تقریب تهذیب الأصول المجلد 5

هوية الکتاب

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء الخامس

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

ص: 1

اشارة

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء الخامس

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

© جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 2

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأُصُول

الجزء الخامس

آية الله السيد

علي الموسوي السبزواري

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

(لا يَخْفى أنَّ الأُصولَ مُقدمَّةٌ وَآلةٌ لِلْتَعرُّفِ على الفِقهِ؛ وَلَيسَ هُوَ مَطلُوباً بالذّاتِ, فَلا بُدَّ أَنْ يَكونَ البَحْثُ فِيهِ بِقَدَرِ الإحْتياجِ إِلَيهِ فِي ذِي المُقدِّمَة؛ لا زائِدَاً عَلَيهِ, وَأَنْ تَكُونَ كَيْفيَّة الإِسْتِدلالِ فِيهِ مِثلها فِي الفِقه فِي مُراعاةِ السُّهُولةِ, وَما هُوَ أَقْرَبُ إلى الأَذْهانِ العُرفيَّةِ, لابْتِناءِ الكِتابِ وَالسُنَّةِ اللَّذَينِ هُما أَساس الفِقْهِ عَلى ذلِك, فَالأُصُولُ مِنْ شُؤُونِ الفِقْهِ؛ لا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ خُصُوصيّاته مِنْ كُلِّ جِهَةٍ)(1).

فَقِيهُ عَصْرِهِ وَفَرِيدُ دَهْرِهِآيَةُ الله العُظْمى

السَّيِّد عَبْدُ الأَعْلى المُوسَويُّ السَّبْزَوارِيُّ قدس سره

ص: 5


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص6.

ص: 6

الفصل الثاني: الإجماع

اشارة

الفصل الثاني(1)

تمهيد فيه أمور

الأمر الأول: الإجماع من الأمور العرفية العقلائية في كلِّ عصر وزمان ولا يختص بقوم دون آخر ولا ملّة دون أخرى, ففي كلِّ علم وصنعة اتّفاق على أمور واختلاف في أمور أخرى, فلا اختصاص به بملة الإسلام وفقهاء المسلمين.

الأمر الثاني: الإجماع (في اللغة) بمعنى العزم والتصميم, يقال: أجمع القوم على العمل الفلاني, أي: عزموا وصمموا عليه, ويطلق على الإتفاق؛ فيقال: أجمعوا على القيام بعمل ما, أي: إتَّفقوا عليه. فقد يقال بالإشتراك اللفظي, ولكن الصحيح هو عدم الإشتراك, وإمكان إرجاع أحدهما إلى الآخر كما في كثير من الألفاظ المشتركة.

وأمّا (في الإصطلاح) فذكر الأصوليون له تعاريف بعد تعريفهم له بالإتّفاق في الجملة ولكنهم اختلفوا في متعلقه, فقيل إنَّه مطلق الأمة, وقيل خصوص المجتهدين منهم في كلِّ عصر, وعند مالك: إتّفاق أهل المدينة, وقال بعضهم: إتّفاق أهل الحرمين؛ مكة والمدينة, أو اتّفاق أهل المصرين؛ الكوفة والبصرة, وقيل غير ذلك, وفي بعض المذاهب: إتّفاق خصوص مجتهديهم. وغير ذلك من الأقوال الكثيرة عند المخالفين التي تحكي عن اختلافهم في مقدار حجيته, وعند علمائنا: إتّفاق آراء من يعتبر رأيه عند العقلاء على شيء فيما يعتبر رأيهم فيه. والمهم هو البحث عن اعتباره في أنَّه أصل من الأصول مقابل الكتاب والسنة ودليل العقل, ثم عن حجيته وإقامة الدليل عليها.

ص: 7


1- . من فصول مباحث الحجة.

الأمر الثالث: ينقسم الإجماع إلى قسمين: أولهما؛ منقول بالخبر الواحد، والبحث فيه من فروع بحث حجية الخبر الواحد, فإنَّه لا فرق في الخبر الواحد بين أنْ يكون مفاده قول المعصوم أو فعله أو تقريره أو الإجماع القائم على شيء من ذلك, ولا بُدَّ أنْ يكون الكلام فيه هناك, ولكنهم أفردوه بالبحث مقدماً على بحث حجية الخبر؛ من أجل أنَّ الإجماع من أدلَّة اعتباره في الجملة, فأرادوا الإشارة إلى اعتباره إجمالاً مقدمة لذلك.

وثانيهما؛ الإجماع المحصل, وهو المقصود بالبحث هنا.

والكلام يقع في مباحث مرتبطة بالمقام:

المبحث الأول: في أنَّ الإجماع أصل مستقل في الكشف عن الحكم الواقعي؛ مقابل الكتاب والسنة والعقل, أو أنَّه كاشف عن رأي المعصوم.

والمعروف عند الإمامية أنَّه لا استقلال له, وذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنه لا موضوعية في الفقه بما هو إجماع في مقابل الكتاب والسنة بحيث يكون اعتباره في عرضهما, بل الظاهر أنَّ اعتبار الإجماع لدى العقلاء أيضاً ليس لموضوعية فيه بل لأجل كشفه عن حجة وثيقة لديهم في الجملة.

والظاهر أنَّ الكثير من المخالفين يرون أنَّه لا استقلال له, يقول الخضري: (لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند)(2), وإنْ ذهب بعضهم إلى استقلاليته, فقد حكى الآمدي وغيره عن بعض الأصوليين: (إنَّه لا يشترط المستند, بل يجوز صدوره عن توفيق؛ بأنْ يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب)(3).

ص: 8


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص81-82.
2- . أصول الفقه؛ ص275.
3- . حكاه عن الآمدي في المصدر السابق.

وقد ذكر كلُّ واحد من الفريقين أدلته كما هو مسطور في الكتب المتَّصلة, ولا جدوى في استعراضها لكون أكثرها بعيدة عن مساق أدلَّة الحجية.

والذي ينبغي أنْ يذكر هو استعراض أدلَّة حجية الإجماع والنظر في مدى دلالتها وحدود ما تقتضيه مضامينها.

إلا أنَّ من أضاف صفة العصمة للأئمة علیهم السلام فإنَّه يكون لاتّفاقها خصوصية في إصابة الحكم الواقعي مقابل الأدلَّة الأخرى.

وأمّا من اعتبر المستند فيه فإنَّه يدلُّ على أنَّ حجيته تكون باعتبار حكايته عن رأي المعصوم علیه السلام , فيكون اعتبار الإجماع من جهة كشفه عن قول المعصوم علیه السلام أو فعله أو تقريره وإنْ اختلفوا في طريق استكشاف ذلك كما سيأتي بيانه.

ولا بُدَّ من استعراض الأدلَّة والتماس وجه الحقَّ منها.

المبحث الثاني: إختلف العلماء في حجية الإجماع؛فقد ذهب المتكلمون بأجمعهم والفقهاء بأسرهم على اختلاف مذاهبهم إلى أنَّ الإجماع حجة, ولكن حكي عن النظّام وبعض آخرين قالوا أنَّ الإجماع ليس بحجة، كما اختلف من قال بحجيته؛

فمنهم من قال أنَّه حجة من جهة العقل(1).

ومنهم من قال أنَّه حجة من جهة السمع دون العقل(2).

ص: 9


1- . وهم الشذاذ.
2- . وهو الذي اختاره الجمهور الأعظم.

أدلَّة حجية الإجماع

وكيف كان؛ فقد استدل على حجيته بالأدلَّة الثلاثة، وإنَّما أقصوا الإجماع لاستلزامه الدور.

الدليل الأول: الكتاب

وقد استُدل بجملة من الآيات:

1- قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)(1).

بتقريب: إنَّ الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد, فيلزم أنْ يكون اتّباع غير سبيل المؤمنين محرماً مثل مشاقة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم , ويلزم من ذلك وجوب اتّباع سبيل المؤمنين. وهو يدلُّ على أنَّ الإجماع حجة؛ لأنَّ سبيل الشخص هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الإعتقاد.

ويرد عليه: ان تعدد الشرط مع وحدة الجزاء يدلُّ على اشتراكهما في علّة التحريم ولازمه ان اتّباع غير سبيل المؤمنين من دون مشاقة الرسول لا يدلُّ على الحرمة فلا يتم المطلوب فلا يدلُّ على الإجماع, يضاف إلى ذلك ان قوله تعالى (نُولِّه مَا تَوَلَّی) ينافي إرادة الإجماع منها, إذ لا معنى لأنْ يقال بأنَّ من يتبع غير ما أجمعوا عليه من الأحكام نجعل ما اتّبعه من الحكم غير المجمع عليه والياً عليه يوم القيامة.

والحقُّ؛ إنَّ معنى الآية الشريفة هو أنَّ من يشاقق الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ويخالف المؤمنين في اتّباعهم له ويتبع غيره من الرؤساء والعلماء نربط مصيره بمصير من تولاه؛ كما تدلُّ عليه آيات أخرى, مثل قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)(2). فيكون أجنبياً عن مفاد جعل الحجية للإجماع.

ص: 10


1- . سورة النساء؛ الآية 115.
2- . سورة الإسراء؛ الآية 71.

2- قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(1).

بتقريب: إنَّ الوسط هو العدل والخيار, والعدل والخيار لا يصدر عنه إلا الحق, والإجماع صادر عن هذه الأمة العدول الخيار, فليكن حقاً.وهذه الدلالة لو تمَّت فهي لا تزيد على أكثر من إثبات العدالة لهم لا العصمة، والذي ينفع في المقام إنَّما هو إثبات العصمة لا العدالة ليتم حكايتها عن الحكم الواقعي, إذ العدل لا يمتنع صدور غير الحقّ منه ولو فرض فإنَّما يلزم صدور الحق منه بطريق الظاهر فيما طريقه الصدق والكذب، وهو نقل الأخبار وأداء الشهادات، أمّا فيما طريقه الخطأ والصواب في استخراج الأحكام والإجتهاد فيها فلا.

3- قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)(2).

بتقريب: إنَّ الإجماع حبل الله, فيجب الإعتصام به ولا يجوز التفرق عنه.

ولكن يرد عليه من أنَّه موقوف على أنْ يكون الإجماع مصداقاً لهذا المفهوم. وهو بعيد جداً, والآية لا تتكفل إثبات ذلك لأنَّها لا تثبت موضوعها.

وغير ذلك من الآيات التي هي ضعيفة في دلالتها على إثبات المطلوب.

الدليل الثاني: السُنَّة

وهي على طوائف مأثورة عن بعض أصحاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم نذكر بعضاً منها؛

قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ)(3).

ص: 11


1- . سورة البقرة؛ الآية 143.
2- . سورة آل عمران؛ الآية 103.
3- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج2 ص225.

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ)(1).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (مَنْ سَرَّه أَن يَسْكُنَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَم الجَمَاعةَ)(2).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (إِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ)(3).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (يد الله مع الجماعة)(4).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (لا يبالي الله بشذوذ من شذ )(5).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم إلا ما اصابهم من الداء)(6).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإسلام عَنْ عُنُقِهِ)(7).وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)(8).

إلى غير ذلك من الروايات(9).

ص: 12


1- . الإفصاح في الإمامة؛ ص47.
2- . نهج الفصاحة؛ الكلمة 2826.
3- . المصدر السابق؛ الكلمة 638.
4- . سنن الترمذي؛ ج4 ص214. ولم ترد هذه الرواية كنص واضح عنهم علیهم السلام وإنَّما ذكرها العلماء من باب الإستشهاد مع عدم النسبة, أو معها من باب التحليل، فقد ذكرها صبحي الصالح في مقدمة نهج البلاغة؛ ص31, وفي فهرس التعاليم؛ ص816، وإبن أبي الحديد في شرح النهج؛ ج10 ص280، وفي المقدمة الثانية في نهج الفصاحة؛ ص45.
5- . جاءت مع الرواية السابقة معاً في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد؛ ج8 ص123.
6- . مسند أحمد؛ ج37 ص79.
7- . عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية؛ ج 1 ص281-282.
8- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج29 ص331.
9- . أصول الفقه (الخضري)؛ ص379 وما بعدها.

ويمكن الجواب بما يلي:

أولاً: إنَّ بعضها أجنبي عمّا يقصدونه من إثبات العصمة للأمة, مثل تلك الأخبار الداعية إلى الألفة والتجمع, نحو قوله صلی الله علیه و آله و سلم : ( يد الله مع الجماعة )(1).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (إِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ)(2).

ثانياً: إنَّ بعضها تدلُّ على طاعة الأئمة والأمراء وترك الخروج عليهم, كقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (إسمعوا وأطيعوا وان أمَّر عليكم عبد حبشي )(3).

وقوله صلی الله علیه و آله و سلم : (من قاتل تحت راية عِمِّيَّة, يَغْضَبُ لعَصَبةٍ، أو ينصر عَصَبةً، أو يدعو إلى عَصَبَةٍ؛ فَقُتِل؛ قُتِلَ قِتْلةً جاهلية)(4).

وهذا القسم بعيد عن إثبات حجية الإجماع وإضافة صفة العصمة للأمَّة.

ثالثاً: إنَّ بعضها إنَّما تدلُّ على الحثِّ على صلاة الجماعة, وهو لا يثبت الإجماع ولا حجيته وغيرهما.

رابعاً: إنَّ روايات (لا تجتمع امتي على ضلالة) وإنْ اعتبرت من أقوى ما يمكن الإعتماد عليه لشهرتها اعتماد معظمهم عليها -لا سيما أوائلهم- وتلقيهم لها بالقبول لفظاً ومعنىً, بل ادَّعى بعضهم تواترها معنىً, وعن العلامة من أصحابنا في كتابة (الألفين) إنَّها متَّفق عليها بين الفريقين بل عدّ في كتابه القاعدة أنَّ من خصائص نبينا صلی الله علیه و آله و سلم عصمة أمته بناءً على ظاهرها.

ص: 13


1- . نهج الفصاحة؛ ص45.
2- . نهج الفصاحة؛ الكلمة 638.
3- . النهاية في غريب الحديث والأثر؛ ج1 ص247.
4- . الفائق في غريب الحديث؛ ج 2 ص398.

وفي كتابه (التذكرة) تصريح بعصمتهم من الإجماع على الضلالة ووروده من طرقنا أيضاً.

لكن هذا القسم من الروايات المروية من طريقنا لم تكن جامعة لشرائط الحجية كما يظهر لمن تتبعها(1). وهي وإنْ تعددت ألفاظه ورواياته ولكنها لم تبلغ مرتبة التواتر المعنوي كما ادَّعاه بعض علماء الجمهور(2).ويضاف إلى ذلك أنَّه لا نسلّم تلقيها بالقبول من جميع المسلمين, فإنَّ منكري الإجماع كالنظّام والخوارج والظاهرية، والشيعة الإمامية في بعض المصاديق كيوم السقيفة الذين

أنكروا الإجماع فيه لم يتلقوه بالقبول، فلو كانوا تلقوه بالقبول لما ردُّوه.

وكيف كان؛ فإنَّ أهم ما يورد على تلك الروايات هو: إنَّ المأخوذ فيها الأمة, فلا تصلح لإثبات حجية إجماع بعض الأمة كالفقهاء وأهل الحرمين أو الصحابة أو أهل طائفة معينة, فإنَّ هذه الروايات لا تصلح لإثبات حجيتها, والقول بأنَّ الأمة ليست إلا مجتهديها وأهل الحلِّ والعقد فيها؛ فلا عبرة بغيرهم؛ فهو موهون لا يعتمد عليه سوى كونه من الإستحسان أو الخطابة, ولا يعول عليهما في مقام الإحتجاج بالأدلَّة الشرعية, فلا وجه للخروج عن نصوصيتها في جميع الأمة, وقصرها على بعضها كالصحابة وأهل المدينة وهكذا.

الدليل الثالث: العقل

وقد صوروه في عدة وجوه, أهمها ثلاثة:

الوجه الأول: إنَّ الجمّ الغفير من أهل الفضل والذكاء مع استفراغ الوسع في الإجتهاد وإمعان النظر في طلب الحكم يمتنع في العادة اتفاقهم على الخطأ.

ص: 14


1- . كشف القناع (الشيخ أسد الله التستري المعروف بالمحقق الكاظمي)؛ ص6.
2- . رسالة الطوفي؛ ص105.

وفيه: إنَّه منقوض بإجماع أهل الملل من الضلال على كثرتهم واجتهادهم وإمعانهم في النظر, ثم أنَّه ما أكثر ما يقع الإشتباه في الأمور الحدسية أو البرهانية, وتاريخ العلماء والفلاسفة شاهد على ذلك.

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الطوسي قدس سره (1) من الإستدلال بقاعدة اللطف؛ بتقريب: إنَّ الله سبحانه يجب عليه من باب اللطف بالعباد أنْ لا يمنعهم من التقرب والوصول إليه, وأنْ يكمل نفوسهم القابلة, ويرشدهم إلى مناهج الصلاح, ويحذرهم عن مساقط الهلكة, وهذا هو السبب في لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب.

وعليه؛ فلو اتفقت الأمة على خلاف الواقع في حكم من الأحكام لزم على الإمام المنصوب حجَّة على العباد إزاحة الشبهة بإلقاء الخلاف بينهم, فمن عدم الخلاف نستكشف موافقة رأي الإمام علیه السلام دائماً ويستحيل تخلّفه.

وهذا الدليل إنَّما يتم على رأي الإمامية الذين اعتقدوا بوجود الإمام المعصوم علیه السلام دون غيرهم, ولكن الكلام في أصل القاعدة؛ فإنَّها لو تمَّت ففي أصل بعث الأنبياء وإنزال الكتب لهداية الناس, ولكنها غير تامة في الجزئيات كما في المقام, فإنَّ مقتضاها هو صدور التبليغ وإيصال الأحكام إلى الناس على النحو المتعارف, لا أنْ يوصلها إلى كلِّ فرد, وربَّما أنَّ الإمام قد بلَّغ ولكنه لم يصل إلى المجتهدينلسبب من الأسباب المعروفة التي اقتضت الخفاء, مع أنَّ المصلحة التي اقتضت اختفاء الإمام علیه السلام نفسه قد تكون متوفرة في اختفاء أحد الأحكام, فلا يلزم إظهاره على كلِّ حال, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثالث: إنَّ الإجماع يكشف عن دليل معتبر عند المجمعين, بحيث لو وصل إلينا لكان معتبراً عندنا.

ص: 15


1- . العدة في الأصول؛ ج2 ص629-631.

ويرد عليه: إنَّ الدليل لا يخلو؛ إمّا أنْ يكون من الكتاب أو السنة أو حكم العقل أو غير ذلك كالقياس ونحوه, ولا يمكن أنْ يكون إجماعاً؛ إذ لا وجه لأنْ يكون الإجماع على حكم مستنداً للإجماع عليه.

أمّا الكتاب فهو معروف عندنا وموجود بين أيدينا, فلا وجه لالتماس الحجة من الإجماع لكفاية المستند, مع أنَّ المفروض أنَّ المستند لم يصل إلينا فلا يحتمل أنْ يكون آية.

أمّا العقل فهو أيضاً لا يمكن أنْ يكون المستند الذي لم يصل إلينا, لأنَّه إنَّما يصح أنْ يكون دليلاً إذا كان مِمّا تطابق عليه آراء العقلاء, والمفروض أنَّنا منهم فكيف يخفى علينا؟ وكيف يصير مِمّا تطابقت عليه آراء العقلاء, وهو مِمّا يخفى علينا؟.

وأمّا السنَّة فالمتواتر منها لا تخفى علينا, وغير المتواتر لا يكشف عن الحجة, إذ لا بُدَّ من ملاحظة السند والدلالة, فربما يكون خبراً حجة عند مجتهد لا يكون حجَّة عند غيره, فلو اطلعنا عليه لم يكن حجة, ومن أجل ذلك قالوا أنَّ فهم المجتهدين لا يكون حجة على غيرهم من العلماء.

وأمّا غير ذلك من الأدلَّة كالقياس ونحوه فإنَّها بنفسها موضع خلاف بين العلماء, فلا يمكن أنْ تكون مستند الإجماع, بل لا يمكن أنْ ينعقد الإجماع من غير القائلين به, وقد ضربوا أمثلة لذلك منها إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر قياساً على تقديمه في الصلاة, ولكنه مردود صغرى وكبرى كما هو مفصل في كتب الكلام, ثم أنَّه قد يُدَّعى أنَّ الإجماع مِمّا يحصل بسببه القطع بوجود دليل لو اطلعنا عليه لوافقنا المجمعين على الحكم, ولكن هذه الدعوى لا تنفع إلا من يحصل لديه القطع وإنْ كان هذا القسم هو الكثيرعند أرباب المذاهب ومِمَّن تغلب عليه العاطفة والعقيدة.

وهناك أدلَّة أخرى تختّص بالإمامية تعود إلى ضرورة دخول الأمام علیه السلام في جملة المجمعين قولاً أو إقراراً وسيأتي ذكرها ومناقشتها إنْ شاء الله تعالى.

ص: 16

ومن جميع ذلك يظهر قيمة الإجماع حسب اختلاف ألسنة تلك الأدلَّة, فبعضها تجعل الإجماع مقابل الكتاب والسنة وحكم العقل فيكون دليلاً مستقلاً مقابل سائر الأدلَّة كما هو المستفاد من الأدلَّة السمعية وخصوص حديث النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :(لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ)(1)؛ حيث استفادوا منها العصمة وعدم الخطأ للمجمعين, فيكون اجتماع الأمة على الحكم سبباً للوصول إلى الواقع.

وبعض تلك الأدلَّة تعتبر الإجماع كاشفاً عن رأي المعصوم أو عن دليل معتبر من الكتاب أو السنة أو القياس على اختلاف المباني, ومثل هذه الأدلَّة لا تجعل الإجماع دليلاً مستقلاً في مقابل سائر الأدلَّة الثلاثة.

وعلى ضوء ما ذكرناه يكون الإجماع على المبنى الأول أنّ الإجماع متى قام أخذ به، ولا يعارضه دليل سمعي له ظاهر على الخلاف، ويستحيل أن يعارض القطعي سنداً ودلالة منها- أي الأدلة- لأنّ الشارع لا يتناقض على نفسه، وعلى المبنى الثاني متى عرف المستند من كتاب أو سنة نقل الحديث إليه، ولا معنى للتعبد به بالخصوص، بل متى احتمل منه الإستناد إلى دليل ظني لم يحصل القطع بحجيته، ينقل الحديث إلى نفس ذلك المستند.

وعلى أي تقدير؛ فإنَّ المستفاد من جميع تلك الأدلَّة أنَّ حجية الإجماع منوطة بإجماع الأمة لا لطائفة أو فرقة معينة كالصحابة وأهل المدينة أو الحرمين ولا مجموع المجتهدين ولا أهل المصرين, فيكون تخصيص غير الأمة بالحجية على أي دعوى من تلك الدعاوى لا يتَّضح له وجه, بل ليس له دليل. نعم؛ بناءً على القول بأنَّ حجية الإجماع منوطة باكتشاف رأي المعصوم علیه السلام ودخوله ضمن المجمعين فلا معنى لتلك الدعاوى بأجمعها, بل يكفي ما يعتقد فيه بدخول المعصوم علیه السلام .

ص: 17


1- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج2 ص225.

قال المحقق في المعتبر: (فلو خلا المائة من فقهاءنا من قوله لما كان حجة, ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة)(1).

وقال السيد المرتضى: (إذا كان علة كون الإجماع حجة كون الإمام فيهم, فكل جماعة كثرت أو قلَّت كان الإمام في أقوالها فإجماعها حجة)(2), وستعرف مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ثم أنَّه بناءً على ما سردناه من الأدلَّة التي لا تخلو من المناقشة -كما عرفت- يظهر فساد رأي من يذهب إلى تكفير منكري حجية الإجماع كما ذهب إليه بعض الأصوليين من المخالفين, بدعوى أنَّ إنكاره متضمن أنَّكار دليل قاطع, وهو يتضمن أنَّكار صدق الرسول صلی الله علیه و آله و سلم , وهو كفر(3).

وقد ردّ الجوابين من المخالفين على هؤلاء بقوله: (فشا في لسان الفقهاء أنَّ خارق الإجماع يكفر وهو باطل قطعاً فإنَّ أصل الإجماع لا يكفر, ثم قال والقول الضابطفيه أنَّ من أنكر طريقاً في ثبوت الشرع لم يكفر, ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم جحده كان منكراً للشرع وإنكاره جزءاً من الشرع كإنكاره كله)(4).

وما ذكره صحيح؛ لأنَّ إنكار الطريق لا يستلزم إنكار حكم شرعي ثبت بالضرورة, بخلاف الإعتراف به وجحوده, لانتهائه إلى إنكار ما ثبت من الشريعة قطعاً.

ولعمري؛ إنَّ الإجماع وغيره من الموضوعات والمفاهيم, كالإجتهاد والعدالة والصحبة والخلافة وغيرها؛ قد تدخلت فيه السياسة النكراء المبتدعة التي حدثت بعد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وأفسدتها, وقد استغلت من قبل الخلفاء المدَّعين في سبيل تثبيت دعاواهم الباطلة وإرساء

ص: 18


1- . المعتبر؛ ص6.
2- . الذريعة إلى أصول الشيعة؛ ج2 ص630.
3- . أصول الفقه (للخضري)؛ ص281.
4- . المصدر السابق.

سلطانهم, كما اتخذت وسائل للصدِّ عن الحقِّ وردع الناس عن اتباعه والظلم على أهل الحق, وهذا بحث طويل له موضع آخر.

الإجماع عند الإمامية

لا ريب عند علمائنا أنَّه ليس للإجماع موضوعية في الفقه بما هو إجماع في مقابل الكتاب والسنة بحيث يكون اعتباره في عرضهما, وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ الظاهر هو اعتبار الإجماع لدى العقلاء أيضاً؛ ليس لموضوعية فيه, بل لأجل كشفه عن حجة وثيقة لديهم في الجملة, فلا بُدَّ في اعتبار الإجماع من كشفه عن قول المعصوم علیه السلام أو فعله أو تقريره, وللعلماء في طريق استكشاف ذلك وجوه ومسالك:

الوجه الأول: قاعدة اللطف؛ التي ترجع إلى قانون العقل العملي, وهو المنسوب إلى بعض قدماء أصحابنا, ومنهم الشيخ الطوسي قدس سره (2).

وقاعدة اللطف هي من فروع أصل العدل الإلهي المبحوث عنه في علم الكلام, واللطف عبارة عن عناية الله تعالى ولطفه بخلقه وتدبيره موجبات كمالهم الذي أعدّه لهم في علمه الأزلي, وهو إمّا تكويني أو تشريعي, والأول؛ إيصال الممكنات إلى الغايات المعدّة لها, والثاني؛ إيصال خصوص الإنسان إلى كماله المعنوي ببعث الرسل وإنزال الكتب وإتمام الحجة عليه والوعد والوعيد, وقد حصل ذلك منه تعالى بأكمل وجه وأتمّ طريق, وليس وراء ذلك شيء يجب عليه تعالى بحسب هذه القاعدة.

وقد يطلق اللطف على أنَّه يجب عليه تعالى تقريب العباد إلى الطاعة وإبعادهم عن المعصية بما لا ينافي الإختيار, فإذا حصل إجماع على ما لا يرتضيه الله يجب عليه تعالى صرفهم عنه أو إلهام ما هو الواقع إليهم.

ص: 19


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص81.
2- . العدة في الأصول؛ ص246-247.

وقد عرفت أنَّ التمسك بقاعدة اللطف غير تامّ في المقام, فإنَّها لو تمَّت فهي إنَّما تدلُّ على لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب والتبليغ واللطف بما هو المتعارف بينالناس, وقد حصل، وهي لا تدلُّ على الجزئيات التي منها إيصال الأحكام إلى كلِّ واحد من أفراد الناس مع أنَّ أسباب اختفاء الأحكام كثيرة ومتعددة ومعروفة عند الجميع, يضاف إلى ذلك أنَّ المصلحة التي اقتضت اختفاء الإمام نفسه قد تكون متوفرة في اختفاء الأحكام, فلا يلزم إظهاره على كلِّ حال.

والحاصل؛ إنَّه لا قصور من ناحية المولى, فلا دليل على وجوب شيء زائد على ما ذكرناه عليه تعالى, وحينئذٍ يكون احتمال الخطأ في إجماع المجمعين كاحتماله في فتوى المجتهد الذي يكون مرجعاً للتقليد, وقد فصَّل بعض الأصوليين في الردِّ على هذا المسلك وحاصله يرجع إلى ما ذكرناه.

الوجه الثاني: دخول شخص الإمام المعصوم علیه السلام في جملة المجمعين, وهو المعبّر عنه بالإجماع الدخولي.

ويرد عليه بأنَّه إنْ صحَّ ذلك فهو في حال حضوره علیه السلام , وأمّا الإجماعات الحاصلة بعد الغيبة الكبرى التي تدور عليها الإجماعات الفقهية فهو ممتنع عادة.

نعم؛ لو تحقق إجماع من زمان ظهور المعصوم علیه السلام إلى ما بعد الغيبة الكبرى لكان له وجه, ولعل هذا هو المراد من الإجماع وإنْ كان بعيداً عن كلمات الأعلام في المقام.

ولو تشرف أحد بلقائه علیه السلام بعد الغيبة الكبرى وأخذ حكماً منه علیه السلام ونقله بعنوان الإجماع؛

فهو وإنْ كان محتملاً ولكن اعتبار قوله مع ما ورد من التشديد في تكذيب ذلك مشكل, وعلى فرضه يكون من الإجماع الإصطلاحي أشكل.

ص: 20

الوجه الثالث: الحدس من آراء الرعايا والمرؤوسين إنْ رأى الرئيس معهم.

وأشكل عليه بأنَّه صحيح إنْ كان باب المشاورة والمراجعة مع الرئيس مفتوحاً, فالرعية تشاوره وهو يراجعهم, وأمّا إذا كان الباب مسدوداً بالمرة وحالت بينهما أستار الغيبة فلا وجه لهذا الحدس أصلاً ولا يعتبر لدى العرف والعقلاء رأساً.

ولكن يمكن ردّه بأنَّ باب معظم الأحكام الصادرة منهم علیه السلام مفتوح وكان ذلك في متناول الأصحاب, وجرت العادة إلى الرجوع إلى تلك الأحكام في زمان الحضور والغيبة, فإنَّ ذلك يكون من اْنَّفتاح باب المراجعة إليهم علیهم السلام , والعادة تقضي برضائهم بما اجتمع عليه شيعتهم ورواة أحاديثهم, فإنَّه يمكن دعوى ثبوت الملازمة العادية بين إجماع الإمامية ورضاء المعصوم علیه السلام بما أجمعوا عليه, وهذه الملازمة معتبرة عرفاً, وعلى هذا الوجه لا فرق بين إجماع القدماء وسائر الأعصار, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.الوجه الرابع: تراكم الظنون من آراء الأعلام يوجب القطع بموافقة الإمام علیه السلام .

وأشكل عليه بأنَّه من الإحالة إلى المجهول مع اختلاف المسائل والآراء والأشخاص.

وردَّه السيد الوالد قدس سره (1) بأنَّ المدار على حصول الإطمئنان النوعي المختلف بحسب المراتب, ويكفي حصول أول مرتبة منه كما في سائر الموارد.

وفيه: إنَّ حصول الإطمئنان من تراكم الظنون في المسائل الخلافية مع تعدد الآراء مشكل جداً. نعم؛ قد يحصل في بعض الموارد ولا يمكن إنكار ذلك, إلا أنَّه لا يمكن تأسيس قاعدة كلية منها.

ص: 21


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص83.

الوجه الخامس: إنَّ إجماع العلماء في مورد يكشف عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا, لأنَّ بناء الأئمة علیهم السلام كان على إيداع جملة من الأحكام الواقعية عند خواص الأصحاب وهم أودعوها عند الطبقة اللاحقة لهم فوصلت إلى طبقة الغيبة الكبرى فصارت مجمعاً عليها من دون ذكر نفس المدرك بالخصوص.

وهذا الوجه حسن ثبوتاً ويعضده كثير من القرائن التاريخية, ويصلح أنْ يكون مدركاً لاعتبار الشهرة أيضاً ولكنه يختص بتلك الموارد التي لم يكن فيها مدرك معتبر يصحّ الإستناد إليه وهو قليل جداً كما هو واضح, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الوجه السادس: لأجل كشفه عن قاعدة معتبرة عقلائية أو شرعية قال صاحب الجواهر قدس سره في صلاة القضاء: (والذي يقوى في ظني أنَّ كثيراً من إجماعات القدماء بمعنى الإتفاق على القواعد الكلية التي تكون مدركاً لبعض الأحكام الجزئية)(1).

وقال في كتاب الكفارات: (وإجماع السيدين كغيره من إجماعات القدماء ولا وثوق بالمراد منها على وجه يريح النفس في الفتوى بها بالوجوب والحرمة وإنْ قلنا بحجية الإجماع المنقول لكن في الغالب ينقلونه على مقتضى العمومات ونحوها)(2)؛ وهذا الوجه صحيح ومتين جداً في مرحلة الثبوت.

ولكن صدق الإجماع على مثل ذلك مشكل إذا كان المناط على تلك القواعد والعمومات.

الوجه السابع: أنْ يتفرد فقيه في عصر ولم يكن فقيه آخر في طبقته ولا الطبقة اللاحقة إلا أنْ يكون تلميذاً له تلميذاً لتلاميذه, وحيث أنَّ مثل هذا الفقيه لا يرى في الخارج رأياً إلا رأيه يصح له دعوى الإجماع.

ص: 22


1- . جواهر الكلام؛ ج13 ص183.
2- . المصدر السابق؛ ج33 ص93.

وهذا كثير في دعوى الإجماع من قبل السيد المرتضى والشيخ (قدس سرَّاهما) بل والعلّامة, ولا اعتبار بمثل هذا الإجماع كما هو واضح.

الوجه الثامن: الإجماع القهري الإنطباقي بعد استقرار رأي فقيه بين الناس ومتابعته قرناً أو أكثر يتحقق الإجماع قهراً لعدم ظهور الخلاف, فإنَّه ينقل في القرون اللاحقة عين ما تحقق في القرن السابق وهذا كثير أيضاً كما لا يخفى على الخبير ولا وجه لمثل هذا الإجماع أيضاً.

الوجه التاسع: الإجماع التقليدي, أي التشبيه بالمخالفين, حيث أنَّ الإجماع كان شايعاً عند العامة, وأمّا الخاصة فكانوا جامدين على نصوص الأئمة علیهم السلام , ولذا سمّوا بالمقلّدة عند العامة في أوائل الغيبة الكبرى, فقد ادّعى أعلام تلك العصور الإجماع حتى في المسائل التي يكون النص فيها متوفراً ومتعدداً لمصلحة التشابه مع العامة التي منها رفع هذه الأسماء عنهم, ومثل هذا الإجماع كثير في الإجماعات التي ادّعاها الشيخ قدس سره .

الوجه العاشر: الإجماع الذي ادعي من أجل حفظ وحدة المذهب, ويعبّر عنه بالإجماع الإحتفاظي, وقد ذكر السيد الوالد قدس سره هذا القسم وسابقه بقوله: (إنَّ العامة تشتت إلى مذاهب كثيرة ربما تجاوزت التسعين كما لا يخفى على من راجع التواريخ, ثم استقرت مذاهبهم على الأربعة المعروفة بأمر من خليفة ذلك الوقت, وكان إعلام فقهائنا (قدست أسرارهم) متوجهين إلى هذه الجهة فادعوا الإجماع في كلِّ المسائل مع وجود الدليل إهتمأمّا ببقاء وحدة المذهب وعدم تفرقه وتشتته, ثم رأوا أنَّ هذا الأمر يضُرّ بهم من جهة أخرى كما قال أبو عبد الله علیه السلام في خبر أبي خديجة: (انا ألقيت الخلاف بينهم لئلا يغرقوا فيؤخذ برقابهم)(1), فادَّعوا الإجماعات المعارضة لإلقاء الخلاف حفظاً لدماء الشيعة؛ وسميّ الأول بالإجماع الإحتفاظي والأخير بالإجماع الإختلافي, أي لأجل إيجاد الخلاف

ص: 23


1- . لا يوجد مثل هذا النص في المجامع الحديثية وإن ذكره أغلب الأصوليين في كتبهم.

لمصالح شتى كما لا يخفى, وهذا القسم من الإجماع وسابقه يظهر بوضوح لمن راجع تاريخ الشيعة ومعاشرتهم مع أعدائهم, ولا اعتبار بمثل هذه الإجماعات أيضاً)(1).

وكيف كان؛ فإنْ عُلم أحد الوجوه المتقدمة بالقرائن فإنَّه يتبين حكمه بحسبه كما هو واضح. وإنْ تردد الأمر ولم يتَّضح وجه؛ فقد ذكر السيد الوالد قدس سره أنَّ الظاهرتردده بين الوجه الخامس والسادس فيتعين أحدهما بحسب القرائن, ولكن عرفت الإشكال عليهما من أنَّه لا يمكن لنا تأسيس قاعدة كلية فيهما؛ ومن أجل ذلك لو تردد إجماع بين ما هو معتبر وغير معتبر فإنَّه لا وجه للإعتماد عليه إلا إذا تعين بالقرائن على أنَّه من قسم المعتبر كما هو واضح.

أدلَّة الرد على التمسك بالإجماع

إعترض بعض الأصوليين على التمسك بالإجماع بوجوه عديدة, أهمها:

الوجه الأول: ما ذكرناه سابقاً من أنَّ إجماع أصحاب شخص إنَّما يكشف عن رأيه أو ذوقه إذا كانوا في موقع يمكنهم من الإتّصال المباشر معه, وأمّا إذا كان محجوباً عنهم وليس بينه وبينهم إلا الظنون والحدس فاتّفاقهم لا يكشف عن رأيه, وهذا يجري في إجماعات فقهاء عصر الغيبة؛ فإنَّهم كانوا محجوبين عن إمامهم علیه السلام .

والجواب عنه يظهر فيما ذكرناه من بيان المسلك الثالث والرابع؛ وحاصله: إنَّه لا ندعي الكشف عن رأي المعصوم مباشرة من الإجماع ليقال أنَّه محجوب عنهم بل يتوسط الملازمة العادية والإرتكاز المتلقى عن أصحاب الأئمة علیهم السلام السابقين, فإنَّ ارتكازهم كاشف عن رأيه, لكونهم معاصرين معهم ومتلقين عنهم كلّ تصوراتهم, والعادة تقضي برضائهم علیهم السلام بما اجتمع عليه رواة أحاديثهم.

ص: 24


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص85.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ غاية ما يقتضيه الإجماع أنَّ الفقهاء لتورعهم وعدالتهم لا يفتون بدون مدرك إلا أنَّ هذا لا يفيد لنا شيئاً؛ إمّا لأنَّه لا يكشف عن وجود رواية صحيحة وصلت اليهم ولم تصل إلينا, لأنَّ هذا نفسه غريب؛ إذ كيف يفرض ذلك مع أنَّهم رواة الأحاديث وحملة الروايات إلينا, ونقلوا الغثّ والسمين والصحيح والسقيم من الروايات, ولم ينقلوا تلك الرواية.

وإمّا أنَّه لو فُرض ذلك؛ فما يدريك لو كانت تصل تامة سنداً ومتناً, فلعلها غير تامة؛ إمّا سنداً -لاختلاف المباني في تصحيح الأسانيد- أو دلالة -إذ لعله هناك نكتة خفيت عليهم كما هو واقع كثيراً-, ويظهر الجواب عن ذلك مِمّا سبق ذكره وكما يلي:

أولاً: إنَّ المناط في حجية الإجماع ليس مجرد استكشاف مدرك روائي وصل إليهم ولم يصل إلينا حتى يُستشكل عليه بهذين الإشكالين, بل لأجل تلك الملازمة العادية والإرتكاز الكاشف عن رأي المعصوم قطعاً.

