : لَا؛ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَدْ نَامَ حَتَّى يَجِي ءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ, وإِلَّا فَإِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُضُوئِهِ؛ ولَا تَنْقُضِ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ وإِنَّمَا تَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَر)(1).

ص: 337


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص245.

وسياق الرواية يشهد بأنّه علیه السلام في مقام بيان قاعدة كلية وضابطة عامة تجري في جميع الأبواب بلا شبهة وارتياب.

والحديث يشتمل على سؤالين:

الأول: السؤال عن إيجاب الخفقة والخفقتين للوضوء, وهو يرجع إلى شبهة حكمية؛ إمّا لاشتباه مفهوم النوم لدى السائل وتردده بين الأقل والأكثر ليشمل الخفقة والخفقتين, وإمّا للشك في كون الخفقة أو الخفقتين ناقضاً مستقلاً, وعلى أيِّ حالٍ فليست هذه الفقرة محلّ الإستدلال من الرواية.

الثاني: السؤال عن حكمِ ما إذا حُرّك في جنبه شيء ولم يعلم به؛ وهو السؤال عن شبهة موضوعية للشكّ في تحقق النوم الناقض وهو نوم الأذن والقلب, والجواب كان في بيان قاعدة كلية وحكم عام وهو قوله علیه السلام : (وإِلَّا فَإِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُضُوئِهِ؛ ولَا تَنْقُضِ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ وإِنَّمَا تَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَر) وهو موضعُ الإستدلال, وقد عرفت أنّ دلالتها واضحة على المطلوب, ولكن ذكر الأصوليون أنّ فيه احتمالات:

الإحتمال الأول: ما قرّبه الشيخ الأنصاري قدس سره (1) وغيره من أنّ الجزاء لقوله: (وإلا) محذوفٌ وقوله (فإنّه على يقينٍ من وضوئه) علة للجزاءِ قامت مقامه لدلالتها عليه, والتقدير (وإلا فلا يجب عليه الوضوء لأنّه على يقينٍ من وضوئه ولا ينقض اليقين أبداً بالشك).

وذكر قدس سره إنّ قيام العلة مقام الجزاء كثيرٌ لا يُحصى في القرآن الكريم وغيره؛ مثل قوله تعالى: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)(2), وقوله تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ)(3).

ص: 338


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص565.
2- . سورة طه؛ الآية 7.
3- . سورة الزمر؛ الآية 7.

الإحتمال الثاني: أنْ يكون قوله (فإنّه على يقينٍ من وضوئه) هو الجزاء؛ بأنْ يكون جملة خبرية أُريد بها الإنشاء, كما هو الحال في الكثير من الجمل الخبرية الواقعة في مقام الإنشاء.

الإحتمال الثالث: أنْ يكون الجزاء قوله (ولا ينقض اليقين بالشك أبداً), ويكون قوله (فإنّه على يقينٍ من وضوئه) توطئةً وتمهيداً لذكرِ الجزاء, فيكون المراد؛ وإنْ لم يستيقن أنّه نام فحيث أنّه على يقينٍ من وضوئه فلا ينقض اليقين بالشك.

الإحتمال الرابع: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1)؛ وهو أنْ يكون قوله (فإنّه على يقينٍ من وضوئه) جزاءٌ مع التحفظ على ظهوره في مقام الإخبار جداً, فيكون خبراً محضاً مع كونه جزاءً بنفسه.ويمكن تقييم هذه الإحتمالات بما يلي:

أمّا الإحتمال الأول؛ فصحيحٌ في حدِّ نفسه وليس ببعيدٍ عن التراكيب الكلامية, إلا أنّه مع اقترانه باحتمالات أخرى يحتاج إلى ما يرجحه على غيره, وهو ما سيتضح فيما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا الإحتمال الثاني؛ فقد حكم الشيخ قدس سره بأنّه يحتاج إلى تكلّف, بل في الكفاية؛ إنّه إلى الغاية بعيد, وقد أشار إليه من أنّه لا يصح إلا بأنْ يراد منه لزوم العمل على طبق يقينه بوضوئه, وفيه تكلّف واضحٌ وبعدٌ عن ظهور الكلام, ولكن المحقق الإصفهاني قدس سره نفى التكلف فيه ولم يستبعده مثل سائر الموارد التي تستعمل فيها الجملة الخبرية في مقام الإنشاء كما هو مُبيّن في مباحث الأصول اللفظية, وقيل: إذا كانت الجملة فعلية كما هو المعهود خارجاً كقوله (يعيد) أو (يغتسل) دون ما إذا كانت الجملة إسمية؛ فلا يصح أنْ يقال في مقام إيجاب الإعادة كما في (هو معيد) فإنّه لم يُعهد ذلك في الإستعمالات العرفية

ص: 339


1- . نهاية الدراية؛ ج5 ص46.

كما هو معلوم, والمقام من القسم الأخير؛ فإنّ قوله (فإنّه على يقينٍ من وضوئه) فلا يصح استعماله في مقام البعث والإنشاء, فهذا الإحتمال بهذا البيان غير سديد.

وفيه: إنّ هذا الرد مبني على أنْ تكون الجملة الخبرية التي يراد بها الإنشاء في مقام البعث نحو تحقيق الفعل وإيجاده, ومن أجل ذلك قالوا بأنّ الجملة الخبرية الفعلية تكون كذلك؛ لأنّها تحكي عن النسبة الصدورية, فيقال إنّ إبراز هذه النسبة الصدورية وكأنّها متحققة في مقام الإنشاء فتجعل كناية عن إرادة الصدور وتستعمل في مقام البعث, إلا أنّ الجملة الخبرية إذا كانت في مقام بيان التعبد فإنّها تؤدّي معنى الإنشاء كما في المقام, فإنّه يكون المقصود من قوله (فإنّه على يقينٍ من وضوئه) جعل اليقين تعبداً, فيكون المعنى: (إنْ لم يستيقن بالنوم فهو متيقن بالوضوء) ولا محذور في هذا المعنى؛ فيكون مفاده مفاد قوله (لا تنقض اليقين بالشك أبداً) في كونه تعبداً باليقين, وعليه؛ إذا كان اليقين بعنوانه قابلاً للتعبد ولو بلحاظ الجري العملي -كما عليه المحقق النائيني قدس سره (1)- فهو, الإلتزام بأنْ يكون المراد التعبد بالمتيقن, كما هو كذلك في قوله (لا تنقض اليقين بالشك).

وبالجملة؛ يكون قوله (فإنّه .....) هو الجزاء, ويكون المراد منه إنشاء التعبد باليقين, فيكون مفاده مفاد (لا تنقض اليقين بالشك).

وهو صحيحٌ وليس فيه ما يُخالف قواعد اللغة والإستعمال.

وأمّا الإحتمال الثالث؛ فقيل بأنّه غير صحيح؛ لِما هو المشهور بين العلماء من أنّ جملة الجزاء لا بُدَّ إمّا أنْ تكون مصدّرة بالغاية أو مجردة عنها, والمقام ليس كذلك, وسيأتي الجواب عن ذلك أيضاً.

ص: 340


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص260.

وأمّا الإحتمال الرابع؛ فقد قرّبه المحقق الإصفهاني قدس سره باعتبار تجريد اليقين والشك من خصوصية الزمان وإنكار اقتضاء الشرطية سببية الشرط للجزاء واستناده إليه ربّما يعكس الأمر, كقولهم (إنْ كان النهار موجوداً فالشمس طالعة).

وفيه: إنّ كِلا الأمرين موضع بحثٍ؛ أمّا الأول فسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى, وأمّا الثاني فقد تقدم في مبحث مفهوم الشرط من ظهور الجملة الشرطية في الترتب والسببية كما هو واضح.

وكيف كان؛ فإنّ المراد من قوله (فإنّه على يقينٍ من وضوئه) إمّا اليقين بالوضوء حدوثاً أو بقاءً؛ فإنْ أريد اليقين حدوثاً فهو غير مترتب على عدم اليقين بالنوم وظاهر الجملة الشرطية هو ترتب الجزاء على الشرط.

وإنْ أريد اليقين بقاءً فهو مخالف للوجدان لغرض أنّه شاكٌّ في بقاء الوضوء, وإنّ أصحّ تلك الإحتمالات هو الأول, وإنْ كان الصحيح هو إرجاع بعضها إلى بعضٍ بعد أنْ كان السياق له الظهور في الجواب, فلا وجه لهذا الإختلاف, ويمكن إرجاع تلك الإحتمالات بعضها إلى بعضٍ.

وكيف كان؛ فقد نشأ من هذه الإحتمالات إشكالاتٌ عديدة على الإستدلال بهذه الصحيحة, وهي:

الإشكال الأول: إنّ جواب الجملة الشرطية في قوله (فإن حُرّك في جنبه شيء) غير معلوم, فيصير مجملاً؛ لأنّه إنْ كان كلمة (لا) أو جملة (فإنّهُ على يقينٍ) فهو خلاف ما هو المعروف عند علماءِ الأدب من لزوم كون الجزاء جملة فعلية.

وإنْ كان جملة (ولا ينقض اليقين أبداً بالشك) فهو خلاف ما تسالموا من عدم تصدّر الجزاء بالواو.

ص: 341

وأجيب عنه:

أولاً: إنّه يمكن تصحيح ذلك كما عرفت آنفاً مع أنّه لا ملزم لنا بما قاله الأدباء من كلمات سادات الفصحاء, بل الأصحّ أنْ يكون الأمر على عكس ذلك كما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) في تفسيره القيّم.

ثانياً: إنّه لا يضر بالإستدلال بعد كون الجواب معلوماً على كلّ حال؛ فإنّه مُستفاد من سياق الكلام وهو شايع في المحاورات, فيكون الجواب سياقياً لا أنْ يكون لفظياً, ويعتبر ذلك من أسرار البلاغة كما هو واضح.

ثالثاً: إنَّ الإشكال اللفظي لا يُعبأ به بعد معلومية المراد عرفاً كما عرفت.

الإشكال الثاني: إنّ الألف واللام في لفظ (اليقين) للعهد, فلا يستفاد منه العموم؛ لاختصاصه بخصوص مورده الذي هو في المقام الوضوء فقط.

وأورد عليه:أولاً: إنّ ظهور مدخولها في الجنسية قرينة على كونها للجنس أو الإستغراق.

ثانياً: على فرض كونها للعهد, ولكنه ظاهر في كونه في مقام تطبيق الحكم العام والكبرى الكلية على المورد لا الإختصاص, فلا وجه لاستفادته من الخبر أبداً.

الإشكال الثالث: تقدم في مباحث الألفاظ؛ إنّ المفرد المحلى باللام يفيد العموم كلفظ اليقين في المقام, وحيث أنّ النهي ورد عليه في قوله (لا تنقض اليقين) فإنّه يستفاد منه سلب العموم, وهو في قوة المهملة كما هو الثابت في محلّه فلا يدلّ على الكلية, نعم؛ لو كان من عموم السلب يدلّ على الكلية حيث أنّ الأقسام ثلاثة؛ إحراز عموم السّلب, إحراز سلب العموم, والشك في أنّه من أيّ واحدٍ منهما؛ وما يستفاد منه العموم هو الأول فقط دون الأخيرين.

ص: 342


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص255.

وفيه: إنّ ذلك صحيحٌ فيما إذا لم يعلم أنّ العام قد سيق مساق جعل القانون الكلي والقاعدة الكلية الأبدية, كما هو ظاهر قوله علیه السلام (لا تنقض اليقين أبداً بالشك), وقد أُحرز هذا العموم في المقام بقرائن خارجية؛ بل داخلية, ولا فرق في ذلك بين كون ما يستفيد منه العموم معنىً إسمياً أو حرفياً أو سياقياً, فلا وجه على كلّ حالٍ لتوهم سلب العموم فيه.

وكيف كان؛ فإنّ الرواية دالّة على حجية الإستصحاب في جميع الموارد من دون اختصاص بباب الوضوء, وهي قاعدة كلية, فتكون دالّة على التعبد باليقين بالوضوء من باب إنّه صغرى من صغريات هذه الكلية ومصداقاً من مصاديقها؛ سواءً استفيد ذلك من مجموع كلام الإمام علیه السلام أم من قوله (ولا تنقض اليقين أبداً بالشك) الدّال على جريان ذلك في كلّ يقين وشكّ؛ فلا يستفاد منه الإختصاص بالوضوء بوجهٍ, ومن ذلك يظهر ما قيل من أنّه بناءً على الإحتمال الأول يستفاد الإختصاص بباب الوضوء؛ لأنّ قوله علیه السلام (فإنّه على يقينٍ) علة للحكم المقدّر وهو عدم وجوب الوضوء, وهذه العلة مركبة من صغرى وهي (إنّه على يقينٍ من وضوئه) وكبرى وهي (لا تنقض اليقين أبداً بالشك), وبعد اتّحاد الوسط المتكرر في الصغرى والكبرى في القيود والخصوصيات كما هو مفصل في محلّه يكون الأوسط في الصغرى هو اليقين بالوضوء, وهو المأخوذ في موضوع الكبرى, فلا تفيد الكبرى إلا عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك فيختص الإستصحاب على هذا التقدير بالوضوء.

ولعمري؛ إنّ ذلك خروج عن سياق الرواية والفهم العرفي لها وتبعيدٌ للمسافة, وإنّ إطلاق لفظ اليقين في قوله (لا تنقض) يكفي في تعميم الحكم, ولا قرينةً على التخصيص إلا ما ذكروه من وروده في الوضوء وهو فاسد؛ لأنّ المورد لا يقيّد الوارد كما هو معلوم.

ص: 343

كما إنّه يظهر ممّا ذكرناه فساد ما قيل من ترجيح أحد الإحتمالات على الآخر بعد إرجاع بعضها إلى بعض وأنّ الجميع ينصبّ فيإستفادة القاعدة الكلية من السياق وما فيه من الظهور العرفي في الجزاء والجواب.

كما أنّه لا فائدة في النزاع من أنّ اللام في (اليقين) للعهد أو للجنس وتحقيق إثبات العموم بناءً على الثاني دون الأول, فإنّ المدار كلّه على إلغاء الخصوصية بحسب السياق والظهور العرفي, إلا ما قيل من أنّ الخصوصية إنَّما استفيدت من تعلق اليقين بالوضوء, ولكن قد عرفت إنّ هذه الخصوصية غير ملحوظة في الحكم أبداً, وقد أطال المحقق الخراساني الكلام في إلغاء الخصوصية، وذكر وجوهاً ثلاثة لإثباته:

الأول: ظهور التعليل في كونه أمراً ارتكازياً لا أن يكون تعبدياً؛ وهو أنّ موضوع النقض مطلق اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء؛ إذ لو قُيّد بخصوص اليقين بالوضوء كان التعليل تعبداً؛ وهو خلاف الظاهر.

الثاني: إنّ احتمال الإختصاص إنَّما يكون من جهة كون اللام في (اليقين) للعهد مع الظاهر كونها للجنس كما هو الأصل؛ فتفيد العموم.

الثالث: إنّ قوله (فإنّه على يقينٍ من وضوئه) لا ظهور له في تقييد اليقين بالوضوء, بحيث يكون الأوسط هو اليقين بالوضوء لاحتمال أنْ يكون (من وضوئه) متعلقاً بظرفٍ مقدّر لا بلفظ اليقين؛ فكأنّه قال: (فإنّه من طرف وضوئه على يقينٍ), فيكون الأوسط ذاتُ اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء.

والحقُّ؛ إنّ ما ذكره صحيحٌ لا غبار عليه, ولا يخرج عن سياق الرواية والظهور العرفي لها, فالإيراد عليها غير صحيح, لكن لا حاجة إلى جعل (من وضوئه) متعلقاً بالظرف المقدر بعد ظهور السياق. وأمّا ما قيل من أنّ اليقين من الصفات التي تتقوم بالمتعلق مضافاً إلى

ص: 344

الموضوع فيكون ذكر المتعلق من باب اللابُدّية لا أنْ يكون كاشفاً عن الخصوصية, فإنّه لا يرفع الإشكال إنْ كان ثابتاً؛ فإنْ كان المتعلق مفيداً للإختصاص كما استفيد من الوجه الذي ذكروه فهو, وإلا فلا يدلّ على الإختصاص؛ لِما عرفت من أنّه لا خصوصية لمتعلق اليقين, بل المدار على نفس اليقين والشك.

كما أنّه لا فرق بين أنْ يكون قوله (لا تنقض اليقين بالشك) تمام العلة أو أنّ العلة مركبة منه ومن قوله (فإنّه على يقينٍ من وضوئه) بعد تجريد الأخير عن الخصوصية؛ فتأمل.

ومن جميع ذلك؛ تظهر الخدشة في كثيرٍ ممّا ذكر في المقام؛ لا سيما في كلمات السيد الصدر قدس سره (1), فإنّ إرجاع الرواية إلى الفهم العرفي واستفادة الظهور من السياق منها يظهر بوضوحٍ المراد منها, وهو إعطاء قاعدة كلية, والوضوء منمصاديقها ومورد تطبيقها, فراجع كلماتهم (قدّس الله أسرارهم) تجدها مشوشة قابلة للنقض والإشكال لا حاجة إلى ذكرها بعد وضوح الأمر.

الخبر الثالث: صحيحة زرارة الثالثة

عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا علیهما السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَنْ لَمْ يَدْرِ فِي أَرْبَعٍ هُوَ أَمْ فِي ثِنْتَيْنِ وقَدْ أَحْرَزَ الثِّنْتَيْنِ؟ قَالَ علیه السلام : (يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ وأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وهُوَ قَائِمٌ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ويَتَشَهَّدُ ولَا شَيْ ءَ عَلَيْهِ, وإِذَا لَمْ يَدْرِ فِي ثَلَاثٍ هُوَ أَوْ فِي أَرْبَعٍ وقَدْ أَحْرَزَ الثَّلَاثَ قَامَ فَأَضَافَ إِلَيْهَا أُخْرَى ولَا شَيْ ءَ عَلَيْهِ؛ ولَا يَنْقُضُ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ, ولَا يُدْخِلُ الشَّكَ فِي الْيَقِينِ, ولَا يَخْلِطُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ, ولَكِنَّهُ يَنْقُضُ الشَّكَّ بِالْيَقِينِ ويُتِمُّ عَلَى الْيَقِينِ فَيَبْنِي عَلَيْهِ ولَا يَعْتَدُّ بِالشَّكِّ فِي حَالٍ مِنَ الْحَالاتِ)(2).

ص: 345


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص68.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص351-352.

ووجهُ الإستدلال بهذه الصحيحة؛ إنّ قوله علیه السلام (ولا ينقض اليقين بالشك) مثل نظيره في الصحيحتين السابقتين ممّا سبق لبيان قاعدة كلية وحكم عام في الإستصحاب, وقد طُبق هذا الحكم العام على مورد الرواية إذا كان المراد من اليقين هو اليقين بعدم الإتيان بالرابعة قبل الدخول في الركعة المشكوك في كونها ثالثة أو رابعة كما هو ظاهر الحديث, لكن العلماء ذكروا فيها إحتمالات:

الإحتمال الأول: ما ذكرناه من أنّ المراد هو اليقين بعدم الإتيان بالرابعة قبل الدخول في الركعة المشكوك في كونها ثالثة أو رابعة؛ والحكم فيه عدم جواز نقض اليقين بالشك فيجب إتيان ركعةً أخرى.

وأشكل عليه بأنّ الفقرات الأخرى التي يكرر فيها الإمام علیه السلام اليقين والشك, كجملة (ولا يدخل الشك في اليقين), وجملة (لا يخلط أحدهما بالآخر), وجملة (ولكن ينقض الشك باليقين), وجملة (ولا يعتدّ بالشك في حالٍ من الحالات)؛ لا يستفاد أنّها تكون ناظرة إلى الإستصحاب الذي هو أمرٌ مركوزٌ في الأذهان, فإنّه لا حاجة إلى مثل هذه التأكيدات والإستعارات والكنايات.

وفيه: إنّ الموضوع فيه من الأهمية ما يستلزم التكرار والتأكيد؛ لأنّ الشارع اهتم بالصلاة وجعلها عمود الدين, والناس يقعون كثيراً في الشك والظن في خصوصياتها, فالصلاة ممّا استدعى الإهتمام بعلاج الشك وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الإحتمال الثاني: المراد بها قاعدة البناء على اليقين في مقام تحصيل الفراغ اليقيني بعد اشتغال الذمة بالتكليف؛ المعبّر عنها في اصطلاح الأصوليين ب-(قاعدة الإشتغال), لكن الروايات تعبر عنه بالبناء على اليقين كما في صحيحة إسحاق بن عمار (إِذَا شَكَكْتَ فَابْنِ عَلَى الْيَقِينِ)(1),

ص: 346


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج8 ص212.

وبناءً على هذا الإحتمال؛ يراد من أدلة النهيعن نقض اليقين بالشك النهي عن رفع اليد عن اليقين بالفراغ بالإكتفاء بالعمل المشكوك في الفراغ, بل لا بُدَّ من عملٍ يحصل معه اليقين بالفراغ, وهذا الإحتمال وإنْ كان يرفع الإشكال بشأن التكرار في جملات عديدة.

ولكن يرد عليه: إنّه خلاف الظاهر, لأنّ اليقين بالفراغ لم يكن موجود بالفعل للمصلي, وإنّما يراد تحصيله وإيجاده مع أنّ ظاهر السياق المفروغية عن وجوده وتكليفه بعدم نقضه بالشك, ولهذا كان المعهود في الروايات لوظيفة الشاك البناء على اليقين لا عنوان لا تنقض اليقين, مع أنّ إسناد النقض إلى اليقين ظاهر في الإستصحاب؛ إذ أنَّ الإكتفاء بالفراغ الإحتمالي ليس نقضاً لليقين بل نقضٌ لقاعدة الإشتغال وحكم العقل بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ.

الإحتمال الثالث: أنْ يراد باليقين بإتيان ثلاث ركعات, وبالشك الشك في انضمام الركعة الرابعة إليها؛ فيكون المقصود النهي عن عمل يشكّ معه في صحة ركعاته الثلاث فيزول يقينه بسبب شكه في إتيان الرابعة؛ لاحتمال زيادتها فتكون مبطلة للصلاة, فلا بُدَّ أنْ يأتي بركعة منفصلة, ولا يخلط أحدهما بالآخر فيكون التكرار والتطويل لإفادة ذلك. ويُبعّد هذا الإحتمال أنّ نقض اليقين يعني رفع اليد عمّا يقتضيه, فإنْ كان هو اليقين بالثلاث الصحيحة فهو يقتضي الفراغ من ناحيتها, فلو رفع اليد عن صحة الصلاة من ناحيتها كان قد نقض هذا اليقين, والمفروض إنّه يريد أنْ يرفع يده عن صحة ما أتى به, ولا يكتفي به من ناحية الركعة الرابعة المشكوكة؛ فإنّه ليس نقضاً لليقين بالثلاث.

الإحتمال الرابع: أنْ يراد باليقين المتيقن وبالشّك المشكوك, أي لا تنقض الركعات الثلاث المتيقنة بركعة رابعة مشكوكة, بل يقتصر عليها ويأتي بالرابعة مفصولة ولا يدخلها في الثلاث, ويندفع الإعتراض السابق في الإحتمال الثالث.

ص: 347

ولكن هذا الإحتمال بعيدٌ أيضاً؛ لأنّ حمل اليقين والشك على المتيقن والمشكوك خلاف الظاهر, مع أنّه لا يناسب لقوله (ولكن ينقض الشك باليقين) لأنّه يلزم التفكيك في معنى اليقين والشك بين فقرات الرواية.

والصحيح من هذه الإحتمالات هو الأول؛ لأنّه الموافق لظاهر الرواية والمنساق من فقراتها, فتكون دالة على قاعدة الإستصحاب أو تطبيقها على المقام, وقد عرفت الوجه في تكرار الفقرات والتطويل في التعبيرات مع أنّه يمكن أنْ يراد من هذا التأكيد هو لزوم الفصل بين الركعة المشكوكة والركعات الثلاث المتيقنة. فالرواية تدلّ على كبرى الإستصحاب وانطباقها بلحاظ أصل الركعة الرابعة, فلا ينبغي الإشكال في استفادة التعميم عن سياقها الذي يدلّ عليه الظهور العرفي كما إستفيد من الصحيحتين السابقتين.

هذا ولكن قد أثار العلماء بعض الإشكالات في إمكان استفادة الإستصحاب منها, وهي:الإشكال الأول: إذا كان المراد بإضافة الركعة إتيانها موصولة فهو ينطبق على الإستصحاب, ولكنه خلاف ما استقر عليه المذهب من لزوم إتيانها مفصولة, وإنْ كان المراد إتيانها مفصولة وكون اليقين عبارة عمّا جعله الشارع مبرءً للذمة فلا ربط له بالإستصحاب, بل يرجع إلى قاعدة البناء على اليقين, كما في قول أبي الحسن الأول علیه السلام لإسحاق بن عمّار: (إِذَا شَكَكْتَ فَابْنِ عَلَى الْيَقِينِ)(1).

وأجيب عنه بوجوهٍ:

الوجه الأول: ما أفاده السيد الوالد قدس سره (2)؛ من أنّ المراد هو اليقين بعدم إتيان الركعة الرابعة فينطبق على الإستصحاب, ومقتضاه صحة إتيانها موصولة, ولكن دلّ الدليل من

ص: 348


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج8 ص212.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص259.

الخارج على لزوم الإتيان بها مفصولة وذلك لا يضر بالإستصحاب, وقد عرفت أنّ في الصحيحة بعض القرائن ما تدلّ على أنّها مفصولة كما يأتي أيضاً.

الوجه الثاني: ما أفاده جملةٌ من المحققين؛ من أنّ دلالة الحديث على كبرى الإستصحاب مسلّمة كما عرفت, ولكن في مرحلة التطبيق لا بُدَّ من حمله على التقية, والتفكيك بين الكبرى والتطبيق متعارف في الروايات؛ كما في حديث الإمام الصادق علیه السلام للمنصور (ذَاكَ إِلَى الْإِمَامِ إِنْ صُمْتَ صُمْنَا وَإِنْ أَفْطَرْتَ أَفْطَرْنَا)(1), وكحديث الرفع المطبق في بعض الروايات على مسألة الحلف بالطلاق والعتاق مكرهاً مع أنّ الحلف باطلٌ في الموردين عندنا؛ بخلاف العامة.

ولعلّه من أجل ذلك وقع التكرار والتأكيد في مجال التطبيق, فكأنّ الإمام علیه السلام كان يتّقي ولم يُفصح عن لزوم الركعة المفصولة رغم الإحتفاظ بكبرى الإستصحاب, ولكن المحقق العراقي قدس سره (2) إعترض على ذلك ثمّ حاول الإجابة عنه؛ وأمّا الإعتراض فإنّ أصالة الجدّ وعدم التقية في الكبرى مُعارض بأصالة الجدّ في التطبيق, فيقع التعارض بين الأصلين اللفظيين فيتساقطان بعد فَقدِ المرجح لأحدهما.

وحاصل الجواب؛ إنّ أصالة الجدّ في التطبيق ساقطةٌ جزماً على كلّ حال, إذ لا يترتب عليها أثرٌ بعد عرض صورية الكبرى وعدم صحتها, فتجري أصالة الجدّ في الكبرى بدون مُعارض, والقول بأنّ الأصلين المتعارضين هنا متّصلان في كلامٍ واحدٍ فيوجب الإجمال فاسدٌ بأنّ التعارض نشأ من العلم الخارجي ببطلان الركعة الموصولة فلا يضر بانعقاد أصل الظهور.

ص: 349


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج10 ص132.
2- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص59.

والحقُّ؛ إنّ جميع ما ذكر في هذا الوجه لا يمكن المساعدة عليه لأنّ الصحيحة فيها من القرائن ما تأبى من الحمل على التقية وإرادة الركعة موصولة:

منها؛ ما ذكره الإمام علیه السلام في الشك بين الأثنين والأربع (يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائمٌ بفاتحةِ الكتاب) فإنّه كالصريح في الركعتين المفصولتين, ومنها ظهور قوله علیه السلام (قام فأضاف إليها ركعةً أخرى).

ومنها؛ أنّه لو حملنا كلام الإمام علیه السلام من خصوص الشك بين الثلاث والأربع على التقية من دون حمل كلامه علیه السلام في الشك بين الأثنين والأربع عليها يلزم التفكيك من دون مبررٍ. ومنها؛ التكرار والتأكيد بأساليب مختلفة من جملات متعددة ممّا لا يناسب فرض التقية مع عدم الحاجة إلى هذه التأكيدات, وتنويع الأساليب مع كون أصل الموضوع -وهو الإستصحاب- أمراً مركوزاً معلوماً فليس ذلك إلا لبيان هذه الجهة وهي كون الركعة مفصولة, فلا وجه بهذا الجواب.

الوجه الثالث: ما أفاده صاحب الكفاية(1) من حمل الحديث على إرادة الركعة المفصولة لا الموصولة, وغاية ما يلزم من ذلك تقييد إطلاق الإستصحاب لا أكثر الذي يقتضي الإتيان بركعةٍ أخرى وإتيانها موصولة وعدم مانعية التشهد والتسليم والتكبيرة, وقد ثبت بهذه الصحيحة بقاء الأول -وهو الإتيان بركعةٍ أخرى- وانتفاء الثاني؛ وهو كونها موصولة فتصح تطبيق الإستصحاب بالنسبة إلى الأثر الأول دون الأثر الثاني.

وأورد عليه المحقق الإصفهاني قدس سره (2)؛ إنّ ذلك يستلزم انتفاء الأثرين للإستصحاب معاً, فلا تكون الركعة المفصولة مصداقاً للإستصحاب إذ ليست النتيجة مجرد سقوط

ص: 350


1- . كفاية الأصول؛ ص396.
2- . نهاية الدراية؛ ج5 ص82-83.

التشهد والتسليم والتكبير عن المانعية, بل يضاف إلى ذلك افتراض جزئيتها, ومعه يتبدل الأمر الإستقلالي بالمركب لا محالة, فلا يكون الأمر بالركعة الرابعة نفس الأمر الأول بل أمر جديد.

وقد أجيب عنه؛ بأنّ التكليف من أول الأمر تعلق بجامع الركعة الرابعة بشرط لا عن الزيادات في فرض العلم, والركعة الرابعة بشرط تلك الزيادات من فرض الشك فيكون التكليف واحداً لا تكليفاً جديداً.

ويمكن الجواب عن أصل الوجه؛ بأنّ معناه أنّ الحكم بالركعة المفصولة بخصوصياتها لم يكن بملاك الإستصحاب وعدم نقض اليقين بالشك, وهو خلاف ظاهر الصحيحة التي تدلّ على أنّ الركعة مستنبطٌ من كبرى وعدم نقض اليقينبالشك, فيناسب ما ذكره قدس سره قاعدة البناء على اليقين الذي هو حكمٌ واقعي لا قاعدة الإستصحاب الذي هو حكمٌ ظاهري.

والصحيح؛ إنّ ذلك أيضاً تام, لأنَّ سياق الصحيحة وظاهر قوله (لا تنقض اليقين بالشك) لبيان الإستصحاب وكونه العلة للزوم إتيان أصل الأمر بالركعة, وأمّا الخصوصيات الأخرى فقد استفاد السائل من القرائن الخارجية أو الداخلية الأخرى الواردة في جواب السؤال الأول والتأكيدات المتكررة, وهو الذي ذكرناه في الجواب الأول.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1)؛ من أنّ تطبيق الإستصحاب إنَّما هو بملاحظة ما ثبت بالأخبار الخاصة من الإجزاء في المقام, وإنّه يثبت بالركعة المفصولة لا الموصولة, إذ المستفاد من هذه الصحيحة ومن الأخبار الخاصة إنقلاب وظيفة المكلف عند الشك إلى لزوم إتيان الركعة الرابعة مفصولة, فيكون موضوع وجوب الركعة

ص: 351


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص370، فوائد الأصول؛ ج4 ص363-364.

المفصولة مركباً من جزئين؛ كونه شاكّاً وهذا محرز بالوجدان, وعدم إتيانه بالركعة الرابعة وهذا ما يحرزه بالإستصحاب, وعدم ثبوت هذا الأثر قبل الشك لا يضر بجريانه, لأنّ اللازم أنْ يكون للمستصحب أثرٌ حين الإستصحاب لا قبله.

والحقُّ؛ إنّ هذا الوجه صحيحٌ ويرجع إلى الوجه الأول, فالإستصحاب مُحكّم، وتطبيقه على المقام ممّا لا ريب فيه, ويستلزم منه إتيان الركعة موصولة لولا الدليل على لزوم إتيانها مفصولة من الأخبار الخاصة والإجماع, بل إستقرار المذهب عليه, والقرائن الداخلية في الصحيح كما تقدم بيانه.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ ما ذكره السيد الصدر قدس سره في ردّ هذا الوجه غير تام, بل كلّه مبنائيٌ, وذكرُ كلامه ومناقشته من التطويل الذي لا طائل تحته فراجع.

فما ذكره الشيخ قدس سره من الإشكال غير وجيه.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1)؛ من عدم صحة تطبيق الإستصحاب على الشك في الركعات على كلّ حال حتى إذا أريد منه الإتيان بالركعة الموصولة, وذلك لأنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يُثبت أنّ ما يأتي به ركعة رابعة إلا بناءً على الأصل المثبت, وعليه؛ فلا يمكن تصحيح العمل به, لأنّه بالنسبة إلى الأمر بالركعة الرابعة فإنّه يكفي إحراز الإتيان به, ولا يشترط إحراز كونه ركعة رابعة ولكن بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى من التشهدوالتسليم يشترط إحراز وقوعهما في الرابعة وهو لا يمكن إثباته بالإستصحاب كما عرفت.

وردّه السيد الخوئي قدس سره (2)؛ بأنّه يمكن إثبات كون الشخص في الركعة الرابعة بالإستصحاب

ص: 352


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص60.
2- . مصباح الأصول؛ ج2 ص61-62.

أيضاً, لأنّه يعلم إجمالاً أنّه دخل فيها؛ إمّا في الركعة السابقة أو في ركعة رابعة ويشكّ في خروجه عنها فيستصحب بقاؤها.

وأورد عليه بأنّ هذا الإستصحاب مُعارضٌ بمثله؛ لأنّه كما يعلم المكلف إجمالاً بأنّه في إحدى الركعتين كان في الركعة الرابعة كذلك يعلم إجمالاً بأنّه لم يكن في إحدى الركعتين فيجري استصحاب عدم كونه في الرابعة فيُعارض استصحاب الكون فيها.

هذا كلّه لو فُرض عدم اشتراط إتصال زمان اليقين بالشك في الإستصحاب كما يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى, مع أنّ المحقق يشترط وقوع التشهد والتسليم في الركعة الرابعة لا وقوعهما حال كون المصلي في الرابعة, فلا وجه لهذا الإيراد على المحقق المزبور.

وقد تنبّه المحقق العراقي إلى هذا الإشكال وحاول دفعه بأنّنا نلتزم بحجية الأصل المثبت في خصوص المقام لكونه مورد الصحيحة, ومن جهة حفظ كلام الإمام علیه السلام عن اللغوية ولو بتأويل أنْ يكون في التطبيق أثراً شرعياً للمستصحب في المرتبة السابقة تنزيلاً, ولا محذور في استفادة ذلك في خصوص المقام لأنّ اتفاقهم على عدم حجية الأصل المثبت إنَّما هو من أجل قصور الدليل لا لوجود محذورٍ عقلي أو قيام دليلٍ شرعي على عدم الحجية.

ولكنه قدس سره أجاب عن ذلك؛ بأنّ هذا يستلزم سقوط استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة, إذ لو فرضنا في المقام استكشاف التنزيل المسبق, أي تنزيل ركعة الإحتياط منزلة الركعة الرابعة فسوف يرتفع الشك تعبداً عن وجود الرابعة ويعلم بعدم إتيانها فلا يبقى شكّ حتى يجري الإستصحاب, فيلزم من جريان استصحاب العدم في الركعة الرابعة عدم جريانه فيها وهو محالٌ ولا يقاس بسائر المثبتات, كنبات اللحية بالقياس إلى اللحية, فإنّ

كشف التنزيل في الرتبة السابقة على تقدير الحياة لا يقتضي رفع الشك بالنسبة إلى الحياة.

وأورد عليه: عدم تمامية الأصل الموضوعي الذي فرضه, لأنّ إمكان حجية الأصل المثبت لا يتوقف على فرض التنزيل السابق.

ص: 353

والصحيح في دفع هذا الإشكال من أساسه؛ من أنّه لا دليل على اشتراط وقوع التشهد والتسليم في الركعة الرابعة بما هي رابعة, وإنّما الواجب هو الترتيببمعنى اشتراط وقوع التشهد الأخير والتسليم بعد الركعات الأربع مع شرطية عدم المنافي في البين كما هو محقق في محلّه, وهذه الصحيحة من أدلة عدم اشتراط ذلك.

الإشكال الثالث: ما أفاده المحقق العراقي قدس سره (1) أيضاً؛ من أنّ الشك في المقام متعلق بعنوان الرابعة لا بواقعيتها, فإنّ ذات الركعة التي جاء بها لا يشكّ فيها وإنّما يشكّ في وصف كونها ثالثةً أو رابعةً, والأثر الشرعي مترتب على الإتيان بواقع الركعة الرابعة لا عنوانها المردد -بين مقطوع التحقق إذا كانت تلك الركعة رابعة ومقطوع العدم إذا كانت ثالثةً فيكون نظير الإستصحاب في الفرد المردد-.

ويرد عليه: أنّه لا يضر بالتمسك بالصحيحة؛ إذ من الممكن أنْ تكون دليلاً على كفاية هذا المقدار من الشك الموجود في موارد الفرد المردد في جريان التعبد الشرعي, مع أنّه يكفي في إجراء الإستصحاب عدم ذات الأربعة حتى تكون مشكوكة, والأولى هو موضوع الأثر الشرعي, فلو شكّ المكلف في تحقق أحد الذوات الأربع فإنّ مقتضى الإستصحاب عدمه.

ومن جميع ذلك يظهر أنّه لا مانع من التمسك بالصحيحة في حجية الإستصحاب وتطبيقه في موردها, وما قيل من الإشكال غير تام, ومن أجل وضوح دلالة الصحيحة على المطلوب ووهن الإيرادات التي أوردوها عليها لم يذكر السيد الوالد قدس سره منها إلا ما أثاره الشيخ الأنصاري قدس سره في الإيراد الأول وقد عرفت الجواب عنه.

ثمّ إنّه وقع الكلام في أصل استصحاب عدم الإتيان بالركعة المشكوكة مع قطع النظر عن الرواية وتطبيق الإمام علیه السلام الوارد فيها.

ص: 354


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص60.

والبحث يقع من ناحيتين:

الأولى: في إمكان تصحيح الصلاة مع غضّ النظر عن هذا الإستصحاب وعن الأخبار الواردة في صلاة الإحتياط.

الثانية: في جريان استصحاب عدم إتيان الركعة الرابعة بداعي تنجيز الركعة الزائدة وإيجاب الإتيان بها تأكيداً لقاعدة إشتغال الذمة الفعلية.

أمّا الناحية الأولى؛ فقد يُدّعى بأنَّ المصلي كانت ذمته مشغولة بأربع ركعات وهو يُحرز الثلاث منها فلا بُدَّ أنْ يضمّ إليها ركعةً أخرى وبذلك يقطع أنّه أتى بأربع ركعات, فتكون النقيصة عنده مقطوعة العدم وإنّما الخللُ يأتي من جهة الشك في مانعية الركعة التي أضافها بنحو الشبهة المصداقية فيكون خللاً من هذه الجهة, ولكن يمكن علاج هذا الخلل بأحد وجهين:الوجه الأول: الرجوع إلى البراءة عن هذه المانعية المحتملة لِما عرفت في بحث البراءة من جريانها في الشك في المانعية.

ونُوقش ذلك بأمرين:

الأمر الأول: إنّنا نعلم إجمالاً؛ إمّا بمانعية الركعة الزائدة أو جزئيتها, فتكون البراءة عن المانعية مُعارضة بالبراءة عن الجزئية ووجوب الإتيان بها, وبعد التساقط يجب الإحتياط فيه بالإعادة؛ ولا تخيير في المقام, لأنَّ الوجوب والحرمة ضمنيان لا أنْ يكونا إستقلاليين ليكون من الدوران بين المحذورين, والإحتياط كما ذكرنا إنَّما يتحقق بإعادة العمل تحصيلاً لليقين بالفراغ.

وأورد عليه: إنّ البراءة لا تجري عن الجزئية في نفسها؛ لأنّ الشك في الجزئية والشرطية شكٌّ في الإمتثال لا في أصلِ التكليف؛ بخلاف الشك في المانعية.

ص: 355

ولكنه ليس بشيء؛ فإنّ الشك في الجزئية مرجعه البراءة لأنّه يرجع إلى الشك في التكليف أيضاً, لأنّ التكليف في المركبات واحدٌ وإنْ انحلّ إلى عدد الأجزاء والشرائط, إلا إذا كان المراد من الشك في الجزئية في المقام أنّه لا يرجع إلى الشك في أصل التكليف كما يستفاد من الأخبار الواردة فيه, وتقدم الكلام في مباحث البراءة.

الأمر الثاني: وجود علمٍ إجمالي آخر بمانعية الركعة الزائدة أو مانعية التشهد والتسليم قبل الإتيان بهما لأنّهما زيادة مبطلة؛ فإنّه لو صلى ثلاث ركعات كان التشهد والتسليم حينئذٍ زيادة مبطلة, وإلا كانت الركعة المضافة زيادة مبطلة, فالبراءة عن مانعية الركعة تُعارض البراءة عن مانعية التشهد والتسليم قبلها فيجب الإحتياط بالإعادة لمنجزية العلم الإجمالي بعد تساقط الأصول كما ذكرنا في بحث العلم الإجمالي.

وقيل بأنّ هذا الإعتراض لا جواب عليه, ولكن يمكن القول بأنّ مبطلية التشهد والتسليم إنَّما تكون في صورة العلم والعمد, وأمّا في صورة الجهل وغير العمد فلا يكونان مبطلين؛ كما هو المستفاد من الأخبار التي منها أخبار ركعة الإحتياط المفصولة؛ فلا يتم هذا الوجه.

الوجه الثاني: التمسك باستصحاب عدم الزيادة الذي يجري بعد العمل وإحراز الإتيان بكامل الأجزاء والشرائط, وبذلك يحرز عدم المانع, وهذا الإستصحاب غير استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة؛ فإنّه لا يثبت عدم الزيادة إلا بنحو الأصل المثبت, وهو صحيحٌ يمكن إثبات صحة الصلاة بهذا الأصل.

وقيل: إنّ المبطل فقهياً ليس عنوان الزيادة, بل الإتيان بما لم يتعلق به الأمر.

وفيه: إنّ الثابت في الفقه مبطلية الزيادة بعنوانها.

وقيل: إنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة يثبت تعلق الأمر بالركعة المضافة.

وفيه: إنّ استصحاب عدم الإتيان بالرابعة لا يثبت الأمر بالركعة الزائدة كما هو معلوم.

ص: 356

وأمّا الناحية الثانية؛ وهي الإعتماد على أصالة عدم الإتيان بالركعة الرابعة بداعي تنجيز الركعة الزائدة وإيجاب الإتيان بها تأكيداً لقاعدة الإشتغال العقلية, واختلفوا في حقيقة هذا الإستصحاب؛ فقيل إنّه من الإستصحاب في مرحلة الإمتثال حيث يتعبد المصلي على أساسه بلزوم التحرك نحو هذه الركعة بعد عدم تحقق الإمتثال إلا بإتيان هذه الركعة الزائدة؛ سواءً كانت موصولة أم مفصولة, أي أنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة المشكوكة من استصحاب عدم الإمتثال؛ سواءً أريد إتيان وجوب الركعة المتصلة أم المنفصلة.

وتقدّم من المحقق النائيني قدس سره أنّه من الإستصحاب الموضوعي؛ حيث أنّه يُحرز باستصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة موضوع وجوب الركعة المنفصلة, وبه يتجنب عن الإشكال في استصحاب عدم الإمتثال كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

وأورد عليه السيد الصدر قدس سره (1) بأنّ هذا معناه التوسعة في الجعل وأنّه الأعمّ من الركعات الثلاث مع ركعة متصلة أو ركعة مفصولة على تقدير الشك لا أنْ يكون أمراً جديداً بالركعة المفصولة فيكون الواجب هو الجامع المذكور, فيكون هذا الإستصحاب من استصحاب عدم الإمتثال.

ويُشكل عليه بأنّ الملاك في إتيان الركعة المفصولة غير الملاك في إتيان الركعة المتصلة, وهو ملاك الجامع بين الركعة المفصولة أو إعادة العمل على تقدير قطع الصلاة, وهو ملاكٌ مستقلٌ من ملاك الركعة المتصلة التي يفترض فواته بالشك وإجزاء الحكم الظاهري.

وأجيب عنه بأنّه خلاف الروايات الواردة في ركعة الإحتياط المفصولة بأنّها إمتثال لنفس الفريضة الواقعية, كما أنّه خلافٌ لِما هو المسلّم فقهياً عن وجود ملاكٍ واحدٍ وفريضة واحدة على الجميع؛ فلا وجه لهذا الإشكال.

ص: 357


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص82.

والحقُّ؛ إنّ الإستصحاب الذي يُعتمد عليه في لزوم الركعة المشكوكة لا يُفرّق فيه بين أنْ يكون من استصحاب عدم الإمتثال أو من الإستصحاب الموضوعي؛ لرجوع الأول إلى الثاني, لأنّ المصلي بعد الشك في إتيان الركعة يستصحب عدمه فيجب عليه الإمتثال بإتيان الرابعة بعد تحقق موضوعه وهو التعبد, ويرجع استصحاب عدم الإمتثال إليه ولكن الدليل دلّ على أنّها لا بُدَّ أنْ تكون مفصولة لا أنْ يكون الإستصحاب هو الذي عيّنها موضوعاً, فلا ثمرة بين القولين.

لكن المهم هو دفع الإشكال الذي أورد على هذا الإستصحاب من وجوه:الوجه الأول: دعوى عدم جريان استصحاب عدم الإمتثال في نفسه باعتبار لغويته؛ لأنّه لا معنى لاستصحاب عدم الإمتثال, وسيأتي بيانه والجواب عنه إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: إنّ استصحاب عدم الإمتثال وإنْ كان يُثبت بقاء الوجوب وعدم سقوطه؛ كما في سائر المقامات, إلا أنّه في خصوص المقام لمّا كان وجوب الركعة الرابعة وجوبٌ ضمني إرتباطي لا أنْ يكون وجوباً إستقلالياً فلا يُشكّ في عدم سقوطه حتى يجري استصحاب عدم إتيان الركعة, فأركان الإستصحاب غير تامةٍ هنا, وقد اعتبر بعضهم أنّ هذا محذورٌ آخر يُضاف إلى المحاذير الثلاثة التي تقدم ذكرها في تطبيق الصحيحة في الإستصحاب على الركعة المشكوكة.

ويرد عليه: إنّ هذا الإشكال يبتني على أمرين كلاهما مردودان:

أحدهما: إنَّ الإمتثال مُسقطٌ للأمر ورافعٌ لفعليته.

وفيه: إنَّ التكليف لا يسقط فعليته بالإمتثال وإنّما الساقط فاعليته فقط.

والآخر: إنّ الإستصحاب لا بُدَّ وأنْ يجري في حكمٍ شرعي أو موضوع ذي حكم.

وفيه: ما سيأتي من أنّه يشترط في جريان الإستصحاب ترتب الأثر العملي عليه, ولا إشكال في ترتبه في مرحلة الإمتثال؛ سواءً كان الأثر تقريراً أم تنجيزاً, وعلى فرض قبول

ص: 358

كلا الأمرين نقول بأنَّ استصحاب عدم الجزء أو الشرط في الواجب الإرتباطي وإنْ لم يكن جارياً بلحاظ الوجوب الضمني المتعلق به بالخصوص, ولكنه يجري بلحاظ الوجوب الإستقلالي المتعلق بالكلّ بعد الفراغ من العمل وعدم الإتيان بذلك الجزء, فيجب على المكلف الإتيان به تفريغاً لذمته عن الإتيان بالمركب والكلّ الذي بيّنه هذا الإستصحاب.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ الشك في الجزء والشرط يرجع بالآخرة إلى الشك في الكلّ والمركب, كما عرفت آنفاً.

الوجه الثالث: إنّ استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يمكن أنْ يُثبت وجوب الإتيان بها؛ لأنّ هذا التكليف كسائر التكاليف؛ لا بُدَّ أنْ يكون منوطاً بالقدرة عليه, ولا تحقق للقدرة في المقام على الإتيان بالركعة الرابعة في هذه الصلاة إلا إذا كان هذا الإستصحاب مطابقاً للواقع, أي لم يأتِ بالرابعة واقعاً, وإلا فلم تقع ركعة رابعة, وهذا يعني: إنّ ترتب الأثر على الإستصحاب منوطٌ بمطابقته للواقع, ومن المعلوم إنَّ جعل حكم ظاهري منوط بمطابقته مع الواقع غير معقول في نفسه؛ لاستحالة وصوله حينئذٍ.

ويرد عليه: إنّ هذا الإستصحاب يجري ويترتب عليه مطلق الأثر العملي من التنجيز والتعذير وتأكيد الإشتغال اليقيني العقلي شرعاً وتنجيز احتمال التفويت وليس بالضرورة أنْ يكون المستصحب فيه حكماً أو موضوعاً بحكمٍ شرعي حتى يقال باشتراط القدرة في موضوعه, فالحقُّ صحة الإعتماد على هذا الإستصحابلتنجيز وجوب الإتيان بالركعة المشكوكة, ولكن هذا مبني على جريان استصحاب عدم الإمتثال كبروياً.

ولعلّ ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من إرجاعه إلى الإستصحاب الموضوعي يرفع هذا الإشكال.

ص: 359

الخبر الرابع: رواية الصدوق في الخصال

بسنده عن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ آبَائِهِ علیهم السلام أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام عَلَّمَ أَصْحَابَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَرْبَعَمِائَةِ بَابٍ مِمَّا يُصْلِحُ لِلْمُسْلِمِ فِي دِينِهِ ودُنْيَاهُ؛ قَالَ علیه السلام : ..... مَنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ فَشَكَ فَلْيَمْضِ عَلَى يَقِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّكَّ لَا يَنْقُضُ الْيَقِينَ)(1).

والكلام في هذا الحديث يقع من جهتين:

الجهة الأولى: من حيث السند؛ فقد ضعّفه الشيخ الأنصاري قدس سره (2) لأجل اشتماله على القاسم بن يحيى؛ لتضعيف العلامة له في الخلاصة.

وردّه بعضهم؛ بأنّ تضعيفه يستند إلى تضعيف إبن الغضائري وهو غيرُ قادحٍ.

وأشكل عليه بأنّه لم يُعلم أنّ العلامة استند في تضعيفه إلى تضعيف إبن الغضائري, بل يمكن أنْ يكون استناده إلى أمرٍ آخر لم يُبيّنه لنا مع أنّ عدم قدح تضعيف إبن الغضائري محلّ كلامٍ.

ويرد عليه: إنّه لو كان تضعيف العلامة له من أجل أمرٍ آخرٍ لظهر من كلامه وبيّنه لنا, مع أنّ غيره كالنّجاشي لم يضعّفه وإنْ لم يمدحه أيضاً, كما أنّ سائر علماء الرجال لم يعتمدوا على تضعيفات إبن الغضائري إلا ما اتُّفق عليه, فالرواية ممّا يمكن الإعتماد عليها.

الجهة الثانية: من حيث الدلالة؛ فقد اختلفوا في دلالته على قاعدة اليقين أو قاعدة الإستصحاب, ويمكن استظهار دلالته على الإستصحاب من أجل ظهورات ثلاثة:

الأول: ظهور قوله علیه السلام : (فليمضِ على يقينه) في لزوم المضي على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في مقام العمل, وهذا لا ينطبق إلا على الإستصحاب.