ثانياً: إنَّنا نفرض أنَّ الإجماع يكشف عن وجود نصّ عندهم ولم يصل إلينا, فإنَّ فرض العدالة والوثاقة اللتين إقتضيا هذا الفرض تقتضيان أنْ يكون النصّ معتبراً,فإنَّهم لم يعتمدوا على نصِّ غير معتبر, فإنَّ تراكم الظنون من المجمعين المعتمدين على ذلك النص يورث القطع بصحة المصدر سنداً ودلالة عادة.

الوجه الثالث: إعتراض الإخباريين على كون الإجماع مدركاً في الإستنباط, لأنَّ مصادره قد انحصرت في الكتاب والسنة.

والجواب عنه ظهر مِمّا تقدم بعد تسليم الكبرى من أنَّحصار مصادر الإستنباط في الكتاب والسنة؛ كما عرفت في بحث حجية العقل من أنَّ الدليل العقلي في الأحكام لا موضوعية

ص: 25


1- . نهاية الدراية؛ ج2 ص177.

فيه, فلا بُدَّ من إضافة اعتباره إلى الشرع ولو على نحو عدم الردع, فينحصر في الكتاب المشروح بالسنة والسنة الشارحة له, ولكن الإجماع إنَّما يثبت اعتباره من أجل كشفه عن رأي المعصوم؛ إمّا بالملازمة العادية, أو الإرتكاز الحاصل من اجتماع الأصحاب المتلقين علومهم عن الأئمة علیهم السلام وكون تصوراتهم مأخوذة عنهم فإنَّه يكشف نوعاً ما عن رأي المعصوم, فليس حجية الإجماع شرعياً ولا عقلياً حتى يناقش في دليلية الثاني وعدم وجود دليل على الأول.

الوجه الرابع: النقاش في كيفية تحصيل الإجماع؛ وهو نقاش صغروي, وذلك لأنَّ ما وصلنا من الأقوال لا تعبّر عن أكثر من فتاوى أصحاب الكتب أو من تلاميذهم الذين ينقلون فتاواهم, وهذا المقدار لا يمكن أنْ يمثل إجماع علمائنا في عصر واحد؛ فضلاً عن أكثر من عصر, لأنَّ المنقول عنهم من الفتاوى أقل بكثير من غيرهم من العلماء.

ويجاب عنه بأنَّ المناط في حجية الإجماع هو الملازمة العادية بين اتفاق رواة الأحاديث وبين رضاء الإمام علیه السلام بآرائهم أو الإرتكاز الحاصل من أصحاب الأئمة علیهم السلام الناقلين لأحكامهم والمعاشرين معهم علیهم السلام روحاً وعملاً, ولا يعتبر في مثل هذه الملازمة الحضور ولا العدد بل يكفي فيه الطليعة من هؤلاء, والعلماء الأبرار الأقدمين حملة العلم الذين كانوا القدوة لغيرهم على مرِّ العصور, والذي يكشف اتّفاقهم عن رأي إمامهم بالملازمة أو الإرتكاز, وعلى هذا لا يختص بعصر الحضور بل يشمل عصر الغيبة, كما لا يضره قدح مخالفة الإجماع من قبل بعض القدماء فضلاً عن غيرهم إذا كانت المخالفة خارجة عن الإطار العام عند الإمامية وروح الفقه الإمامي.

وهناك مناقشات أخرى لا ترتقي إلى المستوى الذي يقتضي ذكرها, والجواب عنها بعد بيان الإطار العام والمنهج القويم.

ص: 26

الشروط المطلوبة في كاشفية الإجماع

إنَّ المستفاد مما سبق من أنَّه لا بُدَّ من توفر شروط وخصوصيات معينة في الإجماع حتى يكون كاشفاً عن الحكم الشرعي.

وهذه الشروط أربعة, وهي:الشرط الأول: أنْ يكون مشتملاً على أقوال فطاحل العلماء الذين هم القدوة لغيرهم في التحقيق والضبط العارفين بحقٍّ كلام الأئمة علیهم السلام وعلى اطلاع كامل على آراء الفقهاء والأصحاب, وليس هذا المناط متوفراً في كلّ أحد من الفقهاء, وحينئذٍ لا فرق بين كونهم من الأقدمين من علمائنا أو من غيرهم, وإنْ كان من الأوائل من هو أضبط وأتقن فإنَّ الملازمة والإرتكاز حاصلان منهم.

الشرط الثاني: أنْ لا يستندوا في كلماتهم وفتاواهم إلى مدرك شرعي معلوم أو يحتمل ذلك احتمالاً معتدَّاً به وإلا لزم الرجوع إلى ذلك المدرك ومعرفة خصوصياته, فتكون صحة الفتوى تبعاً لصحة ذلك المدرك, اللهم إلا أنْ يستفاد من القرائن أنَّ الإجماع معزز لذلك المدرك؛ إمّا دلالة أو سنداً أو جهة.

الشرط الثالث: أنْ لا تكون هناك قرائن تدلُّ على عدم وجود ارتكاز في طبقة من أصحاب الأئمة علیهم السلام , وإلا لم يكن الإجماع كاشفاً؛ كما هو الحال في كثير من الموارد منها ما ذكر في نجاسة الكتابي وطهارته؛ فإنَّ أسئلة أصحاب الأئمة علیهم السلام إنَّما كانت على افتراض أنَّ الكتابي طاهر وأنَّ نجاسته إنَّما كانت طارئة من جهة شربه الخمر وأكل الميتة وغيرها, فلم يكن ارتكازهم على النجاسة؛ ففي مثل هذه الحالة لا يمكن أنْ يكون الإجماع كاشفاً.

الشرط الرابع: أنْ تكون موارد الإجماع مِمّا لا يمكن ثبوت حكمه إلا ببيان من الشارع, لا أنْ تكون المسألة عقلية أو عقلائية أو تطبيقية لقاعدة أولية مسلّمة, فإنَّه في مثله لا يكون

ص: 27

كاشفاً عن ذلك الإرتكاز والملازمة العادية, ويمكن إرجاع هذا الشرط إلى الثاني تحت جامع واحد.

فإذا توفرت هذه الشروط في الإجماع يكون كاشفاً عن رأي المعصوم؛ إمّا بالإرتكاز أو الملازمة كما تقدم بيانه.

ثم أنَّ الإجماع له معقد وقد يكون لهذا المعقد إطلاق وقد يكون له قدر متيقن, وقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) أنَّ كاشفية الإجماع بحساب الإحتمالات بلحاظ القدر المتيقن أقوى من كاشفيته بلحاظ إطلاق معقده, لأنَّ خطأ المجمعين في تشخيص أصل الإرتكاز أبعد من خطأهم في تشخيص حدوده وامتداداته, ولكن ذلك مبني على الإرتكاز الذي انعقد صحة الإجماع عليه بحسب الإحتمالات, وأمّا بناءً على ما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره (2) من أنَّ كشف الإجماع إنَّما هو من جهة الملازمة العادية فلا فرق حينئذٍ في الموردين, كما أنَّه بعد توفر الشروط المذكورة التي تضبط ذلك الإرتكاز وتنفي الإحتمالات لا فرق بين أنْ يكون معقد الإجماع مطلقاًأو له قدر متيقن, نعم؛ إذا حصل في الزائد عن القدر المتيقن شك من حيث شمول الإجماع له بسبب من الأسباب نأخذ بالقدر المتيقن, ونرجع في الزائد إلى القواعد والأصول, وهذا لا يضّر بأصل كاشفية الإجماع بعد ثبوتها.

ومن جميع ذلك يتَّضح أنَّ الإجماع يكون دليلاً طولياً على الحكم الشرعي, ومن هنا كانت سيرة أكثر العلماء على التمسك بالإجماع مقابل الأدلَّة الأخرى خلافاً لبعضٍ إلا في موارد خاصة, ولعل هذا هو السرّ في اعتماد السيد الوالد قدس سره في فقهه على الإجماع في كلِّ مسألة شرعية ويكثر الإعتماد عليه بخلاف غيره من معاصريه؛ وذلك بعد أنْ أثبت أنَّ

ص: 28


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص316.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص83.

كاشفية الإجماع بالملازمة العادية أو الإرتكاز المتشرعي يكون دليلاً مستقلاً, إلا إذا قامت السيرة على خلاف تلك الملازمة أو الإرتكاز فلا تثبت حجية الإجماع؛ وهذا مطلب آخر.

أقسام الإجماع

ينقسم الإجماع إلى:

1- الإجماع البسيط؛ وهو الذي تقدم الكلام في حجيته مفصلاً.

2- الإجماع المركب؛ وهو عبارة عن الإستناد إلى رأي مجموع العلماء المختلفين على قولين أو أكثر في نفي قول آخر لم يقل به أحد منهم. وهو تارةً؛ يفرض أنَّ كلاً من القولين قائله ينفي القول الآخر بقطع النظر عن قوله, وعليه؛ يكون الإجماع حجة في نفي ذلك القول الآخر بناءً على ما ذكرناه في حجية الإجماع البسيط, وتارةً أخرى؛ يفرض أنَّه ينفيه بلحاظ قوله لأنَّه يستلزم نفي غيره.

فقد يقال أنَّ حجية الإجماع تتبع المسلك الذي يثبت حجيته, فإنَّه بناءً على مسلك قاعدة اللطف تثبت الحجية؛ لأنَّه لو كان القول الثالث حجة وجب إظهاره, والا كان خلاف اللطف, وكذلك بناءً على مسلك الدخول.

ولكن الحقّ أنَّه حتى بناءً على اعتبار المسلكين فإنَّهما لا يجريان في نفي القول الثالث, لانَّ اللطف ربما يتحقق في تحقق الخلاف في مسألةٍ ولا ينحصر في الثالث, وأمّا مسلك الدخول فلأنَّ الخلاف في المسألة هو: إمّا أنْ لا يتحقق الدخول, أو يتحقق في ضمن أحد الأقوال.

وعليه؛ فلا بُدَّ من اعتبار الإجماع من توفر الشروط التي ذكرناها والموجبة لثبوت الإرتكاز أو الملازمة, فإنْ تحققت يكون حجة وإلا فلا يكون حجة, والظاهر عدم تحققها في كثير من الموارد؛ لوجود التخالف والتعارض في البين, فلا يثبت الإرتكاز والملازمة العادية للكشف إلا نادراً.

ص: 29

3- الإجماع المحصل؛ وقد عرفه المحقق الكاظمي(1) بأنَّه ما ثبت واقعاً وعلم بلا واسطة النقل, فيكون المراد منه تولي المجتهد نفسه مؤونة البحث عن هؤلاء المجمعين والتعرف على آرائهم وفتاواهم في المسألة التي يريد معرفة حكمها حتى يحصل له العلم بالاتّفاق على الحكم.

وقد ناقش بعض العامة في هذا الإجماع بأنَّه لا طريق لنا إلى العلم بحصوله, لأنَّ العلم بالأشياء إمّا أنْ يكون وجدانياً كالعلم بالجوع والعطش والألم واللذة, وإمّا أنْ لا يكون وجدانياً؛ والأول مفقود؛ لأنَّ العلم باتّفاق أمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم لا يكون كذلك, والثاني غير حاصل؛ لا من ناحية العقل؛ إذ لا مجال له في الإتّفاق, ولا من ناحية الحس؛ لأنَّ الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته, والعلم باتّفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كلّ واحد منهم وهو متعذر قطعاً, فإنَّه لم يوجد شخص يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب من البلاد الإسلامية, فإنَّ العمر يفنى دون بلوغ هذا المرام كما هو واضح.

وهذا الإشكال على مبناهم من أخذ اتفاق أمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم على اختلاف مذاهبهم أو آرائهم في مفهوم الإجماع لا يمكن رفعه.

وأمّا إذا اعتبرنا في الإجماع إتّفاق مجتهدي مذهب معين أو جمع من العلماء يكشف من اتّفاقهم رأي الإمام علیه السلام -كما عليه الإمامية- فلا يتم الإشكال؛ فإنَّه بمكان من الإمكان تحصيل آراء العلماء, مِمّا يكشف عن رأي المعصوم علیه السلام بالإرتكاز أو الملازمة العادية, فتحصيل الإجماع ممكن وواقع والإشكال المزبور مردود.

ص: 30


1- . كشف القناع؛ ص4.

4- الإجماع المنقول؛ أي الإجماع الذي يصل إلينا عن طريق النقل فقط, والنقل إمّا أنْ يكون متواتراً, أو يكون آحاداً, والبحث عن حجية الإجماع المنقول بكِلا قسميه يكون بعد الفراغ عن أصول موضوعية يأتي بيانها في بحث حجية خبر الواحد الثقة, ومن تلك الأصول الموضوعية إختصاص حجية خبر الواحد بالخبر الحسِّي لا الخبر الحدسي, ومنها البناء على أصالة الحسّية عند الشك في الحدس والحسّ ونحو ذلك, وحينئذٍ يقع الكلام في حجيته؛ وهو أقسام, فإنَّ نقل الإجماع تارةً؛ يكون من نقل السبب فقط كما إذا سرد أقوال الفقهاء تفصيلاً أو نقلها إجمالاً بألفاظ مختلفة والتي تكون سبباً إثباتياً لاستكشاف قول المعصوم علیه السلام .وأخرى؛ يكون نقل المسبب مباشرة, وهو قول المعصوم علیه السلام حدساً -كما هو الغالب في الإجماعات المنقولة- أو حساً -وهو النادر-.

وثالثةً من نقل السبب المسبب معاً، فإذا كان من نقل السبب فمقتضى القاعدة حجية النقل إذا توفرت شروط حجية الخبر التي يأتي بيانها في بحث حجية الخبر, وهو فيما إذا كان النقل سبباً تامّاً للأثر عند المنقول إليه والإشكال فيه, لشمول أدلَّة حجية الخبر الواحد له تبعاً لمقدار ظهور النقل بحسب لفظه والقرائن الحالية أو المقالية التي لها الدخل في اقتناص المعنى, فإنَّه إخبار عن الحس, وأمّا إذا لم يكن كذلك فقد ذهب المحقق الخراساني قدس سره وغيره إعتباره أيضاً بمقدار دلالته, وذلك لما يلي:

أولاً: شمول دليل اعتبار الخبر لمطلق الإخبار عن حس إذا كان منشأ الأثر شرعياً ولو بنحو جزء السبب كما هو المنساق فيما ورد في السؤال عن حال الرواة وموضوعات الأحكام, كالكرّ والصاع والسفر ونحوها مِمّا هو كثير جداً.

ص: 31

ثانياً: إنَّ مقتضى حجية الأمارة في جميع لوازم مدلولها وملزوماته التضمنية والإلتزامية شمولها لمثل ذلك أيضاً, وحينئذٍ يتم المنقول إليه سببيته بالتفحص عن أقوال أخرى, فيتحقق له الإجماع المعتبر.

وقد أشكل عليه بأحد وجهين:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّه إنْ أُريد إثبات الحجية له بمدلوله الإلتزامي, فالمفروض عدم الملازمة ليكون له مدلول إلتزامي, وإنْ أريد ذلك بلحاظ مدلوله المطابقي فليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً له, والإستدلال بموضوعات الأحكام وأحوال الرواة غير صحيح, لأنَّ تلك لها الدخل في استنباط الحكم؛ بخلاف أقوال الفقهاء, فإنَّها أجنبية عن حكم الله تعالى حقيقةً إلا بالمسامحة العرفية.

ويمكن الجواب عنه بأنَّه في المقام بتوفر المدلول الإلتزامي بأنْ تشكّل قضية شرطية إذا توفر فيها الجزء الآخر كان ذلك كاشفاً لرأي المعصوم علیه السلام .

وهذا المقدار من المدلول الإلتزامي كافٍ في الحجية؛ مضافاً إلى أنَّ نقل جزء السبب كما هو المفروض مِمّا يدلُّ على الحكم الشرعي بالمسامحة العرفية, فيكون نظير السؤال عن أحوال الرواة وموضوعات الأحكام مع الفرق أنَّ الأخيرة إنَّما هي تثبت الأحكام الشرعية مباشرة.

وأمّا المقام فإنَّه يثبت الحكم بالمسامحة العرفية, لأنَّه إذ كان مجموع الأقوال من حيث المجموع منشأً لاستفادة حكم الله تعالى؛ فإنَّه لا يعدّ البعض منها أجنبياً محضاً كما لا يخفى, فيشمله دليل الإعتبار بالملازمة العرفية.

ص: 32


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص190-191.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) على مبناه من حساب الإحتمالات في اكتشاف قول المعصوم علیه السلام من الإجماع, فإنَّ الكاشفية بحساب الإحتمالات وتراكمها على محور واحد إلى أنْ يحصل لدى الإنسان المحاسب اليقين ذاتاً, ومثل هذا إنَّما يتمّ في الإنسان نفسه عندما يواجه بنفسه حساب الإحتمالات؛ فإنَّه يبلغ ذلك عنده في النهاية مرتبة بحيث يزول ذاتياً إحتمال الخلاف في النهاية, ولكنه غير تام في المفروض؛ فإنَّه لا يصحُّ تشكيل قضية شرطية بأنَّه كلما حصلت تلك الأخبار والحسابات لكان كذا, والملازمة لا بُدَّ أنْ تكون بين المعلوم وبين الشيء كما هو واضح.

ثم حاول الجواب عن هذا الإعتراض بأنَّه يمكن تثبيت القضية الشرطية كلما اجتمعت إخبارات متعددة في قضية واحدة من أشخاص متغايرين بحسب الظروف والملابسات والأغراض ونحو ذلك, فإنَّ احتمال الخلاف والإختلاف وتأثّرها بها لا ينتفي بحساب الإحتمالات في هذه القضية الكلية بالذات لإثبات نقاط الإشتراك فقط دون نقاط الإختلاف التي هي أكثر.

وعليه؛ فلا حاجة إلى إجراء حساب الإحتمالات في كاشفية كلّ إجماع لنفي هذا الإحتمال, بل هو منفي بنحو القضية الشرطية الكلية, فالإجماع المنقول إخبارٌ عن الملزوم في تلك القضية, فيكون دالاً على انتفاء اللازم, وهو أنْ يكون إتّفاقهم جميعاً لاتّفاق مصلحتهم على ذلك, وأمّا احتمال كذب الناقل أو إشتباهه فينفى بوثاقته.

والحقُّ أنَّ ما ذكره في حساب الإحتمالات وتطبيقه في الأمور الشرعية التعبدية التي تبتني على الوحي وسماعه ووصوله إلينا بالطرق المعروفة غير تام, وسيأتي بيانه في محله إنْ شاء الله تعالى مع أنَّه لا يجري في خصوص المقام؛ فإنَّ استكشاف قول المعصوم علیه السلام لإثبات

ص: 33


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص319.

الحكم الشرعي لا بُدَّ أنْ يكون بالطرق المعروفة لدى العلماء, ولا يمكن التخطي عنها إلى الطريق التي يتمسك بها في الأمور التجريبية الحسية, ولكنها لا تجري في الأمور التعبدية كما عرفت, فما ذكره في الإستشكال تام وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

والحق إنَّه يمكن إستكشاف قول المعصوم علیه السلام بالملازمة أو الإرتكاز كما هو واضح في الأقسام التالية:القسم الأول: ما إذا كان النقل لجزء السبب وقد تممه المنقول إليه عن بقية الأقوال فتشمله أدلَّة حجية إخبار الواحد الثقة.

القسم الثاني: ما إذا نقل المسبب إبتداءً وعدل عن نقل السبب؛ فإنْ كان يصدق عليه أنَّه نقل من حسّ لو فرض تحققه فإنَّه يشمل دليل حجية الخبر الواحد, وأمّا إذا لم يصدق عليه كذلك فلا اعتبار له, لأنَّه إخبار عن قول المعصوم علیه السلام ورأيه ليس من الإخبار الحسي بل يصدق عليه أنَّه إخبار عن حدس فلا تشمله أدلَّة حجية خبر الثقة, إذ المنساق منها عرفاً هو تصديق المخبر في سمعه وبصره لا تصويبه في حدسه ونظره إلا بقرائن خارجية تدلُّ على تصديق مثل هذا التصويب, فيعتبر حينئذٍ من جهة تلك القرائن لا من حيث الإخبار به, كما هو مورد البحث في المقام, وهذه القرائن نادرة بل مفقودة في الإجماعات المنقولة.

القسم الثالث: ما إذا نقل السبب والمسبب معاً؛ فانَّ الكلام فيه عين الكلام في القسم الثاني ولكن سيأتي في بحث حجية خبر الثقة والإجماع, وقد تقدمت الإشارة إليها أنَّ الصحيح في نقل الحجج المعتبرة مثل الخبر الواحد الثقة والإجماع والشهرة ونحو ذلك أنَّ المناط هو حصول الوثوق النوعي؛ حسياً كان المخبر به أو حدسياً, فكلَّما تحقق هذا المناط يعتبر المخبر به مطلقاً, ومن أجل ذلك استقرت السيرة على تصديق أصحاب المهن والحرف إذا

ص: 34

أخبروا عن حدسهم في جميع الفنون والصنايع والحرف, وكون الغالب هو الحسيّات لا يوجب التقييد بعد تحقق المناط المزبور, ولعله لذلك خرج جمعٌ من علماؤنا عن تلك القاعدة العامة المعمول بها في حجية الخبر وغيره في كثير من الموارد؛ لا لأجل حصول التسامح من قبلهم في نقل الإجماع وادّعائه واعتمادهم كما ادعاه السيد الصدر قدس سره , بل من أجل ما ذكرناه من المناط, لكن تحققه يحتاج إلى الرجوع إلى القرائن والشواهد والمؤيدات لاستفادة ذاك, وإلا فإنَّه قد يقع التسامح كثيراً في مورد ادّعاء الإجماع ونقله.

والحاصل؛ إنَّ الإجماع المنقول معتبر لتحقق الملازمة العرفية بين اتّفاق رواة أحاديث الأئمة علیهم السلام على شيء بعد الفحص والتثبت وبين رضاء المعصوم علیه السلام أو حصول الإرتكاز كما ذكره السيد الصدر قدس سره , فلا فرق فيه بين عصر الحضور وعصر الغيبة وسائر العصور المتأخرة.

نعم؛ يكون الوثوق من اتفاق القدماء أكثر باعتبار قربهم من عصر الحضور ووصولهم إلى الإمام علیه السلام والعثور على حديث منهم مما لم يصل إلينا, ويدلُّ على هذا الإجماع المنقول ما دلّ على اعتبار حكاية قول المعصوم علیه السلام وفعله وتقريره.

هذا كلّه فيما إذا كان الإجماع المنقول معتبراً لدى المنقول إليه بعين وجه اعتباره لدى الناقل. أمّا إذا إختلفا في النظر فلا يعتبر من حيث نقل المسبب وإنْ اعتبر منحيث نقل السبب لكن بمقدار ما يكشف عنه لفظ الناقل بناءً على شمول دليل اعتبار الخبر الواحد لمثله أيضاً كما عرفت.

ص: 35

ختام فيه أمور

الأمر الأول: ذكر السيد الوالد قدس سره أنَّ اعتبار الإجماع مطلقاً محصّله ومنقوله إنَّما يكون فيما إذا إطمئن المحصل له أو المنقول إليه أنَّ ما كان لدى المجمعين معتبر لديه أيضاً ولو حصل هذا الإطمئنان من القرائن الخارجية, وأمّا مع عدم حصول الإطمئنان بذلك فلا اعتبار به مطلقاً, لأنَّ حجية شيء عند طائفة لا يستلزم حجيته عند أخرى, سواء كان منشؤه عدم حصول الإطمئنان من القرائن الداخلية أم الخارجية أو جهات أخرى.

الأمر الثاني: يعرض على الإجماع المنقول ما يعرض على الخبر الواحد من الأقسام كالصحيح والموثق والحسن والضعيف ونحوها, كما يعرض عليه أحكامه من التعارض والترجيح ونحوها, لأنَّه من أقسام الخبر فيتَّصف بلوازمه وأحكامه.

الأمر الثالث: ذكر الفقهاء في الكتب الفقهية عبارات متعددة في نقل الإجماع؛ منها ما شاع في الجواهر (نقل الإجماع عليه مستفيض بل متواتر), ومثل هذا التعبير يخرج الإجماع عن نقله بالخبر الواحد إذا كانت الإستفاضة أو التواتر في كلِّ طبقته, وأمّا إذا حصلا في الطبقات اللاحقة أو شك في ذلك يكون من الإجماع المنقول بالخبر الواحد, ويأتي فيه ما تقدم.

الأمر الرابع: لو شكّ في أنَّ ناقل الإجماع إستند إلى الحس فيكون نقله معتبراً أو إلى الحدس فلا يشمله دليل حجية خبر الثقة, وفي هذه الصورة لا تشمله الأدلَّة اللفظية التي تدلُّ على اعتبار الخبر الواحد كآية النبأ ونحوها, لأنَّ المنساق منها عرفاً تصديق المخبر الصادق في خبره لا تصويبه في نظره, فمع الشك يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية, إلا إذا أثبتنا بأنَّها تشمل عند المتعارف تصويب النظر أيضاً كما تقدم من أنَّه وجه حسن ولا دليل على خلافه, فتشملها السيرة العقلائية له لما عرفت من أنَّ بناءهم لم يقم على التفحص في إخبار المخبر الصادق أنَّه حسي أو حدسي, بل الظاهر جريان سيرتهم في الجملة على تصويب الحدسي أيضاً ما لم يحرز الخلاف, وهو ما إذا ثبت بطلان الحدس رأساً كما مرّ وسيأتي.

ص: 36

الأمر الخامس: الإجماع المحصل كما عرفت عبارة عن أنْ يطلع الشخص نفسه على أقوال الفقهاء في المسألة بحيث يكشف منها رأي المعصوم علیه السلام , ولا يعتبر فيه مباشرة الشخص بنفسه بل يكفي الإستنابة فيه مِمَّن يوثق به, بل يكفي فيهأيضاً أنْ يكون بعضه منقولاً وبعضه الآخر محصلاً كما عرفت في القسم الأول من أقسام الإجماع المنقول.

الأمر السادس: قال صاحب الحدائق في كتاب الطهارة في أحكام النجاسات -وهو يستعرض حال الإجماعات المنقولة-: (قد كان عندي رسالة لشيخنا الشهيد الثاني قدس سره تصدى فيها لنقل جملة من المسائل التي ناقض الشيخ فيها بنفسه بدعوى الإجماع على الحكم في موضوع ثم يدعيه على خلافه في آخر, وفيها ما ينيف على سبعين مسألة)(1).

وقال في أحكام الاموات في حق الشيخ قدس سره : (وأي مسألة من مسائل الفقه من أوله إلى آخره لم تختلف أقواله فيها ولا فتواه حتى يستغرب في هذا المقام؛ كيف لا وإنَّ الشهيد قدس سره صنف رسالة جمع فيها المسائل التي ادعى الشيخ فيها الإجماع في موضوع وادعى الإجماع على عكسه في موضع آخر وهي تبلغ سبعين مسألة, وكانت الرسالة عندي فتلفت في بعض الوقائع التي مرت بي)(2).

وقال في كتاب النكاح -عند البحث عن إسلام زوجة الكافر-: (ومن يعرف حال الشيخ وطريقته في دعوى الإجماع واختلاف أقواله وفتاواه في كتبه لا يتعجب منه؛ فإنَّه في بعض كتبه كالخلاف والمبسوط من رؤوس المجتهدين وفي بعض آخر كالنهاية وكتابي الأخبار من رؤوس الإخباريين؛ وشتان ما بينهما)(3).

ص: 37


1- . الحدائق الناضرة؛ ج5 ص30.
2- . المصدر السابق؛ ج4 ص98.
3- . المصدر السابق؛ ج24 ص37.

أقول: إنَّ هذه الرسالة التي ذكرها قدس سره توجد عندي صورة منها, ويمكن توجيه فعل الشيخ قدس سره على أحد الوجوه التي ذكرناها فيما تقدم وعلى أيّة حال فإنَّه يستدعي التثبت التام في الإجماعات المنقولة حتى يحصل لنا الإطمئنان بالملازمة أو الإرتكاز لما عرفت مفصلاً.

الأمر السابع: قد ذكر الأصوليون وغيرهم أنَّ من أقسام الخبر؛ الشياع والإستفاضة والتواتر؛ والأولان بمعنى واحد والأخير؛ إمّا لفظي أو معنوي أو إجمالي, والجميع معتبر لدى العرف والعقلاء من حيث حصول الإطمئنان بل العلم منها, والظاهر كفاية النوعي منه وإن لم يحصل الشخصي, كما أنَّ الظاهر شمول دليل حجية الخبر الواحد لنقل هذه الثلاثة أيضاً إن كان في البين أثر شرعي, ويجري جميع ذلك في الإجماع المنقول أيضاً.

ص: 38

الفصل الثالث: الشهرة

اشارة

الفصل الثالث(1)الشهرة

ذكر بعض الأصوليين الشهرة في ذيل الإجماع من أجل كونها كالإجماع أو إجماعاً ناقصاً, ولا يخفى بأنَّ كون الشهرة من الدليل اللبي الإستقرائي مِمّا لا إشكال فيه، فهي مشتركة مع الإجماع من هذه الجهة, وأمّا جعلها إجماعاً ناقصاً فغير تام، لأنّ الشهرة غير الإجماع مطلقاً كما ستعرف.

والشهرة تارةً؛ تذكر في بحث المرجحات لأحد الخبرين المتعارضين, وأخرى؛ في انجبار الخبر الضعيف, وثالثةً في المقام؛ باعتبار حجيتها في نفسها من أجل كشفها عن رأي المعصوم علیه السلام , مِمّا يقتضي أنْ تعرض ضمن الأدلَّة الكاشفة عن رأيه علیه السلام .

والمراد بها: إنتشار الخبر أو الإستناد أو الفتوى انتشاراً مستوعباً لجلّ الفقهاء أو المحدثين, وقد قسموها إلى ثلاثة أقسام؛ ربما تختلف من حيث الحجية وعدمها؛

أقسام الشهرة

القسم الأول: الشهرة في الرواية

وهي عبارة عن اشتهار الرواية وانتشارها بين الرواة والمحدثين, والإهتمام بضبطها والإعتناء بها, ويقابلها الشذوذ والندرة, وقد اعتبروها من مرجحات الرواية في باب التعارض بين الروايات؛ والأدلَّة على اعتبارها عديدة, منها؛ قول الإمام الصادق علیه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة: (..... ويُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ, فَإِنَّ المُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ)(2).

ص: 39


1- . من فصول مباحث الحجة.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص106.

ومنها قوله علیه السلام في المرقوعة: (خذ ما اشتهر بين أصحابك)(1). وغير ذلك؛ فإنَّ المتيقن منها هذه الشهرة, ولأنَّ كثرة النقل عن حس مِمّا يوجب الوثوق بالصدور بخلاف الندرة والشذوذ والقول بحجيتها وصلوحها للترجيح مِمّا لا إشكال فيه, فلا أثر لهذه الشهرة غير أنَّها توجب الوثوق بالصدور فتكون مرجحاً في باب التعارض.

القسم الثاني: الشهرة في الإستناد والعمل

والمراد بها: إنتشار الإسناد إلى الرواية في مقام استنباط الحكم الشرعي, فتكون عبارة عن عمل الفقهاء المتقدمين من عصر الغيبة الصغرى وأوائل الغيبة الكبرى برواية على وجه الإستناد إليها والإستدلال بها, والنسبة بين هذا القسم من الشهرة والشهرة الروائية هي العموم من وجه؛ فإنَّه ربما تكون رواية مشهورة لميعمل بها وربما تكون رواية غير مشهورة عمل بها الأصحاب, وهناك روايات كثيرة مشهورة قد عمل بها الأصحاب كما لا يخفى.

وكيف كان؛ فقد لا تكون الرواية مستوفية لشرائط القبول فيكون الإستناد إليها جابراً لضعفها, كما أنَّ إعراضهم عن رواية ما وإنْ كانت صحيحة يكون من موجبات وهنها لعدم العمل بها, وقد اختلف العلماء في اعتبار هذا القسم من الشهرة فذهب بعضهم إلى عدم حجيتها لعدم الدليل على اعتباره من المرجحات, إلا أنْ يكون الإستناد والعمل من الأصحاب موجباً للوثوق بصدور ما استندوا إليه, وإنَّ الهجران يوجب الوثوق بعدم الصدور أو عدم صدورها لبيان الحكم الواقعي, وذلك لأنَّ إصرار هؤلاء الأجلّة من الأصحاب وأكثر الفقهاء على الإستناد إليها والأخذ بها مع ضعفها يكون جابراً, كما أنَّ هجرهم عن الرواية الصحيحة وإصرارهم عليه مِمّا يوجب الوثوق بوهنها, فيكون المدار في حجيتها هو حصول الوثوق بالصدور وعدمه من جهة الإستناد والعمل والإصرار

ص: 40


1- . عوالي اللئالي؛ ج3 ص123.

عليه من قبلهم, ولكن المعروف بين الإمامية حجيتها إذ توفرت الشروط التي سيأتي بيانها, وقد استقرت سيرتهم على العمل بما عمل به المشهور وإنْ كان المستند ضعيفاً, وترك العمل بما لم يعملوا به وإنْ كان صحيحاً؛ إذا لم يثبت خلاف ذلك بدليل صحيح.

وكلماتهم في ذلك كثيرةً ومتعددة, قال صاحب الجواهر: (لو أراد الإنسان أن يلفّق له فقهاً من غير نظر إلى كلام الأصحاب بل من محض الأخبار لظهر له فقه خارج عن ربقة جميع المسلمين بل سائر المتديّنين)(1).

ونظير ذلك ما ذكره المحقق الهمداني في مواضع من كتابه القيم (مصباح الفقيه) وغيرهما من الفقهاء, وقال السيد الوالد قدس سره : (وهو حق كما هو معلوم على أهله)(2).

وأشكل على اعتبارها بعدة وجوه:

الوجه الأول: إنَّه لا يبعد أنْ يكون الوثوق بالصدور حاصلاً في أكثر ما استندوا إليه, وبعدم صدوره فيما هجروه من الروايات, ومن أجله صحَّ استنادهم وعملهم وهجرهم.

وفيه: إنْ كان المراد مِمّا ذكره المستشكل أنَّ الشهرة الإستنادية العملية مِمّا يوجب الوثوق بالصدور والإعراض مِمّا يوجب الوهن فهذا هو الذي نريد إثباته, لكن مع توفر الشروط التي نذكرها وإنْ كان مراده أنَّه في بعض الأحيأنْ يكون كذلك فهذا صحيح أيضاً, إذ ليس كلّ شهرة استنادية تكون كذلك.

وعلى أيَّة حالٍ فإنَّ أسباب الوثوق بالصدور متعددة, وكلامنا في ما إذا كان حاصلاً من جهة الإستناد والعمل من أكابر الأصحاب والعلماء؛ فإنَّه يكشف عن الوثوق بالصدور أو الوهن بالصدور لا من شيء آخر, فتكون الشهرة الإستنادية من موجبات الوثوق بالصدور.

ص: 41


1- . جواهر الكلام؛ ج12 ص265.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص91.

الوجه الثاني: أصالة عدم الحجية؛ وهو إشكال كبروي.

وفيه: إنَّ الشهرة العملية الإستنادية الإحتجاجية من موجبات الإطمئنان بالواقع, ولا ريب في اعتماد العقلاء عليه في شؤونهم الدينية والدنيوية, فتكون مثل هذه الشهرة من الطريقة المتعارفة إرشاد إلى ذلك وتقرير لهذه الطريقة العقلائية, فيكون اعتبارها من أجل كشفها عن ظفر الجميع بما يوجب الوثوق بالصدور, فتكون موجبة للوثوق النوعي العقلائي بالصدور, ولذا كانت من الكواشف كالإجماع, قال الإمام الكاظم علیه السلام لأبي يوسف: (الْأَخْبَارِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وهِيَ الْغَايَةُ الْمَعْرُوضُ عَلَيْهَا كُلُّ شُبْهَةٍ والْمُسْتَنْبَطُ مِنْهَا كُلُّ حَادِثَةٍ)(1).

الوجه الثالث: ما ذكره الشهيد الثاني قدس سره (2) من أنَّ جميع هذه الشهرات تنتهي إلى شخص واحد كالسيد علم الهدى أو الشيخ الطوسي أو غيرهما, فلعله قد اعتمد على رواية كانت صحيحة بحسب نظره ورأيه ثم اعتمدت عليهم الطبقة اللاحقة وثوقاً بهم فحصلت الشهرة التقليدية في الطبقات اللاحقة, والمعتبر من الشهرة الإستنادية إذا لم تستند إلى شخص واحد, ونظير هذه الشهرات حاصلة في حياتنا اليومية وليس لأحد إنكارها؛ فإنَّه كثيراً ما ينقل شخص شيئاً في مجلس مثلاً ويصير بعد ذلك مشهوراً في أيام قليلة, وفي عصرنا الحاضر يشتهر وينتقل الحدث بالوسائل الحديثة الفعالة في نقل الأخبار بأسرع وقت وتترتب عليه الآثار الكبيرة, والغايات المهولة والشهرات الفقهية لم تخرج عنها.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّه خلاف المفروض؛ فإنَّ الشهرة الإستنادية العملية إنَّما تعتبر فيما إذا كان الإستناد والعمل شايعاً عند جلِّ الفقهاء ومنتشراً بينهم مستوعباً لأكثرهم، وفرض الإنتهاء إلى شخص واحد خلاف ما اشترط في اعتبارها كما سيأتي.

ص: 42


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص103.
2- . حكاه عنه في تهذيب الأصول؛ ج2 ص92.

ثانياً: ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ من راجع سيرة أصحاب الأئمة الهداة علیهم السلام وفقهاء أوائل الغيبة يعلم أنَّهم كانوا مواظبين ومهتمين غاية الإهتمام على ضبط الروايات جامدين على الإحتفاظ بعين ما وصل إليهم من الإمام علیه السلام فكانت تلك الطبقة طبقة الضبط والعمل بما ضبطوه فلا يعملون إلا بما يضبطون ولا يضبطون إلا بما يعملون, وكانت نسبة الأحاديث المضبوطة في تلك الأعصارنسبة الرسالة العملية في هذه الأعصار ولو حصل من واحد منحصر, ولذا عاب العامة عليهم بأنَّهم من المقلدة وليسوا من أهل الإجتهاد في شيء, واعترضوا على فقه الإمامية بأنَّه قليل الفروع, ولذا قال ابن إدريس قدس سره مشيراً إلى الخلاف والمبسوط: (وهذان الكتابان معظمهما فروع المخالفين. ويمكن مراجعة موضوع حدّالمحارب من الجواهر لذلك. ومن راجع الكتب المؤلفة في تلك الطبقات يجدها متون الأحاديث والروايات, فراجع المقنع والمقنعة والمراسم والنهاية وغيرها, بل قد ينسب المتفرع في الفقه إلى القياس والإستحسان لكثرة الجمود على متون الأحاديث, وأول من فتح هذا السدّ القديمين -وهما إبن جنيد وابن أبي عقيل ثم الشيخ الطوسي (قدست أسرارهم)-, فكلُّ حديث كان معمولاً به وكلُّ عمل كان مستنداً إلى حديث إلا في موارد ظهر الخلاف فيها)(2), فليست الشهرات العملية الإستنادية منتهية إلى شخص واحد كما ذكره الشهيد الثاني المستشكل, بل هما وغيرهما في العمل بالأحاديث والإستناد إليها على حدٍّ سواء, فلا محالة في تحقق الشهرة العملية المعتبرة.

ثالثاً: على فرض انتهاء الشهرات الفقهية إلى شخص واحد كما ذكره الشهيد قدس سره فهي معتبرة أيضاً, لأنَّ مثل الشيخ قدس سره ومن تبعه من الثقات المتوجهين إلى خصوصيات

ص: 43


1- . المصدر السابق.
2- . السرائر؛ ج3 ص508.

الخبر من حيث الصحة والصدور الملتفتين إلى ما يقترن بتلك الأخبار على كثرتها في تلك الأعصار, فكان شغلهم الشاغل تمييز الصحيح عن السقيم, فإذا عمل هؤلاء بحديث فإنَّه يوجب الوثوق بصدوره, وإعراضهم عن خبر يوجب الوثوق بالخلل فيه.