ص: 360


1- . الخصال؛ ج2 ص611 حديث الأربعمائة.
2- . فرائد الأصول؛ ج2ص570.

الثاني: ظهور قوله علیه السلام في ذيله: (فإنّ الشك لا ينقض اليقين) في ثبوت اليقين فعلاً, وإنَّ النقض يتعلق باليقين الفعلي كما هو ظاهر كلّ موضوعٍ للحكم, وهذا لا يتلائم إلا مع الإستصحاب, بخلاف قاعدة اليقين؛ فإنّه لا يقين فعلاً في موردها.

الثالث: ورود هذا التعبير فيما تقدم من روايات الإستصحاب فيكون قرينةً على كون المراد به بيان الإستصحاب, ومن أجل ذلك نرفع اليد عن ظهور الصدر لوفُرض له ظهورٌ في موضوعية اختلاف زمان الوصفين ويُحمل على الغالب؛ فلا يكون له ظهورٌ في قاعدة اليقين.

وأُشكل على الإستدلال به من وجهين:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره ؛ من ظهور قوله (من كان على يقينٍ فشكّ) في سبق زمان اليقين على الشك واختلافهما زماناً فينطبق على قاعدة اليقين دون الإستصحاب.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّ ذلك أعمّ من قاعدة اليقين؛ لاختلاف زمان اليقين والشك في الإستصحاب غالباً أيضاً, فلا يكون ذلك بملاك التقييد بل بملاك الغلبة نظير قوله تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)(1), كما أنّه في الإستصحاب قد يتحد زمان حدوثهما أيضاً كما تقدم بيانه في صدر مبحث الإستصحاب.

ثانياً: إنّه يُعتبر في قاعدة اليقين إتّحاد متعلق الشك واليقين, ولا إشارة في الحديث إليه أبداً فلا يكون دليلاً عليها.

ص: 361


1- . سورة النساء؛ الآية 23.

الوجه الثاني: ما ذكره بعضهم قدس سره (1)؛ من أنّ الظاهر من قوله (فليمضِ على يقينه) هو اليقين السابق الذي كان عليه, فإذا فُرض تبدل اليقين بالشك كان المراد من يقينه السابق الزائل, فلا ظهور له في اليقين الفعلي فلا يدلّ على الإستصحاب.

ويرد عليه: إنّ القرائن التي وردت في الرواية تدلُّ على اليقين الفعلي الثابت بل هو ظاهرها, فلا إشكال في دلالة الحديث على الإستصحاب عرفاً, وإنّ قوله علیه السلام (فإنَّ الشك لا ينقض اليقين) هو بمنزلة الكبرى, وظهورها في اليقين الفعلي ممّا لا يُنكر, ولو فُرض أنّ صدره يُفيد شيئاً آخر لا بُدَّ من رفع اليد عنه لأجل الظهور, فالرواية تامة من حيث الدلالة أيضاً ولا إجمال فيها؛ كما ذكره المحقق العراقي قدس سره (2).

الخبر الخامس: مكاتبة علي بن محمد القاساني

حيث ورد فيها أنّه قال: كَتَبْتُ إِلَيْهِ وأَنَا بِالْمَدِينَةِ؛ أَسْأَلُهُ عَنِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ؛ هَلْ يُصَامُ أَمْ لَا؟. فَكَتَبَ علیه السلام : (الْيَقِينُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الشَّكُّ؛ صُمْ لِلرُّؤْيَةِ وأَفْطِرْ لِلرُّؤْيَةِ)(3).

فإنّه يدلّ على الإستصحاب؛ بناءً على أنّ المراد باليقين اليقينُ بعدم دخول شهر رمضان إنْ كان الشك في أوله, واليقينُ بعدم خروجه إنْ كان في آخره, وقد فضّلها الشيخ الأنصاري قدس سره (4) على سائر الروايات السابقة في الدلالة على الإستصحاب, ولعلّه يرجع إلى عدم احتمالها قاعدة اليقين وعدم احتمال عهدية اللام في اليقين والشك وغيرهما ممّا استشكل عليها.

ص: 362


1- . منتقى الأصول؛ ج6 ص120.
2- . مقالات الأصول؛ ج2 ص353. ونهاية الأفكار؛ القسم الأول, الجزء الرابع ص65 ظهور الرواية في الإستصحاب.
3- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج10 ص255-256.
4- . فرائد الأصول؛ ج2 ص570.

ومع ذلك فقد نُوقش في الإستدلال بها بوجهين:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من احتمال إرادة المشكوك والمتيقن والمعنى: لا تُدخل اليوم المشكوك في شهر رمضان ولا تجعله مع الأيام المتيقنة من هذا الشهر, فلا يدلّ على الإستصحاب لأنّه يتوقف على أنْ يراد من لا يدخله النقض في قوله (اليقينُ لا يدخله الشك) وهو خلافُ ظاهر المادة في (دخل).

ويرد عليه: ما ذكرناه سابقاً من أنّ حمل اليقين والشك على المتيقن والمشكوك خلاف الظاهر, خصوصاً مع ظهور السياق لبيان قاعدةٍ عامةٍ وإرادة تطبيقها في المقام, مع أنّ إرادة النقض من قوله (لا يدخل) ليس ببعيدٍ بعد ورود مثل هذا التعبير في صحيحة زرارة الثالثة.

يُضاف إلى ذلك؛ إنّ هذا المعنى خلاف ظاهر التفريع (صُم للرؤية وأفطر للرؤية) فإنّه ينسجم مع الإستصحاب الذي يجري في أول الشهر وآخره, فلو أريد به ما ذكره لزم عدم إدخال يوم الشك من آخر رمضان في شهر رمضان أيضاً, لأنّه مشكوكٌ وهو خلاف الظاهر.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (2)؛ من أنّ من يلاحظ روايات الباب يشرف على القطع بإرادة معنىً آخر في المقام؛ وهو أنّ اليقين بدخول الشهر هو الموضوع لترتب حكم ذلك الشهر وهو وجوب الصوم, واليقين بهلال شهر شوال هو الموضوع في وجوب الإفطار, وعدم الإعتماد على الظنون والإحتمالات وعدم الأخذ بالشك وعدم إدخاله في اليقين بمعنى عدم إلحاقه به في حكمه, فيكون هذا التفسير هو الأنسب للمناط والتفريع عليه, فلا يرد عليه ما تقدم.

ص: 363


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص373، فوائد الأصول؛ ج4 ص336.
2- . كفاية الأصول؛ ص397.

ويرد عليه: إنّه مخالف لظهور السياق والفهم العرفي للحديث في تطبيق الكبرى الكلية على مورده, بخلاف هذا التفسير فإنّه يجرده عن هذا المعنى مع عدم الدليل عليه, بل هو مخالفٌ لقوله علیه السلام (اليقينُ لا يدخله الشك) لأنّه ظاهرٌ في النقض وإفساد اليقين بالشك لأنّه من غير جنس اليقين.وأمّا ما ذكره من ملاحظة سائر الروايات يشرف على القطع بإرادة معنىً آخر؛ فإنّه مبني على أخذ اليقين موضوعاً للحكم وهو ممّا لم يرد في شيءٍ من الروايات, بل لا إشكال في كون اليقين طريقاً إلى موضوع وجوب الصوم والإفطار, وإنْ أريد نفي الحجية للظنون والتخمينات في قبال اليقين الطريقي فهو وإنْ كان ثابتاً في حدّ نفسه, ولكن لا يصح حمل الرواية عليها فقط, بل لا إشكال في استفادة معنىً زائداً من الرواية وهو وجوب الصوم في يوم الشك في آخر الشهر وعدم وجوبه يوم الشك في أوله, وهو ينطبق على قاعدة الإستصحاب, ولا ضير في أنْ تفيد الرواية معاني متعددة إنْ احتمل إرادتها, وهو ليس بعديم النظير.

ثمّ أنّ المحقق العراقي قدس سره (1) وافق المحقق الخراساني قدس سره وأفاد في المقام بأنّ استصحاب عدم دخول شهر رمضان أو شهر شوال لا ينفي وجوب الصوم أو الإفطار, لأنّ موضوعهما ليس دخول الشهر بمفاد كان التامة, بل إتصاف هذا اليوم بأنّه من رمضان أو من شوال بمفاد كان الناقصة, وهو لا يثبت إلا بالملازمة, وهو أصلٌ مُثبت.

ولكن ما ذكره لا ينافي ظهور الرواية على الإستصحاب, ولا يمنع عن تطبيقه بعدما عرفت تمامية دلالتها, وقد عرفت ممّا تقدم نقله عن المحقق المزبور؛ إنّ الأصل المُثبت إنَّما لا يكون حجةً لقصور دليل الحجية لا لمحذور إثباتي أو ثبوتي, فإذا دلَّ ظهور الحديث

ص: 364


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص356. وفي نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص65 -66.

عليه يؤخذ به ويحكم بحجيته في خصوص المورد. مع أنّه سيأتي إمكان استصحاب عدم مفاد كان التامة لنفي مفاد كان الناقصة في الزمان والزمانيات من دون أنْ يكون مُثبتاً.

والمتحصل من جميع ذلك؛ صحة دلالة الحديث لإثبات الإستصحاب لا أنْ يستشكل عليه بضعف السند بعلي بن محمد القاساني, ويمكن رفعه بشهرته وبورود مضمونه صدراً وذيلاً في روايات صحيحة ممّا يشهد بصحة صدورها.

الخبر السادس: صحيح عبد الله بن سنان

قال: سَأَلَ أَبِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام -وأَنَا حَاضِرٌ-؛ إِنِّي أُعِيرُ الذِّمِّيَ ثَوْبِي وأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ويَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَيَرُدُّهُ عَلَيَّ؛ فَأَغْسِلُهُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ؟. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (صَلِّ فِيهِ ولَا تَغْسِلْهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ, فَإِنَّكَ أَعَرْتَهُ إِيَّاهُ وهُوَ طَاهِرٌ ولَمْ تَسْتَيْقِنْ أَنَّهُ نَجَّسَهُ؛ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ حَتَّى تَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ نَجَّسَهُ)(1).

وبهذا المضمون موثقة إبن بكير عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : ( إِذَا اسْتَيْقَنْتَ أَنَّكَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَإِيَّاكَ أَنْ تُحْدِثَ وُضُوءاً أَبَداً حَتَّى تَسْتَيْقِنَ أَنَّكَ قَدْأَحْدَثْتَ)(2). وغير ذلك من الأخبار, وهي تدلّ على الإستصحاب أيضاً؛ لتعليل الإمام علیه السلام في عدم غسل الثوب الذي أعاره للكافر باليقين بالطهارة السابقة وعدم اليقين بالإنتقاض, ولا يدلّ على مجرد عدم العلم بالنجاسة حتى يكون مورد الطهارة, وهو وإنْ ورد في الطهارة الخبثية ولكن يمكن تعميم الحكم على غيرها كما يدلّ عليه الموثّق.

والإشكالُ عليه؛ بأنّه يختصُّ بالطهارة الحدثية والخبثية فلا يسري إلى غيرها إلا بعدم القول بالفصل مردودٌ بما ذكرناه.

ص: 365


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج3 ص521.
2- . تهذيب الأحكام؛ ج1 ص102.

واعتبر السيد الصدر قدس سره (1)؛ إنّ هذه الصحيحة من خيرة الأحاديث في هذه القاعدة, وقال أنّ فيها امتيازات:

منها؛ عدم ذكر اليقين فيها حتى يحمل على قاعدة اليقين, بل الموجود فيها أخذ الحالة السابقة موضوعاً للحكم الظاهري بالبقاء.

وهو صريحٌ في الإستصحاب.

ومنها؛ كون موضوع التعبد الإستصحابي فيها نفس الحالة السابقة لا اليقين بها, ويترتب على ذلك ثمرات كما سيأتي.

ومنها؛ عدم ورود كلمة النقض فيشمل الشك في المقتضي والشك في المانع ولو فرض اختصاص الروايات السابقة بالثاني, لكن إطلاق هذه الصحيحة يثبت التعميم فيكون ما ورد فيها من باب المثال لو فرض اختصاصها بالشك في المانع.

والحقُّ؛ إنّه لا قصور في دلالة الأحاديث السابقة في إثبات هذه القاعدة الشريفة لو عرضناها على الفهم العرفي المجرد عن ما قيل فيها من الوهن والمناقشات.

ختامٌ في الإستدلال بأخبار الحلّ والطهارة

حيث استدلوا بها على حجية الإستصحاب، والكلام في دلالتها يبتني على مقدار ما يستفاد منها، حيث اختلف العلماء في مقدار ما يستفاد منها في أنّه قاعدة واحدة أو أكثر, ولهم في ذلك أقوال:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره (2) في حاشيته على الرسائل؛ من استفادة قواعد ثلاث ؛ الحكم بالطهارة والحلية الواقعيتين والظاهريتين وقاعدة الإستصحاب.

ص: 366


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص94.
2- . درر الفوائد؛ ص185-188.

القول الثاني: ما ذهب إليه في الكفاية(1) من استفادة الحكم الواقعي والإستصحاب, ونسب إلى صاحب الفصول استفادة الحكم الظاهري والإستصحاب منها.القول الثالث: إستفادة قاعدة واحدة لا أكثر؛ وهو مختار جمهور الفقهاء وإنْ اختلفوا في تشخيص القاعدة المستفادة, فالمشهور قاعدة الطهارة والحلية الظاهريتين فقط, أي قاعدة الطهارة.

وذهب صاحب الحدائق قدس سره (2) في حديث الطهارة إلى استفادة الطهارة الواقعية لكلّ ما لا يعلم نجاسته, ومالَ الشيخ قدس سره (3) إلى استفادة الإستصحاب من قوله علیه السلام (الماءُ كلّه طاهر حتى تعلم أنّه قذر) الوارد في خصوص المياه, وقوله علیه السلام (إنَّ كلّ شيءٍ طاهر أوحلال)(4).

وقبل بيان مستند الأقوال ينبغي الكلام في دلالة تلك الأحاديث المشتملة على الصدر -وهو المغيّى- أي (كلّ شيءٍ طاهر أوحلال), والذيل -وهو الغاية- أي (حتى تعلم أنّه قذر أو حرام), والكلام يقع من ناحيتين:

الناحية الأولى: الكلام في صدر هذه الأحاديث, أي قوله علیه السلام : (كلّ شيءٍ لك حلال أو طاهر)؛ يحتمل فيه تارةً؛ أنْ يراد به العموم الأفرادي للشيء الملازم للشك في نجاسته أو

ص: 367


1- . كفاية الأصول؛ ص397-400.
2- . الحدائق الناضرة؛ ج1 ص136.
3- . فرائد الأصول؛ ج2 ص571.
4- . نص الرواية في الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج6 ص339؛ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ النَّهْدِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبَانِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه علیه السلام فِي الْجُبُنِّ قَالَ: (كُلُّ شَيْءٍ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى يَجِيئَكَ شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عِنْدَكَ أَنَّ فِيه مَيْتَةً).

حليته؛ فإنّه إنْ شك في النجاسة الذاتية للحديد -مثلاً- أي الملازم للذات وبإثبات الطهارة أو الحلية فيه, فإنّه يثبت أيضاً فيما لا يكون ملازماً مع الشك دائماً كموارد النجاسة العرضية المحتملة بالملازمة وعدم إحتمال الفرق بينهما.

وأخرى؛ يراد من الأحاديث الإطلاق الأحوالي لحال طروّ الشك في نجاسة أو حرمة الشيء, وحيث أنّ هذا الإطلاق الأحوالي يثبت الحكم في هذه الحالة بما هي حال الشك فيكون ظاهرياً لا محالة.

وعلى كلّ واحدٍ من هذين الوجهين يمكن استفادة الحكم الواقعي والظاهري من إطلاق المغيّى -أي صدر تلك الأحاديث-؛ كما ذهب إليه المحقق الخراساني في حاشيته على الرسائل, واستفادة الإستصحاب من الغاية -أي ذيلها-؛ فيكون المناط في تعدد الإستفادة منه تحقق تعدد الجهة في الجملة.

وأشكل على كلا الوجهين:

أمّا الإشكال على الوجه الأول؛ فلأنّ شمول العموم لِما يلازم الشك في نجاسته الذاتية أو حرمته كالكبريت مثلاً يثبت واقعاً بعنوان كونه كبريتاً أي كونه شيئاً,فيكون دليلاً على الحكم الواقعي لو فرض الشك فيه مع قطع النظر عن هذا الإطلاق.

والحقُّ؛ يمكن إستفادة الحكمين باعتبار تعدد الجهة, فإذا كان حكماً واقعياً فإنّه يكون بعنوان كونه شيئاً, أو يكون حكماً ظاهرياً بعنوان كونه مشكوكاً, وفي حالة الشك فلا يمكن اجتماعهما مع تعدد اللحاظ. وأمّا الثاني فقد ذكر فيه عدة مناقشات:

المناقشة الأولى: إنّ الإطلاق رفض للقيودِ وليس جمع لها؛ فشمول الإطلاق الأحوالي لحال الشك في نجاسة شيء أو حليته لا يعني ثبوت الحكم فيه بعنوان كونه مشكوكاً ليكون الشك مأخوذاً في موضوع الحكم ليكون حكماً ظاهرياً, بل هو ثابت لعنوان الشيء بلا

ص: 368

أخذ أيّ قيد من القيود فيه, فلا يمكن استفادة الحكم الظاهري من هذا الإطلاق حتى لو قلنا بأنّ الإطلاق كالعموم يلحظ فيه كلّ حال, فإنّه لا يمكن استفادة الحكم الظاهري أيضاً إلا إذا أخذ عنوان الشك في لسان الدليل المتكفل لبيان الجعل وهو لم يكن كذلك, فلا يمكن استكشاف الحكم الظاهري من ذلك.

وفيه: إنّه خلطٌ بين العموم والإطلاق, وقد عرفت استفادة الحكمين مع تعدد اللحاظ والجهة.

المناقشة الثانية: ما نقله المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من كتاب الدرر للشيخ الحائري قدس سره (2)؛ من لزوم لغوية جعل الطهارة أو الحلية الظاهرية بعد فرض جعل الطهارة الواقعية لكلّ شيء؛ إذ لا يبقى مورد يُشكّ في نجاسته أو حرمته.

وأشكل عليه بأنّ الذي يوجب لغوية الطهارة أو الحلية الظاهرية وصول الجعل الواقعي المطلق لا مجرد ثبوته وجعله, والعام إنَّما يدلّ على جعله لا وصوله؛ فقد لا يصل إطلاق الجعل الواقعي في مورد لوجود معارض أو مخصص أو غير ذلك.

مع أنّه لو أريد من ذلك إبراز المحذور الثبوتي فيه؛ أي إن جعل الحكم الظاهري الترخيصي مع ثبوت الترخيص الواقعي لكلّ شيءٍ يكون لغواً ثبوتاً.

ص: 369


1- . نهاية الدراية؛ ج5 ص96. وما ورد في نهاية الدراية هو ذكر هذا الإشكال بلحاظ الشبهة الحكمية، ولم يذكر صاحب الإشكال، ولكن عبارة الدرر تنسجم مع فرض عدم التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية، حيث قال: (هذه القضية الجامعة لكلا الحكمين متى وصلت الى المكلف يرتفع شكه، من جهة اشتمالها على الحكم بطهارة جميع الأشياء بعناوينها الأولية، فلا يبقى له الشك حتى يحتاج إلى العمل بالحكم الوارد على الشك. اللهم إلا أن تحمل القضية على الإخبار والحكاية عن الواقع). وكأنّ السبب في تخصيص الإشكال في عبارة نهاية الدراية بالشبهة الحكمية وضوح أن دليل طهارة كلّ شي ء بعد علمنا بخروج بعض الأمور عنه ولو تخصيصاً لا يمكن أن يرفع الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة.
2- . درر الفوائد(ط. جديد)؛ ص531-532.

فإنّه يرد عليه: إنّ الشارع ربّما يقصد من جعله الواقعي ليس على نحو الإطلاق؛ فالخمر الواقعي المشكوك نجاسته أو حرمته لا ترخيص واقعي فيه, فيُجعل الترخيص الظاهري من أجل هذه الموارد فقط.

وإنْ أريد منه إبراز محذور إثباتي؛ أي أنَّ الترخيص الواقعي المطلق وإنْ كان غير مقصود واقعاً من تمام الموارد إلا أنّ العموم دال عليه إثباتاً, ومعه لا يمكن استفادة الترخيص الظاهري من نفس هذا الدليل للتنافي بينهما.

ويمكن الجواب عنه؛ بأنّه مع وجود قرينة متصلة على عدم ثبوت الترخيص الواقعي المطلق, وهذه القرينة ذيل الحديث (حتى تعلم أنّه قذر)؛ بل الإرتكاز الشرعي القائم على ثبوت النجاسة والحرمة في الجملة يكفينا أيضاً.

ويرد على كِلا الوجهين ما ذكرناه من تعدد الجهة ولحاظ الثبوت والإثبات.

المناقشة الثالثة: ما ذكره جمعٌ من أنَّ الحكم الظاهري باعتباره في طول الحكم الواقعي فلا يعقل استفادتهما من دليل واحد وجعل واحد, وقد اختلفت كلماتهم في تقريره على وجوهٍ ثلاثة:

الوجه الأول: ما يظهر من كلمات المحقق النائيني قدس سره (1)؛ من أنّ الحكم الظاهري منوطٌ بالشك في الحكم الواقعي, فيكون موضوعه متأخراً عن الحكم الواقعي بمرتبتين؛ فلو إتّحدا في جعلٍ واحد لزم كون المتأخر متقدماً وهو خلفٌ.

ص: 370


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص374-375، فوائد الأصول؛ ج4 ص337-338. وعبارة أجود التقريرات مشتملة على إشكالين؛ أحدهما يمكن تطبيقه على التقريب الثالث، وهو الوارد في ص374، والثاني هو التقريب الأول؛ وهو الوارد في ص375. وعبارة الفوائد متأرجحة، فصدرها ظاهر في التقريب الثاني وذيلها ظاهر في التقريب الأول.

وعلّق عليه السيد الخوئي قدس سره (1)؛ بأنّه إنَّما يتم بناءً على مسلك صاحب الكفاية قدس سره الذي يرى إيجادية المعنى الإنشائي, فحينئذٍ يستحيل إيجاد شيئين طوليين بجعلٍ واحد, وأمّا على ما هو الصحيح من أنّ الإنشاء ليس إلا عبارة عن إبراز الإعتبار النفساني فلا مانع من أنْ يُبرز حكمين طوليين بمُبرزٍ واحد.

ويرد على كلٍّ من التعليق والمعلق عليه؛

أمّا التعليق؛ فلأنّ جملة (كلّ شيءٍ نظيفٌ أو حلالٌ) إمّا أنْ تكون جملة خبرية؛ أي الإخبار عن جعلٍ آخر للطهارة أو الحلية, فلا إشكال حينئذٍ؛ فإنّه يرتفع على كِلا المسلكين في حقيقة الإنشاء, ولكن هذا الإحتمال خلاف ظاهر الخطاب.

وإمّا أنْ يُفرض كونه بنفسه دليل الجعل, فإنّ الإشكال واردٌ على كِلا المسلكين؛ المحقق الخراساني والسيد الخوئي في الإنشاء؛ فكما لا يصح إبراز اعتباريننفسانيين طوليين على جعلٍ واحدٍ لا يصح إيجاد إنشائين بمبرز واحد, فإنّه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

أمّا المعلق عليه؛ فلأنَّ الطولية لا تمنع عن إمكان جعل الترخيصين؛ الواقعي والظاهري بخطاب واحد لأنّه ذكرنا مكرراً أنّ الحكم مطلقاً من الإعتبارات التي اعتبرها العقلاء, فلا يجري فيها ما يجري في الأمور الخارجية من امتناع إجتماع الضدين أو المثلين أو اجتماع حكمين طوليين كما في المقام, وقد تقدم بيانه في أكثر من موضعٍ؛ هذا إذا اعتبرنا الطولية بين الحكمين الظاهري والواقعي, وأمّا إذا قلنا بأنّه لا طولية بين الحكمين؛ فإنّه إذا كان منشأ هذه الطولية أخذ الشك في الواقع في موضوع الحكم الظاهري فلا إشكال حينئذٍ, فإنّه من الواضح إمكان أخذ الشك في الحكم الواقعي موضوعاً للحكم الظاهري, ولا

ص: 371


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص71.

يتوقف على فرض وجود الحكم الواقعي بل مجرد لحاظه؛ فلا طولية بين الجعلين ولو فُرضت الطولية بينهما, ولكن ليس كلّ طوليتين لا يمكن وجودهما بوجودٍ واحد كما في الكلّ والجزء, فإنّ بينهما طولية وقد جعل بجعلٍ واحد, إلا إذا كان ملاك الطولية العلية والتأثير فيستحيل وجودهما بإيجادٍ واحد, وهذا غير متحقق في كلّ تشريعٍ وجعلٍ؛ فضلاً عن المقام كما عرفت.

الوجه الثاني: إنّ الجعل واحدٌ في المقام, وهو إمّا أنْ يؤخذ في موضوعه الشك أم لا؛ فعلى الأول؛ يستفاد الحكم الظاهري فقط.

وعلى الثاني؛ يكون الحكم واقعياً فحسب.

ولا يعقل الجمع بينهما, وقد جعل بعضهم هذا اعتراض مستقل.

وقد عرفت الجواب عنه ممّا سبق؛ من أنّ الحكم والجعل التشريعي إعتبار محض ولا يضر ذلك فيه.

الوجه الثالث: لزوم التهافت بحسب عالم الجعل واللحاظ؛ لأنّ جعل الحكم الظاهري يستدعي لحاظ الحكم الواقعي مفروغاً عنه ليفرض الشك فيه, وجعل الحكم الواقعي يستلزم لحاظه غير مفروغ عنه ليوجد بنفس هذا الجعل, فلو أريد استفادة الحكمين من دليل جعل واحد لزم التهافت في كيفية لحاظ الحكم الواقعي؛ حيث لا بُدَّ من تصوره في لحاظٍ واحدٍ بنحوين؛ تارةً؛ بما هو شيء لإثبات طهارته واقعاً.

وأخرى؛ بما هو مشكوك طهارته الواقعية لإثبات الطهارة الظاهرية. وهذا تهافتٌ محال.

وقد عرفت الجواب عنه ممّا سبق؛ من أنّه يمكن جعل الحكمين باعتبارين وجهتين, فإنّ ذلك سهلٌ في عالم اللحاظ والجعل, ولا سيما إذا كان أمراً اعتبارياً فلا يلزم أيُّ تهافتٍ.

ص: 372

المناقشة الرابعة: ما أفاده المحقق النائيني قدس سره (1)؛ من لزوم التهافت بلحاظ الغاية, أي قوله علیه السلام : (حتى تعلم أنّه قذر أو حرام), فإنّه إذا استفدنا الجعل الواقعي للطهارة والحلية من الصدر إلى المعنى فلا بُدَّ أنْ نحمل الغاية على الطريقية.

وإذا استفدنا الجعل الظاهري فلا بُدَّ أنْ تُحمل على الموضوعية, لأنَّ عدم العلم مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري دائماً, فاستفادة الحكمين معاً يلزم منه الجمع بين اللحاظين المتهافتين في طرف الغاية.

وهذه المناقشة تندفع إذا جعلنا الذيل لبيان حكمٍ ثالث وهو الإستصحاب كما عن المحقق الخراساني قدس سره لا أنْ يرجع إلى الصدر وإنْ استشكل بعضهم على ذلك؛ بأنّه خلاف الظاهر.

وسيأتي توضيح ذلك إنْ شاء الله تعالى.

المناقشة الخامسة: إنّ استفادة الحكمين من الصدر يستلزم استعمال لفظ (حلال وطاهر) في معنيين؛ أحدهما الطهارة الواقعية والآخر الظاهرية؛ وهما مختلفان.

ص: 373


1- . ما يظهر من التقريرين ليس الإستشكال بلزوم الجمع بين موضوعية العلم وطريقيته، بل استبعاد إرادة الحكم الواقعي من الصدر، باعتبار أنّ الذيل ظاهر في كون العلم بذاته غاية لا بما يكشف عنه من واقع المعلوم. وهذا لا ينسجم إلا مع الحكم الظاهري؛ لأنّ الحكم الواقعي لا يغيّا بالعلم بضدّ الحكم أو الموضوع، وإنّما يغيّا بتبدّل الواقع، فلا يمكن فرض العلم غاية له إلّا بعنوان الطريقية، وهو خلاف الظاهر. فراجع أجود التقريرات؛ ج2 ص375، وفوائد الأصول؛ ج4ص369- 370. ولا يخفى أنّ فوائد الأصول مشتمل على الإلتفات إلى أنّه لو جعل قوله: (حتى تعلم) غايةً للإستمرار لارتفع الإستشكال بعدم كون العلم الموضوعي غاية للحكم الواقعي، ولكن اعترض على احتمال جعله غاية للإستمرار بأنّ هذا يعني قطع الغاية عمّا قبلها وجعلها جملة مستقلة بتقدير كلمة: (وتستمر طهارته أو حرمته ظاهراً) وهذا خلاف الظاهر. راجع فوائد الأصول؛ ج4 ص371.

ويرد عليه: إنّ المدلول إنَّما أخذ من مجموع الصدر لا خصوص الكلمتين, مع أنّ المدلول لهما هو واقع المعنى وحقيقته الخارجية, فلا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى, ومن جميع ذلك إمكان استفادة الترخيص الواقعي والظاهري من المغيّى في هذه الأحاديث؛ لا سيما بعد ملاحظة أنّها وردت في مقام إعطاء القاعدة العامة وتشريع حكم كلي وسنِّ قانونٍ مطّرد, ومثل ذلك لا يصح الإيراد عليها بمثل هذه المناقشات التي تجعل العبارة ضيقة ومحدودة بحدود دلالة اللفظ وعدم اتساعها لتشمل القوانين الكلية والدستور العام التي تبتني على أساليب معينة تختلف عن أسلوب الجعل الجزئي والأحكام الجزئية كما هو معلوم.

الناحية الثانية: الكلام في ذيل هذه الأحاديث, أي قوله علیه السلام : (حتى تعلم أنّه قذر أو حلال), وقد ذكر جمعٌ من العلماء منهم المحقق الخرساني قدس سره ؛ إنّه يستفاد منه الإستصحاب.وذكروا في وجه ذلك: إنّ كلمة (حتى) تدلّ على الإستمرار فيرجع المعنى إلى أنّ كل شيءٍ طاهر وطهارته مستمرة إلى العلم بالقذارة, فتكون الغاية هي العلم, فتدلّ على أنّ الإستمرار المذكور تعبدي لا واقعي.

وأشكل عليه بأمورٍ:

الأمر الأول: على فرض التسليم بأنّ كلمة (حتى) وضع للإستمرار وأنّه المدلول المطابقي لها؛ فلا ريب أنّ الإستمرار المُفاد بها هو الإستمرار بنحو المعنى الحرفي النسبي الناقص لا بنحو المعنى الإسمي الملحوظ إستقلالاً, وهذا يكون مانعاً عن إمكان إرادة الإستصحاب؛ لأنّ الإستمرار الإستصحابي العنائي لا بُدَّ فيه من أخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه فيستحيل أنْ يُفاد ذلك بما يدلّ على جزءٍ تحليلي وحدّ للحكم الواقعي نفسه, فإنّ هذا يحتاج إلى لحاظ مستقل للإستمرار.

ص: 374

وفيه: إنّه مبني على كون الإستمرار مدلول الحرف فقط ويكون بنحو المعنى الحرفي, وهو غير مسلم لِما سيأتي, مع أنّه على فرض القبول فإنّ الإستمرار الإستصحابي مستفادٌ من مجموع الكلام ومن أخذ العلم في مدخول (حتى) لا خصوص هذه الكلمة.

الأمر الثاني: إنّه لو فرضنا استفادة الإستمرار بنحو المعنى الإسمي المستقل من الأداة في المقام, كما إذا قال (كلّ شيءٍ طاهر طهارة مستمرة إلى أنْ نعلم بالقذارة)؛ فإنّه لا يمكن استفادة الإستصحاب مع الحكم الواقعي منه؛ إذ لو أريد استفادتهما معاً ضمن جعلٍ واحدٍ فيأتي تلك المحاذير المتقدمة في استفادة القاعدة والطهارة الواقعية؛ لأنّ الجعل الإستصحابي مأخوذٌ في موضوعه الشك في بقاء المستصحب والفراغ عنه, فيستحيل أنْ يكون جعله بنفس جعل المستصحب, بل لا بُدَّ من وجود جعلين مستقلين ثبوتاً.

ويمكن الجوابُ عنه بأنّه يمكن إستفادة ذلك ضمن جعلين من دليلٍ واحد, كما إذا قال (كلّ شيءٍ طاهر) وهذه الطهارة مستمرة إلى أنْ تعلم أنّه قذر, وقد عرفت أنّ ذلك صحيح باعتبارين أيضاً.

والإشكال عليه بأنّه يتوقف على أنْ يتضمن الكلام نسبتين تامتين وأنْ يكون هناك حذف في الجملة كما في العبارة المتقدمة, مع أنّ جملة (كلّ شيءٍ طاهر حتى تعلم إنّه قذر) لا تشتمل إلا على نسبة تامة واحدة لا نسبتين, فحينئذٍ إمّا أنّ هذه النسبة بإزاء المستصحب, أي الطهارة المجعولة لكلّ شيء, وإمّا بإزاء الإستصحاب؛ ولا إشكال عرفاً ولغةً في أنّ المستفاد منها هو الأول, أي جعلها بإزاء الطهارة المجعولة لكلّ شيء, وكون الغاية قيداً لها (مردودٌ)؛ وحاصل ما يُشكل عليه:أولاً: إنّه لا مانع أنْ يتضمن الكلام نسبتين تامتين؛ إحداهما ترجع إلى الجملة بمجموعها, والأخرى تستفاد من بعضها كما في المقام, حيث يستفاد من الغاية, وهو كثيرٌ في الأخبار.

ص: 375

ثانياً: إنّ الحذف وإنْ كان خلاف القاعدة إلا أنّه إذا كان في البين ما يدلّ عليه كما في المقام فلا مانع من ذلك, كما في العبارة المتقدمة (كلّ شيءٍ طاهر وهذه الطهارة مستمرة إلى أنْ تعلم أنّه قذر).

ومن ذلك يظهر؛ إنّه بلحاظ الصدر والذيل تكون إحدى النسبتين بإزاء المستصحب, أي الطهارة المجعولة لكلّ شيء, والأخرى بإزاء الإستصحاب ولا إشكال فيه لغةً وعرفاً, واختصاص النسبة بالأول يفقد الجملة عن مضمونها العام الدالّ على إرساء قانون شرعي يعتمد في جميع المحتملات.

والحاصل؛ إنّ ما ذكر لا يصلح أنْ يكون صارفاً عن مضمون هذه الأحاديث في دلالة الذيل على الإستصحاب, فإنْ كان المستفاد من الصدر الحكم الواقعي فيكون مستمراً حتى يعلم بالخلاف, وإنْ كان حكماً ظاهرياً فإنّه يستمر في حال الشك في البقاء حتى يعلم بالإنتقاض, وعرفت أنّ الإستمرار مستفادة من كلمة (حتى) ومدخولها.

هذا إذا استفدنا الإستمرار من كلمة (حتى), وأمّا إذا استفدنا من إطلاق (طاهر أو حلال) الأحوالي في (كلّ شيءٍ طاهر أو حلال) فإنّه يشمل حال الشك في البقاء بنفسه أو بقرينة الغاية, فيكون الإطلاق في غير مورد الشك ينتج حكماً واقعياً, وفي مورد الشك في البقاء منتجاً لحكم إستصحابي.

ولا يرد عليه بأنّ الإشكالات المزبورة تجري حتى على هذا المبنى؛ لأنّ الإطلاق ليس مدلولاً لفظياً بل هو مدلولٌ تصديقي يكشف عن عدم أخذ قيد ثبوتاً زائداً على ما ذُكر إثباتاً, فلا يمكن استفادة الإستمرار من الإطلاق إتباعاً.

ولكن عرفت أنّه على فرض أنّ مجرد الإطلاق لم يكن كافياً في استفادة الإستمرار, ولكن إذا انضمّ إليه من القرائن ممّا أوجبت استفادة الإستمرار فلا مانع, مع أنّه لا مانع من التمسك بالإطلاق لنفي ما يدلّ على التقييد فيدلّ على الإستمرار.

ص: 376

ومن جميع ذلك يظهر؛ إنّه يصح استفادة الحكم الواقعي والظاهري معاً في طرف الصدر ويلازمه إرجاع الإستمرار التعبدي الإستصحابي إليهما معاً, فكما يجري استصحاب الطهارة الواقعية عند الشك في بقائها كذلك يجري استصحاب الطهارة الظاهرية عند الشك في بقائها.

وقد استشكل بعضهم كما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) بأنّ الشك في بقاء الطهارة الظاهرية لا يتعقل إلا في إحدى صورٍ ثلاث؛ إمّا بنحو الشك في النسخ, وإمّاالشك في وجود حاكم على الطهارة الظاهرية بنحو الشبهة الحكمية, كما لو شكّ في حجية مطلق الظن بالنجاسة وافترض أنّ الثابت الطهارة الظاهرية بنحو القضية المهملة, وإمّا الشك بنحو الشبهة الموضوعية كما لو شكّ في قيام خبر الثقة على ذلك.

وكلّ هذه الصور الثلاث لا يمكن إرادة شيءٍ منها في المقام؛ أمّا الشك في نسخ الطهارة الظاهرية؛ فلأنّ الغاية على هذه الصورة ليس هو العلم بالقذارة بل العلم بالنسخ.

وأمّا الشك في جعل حكم ظاهري على خلافها بنحو الشبهة الحكمية؛ فإنَّ المناسب حينئذٍ جعل العلم بالنجاسة الظاهرية التعبدية, أي العلم بالحجة على النجاسة غايته العلم بالنجاسة الواقعية, مع أنّ ظاهر الصدر ينافي أنْ يكون الشك بنحو الشبهة الحكمية.

وأمّا الشك في قيام أمارة بنحو الشبهة الموضوعية؛ فلأنّه يلزم جعل الغاية العلم بقيام الحجة على القذارة مع أنّه يدعو إلى افتراض وجود قيد للطهارة الظاهرية ترتفع به وهو خلاف إطلاق المعنى في إثبات الطهارة الظاهرية, فلا توجد صورة مناسبة للشكّ في بقاء الطهارة الظاهرية يمكن أنْ يكون العلم بالقذارة غايةً لها.

كما أنّه لو أريد إرجاع الإستمرار الإستصحابي إلى الطهارة الواقعية المستفادة من المغيّى فقط فإنّه خلاف الظاهر؛ إذ معناه رجوع الغاية إلى جزء مدلول المغيّى.

ص: 377


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص106.

وإنْ أريد إرجاعه إلى الجامع بين الطهارتين؛ فإنّ كلي الطهارة مستمرة ثابتة؛ مستمرةٌ عند الشك حتى يعلم بالقذارة, فإذا انتفى أحد أفراده كما في الطهارة الظاهرية يبقى الإستمرار في الفرد الآخر وهو الطهارة الواقعية حتى العلم بالنجاسة, ولكنه خلاف الظاهر؛ فإنّ ظاهر الغاية رجوعها إلى تمام المغيّى لا صَرفَ الوجود عنه.

وإنْ أريد إرجاع الغاية وهي العلم بالنجاسة إلى الطهارة الواقعية لإفادة الإستمرار الحقيقي وبيان حدّ الطهارة الظاهرية وأنّها لا ترتفع إلا بالعلم بالنجاسة, فهذا أيضاً خلاف الظاهر؛ إذ يشبه استعمال اللفظ في معنيين, لأنَّ الإستمرار العنائي غير الإستمرار الحقيقي.

والحقُّ؛ إنّ جميع ذلك قد عرفت الجواب عنه ممّا سبق، مع أنّه يمكن الأخذ بالجامع بين الطهارتين ولا مانع منه ظاهراً, ولا يصار للإشكال عليه إذا قامت عليه القرينة كما ذكرنا, وأمّا الصور المذكورة في الإحتمال الأول فهي بعيدةٌ عن ظاهر اللفظ التي تبين حكماً عملياً في مقام الشك, مع أنّ كلّ ذلك مبني على كون النسبة التامة واحدة في الجملة, وأمّا بناءً على افتراض تعددها واستفادة جعلين كما ذكرنا فلا موضوع للإشكال الأخير, فيكون الجعل الثاني في الغاية يرجع إلىأنّ الطهارة سواءً كانت واقعية أم ظاهرية كلما تحقق الشك في بقائها فهي مستمرة, وهي مجعولةٌ على نحو القضية الحقيقية الشرطية.

فما ذكره صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل هو الصحيح؛ فيمكن أنْ نستفيد الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية والإستصحاب من هذه الأدلة.

هذا كلّه في الإتجاه الأول, ومنه يظهر الكلام في بقية الإتجاهات؛

فإنّ الإتجاه الثاني؛ مبني على عدم صحة اشتمال الصدر على حكمين بجعل ودليل واحد للمناقشات التي ذكرناها وعرفت الجواب عنها فلا حاجة إلى ذكرها.

ص: 378

وأمّا الإتجاه الثالث؛ فإنّه مبني على أنّ تلك الأخبار لا يظهر منها إلا حكماً وحداً, وهو إمّا الإستصحاب أو الحكم الواقعي أو الظاهري.

والأقوال فيه ثلاثة:

القول الأول: إستفادة الطهارة الواقعية من قوله (كلّ شيءٍ نظيف حتى تعلم أنّه قذر) ؛ باعتبار أنّ جعل الطهارة الواقعية للأشياء مقيدة بعدم العلم بالنجاسة, وهو المنسوب إلى صاحب الحدائق قدس سره , وقد قرب هذا القول بأنّ تقابل كلمتي (نظيف وقذر) في الحديث يقتضي إرادة معنى واحد منهما ولا إشكال في إرادة القذارة الواقعية من الذيل, فلا بُدَّ أنْ يراد من النظيف النظيف الواقعي, ولا ريب أنّه لا يستلزم منه محذورٌ فقهي؛ فإنّ الشيء المجهول نجاسته طاهر واقعاً.

وأشكل عليه بأمرين:

الأمر الأول: إنّ الغاية من الحديث ظاهرة في القذارة الواقعية, أي النجاسة قد تعلق بها الجهل تارةً والعلم أخرى, مع أنّ النجاسة والطهارة الواقعيين أمران مطلقان لا يختلفان من شخصٍ إلى آخر, فأخذ العلم بالقذارة موضوعاً للطهارة الواقعية يجعلها كذلك, وهو غير عرفي في الأحكام الواقعية.

الأمر الثاني: أنّه إذا أخذ عدم العلم موضوع الطهارة الواقعية لمَا كان هناك حاجة إلى إجراء الإستصحاب, بل يمتنع إجراؤه لأنّ مجرد الشك يستلزم العلم بالطهارة فلا مجال للإستصحاب.

وفيه: إنّ المفروض أنّ الطهارة الواقعية مقيدة بعدم العلم بالقذارة, فكلّما شُكّ في الطهارة تستمر هذه الطهارة تعبداً إلى أنْ يحصل العلم بالنجاسة, وهذا هو المتفاهم العرفي من الحديث, وما ذكره المستشكل خلاف هذا الظاهر, وقد سبق الجواب عن الإشكالين أيضاً فراجع.

ص: 379

القول الثاني: إنّ الأحاديث تتكفل بيان قاعدة الإستصحاب, وقد احتمله الشيخ في مثل (الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنّه قذر), وهذا يستلزم فرض طهارة الشيء في نفسه مفروغاً عنها, ويراد الحكم ببقائها واستمرارها عند الشك, فكأنّ الحديث يراد به (كلّ شيءٍ طاهر حتى تعلم أنّه قذر).

وأورد عليه؛ بأنّه خلاف الظاهر؛ إذ ظاهره هو الحكم فعلاً بثبوت الطهارة المقيدة بعدم العلم بالنجس لا الحكم باستمرار الطهارة المفروغ عن ثبوتها.ويردُ عليه ما ذكرناه من أنّه يمكن التقدير فيه بأن يكون (كلّ شيءٍ طاهر وطهارته مستمرة إلى العلم بالنجاسة), وقد عرفت أنّه لا يكون مخالفاً للأصل إذا كان العرف يفهم منه ذلك.

القول الثالث: إنّ الحديث يدلّ على قاعدة الطهارة والحلية الظاهريتين فقط؛ أي جعل الطهارة الظاهرية للأشياء, وهذا هو المشهور بين الفقهاء وبناءً عليه يكون الحديث أجنبياً عن الإستصحاب.

وفيه: إنّه إذا كان بإمكان استفادة دلالات متعددة من النص الشرعي من دون أنْ يكون في البين مانعٌ لا وجه لصرف النظر عنها وحصرها في دلالةٍ واحدةٍ.

وهذا الإتجاه هو السائد في النصوص القرآنية, وعلى ذلك يحمل ما ورد من أنّ للقرآن سبعة بطون أو سبعون بطناً -على فرض صحته- فإنّها لم تخرج عن دلالات الألفاظ وإشاراتها بحيث يفهمها الذهن المستقيم الخالي عن الشبهات, ولا تعتبر من التفسير بالرأي المنهي عنه, وكذلك الأمر بالنسبة إلى أقوال المعصومين علیهم السلام الذين هم عِدلُ القرآن؛ لا سيما إذا كان المعصوم علیه السلام في مقام بيان دستورٍ عملي للأمة وقانوناً محكماً إلى عامة المكلفين, ولعمري؛ إنّ كثيراً من شبهات الأصوليين التي ذكرنا بعضاً منها في المقام ممّا أبعدت المعنى المراد من الحديث وجردته عن المعنى السامي له.

ص: 380

ولعلّه لِما ذكرناه اختار السيد الوالد قدس سره (1) دلالة الحديث على الحكم الواقعي والحكم الظاهري والإستصحاب, وقال إنّه لا يخفى على الخبير.

وبذلك ينتهي الكلام في الأدلة التي استدل بها على حجية الإستصحاب ولا إشكال في تمامية دلالتها عليها كبرويّاً, وقد عرفت من مطاوي البحث أنّ في بعض الأخبار المتقدمة دلالة على إمضاء السيرة العقلائية أيضاً فضلاً عن تماميتها بنفسها.

شمول الأدلة الروائية لجميع أقسام الإستصحاب

وقع الكلام في أنّ الأدلة المزبورة هل تشمل جميع أقسام الإستصحاب أو تختص ببعضها, فقد اختار جمعٌ من العلماء عموم دليل الإستصحاب لمورد الشك في المقتضي والشك في الرافع, واختار الشيخ الأنصاري قدس سره (2) والمحقق النائيني قدس سره . وذكر أنّ أول من تنبّه إليه هو المحقق الخوانساري قدس سره ؛ من اختصاص الأخبار بمورد الشك في الرافع بسبب لفظ النقض الوارد في بعض الأخبار كصحيحتي زرارة التي ورد فيهما (لا تنقض اليقين بالشك). وتفصيل الكلام فيه يقع في ذكر أدلة التعميم وأدلة الإختصاص.

أدلة التعميم

وقد استدل له بأمور:

الأول: السيرة؛ فإنّ الوجدان يقضي التعميم ليشمل الشك في المقتضي والرافع والغاية, فإذا لم يتحقق عنها رادعٌ شرعي فإنّها تكفي في العموم, فكيف بما إذا قررت بإطلاق أخبار الباب كما عرفت.

ص: 381


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص260.
2- . فرائد الأصول؛ ج2 ص572.

الثاني: إطلاق الأخبار الشامل للجميع؛ لا سيما تلك التي لم يرد فيها لفظ النقض منها كما تقدم بيانه, فلو قلنا باختصاص ما ورد فيها كلمة النقض فإنّه تكفينا تلك الروايات كصحيحةِ عبد الله بن سنان ومعتبرة إسحاق بن عمار.

الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) في مقام ردّه على الشيخ قدس سره ؛ من أنّ النقض الوارد في بعض الأخبار المتقدمة إنَّما يستند إلى اليقين بنفسه لأنّ فيه جهة خاصة تصحح إسناد النقض إليه؛ أعمّ من أنْ يكون متعلقه ذا اقتضاءٍ للبقاء أو لا يكون كذلك, وهذه الجهة هي الإستحكام في اليقين, فلا وجه لحمله على خلاف ظاهره والإلتزام بتخصيص الإستصحاب بخصوص الشك في الرافع.

الرابع: وَهن ما استدل به على الإختصاص, كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

أدلة الإختصاص

وقد استدلوا له بأمور:

الأمر الأول: ما ذكره الشيخ قدس سره (2)؛ من أنّ حقيقة النقض هو رفع الهيئة الإتصالية, كما في نقض الحبل ونقض الغزل؛ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)(3), فيختص بما أحرز فيه المقتضي وشكّ في الرافع ولا يشمل الشك في المقتضي؛ لأنَّ النقض يرد على ما فيه الإستحكام في الجملة وهو متحقق مع إحراز المقتضي, وأمّا مع الشك فيه فلا إستحكام حتى يصح إطلاق النقض عليه.

ص: 382


1- . كفاية الأصول؛ ص392-393.
2- . فرائد الأصول؛ ج2 ص574.
3- . سورة النحل؛ الآية 92.

توضيح ذلك على ما قاله بعضهم: من أنّ لفظ النقض على ما ورد في كتب اللغة تارةً؛ يُسند إلى الدار, فيقال: نقض الدار فيراد به هدم الدار. وأخرى؛ يستند إلى الحبل ويفسر بحلّه, كما يُسند إلى العظام ويقال: نقض العظم أي كسره ويستند إلى الحكم فيقال: نقض الحكم مقابل إبرامه, ونص بعض أهل اللغة إلى أنّه مجازٌ كما في قولهم أمران متناقضان, وغير ذلك ممّا ذكروه. ثمّ ذكر أنّ إسناد النقض إلى اليقين والحكم والعهد والنذر مجازي لا أنْ يكون حقيقياً. ولعلّ الشيخ قدس سره رأى موارد استعمال هذه الكلمة المزبورة فحكم بأنّ النقض هو رفع الهيئة الإتصالية.

ويرد عليه:أولاً: إنّ الموارد المذكورة من الكسر والهدم والحلّ والرفع إنَّما هو من موارد الإستعمال, لا أنْ تكون معنى النقض الذي هو ضد الإبرام, فكلّ ما فيه إبرام واستحكام؛ سواءً من ناحية اتصال أجزائها أم استعدادها للبقاء يكون نقضاً, وإبرامُ كلّ شيءٍ بحسبه, فقد يكون حسياً كما في الحبل والدار والجدار ونحوها, وقد يكون كذلك كما في اليقين, فيُطلق النقض في موارد انتشار العقد من البناء والحبل والعقد كما يُطلق على الحكم والبيعة والعهد واليقين باعتبار إبرامها, وبقائها في عالم الإعتبار والنفس وليس فيه إسنادٌ مجازي, لأنّ في كلّ واحدٍ من تلك إبرام واستحكام وبناءٌ وامتداد, فما ذكره الشيخ الأنصاري إنَّما هو من مصاديق النقض, وكثيراً ما يقع الخلط عند أهل اللغة وغيرهم بين أصل المعنى والمصداق كما هو واضح لمن راجع كلماتهم, فيكون المتفاهم من قوله علیه السلام : (لا تنقض اليقين بالشك) هو ترتيب أثر اليقين باعتبار الإستحكام فيه وتقديمه على الشك مطلقاً؛ ويُرشد إلى هذا قوله علیه السلام : (ويتم على اليقين ويبني عليه ولا يعتد بالشك في حالٍ من الحالات) فإنّ قوله علیه السلام (لا يعتد بالشك) بمنزلة التفسير لقوله (لا تنقض اليقين بالشك)

ص: 383

ولا ريب أنّ ظهور إطلاق المفسِّر (بالكسر) مقدم على احتمال الإجمال لو كان متحققاً في المفسَّر (بالفتح).