الوجه الرابع: إنَّ اختلاف الفقهاء في العمل بالخبر الواحد, فإنَّ بعضهم كان لا يعمل به, ولعل إعراضهم عن الرواية إنَّما كان من أجل عدم عملهم بالخبر الواحد, فلا تثبت الشهرة العملية الإستنادية.

ويرد عليه: إنَّ عدم عملهم بالخبر الواحد من حيث هو مع قطع النظر عن القرائن الموجبة للإطمئنان بالصدور فهو صحيح, وأمّا معها فلم يوجد من لا يعمل بالخبر الواحد, وقد كانت جلّ الأحاديث -إنْ لم نقل كلها- في تلك الطبقات مقرونة بها؛ كما لا يخفى على من راجع أحوال الرواة والعلماء.

ولعمري؛ إنَّ مثل هذه الشبهات حصلت عن الغفلة عن كيفية ضبط الروايات في تلك الطبقة المليئة بالحيوية والحرص على جمع الأخبار وتمييز الصحيح عن السقيم, وقد كانت قرائن كثيرة موروثة عندهم مِمّا أعانهم على ذلك, فقد ذكر سبط الشيخ قدس سره (1) في كتاب الإستقصاء أنَّ العلماء إنَّما جمعوا الأخبار بعد توثيقها عندهم خوفاًعلى ضياعها لا لأجل توثيقها, وأكثر تلك الشبهات حصلت من العامة وتلقاها بعض علمائنا كما لا يخفى على المتتبع.

والحاصل؛ إنَّ الشهرة الإستنادية العملية من أقوى موجبات الوثوق بالصدور, كما أنَّ شهرة هجران العمل من أهم ما يوجب الوهن والخلل في الرواية مهما بلغت من الصحة, ويمكن رفع الإشكال ويجعل النزاع لفظياً, والقول بأنَّ من يعتبر الشهرة إنَّما هو فيما إذا حصل الوثوق والإطمئنان بالصدور, ومن لا يعتبرها فيما إذا لم يحصل ذلك.

ص: 44


1- . إستقصاء الإعتبار في شرح الإستبصار؛ في أكثر من موضع.

ولكن ذلك صحيح إنْ لم نقل أنَّ الشهرة الإستنادية الإعتمادية بالشروط التي سنذكرها مِمّا يوجب الوثوق بالصدور, والإعراض مِمّا يوجب الوهن بالصدور؛ كما لا يبعد حصول ذلك في أكثر ما استندوا إليه.

وكيف كان؛ فإنَّ قلنا بأنَّ المناط في اعتبار الشهرة الإستنادية الوثوق, فإنَّه يصحُّ لنا التعدي إلى الشهرة بين المتأخرين من الفقهاء, فإنَّه إنْ حصل منها الوثوق والإطمئنان بالصدور فبها، وإلا فلا اعتبار بها مطلقاً؛ لا الشهرة عند القدماء ولا الشهرة عند المتأخرين, لأنَّ المدار كله على حصول الوثوق بالصدور وعدمه.

ولكن ذلك لا بُدَّ أنْ يحصل من الإستناد أو الهجران, فما ذكره بعضهم من أنَّه لا خصوصية للإستناد أو الهجران فاسد, فإنَّ للوثوق بالصدور أسباب متعددة, وكلامنا في خصوص ما إذا حصل الوثوق فإنَّ الإستناد سبب له كما عرفت.

شروط اعتبار الشهرة الإستنادية العملية

الشرط الأول: عمل الفقهاء برواية واستنادهم عليها في الحكم والفتوى, ولا يكفي مجرد ذكر رواية من دون العلم بكونها مورد عملهم, ومن أجل هذا سُمَّيت هذه الشهرة بالإستنادية العملية.

الشرط الثاني: أنْ يكون الفقهاء من المتقدمين من عصر الغيبة الصغرى وأوائل الغيبة الكبرى؛ لما عرفت من أنَّ ذلك العصر هو عصر ضبط الأخبار التي استوثقوها وعملوا بما ضبطوه منها، فهم لم يعملوا إلا بما يضبطون, فلا اعتبار بشهرة غيرهم من الفقهاء المتأخرين إلا إذا أوجبت الوثوق بالصدور كما عرفت.

الشرط الثالث: أنْ يكون عمل الفقهاء بالرواية من جهة الإستناد والإستدلال بها, أي أنَّهم كانوا في مقام الإحتجاج بها؛ لما عرفت من أنَّه لا يكفي أنْ يذكروا رواية ولم يعلم وجه الإسناد وخصوصياته.

ص: 45

الشرط الرابع: إنَّ تحصيل الشهرة بين جميع الطبقات, فلا اعتبار بالشهرة التي تنتهي إلى شخص واحد, فإنَّ الشهرة كذلك تكون من الشهرة التقليدية في الطبقات اللاحقة, ولكن عرفت أيضاً أنَّه قد تكون الشهرة التي تنتهي إلى شخص واحد معتبرة إذا كانت الطبقات اللاحقة من أهل التحقيق والوثاقة والدراية.

والدليل على كلِّ واحد من هذه الشروط واضح بعدما تقدم بيانه في وجه اعتبارها, فهي من مقوِّمات تحقق العملية الإستنادية.

زمان حصول الشهرة الإستنادية

ذكرنا أنَّ المعتبر من الشهرة العملية ما كانت حاصلة في عصر الغيبة الصغرى وأوائل الغيبة الكبرى الذي يُعدُّ عصر الضبط وجمع الأخبار وتعيين المنهج في العمل بالروايات, فإنَّ هذه الشهرة تكون من أقوى موجبات الوثوق بالصدور, وأمّا الشهرات الحاصلة في العصور المتأخرة؛ فلا اعتبار بها ما لم يحصل منها الوثوق بالصدور, وهو يحتاج إلى دلائل وقرائن عديدة, ومن أجل ذلك ترى الإختلاف بين الفقهاء في بعض الشهرات في أنَّها حاصلة عند المتأخرين فلا اعتبار بها, وأمّا تعيين كون الشهرة قدمائية أو عند المتأخرين فإنَّه يحتاج إلى تتبع أقوال الفقهاء -لا سيما المتقدمين منهم-؛ فإنْ عثر على ما يقتضي التعيين فإنَّه يؤخذ به وإلا فلا اعتبار بالشهرة من حيث هي, وربما تكون معتبرة بلحاظ جهات أخرى, ومثل هذا الشكّ يحصل كثيراً فيما إذا لم يعثر عند المتقدمين على شيءٍ يدلُّ على ذلك الحكم الذي يريد معرفة دليله؛ فإنَّ المتصفح في كلماتهم تارةً؛ يعثر على الحكم ودليله بعد الفحص والتتبع, وأخرى؛ يعثر على خلافه, وثالثةً يعثر على الإختلاف فيما بينهم, ورابعةً لا يعثر على شيء؛ ولا إشكال في القسم الأول في كونه من الشهرة الإستنادته, ولا اعتبار بالثاني والثالث, وأمّا الرابع فلا بُدَّ من التفحص من أنَّ السكوت وعدم ذكرهم إمّا أنْ يكون من جهة مسلّميَّة الحكم عندهم بما هو الموجود عند المتأخرين, فيكون إمّا من

ص: 46

الإجماع أو الشهرة, وإمّا أنْ يكون من جهة أخرى كعدم ابتلائهم بمورد الحكم, فلا يدلُّ سكوتهم على شيء, فلا بُدَّ من التفحص التام والرجوع إلى أقوالهم ومؤلفاتهم للتمييز بين الأقسام الأربعة المزبورة.

هذا؛ ومن المعلوم أنَّه لا ريب في أنَّ الشهرة يعرض عليها مثل ما يعرض على الإجماع؛ فتارةً؛ تكون محصلة يباشر الفقيه تحصيلها بنفسه بالرجوع إلى اقوال الفقهاء المنقولة في مؤلفاتهم أو الكتب المعتبرة, وأخرى؛ تكون منقولة؛ فلا بُدَّ حينئذٍ من التثبت في ناقل الشهرة من أهل العلم والتحقيق والخبرة في أقوال الفقهاء ومعرفة آرائهم أو بالرجوع إلى الكتب المعدّة في نقل المشهور بين الفقهاء.

وفي جميع ذلك لا اعتبار بنقل الشهرة إلا أنْ يوجب الإطمئنان بتحققها من القرائن حتى تكون جابرة أو كاسرة كما عرفت.

أدلة القول بالشهرة الفتوائية

القسم الثالث(1): الشهرة الفتوائية

وهي عبارة عن مجرد إشتهار الفتوى بين القدماء من دون الإستناد إلى دليل أصلاً؛ سواء كان في البين دليل أم لا, وقد اختلفوا في اعتبارها, وهذا هو الشايع في ألسِنَةِ الفقهاء وكتبهم.

وقد استدلَّ من قال باعتبارها بأمور:الأمر الأول: التعليل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(2), حيث تدلُّ على أنَّ وجوب التبيين منوط بإصابة قوم بجهالة, ومقتضى ذلك دوران الحكم مدارها وجوداً وعدماً, والإستناد إلى الشهرة الفتوائية لا يعد من الجهالة, فلا يجب التبيين معه حينئذٍ وهو معنى حجيته.

ص: 47


1- . من أقسام الشهرة.
2- . سورة الحجرات؛ الآية 6.

ويرد عليه: إنَّ دوران الحكم مع العلّة تارةً؛ تكون مع الإنحصار؛ فإنَّه حينئذٍ يدور مدارها وجوداً وعدماً ويحتاج مثل ذلك إلى دليل يدلُّ عليه, وأخرى؛ لا يكون كذلك كما في المقام وأمثاله, فإنَّه لا دليل على الإنحصار, فإنَّ غاية ما يستفاد من ذلك تعميم العلّة في غير المنقوص لا ارتفاع الحكم عنه عند ارتفاع العلّة لجواز ثبوته لعلّةٍ أخرى, فإذا التزمنا بوجوب التبين ودورانه مدار خبر الفاسق وجوداً وعدماً في صدر الآية إنَّما هو لدلالة مفهوم الشرط عليها لا أخذاً بالتعليل, فارتفاع السفاهة هنا لا يدلُّ على ارتفاع التبين؛ لجواز ثبوته بعلَّة أخرى, فلا يدلُّ على المطلوب حينئذٍ.

الأمر الثاني: التمسك بقول الإمام الصادق علیه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة: (يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَاتِهِمَا عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ المُجْمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِكَ فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا ويُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّ المُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ)(1).

والإستدلال به يتوقف على كون المراد بالإجماع هو الإجماع النسبي الذي يساوق الشهرة؛ إلحاقاً للنادر بالعدم, والقرينة على ذلك هي مقابلة الشاذ النادر بالمشهور عند الأصحاب, فيكون قرينة على المراد بالمجمع عليه في الذيل (فَإِنَّ المُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ) هو المشهور.

كما أنَّ الإستدلال يتوقف أيضاً على كون (فَإِنَّ المُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ) قد سيق مساق التعليل, وهو يقتضي التعميم, فيدلُّ على أنَّ كلَّ مشهور لا ريب فيه, فتثبت حجية الشهرة الفتوائية أيضاً.

وأشكل على كلتا المقدمتين؛ أمّا الأولى؛ فلأنَّ الشهرة في إطلاق الرواية يراد بها المعنى اللغوي المنطبق على الإجماع أيضاً, وما قيل من القرينة لا يصلح لذلك, لأنَّ الشهرة فيها الروائية, وفي الرواية يعقل الإتّفاق والإجماع على نقل رواية مع وجود رواية شاذة تقابلها,

ص: 48


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص106.

وليست الرواية كالفتوى ليكون وجود النقل الشاذ منافياً مع الإتّفاق على نقل الرواية المشهورة, ومعه لا موجب لحمل قوله علیه السلام : (فَإِنَّ المُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ) على الشهرة الإصطلاحية.ويردّ عليه: إنَّ ما ذكر في الرواية يجري في الفتوى, فإنَّه قد يكون فتوى تشتهر عند الأصحاب ويقابلها فتوى شاذة, ويدلُّ عليه الوجدان العلمي؛ فلا فرق بينهما من هذه الجهة, وقوله علیه السلام : (فَإِنَّ المُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا رَيْبَ فِيهِ) يشملهما.

وأمّا المقدمة الثانية؛ فلأنَّ عدم الريب يحتمل فيه أربعة احتمالات:

1- أنْ يكون المراد نفي الريب الحقيقي؛ أي: لا شكَّ حقيقة, فيكون المعنى أنَّ الرواية المجمع عليها في النقل لا شكَّ في صدورها وصحتها على الإطلاق, وهذا المعنى يختص بالشهرة الروائية ولا يتم في الشهرة الفتوائية لعدم انتفاء الريب الوجداني فيه.

2- أنْ يُراد به نفي الريب العقلائي عن المشهور؛ بمعنى أنَّ اتباع المشهور هو الطريقة العقلائية ولا يكون في اتباع الشاذ, وعلى هذا تكون الرواية بصدد إمضاء حجية عقلائية للشهرة فيعم الشهرات الثلاث.

والإشكال على هذا الإحتمال بأنَّه خلاف الظاهر, لأنَّ المراد من الريب والشكّ الوجداني لا ما يقابل الحجة العقلائية, مع أنَّ التعليل بناءً على هذا الإحتمال مسوق لإمضاء قضية عقلائية فتنحصر بحدودها, والعقلاء لا يتبعون الشهرة الفتوائية في الأمور الإجتهادية الحدسية كما هو واضح, وفيه ما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

3- أنْ يُراد به نفي الريب الشرعي؛ بمعنى إثبات الحجية الشرعية, وبناءً على هذا الوجه يمكن القول بتعميم التعليل؛ إذ بإمكان الشارع أنْ يجعل الحجية ونفي الريب عن كلِّ مشهور.

ص: 49

وأشكل عليه بأنَّه يحتمل أنْ يكون اللام في (المُجْمَعَ عَلَيْهِ) للعهد ولا نافي له إلا ظهور التعليل, وهو ينافيه إذا كان التعليل بأمر عرفي إرتكازي لا تعبدي وغيبي.

ويرد عليه: إنَّه خلاف الظاهر من لفظ الريب والجملة الخبرية, مع أنَّ التعليل ظاهره أنَّه بأمر تكويني إرتكازي لا أنْ يكون تعبدياً غيبياً.

4- أنْ يُراد به نفي الريب الإضافي؛ أي أنَّ المشهور لا ريب فيه بالنسبة إلى الشاذ, بمعنى نفي احتمالات البطلان المتوفرة في غير المشهور من المشهور؛ من قلة العدد والشذوذ, فالمراد نفي الريب الحيثي بالإضافة إلى عدم الريب الحقيقي.

وأشكل عليه:

أولاً: إنَّه خلاف الظاهر في نفي الريب المطلق لا الحيثي.

ثانياً: يكون مفاد ذلك الترجيح بالمزيَّة, وغايته الترجيح بكلِّ مزيَّة في أحد الخبرين إذا فقدت عن الآخر بعد الفراغ من أصل الحجية والتعدي إلى اعتبار كلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره, كما إذا كان قول المحققين والشهيدين (قدسسرّاهما) مِمّا لا ريب فيه بالنسبة إلى سائر أقوال الفقهاء, فيلزم حجية قولهم في مقابل أقوال سائر الفقهاء وهو فاسد.

ويرد عليه: إنَّه لا يلزم أنْ تكون كل علّة أعمّ من المعلول, لا سيما إذا لزم من التعميم المحذور كما في المقام, فتكون العلّة مساوية مع المعلول, فكأنَّه علیه السلام قال: {خذ بالشهرات الثلاث فإنَّها لا ريب فيها بالنسبة إلى الشاذ الذي يكون في مقابل كلّ واحدة منها}.

والحقُّ أنَّ إبداء هذه الإحتمالات وتعداد الوجوه في الحديث المذكور أوجب خفاء ظهوره كما ستعرف.

ص: 50

الأمر الثالث: الإستدلال بالمرفوعة التي ورد فيها: (خذ بما اشتهر بين أصحابك), ولكن لما لم يكن ذلك في مقام التعليل فلا إثبات للتعميم لكلِّ شهرة -حتى الفتوائية- فلا بُدَّ من القول بأنَّ المراد بها الشهرة في الفتوى لا الرواية؛ على أساس قرائن من جملتها تقدم الترجيح بالشهرة في المرفوعة على الترجيح بصفات الراوي, حيث يفرض السائل بعد هذه الفقرة (خذ ما اشتهر بين أصحابك) أَّنهما معاً مشهوران, وهذا لا يتناسب مع كون المراد بالشهرة الروائية, لأنَّها توجب الوثوق بالصدور عادة ولا مجال للترجيح بالصفات التي هي مرجحات سندية, فيتعين أنْ يكون المراد من الشهرة في الفتوى والعمل.

وأشكل عليه:

أولاً: ضعف سند الرواية, بل قيل بأنَّها من أضعف الروايات.

ثانياً: ضعف الدلالة, حيث يكون ظاهرها الأخذ بالحديث المشتهر بين الأصحاب لا الشهرة الفتوائية كما هو مقتضى (ما) الموصولة التي لا مرجح لها إلا ذلك لأنَّه المذكور في كلام الراوي لا الفتوى, وعلى فرض التنزل وشمولها للشهرة الفتوائية كالروائية فإنَّ سياقها سياق الترجيح في مقام التعارض لإحدى الحجتين على الأخرى لا تأسيس حجية جديدة.

ويرد عليه:

1- إنَّ هذه المرفوعة قد ذكرها الأصحاب في جوامعهم الروائية وتلقاها الأصحاب بالقبول والعمل مع ورود مضمونه في أخبار أخرى؛ إلا ما استثني, فمن أجل ذلك يمكن توثيقها كما في طريقتنا في كيفية العمل بالأخبار.

2- إنَّ المناقشة في دلالتها غير تامة, فانَّ قوله علیه السلام : (خذ بما اشتهر بين اصحابك) في مقام بيان القاعدة الكلية والمنهج العام فيما إذا كان هناك مشهور وشاذ ويعم

ص: 51

الشهرات الثلاث, وتطبيقها في مورد واحد كما ذكره المستشكل لا يوجب التخصيص كما هو ظاهر لكلِّ من أنَّعم النظر فيها.ثم أنَّ الشيخ الأنصاري قدس سره إستشكل على الإستدلال بالحديثين المزبورين من أنَّ ظاهر السؤال يدلُّ على الإختصاص, فهو مثل ما إذا قيل: أي المسجدين أحبُّ لك؟ فقلت: ما كان الإجتماع فيه أكثر. وأيُّ الرمانتين أحبُّ إليك؟ فقلت: ما كان أكبر؛ فلا يستفاد من الأول محبوبية كل ما كان الإجتماع فيه أكثر مثل السوق والخان ونحوهما, ولا يستفاد من الثاني كل ما كان أكبر مثل الحجارة ونحوها.

ويمكن الجواب عنه بأنَّه من المغالطة الواضحة, فإنَّ الفرق بين المثالين وما نحن فيه واضح, لأنَّ اعتبار الشهرات الثلاث إنَّما هو من أجل كون كلّ واحدة منها منشأً للوثوق بالصدور وهي الجهة الجامعة بينهما, وهو مِمّا يوجب الإنتقال من إحداهما إلى الأخرى لهذه الجهة القريبة بخلاف المثالين؛ فإنَّه لا جامع قريب بين كثرة الإجتماع في المسجد للعبادة وفي السوق لأمر آخر غير العبادة, وكذا الأكبرية في الرمان؛ لأجل كثرة الإستفادة بخلاف الحجر, فلا ينتقل العرف من أحدهما إلى الأخرى, فليس كثرة الإجتماع في المسجد وكثرة الإجتماع في السوق جهة جامعة قريبة؛ فإنَّ الجهة في أحد الإجتماعين هما العبادة وفي الثاني شيء آخر, وكذا الأكبرية في الرمان؛ فإنَّ فيها كثرة الإستفادة بخلاف الأكبرية في غيرها, فقياس المقام بالمثالين باطل جداً.

وحينئذٍ لا بُدَّ من إثبات أنَّ الجهة الجامعة بين الشهرات الثلاث هي الوثوق بالصدور, فإنَّه في الشهرة الروائية والإستنادية العملية متحققه كما عرفت, وأمّا في الشهرة الفتوائية فالظاهر تحقق ذلك أيضاً كما سيأتي بيانه, فإنَّها مِمّا يوجب الوثوق بصدد الحكم عن المعصوم والإطمئنان به وهو حجة, فيكون تطبيق الحديثين على الشهرة الروائية من باب تطبيق القاعدة على بعض المواد لا لأجل الإختصاص به, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 52

الأمر الرابع: الإستدلال بأنَّ الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية أقوى مِمّا يحصل من الخبر الواحد فيشملها دليل اعتباره بالأولى, فإنَّ المستفاد منه أنَّ حجيته من باب الطريقية لا الموضوعية فيتعدى إلى الشهرة, لأنَّ الطريقية فيها بنحو أكمل أو مساوي لما يفيد الخبر, وقد تمسكوا بهذا الوجه في كثير من موارد جعل الحجية, فيقال استفادة حجية شيء من دليل حجية مِمّاثلة.

وقد أورد عليه بأنَّ ملاك حجية الخبر قد لا يكون مجرد الظن ليتعدى منه إلى الشهرة، بل غلبة مطابقة الخبر للواقع وهذا لا يحرز في الشهرة.

وأشكل عليه السيد الصدر قدس سره (1) بأنَّ الشهرة إنْ أفادت الظنّ النوعي العقلائي لا الشخصي، فهي تساوق الخبر في جهة الكشف, فيكون مطابقة مجموع الشهرات للواقع بمقداره في مجموع الأخبار, ولا إشكال في إفادة كلّ واحد منهما للظنّ وهوأمر وجداني ومبرهن عليه في منطق الإستقراء وحساب الإحتمالات, فالتفكيك بين درجة الكشف النوعي وغلبة المطابقة للواقع غير فني.

ثم ذكر أنَّ الجواب عن هذا الوجه إمّا أنْ يكون على أساس إحراز الشارع بعلمه الغيبي أغلبية مطابقة الخبر للواقع من الشهرة, أو إنكار إفادة الشهرة الفتوائية الحدسية للظن بمقدار خبر الثقة الحسي أو التزاحم الحفظي الذي هو ملاك جعل الحجية, والحكم الظاهري يكفي فيه نظر الشارع أو العقلاء جعل الحجية بمقدار خبر الثقة دون غيره, فيرجع فيها إلى القواعد والأصول الأخرى, فالملاكات المتزاحمة يستوفي الأهم منها بمقدار جعل الحجية للخبر بلا حاجة إلى جعلها للشهرة أيضاً.

والحقُّ أنَّ ما ذكره قدس سره لا بأس بها ولكنه من مجرد الإحتمال, فلا بُدَّ من التماس الدليل على صحتها.

ص: 53


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص325.

والصحيح أنْ يقال أنَّه لم يعلم أنَّ ملاك حجية الخبر هو الظن فقط, ولذا لا يدور مدار حصول الظن الشخصي فهو حجة حتى لو لم يحصل الظن, نعم؛ لا يبعد أنْ يكون حصول الظن النوعي حكمة الإعتبار لا علّة له بحيث يدور مداره, ومنه يظهر الجواب عن أصل هذه الدعوى.

الأمر الخامس: إنَّ فتاوى القدماء عبارة عن متون الأخبار وليس شيء وراءها, فيشملها ما دلَّ على اعتبار الشهرة العملية الإستنادية؛ فهي توجب الوثوق والإطمئنان بوجود حجة معتبرة في البين, وقال بعض المتتبعين: (ولقد عثرنا أثناء التتبع على مواضع كثيرة يستكشف من فتاوى الأصحاب بوجود نص وصل إليهم, مع أنَّه لا يكون من ذلك النص في المجامع والجوامع عين ولا أثر)(1).

وقال صاحب الجواهر قدس سره في بحث غسل الآنية التي يشرب فيها الخمر: (إذ هو (المحقق الحلي قدس سره ) يروي غالباً عن أصول ليس عندنا منها إلا أسماؤها )(2).

وقال السيد الوالد قدس سره معقباً عليها: (إنَّ الطبقات المتأخرة كما هو الموجود في زماننا هذا هي طبقة التفريع واستفراغ الوسع في ردِّ الفروع إلى الأصول الواصلة إليهم من المعصومين علیهم السلام وان شئت فقسم الطبقات إلى ثلاث: طبقة الأخذ والتلقي, وطبقة الضبط فقط, وطبقة التفريع؛ والأخيرة أوسع الطبقات أفراداً وزماناً )(3).ولكن الإشكال عليه بأنَّه إذا حصل الوثوق والإطمئنان بذلك فإنَّ الشهرة الفتوائية تكون من مصاديق وأفراد الشهرة الإستنادية العملية وإلا فلا يمكن الجزم به, فلا بُدَّ من التماس دليل آخر على اعتبارها.

ص: 54


1- . نقله في تهذيب الأصول؛ج2 ص94.
2- . جواهر الكلام؛ ج6 ص355.
3- . تهذيب الأصول؛ج2 ص94.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ الشهرة الفتوائية لا بُدَّ من اعتبارها بأحد وجهين:

الأول: أنْ تكون شهرة فتوى بين العلماء وانتشارها بينهم من أفراد الإطمئنانات المتعارفة العقلائية الدائرة بينهم التي يعتمدون عليها في أمور معاشهم ومعادهم, فلا موضوعية للشهرة من حيث هي, فلا بُدَّ من حصول الإطمئنان بانتساب الحكم المشهور إلى صاحب الشرع.

ولنا إثبات ذلك بالسيرة العقلائية الدائرة في جميع العلوم والصناعات, لأنَّ أصل كل علم وصنعة يكون من العلماء وذوي الخبرة؛ يعتمدون على ما اشتهر بينهم بما أنَّه مِمّا يوجب الإطمئنان, وهذه السيرة مِمّا لا يمكن إنكارها وأصبحت مِمّا يستدلُّ بها لا أنْ يستدلُّ عليها, ويكفي عدم ثبوت الردع عن هذه السيرة في حجيتها, بل يمكن أنْ يكون قوله علیه السلام في الحديثين اللذين تقدم ذكرهما إشارة إلى هذا البناء العقلائي كما هو الظاهر, فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه, إذ لا يمكن تصوير وجه مقبول في جعل التعبدية فيه, ويكون المراد من الريب في الحديث هو الحقيقي منه, والمراد من المجمع عليه هو النسبي فيشمل المشهور فتثبت حجية الشهرة الفتوائية كما ثبت في الشهرتين الروائية والإستنادية, وهو وجه مقبول وإنكاره مكابرة, فإنَّه ربما يمكن الإشكال عليه بحسب الرؤية الأصولية ولكنهم مع ذلك يعتمدون عليه في سيرتهم العملية كما لا يخفى على الخبير البصير.

الثاني: أنْ يثبت أنَّ الفتوى المشهورة بين العلماء هي متون الأخبار كما عليه سيرة المتقدمين من أصحابنا, فقد كانوا ينقلون الأخبار في كتبهم الفقهية بحذف الأسانيد كما صرح به جمعٌ كبير من العلماء منهم والد الشيخ الصدوق قدس سره والشيخ في النهاية وغيرهما, وقد تقدم نقل بعض عباراتهم.

ص: 55

هذا وإنَّنا تارةً؛ نعلم بذلك أو يحصل لنا الإطمئنان به من كلمات العلماء الأعلام كما هو كذلك بالنسبة إلى المتقدمين من أصحابنا كالشيخين وغيرهم من نظائرهم (قدست أسرارهم).

وأخرى؛ لا يكون بتلك المثابة كما يدَّعي بالنسبة إلى المحقق قدس سره , حيث قيل في حقِّه أنَّه ينقل من أصول لم تصل إلى غيره, ومثل ذلك لا بُدَّ من التثبت التام, ففي الحالة الأولى تكون الشهرة الفتوائية معتبرة كما عرفت سابقاً, فإنَّها من أفراد الشهرة الإستنادية العملية أو الروائية, وفي الحالة الثانية لا اعتبار بها إلا على الوجه الأول من الدليلين, ويمكن تصحيح الشهرة بين المتأخرين أيضاً بأنْ يكون ذكر جمع من الفقهاء حكماً معيناً واشتهاره بينهم وكون عملهم عليه، ولأجلالتحقيق والدراية يحصل الوثوق بفهمهم للروايات ومعرفة مراد الأئمة علیهم السلام فتكون فتوى المشهور وعملهم من موجبات كون ذلك هو مراد الأئمة علیهم السلام , وقد صرّح بذلك جملة من الأعلام منهم المحقق الهمداني قدس سره في مواضع من كتابه (المصباح), والمحقق النائيني قدس سره على ما نقل عنه في (تقريراته) والسيد الوالد قدس سره في بعض إفاداته وغيرهم (قدست أسرارهم).

والحاصل؛ إنَّه لم ينقل من أحد بأنَّ الشهرة دليل من الأدلَّة لإثبات حكم شرعي, فإنَّ أدلَّة الأحكام معروفة لدى كل أحد وليست الشهرة منها, وهو مِمّا لا ريب فيه ولا إشكال حتى يناقش فيه كما قام به بعض مخالفي الشهرة في ردِّهم عليها وإمعانهم في مخالفتها, بل المقصود من جميع ذلك أحد أمور ثلاثة:

1- إثبات كونها مِمّا يوجب الوثوق والإطمئنان بصدور الحكم من الشارع.

وعليه؛ فلا فرق بين الشهرة الفتوائية عند القدماء أو المتأخرين.

2- إثبات كونها متون الأخبار على ما عرف عنهم من جعلها فتاواهم, فقد تكون مصادرها معلومة أو تكون غير معلومة كما عرفت.

ص: 56

وعلى هذا تكون الشهرة الفتوائية عند القدماء معتبرة دون الشهرة عند المتأخرين إلا إذا حصل الإطمئنان بذلك.

3- أنْ تكون الشهرة الفتوائية شارحة لمراد الأئمة علیهم السلام ومبنية لمقصودهم, وهو وجه صحيح مقبول وادّعاه جمع من المحققين (قدست أسرارهم), فتكون للشهرة حينئذٍ تتمة علمية لا تضاهى.

وعليه؛ تكون حجية الأدلَّة اللفظية من الكتاب والسنة في إطار فهم المشهور لها, ولا يعدّ ذلك من التقليد ولا الجمود, وغير ذلك مِمّا يمكن ادّعاءه كما هو واضح, ولا يخفى إنَّ المراد من الإطمئنان والوثوق النوعي فيهما كما في سائر ما هو معتبر شرعاً أو عند العقلاء, فيكون كلّ واحد منهما حكمة الإعتبار لا أنْ تكون علّة يدور مداره وجوداً وعدماً.

نقل الشهرة

يعرض على الشهرة ما يعرض على الإجماع من التقسيم؛ فتارةً؛ تكون هذه الشهرة محصلة يباشر الفقيه تحصيلها بالرجوع إلى كتب القدماء وغيرها ومعرفة فتاواهم, وأخرى؛ تكون منقولة بالتفصيل المتقدم, وطريق إحراز المشهور مراجعة كتب القدماء, ويمكن استفادة الشهرة من كتاب اللمعة التي هي آخر ما كتبه الشهيد الأول قدس سره , والتزم أنْ لا يذكر فيه إلا المشهور وإنْ خالف التزامه في موارد تعرض لها الشهيد الثاني قدس سره في شرحه لهذا الكتاب, وكذا يمكن استفادتها من كتاب الشرائع أيضاً في الجملة مع مراجعة الجواهر, وكذا يمكنالرجوع إلى الكتب والفقهاء الذين تعاهدوا على متابعة الخط المشهور, فكتب الشيخ الأنصاري والمحقق الهمداني والسيد اليزدي وغيرهم, ولو كان حكم مسكوتاً عنه في كتب القدماء لا تستفاد الشهرة من مجرد السكوت كما هو واضح.

ص: 57

ختام فيه أمور

الأمر الأول: لا فرق في الشهرة بأقسامها الثلاثة بين أنْ تكون موردها نفس الأحكام أو ما يتعلق بها من موضوعاتها وأجزائها وشروطها وغيرها لشمول الدليل لجميع ذلك.

الأمر الثاني: عرفت أنَّ الغالب عند القدماء التعبير عن الخبر, وعليه؛ يكون إستعمالهم لبعض الألفاظ ربما لا تكون موافقة كما هو المستعمل عند المتأخرين مثل لفظ الواجب؛ فإنَّه أعمّ من الوجوب الإصطلاحي, وكذا لفظ (لا ينبغي)؛ فإنَّه أعمّ من الحرمة كما هو كذلك في الأخبار وغير ذلك. فلا بُدَّ من ملاحظة القرائن الخارجية والداخلية في استفادة الواجب أو الحرمة من كلماتهم.

الأمر الثالث: إطلاق الشهرة القدمائية يقتضي أنْ تكون متَّصلة بزمان المعصوم علیه السلام , إذ لو كانت حادثة بعد ذلك الزمان لعرف زمان حدوثها عادة.

الأمر الرابع: الشهرة الإستنادية إنَّما يظهر أثرها في الحكم الإلزامي من الوجوب والحرمة وما يتعلق بهما فلا أثر لها في غيرها, فالمندوبات والمكروهات ونحوهما مِمّا يشملها دليل المسامحة في أدلَّة السنن, فإنَّهما يثبتان بالخبر الضعيف سواء كانت شهرة إستنادية أم لم تكن, نعم؛ للشهرة الفتوائية أثر فيهما أيضاً لبناء الفقهاء على ثبوتهما بها, ولا يبعد عدم الحاجة إلى التحقيق فيها لشمول دليل التسامح لها أيضاً؛ لا سيما بناءً على أنَّ فتوى القدماء متون الأخبار.

الأمر الخامس: لا اختصاص بشهرة الإستناد والإعراض بخصوص مسائل الفقه, بل هي ثابتة في جميع العلوم والفنون, بل والعرفيات أيضاً, وقد ارتكز في النفس متابعة المشهور والإعراض عمّا أعرض عنه المشهور, كما لا يخفى عن من راجع العلوم والمعارف أنَّ السيرة الجارية على الإهتمام بما هو المشهور فيها إلا إذا ثبت بدليلٍ تام بطلانها.

ص: 58

الأمر السادس: قال صاحب الجواهر قدس سره في حكم القران بين السورتين: (إنَّ القدماء إنَّما وقع منهم في كثير من المقامات من المذاهب الفاسدة لعدم اجتماع تمام الأصول عند كلِّ واحد منهم وعدم تأليف ما يتعلق بكلِّ باب منها على حدة, فربما خفي على كلِّ واحد منهم كثير من النصوص فيغني بما عنده من غير علم بالباقي كما لا يخفى على الخبير المِمّارس المتصفح لما تضمن تلك الآثار)(1)؛ فإنَّه يستفادمن كلامه أنَّه ربما يكون الخلاف في المسألة ناشيءٌ عن عدم العثور على الدليل الصالح, كما يظهر منه أنَّ استنادهم على شيء يكشف عن كونه حجة معتبرة لديهم, وإنَّ اختلافهم في شيء لعدم الظفر على الحجة المعتبرة لا لأجل الظفر والإختلاف في فهم المراد منهما كما هو الغالب بين المتأخرين, ولا بُدَّ من تمييز ذلك من القرائن.

الأمر السابع: قد شاع في الكتب الفقهية عبارات مختلفة مثل قول الفقهاء (على الأشهر) وقولهم (وعليه الأكثر) وقولهم (وعليه المعظم), ولا تكون هذه التعبيرات من الشهرة المعتبرة في شيء أبداً, فإنْ حصل للفقيه منها الإطمئنان بالحكم ولو بواسطة القرائن المحتفَّة, وإلا فلا يعتمد عليها, والأشهر في مقابل غير الأشهر لا المشهور, ولذا يقولون: على الأشهر بل المشهور والله العالم.

ص: 59


1- . جواهر الكلام؛ ج9 ص364.

ص: 60

الفصل الرابع: حجية الخبر الواحد

اشارة

الفصل الرابع(1) حجية الخبر الواحد

لا يخفى أنَّ هذا البحث من أهم المباحث في علمي الأصول والفقه؛ لتوقف معرفة الأحكام الشرعية عند المسلمين على اعتباره, إنْ لم نقل بأنَّه من الأصول النظامية العقلائية المتوقف عليها نظام معاش الإنسان ومعاده.

تمهيد فيه أمور:

الأمر الأول: وقع الكلام في أنَّ هذا البحث من مسائل علم الأصول, فذهب معظم الأعلام إلى ذلك, بل ذهب السيد الوالد قدس سره إلى أنَّه من أهم مباحث الأصول على الإطلاق, لأنَّ المحتملات في موضوع علم الأصول على الإطلاق هي:

1- إنَّه ليس لعلم الأصول موضوع أبداً.

2- إنَّ موضوعه كلّ ما يصح أنْ يقع في طريق الإعتذار.

3- أنْ يكون موضوعه ذوات الأدلَّة الأربعة.

4- هي بوصف الدليلية كما تقدم بيانه في أول الكتاب.

وبناءً على الإحتمال الأول فإنَّ الأمر واضح؛ إذ ما يذكر في علم الأصول يعتبر من مسائله.

كما أنَّ الأمر كذلك على احتمال الثاني؛ لأنَّ الخبر الواحد من أهم ما يقع في طريق الإعتذار.

وأمّا بناءً على الإحتمال الثالث فقد أشكل عليه بأنَّ الخبر الواحد حاكٍ عن السنَّة لا أنْ يكون عينها, فتكون عوارضه من العوارض الغريبة لا أنْ تكون عرضاً ذاتياً, وقد عرفت أنَّ موضوع كلّ علم ما يكون البحث عنها بحثاً عن العرض الذاتي لموضوع العلم, فما يكون البحث فيه عن العرض الغريب له فهو خارج عن مسائل ذلك العلم.

ص: 61


1- . من فصول مباحث الحجة.

وقد تصدى جمعٌ للجواب عن ذلك بأجوبة عديدة, منهم الشيخ الأنصاري قدس سره ، وأشكل عليه المحقق الخراساني قدس سره , ولا حاجة لإيرادها فإنَّه لا تترتب ثمرة مهمة عليها.

والحقُّ في الجواب أنْ يقال: إنَّ الخبر الواحد متَّحد مع السنَّة عند المتشرعة, فتكون عوارض أحدهما عوارض الآخر عرفاً إلا ما دلَّ الدليل على الإختصاص, مع أنَّه يمكن القول بأنَّ مرجع البحث عرفاً إلى أنَّ قول المعصوم وفعله وتقريره هل تختَّص بخصوص من سمعه ورآه أو المنقول إليه أيضاً فيصير البحث فيه عن عوارض السنة.

وأمّا الإحتمال الرابع فقد أورد عليه مضافاً إلى ما مرَّ في الثالث مع جوابه بأنَّه إذا كان الموضوع الأدلَّة الأربعة بوصف الحجية يكون إثبات الحجية له من إثبات أصل الموضوع فيكون البحث حينئذٍ من المبادئ لا المسائل.

وأورد عليه بأنَّه بناءً على أخذها موضوعاً بوصف الحجية إنَّما يراد الحجية الإقتضائية لا الحجية الفعلية, والمقصود بالإثبات في المقام الثانية لا الأولى فيصير من العوارض لا محالة, ولا حاجة إلى التفصيل لعدم ترتب ثمرة مهمة على هذا البحث.

الأمر الثاني: لم يكن لبحث حجية الأخبار في عصر المعصومين علیهم السلام عين ولا أثر، كجملة كثيرة من المباحث, إنَّما الذي ورد في الروايات هو إرجاع الناس إلى ثقات الرواة والسؤال عنهم في أنَّ فلاناً ثقة حتى يؤخذ عنه معالم الدين, وقد جمع صاحب الوسائل تلك الروايات في كتاب القضاء من مؤلفه القيم, ولو أنَّ المتأخرين بنوا على ما كان عليه في عصر المعصومين علیهم السلام لما احتاجوا إلى جملة كثيرة من التفصيلات كما سيظهر لك بوضوح.