والقول بأنَّ إطلاق النقض على اليقين والحكم ونحوهما يكون مجازياً؛ باعتبار أنّ النقض إنَّما يطلق على مورد يكون له أجزاء وليس لتلك الموارد أجزاء حتى يصدق عليه نقض الهيئة الإجتماعية الحاصل بين الأجزاء وفصل بعضها عن بعضٍ (مردودٌ) بما عرفت؛ من أنّ ذلك خلطٌ بين المعنى والمصداق وموارد الإستعمال, فإنّ معنى النقض هو حلّ إبرام شيءٍ ورفع ما فيه نوع من الإستحكام والبقاء في هيئتها أو أجزاءها أو في طول الزمان, وقد ذكرنا بأنَّ استحكام كلّ شيءٍ بحسبه.

ثانياً: إنّه على فرض قبول ما ذكره الشيخ قدس سره ولكنه لا ينحصر أنْ يكون الإستحكام المناسب لإطلاق النقض في خصوص إحراز المقتضي فقط, فإنّ هناك شيءٌ آخر يصح الإطلاق بلحاظه, وهو نفس اليقين والحجة المعتبرة السابقة في مقابل الشك والتردد كما عرفت, أو لمكان الإتّحاد الإعتباري بين اليقين ومتعلقه, وكذا في الحجة المعتبرة ومتعلقها؛ فإنّه يسري الإستحكام إليه أيضاً فيشمل الشك في المقتضي أو الرافع, والعرف في المقام أولى أنْ يُتبع إذا عُرض ذلك عليه.

وممّا ذُكر يظهر أنّه لا حاجة إلى القول بأنّ عنوان اليقين من العناوين المرآتية ذات الإضافة, فلوحظ مفهوم اليقين مرآةً لمفهوم المتيقن من باب أنّ مصاديقه مرآةٌ لمصاديق المتيقن, فإنّه إنْ رجع إلى ما ذكرناه من الفهم العرفي من الإتّحاد بينهما فلا بأس وإلا فهو تبعيد للمسافة وخروجٌ عن الفهم العرفي, وحينئذٍ لا وجهلإشكال السيد الصدر قدس سره (1) عليه بأنّ فناء العنوان في المعنى إنَّما يصح في الوجودات الذهنية دون المصاديق فإنّه غير وارد بحسب

ص: 384


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص160.

الفهم العرفي, كما أنّه يمكن تصحيحه بحسب الفهم العلمي غير الدقي أيضاً, كما ذكرنا في غير المقام. كما لا حاجة إلى القول بأنّ اليقين إستعمال كناية عن المتيقن كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ؛ فالمدلول الإستعمالي وإنْ كان هو اليقين إلا أنّ المراد الجدي هو المتيقن كما في (زيدٌ كثيرُ الرّماد) لأنّه يحتاج إلى عناية زائدة مع أنّه لا حاجة إليه مع إمكان إسناد النقض إلى اليقين باعتبار إبرامه واستحكامه كما تقدم بيانه.

الأمر الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) في اختصاص الإستصحاب بموارد الشك في الرافع مع إحراز المقتضي وكلماته لا تخلو من تشويش, فإنّه قال تارةً؛ إنّ النقض بحاجة إلى إبرام وإحكام من متعلقه ولو مسامحةً وعنايةً, وهذا إنَّما يكون في موارد إحراز المقتضي للمتيقن؛ لأنّ مقتضي المتيقن مقتضٍ لليقين فيكون بقاؤه كأنّه بقاء لليقين أيضاً, فلا يُنقض بالشك, بخلاف مواردِ الشك في أصل المقتضي لبقاء المتيقن.

وفيه: ما عرفت من صحة إسناد النقض لليقين باعتبار أنّ فيه إبرام واستحكام, فلا حاجة إلى فرض استحكام وإبرام من ناحية المتيقن, وتقدم أنّه يمكن التصحيح بلحاظِ الإتّحاد العرفي بينهما.

وأخرى؛ ما ذكره بعضهم من أنّ مراد المحقق المزبور هو النقض العملي, أي نقض الجري العملي على اليقين, فلا بُدَّ من فرض استحكامٍ وابرامٍ ولو مسامحي في الجري العملي؛ وذلك يكون ببقاء مقتضى الجري العملي وإلا لم يكن نقضاً, وحيث أنّ الجري العملي يكون بلحاظ المتيقن المنكشف باليقين فلا بُدَّ من فرض إحراز مقتضيه في مرحلة البقاء وأنّ المتيقن له الدوام والثبات لولا الرافع وإلا لم يصدق النقض العملي لليقين.

ص: 385


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص378-380، فوائد الأصول؛ ج4 ص373-377.

ويرد عليه: إنْ كان مراده إبقاء أثر اليقين في مرحلة الشك باعتبار الإستحكام والإبرام فيه فله وجهٌ وجيه, وقد ذكرنا أنّه المستفاد من قوله علیه السلام (ولا يعتدّ بالشك في حالةٍ من الحالات) وجعلناه تفسيراً لقوله علیه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) فكان المراد من الحديث عدم النقض عملاً, وإلا فإنّه غير صحيح؛ لِما ذكرنا من أنّ في اليقين إستحكامٌ وإبرامٌ ممّا يصح إسناد النقض إليه, ولا حاجة إلى هذه التوجيهات التي تُجرد الحديث عن معناه العرفي.

ومن جميعِ ذلك يظهرُ أنّ الأدلة تشمل جميع أقسام الإستصحاب فيشمل موارد الشك في الرافع وموارد الشك في المقتضي, كما أنّ مقتضى الإطلاق الشمولللجميع من الوجودي والعمدي والتكليفي والوضعي, وأمّا عدم شمولها لقاعدتي الشك الساري والمقتضي والمانع فقد عرفت الوجه في ذلك مفصلاً.

المبحث الثاني:في الآثار المترتبة على الإستصحاب
اشارة

المبحث الثاني(1): في الآثار المترتبة على الإستصحاب

بعد ما عرفت من حجية الإستصحاب يقع الكلام في الأثر المترتب على الإستصحاب ومقدار ما يثبت به, فهل يثبت به مجرد التنجيز والتعذير؟ أو يثبت كلّ الآثار المترتبة على المستصحب من الشرعية والعقلية أو الشرعية فقط؟ فالبحث يقع في مسألتين:

الأولى: لا إشكال في أنّ الإستصحاب يُثبت آثار القطع الطريقي, ولكن هل يثبت به آثار القطع الموضوعي أيضاً؟ وهذا هو المصطلح عليه بقيام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي.

الثانية: إنّ الإستصحاب الذي يثبت آثار القطع الطريقي هل يثبت به الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب فقط أو يعمّها والآثار العقلية كلوازم المستصحب وملزوماته العقلية أيضاً كالأمارات, وهذا ما يصطلح عليه بالأصل المثبت.

ص: 386


1- .من مباحث الإستصحاب.

وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (1) هاتين المسألتين في تنبيهات الإستصحاب, ولتشعب الكلام فيهما نذكرهما مستقلاً في هذا البحث.

المسألة الأولى: قيام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي

أمّا المسألة الأولى؛ فإنّه لا ريب في قيام الإستصحاب مقام القطع الطريقي, ويترتب عليه آثاره من التنجيز والتعذير المترتب على المتيقن، وإنّما البحث في قيامه مقام القطع الموضوعي وترتيب الأثر الشرعي المترتب على نفس العلم -أي القطع الموضوعي- وتترتب عليه ثمراتٌ عديدة كما قيل؛

منها؛ ترتب الأحكام الشرعية المتفرعة على العلم بشيء لا على واقع ذلك الشيء؛ من قبيل جواز الإفتاء بالمؤدى بناءً على أنّه من أحكام العلم بالواقع لا الواقع, وإلا كان من آثار القطع الطريقي.

ومنها؛ حكومة الإستصحاب على الأصول العملية المُغّياة بالعلم.

ومنها؛ حكومة الأصل السببي على المسببي كما يأتي بيانه.

وكيف كان؛ فقد ذكر السيد الصدر قدس سره (2) أنّ قيام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي يتوقف على ثبوت أمرين:

الأول: الفراغ ثبوتاً عن إمكان استفادة قيام حجة من الحجج المعتبرة مقام القطع الطريقي والموضوعي معاً من دليل واحد, وهو غير ممكن كما تقدم تفصيله.

الثاني: عدم إرادة المتيقن من اليقين في أحاديث الإستصحاب, وإلا يكون استفادة قيام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي وترتيب آثار اليقين الموضوعي عليه يحتاج إلى عنايات خاصة فائقة, وحينئذٍ يكون المستفاد من أدلة الإستصحاب التعبد ببقاء المتيقن وتنزيله منزلة الواقع وهو لا يقتضي أكثر من ترتيب آثار القطع الطريقي دون الموضوعي.

ص: 387


1- .تهذيب الأصول؛ ج2 ص274.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص168.

والحقُّ أن يقال: إنّ كلا الأمرين لا يمكن الإعتماد عليه؛

أمّا الأول؛ فقد تقدم في مباحث الأصول إمكان الإستفادة من دليلٍ واحد قيام الحجة مقام القطع الطريقي والموضوعي معاً؛ وإنْ ناقش جمعٌ من الأصوليين فيه, وقد تقدم تفصيل الكلام فراجع.

وأمّا الثاني؛ فقد عرفت أنّ لمكان الإتحاد الإعتباري بين اليقين والمتيقن في نظر العرف يسري أحكام أحدهما إلى الآخر من دون ارتكاب المجاز وإعمال عناية, وتقدم أنّ المستفاد من الأخبار ترتيب أثر اليقين في مرحلة الشك فيكون المستفاد منها هو التعبد ببقاء أثر اليقين, وعليه؛ يمكن القول بقيام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي.

هذا بالنسبة إلى هذين الأمرين مع قطع النظر عن أخبار الإستصحاب, وإلا فقد ذكر جمعٌ أنّه يمكن استفادة ذلك منها, وذكروا في تقريبه عدّة توجيهات:

التوجيه الأول: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1)؛ من أنّه بعد التسليم من إرادة النهي من أدلة الإستصحاب دون النفي يكون المراد النهي عن النقض العملي لا الحقيقي, فتدل على حرمة النقض العملي لليقين ووجوب الجري عليه بقاءً, وقد كان متيقناً فاستفاد من ذلك قيامه مقام القطع الطريقي والموضوعي معاً من باب أنّ الجري العملي على اليقين يقتضي الجري على وفق آثاره الطريقية والموضوعية معاً, فلا وجه لتخصيص عدم النقض بأحدهما دون الآخر وفق آثاره الطريقية والموضوعية معاً.

وأورد عليه:

أولاً: إنّ المنهي عنه في أدلة الإستصحاب إنَّما هو نقض اليقين بالشك, وهذا إنَّما يصدق في حقّ الأثر الطريقي لليقين حيث يكون مشكوكاً, وأمّا الأثر الموضوعي فارتفاعه يقيني بالشك وليس مشكوكاً, فهو من نقض اليقين باليقين لا بالشك.

ص: 388


1- . لم نجده في كلمات المحقق العراقي، وقد نقله عنه في بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص169.

وفيه: إنّه بعدما عرفت أنّ المستفاد من الأخبار إبقاء أثر اليقين في مرحلة الشك يشملهما كلاهما, والشك تارةً؛ يتعلق بالأثر الطريقي لليقين, وأخرى؛ يتعلق بالأثر الموضوعي له فيكون متعلق الشك حينئذٍ هو الواقع.ثانياً: إنّ النقض ضد الإبرام ومصححٌ إسناده إلى اليقين باعتبار التفاف اليقين بالمتيقن وشدة تعلقه به وثباته, وهذه العلاقة إنَّما تكون بلحاظ الآثار الطريقية لليقين لا الآثار الموضوعية؛ لانتفاء هذه النكتة فيها.

وفيه: إنّ الإتحاد الإعتباري الذي فهمه العرف بين اليقين والمتيقن أوجب تعميم الآثار للطريقي والموضوعي؛ فلا وجه للإختصاص بالأول والنكتة موجودة؛ وهي الإتحاد الإعتباري العرفي وإبقاء أثر اليقين.

وممّا ذكرنا يظهر وجه المناقشة في ما ذكر السيد الصدر قدس سره في الرد الثالث فلا وجه لإعادته.

التوجيه الثاني: ما ذكره بعضهم من أنّ مفاد أدلة الإستصحاب هو التعبد ببقاء اليقين وعدم انتقاضه, ومقتضاه ترتب كلا نوعي آثار اليقين؛ الطريقي والموضوعي معاً.

وهذا هو الموافق للذوق العرفي, بل ذكرنا أنّ المستفاد -كما ذكره السيد الوالد قدس سره - من قوله علیه السلام (ويتم على اليقين ولا يعتدّ بالشك في حالٍ من الحالات) هو بمعنى ترتيب آثار اليقين, ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره السيد الصدر قدس سره ؛ من أنّ ذلك مبهمٌ ولا يتضمن تبيين وجه الدلالة, ولكنه من المدلول المطابقي لأحاديث الإستصحاب وهو التعبد ببقاء اليقين, أو هو مدلولٌ إلتزامي, فإنَّ ما أفاده لا يضر بعد فهم العرف من الأحاديث ذلك؛ سواءً كان مدلولاً مطابقياً أم إلتزامياً, فراجع كلامه تجده لا يخلو من إشكال.

ص: 389

التوجيه الثالث: إنّ النهي عن النقض؛ إمّا أنْ يُحمل في أدلة الإستصحاب على الكنائية والإرشاد إلى بقاء اليقين وعدم انتقاض اليقين نظير إرشادية النهي عن صلاة الحائض, وذلك لأنّ النهي الحقيقي لا يمكن تعقله, إذ لا يتصور النقض الحقيقي لأنّه غير مقدور فيكون قرينة على الإرشادية.

وإمّا أن يحمل على النقض العملي لا الحقيقي وهو بعيد؛ لأنّه لا يمكن إرادة تحريم النقض العملي في موارد الإستصحاب لأنّه لا ينحصر في الإلزاميات فإنّه قد يكون الإستصحاب لحكمٍ غير إلزامي ولحكمٍ وضعي ولا معنى لتحريم النقض في مثل ذلك, فلا محالة لا بُدَّ أنْ يكون المراد منه المعنى الكنائي عن عدم الملزوم, أي عدم الإنتقاض باعتبار أنّ النقض العملي لازمُ الإنتقاض الحقيقي لليقين بالشك, وهذا ممّا يستدعي جعل الطريقية والعملية للإستصحاب, ولعلّ مراد المحقق النائيني قدس سره الذي حمل النقض على النقض العملي لا الحقيقي واستفاد منه الطريقية والعملية للإستصحاب يريد به هذا الوجه.

وكيف كان؛ فقد أشكل عليه السيد الصدر قدس سره أيضاً؛ بأنّ استفادة الطريقية والعملية للإستصحاب مستحيلٌ ثبوتاً على كلا الوجهين؛ النقض العملي والنقضالكنائي؛ لأنّ الشك قد أخذ موضوعاً لهذا الجعل في لسان دليل الإستصحاب, والموضوع حينئذٍ لا بُدَّ وأنْ يُنظر إليه مفروغاً عنه, وهذا يتهافت مع كون النظر إلى إلغائه وجعله علماً ويقيناً.

ولكن ذكرنا في مباحث القطع أنّه لا تهافت في البين باعتبار تعدد اللحاظ والحيثية؛ وفي المقام نقول: إنّ ظاهر الخطاب في أمثال هذه الموارد الفراغ عن وجود الشك مع قطع النظر عن الجعل لا مطلقاً ويطلب من محله.

وكيف كان؛ فإنّ تلك التوجيهات صحيحة والإشكال عليها غير وارد وقد ذكرنا أنّه المتفاهم العرفي من أخبار الإستصحاب, فيقوم الإستصحاب مقام القطع الموضوعي كما

ص: 390

يقوم مقام القطع الطريقي, وممّا ذكرنا يظهرُ بطلان المناقشة فيما ذكره المحقق النائيني في التوجيه الأول المتقدم لقيام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي بأنّ مفاد الحديث بعد أنْ كان كنائياً وإرشادياً إلى التعبد ببقاء اليقين, فلا دليل على إرادة أكثر من التعبد ببقاء اليقين في آثاره الطريقية والجري العملي منه, وأمّا التعبد ببقائه بلحاظ الأثر الموضوعي فيحتاج إلى مؤونة زائدة لا شاهد عليها ولا يمكن إثباتها بالإطلاق ومقدمات الحكمة؛ لأنّ الإطلاق ينفي القيد عن المدلول ولا يثبت أصل المدلول الكنائي وأنّه هذا المعنى أو ذاك, فليس الموارد من التمسك بالإطلاق.

وفيه: ما تقدم ذكره من أنّ استفادة قيام الإستصحاب مقام القطعين من جهة الفهم العرفي والإتحاد الإعتباري بين اليقين والمتيقن, أو من جهة إفادة الحديث ببقاء أثر اليقين في مورد الشك وعدم الإعتناء به, وهو يشمل القطع الطريقي والموضوعي.

هذا كلّه بالنسبة إلى المسألة الأولى.

المسألة الثانية: حدود ما یثبته الإستصحاب من آثار القطع الطریقي

وأمّا المسألة الثانية؛ أي الكلام في الأصل المُثبت.

والكلام فيه يقع في مقامات:

المقام الأول: في اعتبار المثبتات في الأمارات والأصول

قال السيد الوالد قدس سره : (لا ريب في اعتبار وجود الأثر الشرعي في مورد الأمارات والأصول الشرعية مطلقاً, وهو تارةً؛ يترتب عليها بلا واسطة شيءٍ أبداً أو بواسطة أمرٍ شرعي, وأخرى؛ مع واسطة أمرٍ عقلي أو عادي. ويعبر عن الأخير بالمُثبت, أي تثبت الأمارةُ أو الأصلُ أمراً غير شرعي ويترتب عليه الأثر الشرعي, وقد اشتهر اعتباره في الأمارات دون الأصول مطلقاً )(1). ذكر ذلك في التنبيه الثامن من تنبيهات الإستصحاب.

ص: 391


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص274-275.

وتحقيقُ الكلام فيه يقتضي تمهيد أمور:

الأمر الأول: إنّ مؤدى الإستصحاب ومجراه؛ تارةً؛ يكون حكماً شرعياً.

وأخرى؛ يكون موضوعاً شرعياً لحكمٍ شرعي.

وثالثةً؛ لا يكون حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكمٍ شرعي بل يكون ملازماً لِما هو موضوعٌ للحكم الشرعي بملازمة غير شرعية كالملازمات العقلية أو العرفية. ومحلّ الكلام هذا القسم؛ فيُبحث في أنّ الإستصحاب حجةٌ في الآثار الشرعية غير المترتبة شرعاً على المستصحب إلا بواسطة أمرٍ عقلي أو عادي, وهو ما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: إشتهر بين الأصوليين اعتبار مُثبتات الأمارات دون الأصول مطلقاً؛ وبذلك افترقا, وللإصوليين في توضيح هذا الفرق منهجان:

المنهج الأول: الفرق الثبوتي؛ وهو الذي يظهر من عبائر المحقق النائيني قدس سره ؛ باعتبار أنّ سنخ المجعول في باب الأمارات يختلف عنه في الأصول العملية فأوجب ذلك هذا الفرق.

المنهج الثاني: الفرق الإثباتي؛ وهو ما يظهر من كلمات المحقق الخراساني قدس سره ؛ وهو قصور دليل حجية الأصول العملية عن ترتيب أكثر من الأثر الشرعي المطابقي, بخلاف أدلة جعل الحجية للأمارات فيُرجع إلى دلالة دليل الحجية, ولازم هذا المنهج أنّه يمكن عدم استفادة حجية لوازم أمارة من الأمارات إذا فرض قصور دلالة دليل حجيتها عن إثبات حجية لوازمها, كما أنّه إذا استفدنا من دليل حجية أصلٍ من الأصول العملية حجية لوازمه يمكن القول باعتبار لوازمه, وقد اختاره السيد الوالد قدس سره في الأصول والفقه, وسيأتي تفصيل الكلام في ذلك إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: المراد من الأثر الشرعي كلّ ما يصح انتسابه إلى الشارع؛ سواء كان تكليفياً أم وضعياً تأسيسياً أم إمضائياً, فاستصحاب البراءة من التكليف لو فُرض صحته لا

ص: 392

يكون مثبتاً, لأنّ نفي التكليف مورد جعل الشارع كوضعه ولو إمضاءً, وكذا إستصحاب وجود الجزء والشرط وفقد المانع لا يكون مُثبتاً لترتب الأثر الشرعي عليه وهو صحة العمل, وكذا إستصحاب عدمها لترتب الفساد.

ولا إشكال في ذلك بناءً على كون الصحة والفساد مجعولاً مستقلاً شرعاً, وكذا لو قلنا بأنّ الصحة والفساد من الأمور الإنتزاعية, حيث تُنتزع الصحة في أثناء العمل من وجوب الإتمام ويُنتزع الفساد من وجوب الإعادة أو القضاء كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الرابع: الأثر المترتب على الأصل؛ إمّا شرعي فقط, أو غير شرعي فقط, أو غير شرعي مترتب على الشرعي, أو شرعي مترتب على غير الشرعي؛ ولا ريب في اعتبار الأصل في الأول, كما لا ريب في عدم الإعتبار في الثاني,والثالث مُعتبرٌ لتحقق الموضوع في الأصل وإنْ ترتب عليه الأثر غير الشرعي كترتب إستحقاق العقاب على مخالفة الوجوب المستصحب وإجزاء امتثاله ونحو ذلك من الآثار غير الشرعية, وأمّا الأخير فهو الأصل المُثبت المعهود, فقد يكون مُعتبراً مع الإتحاد في نظر العرف وقد لا يكون مُعتبراً إذا حكم العرف بالإختلاف والتباين.

الأمر الخامس: لا إشكال في جريان الإستصحاب في موردٍ يكون الأثر الشرعي حدوثاً وبقاءً, كما لا ريب في جريانه فيما إذا كان الأثر الشرعي للبقاء فقط, وأمّا إذا كان الأثر الشرعي في مجرد الحدوث فقط دون البقاء فلا مجرى للأصل فيه, ويأتي توضيح جميع ذلك في مستقبل الكلام إنْ شاء الله تعالى.

ص: 393

الفرق بين الأصول والأمارات في اعتبار المُثبتات فيهما وعدمه

قد عرفت أنّ لهم فيه منهجان:

المنهج الأول: المنهج الثبوتي

وقد ذكروا في تقريبه وجهان:

الوجه الأول: ما اختاره المحقق النائيني قدس سره (1)؛ حيث ذكر في تقريبه أنّ العلم له آثارٌ وخصائصٌ أربع مترتبة:

1- الصفتية باعتبار كون العلم حالة سكون واستقرار نفسي.

2- الطريقية وانكشاف الواقع به.

3- التحريك العملي نحو الواقع الذي تعلق به.

4- التنجيز والتعذير.

والمجعول في باب الأصول العملية هو الأثر الثالث, أي التحريك نحو الواقع الذي تعلق به الأصل, ولكن تارةً؛ يجعل الشارع الأصل كالعلم في التحريك والجري العملي على طبق الشيء على أنّه هو الواقع تنزيلاً وتعبداً, وهو مفاد الأصول التنزيلية أو الأصول المحرزة كالإستصحاب, وأخرى؛ يُجعل الأصل في التحريك والجري العملي من دون افتراض كون مؤداه هو الواقع, وهو مفاد الأصول غير المحرزة وغير التنزيلية. وأمّا الأثر الرابع؛ فإنّه يترتب على الحجة مطلقاً؛ سواءً كان أصلاً أم أمارة, لكن بالتّبع لا الإستقلال على رأي المحقق النائيني قدس سره ؛ لأنّه يرى أنّ المنجزية والمعذرية من أحكام العقل, ولا يعقلللشارع تنزيل شيء منزلة حكم غيره, وقد عرفت فيما سبق في المباحث عدم صحة ذلك.

ص: 394


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص383-384.

أمّا الأثر الأول؛ فهو من مختصات العلم ولا يقوم شيءٍ مقامه إلا أنْ يكون علماً حقيقةً, كما أنّ الأثر الثاني هو المجعول في باب الأمارات, حيث أنّ الشارع يحكم فيها بتتميم الكشف إعتباراً ويجعلها علماً وطريقاً, فتقوم الأمارات مقام العلم من هذه الجهة وتترتب عليها الخصائص الأخرى.

وبناءً على هذا التفصيل الذي ذكره قدس سره يثبت الفرق بين الأمارات والأصول العملية؛ فإنّ جعل الطريقية والعلمية في الأمارات يعني تتميم كاشفيتها, ومن الواضح أنّ ذلك إذا ثبت بالنسبة إلى المدلول المطابقي من باب الأمارات يقتضي ثبوتها في ملازماتها فتثبت جميعها بتتميم كشفها, وهذا بخلاف الأصول, لأنّ المجعول فيها هو مجرد الجري العملي على مؤداها وهو لا يستلزم التعبد بالجري العملي على طبق لوازمها التي لم تتم أركان الإستصحاب فيها.

وأورد عليه السيد الخوئي قدس سره (1) بأنّه كما لا تلازم بين جعل الجري العملي على طبق شيءٍ وجعل الجري العملي على طبق لوازمه, كذلك لا ملازمة بين جعل اليقين التعبدي بشيءٍ وجعل اليقين التعبدي بلوازمه, وإنّما يحقق التلازم بين اليقين الحقيقي بشيء واليقين الحقيقي بلوازمه, وأمّا في باب الأمارات فلم يكن إلا اليقين التعبدي فيها, فلا بُدَّ من الرجوع إلى لسان الدليل في باب الأمارات والأصول وملاحظة الفرق بينهما وهو المنهج الإثباتي.

وأُشكل عليه بأنّه ربّما يكون مقصود المحقق النائيني قدس سره الملازمة العرفية بين جعل الطريقية وتتميم الكشف تعبداً بالنسبة إلى شيءٍ, وجعل الطريقية وتتميم الكشف تعبداً بالنسبة إلى لوازمه, بخلاف ما إذا كان المجعول مجرد المحركية والجري العملي فإنّه لا

ص: 395


1- . نقله في بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص177.

يستلزم المحركية نحو الملازم لأنّها من نتائج الكاشفية في القطع الوجداني نحو اللوازم لا من نتائج المحركية نحو اللزوم, وبما أنّ الجعل تعبدي واعتباري والمجعول نفس الكاشفية والطريقية فلا محالة تنعقدُ دلالةٌ إلتزامية على جعل الكاشفية للوازم أيضاً في باب الأمارات دون الأصول.

ويمكن ردّه بأنّ الدليل الذي دلّ على حجية الأمارات هو نفسه يدلّ على حجية الأصول, فإنْ دلَّ على عموم التنزيل في الحجية في أدلتهما فتدلّ على التعبد بترتيب جميع الآثار الشرعية والعقلية المترتبة على المجعول في كلٍّ من الأمارات والأصول, وإلا فلا يدلّ إلا على ما يستفاد من المدلول المطابقي له, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.إلا أنْ يقال؛ بأنّه مع ذلك يتحقق الفرق بينهما من ناحية أنّ المجعول في الأمارات نفس الطريقية والكاشفية, فيترتب عليها لا محالة حجية اللوازم؛ لِما عرفت من أنّ كاشفية العلم بشيء يكشف عن لوازمه من الآثار العقلية المترتبة على كاشفيته لذلك الشيء, بخلاف اقتضاء العلم للجري العملي على طبق المعلوم المجعول في باب الأصول.

والحقُّ؛ إنّ ذلك لا يغني عن ردّ المناقشة المزبورة, فإنّه عودٌ على نفس ما ذكره المحقق النائيني قدس سره بصيغةٍ أخرى, مع أنّه بعيدٌ عن مراده لأنّه يرى استحالة التنزيل بلحاظ أحكام غير الشارع من قبل الشارع.

وكيف كان؛ فإنّ ما ذكره قدس سره يرجع إلى صياغة الدليل, فلا بُدَّ من ملاحظة نفس الدليل وما يترتب عليه من النتائج, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1)؛ من أنّ الفرق الثبوتي بين الأمارات والأصل يرجع إلى حقيقة الحكم الظاهري الذي هو عبارةٌ عن الحكم الصادر من قبل المولى في مقام

ص: 396


1- . المصدر السابق.

الحفظ على الأهمّ من الملاكات والأغراض المولوية الواقعية الأزلية والترخيصية المتزاحمة فيما بينها وترجيح الأهمّ فيهما على المهم, ثمّ هذا الترجيح قد يكون على أساس قوة الإحتمال محضاً, بحيث تكون نية الحكم الظاهري إلى الأحكام الإلزامية والترخيصية على حدٍّ واحد, فكما يُثبت حكماً ترخيصياً يُثبت حكماً إلزامياً, والخصوصية الدخيلة في جعله هي درجة الكشف, وهذا هو حقيقة الأمارة؛ سواء جُعلت بلسان العلمية أم بلسان جعل المنجزية والمعذرية أم بأيّ لسانٍ آخر, وقد يكون الترجيح بين الأغراض الواقعية الترخيصية والإلزامية على أساس قوة المحتمل وملاحظة نوعية الحكم والغرض الواقعي المحتمل, أو ملاحظة نوعية الكاشف لا المنكشف, وهذا هو حقيقة الأصل العملي, بخلاف الأمارة؛ فإنَّ قوة الإحتمال هي الملحوظة صرفاً في جعل الحكم الظاهري كما عرفت آنفاً؛ فاختلف الملاك في كلّ واحدٍ منهما؛ فتكون حجية المثبتات في الأمارة على القاعدة باعتبار هذه النكتة الثبوتية الجوهرية في باب الحكم الظاهري الأماري, لأنّ تمام ملاك الحجية فيها إنَّما هو درجة الكاشفية محضاً وهذه الدرجة بالنسبة إلى المدلول المطابقي والإلتزامي على حدٍّ سواء, فتكون العلة في ملاك الحجية بالنسبة إلى اللوازم هي بنفسها ملاك الحجية في المدلول المطابقي.

وأمّا الأصول العملية؛ فإنّ الملاك في حجيتها ليس هو الترجيح بدرجة الكاشفية وقوة الإحتمال صرفاً بل لنوعية الحكم المنكشف إي المحتمل أو نوعية الكاشف, أي الإحتمال؛ فلا تثبت لوازمها على القاعدة وإنّما يحتاج إثباتها إلى دليل يقتضي ذلك بحسب مقام الإثبات, وما ذكره غير تام لِما يلي:

أولاً: إنّه لا دليل يدلّ على أنّ جعل الحكم الظاهري إنَّما من أجل ما ذكره, بل يمكن أنْ يستفاد من مجموع الأخبار أنّ الأحكام الواقعية والظاهرية إنَّما شُرّعت لتنظيم رسم

ص: 397

العبودية في العباد وإيصالهم إلى الكمال المنشود فكان في الحكم الواقعي أتمّ وأكمل, ولكن خفي علينا ذلك لجهةٍ من الجهات كظلم الظالمين وبغي المضلين, فقد جعل الشارع الحكم الظاهري رأفةً بالعباد وليس هو من أجل حفظ الملاكات وترجيح الأهمّ على المهم, فإنّ الملاكات الواقعية محفوظةٌ في حقيقتها ولا تزاحم بينها, وإنّما الحكم الظاهري له ملاكه الخاص, وقد شُرّع بعد خفاء الحكم الواقعي أو عدم إمكان الوصول إليه كما عرفت.

ثانياً: ما ذكرناه في أحد مباحثنا السابقة من أنّ الملاك في جعل الحكم الظاهري لا ينحصر بما ذكره قدس سره , وهو حفظ الأهمّ من الملاكات والأغراض المولوية الواقعية الإلزامية والترخيصية المتزاحمة فيما بينها وترجيح الأهمّ منها على المهم, بل قد يكون الملاك شيئاً آخر؛ وهو رفع حيرة المكلفين عند اختفاء الأحكام الواقعية, أو دعم رسم العبودية فيهم حتى مع عدم القدرة على الوصول إلى الحكم الواقعي, أو كان الملاك في جعل الحكم الظاهري عقوبةً على المكلفين لإهمالهم التحفظ على الحكم الواقعي الذي فيه أعلى درجات الكمال, كما ورد في إعادة الصلاة لمن نسي النجاسة في ثوبه أنّها عقوبةً له حتى لا يهمل ذلك وغير ذلك.

ثالثاً: إنّه على فرض التنزل فلا بُدَّ من الرجوع إلى الدليل الذي دلَّ على اعتبار الحكم الظاهري والإستفادة منه في أنّ جعله يشمل المدلول المطابقي والإلتزامي أو يختص بالمدلول المطابقي فقط, فلم تخرج عن مفاد الأدلة كما صرّح بذلك في آخر كلامه وفصّل الكلام فيه.

والحاصل؛ أنْ لا كلية في ما ذكره العلمان (قدّس سرّاهما) بل يدور الإعتبار مدار مقدار دلالة الدليل على كلٍّ من الأمارة والأصل لا محالة, فلا دليل على عموم الحجية في مثبتات الأمارات مطلقاً كما لا دليل على عدم حجيتها في الأصول كذلك.

ص: 398

ومن جميع ذلك يظهر عدم وجود دليل يصح الإعتماد عليه في تمييز الفرقِ بين الأمارة والأصول في المُثبتات بناءً على هذا المنهج.

المنهج الثاني: المنهج الإثباتي

وقد اختاره جمعٌ منهم المحقق الخراساني قدس سره (1) وقال في توجيهه؛ بأنَّ دليل حجية الأمارة ظاهر في جعل الحجية للحكاية والكشف كخبر الثقة؛ فإنّه كما يحكي عن المدلول المطابقي يحكي عن المدلول الإلتزامي فيكون إخباراً به أيضاً, بخلاف الأصول العملية؛ فإنّه ليس فيها ذلك.واعترض عليه السيد الخوئي قدس سره بأنّ الإخبار والحكاية فرع قصد الخبر, وهو قد لا يقصد ذلك بل قد لا يعلم بأصل الملازمة, فكيف يمكن أنْ يكون دليل الحجية شاملاً للمدلول الإلتزامي باعتباره إخباراً وحكايةً أخرى.

وإنّما الصحيح أنْ يقال: إنّ دليل حجية الخبر حيث كان هو السيرة العقلائية, وهي قائمة على العملِ بالمدلول المطابقي والإلتزامي معاً, ومن هنا كانت مُثبتاته حجة؛ بخلاف الأصول العملية.

ويرد عليه: إنّ ما ذكره مناقشة صغروية, فإنَّ حجية خبر الثقة في الآثار المترتبة عليه من حجية خصوصية ذاتية حاصلة فيه؛ إمّا من حيثية غلبة حصول الكشف أو معهوديته لدى العقلاء, أو من حيثية أخرى فتترتب على خبر الثقة الحكاية والإخبار بعد اعتقاد المخبر النسبة التصديقية في إخباره؛ سواءً قصد الإخبار عنها أم عرفناه بوجهٍ آخر دون قصده, وحينئذٍ يكون التصديق بشيءٍ تصديقٌ بلوازمه ولو تقديراً, أي تقديرُ العلمِ بالملازمة, وهذا القصد التقديري يكفي في موضوع الحجية عند إحراز المعلق عليه.

ص: 399


1- . المصدر السابق؛ ص181.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ موضوع الحجية في خبر الثقة القضية الحقيقية دون القضية الخارجية حتى يورد عليه بمثل ذلك فتأمل.

وكيف كان؛ فإنّ ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في توجيه مُثبتات الأمارات يرجع إلى كونها من سنخ الدلالات الإلتزامية التي يتحقق في ما فيه الظهور والكشف دون غيرها.

ويرد عليه بأنّه لا كلية في ذلك بل يدور مدار مقدار دلالة الدليل عليه لا محالة, إلا إذا قامت حجةٌ معتبرةٌ على اعتبار المثبتات مطلقاً؛ وحينئذٍ نقول بأنّ المتيقن منها ما إذا كان الأثر المترتب على الأمارة والأصل بلا واسطةٍ أو بواسطة أمر شرعي, فلا فرق في ذلك بين الأمارة والأصل, ولا دليل على تعميم الحجية في مُثبتات الأمارة مطلقاً كما لا دليل على عدم الحجية في مثبتات الأصول, نعم؛ إنْ كانت المثبتات في الأصول من اللزوم البيّن فإنّه يمكن لنا التمسك بنفس الدليل الذي دلّ على حجية الأصل, فإنّه من الأمارة والأمارةُ حجةٌ في لازمها البين.

وحقُّ الكلام فيه أنْ يقال: إنّ مقتضى الأصل عدم حجية المُثبت مطلقاً؛ لا من الأمارة ولا في الأصل؛ لأصالة عدم الحجية في كلّ شيءٍ إلا ما ثبت بالدليل المعتبر وهو منحصرٌ بنفس الأمارة أو الأصل, فإنْ استفيد ذلك من الأصل أو الأمارة بنحوٍ من الدلالات المحاورية العرفية نقول بالإعتبار؛ بلا فرقٍ بين الأمارة والأصل.

وإنْ لم يكن في البين ما يصح الإعتماد عليه في هذه الدلالة فلا إعتبارية مطلقاً؛ أصلاً كان أو أمارة, ومورد الشك ملحق بهذه الصورة أيضاً لأصالة عدم الإعتبار, ولا ريب أنّ المُثبتات من قبيل المداليل الإلتزامية المختلفة بحسب اختلاف الموارد والجهات؛ بلا فرق بين الأصول والأمارات, وعلى ضوء ذلكقلنا بحجية المُثبت في الأصول إنْ كان من اللازم البين للأصل, لأنّ الدليل الذي دلَّ على حجيته يشمله لأنّه من الأمارة, ولا ريب في حجية الأمارة في لازمها البين.

ص: 400

وإلى ما ذكرناه يرجع ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره ؛ من اعتبار مثبتات الإستصحاب مع خفاء الواسطة, أو ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1)؛ من اعتبارها في ما إذا كانت من قبيل المتضايفين.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ النزاع بين الأعلام (قدّست أسرارهم) يكون صغروياً؛ فمن يقول بالحجية في المُثبتات يعتبرها من اللازم البين, ومن لم يعتبرها يخرجها من اللازم البين؛ ومقتضى الأصل عدم اعتبارها كما عرفت.

هذا كلّه في مُثبتات الأصول والأمارات مطلقاً.

المقام الثاني(2): في اعتبار مُثبتات الإستصحاب

تقدم أنّه لا إشكال في حجية الإستصحاب في الأثر الشرعي المترتب عليه؛ سواءً كان بلا واسطة أم كان بواسطة أمرٍ شرعي, والخلاف في ما إذا كان الأثر المترتب عليه عقلياً أو عادياً, فقد أشكلوا على ذلك؛ بأنّه إذا كان الأثرُ المترتب على المستصحب غير مباشر فلا فرقَ فيه بين أنْ تكون الواسطة بينه وبين المستصحب شرعية, كحلية أكل الطعام المغسول بماء مستصحب الطهارة, فإنّ الحلية تثبت مع أنّها تترتب على طهارة الطعام المترتب على طهارة الماء المغسول به, وبين ما إذا كانت الواسطة عقلية, كصحة الوضوء اللازم لغسل الموضع المشكوك وجود الحاجب عليه اللازم لاستصحاب عدم الحاجب, فإنّه إذا كان لدليل الإستصحاب إطلاق لكلّ آثار المستصحب فلا بُدَّ من ترتيبها جميعاً في الموردين وإلا فلا بُدَّ من عدم ترتيبهما في الموردين, فلا وجه للتفصيل بينهما.

ص: 401


1- . نقله عنهم في تهذيب الأصول؛ ج2 ص276.
2- . من مقامات المسألة الثانية في الأصل المثبت.

وقد استدل عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنّ دليل الإستصحاب يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن السابق معاملة البقاء؛ بحيث يفرض الشاك نفسه متيقناً بالمشكوك, ولازمُ ذلك العمل بكلّ ما ينشأ من يقينه به؛ أعمّ من أنْ يكون ترتبه بواسطةٍ أو بغير واسطة.

وبعبارة أخرى: إنّ المستفاد من دليل الإستصحاب أنّ المجعول فيه تنزيل المشكوك منزلة المتيقن, أي أنّ المجعول فيه ترتيب أثر الواقع على المستصحب وجعله كأنّه الواقع, كتنزيل الطواف منزلة الصلاة؛ غاية الأمر أنّ التنزيل هناكواقعي وهنا ظاهري, ولعلّ هذا الوجه هو الذي يشير إليه المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية(1)؛ من أنّ التعبد بالشيء تعبد بلوازمه.

وأشكل عليه:

أولاً: إنّ ما ذُكر إنَّما هو عين الدعوى من دون ذكر الوجه لها يشبه هذا بما ذكره قدس سره في مقام حجية الأصل المُثبت؛ من أنّ التعبد بالمستصحب تعبد به بلوازمه العقلية والعادية كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات, وذكر الدعوى من دون ذكر الدليل عليها بعيدٌ عن الأسلوب العلمي, هذا مع أنّ المطلب بنفسه غير تام عنده في الأمارات؛ حيث أنكره وأرجع التعبد بلزوم الأمارات إلى جهة أخرى.

ثانياً: إنّه لم يتم في مقام الإثبات دليلٌ على ثبوت الإطلاق لدليل الإستصحاب ليشمل الآثار ولو كانت بواسطة, بل المتيقن منه التعبد بالمستصحب بلحاظ آثار نفسه لا آثار لوازمه.

ص: 402


1- . كفاية الأصول؛ ص414.

ثالثاً: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) بناءً على مبناه من قصور دليل الإستصحاب ليتكفل التعبد باليقين بلحاظ الجري العملي بلا نظر إلى الواقع, فلا يثبت به سوى الجري العملي بالمقدار الثابت من التعبد وهو مورد اليقين والشك لأخذهما في موضوع الإستصحاب, فلا يلزم سوى ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على نفس المتيقن لعدم اليقين والشك بلوازمه وملزوماته, ولكن عرفت ممّا سبق عدم صحة مبناه, وأنّه لا بُدَّ من الرجوع إلى ما هو المستفاد من دليل الإستصحاب.

الوجه الثاني: ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره (2) في توجيه الإطلاق؛ من التمسك بقاعدة أنّ أثر الأثر أثر, فيشمل آثار الواسطة.

وردّه المحقق النائيني قدس سره (3) بأنّ الأثر المترتب على الأثر إمّا أنْ يكون من سنخه؛ سواء كانا تكوينيين أم تشريعيين, فلا ريب أنّ الأثر الأخير أثر لِما يترتب عليه الأثر الأول, أمّا في التكوينيات فظاهرٌ لأنّ معلول المعلول للعلة الأولى, وأمّا في التشريعات كما لو ترتب على ملاقاة النجس نجاسة اليد وترتب على ملاقي اليد نجاسة الثوب وهكذا؛ فإنّ الآثار الطولية مترتبة بأجمعها على الملاقات الأولى ومن أحكامها, فإذا جرى الإستصحاب وثبت به نجاسة شيءٍ مترتب عليه نجاسة شيءٍ مترتب عليه نجاسة ملاقيه ولو بغير واسطة.وأمّا إذا لم يكن من سنخٍ واحدٍ؛ كما إذا ترتب حكمٌ شرعي على معلول تكويني لشيء؛ فلا يصح القول بأنّ أثر الأثر أثر, لأنّ الأحكام الشرعية لا تترتب على موضوعاتهما ترتب المعلول على العلة, فلا يكون الحكم الثابت للمعلول حكماً ثابتاً للعلة.

ص: 403


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص488.
2- . كفاية الأصول؛ ص415.
3- . أجود التقريرات؛ ج2 ص417.

وقيل في الجواب عن ذلك بأنّ الملحوظ إذا كان عنوان الأثر المساوق للمعلول فلا إشكال في هذه القاعدة؛ سواءً كانت الآثار الطولية من سنخ واحد أم من سنخين؛ فإنّ المعلول الشرعي للمعلول التكويني معلولٌ للعلة الأولى لا محالة, وإنْ كان الملحوظ هو الحكم المعارض على موضوعه فهو غير مسلم حتى في ما إذا كانت الآثار من سنخ واحد كما في مسألة الملاقاة, لأنّ حكم اللازم لا يكون حكماً للملزوم, ولا يخفى أنّ جميع ذلك خلاف المباني العرفية التي يبتني عليها الأدلة والقواعد في الأصول والفقه.

فالصحيح في الجواب عن ذلك؛ هو أنّه غير تام في مقام الإثبات لعدم إطلاق لدليل الإستصحاب ليشمل كلّ الآثار ولو كانت بواسطة, فلا بُدَّ من الأخذ بالمتيقن عند الشك والتعبد بالمستصحب بلحاظ آثار نفسه لا آثار لوازمه, ولا ريب أنّ قاعدة أثر الأثر أثر من القواعد الفلسفية المذكورة في الحكمة والكلام ولا ربط لها بالمباحث الأصولية التي تبتني على ما يستفاد من الأدلة على حسب الفهم العرفي.

وأمّا مسألة الملاقات؛ فإنّ الأحكام الطولية تترتب لكن بواسطة التعبد بموضوعاتها لا بواسطة التعبد بالملاقاة الأولى فقط, فلا وجه لتطبيق هذه القاعدة في المقام.

وقيل في الجواب أيضاً؛ بالرجوع إلى دليل الإستصحاب؛ فإنْ استفدنا منه تنزيل الأثر المباشر فإنّه يدلّ على أنّ مماثل الأثر المباشر بحكم الأثر المباشر وكأنّه هو, وهذا ليس من التشبيه الإدعائي بل مرجعه إلى التنزيل المولوي, أي التنزيل في الأحكام والآثار أيضاً, فيكون مفاد دليل الإستصحاب؛ الإنحلال إلى تنزيلات عديدة يكون المرتّب في كلِّ واحد منها الأثر المباشر, وإنْ لم يستفد من الدليل ذلك فلا بُدَّ من الإقتصار على المتيقن.

ولكن الإشكال في هذا الفرض أنّه ليس مفاد دليل الإستصحاب جعل الحكم المماثل والتنزيل بل مفاده التعبد ببقاء اليقين أو جعل الطريقية في مورد الإستصحاب باعتبار أنّ

ص: 404

النفي أو النهي في الحديث هو النهي عن النقض الحقيقي, فيكون كنايةً عن عدم الإنتقاض, أو يكون جعل الطريقية والعلمية, وعلى كلٍّ؛ فإنّه لا موجب لاستفادة التنزيل أو جعل الحكم المماثل من أدلة الإستصحاب.

الوجه الثالث: أنْ لا يكون مفاد دليل الإستصحاب التنزيل بل التعبد ببقاء اليقين بجعل الطريقية له أو النهي عن النقض العملي لليقين, وحينئذٍ فإنّ الذي يتكفله الإستصحاب هو التعبد في حدود ما كان على يقين منه ولا يتعداه؛ لأنّ المفروضكون المنهي عنه نقض اليقين بالشك, فالمنظور هو اليقين السابق فلا يتكفل التعبد بما ليس متعلقاً لليقين السابق من اللوازم ولا بآثارها لعدم ثبوت موضوعهما والمفروض أنّها لم تكن أحكاماً للمستصحب, وهذا المعنى لا يختلف الحال فيه باختلاف المجعول في باب الإستصحاب بل يتأتى على جميع المباني, لأنّ مرجع هذا الوجه هو ضيق موضوع التعبد بمقتضى دليله؛ سواءً كان المتعبد به اليقين أم المتيقن أم غير ذلك.

وهذا هو الحاصل من كلمات المحقق الأنصاري والمحقق الخراساني مع تصرّف في كلامهم.

والحقّ؛ إنّ جميع ما ذكر إنَّما هو على حسب افتراضاتهم من الطريقية والأثر والحكم وغير ذلك ممّا هو بعيدٌ عن سياق الأحاديث الواردة في الإستصحاب الذي موضوعه اليقين والشك والمتيقن والمشكوك والمستصحب، والتي تُستنتج من كلمةِ الإستصحاب, ولا ريب أنّ العرف يستفيد من (لا تنقض اليقين) أنّ اليقين إذا تعلق بحكم أو موضوع ذي حكم وكان لكلّ واحد منهما أثراً شرعياً فلا يجوز نقضه؛ فيشمل الحكم المباشر الذي هو الموضوع للآثار الشرعية المترتبة عليه, كما يشمل الأثر الذي يترتب على المستصحب بواسطة أمر شرعي لشدة الإرتباط بين اليقين والمتيقن كما تقدم بيانه.

ص: 405

وأمّا الأثر العقلي؛ سواءٌ ترتب على المستصحب مباشرة أم بواسطةٍ فإنْ عدَّه العرفُ من الأثر الشرعي لجهةٍ من الجهات كما سيأتي بيانها فيشمله الدليل, وإلا فلا يثبت بالإستصحاب لعدم شمول دليله له, ولا وجه للقول بأنّ المُستفاد من (لا تنقض اليقين) خصوص أثر اليقين فقط, فإنْ أريد منه أنّ أثره يبقى بحكم شرعي فلا إشكال في أنّه بجعل خاص من الشارع, وإنْ كان المراد بقاء أثر اليقين الواقعي فغير صحيح؛ لانتفاء الأثر بانتفاء اليقين بالشك؛ إلا أنْ تكون فيه عناية خاصة من التنزيل ونحوه ممّا عرفت الإشكال فيه, فالرجوع إلى الفهم العرفي هو المتعين بعيداً عن تكلّف الأصوليين, ولا حاجة إلى القول بالإنحلال وإثبات كلّ أثر لأثره كما عن المحقق الخراساني قدس سره إذا كانت الآثار شرعية, كما لا حاجة إلى القول بأنّ أثر الأثر أثرٌ لِما فيه من الإشكال, إلا أنْ يرجع إلى ما ذكرناه؛ فلا يكون الإستصحاب حجةً في مُثبتاته, لكن جمعاً من الأصوليين إستثنوا من الأصلِ المُثبت موارد؛

الموارد المستثناة من الأصل المُثبت

المورد الأول: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره (1)؛ من أنّ الإستصحاب حجة فيما إذا كانت الواسطة خفية بنظر العرف بحيث يعدّ العرف الأثر المترتب علىالواسطة مترتباً على المستصحب مباشرةً ومن أحكامه ممّا يعدّ نقضه نقضاً لليقين, وله أمثلة عديدة؛ منها؛ إستصحاب الرطوبة في الملاقى (بالفتح) لإثبات نجاسة ملاقيه مع أنّ النجاسة من آثار السراية عرفاً لا مجرد رطوبة الملاقي, فالسراية والتأثر برطوبة الملاقى من لوازم رطوبته لكنها من اللوازم الخفية.

ص: 406


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص663.

وأشكل عليه؛ تارةً؛ بما ذكره المحقق النائيني(1)؛ من أنّ العرف إنَّما يُتبع؛ إمّا في تعيين مفاد الدليل من حيث العموم والخصوص من دليل الحكم, أو تشخيص ما هو مقوم للموضوع وما هو من حالاته أو من الجهات التعليلية بحسب مرتكزاته, وإمّا فيما يراه من مناسبات الحكم والموضوع ليتحقق بقاء الموضوع عند زوال تلك الخصوصية عن الثاني دون الأول كما استفاده العرف من لفظ النقض الوارد في أدلة الإستصحاب, فيكون الرجوع إليه لتعيين مفاده. وهذه هي موارد الرجوع إلى العرف ولا يرجع إلى العرف في مقام التشخيص والتطبيق.

وعليه؛ فإنْ كان المراد من خفاء الواسطة أنّ الحكم يثبت على ذي الواسطة بنظر العرف بحسب فهمه من الدليل أو بحسب مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة لديه فتكون الواسطة من علل ثبوت الحكم, فهو يرجع إلى إنكار الواسطة لكون معروض الحكم هو ذو الواسطة رأساً, وإنْ كان المراد به أنّ الحكم ثابت للواسطة لكن لخفائها يرى العرف أنّ أحكام ذيها من باب التسامح في التطبيق, فهو لا عبرة به كما عرفت.