وكيف كان؛ فإنَّ لزوم العمل بالروايات التي عليها أساس فقه الإمامية من ضروريات المذهب, والنزاع بين من لا يعتبر الخبر الواحد ومن يعتبره صغروي لا أنْ يكون كبروياً, لأنَّ الأول يقول بلزوم العمل بها إنْ كانت محتفة بالقرائن القطعية التي تدلُّ على الصدور,

ص: 62

والثاني يقول بأنَّ نفس الوثوق بالصدور مطلقاً يكفي في صحة الإعتماد عليها أنَّه ليس المراد من القطع والعلم ما هو المصطلح عليه عند المناطقة بل المراد منهما ما هو المصطلح عليه عند الفقهاء -لا سيما القدماء منهم- كما هو كذلك في الكتاب والسنة وهو مطلق الوثوق والإطمئنان العقلائي, وهو حاصل في الروايات التي وردت عن المعصومين علیهم السلام في الجملة, وبذلك يرتفع النزاع في البين رأساً كما هو واضح.

الأمر الثالث: إنَّ إثبات الحكم الشرعي مطلقاً بالخبر الواحد يتوقف على أمور ثلاثة:

1- الوثوق بصدور الخبر الواحد.

2- ظهور الخبرودلالته.

3- الفراغ عن جهة صدوره.

فإذا تمَّت هذه الأمور الثلاثة تتمّ الحجية على الحكم عقلاً وعرفاً على ما سيأتي تفصيله, والمتكفل لإثبات الأمر الأول هذا البحث الذي نحن بصدد بيانه إنْ شاء الله تعالى, والمتكفل لإثبات الأمر الثاني ما تقدم في بحث حجية الظواهر ومباحث الألفاظ, وأمّا الأمر الثالث فإنَّ المتكفل له هو الأصل العقلائي المحاوري المرتكز في الأذهان من أصالة صدور الكلام لبيان المراد الواقعي إلا إذا ثبت خلاف ذلك.

الأمر الرابع: ذهب بعض العلماء إلى حجية ما في الكتب الأربعة من الأخبار, وعلى هذا يكون البحث عن حجية الخبر الواحد من التطويل الذي لا طائل تحته؛ لكفاية ما فيها لإثبات الأحكام الشرعية, واستندوا في مقالاتهم هذه إلى أنَّ هذه الكتب الأربعة قد اقترنت بثوابت وقرائن مِمّا تدلُّ على الوثوق بصدور ما فيها من الأخبار وادعوا الإجماع عليه أيضاً.

ص: 63

وقد أشكل على ذلك بوجوه:

الأول: إنَّ الإجماع معلوم المدرك كما يظهر في الوجه الثاني.

الثاني: إنَّ المدَّعين للإجماع قد اختلفوا في خصوصياته؛ فإنَّ بعض المجمعين إدّعوا بأنَّها مقطوعة الصدور, وبعضهم يعتبرونها من باب اعتبار مطلق الظنّ, وبعض يعتمدون عليها لاحتفافها بالقرائن المعتبرة, ومن المعلوم أنَّه لا اعتبار بما علم مدركه من الإجماع فكيف بما اختلف فيه.

الثالث: إنَّ الكتب اشتملت على الأخبار الضعيفة أيضاً؛ فكيف يصحُّ دعوى الإجماع على صحة جميع ما ورد فيها.

الرابع: إنَّ هذا الإجماع إنَّما صدر لأجل كمال العناية والإهتمام بالكتب الأربعة لا وجوب العمل بها.

واعترض السيد الوالد قدس سره (1) على تلك الوجوه؛ أمّا الأول؛ فلأنَّ الظاهر من حال مدَّعي الإجماع كونه يدَّعيه دليلاً في مقابل سائر الأدلَّة لا أنْ يكون نفسها, ولو فرض كونه معلوم المدرك فلا بأس به إذا تم المدرك كما يأتي في وجوب العمل به مطلقاً.

وأمّا الثاني؛ فإنَّه يمكن إرجاع جميع عباراتهم المختلفة إلى شيء واحد؛ وهو ما يوجب الوثوق بالصدور, فيكون الإختلاف في مجرد التعبير.وأمّا الثالث؛ فإنَّه يمكن أنْ يؤخذ بالمتيقن من الإجماع, وهو ما احتفَّت بقرائن تدلُّ على اعتبارها.

وأمّا الرابع؛ فهو من مجرد الدعوى التي لم يقم دليل على صحتها.

والحقُّ أنَّ الإختلاف صغروي؛ فإنَّ من يذهب إلى حجية ما في الكتب الأربعة يرى بأنَّها قد

ص: 64


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص101-102.

احتَّفت بقرائن كثيرة؛ مِمّا أوجبت الوثوق بصدور ما فيها إلا ما ثبت ضعفه, ومن يرى خلاف ذلك فهو لم يعترف بذلك؛ إمّا لأجل أنَّه يرى اعتبار وثاقة الراوي في صحة الخبر وهو مفقود في بعض الروايات فلا بُدَّ من التثبت من تلك الكتب أو من أجل عدم تحقق تلك القرائن التي توجب الوثوق بالصدور.

والصحيح أنَّ من يراجع أحوال علماء طبقة جمع الروايات وما عاصروه من الدلائل والبراهين والقرائن الكثيرة التي فقدت بعد ذلك يحصل له الإطمئنان بأنَّهم (قدست أسرارهم) لم يجمعوا تلك الأخبار في كتبهم إلا بعد الإطمئنان بصدورها والاستيثاق بانتسابها إلى المعصومين علیهم السلام إلا ما ثبت كونه على خلاف ذلك, والشكُّ إنَّما حصل عند المتأخرين بعد فقد تلك القرائن والدلائل, وكِلا الفريقين على حقّ فيتبع ما يحصل له من القناعة من تتبع أخبارهم وأحوالهم وأقوالهم.

وعلى فرض التنزل فإنَّه لا يخفى على الخبير البصير بأنَّه يكفينا نحن معاشر الإمامية في الفقه ما وصل إلينا عن الإمامين الهمامين الباقرين الصادقين علیهما السلام , وهذا المقدار محفوف بالقرائن الخارجية أو الداخلية الموجبة للإطمئنان بالصدور, وباعتباره تتم الحجة في فقهنا فيصير البحث من هذه الجهة مِمّا لا طائل تحته, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الخامس: الخبر ينقسم إلى الخبر المتواتر؛ وهو الذي يعتبر العلم والإطمئنان, والخبر الواحد؛ وهو لم يكن كذلك. وهذا ينقسم إلى أقسام متعددة كما هو المعروف.

والكلام في حجية الخبر إنَّما يكون بالنسبة إلى القسم الثاني, وأمّا الأول فهو لما كان قطعياً لا معنى للبحث عن حجيته وإنْ كان البحث يقع بالنسبة إليه من حيث كيفية إيجابه للعلم والإطمئنان وتحصيل الميزان الفني له والبحث عن حقيقة التواتر وغيرها مِمّا يتعلق بهذا القسم من الأخبار.

وإذا عرفت ذلك يقع الكلام في ضمن بحوث:

ص: 65

البحوث المرتبطة بحجية خبر الواحد

البحث الأول: في الخبر المتواتر

ذكر الأصوليون في تعريف الخبر المتواتر بأنَّه اجتماع عدد كبير من المخبرين على موضوع معين بنحو يمتنع تواطؤهم على الكذب, أو أخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وصدورهم جميعاً عن خطأ أو اشتباه أو خداع حواس؛ على أنْ يجري ذلك في جميع الطبقات, فلو تأخر التعدد في طبقة ما أو فقد أحد تلكالشروط خرج عن كونه متواتراً وصار من أخبار الآحاد؛ لما هو المعروف من أنَّ النتيجة تتبع أخسّ المقدمات, فمثل هذا الخبر مِمّا يوجب العلم بصدور مضمونه, والعلم حجة ذاتية كما عرفت.

ويمكن استفادة شروط الخبر المتواتر من نفس تعريفه, وهي:

الشرط الأول: أنْ يكون إخبارهم عن علم ضروري مستند إلى حسّ, فلو أخذوا عن غير ذلك مثل حدوث العالم ونحوه لم يحصل لنا العلم بخبرهم.

الشرط الثاني: العدد الذي يحصل به التواتر وإنْ اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال بأنَّه يحصل باثنين, ومنهم من قال بأربعة, وقال قوم بخمسة, وقال قوم بعشرين, وقال آخرون بسبعين, وقيل أنَّه ليس له عدد محصور, وقال الشهيد الثاني قدس سره في درايته أنَّه ما بلغ رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم على الكذب ولا ينحصر ذلك بعدد خاص؛ وهو المعروف عند أكثر علمائنا.

الشرط الثالث: إمتناع تواطؤهم على الكذب.

الشرط الرابع: إستمرار الوصف في جميع الطبقات فيكون أوله كآخره ووسطه كطرفيه.

والظاهر أنَّ تلك الشروط إنَّما يراد بها إثبات دليلية الخبر المتواتر بحسب الذوق العرفي, ومن ذلك يظهر أنَه لا يهمّ العدد في تحقيق ذلك, وقيل أنَّ هذه الدليلية تنحلّ إلى صغرى؛

ص: 66

وهي اجتماع عدد كبير على الأخبار, وكبرى؛ وهي حكم العقل بامتناع تواطؤهم على الكذب ونحوه, وبانضمام الصغرى إلى الكبرى يستنتج صدق الخبر المتواتر وحقّانيته, والصغرى خارجية والكبرى عقلية أولية, ولعله من أجل ذلك جعل المنطق الأرسطي القضايا البديهية إحدى القضايا الأولية الستّ في كتاب البرهان؛ لأنَّ كبراها عقلية أولية بينما هي في المنطق الحديث لا بُدَّ أنْ تكون من القضايا المستنتجة بالإستدلال القياسي الإستنباطي؛ وهو ما تكون النتيجة دائماً مستبطنة في المقدمات وليست النتيجة فيها أكبر من المقدمات, في قبال الإستدلال الإستقرائي الذي تكون النتيجة فيه أكبر من المقدمات, ومثل ذلك يجري في القضايا التجريبية التي جعلها المنطق الأرسطي من إحدى القضايا الستّ أيضاً, وأنكر السيد الصدر قدس سره تلك الكلمات وقال بأنَّه لا توجد هناك كبريات عقلية أولية في باب التواتر, وإنَّ التجربة تقتضي بامتناع التواطؤ على الكذب, وإنَّ القضايا العقلية بأنفسها قضايا تثبت بالإستقراء والمشاهدات, أي أنَّها قضايا غير أولية, بحيث لو قطعنا النظر عن العالم الخارجي ومقدار تكرر الصدفة أو التواطؤ على الكذب فيها لكنّا نحتمل عقلاً تكرر الصدفة دائماً والتواطؤ على الكذب من جمع غفير, وإنَّما ننفي ذلك بعد التجربة والمشاهدة للخارج وليس ذلك من حكم عقولنا في مثل هذه القضايا, كالحكم باستحالة إجتماعالنقيضين, فهذه القضايا التجريبية بنفسها التي هي مختلفة في الكبرى محكومة للقوانين المنطقية التي تحكم على التجربة والإستقراء, وهي قوانين حساب الإحتمال والتوالد الموضوعي أولاً ثم قوانين المنطق الذاتي والتوالد غير الموضوعي ثانياً, فيكون روح القضية التجريبية والمتواترة وملاكهما واحد.

وخلاصة ما ذكره في المقام وغيره أنَّه قدس سره أنكر القضايا العقلية وأقام البراهين العديدة التي فيها أنَّ مفردات كلّ قضية متواترة أو تجريبية كان احتمال الصواب والمطابقة فيها

ص: 67

أكبر، كأنّ حصول اليقين بالنتيجة فيها أسرع وأشد, فإنَّه فرَّق مثلاً بين شهادة ألف ثقة بوقوع شيء وشهادة ألف مجهول وجداناً, وهذا معناه أنَّ اليقين الحاصل من القضايا المذكورة يتأثر بالقيم الإحتمالية لكلِّ فرد من مفرداتها لا بقاعدة عقلية قبلية موضوعها كمّ معين.

ثم أنَّه قسم التجريبية إلى قسمين: أحدهما؛ يرجع إلى إثبات علية الموجود، والآخر؛ يرجع إلى إثبات وجود صغرى العلّة بعد الفراغ عن عليتها.

وضرب المثال للأول بعلية الأسبرين لرفع الصداع؛ فإنَّه بعد قيام التجارب العديدة على أنَّ الحبة الواحدة علّة لرفعه, فيعرف أنَّ علية الأسبرين للشفاء في كلِّ مرة قيمتها الإحتمالية مساوية مع القيمة الإحتمالية للعلية في مجموع المرات؛ خلافاً لقانون القسمة الذي يؤدي إلى تصنيف الإحتمالات, ولا مجال للإحتمالات القبلية, بل أنَّ منشأ الإحتمال بحسب الحقيقة هو العلم الإجمالي ذو الأطراف المحصورة عقلاً على تفصيل ذكره في كتابه (الأسس المنطقية)؛ وراجع كلامه في المقام.

وضرب المثال للقسم الثاني بالمتواتر باعتبار أنَّ القضية المتواترة بحسب الحقيقة ترجع إلى القسم الثاني من القسمين المتقدمين, حيث أنَّ فرضية صدق القضية ووقوع الحادثة المخبر عنها بالتواتر بنفسها علّة مشتركة للأخبار بحسب طبع الإنسان, فإنَّ افتراض وقوعها بشكل وجود العلّة لتفسير كلّ تلك الإخبارات, وهذا بخلاف ما إذا افترضنا عدمها؛ وراجع كلامه في المقام أيضاً.

والحقُّ أنَّ نظريته قدس سره في المعرفة الإنسانية لا يمكن قبولها في جميع الموارد, فقد ذكرنا ما يرتبط بهذا الموضوع فيما سبق وقلنا بأنَّهم قد ذكروا مذاهب ونظريات في المعرفة, وأهم تلك النظريات التي صيغت فيها هي نظرية الإسلام في المعرفة المستفادة من الكتاب

ص: 68

الشريف والسنة المطهرة وكلمات المعصومين علیهم السلام الذين هم شراح القرآن الكريم؛ فنقول ولو على سبيل الإجمال بناءً على نظرية الإستذكار, وإنَّ كلَّ العلوم الكلية قد أودعها الله تعالى في النفس الإنسانية, وإنَّ كلَّ ما يتعلمه الإنسان إنَّما هو استذكار لما ألهمه عَزَّ وَجَلَّ, فالعلوم كلها قبلية, وقد نسيها الإنسان عندما هبط إلى دار الإمتحان والإبتلاء, وإنَّما الجزئيات فيحياتنا إنَّما تعتبر بمنزلة الإشارة والومضات في الحياة العلمية, وقد تبنى هذه النظرية بعض فلاسفة اليونان, وتنسب إلى أفلاطون, وفي بعض المأثورات التي وردت عن الإمام أبي عبد الله الصادق علیه السلام أنَّه قال: (انكم لم تتعلموا شيئاً وإنَّما تستذكرون ما تعلمتم)(1), وتشهد لها بعض الشواهد أيضاً, والبحث في هذه النظرية يحتاج إلى كلام طويل ليس المقام موضع ذكره.

وأمّا بناءً على ما هو المعروف في نظرية المعرفة فإنَّ نظرية الإسلام تختلف عن غيرها بأمور:

1- إنَّها رصينة تعتمد على الحقائق والواقعيات وتضع كلّ شيء في مواضعها.

2- إنَّها متكاملة مترابطة تشدّ المعارف بعضها مع بعض لدفع الموهومات وما يكون خلاف الوقائع.

3- إنَّها تشمل جميع قوى الإنسان الحسية والمعنوية.

4- إنَّها متعددة, فقد أثبت لكلِّ قوة في الإنسان معرفة مختصة لها دور في تثبيت حياته مطلقاً.

5- إثبات المعارف المتعددة منها البديهية الأولية ومنها المعارف العقلية ومنها المعارف الخيالية التي منها الحس ودور كلّ واحد منها في الحياة واضح, ومن مجموعها تتشكل الحقيقة الإنسانية إذا كانت متعاونة تعضد كلّ واحدة منها الأخرى,

ص: 69


1- . لا يوجد مستند واضح لألفاظ هذه الرواية.

وهناك نوع آخر وهو الإلهام والوحي والكشف والشهود الذي يختَّص بها بعض الأفراد وإنْ كان كلّ فرد له الإستعداد التام في تلقي نوعاً منها إنْ لم يفسده باعتقاده أو أعماله الباطلة, ودور الدين كبير في توجيه تلك القوى وإثبات الروابط الحسنة بينها, فما ذكره السيد الصدر قدس سره من إنكاره للعلوم والمعارف القبلية غير صحيح وإنْ كان هناك نقاش في بعض الصغريات, فإذا كان الخبر المتواتر من الحسيات والتجريبيات ولكن إثبات كونه مِمّا يوجب العلم واليقين لا بُدَّ له من مقدمة عقلية، ولولاها لما أوجب العلم واليقين, وتقدم بعض الكلام في ذلك عند بحث نظرية المعرفة.

ومنه تتضح المناقشة فيما ذكره في المقام وغيره, ومع ذلك فإنَّ في كلامه مواضع للنظر نذكر بعضها:

إنَّ استنتاج النتائج من الجزئيات لا يمكن إلا بعد تجريدها عن الخصوصيات المحيطة بها من الزمان والمكان وسائر الجهات وإلا فلا يمكن استنتاج شيء منها مهما بلغت من الكثرة والعدد, فإنَّ المعروف أنَّ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً, فلا بُدَّ من تدخُّل العقل، وتلك1- الخصوصيات يتم إلغاؤها واستنتاج النتيجة الكلية وطرح جميع المحتملات, وتدخل العقل هذا لا يمكن أنْ يتحقق إلا بعد ورود الجزئيات الكثيرة المتماثلة في حقائقها, وإنْ اختلفت في بعض جهاتها فلا بدَّ أنْ يكون هناك حكم عقلي وإنكار ومكابرة واضحة.

2- إنَّ احتمال تكرر الصدفة والتواطؤ على الكذب الذي ذكره السيد قدس سره يظل ثابتاً مهما تكررت الجزئيات ما لم يتدخل العقل ويحكم بإلغائها, ولا يكفي عالم الخارج والمشاهدة من رفعها. ومن هنا يختلف العقل في قناعته وسرعة استجابته؛ فقد يحصلان بالسرعة الشديدة إذا توفرت الشروط لإقناعة.

ص: 70

ولذا اختلفت القضايا التجريبية لذلك في سرعة حصول اليقين.

3- الجواب عمّا اعترضه الفيلسوف البريطاني (رسل) على الدليل الإستقرائي؛ حيث قال إنَّه إنَّما يتم في العلوم الطبيعية التجريبية لوقوع التكرار فيها, وأمّا في عالم الطبيعة فإنَّنا لم نعاصر عوالم متعددة كعالمنا ونجد لكلٍّ منها خالقاً لكي نستنتج ذلك في حقِّ عالمنا أيضاً.

فكان جوابه عنه بأنَّ التكرار بما هو تكرار لا أثر له في جوهر منطق الإستقراء, وإنَّما الميزان وملاك الكشف هو العلم الإجمالي وانقسامه على أطرافه, وهو ينطبق في القضايا التكرارية كما ينطبق على غير التكرارية إذا كانت الفرضيات غير فرضية وجود الصانع الحكيم.

وهذا الجواب منه رجوع عنه في الواقع عمّا أنكره من القضايا القيلية العقلية, فإنَّ العقل هو الذي يتحمل مسؤولية العملية التجريدية بعدما يحصل له العلم الإجمالي, ومن أجل ذلك أمر القرآن الكريم بالنظر في آيات الله تعالى التكوينية, قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ)(1). والبحث دقيق له موضع آخر, وغير ذلك من مواقع النظر في كلامه؛ فراجع.

ثم أنَّه قدس سره ذكر أنَّه يمكن تحديد عوامل مؤثرة في إفادة التواتر اليقين, وهي على قسمين:

الأول: عوامل موضوعية مربوطة بالشهادات.

الثاني: عوامل ذاتية مربوطة بنفسية السامع.

أمّا العوامل الموضوعية فإنَّ أهمها:

1- درجة الوثاقة والتصديق لمفردات التواتر؛ فكلما كانت شهادة المخبر ذات قيمة احتمالية أكبر كان حصول التواتر أسرع وبعدد أقل؛ لأنَّ أساس خصوص اليقين حساب الإحتمالات.

ص: 71


1- . سورة فصلت؛ الآية 53.

2- الإحتمال القبلي للقضية المتواترة؛ فكلما كانت قيمة هذا الإحتمال القبلي أكبر كان حصول التواتر أسرع والعكس بالعكس أيضاً.

3- تباين الشهود في أوضاعهم الحياتية والثقافية والإجتماعية؛ فإنَّه كلَّما كانوا متباينين فيها أكثر كان حصول التواتر أسرع, لأنَّ ذلك يؤدي إلى أنْ يكون احتمال وجود عرض ذاتي مشترك للكذب أبعد وأضعف, وهو يرجع إلى حساب الإحتمالات وسرعتها؛ نفياً وإثباتاً.

4- كيفية تلقي القضية من قبل كل شاهد؛ إذ كلما كانت القضية أقرب إلى الحس وأبعد عن النظر كان حصوله أسرع والعكس بالعكس أيضاً.

وأمّا العوامل الذاتية فأهمها:

1- حالة الوسوسة والبطئ الذاتي للذهن؛ فإنَّ الناس يختلفون في سرعة حصول اليقين وبطئه اختلافاً ذاتياً حتى مع وحدة الدليل الموضوعي.

2- وجود الشبهة فيما إذا كان الإنسان معتقداً بالخلاف؛ بحيث أصبح له ألفة وعادة ذهنية بالخلاف, فإنَّها قد تشكل مانعاً ذاتياً تقف أمام سرعة حصول اليقين بالتواتر.

3- العاطفة؛ فإنَّها أحياناً تحكم على الإنسان وعقله فيما إذا كانت القضية المتواترة على خلاف عاطفته وطبعه, فتكون حجاباً بينه وبين حصول اليقين فيبطؤ حصوله.

والحقُّ أنَّ جميع ذلك مِمّا لا طائل تحته, فإنَّ حصول اليقين لا يتحقق إلا بعد قناعة العقل وسرعة استجابته, لما يرد عليه من الجزئيات في تجريدها عن الخصوصيات المحيطة بها, ولا شك في أنَّ هناك مؤشرات لتحصيل اليقين ومؤشرات مضادة سواء كانت في الموضوع أم الذات أم الأجواء المحيطة بهما, فالمناط كله على تحصيل العلم الإجمالي واليقين من الجزئيات, ولا دخل لحساب الإحتمال وتكرار المفردات من حيث هو مالم تنظم إليها تلك القناعة النفسية والحكم العقلي كما عرفت.

ص: 72

والحاصل؛ أنّ ما ذكرناه من أنَّ التواتر من موجبات القناعة النفسية وحصول اليقين من أخبار المخبرين وابتعادهم عن التواطؤ على الكذب عادة, فالأمر عرفي نفسي لا تمت بالأمور العقلية حتى يناقش في ثبوتها وعدمه.

ومن ذلك يظهر ضعف الإشكال على الخبر المتواتر من أننا لم نعاصر مفردات التواتر وإنَّما نقل ذلك إلينا بالواسطة؛ فحينئذٍ هل يكتفي أنْ ينقل عن كلّ من المخبرين واحد أو لا؟ فإنَّه بناءً على الأول لا يكون من المتواتر فلا يكفي نقل واحد عن واحد, لأنَّ كل واحد أخبار آحاد وحادثة مستقلة عن إخبار الآخر, فلا بدَّ من إحراز كل خبر بالتواتر حتى يثبت التواتر, ومثل ذلك لا تحقُّق له في الخارج فيصبح التواتر من الأمور المثالية التي لا يكون له مصداق في باب الأحاديث والأخبار مع الواسطة.والجواب عنه يظهر مِمّا ذكرناه من أنَّ تعدد المخبرين إذا كشف عن عدم التواطؤ على الكذب عادة مِمّا يوجب الإطمئنان والوثوق, فلا يكفي إخبار واحد عن واحد بل يحتاج إلى أكثر من إخبار مع الواسطة, فإنَّه يحتاج إلى تعدد المخبرين وامتناع تواطؤهم على الكذب.

أقسام التواتر

قسم العلماء التواتر إلى أقسام ثلاثة:

1- التواتر اللفظي.

2- التواتر المعنوي.

3- التواتر الإجمالي.

والأول؛ ما إذا كان المصبّ المشترك مدلولاً مطابقياً كاملاً, ولا ريب في أنَّ مثل هذا التواتر هو أقوى الأقسام الثلاثة وأسرع تأثيراً في إيجاد اليقين, لأنَّه أبعد من الإحتمالات

ص: 73

المضادة والتأثيرات السلبية مِمّا تقدم ذكره, وأمثلة هذا القسم كثيرة, منها قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)(1), وحديث الثقلين وغيرهما.

والثاني؛ ما إذا كان المصبّ المشترك مدلولاً تحليلياً, وهو يشمل المدلول التضمني أو الإلتزامي العرفي, وهذا القسم أيضاً مثل سابقة؛ فإنَّ كثرة المخبرين واجتماعهم على ذلك المدلول مِمّا يوجب اليقين لبعدهم عن التواطؤ على الكذب الحاصل من تضاعف المخبرين مِمّا يبعد الإحتمالات المضادة كما عرفت آنفاً, ومثال ذلك أيضاً متعدد مثل الإخبار عن الضروريات كالفرائض اليومية ونحوها.

وأمّا الثالث؛ ما إذا لم يكن هناك مدلول مشترك بين أخبار المخبرين كالتواتر الإجمالي الحاصل بالنسبة إلى الأحاديث المروية في الكتب الأربعة, وفي هذا القسم لا بُدَّ أنْ يكون ما يوجب القناعة والاستيثاق أقوى وأشدّ من غيره, فإنَّ الإحتمالات المضادة والتأثيرات والعوامل السلبية فيه أكثر من قسميه, فلا بُدَّ أنْ يتعاضد الكمّ مع الكيف في هذا القسم لإبعاد تلك الإحتمالات أو تقليلها, فإنَّه في المثال الذي ذكرناه فإنَّه لو نظرنا إلى آحاد الأخبار في الكتب الأربعة وتعددها الكمي فإنَّه بحدِّ نفسه لا يوجب اليقين المطلوب في التواتر لوجود الإحتمال في كلِّ خبر من أخبارها, فلا بُدَّ أنْ يعضد هذا الكمُّ الكيفَ أيضاً؛ بأنْ يكون احتمال إتّفاق الرواة على الكذب مع تباينهم في الآراء والخصوصيات بعيد وغير ذلك.

وبالجملة؛ فلا بُدَّ في هذا القسم من أنَّضمام الكيف إلى الكمّ حتى يوجب اليقين, ومثل ذلك مورد الخلاف بين الأعلام, فإنَّه مجرد تحقق الكم لا يكفي في تحصيل اليقين في التواتر الإجمالي, وأمّا الكيف فإنَّه مورد النزاع, فقد يثبت بعضهم بعض القرائن بينما ينكرها غيرهم, ولكن إذا اجتمعا في مورد يكون مِمّا يوجب اليقين بلا إشكال، ولكنه يختلف بحسب الموارد والمواضيع والأشخاص.

ص: 74


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص62.

البحث الثاني: خبر الواحد

اشارة

وهو مطلق ما لا يوجب اليقين ولا يفيد العلم من الإخبار سواء كان واحداً أم متعدداً.

أصل حجية خبر الواحد

والكلام عنه يقع في مقامين:

المقام الأول: في الأدلة التي يستدلُّ بها على عدم الحجية.

وقد استدلَّ على عدم الحجية بالأدلَّة الأربعة؛ الكتاب والسنة والإجماع والعقل؛

أمّا الكتاب؛ فهي تلك الآيات الناهية عن اتباع الظن وغير العلم بمضامين وألسنة مختلفة, مثل قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)(1).

وقوله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ)(2)؛ فإنَّ إطلاقهما يشمل الخير أيضاً.

ونوقش في الإستدلال بها من وجوه:

أولاً: إنَّها وردت في الإعتقاد وأصول الدين دون أحكامه وفروعه فلا يشمل غيرها, فلا ربط لها بمقام الأحكام والعمل كما هو المنساق منها.

ثانياً: إنَّ المراد بالعلم في الكتاب والسنة ما يُطمئن به وتسكن إليه النفس لدى العقلاء, كما أنَّ المراد بغير العلم الأراجيف وما يخبر به الجهلة والهمج الرعاع, والخبر الموثوق به من الأول دون الثاني باتّفاق الجميع.

ص: 75


1- . سورة الإسراء؛ الآية 36.
2- . سورة يونس؛ الأية 36.

ثالثاً: إنَّها معارضة بالأدلَّة الأربعة التي تدلُّ على الإعتبار والترجيح مع الأخير كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى, ثم إنَّه قد اعترض المحقق الخراساني والنائيني (قدس سرّاهما) على الإستدلال بها, ونوقشت تلك الوجوه.

أمّا المحقق الخراساني قدس سره فقد أشكل على الإستدلال بها بأمرين:

1- إنَّ القدر المتيقن من إطلاقها الظن في أصول الدين لا الفروع؛ وهو الوجه الأول مِمّا ذكرناه.

وأشكل عليه بأنَّه إنْ أُريد أنَّ المتيقن منها -ولو بلحاظ خارج مقام التخاطب- الظنّ في أصول الدين فهو صحيح, إلا أنَّه لا يضرّ بالإطلاق.

وإنْ أُريد نفي إطلاقها للظن في الفروع في نفسها فلا موجب له خصوصاً في الآية الأولى التي جاءت في سياق مستقل عن أصول الدين.

ويرد عليه ما ذكرناه من أنَّ المراد بغير العلم تلك الأراجيف وما عليه الهمج الرعاع فلا يشمل الظن الذي قام الدليل على اعتباره كالخبر الموثوق به.

2- إنَّ دليل حجية خبر الواحد يكون مخصصاً لإطلاق الآية الكريمة, لأنَّ الخبر قسم من أقسام الظن.

وأورد عليه بأنَّه لا بُدَّ من ملاحظة أدلَّة الحجية؛ فإنَّها ليست جميعاً أخص مطلقاً من الآية وإنْ كان منها ما يكون أخص كالسيرة المتشرعية أو العقلائية فهي توجب القطع بالحجية, ومعه إمّا لا إطلاق في الآية, أو لا حجية لها, وأمّا إذا كان المدرك للحجية آية النفر أو الكتمان أو النبأ فهذه الآيات إنَّما تدلُّ على الحجية بإطلاقها لصورة مجئ خبر الواحد غير الموجب للعلم فتفترق عن آيات النهي فيما إذا كان الخبر علمياً أو لم يكن خبراً أصلاً كما في آية النبأ, فتكون المعارضة بالعموم من وجه إلا أنْ يقال بالناسخية لتأخر آيات الحجية عن آيات النهي.

ص: 76

وفيه: إنَّه لا وجه للناسخية؛ لاختلاف موضوعهما بناءً على ما ذكرناه في تفسير الآية الكريمة, وعلى فرض وجود الإطلاق في الآية الكريمة ليشمل كلَّ ظنٍّ؛ حتى الظنّ الخبري, لكن أدلَّة حجية الخبر بمجموعها من غير نظر لخصوصيات الأفراد إنَّما تدلُّ على حجية الخبر الواحد, فتكون مخصصاً لإطلاق الآية الشريفة, فما ذكرهُ المحقق الخراساني قدس سره صحيح, وأمّا المحقق النائيني قدس سره فقد ذكر أنَّ دليل حجية خبر الواحد يكون حاكماً على الآيتين بجعل الظن علماً.

وأشكل عليه بأنَّ الآية الكريمة ليس مفادها النهي التكليفي بل إرشاد إلى عدم الحجية, وحينئذٍ إذا فرض عدم تمامية دلالتها في نفسها على نفي الحجية فلا حاجة إلى الحكومة, وإن فرض كونها إرشاداً إلى عدم الحجية، فكما أنَّ دليل الحجية يكون مثبتاً للعلمية والطريقية كذلك هذا الدليل بنفي العلمية والطريقية, وكلاهما في موضوع واحد وهو الظن وعدم العلم فلا وجه لافتراض حكومة أحدهما على الآخر.

ويرد عليه بأنَّ دليل الحجية يثبت كون الظنّ الخبري علمياً فيخرج عن موضوع الآية الكريمة التي تدلُّ على نفي الحجية عن مطلق الظنّ وهو معنى الحكومة, لا أنْ يكون موضوع واحد من الدليلين حتى يقع التعارض كما افترضه المستشكل.

أمّا السنة؛ فقد استدلَّ بعدة روايات, والمنهج في الإستدلال بها هو أنْ نفترض كونها؛ إمّا أنَّها قطعية, وهو الذي اختاره جمعٌ من كونها مستفیضة بل متواترة كما ذكره السيد الوالد قدس سره (1), وإمّا أنْ تكون من خبر الواحد، ولكن نقطع بأنَّ الخبر الذي يستدلُّ به على عدم الحجية لا فرق بينه وبين سائر الأخبار الآحاد, وإمّا أنْ لا يفترض ذلك؛ أمّا الفرض الأول فيصحُّ الإستدلال بها ثبوتاً في المقام, وأمّا على الفرض الثاني لا يعقل الإستدلال بها

ص: 77


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص112.

في المقام, لأنَّ حجيته مساوقة للعلم بكذبه لافتراض الملازمة القطعية بين حجيته وحجية سائر الأخبار, ولا ريب أنَّ جعل الحجية لخبر يلزم من وصول حجيته القطع بكذبه غير معقول.وعلى الفرض الثالث؛ وهو عدم إحراز حجية القطع بكذبه، بل يثبت به عدم حجية غيره من الأخبار, فإنَّه وإنْ أمكن القول بأنَّ إطلاق مدلوله وإنْ كان شاملاً لنفسه إذ لا محذور فيه عرفاً يكون من شمول الدليل لنفسه ولكن هذا الإطلاق بالخصوص لا يعقل حجيته لمحذور عقلي وهو أنَّ هذا الإطلاق فرع حجية سنده, فإذا كانت حجيته متوقفة على حجية السند استحال أنْ يكون نافياً لها فينحصر الإستدلال بها في الإفتراض الأول وهو دعوى كونها متضافرة أو متواترة, وحينئذٍ لا وجه للإشكال السندي فيها أو في بعضها كما صنعه السيد الصدر قدس سره في المقام.

وأمّا السنّة؛ فهي تلك الأخبار التي استدلَّ بها على عدم الحجية, وهي من المستفيضة بل المتواترة في الجملة كما وصف, وقد جمعها المحدث الحرّ قدس سره في الوسائل في كتاب القضاء, واشتملت على تعبيرات مختلفة يمكن تقسيمها إلى طائفتين:

الأولى: ما دلَّ على النهي عن العمل بخبر غير معلوم الصدور منهم علیهم السلام , كرواية (مَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَوْلُنَا فَالْزَمُوهُ وَمَا لَمْ تَعْلَمُوا فَرُدُّوهُ إِلَيْنَا)(1).

الثانية: ما دلَّ على النهي عن العمل بالخبر الذي لا يوافق الكتاب الكريم أو ليس عليه شاهد أو شاهدان منه, وهي التي عبّر عنها بأخبار العرض على الكتاب.

ص: 78


1- . بصائر الدرجات؛ ج1 ص525.

ويرد على الإستدلال بها:

1- على فرض تمامية الدلالة فإنَّها معارضة بما دلَّ على الحجية من الأخبار, وهي متواترة بل هي معارضة مع الدليل القطعي على الحجية كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

2- إنَّ الطائفة الأولى لا تنفي أصل الحجية وإنَّما تدلُّ على شرط العمل بها بكونها صادرة عنهم علیهم السلام وموثوقاً بها, فلا يعمل بكلِّ خبر لم يتوفر فيه شرط القبول, فالإستدلال بها على الحجية أحرى من التمسك بها على عدم الحجية.

3- روايات العرض على كتاب الله تعالى؛ إنْ كانت من التفسير له أم بتقييد إطلاقه أو تخصيص عمومه أو بيان لفظه ومفهومه أو شرح مفاده وحدوده؛ فهي ليست من المخالفة عند أهل المحاورة أصلاً, بل لو لم تكن هذه الأخبار لبقي كتاب الله تعالى معطلاً في الأحكام؛ ولا ريب في فساده.

مع أنَّ المنساق منها بعد ردّ بعضها إلى بعض أنَّها وردت لبيان علاج المعارضة, وسيأتي تفصيل ذلك في بحث تعارض الأدلَّة إنْ شاء الله تعالى.وأمّا الإشكال على الطائفة الأولى بأنَّها ضعيفة السند فهو غير مجدٍ؛ لفرض استفاضة الأخبار.

وأمّا الإجماع؛ فقد نقل عن السيد المرتضى قدس سره (1) إجماع الطائفة على عدم العمل بأخبار الآحاد على ما جاء في أجوبته على بعض المسائل, بل إدَّعى أنَّه واضح بمرتبة يعدّ من ضروريات المذهب كحرمة العمل بالقياس عندهم.

وهذا الإجماع وإنْ كان من قسم المنقول لكن يمكن قبوله باعتبار كونه يكشف عن أمر ضروري كحرمة العمل بالقياس.

ص: 79


1- . جوابات المسائل التبّانيّات، ضمن رسائل الشريف المرتضى؛ ج1ص19 وص61.

ولكن أشكل عليه بعدَّة وجوه:

الأول: إنَّ تحقق الإجماع على عدم الإعتبار في مثل هذا الموضوع المهم والعام البلوى بعيد جداً.

الثاني: إنَّه معارض بالأدلَّة القطعية التي تدلُّ على الإعتبار, ولا ريب أنَّ الترجيح معها كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى, بل أنَّه معارض بما نقله الشيخ الطوسي قدس سره (1) من الإجماع على الحجية.

الثالث: وعلى فرض تحققه فالقدر المتيقن منه الأخبار التي لم يتحقق فيها شروط القبول كالأراجيف فلا ربط له بالمقام بل المظنون قوياً كونه مقصود السيد قدس سره , لا سيما مع دعوى الشيخ استقرار إجماع الطائفة على التعبد بالعمل بإخبار الثقات من الإمامية, ومن البعيد جداً تحقق التعارض والتهافت بين هذين العلمين المتعاصرين في دعواهما الإجماع, ومن أجل ذلك ذكر بعض الأعلام أنَّ مورد إجماع السيد هو أصول المعارف دون الفروع الفقهية, ويعتبر هذا أحد المحامل التي حمل كلام السيد قدس سره عليها, وقيل بأنَّ مقصود السيد قدس سره هو أخبار العامة التي لا يحرز فيها وثاقة الراوي, وإنَّما كان قصده من نفي الكبرى إبتداءً التحاشي عن جرح مشاعرهم في جرح رواتهم, وهذا هو الذي نقله الشيخ قدس سره في العدة بقوله أنَّ المسموع من أشياخ الطائفة أنَّ الطائفة لا تعمل بأخبار الآحاد, ثم فسَّره بأنَّ المراد منه مثل هذا المحمل.

وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (2) أنَّ المراد من دعوى السيد قدس سره الإجماع الإحتفاظي, أي: إحتفاظ كتب الشيعة عن التدخل فيها, فيكون المراد به أنْ لا يدخل في كتب الشيعة

ص: 80


1- . العدّة في أصول الفقه؛ ج1ص126.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص104.

المعتبرة كل ما لا يعتبر, لا أنَّه لا يعمل بما اعتبر منها,وجميع تلك المحامل صحيحة, لا سيما الصادر من مثل الشيخ الذي يعدُّ من تلامذة السيد قدس سره , فيكون كلامه قرينة على مرام السيد من مقولته.

الإستدلَّال بالآيات
اشارة

وأمّا العقل؛ فقد استدلَّ بما تقدم من امتناع التعبد بغير العلم, وقد عرفت الجواب عنه مفصلاً؛ فراجع.

المقام الثاني: في الإستدلال على حجية الخبر الواحد بالأدلَّة الأربعة.

أمّا الكتاب الكريم؛ فقد استدلَّ بالآيات التالية:

الآية الأولى:
اشارة

آية النبأ. وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(1). والإستدلال بها يكون بتقريبين:

أحدهما: مفهوم الشرط.

والثاني: مفهوم الوصف.

أمّا التقريب الأول؛ فإنَّ الإستدلال به يتوقف على فهم وجوب التبين, وإنَّه هل هناك مقدمة مطوية؛ وهي كون العادل أسوأ من الفاسق.

وعلى الإجمال فإنَّه قد ذكر في توجيهه بأنَّ ترتب وجوب التبين على خبر الفاسق يدلُّ على الإنتفاء عند الإنتفاء, فإنَّه بناءً على ما هو المستفاد منها عرفاً من كون وجوب التبين غيرياً وشرطاً للعمل بخبر الفاسق أنَّه إذا جاءكم فاسق بنبأ فلا تعملوا به إلا بعد التبين, وإنْ جاءكم عادل به فاعملوا به بلا تبين؛ ولا معنى لحجية الخبر إلا هذا.

وكذلك إذا كان وجوب التبين نفسياً, لأنَّه بعد مجيء العادل بالخبر فإنَّه إمّا أنْ يجب التبين أيضاً كالفاسق أو يجب الردّ أو يجب القبول.

ص: 81


1- . سورة الحجرات؛ الآية 6.

والأول مخالف لظاهر سياق الآية عرفاً مع أنَّه خلاف مرتكزات العقلاء, والثاني مقطوع الفساد لأنَّه يكون العادل أسوء من الفاسق؛ فيتعين الثالث وهو المطلوب.

ولكن الحاجة إلى هذه المقدمة المطوية مورد النزاع بين الأصوليين على كِلا الإحتمالين؛ الوجوب الطريقي والنفسي للتبين.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره أنَّه يمكن استفادة الحجية من مفهوم الآية مباشرة من دون الحاجة إلى هذه المقدمة المطوية.

والبحث حول ذلك يرتبط بفهم وجوب التبين وحقيقته؛ فإنَّ فيه عدة وجوه:

1- كون وجوب التبين وجوباً نفسياً كوجوب ردّ التحية؛ فيرجع تكليف الشارع إلى نبذ إخبار الفاسق وفضحه, وعلى هذا الإحتمال فإنَّه ربما يقال بأنَّه نحتاج إلى مقدمة خارجية لإثبات حجية خبر العادل؛ إذ المفهوم لا يدلُّ إلا على انتفاء هذا الوجوب النفسي وهو الحجية كما هو واضح.ولكن الكلام في صحة هذا الإحتمال؛ بل قيل أنَّه ساقط أصلاً, لأنَّه خلاف ظاهر التعليل في ذيل الآية في الطريقية والحرص على الواقع, وخلاف مادة التبين المأمور به, فإنَّ الظاهر منه عرفاً الطريقية والوصول إلى الواقع.

وعلى فرض القبول والتمامية فإنَّه لا حاجة إلى تلك المقدمة المطوية, لأنَّ انتفاء وجوب التبين عن خبر العادل من دون الحجية لا يستلزم أسوئيته عن الفاسق, بل إنَّه أحسن منه الذي كلف الناس بفضحه.

2- كون الوجوب شرطياً؛ وهو الذي اختاره الشيخ قدس سره وغيره, والمشروط جواز العمل بخبر الناس, وحينئذٍ يدلُّ بالمفهوم على انتفاء هذا الوجوب الشرطي في العادل وجواز العمل بخبره, ولكن الكلام في أنَّه هل يجوز العمل مطلقاً أو لا

ص: 82

يجوز مطلقاً والمفهوم لا يكون ناظراً إلى ذلك, فلا بُدَّ من ضمّ مقدمة مطوية, وهي أسوأية العادل على تقدير عدم جواز العمل مطلقاً؛ فقد ذكر بعض الأصوليين أنَّ دليل الشرطية لا يثبت إلا نفس الشرطية منطوقاً وينفيها مفهوماً, وأمّا إطلاق المشروط فيثبت بدليل المشروط وليس لدليل الشرطية نظر إليه, ولهذا لا يستفاد من الآية الشريفة إطلاق جواز العمل بالخبر إذا لم يجيء به الفاسق بل يبقى الأمر مردداً بين ذلك وبين أنْ لا يجوز العمل به مطلقاً فلا بدَّ من نفي هذا الإحتمال بإحدى المقدمتين.

ولكن الحقَّ أنَّ الآية لو عرضت على الفهم العرفي يستفاد منها بناءً على الشرطية لوجوب التبين أنَّه إذا جاءكم فاسق بنبأ فلا تعملوا به إلا بعد التبين, وإنْ جاءكم عادل به فاعملوا به بلا تبين, ولا معنى للحجية إلا هذا, ولا حاجة إلى المقدمة كما عرفت, ولعلّه هذا هو الذي قصده الشيخ في دعواه من نفي الحاجة إلى ضمِّ المقدمة.

3- أنْ يكون وجوب التبين طريقياً؛ بمعنى أنَّه مع مجيء الفاسق بالخبر يجب الإحتياط بالفحص وإذا لم يأتِ الفاسق بالخبر فلا يجب الفحص ويحكم المولى بالبراءة؛ فالمنطوق يثبت ذلك والمفهوم ينفي ذلك وكلٌّ منهما مرتبة من الحجية, وذكر بعض الأصوليين أنَّ كلَّ واحد من الإحتمالين السابقين يجريان في خبر العادل, فلا بُدَّ من ضمِّ مقدمة عدم الأسوأية لإثبات كون خبر العادل حجة على الإطلاق.

وفيه: إنَّ هذا الإحتمال خلاف الظاهر, لأنَّه لو كان النظر إلى ذلك لكان المناسب أنْ يكون التعليل باحتمال إصابة الفاسق للواقع, مع أنَّ التعليل على خلاف ذلك, بل احتمال كذب الفاسق وإصابة القوم بجهالة.

ص: 83

1- أنْ يكون الأمر بالتبين إرشاداً إلى عدم الحجية شرعاً؛ فيكون المفهوم ثبوت الحجية في خبر العادل, فلا حاجة إلى ضمّ مقدمة خارجية, ولعل هذا الوجه هو الظاهر في تفسير وجوب التبين عرفاً.

5- ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من الوجوب الغيري, فإنَّه بناء على أنْ يُراد بالتبين ما يعمّ تحصيل الظن قال قدس سره بأنَّ وجوب التبين حينئذٍ يكون غيرياً ومقدمة لوجوب العمل بخبر الفاسق, وحينئذٍ غاية ما تدلُّ عليه الآية الشريفة إنتفاء هذا الوجوب الغيري في خبر العادل, وأمّا الوجوب النفسي بالعمل به فيحتمل ثبوته ويحتمل عدم ثبوته؛ وعلى التقدير الثاني يلزم منه أسوئية خبر العادل عن الفاسق فلا بُدَّ من نفيه حينئذٍ بالمقدمة.

وردَّ بأنَّه لا يعرف وجه للوجوب الغيري للتبين؛ لا عقلاً كما هو واضح ولا شرعاً, وعبارته في التقريرات لا تفي بذلك, وعلى فرض ذلك فإنَّ الإشكال عليه بأنَّ مشروعية العمل بالخبر عبارة أخرى عن الحجية كما ذكرنا سابقاً.

والحقُّ أنَّ الوجوب الغيري للتبين صحيح عقلاً وممكن شرعاً, وبناءً عليه لا حاجة إلى ضمّ المقدمة كما عرفت.

3- ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (2) أيضاً بناءً على أنَّ المراد بالتبين تحصيل العلم من أنَّ الأمر المذكور يمكن أنْ يكون إرشاداً إلى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم ما لم تقم حجة على الخلاف, وهذا بخلاف ما لو أريد بالتبين ما يعم الظن؛ فإنَّ العقل لا يحكم بلزوم تحصيله, وحينئذٍ نحتاج أيضاً في إثبات حجية خبر العادل إلى ضم مقدمة عدم الأسوئية.

ص: 84


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص108.
2- . المصدر السابق؛ ص90-92.

ويرد عليه: إنَّ الحكم العقلي معلق على مطلق الشك وعدم العلم, بينما الآية الشريفة قد علقت وجوب التبين على الفسق إلا أنْ يكون من التعليق والإناطة الإرشاد إلى عدم الحجية لخبر الفاسق بلسان وجوب تحصيل العلم إذا جاءكم الفاسق بالخبر المشكوك, مع أنَّ حكم العقل إرشاد إلى عدم المؤمّن إلا بالقطع أو القطعي, وهذا المعنى محفوظ في خبر العادل أيضاً فيما إذا علم بكذبه فلا بُدَّ من المؤمن أيضاً, فوجود القطع لا ينفي اللا بدّية العقلية.

فالحقُّ ما ذكرناه من أنَّ الآية الكريمة بمعزلٍ عمّا ذكروه في تفسير وجوب التبين, فإنَّها ظاهرة؛ إمّا في المعنى الثاني أو الرابع؛ وهو الإرشاد إلى عدم الحجية شرعاً, ويمكن إرجاع البقية إليهما.

وعلى كلِّ حالٍ؛ فلا حاجة إلى ضمّ المقدمة؛ وهو الذي اختاره جمعٌ منهم الشيخ قدس سره والسيد الوالد قدس سره .وأمّا التقريب الثاني(1)؛ فقد بيَّنه الأعلام بصيغ متعددة بعد اتّفاق الجميع على أنَّ تعليق التبيُّن على وصف الفسق يدلُّ على الإنتفاء عند الإنتفاء، وهذه الصيغ هي:

الأولى: إنَّ الوصف يدلُّ على الإنتفاء عند الإنتفاء, لأنَّ القانون في القيود الإحترازية والوصف قيد, والمقيد عدم عند عدم قيده, والمنفي حينئذٍ شخص الحكم لا نوعه, ومنه يظهر وجه الضعف في ما ذكره المحقق الكاظمي في تقريراته؛ من أنَّ الجملة الوصفية تدلُّ على ثبوت الحكم لواجد الوصف وساكتة عن فاقده.

هذا الوجه إنَّما يرجع إلى الملاك العام في الوصف, وهو موضع نزاع مبنائي كما تقدم بيانه في محله.

ص: 85


1- . وهو مفهوم الوصف.

الثانية: إنَّ المستفاد من الآية الشريفة إناطة وجوب التبين بعنوان خبر الفاسق, وهو يدلُّ على انتفاء شخص الحكم بوجوب التبين عن خبر العادل بحسب قانون احترازية القيود, وهو يساوق منع حجيته عرفاً كما تقدم في مفهوم الشرط, وهذا الوجه هو الذي يوافق الفهم العرفي للآية الكريمة ولا حاجة إلى التفصيل الذي ذكره السيد الصدر قدس سره وغيره في المقام؛ فإنَّه من التطويل الذي لا طائل تحته, والوجه الأول يرجع إلى هذا أيضاً.

الثالثة: ما ذكره الشيخ قدس سره من أنَّ علّة وجوب التبين إمّا أنْ يكون وصف الفسق في المخبر أو يكون أصل الخبرية, والأول وصف عرفي عرضي, والثاني وصف ذاتي بالنسبة إليه, فإذا كانت العلّة هو الوصف العرفي فمعناه أنَّ الخبر لولا وصف الفسق في المخبر لم يجب التبين فيه؛ وهو المطلوب.

وأمّا إذا كانت العلّة هي الخبرية فهذا خلاف ظاهر الآية, لأنَّ الأمر يدور حينئذٍ إمّا أنْ يكون الوصف العرفي علّة أيضاً أو لا يكون كذلك, فإنْ لم يكن فهو خلف إناطة الحكم بالفسق كما هو ظاهر الآية, فإنْ كان علّة أيضاً فحيث أنَّ الوصف الذاتي أسبق من العرفي فالمعلول يستند إلى العلّة السابقة فكان المناسب إناطته به لا بالفسق وهو خلاف ظاهر الآية الشريفة.

وأورد عليه بأنَّه قاصر عن إثبات المطلوب, فإنَّه مع اختيار علّية الوصف العرفي ولكنه لا ينفي احتمال علّة أخرى مع ذلك ولو في بعض أقسام خبر العادل مع أنَّ قاعدة أنَّ المعلوم يستند إلى أسبق علله؛ الأسبقية الزمانية لا الرتبية, والأسبقية الزمانية مفقودة في المقام.

ويمكن الإشكال عليه بأنَّ الفهم العرفي هو الذي يتقدم على غيره, بحيث يكون الوصف الذاتي غير ملحوظ إليه, ولعل السبق إلى الذهن هو الذي يجعله متقدم زماناً على غيره فيكون الوصف العرفي أسبق زماناً ويتم المطلوب, ولعله هذا هو الذي يريده المحقق النائيني قدس سره .

ص: 86

الرابعة: ما في تقريرات المحقق النائيني قدس سره (1) في تفسير كلام الشيخ قدس سره , ويرجع بيانه إلى أنَّ الأمر يدور بين علية الوصف العرضي وعلية الوصف الذاتي, فعلى الأول؛ يثبت المطلوب, وعلى الثاني؛ فإنْ كان الوصف الذاتي علة مستقلة أو مع الوصف العرفي, وعلى كِلا الإحتمالين لا يناسب عرفاً إناطة الحكم بالوصف العرفي مع كفاية الذاتي, وهذا هو الوجه المناسب للذوق العرفي كما عرفت.

والإيراد عليه بمثل ما أورد على سابقه مردود بما عرفت.

الخامسة: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2) في حاشيته على الكفاية من أنَّ الأمر لا يخلو من أنَّ يكون مجموع الوصفين علّة أو يكون كلّ واحدة منهما علية, أو يكون الوصف الذاتي علّة دون العرفي, أو يكون بالعكس؛ فإنْ كانت العلّة منحصرة في العرفي فقط يثبت المطلوب, وكذلك إنْ كانت العلّة المجموع لانتفاء العلّة بانتفاء أحد أجزائها, وإنْ كانت منحصرة في الذاتي فهو خلاف ظاهر الآية الشريفة في دخل العرفي, كذلك إنْ كان كِلاهما علّة فإنَّه خلاف الظاهر أيضاً, لأنَّ معناه لغوية ذكر الوصف العرفي, وإذا احتملنا وجود علّة أخرى عرضية في خبر العادل فإنَّه غير معقول, لأنَّه إنْ كان كلّ واحدة منهما علّة بعنوانه الخاص لزم صدور الواحد من الكثير؛ وهو محال, وإنْ كان الجامع بينهما علّة فهو خلاف ظاهر الآية في علية الفسق بعنوانه.

وهذا الوجه يجري في كبرى علية الوصف في المفهوم, وقد تقدم بيانه في بحث مفهوم الوصف وهو صحيح ولكن ذكرنا أنَّه لا حاجة إلى ذلك بعد إمكان الرجوع إلى العرف في تعيين المفهوم للوصف وإثبات عليته للحكم؛ فراجع.

ص: 87


1- . فوائد الأصول؛ ج2 ص58.
2- . نهاية الدراية؛ ج3 ص202-203.

السادسة: وهو يرجع إلى تفسير كلام الشيخ قدس سره أيضاً من أنَّه لو كان الخبر في نفسه لا يقتضي الحجية فعدم الحجية مستند إلى عدم المقتضي لها لا إلى فسق المخبر الذي هو بمثابة المانع, وحيث أنَّ الآية الشريفة أناطت عدم الحجية بالفسق, أي بوجود المانع, فيفهم منه تمامية المقتضي في الخبر للحجية.

وأورد عليه بالنقض بما سبق من احتمال وجود مانع آخر, مع أنَّ المانع حكماً قوي؛ وهو احتمال الخلاف في الخبر ويضعف المقتضي بحيث يصل الأمر إلى عدم تأثيره, وحينئذٍ يناط عدم المعلول إلى المانع دون المقتضي.

ولكن الجواب عن ذلك واضح مِمّا عرفت آنفاً, ومفروض الكلام في ما إذا كان المانع والمقتضي متحققان بحدِّ نفسها, وإنَّ ضعف أحدهما وقوة الآخر لأجلجهات خارجية, فإنَّه ربَّما يتحقق ذلك كلما اشتدَّ احتمال الخلاف, ولكن يبقى أصل القاعدة على حالها.

والصحيح؛ ما استفاده العرف من الآية الشريفة من علية الفسق في وجوب التبين ويثبت المفهوم, وهو يساوق الحجية, والوجوه السابقة ترجع إلى ذلك وإنْ كانت العبارات مختلفة فيجري في مفهوم الوصف ما يجري في مفهوم الشرط كما عرفت.

مناقشة الإستدلال بالمفهوم

إعترض الأصوليون على الإستدلال بالمفهوم تارةً؛ بمنع المقتضي في الآية للمفهوم وهو يرجع إلى إنكار أصل الظهور للآية على المفهوم, وأخرى؛ بوجود المانع؛ وهو إمّا أنْ يرجع إلى دعوى وجود مانع عنه بعد افتراض وجود الظهور المفهومي, وهذا المانع يرجع إلى احتمال وجود القرينة المتصلة التي ترفع فعلية الظهور. أو يرجع إلى دعوى حجية الظهور المفهومي لوجود مانع منفصل.

ص: 88

وبالجملة؛ فقد ذكروا وجوهاً في بطلان الإستدلال بالآية الشريفة على حجية الخبر, وهي:

الوجه الأول: ما يرجع إلى منع المقتضي؛ حيث ذهبوا إلى انكار أصل الظهور المفهومي لان الشرط في الآية الكريمة سيق لبيان الموضوع فيكون إنتفاء الحكم بانتفائه تكويناً حينئذٍ, مثل: إنْ رزقت ولداً فاختنه؛ فلا ربط له بالمفهوم أبداً كما عرفت تفصيله في بحث المفاهيم, كما أنَّ الوصف في المقام غير معتمد على الموصوف, فلا يتحقق له مفهوم على فرض ثبوت المفهوم للوصف, لأنَّه قد تقدم في مبحث المفاهيم عدم ثبوت مفهوم للوصف اعتمد عليه أولاً كما عرفت التفصيل هناك؛ فراجع.

ولكن الجواب عن ذلك أنْ يُقال بأنَّ الشرط في الكلام يمكن أنْ يكون على أقسام ثلاثة:

الأول: أنْ يكون الشرط قد سيق لبيان الموضوع وتحققه بحيث لا يتصور للموضوع وجود إلا بالشرط كالنصّ المعروف (إنْ رزقت ولداً فاختنه), ولا إشكال في عدم ثبوت المفهوم لمثل هذا الشرط لأنَّه بمنزلة الموضوع للحكم, إلا أنَّ الفرق بينهما كالفرق بين الوجود والإيجاد.

الثاني: أنْ يكون الشرط أجنبياً عن وجود الموضوع فيكون أمراً طارئاً عليه, مثل إذا جاءك زيد فأكرمه, وفي هذا القسم يثبت المفهوم كما عرفت تفصيله.

الثالث: أنْ يكون الشرط نحواً من وجود الموضوع ولكنه غير منحصر به كما في القسم الأول بل يمكن أنْ يوجد الموضوع بنحو آخر, كما هو الحال في الآية الكريمة؛ حيث أنَّ النبأ قد يتحقق بخبر الفاسق كما يتحقق أيضاً بخبر العادل.

والمفهوم قد يتحقق في هذا القسم, لأنَّ ما استدل به على عدم ثبوت المفهوم في القسم الأول لا يجري في هذا القسم الثالث.

ص: 89

والآية الشريفة ليست من القسم الأول, لأنَّ سياقها يدلُّ على أنَّها في مقام بيان القاعدة الكلية وتقرير ما ارتكز في العقول من الإعتماد على ما يكون مدار الوثوق والإطمئنان به ويعتبره العقلاء, كالعلة المنحصرة في ذلك, فما يكون موثوقاً به يكون معتبراً ويعتمد عليه دون غيره, وحينئذٍ لا يفرق في دلالة الآية الشريفة من هذه الجهة بين كونها بنحو مفهوم الشرط أو مفهوم الوصف؛ ذكر الموصوف أم لم يذكر, فإنَّ نفس هذه الدلالة إنْ ظهرت من الآية الكريمة تكون معتبرة لدى العقلاء, ومن جميع ما ذكرناه يظهر أنَّ ما ذكره السيد الصدر قدس سره في المقام تطويل لا طائل تحته مع أنَّه لا يخلو من بعض المناقشات فراجع.

وكيف كان؛ فان دعوى سيقت لبيان تحقق الموضوع من مجرد الدعوى التي لا شاهد عليها بل ظاهرها شاهد على بطلانها كما عرفت.

ثم إنَّه قدس سره ذكر وجهين آخرين في بيان عدم دلالة الآية بالمفهوم, وإنْ فرض أنَّها لم تكن مسوقة لبيان تحقق الموضوع.

أولهما: إنَّ المفهوم من توابع الشرط على النسبة الحكمية في الجزاء حتى يدلُّ على انتفائها بانتفائه, وهذا يعني أنَّ التعليق والتقييد على الشرط قد لوحظ في طول النسبة الحكمية في الجزاء وفي مرتبة متأخرة عنه في اللحاظ مرحلة التصور, وهذا يعني أنَّ الشرط في طول طرفي النسبة الحكمية من الموضوع والمحمول, وعلى هذا لا يكون مثل هذه الشرطية تعليقاً حقيقياً بل يكون على نحو صورة الشرط, وهو في الحقيقة موضوع للحكم سيق لتحققه, فيكون مثل هذه الشرطية حال الشرطية المسوقة لبيان أصل الموضوع التي عرفت ثبوت المفهوم في مثلها لأنَّها كالقضية الحملية.

ويرد عليه بأنَّ ما هو موضوع النسبة الحكمية ذات الموضوع -وهو النبأ-, وما هو الشرط وطرف التعليق الجملة الشرطية, أي: نسبة النبأ إلى الفاسق لا ذات النبأ؛ فلا محذور حينئذٍ.

ص: 90

ثانيهما: وهو يرجع إلى البيان السابق أيضاً, وهو يقتضي فرض موضوع الجزاء في المرتبة السابقة على الشرطية والتعليق على الشرط, فإذا كانت الشرطية مسوقة لبيان نفس افتراض موضوع الجزاء لم تكن ذات مفهوم, لكن ذلك إنَّما يتمّ إذا ثبت في عالم الإثبات بما يدلُّ على الطولية المذكورة, ولا يكفي إمكان الطولية ثبوتاً؛ فإذا ثبت وحدة الإفتراض في عالم الإثبات يستكشف ذلك في عالم الثبوت أيضاً, لأنَّ القاعدة مقتضى التطابق بين العالمين؛ الإثبات والثبوت, وبذلك تكون الشرطية في قوة الحملية فلا مفهوم حينئذٍ, وقد يقال بأنَّ ذلك يجري في المقام,لأنَّ الآية الشريفة لم تفترض إلينا موضوعاً في الرتبة السابقة على تحقق الشرطية والتعليق بل قد افترضت مجموع مفاد الجملة الشرطية بافتراض واحد, ومن هنا لا يكون لها مفهوم, نعم؛ إذا كانت الآية هكذا (النبأ؛ إنْ جاءكم فاسق به فتبينوا) أو قال: (إنْ جاءكم فاسق بالنبأ فتبينوا)؛ كان النبأ الموضوع للحكم في الجزاء مفروضاً بقطع النظر عن التعليق بافتراض مسبق؛ إمّا بنحو تقديمه كموضوع للحكم, أو بالتعريف المُشعر بذلك, كما إذا قيل: (إنْ أعطاك زيد درهماً فخذه), أو (إنْ أعطاك الدرهم فخذه)؛ فإنَّه حينئذٍ يثبت المفهوم, والمفروض أنَّ الآية الكريمة لم تكن كذلك, ولعل ذلك هو الوجه عند الشيخ الأعظم قدس سره ؛ حيث ذهب إلى عدم المفهوم في الآية الكريمة, ولكن عرفت الجواب عن ذلك مِمّا سبق, فإنَّ الظاهر من الآية الكريمة أكثر مِمّا ذكروه من أنَّها في مقام إعطاء القاعدة الكلية وتقرير ما ارتكز في العقول من الإعتماد على ما يكون مدار الوثوق والإطمئنان بحيث يعتبره العقلاء كالعلّة المنحصرة في ذلك فثبت المفهوم لا محالة.

هذا كلُّه في نفي الإقتضاء عن دلالة الآية الكريمة بالمفهوم.

ص: 91

الوجه الثاني: وهو الإستدلال بوجود المانع المتَّصل بعد فرض ثبوت المقتضي للآية بالمفهوم؛

فقد ذكر المشهور أنَّ عموم العلّة في ذيل الآية الكريمة ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(1) قرينة على إلغاء المفهوم, فإنَّه يشمل الفاسق والعادل على حدٍّ سواء, لأنَّ الجهالة بمعنى عدم العلم مشترك بينهما, فلا دلالة على اعتبار خبر العادل, لأنَّ عموم العلّة مقدم على ظهور القضية المعللة بها عند العرف والعقلاء, وعلى فرض عدمه يقع التعارض ثم الإجمال كما هو واضح.

وأُجيب عنه بما يلي:

أولاً: إنَّ المفهوم أخص من عموم التعليل لاختصاصه بخبر العادل ومقتضى القاعدة في مثل ذلك تخصيص العموم كما هو معلوم.

وأورد عليه السيد الخوئي قدس سره (2) بأنَّ دلالة المفهوم إطلاقية, وإذا تعارض الإطلاق مع العموم قدم العام عليه, ثم فصل الكلام في احتياج العام إلى مقدمات الحكمة وعدمه بما لا حاجة إلى ذلك.

ولكن الحقَّ أنَّ ما ذكره غير تام في حدِّ نفسه كما تقدم في بحث العام والخاص, مع أنَّه ليس في البين عموم وضعي للتعليل, وإنَّما هو دلالة إطلاقية أيضاً,والتعبير بعموم التعليل لبيان عدم الإقتصار على مورد الحكم المعلل, ومثل هذه المسامحة في إطلاق أحدهما على الآخر كثير في كلمات العلماء, فليس المراد العموم مقابل الإطلاق.

ثانياً: ما ذكره المحقق النائيني من حكومة المفهوم على عموم التعليل, وذلك لأنَّ الحجية معناها جعل الطريقية والعلمية, ومعه لا يكون العمل عملاً بجهالة.

ص: 92


1- . سورة الحجرات؛ الآية 6.
2- . مباني الإستنباط؛ ص299.

وأشكل عليه بعدة وجوه:

1- ما يرجع إلى معنى الطريقية؛ فقيل أنَّ جعل الطريقية يرجع إلى جعل الحكم الظاهري في عالم الإعتبار, وهذا الحكم الظاهري لا يختص جعله بلسان الطريقية, وربما بألسنة أخرى كجعل المنجزية والمعذرية أو جعل الحجية وغير ذلك مِمّا سيأتي بيانه, وحينئذٍ لا وجه لاختصاص الجعل بالعلمية.

وفيها ما يرجع إلى أنَّ معنى الحكومة هو التخصيص ولكن بلسان الحكومة, فحالها حال التخصيص, فيكون في كلِّ واحد من التعليل والمعلل روح الحكومة فيتحقق التعارض والإجمال؛ وعاد الإشكال.

2- ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ القول بالحكومة يستلزم منه الدور, لأنَّ حاكمية المفهوم تتوقف على وجوده وانعقاده, ووجود المفهوم في المقام فرع عدم عموم التعليل لأنَّه متصل به, فإذا أريد إثبات عدم هذا العموم بحكومة المفهوم كان دوراً.

وفيه: إنَّه يمكن أنْ يكون إثبات حكومة المفهوم على التعليل لأجل نكته من النكات, وهي التي توجب رفع عموم التعليل لا أنْ تكون متوقفة على عدمه.

ثالثاً: ما ذكره في الكفاية من أنَّ المراد من الجهالة السفاهة؛ التي هي جهالة عملية لا عدم العلم والجهالة النظرية, فيكون العمل بخبر العادل مِمّا لا سفاهة فيه عند العقلاء.

وأورد عليه المحقق الإصفهاني قدس سره بأنَّ خبر العادل مع قطع النظر عن مفهوم الآية إنْ كان حجة ومِمّا يجدر العمل به فقد ثبت حجيته بذلك بلا حاجة إلى الآية, وإلا كان العمل به سفاهة وجهالة, لأنَّه عمل بلا حجة فيشمله عموم التعليل.

ص: 93


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص212.

وأُجيب عن هذا الإعتراض بافتراض حجية خبر العادل عند العقلاء, فإنَّ ذلك يكفي لإخراج العمل به عن كونه سفاهة, ولا نحتاج حينئذٍ إلى فرض حجيته عند الشارع حتى يخرجه عن دائرة السفاهة, فيكون الإستدلال بالآية على الحجية تامّاً من دون حاجة إلى فرض الحجية شرعاً في الرتبة السابقة.

وهناك وجوه أخرى في النقض والإبرام؛ والحقُّ أنَّ جميع ذلك تطويل بلا طائل تحته وتبعيد للمسافة وإبعاد للآية الشريفة عن مفهومها العرفي, فإنَّ الظاهر منلفظ الجهالة إمّا فعل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتدين الملتفت إلى عواقب الأمور كما في قوله تعالى: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ)(1), وقوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ )(2)؛ فإنَّ التوبة إنَّما تكون عن المعصية وهي متقومة بالعلم بالتكليف ثم المخالفة عن علم وعمد.

وبناءً على هذا المعنى يكون ترتيب الأثر على الخبر الفاسق قبل الفحص عن صدقه من فعل السفهاء الذين لا يهتمون بعقلهم ودينهم, وعلى هذا يكون جواب المحقق الخراساني أقرب إلى الصواب.

وإمّا أنْ تكون الجهالة بمعنى عدم العلم, لكنه أعم من العلم الحقيقي ومطلق الوثوق والإطمئنان العرفي العقلائي, ولا ريب في تحقق الأخيرين في خبر العادل دون الفاسق, ولو فرض حصولهما في خبره لقلنا باعتبار خبره مطلقاً أيضاً, ولعله إلى هذا يشير كلام المحقق النائيني قدس سره , فيكون المعنى: (إنْ جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا متى يحصل الوثوق والإطمئنان بصدقه) وهو حاصل نوعاً في العادل دون الفاسق فيكون ذكره حينئذٍ مع

ص: 94


1- . سورة يوسف؛ الآية 89.
2- . سورة النساء؛ الآية 17.

اشتراكه مع خبر العادل عند حصول الوثوق منه للتنبه على فسق مورد نزول الآية, أو لكون الفاسق مورد التبيين غالباً فيتمّ الإستدلال بالآية, ولا تعارض بين المفهوم والتعليل؛ إذ هو بمنزلة الشرح لصدر الآية وبيان لتشريع الحكم فيه.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره من أنَّه إنْ أريد من النبأ طبيعي النبأ الشامل لنبأ العادل, فهو يستلزم وجوب التبين عن طبيعي النبأ؛ حتى ما يأتي به العادل بمجرد مجيء الفاسق بطبيعي النبأ الذي يتحقق بمجيئه بنبأ واحد, وهذا بحدِّ نفسه غريب غير ممكن قبوله, وإنْ كان المراد به نبأٌ خاص يفرض وجوده فهذا خلاف سياق الشرطية التي لم تكن ظاهره في افتراض نبأ خاص فرض وجوده, وإلا كانت الصياغة فيها مبنية على فرض وجوده, وقد أعاد السيد الخوئي هذا الإشكال بصياغة أخرى؛ حيث قال: إنَّ المقصود إنْ كان نبأ الفاسق بالخصوص لا طبيعي النبأ يلزم أنْ تكون الجملة (نبأ الفاسق إنْ جاءكم الفاسق به فتبينوا), وهذه شرطية مسوقة لتحقق الموضوع فلا مفهوم له, لأنَّ نبأ الفاسق يكون مجيء الفاسق به محققاً له.

وأُجيب عنه بوجوه؛ أحسنها: إنَّ كون الموضوع طبيعي النبأ في الشرط والجزاء لا يعني وجوب التبين عن كلِّ نبأ لمجرد تحقق مجيء الفاسق بطبيعي النبأ, بل يعني أنَّ موضوع الحكم المذكور هو الطبيعي وهو منحلّ لا محالة إلى أفراده, فيكون كل نبأ له حكم مشروط هو وجوب التبين عنه إذا جاء به الفاسق, فلا يثبتبمجيء الفاسق بنبأ وجوب التبين عن الحصص الأخرى من النبأ التي لم يتحقق فيها الشرط, بل وجوب التبين عنه بالخصوص.

وأمّا ما ذكره السيد الخوئي في مقام الجواب عن هذا الإشكال من أنَّ الموضوع بحسب مقام الإثبات والدلالة طبيعي النبأ لا نبأ الفاسق, فالشرطية غير مسوقة لبيان الموضوع, ومع ذلك ثبوتاً ما يجب التبين عنه موضوعه خبر الفاسق لا طبيعي الخبر.

ص: 95

فقد أشكل عليه السيد الصدر قدس سره (1) بما لا يرجع إلى محصل فراجع.

الوجه الرابع: إنَّ مورد الآية هو الإخبار بالإرتداد, وهو شبهة موضوعية, وهو لا يثبت بالخبر العادل فضلاً عن الفاسق بل تثبت بالبينة, فلو عمل بالمفهوم يلزم خروج المورد, وهو مستهجن؛ فإمّا أنْ تحمل الآية على معنى لا يكون لها مفهوم, أو يقع التعارض بين مفهومها وما دلَّ على اشتراط البينة في الموضوعات.

وعلى كلِّ حالٍ؛ لا يمكن إثبات الحجية في الشبهة الحكمية بها بعد ذلك.

ويمكن الجواب عنه:

أولاً: إنَّ مورد الآية منطوقها والإستدلال بها إنَّما يكون بمفهومها ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق من كلِّ حيثية وجهة حتى في شأن النزول.

ثانياً: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره (2) من أنَّ المراد بالعادل في المفهوم طبيعي العادل, وقد أخذ فيه كإسم جنسٍ جامع بين الواحد والكثير, فلا يلزم خروج المورد المعتبر فيه التعدد لدليل خارجي.

ثالثاً: إنَّ الإشكال نشأ من اعتبار البينة في الموضوعات, وهو موضع نزاع بين الفقهاء, فقد ذهب جمعٌ -وهو الصحيح- إلى حجية خبر العادل في الموضوعات أيضاً.

ثم إنَّهم ذكروا في المقام مناقشات أخرى لا تختَّص بالآية الشريفة بل تعم غيرها أيضاً مِمّا استدلَّ به على حجية خبر الواحد, وهي:

1- معارضتها مع ما دلَّ على عدم اعتبار غير العلم, مثل النهي عن إتّباع غير العلم في العمل من الآيات الشريفة وغيرها.

ص: 96


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص360 وما بعدها.
2- . فرائد الأصول؛ ج1 ص172.

ويورد عليه: إمّا بأنَّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم تختص بالمعارف والإعتقاديات, والمقصود في المقام: إعتبار الخبر الواحد في غير الإعتقاديات, فيختلف الموضوع فلا تعارض, أو بأنَّ ما دلَّ على اعتبار خبر الواحد حاكم على تلك, لأنَّه بمنزلة الشرح والتفسير عليها, فإنَّه يبين أنَّ المراد من العلم مطلق الوثوق والإطمئنان العقلائي, ولا تعارض بين دليل الحاكم والمحكوم كما هو واضح.1- إنَّ الأدلَّة التي استدلَّ بها على حجية الخبر الواحد التي منها آية النبأ وغيرها تشمل الإجماع الذي أخبر به السيد قدس سره على عدم اعتبار الخبر الواحد فيستلزم التناقض.

وأورد عليه: مضافاً إلى ما تقدم من عدم حجية مثل هذا الإجماع ومعارضته لما دعي من الإجماع على اعتبار الخبر الواحد؛ إنَّ الدليل لا يشمل ما ينافيه ويضاده وإلا إستلزم بطلان أغلب الإستدلالات في العلوم, فلا بُدَّ من ملاحظة الترجيح بين الأدلَّة وأخذ الراجح منها وإلغاء المرجوح, ولا ريب في رجحان ما استدلَّ به على حجية الخبر الواحد, فلا بُدَّ من طرح غيرها مِمّا استدلَّ به على عدم اعتباره كما تقدم, وسيأتي إنْ شاء الله تعالى.

2- الإشكالات التي أوردوها على الإخبار مع الواسطة فقط. وقد قررت بوجوه:

الأول: إنَّ الأدلَّة التي استدلَّ بها على حجية الخبر الواحد على فرض تماميتها منصرفة عن الإخبار مع الواسطة فتختص بغيرها.

وأورد عليه بمنع الإنصراف كما هو واضح.

الثاني: لزوم محذور إتحاد الحكم مع موضوعه وأخذه فيه, ومن الواضح محاليتهُ, لأنَّ الحجية موضوعها الخبر الذي يترتب على ثبوت مفاده أثر شرعي عملي؛ إمّا لكونه بنفسه أثراً شرعياً, أو موضوعاً له.

ص: 97

وهذا يعني: إنَّ موضوع الحجية مركب من جزئين؛ الإخبار بشيء, وترتب الأثر على ذلك الشيء. وفي المقام الخبر المباشر لنا هو إخبار الشيخ الطوسي قدس سره مثلاً, وهو لا يكون إخبار عن أثر شرعي, لأنَّه يخبر عن إخبار المفيد قدس سره , وهو أيضاً عن الصدوق قدس سره , فلا يكون إخبار عن موضوع لأثر شرعي بل الموضوع في إخبارهم (قدست أسرارهم) هو نفس حجية الخبر, وهذا يعني أنَّ موضوع الحجية في الخبر مع الواسطة قد أخذ فيه نفس الحجية, فاتَّحد الحكم مع موضوعه؛ وهو محال؛ إذ يلزم منه تأخر الموضوع عن الحكم، والموضوع لا بُدَّ أنْ يكون محرزاً إمّا بالوجدان أو بالتعبد؛ والأول منفي في الوسائط فيتعين الثاني, فيلزم المحذور غير المعقول, لأنَّ الحكم عرض بالنسبة إلى الموضوع فلا يمكن أنْ يكون له موجداً.

الثالث: إنَّ تصديق العدول من الوسائط ليس علمياً وجدانياً بل هو تنزيل شرعي, والتنزيلات الشرعية لا بُدَّ وأنْ تكون بلحاظ الأثر الشرعي, مع أنَّه ليس في البين أثر شرعي في الوسائط إلا نفس وجوب تصديق العادل, فيلزم أنْ يكون التنزيل بلحاظ نفسه وهو باطل, نعم؛ خبر أول الوسائط وجداني لا يحتاج إلى التنزيل, كما أنَّإخبار آخر الوسائط المنتهي إلى المعصوم علیه السلام له أثر شرعي غير وجوب التصديق, وهو حكم الإمام علیه السلام .

الرابع: وهو تقرير الإشكال السابق بوجه آخر, وهو أنَّ خبر الواسطة الذي هو الموضوع يكون في طول نفس الحجية التي هي نفس الحكم, فيلزم منه تأخر الموضوع عن حكمه وهو محذور يكون أشنع مِمّا سبقه, لأنَّ المطلوب من تطبيق دليل الحجية على خبر الشيخ الطوسي إثبات الخبر المباشر وهو إخبار الشيخ المفيد لتطبيق دليل الحجية عليه ثانياً للتوصل إلى حكم الشارع, ومن الواضح أنَّ إثبات خبر الشيخ المفيد لا يكون إلا في طول الحكم بحجية الخبر, إذ لا طريق لنا إلى إخباره إلا حجية إخبار الشيخ الطوسي, وهذا هو المحذور.

ص: 98

ويستفاد من جميع ذلك أنَّ منشأ الإشكال إنَّما يكون هو اعتبار الموضوع معروضاً والحكم عرضاً, وحينئذٍ لا يعقل أنْ يكون الحكم موجداً لموضوعه أو متقدماً أو متأخراً ويكون الموضوع متأخراً عنه أو يكون في طوله, وهذا هو أساس تلك الإشكالات المزبورة وروحها فلا اختلاف بينها من هذه الجهة, وإنْ ذكر بعض الأصوليين الإختلاف بين الإشكالين الثاني والرابع ملاكاً ومورداً, أو قد عرفت أنَّ الإشكال الثالث إنَّما يتم في خبر الوسائط المتعددة في غير أول الوسائط, لأنَّه محرز وجداناً, وآخرها المنتهى إلى المعصوم علیه السلام لأنَّه ذو أثر شرعي مباشرة, والإشكال الرابع يبتني على الخلط بين عالم الإثبات, فإنَّ ما هو في طول الحجية الوجود الإثباتي الإحرازي لخبر الواسطة أو ما يكون موضوعاً للحجية خبر الواسطة بوجوده الواقعي وهو ليس في طول الحجية.