وما ذكره متين في تعيين مورد الرجوع إلى العرف, ولكن ما ذكره في مورد خفاء الواسطة غير سديد؛ لأنّ العرف إذا حكم بحسب مرتكزاته من أنّ الحكم إذا ثبت للواسطة ولكنه لخفائها يرى أنّه قد ترتب على ذيها فيغفل عن الواسطة وينكرها وكان من القسم الأول الذي ذكره قدس سره ؛ فلا يفرق حينئذٍ بين أنْ يكون من التسامح في التطبيق أو من رجوعه إلى فهمه من الدليل.

وأمّا الإشكال عليه من أنّ الحكم حينئذٍ يثبت لذي الواسطة رأساً غير وارد؛ لأنّ موضوع البحث هو وجود الواسطة وخفائها عند العرف بحيث لا يمكن الوصول إليها إلا بالدقة

ص: 407


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص494.

والتحليل, والإشكال نشأ من الخلط بين التحليل العقلي وما هو المتفاهم عند العرف الذي هو موضوع البحث, ولا يمكن للفكر الأصولي أنْ يتخلى عن التدقيقات العقلية, فما ذكره الشيخ الأنصاري من استثناء صورة خفاء الواسطة من موارد عدم حجية الأصل المُثبت صحيح, لكن بشرط أنْ يكون خفاء الواسطة عند العرف على نحوٍ يكون الحكم مترتباً على ذيها رأساً حتى لو كان على نحو التسامح في التطبيق, لأنّ المناط في ذلك لا في كيفية خفائها, نعم؛ يقعالإشكال في بعض الموارد من أنّه من خفاء الواسطة أو لم يكن كذلك, فهو نزاع صغروي لا يضر.

وأخرى؛ بما ذكره بعض الأعاظم من أنّ حكم الواسطة لا يعدّ حكماً لذيها بنظر العرف مهما كانت الواسطة خفية, لأنّ العارض على اللازم لا يكون عارضاً على الملزوم.

ويرد عليه بما تقدم؛ من أنّ المناط هو نظر العرف في أنّ الحكم العارض على الواسطة عارض على ذيها لخفائها, فحينئذٍ يفرق بين أنْ يكون الحكم عارضاً على اللازم أو غيره كما لا يخفى.

ثمّ أنّهم استشكلوا في المثال الذي ذكره الشيخ الأنصاري في نجاسة الملاقي عند استصحاب رطوبة الملاقى, ولكن الإشكال لا يضر بأصل المطلب من خفاء الواسطة وعدم خفائها, بل يمكن أنْ يكون المورد المذكور خارجاً عن موضوع البحث؛ لأنّ المناط في نجاسة الملاقي وانفعاله هو ملاقاة الرطب وباستصحاب الرطوبة يثبت الملاقات, ولا حاجة إلى تصور الواسطة كما فصلناه في الفقه.

المورد الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1)؛ من أنّ الإستصحاب حجة في مُثبته إذا كانت الواسطة واضحة وجلية, ولكن يمتنع التفكيك بين المستصحب والواسطة عرفاً,

ص: 408


1- . كفاية الأصول؛ ص415.

كما لا يمكن التفكيك بينهما واقعاً, فيكون التعبد بأحدهما تعبداً بالآخر, ومَثّل له بمثالين:

الأول: العلة التامة والمعلول؛ فإنّ التعبد بالعلة مستلزماً للتعبد بالمعلول.

الثاني: المتضايفان كالأبوة والبنوة؛ فإنّ التعبد بالأبوة تعبد بآثار البنوة أيضاً, لوضوح الملازمة بينهما.

وقد استشكل عليه المحقق الإصفهاني قدس سره (1) وتبعه غيره بعد التسليم بالكبرى بأنّه لا مورد له أبداً, لأنّ مورد العلة والمعلول خارجٌ عن محلّ الكلام لأنّ اليقين بحدوث العلة يستلزم اليقين بالمعلول, فكما أنّ العلة تكون مجرى الإستصحاب كذلك يكون بالنسبة إلى المعلول لتوفر أركان الإستصحاب في كلّ واحدٍ منهما, وهكذا الحال في المتضايفين؛ لأنّهما متكافئان بالقوة والفعلية علماً وخارجاً, فمع فرض اليقين بأحدهما لا بُدَّ أنْ يُفرض اليقين بالآخر فيكون كلاهما مجرى الإستصحاب.

ويرد عليه بأنّ المناقشة الصغروية غير سديدةٍ ولا يمكن توجيهها من مثل المحقق المزبور, مع أنّه يمكن فرض موردٍ يتحقق فيه اليقين بالعلة التامة ولا يمكن إجراء الأصل في المعلول كما في المتدرجات في الزمان, بحيث يكون فعلاًواحداً تدريجياً علة لحصول معلولات متكثرة ومتعددة بحسب إستمرار وجوده؛ كما لو فُرض أنّ حركة اليد المتكررة المستمرة علة للقتل ففي كلّ آنٍ يحصل فردٌ للقتل, فمع الشك في بقاء الحركة التي هي العلة التامة يمكن استصحابها, ولكن لا يمكن إجراء الأصل في المعلول لتكثره وتعدد أفراده, فهو في هذا الآن مشكوكُ الحدوثِ وما يتعلق تصرم وانتهى, ولا شكّ في بقائه.

كما أنّ في المتضائفين اللذين لهما موارد كثيرة في بعضها يكون التلازم الفعلي بينهما تاماً كما في الأبوة والبنوة ولا يمكن فرض الشك فيهما, ولكن في مثل التقدم والتأخر والسبق واللحوق لا يكون الأمر كذلك دائماً كما هو مفصل في محلّه.

ص: 409


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص494.

وكيف كان؛ العناوين المتضايفة كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية والسبق واللحق ونحو ذلك إنَّما هي عناوين إنتزاعية عن خصوصيةٍ واقعيةٍ في ذات المتضايفين, فمن ملاحظة الوجودين بنحو خاص ينتزع عنوان الفوق والتحت والسبق واللحوق, ولا يخفى أنّ الخصوصية الذاتية الواقعية التي يُنتزع منها الفوق والتحت مثلاً واحدةً, وإنّما لتعدد طرفي النسبة والربط في العنوان المنتزع لا أنّ خصوصية الفوقية غير خصوصية التحتية نظير الملكية التي هي ربطٌ خاص بين ذاتِ طرفين وكونها منشأً لانتزاع عناوين متعددة, وعليه؛ إنّ موضوع الأثر الشرعي الذي يكون مجرى التعبد؛ إنْ كان هو منشأ الإنتزاع من العناوين المتضايفة, أي تلك الخصوصية والربط الخاص كان التعبد بأحد المتضايفين هو التعبد بالآخر, فإنّ التعبد بالأبوة مرجعه إلى التعبد بتلك الإضافة الخاصة التي تكون منشأً لانتزاعها, فالتعبد بها كما يقتضي ترتيب آثار الأبوة يقتضي ترتيب آثار البنوة لأنّ الموضوع واحد وقد تحقق التعبد به.

وأمّا إذا كان موضوع الأثر نفس العنوان الإنتزاعي وأنّه مجرى التعبد الشرعي؛ فلا ملازمة بين التعبد بأحد المتضايفين التعبد بالآخر, إذ لا وجه لدعوى التلازم بين التعبدين بعد فرض تعدد العنوانين وتباينهما؛ فاستصحاب الأبوة لا يقتضي التعبد بالبنوة.

والحقُّ؛ إنّ كلّ ذلك تطويل لا طائل تحته, فإنّه بعدما عرفت من أنّ المثبتات من المداليل الإلتزامية المختلفة بحسب إختلاف الموارد والجهات؛ بلا فرق بين الأصول والأمارات؛ فلا وجه للنفي المطلق بالنسبة إلى الأصول ولا للإثبات المطلق بالنسبة إلى الأمارات, ولعلّ ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره ؛ من اعتبار مُثبتات الإستصحاب مع خفاء الواسطة, وما عن المحقق الخراساني قدس سره ؛ من اعتبارها فيما إذا كانت من قبيل المتضايفين؛ يرجعُ إلى ما ذكرناه, فلا وجه لتوهم الإثبات في بعض الموارد كالكلي والفرد

ص: 410

واللازم والملزوم؛ سواءً كان لازم الوجود أم لازم الماهية لمكان الإتحاد بينهما عرفاً بل عقلاً؛ فاستصحاب الوجوبالكلي والملكية الكلية وتغير الكر بالنجاسة لا يكون مُثبتاً بالنسبة إلى الوجوب الشخصي والملكية الشخصية ونجاسة الماء الخارجي الجزئي.

المقام الثالث: في التعرض إلى بعض الموارد التي يظهر من المشهور التمسك بالأصل المُثبت فيها

ويكون ذلك اعتبار الأصل المُثبت عندهم, وهي عديدة؛ لا بأس بالتعرض إلى بعضها:

المورد الأول: ما إذا اتفق الوارثان على إسلام أحدهما في أول النهار والآخر في آخره واختلفا في موت المورّث؛ فقال أحدهما أنّه مات في الظهر -مثلاً- فلا يرث من أسلم في آخر اليوم, وقال الآخر أنّه مات بعد المغرب فيشتركان في الإرث, فقد حكم الفقهاء باشتراكهما في الإرث وعدم الإختصاص بأحدهما, مع أنّ الإرث متوقف على كون الإسلام قبل الموت أو مقارناً له, وإثبات ذلك إنَّما يكون من الأصل المثبت.

ويرد عليه: إنّه ليس من الأصل المُثبت, لأنَّ المنساق من الأدلة كفاية الموت عن وارثٍ مسلم ولو كان إحراز الإسلام بالأصل, ولا دليل على لزوم تقديم إسلام الوارث أو مقارنته لموت المورّث حتى يكون من الأصل المُثبت كما إدُّعي, ففي المقام يكون الموضوع مركباً من موت المورّث المعلوم وجداناً واستصحاب إسلام الوارث فيترتب عليه اشتراكهما في الإرث.

المورد الثاني: حكم الفقهاء بالضمان في من استولى على مال الغير ثمّ شكّ في أنّه كان بحقٍّ أو لم يكن كذلك, فإنْ كان الضمان لقاعدة اليد فهو من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه, وإنْ كان لأصالة عدم الإذن فلا يوجب الضمان إلا بعد إثبات العدوان ولا يكون ذلك إلا بناءً على الأصل المثبت, مع أنّ المشهور بين الفقهاء الحكمُ بالضمان.

ص: 411

ويمكن تصوير النزاع في المقام بوجهٍ آخر أيضاً؛ وهو إذا اختلف مالك العين مع من كانت العين في يده وتلفت عنده فادّعى المالك أنّ يده يدُ ضمانٍ, وادّعى ذو اليد أنّها ليست يد ضمان بل كانت العين في يده عارية فلا ضمان عليه إلا مع التعدي أو التفريط, وقد حكموا بالضمان لاستصحاب عدم رضا المالك وهو من الأصل المُثبت لأنّ أصالة عدم الإذن والرضا لا يثبت العدوان وكون اليد عاريةً إلا بالملازمة.

وجملةُ الجواب في كِلا الفرضين؛ أنّه يصح الحكم بالضمان لقاعدة اليد, لأنّ مطلق وضع اليد على مال الغير يوجب الضمان إلا إذا أحرز الأذن والرضا فيه, وقد أحرز وضع اليد على مال الغير وجداناً فتشمله قاعدة اليد, كما يمكن التمسك بالإستصحاب أيضاً لأنّ نفس عدم إحراز إذن المالك ورضائه ولو بالأصل يكفيفي الضمان ولا نحتاج إلى إثبات العدوان وكون اليد عادية حتى يكون من الأصل المُثبت.

وقد أشكل على ذلك بأنّ أصالة عدم تحقق الرضا من المالك لا يُثبت إتّصاف اليد بعدم الرضا إلا بالملازمة, لأنّ الموضوع في الضمان هو الإستيلاء غير المرضي به فيكون موضوع الضمان مقيداً بعدم رضاء المالك بنحو التوصيف والعدم النعتي.

ويرد عليه بالقول بأنّ العام قد تقيد بعنوانٍ عدمي بنحو التركيب والعدم المحمولي فيجري فيه استصحاب العدم الأزلي فلا يكون الأصل مثبتاً فيترتب الضمان, وحكم المشهور به في المقام صحيح, والتفصيل موكولٌ إلى محلّه.

المورد الثالث: ما لو شكّ في دخول الشهر؛ فإنّه يتمسك باستصحاب بقاء الشهر السابق في يوم الشك, ويترتب عليه آثار أول الشهر على اليوم التالي كآثار يوم العيد في شوال, ومن الواضح أنّ الإستصحاب لا يُثبت الأولية إلا بالملازمة العقلائية وهو من الأصل المُثبت.

ص: 412

وقد يقال بأنّ عنوان الأولية ليس إلا منتزعاً عن نفس كون هذا اليوم من هذا الشهر وكون سابقه من الشهر السابق؛ فهو مركبٌ من هذين الأمرين, فيثبت أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان فيكون الموضوع مركباً من الأصل والوجدان وتترتب الآثار على العنوان لبعض الأيام كاليوم التاسع والعاشر من شهر ذي الحجة.

وأشكل عليه بأنّ عنوان الأولية عنوانٌ بسيط منتزع عن خصوصيةٍ وجوديةٍ بسيطةٍ وهي لا تثبت بالأصل إلا بالملازمة فيكون مُثبتاً.

والحقُّ؛ إنّه لا حاجة للإستصحاب في إثبات الأولية حتى يستشكل عليه بأنّه مُثبت؛ فإنّه يكفي في ذلك ما ورد من النصوص الدالة على كون المدار في الصيام والأفطار هو رؤية الهلال أو مضي ثلاثين يوماً من الشهر السابق, فمع الشك في وجود الهلال يُبنى على كون يوم الشك من الشهر السابق بمقتضى هذه النصوص ومقتضاه كون أول الشهر هو اليوم التالي.

وأورد عليه بأنّ تلك النصوص تختص بشهري رمضان وشوال ولا تعمّ سائر الشهور كشهرِ ذي الحجة وغيره, ولكنه غير سديد؛ إذ المستفاد من النصوص التعبد الشرعي بالأولية مع انقضاء ثلاثين يوماً عند الشك بالنسبة إلى كلّ شهر بلا اختصاص بشهري رمضان وشوال, ويدلُّ عليه قيام السيرة على ذلك فلا إشكال حينئذٍ, وسيأتي مزيد بيان لذلك أيضاً إنْ شاء الله تعالى.

وهناك فروعٌ أخرى ذكرها الفقهاء في الفقه.

ص: 413

المقام الرابع: في عدم التوهم في الإثبات بين الكلي والفرد وأمثالهما

قال السيد الوالد قدس سره : (لا وجه لتوهم الإثبات بين الكلي والفرد واللازم والملزوم؛ سواءً كان لازمُ الوجودِ أم لازمُ الماهيةِ؛ لمكانِ الإتحاد بينهما عرفاً بل عقلاً)(1).

وهو يشير بكلامه هذا إلى ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (2)؛ من أنّ الأثر الشرعي لو كان مترتباً على عنوانٍ كلي وشكّ في فردٍ منه يمكن ترتيبه باستصحاب الفرد إذا كان كلياً ذاتياً كالإنسان, أو عرضياً بنحو الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة, ويقصد بالخارج المحمول العناوين التي ليس بإزاء مبادئها شيءٌ من الخارج بل تكون إنتزاعية كالفوق والتحت والزوج والمُلك ونحوهما, ويقصد بالمحمول بالضميمة ما تكون مبادئها خارجية كالأسود والأبيض فإنّ البياض والسواد لهما وجودٌ خارجي زائداً على الذات, فذكر في القسم الأول -وهو الكليات الذاتية- أنّ استصحاب حياة زيد مثلاً يترتب عليه آثار الإنسان, لأنّ الواسطة عنوان الإنسان, وهو عين الفرد في الخارج لا شيء ملازم معه, وكذا القسم الثاني -أي الخارج المحمول-, وهو قدس سره وإنْ خصّ الحكم بالأول والثاني ولكن يمكن تعميمه بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة؛ إذ كما يكون مفهوم الإنسان بالنسبة إلى ما يصدق عليه ذاتياً كذلك يكون عنوان الفوق أو الأسود بالنسبة إلى ما يصدق عليه من حيث أنّه يصدق عليه ذاتياً, وليس أمراً زائداً عليه وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

وقد أشكل عليه السيد الخوئي قدس سره بأنّ جريان استصحاب حياة زيد مثلاً لترتيب الأثر الشرعي المترتب على الكلي ليس استثناءً من الأصل المُثبت بل هو خارجٌ عنه موضوعاً, لأنّ العنوان الكلي إذا لوحظ بنحو المعنى الإسمي فهو مباينٌ مع الفرد فيأتي فيه شبهة

ص: 414


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص276.
2- . كفاية الأصول؛ ص57.

المثبتية, وإنْ لوحظ بما هو فانٍ في الخارج فهو عين الأفراد فيثبت تلك الأحكام لا محالة باستصحاب الفرد, وحاول السيد الصدر قدس سره الجواب عنه(1) بالقول بأنّه تارةً؛ يراد بالفرد واقع الوجود العيني الخارجي الذي لا يمكن إدراكه, وأخرى؛ يراد به المفهوم الجزئي كمفهوم زيد, ثمّ افترض في الثاني فرضين وقال بأنّ استصحاب الفرد لا يجري إلا في فرض واحد وهو ما إذا فرض المفهوم الجزئي المركب من تجميع مفاهيم عديدة منها العنوان الكلي.والحقُّ؛ إنّ ذلك كلّه خارجٌ عن محطّ الكلام الذي فرضه المحقق الخراساني قدس سره الذي يريد الكلي الطبيعي الذي هو عين أفراده لا المفهوم وغيره ممّا ذكراه العلَمان فإنّه خارجٌ عن محور الكلام كما هو واضحٌ.

ثمّ ذكر المحقق الخراساني قدس سره (2) في القسمين الآخرين -أعني الخارج المحمول والمحمول بالضميمة- أنّ استصحاب بقاء منشأ الإنتزاع في الخارج المحمول يكفي لإثبات الأثر الشرعي المترتب على الأمر الإنتزاعي كما عرفت من أنّ الأمر الإنتزاعي لا حقيقة له وراء منشأ انتزاعه, وأمّا المحمول بالضميمة فلا يمكن إثباته باستصحاب الذات لكونه من الأصل المثبت.

والحقُّ؛ إنّه لا فرق بين الأقسام الثلاثة؛ أمّا الأول؛ فلأنَّ الكلي عين أفراده خارجاً وعقلاً, وأمّا القسمان الآخران فللإتحاديين؛ اللازم والملزوم عرفاً بل عقلاً أيضاً, بل قد عرفت أنّ انطباق العنوان على ما يصدق عليه من حيث هو ذاتي وليس أمراً زائداً فيكون من القسم الأول, فإنّ أحكام الزوجية تترتب على ذات المرأة بشرط وقوع العقد عليها لا أنّ هناك

ص: 415


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص205-206.
2- . كفاية الأصول؛ ص416.

أمراً يتحقق خارجاً وتتصف به, وأمّا في المحمول بالضميمة؛ فلإن الإتحاد الخارجي العرفي بين العنوان وذات المعنون ممّا أوجب صحة الإستصحاب في الملزوم ليترتب عليه اللازم.

ومن جميعِ ذلك يظهر وجه المناقشة فيما ذكره الأعلام في المقام؛ فقد قيل في وجه صحة جريان الإستصحاب فيهما أنّ الأمور الإعتبارية أو الإنتزاعية لا واقع لها فلا يمكن أنْ تكون دخيلة في الحكم, أو ما قيل بإلغاء العرف -بحسب مرتكزاته- دخالتها في الحكم الشرعي, فإنّ كلّ ذلك تطويل لا طائل تحته وإن أردت فراجع المطوّلات.

ثمّ أنّ المحقق الخراساني قدس سره إستعرض أمثلةً لموارد استصحاب منشأ الإنتزاع وترتيب آثار العنوان الإنتزاعي؛ منها؛ إستصحاب بقاء حياة ذات الزوج أو الزوجة وترتيب آثار الزوجية.

وهو صحيحٌ لِما ذكرناه من الإتحاد بينهما عرفاً بل عقلاً إنْ لم نقل بأنّ الزوجية بنفسها حكمٌ شرعي وضعي موضوعها ذات الزوجة أو الزوج لا أنْ يكون أمراً إنتزاعياً, وإلا فلا إشكال في الإستصحاب أبداً وهو الصحيح. وقد استعرض المحقق الخراساني قدس سره أمثلة لموارد استصحاب منشأ الإنتزاع.

ومنها؛ الملكية التي تترتب باستصحاب حياة المالك.

هذا إذا لم نقل بأنّ الملكية بنفسها حكمٌ شرعي موضوعها ذات المالك, وإلا فلا ربط له بالأصل المُثبت, وهو الصحيح كما عرفت.ومنها؛ ما لو نذر التصدق ما دام إبنه حياً؛ فإنّ إستصحاب حياة إبنه وبقائه لا يثبت عنوان النذر الذي يجب الوفاء به الأعلى أساس ما تقدم.

وفيه: إنّه يمكن استصحاب بقاء النذر وعدم انتهاء أمده, فإنّه يكفي في الإستصحاب ولا حاجة إلى شيءٍ آخر.

وهناك فروعٌ أخرى ذُكرت في غير المقام يظهر الجواب فيها ممّا ذكرناه.

ص: 416

المبحث الثالث: في أركان الإستصحاب

المبحث الثالث(1): في أركان الإستصحاب

ذكر الأصوليون -على ما يستفاد من مجموع كلماتهم- أنّ للإستصحاب أركاناً أربعة:

1- اليقين بالحدوث؛ وقد ذكره السيد الوالد قدس سره في التنبيه الثالث.

2- الشك في البقاء؛ وقد ذكره في التنبيه الثاني عشر.

3- وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة؛ وقد ذكره في التنبيه الرابع عشر.

4- كون الحال السابقة ذات أثرٍ عملي في مرحلة البقاء؛ وقد ذكره في التنبيه الثامن.

والكلام يقع في كلِّ واحدٍ من الأركان الأربعة؛

الركن الأول: اليقين بالحدوث

والمشهور إعتبار ركنيته, ومعنى ذلك: إنّ مجرد ثبوت الحالة السابقة لا يكفي لجريان الإستصحاب بل لا بُدَّ أنْ تكون الحالة السابقة متيقنة, واستدلّ عليه بورود اليقين في الروايات الواردة في الإستصحاب وهو ممّا لا إشكال فيه, وإنّما الكلام في أنّ اليقين بالحالة السابقة هل هو مأخوذٌ على نحو الموضوعية أو مأخوذٌ على نحو الطريقية؟.

قيل بالأول, لأنّ الظاهر من الروايات الموضوعية في التعبد الإستصحابي. ولكن يمكن القول بأنّ ذلك إنَّما يتم بالنسبة إلى صحاح زرارة المتقدمة, ولكنه لم يتم بالنسبة إلى صحيحة عبد الله بن سنان التي ورد فيها (لأنّك أعرته إياه وهو طاهر)؛ حيثُ جعل في التعبد الإستصحابي نفس الحالة السابقة فتكون ظاهرةً في أنّ الركنية ذات المتيقن لا اليقين, وحينئذٍ يصلح أنْ تكون قرينة على حمل اليقين على الطريقية في سائر الروايات؛ هذا أولاً.

وثانياً: إنّ اليقين والعلم والظن من العناوين التي تصلح في نفسها لأخذها على نحو الطريقية عرفاً وهو أمرٌ عادي وإنْ أخذت في بعض الموارد على نحو الموضوعية أيضاً, كما في باب الأحكام الظاهرية وهو معروف.

ص: 417


1- .من مباحث الإستصحاب.

وعليه؛ تقوم الأمارة والظنون الخاصة مقام اليقين أيضاً, ومن أجل ذلك عبَّر السيد الوالد قدس سره في تعريف الإستصحاب بأنّه (إسراء أثر ما يعتذر به سابقاً إلى زمان الشك فيه)(1), فيشمل كلّ ما يمكن أنْ يُعتذر به؛ من اليقين والعلم والأمارةوالظن الخاص وسائر الحجج المعتبرة, فيكون المراد من اليقين كلّ حجّةٍ معتبرةٍ مناسبة لكلّ ما يصحّ الإعتذار به, فكأنّه قيل؛ ما كنت تعتذر به في الحالة السابقة فابنِ عليه عند الشك في البقاء؛ يقيناً كان أو أمارةً, معتبرةً أو أصلاً, موضوعياً كان أو حكمياً؛ فيجري الإستصحاب في جميعها, نعم؛ جريانه في الأصول من لزوم ما لا يلزم لكفاية نفس الشك في جريانها بنفسها, فلا وجه بعد ذلك لملاحظة الحالة السابقة إذا كان المورد من موارد جريان أصلٍ موضوعي أو أصلٍ حكمي من الإشتغال أو البراءة أو التخيير؛ فإنّه يكفي نفس الشك في جريانها في نفسها من دون حاجةٍ إلى عناية أخرى من ملاحظة الحالة السابقة, إلا إذا كان لها أثرٌ خاص لا يترتب على نفس الشك؛ فإنّه يجري الإستصحاب حينئذٍ.

ويترتب على ذلك آثارٌ معينة يأتي التعرض لها إنْ شاء الله تعالى.

الركن الثاني: الشك في البقاء

وقد إستدلّ على ركنيّته بوجهين:

الأول: إنّ الإستصحاب حكمٌ ظاهري وهو متقوم بالشك, وحينئذٍ فإنْ فرض الشك في الحدوث كان مورداً لقاعدة اليقين, فلا بُدَّ أنْ يُفرض الشك في البقاء الذي هو المطلوب لانحصار الأمر فيهما في المقام.

الثاني: إستظهار ذلك من الروايات الواردة في الإستصحاب التي تقدم ذكرها.

ص: 418


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص247.

وقد أشكل عليه:

أولاً: إنّ بين الوجهين فرقاً, فإنّ الوجه الأول لا يقتضي أكثر من ركنية الشك بنحوٍ لا يكون سارياً إلى اليقين؛ سواءً كان شكاً في البقاء أم لا, بخلاف الوجه الثاني الذي يُثبت لزوم كون الشك في البقاء.

وهذا الفرق ممّا يترتب عليه ثمرتان كما ذكره السيد الصدر قدس سره (1).

الثمرة الأولى: إنّ الإستصحاب لا يجري في الفرد المردد؛ كما إذا علمنا بوجود زيدٍ وبكرٍ في المسجد ونشكّ في بقائه من جهة أنّنا رأينا زيداً خارج المسجد بالفعل, فإنْ كان الأثر مترتباً

على وجود طبيعي الإنسان في المسجد فإنّه يجري استصحاب الكلي وهو من القسم الثاني ويترتب عليه الأثر وإنْ كان مترتباً على الأفراد لا الجامع, وحينئذٍ فإنّ في إمكان جريان استصحاب واقع ذلك الفرد الذي عُلم إجمالاً دخوله إلى المسجد بحيث أنّه بهذا العنوان الإجمالي يكون من مصاديق استصحاب الفرد المردد الذي لا يجري فيه الإستصحاب لعدم تحقق الركن فيه؛ لإنّ الملحوظ إنْ كان العنوان الإجمالي كالإنسان فالشك في البقاء وإنْ كان محفوظاً ولكن الأثر لم يكن مترتباً على هذا العنوان الإجمالي فلا يتوفر الركن الرابع, وإنْ كان الملحوظالفرد بالعنوان التفصيلي إلا أنّه لا نجد شكاً في البقاء, إذ لا يحتمل بقاء زيد بحسب الفرض.

الثمرة الثانية: إنَّ زمان المتيقن قد لا يكون متصلاً بزمان المشكوك وسابقاً عليه, بل قد يكون مردداً بين أنْ يكون نفسُ زمانِ المشكوك أو الزمان الذي قبله؛ كما إذا حصل العلم إجمالاً بأنّ هذا الثوب إمّا تنجس الآن أو كان قد تنجس قبل ساعةٍ وطهر, فالنجاسة معلومة في الثوب أساساً ولكنها مشكوكة فعلاً وزمان المشكوك الزمان الحاضر, وزمان

ص: 419


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص112.

النجاسة المتيقنة إمّا نفس زمان المشكوك أو قبله, فلا يكون زمان المتيقن متّصلاً بزمان المشكوك وسابقاً عليه على كلّ تقدير, وفي مثل ذلك قد يستشكل في جريان الإستصحاب؛ لأنّه من المحتمل وحدة زمانَيّ المشكوك والمتيقن, وعلى هذا التقدير لا يحرز كون الشك فيه شكّاً في البقاء؛ فيختلُّ هذا الركن من أركان الإستصحاب فلا يجري فيه حينئذٍ.

ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الإشكال في بعض التطبيقات والصغريات كما في الثمرتين السابقتين من أجل بعض الأمور لا يضر بأصل الكبرى, وهي اعتبار ركنية الشك في البقاء في الإستصحاب, وسيأتي مزيد بيان لذلك إنْ شاء الله تعالى.

ثانياً: إنَّ لفظ الشك وإنْ ورد في الروايات ولكن الشك في البقاء بهذا العنوان لم يكن مأخوذاً فيها صريحاً, وإنّما يستفاد ذلك من أخذ الشك بعد اليقين فيها, ولكنه يلائم كلّ شكٍّ متعلق بما يفرغ عن كونه متيقناً؛ سواءً صدق عليه الشك في البقاء بعنوانه أم لا, وعليه؛ يمكن القول بصحة جريان الإستصحاب في موارد توارد الحالتين في نفسه وإنْ كان يسقط بالتعارض.

قد يقال: إنّه يمكن توجيه الركن الثاني بوجهٍ آخر؛ وهو أنّ الإستصحاب متقوم بأنْ يكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضاً لليقين بالشك, ويُفرّع عليه؛ إنّه متى لم يحرز ذلك واحتمل كونه نقضاً لليقين باليقين فلا يشمله النهي الوارد في دليل الإستصحاب, ومُثّل لذلك بما لو عَلِمَ بطهارة الإنائين ثمّ علم بنجاسة أحدهما فإنّ المعلوم بالإجمال مردد بين ذينك الإنائين, فكلُّ واحدٍ منهما يحتمل أنْ يكون معلوم النجاسة, فيحتمل أنْ يكون رفع اليد عن الحالة السابقة نقضاً لليقين باليقين فلا يجري الإستصحاب في نفسه مع قطع النظر عن المعارضة.

ولكن أشكل على ذلك بأنّ العلم الإجمالي إنَّما يتعلق بالجامع لا بالواقع, فلا يحتمل أنْ يكون أيُّ واحدٍ منهما معلوم النجاسة, وعلى فرض تعلقه بالواقع فهو يتعلق به على نحوٍ

ص: 420

يلائم الشك فيه ويجتمع معه, وحينئذٍ يشمله دليل الإستصحاب لأنّ مفاده عدم رفع اليد عن الحالة السابقة في كلِّ موردٍ يكون بقاؤه مشكوكاً, وعليه؛ فهو يشملُ المقامَ.

ولا يخفى ما في الجواب يظهر ممّا تقدم في بحث العلم الإجمالي فراجع.والحقُّ أنْ يقال: إنّ اعتبار الشك في البقاء في كلماتهم إنَّما لوحظ على نحو الغالب في موارد الإستصحاب وإلا فإنّ المراد من قولهم (كلُّ شكٍّ ينقضُ الحالة المتيقنة فيرفع اليد عنها ليكون نقضاً لها) فيشمل الشك في البقاء وغيره.

ثمّ ذكر السيد الوالد قدس سره (1) المراد بالشك في البقاء مطلق غير الحجة المعتبرة فيشمل الظن غير المعتبر كما يشمل الوهم, لأنّ ظاهر قوله علیه السلام : (لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر) هو جعل الشك في مقابل اليقين الذي قُلنا أنّه كناية عن مطلق الحجة المعتبرة فكأنَّه علیه السلام قال: (لا تنقض الحجّة بغيرها).

وما ذكره قدس سره وإنْ كان صحيحاً إلا أنّه من لزوم ما لا يلزم؛ فإنّ الشك يجتمع مع جميع موارد الحجّة غير المعتبرة, ولا حاجة إلى تكثير الأمثلة.

الركن الثالث: إتّحاد القضية المشكوكة والمتيقنة واعتباره من الواضحات

فإنّه لو لم يكن كذلك لكان من إسراء حكم ثابت في موضوع لموضوع آخر مغاير له, وبطلانه غنيٌّ عن البرهان فيكون اعتباره من الوجدانيات. نعم؛ قد تختفي الوحدة في بعض الموارد فيقع الإشكال فيه وسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى, ومع ذلك فقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره (2) في توجيه ذلك بأنّه يعتبر في جريان الإستصحاب إحراز بقاء الموضوع, إذ مع تبدله لا يكون الشك شكّاً في البقاء, فلا يمكن استصحاب نجاسة الخشب بعد استحالته رماداً, لأنّ موضوع النجاسة المتيقنة لم يبق.

ص: 421


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص285.
2- . فرائد الأصول؛ ج2 ص691.

وأشكل عليه؛ بأنّ مفاد كلامه قدس سره أنّ الركن الثاني يغني عن هذا الركن, وسيأتي عدم تماميته.

كما أشكل عليه؛ بأنّه لا يصح في بعض التطبيقات في الشبهات الموضوعية كما إذا كان المشكوك من الصفات والمحمولات الثانوية المتأخرة عن وجود الشيء كعدالة زيد؛ فإنّه إذا كان الشك في بقاء عدالة زيد مع العلم ببقائه حياً ففي هذه الحالة يجري إستصحاب العدالة بلا إشكال, لأنّ موضوعها هوحياة زيد وهي معلومة البقاء, وأمّا إذا كان الشك في بقاء زيد حياً وشُكّ أيضاً في بقاء عدالته على تقدير حياته؛ ففي مثلِ ذلك كيف يجري إستصحاب بقاء العدالة مع أنّ موضوعها غير مُحرز.

ومن أجل ذلك عَدَلَ صاحب الكفاية(1) عنها إلى القول بأنّ المعتبر في الإستصحاب وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة وهي محفوظةٌ في موارد الإشكال الآنف الذكر.والظاهر أنّ الإشكال بعيدٌ عن مرام الشيخ قدس سره ؛ فإنّه في مثل الموضوع المركب في المثال المتقدم لا بُدَّ أولاً من إثبات موضوع العدالة بالإستصحاب, وتثبت العدالة أيضاً إذا كان منشأ الشك حياة العادل, وأمّا إذا كان له سببٌ آخر فإنّه بعد إحراز الموضوع بالإستصحاب يصح إجراء الإستصحاب في المحمول الطارئ عليه, فتتم قضية (زيد عادل) ويتحقق التعبد الإستصحابي بها؛ بلا فرق بين أنْ يكون تمام الموضوع لثبوت الأثر وجود العدالة, أو كان الموضوع مركباً من وجود زيد وعدالته, فالميزان على كلّ حالٍ وحدة الموضوع في الحالتين؛ حالة اليقين وحالة الشك الطارئ وإنْ كان تعبير المحقق الخراساني قدس سره أوفق, لأنّ فيه لحاظ الوحدة لا لحاظ البقاء كما في عبارة الشيخ قدس سره .

ص: 422


1- . كفاية الأصول؛ ص427.

نعم؛ قد يظهر من عبارات الشيخ قدس سره التمسك باستحالة قيام العرض في الخارج بلا موضوع؛ فاشترط بقاء الموضوع من أجل هذه القضية ولكنه غير سديد, لأنّ الإستصحاب على ما يستفاد من دليله إنَّما هو التعبد ببقاء المستصحب؛ سواءً كان عرضاً حقيقياً أم أمراً اعتبارياً أم غير ذلك, إذ لا يشترط في هذا التعبد عدا ترتب الأثر على المتعبد به بقاءً.

ثمّ إنّه قد ينشأ إشكالٌ في تطبيق هذا الركن على الإستصحاب في الشبهات الحكمية على كلتا الطريقتين؛ فإنّه بناءً على صياغة صاحب الكفاية لا يمكن افتراض الوحدة فيها إلا في حالات الشك في النسخ بمعناه الحقيقي وهو إلغاء الجعل, وأمّا في غيره فلا يمكن أنْ ينشأ شكٌّ في نفس القضية بل الشك في بقاء حكمها الناشئ ممّا إذا تغيرت بعض القيود والخصوصيات المأخوذة فيها, فإنّه إذا كانت الخصوصية دخيلة في حدوث الحكم يقيناً, والشك إنَّما يحصل فيما إذا كان إناطة بقائه ببقائها, فإذا ارتفعت الخصوصية يحدث شكٌّ في بقاء الحكم حينئذٍ, كالشك في نجاسة الماء بعد زوال تغيره, أو ما إذا كانت الخصوصية مشكوكة الدخل من أول الأمر في ثبوت الحكم فيفرض وجودها في القضية المتيقنة مع أنّه لا يقين بالحكم بدونها, ثمّ ترتفع فيحصل الشك في بقاء الحكم, وفي كِلا الفرضين لا وحدة بين القضية المشكوكة والمتيقنة.

كما أنّه بناءً على الصياغة التي وردت في عبارة الشيخ الأنصاري قدس سره لهذا الركن, فإنَّ الملاحظ أنَّ موضوع الحكم عبارة عن مجموع ما أخذ مفروض الوجود في مقام جعله, والموضوع بهذا المعنى غير محرز البقاء في الشبهات الحكمية, لأنّ الشك في بقاء الحكم ينشأ من الشك في انحفاظ تمام الخصوصيات المفروضة الوجود في مقام جعله, وإلا لم يقع شكٌّ في الحكم.

ص: 423

والصحيح في الجواب عن الإشكال في الشبهات الحكمية؛ بأنّه إذا اعتبرنا الدقة في الوحدة كان الإشكال وجيهاً, وأمّا إذا اكتفينا في الوحدة النظر العرفي بأنْكانت الوحدة العرفية في القضية المتيقنة والمشكوكة هي المناط في التعبد الإستصحابي أمكن دفع الإشكال المزبور, وسيأتي مزيد بيان لذلك إنْ شاء الله تعالى, ومع ذلك فقد قال الأصوليون في الجواب عنه بأحد وجهين:

الأول: كفاية احتمال بقاء المتيقن في صدق حرمة نقض اليقين بالشك وهو حاصل في الموارد المذكورة, فيجري الإستصحاب في الشبهات الحكمية حتى إذا كانت الحيثية تقييدية, لأنّها إنَّما يحتمل دخالتها في الحكم ولا يُقطع بذلك, ومن المعلوم أنّه يساوق مع احتمال عدم دخالتها واحتمال بقاء شخص الحكم حقيقةً ودقةً فيجري الإستصحاب, ولكن هذا الوجه على خلاف ما ذهب إليه الأصحاب من المنع من جريان الإستصحاب في موارد الحيثيات التقييدية المحتمل دخالتها في الحكم.

الثاني: إنّ الإشكال ينشأ من الخلط بين عالم الجعل والمجعول في لحاظ الحكم بالحمل الشايع ولحاظه بالحمل الأولي.

توضيح ذلك: إنّ المراد بالحمل الأولي في ملاحظة الحكم أي بما هو صفة وعرض لموضوعه الخارجي, لا بما هو مفهوم وجعل بالحمل الشايع؛ فعالم الجعل ما كان بحسب عالم المفاهيم وبالحمل الشايع, وعالم المجعول ما كان بحسب الوجود الخارجي وبالحمل الأولي, فلو لاحظنا عالم المفاهيم؛ كمفهوم الماء والماء المتغير والماء الفاقد للتغير, فهي مفاهيمٌ ثلاثةٌ متباينةٌ ليس شيءٌ منها بقاءً وامتداداً للآخر.

وأمّا إذا لاحظنا ذلك في عالم المصاديق والوجودات الخارجية فمصداق الماء والماء المتغير متّحدان, كما أنّ الماء الفاقد للتغير إمتدادٌ وبقاءٌ للماء المتغير, والميزان في جريان الإستصحاب

ص: 424

في الشبهة الحكمية ملاحظة الحكم بالحمل الأولي, أي بملاحظة عالم المصاديق والموجودات الخارجية لا بما هو مفهوم وفي عالم المفاهيم حيث لا يكون المناط في الإستصحاب في الشبهة الحكمية, كذلك الأمر بحسب الأعراض الخارجية كالحرارة؛ فإنّ لها معروضاً وهو الجسم, وعلة وهي النار أو الشمس, وهي تتعدد بتعدد الجسم المعروض لها, فحرارة الخشب غير حرارة الماء ولا تتعدد بتعدد الأسباب والحيثيات, فحرارة الماء سواءً كانت بالنار حدوثاً وبالشمس بقاءً أم بغير ذلك فإنّما هي حرارةٌ واحدةٌ لها حدوثٌ وبقاء, كذلك الأحكام الشرعية كالنجاسة فإنّ لها معروضٌ وهو الماء وعلة وهي التغير وتعددها يكون بتعدد معروضها لا بتعدد الحيثيات والجهات التعليلية؛ وهذا يعني أنّ الخصوصية التي يكون زوالها سبباً في الشك في بقاء الحكم إذا كانت بمثابة العلة والشرط فلا يضر زوالها بوحدة الحكم من دون أنْ يكون دخالتها موجبة لتباين الحكم بقاءً مع الحكم حدوثاً, بخلاف ما إذا كانت الخصوصية الزائلة مقومة لمعروض الحكم بحيث يكون زوالها موجبة لتبدل الموضوع كخصوصية البوليةعند تحوله بخاراً فهي توجب تغير الحكم بتغير الموضوع بعد زوال تلك الخصوصية.

ومن جميع ذلك يتّضح أنّه كلّما كانت الخصوصية التي يُشكّ في زوالها حيثية تعليلية فإنّها لا تنافي وحدة الحكم حدوثاً وبقاءً فيجري الإستصحاب, وكلّما كانت الخصوصية مقومة للمعروض كان انتفائها موجباً لعدم جريان الإستصحاب لأنّ المشكوك حينئذٍ مباين للمتيقن.

ولكن يبقى السؤال عن كيفية التمييز بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية المقومة لمعروض الحكم؛ فهل المعيار في ذلك هو المعيار العقلي أو العرفي أو بحسب ما يستفاد من الدليل الشرعي؟.

ص: 425

لا وجه للأول لعدم ابتناء الأحكام الشرعية على الدقيات العقلية, والأخير يرجع إلى الثاني لأنّ الأدلة الشرعية منزلة في العرفيات إلا ما ورد فيه التعبد الخاص فيتعين الثاني, فيكون المعتبر إتّحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة بنظر العرف المنزل عليه الأدلة, وقد ذكر السيد الوالد قدس سره أنّ ذلك قد بلغ من الوضوح مبلغاً ممّا يستغني معه عن البرهان والتعليل, ومع ذلك فقد أطال الأصوليون الكلام في المقام, وخلاصة ما ذكروه:

إنّ المرجع في التمييز هو الدليل الشرعي؛ لأنّ أخذ الحيثية في الحكم وكيفية هذا الأخذ تحت سلطان الشارع فيكون الدليل الشرعي هو الكاشف عن ذلك, فالدليل الذي دلّ على أنّ (الماء إذا تغير تنجّس) يُفهم منه أنّ التغير قد إتّخذ على نحو الحيثية التعليلية, كما أنّ الدليل الذي ورد فيه (الماء المتغير متنجّس) يفهم منه أنّ الحيثية تقييدية, وهكذا في قولهم (قلِّد العالم) أو (قلّده إنْ كان عالماً) وهكذا.

ولكن يرد عليه بأنّ أخذ الحيثية في الحكم وكذلك كيفية أخذهما وإنْ كان بيد الشارع إلا أنّه في عالم الجعل؛ إذ في هذا العالم يستحضر المولى مفاهيم متعددة كمفهوم الماء والتغير والنجاسة فإنّه بإمكانه أنْ يجعل التغير قيداً للماء, وبإمكانه أنْ يجعله شرطاً في ثبوت النجاسة, ولكن الإستصحاب في الشبهات الحكمية لا يجري بلحاظ عالم الجعل بل بلحاظ عالم المجعول؛ فيُنظر إلى الحكم بما هو صفةٌ للأمر الخارجي حتى يكون له حدوثٌ وبقاءٌ وكما تقدم, فالحيثية التقييدية في عالم الجعل تكون حيثية تعليلية في عالم المجعول ولو أخذت شرطاً وعلة جعلاً ودليلاً.

فيبقى الترديد بين النظر العقلي والنظر العرفي فيما إذا أردنا أنْ نجري الإستصحاب في الشبهة الحكمية بالنسبة إلى اعتصام الكر بعد زوال جزءٍ يسير منه إذا احتملنا بقاء الإعتصام بزوال ذلك الجزء؛ فإنّه إذا أخذناه بالنظر الدقي العقلي فإنَّ المعروض بهذا النظر

ص: 426

غير محرز بقاءً, وإنْ أخذناه بالنظر العرفي وجدنا أنّ المعروض لا يزال باقياً ببقاء معظم الماء لأنّ العرف يرى أنّه نفسالماء السابق, وكذلك الأمر في استصحاب الكرية بعد زوال الجزء اليسير من الماء في الشبهة الموضوعية.

والحقُّ؛ إنّ كلّ ذلك تطويلٌ لا طائل تحته لِما ذكرناه من أنّ المتّبع هو النظر العرفي لا العقلي لأنّ دليل الإستصحاب مثل سائر الخطابات الشرعية؛ خطابٌ عرفي مُنزّل على الأنظار العرفية, نعم؛ إنّ النظر العرفي -كما ذكرنا مكرّراً- إنَّما يُتّبع في تعيين المفاهيم المستفادة من الألفاظ المستعملة وما يتبادر منها من المعاني في المحاورة, لأنّ الإفادة والإستفادة مبنية على المحاورات والمتفاهمات العرفية, فالظهور الإستعمالي ولو كان مجازاً مقدم على الوضعي ولو كان حقيقةً. وأمّا المصاديق الخارجية؛ فانطباق مفاهيم الألفاظ عليها إنَّما يكون قهرياً لأنّ نسبتها إلى المفاهيم نسبة الفرد إلى الكلي, ولا يدور ذلك مدار الأنظار العرفية؛ فمع الإنطباق القهري تكون المصاديق من تلك المفاهيم؛ حَكَمَ العرفُ بذلك أو لم يحكم, ومع عدمه لا يكون منها ولو حَكَمَ العرفُ بذلك, نعم؛ قد يكون نظر العرف كالبينة ونحوها طريقاً إلى صحة الإنطباق القهري فيكون المدار الإنطباق فقط وإنْ كان نظر العرف وغيره طريقاً لإحرازه, إلا أنّه قد يقال بأنَّ ما ذُكر صحيحٌ ولكن لا شكّ لنا في مفهوم الوحدة, وإنّما الشك والمسامحة العرفية في مجال التطبيق فقط, فكيف نظر العرف حجة فيه؟.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ العرف يُتّبع في توسعة مفهوم الوحدة ليشمل الواحد في النظر العرفي, فإنّ الأنظار العرفية التطبيقية يمكن أنْ تكون بدرجةٍ من الرسوخ بحيث يؤثر على المفهوم فيكون نظر العرف طريقاً إلى صحة الإنطباق القهري كما تقدم, وقد ذُكر في توجيه ذلك بعض الوجوه أيضاً لا تخلو عن المناقشة فراجع المطولات.

ص: 427

ومن جميع ذلك يظهر حال استصحاب الحكم الجزئي, أي في الشبهات الموضوعية عند عدم جريان الإستصحاب الموضوعي؛ فإنّه كلّما كانت الحيثية المشكوكة في وجودها خارجاً حيثية مقومة للحكم لم يجر الإستصحاب الحكمي, فكذلك لا يجري استصحاب الحكم الجزئي لتغير الموضوع, وإلا جرى الإستصحاب في الحكم الجزئي.

الركن الرابع: ثبوت أثرٍ عملي ليصح التعبد بالإستصحاب

لا ريب في اعتبار وجود الأثر في مورد الأمارات والأصول مطلقاً, وقد عرفت سابقاً أنّ الأثر المترتب عليها تارةً؛ يكون بدون واسطة شيءٍ أبداً, وأخرى؛ بواسطة أمرٍ شرعي؛ ولا ريب في اعتبارهما, وثالثةً؛ يكون بواسطة أمرٍ عادي أو عقلي, والأخير يسمى بالمُثبت, وقد اشتُهر إعتباره في الأمارات دون الأصول مطلقاً, وتقدم تفصيل الكلام فيه فراجع, إلا أنّ الكلام في المقامِ يقع في أمرين:الأول: في الدليل على اعتباره في الإستصحاب؛ والظاهر أنّه من الواضحات, لأنّ التعبد بالإستصحاب لا يمكن تحققه بدون الأثر العملي, حيث أنّ الإستصحاب حكمٌ ظاهري فلا بُدَّ من انتهائه إلى أثرٍ عملي وإلا كان لغواً, وهو صحيحٌ يجري في الإستصحاب وغيره ووضوحه يغني عن إقامة البرهان والتعليل, إذ لولاه لمَا صحّ انتساب التعبد به شرعاً.

الثاني: في بيان صيغ هذا الركن التي تبيّن حقيقته وتختلف من حيث الآثار المترتبة على كلّ واحدةٍ منها:

الصيغة الأولى: إنّ الإستصحاب يتقوم بلزوم انتهاء التعبد فيه إلى أثرٍ عملي وإلا كان لغواً, وهو القول بكفاية ترتب الأثر على نفس التعبد الإستصحابي ودليل هذا التقييد قرينة الحكمة التي تصرف إطلاق دليل الإستصحاب عن مثل ذلك, وبناءً على هذا البيان أنّه لا بُدَّ من المحافظة على إطلاق دليل حجية الإستصحاب ليشمل ما إذا لم يكن المستصحب

ص: 428

أثراً شرعياً ولا ذا أثرٍ شرعي أو قابلاً للتنجيز والتعذير بشرط أنْ يكون لنفس التعبد الإستصحابي أثرٌ يخرجه عن اللغوية, نظير أخذ القطع بموضوعٍ خارجي لا حكم له تمام الموضوع لحكم شرعي, ومن أجله قام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي دون الطريقي كما تقدم بيان ذلك.

الصيغة الثانية: إنّ الإستصحاب يتقوم بأنْ يكون المستصحب قابلاً للتنجيز والتعذير, ولا يكفي مجرد ترتب الأثر على نفس التعبد الإستصحابي بلا فرق في ذلك بعد ثبوت المنجزية والمعذرية بين أنْ يكون ذلك باعتباره حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكمٍ أو يكون دخيلاً في متعلق الحكم كالإستصحاب الجاري لتنقيح شرط الواجب إثباتاً أو نفياً, ومن الواضح أنّ هذه الصيغة أضيق من الصيغة السابقة.

واستدلّوا عليه باستظهار ذلك من نفس دليل الإستصحاب, لأنّ النهي عن نقض اليقين بالشك يعني النقض العملي وليس النقض الحقيقي لأنّه واقعٌ لا محالة, ولا معنى للنهي عنه, والمراد من النقض العملي لليقين هو فرض أنّ لليقين بحسب طبعه اقتضاءٌ عملي لينقض عملاً, والإقتضاءُ العملي له إنَّما يكون بلحاظ كاشفيته, وهذا يعني أنْ يكون اليقين بما هو صالح للتنجيز والتعذير حتى يشمله إطلاق دليل الإستصحاب.

ولكن ذلك إنَّما يصحّ على فرض استظهار إرادة النقض العملي من لفظ النقض ولو بقرينة تعلق النهي به, إلا أنّه عرفت فيما تقدم أنّ فيه احتمالاتٌ أخرى؛ منها؛ أنْ يكون المراد من (لا تنقض اليقين) الإرشادُ إلى عدم القدرة على ذلك بحسب عالم الإعتبار, كما في (دعي الصلاة أيام إقرائك) فيكون النقض غير مقدورٍ إعتباراً وادّعاءً لتعبد الشارع ببقاء اليقين السابق, وعلى هذا الإستظهار يكون مفادالدليل جعل الطريقية, ولا نحتاج في تطبيقه تصوير النقض العملي والإقتضاء العملي.