كما أنَّ الإشكال بجميع صوره وتقريباته يبتني على وحدة الجعل في خبر الواسطة, ولكنه ينتفي بأحد فرضين:

الفرض الأول: أنْ يكون هناك تعدد الجعل بعضها للواسطة وبعضها للخبر مع الواسطة فلا محذور كما هو واضح.

الفرض الثاني: فرض عدم جعل من الشارع في البين, وإنَّ الآيات والروايات الواردة في المقام إرشاد إلى مرتكزات العقلاء وسيرتهم القائمة على اعتبار الخبر الموثوق به, والعقلاء لا يفرقون بين الإخبار بلا واسطة أو معها مع وثوق الوسائط, فيستكشف عدم الجعل أو تعدده حينئذٍ.

وكيف كان؛ فقد أُجيب عنه بوجوه:

إنَّه على فرض تحقق الجعل الشرعي فإنَّ المجعول ليس حكماً تكليفياً, أي وجوب التصديق حتى يستلزم ما ذكر من الإشكال, بل هو نفس الإعتبار والطريقية

ص: 99

المحضة وهي شاملة لجميع الوسائط مطلقاً ولو لم يكن لها أثر شرعي فعلاً, نعم؛ لا بُدَّ من أنَّتهاء الجميع إلى الأثر الشرعي ولو كانت وسائط كثيرة, وهذا حاصل جزماً في الأخبار المنتهية إلى المعصوم علیه السلام من دون أنْ يحصل محذور في البين.

2- إنَّه على فرض كون المجعول حكماً تكليفياً, أي وجوب التصديق ولكنه ليس مجعولاً جزئياً خارجياً, بل المجعول طبيعي وجوب التصديق القابل للإنحلال إلى جميع ما يمكن انطباقه عليه عقلاً, فكأن الشارع جعل لكلِّ واحد من الوسائط وجوب تصديق مستقل رأساً, ولما كانت جميع الوسائط تنتهي إلى قول المعصوم علیه السلام يكفي ذلك في التنزيل الشرعي ويكون كلّ واحد من تلك الوسائط جزء العلّة لإثبات الأثر الشرعي لا أنْ تكون علّة تامة مستقلة لثبوته فلا يلزم أنْ يكون الحكم مثبتاً لموضوع شخص نفسه

وبعبارة أخرى: يكون الحكم في كلِّ واحد من الوسائط من المعدات لثبوت الموضوع لحكم آخر, ولا محذور فيه من عقل أو نقل كما هو واضح.

ودعوى أنَّ المجعول حكم تكليفي جزئي شخصي خارجي في الخبر بلا واسطة غير مسموعة, فإنَّها باطلة في الشريعة التي تقوم على الدوام إلى يوم القيام, مع أنَّه خلاف سيرة العقلاء في الخبر مطلقاً.

وهذه الأجوبة هي أقرب الوجوه إلى الفهم العرفي في هذا الأمر المهم العام البلوى والذي استقرت عليه سيرة العقلاء.

3- التصرف في الأثر الشرعي؛ بأنْ يكون هو المدلول الإلتزامي لخبر الواسطة وتكون قضيته الشرطية, وهي أنَّه لو لم يكذب الطوسي مثلاً لكان هو هذا الأثر الشرعي الذي هو قول المعصوم علیه السلام في هذا الحديث, فحينئذٍ يمكن تطبيق دليل الحجية

ص: 100

على خبر الشيخ الطوسي بلحاظ هذا الاثر الشرعي الذي هو قول المعصوم علیه السلام فيثبت دليل الحجية خبر الشيخ المحرز لنا القضية الشرطية فيثبت الجزاء وهو قول المعصوم علیه السلام ؛ فلا إشكال حينئذٍ.

وقد اشكل على هذا الوجه بوجهين:

أحدهما؛ إنَّ المدلول الإلتزامي تابع للمدلول المطابقي, فمتى ما ثبت الأخير يثبت الأول أيضاً, فلا بُدَّ في المرتبة السابقة من إثبات المدلول المطابقي -وهو خبر المفيد الذي هو المدلول المطابقي لخبر الشيخ الطوسي- بدليل الحجية حتى يثبت مدلوله الإلتزامي فيتوصل به إلى قول المعصوم علیه السلام فيعود المحذور.

وفيه: ما ذكرناه مراراً من أنَّ إناطة المدلول الإلتزامي بالمطابقي لا تعني أنَّ الدلالة الإلتزامية دلالة مشروطة بثبوت المدلول المطابقي وجوداً وعدماً بل المراد أنَّ المدلول المطابقي كالحيثية التعليلية في الدلالة على المدلول الإلتزامي, فيكون ملاك الكاشفية فيهما واحد, بحيث لو كان هذا الملاك فاسداً سقط الكشف عنالدلالتين معاً, فهما في عرض واحد لا أنْ يكون بينهما الترتب في الثبوت فلا يتوقف حجية الإخبار بالمدلول الإلتزامي على ثبوت المدلول المطابقي وجداناً أو تعبداً حتى يرجع المحذور فافهم.

والآخر؛ إنَّ المدلول الإلتزامي متقيد بالمدلول المطابقي, فهو الحصة الخاصة في اللازم المقيد بالملزوم, بمعنى أنَّ الشيخ يخبر بالملازمة عن المعصوم علیه السلام على تقدير عدم كذب المقيد لا مطلقاً بل مقيداً بصدور الإخبار منه الذي هو المدلول المطابقي لخبر الشيخ, وهو يعني أنَّ الشرط في هذه القضية الشرطية عدم كذب المفيد مع إخباره لا مطلق عدم كذبه, وهذا الشرط لا يمكن إثباته إلا بتطبيق دليل الحجية على خبر الطوسي بلحاظ مدلوله المطابقي وهو المحذور.

ص: 101

ويرد عليه: إنَّه لا دليل على ما ذكر؛ إذ لا نسلَّم بهذا الكلام؛ كبرى وصغرى, إذ من الصحيح أنْ يكون التقييد والتخصيص في نفس المدلول الإلتزامي ونفس الشرطية والملازمة دون أنْ يكون في نفس الشرط, فيبقى الشرط على إطلاقه وهو مطلق عدم كذبه الذي قد أحرز إمّا بالوجدان أو التعبد.

ولكن لا يخفى بُعد ذلك؛ فإنَّ الشرطية إذا كانت مقيدة فلا بُدَّ أنْ يكون الشرط أيضاً كذلك.

والحقُّ أنَّ أصل الإشكال والتصرف في الأثر الشرعي بما ذكر بعيد عن الفهم العرفي وسيرة العقلاء التي دلت على حجية الخبر الواحد, فإنَّ الظاهر منها ما ذكرناه آنفاً فراجع.

4- ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) نقلاً عن بعض الأجلاء من أنَّ الإخبار عن الإخبار أمارة على الأمارة, والأمارة على الأمارة أمارة على الواقع أيضاً, وهو جيد ويمكن إرجاعه إلى الوجه الأول مِمّا ذكرناه.

وما استشكله السيد الصدر قدس سره لا يرجع إلى محصل كما هو واضح لمن تأمل.

5- ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (2) من أنَّ الإشكال لو سلم فغايته عدم إمكان شمول دليل الحجية بإطلاقه اللفظي للخبر مع الواسطة؛ لاستحالة أنْ تكون الحجية أثراً شرعياً مصححاً لنفسها في جعل واحد, ولكن يعرف من الخارج أنَّه لا فرق في الحجية شرعاً بين أثر وأثر, فكما أنَّ الإخبار عن حكم شرعي يكون حجة كذلك للإخبار عن موضوع هذا الأثر فيتعدى إلى الإخبار مع الواسطة من ناحية الجزم بوحدة المناط.

ص: 102


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص224؛ نقلاً عن درر الفوائد؛ ص388 للمحقق الحائري اليزدي.
2- . كفاية الأصول؛ ص303.

وهذا الجواب أيضاً صحيح ويمكن إرجاعه إلى ما ذكرناه آنفاً في الوجه الأول أو الثاني.

وأشكل عليه بأنَّ المناط الحقيقي في جعل الحجية هو الطريقية والكاشفية بلحاظ أغراض المولى الواقعية التي يكشف عنها قول المعصوم علیه السلام , ومن الواضح أنَّ الخبر بلا واسطة تكشف عن هذا الغرض بقوة وأشدّ من كاشفية الخبر مع الواسطة, ومع ذلك لا يبقى جزم بعدم الفرق, وأيُّ غرابة في جعل الحجية لخصوص الخبر بلا واسطة؛ فلا ربط له بوجود أثر شرعي حتى لا يفرق بين أثر وأثر.

ويرد عليه: ما ذكرناه مكرراً من أنَّ أغراض المولى متعددة في الأحكام وليست منحصرة في واحد, وقول المعصوم علیه السلام إنَّما يكشف عنها على الإجمال لا على التفصيل, وتحصيل الجزم بتلك الأغراض لم يثبت بل لعله من المتعذر ويكفي الإجمال, وعليه؛ لا نحتاج إلى اثبات أقوائية كاشفية الخبر بلا واسطة بعد تحقق المناط في القسمين من الخبر؛ مع الواسطة وبدونها, فإنَّ الأثر الشرعي موجود فيهما فلا فرق بين أثر وأثر.

1- الجواب المعروف الذي أشار إلى جانب منه المحقق الخراساني وإلى جانب آخر منه المحقق النائيني (قدس سرّاهما)؛ فإنَّ الأول لاحظ محذور اتحاد الحكم وموضوعه في عالم الجعل والثاني لاحظه في عالم المجعول.

والمراد بعالم الجعل أي جعل الحجية -وهو المجعول بالذات- فنقول بأنَّ موضوع الجعل إنَّما هو الخبر الذي له أثر شرعي, وهذا الأثر الملحوظ في طرف موضوع الجعل إذا فرض كونه نفس الحجية لزم الإتحاد بين الحكم وموضوعه وهو مستحيل وهو محذور صاحب الكفاية.

فأجاب عنه بأنَّ الحكم موضوعه طبيعي الخبر الذي له طبيعي الأثر من دون لزوم أخذ كل أثر أثر بخصوصه في طرف الموضوع, فلا يلزم منه وحدة الموضوع والحكم في مرحلة جعل القضية الحكمية.

ص: 103

كما أنَّ المراد بعالم المجعول أي المجعول بالعرض, وهو عالم فعلية ذلك الجعل على كلِّ خبر في الخارج, فيقال بأنَّ شمول الجعل وفعليته للخبر مع الواسطة مستحيل, لأنَّه فرع فعلية موضوعه بأنْ يكون ذا أثر شرعي, ولا يكون ذا أثر إلا بلحاظ الحجية نفسها إذ لا أثر غيرها.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره في الجواب عنه بأنَّه في عالم الفعلية يتكثر المجعول بتكثر الموضوعات, وحينئذٍ ما يكون في طول فعلية الموضوع في الخبر مع الواسطة الحجية المجعولة له, وما يكون فعلية الموضوع في طوله لأنَّهمأخوذ فيه الحجية المجعولة لخبر الواسطة, وإحداهما غير الأخرى, فلم يتَّحد فعلية الحكم مع فعلية موضوعه.

ومن جميع ذلك يظهر الجواب عن الإشكال الرابع مِمّا ذكرناه من الإشكالات, فإنَّه إنْ كان بلحاظ علم الجعل فإنَّه فيه يكون الموضوع هو مفهوم الخبر لا وجوده الخارجي, ومفهوم الخبر ليس في طول الحجية, وإنَّ ما يكون في طول الحجية وجود خبر الواسطة, نعم؛ لو كان المأخوذ في الموضوع كلّ خبر بعنوانه لزم أخذ الخبر الذي يكون في طول الحجية بعنوانه في موضوعها فيلزم المحذور بحسب عالم الجعل, ولكن الذي عرفت أنَّ المأخوذ طبيعي الخبر.

وأمّا إذا أريد تقرير الجواب بلحاظ عالم المجعول والفعلية فإنَّ خبر الواسطة في طول حجية مجعوله وهي غير الحجية المجعولة لخبر الواسطة, فالموقوف غير الموقوف عليه كما هو واضح.

وكيف كان؛ فإنَّ هذا الجواب صحيح وإنْ كان الأسلوب الذي اعتمد عليه معقداً كما هو شأن الأصول في استعماله الأساليب المعقدة في بيان مقاصدهم, والأحرى في الجواب عن ذلك أنْ يقال بأنَّ الأحكام هي اعتبارات محضة وليست من الأعراض المبحوث عنها في

ص: 104

علم الفلسفة والكلام, فإنَّه حينئذٍ لا يفرق فيه بين عالم الجعل وعالم المجعول؛ فإنَّ الملاحظ في الجعل والأحكام اعتبار بما أنَّه مرآة إلى الخارج؛ فتارةً؛ يلاحظ طبيعي الموضوع بما هو مرآة, وأخرى؛ يلاحظ ذلك الموضوع الإعتباري بما أنَّه يدلّ على كلِّ موضوع.

ثم إنَّه قد ذكر بعض الأصوليين(1) تبعاً للمحقق النائيني (قدست أسرارهم) في المقام كلاماً لا بأس بذكره وبيان الحقّ فيه؛ وجدوه مؤلفاً من أمرين:

الأمر الأول: إنَّ المحاذير التي ذكرناها آنفاً تأتي بناءً على ما سلكه المحقق المزبور في بيان الحجية من أنَّ المجعول فيها هو الطريقية والعلمية لأنَّه تكون الحجية حينئذٍ مجرد اعتبار ما ليس بعلم علماً, بخلاف ما إذا كان الأمر في الحجية تنزيل المؤدى أو جعل الظن أو الحكم المماثل؛ فإنَّه يحتاج فيه إلى ملاحظة أثر المنزل عليه أو الحكم المماثل, بينما في جعل العلمية أو الطريقية فلا نحتاج إلى ملاحظة ذلك الأثر, وعليه؛ فإنَّه يلزم من اعتبار الخبر مع الواسطة علماً به وخبر الواسطة علماً نحو رده الذي هو قول المعصوم علیه السلام , وهو يوجب رفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعه كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

وأورد عليه بأنَّه إنْ أريد من جعل العلمية والطريقية أنَّ خبر الطوسي قدس سره في المثال المتقدم علماً بقول المعصوم علیه السلام مباشرة فهو غير ممكن إلا من دليلالحجية بجعل الخبر علماً بمدلوله, لكن قول الشيخ الطوسي قدس سره ليس قول المعصوم علیه السلام , وإنْ أريد به أنَّه علم بذات مدلوله وهو ذات خبر الشيخ المفيد فهو لا يفيد في التنجيز أو التعذير, فإنَّ حاله حال العلم الوجداني بذات خبر من دون علم حجيته, ولا يلزم من اعتبار ذلك واعتبار واقع ذلك الخبر علماً إعتبار الإخبار به علماً بالعلم, فإنَّ اللوازم والملازمات لا تثبت بين الإعتبارات وإنَّما بين العِلمين الواقعيين.

ص: 105


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص685 وما بعدها.

وإنْ أريد أنَّه علم به بما هو حجة وعلم بأنْ يكون إخبار الطوسي عن تحقق موضوع الحجية وهو خبر المقيد بما هو موضوع للحجية والعلمية, أي أنَّ إخباره عن المجعول الجزئي لدليل الحجية يعتبر علماً بالعلم؛ فهذا معناه أخذ الحجية الذي هو الحكم في موضوع شخصه فيعود المحذور, والصحيح أنَّ شيئاً مِمّا ذكر لا يتمّ كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى؛ لأنَّ الحجية أمر اعتباري كسائر الأمور الإعتبارية, فإذا اعتبر من له حق الإعتبار أمراً من الأمور أثبت له اعتبار خاص يترتب عليه الآثار؛ سواء كانت حقيقية أم عقلية أم عرفية أم اعتبارية أيضاً, ولا ريب أنَّه بما تكون تلك الآثار مختلفة من حيث المنشأ والغاية, واختلاف العلماء في بيان معنى الحجية إنَّما يرجع إلى اختلاف الأنظار إلى تلك الآثار المترتبة عليها, وإلا فإنَّ حقيقة الحجية شيء آخر لا اختلاف فيها, وعليه؛ يكون وضع الحجية للخبر سواء مع الواسطة أم بدونها إنَّما هو جعل الخبر ذو اعتبار عقلي أو حقيقي أو عرفي يترتب عليه الآثار التي يراها المعتبر ويطلبها لأنْ يُعمل بها, ولا ريب أنَّ اعتبار الخبر لا يفرق فيه بين أنْ يكون مع الواسطة أو بدونها, فإنَّ المعتبر اعتبر الخبر بجميع وسائطها؛ سواء كان النظر إلى كلِّ واحدة من تلك الواسطة أم بالمجموع أم بالكلي. فإنَّه بناءً على الأول تنحل الوسائط إلى أخبار متعددة فيكون كلُّ واحد منها مورد الإعتبار لإثبات المؤدى وهو قول المعصوم علیه السلام , أو كان النظر إلى مجموع تلك الوسائط بمنزلة خبر واحد لإثبات المؤدى, أو يكون مورد الإعتبار الكلي الطبيعي المنحلّ إلى الأفراد كما ذكرناه, وأكبر الظن أنَّ اختلاف الأصوليين في حقيقة الحجية يرجع إلى ما يترتب عليها من الآثار العملية فتوهم كونها هي الحقيقة, فيكون التفصيل الذي ذكروه في المقام تطويل بلا طائل تحته وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 106

الأمر الثاني: ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) إشكالاً آخر في المقام وهو لزوم إتّحاد الحاكم والمحكوم, لأنَّ خبر الطوسي حجة منقحة لموضوع حجية خبر الواسطة,وبذلك تكون حاكمة عليها, فإذا كان دليل الحجتين واحد لزم اتّحاد الحاكم والمحكوم وهو محال لوجهين؛ إمّا لأنَّ الحاكم والمحكوم متقابلان فلا يمكن إتّحادهما.

ثم أجاب عن ذلك بأنَّ الإنحلال الذي ذكره في الجواب المتقدم يجري في المقام أيضاً ويجاب به عن هذا الإشكال, لأنَّ الحاكم هو خبر الطوسي والمحكوم حجية خبر الواسطة فلا اتحاد, وعليه؛ يكون إشكال الإتّحاد نفس إشكال الطولية واتّحاد المنزل والمنزل عليه, وقد تقدم الكلام فيه أيضاً فراجع؛ فلا إشكال.

وإمّا لما ورد في أجود التقريرات حيث ذكر وجهاً قابلاً للإشكال, وذلك لأنَّ الحكومة من شأن باب الأدلَّة ومقام الإثبات والدلالة لا مقام الثبوت, لأنَّ الحكومة عبارة عن القرينية بلسان التفسير, وهو إنَّما يكون بلحاظ مقام الإثبات والكشف, ومعه لا تكون الحكومة معقولة مع وحدة الدليل لأنَّ التفسير والقرينية فرع وجود كلامين ودالين ليكون أحدهما قرينة على المراد من الآخر, وهذا البيان لا يرفعه الإنحلال المزبور, لأنَّ الإنحلال إنَّما هو من شؤون عالم المجعول الذي هو أجنبي عن مفاد الدليل والجعل.

ثم أجاب عنه بأنَّ الحكومة على ثلاثة أقسام:

1- الحكومة التفسيرية كما إذا فسَّر العالم بأنَّه الفقيه.

2- الحكومة التخصيصية بلسان رفع الموضوع كما إذا قال: (لا شك لكثير الشك) وهذان القسمان لا بُدَّ فيهما من وجود دليلين, ولا يمكن اجتماع الحاكم والمحكوم في دليل واحد؛ إذ لا يعقل مع وحدة الجعل والدليل المفسَّر أو المخصص.

ص: 107


1- . المصدر السابق.

3- ما يكون حكومة لبّاً ولساناً؛ بأنْ يكون الحاكم متصرفاً في موضوع الدليل, بمعنى أنَّ الدليل الأول يدلُّ على ثبوت الحكم على موضوعه المقدر الوجود والدليل الثاني ينقّح في مجال تطبيق الدليل الأول وفعليته موضوعاً له؛ نظير حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي والأمارات على الأصول أو الأمارات والأصول على الأحكام الواقعية المحرزة بها.

وقيل هذا القسم لا بأس في وقوعه بدليل واحد, ومحل الكلام من هذا القبيل فلا محذور إذاً في اتّحاد الحاكم والمحكوم واجتماعهما في دليل واحد.

والحقُّ أنْ يُقال: إنَّ الحكومة كما سيأتي الكلام فيها مفصلاً اصطلاح أصولي صرف محدث لم يكن لها ذكر في كلمات قدماء الأصوليين حتى ما قبل شيخنا الأنصاري قدس سره , والمراد منها نظر أحد الدليلين إلى الآخر نظر تفسير ومبين للمراد من الآخر؛ إمّا بتوسعة موضوعه أو تضييقه أو رفعه حقيقياً أو تعبدياً, وقد وقع الخلاف العظيم بين الأصوليين المتأخرين في تطبيق تلك الكبرى على المصاديق والفرق بينها وبين الورود وبينها وبين التخصيص, وكون الحكومةظاهرية أو واقعية, وكثير منها لا أثر عملي لها بل ولا علمي, وأمّا الإشكال المذكور فإنَّه غير تامٍّ في حدِّ نفسه؛ لا سيما ما ذكره في أجود التقريرات بناءً على ما ذكرناه في تفسير الحكومة, فإنَّه لا اتّحاد بين الحاكم والمحكوم حينئذٍ وهو بمكان من الإمكان, لأنَّ الأمر إعتباري, والنظر بين الدليلين نظر بياني ولا يختَّص أنْ يكون في دليلين مع أنَّه نظراً إلى الأثر وذات المدلول بقطع النظر إلى الدليل المثبت له فلا إشكال حينئذٍ.

ص: 108

الآية الثانية: آية النفر

ومن الآيات التي استدلَّ بها على حجية الخبر الواحد آية النفر, وهي قوله تعالى: ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(1), والأصوليون في دلالتها في غاية الإختلاف؛ فإنَّ بعضهم إعتبرها من أوضح الآيات دلالة على المطلوب, مقابل من شدَّد على عدم دلالتها حتى جعلها مثل حديث (مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثاً يَنْتَفِعُونَ بِهَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقِيهاً عَالِماً)(2)؛ من حيث وضوح عدم دلالتها على الحجية.

وكيف كان؛ فقد قررت دلالتها على الحجية بوجوه تشترك في وجوب الحذر الذي هو ترتيب الأثر مطلقاً على قول المنذرين حتى في صورة عدم حصول العلم, وهو معنى حجية الخبر, إذ ليس معناها إلا ترتيب الأثر, واختلفوا في وجه استفادة وجوب الحذر مطلقاً وذكروا له وجوهاً:

الأول: إنَّ وجوب الإنذار فيها مطلق؛ يشمل صورة عدم حصول العلم من إخبار المنذرين, ووجوبه يلازم وجوب القبول والتحذر وإلا كان لغواً.

وبعبارة أخرى: إنَّه مع تحقق المقتضي للحذر يكون واجباً وإلا يكون لغواً, بل قد يكون قبيحاً, والله عَزَّ وَجَلَّ منزّه عن الترغيب إليه.

الثاني: إنَّ الآية الكريمة جعلت التحذر غاية للإنذار الواجب؛ وغاية الواجب واجبة, وإلا كان وجوب الإنذار لغواً, ومقتضى الإطلاق في الغاية والمغيى يثبت وجوبه حتى مع عدم حصول العلم من إخبار المنذرين.

ص: 109


1- . سورة التوبة؛ الآية 122.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص93.

الثالث: إنّا لا نجد فائدة للإنذار إلا وجوب التحذر, فلو لم يجب يصير لغواً.

الرابع: إستفادة وجوب التحذر من كلمة (لعلَّ) الموضوعة للترجي, ومقتضى أصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت وإنْ كان يقتضي أنْ يكون الداعي هو الترجي الحقيقي إلا أنَّ ذلك باعتباره مستحيلاً في حقِّه تعالى يحمل على أقرب الدواعي الجدية إليه وهو المطلوبية والمحبوبية, وهو يلازم وجوبه وإلا لم يكنمطلوباً حتى إستحباباً؛ إذ لا موضوع له, فيتحقق المقتضي للوجوب وإطلاق الآية حتى مع عدم حصول العلم من إخبار المنذرين. وقد أطال بعض الأصوليين الكلام في مناقشة تلك الوجوه.

وكيف كان؛ فإنَّ البحث في الإستدلال بالآية الكريمة يقع من جهات ثلاث:

الجهة الأولى: في ملاحظة القدر المشترك المفترض في كلّ الوجوه من أنَّ وجوب التحذّر والقبول ملازم للحجية.

ويمكن مناقشته بالوجوه التالية:

الوجه الأول: إنَّ في البین حالتين لا بدَّ من التمييز بينهما:

الحالة الأولى: حالة الشك في التكليف الّذي يكون مجرى للبراءة والتأمين عقلاً أو شرعاً بحيث يكون رفع اليد عنه وثبوت التنجيز بحاجة إلى قيام الحجة على التكليف.

الحالة الثانية: حالة الشك في التكليف الّذي يكون في نفسه مجرى لأصالة الاشتغال وعدم العذر؛ كما في الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي، وفي هذه الحالة يكون التنجيز لنفس الشك لا لقيام الحجة على الإلزام وإِنْ كان قيامها قد يؤدّي إلى مزيد التحريك وشدة اهتمام المكلّف بالواقع نتيجة قوة الإحتمال عنده.

ومن الواضح أنَّ وجوب التحذّر عند قيام الخبر إنَّما يكشف عن الحجية في مثل الحالة الأولى دون الثانية، فلا بدَّ من ملاحظة أنَّ الآية ناظرة إلى أي من الحالتين.

ص: 110

والذي يمكن أن يقال في المقام: أنّ هناك قرينة في الآية تظهر في الحالة الثانية دون الأولى؛ وهي تعليل وجوب الإنذار بالتحذر في قوله تعالى: (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(1)، فإنَّ تعليل الأمر بالشي ء بعلّة ظاهرٌ في أنَّ ذلك الشي ء المأمور به لا يكون تحققه شرطاً في مطلوبية تلك العلّة ومن مقدمات وجوبه، بل شرط في وجوده ومن مقدمات وجوده، ولهذا يصحّ قولك (توضأ لكي تصلّي)، ولا يصحّ (أنذر لكي تفي بنذرك)، لأنَّ الوضوء في الأول من مقدمات الوجود، والنذر في الثاني من مقدمات الوجوب. ولا معنى للأمر بإيجاد شرط وجوب شي ء ثم تعليله به. وعلى هذا يكون ظاهر هذا التعليل مطلوبية الحذر في نفسه بقطع النظر عن الإنذار، وإِنَّ الأمر بالإنذار لمجرّد كونه تحقيق للتحذّر المطلوب ومن شرائط وجوده خارجاً، وهذا يعني أنَّ الإنذار ليس هو سبب التنجيز ووجوب التحذر، بل إنّ التنجيز ووجوب التحذر ثابت مطلقاً، والإنذار ممّا يساعد على وقوعه خارجاً حيث يكون منبهاً ومحفزاً على تحرّك المكلّفين وزيادة تخوفهم من النتائج المترتبة على المخالفة، وأمّا التنجيز فثابت من أول الأمر بنفس الشبهة والشك كما هوالغالب بالنسبة إلى أصحاب القرى في ذلك الزمان، إذ كانوا يعلمون إجمالاً بوجود تشريعات ونزول الوحي بأحكام في حقّ العباد، وهو احتمال منجز؛ إمّا للعلم إجمالاً بالتكاليف في ضمنها أو لكون الشبهة قبل الفحص. وعلى هذا يثبت أنَّ الآية ناظرة إلى الحالة الثانية التي لا يكون وجوب التحذّر فيها ملازماً مع الحجية.

الوجه الثاني: إنَّ التحذّر قد رُتّب على إنذار المخبر لا إخباره، والإنذار؛ هو الإخبار الموجب للخوف، فإذا لم يكن هناك موجب للخوف في المرتبة السابقة على الإخبار لا يصدق عليه عنوان الإنذار.

ص: 111


1- . سورة التوبة؛ الآية 122.

والملاك للخوف في المقام وإِنْ كان؛ إمّا من العقاب الناجم عن تنجز التكليف، أو مخالفة الحكم الشرعي حتى لو لم يكن عقاب، ولا إشكال في أنَّ الظاهر من الآية بحسب المتفاهم العرفي هو الأول؛ لأنَّه الأمر المخوّف نوعاً وعموماً لا الثاني، أولا أقلّ عدم ظهورها في الثاني وهو يكفي في الإجمال وعدم صحّة الاستدلال. وعليه؛ لا يمكن استفادة الحجية من التحذّر المذكور لأنَّه تحذّر في مورد الإنذار لا الإخبار، وهو لا يكون إلّا مع تنجز العقاب في المرتبة السابقة ومثله لا يكشف عن الحجية، بل يستحيل أَنْ يكشف عنها لأنَّه في طول الحجية والتنجز، وهذه قرينة أخرى على أنَّ الآية ناظرة إلى الحالة الغالبة على أهل القرى آنذاك من تنجز الشبهات لكونها قبل الفحص أو مقرونة بعلم إجمالي.

الوجه الثالث: إنَّ غاية ما يلزم من الآية -لو سلمت دلالتها- هو وجوب التحذّر في مورد الخبر الدال على الإلزام، وهذا غير الحجية المطلوبة، بل هو وجوب الاحتياط غايته في خصوص الشبهة التي قام فيها خبر على الإلزام لأنَّها تأمر بالتحذر، وهذا لا يعقل إطلاقه بلحاظ المدلول الترخيصي للخبر، كما أنَّ لسان الجعل فيها للخبر الإلزامي ليس لسان إثبات المؤدّى بل لسان التحذر ولزوم الإحتياط.

الجهة الثانية: في مناقشة تلك الوجوه

أمّا الأول؛ فلأنَّ التحذر نحوٌ من الإحتياط, وهو حسن إنْ لم يكن مانع عنه, ولا دليل على وجوب كل ما كان حسناً.

وأمّا الثاني؛ إنَّ الغاية إنَّما تكون واجبة إذا كانت في العلة المنحصرة, ولا تكون واجبة في العلل المتعددة كما في المقام, فإنَّه ربما تكون الغاية من الإنذار إتمام الحجة من الله عَزَّ وَجَلَّ على المنذرين؛ تحذرُّوا أم لم يتحذرُّوا.

ص: 112

ومن الغايات أيضاً حفظ الحكم الواقعي, فإذا تعددت فلا تجب الغاية, ولا يلزم من عدم وجوب التحذر اللغوية في الإنذار لترتب إتمام الحجة عليه, فلا بُدَّ في إثبات وجوبه من إقامة دليل آخر.وبعبارة أخرى: إنَّه يمكن أنْ يكون الخطاب في دائرة أوسع من الغرض والملاك إحتياطاً من قبل المولى وتحفظاً على أغراضه الواقعية.

وأمّا الثالث؛ فهو مردود بما ذكرناه في الجواب الثاني.

وأمّا الرابع؛ فإنَّ دلالة كلمة (لعل) على المطلوبية أمر غير ثابت, مع أنَّ التحذر ربما يكون من العقاب الأخروي, وربما يكون من مخالفة الحكم الواقعي, فهو وإنْ كان حسناً ولكن التحذر منه لا يلزم وجوبه بل قد يكون مستحباً كما هو مقتضى حسن الإحتياط كما عرفت.

وقد ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره (1) أنَّ كلمة (لعل) ليست موضوعة للترجي على ما يظهر من تتبع موارد استعمالها, بل هي موضوعة لترقب مدخولها الذي هو جزء من الترجي؛ سواء كان محبوباً أم مخوفاً مكروهاً كما في الدعاء: (سَيِّدِي؛ لَعَلَّكَ عَنْ بَابِكَ طَرَدْتَنِي وعَنْ خِدْمَتِكَ نَحَّيْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُسْتَخِفّاً بِحَقِّكَ فَأَقْصَيْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي مُعْرِضاً عَنْكَ فَقَلَيْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ وَجَدْتَنِي فِي مَقَامِ الْكَاذِبِينَ فَرَفَضْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي غَيْرَ شَاكِرٍ لِنَعْمَائِكَ فَحَرَمْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ فَخَذَلْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الْغَافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلِفَ مَجَالِسِ الْبَطَّالِينَ فَبَيْنِي وبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ لَمْ تُحِبَّ أَنْ تَسْمَعَ دُعَائِي فَبَاعَدْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ بِجُرْمِي وجَرِيرَتِي كَافَيْتَنِي, أَوْ لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيَائِي مِنْكَ جَازَيْتَنِي), ومع ذلك فلا يمكن استفادة وجوب التحذر من الآية.

ص: 113


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص232-233.

وهو كلام متين ولا حاجة إلى ضمِّ شيء آخر كما صنعه السيد الصدر قدس سره .

ومن جميع ذلك يستفاد عدم تمامية شيء من تلك الوجوه التي استدل بها بالآية على حجية خبر الواحد.

الجهة الثالثة: في ذكر جملة من الإعتراضات المهمة التي ذكرها الأصحاب على الإستدلال بالآية الكريمة, وهي:

1- دعوى المنع عن إطلاقها لصورة عدم حصول العلم من الإنذار لعدم كونها في مقام البيان من ناحية وجوب التحذر بل من ناحية وجوب النفر والإنذار فلا يتمّ الإطلاق.

ويرد عليه: إنَّه إنْ أريد من ذلك تقييد التحذر بصورة حصول العلم من قول المنذرين فهو خلاف سيرة العقلاء في إنذاراتهم؛ فإنَّهم يكتفون فيها بمطلق الوثوق والإطمئنان النوعي, فيدخل الخبر الموثوق به الذي هو محل الكلام فيه, وإنْ أريد منه الإشكال على الوجوه السابقة فقد عرفت الجواب عنها, مع أنَّ تلك الوجود إنَّما تثبت وجوب التحذر ولو لم يكن إطلاق للآية, لأنَّ بعضاً منها يثبت الوجوب بالملازمة من وجوب الإنذار.وفي الوجه الرابع يستفاد الإطلاق من ذيل الآية الكريمة لا من إطلاق وجوب التحذر.

2- ما أشار إليه الشيخ قدس سره من أنَّ ظاهر الآية أنَّ وجوب الحذر مرتب على الإنذار المأمور به, والمراد من الإنذار المأمور به هو الإنذار بما هو من الدين وحكم الله الواقعي, لأنَّه من غير المعقول الأمر بالإنذار بغيره, كما أنَّ ظاهر الآية أيضاً أنَّ متعلق الإنذار نفس ما تفقّه فيه المنذر من المنذر من الدين.

وعليه؛ فإنَّ غاية ما تدلُّ عليه الآية الكريمة وجوب التحذر فيما إذا كان إنذار المنذرين بالدين, ومثل هذا التحذر لا يكون مساوقاً مع الحجية, لأنَّه أنيط بكون

ص: 114

الإنذار مطابقاً للواقع, وحينئذٍ مع إحراز هذا القيد يعلم بالحكم الواقعي فلا معنى للحجية حينئذٍ, وإنْ شكّ فيه فإنَّه يشكّ في موضوع التحذر.

وأُجيب عنه تارةً؛ بأنَّ من الحجية والتعبد يحرز كون المنذر به من الدين, فلا حاجة إلى إحرازه إبتداءً فيساوق وجوب التحذر مع الحجية.

وفيه: ما عرفت من أنَّ هذا المعنى غير معقول, لأنَّه قد أخذ في موضوع وجوب التحذر أنْ يكون المنذر به من الدين.

وأخرى؛ بأنَّ الحجية لم ينحصر معناها بالتعبد فقط, بل يمكن أنْ يُراد منها الإهتمام بالواقع وجعل المنجزية كما يستفاد من بعض الأخبار التي وردت في حجية الخبر الواحد, وهذا الحكم الظاهري طريقي محض للواقع فلا يكون مستقلاً عن الحكم الواقعي ليكون له موضوع واقعي مستقل عنه أيضاً, ويكون معناه أنَّ وجوب التحذر المستفاد من الآية ليس حكماً موضوعه الإنذار بالواقع بل هو حكم بمنجزية الواقع به ولزوم التحذر من تبعة مخالفته, فيرجع إلى القول بأنَّه يجب التحذر من تبعة مخالفة الواقع المنذر به.

وثالثة؛ بأنَّ الآية الكريمة ظاهرها هو التحذر مِمّا أنذر به المنذر مطلقاً حتى فيما علم به المنذرين, فحينئذٍ إنْ كانوا عالمين به كان الوجه في وجوب الإنذار هو إتمام الحجة والتذكير وتنبيه الغافلين ونحو ذلك, فاختلفت الأغراض, والحجية تشمل جميع ذلك ولا تنحصر بخصوص معنى معين فلا وجه لهذا الإيراد.

3- ما ذكر المحقق الخراساني(1) من أنَّ الآية تدلُّ على حجية قول المنذر المتفقه في الدين, وهذا لا يصدق على كلِّ راوٍ بل الإنذار بنفسه فرع فهم المعنى ليكون منذراً بما يترتب عليه من تبعات, فلا يصدق على مجرد الإخبار, فالآية إنْ دلَّت على الحجية فإنَّها تدلُّ على حجية الرأي والتفقه والفتوى لا الشهادة والإخبار.

ص: 115


1- . كفاية الأصول؛ ص299.

وأُجيب عنه بأنَّه تثبت حجية الراوي الناقل للخبر من غير تبصير في المعنى بالملازمة وعدم القول بالفصل بينه وبين المتبصر والمتفقه.

وردَّ بأنَّ المقصود من الإشكال هو عدم دلالة الآية على حجية الشهادة ومجرد الرواية فهي أجنبية عنه.

والحَقُّ أنْ يُقال بأنَّ تلك الإعتراضات يمكن الجواب عنها, وتثبت حجية الخبر بالملازمة العرفية إلا أنَّ الآية الكريمة بمعزل عن جميع ما ذكره الأصوليون؛ فإنَّها تدلُّ على أمرٍ أدقّ من جميع ذلك, وهو الحثّ على التفقه في الدين والترغيب فيه وتربية طائفة تتحمل مسؤولية التفقه في الدين وتفقيه الناس بأمور دينهم وتبصيرهم بما يرجع إلى صلاح حالهم في الدين فتزداد بذلك معرفتهم ويتحذروا مواضع الخطر الدنيوي والأخروي في مسيرتهم الكمالية, فهي من الآيات المهمة الواردة في سبيل الدعوة والإرشاد وتحمل مسؤولية الجهاد العقائدي والفكري في سبيل الدين بالتفقه في الدين وحملهِ إلى الأمة, فهذه الآية أجنبية عمّا ذكره الأصوليون في بحوثهم الأصولية.

ومن ذلك يظهر أنَّ الكلام الذي ذكره السيد الصدر في المقام في الكلمة الأولى من كلماته الثلاث تطويل بلا طائل تحته, فإنَّ المناقشة في القدر المشترك في الوجوه الأربعة المتقدمة من وجوب التحذر والقبول ملازم مع الحجية غير مجدٍ بعدما عرفت من عدم دلالة الآية الكريمة على ذلك بل هي بمعزل عن ذلك فلا وجه لإيراد كلامه ومناقشته.

ص: 116

الآية الثالثة :آية الكتمان

ومن الآيات التي استدلَّ بها على حجية الخبر الواحد قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(1).

وتقريب الإستدلال بها يقرب من الإستدلال بآية النفر؛ لا سيما الوجه الثالث من الوجوه المتقدمة, وهو: إنَّ حرمة الكتمان ووجوب الإظهار يستلزم وجوب القبول وإلا كان لغواً, ومقتضى الإطلاق وجوب القبول حتى في صورة عدم حصول العلم من الإظهار؛ فيثبت بذلك حجية خبر الواحد.

وأشكل عليه:أولاً: بان الكتمان لا يصدق مع عدم وجود مقتضي للأخبار كالسؤال ونحوه فلا يصدق على مجرد الاخبار.

وفيه: إنَّه لا يضرُّ بأصل الإستدلال, إذ لو ثبت حجية الإخبار المسبوق بالسؤال تثبت في مطلق الإخبار؛ لانتفاء خصوصية السؤال في حجية الخبر الواحد التي تبتني على الكشف والطريقية.

ثانياً: إنَّ الكتمان هو الإخفاء؛ بمعنى حجب الحقيقة من الظهور مع توفر مقتضيات ظهورها, وهذا لا يكون إلا في مورد يكون بحيث لو لم يكن كتمان لحَصل العلم بالحقيقة لتحقق جميع مقتضيات ظهورها ووضوحها, أمّا إذا لم يكن كذلك كما إذا لم يحصل العلم من الإخبار, فلا يصدق الكتمان حتى تدلُّ الآية على حرمته, وبالآخرة لا تدلُّ على حجية الإخبار.

ص: 117


1- . سورة البقرة؛ الآية 159.

وفيه: إنَّ الكتمان وإنْ كان بمعنى إخفاء الحقيقة ولكنه ليس الإخفاء المطلق, أي: وجوب الإبراز من ناحية المخبر لا مطلقاً.

وعليه؛ فمن لا يكون قوله مفيداً للعلم لعدم وثاقته مثلاً يصدق عليه الكتمان لإخفائه الحقيقة.

ثالثاً: ما ذكرنا سابقاً من أنَّ الغاية والغرض لم ينحصر في وجوب القبول, بل الأغراض متعددة؛ منها: إتمام الحجة وظهور الحق, فلا بدَّ من إثبات وجوب القبول من دليل آخر, وقد تقدم في آية النفر ما يتعلق به.

رابعاً: إنَّ ظاهر الآية الشريفة حرمة الكتمان حرمة نفسية لا أنْ تكون طريقيا إلى القبول, فإنَّ الكتمان هو تعمد إخفاء الحقيقة ليقابل به الدين ويعانده فيكون من المحرمات النفسية, ولذلك توجه اللعن الشديد عليه من الله تعالى ولعنة اللاعنين, ولا ملازمة بين التحريم النفسي للكتمان من باب كونه عناداً مع الدين ووجوب القبول كما لا يخفى.

خامساً: إنَّ الآية الشريفة بمعزل عن المقصود وهو إثبات حجية الخبر, وذلك لأنَّ الظاهر منها الإنكار على الذين يجحدون نبوة نبينا صلی الله علیه و آله و سلم ؛ المعروف بإسمه وأوصافه في كتب العهدين ولا سيما علماؤهم؛ يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وينكرونه عداوة لهذا الدين وصاحبه؛ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون, فيكون ذلك تكذيباً منهم لهذا الدين ولما جاء في القرآن المجيد؛ لا مجرد عدم إظهار الحقّ, وهذا من أعظم المحرمات وأجنبي عن حجية الإخبار.

ص: 118

الآية الرابعة: آية الذكر

ومن جملة الآيات التي استدلَّ بها قوله تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(1).

وتقريب الإستدلال بها يقرب من الإستدلال بالآيتين السابقتين؛ فإنَّ وجوبه يستلزم وجوب القبول وإلا كان لغواً, وبالإطلاق يثبت حتى في صورة عدم حصول العلم من الجواب فتثبت حجية الخبر.

فإنْ فسّر أهل الذكر بأهل العلم والإطلاع ليشمل الرواة والمجتهدين بالنسبة إلى مقلديهم والأئمة والأنبياء بالنسبة إلى جميع الناس؛ فإنَّهم أهل الذكر والعلم, فيصحُّ الإستدلال بها على حجية جميع ذلك؛ كلٌّ بحسبه, وإنْ فسّر أهل الذكر بأنهم أئمة أهل البيت علیهم السلام فتخرج الآية عن دائرة حجية الخبر الواحد.

وكيف كان؛ فقد أورد عليه بما ذكرناه سابقاً في الآيتين من أنَّ الغرض لم ينحصر في وجوب القبول بل الأغراض متعددة, فلا ملازمة بين وجوب القبول ووجوب السؤال تعبداً.

والصحيح؛ إنَّ الآية الكريمة بمعزل عن إثبات حجية الإخبار أيضاً, فإنَّ ظاهرها يدلُّ على أنَّها في مقام محاجّة المشركين ومخاصمة المستكبرين المنكرين لنبوة خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم بدعوى أنَّه كسائر البشر في حاجاته وصفاته وسماته.

وهذا لا يناسب السفارة الربانية والنبوة الآلهية كما ورد في القرآن الكريم بأنَّ الرسالات كلّها كانت على أيدي رجال من البشر مثلهم فيأمرهم بالرجوع إلى أهل الذكر من يخبرهم مِمَّن بعث فيهم الأنبياء والرسل, لأنَّ المشركين لم يكونوا من أهل الكتاب والنبوات حتى يعرفوا هذه الحقيقة.

ص: 119


1- . سورة النحل؛ الآية 43.

وهذا الأمر لا ربط له بمقام جعل الحجية والتعبد للخبر, ويرشد إلى ذلك جملة من القرائن في الآية الكريمة وآيات أخرى, مثل:

آيات أخرى

1- آية الأذُن.

وهي قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1).

وتقريب الإستدلال بها؛ إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ مدح نبيّه على تصديق المؤمنين ولولا حسنه لما مدحه, وهو يناسب حجية الخبر, وهي ظاهرة في عدم حصول العلم.

ويرد عليه: إنَّه ليس كلُّ حسن يكون واجباً, والمبحوث عنه في المقام هو الوجوب دون مطلق الحسن, يضاف إلى ذلك أنَّ التصديق خلق حسن لأجل تأليف القلوب ظاهراً وهو غير وجوب ترتيب الأثر فإنَّه أمر آخر, والآية تبين الأول ومورد البحث هو الثاني ويشهدلذلك اختلاف حرف التعدية في ذيل الآية الشريفة (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ), أي: لنفعهم وصالحهم.

ومن جميع ذلك يظهر الإشكال في دلالة الآيات المزبورة على حجية الخبر, ولكن الإنصاف أنَّه مع وجود تلك المناقشات فيها فإنَّه يمكن استفادة الحجية من الملازمة العرفية من الآيات الثلاث المزبورة, فإنَّ العرض على أهل المحاورة أنهم يفهمون منها لزوم ترتيب الأثر على الخبر من مواردها.

الإستدلال على حجية الخبر الواحد بالسنة

2- الإستدلال على حجية الخبر الواحد بالسنة

إنَّ الإستدلال بالنسبة إلى حجية الخبر الواحد يتمّ إذا كانت السنة من المتواتر -ولو إجمالاً- وإلا إستلزم الدور الواضح, ومن أجل ذلك حاول جمع من العلماء والأصوليين

ص: 120


1- . سورة التوبة؛ الآية 61.

إثبات تواترها وإنْ إختلفوا في تحديد منهج هذا الإستدلال؛ فقد صرّح صاحب الوسائل في خاتمة كتابه القيم بتواتر الأخبار في حجية خبر الثقة, وفي الكفاية دعوى التواتر الإجمالي(1) على حجيته, وإنْ وجد الخبر أخص صفات الإعتبار كالعدالة والظن أو الوثوق بصدق مضمونه فإنَّه يصحُّ التعدي منها إلى حجية خبر الثققة مطلقاً, وإنْ لم يكن من الصحيح المصطلح عليه تمسكاً بإطلاق رواية تدلُّ على الحجية تكون من الصحيح الجامع للشروط, وحينئذٍ؛ إنَّ حجية الصحيح يثبت بالقطع, وحجية سائر المراتب من الموثق تثبت بالحجة.

والظاهر أنَّه لا حاجة إلى ذلك حتى يستشكل عليه, فإنَّ دعوى التواتر صحيحة فيمن راجع الأخبار التي جمعها شيخنا الحرّ في الباب السابع والثامن والتاسع من كتاب القضاء في الوسائل, فإنَّه يظهر له بوضوح تواترها إجمالاً, فإنَّها تدلُّ على ذلك بألسنة مختلفة وطرق متعددة وأنحاء شتّى فإنَّها:

تارةً؛ تأمر بالرجوع إلى الرواة والعلماء.

وأخرى؛ بإرجاع بعض أصحابهم علیهم السلام إلى بعض آخر منهم.

وثالثة؛ بالإرجاع إلى كتب بني فضال.

ورابعة؛ بالأخذ بما وافق الكتاب وطرح مخالفته.

وخامسة: علاج المتعارضين بالأخبار العلاجية.

وسادسة؛ بالترغيب إلى أخذ الحديث وضبطه.

وغير ذلك من الأساليب التي تظهر للمتتبع فيها, فإنَّ من مجموعها يستفاد استفادة قطعية أنَّ اعتبار الخبر الموثوق به كان مفروغاً عنه عند المعصومين علیهم السلام وأصحابهم, حيث يستفاد

ص: 121


1- . كفاية الأصول؛ ص295.

منا نهاية اهتمام الأئمة علیهم السلام بنشر أحاديثهم بأيِّ وجه ومن أي شخص كان بعد توفر عنصر الوثوق بالصدق.ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره السيد الصدر وغيره في المقام؛ حيث قال: والمتتبع في الروايات التي صنفت تحت عنوان حجية خبر الثقة يرى أنَّ أكثرها لا دلالة لها على الحجية أصلاً, وما تبقى فيها بعد فرز ذلك لا يكاد يبلغ حدّ التواتر, إذ لا يزيد على خمسة عشر رواية.

ولكن عرفت أنَّ الأخبار لم تنحصر في صنف واحد بل هي أصناف متعددة ومن مجموعها يحصل التواتر، وعلى فرض التنزل فإنَّ ما ذكره من المناقشات في الروايات التي أوردها غير تامة, نذكر بعضاً منها ويظهر منها حكم غيرها, وهي:

1- ما ورد في الحثِّ على تحمل الحديث ونقله, نحو رواية جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (سَارِعُوا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؛ فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَحَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي حَلَالٍ وحَرَامٍ تَأْخُذُهُ عَنْ صَادِقٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا حَمَلَتْ مِنْ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ)(1), فأشكل عليها بأنَّها تدلُّ على الحثِّ على المعرفة الإسلامية, ولا إشكال في أنَّه من أفضل الأعمال, وهو أجنبي عن الكلام.

وفيه: إنَّ تحصيل المعرفة الإسلامية تتوقف على أخذ تلك الروايات التي تضمنتها, مع أنَّه يمكن التمسك بالملازمة العرفية التي هي معتبرة عند أهل المحاور كما تقدم, فإنَّها تدلُّ على حجية الخبر الذي يتضمن تلك المعارف الإسلامية, وإلا لم تكن لها قيمة معرفية, ومن ذلك يظهر الوجه في الأخبار التي وردت عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : (مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي

ص: 122


1- . المحاسن؛ ج1 ص227.

أَرْبَعِينَ حَدِيثاً يَنْتَفِعُونَ بِهَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقِيهاً عَالِماً)(1)؛ فإنَّها تدلُّ على جميع أنحاء الحفظ؛ من نقل الأحاديث والعمل بها وحفظها عن ظهر قلب ونقلها إلى الناس وغير ذلك, فإنَّها تشتمل على ما تحتاج إليه الأمة من أمور دينها.

2- ما ورد من الإحالة على أشخاص معينين مثل ما ورد في أحوال السيد الشريف عبد العظيم الحسيني عن أَبِي حَمَّادٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ علیه السلام بِسُرَّ مَنْ رَأَى, فَسَأَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ فَأَجَابَنِي فِيهَا, فَلَمَّا وَدَّعْتُهُ قَالَ لِي: (يَا حَمَّادُ إذا أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْ ءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكَ بِنَاحِيَتِكَ فَسَلْ عَنْهُ عَبْدَ الْعَظِيمِ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنِيَّ وأَقْرِأْهُ مِنِّي السَّلَامَ )(2).

وأشكل عليها بأنَّها حوالة على أشخاص معينين.

ولعمري؛ إنَّه إشكال مبني على أنَّه إجتهاد مقابل النصّ الذي يدلُّ على مفروغية حجية الخبر عنه الأئمة علیهم السلام وأصحابهم؛ حيث أحالوا أصحابهم إلى مثل السيدالحسني الثقة العدل, بعد إلغاء خصوصية شخصيته المُحال عليها من الدخل في الحكم نستفيد منه العموم كما هو واضح.

3- ما أُمر بنقل الحديث وتداوله من قبيل رواية أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (يَا أَبَانُ إذا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَارْوِ هَذَا الْحَدِيثَ؛ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ )(3).

وأشكل عليها بأنَّها لا تدلُّ على المطلوب إلا بتوهم الملازمة بين الأمر بالرواية ووجوب القبول وقد مرَّ تفنيدها.

ص: 123


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص93.
2- . مستدرك الوسائل؛ ج17 ص321.
3- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج2 ص520.

ويرد عليه: إنَّه لو لم تكن الأخبار حجة مفروغ عنها عندهم لما كان وجه لتطبيق الكبرى على صغرى موردها أبان بن تغلب, ولا تصل النوبة إلى الملازمة ولو فرض الرجوع إليها فقد عرفت أنَّها ملازمة عرفية صحيحة عند أهل المحاورة.

4- ما دلَّ على الثناء على المحدثين ورواة أحاديث أئمة أهل البيت علیهم السلام وتراثهم, كرواية عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ الْعُمَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِيٍّ علیه السلام قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : اللَّهُمَ ارْحَمْ خُلَفَائِي ثَلَاثاً. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ ومَنْ خُلَفَاؤُكَ؟. قَالَ: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ حَدِيثِي وسُنَّتِي ثُمَّ يُعَلِّمُونَهَا أُمَّتِي )(1).

وأشكل عليها بأنَّها لا دلالة منها على المطلوب لأنَّها ناظرة إلى وجوب حفظ التراث وتعليمه الناس, وذلك لا يدلُّ على الحجية إلا على الملازمة غير الصحيحة كما تقدم.

وفيه: إنَّها تدلُّ على حجية الخبر إبتداءً ثم حفظ التراث بالملازمة عكس ما قاله, فإنَّ تبليغ أحاديث أهل البيت علیهم السلام وسنَّتهم إنَّما يتوقف على حجية ما يبلغونه واعتبار أخبارهم ثم يعلمونها.

5- ما دلَّ على أنّ انتفاع السامع قد يكون أكثر انتفاعاً من راويه, مثل رواية عوالي اللئالي عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنَّه قال: (رَحِمَ الله امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ )(2). وَفِي رِوَايَةٍ: (رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ )(3).

ص: 124


1- . الأمالي (الصدوق)؛ ص180-181.
2- . عوالي اللئالي؛ ج4 ص66.
3- . المصدر السابق.

وذكر في الإشكال عليها بأنَّها ليست في مقام بيان أنَّه متى يثبت صدور الحديث عن المعصوم, وإنَّما يتعرض بعد الفراغ عن ثبوته إلى أنَّه ربما يكون السامع أفضل فهماً وأكثر ورعاً من المحتمل للحديث وهو غير الحجية.ويرد عليه: إنَّه خلاف ظاهر الحديث الذي يدلُّ على حجية الخبر, إذ لولاها لما كان وجه للإنتفاع, فإنَّ ظاهر قوله صلی الله علیه و آله و سلم : (فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا) أنَّ الذي سمعه حجة على السامع.

6- ما دلَّ على الترغيب في حفظ الكتب وكتابة الأحاديث, كما في حديث عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إليها)(1).

وذكر أنَّ الإستدلال بها مبنيٌّ على دعوى الملازمة بين وجوب الحفظ والكتابة ووجوب القبول والحجية, وقد ذكر أنَّها غير ثابتة بل الأمر بالحفظ والكتابة لوحظ فيها نفس الراوي, وفيه غرض نفسي فلا يدلُّ على الحجية.

وفيه: إنَّ ظاهر حفظ الكتب لأجل إيصالها إلى الناس لينتفع بها الجميع؛ الرواة وغيرهم, وهو فرع الحجية, لا لمجرد الإحتفاظ بها, لا سيما بعد فقد الإمام المعصوم علیه السلام من بينهم.

وهناك روايات أخرى ذكرها وأشكل في دلالتها.

ومِمّا ذكرنا يظهر بطلان مناقشاته، والإنصاف إنَّ دلالتها تامة على حجية الخبر؛ إمّا بظهورها في المطلوب, أو بالملازمة العرفية التي يقبلها أهل المحاورة وتبتني عليها محاوراتهم, ومن مجموعها يحصل المطلوب.

ثم إنَّه ذكر أنَّ في المقام قرائن قد توجب حصول الإطمئنان بصدور بعض هذه الروايات وإنْ لم يصدق عليها عنوان التواتر, بل هناك رواية واحدة يمكن دعوى القطع أو الإطمئنان

ص: 125


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص52.

الشخصي بعدم تعمد شيء من رواتها للكذب فيها, ولو فرض عدم حصول ذلك منها فلا أقل من حصوله بها مع ضمّ الروايات الأخرى إليها, وهذه الرواية هي رواية الحميري؛ الكليني عن محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى العطار جميعاً عن عبد الله بن جعفر الحميري ... الرواية(1).

ص: 126


1- . مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ومُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى جَمِيعاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ: إجْتَمَعْتُ أَنَا والشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ, فَغَمَزَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الْخَلَفِ, فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَمْرٍو؛ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْ ءٍ ومَا أَنَا بِشَاكٍّ فِيمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ, فَإِنَّ اعْتِقَادِي ودِينِي أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْماً, فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ رُفِعَتِ الْحُجَّةُ وأُغْلِقَ بَابُ التَّوْبَةِ, فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً, فَأُولَئِكَ أَشْرَارٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ, وهُمُ الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ الْقِيَامَةُ, ولَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَزْدَادَ يَقِيناً, وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ علیه السلام سَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى؛ قالَ: أَ ولَمْ تُؤْمِنْ؟! قالَ: بَلى؛ ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. وقَدْ أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ وقُلْتُ: مَنْ أُعَامِلُ أَوْ عَمَّنْ آخُذُ وقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ لَهُ: (الْعَمْرِيُ ثِقَتِي فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي ومَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ فَاسْمَعْ لَهُ وأَطِعْ فَإِنَّهُ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ). وأَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ علیه السلام عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ؛ فَقَالَ لَهُ: (الْعَمْرِيُّ وابْنُهُ ثِقَتَانِ؛ فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ, ومَا قَالا لَكَ فَعَنِّي يَقُولَانِ, فَاسْمَعْ لَهُمَا وأَطِعْهُمَا؛ فَإِنَّهُمَا الثِّقَتَانِ الْمَأْمُونَانِ)؛ فَهَذَا قَوْلُ إِمَامَيْنِ قَدْ مَضَيَا فِيكَ؛ قَالَ: فَخَرَّ أَبُو عَمْرٍو سَاجِداً وبَكَى ثُمَّ قَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ. فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَ الْخَلَفَ مِنْ بَعْدِ أَبِي مُحَمَّدٍ علیه السلام ؟ فَقَالَ: إِي واللَّهِ؛ ورَقَبَتُهُ مِثْلُ ذَا؛ وأَوْمَأَ بِيَدِهِ. فَقُلْتُ لَهُ: فَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ لِي: هَاتِ. قُلْتُ: فَالاسْمُ؟ قَالَ: مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَنْ ذَلِكَ, ولَا أَقُولُ هَذَا مِنْ عِنْدِي؛ فَلَيْسَ لِي أَنْ أُحَلِّلَ ولَا أُحَرِّمَ, ولَكِنْ عَنْهُ علیه السلام ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ مَضَى ولَمْ يُخَلِّفْ وَلَداً, وقَسَّمَ مِيرَاثَهُ وأَخَذَهُ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وهُوَ ذَا عِيَالُهُ يَجُولُونَ لَيْسَ أَحَدٌ يَجْسُرُ أَنْ يَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ أَوْ يُنِيلَهُمْ شَيْئاً, وإِذَا وَقَعَ الِاسْمُ وَقَعَ الطَّلَبُ؛ فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَمْسِكُوا عَنْ ذَلِكَ. [الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص329-330].

وأمّا الروايات؛ فقد ذكر فيها صحيحة يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ, قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فَقَالَ: (أَ مَا لَكُمْ مِنْ مَفْزَعٍ, أَ مَا لَكُمْ مِنْ مُسْتَرَاحٍ تَسْتَرِيحُونَ إِلَيْهِ؛ مَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ النَّصْرِيِّ)(1).

ورواية مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُهْتَدِي والْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ جَمِيعاً عَنِ الإمام الرِّضَا علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَا أَكَادُ أَصِلُ إِلَيْكَ؛ أَسْأَلُكَ عَنْ كُلِّ مَا أَحْتَاجُ إليه مِنْ مَعَالِمِ دِينِي؛ أَ فَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ آخُذُ عَنْهُ مَا أَحْتَاجُ إليه مِنْ مَعَالِمِ دِينِي؟. فَقَالَ: (نَعَمْ)(2).

وصحيحة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : إِنِّي لَيْسَ كُلَّ سَاعَةٍ أَلْقَاكَ, ولَا يُمْكِنُنِي الْقُدُومُ, ويَجِي ءُ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَيَسْأَلُنِي ولَيْسَ عِنْدِي كُلُّ مَا يَسْأَلُنِي عَنْهُ؟ قَالَ علیه السلام : (فَمَا يَمْنَعُكَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الثَّقَفِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِي وكَانَ عِنْدَهُ مَرْضِيّاً وَجِيهاً )(3).

وهناك روايات أخرى نظيرتها, مثل ما ورد في زكريا بن آدم وما ورد في أبان بن تغلب وما ورد في أصحاب الإمام محمد الباقر علیه السلام المنقول عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام حيث قال: (رحم الله زرارة؛ لولاه ونظرائه لاندرست آثار أبى)(4). وغيرها من الروايات مِمّا هي كثيرة إنْ لم نقل بأنَّها مستفيضة في هذا الباب, ثم أطال الكلام في الإستدلال برواية الحميري وتكلم في سندها ودلالتها بما لا حاجة إلى ذلك؛ فإنَّه تطويل بلا طائل تحته, فإنَّها كغيرها من الأحاديث التي فيها الصحيح والموثق, فإنَّها تدلُّ على حجية الخبر, بل إنَّها كانت مفروغاً عنها عند الأصحاب, وأمّا الأسئلة فما كانت عن خصوصيات الرواية التي

ص: 127


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص145.
2- . المصدر السابق ص147.
3- . الإختصاص؛ ص201-202.
4- . رجال الكشي؛ الفهرس؛ ص118.

يمكن الإعتماد عليها أو الراوي الذي يؤخذ عنه معالم الدين وكيفية العلاج إذا تعارضت ونحو ذلك من العوارض الطارئة, وهي بمجموعها مِمّا يوجب القطع بصدورها وتكونمن المتواترة إجمالاً, ولا تصل النوبة إلى المناقشة السندية, فلا إشكال في الإستدلال بالنسبة إلى حجية الإخبار.

الإستدلال بالإجماع والسيرة على حجية خبر الواحد
اشارة

أمّا التمسك بالإجماع؛ فقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره في الرسائل وجوهاً عديدة لتقريب الإجماع؛ منها ما يرجع إلى السيرة وسيأتي الكلام فيها إنْ شاء الله تعالى.

ومنهم من أرجع التمسك بالإجماع إلى السنة, إلا أنَّها تستكشف بالدليل القطعي المتمثل في سيرة المتشرعة وعمل الأصحاب أو سيرة العقلاء.

كما أشكل بعضهم على التمسك بالإجماع القولي منه والعملي؛ بأنَّه إمّا ناشئ عن مرتكزاتهم العقلائية, فهو يرجع إلى السيرة أو حاصل مِمّا وصل إلينا مِمّا مرَّ من طوائف الأخبار فيرجع إليها, فلا يكون دليلاً مستقلاً في مقابلها.

وقد ردّه السيد الوالد قدس سره (1) بأنَّ الإجماع الحقيقي حصل إتماماً للحجة وتأكيداً لها, وكيف كان؛ فإنَّ الإجماع المدَّعى في المقام لا يخلو من رجوعه إلى السيرة, فالكلام ينبغي أنْ يكون فيها, ولا ريب في ثبوتها في الجملة بين المسلمين من أصحاب الأئمة علیهم السلام وغيرهم من علماء الطائفة أو المذاهب الإسلامية -بل من جميع العقلاء كافة- حيث يعملون بأخبار الثقات ومِمّا يرجع إلى أمور معادهم ومعاشهم, والسيرة من الحجج العقلائية كما تقدم مكرراً, فإنَّ الحجة عندهم إمّا ذاتية كالقطع, وإمّا عقلائية كخبر الثقة ونحوه, وهذه السيرة كانت بمرأى عن المعصومين علیهم السلام ومسمع منهم ولم يثبت عنهم الردع بل

ص: 128


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص112.

لعله لا يمكنهم الردع لأنَّه يستلزم اختلال الأحكام, لا سيما شريعة خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم الباقية إلى يوم القيام, فإنْ لم تكن هذه الطريقة مطلوبة لدى الشارع لوجوب التخصيص بالردع في مثل هذا الأمر العام البلوى, وحينئذٍ يكفي عدم الردع في قبولها؛ فكيف بدلالة أخبار متواترة إجمالاً عليه.

والكلام في ذلك يقع تارةً؛ في تقريب الإستدلال بسيرة المتشرعة ومنهم أصحاب الأئمة علیهم السلام , وأخرى؛ سيرة العقلاء وعملهم, وقد تقدم الكلام في بحث حجية الظهور عن هذين القسمين من السيرة وكيفية الإستدلال بكلٍّ منهما, والموضعان من باب واحد؛ فإنَّه يمكن تطبيقه على حجية خبر الثقة أيضاً.

وخلاصة المقال: إنَّ الإستدلال بالسيرة العقلائية مِمّا لا إشكال فيه كما عرفت آنفاً؛ فإنَّها قائمة على العمل بخبر الثقة من جميع العقلاء على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ومشاربهم, بل قد جبلت الطباع والعقول بتلقي خبر الموثوق به سواءً في أغراضهم التكوينية أم في مجال تحمل المسؤولية أم في بناء معاشهم ومعادهم, وتقدم أنَّه لو كان للشارع طريقة أخرى غير هذه الطريقة العقلائية لكان عليه أنْيردع عنها, وقد عرفت عدم ثبوته فضلاً عن أنَّه يستكشف الإمضاء, فلا وجه للتشكيك في مثل هذه السيرة مهما كانت مناشئها وخصوصياتها.

وأمّا الإستدلال بسيرة المتشرعة من أصحاب الأئمة علیهم السلام وغيرهم من علماء الطائفة -بل علماء المسلمين ومتشرعتهم- فإنَّه لا ريب في تفاوت رواة الأحاديث من أصحاب الأئمة المعصومين علیهم السلام من حيث الوثاقة والعدالة بل وجود الكذابين بينهم كما يصرح به علماء الرجال في هذا العلم, ولم يكن نقل الحديث مقتصراً على خصوص العدول فقط بل يعمهم ومن يطمئن بصدقهم ووثاقتهم ولعله همُّ الأغلب في نقل الأحاديث, وعلى أخبارهم يعتمد حلَّ أحكام الفقه ومسائله, ولا يمكن الإستغناء عنها عند جميع المذاهب الإسلامية, ومثل هذه الأحاديث لا توجب القطع دائماً, ومع ذلك كان أصحاب الأئمة علیهم السلام يتعاملون

ص: 129

معها ويقبلونها, وهذا الموقف منهم مِمّا يدلُّ على قبول خبر الثقة كمتشرعة لا من حيث كونهم عقلاء, وقد عرفت سابقاً عند نقل السنة على حجية الخبر أنَّها كانت مفروغة عندهم, وإنَّما السؤال كان من أئمتهم علیهم السلام عن الحالات الطارئة على الحديث, فيكفي في تقرير هذه السيرة المتشرعة أيضاً عدم ثبوت الردع؛ إذ لو كان للشارع والأئمة الهداة طريقة تختلف عن طريقة أصحابهم والمتشرعة لوجب عليهم بيانها؛ فكيف إذا حصل التقرير عنهم لها في ضمن الروايات المتقدمة وغيرها كما عرفت, ولم يكن عملهم بالأخبار لأجل حصول العلم أو الإطمئنان منها بل مِمّا يقطع بعدمه على ما ذكره الشيخ الأعظم في رسائله من القرائن والشواهد عليه, فلا ريب في ثبوت كلتا السيرتين على حجية الأخبار.

ومن ذلك يظهر أنَّه لا وجه للإشكال على التمسك بالسيرة مطلقاً بأنَّه مردوع عنها بعمومات النهي عن إتّباع الظن وغير العلم؛ لما عرفت من أنَّ السيرة التي قامت على العمل بالخبر عند المتشرعة وأصحاب الأئمة علیهم السلام بل العقلاء دليل قطعي على عدم شمولها لها, بل عرفت أنَّه لا يمكن أنْ تشملها تلك العمومات, لأنَّه يستلزم اختلال النظام, كما أنَّه قد تقدم في بحث حجية الظواهر أنَّ الحجج العقلائية علم عقلائي فلا تشمله الآيات مع ما عرفت مكرراً من أنَّ تلك العمومات والنهي عن إتّباع غير العلم تختص بأصول الدين, فلا يمكن أنْ نرفع اليد عن مثل هذه السير العقلائية التي تثبت قطعاً بعموم أو إطلاق من مثل تلك العمومات.

وكيف كان؛ فقد واجه الأصوليون هذه الشبهة بأجوبة عديدة:

منها: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) في المقام ونظائره من أنَّ السيرة حاكمة على الأدلَّة الناهية عن العمل بالظنّ, لأنَّها تجعل الخبر حجة, والحجة معناها جعل الطريقية وكونه علماً؛ فيرتفع موضوع تلك الأدلَّة.

ص: 130


1- . فوائد الأصول؛ ج2 ص56.

وأورد عليه:

1- إنَّ دعوى الحاكمية غير تامة, لأنَّ مفاد الأدلَّة الناهية عن العمل بالظن إنْ كان هو نفي الحجية, فتكون في عرض دليل إثبات الحجية, فأحدهما ينفي العلمية والآخر يثبتها فيتحقق التعارض بينهما, وإنْ كان مفادها أمر مترتب على نفي الحجية فيكون محكوماً بكلِّ ما دلَّ على الحجية بأيِّ لسان كان؛ حكومة أو غيرها. ولا يعقل أنْ يكون راداً, لأنَّه فرع عدم الحجية.

وفيه: إنَّ ذلك لا يفيد في الردِّ على المحقق النائيني قدس سره , لأنَّه يرى أنَّ أدلَّة الحجية يجعل غير العلم علماً فتكون حاكمة على الأدلَّة الناهية التي تختص بالظن وغير العلم.

2- عدم تعقل الحكومة في المقام بالخصوص, لأنَّها إنَّما تكون تصرف من الدليل الحاكم في موضوع الدليل المحكوم؛ إنشاءً وتعبداً, وهذا يعقل فيما إذا كان الدليل الحاكم المتصرف من قبل المشرع نفسه للدليل المحكوم, وهذا المناط لم يتحقق في المقام لأنَّ دليل الحجية هو السيرة العقلائية, فلا يعقل أنْ تكون مباشرةً حاكمةً على الآيات الناهية عن العمل بالظن شرعاً, إذ لا يعقل للعقلاء بما هم عقلاء التصرف في موضوع حكم الشرع.

وفيه: إنَّه لا يعتبر في الحكومة مباشرة الحاكم للتصرف في الدليل المحكوم, فإنَّ الأمر عرفي فإنَّهم إذا حكموا بأنَّ بين الدليلين الشرعيين تفسير وبيان وحاكمية ومحكومية كفى ذلك في الحكومة, وعلى فرض الإعتبار ففي المقام يكفي إمضاء الشارع لتلك السيرة, فإنَّه إمضاء للحاكمية ويكون تصرفاً منه أيضاً, وقد تقدم كيفية الإستكشاف لهذا الإمضاء.

والحاصل؛ إنَّ كلام المحقق النائيني قدس سره متين بناء على مسلكه, ولكنه لا حاجة لنا إليه بعدما تقدم في الجواب عن الشبهة, فلا تصل النوبة إلى إثبات الحاكمة بين الدليلين.

ص: 131

ومنها: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من استحالة الرادعية لأنَّها دورية؛ فإنَّ رادعية المطلقات عن السيرة فرع عدم تخصيص السيرة لها وإلا لم يكن إطلاقها حجة حتى يكون رادعاً عن السيرة, وعدم تخصيصية السيرة فرع الرادعية فتتوقف الرادعية على نفسها.

ولكن هذا النوع من الدور يصطدم بدور آخر مثله, فإنَّ مخصصية السيرة أيضاً فرع عدم الرادعية وإلا لم يكن حجة, وعدم الرادعية فرع المخصصية وإلا كانت المطلقات حجة, فتتوقف المخصصية على نفسها فتكون المخصصية ممتنعةوعدمها أيضاً ممتنع وهذا ممتنع ثالث أيضاً, لأنَّه يستلزم ارتفاع النقيضين وهو ممتنع.

وأورد عليه بعدة إيرادات وأطالوا الكلام في ذلك والحقُّ أنَّه تطويل بلا طائل تحته, فإنَّه يمكن رده:

1- إنَّه بعد ما بيَّنا من عدم شمول المطلقات للسيرة القائمة على حجية الخبر بل لا يمكن شمولها لها.

2- إنَّ مثل هذه التوقفات التي تثبت الدور كلها من المغالطة الواضحة, فإنَّه إذا لم يكن كذلك -بأنْ كان أحدهما في الذهن والآخر في الخارج أو بالعكس- لا يكون من الدور المستحيل.

3- إنَّه على فرض أنَّ الدور المستحيل في المقام لا يتوقف على الخارج بل المستحيل هو نفس توقف الشيء على نفسه وعليته لنفسه سواء وجد في الخارج أم لم يوجد, ولكن أصل التوقف باطل, لأنَّ السيرة رافعة لموضوع الإطلاق, وإنَّ المخصصية فرع شمول الإطلاق للسيرة, والمفروض عدم شموله لها أبداً كما عرفت.

ومن ذلك يظهر الجواب عن شبهة الدور التي أثارها المحقق الخراساني, ولا حاجة إلى إطالة الكلام وإنْ ظهر من بعضهم في المقام.

ص: 132


1- . كفاية الأصول؛ ص303.
تحقيق في مبنى الآخوند الخراساني في المقام

ثم إنَّ من تبع المحقق الخراساني قدس سره في تصويره للدورين المتنافيين حدث إتجاهان وانقسموا إلى فريقين: فذهب أحدهما إلى تقديم السيرة على الآيات وقالوا بتخصيصها بالسيرة، بينما ذهب الآخر إلى العكس, وتمسك كلُّ واحد منهما بتقريبات وتوجيهات.

أمّا الأول؛ فذكروا فيه وجوهاً:

الوجه الأول: ما ورد في الكفاية نتيجة لما ذكره من الشبهة المذكورة من أنَّ الرادعية إذا كانت دورية ومستحيلة فسوف لا يثبت الردع لا محالة, والمخصصية ليست دورية لأنَّها متوقفة على عدم العلم بالردع الذي يكفي فيه عدم صلاحية الآيات للرادعية, وهو مردود بما تقدم من عدم تحقق دورية رادعية الآيات ولا دورية المخصصية.

وأجاب المحقق الخراساني قدس سره عن الثاني باجوبة كلّها قابلة للمناقشة, وقد ردَّت ولا حاجة لذكرها.

الوجه الثاني: إنَّه بعد فرض الدورين بين الرادعية والمخصصية أو رجوع الدورين إلى الدوران بين النسخ والتخصيص وعدم تقديم أحدهما على الآخر؛ يقال بالتساقط والرجوع إلى الإستصحاب.ورُدَّ بأنَّ الإستصحاب قد ثبت بالخبر الواحد فلا يعقل التمسك به لإثبات حجيته كما هو واضح.

ويرد عليه بأنَّ الإستصحاب مطلقاً -سواءً كان إستصحاب عدم النسخ أم غيره- قد ثبت بالدليل القطعي من الإجماع.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره من أنَّ الردع عن السيرة إنَّما هو ظهور الآيات الناهية وحجيته فرع حجية الظهور الثابتة بالسيرة أيضاً, ومن الواضح أنَّه لا يمكن

ص: 133

انعقاد سيرتين وبنائين عمليين من العقلاء على العمل بكلٍّ من الخبر والظهور المذكور لأنَّه تناقض, فإذا سلمنا بالسيرة على العمل بخبر الواحد فلا محالة لا يعمل بالظهور.

ولكن هذا الوجه فيه مسامحة بأنَّ انعقاد الظهور الكاشف عن المراد شيء والعمل به شيءٌ آخر؛ فقد يعصي المكلف ولا يعمل بالظهور كما يعصي النص, والأظهر فإنَّه لا ربط له بالسيرة المنعقدة, فلقد وقع الخلط بين العمل بالظهور بمعنى حجيته في الكشف عن مراد المتكلم والعلم به بمعنى الأخذ بمؤداه وامتثاله.

وأمّا الثاني؛ وهو تقديم رادعية الآيات على مخصصية السيرة فقد ذكروا له تقريبات أيضاً:

منها: إنَّه إذا ثبت أنَّ المخصصية دورية فلا محالة تكون الآيات حجة في إثبات الردع عن السيرة, لأنَّ كلَّ ظهور حجة ما لم يعلم بالمخصص كما في المقام, ولذلك قلنا بأنَّ رادعية الآيات متوقفة على عدم العلم بالمخصصية لا عدم المخصصية واقعاً, فيكون إطلاق الآيات حجة ويثبت به الردع عن السيرة.

وقد ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره في الإشكال عليه بأنَّ كلاً من الرادعية والمخصصية ليست دورية, لأنَّ كلاً منهما متوقف على عدم ثبوت الأخرى, أي عدم العلم به لا عدمه واقعاً, وجعل ذلك هو مراد صاحب الكفاية, وعليه؛ فإنَّ هذا يُنتج الرادعية لأنَّ لازم ذلك أنَّ موضوع كلٌّ من حجية إطلاق الآيات وحجية السيرة تام, وحيث أنَّه لا يمكن فعلية حجيتهما معاً فلا يكون شيء منهما حجة, فلا تتم السيرة في إثبات حجية خبر الثقة؛ وهذه هي نتيجة الرادعية.

وفيه: إنَّه غير تام؛ لما عرفت من عدم ثبوت الدور في الرادعية والمخصصية أصلاً كما اعترف به, مضافاً إلى أنَّ حجية السيرة متوقفة على عدم حجية إطلاق الآيات في نفسها, وأمّا حجية إطلاقها فيتوقف على عدم حجية السيرة, وكلما تعارض الدليلان من هذا

ص: 134

القبيل قدم الثاني على الأول, والدور إنَّما يتمّ فيما إذا كان كلاهما -المتوقف والمتوقف عليه- فعلياً, وأمّا إذا كانت إحداهما متوقفة على عدم حجية الأخرى في نفسها ولها حجية الآخر على عدم الأول بالفعل فلن يكن دوراً وكان الثاني حجة دون الأول وحجية الإطلاقات من الثاني بينما حجية السيرة من الأول.ومنها: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره أيضاً؛ من أنَّ المقام من موارد التزاحم بين المقتضي التنجيزي والتعليقي, فإنَّ مقتضى الحجية في الإطلاقات تنجيزي وهو الظهور, ويحتمل عدم تأثيره لمانعية السيرة, وأمّا مقتضى الحجية في السيرة فتعليقي لأنَّ أصل حجيتها معلق على عدم المانع, وكلما تزاحم مقتضيان من هذا القبيل قدم التنجيزي على التعليقي؛ لتمامية المقتضي فيه كما هو المفروض في المقام, وعدم المانع؛ لأنَّ ما تُصور كونه مانعاً في المقتضي التعليقي هو غير ثابت لاستحالته لأنَّه دور.