ص: 429

الصيغة الثالثة: إنّ الإستصحاب متقوم بأنْ يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكمٍ شرعي؛ وواضحٌ أنّ هذه أضيقُ من السابقتين, وأكثر عبائر الأصحاب على هذه الصيغة.

وقد أورد على هذه الصيغة بأنّه بناءً عليها يشكل جريان الإستصحاب في متعلق الأوامر كاستصحاب الطهارة الشرط في الصلاة, لأنّ قيد الواجب ليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً يترتب عليه حكمٌ شرعي, إذ الوجوب يترتب على موضوعه لا متعلقه.

وأجيب عنه بأنّ المتعلق مسقط الأمر فهو موضوعٌ لعدمه فيُستصحب لإثبات عدم الأمر وسقوطه, والحكم الشرعي يشمل الوجود وعدم الحكم لأنّ عدم الحكم تحت سلطان الشارع كوجوده.

وقد رفض السيد الصدر قدس سره (1) أصل هذه الصيغة وقال بأنّ المستند لها؛ إنْ كان باعتبار أنّ المستصحب لا بُدَّ أنْ يكون مربوطاً بالشارع؛ فمن الواضح أنّ كلّ ما ينتهي فيه إلى التعذير والتنجيز يكون مربوطاً بالشارع ويعقل فيه التعبد ومنه وقوع الإمتثال إثباتاً أو نفياً, وإنْ كان مستنده أنّ مفاد الإستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهراً؛ فلا بُدَّ أن يكون المستصحب حكماً أو موضوعاً له ليعقل جعل مماثله, ولكن هذا المبنى لا دليل له وليس لسان دليل الإستصحاب ظاهراً في ذلك.

والحقُّ أنْ يقال بالتعميم؛ ليشمل كلّ ما صحّ انتسابه إلى الشارع؛ سواءً كان تكليفياً أم وضعياً, تأسيياً أم إمضائياً؛ فيشمل جميع ما ذكروه, بل يشمل التنجيز والتعذير والطريقية وغير ذلك؛ لإطلاق دليل الإستصحاب بعد أنْ كان المراد من (لا تنقض اليقين) عدم رفع اليد عن اليقين وما يقوم مقامه من الآثار في مرحلة الشك, فراجع ما ذكرناه سابقاً, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 430


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص123.
المبحث الرابع: تنبيهات الإستصحاب
اشارة

إعتاد الأصوليون (قدّست أسرارهم) من زمان الشيخ الأنصاري قدس سره أنْ يذكروا تنبيهات يذكرون فيها بعض ما يرتبط بالإستصحاب وأدرجوا فيها مقومات الإستصحاب وأركانه والأقوال فيه وغير ذلك.

ونحن ذكرنا جملةً منها في المباحث السابقة فنقتصر في هذا المبحث على موارد تطبيق الإستصحاب وهي:

التنبيه الأول: في الأحكام الوضعية وجريان الإستصحاب فيها.

إشتهر بين الأصوليين انقسام المجعولة بالمعنى الأعمّ الشامل للتأسيسات والإمضائيات إلى التكليفية والوضعية, فأصبح ذلك من المسلّمات بينهم في عصرنا وما قاربه؛ والأولى ما يتعلق بأفعال العباد بلا واسطة, وتنحصر في الخمسة المعروفة من الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة, وأمّا الثانية فاختلفوا في تعريفها تبعاً لاختلافهم في حقيقتها, ولكنهم متفقون على أنّ لها نحو تعلق بالأحكام التكليفية في الجملة, كما أنّهم اختلفوا في أعدادها, إلا أنّ المرجع في أقسامها إصطلاح الفقهاء بل العقلاء كما ستعرف, والوجه في تسميته بالوضعي لوقوعه موضوعاً للحكم التكليفي, مثل (النجس لا يجوز شربه, والطاهر يجوز شربه) والكلام في الأحكام الوضعية يقع من نواحٍ عديدة:

الناحية الأولى: في تعريف الأحكام الوضعية؛ فقيل بأنّ الحكم الوضعي كلّ ما ليس بحكم تكليفي وله دخل فيه أو في متعلقه أو موضوعه, ويترتب عليه أنّه لم يكن له عددٌ معين ويكون ذكر بعضها في كلمات الأصحاب من باب ذكر الغالب لا الحصر. وقيل غيرُ ذلك.

ص: 431

والحقُّ؛ إنّه لم يكن لهم إصطلاح خاص في تعريف الحكم الوضعي, إلا أنّ الذي يمكن استفادته من كلماتهم؛ إنّ الحكم الوضعي ما كان له نحو تعلق بالحكم التكليفي وإنْ لم يتعلق الجعل به مباشرةً, ويأتي مزيد بيان لذلك إنْ شاء الله تعالى.

الناحية الثانية: لا ريب أنّ الأحكام التكليفية هي المنحصرة في الخمسة المعروفة, وهي لم تختص بشريعة معينة؛ فإنّ البعث نحو الفعل المعبر عنه بالوجوب, أو الترك المعبر عنه بالحرمة, أو البعث نحو الفعل مع الإذن في الترك المعبر عنه بالندب, أو الزجر عنه بنحو الترك مع الإذن في الفعل المعبر عنه بالكراهة, أو الترخيص المطلق نحو الفعل والترك المعبر عنه بالإباحة؛ هي ثابتةٌ في جميع الشرائع ولم تختص بشريعة الإسلام, بل هي ثابتةٌ في أفعال العباد ولو لم يكن التزام بشريعةٍ أصلاً, فهي ثابتةٌ في القوانين المجعولة بين الناس؛ سواءً فرضتها الحكومات أم المجتمع أم الأفراد, فتكون من الفطريات التي قرّرها الشرع, نعم؛ الإختلاف إنَّما يكون بحسب متعلقاتها باختلاف الشرايع؛ فرُبَّ شيءٍ يكون واجباً في شريعةٍ يكون حراماً في شريعةٍ أخرى أو بالعكس, فأصل الأحكام الخمسة التكليفية من الإعتباريات الفطرية العقلائية التي لم يردع عنها الشرع, وهكذا الأمر في الأحكام الوضعية كالشرطية والسببية والمانعية والجزئية والعلية والولاية وغيرها التي كانت شائعة بين الناس ثمّ وردت الخطابات الشرعية المشتملة عليها فاستفيد منها السببية الشرعية والمانعية الشرعية ونحوها.

الناحية الثالثة: في بيان حقيقة الحكم الوضعي؛ وقد اختلف الأصوليون فيها على أقوال:القول الأول: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سره ؛ من أنّ الوضعيات إنتزاعيةٌ محضة عن التكليفيات, ونسبه إلى المشهور وادّعى الوجدان في ذلك.

وعليه؛ يكون الوضع فيها لغواً.

ص: 432

ويرد عليه:

أولاً: لم تكن المسألة معنونة في كتب القدماء حتى يستظهر الشهرة فيه فتكون شهرة اجتهادية واعتبارها مشكلٌ جداً.

ثانياً: إنَّ دعوى الوجدان على نفي الجعل مطلقاً خلاف الوجدان, بل في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة التصريح بالجعل إستقلالاً في مثل الخلافة والإمامة والحجية ونحوها, كقوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)(1) وقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)(2), وغيرها من الآيات الكريمة.

والقول بأنّ الجعل في الوضع يكون لغواً لتعلقه بالتكليف, فإذا تعلق الجعل بالتكليف يتعلق بمتعلقه أيضاً؛ مردودٌ؛ بأنّ اللغوية إنَّما تكون إذا لم يترتب أثرٌ عليه أبداً, وأمّا إذا ترتب على جعله الأثر فلا لغوية فيه, ومن الآثار جريان الإستصحاب في الحكم الوضعي والذي يذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سره في جملة من كتبه الفقهية كما ستعرف.

القول الثاني: إنّه لا جعل للوضعيات والتكليفات مُنتزعةٌ عنها, ونُسب ذلك إلى الفاضل التوني قدس سره (3), وهو ظاهرُ الخدشة كما لا يخفى على من راجع النصوص الشرعية.

القول الثالث: التفصيل؛ كما اختاره المحقق الخراساني, فإنّه قال بأنّ الأحكام الوضعية على أنحاءٍ:

النحو الأول: ما تكون مجعولةً إستقلالاً بأسبابها الخاصة ولو إمضاءً, كالملكية والزوجية والحرية والولاية والصحة واللزوم والحجية والطريقية ونحوها, فلا وجه للإنتزاع فيها بعد صحة الجعل فيها إبتداءً.

ص: 433


1- . سورة البقرة؛ الآية 124.
2- . سورة ص؛ الآية 26.
3- . ذكره في تهذيب الاصول؛ ج2 ص263.

النحو الثاني: ما تكون منتزعة بحسب المتفاهم العرفي كالشرطية والجزئية والمانعية؛ فإنّها منتزعة من نفس تشريع المكلف به وجعله فإذا جعلت الصلاة المشتملة على الأجزاء والشرائط والموانع يكون جعل الصلاة جعلاً لهما بالعرض من دون حاجة إلى جعل مستقلّ بالنسبة إلى الجزئية والشرطية نظير التكليف النفسي المتعلق بالمركب فإنّه إنحلالي إنبساطي بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط.

وهذا وإنْ كان صحيحاً إلا أنّه يمكن القول بتعلق الجعل الثانوي لها لغرض الإهتمام بها والتأكيد والتبيين فلا يكون لغواً.النحو الثالث: ما لا تكون منتزعة عن التكليف ولا تكون مجعولةً ولو بالعرض, كالسببية والشرطية لنفس التكليف. أمّا عدم صحة الإنتزاع؛ فلأنّ التكليف متأخرٌ عنها لاقتضاء السببية والشرطية تقدّمها على المسبب والمشروط فلا يعقل انتزاعها عن التكليف المتأخر عنهما ذاتاً وحدوثاً, وأمّا عدم صحة الجعل -ولو بالعرض-؛ فلأنّ السببية والشرطية إنَّما هي لأجل خصوصية تكوينية تقتضي ذلك, ومع وجودها لا أثر للجعل حينئذٍ؛ إذ لا يحصل الأمر التكويني بالجعل التشريعي, ومع عدمها لا وجه للسببية والشرطية.

ويرد عليه:

أولاً: إنّ عدم إمكان الإنتزاع لتأخر التكليف عنها مردود؛ بأنّ ذلك ينفي الجعل التبعي, أمّا الجعل الإستقلالي فاحتماله قائم.

ثانياً: إنَّ ما يكون التكليف متأخراً عنه هو ذات السبب لا عنوان السببية, فلا يلزم من انتزاع عنوان السببية ترتب التكليف على ذات السبب, أيّ خلف نظير العلية في الأمور التكوينية, فإنَّ المعلول متأخر عن ذات العلة, ولكن العلية والمعلولية تنتزعان من ترتب المعلول على علته.

ص: 434

ثالثاً: إنَّ التكليف له مقامان؛ أحدهما: مقام المصلحة والغرض, والآخر: مقام الجعل والإعتبار؛ فما يتعلق بمقام المصلحة غير ما يستفاد عن مقام التشريع, فإنَّ دخالة السبب في المصلحة التي من أجلها يصح التشريع والجعل إنَّما هي تكوينية لا أنْ تكون جعلية, لأنَّ ذلك يختص بمقام المصلحة والغرض ولا ربط له بمقام الجعل والإعتبار، فإنَّ صيرورة الشيء سبباً للتكليف إنَّما هو بید الشارع, فإن أخذه في موضوع الحكم انتزع عنه عنوان السببية وإلا لم يكن سبباً للتكليف وإنْ كان سبباً للمصلحة, ومحل الكلام هو سببية الشيء للتكليف لا للمصلحة فهي لا محالة منتزعة عن كيفية الجعل في مقام التشريع, مع أنَّ نفس الخصوصية التكوينية من حيث هي لا تصلح للداعوية ما لم تتم بالجعل الشرعي فلا بُدَّ من الجعل التشريعي.

رابعاً: إنَّ الإنتزاع عن المتأخر ليس من حيث وجود المتأخر بما هو متأخر ذاتاً, بل إنَّما هو من حيث كونه طرف إضافة المنتزع, ولا ريب في أنَّ المنتزع والمنتزع منه من الأمور الإضافية فيتَّحدان في الشأنية والفعلية فيصح الإنتزاع من جهة شأن المنتزع منه وكونه بالقوة بلا إشكال كما اعترف به المحقق الخراساني في مقدمة الواجب عند بيان الشرط المتأخر, وقد أطال الاعلام الكلام في المقام بالنقض والإبرام وكلها تطويل بلا طائل تحته, وما ذكره السيد الوالد قدس سره یصلح لمناقشة المحقق الخراساني ببيان أمرين:

الأمر الأول: مرجع كون الشيء سبباً للتكليف أو شرطاً له هو كونه دخيلاً في اتّصاف الفعل بالمصلحة فيكون الفعل به ذا مصلحة وبدونه ليس بذي مصلحة.

وبعبارة أخرى: إنَّ موضوع التكليف ما كان دخيلاً في تحقق الإحتياج إلى الفعل, والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها؛ نسبة المرض إلى استعمال الدواء, فإنَّ شرب الدواء بدون المرض لا مصلحة فيه, وإنَّما يصير ذا مصلحة عند تحقق المرض.

ص: 435

الأمر الثاني: إنَّ الحكم التكليفي الفعلي قد اختلف العلماء في حقيقته وواقعه, والوجوه المعروفة أربعة:

1- إنَّه عبارة عن نفس الإرادة التشريعية المتعلقة بفعل الغير.

2- إنَّه عبارة عن الإعتبار العقلائي للحكم المترتب على الإنشاء الصادر من المولى.

3- إنَّه عبارة عن نفس اعتبار المولى في ظرفه الخاص, بحيث يكون الإعتبار منوطاً بتحقق الموضوع.

4- إنَّه عبارة عن اعتبار المولى في ظرف الإنشاء, بمعنى؛ إنَّ تحقق الموضوع دخيل في ترتب الأثر العقلائي على الإعتبار, وهو المعبّر عنه بفاعلية الإعتبار, وليس دخيلاً في تحقق نفس الإعتبار كما هو الحال في الوجه الثالث.

وإذا انظم إلى هذين الأمرين كون المولى حكيماً يتبع الحكمة في أفعاله فيتعين عليه ملاحظة موارد المصلحة في تشريعاته فلا يشرع حكماً على خلاف المصلحة وإلا كان منافياً للحكمة, فيتَّضح أنَّه بعد فرض كون الفعل ذا مصلحة منوطاً بأمر خاص كالدلوك بالنسبة إلى الصلاة امتنع جعل التكليف من قبل المولى بلا ربط له بالدلوك, وإلا كان خلاف الحكمة, ومن هذه الجهة تنتزع شرطية الدلوك للوجوب ومعنى الشرطية امتناع تحقق المشروط بدون الشرط كما هو ثابت في الدلوك بعد كونه دخيلاً في إنصاف الفعل بالمصلحة وبعد فرض حكمة المولى, ومن المعلوم أنَّ هذا المعنى ليس جعلياً بل هو تابع للخصوصية الواقعية الموجودة في الدلوك ولا تناط بجعل المولى للتكليف ولا يكون مرتبطاً بحيث لولاه لما كان شرطاً بالمعنى الذي عرفته على جميع الوجوه المتقدمة في حقيقة الحكم الفعلي, فإنَّ شرطية التكليف الصادرة من الحكيم بناءً على تبعية الأحكام للمصالح والأغراض العقلائية هي منتزعة عن خصوصية واقعية لا عن مقام الجعل والتشريع الذي هو مورد

ص: 436

كلام المحقق الخراساني قدس سره (1), ولذا أورد عليه المحقق النائيني قدس سره (2) بأنَّه خلط بين مقام الجعل والمجعول, فإنّ شرائط الجعل تكوينية لا تناط بالجعل, وأمّا شرائط المجعول فشرطيتها منتزعة عن كيفية الجعل, ولولا جعل المولى التكليف مقيداً بالشرط لم يعنون بعنوان الشرطية. وتبعه في ذلك غيره أيضاً.والحقُّ؛ إنَّ ما ذكر يرجع إلى درج المباحث العقية والشرط والسبب المذكور فيها في الأحكام الشرعية التي تبتني على العرفيات والمباني العرفية, وقد تكرر منّا في مباحث عديدة أنَّ القول بتبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد صحيح في الجملة لا على نحو الكلية, فإنّ الأحكام بل الدين بمجموعته إنَّما شرعها الله تعالى من أجل أهم غرض يسمو على جميع ما يمكن تصويره في المصلحة والمفسدة, وهو أيصال المكلفين إلى أسمى الكمالات ونيل السعادة العظمى, وهي مقام القرب إلى الله تعالى ونيل رضا خالقه, ومع التنزل وقولنا بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد فإنَّ دركها من قبل الإنسان غير ممكن؛ إلا ما بيَّنه الشارع الأقدس, فيكون المناط كله على ظاهر الخطاب الذي يكون إمّا عاماً أو مقيداً بشيء, ولا دليل على مراعاة المصلحة التكوينية على فرض العلم بها ما لم يدل من الشرع عليه, والمكلف إنَّما عليه مراعاة ظاهر الخطاب وكونه في مقام المجعول كما يرتأيه المحقق النائيني وغيره أم لا.

فالصحيح في الجواب أنْ يقال بأنَّ انتزاع السببية والشرطية تابع لاعتبار المعتبر في الأحكام التي هي اعتبارات عقلائية, والإعتبارات ليست مثل الحقائق التكوينية العقلية, فإذا اعتبر الشارع حكماً مشروطاً أو له سبباً معيناً فإنَّه ينتزع منه السببية والشرطية الشرعية من دون ملاحظة ما وراء هذا الحكم الإعتباري من المصالح والمفاسد وغيرها.

ص: 437


1- . كفاية الأصول؛ ص400.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص395-397.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن مجمل ما ذكروه في المقام مع ما عرفت من أنَّها خارجة عن المباحث الأصولية المبتنية على العرف, فما ذكروه تطويل لا طائل تحته.

الناحية الرابعة: في الثمرة المترتبة على جعل الأحكام الوضعية وعدمه؛ فقد ذكر الأصوليون بأنَّ من الثمرات المترتبة على جعلها هو جريان الأصل فيها, فإنْ قلنا بتبعية الأحكام الوضعية للأحكام التكليفية كما اخترناه فلا ينبغي الإشكال في جريان الإستصحاب فيها, وأمّا بناءً على عدم جعلها ولو تبعاً فلا يصح إجراء الإستصحاب فيها, ومنها يظهر الحال فيما اختاره المحقق الخراساني قدس سره , فإنَّ الأصل يجري في القسم الأول والثاني منها دون الثالث.

قال السيد الوالد قدس سره بعد أن أثبت الجعل في الحكم الوضعي الأعم من الإمضائي والتأسيسي والإستقلالي (ونتيجة ذلك صحة جريان الإستصحاب في الجميع, ولو انحصر مورد جريان الإستصحاب بخصوص مورد الجعل الإستقلالي الشرعي لبطل جريانه في جملة من الموارد المسلّم جريانه فيها عندهم, فيكفي مطلق الأثر الشرعي ولو بنحو الإمضاء مع ترتبه على المستصحب بلا واسطة)(1).وتوضيح ذلك؛ إنَّه بناءً على كون الأحكام الوضعية مجعولة بالجعل الإستقلالي فلا إشكال في جريان الإستصحاب فيها كجريانه في الأحكام التكليفية لتمامية الأركان فيها فيشمله دليل حجية الإستصحاب كما ستعرف, إلا أنَّ الأمر ليس كذلك في الأحكام الوضعية؛ حيث لم تكن كلها مجعولة بالجعل الإستقلالي إلا بناءً على رأي الفاضل التوني قدس سره على ما نسب إليه, ولكن المُعظم لا يذهب إلى ذلك وإنْ قال بعضهم بالجعل الإستقلالي في بعض تلك الأحكام كالولاية والملكية والزوجية ونحو ذلك فالنزاع حينئذٍ يكون صغروياً.

ص: 438


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص264.

وأمّا بناءً على الجعل التبعي فقد ذكر بعضهم(1) بأنَّ الكلام في كون الأحكام الوضعية -كالجزئية- مجعولة وعدم كونها مجعولة إنَّما هو بلحاظ صحة جريان الأصل فيها وعدم صحته, وقد استفاد ذلك من كلام صاحب الكفاية(2)؛ حيث اختار صحة جريان الإستصحاب

في مثل الجزئية مما يكون مجعولاً بالتبع, لأنَّه لا يعتبر في مجرى الأصل سوى كون أمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً ولو بتبع أمر آخر، والجزئية للأمور به كذلك فيصح أنْ تكون مجرى الأصل, ولا يمنع عدم تسمية الجزئية حكماً شرعياً, إذ لا يعتبر ذلك في مجرى الأصل بل المعتبر ما عرفت.

ولكن الصحيح هو أنَّ صحة جريان الأصل مبنيّة على كون الأحكام الوضعية مجعولة ولو تبعاً حتى يكون رفعها ووضعها بيد الشارع فيصح إجراء الأصل منها وليس على العكس.

وكيف كان؛ فإنَّ الإشكال في جريان الأصل في الحكم الوضعي ينشأ من وجوه:

الأول: إنَّه إذا كان دخيلاً في التكليف كالجزئية فلا مجال لجريان الأصل فيه لعدم كونه بيد الشارع ولو بالتبع, كما لا يترتب عليه شرعاً حكم شرعي؛ إذ أنَّ التكليف وإنْ كان مترتباً عليه إلا أنَّه ليس بترتب شرعي.

وفيه: ما تقدم من أنَّ ما له دخل في التكليف يكون رفعه ووضعه بيد الشارع ولو تبعاً لرفع أصل التكليف مع أنَّ الجزئية ممّا ترتب عليه حكم شرعي؛ وهو صحة المركب بوجوده، وعدم صحته عند انتفاءه.

الثاني: إنَّ الحكم الإنتزاعي عن التكليف وكونه مجعولاً بالتبع كالجزئية لا يجري الأصل فيها, لأنَّه إمّا لأنَّ منشأ انتزاعها وهو الأمر النفسي المتعلق بالكل لا يجري الأصل فيه

ص: 439


1- . كفاية الأصول؛ ص403.
2- . منتقى الأصول؛ معلقاً على ما في نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص91-92.

لقصور في المقتضي أو لوجود المانع كما في موارد الأمر بين الأقل والأكثر وعدم انحلال العلم الإجمالي فيه كما هو مبنى صاحب الكفاية, لأنَّأصالة عدم الأمر بالأكثر معارضة بأصالة عدم الأمر بالأقل, وأمّا مع إمكان جريان الأصل فيه فلا مجال للأصل في الجزئية.

وفيه: إنَّ الأصل يجري في المنشأ كما يجري في التبع؛ لما ثبت في محله من جريان الأصل في الأكثر عند دوران الأمر بينه وبين الأقل مع عدم جريان الأصل في الأقل فلا معارضة, ويمكن أنْ يجري الأصل في الجزئية نفسها كما عرفت آنفاً.

الثالث: إنَّ الأمر الإنتزاعي لا وجود له إلا في ضمن منشأ انتزاعه ولا مطابق له خارجاً سواه, فهو أشبه بالفرض فلا يقبل الجعل وجوداً وعدماً إلا بلحاظ تعلق الجعل وعدمه بمنشأ انتزاعه, والمفروض أنَّ الأخير لا يصحّ أنْ يكون مجرىً للأصل والتعبد, وإلا استغني بالتعبد به عن التعبد بما ينتزع عنه.

وفيه: ما عرفت آنفاً من أنَّ الحكم الوضعي من الأمور الإعتبارية رفعها ووضعها بيد الشارع.

الرابع: إنَّ الأصول العملية لا يصح أنْ تجري إلا فيما إذا ترتب على جريانها أثرعملي بحيث تنفع المكلف في مقام عمله, ولا ثمرة عملية تترتب على جعل الجزئية مثلاً بما هي؛ وجوداً وعدماً، والأثر العملي العقلي يترتب على الأثر النفسي المتعلق بالمجموع, وهو منشأ انتزاع الجزئية, فإنَّه يختلف العمل باختلاف سعة دائرة شموله وضيقها.

ويرد عليه: ما عرفت من وجود الأثر العملي على نفس الجزئية.

والحقُّ؛ إنَّ شيئاً ممّا ذكر لا يصلح أنْ يكون مانعاً عن جريان الأصل في الحكم الوضعي التبعي الإعتباري.

الناحية الخامسة: إختلفوا في عدد الأحكام الوضعية بين مقلٍّ ومكثر, ولكن لا جدوى في هذا النزاع بعدما عرفت من أنَّ الأحكام الوضعية إعتبارات عقلائية لها نحو تعلق

ص: 440

بالأحكام التكليفية؛ سواءً كان على نحو الإنتزاع أم غيره, فلا ينحصر في عدد معين؛ لا سيما أنَّهم اعتبروا بعضها من الأحكام التكليفية التي تعلق الجعل الإستقلالي بها كالحجية والحرية والملكية والزوجية والطهارة والنجاسة, وقد استدلوا على ذلك بوجوه:

الأول: صحة اعتبار الملكية مثلاً بمجرد تحقق العقد ممن بيده الإختيار بلا ملاحظة ترتب التكاليف والآثار، بل حتى مع الغفلة عن ذلك, ولا ريب أنَّ مثل هذا لا يصلح لو كانت أموراً انتزاعية عن التكليف.

الثاني: إنَّه يلزم من كونها انتزاعية أنْ لا يقع ما قصد ويقع ما لم يقصد, وهو منافٍ لتبعية العقود كما هو واضح.الثالث: إنَّه لا تصح دعوى أنَّ الملكية منتزعة عن جواز التصرف بالمال لثبوت الجواز مع عدم الملكية قطعاً في بعض الموارد كما في الولي على المال أو المأذون بالتصرف, وهذه الوجوه ذكرها المحقق الخراساني قدس سره (1).

الرابع: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) من أنَّه ليس في الأحكام الوضعية ما يختص بحكم تكليفي لا يشاركه فيه غيره, فكيف يكون منشأً لانتزاعه بخصوصه كالحجية والطريقية فإنَّهما من الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي يقبل انتزاع الحجية منه.

الخامس: ما ذكره المحقق العراقي من أنَّ ظواهر الأدلة لا تساعد على دعوى الإنتزاع, لأنَّه قد أخذت فيها هذه الأمور الوضعية موضوعاً للأحكام التكليفية, مثل ما دلَّ على حرمة التصرف بمال الغير بغير طيب نفسه وما دلَّ على سلطنة الناس على أموالهم, فإنَّ ذلك يقتضي كون الإضافة مرتبة سابقة على الحكم؛ فكيف يكون الحكم منشأً لانتزاعها.

ص: 441


1- . كفاية الأصول؛ ص402.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص387.

وهذه الوجوه بمجموعها توجب الإطمئنان بتعلق الجعل الإستقلالي بهذه الأمور وإنْ أمكنت المناقشة في بعض تلك الوجوه, ولكن بعض الأعلام إستشكل في مقام الثبوت بأنَّه لا يعقل تعلق الجعل الإستقلالي بهذه الأمور.

وحاصل ما ذكره من أنَّ تعلق الإعتبار العقلائي أو الشرعي بأمرٍ إنَّما هو لأجل ترتيب الآثار العقلائية أو الشرعية عليه, وإلا بدون ملاحظة ذلك يكون لغواً لا يصدر من العاقل الحكيم, وعليه؛ إنَّه حين اعتبار الملكية عند تحقق سببها كعقد البيع؛ إمّا أنْ يتعلق اعتبار آخر بآثارها التكليفية كجواز التصرف بالمال وحرمة تصرف غيره بدون إذنه, أو لا يتعلق اعتبار آخر بآثارها.

فعلى الأول؛ يكون اعتبار الملكية ممّا لا حاجة إليه, إذ يمكن تعلق الإعتبار رأساً بالأحكام التكليفية عند حصول العقد بلا حاجة إلى توسيط اعتبار الملكية.

وعلى الثاني؛ يلزم أنْ لا يترتب أي أثر تكليفي على اعتبار الملكية, إذ الأحكام التكليفية لا تترتب قهراً من دون اعتبار, فيكون جعل الملكية لغواً على كِلا التقديرين.

والحاصل؛ إنَّ اعتبار الأمر الوضعي لا يغني بنفسه عن اعتبار الحكم التكليفي المفروض ترتبه عليه, ومع اعتبار الحكم التكليفي لا حاجة إلى جعل الحكم الوضعي.

والحقُّ؛ إنَّ ذلك مغالطة واضحة, فإنَّه إذا اعتبرنا الأحكام مطلقاً من الإعتباريات فإنَّه يصحُّ تعلق الإعتبار بالوضع واعتبار آخر بالتكليف المترتب عليه, فإنَّاعتبار الملكية قبل جواز التصرف للمالك وحرمته على غيره أمر معقول في حدّ نفسه ويترتب عليه الأثر, ويرشد إلى ذلك أنَّه يمكن اعتبار الملكية في مورد كما في الحمل أو الصغير أو الممنوع من التصرف لأجل عدم الرشد ونحوه, ولا يتحقق في هذه الموارد ثبوت حكم تكليفي حتى

ص: 442

يرتفع المانع, كما أنَّه يمكن تصوير عكس ذلك؛ بأنْ يتحقق اعتبار جواز التصرف ولم تتحقق الملكية كما في الوكيل والمأذون ونحوها.

هذا إذا قلنا بأنَّ الملكية ونحوها إعتبارات إستقلالية تأسيسية, أمّا إذا كانت أمور عقلائية أمضاها الشارع فكان جعلاً إمضائياً فالأمر أوضح, فلا مانع من مجعولية الملكية والحرية والولاية ونحوها إستقلالاً في مقام الثبوت والإثبات.

ومنه يظهر إنَّ الخلاف في بعض الأمور الوضعية غير صحيح كالصحة والفساد والطهارة والنجاسة, فإنَّ تعلق الجعل الوضعي إستقلالاً بها صحيح ولا إشكال فيه, أمّا الصحة والفساد فقد تقدم الكلام فيهما في مباحث الألفاظ.

وأمّا الطهارة والنجاسة فإنَّهما إمّا أنْ يكونا أمرين اعتباريين فقد عرفت أنَّه يتعلق بها الجعل ويترتب عليهما التكليف, وإمّا أنْ يكونا أمرين واقعيين كشف عنهما الشارع بالجعل الإعتباري وترتب عليه الجعل التكليفي من حرمة الأكل ووجوب الإزالة ونحو ذلك.

وأمّا الإشكال بأنَّهما إذا كانتا أمران واقعيان كشف عنهما الشارع بالجعل التكليفي فقط فهو لا يمنع من تعلق الجعل الإعتباري بالوضع كما عرفت.

ومن ذلك يظهر الأمر في الرخصة؛ التي هي بمعنى التسهيل والرخصة في الفعل أو الترك وتطلق على مجرد المشروعية أيضاً, والعزيمة؛ التي هي عبارة عن عدم المشروعية وتطلق على الترك اللزومي.

والمحصل من جميع ذلك أنَّه لا مانع من تعلق الإعتبار الإستقلالي بالوضع, كما يتعلق الإعتبار الإستقلالي بالتكليف, فإذا أمكن التفكيك بينهما عرفاً فإنَّه يصح تعلق الإعتبار الإستقلالي بكلٍّ منهما, أمّا إذا لم يكن ذلك فإنَّه يكون من الجعل التبعي أو الإنتزاعي, ولعل خلاف العلماء في بعض الأحكام الوضعية يرجع إلى ذلك فافهم.

ص: 443

التنبيه الثاني: جريان الإستصحاب في الشك الفعلي دون التقديري

من المعلوم إنَّه يعتبر في الإستصحاب الشك في البقاء, وذكر الشيخ أنَّ المراد منه هو الشك الفعلي المتحقق حال الإلتفات, فلو لم يكن ملتفتاً لا يجري الإستصحاب وإنْ فرض حصول الشك على تقدير الإلتفات؛ ومن هنا يظهر المراد بالشك التقديري.وقال السيد الوالد قدس سره : (يعتبر في الإستصحاب الشك الفعلي, لأنَّه المتيقن من بناء العقلاء والمتفاهم من الأدلة اللفظية, فلا يكفي التقديري منه)(1).

وقد رتبوا على ذلك فروعاً؛ ذكر الشيخ منها فرعان:

الفرع الأول: إذا علم بالحدث وغفل عن حاله فصلى وبعد الفراغ شك في أنَّه تطهر قبل الصلاة أو لا؛ لا يجري استصحاب الحدث قبل الصلاة حتى يحكم بالبطلان؛ لعدم فعلية الشك قبلها, وإنَّما حدث بعد الفراغ منها, ويكون المرجع في هذه الحالة قاعدة الفراغ وتصحّ الصلاة.

الفرع الثاني: إذا تيقن بالحدث والتفت إلى حاله في اللاحق وشك في بقاء الحدث وعدمه جرى الإستصحاب في حقه, فلو غفل عن ذلك وصلى بطلت صلاته؛ لسبق الأمر بالطهارة, ولا تجري في حقه قاعدة الفراغ؛ لكون مجراها الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل.

ولم يتعرض في الكفاية إلى قاعدة الفراغ في هذا الفرع للقطع بعدم رفع حدثه الإستصحابي, فلا حاجة إلى ذكر قاعدة الفراغ.

ص: 444


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص265.

والكلام في هذا الموضوع يقع في مقامين:

المقام الأول: في الدليل على اعتبار الشك الفعلي دون التقديري؛ وقد تمسك السيد الوالد قدس سره بأمرين:

الأمر الأول: العرف؛ وذلك بأنَّ المتفاهم العرفي من الشك المأخوذ في الإستصحاب بحسب الأدلة الواردة هو الشك الفعلي كما هو الأمر كذلك في سائر الموارد, فلو قال المولى (أكرم العالم) كان ظاهره هو أكرم من اتَّصف بالعلم فعلاً لا فرضاً وتقديراً, ولذا قيل: إنَّ فعلية الحكم بموضوعه, فالظاهر من دليل الإستصحاب عرفاً هو الشك الفعلي.

الأمر الثاني: بناء العقلاء في محاوراتهم على فعلية الموضوعات بالنسبة إلى أحكامهم؛ إلا إذا دلّت قرينة على خلافه, فالمتيقن من بنائهم في المقام فعلية الشك.

وهناك دليل آخر يمكن عدّه ثالثاً تمسك به الشيخ وصاحب الكفاية وهو الدليل العقلي؛ بدعوى؛ إنَّ دليل الإستصحاب يتكفل جعلاً ظاهرياً في مقام الشك لرفع الحيرة في مقام العمل, وما كان كذلك لا يثبت إلا مع الإلتفات, إذ بدونه لا حيرة في التكليف ولا معنى للتنجيز والتعذير.

وأشكل على ذلك بأنَّه إذا كان الدليل هو العقل فلا يجري الإستصحاب مع زوال الإلتفات, بل لا بُدَّ في استقرار جريانه من استمرار الإلتفات, وعليه؛ لا وجه للتفرقة في الفرعين السابقين, فلا يصح للمكلف إجراء استصحاب الحدث حالالصلاة في الفرع الثاني لأنَّه غافل عنه حالها, وإنْ كان الدليل هو العرف فإنَّ اعتبار الإلتفات من الشرائط العامة للتكليف أجنبي عن خصوص الإستصحاب, فلا يناسب تخصيص الكلام به.

ويرد عليه بأنَّه إنْ كان المراد الإشكال في التفرقة بين الفرعين فهو ممّا سيأتي الجواب عنه, وإنْ كان الإشكال على أصل الإستدلال بالعرف والعقل فهو غير صحيح, لأنَّهما يدلان

ص: 445

على اعتبار فعلية الشك في الإستصحاب كما هو واضح, نعم؛ يمكن أنْ يكون المراد من العقل هو البناء العقلائي الذي ذكره السيد الوالد قدس سره فيسلم من الإشكال المزبور.

وأما القول بأن عدم الغفلة من الشرائط العامة في كلّ تكليف, فلا وجه لاختصاص الإستصحاب به فهو وإنْ كان صحيحاً في أصل الكبرى, ولكن الإستدلال بالعرف في دليل الإستصحاب لرفع شبهة الإطلاق فيه فلا يشمل الشك التقديري.

المقام الثاني: في بيان الإشكال في الفرعين المزبورين؛

فقد يقال بأنَّ المناط في جريان الإستصحاب تحقق اليقين والشك وهو ثابت في المقام, لأنَّ اليقين بالحدث كان قبل الصلاة والشك فيه متحقق بعد الصلاة فيجري الإستصحاب وتبطل الصلاة في الفرع الأول كما في الفرع الثاني.

وفيه:

أولاً: إنَّ أثر الشك وإنْ كان معتبراً في الإستصحاب لكن لا بُدَّ وأنْ يكون بالنسبة إلى ما بعد حدوثه, فلا يشمل ما قبله, فلا يسري الشك إلى حين الشروع في الصلاة لأنَّه لا ينفع في جريان الإستصحاب قبل الصلاة لعدم فعلية الشك قبل الشروع فيها.

ثانياً: إنَّ الإستصحاب وإنْ جرى في الجملة ولكنه محكوم بقاعدة الفراغ إلا أنْ يستشكل في إجراء هذه القاعدة في المقام لوجوه:

الأول: إنَّه يعتبر في جريانها عدم العلم بالغفلة حين الشروع في العمل وإلا وجب إعادة الصلاة لقاعدة الإشتغال, فلا فرق حينئذٍ بين الفرعين؛ جرى الإستصحاب أو لم يجرِ.

الثاني: إنَّ قاعدة الفراغ لا تجري فيما إذا كان الشك قبل العمل؛ لقصور دليلها عن ذلك, وحينئذٍ لا تجري القاعدة في الفرع الثاني, لأنَّ الشك فيه حادث قبل العمل فالمرجع حينئذٍ استصحاب الحدث قبل الصلاة فيحكم ببطلانها بعد عدم جريان قاعدة الفراغ فلا ربط له بجريان الإستصحاب.

ص: 446

الثالث: إنَّ قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز من صغريات أصالة عدم السهو والغفلة, وهذا الأصل لا يجري مع العلم بالغفلة فلا تجري قاعدة الفراغ في الفرع الأول لتحقق الغفلة والعلم بها أثناء العمل.

الرابع: إنَّ موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في الصحة الناشئ من الشك في اختلال بعض ما يعتبر في العمل من الأجزاء والشرائط, ومن أجل ذلك منعبعضٌ من كون قاعدة الفراغ قاعدة برأسها في قبال قاعدة التجاوز, فإنَّه ما من مورد يشك في صحة العمل إلا وكان السبب فيه الشك في إتيان الجزء أو الشرط في محله وهو مجرى قاعدة التجاوز.

وتحقيق الكلام في كلّ واحد من تلك الوجوه يأتي في المحل المناسب عند التعرض لهذه القاعدة إنْ شاء الله تعالى, ولكن المهم في المقام الكلام في الوجه الرابع؛ والصحيح أنَّه ليس موضوع القاعدة هو الشك في صحة العمل دائماً, فإنَّه قد يكون الشك في وجود الجزء أو الشرط لا الصحة, كما إذا التفت إلى أنَّه محدث أو متطهر قبل العمل وأجرى الإستصحاب ثم غفل عن ذلك ودخل في العمل, فهو في أثناء العمل ليس شاكاً في صحة العمل لغفلته ولكن شكه الإرتكازي حال الغفلة إنَّما هو في حدثه أو طهارته وهو غير الشك في صحة العمل ومطابقته للمأمور به, فاذا التفت بعد الفراغ فإنَّ شكه في صحة العمل شكٌّ حادث بعد العمل الذي هو وقوع الصلاة -مثلاً- مع الطهارة لا أنْ يكون الشك في أثنائه فيكون مجرى قاعدة الفراغ, وعليه؛ لا فرق بين الفرعين السابقين, إلا أنَّ الشيخ قدس سره عللّ عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرع الثاني بكون الشك حادثاً بعد العمل.

والإشكال عليه يظهر ممّا ذكرناه.

وبالجملة؛ إنَّ إرجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز على نحو العموم لا يمكن قبوله, فإنَّ أسباب الشك في نظر العرف مختلفة وجداناً وإنْ أمكن إرجاع الجميع إلى شيء بحسب الدقة العقلية. والتفصيل يأتي في محله إنْ شاء الله تعالى.

ص: 447

والصحيح في عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرع الثاني والحكم ببطلان العمل؛ إنَّ المكلف بعد الفراغ من العمل إلتفت إلى أنَّه ثبت في حقه حدث ولم يكن عمله مطابقاً للوظيفة الشرعية المأمور بها ومثله يكون باطلاً, ولعله من أجل ذلك لم يتعرض صاحب الكفاية إلى قاعدة الفراغ في هذا الفرع وحكم ببطلان العمل للحدث الإستصحابي, كما أنَّه من أجل تلك الإشكالات لم يتعرض السيد الوالد قدس سره إلى هذا الفرع أصلاً واقتصر على الفرع الأول.

ثم أنَّه ذكر السيد الخوئي قدس سره (1) بأنَّ الحكم الظاهري مجعول بلحاظ التنجيز والتعذير, وهو غير معقول مع الغفلة, فلا يمكن أنْ يجري الإستصحاب في حال غفلته عن الحدث.

ويرد عليه: إنَّ الحكم الظاهري المجعول في حقّ المكلف عند الشك لرفع حيرته في مقام العمل لا يختلف عن الحكم الواقعي عند عروض الغفلة والنسيان, فما يقال في الحكم الواقعي يقال في الحكم الظاهري بلا اختلاف بينهما من هذه الجهة, ومن أجل ذلك لو كان المستصحب من الأحكام التكليفية امتنع أنْ يجريالإستصحاب حال الغفلة؛ لعدم قابليته للدعوة والتحريك والتنجيز, وأمّا إذا كان المستصحب حكماً وضعياً كالحدث فإنَّه يمكن أنْ يحصل حال الغفلة, فكما أنَّ الحدث الواقعي حاصل حال الغفلة ولا يزول بسبب الغفلة كذلك الحدث الظاهري؛ فإنَّه لا مانع من ثبوته في حق الغافل, فلا مانع من جريان الإستصحاب فيه, إذ لا تنجيز بالنسبة إلى الأحكام الوضعية, ويترتب عليه بطلان العمل لثبوت المانع عن مطابقته للأثر الواقعي, وعليه؛ يكون ذلك كافياً في تصحيح جريان الإستصحاب, ولو كان غافلاً عن الحدث فإنَّه من الأثر العملي المعتدّ به.

ص: 448


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص351.
التنبيه الثالث: إستصحاب الكلي
اشارة

المستصحب تارة؛ يكون جزئياً شخصياً, وأخرى؛ يكون كلياً. ولا ريب في شمول أدلة اعتبار الإستصحاب لكليهما.

والمراد من استصحاب الكلي هو التعبد ببقاء الجامع بين فردين أو أكثر من الحكم, أو الجامع بين شيئين خارجيين أو اكثر إذا توفرت فيه شروط الإستصحاب التي منها وجود أثر عملي في البين, إلا أنَّ الأصحاب اختلفوا في جريان الإستصحاب في الكلي من جهتين:

الجهة الأولى: في أصل جريان الإستصحاب في الكلي

قد يعترض في أصل إجراء الإستصحاب الكلي, والكلام تارة؛ يكون في الأحكام, وأخرى؛ يكون في الموضوعات. أمّا إستصحاب الكلي في الأحكام فإنَّ الإعتراض فيه ينحصر على المبنى القائل بأنَّ المجعول في دليل الإستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب, فإذا كان المستصحب هو الجامع بين الوجوب والإستصحاب أو الجامع بين وجوبين واقتضى الإستصحاب جعل الحكم للماثل له فإنَّه غير معقول, إذ يستحيل وجود الجامع إلا ضمن فرده مع الخصوصية، والجامع في ضمن أحد فرديه بالخصوص لا يجري فيه الإستصحاب لعدم تمامية أركانه فلا يشمله دليل الإستصحاب.

وهذا الإعتراض لا يرد على سائر المباني في الإستصحاب غير مبنى جعل الحكم المماثل, فإذا قلنا بأنَّ الإستصحاب هو إبقاء اليقين أو أنَّه جعل الطريقية والعلمية بمقدار الجامع وغير ذلك فلا إشكال في جريان الإستصحاب في الجامع, فالإيراد يبتني على أنْ يكون مفاد دليل الإستصحاب جعل الحكم المماثل للواقع المشكوك حيث يستحيل جعل الجامع المماثل من جعل الخصوصية وجعله مع الخصوصية يكون أوسع من المستصحب وأكثر من محط الإستصحاب.

ص: 449

وقد أجيب عنه بوجوه عديدة وأهمها:

الأول: انكار أصل المبنى؛ فإنَّه ليس المستفاد من أدلة الإستصحاب جعل الحكم المماثل, وإنَّما تدل على التعبد ببقاء اليقين أو المتيقن كما عرفت سابقاً.الثاني: إنَّه إذا كان المناط هو نظر العرف في بقاء المستصحب, فإنَّه بناءً على هذا المبنى فإنَّ المماثلة بين الحكم الظاهري والواقعي لا تكون في جميع الخصوصيات والجهات حتى الملاك والإرادة, بل التماثل في بعضها وهو يكفي في ذلك بالنظر العرفي, نعم؛ إذا كان المناط التماثل في جميع الخصوصيات كان الإشكال في هذا الجواب واضحاً.

الثالث: القول بمقالة المحقق العراقي قدس سره (1) في العلم الإجمالي من تعلق الإجمالي بالواقع لا الجامع وإنَّما الإجمال في الصورة, ففي الحقيقة يكون الإستصحاب من استصحاب الفرد؛ غاية الأمر الفرد المبهم المعلوم إجمالاً لا المعلوم تفصيلاً.

وفيه: إنَّ ما ذكره قدس سره إنَّما يجري في استصحاب الحكم في موارد العلم الإجمالي به لا استصحاب للكلي, فالصحيح هو الجواب الثاني إنْ كان أصل المبنى صحيحاً ولكنه باطل كما تقدم التفصيل, فإنَّ الإعتراض ينشأ من أنَّ الأحكام الشرعية إنَّما تترتب على الكلي بما هو مرآة إلى الخارج لا بما هو مفهوم في الذهن, والمتحقق في الخارج إنَّما هو الأفراد والمصاديق, فلا بُدَّ أنْ يرجع الإستصحاب دائماً في الموضوعات إلى استصحاب الفرد والمصداق الخارجي ولا معنى للإستصحاب الكلي فيها.

وأجيب عنه بوجوه؛ أحسنها هو أنَّ الإستصحاب بما هو تعبد وحكم شرعي يجري في الجامع بما هو مرآة للخارج, ولا وجه لجريانه في الخارج إبتداءً بلا توسط عنوان من العناوين, فلا فرق بين الكلي والجزئي حينئذٍ, فكما أنَّ العنوان التفصيلي يجري فيه

ص: 450


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص215.

الإستصحاب بما هو مرآة في الخارج, كذلك العنوان الإجمالي الكلي, وعليه؛ إنْ تمت أركان الإستصحاب ومصبّ التعبد في الواقع المرئي بعنوان تفصيلي يشار إليه، فهذا هو إستصحاب الفرد وإنْ كان مصبه الواقع المرئي بعنوان الجامع مشير إليه فهو من استصحاب الكلي على الرغم من وحدة الواقع من مرحلة الوجود العيني.

أمّا الجواب عنه بوجود الكلي في الخارج أي التعدد في الواقع الخارجي فيكون الكلي واقعاً سِعِيَّاً منحازاً عن واقعيات الأفراد تكون نسبته نسبة الأب الواحد إلى الأبناء كما يقول به الرجل الهمداني في وجود الكلي المذكور في المنطق فهو غير صحيح؛ لما ثبت في محله من أنَّ الكلي موجود بوجود أفراده, وإنَّ نسبته إليها نسبة الآباء, فلا إشكال في جريان الإستصحاب الكلي؛ سواء كان في الأحكام أم في الموضوعات إنْ تمت أركانه لشمول دليل حجية لهما.

الجهة الثانية: في بيان أقسام الكلي

وذلك فيما يصح إجراء الإستصحاب فيه وما لا يصح، ومردّ ذلك كله إلى التشكيك في توفر أركان الإستصحاب؛ من تعلق اليقين والشك بشيء واحد أو من ترتب أثر عملي عليه.

قال السيد الوالد قدس سره (1): المعروف أنَّ الإستصحاب الكلي أقسام ثلاثة؛ قسم منها يجري فيه استصحاب الكلي والجزئي معاً, وقسم آخر يجري فيه استصحاب الكلي فقط, وقسم ثالث لا يجري فيه استصحاب الكلي ولا استصحاب الجزئي, وزاد بعض المتأخرين قسماً آخر يأتي ذكره.

ص: 451


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص266.
القسم الأول من استصحاب الكلي

والكلام يقع في موارد:

المورد الأول: وهو نفس القسم الأول؛ وهو ما إذا كان المستصحب جزئياً خارجياً؛ موضوعياً كان أو حكمياً؛ فإنَّه يصح إجراء استصحاب نفس الجزئي كما يصح استصحاب الكلي المتحد معه وجوداً, كمن بال ثم شك في أنَّه توضأ أو لا, فإنَّه يصح له استصحاب الحدث البولي الجزئي الخارجي كما يصح له استصحاب كلي الحدث أيضاً, لأنَّ كل واحد منهما عين الآخر وجوداً وإنْ اختلفا مفهوماً.

ولا إشكال في جريان الإستصحاب في هذا القسم بعد العلم بوجود الكلي في ضمن الفرد المعين ثم شك في بقاء الكلي الناشئ من الشك في بقاء ذلك الفرد, وله أمثلة عديدة منها؛ المثال المتقدم, ومنها؛ ما إذا علم بوجود الإنسان في الدار للعلم بوجود زيد فيها ثم شك في بقاء زيد في الدار, فيلزم منه الشك في بقاء الإنسان الكلي لمكان الإتحاد بينهما خارجاً, ولا ريب في استصحاب كل واحد منهما, ويلزم منه وجود الآخر إنْ كان كل واحد منهما مورداً للأثر العملي وهذا واضح.

ولكن المحقق الخراساني قدس سره أثار إشكالاً هنا في حاشيته على الرسائل وحققه المحقق الإصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية, وهو إنَّه هل يغني استصحاب الفرد في إثبات أثر الكلي أو استصحاب الكلي في إثبات أثر الفرد؟ ولكن الصحيح أنَّ هذا الإيراد لا أثر عملي له في هذا القسم لمكان الإتحاد بينهما وإمكان إجراء الإستصحاب في كل واحد منهما -الفرد والكلي- فيترتب عليه الأثر المرغوب, نعم؛ لهذا البحث أثر في القسم الثاني الذي لا يمكن إجراء استصحاب الفرد فيه, فإنَّه يصح أنْ يقال أنَّ استصحاب الكلي يغني في ترتيب أثر الفرد, ومن أجل ذلك لا داعي لتفصيل الكلام فيه ونوكله إلى محله.

ص: 452

القسم الثاني من استصحاب الكلي

المورد الثاني: وهو نفس القسم الثاني؛ وهو الذي يجري فيه استصحاب الكلي دون استصحاب الفرد والجزئي؛ كما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بينطويل البقاء وقصير البقاء فيشك في بقاء الكلي بعد مضي زمان الفرد القصير على تقدير حدوثه للشك في ما هو الحادث.

وبعبارة أخرى: ما إذا لم يكن المستصحب متشخصاً خارجاً بل كان بحسب حدوثه مردداً بين فردين فلم يعلم الحادث منهما في الخارج, ولهذا القسم أمثلة كثيرة أيضاً:

1- الرطوبة الحادثة المرددة بين البول والمني؛ فإنَّ المكلف يعلم بحصول كلي الحدث لحصول فرده المردد بين الأصغر والأكبر, فإذا توضأ يتحقق لديه الشك في بقاء كلي الحدث؛ لاحتمال كون الحدث هو الأكبر الذي لا يزول بالوضوء, فقد التزم جمعٌ من الأعلام بجريان الإستصحاب في الكلي لتمامية أركانه فيه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء, فيشمله إطلاق دليل الإستصحاب, ويترتب على جريانه في الكلي الآثار المترتبة على وجوده, كحرمة مسّ المصحف لترتبها على عنوان المحدث إلى أنْ يأتي الرافع وهو الغسل.

2- موارد العلم الإجمالي عند ارتفاع أحد الطرفين.

وغير ذلك من الموارد التي لا يجري فيها استصحاب الفرد المشخص الخارجي, ولكن يجري فيها استصحاب الكلي, فنقول أنَّ الإحتمالات في المقام ثلاثة؛

فإمّا أنْ يجري الإستصحاب في الشخص والجزئي الخارجي من حيث أنَّه كذلك, فهو ممّا لا وجه له, لعدم اليقين السابق بحدوث الجزئي متشخصاً بالبولية أو المنوية.

وإمّا أنْ يجري الإستصحاب في الفرد المردد بين الفردين من حيث الترديد, ولا وجه له أيضاً لما سيأتي من أنَّ الفرد المردد من حيث هو كذلك لا تحقق له؛ لا خارجاً ولا ذهناً,

ص: 453

وإنَّما هو من الفرض العقلي الصرف كفرض الممتنعات, والمعروف عند العلماء من أنَّ التحقق مطلقاً لا تشخص له، فما لا تحقق له أصلاً كيف يتعلق به اليقين؟!.

وإمّا أنْ يجري الإستصحاب في الفرض الذهني؛ وهو غير صحيح, لعدم ترتب الأثر الشرعي عليه, لأنَّه إنَّما يتعلق بالموضوع إذا تحقق خارجاً ولا يكفي التحقق الفرضي.

فانحصر جريان الأصل في الكلي, وهو مطلق الحدث للعلم بتحققه؛ إمّا في الأصغر أو في الأكبر, فلو توضأ يشك في ارتفاعه فيستصحب بقاؤه, فيجب عليه الغسل أيضاً.

والمتحصل؛ إنَّ المقتضي لجريان الإستصحاب في الكلي موجود والمانع عنه مفقود.

وقد أشكل على جريان الأصل في الكلي بوجوه:الوجه الأول: ما ذكره في الكفاية(1) من أنَّه لا مجرى لاستصحاب الكلي أيضاً لعدم اليقين السابق بالنسبة إليه أيضاً, لأنَّ الكلي عين الفرد وهو موجود في ضمن فرده المردد, والمفروض كما تقدم عدم اليقين بتحقق شخص خاص من الفرد لأنَّه على أحد تقديريه مقطوع الإرتفاع بالوجدان, وعلى التقدير الثاني مقطوع العدم بالتعبد بضميمة الوجدان إلى الأصل والتعبد, وينتفي اليقين بالثاني، والفرد المردد في الذهن لا أثر له لو أمكن اليقين به.

ويرد عليه: إنَّه لا ريب في أنَّ الكلي عين الفرد, ولكن الفردية متقومة بأمرين؛ الذات المشتركة في جميع الأفراد المتحققة, والخصوصية التي يتميز بها كل فرد عن الآخر. وما لا يقين به هو الثاني دون الأول, فالشك في بقاء الكلي موجود بالبداهة, فإنَّ حدوث أصل الحدث في المقام معلوم بلا كلام, ونفي احتمال كون الحادث هو الأكبر بالتعبد لا يرفع الشك وجداناً في بقاء الكلي, فلا اختلال في ركني الإستصحاب.

ص: 454


1- . كفاية الأصول؛ ص406.

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأنصاري(1) وتبعه صاحب الكفاية (قدّس سرّاهما) من أنَّ استصحاب الكلي في حد نفسه وإنْ كان يجري لكنه مبتلى بالحاكم عليه, وذلك لأنَّه لو تحقق اليقين السابق بالنسبة إليه فالشك اللاحق منتفٍ عنه, لأنَّ الرطوبة مرددة بين البول والمني عند المكلف؛ فإذا توضأ يعلم حينئذٍ بارتفاع الحدث الأصغر ويشك في أصل حدوث الأكبر فتجري أصالة عدم حدوثه فيرتفع الشك في بقاء الكلي, وهذا الأصل حاكم على استصحاب الكلي, لأنَّ الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل, وأصالة عدم حدوث الفرد الطويل حاكمة على أصالة بقاء الكلي لما سيأتي من حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي.

وقد أجيب عنه بما يلي:

1- ما ذكر في الكفاية من أنَّه لا سببية ولا مسببية في البين لتوقفهما على المغايرة الوجودية وليس بين الكلي والفرد تغاير وجودي أصلاً, بل هما واحد وجوداً وإنْ اختلفا مفهوماً في العقل.

2- لو سلّم في كون بقاء الكلي مسبباً عن حدوث الفرد الطويل إلا أنَّ تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي إنَّما يكون فيما إذا كان الترتيب بينهما شرعياً, كما في الماء المشكوك كريته والثوب المتنجس المغسول فيه, فإنَّه باستصحاب كرية الماء ترتفع نجاسة الثوب شرعاً, والمقام ليس كذلك, فإنَّ1- وساطة تحقق الفرد لتحقق الكلي تكويني محض ولا دخل للشرع فيه أصلاً, وهو صحيح, وسيأتي مزيد بيان لهذا فيما يأتي إنْ شاء الله تعالى.

ص: 455


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص638.

3- ما ذكره المحقق الخراساني أيضاً من أنَّ الشك في بقاء الكلي وارتفاعه ليس مسبباً عن الشك في حدوث الفرد الطويل وعدم حدوثه, بل هو مسبب عن كيفية الحادث من أنَّه الفرد الطويل ليترتب عليه البقاء أو الفرد القصير ليترتب عليه الإرتفاع, ومن الواضح أنَّه لا أصل يعين كيفية الحادث لعدم الحالة السابقة وأصالة عدم حدوث الفرد الطويل لا تعيّن أنَّ الحادث هو القصير إلا بالملازمة.

4- ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ الأصل السببي المفروض في المقام مبتلى بالمعارض, وذلك لمعارضة أصالة حدوث الفرد الطويل بأصالة عدم حدوث القصير, ومع التعارض يكون الأصل المسببي جارياً؛ لعدم نهوض ما يصلح للحكومة عليه.

وأشكل على هذه الوجوه الأربعة, ولكن إذا أمعنّا النظر في الإشكالات نرى أنَّها غير واردة؛ ونحن نذكر بعضاً منها:

أما الأول؛ فقد أورد عليه بأنَّه من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب, فإنَّ أصالة عدم حدوث الفرد الطويل لو كانت مانعة عن استصحاب الكلي بناءً على السببية فهي مانعة حتى على القول بالعينية بطريق أولى, فالإشكال على هذا القول أشكل منه على القول بالسببية.

ويرد عليه بأنَّه لم يدَّعِ المحقق الخراساني قدس سره وحدة بقاء الكلي مع حدوث الفرد الطويل والعينية بينهما, بل أراد وحدة بناء الكلي وبقاء فرده, ومن الواضح أنَّ بقاء الفرد ليس من آثار الحدوث ومسبباته, بل لكل واحد منهما علة خاصة به, وليس الحدوث علة البقاء بلا ريب, فأصالة عدم الحدوث لا تكون من الأصول السببية بالنسبة إلى أصالة بقاء الكلي, فالإيراد نشأ من الغفلة من كلامه قدس سره .

ص: 456


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص418.

وأمّا الرابع؛ فقد أورد عليه بأنَّ العلم الإجمالي بتحقق الفرد المردد بين القصير والطويل؛ إمّا أنْ يكون مع كون الفردين داخلان في محل الإبتلاء, وإمّا أنْ يكون أحدهما وهو الفرد القصير خارج عن محل الإبتلاء. وفي الأول؛ يتعارض فيه الأصلان؛ لمنافاتهما للعلم الإجمالي, ومن مثل ذلك لا حاجة لاستصحاب الكلي أيضاً لتنجز الآثار الشرعية بواسطة العلم الإجمالي. وفي الثاني؛ لا أثر للعلم الإجمالي؛ لخروج أحد طرفيه عن محل الإبتلاء, ويجري حينئذٍ الأصل في الفرد الطويل بلا معارض فيعود حديث السببية والحكومة.وبالجملة؛ إنَّه في المورد الذي نحتاج فيه إلى استصحاب الكلي لا معارضة بين الأصول الموضوعية, وفي المورد الذي تتحق المعارضة فيه لا نحتاج إلى استصحاب الكلي فيه.

وكيف كان؛ فإن الوجه الثاني من الإشكالات على استصحاب الكلي غير وارد لما ذكرناه من الوجوه في ردّه فتدبر.

الوجه الثالث(1): انَّ وجود الكلي في ضمن أفراده ليس وجوداً واحداً بل وجودات متعددة بتعدد الأفراد, فكل فرد يتضمن حصة من الكلي غير الحصة الموجودة في الفرد الآخر, وعليه؛ يكون المتيقن من وجود الكلي غير المشكوك, وعلى هذا الأساس أنكروا استصحاب الكلي في القسم الثالث على ما سيأتي بيانه, وذلك بأنَّ المستصحب في محل الكلام هو وجود الكلي لا مفهومه وعنوانه, إذ لا أثر بالنسبة إليه كما عرفت آنفاً, ومن الواضح أنَّ المتيقن من وجود الكلي مردد بين الطويل والقصير, وهو من الفرد المردد الذي تقدم عدم جريان الإستصحاب فيه, ولكن الجواب عن هذا الإشكال سيأتي في البحث عن المفهوم المردد إنْ شاء الله تعالى.

ص: 457


1- . من الإشكالات.

الوجه الرابع: إنَّه لا كلية لاستصحاب الكلي, فإنَّه لو علم إجمالاً بنجاسة العباءة -مثلاً- وترددت النجاسة بين كونها في الطرف الأعلى أو الطرف الأسفل تم تطهر أحد الطرفين؛ فإنَّه لا ريب في صحة استصحاب كلي النجاسة في هذه الحالة, وأثر هذا الإستصحاب هو الحكم بنجاسة الملاقي للعباءة بطرفيها مع الرطوبة المسرية, مع أنَّ الفقهاء يقولون بأنَّ ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة, وحينئذٍ لا بُدَّ من القول؛ إمّا بعدم صحة استصحاب كلي النجاسة, أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة. وكل واحد منهما خلاف ما هو المعروف بين الفقهاء, وقد اشتهرت هذه الشبهة بالشبهة العبائية التي أثارها السيد حيدر الصدر قدس سره في الأوساط العلمية وقتئذٍ.

ويمكن الجواب عن هذا الإيراد إجمالاً بأنَّ أثر استصحاب كلي النجاسة إنَّما هو عدم صحة الصلاة في العباءة, وأمّا انفعال الملاقي لها فليس أثراً لها؛ لتوقف الإنفعال على الملاقاة للنجس المتشخص الخارجي كما عرفت في بحث الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة, وإنَّ استصحاب كلي النجاسة لا يثبت النجاسة في محل خاص وموضع معين حتى ينفعل الملاقي له, فلا إشكال في استصحاب أصل النجاسة لوجود المقتضي وفقْد المانع, والأثر المترتب عليه هو عدم صحة الصلاة, ولا مقتضي لانفعال الملاقي؛ لتوقفه على الملاقات للنجاسة الشخصية الخارجية وسيأتي مزيد بيان لهذه الشبهة ومناقشتها.

الإشكال الخامس: إنَّ التمسك بعموم دليل الإستصحاب في استصحاب الكلي يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية, لأنَّه مع احتمال كون الكليموجوداً في ضمن الفرد القصير الذي علم بارتفاعه لم يحرز كون نقض اليقين السابق إنَّما هو بالشك بل يحتمل أنَّه يكون باليقين.

وقد عرفت الجواب عن هذا الإيراد ممّا سبق ذكره من أنَّ اليقين بارتفاع الفرد القصير يقتضي اليقين بانعدام الطبيعي المحفوظ في ضمنه, لا الطبيعي المحفوظ في الفردين, أي

ص: 458

الجامع المشترك بينهما الذي كان متعلقاً لليقين فلا يحتمل انتقاض اليقين بانعدام أحد الفردين.

الإشكال السادس: لو التزمنا بجريان استصحاب الكلي فإنَّه يقال بلزوم التفصيل بين الأحكام والموضوعات فيجري في الأخيرة دون الأحكام, وذلك لأنَّ الإستصحاب في الأحكام الشرعية يقتضي تعلق الجعل بها بأنفسها, ومن الواضح أنَّ الكلي لا يمكن أنْ يتحقق من دون أنْ يكون متخصصاً بالفصل الخاص, فلا يمكن جعل الكلي بما هو كلي وجعل الكلي متخصصاً بخصوصية خاصة لا يتكفله دليل الإستصحاب, وعليه؛ فلا مجال لاستصحاب كلي الطلب عند دوران الأمر بين الوجوب والإستصحاب, وأمّا في الموضوعات فهي وإنْ لم تقبل الجعل الشرعي لكن المجهول فيها هو الأثر الشرعي المترتب عليها؛ فلا محذور من إجراء الإستصحاب في الموضوع الكلي إذا كان مورداً للأثر الشرعي فلا يرد عليه الإشكال المزبور في استصحاب كلي الحكم.

والحقُّ؛ إنَّ هذا البيان لا يختص بهذا القسم من استصحاب الكلي, مع أنَّه يرد على صاحب الكفاية؛ حيث جعل عنوان كلامه هو استصحاب الكلي في الأحكام ثم عطف عليه في آخر كلامه استصحاب الكلي في الموضوعات.

وكيف كان؛ فإنَّ الجواب عنه يظهر ممّا ذكرناه مكرراً من أنَّ جعل الحكم إعتبار يقبله العقلاء في كل مورد يصح تعلق الإعتبار به؛ سواء كان متعلقه الكليات أو الموضوعات, ففي المثال المزبور يتعلق الجعل الإعتباري بالجامع بين الوجوب والإستحباب, والمنشأ فيهما واحد وهو الطلب بداعي البعث وإيجاد الداعي وخصوصية الندب أو الوجوب ليست مقومة للمنشأ والمجعول وإنَّما هي تنتزع عن مبدأ الحكم المجعول؛ فإنْ كانت المصلحة لزومية ثبت الوجود وإذا كانت المصلحة غير لزومية يثبت الإستحباب, فالفرق

ص: 459

بينهما في المبدأ لا في الجعل والإنشاء؛ سواء كانت المصلحة واقعية كما في الأحكام الواقعية أم كانت ظاهرية كما في الأحكام الظاهرية؛ فلا مانع من إنشاء الطلب ظاهراً من دون أنْ يثبت له عنوان الوجوب أو الندب ويكون الجامع قابلاً للجعل والإنشاء والإعتبار ظاهراً.

ومن جميع ذلك يظهر صحة استصحاب الكلي في هذا القسم.

تتمة فيها أمور
الشبهة العبائية

الأمر الأول: في الشبهة العبائية

وهي التي تقدم ذكرها؛ وهي أنَّه لو تنجس أحد طرفي العباءة ولم يعلم أنَّه الأسفل أو الأعلى وغسل الأسفل مثلاً؛ فإنَّه يحدث عند المكلف شكَّ في بقاء نجاسة الطرف الأعلى فيجري استصحاب كلي النجاسة بلا إشكال من أحد, إلا أنَّه إذا لاقى شيء كِلا طرفيه مع الرطوبة المسرية فإنَّ الطرف الأسفل الذي تطّهر بالغسل لا يوجب النجاسة وجداناً, كما أنَّ ملاقي الطرف الأعلى لا يكون نجساً؛ لما هو المعروف من أنَّ ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة لا يوجب النجاسة, وعدم النجاسة يتنافى مع وجود النجاسة في العباءة بحكم التعبد الإستصحابي فلا بُدَّ إمّا من الإلتزام بعدم جريان استصحاب كلي النجاسة أو الإلتزام بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة, وكِلا الأمرين لم يلتزم بهما العلماء.

وأجيب عن هذه الشبهة بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره السيد الوالد قدس سره ممّا تقدم ذكره من أنَّ الأثر المترتب على استصحاب كلي النجاسة هو عدم صحة الصلاة في العبادة, وأمّا نجاسة الملاقي وعدمها فهي تتوقف على ملاقاة النجس العيني الخارجي مع الرطوبة المسرية, ولا يكفي ملاقاة النجاسة المشكوكة في نجاسة الملاقي, وهو ليس من الأثر المترتب على استصحاب الكلي كما هو واضح, لأنَّ نجاسة الملاقي يتوقف على إحراز الملاقاة وإحراز النجاسة في الملاقى

ص: 460

-بالفتح-, والثاني؛ مفقود؛ إذ لا يمكن إثباته باستصحاب النجاسة الكلية المرددة بين الطرف الأعلى والأسفل.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) على ما ورد في تقريرات الكاظمي قدس سره من أنَّ محل الكلام في استصحاب الكلي ما إذا كان المتيقن السابق بحقيقته وهويته مردداً بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الإرتفاع, وأمّا إذا كان الإجمال في محل المتيقن وموضوعه فلا يكون استصحابه من استصحاب الكلي بل يشبه استصحاب الفرد المردد, كما لو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد بين ان يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ثم تهدم الجانب الغربي واحتمل تلف الحيوان لاحتمال كونه في الجانب المتهدم, وكما لو علم بوجود درهم خاص لزيد في عشرة دراهم ثم فقد أحد الدراهم واحتمل أنْ يكون المفقود هو درهم زيد؛ فإنَّه لا يجري الإستصحاب في المثالين, لأنَّ المتيقن أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه, ولكن الترديد في محله وموضعه, فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي التردد, والمقام من هذا القبيل, لأنَّ التردد في النجاسة بلحاظ محلها لا حقيقتها.

الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأعلام(2) من أنَّ إسناد النجاسة إلى العباءة اسناد مسامحي, فإنَّ تمام العباءة ليس متنجساً وإنَّما هو أحد طرفيها, فالفرد المتنجس مردد بين فردين, فيرد على جريان الإستصحاب في النجاسة في المثال كونه من استصحاب الفرد المردد, لأنَّ الأثر الشرعي مترتب على النجس بنحو العموم الإستغراقي, أي أنَّ الموضوع هو كل فرد من أفراد النجس وليس مترتباً على كلي النجس, فالمستصحب في المثال هو الفرد الواقعي

ص: 461


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص422.
2- . منتقى الأصول؛ ج6 ص176.

للمتنجس المردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الإرتفاع ولا معنى لاستصحاب كلي المتنجس لإثبات الإنفعال, إذ لا مجال لاستصحاب الفرد المردد.

وعلى فرض قبول جريان الإستصحاب في الفرد المردد في نفسه أو جريانه في كلي النجس الموجود فإنَّه لا ينفع في ترتب الإنفعال, إذ أنَّ الإنفعال يترتب على ملاقاة النجس الواقعي, وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء النجس بنحو الكلي أو الفرد المردد إلا بالملازمة, فهو نظير استصحاب بقاء الكر في الحوض لإثبات كرية الماء الموجود فيه, فإنَّ استصحاب بقاء النجس لا يثبت نجاسة الموجود الملاقي إلا على القول بالأصل المثبت.

والحقُّ؛ إنَّ الإشكال ظاهر في كل واحد من الوجهين الثاني والثالث مع إمكان إرجاع أحدهما إلى الآخر، وجعلُ المقام من الفرد المردد بعيدٌ، مع أنَّ الإشكال في بعض الأمثلة التي ذكروها في المقام واضح.

والصحيح؛ ما ذكرناه من أنَّ استصحاب كلي النجاسة من أجل عدم جواز الدخول في الصلاة، ولا إشكال في جريانه, وأمَّا إستصحابه من أجل نجاسة الملاقي فإنَّه لا يجري, لأنَّ عدم جواز الدخول في الصلاة مترتب على وجود النجس بمفاد كان التامة, فالشبهة العبائية مردودة على كلِّ حال, كما أنَّه لا تكون إشكالاً على استصحاب الكلي.

الفرد المردد

الأمر الثاني: في الفرد المردد

ذكرنا في طيّ مباحثنا الأصولية أنَّ الفرد المردد لا وجود له لا ذهناً ولا خارجاً, فلا يترتب عليه حكم أصولي أو حكم فقهي كما هو مفصل في الفقه, إلا أنَّ الأصوليين ذكروا وجوهاً لذلك ينبغي التعرض لها؛ لما يترتب عليه من الثمرة العلمية والفقهية, وقبل ذكرها لا بُدَّ من التنبيه على بيان الفرق بين الفرد المردد والكلي والمستصحب الجاري في كلّ واحد منهما, فإنَّ فيهما جهة اشتراك وجهة افتراق؛ أمّا جهة الإشتراك فهي عدم تميز المستصحب وعدم تعينه ضمن أحد الفردين.

ص: 462

وأمّا الجهة الفارقة فهي أنَّ المقصود في استصحاب الكلي ترتيب الأثر على العنوان الجامع بين الفردين كالأثر المترتب على الحدث الجامع بين الأصغر والأكبر, مثل حرمة مسّ كتابة المصحف الشريف.

وأمّا الإستصحاب في الفرد المردد فإنَّ المقصود منه ترتيب الأثر على كلٍّ من الفردين بخصوصيته؛ سواء كان للكلي الجامع أثراً أم لم يكن, ولكن لم يلحظ في الإستصحاب ولم يقصد ترتيبه.

وكيف كان؛ فإنَّه قد منع من جريان الإستصحاب في الفرد المردد, كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء واستدلوا بأمور:

الأول: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ الإستصحاب لا يجري في الفرد المردد لفقد ركنه فيه وهو اليقين التفصيلي بالحدوث, ففي مثال الحدث المذكور آنفاً فإنَّ العلم الإجمالي إنَّما تعلق بالجامع بين الفردين بلا سراية له إلى الخارج, فهو علم بالجامع وشك في كل فرد فلا يمكن إجراء استصحاب فيه لانتفاء أحد أركانه.

وفيه:

1- إنَّه مبني على أنَّ العلم الإجمالي يتعلق بالجامع بلا سراية له في الخارج؛ وهو مردود, لأنَّ العلم الإجمالي وإنْ تعلق بالجامع ولكنه يرتبط بالخارج ويسري إليه بحيث يعلم الإنسان بالتفصيل بوجود ما ينطبق عليه الجامع في الخارج فيكون للمعلوم بالإجمال وجود واقعي معين, وإنَّما التردد لدى نفس العالم في كونه هذا وذاك فلديه علم تفصيلي بالوجود الشخصي لكن بنحو مجمل, وهذا هو السبب في جعله علماً

ص: 463


1- . نهاية الدراية (ط.1)؛ ج3 ص71.

إجمالياً فيكون الفرد الواقعي على واقعه المردد بين فردين خاصين متعلقاً للعلم بهذا المقدار فيكون مجرى الإستصحاب, فهو علم تفصيلي ولكن المعلوم مردد ومحدود.

2- لا وجه لدعوى أنَّ المراد باليقين في باب الإستصحاب هو خصوص اليقين التفصيلي لإطلاق أدلة الإستصحاب الشامل لليقين التفصيلي والإجمالي بعد فرض منجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي.

الثاني: ما أفاده المحقق النائيني قدس سره (1) من عدم تحقق الشك في البقاء, فإنَّ الفرد المردد على واقعه غير مشكوك البقاء, لأنَّه على أحد تقديريه متيقن الزوال؛ فكيف يقال أنَّه مشكوك البقاء على واقعه وهو كِلا تقديريه.

وأورد عليه المحقق الإصفهاني قدس سره بأنَّ اليقين بالفرد المردد من الحدث -مثلاً- مرجعه إلى اليقين بموجود جزئي؛ إمّا أنْ يكون منطبقاً على الحدث الأصغر, أويكون منطبقاً على الحدث الأكبر؛ فيحصل لديه علم بالتلازم بين بقائه وكونه حدثاً أكبر, وحيث يحتمل أن ْيكون حدثاً أكبر فهو يحتمل البقاء بعد الوضوء؛ فلا وجه لنفي الشك في البقاء.

وأورد عليه بعض الأعلام من أنَّ ما كان متعلقاً لليقين -وهو الموجود المبهم- على ما هو عليه ليس متعلقاً للشك, لأنَّه ليس هو مشكوك بهذه الصفة بحيث يستطيع أحد أنْ يشير إليه ويقول إنَّه مشكوك, نعم؛ الشك الفعلي موجود بالبداهة ولكن هذا الشك لا ينفع في جريان الإستصحاب لأنَّه فاقد لليقين بالحدوث فما يتعلق اليقين بحدوثه لا شك في بقائه, وما يشك في بقائه لا يقين بحدوثه؛ هذا على تقدير العلم بارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث كمثال الحدث المردد بعد الوضوء, وأمّا مع الشك في ارتفاع الفرد القصير على تقدير كونه هو الحادث, كما إذا شك في صدور الوضوء منه في مثال الحدث المردد فلا يأتي

ص: 464


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص126.

البيان المذكور, فإنَّ الشك يتعلق ببقاء الفرد المردد على واقعه فيصح أنْ يقال أنّه يشك في بقاء الحدث المردد على أي تقدير فلا تغفل الفرق بين الصورتين.

الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ في الفرد المردد لا يتعلق اليقين والشك بموضوع ذي أثر شرعي؛ لما عرفت سابقاً من أنَّه يعتبر في صحة التعبد بشيء في مورد اليقين والشك أنْ يكون موضوعاً للأثر الشرعي, وبما أنَّ الأثر الشرعي في مثال المقام إنَّما هو للمصداق بما له من العنوان التفصيلي كصلاة الجمعة وصلاة الظهر ونحوها, ومثل ذلك لا يمكن إجراء الأصل فيه لعدم اليقين بالحدوث, وأمّا العنوان العرضي الإجمالي كعنوان المردد فهو ليس بذات أثر شرعي كما هو واضح, وقد رتبّ على ذلك أمرين:

أحدهما؛ عدم جريان الإستصحاب في الفرد المردد لو كان الشك في البقاء ناشئاً عن الشك في ارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث, ولا يختص بصورة العلم بارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث لاشتراكهما في ملاك المنع, وهو عدم الأثر الشرعي للعنوان الإجمالي.

والآخر؛ إنَّ ملاك المنع لا يختص بالإستصحاب بل يعم سائر الأصول, وعليه؛ فلو صلى عند اشتباه القبلة إلى أربع جهات وعلم بعد الفراغ منها بفساد صلاة معينة منها فإنَّه لا يجوز الإكتفاء بالصلوات الباقية في إفراغ الذمة؛ فتجب عليه إعادة تلك الصلاة للشك في فساد الصلاة الواقعية منها, ولا يمكن إجراء قاعدة الفراغ في العنوان المردد, وأمّا لو علم بفساد واحدة مرددة منها فإنَّه يمكن إجراء قاعدة الفراغ في كل واحدة منها بعينها للشك في صحتها على تقدير كونها إلى القبلة فتجري القاعدة بهذا التقدير, ولا ضير في العلم بمخالفة أحد هذه الأصول للواقع؛ لاحتمال كون الفاسدة هي المأتي بها إلى غير القبلة فلا علم بالمخالفة العملية.

ص: 465


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص114.

وما ذكره متين جداً وهو الموافق للذوق العرفي, باعتبار أنَّ الآثار مطلقاً إنَّما تترتب على الموجود الشخصي لا العنوان المردد, ومحل القول أنَّ الفرد المردد تارة؛ يلحظ من حيث المفهوم, وأخرى؛ من حيث المصداق.

أمّا الأولى؛ فإنَّ المفهوم الذهني لا يترتب عليه أي أثر حتى يبحث في جريان الأصل أو القاعدة فيه, فهو خارج عن مورد كلام العلماء, وأما من حيث المصداق؛ فلا ريب أنَّ الشيء ما لم يتحقق لم يتشخص, لأنَّ التحقق مساوق للتشخص, وبما أنَّ الفرد المردد من حيث هو كذلك لا تحقق له فلا وجود له؛ لا خارجاً ولا ذهناً.

ولعل ما ذكره العَلَمان؛ المحقق الإصفهاني والنائيني (قدس سراهما) إنَّما يرجع إلى نفي الوجود الذهني للفرد المردد والخارجي له ولو فقدت عباراتهم عن ذلك, فلا يكون له وجود ذهني ولا وجود خارجي ليترتب عليه الأثر الشرعي, فيمكن التوافق بين الآراء الثلاثة؛ وهذا هو الذي أردنا إثباته في المقام وما تقدم.

الأمر الثالث: ذكر الأصوليون مثالاً لهذا القسم من استصحاب الكلي الرطوبة الخارجة المرددة بين البول والمني وله حالات ثلاث؛ فإمّا أنْ تكون الحالة السابقة على خروجها الطهارة, وإمّا أنْ تكون الحالة السابقة الحدث الأصغر, وإمّا أنْ لا يعلم بها أصلاً.

أمّا الحالة الأولى؛ فإنَّه يجب الإحتياط فيها بالجمع بين الوضوء والغسل؛ لاستصحاب كلي الحدث كما عرفت مفصلاً.

وأمّا الحالة الثانية؛ فإنَّه يصح الإكتفاء بالوضوء؛ لأصالة بقاء الحدث الأصغر وعدم حدوث الأكبر.

وأمّا الحالة الثالثة؛ فإنَّه يجب الإحتياط بالجمع بين الوضوء والغسل فيها أيضاً؛ لاستصحاب كلي الحدث كما تقدم بيانه.

ص: 466

هذا كله فيما إذا ثبت الأثر للجهة المشتركة كما هو المفروض, أمّا إذا قلنا بأنَّ ظاهر الأدلة هو التنويع في الأثر؛ بأنْ يكون أثر كل نوع غير أثر النوع الآخر بحيث يرجع إلى المتباينين أو الأقل والأكثر ثبوتاً, فيكون من القسم الثالث الذي لا يجري فيه الإستصحاب كما يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

ويمكن أنْ تكون الرطوبة المرددة بين البول والمني من هذا القبيل؛ فإنَّ الجهة المشتركة بينهما وإنْ كانت هي النجاسة فقط, أمّا الحدثية فإنَّ أثرها من المتباينين, ولعله من أجل ذلك كله وقع الخلاف بين الأعلام في جعل الرطوبة المرددة من الفرد المردد أو جعلها من الكلي كما تقدم تفصيل ذلك فراجع.

هذا كله في القسم الثاني من إستصحاب الكلي.

القسم الثالث من استصحاب الكلي.

وهو الذي لا يجري فيه الإستصحاب مطلقاً؛ لا في الكلي ولا في الفرد, كما إذا علم بحدوث الفرد وعلم بارتفاعه ولكن شك في حدوث فرد آخر؛ إمّا قبل ارتفاعه أو مقارناً له, أو شك في تبدله بعد الإرتفاع إلى فرد آخر مخالف له من حيث المرتبة لا من حيث الذات, وقد مثّل للأخير بالألوان, كما إذا علم بالسواد وعلم بارتفاعه وشك في تبديله إلى اللون الأخف, ومثّل له أيضاً بما إذا علم بحدوث الوجوب وارتفاعه وشك في تبدله إلى الندب؛ فالصور ثلاثة.

والمعروف عدم جريان استصحاب الكلي في الجميع؛ لاختلاف القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفاً, بل عقلاً أيضاً, فإنَّ الكلي وإنْ كان عين الفرد ولكن ما علم بحدوثه علم بارتفاعه وغيره مشكوك الحدوث, فما علم بارتفاعه لا يجري فيه أستصحاب بقاء ما حدث للعلم بالإرتفاع, وما شك في حدوثه يرجع فيه إلى استصحاب عدم حدوثه لأنَّ وجود الكلي

ص: 467

يتعدد بتعدد أفراده, فالشك في الحقيقة ليس شكاً في بقاء ما هو المتيقن بل في الحدوث, ولا يجري الإستصحاب في مثل ذلك, وهو واضح لا إشكال فيه, لكن وقع الخلاف في بعض أمثلة الصورة الأخيرة التي كان الفرد المشكوك حدوثه ما يعدّ من مراتب الفرد المعلوم زواله, كما إذا كان الكلي من المقولات التشكيكية كالألوان القابلة للشدة والضعف, مثل ما إذا علم بثبوت كلي السواد في ثوب لاتّصافه بمرتبة شديدة منه, ثم علم بزوال تلك المرتبة الشديدة وشك في تبدلها إلى مرتبة ضعيفة منه أو زوالها بالمرة وحدوث لون آخر مكانه, أو ما ذكرناه من أنَّه إذا علم بحدوث الوجوب وعلم بارتفاعه وشك في حدوث الندب مكانه أو تبدله إليه؛

فقد ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره (1) إلى إمكان إجراء الإستصحاب في هذه الصورة؛ باعتبار أنَّ المرتبة الضعيفة التي تبدل إليها الفرد المتيقن ليست فرداً مغايراً للأول بنظر العرف, فيكون ثبوتها بقاءً للكلي, فالشك فيها شك في البقاء والإرتفاع؛ فيجري الإستصحاب بلا مانع, ووافقه المحقق الخراساني قدس سره (2) في الكبرى ولكن أشكل عليه صغروياً؛ حيث اختار في المثال الثاني الذي ذكرناه عدم جريان استصحاب الوجوب؛ باعتبار أنَّ الندب ليس من مراتب الوجوب, فإنَّه وإنْ كان مرتبة ضعيفة من الطلب فيكون اختلافه مع الوجوب من جهة شدة الطلب وضعفه, إلا أنَّه يعدّ فرداً للحكم مغايراً للوجوب بنظر العرف, فمع العلم بزوال الوجوب والشك في تبدله إلى الندب لا يمكن إجراء الإستصحاب في كلي الطلب, لأنَّ المدار في الإستصحاب على النظر العرفي لها.

ص: 468


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص645.
2- . كفاية الأصول؛ ص407.

وذكر السيد الوالد قدس سره (1) في بيان ذلك من أنَّه لم يثبت كون الوجوب والندب من مراتب الطلب من حيث الشدة والضعف إلا على القول بأنَّ الوجوب مركب من الطلب والمنع من الترك, والندب مركب من الطلب والترخيص في الترك, وهو ممّا لم يثبت بدليل؛ هذا بناءً على كونهما من الأعراض كما ذهب إليه القدماء, وأمّا بناءً على أنَّ الأحكام كلها -ومنها الوجوب والندب- من الأمور الإعتبارية وهي لا تقبل الشدة والضعف, وعلى فرض التنزل فإنَّهما مرتبتان بسيطتان من الطلب متفاوتان في الشدة والضعف, فزوال الوجوب يوجب انعدام تلك المرتبة رأساً, وتحقق الندب يوجب ثبوت مرتبة أخرى وهي مشكوكة فيرجع فيها إلى الأصل لا استصحاب كلي الطلب, فيختلفان دقةً, وعلى فرض التنزل فانَّه اختار ما ذهب إليه المحقق الخراساني من اختلاف الوجوب والندب بالنظر العرفي وأدلة الإستصحاب منزلة على العرف, فتكون هذه الصورة أيضاً كغيرها في اختلاف القضية المشكوكة مع المتيقنة؛ فإنَّ الجميع يتَّفقون على ذلك وإنْ وقع الخلاف في بعض الصغريات كما في المثال المتقدم.

القسم الرابع من استصحاب الكلي

والذي ذكرنا أنَّه قال به بعض الأصوليين(2)؛ وهو: ما إذا علم بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على واحد فزال أحدهما قهراً فشك المكلف في بقاء الكلي للشك في أنَّ العنوان الآخر نفس العنوان الزائل وجوداً أو لا, وقد ضرب له أمثلة كثيرة:

منها؛ ما إذا علم بوجود القرشي في الدار وعلم بوجود العالم أيضاً وشك في أنَّ العالم عين القرشي أو غيره, ثم علم بزوال العالم؛ فإنَّه يشك في بقاء القرشي في الدار لاحتمال أنَّه نفس العالم فيكون قد خرج أو غيره حتى يكون باقياً.

ص: 469


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص270.
2- . منتقى الأصول؛ ج6 ص180-181.

ومنها؛ ما إذا كان متطهراً ثم توضأ من باب الوضوء التجديدي, وأحدث وشك في أنَّ وضوءه كان بعد الحدث أو قبله؛ فهو فعلاً يشك في بقاء الطهارة الموجودة حال الوضوء الآخر.

ومنها؛ ما إذا كان جُنباً فاغتسل, ثم رأى منياً في ثوبه وشك في أنَّه من الجنابة التي اغتسل منها أو هي جنابة جديدة, فهو يعلم بالجنابة حال خروج المني ويشك في بقائها فعلاً.

وغير ذلك؛ ففي جميعها يشك في بقاء الكلي, والكلام وقع في استصحابه؛ فذهب البعض إلى جريان الإستصحاب فيه لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء فيستصحب الطهارة الموجودة حال الوضوء الآخر لليقين بها والشك فيبقائها, وهكذا يستصحب بقاء الجنابة المتيقنة عند خروج المني المرئي بها في الثوب.

ولكن ذهب الفقيه الهمداني قدس سره (1) في كتاب الطهارة من مصباحه إلى التفصيل بين العلم بوجود فردين وشك في تعاقبهما كمثال الحدث, وبين ما إذا لم يعلم إلا بوجود فرد واحد وشك في فرد آخر لاحتمال انطباق العنوانين على فردٍ واحد كمثال الجنابة والعالم والقرشي؛ فالتزم بجريان الإستصحاب في الأول دون الثاني.

وأشكل عليه بأنَّه لا فرق بين الصورتين في جريان الإستصحاب؛ لتمامية أركانه فيهما, لليقين السابق بوجود الكلي والشك في بقائه في كلتيهما.

ولكن الصحيح ما ذكره المحقق الهمداني قدس سره ؛ ففي صورة التعاقب يدخل في القسم الثاني من استصحاب الكلي, لأنَّه بانتفاء أحد الفردين يشك في انتفاء الفرد الآخر, فالمرجع هو استصحاب الكلي, بخلاف الصورة الثانية؛ فإنَّ المرجع في الفرد المشكوك أصالة العدم. ولكن يبقى الكلام في هذا القسم المدّعى؛ فإنَّ الأمثلة المذكورة يمكن إدراجها في أحد القسمين الأولين؛ فلا ثمرة تترتب على هذا القسم المدّعى إلا تطويل الكلام فتنبّه ولا تغفل.

ص: 470


1- . مصباح الفقيه (كتاب الطهارة)؛ ج3 ص169-170.
التنبيه الرابع:في استصحاب الأمور التدريجية
اشارة

التنبيه الرابع(1): في استصحاب الأمور التدريجية

ذكرنا فيما تقدم أنَّه يعتبر في الإستصحاب إتّحاد موضوع الشك واليقين ليكون الحكم فيهما من الحكم على الموضوع الواحد, وإلا فإنَّه يكون من إسراء حكم ثابت لموضوع إلى موضوع آخر. فإنَّ الموجودات على نحوين؛

الموجودات القارة؛ وهي التي تتحقق جميع أجزائها في آن واحد, مثل زيد والنجاسة والطهارة.

والموجودات غير القارة؛ أي التدريجية والسيالة؛ وهي التي لا يكون تحقق واقعي لجمبع أجزاءها وفي آن واحد, بل يكون وجودها تدريجياً؛ بحيث يوجد كل جزء في ظرف انعدام ما قبله, كالمشي والكلام ونحو ذلك.

فما ذكرناه من اتّحاد الموضوع في الأمور القارة واضح, وأمّا ما لا قرار فيه فقد وقع الإشكال في جريان الإستصحاب فيها, وهو ينشأ من أنَّ حال اليقين فيها غير حال الشك, كالزمان والزمانيات بل المتدرجات مطلقاً ممّا لا ربط لكل جزء من سابقه بلاحقه, فيكون كل جزء محفوفاً بعدمين.

فالإشكال فيها إنَّما ينشأ من عدم تمامية أركان الإستصحاب فيها, وقد تصدى الأصوليون للجواب عن هذا الإشكال؛ فذكر معظمهم أنَّ الإشكال مبني على كون الإتّحاد بحسب الدقة العقلية, وأمّا إذا كان بنظر العرف فلا إشكال؛ لأنَّ العرف يحكم بأنَّ لجميع المتدرجات وحدة عرفية اعتبارية, كاليوم والليلة والأسبوع والشهروالسنة بل القرن والدهر ونحوها, وكذا جريان الدم والماء ونحوها من السيالات, وكذا في المشي والتكلم ونحوها من المتدرجات؛ فإنَّه يصحّ الإستصحاب فيها؛ لتحقق الوحدة العرفية للمستصحب من حيث اليقين والشك المتعلقين به؛ وهو صحيح في المتدرجات والسيالات والزمان

ص: 471


1- . من المبحث الرابع؛ تنبيهات الإستصحاب.

والزمانيات مطلقاً, وهو متين في مطلق الزمان والزمانيات كما عرفت؛ إلا أنَّه قد اختص استصحاب الزمان بإشكالات أخرى غير ما ذكرناه:

الإشكال الأول: عدم إتّحاد الموضوع في اليقين والشك كما تقدم بيانه, والجواب ما تقدم بيانه من أنَّ المدار في الإستصحاب هو الصدق العرفي في الموضوع, وهو ثابت في الزمان أيضاً وإنْ كانت آناته مندرجة من الوجود بحيث يتقوم بالإنصرام والتجدد, لكن له وحدة عرفية كالليل والنهار ونحو ذلك؛ فيجري الإستصحاب لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث والشك من البقاء في موضوع واحد عرفي, وحينئذٍ؛ يكون رفع اليد عن المتيقن في طرف الشك يكون من نقض اليقين بالشك.

الإشكال الثاني: من ناحية الشك في البقاء, لأنَّ الإستصحاب مفاده التعبد بالبقاء في ظرف الشك, أي التعبد ببقاء الموضوع, والبقاء عبارة عن الوجود في الآن الثاني, وهذا المعنى لا يتصور في الزمان, لأنَّ الموجود في الزمان الثاني غير الموجود في الزمان الأول.

ويمكن الجواب عنه:

أولاً: إنَّ المأخوذ في دليل الإستصحاب (لا تنقض اليقين بالشك) أي الشك في وجوده المتأخر بعد اليقين بوجوده السابق, وهو متحقق في الزمان عرفاً ولم يؤخذ فيه التعبد بالبقاء, وإنَّما ذكره الفقهاء والأصوليون في كلماتهم.

ثانياً: إنَّ الوجود في الآن الثاني لم يؤخذ في مفهوم البقاء, وإنَّما هو لازم له في ما يقبل الوجود في الزمان كالزمانيات, وأمّا نفس الإنسان فلا يكون بقاؤه ملازماً لذلك؛ فليس مفهوم البقاء فيه إلا الإستمرار والدوام؛ ومن هنا أطلق البقاء على المجردات والذات المقدسة الربوبية.

الإشكال الثالث: من جهة أنَّ الشك في الزمان إنَّما يكون دائماً من ناحية الشك في الإنتهاء والغاية, لأنَّ الشك في الأمور التدريجية تارة؛ ينشأ من الشك في حصول ما يمنع من

ص: 472

استمراره مع قابلية المحل للإستمرار في نفسه, وأخرى؛ ينشأ من الشك في حصول غايته ومنتهاه, كما إذا علم بأنَّ المدة المخصصة لعمل شخص هي ساعة, ولكن حصل الشك في انتهاء الساعة, والشك في الزمان من قبيل الثاني؛ فإنَّ الشك في بقائه ينشأ من الشك في حصول غايته وانتهاء أمده, وعليه؛ فلو شك في بقاء النهار بمعنى وجوده في اللاحق فإنَّه يرجع إلى الشك في انتهائه, ولا يتصور الشك في البقاء بالنسبة إلى الزمان, لأنَّ الوجود اللاحق مسبوق بالعدم وليس له حالة سابقة بل هو مشكوك الحدوث, نعم؛ ذات وجود النهار فإنَّه ممّا لا شك فيه.وبعبارة أخرى: إنَّ متعلق الشك ليس بقاء النهار والآن الواقع بين الحدّين, بل متعلق الشك هو كون هذا الآن هو في النهار أو ليس بنهار.

ويمكن الجواب عنه بعد فرض الوحدة العرفية وكون الآنات هي بمنزلة الموضوع الواحد الإعتباري -النهار- بأنَّه لا وقع لهذا الإشكال فإنه يصير الزمان كالمتدرجات, فلا إختصاص لهذا الإشكال به ولا وجه لما ذكره بعض الأصوليين من أنَّ هذا الإشكال ممّا لا واقع له.

الإشكال الرابع: ما ذكره بعضٌ من أنَّ الزمان كالنهار -مثلاً- تارة؛ يؤخذ كونه موضوعاً للحكم, فإنَّ استصحابه يكون مجدياً في إثبات الحكم, وأخرى؛ يؤخذ النهار قيداً لمتعلق الحكم, كالصوم في النهار والصلاة في الأوقات الخاصة بها ونحوهما, فإنَّ الشك في بقاء هذه الصورة في النهار لا يجري فيه استصحاب النهار لإثبات وقوع الإمساك في النهار, وبما أنَّ القسم الأول قليل والأكثر في استصحاب الزمان هو الثاني فمن أجل ذلك تقل الفائدة في استصحاب الزمان الخاص.

ص: 473

وأجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ الاشكال المزبور لم يتبين فيه المحذور المترتب على استصحاب الزمان سوى ما ذكره من أنَّه قليل الفائدة, وهو لا يوجب بطلان الإستصحاب من أصله في الزمان الخاص مع أنَّه غير صحيح, لأنَّه يمكن تحصیل الفائدة فيه, فإنَّ استصحاب وجود النهار يثبت وجوب الصوم, فيصحّ أنْ يمسك المكلف حينئذٍ رجاءً, ولو لم يحرز أنَّ الزمان نهار فإنَّه إنْ كان نهاراً فقد امتثل وإلا فلم يأتِ بشيء يضر صيامه فلا يكون الإستصحاب عديم الفائدة, فالعمل الإحتياطي قد ترتب على استصحاب النهار وهو أثر عملي واضح, أو نقول بأنَّه إنْ التزمنا بأنَّ الفائدة في الإستصحاب تنجيز الواقع المجهول فلا إشكال أيضاً في أنّ مرجعه إلى بيان المؤاخذة على تقدير ثبوت الواقع, ومعه لا يشترط إحراز ثبوت الواقع بل احتماله يكفي في الإندفاع إلى العمل, وعليه؛ يكفي إستصحاب وجود النهار بلا حاجة إلى إحراز كون الإمساك في النهار, لأنَّ مرجعه تنجيز الحكم بوجوب الإمساك على تقدير ثبوته في الواقع؛ حتى لو لم يتكفل إثبات الحكم, فيجب حينئذٍ الإمساك فراراً عن العقاب المحتمل؛ لاحتمال ثبوت الحكم باحتمال بقاء النهار.

نعم؛ إذا كان المبنى في الإستصحاب كون المجعول فيه هو المتيقن كجعل المؤدى في الأمارات فإنَّ دليل الإستصحاب حينئذٍ يتكفل بجعل حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي, وهو وجوب الإمساك, فإنَّه حينئذٍ قد يشكل الأمر لأنَّ الحكم الواقعي هو وجوب الإمساك المقيد بكونه في النهار -مثلاً-, وهذا ممّا لا يمكن إثباته في مرحلة الظاهر باستصحاب بقاء النهار؛ فإنَّه بعد عدم إحراز أنَّ الزمان المشكوكالذي فيه هو من النهار أو من الليل لا يحرز أنَّ الإمساك في النهار فعلاً هو المقدور؛ لاحتمال كونه من الليل, واستصحاب بقاء النهار لا يثبت أنَّ هذا الآن نهار, فيكون ثبوت وجوب الإمساك في

ص: 474

النهار محالاً, لأنَّه تكليف بأمر لا يعلم كونه مقدور للمكلف, فالإشكال المزبور يبتني على هذا المبنى في الإستصحاب فقط دون غيره, ولكن يمكن ردّه أيضاً بما ذكرنا من أنَّه حتى على هذا المبنى لا يمكن نفي الإحتياط في الإمساك حينئذٍ, مع أنَّه قد عرفت أنَّ هذا المبنى غير تام في حد نفسه.

الوجه الثاني: ما أشار اليه المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ الزمان لم يؤخذ قهراً في متعلق الحكم أصلاً, وإنَّما هو شرط لأصل ثبوت الحكم, فهو متعلق بالطبيعة بلا تقيُّد وقوعها في الزمان الخاص, وعليه؛ يكون الزمان موضوعاً للحكم, فيثبت الحكم باستصحاب موضوعه, ولا قيمة إلى كون هذا الآن نهاراً أو ليس بنهار, وهو صحيح إنْ لم نقل بأنَّه مخالف لظواهر الأدلة, مثل أدلة اشتراط الوقت في الصلاة أو ظاهر الآية الشريفة ولزوم كون الصوم في شهر رمضان, قال تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(2), ولكن استفادة شرطية لأصل ثبوت الحكم من الأدلة ليس ببعيد.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق المزبور قدس سره أيضاً من أنَّه كما يمكن استصحاب بقاء النهار بفرض الوحدة العرفية بين الأجزاء المتدرجة في الوجود؛ كذلك يمكن استصحاب نهارية الموجود, فإنَّ وصف النهارية أيضاً من الأوصاف التدريجية كذات الموصوف ويكون حادثاً بحدوث الآنات وباقياً ببقائها, فإنْ اتَّصف بعض هذه الآنات بالنهارية وشك في الزمان الحاضر بها فإنَّه يجري استصحاب بقاء النهارية الثابتة للآن السابق؛ لفرض وحدة الموصوف عرفاً, فيكون الشك شكاً في البقاء وهو متين جداً؛ وإنْ استشكل عليه بأمور خارجة عن الفهم العرفي الذي بنينا عليه موضوع الإستصحاب فراجع.

ص: 475


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص149-150.
2- . سورة البقرة؛ الآية 185.

الوجه الرابع: إنَّ الإشكال مبني على الحركة القطعية في الزمان؛ بمعنى كون الشيء في كل آن في محل, وأمّا بناءً على الحركة التوسطية, وهي كون الشيء بين المبدأ والمنتهى فلا تعدد بل هي وحدة واحدة, لكن هذا إنْ رجع إلى الوحدة العرفية كما تقدم بيانه فهو صحيح, وإلا فلا وجه له أبداً, لأنَّ الحركة التوسطية لا وجود لها إلا في فرض الذهن, ومورد الإستصحاب في الوجود الخارجي.

وهناك وجوه أخرى ذكروها في بعض المطولات لا يخلو أكثرها عن التعقيد والبعد عن الفهم العرفي كما لا تخلو من مناقشات, فالصحيح؛ ما ذكرناه, وهوتحقق الوحدة العرفية في نفس الزمان أو في وصفيته؛ سواء كان موضوعاً للحكم أم شرطاً في متعلق الحكم, ثم أنَّه يجري في استصحاب الزمان والزماني وسائر الأمور التدريجية ما يجري من الأقسام في غيرها من الأمور القارة, أي الإستصحاب الجزئي الشخصي والإستصحاب الكلي بأقسامه التي ذكرناها سابقاً فراجع.

ختام فيه أمران

الأمر الأول: الزمان؛ إمّا أنْ يكون قيداً للتكليف فيكون من قيود الوجوب أو يكون قيداً للمكلف به فيكون من قيود الواجب, وعلى كل منهما؛ إمّا أنْ يكون على نحو وحدة المطلوب, أي كان الزمان قيداً مقوماً لمتعلقه أو يكون على نحو تعدد المطلوب, أي كان الزمان من مجرد الظرف لثبوت التكليف ومن حالاته وعوارضه, أو يشك في أي واحد من النحوين.

وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّه لا إشكال في جريان الإستصحاب في الزمان إنْ شك في بقائه في جميع الأقسام, كما لا إشكال في أنَّه مع انقضاء الزمان ينقضي التكليف إنْ كان

ص: 476


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص271-272.

التقييد بنحو وحدة المطلوب لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه, وأمّا إذا كان بالنحوين الأخيرين فلا محذور في استصحاب نفس التكليف بعد انقضاء الزمان لعدم القطع بزواله فيستصحب, وهو صحيح بعدما عرفت من عدم صحة ما استشكل به على استصحاب الزمان ممّا تقدم ذكره, ومع ذلك فقد ذكروا وجوهاً من الإيراد في المقام:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النراقي قدس سره (1) من الإشكال في جريان الإستصحاب في الحكم الكلي من أنَّ جريان استصحاب التكليف معارض باستصحاب عدم جعل التكليف بالعدم الأزلي, فلو شك -مثلاً- في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو الرطوبة المرددة بينه وبين البول فإنَّه كما تستصحب الطهارة يستصحب عدم جعل الوضوء -مثلاً- موجباً للطهارة فيتعارض الإستصحابان ويتساقطان, وهكذا في نظائر هذا المثال.

ويرد عليه أنَّه بعد تشريع الوضوء وبيان أحكامه ومسوغاته وحصر النواقض وجعله موجباً للطهارة في الشرع لا وجه حينئذٍ لجريان استصحاب العدم فيه قطعاً, والعرف يستنكره أيضاً.

وأمّا الرد عليه بأنَّ المتيقن السابق هو العدم المطلق والمقصود إثباته في زمان الشك هو الحصة الخاصة منه فيكون مثبتاً؛ فهو غير سديد, لأنَّه وإنْ لم يكن تمايزفي العدم لكن من حيث إضافته إلى الوجودات يثبت التمييز فيه وتحقق الحصة أيضاً, فيكون المستصحب نفس الحصة.

وتقدم في بحث استصحاب الحكم الكلي نقل رأي المحقق النراقي قدس سره , وأجبنا عنه على نحو التفصيل فراجع.

ص: 477


1- . مناهج الأحكام؛ ص242 (الفائدة الأولى من فوائد تتميم الإستصحاب).

الوجه الثاني: إنَّه لا فرق بين أنْ يكون الزمان قد أخذ قيداً على نحو تعدد المطلوب أو وحدة المطلوب, فإنَّه قيد على كلا التقديرين, لأنَّه لا معنى للظرفية إلا تقييد الفعل به.

ويرد عليه بأنَّ العرف يفرق بين ما إذا كان الزمان قيداً ينتفي التكليف بانتفاء قيده فيكون مجرى استصحاب عدم التكليف لا أنْ يكون مجرى التكليف الذي انتفى قطعاً كما عرفت, وبين ما إذا كان الزمان ظرفاً, فإنَّه لم يقطع بانتفاء التكليف عند انتفاء ظرفه عرفاً فيجري استصحابه بلا إشكال.

الوجه الثالث: التفصيل بين موضوع الأحكام وبين متعلق الحكم.

بيان ذلك: إنَّ ما يؤخذ قيداً في الموضوع قد يعدّه العرف من مقوماته, بحيث ينتفي معروض الحكم بانتفائه, نظير تقليد العالم؛ فإنَّ جهة العلم قد أخذت من مقومات وجوب التقليد عرفاً, باعتبار أنَّ التقليد إنَّما يكون لجهة علمه.

وقد يعدّه العرف من حالات الموضوع وعوارضه فلا ينتفي عرفاً بانتفائه, نظير الصلاة خلف العالم؛ فإنَّ العلم لا يعدّ عرفاً من مقومات الموضوع بل يعدّه من حالاته, فالعلم في الموردين يكون من الجهة التعليلية للحكم بالصلاة خلفه عرفاً, ولكنه في نفس الوقت يعدّ من الجهات التقيدية بالنسبة إلى الحكم بوجوب تقليده. ولكن هذا إنَّما يأتي في موضوعات الأحكام باعتبار اختلاف نسبة الحكم وكيفية ارتباطه بالقيد, وأمّا بالنسبة إلى متعلق الحكم؛ فإنَّ القيد فيه يكون مقوماً بنظر العرف دائماً, لأنَّ متعلق الحكم هو ما أخذ الحكم فيه داعياً إليه ومحركاً نحوه, فإذا كان المدعو إليه هو الفعل الخاص كانت الخصوصية مقوّمة عرفاً.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّه إذا كان نظر العرف هو المناط في تمييز القيود المقومة وغير المقومة فلا اختلاف بين أنْ تكون من قيود الحكم أو متعلق الحكم, فإنَّه قد يحكم العرف بأنَّ القيد المأخوذ في متعلق الحكم يكون أيضاً كذلك وليست دائماً أنْ يكون مقوماً له فتبصّر.

ص: 478

الأمر الثاني: الشك في تحقق زمان خاص بمفاد كان التامة, أو الشك في انعدامه؛ فإنَّه لا إشكال في استصحاب عدم حدوثه في الأول وبقائه في الثاني من دون مانع من جريان الإستصحاب فيهما؛ إلا أنَّ الكلام في وقوع العمل في وقته الخاص به, وذلك لأنَّ الزمان تارة؛ يكون مأخوذاً في طرف موضوع التكليف فيكون من قيود الوجوب, وأخرى؛ يكون مأخوذاً في طرف متعلقه فيكون من قيود الواجب. وعلى كلا التقديرين؛ إمّا أنْ يؤخذ بنحو مفاد كان التامة, أو بنحو مفاد كان الناقصة, وعلى جميع التقادير قد تكون الشبهة موضوعية, وقد تكون حكمية؛ فالبحث تارة؛يكون في الشبهة الموضوعية وهو الأساس, وأخرى؛ في الشبهة الحكمية, وهو بحث إضافي لا يرتبط بصميم البحث, وقد تقدم في الأمر الأول ما يتعلق بالإستصحاب في كِلا القسمين؛ المطلق والمعلق, ولكن البحث في هذا الأمر يقع زيادة على ما ذكر, وهو أنَّ استصحاب الموضوع وهو الزمان أو الزماني الذي أخذ الزمان في موضوع التكليف فيكون قيداً للوجوب لا الواجب؛ إنَّه ما أنْ يكون بنحو مفاد كان التامة, كما إذا قال المولى: (إنْ كان النهار فتصدق), أو قال: (إذا كان الجلوس في النهار فتصدق), وإمّا بنحو مفاد كان الناقصة, كما إذا قال: (إنْ كان الجلوس في زمان يكون نهاراً), أو: (إنْ كان الزمان نهاراً فتصدق), فشك في بقاء النهار وعدمه, وقد ذكرنا أنَّه لا مانع من استصحاب بقاء الزمان إنْ كان الشك في عدمه واستصحاب عدمه إنْ كان الشك في أصل تحققه, هذا وقد استشكل المحقق النائيني قدس سره (1) في معقولية أخذ الزمان بنحو مفاد كان الناقصة في موضوع الحكم, لأنَّه يلزم منه

تحصيل الحاصل, لأنَّ معناه أنْ يكون الشرط في الأمر بالصلاة النهارية -مثلاً- أنْ تكون الصلاة نهارية, وهذا من أخذ الواجب قيداً في الوجوب وهو محال.

ص: 479


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص106-107.

ولكن كلامه قدس سره إنْ رجع إلى أنَّ أخْذ النهار قيداً في الوجوب يستلزم أخذه قيداً في الواجب أيضاً تبعاً فهو صحيح, لأنَّ قيود الوجوب تخصص الواجب أيضاً, إلا أنَّ ذلك لا يعني أخذ تحقق الواجب قيداً في الوجوب حتى يلزم المحال, وهو واضح.

وكيف كان؛ فلا إشكال في جريان الإستصحاب فيهما كما عرفت, إلا أنَّه ذهب بعض الأصوليين إلى التفصيل بين ما إذا كان الزمان مأخوذاً في موضوع الحكم بنحو التركيب, كما إذا كان موضوع الحكم هو أنْ يكون الجلوس في زمان أو يكون ذلك الزمان نهاراً, فإنَّه باستصحاب الزمان يثبت الموضوع ولو من باب ضم التعبد إلى الوجدان, وبين ما إذا كان الزمان مأخوذاً في موضوع الحكم بنحو التقييد, مثل الجلوس النهاري بما هو جلوس مضاف إلى النهار يكون موضوعاً للحكم فلا يجري استصحاب الزمان, لأنَّه من الأصل المثبت, لأنَّ إثبات نهارية هذا الآن لا يثبت نهارية الجلوس إلا بالملازمة العقلية, ونظير هذا الإشكال كان في استصحاب أصل الزمان بنحو مفاد كان الناقصة ولكنه ليس هو, لتوهم بعض مقرري بحث المحقق النائيني قدس سره .

والحاصل؛ فإنَّه إذا أخذ في موضوع الحكم إضافة الجلوس إلى صفة النهارية؛ سواء كانت مأخوذة بنحو كان التامة أم كان الناقصة لم يجرِ استصحاب بقاء النهار أو نهارية هذا الآن, لأنَّه لا يثبت الإضافة المذكورة.

ويمكن دفع هذا الإشكال بما ذكرناه آنفاً من الوحدة العرفية, فتنعدم الواسطة عرفاً, أو خفائها فيثبت بالإستصحاب وقوع العمل في وقته الخاص به, أو نقول بأنَّ التوقيت عبارة عن وقوع العمل في وقته الخاص به ولو بالأصل, أو يقال بجريان الأصل في نفس بقاء الوقت من حيث هو، أو نقول بأنَّ الأصل في القيود المأخوذة في موضوعات الأحكام أنْ تكون مأخوذة على نحو

ص: 480

التركب؛ ما لم تقم قرينة خاصة على كونها مأخوذة على نحو التقييدية في موضوع الحكم؛ هذا إذا كان الزمان مأخوذاً في الوجوب, وأمّا إذا كان الزمان دخيلاً في الواجب, كما إذا وجب صوم النهار أو صوم الزمان النهاري وشك في بقاء النهار وعدمه؛ فقيل: إنَّه لا يجري استصحاب النهار, ولا استصحاب الصوم النهاري خلافاً للمشهور بين المحققين, وقد عرفت دليلهم ودليل المخالف والجواب عنه فراجع.

التنبيه الخامس: الإستصحاب التعليقي
اشارة

من المعلوم أنّ ما يشك في بقاءه؛ تارة يكون له وجود فعلي تنجيزي في السابق يشك في زواله أو بقاءه كنجاسة الماء المتغير إذا شك فيها بعد زوال تغيرّه من قبل نفسه, ويسمى هذا القسم بالإستصحاب التنجيزي، وأخرى يكون له وجود تقديري تعليقي لا فعلي كحرمة العنب إذا غلى إذا شك فيها بعد تبدّله إلى زبيب وهذا هو الإستصحاب التعليقي الذي وقع الكلام فيه.

بكلام أوضح؛ إنّ الشك في الحكم تارة ينشأ من الشك في تحقق موضوعه وصغراه خارجاً وهذه هي الشبهة الموضوعية، وأخرى ينشأ من الشك في نفس الحكم وكبراه وهي التي تسمى بالشبهة الحكمية. وهذه أيضاً؛ تارة يكون الشك في بقاء الجعل والتشريع وانتفاءه وهو المسمى بالشك في النسخ، وأخرى يكون الجعل معلوماً ولكن يشك في سعة المجعول به وضيقه لاحتمال أخذ قيد فيه وهو المصطلح عليه بالشبهة الحكمية مقابل الشك في النسخ الذي سيأتي الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى. والأخير، من الشبهة الحكمية؛ أي الشك في سعة المجعول وضيقه وهو؛ إما أن يكون الشك في بقاء الحكم المجعول فيها في ظرف فعلية الحكم المجعول سابقاً كما في الشك في إبقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره، وهذا هو الإستصحاب التنجيزي. ولا ريب أنه المتعارف من أفراد الإستصحاب.

وإما أن يكون الشك في فعلية مجعوله في ظرف مسبوق بظرف آخر لو كان يتحقق ما كان

ص: 481

في الظرف اللاحق من قيود الحكم فيه لكان فعلياً، وهذا هو الإستصحاب التعليقي المبحوث عنه في هذا التنبيه. والمثال المعروف فيه ما ذكرناه من حرمة العصير العنبي إذا غلى؛ فإنّ الحرمة منوطة بالعنب والغليان, وإذا جفّ العنب ثم غلى كان مورداً لاستصحاب الحرمة المعلقة على تقدير الغليان. وله أمثلة كثيرة أخرى في الفقه؛ وحقيقته كما هو المستفاد من كلماتهم أنّ الحكم عند جعله في الإستصحاب التعليقي كما في المثال المزبور منوط بأمرين؛ وهما العنبية والغليان، ولكن هناك أمر آخر يحتمل دخله في الحكم وهو رطوبة العنب وعدمالجفاف، وفي هذه الصورة يكون أحد الأمرين معلومَ الثبوت؛ وهو الغليان، والثاني معلوم الإنتفاء وهو العنبية، والأمر الثالث له دخلٌ في الحرمة؛ وهو رطوبة العنب وهو ثابت. وهذا يعني أنّ الحكم ليس فعلياً ولكنه يعلم بثبوت الحكم على تقدير تحقق هذا الأمر الثالث، فالمعلوم؛ وهو الحكم معلّق، والقضية شرطية، فإذا فرضنا توفّر الأمر الثاني؛ وهو الغليان بعد انتفاء الأمر الثالث؛ وهو رطوبة العنب فحصل الشك في بقاء القضية الشرطية لاحتمال دخله في الحكم؛ فلو استصحبنا الحكم؛ أي الحرمة يكون من الإستصحاب التعليقي في الحكم.

أما الإستصحاب التعليقي في الموضوع فالكلام فيه يتّضح مما يذكر في الإستصحاب الحكمي التعليقي إلا في بعض الأمور مما سيأتي ذكرها.

وكيف كان؛ فقد اختلفوا في جريان الإستصحاب التعليقي وعدمه, والمشهور جريانه ولكن ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) وغيره إلى عدم جريانه.

وذكر السيد الوالد قدس سره (2) أنّ مقتضى عموم أدلة الإستصحاب جريانه في ما هو معلق على شيء كجريانه في ما لم يكن كذلك.

ص: 482


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص467.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص273.

وذكر المحقق الخراساني قدس سره في تقريبه(1) أنّ قوام الإستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء متحقق في الأمور التعليقية، فالأخير تثبت أركان الإستصحاب فيه، والأول يثبت شمول الدليل له.

والمحقق النائيني يشكك في تمامية الأركان فيه.

فالكلام في هذا القسم من الإستصحاب يقع في مقامين:

المقام الأول: في تمامية أركان الإستصحاب في هذا القسم

وقد اعترض عليه باعتراضين:

الإعتراض الأول: ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من عدم تمامية أركان الإستصحاب في الإستصحاب التعليقي من اليقين بالحدوث والشك في البقاء, وقد اختلفوا في فهم المراد من مقالته نظراً لاختلاف البرهان الذي أقامه عليه، واختلاف العبائر(2) التي نقلت كلامه وهي:1- ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (3) من أن مقصود الميرزا النائيني قدس سره اشتراط أن يكون المستصحب أمراً خارجياً؛ أي محمولاً ثابتاً لموضوع خارجي حتى يمكن استصحابه، والحكم ليس له وجود خارجي بعد حتى يستصحب, ولذا أورد عليه بالنقض عليه بجريان استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل، مع انه ليس أمراً في عالم الخارج.

ص: 483


1- . كفاية الأصول؛ ص411.
2- . إنّ الإشكال على استصحاب القضية التعليقية المذكور هو في تقريرات الشيخ الكاظمي في [فوائد الاصول؛ ج 4 ص469]. وفي [أجود التقريرات؛ ج 2 ص412]؛ هو أنّ القضية التعليقية عقلية، إلا أنّ الشيخ الكاظمي اختصّ بذكر إشكال آخر أيضاً وهو أنّ القضية التعليقية مقطوعة البقاء، فإنّنا نعلم الآن -أيضاً- أنّ العنب إذا غلى يحرم، وأنّه مهما انضمّت القيود بعضها إلى بعض ثبت الحكم.
3- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص168.

ويرد عليه: إنّ المحقق النائيني قدس سره لم يشترط في المستصحب أن يكون أمراً في الخارج، كيف وهو يرى بجريان الإستصحاب في الأعدام.

2- ما ذهب إليه السيد اليزدي قدس سره (1) وتبعه كثير من الفقهاء من التفصيل بين ما لو قيل (العنب المغلي يحرم)، وبين ما إذا قيل (العنب إذا غلى يحرم)، فلا يجري الإستصحاب التعليقي في الأول لأنّ القيد راجع إلى الموضوع فلا يحصل اليقين بالحكم لعدم تحقق موضوعه، بخلاف الثاني فإنه يجري فيه.

وقال السيد الحكيم قدس سره (2) أنّ المحقق النائيني قدس سره أراد بعدم جريان الإستصحاب التعليقي الأول دون الثاني لأنّ القيد دائماً يرجع إلى الموضوع، وإن كان بحسب الظاهر قيداً للحكم, فالقضية الشرطية التي أخذ القيد فيها قيداً للحكم مرجعها إلى الحملية؛ أي قيداً للموضوع، فالشرط يرجع إلى الموضوع ولذا برهن عليه بأنّ انفكاك الحكم عن الموضوع وتأخره عنه محال.

وأورد عليه السيد الصدر قدس سره (3) بما يلي:

أولاً: إذا قلنا بأنّ الجعل عين المجعول ويستحيل التفكيك بينهما كما هو مبنى جمع منهم السيد الحكيم قدس سره فلا يفرّق فيه بين كون القضية بنحو القضية الحملية أو الشرطية: أي كون القيد من قيود الموضوع، أو قيد الحكم لأنّ الجعل والمجعول ثابتين في كلا الموردين حيث يستحيل الإنفكاك بينهما.

ويمكن ردّه بأنَّ المبنى الأصولي وإن كان كذلك عندهم لأنه مبني على الدقة, ولكن المبنى الفقهي يختلف باعتبار كونه جارياً على الفهم العرفي.

ص: 484


1- . رسالة في منجّزات المريض المطبوعة في ملاحق تعليقته على المكاسب؛ ص17.
2- . مستمسك العروة الوثقى؛ ج1 ص414-419.
3- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص282-283.

ومن أجل ذلك تراهم كثيراً ما يخالفون آراءهم الأصولية في الفقه، والمقام من هذا القبيل، فلا يرد عليهم بأنّ الجمع بين المبنى الأصولي المذكور والتفصيل الذي ذهب إليه صاحب العروة في الفقه غير سديد, بل هو سديد لا إشكال فيه.

وثانياً: إنه لو سلمنا بوجود برهان على رجوع قيود الحكم إلى الموضوع لبّاً وروحاً كما نُسب إلى المحقق النائيني قدس سره فلا يجري الإستصحاب التعليقي إذاكان الغليان قيداً للموضوع لا الحكم، فلا بُدَّ من القول بعدم جريان الإستصحاب التعليقي مطلقاً حتى لو كان القيد في الظاهر يرجع إلى الحكم، ولا وجه لملاحظة ظاهر القضية الشرطية لأنّ الإستصحاب إنَّما يجري بلحاظ ما يستفاد من ظاهر اللفظ لباً وواقعاً بعد تحكيم المناسبات والقرائن العرفية والفعلية على الخطاب الشرعي، والمفروض أنها تقتضي قيدية الغليان لموضوع الحكم.

وفيه: إنه إذا اقتضت المناسبات والقرائن اللفظية والعرفية والعقلية رجوع قيود الحكم إلى الموضوع فلا يجري الإستصحاب التعليقي، ولكن ذلك لا ينافي كونه في مورد لا تقتضي فيه المناسبات والقرائن ذلك، بل كان صريح اللفظ رجوع القيد إلى الحكم فقط فيجري الإستصحاب التعليقي حينئذٍ, فليس الأمر على نحو الكلية بحيث لا يقبل التقييد أبداً إذا كان المرجع هو القرائن والمناسبات.

وثالثاً: بطلان أصل النسبة إلى المحقق النائيني قدس سره فانه لم يذكر في مقام فضلاً من أن يقيم برهاناً عليه؛ أنّ قيود الحكم لا بُدَّ وأنْ ترجع إلى قيود الموضوع, فإنه قدس سره فصّل بنفسه في بحث المفاهيم بين ما إذا كان القيد راجعاً إلى الحكم فيثبت المفهوم والإنتفاء عند انتفاءه، وما إذا كان راجعاً إلى الموضوع فلا مفهوم. وجعل هذه ضابطة للمفهوم, فلو أرجع كل قيود الحكم إلى قيود الموضوع لانسدَّ باب المفهوم عنده.

ص: 485

وفيه: إنه وإن قال بذلك في بحث المفهوم وكان صحيحاً، ولكنه لا يجري عنده في الإستصحاب التعليقي لأنه ينكر هذا الإستصحاب من أجل عدم تمامية أركانه لاختلاف مقام الجعل والمجعول عنده. فمن أجل تصحيح ما ذهب إليه لا بُدَّ لنا من القول بأنّ قيود الحكم ترجع إلى قيود الموضوع، فلا يمكن حينئذٍ إجراء الإستصحاب التعليقي كما عرفت، فأورد عليه الأعلام بما تقدم.

3- ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) في توجيه كلام المحقق النائيني قدس سره من أنّ المراد من استصحاب الحكم التعليقي؛ إن كان استصحاب الجعل فالمفروض إنه لا شك في ارتفاع الجعل وبقاءه حتى يراد استصحابه, وان كان المراد استصحاب المجعول الفعلي فلا يقين بحدوثه لأنّ الحكم الفعلي –كالحرمة- لا يثبت إلا بعد تحقق تمام قيود الحكم وفعليتها في الخارج. والمفروض في المقام عدم تحقق بعضها في مورد الإستصحاب التعليقي, وإن كان المراد استصحاب الحرمة الثابتة على نهج القضية الشرطية فهذا أمر منتزع عن جعل الحرمة على موضوعها المقدّر الوجود ولا أثر للتعبدية, وإنما الأثر والتنجيز يترتب على منشأ انتزاعه وهو الحكم الشرعي من الجعل أو المجعول.والصحيح أن يقال: إنّ المحقق النائيني قدس سره لما كان يرى اختلاف الجعل والمجعول فالشك في الأول يرجع إلى الشك في بقاء الحكم، وهو لا يكون إلا من قبيل الشك في النسخ وعدمه وهو أجنبي عن المقام. وأما الشك في المجعول والفعلية فهو بالنسبة إلى الحكم التعليقي غير متصور لأنّ المفروض عدم الفعلية للحكم لعدم تحقق كلا جزئي الموضوع فلا يقين بالحدوث.

ص: 486


1- . المصدر السابق؛ ص284.

والحاصل؛ إنّ ما له ثبوت فعلي؛ وهو الجعل لا شك فيه، وما هو مورد الشك؛ وهو المجعول لا يقين بحدوثه, فلا وجه للتفصيل المذكور.

وكيف كان؛ فقد استشكل على مقالة المحقق النائيني قدس سره بوجوه عديدة:

الوجه الأول: إنّ إشكال المحقق المزبور يبتني على أنّ المجعول في الإستصحاب التعليقي لا يكون فعلياً إلا بوجود تمام أجزاء الموضوع خارجاً قياساً لباب الأحكام والقضايا التكليفية بالقضايا الحقيقية، ولما كان للأول مرحلة الجعل والإنشاء ومرحلة الفعلية فإنه يتعذر استصحاب المجعول في المقام إذ لم يبلغ مرتبة الفعلية ليستصحب.

ويرد عليه: إنّ المجعول ثابت بنفس ثبوت الجعل لأنه منوط بالوجود اللحاظي للموضوع لا بوجوده الخارجي على ما ذكرناه مكرراً في بحوثنا السابقة، فهي من قبيل القضايا الحقيقية لا الخارجية. ومن أجل ذلك قالوا بأنّ الإرادة المشروطة لها فعلية قبل تحقق الموضوع خارجاً, كما أورد عليه المحقق العراقي قدس سره (1) بالنقض بأنّ المجتهد يجري الإستصحاب في المجعول الكلي قبل أن يتحقق الموضوع خارجاً.

وأشكل عليه السيد الصدر قدس سره (2) بأنّ المجعول سواء أُريد به الأمر الإعتباري أم الارادة إذا لوحظ بما هو أمر ذهني وبالحمل الشايع والحقيقي فهو نفس الجعل المنوط بالوجود اللحاظي للشرط والموضوع, إلا أنّ المجعول بهذا اللحاظ لا يجري فيه استصحاب الحكم؛ إذ لا شك في البقاء حينئذٍ، وإنما الشك في حدوث الجعل الزائد. وإذا لوحظ المجعول بما هو صفة للموضوع الخارجي وبالحمل الأولي والوهمي فهو منوط بهذا اللحاظ بالخارج. فما لم يوجد الموضوع بالكامل ولو تقديراً وافتراضاً فلا يكون للمجعول فعلية وثبوتاً لكي يستصحب، وعليه لا يتم النقض المذكور.

ص: 487


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص163-168.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص286.

لكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الإفتراض والتقدير؛ إن كان من مجرد الفرض الذهني صحّ ما ذكره السيد الصدر قدس سره ، ولكن الفقهاء والأصوليين يتصورون بلحاظ الطريقية إلى الخارج لا أن يكون من مجرد الوهم. وعليه؛ يصحّ الإستصحاب ونقض المحقق العراقي صحيح في الجملة.

الوجه الثاني: ما أشار اليه المحقق العراقي أيضاً قدس سره من أنه يمكن تصحيح الفعلية في المجعول، وذلك بأنّ العلم بالسببية والملازمة بين الغليان والحرمة يتولد منه علم مشروط بالحرمة الفعلية عل تقدير الغليان ومعلقاً عليه, وهذا علم منوط ومشروط يتبعه الشك المنوط أيضاً حينما يصير العنب زبيباً فيجري استصحابه والتعبد ببقائه في فرض الزبيبية أيضاً.

وأورد عليه بأنَّ العلم بالحرمة إنَّما تكون علته وسببه دليله وبرهانه من العلم بالصغرى والكبرى لا الغليان؛ لا بوجوده اللحاظي ولا الخارجي, والعلم بالملازمة والسببية لا يثبت العلم بفعلية الجزاء لأنه فرع العلم بالصغرى والكبرى.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنه يمكن أن يكون مقصود المحقق العراقي قدس سره هو العلم المشروط والمعلّق العرفي، والشك كذلك؛ فإنّ العرف يرى أنّ العلم بالسببية والملازمة يتولد منه علم عرفي مشروط بالحكم، وهذا المقدار يكفي في جريان الإستصحاب وإنْ كان ذلك باللحاظ الدقّي غير تام كما عرفت.

الوجه الثالث: إنّ استصحاب سببية الغليان للحرمة؛ وهي حكم وضعي فعلي أمرها بيد الشارع إثباتاً ونفياً كالشرطية والمانعية، وهي معلومة حدوثاً مشكوكة بقاءً فتستصحب.

والإشكال عليه؛ بأنه لا يكفي كون المستصحب أمراً شرعياً تحت سلطان الشارع في صحة الإستصحاب، بل يشترط أن يكون منتهياً إلى أثر عملي من تنجيز أو تعذير، وهو مما لم يثبت في المقام؛ لأنه لو أريد باستصحاب السببية إثبات الحرمة فعلاً فهو غير ممكن لأنّ

ص: 488

الحرمة ليست من الآثار الشرعية للسببية، بل من الآثار الشرعية لذات السبب الذي رتب الشارع عليه الحرمة. وإن أُريد بذلك الإقتصار على التعبد بالسببية فهو لغوٌ لأنها بعنوانها لا تصلح للمنجزية والمعذرية.

وهو مردود؛ لأنّ الأثر الشرعي مترتب على السببية بالنظر العرفي؛ فإنّ العرف يتسامحون في التطابق بين السببية وذات السبب،. كما لا حاجة إلى محاولة المحقق العراقي قدس سره لتصحيح استصحاب السببية بناءً على جعل الحكم المماثل فإنه أيّاً كان من الرأي في المستفاد من أدلة الإستصحاب من المالك والآراء فإنّ جميعها لا بُدَّ من عرضها على النظر العرفي في موضوع الإستصحاب كما تقدم بيانه.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنّ حرمة العنب المغلي مجعولة على نهج القضية الحقيقية لا الخارجية، ومعنى ذلك أنها مجعولة علىالأفراد المقدّرة الوجود؛ فالحرمة فعلية على العنب المغلي المقدّر, والغليان الخارجي كما تكون أفراده المحققة مشمولة للحكم كذلك تكون أفراده المقدّرة مشمولة للحكم, فتستصحب تلك الحرمة الجزئية الثابتة بلحاظ الغليان المقدّر الوجود.

ونظريته هذه من أمتن النظريات في جعل الحكم وإنشاء التكاليف؛ فقد انحلت بها كثيراً من المناقشات التي أُثيرت في هذا الموضوع كما أشرنا إليها في مباحثنا السابقة, وتفصيلها مذكور في محله.

وقد أشكل السيد الصدر قدس سره (2) عليه بأنّ معنى شمول الحكم في القضية الحقيقية للأفراد المقدّرة أنّ الحكم إذا لوحظ بالحمل الأولي فلا بُدَّ أن نثبت الحرمة لكل ما يفرض أنه

ص: 489


1- .نهاية الدراية؛ ج5 ص172-173.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص287.

مغلي, فنثبت الحرمة الجزئية لكل ما يفرض عنباً مغلياً، وهذا إنما يصحّ بعد فرض موضوع الحكم بتمام قيوده بهذا المنظار؛ أي بعد فرض عنب مغلي فيكون المستصحب بقاء حرمة العنب المغلي بلحاظ ما بعد غليانه إذا شك في إرتفاع الحرمة عنه، لا أن نستصحب بقاء الحرمة المعلقة على الغليان للزبيب الذي هو امتداد لذات العنب، لا للعنب المغلي فإنه بهذا المنظار لا يكون لذات العنب حرمة جزئية حتى تستصحب.

ويمكن الجواب عنه بأنّ مقصود المحقق الإصفهاني قدس سره من الأفراد المقدّرة في القضية الحقيقية أنّ الحرمة الجزئية لا الكلية التي هي ثابتة لكل ما يفرضه المولى بمجرد لحاظ الغليان كما عرفت آنفاً على العنب المقدّر والغليان المقدر، وبعد انضمام أحدهما إلى الآخر يكون الحكم تعليقياً؛ وهذا الحكم التعليقي يمكن استصحابه في فرض غليان الزبيب أيضاً من دون ملاحظة أنّ الزبيب امتداد لذات العنب لا العنب المغلي. وعلى فرض وجود هذا اللحاظ فإنه يكون بدقة خاصة لا بالنظر العرفي.

الوجه الخامس: ويعدّ هذا الوجه من أحسنها لقربه إلى الفهم العرفي، وهو؛ إنّ محور كلام المحقق النائيني قدس سره هو كون الزبيب موضوعاً، والعنب موضوعاً آخر فلا يتحقق ركن الإستصحاب وهو إتحاد الموضوع في الإستصحاب التعليقي.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الزبيب ليس موضوعاً مستقلاً مقابل العنب، بل حالة من حالات العنب كما في القيام والجلوس بالنسبة إلى الإنسان إذا وقع مورد الحكم الشرعي، وإن كان اسم العنب يختلف عن اسم الزبيب، ولكن تغاير الإسم من تغاير الذات، فما استشكله المحقق النائيني مضافاً إلى عدم اختصاصه بالمقام لأنهيجري في كل استصحاب كان المشكوك مغايراً مع المتيقن سواء كان الإستصحاب تنجيزياً أم تعليقياً؛ أنه غير تام في حدّ نفسه لما عرفت.

ص: 490

ومن جميع ذلك يظهر أنّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره لا يرجع إلى محصّل، والإشكالات التي أثارها الأعلام (قدست أسرارهم) عليه وإن أمكن قبول بعضها إلا أنها مبنية على الدقة الأصولية التي هي بمعزل عن موضوع الإستصحاب المبتنى على المسامحة العرفية.

الإعتراض الثاني: إنّ المستصحب في مورد الإستصحاب التعليقي لا يقين بحدوثه لكي تُعلَّق الحرمة على الغليان، والمفروض عدم غليان العنب في حال العنبية فلا وجه للإستصحاب.

وهذا الاشكال نشأ من تصورات مدرسة المحقق النائيني قدس سره من الإختلاف بين الجعل والمجعول، وأنّ الأخير يتحقق وراء مرحلة الجعل، وقد عرفت عدم تماميته.

وكيف كان؛ فإنّ الجواب يظهر أيضاً من مطاوي ما ذكرناه في الإعتراض الأول؛ وهو أنّ المستصحَب هو الحرمة المعلّقة على الغليان لا الحرمة المنجّزة الفعلية فيستصحب نفس الحكم المعلّق.

ولا ريب أنّ له نحوَ اعتبار بعد الجعل والإنشاء فإنّ المنشآت التعليقية لها وجود إعتباري عرفي وعقلائي.

المقام الثاني: في وجود المعارض مع الإستصحاب التعليقي

وهو استصحاب الحلية المطلقة فيسقط بالمعارضة، ففي المثال المزبور إنه كما يعلم بالحرمة المعلقة على الغليان سابقاً كذلك يعلم بالحلية الفعلية المنجزة قبل الغليان فتستصحب ويتعارض الإستصحابان.

وأجيب عنه بوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: ما ذكره جمعٌ -ومنهم السيد الوالد قدس سره (1)-؛ من أنّ الحلية المطلقة قد انتفت بغاية الغليان، وحينئذٍ مع إثبات الحرمة بالغليان ولو بالأصل لا وجه للحلية المغياة به كما هو واضح.

ص: 491


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص273.

وبعبارة أخرى: كما أنّ الحرمة كانت معلقة فتستصحب بما هي معلقة، كذلك الحلية في العنب كانت معلقة على عدم الغليان المغياة به، فتستصحب بما هي مغياة به، ولا تنافي بين حلية مغياة وحرمة معلقة على الغاية، ولا يلزم اجتماعها في آن واحد لتقع بينهما المنافاة.

ومما ذكرنا يظهر الجواب عما استشكله السيد الصدر قدس سره من أنّ الذي يراد إثباته الحلية المنجزة لا المغياة وهي الحلية الثابتة بعد الجفاف وقبل الغليان إذ لاعلم بأنها مغياة لاحتمال عدم الحرمة بالغليان بعد الجفاف, لأنّ هذه الحلية بعد الجفاف قبل الغليان كحلّية العنب قبل الغليان فقد انتفت بالغاية لا بالأصل.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره (1) بأنّ الإستصحاب التعليقي حاكم على الإستصحاب التنجيزي لأنه يلغي الشك في التنجيزي فيكون حاكماً عليه, لأنّ الإستصحاب التعليقي يثبت الحرمة الفعلية وهو ينفي الحلية الفعلية، وأما استصحاب الحلية الفعلية فلا ينفي الحرمة التعليقية إذ لا يتعرض إلى الثبوت التقديري له.

والقاعدة؛ إنه كلما كان أحد الأصلين يعالج مورد الأصل الآخر دون العكس قُدّم الأول المعالج على الثاني كما في المقام؛ فإنّ مورد الإستصحاب التنجيزي مرحلة الحكم الفعلي ومورد الإستصحاب التعليقي مرحلة الثبوت التقديري فيكون حاكماً على الأول.

وقد أشكل على هذا الوجه بأنّ استصحاب المعلّق لا يعالج مورد الإستصحاب الآخر ليكون حاكماً عليه؛ إذ جريان الإستصحاب التعليقي ليس بملاك إثبات الحكم العقلي بالقضية المشروطة، بل من أجل كفاية وصول الكبرى والصغرى في حكم العقل بوجوب الإمتثال.

ولكنه مردود بأنّ الإستصحاب التعليقي ينجّز الحكم العقلي بالقضية المشروطة وإن كان أيضاً من مقدمات تطبيق حكم العقل بوجوب الإمتثال عليه. وقد عرفت عدم تمامية أصل الإشكال في المباحث السابقة.

ص: 492


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص654.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) من نفي استصحاب الحلية التنجيزية لا من جهة الحكومة ولا من جهة عدم المنافاة، بل من جهة عدم تمامية أركان الإستصحاب فيه بحسب النظر العرفي؛ وذلك أنه متى ما كان للشيء الواحد حالتان سابقتان فإن كان في إحداهما أركان الإستصحاب فإنه يجري فيها دون الأخرى، وان كانت كلتاهما قد اجتمعت فيهما أركان الإستصحاب في عرض واحد فالإستصحابان يتعارضان، وأما إذا كانتا طوليتين؛ بمعنى أنّ إحداهما حاكمة على الأخرى وناسخة لها ففي الحالة الناسخة يجري الإستصحاب دون الحالة المنسوخة كما في المقام فإنّ الحلية السابقة قد انتفت بالغليان فانقلبت الحالة السابقة إلى الحرمة بالغليان لا الحلية، فالفهم العرفي يجري الإستصحاب الثاني دون استصحاب الحلية. وقد تقدم نظير ذلك في الرد على من قال بأنّ الإستصحاب لا يجري في الأحكام الكلية؛ فإنّ عدم الحكم الأزلي قد انقطع بحسب الفهم العرفي بتشريع الأحكام وبيانها تفصيلاً, وهذا الوجه صحيح كالوجهين السابقين.والجميع متفق في نفي المعارضة في الإستصحاب التعليقي وإن كان هذا الوجه مبناه عرفي إلا أنه لا يخلو من دقة أصولية.

ومن جميع ذلك يظهر صحة جريان الإستصحاب التعليقي بحسب الكبرى وإن كان في بعض الصغريات من الإستصحاب التعليقي غموض وبُعد عن الفهم العرفي كما يظهر بوضوح عند الإمعان فيها، ولكنه لا يضرّ بأصل المقصود، ولعل من أنكر الإستصحاب التعليقي يرجع إلى هذه الصغريات.

ص: 493


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص292.
ختام فيه أمور:

الأمر الأول: ذكرنا أنّ المثال المعروف في الإستصحاب التعليقي هو العصير الزبيبي بإجراء الإستصحاب التعليقي للحرمة في العصير العنبي بالتفصيل المتقدم، والإشكال المعروف فيه أنّ الوارد في لسان الدليل حرمة العصير العنبي المغلي, لا حرمة العنب المغلي حتى يتوهم أنّ الزبيب عنبٌ أيضاً، غاية الأمر؛ أنه جفّ، والجفاف لا يضرّ بوحدة الموضوع عرفاً. مع أنّ العصير العنبي يعني الماء المتّخذ من العنب، بينما العصير الزبيبي ليس ماء الزبيب وإنما ماء خارجي يضاف إلى الزبيب فيغلي، والفرق بينهما واضح عقلاً وعرفاً فلا مجال للإستصحاب التعليقي فيه لو سلّمت كبراه.

وهو صحيح كما ذكرنا في الفقه، حيث قلنا أنّ ذلك من موجبات الشك في وحدة الموضوع، وإن تمسّك من قال بحرمة العصير الزبيبي بأمور أخرى لا تخلو جميعها عن المناقشة فراجع.

وكيف كان؛ إن سلّمنا الكبرى في حجية الإستصحاب التعليقي فلا يضرّها المناقشة في الصغريات كما هو واضح.

الأمر الثاني: إختلفوا في الإستصحاب الذي يجري في العقود التعليقية؛ كالوصية المعلقة على الموت، والجعالة المعلقة على العمل المجعول عليه الجعل عند الشك في لزومها؛

فقيل باللزوم بالإستصحاب التعليقي؛ باعتبار أنّ اللزوم لم يكن ثابتاً بالفعل، بل كان معلقاً على تحقق شرط غير حاصل فيكون الإستصحاب تعليقياً.

وقيل: إنه من الإستصحاب التنجيزي الفعلي وذلك بوجهين:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أن المستصحب عند الشك في الإنفساخ نفس القرار المعاملي المنشأ بالعقد لا النتيحة المترتبة خارجاً حتى يقال بانه لم يكن ثابتاً بالفعل بل كان معلقاً على تحقق شرط غير حاصل.

ص: 494

وما ذكره قدس سره مبني على ما ذكروه في باب العقود من أنّ الإلتزام العقدي له حدوث وبقاء، وأنّ العاقد لا ينشيء مجرد التمليك بل ينشأ أيضاً التزاماً متبادلاً بين الطرفين بمقتضى الملكية بحيث يكون له دوام في نظر العرف والعقلاء, ويكون منهاللزوم، وردُّ هذا الإلتزام يكون بالخيار, وعلى هذا الإعتبار يكون في العقد منشأ إعتباري معاملي يمكن استصحابه.

الوجه الثاني: استصحاب الحق الثابت قبل حصول المعلق عليه، وهو أن يتملك الجعل مثلاً بالعمل فتترتب عليه النتيجة.

ويمكن إرجاع الثاني إلى الأول؛ إذ الحق لا يثبت إلا بعد وجود التزام معاملي، ولا يصحّ حينئذٍ الردّ عليه بأنّ هذا الحق لم يثبت، بل هو أمرٌ منتزع من نفس القضية التعليقية المنشأة من قبل الجاعل، وإلا فإنّ الحق بحدّ نفسه لم يكن ثابتاً.

وتفصيل الكلام في محله.

الأمر الثالث: ذكرنا في بداية البحث عن الإستصحاب بأنه على القول به إنَّما يتم في الأحكام دون الموضوعات؛ كما إذا شك في أنّ صومه الآن هل يكون في النهار أو لا، فلو لم يتم جريان الإستصحاب في الزمان فيمكن استبداله باستصحاب تعليقي مفاده؛ أنه لو كان قد صام قبل الآن كان صومه في النهار، والآن كذلك.

والإشكال في ذلك واضح لأنه إن أُريد به القضية التعليقية فهي تكوينية شرطاً وجزاءً فليس عليه أثر رجعي، وإن أُريد استصحاب نفس السببية بينهما فلا أثر عملي يترتب عليه، وإن أُريد إثبات الجزاء باستصحاب القضية التعليقية فهو من الأصل المثبت.

وقد قيل بأنه لا جواب عن هذه الإيرادات في المقام مما ذكرناه سابقاً في الإشكال على الإستصحاب التعليقي، فلا يجري الإستصحاب التعليقي في الموضوعات.

ص: 495

التنبيه السادس: إستصحاب عدم النسخ.

ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره (1)، والمحقق الخراساني قدس سره (2) بما لم يدعا لغيرهما من الكلام فيه نقضاً وإبراماً، وكل من أتى من بعدهما عالةٌ عليهما.

وكيف كان؛ فقد ذكر السيد الوالد قدس سره (3) أنه لا إشكال في جريان الإستصحاب في ما إذا شك في نسخ ما ثبت في الشريعة سواء كان في شريعة واحدة أم في شريعتين؛ لتوفر جميع ما يعتبر في الإستصحاب فيه، فالمقتضي موجود والمانع عنه مفقود.

وقد أشكل عليه بما يلي:

أولاً: بتغاير الموضوع فيما إذا كان النسخ بين شريعتين؛ لأنّ أمة الشريعة السابقة غير اللاحقة.وفيه: عدم دخالة الخصوصية الصنفية في تشريع الأحكام ما لم يدل عليه دليل بأخذها بالخصوص لأنّ الأحكام مجعولة لكل من يستجمع شرائط التكاليف مطلقاً.

ثانياً: عدم جريان الإستصحاب للعلم الإجمالي بالنسخ.

ويرد عليه: إنحلاله بالظفر بموارد النسخ بعد الفحص, مع أنّ هذا العلم الإجمالي لم يكن منجزاً لخروج جملة من أطرافه عن موارد الإبتلاء، فلا إشكال حينئذٍ.

ثم إنهم اختلفوا في معنى النسخ بعد الإتفاق على بطلان النسخ الذي يوجب نسبة الجهل إليه سبحانه وتعالى؛

فقيل: إنّ النسخ عبارة عن قطع استمرار الحكم.

وقيل: هو إظهار أنّ مدة الحكم واحدة وكانت إلى حدّ مخصوص، ولكنه أنشأ بصورة الدواعم لمصلحة فيه.

ص: 496


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص655.
2- . كفاية الأصول؛ ص412-413.
3- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص274.

وعند الشك في النسخ بكل واحد منهما فالأصل عدمه لشمول أدلته لكلتا الصورتين.

التنبيه السابع: الإستصحاب في توارد الحالتين.

ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنّ الشك في حدوث كل حادث يكون على أقسام خمسة:

القسم الأول: أن يلحظ بالنسبة إلى ذاته فقط.

ولا إشكال في جريان الإستصحاب مع توفّر أركانه، كما إذا شك في بقاء حكم أو موضوع شرعي وعدمه مع ثبوت حالة سابقة واحدة لذلك الحكم سابقاً إثباتاً أو نفياً فيجري الإستصحاب بلا ريب.

القسم الثاني: أن يعلم بأصل الحدوث في الجملة ويشك في زمانه.

ولا ريب أيضاً في جريان استصحاب عدم الحدوث إلى زمان العلم به, وأما إثبات أنّ زمان الحدوث كان في الأمس أو قبله -مثلاً- فليس ذلك من شأن الإستصحاب لكونه مثبتاً. نعم، يمكن إثبات الحدوث في آخر أزمنة إمكانه بإدخاله في الموضوعات المركبة من الأصل والوجدان, وهو احتمال حسن ثبوتاً ولكن يحتاج إلى دليل لإثباته، ومقتضى الأصل عدم حجيته في الموضوعات المركبة إلا مع دليل معتبر عليها من عُرف أو شرع. وسيأتي مزيد بيان لهذا إنْ شاء الله تعالى.

القسم الثالث: أن يعلم بحدوث حادثين في الجملة، ولكن يشك في السبق واللحوق وأنّ الأثر الشرعي يكون لنفس عدم أحدهما في ظرف الآخر واقعاً من دون تقييد بينهما أبداً. ولا ريب في عدم صحة الإستناد إلى استصحاب عدم كل منهما؛ إما لوجود المانع وهو جريانهما وتساقطهما بالمعارضة كما اختاره جمع منهم المحقق الأنصاري قدس سره ، أو لعدم المقتضي وهو عدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين كما عليه جمع آخرين منهم المحقق

ص: 497


1- . المصدر السابق؛ ص278-279.

الخراساني قدس سره . وقد مثّل لهذاالقسم بما إذا علم بحياة الوالد والولد يوم الخميس وبموتهما يوم الأحد، وشكّ في أنّ موت الوالد كان يوم الجمعة وموت الولد يوم السبت، أو بالعكس مع العلم بعدم التقارن؛ فإنّ أصالة بقاء الوالد وحياته إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الولد يوم الجمعة، وأصالة بقاء الولد وحياته إلى يوم الأحد يستلزم كون موت الوالد يوم الجمعة؛ فجريان الإستصحابين مستلزم لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين في كل منهما فلا يجري الإستصحاب لعدم المقتضي، لا لوجود المانع وهو السقوط بالمعارضة.

وكيف كان؛ فإنّ عدم جريان الإستصحاب مسلّم بين الجميع، وإنما النزاع بينهم علمي فقط وسيأتي تفصيل الكلام فيه.

القسم الرابع: أن يكون هناك حادثان؛ يعلم بتاريخ أحدهما ويشك في تاريخ الآخر مع ترتّب الأثر الشرعي على نفس عدم مشكوك التاريخ في زمان الآخر.

فيجري الإستصحاب بالنسبة إلى المشكوك دون المعلوم لليقين بزمان حدوثه. نعم، إنَّما الشك في أنه قبل زمان حدوث مشكوك التاريخ أو بعده، وسيأتي حكمه.

القسم الخامس: الشك في التقدم والتأخر والتقارن، وكان الأثر الشرعي مترتباً على ما اتصفت بهذه العناوين خارجاً؛ أي بمفاد كان الناقصة.

ولا ريب في عدم جريان الإستصحاب لعدم العلم بالحالة السابقة؛ إذ المعلوم إنَّما هو نفس الحدوث في الجملة لا عنوان التقدُّم وضدّيه, إلا إذا كان لنفس هذه العناوين من حيث كونها مورداً للأثر الشرعي وقلنا بكونها من الإعتباريات العقلائية الممضاة شرعاً؛ فيجري الإستصحاب فيها ويسقط بالمعارضة.

ص: 498

وتفصيل ما أجمله قدس سره أن يقال:

أما القسم الأول؛ فلا ريب في جريان الإستصحاب فيه لأنّ فيه حالة سابقة واحدة والشك في بقائها كما عرفت في أبحاثنا السابقة.

وأما القسم الثاني؛ فإنّ الشك فيه يكون بالنسبة إلى تقدّمه وتأخّره بالإضافة إلى أجزاء الزمان؛ كما إذا علم بالإستطاعة في شهر ذي الحجة وعلم بعدمها في شهر رمضان، ولكن شك في أنها كانت في شوال حتى يجب عليه الحج أو لا. وقد عرفت أنه يجري استصحاب عدم الحدوث إلى زمان العلم به، أو أن يقال باستصحاب العدم إلى آخر زمان إمكانه بإدخاله في الموضوعات المركبة، ويأتي الكلام فيه.

وأما الاقسام الأخرى؛ فإنّ الجامع بينها هو أنّ الشك في حكم وعدمه إنَّما يكون من جهة أنّ الحالة السابقة متعددة؛ ولا يعلم بالوارد والمورود من الحالتين فيشك تبعاً لذلك في الحكم إثباتاً ونفياً، وهذا ما يسمى بتوارد الحالتين كما إذا علم بالطهارة وعلم بالحدث ولكنه لا يدري المتقدم والمتأخر فيشك في أنه الآن متطهرأو محدث، وحينئذٍ هل يجري الإستصحاب في كلٍّ من الحالتين، أو لا يجري في شيء منهما، أو يجري في معلوم التاريخ منهما دون المجهول؛ وجوهٌ.

ولكن الفرق بين كل واحد من الأقسام المتقدمة هو من حيث اللحاظ؛ فتارة يكون الملحوظ فيه التقدّم والتأخّر بالإضافة إلى أجزاء الزمان، ولكن الحادث واحد، وهو القسم الثاني من الأقسام السابقة كما إذا شك في موت زيد يوم الجمعة مع العلم به في يوم السبت والعلم بحياته يوم الخميس، وتقدّم مثال الإستطاعة الذي ذكرناه. وأخرى يكون الملحوظ فيه التقدّم والتأخّر بالإضافة إلى حادث زماني آخر كالشك في تقدّم موت المورّث على إسلام الوارث أو تأخره عنه، أو بالنسبة إلى الوالد وولده كما تقدم.

ص: 499

وهنا تأتي الوجوه التي ذكرناها في جريان الإستصحاب آنفاً في الأقسام الثلاثة الأخيرة؛

أما الحالة الأولى؛ (وهي الشك بلحاظ أجزاء الزمان) فقد ذهب المحققون كالشيخ الأنصاري والمحقق الخراساني والسيد الوالد وغيرهم (قدست أسرارهم) إلى جريان الإستصحاب فيها، فيستصحب في المثال المزبور حياة أو عدم موت زيد إلى يوم الجمعة. أما بالنسبة إلى الآثار الشرعية المترتبة عليه فهي على أنحاء:

النحو الأول: الآثار المترتبة على عدم الموت يوم الجمعة، ولا ريب في ترتبها وكذلك بالنسبة إلى عدم الإستطاعة في شوال في مثالنا المتقدم.

النحو الثاني: الآثار المترتبة على الحدوث في يوم السبت، ويختلف الحال فيها وذلك لأنّ الحدوث؛ إما أن يكون بسيطاً، أو مركباً؛ فإن كان الحدوث أمراً بسيطاً وهو كونه في زمان خاص فلا يثبت باستصحاب العدم إلى يوم الجمعة لأنه من الأصل المثبت بالنسبة إلى الحدوث إلا إذا كانت الواسطة خفية عرفاً كما تقدم بيانه مفصلاً. وأما إذا كان الحدوث أمراً مركباً من وجود الشيء في زمان وعدمه في الزمان الذي قبله فقد يقال بصحة ترتيب آثار الحدوث على الإستصحاب لأنه من الموضوعات المركبة من الأصل والوجدان؛ أي الوجود في يوم السبت وجداناً والجزء الآخر يثبت بالإستصحاب وهو العدم يوم الجمعة، فيتم الموضوع فيترتب عليه آثاره وهو إثبات الموت في آخر أزمنة إمكانه في المثال المذكور.

ولكن عرفت أنه لا دليل على ذلك إثباتاً، بل مقتضى الأصل عدم حجيته في الموضوعات المركبة إلا مع دليل معتبر من عرف أو شرع.

النحو الثالث: الآثار المترتبة على عنوان التأخر عن يوم الجمعة وهي لا تجري بالإستصحاب, لأنه من الأصل المثبت إلا مع خفاء الواسطة.

ص: 500

وأما الحالة الثانية؛ وهي كون الملحوظ هو التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى حادث زمان آخر؛ فإما أن يكون الجهل معلّقاً على تاريخ الحادثين؛ وهو القسم الثالث من الأقسام الخمسة المتقدمة إذ يعلم بالحادث ولكن الشك في السبق واللحوق بينهما,كما في موت الوالد وموت الولد. وقد عرفت عدم جريان الإستصحاب بالنسبة إلى عدم كل واحد منهما وان اختلفوا في السبب؛ فقيل بعدم المقتضي، وقيل بوجود المانع وهو التعارض بين الإستصحابين. ولكن ذكروا اعتراضات على ذلك أهمها هو أنه؛ إما أن يكون مجهولاً تاريخه والآخر معلوماً؛ وهو القسم الرابع مما تقدم كما إذا علم بالطهارة عند الفجر وعلم إجمالاً بالحدث إما قبل الفجر أو بعده، والإستصحاب يجري بالنسبة إلى عدم الحدث قبل الفجر من دون اعتراض إلا ما يتوهم من أن العلم الإجمالي يتعلق بالواقع، وعلى تقدير كونه معلوماً بعد الفجر تكون الطهارة منتقضة باليقين بالحدث. ولكن هذا التوهم باطل كما تقدم بيانه.

وكيف كان؛ فإنّ الإستصحاب يجري في الحالة المجهولة سواء كان الآخر مجهول التأريخ أم معلوم تاريخها لتمامية أركانه. وقد ذكرت فيه اعتراضات أهمها:

الإعتراض الأول: إذا كانت إحدى الحالتين معلوم التاريخ كالطهارة في المثال السابق وأُريد استصحاب الحدث المجهول تاريخه كان من استصحاب الفرد المردّد لاحتمال أن يكون الحدث واقعاً قبل الطهارة المتيقنة عند الفجر؛ فاذا سحبناه بالإستصحاب يكون جراً للحدث إلى زمان يقطع فيه تفصيلاً بالإنتقاض بالطهارة فيكون نقضاً لليقين باليقين.

وهذا الإعتراض يختص بما إذا كان أحد الحادثين مجهولاً والآخر معلوماً، ولا يجري فيما إذا كانا معاً مجهولي التأريخ.

ويرد عليه: ان ذلك مبني على سريان العلم الإجمالي إلى الواقع ولكن عرفت انه يقف على الجامع دون الواقع, وعلى تقدير السريان فانه لا ينافي الشك في الفرد والحصة الذي هو

ص: 501

موضوع الإستصحاب يضاف إلى ذلك انه لا يكفي في نقض اليقين باليقين مجرد احتمال إنطباق المعلوم بأحد اليقينين على معلوم اليقين الآخر؛ سواء كان أحدهما تفصيلياً أم كلاهما إجمالياً فالإستصحاب في مجهول التاريخ تام لتوفر اركانه فيه.

الإعتراض الثاني: عدم توفر أحد أركان الإستصحاب في مجهولي التاريخ؛ أي وجود اليقين بالحدوث فإنه لا يوجد زمان سابق يكون على يقين فيه بالطهارة، ذكر ذلك المحقق العراقي قدس سره (1).

وفيه: إنه وإن اشترط وجود اليقين بالحدوث، ولكن لا يعتبر فيه أن يكون مشخصاً من حيث الزمان، بل يكفي فيه أصل اليقين بالحدوث سواء كان تفصيلياً من حيث الزمان والفرد أم كان إجمالياً لإطلاق دليل الإستصحاب من دون أن يكون انصرافٌ في البين.الإعتراض الثالث: إنه لا شك في البقاء لأنه لو أريد طهارة الساعة الأولى مثلاً فنحن نعلم بارتفاعها على تقدير حدوثها، وإن أريد طهارة الساعة الثانية فنحن نعلم ببقاءها على تقدير حدوثها. فأيّ الطهارتين يستصحب.

ويمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب هو الجامع بين الحصتين للطهارة وهو يشك في بقاءها كما ذكرنا في موارد استصحاب الجامع بين الفرد القصير والطويل.

الإعتراض الرابع: إنّ التعبّد الإستصحابي تعبّدٌ بالمستصحب بمقدار المعلوم فإذا كان معلوم الطهارة في زمان إجمالي فإنّ الذي يثبته بالإستصحاب هو الطهارة المضافة إلى الزمان الإجمالي النسبي لا الزمان التفصيلي الواقعي، والمفروض أنّ الأثر يترتب على الطهارة في واقع الزمان النسبي الإجمالي.

ص: 502


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول من الجزء الرابع ص216.

وفيه: ما ذكرنا من كفاية نفس الحدوث في الإستصحاب مع أنّ الأثر يترتب على الطهارة المضافة إلى واقع الزمان بقدر الجامع بين فردين وحصتين في أحد الزمانين بغضّ النظر عن خصوصية الفردين.

ومن جميع ذلك يظهر أنه لا إشكال في تمامية أركان الإستصحاب في توارد الحالتين في مجهول التاريخ ومعلومه أو مجهولي التاريخ، غاية الأمر أنهما يتعارضان ويتساقطان كما تقدم. ثم إنه لا فرق في مجهولي التاريخ بين ما إذا أمكن الجمع بينهما كموت المورّث وإسلام الوارث، أو لم يمكن كالحدث والطهارة المتعاقبين، وإن تشتت الأقوال في الأخير.

والحق؛ جريان الإستصحاب فيهما وسقوطهما بالمعارضة، والتفصيل مذكور في الفقه في مسألة تعاقب الحدث والطهارة من توارد الحالتين.

التنبيه الثامن: في جريان الإستصحاب في الإعتقاديات.
اشارة

الإعتقاديات على أقسام؛ فتارة؛ يكون المطلوب فيها مجرد الإعتقاد بالواقع بما هو عليه من دون لزوم تحصيل العلم به فيكون المطلوب هو الإنقياد فقط.

وأخرى؛ يلزم تحصيل العلم به؛ فإما أن يكون مورد الإستصحاب نفس الموضوع، وإما أن يكون مورده الحكم.

وعلى كل هذه الأقسام الأربعة؛ فإما أن يكون الحاكم هو العقل، وإما أن يكون الحاكم هو الشرع، فيصير المجموع ثمانية أقسام.

وتفصيل الكلام فيها يقتضي الكلام في اختلاف الأصوليين في جريان الإستصحاب في الإعتقاديات على ثلاثة أقوال:

القول الأول: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سره (1) من عدم جريانه في الإعتقاديات مطلقاً سواء كان المطلوب فيها مجرد الإنقياد والإعتقاد بالواقع أم كان في الحكم أم في الموضوع.

ص: 503


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص672.

واستدل عليه بأمرين:

الأمر الأول: إنّ الإستصحاب من الأصول العملية التي تختص بالأحكام الفرعية وعمل الجوارح فلا تجري في الإعتقاديات وعمل الجوارح.

ويرد عليه: إنّ التعبير بالأصل العملي لم يرد في دليل الإستصحاب وغيره حتى يتعبّد به، وإنما هو اصطلاح عند الأصوليين للتعبير عن وظيفة الشاك تعبّداً، وجعل الفرق بينه وبين الأمارات التي تحكي عن الواقع، مع أنّ الوظيفة تشمل عمل الجوارح والجوانح معاً فتكون تسميته بالأصل العملي من باب الغالب.

الأمر الثاني: ما ذكره الشيخ قدس سره من أنّ الإستصحاب إن اعتبر من باب التعبّد والإخبار؛ فمع الشك يزول الإعتقاد، فلا يصحّ التكليف به، وإن اعتبر من باب الظن فإنّ الظن في أصول الدين غير معتبر, مع أنّ الإعتقاد يزول مع الشك قهراً؛ فلا يمكن تحصيله بالإستصحاب.

وفيه: إن كان الشك في بقاء حكم الإعتقاد بعد ثبوته وتحققه في الإعتقاديات التي يكون المطلوب فيها مجرد الإعتقاد بالواقع وعقد القلب ونحو ذلك؛ كما إذا شك في بقاء اليقين بحكم بعد تحققه فيجري الإستصحاب في بقاءه لشمول دليل الإستصحاب له بعد تمامية أركانه من دون أن يكون مانعٌ عنه. ويترتب عليه الأثر وهو لزوم تحصيل اليقين والعلم به.

وأما إذا كان مورد الإستصحاب موضوع الإعتقاد فقد يشكل في جريان الإستصحاب فيه للزوم تحصيل اليقين، والإستصحاب لا يجري في ذلك. وسيأتي مزيد بيان.

القول الثاني: ما اختاره المحقق الخرساني قدس سره (1) من التفصيل بين الإعتقاديات التي يكون المطلوب فيها مورد الإنقياد؛ فيجري الإستصحاب فيها مطلقاً؛ سواء كان حكماً أم

ص: 504


1- . كفاية الأصول؛ ص422.

موضوعاً لعموم دليل الإستصحاب الشامل لها وصحة التنزيل أو عدم اختصاصه بالفرعيات؛ فإنّ الإطلاق في أدلة الإستصحاب يشمل الحكم والموضوع في هذا القسم من الإعتقاديات وبين الإعتقاديات التي يكون المطلوب فيها تحصيل العلم واليقين والمعرفة ونحوها، فيجري الإستصحاب في الأحكام في هذا القسم فقط دون الموضوع فلا يجري الإستصحاب فيها كما تقدم .

القول الثالث: ما اختاره السيد الوالد قدس سره (1) وغيره من عدم جريان الإستصحاب في موضوع الإعتقاديات مطلقاً سواء كان المطلوب فيها الإنقياد والإعتقاد بالواقع على ما هو عليه أم كان المطلوب فيها تحصيل العلم واليقين بالواقع، لأن الإستصحاب متقوم بالشك والتردد، والإعتقاد متقوّم بالعلم والجزم، وهما لا يجتمعان إلا أن يدلّ دليل من الخارج على كفاية الجزم والعلم التعبدي فيالإعتقاديات، ويجري الإستصحاب في الحكم في الإعتقاديات مطلقاً لعموم دليل الإستصحاب.

والحق أن يقال: إنّ هذا المبحث بكلّ أقسامه لا ثمرة عملية فيه؛ لأنّ الشبهة الحكمية في الإعتقاديات لا وجود لها، بل مجرد فرض وتقدير.

وأما الشبهة الموضوعية في الإعتقاديات فلا يجري فيها الإستصحاب لما ذكرنا من عدم إمكان اجتماع الشك والعلم في موضوع اعتقادي والذي يفترض فيه العلم واليقين، والإستصحاب يتقوم بالشك فلا يمكن اجتماعهما، إلا أنه قد ضرب مثالاً للشبهة الموضوعية وهو حياة الإمام علیه السلام ، وهي بالنسبة إلينا مجرد فرض وتقدير أيضاً؛ لأن الأرض لا تخلو من إمام معصوم. وحينئذٍ؛ إذا قلنا بجريان الإستصحاب في الشبهة الحكمية في أمر إعتقادي لإطلاق دليل الإستصحاب وعمومه وعدم ما يصلح للإشكال في المنع من جريانه على ما تقدم بيانه.

ص: 505


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص281.

وهذا القسم من مجرد الفرض الذي لا واقع له، إذ ليس عندنا من الأمور الإعتقادية ما يشك في بقاء وجوب الإعتقاد به إلا ما يتوهمه أهل الخلاف في بعض الأمور الإعتقادية التي تكفلت الكتب الكلامية دفعها كما هو مفصّل في محله.

وأما الشبهات الموضوعية الإعتقادية؛ أي الشك في بقاء الموضوع فلا يجري الإستصحاب فيها عند الجميع لما تقدم. ولا فرض له أيضاً إلا في مسألة حياة الإمام علیه السلام عند المخالفين، وإلا فهي عندنا مجرد فرض وتقدير، فالأمر يدور في الإستصحاب في الإعتقاديات بين ما يجري. وقد أحسن السيد الوالد قدس سره حيث أوجز الكلام في طرح هذا المبحث، ولم يتعرض لما تعرض إليه الأعلام.

قد يقال بأنّ المثال وهو الشك في حياة الإمام علیه السلام فإنّ الإستصحاب فيها؛ إما بلحاظ ترتيب وجوب الإعتقاد بحياته علیه السلام ، أوبوجوب اليقين به، والإستصحاب في هذا الموضوع تارة؛ يكون في حياة شخص الإمام علیه السلام ، وأخرى؛ في إمامته، وثالثة؛ في حياته وإمامته بنحو المجموع المركب.

أما جريان الإستصحاب في المجموع المركب من الحياة والإمامة؛ فإنه مضافاً إلى الإشكال في جريان الإستصحاب في الموضوعات المركبة؛ إنّ الإستصحاب لا يجري لما ذكرناه من أنّ المطلوب في الإعتقاد هو الجزم والعلم، وهو لا يجتمع مع الشك، ولا يمكن تحصيل العلم بالإستصحاب لأنه لا يرفع الشك كما هو واضح؛ سواء كان اليقين من قبيل شرائط الوجوب أم من شرائط وجود الإعتقاد الواجب؛ وعلى الأول: يكون عدم وجوب الإعتقاد مع الشك واضحاً لعدم حصول موضوعه، فلا ينفع الإستصحاب.وعلى الثاني: فلأنّ الإستصحاب إذا كان من أجل وجوب الإعتقاد فيكون لغواً لأنه بعد تحصيل اليقين لا مجال للإستصحاب.

ص: 506

وأما جريان الإستصحاب في الحياة الخاصة؛ فإن كان من أجل ترتيب الإمامة عليه التي هي أمر شرعي فيترتب وجوب الإعتقاد بها.

فيرد عليه: إنّ الإمامة إن كان المراد بها الحكم بنفوذ التصرفات، فمن الواضح أنّ مثل ذلك يتوقف على إحراز الحياة حتى يجوز صدور التصرفات منه، أو قابليته لصدورها. ومع الشك في الحياة لا معنى لنفوذ تصرفاته، وأما إذا أريد من الإمامة نفس السلطة والولاية ويترتب عليها نفوذ التصرفات فيمكن الحكم بفعليتها مع الشك الوجداني في الحياة .

وأما إذا كان الإستصحاب في الحياة من أجل وجوب المعرفة واليقين فإنّ وجوب المعرفة ثابت حتى مع الشك، ومع قطع النظر عن الإستصحاب فلا أثر للإستصحاب في ترتيبه وحدوثه .

ومن جميع ذلك يظهر أنه لا يجري الإستصحاب الموضوعي في باب الإمامة على جميع تقاديره وفروضه، فلا يجري الإستصحاب في الشبهة الموضوعية في باب الإعتقاديات أيضاً.

ختام فيه أمور

الأمر الأول: لا إشكال في مورد جريان الإستصحاب في الإعتقاديات مما تقدم تفصيله إذا كان الدليل الحاكم هو الشرع، وأما إذا كان الدليل هو العقل؛ فإن قلنا بجريان الإستصحاب في الأحكام العقلية التي قررها الشرع ولو بعدم الردع والنهي عنه فلا إشكال أيضاً، وأما إذا قلنا بعدم جريان الإستصحاب في الأحكام العقلية مطلقاً فلا يجري الإستصحاب في الإعتقاديات التي يكون دليلها العقل كما تقدم تفصيل الكلام فراجع.

ص: 507

الأمر الثاني: تقدم أنّ الإستصحاب في الإعتقاديات من حيث الحكم مجرد فرض لا واقع له، ولكن ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره (1) أنه قام من طرف الوجود لا في طرف العدم، كما لو شك في حدوث تكليف اعتقادي بشأن من شؤون المحشر مثلاً فإنه ينفي الإستصحاب لعدم ثبوته قبل الشريعة أو أوائلها.

ويرد عليه: إنّ الإستصحاب الذي اختلف الأعلام فيه وجوداً وعدماً هو استصحاب نفس التكليف لا عدمه، مع أن استصحاب العدم يتفق مع أصالة البراءة؛ فمن الناحية العملية لا يختلف الحال فيها لجريان البراءة حتى لو لم يجر الإستصحاب، فما ذكره قدس سره إن تم علمياً، ولكن لا أثر له عملياً.مع أنه لا حاجة إلى الإستصحاب في موارد عدم التكليف كما ذكره الشيخ قدس سره وغيره.

الأمر الثالث: إستدل السيد الخوئي قدس سره (2) على نفي الإستصحاب في الأمور الإعتقادية بأنّ الموضوع فيها مقيد بالعلم، فلا يلزم الإعتقاد والمعرفة إلا بالأمر المعلوم.

وفيه من المسامحة ما لا يخفى؛ فإنّ ما أفاده لا يرتبط بموضوع الكلام في المقام نفياً أو إثباتاً، فهو أمر مستقل يترتب عليه عدم جريان الإستصحاب ومن الموارد التي أُخذ العلم في الموضوع، وحينئذٍ لا بُدَّ أن ينبّه على عدم قيام الإستصحاب في المقام مقام العلم المأخوذ في الموضوع؛ وإلا، فإنّ مجرد كون العلم مأخوذاً في الموضوع لا ينفي جريان الإستصحاب إذا كان يقوم مقام العلم.

وكيف كان؛ فإنّ الإستصحاب لا يجري في الإعتقاديات إذا كان المطلوب فيها الإعتقاد والمعرفة كالإمامة ونحوها .

ص: 508


1- . ذكره في منتقى الأصول؛ ج6 ص295.
2- . المصدر السابق.

الأمر الرابع: يظهر مما سبق أنّ النبوة كالإمامة لا يجري الإستصحاب فيها لأنّ المطلوب فيها الإعتقاد والمعرفة واليقين. وعليه، يبطل تمسّك الكتابي بالإستصحاب لبقاء شريعته إلى أن يثبت الدليل على النسخ، مع أنّ الدليل المدعى؛ إمّا أن يكون برهانياً، وإمّا أنْ يكون إلزامياً، وإما أنْ يكون إقناعياً. واستصحاب بقاء الشريعة لا يصلح لكل منها:

فالأول؛ عبارة عن اعتقاد الطرفين بصحة جميع المقدمات -القريبة والبعيدة- في البرهان، وإلا فلا ينفع شيئاً. وحينئذٍ لا بُدَّ أن يعتقد الكتابي والمسلم بصحة الإستصحاب في الشريعتين مع الإعتقاد بصحة كل من الشريعتين مستقلاً، والمفروض أنه إذا اعتقد الكتابي بصحة الشريعة الختمية وكونها ديناً سماوياً ناسخاً لما سبقه من الأديان يصير مسلماً ويزول موضوع الإستصحاب لا محالة.

والثاني؛ عبارة عن كون الدليل مشتملاً على مقدمة مقبولة لدى الخصم، فيردّه بما هو مقبول لديه؛ مثل أن يقول الكتابي للمسلم: أنت تعترف بصحة الإستصحاب ونبوة عيسى علیه السلام ، ونحن نستصحب نبوة عيسى إلى أن يثبت الدليل على النسخ.

وهذا أيضاً غير تام لأنَّ المسلم لا يعترف بنبوة عيسى علیه السلام مطلقاً، بل يعترف بنبوة عيسى من حيث أنه أخبر بنبوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله ونسخ شريعته بالشريعة الختمية، ومع هذا الإعتقاد لا موضوع للإستصحاب رأساً.

والثالث؛ عبارة عما لا يفيد العلم، بل يوجب رفع المخاصمة في الجملة.وهو باطل في المقام أيضاً لأنّ النبوة مما يعتبر فيها تحصيل العلم، والدليل الإقناعي بمعزل عن ذلك.

الأمر الخامس: تقدم أنَّ السيد الوالد قدس سره إختار جريان الإستصحاب في الشبهة الحكمية في الإعتقاديات، ولكنه رجع عن ذلك في ضمن كلماته حيث ذكر بأنه يمكن أن

ص: 509

يقال بعدم جريان الإستصحاب في الشبهات الحكمية مطلقاً؛ لأنّ اللازم في الإعتقاديات تحصيل الإعتقاد والمعرفة حتى يتحقق العجز عنه، ومع العجز لا وجه للإستصحاب، بل حتى مع عدم إحراز العجز لأنه يجب تحصيلها إلى أن يظهر العجز، فلا مورد للإستصحاب في الإعتقاديات مطلقاً. وهو الذي ظهر في مطاوي بحثنا فتبّصر.

التنبيه التاسع: في استصحاب حكم المخصّص

وقد عقد هذا التنبيه الشيخ الأنصاري قدس سره (1) وتبعه المحققون. وقبل بيان المقصود لا بُدَّ من الإشارة في المقام إلى أنَّه لا ريب في تقديم الأصول اللفظية والأمارات مطلقاً على الأصول العملية إذا كانت معارضة لهما بلا خلاف من أحد كما سيأتي تفصيل الكلام فيه. فعند ورود دليل لفظي يدل على العموم أو الإطلاق فلا مجال إلى الرجوع إلى الأصول العملية في مورده فلا بُدَّ من التمسك بالعام وكذلك الأمارة في موردها، وهذا مما لا شبهة فيه. وإنما الكلام في بعض التطبيقات حيث يقع الخلاف والتردد في بعض الموارد من أنه من موارد الرجوع إلى الأصل اللفظي أو الأصل العملي؛ وعلى الأول فهل المرجع هو العام أو الخاص لو كانا في البين كما إذا ورد عام مثل قوله تعالى: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2)، وورد خاص مثل (المغبون له الخيار)، وشك في أنه على الفور أو التراخي، وحينئذٍ يشك في أنّ المرجع هو العام فيكون على الفور، أو الخاص فيدل على التراخي، أو أنّ المرجع استصحاب بقاء الخيار. ففيه احتمالات على أقوال.

والحاصل؛ إذا ورد دليل له عموم أو إطلاق أزماني وخرج منه بالتخصيص فرد في قطعة زمنية معينة فبعد انقضاء تلك القطعة من الزمان هل المرجع هو العموم الأزماني الذي هو

ص: 510


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص680.
2- . سورة المائدة؛ الآية 1.

الدليل الإجتهادي، أو هو استصحاب حكم المخصص. ومرجع الخلاف في مثل هذه التطبيقات هو تمامية أركان الإستصحاب أو عدمه.

وبعد الإحاطة بما ذكرناه في المباحث السابقة يتضح الأمر فيها ويرتفع النزاع فلا حاجة إلى الإعادة؛ إذ ليس فيها نكتة جديدة، ولكن لتوضيح الأمر نقول:

إنّ مورد الكلام فيما إذا ورد عام فيه إطلاق زماني يدلّ على استمرار الحكم في جميع الأزمنة، ثم خصص في بعض الأزمنة وشك في الحكم بعد انقضاء ذلكالزمان الخاص في ذلك الفرد الخاص، إذ الزمان المأخوذ في ذلك العام على قسمين:

القسم الأول: العام الأزماني؛ بأن يلحظ الزمان قطعة واحدة بالنسبة إلى ما يقع فيه -حكماً كان أو موضوعاً- أي على نحو الظرفية الإستمرارية فقط، كما إذا قال (أكرم العلماء دائما وأبداً) ونحو ذلك من العبارات التي تدل على الإستمرار والتأييد. وعليه، فلا يكون في البين إلا شيئاً واحداً مستمراً لا أشياء متعددة بحسب تعدّد أجزاء الزمان؛ إذ الزمان قد لوحظ وحدة واحدة في هذا القسم.

القسم الثاني: العام الأفرادي؛ بأن تكون أجزاء الزمان المتكثرة وقطعه المتعددة ملحوظة بلحاظ مستقل، فيكون كلّ فرد من أفراد العام محكوماً بأحكام متعددة بتعدد آنات الزمان وقطعه كما إذا قال (أكرم العلماء كل يوم)، واصطلح عليه بالعام المفرد. وفي هذا القسم يتحقق لما يقع فيه أفراد طولية كما كان له أفراد عرضية.

و الفرق بين القسمين؛ أنّ الأول يكون الزمان فيه ظرفاً، والثاني يكون تقييداً كما أنّ في القسم الأخير يستقر ظهور العام في جميع الأفراد الطولية والعرضية، ولا يضرّ عروض التخصيص بالنسبة إلى بعض الأفراد باستقرار الظهور في سائرها فيصحّ التمسك بالدليل في غير ما علم عروض التخصيص عليه، بخلاف القسم الأول فلم يكن في البين إلا

ص: 511

لحاظ الإستمرار والوحدة الإتصالية بين الأفراد؛ فإذا انقضت هذه الوحدة الإتصالية بورود التخصيص عليها فلا يبقى ظهور للعموم بالنسبة إلى سائر الأفراد حتى يرجع إليه في مورد الشك فلا بُدَّ من الرجوع إلى دليل آخر. ولذا ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره إلى أنّ الإستصحاب يجري في القسم الأول، ولا يصحّ الرجوع إلى أصالة العموم بخلاف القسم الثاني فإنه يجري في مورده أصالة العموم دون الإستصحاب بلا فرق في ذلك بين أن يكون التخصيص متحققاً وحادثاً بحدوث العام أو حدث بعده.

وأما المحقق الخراساني قدس سره (1) فقد وافق الشيخ في تفصيله للعام وتقسيمه إلى قسمين، ولكن خالفه في إطلاق حكمه في القسمين.

أما القسم الأول؛ فقد وافق الشيخ قدس سره في عدم كونه مورداً لأصالة العموم إذا كان التخصيص قد حدث بعد حدوث العام، أما إذا كان قد حدث بحدوثه ومن أول أزمنة العام كما في تخصيص قوله تعالى (أوفوا بالعقود) بخيار المجلس فإنّ المورد من موارد أصالة العموم.وأما القسم الثاني؛ فقد فصّل بين كون الزمان في الخاص قيداً أو ظرفاً، فجعل الملاك في عدم جريان الإستصحاب في نفسه كون الخاص قد أخذ الزمان فيه قيداً سواء أخذ الزمان في العام قيداً ومفرداً أم ظرفاً لاستمراره، بخلاف ما إذا أخذ الزمان في الخاص ظرفاً فيكون من موارد جريان الإستصحاب سواء كان الزمان قد أخذ في العام مفرداً أم ظرفاً، فليس الملاك في عدم كونه من موارد الإستصحاب مجرداً قد أُخذ الزمان في العام مفرداً كما أفاده المحقق الأنصاري قدس سره .

ص: 512


1- . كفاية الأصول؛ ص425.

و تفصيل الكلام في ما ذكره العلمان (قدس سراهما) أنّ الأقسام أربعة: إما إذا كان الزمان في كل من العام والخاص ظرفاً، وإما إذا كان الزمان في الخاص قيداً وكان الزمان في العام كذلك، وإما إذا كان ظرفاً في الخاص ففي العام كذلك، وإما إذا كان الزمان في الخاص ظرفاً وكان العام كذلك.

و الكلام في القسمين الثالث والرابع قد تقدم في بحث استصحاب الزمان والزمانيات فيكون مورد البحث في المقام هو الأول، وأنه يجري فيه أصالة العموم وعدمه.

فقد ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره إلى عدم جريان أصالة العموم فيها وعلّلَ ذلك بأنها؛ إما أن تجري مع الشك في التخصيص واحتمال عدم إرادة العموم، وإما في غير ذلك مع الشك في التخصيص واحتمال عدم إرادة العموم، وإما في غير ذلك فلا يجري لها لأنّ المفروض أنّ العام قد خصص بأحد الأفراد في زمان معين فلا يبقى استمرار لذلك العام فيما بعد ذلك الزمان، فلم يكن الحكم عليه تخصيصاً حتى يتمسك في التقييد بأصالة العموم.

وذكر المحقق الخراساني قدس سره بأنّ العام له دلالتان؛ أحدهما ثبوت الحكم للفرد، والأخرى استمرار هذا الحكم. أما ثبوت الحكم للفرد فقد تحقق على نحو الموجبة الجزئية إلى ما قبل زمان التخصيص، وأما الإستمرار فقد انتفى بدلالة التخصيص عليه فلا معنى لشمول العام لهذا الفرد بعد زمان التخصيص.

وذكر في موضع آخر أنّ العام يدلّ على ثبوت حكم واحد مستمر؛ فلو أردنا إثبات هذا الحكم للفرد بعد زمان التخصيص كان حكماً جديداً غير الذي كان قبل زمان التخصيص لانفصاله عنه بزمان التخصيص. وعليه، فالعام لا يتكفل إثبات حكم هذا الفرد بعد زمان التخصيص لأنّ العام إنَّما يتكفل حكماً واحداً مستمراً لا حكمين منفصلين.

ص: 513

واعتبر بعض الأصوليين كلام المحقق الخراساني قدس سره ردّاً على مقالة الشيخ الأنصاري قدس سره . ولكن الصحيح أنّ كلامهما ينصبّ على محورٍ واحد؛ وهو أنّ العام إذا أُخذ الزمان فيه ظرفاً وورد التخصيص عليه فلا يبقى له عموم ليشملالفرد بعد زمان التخصيص، لأنه قد لوحظ للزمان وحدة إتصالية، وقد انفصمت بالتخصيص فلا يشمل العام بعد زمان التخصيص، بل الحكم فيه حكم جديد لا يتكفله ذلك العام فلا يبقى مجال لجريان أصالة العموم بعد زمان التخصيص، فلا خلاف بينهما إلا أن يقال أنّ الشيخ قدس سره يدّعي ظهور العام في وحدة الحكم الثابت، وصاحب الكفاية يدّعي ظهوره في وحدة الحكم واستمراره، وهو غير ضائر.

وكيف كان؛ فقد أورد عليهما المحقق الإصفهاني قدس سره (1)، وحاصل ما ذكره أنّ العام له حيثيتان؛ حيثية عموم وحيثية إطلاق أزماني. ومقتضى عمومه ثبوت الحكم للفرد في الجملة، ومقتضى اطلاق ثبوت الحكم الفرد في الزمان المستمر؛ فالتمسك بالعموم عند الشك لا يصحّ لخروجه بالتخصيص، ولا يكون عدم شمول الحكم له في غير زمان الخاص تخصيصاً زائداً حتى يُنفى بأصالة العموم، بخلاف حيثية الإطلاق للعام فإن له إطلاقاً زمانياً فيمكن التمسك به في الأزمنة الباقية لأنه قابل لأن يقيد، لأنّ وحدته طبيعية لا شخصية، والتقييد الوارد عليه لا يضرّ بوحدته الطبيعية واستمرارها فيكون الإطلاق في العام كسائر الإطلاقات في أنها إذا قيدت بقيت في غير مورد التقييد على إطلاقها، إلا أن يتوهم الفرق بين هذا الإطلاق وسائر الإطلاقات من جهتين:

الجهة الأولى: إنّ سائر المطلقات لها جهات عرضية كالإيمان والكفر والعلم والجهل والذكورة والأنوثة وغيرها في الرقبة، فيمكن لحاظ هذه الجهات وإطلاق الحكم بالنسبة

ص: 514


1- . نهاية الدراية؛ ج5 ص225.

إليها من دون أن يحصل منافاة في البين فيقول المولى (أعتق رقبة)، وأما ما نحن فيه فلأنه لم يكن الزمان المستمر بنفسه ذا أفراد متكثرة، بل لا يكون كذلك إلا بالتقطيع ولحاظه بنحو التقطيع والإطلاق بالاضافة إليها خلاف المفروض لأنّ الفرض عدم لحاظه كذلك.

وقد حاول الجواب عنه بأنّ الزمان المستمر؛ إما أن يلحظ في مقام الثبوت مهملاً أو مقيداً -يعني متقطعاً- مبنياً على الإطلاق أو لكونه شاملاً لجميع الأفراد.

والأول؛ محال لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت، والثاني خلاف الفرض فيتعين الثالث وهو يتوقف على لحاظ الخصوصيات المقيدة لها ونفيها بأخذه بنحو لا بشرط، أو لا بشرط شيء أو بشرط لا. مع أنّ الإشكال المزبور يبتني على كون الإطلاق هو الجمع بين القيود بمعنى ملاحظة القيود كلّها وجعل الحكم بأزاء كل واحد منها. وحينئذٍ يرجع فيما نحن فيه إلى جعل الحكم بأزاء القطعات الزمانية فيلزم الخلف. أما بناءً على كون الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها؛بمعنى أنّ الحكم متعلق بطبيعي متعلقه بلا دخل لأيّ قيد فيه فلا يتم هذا الإيراد لأنّ النظر إلى قطعات الزمان وعدم تقييد طبيعيّ الزمان بها لا وجوداً ولا عدماً لا يستلزم الخلف كما هو واضح.

الجهة الثانية: لما كان للمطلق فيما نحن فيه ظهور واحد في معنى واحد مستمر، وبعد رفع اليد عنه بالتخصيص فلا ظهور آخر يتمسك به في إثبات الحكم، فثبوت الحكم بعد زمان التخصيص إنَّما يتم إذا كان للمطلق ظهورات متعددة بتعدد قطع الزمان فإذا ارتفع أحدها بقيت الأخرى على حالها. وليس ما نحن فيه إلا ظهور واحد.

والجواب: إنّ العمومات والإطلاقات لها ظهور واحد في معنى واحد، وليس لها ظهورات متعددة، والتخصيص والتقييد إنَّما يفيدان رفع حجية الظهور في الفرد لا رفع نفس الظهور، بل هو باقٍ لا يرتفع، فيمكن التمسك به في إثبات حكم العام والمطلق في الفرد المشكوك.

ص: 515

ثم أطال قدس سره الكلام في النقض والإبرام، وقد استشكل عليه بإشكالات عديدة.

والتحقيق أن يقال: إنّ ما ذكر كلّه مبني على تعدد جهتي العموم من الفردية والإستمرارية والتمييز بينهما؛ بحيث يكون لكل واحدة منها استقلال لا ارتباط بينهما، وما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره إن رجع إلى ما سيأتي ذكره فلا بأس به، وإلا فليس شيء جديد.

والصحيح أن يقال: إنّ القسمين متلازمان واقعاً، فإنّ الإستمرارية تلازم الفردية وبالعكس، لأنّ الإستمرارية عبارة عن شمول الدليل للأفراد الطولية بلحاظ الإستمرار.

والفردية عبارة عن شموله لها بلحاظ نفس تلك الأفراد مستقلاً، فيشمل كل واحد منها بالمفردية وكونها ملحوظة في الجملة.

والإختلاف بينهما بالإجمال والتفصيل؛ ففي الإستمارية ملحوظة إجمالاً، وفي المفردية تفصيلاً، فالإستمرارية تدل على التفريد بالإلتزام العرفي، وعلى الإستمرارية بالمطابقة. كما أنّ المفردية تدل على الإستمرارية بالإلتزام، وعلى التفريد بالمطابقة، فلا يظهر فرق بين القسمين عرفاً فلا ثمرة معتنى بها في البين من هذه الجهة بعد التلازم العرفي بينها. هذا إذا علم التفريد أو الإستمرارية بالقرينة المعتبرة.

وأما إذا شككنا في أنه من أيّهما ولم تكن قرينة على تعيين أحدهما فقد يقال بأنّ الأصل في العموم الإستمرارية إلا أن يدلّ الدليل على التفريد باعتبار أنّ ملاحظة الأفراد مستقلاً تحتاج إلى مؤونة زائدة وهي منفية بالأصل.

والحق؛ إنه بعد القول بالتلازم بينهما عرفاً لا يبقى مجال للشك حينئذٍ إلا إذا دلّت قرينة خاصة على أحدهما فتتبع، إلا أنّ مما يهون الخطب أنه لا ثمرة تترتب حتى بناءً على عدم التلازم لأنّ الأقسام المتصورة في المقام أربعة -كما تقدمت الإشارة إليها– إذ العام؛ إما استمراري أو أفرادي، وعلى كل منهما؛ إما أن يكون الخاص أفرادياً أو استمرارياً، فإن

ص: 516

كان العام أفرادياً فالمرجع عند الشك في التخصيص هو العام مطلقاً، سواء كان الخاص أفرادياً أم استمرارياً، ولكن الأفراد في العام قد لوحظت على التفصيل فتكون مورد شمول العام. فالمقتضي للتمسك به موجود، والمانع مفقود. إما أن يكون هو الخاص؛ ولا يصحّ الرجوع إلى دليل الخاص لكونه من التمسك به في الموضوع المشتبه، وإما الأصل؛ ولا يصحّ الرجوع إلى الإستصحاب لكونه محكوماً بدليل العام. هذا إذا كان شمول العام لتلك الأفراد معلوماً، وأما إذا كان مشكوكاً لجهة من الجهات فلا يصحّ التمسك به حينئذٍ أيضاً، فلا بُدَّ من الرجوع إلى دليل أو أصل آخر.

وأما إذا كان العام إستمرارياً فلا وجه للرجوع إليه لانقطاع استمراه بالخاص، وكذا لا يجوز الرجوع إلى الخاص مطلقاً سواء كان استمرارياً أم افرادياً للشك في كون المورد مشمولاً له فيكون الرجوع إليه من الرجوع إلى الدليل في الشبهة الموضوعية. وحينئذٍ؛ فيتعيّن إمكان الرجوع إلى الإستصحاب، وإلا فلا بُدَّ من الرجوع إلى دليل أو أصل آخر. هذا كلّه بناءً على عدم الملازمة بين الإستمرارية والتفريد، وإلا فيصحّ الرجوع إلى العام في هذا القسم أيضاً.

ثم إنه لا يخفى أنّ الإستمرارية والتفريد؛ إما أن تستفادان من القرائن الداخلية، أو من القرائن الخارجية؛ وليس في البين قاعدة أو قرينة كلية تدل على أحدهما بالخصوص.

ومن جميع ذلك تظهر مواضع الضعف في كلمات الأعلام في المقام من الغموض الموجود فيها، وكثير منها من التطويل الذي لا طائل تحته فراجع المفصلات.

التنبيه العاشر: إستصحاب الصحة عند الشك فيها.

لا يخفى أنّ البحثَ في استصحاب الصحة عند الشك في طروّ المانع أو القاطع صغرويٌ وليس كبروياً، فهو يرجع إلى تشخيص أنّ المورد من موارد جريان الإستصحاب فيه

ص: 517

لتوفر شروطه فيه أو لا؛ نظير استصحاب العدم الأزلي ونحوه، فلا حاجة لذكر هذا البحث مستقلاً إلا أنّ الشيخ الأنصاري قدس سره ذكره وتبعه الآخرون.

و كيف كان؛ فلا بُدَّ من بيان المراد من الصحة والمانع والقاطع.

أما المراد من الصحة فقد ذكر العلماء إطلاقات عديدة لها:

الأول: الصحة الفعلية من كل حيثية وجهة؛ ومن المعلوم أنّ مثل هذه الصحة لا تتحقق إلا بعد العمل جامعاً لكل ما يعتبر فيه جزءاً أوشرطاً خالياً من الموانع.الثاني: الصحة الإستعدادية التعليقية؛ بمعنى أنه لو تحققت الأجزاء مستجمعة الشرائط وخالية عن الموانع لكان العمل صحيحاً، فتكون الصحة بهذا المعنى إمكانية لا فعلية.

الثالث: الصحة بمعنى الهيئة الإعتبارية في كل عمل الحاصلة من انضمام الأجزاء والشروط بعضها مع بعض على الوجه المعتبر في العمل.

الرابع: الصحة بمعنى التمامية؛ ولا ريب في أنّ التمامية من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الحيثيات والجهات، فقد تكون التمامية من حيث ترتب الأثر والمصلحة على العمل، أو تكون من حيث موافقة الأمر، أو تكون من حيث سقوط الأمر.

الخامس: الصحة بمعنى تمامية العمل والإكتفاء في مقام الإمتثال؛ بحيث لا تجب عليه الإعادة.

وأما المراد من المانع والقاطع؛ فالأول عبارة عن رفع الأثر المترتب على الأجزاء السابقة في الفعل المركب نظير الماء البارد الملقى على الماء الحار المغلي؛ فإنه يرفع الحرارة الثابتة للماء. والثاني عبارة عن تقييد الأثر المترتب على أجزاء العمل بعدم حصول ما يمنع عنه. وهذا يختص بطروّه في أثناء العمل فترتفع بسببه الهيئة الإتصالية.

وعلى ضوء تلك المعاني والوجوه يختلف جريان الإستصحاب فيها.

ص: 518

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ استصحاب الصحة عند الشك فيها؛ إن كان بالمعنى الأول وهو التمامية من حيث الأثر والمصلحة؛ أي التمامية الفعلية الدفعية الحاصلة عند جميع أجزاء العمل فلا وجه لجريان الإستصحاب فيها للشك في أصل حدوثها وثبوتها ما لم يفرغ عن العمل جامعاً للشرائط.

وإن كان المراد هو الأثر المترتب في أثناء العمل؛ فإما أن يكون الإستصحاب من أجل ترتب السابقة بالنسبة إلى ما أتى به من الأجزاء والأثر فلا يجري الإستصحاب بالنسبة إليها أيضاً؛ إذ لا شك في بقاء الأثر ما لم يعلم بارتفاعه، ومجرد احتمال المانع لا يؤثر وإن كان الإستصحاب من أجل ترتب الأثر على الأجزاء اللاحقة، وهو غير مسبوق باليقين، بل هو مشكوك الحدوث فيجري الإستصحاب بلحاظها.

وإن كان الإستصحاب بلحاظ الصحة الإستعدادية الإمكانية التعليقية على تحقق الأجزاء مستجمعة للشروط فهو لا يجري أيضاً لأنه مقطوع البقاء، ولا شك فيها أبداً.

وإن كان الإستصحاب بلحاظ بقاء الهيئة الإعتبارية وعدم زوالها وعدم خروج المكلف عما كان متلبساً به سابقاً فهو يجري بلا مانع لتوفّر أركانه، إلا أنه قديشكل عليه بأنّ الصحة بهذا المعنى لم تكن حكماً مجعولاً ولا موضوعاً لحكم مجعول، فلا يكون مجرى الإستصحاب المبحوث عنه في المقام.

ولكن يمكن القول بأنّ الصحة بمعنى ترتب الأثر ليست على تلك المعاني، بل المراد بها عدم مانعية المشكوك وتمامية العمل والإكتفاء به في مقام الإمتثال بالإستصحاب. ولعله هو المعبر عنه ببقاء الهيئة الإعتبارية للأجزاء وعدم زوالها بمجرد الشك في وجود المانع؛ فإن كان المراد من استصحاب الصحة هذا المعنى فهو صحيح، وإن كان غير ذلك فقد عرفت الإشكال فيه. ولكن لا حاجة إلى هذا الإستصحاب بعد ما دل على عدم الإعتناء

ص: 519

بالشك بعد الفراغ من العمل، وربما يكون الغرض هو استصحاب الوجوب عند تعذّر بعض أجزاء المركب. ولكن إذا كان المراد به الوجوب الغيري المحض فلا وجه له لكونه معلوم الإرتفاع، مضافاً إلى ما تقدم من عدم الوجوب الغيري للأجزاء.

وإذا كان المراد هو الوجوب الكلي المردّد بين الغيري والنفسي فلا يجري الإستصحاب أيضاً لأنه مردّد بين ما هو معلوم الإرتفاع ومشكوك الحدوث.

وإذا كان المراد هو الوجوب النفسي المحض فلا مجرى للإستصحاب فيه أيضاً للعلم بزواله بتعذّر بعض الأجزاء.

وإذا كان المراد مقدار من الوجوب النفسي الإنبساطي لا المقدمي ولا النفسي بتمام حدوده فإنّ الإستصحاب يجري بلا مانع، ولكن لا أثر له، وحينئذٍ؛ إن دل دليل على تنزيله منزلة الواجد والإكتفاء بالميسور عن المعسور فهو، ولا تصل النوبة إلى الأصل، وإلا فلا طريق لنا لإثبات البقية بالأصل، ومقتضى القاعدة الإعادة بعد العلم باشتغال الذمة والشك في فراغها كما تقدم بيانه في بحث الإشتغال.

تم بعون الله تعالى الجزء السادس ... ويليه الجزء السابع؛ في خاتمة في النسبة بين الأمارات والأصول ونسبة الأصول بعضها مع بعض

ص: 520

الفهرست

الفصل الخامس: في الأقل والأكثر ...............................................7

الجهةالأولى: في الدوران بين الأقل والأكثر في الأجزاء ...........................11

تنبيهاتعلى صاحب الكفاية ....................................................27

الجهةالثانية: دوران الأقل والأكثر في الشرائط ...................................32

الجهةالثالثة: في الشك في المانعية ................................................33

الجهةالرابعة: دوران الأمر بين التعيين والتخيير ..................................34

نقاط ختامية .................................................................... 39

أقسام الخلل في الواجب ......................................................... 48

صور النسيان في العمل ......................................................... 57

الجهة الأولى: في إمكان تصوير الزيادة في الواجب ................................ 59

الجهة الثانية: في أقسام الزيادة بالواجب .......................................... 63

الجهة الثالثة: في حكم الزيادة .................................................... 64

قاعدة الميسور ................................................................... 76

خاتمة في شرائط جريان الأصول العملية ......................................... 83

الشرط الأول: وجوب الفحص عن الحجة على التكليف الإلزامي ............... 86

الجهة الأولى: في وجوب الفحص عن الحجة على الإلزام قبل إجراء الأصول المؤمنة .... 86

ص: 521

الجهة الثانية: في الشبهات الموضوعية ............................................ 100

الجهة الثانية: في الشبهات الموضوعية ............................................ 100

الجهة الثالثة: في مقدار الفحص اللازم في الشبهتين ............................... 102

الجهة الرابعة: عدم جريان البراءة وسائر الأصول العملية في الشبهات الحكمية قبل الفحص ... 103

الجهة الخامسة: في استحقاق العقوبة ............................................. 104

الجهة السادسة: في ثبوت العقوبة على الواقع والظفر به أو مطلقاً .................. 105

الجهة السابعة: موارد تنجّز الواقع قبل الفحص .................................. 107

الجهة الثامنة: في وجوب التعلم وما يتعلق به ..................................... 111

الجهة التاسعة: في وجوب التعلم قبل الإبتلاء .................................... 120

الشرط الثاني: عدم استلزام الحجة الضرر ........................................ 123

قاعدة لا ضرر .................................................................. 125

المقام الأول: في الدليل على هذه القاعدة ......................................... 125

الكلام في رواية (لا ضرر ولا ضرار) ............................................ 128

النقطة الأولى: في سند الرواية ................................................... 128

النقطة الثانية: في متن الحديث ................................................... 131

النقطة الثالثة: في البحث عن مفردات الحديث ................................... 143

معنى الضرر .................................................................... 143

مقومات وأركان الضرر ......................................................... 146

معنى الضرار ................................................................... 148

تنبيهات ........................................................................ 159

النقطة الرابعة: في الهيئة التركيبية لجملة لا ضرر ولا ضرار ........................ 162

ص: 522

النقطة الخامسة: في الإعتراضات التي أُثيرت حول كلية الحديث وعمومه ......... 186

المقام الثاني: في الإعتراضات التي أُثيرت حول التطبيقات الفقهية للقاعدة ........ 195

كيفية تطبيق القاعدة على الخيارات ............................................... 199

المقام الثالث: نسبة القاعدة الى أدلة الأحكام الأولية .............................. 204

موارد تخصيص القاعدة ......................................................... 214

المقام الرابع: في امتنانية لا ضرر ................................................. 225

المقام الخامس: شمول القاعدة للأحكام العدمية ................................. 227

تفصيل المحقق النائيني في الضمان في قاعدة لا ضرر .............................. 232

المقام السادس: في شمول القاعدة للأحكام الترخيصية ........................... 237

المقام السابع: في أنّ الضرر المنفي هو الضرر الواقعي أو لا ........................ 238

الخلاف في مسائل قاعدة لا ضرر ................................................ 240

المقام الثامن: في المراد بالضرر هل هو النوعي منه أو الشخصي .................... 248

المقام التاسع: في الإضرار بالنفس ............................................... 251

المقام العاشر: في نسبة قاعدة لا ضرر مع قاعدة لا حرج .......................... 259

المقام الحادي عشر: في بعض تطبيقات القاعدة ................................... 262

المقام الثاني عشر: تقدم ما يتعلق بتعارض الضررين وصوره ...................... 271

المقام الثاني عشر: تقدم ما يتعلق بتعارض الضررين وصوره ...................... 271

الفصل السادس: الإستصحاب ................................................. 277

المقدمة؛ وفيها أمور ............................................................. 277

أقسام الإستصحاب ............................................................ 288

جهات البحث .................................................................. 302

ص: 523

الجهة الأولى: في جریان استصحاب عدم الجعل .................................. 302

الجهة الثانية: في إمكان تعلق التعبد بعدم الجعل .................................. 306

الجهة الثالثة: في اختلاف الجعل سعة وضيقاً باختلاف المجعول .................. 309

مباحث الإستصحاب ........................................................... 316

المبحث الأول: في الأدلة على حجية الإستصحاب ............................... 316

الإستدلال بالأخبار ............................................................ 323

الخبر الأول: مضمرة زرارة ...................................................... 323

الخبر الثاني: صحيحة زرارة في الوضوء .......................................... 337

الخبر الثالث: صحيحة زرارة الثالثة ............................................. 345

الخبر الرابع: رواية الصدوق في الخصال ......................................... 360

الخبر الخامس: مكاتبة علي بن محمد القاساني ..................................... 362

الخبر السادس: صحيح عبد الله بن سنان ........................................ 365

ختام في الإستدلال بأخبار الحل والطهارة ....................................... 366

شمول الأدلة الروائية لجميع أقسام الإستصحاب ................................ 381

أدلة التعميم .................................................................... 381

أدلة الإختصاص ............................................................... 382

المبحث الثاني: في الآثار المترتبة على الاستصحاب ................................ 386

المسألة الأولى: قيام الإستصحاب مقام القطع الموضوعي ......................... 387

المسألة الثانية: حدود ما يثبته الإستصحاب من آثار القطع الطريقي ............... 391

المبحث الثالث: في أركان الإستصحاب ......................................... 417

ص: 524

المبحث الرابع: تنبيهات الإستصحاب ........................................... 431

التنبيه الأول: في الأحكام الوضعية وجريان الاستصحاب فيها ................... 431

التنبيه الثاني: في جريان الإستصحاب في الشك الفعلي دون التقديري ............. 444

التنبيه الثالث: في إستصحاب الكلي .............................................. 449

الجهة الأولى: في أصل جريان الإستصحاب في الكلي ............................. 449

الجهة الثانية: في بيان أقسام الكلي ................................................ 451

القسم الأول من استصحاب الكلي .............................................. 452

القسم الثاني من استصحاب الكلي ............................................... 453

تتمة فيها أمور .................................................................. 460

الشبهة العبائية .................................................................. 460

الفرد المردد ..................................................................... 462

القسم الثالث من استصحاب الكلي ............................................. 467

القسم الرابع من استصحاب الكلي .............................................. 469

التنبيه الرابع: في استصحاب الأمور التدريجية .................................... 471

ختام فيه أمران .................................................................. 476

التنبيه الخامس: الإستصحاب التعليقي .......................................... 481

المقام الأول: في تمامية أركان الإستصحاب في هذا القسم ......................... 483

المقام الثاني: في وجود المعارض مع الإستصحاب التعليقي ....................... 491

ختام فيه أمور ................................................................... 494

التنبيه السادس: إستصحاب عدم النسخ ........................................ 496

ص: 525

التنبيه السابع: الإستصحاب في توارد الحالتين ................................... 497

التنبيه الثامن: في جريان الإستصحاب في الإعتقاديات ........................... 503

ختام فيه أمور ................................................................... 507

التنبيه التاسع: في استصحاب حكم المخصص ................................... 510

التنبيه العاشر: إستصحاب الصحة عند الشك فيها ............................... 517

الفهرست ...................................................................... 521

ص: 526

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.