ثم تصدى قدس سره لتقرير الدور في تأثير المقتضي التنجيزي أيضاً, لأنَّ تأثيره لا يكفي فيه مجرد وجود المقتضي, بل لا بُدَّ من إعدام المانع, فيكون تأثيره موقوفاً على عدم المانع فلو كان إعدام المانع بنفس تأثيره كان دوراً.

والحقُّ في الجواب ما ذكرناه من أنَّه لا دور في الطرفين, فلا حاجة إلى القول بتأثير المقتضي التعليقي, لأنَّ المانع عن تأثيره موجود؛ بخلاف المقتضي التنجيزي, فإنَّه لا يوجد المانع عن تأثيره, فلا حاجة إلى إثبات الدور حتى يكون مانعاً مع أنه يصح لنا القول بأنَّ مدرك اعتبار الإطلاق ليس إلا بناء العقلاء, ولا بناء في الإطلاق والشمول فيما كانت سيرتهم على خلافها.

والحاصل؛ إنَّ جميع ما ذكر في المقام تطويل بلا طائل تحته, بل هي لا تخلو من إشكال ونقاش:

أولاً: إنَّ أصل دلالة الآيات الناهية على الردع عن العمل بالظن مشكل بل غير تام كما عرفت.

ص: 135

ثانياً: إنَّ السيرة على العمل بخبر الثقة لرسوخها عند العقلاء وارتكازتِها يمنع من أنَّعقاد الإطلاق لصيرورتها بمثابة القرينة المتصلة التي تمنع عن الإطلاق ذاتاً.

ثالثاً: إنَّ السيرة من العلم الذي لا يشمله الإطلاق بعد فرض ثبوت الإطلاق لهذه الآيات.

رابعاً: ان السيرة التي تكون بهذه المثابة في النفوس لا يمكن ان يردع عنها إطلاق أو عموم إلا إذا اقترن كل واحد منهما بقرائن وبيانات لترفع جذور السيرة عن النفوس كما هو كذلك بالنسبة إلى القياس؛ فقد ورد النهي عنه, فلو كان خبر الموثوق به غير معتبر لدى الشارع لزم عليه أنْ يؤكد النهي عنه بالخصوص بطرق شتى لكونه من أهم موارد الإبتلاء فلا يكفي فيه مجرد عموم أو إطلاق.

الإستدلال بالدليل العقلي على حجية خبر الواحد
اشارة

وقد إستدلوا على حجية خبر الثقة بوجوه عقلية يرجع بعضها إلى بعض وجميعها إلى دليل الإنسداد الصغير الذي يكون الفرق بينه وبين الإنسداد الكبير الذي يأتي ذكره؛ إنَّ الأخير يستدلُّ لحجية مطلق الظن وبالنسبة إلى مجموع أحكام الشريعة المقدمة, وأمّا الإنسداد الصغير فإنَّه يستدلُّ به لحجية بعض ما يتعلق بها كخبرالواحد وقول اللغوي أو المفسّر أو اعتبار الظن بالقبلة ونحو ذلك مِمّا يتعلق بالأحكام الشرعية في الجملة, فمن جملة ما استدلوا به على حجية خبر الثقة الأدلَّة التالية:

الدليل الأول: إنَّنا نعلم بصدور أخبار تشتمل على الأحكام الشرعية الإبتلائية وغيرها, بحيث يكون احتمال التكليف في غير تلك الأخبار من الإحتمال غير المنجز, وحينئذٍ إذا لم يتمكن من الإحتياط أو يتعسّر العمل به وبطلان الرجوع إلى الأصول المؤمنة على ما سيأتي بيانه يتعين الأخذ بمظنون الصدور وهو خبر الموثوق به.

ص: 136

الدليل الثاني: إنَّ بقاء التكليف إلى يوم القيامة مِمّا يعرفه الخاص والعام, والفراغ منه لا يحصل إلا بالعمل بالأخبار, فمع فقد العلم بالصدور وجب الأخذ بمظنونه؛ وهو خبر الثقة.

الدليل الثالث: إنَّنا مكلفون بالرجوع إلى السنة الباقية, وهي عبارة أخرى عن أخبار الآحاد, فمع عدم العلم بالصدور لا بُدَّ من الأخذ بمظنونه.

الدليل الرابع: إنَّنا لو لاحظنا الأخبار التي نريد إثبات حجيتها فإنَّه يعلم إجمالاً بمطابقة جملة منها مع الواقع, إذ لا يحتمل أنْ تكون كلها على خلاف الواقع فيكون منجزاً علينا, وهو نتيجة الحجية من حيث عدم جواز الرجوع إلى الأصول المؤمنة ومنها غير ذلك, ومن ينعم النظر فيها يظهر له بوضوح أنَّها ترجع إلى وجه واحد وإنْ اختلف التعبير عنها, والكلام حول هذا الدليل يقع في مقامات:

المقام الأول: البحث في أصل تنجيز العلم الإجمالي.

وقد اعترض عليه بجملة من الإعتراضات؛ منها ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره (1) بالنقض عليه بأنَّ مثل هذا العلم لو كان منجزاً ومثبتاً لنتيجة حجية الخبر لكانت كافة الأمارات الظنية حجة, لأنَّها بمجموعها تكون طرفاً لعلم إجمالي من هذا القبيل, إذ لا يحتمل عادة كذبها جميعاً.

وأُجيب عنه بأنَّه يوجد في المقام علوم ثلاثة:

أحدها: هو العلم الكبير, أي العلم الإجمالي بوجود تكاليف في الشريعة؛ الذي أطرافه تمام الشبهات, ومدركه نفس العلم بأنَّ في الشريعة أحكاماً حراماً وحلالاً.

والآخر: هو العلم الوسط؛ أي العلم الإجمالي بالتكليف في ضمن مجموع الأمارات الظنية؛ الذي أطرافه مجموع الأمارات من أخبار وشهرات وإجماعات منقولة وغيرها, ومدركه عدم احتمال كذبها جميعاً.

ص: 137


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص99.

والثالث: هو العلم الصغير؛ أي العلم الإجمالي بوجود تكاليف بنفس المقدار المعلوم في العلمين السابقين ضمن دائرة إخبار الثقاة مثلاً, فينحلّ العلم الكبير بالوسط والوسط بالصغير لا محالة؛ لما هو ثابت من أنَّه إذا كان علمان إجماليانمتداخلان وكان المقدار المعلوم من التكليف فيهما متساوياً إنحلَّ العلم الكبير بالعلم الصغير, وتجري الأصول المؤمنة في مورد افتراق أطراف الكبير عن الصغير بلا معارض, وفي المقام الأمر كذلك بعدما أفرزنا من الروايات أطراف العلم الصغير بمقدار المعلوم بالإجمال ثم لاحظنا الباقي منها مع سائر الأمارات والشبهات لم يبق لنا علم إجمالي بالتكليف فيها, وهذا شاهد على أنَّ المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير نفس المعلوم بالعلمين الإجماليين الوسط والكبير فلا اختلاف بينهما.

وأشكل عليه السيد الصدر قدس سره (1) بأنَّ العلم الإجمالي الوسط المذكور لا ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الروايات, لأنَّ العلم الإجمالي الوسط بحسب الواقع تلفيق وتجميع لعلوم إجمالية متعددة بعدد الأمارات قائمة على أساس إجراء حساب الإحتمالات في كلِّ نوع من الأمارات.

وفيه: ما عرفت في أحد مباحثنا من أنَّ حساب الإحتمالات إنَّما يصحُّ في الأمور الطبيعية وله مجال واسع في غير الشرعيات وأمّا فيها فالأمر يختلف, فإنَّ ما يؤخذ في الشرع تأسيساً أو إمضاءً فإنْ ورد فيه من الشارع ما يدلُّ على تحديده بقيود أو شروط فلا بُدَّ من الإلتزام به حسب تلك الضوابط الشرعية وإنْ لم يرد فيه ما يدلُّ عليه فيرجع فيه إلى العرف, فإنْ كان مبنياً على الدقة والتحديد فلا بُدَّ من مراعات ذلك أيضاً وإلا فيؤخذ فيه على المسامحة العرفية, فلا مجال لحساب الإحتمالات في الأمور الشرعية وموضوعات الأحكام مطلقاً,

ص: 138


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص410.

وعلى ذلك بيَّن الفقهاء والأصوليون قواعدهم ولم يتطرقوا إلى حساب الإحتمالات في بحوثهم مع أنَّه كان معروفاً في الإستقراء المنطقي.

ومن الإعتراضات: دعوى انحلال العلم الوسط بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الروايات دون العلم الصغير في دائرة الشهرات, لأنَّ معلومه لا يزيد على معلوم الأول ولكن يزيد على معلوم الثاني ولو من جهة أنَّ المعلوم صحته من الروايات أكثر من المعلوم صحته من الشهرات.

وأُجيب عنه بعدة أجوبة:

1- ما ذكره السيد الصدر من إجراء حساب الإحتمالات في الشهرات؛ وقد عرفت الجواب عنه.

2- إنَّ العلم الإجمالي الوسط إنحلَّ بالعلم الإجمالي الرواياتي ولكن لا ينحلّ بالعلم الإجمالي الشهرتي, فيبقى العلم الإجمالي الشهرتي في دائرة الشهرات منجزاً لتمامية أطرافه؛ وهذا صحيح إنْ لم يتمّ دليل على خلافه كما ستعرف.ومن الإعتراضات: دعوى إنحلال العلم الوسط بالعلم الإجمالي في دائرة الروايات, وانحلال العلم الإجمالي بالشهرات بعلم إجمالي أصغر منه في خصوص مادة الإجتماع بين الشهرات والروايات لأنَّه مع تطابق الروايات مع الشهرات قد يوجب العلم إجمالاً بصدق مقدار من مادة الإجتماع لا يقلّ عن المعلوم الإجمالي في دائرة الشهرات جميعاً, وبذلك يندفع الجواب الآنف الذكر في الإعتراض الثاني المتقدم.

وأشكل عليه بأنَّ العلم الإجمالي الأصغر في مادة الإجتماع لا يمكنه حلّ العلم الإجمالي الشهراتي لاحتمال أنْ يكون واحداً من مادة الإجتماع تكون قيمته الإحتمالية ليست بأكثر من مجموع الشهرات في مادة الإقتراف, ولكن قد عرفت أنَّ جميع ذلك غير متين على

ص: 139

إدراك القيم الإحتمالية للأفراد في كِلا الفريقين من الروايات والشهرات, والمناط ما ذكرناه من النظر العرفي واعتباره في هذه الطرق المعتبرة.

والحقُّ أنَّ هذا العلم الإجمالي وإنْ أشكل عليه ببعض الإعتراضات التي لم تنهض أنْ تكون سبباً في إحلاله إلا أنَّها لا تجري بالنسبة إلى العلم الإجمالي الذي ذكرناه في الوجه الأول مِمّا ذكره من وجوه تقريب الإستدلال بالدليل العقلي وأنَّه لا بُدَّ من فصل هذا العلم الإجمالي في الروايات عن العلم الإجمالي في الشهرات, لأنَّ الأخيرة لم تبلغ من الكثرة بحيث تكون عِدلاً للأولى وتوازيها, فإنَّ الروايات هي الجزء الأكبر مِمّا يثبت به الأحكام الشرعية ويعتمد عليها.

المقام الثاني: في أنَّ هذه الوجوه التي ذكرناها في كيفية الإستدلال بالدليل العقلي هل أنَّها تثبت الحجية أو تكون نتيجتها مغايرة عنها عملياً بعد مغايرتهما مفهوماً لكونها ثبتت منجزية العلم الإجمالي فحسب.

وقيل بأنَّ النتيجة العملية واحدة وإنْ إختلفت مفهوماً, وإنَّما الإختلاف في بعض الآثار التي لا ترتبط بالوظيفة العملية, فإنَّه لا بُدَّ على كلِّ حال من العمل بالأخبار التي تدلُّ على التكاليف, سواء كان من جهة منجزية العلم أم من جهة حجيتها؛ اللهم إلا من ناحيتين:

الأولى: إنَّه لا يمكن للفقيه إسناد مفادها إلى الشارع بناءً على منجزية العلم الإجمالي, بينما يجوز ذلك بناءً على حجيتها.

الثانية: إنَّه بناءً على الحجية لو صادف مطابقة جميع الأخبار للواقع وخالف المكلف كان عاصياً فيها جميعاً فيعاقب بعدد ذلك الواقع عقاب العصيان لثبوت التكليف الواقعي وتنجزه عليه بالحجة, في حين أنَّه بناءً على مسلك منجزية العلم فإذا كان يعلم بعدد معين من التكليف في مجموع الأخبار, فلو فرض مطابقية جميعها للواقع وارتكاب المكلف لها

ص: 140

جميعاً فلا يكون عاصياً إلا بقدر ذلك العددالمعلوم وإنْ كان منجزاً بعدد الأطراف جميعاً؛ لاحتمال إنطباق أحد التكاليف المعلومة بالإجمال عليه, لكن كِلا هذين الأثرين غير عمليين كما عرفت.

وقيل: بالفرق العملي بين المسلكين.

أولاً: إنَّ وجوب العمل بشيء من جهة الإحتياط شيء وحجية الشيء بحيث يصلح للتخصيص والتقييد والإستناد إليه شيء آخر؛ والمقام من الثاني, والدليل يثبت الأول ولا ربط لأحدهما بالآخر.

ثانياً: إنَّه يظهر الفرق بين المسلكين في الأخبار التي تدلُّ على الترخيص ونفي التكليف ولو بالإلتزام وإنْ لم يكن كذلك في الأخبار التي تثبت الإلزام ولو بالإلتزام إلا في بعض الموارد.

أمّا الأول؛ فإنَّه بناءً على مسلك الحجية يجب العمل بتلك الأخبار ولو كان في قبالها أصل لفظي أو أصل عملي يقتضي الإلزام, وأمّا بناءً على مسلك منجزية العلم الإجمالي فإنَّه قد يثبت الإلزام وذلك فيما إذا كان مقابلها أصل لفظي أو عملي ملزم, إذ لم تثبت حجيتها حتى يجوز رفع اليد عن ذلك الأصل, وقد لا يقتضي ذلك, والإشكالُ عليه بأنَّه مع العلم إجمالاً بمطابقة بعض تلك الروايات الترخيصية للواقع أو صدورها عن المعصوم يوجب سقوط تلك الأصول اللفظية أو العملية إذا كانت في جميع أطراف هذا العلم الإجمالي, وحينئذٍ يجوز الرجوع إلى البراءة العقلية أو الشرعية؛ مردودٌ بأنَّه إذا كانت الأصول العملية التي تجري في جميع الأطراف مثبتة للتكليف فهي تمثل في أصلين؛ أصالة الإشتغال العقلية والإستصحاب المثبت للتكليف الذي لا بُدَّ من أنَّ تكون حجيته ثابتة, وكِلاهما يجريان حتى لو علم إجمالاً بصدور بعض الروايات الترخيصية, لأنَّ العلم الإجمالي بالحكم

ص: 141

الترخيصي لا ينافي جريانها كما هو واضح في أصل الإشتغال العقلي, فإنَّه لا يزاحمه الحكم الترخيصي ولا يرفعه العلم الإجمالي بالترخصيص, لأنَّه لا بُدَّ من العلم بالمؤمن تفصيلاً ليرفع اليد عن مقتضى أصالة الإشتغال, وأمّا الإستصحاب المثبت للتكليف؛ فإنَّ سقوطه عن الحجية متوقف على تمامية مقالة الشيخ الأنصاري من أنَّ اليقين الإجمالي بالإنتقاض مانع عن جريان الإستصحاب في أطرافه للتعارض بين ذيل دليل الإستصحاب وصدره.

أو تمامية أنَّ العلم إجمالاً بمطابقية بعض تلك الروايات والتي تنفي للواقع يعلم بانتقاض الحالة السابقة إجمالاً, وأمّا لو كان العلم الإجمالي بصدور تلك الروايات فهو إنَّما يكون علماً بالحجة الإجمالية على الترخيص وهو لا يمنع عن جريان الإستصحاب المثبت, وكِلا الأمرين غير تامين كما سيأتي بيانه في محله, وأمّا الأصول اللفظية؛ فإنَّ العلم الإجمالي بوجود المخصصات أو المقيدات لبعض العمومات والمطلقات المثبتة للتكليف في قبال الروايات النافية له وإنْ كان يوجبالتعارض بينها إلا أنَّه مع ذلك يجب الإحتياط لصحة التمسك بالعمومات المثبتة بالعنوان الإجمالي في غير المقدار المعلوم بالإجمال.

أمّا الثاني -وهو ظهور عدم الفرق بين المسلكين في الأخبار المثبتة للإلتزام-؛ فإنَّه على كِلا المسلكين يجب العمل على طبق تلك الروايات المثبتة للتكليف ولو بالإلتزام؛ إمّا لكونها حجة أو لكونها طرفاً للعلم الإجمالي المنجز إلا في بعض الموارد التي يظهر الفرق بين المسلكين أيضاً نذكر بعضاً منها على الإجمال:

1- ما إذا كان على خلاف الخبر المثبت للتكليف عموم أو إطلاق في دليل إجتهادي قطعي السند يدلُّ على الترخيص؛ فإنَّه بناءً على الحجية لا بُدَّ من العمل على طبق الخبر الذي يثبت التكليف, وأمّا بناءً على منجزية العلم الإجمالي الذي أطرافه الروايات

ص: 142

المثبتة للتكليف, فإنَّ المنجزية لا تشمل الأطراف التي فيها أصل مؤمّن بلا معارض, لا سيما إذا كان ذلك دليلاً إجتهادياً يعيّن التكليف في أطراف العلم الإجمالي.

وذهب بعض المحققين إلى الأخذ بأصالة الإشتغال؛ حتى بناءً على مسلك منجزية العلم الإجمالي أيضاً, وذلك أنَّنا نعلم بطروّ مخصصات ومقيدات على خصوص المطلقات الترخيصية؛ وهو كافٍ في تعارضها وإجمالها وسيأتي بيانه في محله إنْ شاء الله تعالى.

2- أنْ يكون مقابل الخبر المثبت أصل عملي ينفي التكليف؛ وهو تارةً؛ يكون جارياً في تمام أطراف العلم الإجمالي كالبراءة مثلاً, ولا إشكال في سقوط هذا الأصل بالعلم الإجمالي المفروض فهو خارج عن محل كلامنا.

وأخرى؛ يكون جارياً في خصوص بعض موارد الخبر المثبت كأصالة الطهارة مثلاً, ومثل هذا الأصل النافي إمّا أنْ يكون دليله العقل, وأمّا أنْ يكون دليله شرعي قطعي, وأمّا أنْ يكون من نفس الروايات.

وفي القسمين الأولين نرجع إلى ذلك الدليل الذي يثبت به الأصل النافي إنْ لم يستلزم موارد جريان هذا الأصل مخالفة للواقع بحيث يصير إطلاقه متعارضاً ومجملاً.

وأمّا في القسم الثالث فلا أثر للأصل المذكور, فإنَّه لا نرفع اليد عن الخبر المثبت بمقتضى منجزية العلم الإجمالي.

3- أنْ يكون مقابل الخبر المثبت للتكليف خبر آخر بنفيه, فإنَّه بناءً على الحجية لا يجب العمل بشيء منهما للتعارض والتساقط, وأمّا بناءً على مسلك المنجزية يجب العمل بالخبر المثبت من باب الإحتياط لكونه طرفاً للعلم الإجمالي, ولا يعتنى بالخبر النافي فإنَّه لا يقتضي خلاف ذلك.

ص: 143

4- أنْ يكون مقابل الخبر المثبت خبراً آخر للتكليف أيضاً ولكنه على خلاف حكم الأول؛ كأنْ يكون أحدهما يثبت الوجوب والآخر يثبت الحرمة, فإنَّه بناءً على مسلك الحجية يقع التعارض ثم التساقط عند فقد المرجح1- والرجوع إلى مقتضى القواعد, وأمّا بناءً على مسلك المنجزية فإنَّ الخبرين كِلاهما من أطراف العلم الإجمالي بالتكليف, فيكون من موارد دوران الأمر بين المحذورين فلا يكون العلم الإجمالي مقتضياً للتنجز إلا إذا قلنا بانحلال العلم الإجمالي وانحصاره بخصوص موارد الأخبار التي لا معارض لها فيصبحان من المتعارضين فيسقطان ويرجع إلى القواعد الأولية كما عرفت.

5- أنْ يكون أصلاً لفظياً يثبت حكماً مغايراً للحكم في الخبر المثبت, فإنَّه بناءً على الحجية ينبغي العمل بالخبر ويخصص العمومات القطعية أكثر من المقدار الثابت بالدليل القطعي, جرت أصالة العموم ودلَّت على نفي التكليف الإلزامي المدلول عليه بالخبر وتعيينه في الأطراف الأخرى, وإنْ فرض العلم الإجمالي بالتخصيص أكثر من ذلك وقع التعارض بين العمومات.

وقيل غير ذلك مِمّا هو مذكور في المفصلات ولكنها لا ترجع إلى محصل, وسيأتي بيان ذلك في محله إنْ شاء الله تعالى.

المقام الثالث: إنَّ الوجوه التي ذكرت في الإستدلال بالدليل العقلي قد عرفت أنَّها قابلة للمناقشة من عدة جهات:

الأولى: ما ذكرناه سابقاً من أنَّ تلك الوجوه إنَّما تثبت وجوب العمل بالأخبار من جهة الإحتياط والمفروض إثبات حجيتها, ومن المعلوم أنَّ حجيتها شيء وكون العمل من جهة الإحتياط شيء آخر والفرق بينهما كبير كما هو واضح.

ص: 144

الثانية: وعلى فرض التنزل انه يعد فقد العلم لا تصل النوبة إلى الأخذ بالمظنون رفعه, بل لا بُدَّ من الأخذ بالمتيقن, ومع عدم الكفاية؛ فالمتيقن بالإضافة حتى تصل النوبة إلى الأخذ بالظنِّ في آخر المطاف, وسيأتي في بيان دليل الإنسداد الكبير ما يتعلق بذلك.

الثالثة: إنَّ العلم بالأخبار لا موضوعية فيها من حيث هي, بل تكون طريقاً إلى العلم بالأحكام الشرعية, وحينئذٍ يرجع إلى العلم الإجمالي.

وقد عرفت الجواب عنه بأنَّه لا يثبت حجية الأخبار التي هي مفروض البحث وغير ذلك من الجهات التي تعرضنا لها في مطاوي البحث.

نتائج البحث

الأولى: يظهر من مجموع ما ذكرنا أنَّ اعتبار خبر الثقة أوضح من أنَّ يستدلّ عليه بتلك الأمور الواهية, وإنَّ أهمّ ما يمكن أنْ يستدلَّ به هو السيرة؛ سواءً سيرة العقلاء أم سيرة المتشرعة, وأمّا الكتاب والسنة فإنَّها يرشدان إلى تلك السيرة المعتبرة, فلا إشكال من هذه الجهة.إنَّما الكلام في أنَّ السيرة وعمل الأصحاب بالأخبار لم يكن لأجل حصول إطمئنان شخصي لهم من تلك الروايات حتى يكون المستفاد من السيرة حجية العلم العادي والإطمئنان الذي لا إشكال في حجيته ولو حصل من غير خبر الثقة, بل الظاهر أنَّه من جهة أمارية وثاقة الراوي وحجيتها, ولذا كان عملهم على خبر الثقة ولو لم يحصل لهم الإطمئنان الشخصي لهم بصدورها كما في كثير من الموارد التي يظهر للمتتبع في مظانها, بل ربَّما يكون الخبر مصاحباً لبعض ما ينفي الإطمئنان الشخصي, ومع ذلك كان عملهم على الخبر الثقة, وقد تقدم وسيأتي مزيد بيان أيضاً إنْ شاء الله تعالى.

ومن هنا لا بُدَّ من تقييد ما يمكن استفادة الإطلاق من بعض الأدلَّة التي استدلوا بها على حجية الخبر كآية النفر والكتمان, وأمّا آية النبأ فهي وإنْ دلَّت على عدم اعتبار خبر الفاسق

ص: 145

بالخصوص مضافاً إلى الإجماع والتسالم على عدم حجية أخباره فنستفيد منها حجية خبر غير الفاسق ولو لم يكن ثقة, ولكن عرفت أنَّه لا بُدَّ من تقييد هذا الإطلاق بمفاد السيرة القائمة على حجية خبر الثقة فلا تشمل غيره.

ومن ذلك نستفيد أنَّ الميزان في الأخبار هو الفسق الخبري لا الفسق الشرعي, وربما يفترقان فيكون الراوي فاسقاً شرعياً بارتكابه بعض المحرمات أو تركه لبعض الواجبات ولكنه لم يكن فاسقاً خبرياً لتورعه عن الكذب والإفتراء.

أولاً: لأنَّ هذا هو المناسب للأخبار فيؤخذ به بمقتضى مناسبة الحكم مع الموضوع.

ثانياً: يدلُّ عليه أيضاً ذيل آية النبأ؛ حيث ورد التعليل (أنْ تصيبوا قوماً بجهالةٍ) التي هي بمعنى السفاهة, والسفاهة إنَّما تكون في التعويل على خبر غير الثقة لا الثقة وإنْ كان فاسقاً من سائر الجهات.

ويدلُّ على ما ذكرنا ما ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (لَحَدِيثٌ وَاحِدٌ تَأْخُذُهُ عَنْ صَادِقٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا حَمَلَتْ مِنْ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ )(1).

الثانية: إنَّ النزاع في اعتبار الخبر الموثوق به يكون صغروياً لا أنْ يكون كبروياً, وذلك لأنَّ الوثوق والإطمئنان النوعي العقلائي معتبر فيه عند الجميع, وإنَّما النزاع في أنَّ الخبر الثقة موجب لهما أولا أو أنَّ أي قسم من أقسام الخبر موجب لهما. ولذا ذهب المحققون إلى أنَّ مجرد الوثوق بالصدور من أي جهة حصل يكفي, وبعض القدماء يذهب إلى اعتبار العلم بالصدور. والحقُّ مع ما ذهب إليه المحققون, لأنَّ من يعتبر العلم بالصدور إنْ كان مراده العلم العاديالذي يشمل مطلق الوثوق والإطمئنان أيضاً فلا نزاع في البين, وإنْ كان مراده غير ذلك فلا دليل له على مدّعاه, بل الأدلَّة على خلافه كما عرفت.

ص: 146


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص98.

ومن ذلك يظهر أنَّه لا وجه لتقسيم الخبر إلى الأقسام الأربعة المعروفة, وهي: الصحيح والموثوق والحسن والضعيف, فإنَّ الملاك على خبر الثقة مطلقاً؛ سواءً كان من قسم الصحيح أم لا, وسواءً تعلق بالأحكام التكليفية الفرعية أم غيرها من المعارف أم الأخلاقيات أم القصص والحكايات أم التكوينيات ونحوها؛ لشمول الدليل للجميع.

الثالثة: قد عرفت أنَّه يكفي في حجية الخبر وثاقة الراوي ولكن اعتبر بعضهم في اعتبار الخبر عدالة الراوي, ولا بدَّ أنْ تكون طريقية لإحراز صدقه في المقال, إذ لا موضوعية لها بوجه كما هو كذلك في إمام الجماعة والقاضي ونحوهما, فيكون المناط كله هو صدق الراوي في المقام؛ عادلاً كان في سائر أموره أم لا إمامياً كان أم لم يكن, ويدلُّ عليه ما ذكرناه آنفاً من أنَّ الميزان في الخبر هو الفسق الخبري دون الفسق الشرعي, وما ورد في بعض الأخبار من اعتبار الصدق وهذا واضح لا إشكال فيه.

الرابعة: بعدما عرفت من أنَّ المناط في حجية الخبر الواحد هو الوثوق مطلقاً إمّا في الراوي أو بالصدور؛ فإنَّ للوثوق والإطمئنان مراتب متفاوتة, كما أنَّ العلم أيضاً كذلك؛ يكفي منها أول مراتبه, ولا دليل على اعتبار أزيد منه مِمّا يقتضيه عموم السيرة العقلائية والإطلاقات والعمومات المرغبة إلى أخذ الاخبار, ويساعده سهولة الشريعة السمحة, ففي وصية الإمام الصادق علیه السلام لشيعته: (أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ؛ عَلَيْكُمْ بِآثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم وسُنَّتِهِ, وآثَارِ الْأَئِمَّةِ الْهُدَاةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم مِنْ بَعْدِهِ وسُنَّتِهِمْ؛ فإنَّه مَنْ أَخَذَ بِذَلِكَ فَقَدِ اهْتَدَى)(1).

وقوله علیه السلام : (تَزَاوَرُوا؛ فَإِنَّ فِي زِيَارَتِكُمْ إِحْيَاءً لِقُلُوبِكُمْ وذِكْراً لِأَحَادِيثِنَا)(2).

ص: 147


1- . المصدر السابق؛ ص38.
2- . المصدر السابق؛ ص87.

وقول الإمام الرضا علیه السلام : (إنَّما أُمِرُوا بِالْحَجِ لِعِلَّةِ الْوِفَادَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ..... ونَقْلِ أَخْبَارِ الْأَئِمَّةِ علیهم السلام إِلَى كُلِّ صُقْعٍ ونَاحِيَةٍ)(1).

إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة الظاهرة في الإكتفاء بأقل مراتب الوثاقة؛ سواء كانت

في الراوي أم في الصدور من أي وجه حصل, وتلك الأخبار في مقام التسهيل والتوسعة والحث على بث الأحاديث بكلِّ وجه أمكن.

الخامسة: ذكر بعض الأصوليين أنَّ خبر غير الثقة إذا كان يوثق بمضمونه نتيجة قرائن وأمارات خارجية بحيث لا تقلُّ كاشفيتها وأماريتها عن أمارية خبر الثقة لايكون حجة, لعدم شمول شيء من السنة اللفظية أو السيرة له, وإنَّ المناط في جعل الحجية هو التحفظ على الأحكام الواقعية, فلعلّ الحاجة اقتضت الإقتصار على جعل الحجية بمقدار خبر الثقة فلا يمكن التعدي عنه لعدم إحراز المناط.

ويرد عليه ما ذكرنا من أنَّ الميزان في حجية الأخبار هو الوثوق والإطمئنان النوعي المعتبر عند العقلاء وهو مِمّا لم يمكن إنكاره, والسنة اللفظية والسيرة إرشاد إلى هذا المرتكز العقلائي ولا يتنافى ذلك ما ذكر من أنَّ المناط في الحجية هو التحفظ على الأحكام الواقعية فإنَّه مِمّا لا إشكال ولكن ذلك لا يوجب الخروج عن طريقة العقلاء في هذا الموضوع المهم ولا وجه للقول بأنَّ القرائن والأمارات الخارجية التي تحف بخبر غير الثقة بحيث لا تقل كاشفيتها وأماريتها عن أمارية خبر الثقة لا يكون حجة, فإنَّه مكابرة واضحة.

ومن أجل ذلك قلنا سابقاً أنَّه يصحُّ التعدي إلى غير الخبر من الأمارات الظنية كالشهرة الفتوائية إذا تحقق فيها المناط المزبور وأوجبت الوثوق والكاشفية.

وعليه؛ نقول بانجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب به وغيره من الأمارات والقرائن.

ص: 148


1- . المصدر السابق؛ ج11 ص13.

السادسة: عرفت أنَّ خبر الثقة حجة مطلقاً سواء كان بدون واسطة أم معها, فإنَّ الأدلَّة التي استدلَّ بها على الحجية من السيرة والأدلَّة اللفظية تشمل كِلا القسمين, بل أنَّ المتيقن من سيرة المتشرعة هو العمل بالأخبار مع الواسطة, ولم ينقل عنهم ما يخالف ذلك أبداً, بل لو اقتصرت الحجية على الخبر بلا واسطة لزم تعطيل عملية إستنباط الأحكام ولزم تغيير مداركه كلما مضت فترة على الروايات بحيث كان الأمر بحاجة إلى علاج جديد وهو واضح الفساد.

السابعة: إذا كان المدار على خبر الثقة فإنَّه يكفي في تحقق الوثاقة ومقابلها التضعيف ما يصح الإعتماد عليه عند العقلاء غالباً.

وعليه؛ فلا اعتبار على كثير من التضعيفات التي يذكرها العلماء والتي تخرج عن الطريقة المألوفة, مثل التضعيف على الظاهر فقط, ولا يتعقل توجيهها وتضعيف الزاهد المتقشف لاعتقاده أنَّ كلَّ من ليس على شاكلته يكون ضعيفاً, ومن سقط تضعيفه لكثرة اهتمامه به كابن الغضائري الذي قالوا في حقه: (إنَّه لا يسلم أحد من قدحه ولا ثقة من جرحه), فيكون المناط فيه على تضعيف الفقيه الجامع للشرائط المعتدل الفهم المتتبع المأنوس بمذاق الأئمة الهداة علیهم السلام في اهتمامهم بنشر الأحكام ولو بواسطة غير شيعتهم العارف بكيفية المعاشرة مع العامة, فإنَّه ربما يكون الفاسق أسرع في نشر الخبر من العادل المتعبد المشغول بتزكية نفسه.

ومن هنا لا يعتمد على كلِّ تضعيف ويترك توثيقات العلماء, فقد وثَّق إبن عقدة والمفيد وابن شهر آشوب والطبرسي أربعة آلاف رجل من أصحاب الإمامالصادق علیه السلام , وهم من أعاظم المتتبعين في تلك الطبقة فلا ينبغي أنْ يؤخذ بتضعيف كلّ أحد؛ خصوصاً من لم يكن بتلك الدرجة من التتبع, كمن كان في أول مراجعته وتدوينه للرجال.

ص: 149

ومن هنا ذهب بعض المتتبعين إلى دعوى أصالة الصدق في رواة الأحكام إلا من خرج بالدليل كأصالة الصحة في أفعال الأنام إلا أنْ يدلُّ دليل على الخلاف, ثم أنَّ التضعيف والجرح لا بُدَّ وأنْ يرجع إلى جهة الصدق فقط ويثبت بهما الفسق الخبري؛ لما عرفت من أنَّ لا موضوعية للعدالة في الراوي وإنَّما هي طريق لإحراز الصدق فقط؛ اللهم إلا أنْ يكون الجرح والتضعيف من سائر الجهات يرجعان إلى إثبات الفسق الخبري والتكذيب بالملازمة العرفية أو الشرعية أو العقلية, وفي غير هذه الصورة لا أثر للجرح والتضعيف, ومن هنا يبطل كثير من التضعيفات أيضاً وتنسد أبواب الجرح كما لا يخفى على المتتبع فراجع.

الثامنة: إنَّ المتتبع في أحوال علماء الجرح والتعديل يظهر له أنَّ اهتمامهم بالتضعيف أكبر من اهتمامهم بالتعديل والتوثيق, بل يظهر من بعضهم الغلو في ذلك أو الحرص الشديد, ولعله يرجع إلى ما ارتكز في أذهانهم من أصالة عدم الحجية, وقد أسسوا على ذلك القاعدة المعروفة بينهم؛ {كلَّما دار الأمر بين الجرح والتعديل قُدِّم الأول}, وذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّه بعد التفحص في هذا الأمر لم يتعرض الأئمة علیهم السلام ولا من خواصهم بل لا من جميع الأصحاب هذا النحو من الإهتمام بالنسبة إلى نقل الأحاديث مع شدة ابتلائهم بالمناوئين المعاندين واهتمامهم في النيل من المذهب الحق ورموزه والمعتنقين له؛ فإنَّ الروايات التي وردت في الحثِّ على نشر أحاديث المعصومين علیهم السلام من الإطلاق والعموم ما ينفي ذلك, كقول الإمام الصادق علیه السلام : (اعْرِفُوا مَنَازِلَ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ رِوَايَاتِهِمْ عَنَّا)(2).

ص: 150


1- . تهذيب الأحكام؛ ج2 ص117.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص79.

وقول الإمام الرضا علیه السلام للهروي: (رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا. قُلْتُ: كَيْفَ يُحْيِي أَمْرَكُمْ؟ قَالَ: يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا ويُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا)(1).

وعن بعض أصحاب الإمام الرضا علیه السلام : قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام : الرَّجُلُ مِنْ أصحابنا

يُعْطِينِي الْكِتَابَ ولَا يَقُولُ ارْوِهِ عَنِّي؛ يَجُوزُ لِي أَنْ أَرْوِيَهُ عَنْهُ؟. قَالَ فَقَالَ: (إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْكِتَابَ لَهُ فَارْوِهِ عَنْهُ)(2).وقول الإمام الصادق علیه السلام : (قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام : إذا حَدَّثْتُمْ بِحَدِيثٍ فَأَسْنِدُوهُ إِلَى الَّذِي حَدَّثَكُمْ؛ فَإِنْ كَانَ حَقّاً فَلَكُمْ وإِنْ كَانَ كَذِباً فَعَلَيْهِ)(3).

وفي صحيح الْحَذَّاءِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام يَقُولُ: (واللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَصْحَابِي إِلَيَّ أَوْرَعُهُمْ وأَفْقَهُهُمْ وأَكْتَمُهُمْ لِحَدِيثِنَا, وإِنَّ أَسْوَأَهُمْ عِنْدِي حَالًا وأَمْقَتَهُمْ إذا سَمِعَ الْحَدِيثَ يُنْسَبُ إِلَيْنَا وَيُرْوَى عَنَّا فَلَمْ يَقْبَلْهُ؛ اشْمَأَزَّ مِنْهُ وجَحَدَهُ وكَفَّرَ مَنْ دَانَ بِهِ, وهُوَ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الْحَدِيثَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ وإِلَيْنَا أُسْنِدَ؛ فَيَكُونُ بِذَلِكَ خَارِجاً مِنْ وَلَايَتِنَا)(4).

وقول النبي صلی الله علیه و آله و سلم حين خَطَبَ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَقَالَ: (نَضَّرَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وحَفِظَهَا وبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ, ورُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)(5).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يصعب إحصائها؛ فإنَّ هذه الأخبار مضافاً إلى أنَّها تنفي هذا السلوك في تضعيف الأخبار؛ يستفاد منها الإهتمام بالتوثيق والعناية به أكثر من

ص: 151


1- . المصدر السابق؛ ص92.
2- . المصدر السابق؛ ص80-81.
3- . المصدر السابق؛ ص81.
4- . المصدر السابق؛ ص87-88.
5- . المصدر السابق؛ ص89.

التضعيف بمراتب, فيقتصر فيه على خصوص ما لم يكن للوثوق إليه سبيلاً أصلاً, فيكون مقتضى إطلاقات هذه الأخبار المتواترة إجمالاً اعتبار كل خبر أسند إليهم علیهم السلام إلا ما يثبت كذبه.

ومن هنا إدّعى بعضٌ أصالة الصدق في أصحاب جميع المعصومين علیهم السلام ؛ مستدلاً عليه بأنَّه مِمّا يقتضيه الأصل العقلائي الذي يستفاد من قيام السيرة على معرفة آراء الشخص وآثاره وأقواله في اتباعه.

التاسعة: عرفت سابقاً أنَّ للوثوق مراتب متفاوتة, فهو من الأمور المشككة, فإنَّ أول مراتبها ظهور حال الراوي الذي يكون في مقام الإستناد مع إلتفاتة بأنَّ قوله يصلح لأنْ يكون منشأ للأثر مع عدم أمارة على كذبه, وبذلك يثبت أول مرتبة الصدق والوثوق, فيشمله ما دلَّ على اعتبار خبر الصادق والثقة مضافاً إلى السيرة العقلائية كما تقدم إذ لم يعهد منهم التأمل في القبول بعد تحقق مثل هذا الظهور لهم.

وقد يقال بأنَّه بناءً على ما ذكر تقبل رواية مجهول الحال فحينئذٍ يرجع البحث إلى أنَّ ظهور الكذب مانع عن القبول لا أنْ يكون الصدق والوثوق شرطاً له, وهو مِمّا لا تشمله الإطلاقات, لأنَّه من التمسك بالعام في الموضوع المشتبه وأنَّ المتيقن من السيرة العقلائية خلاف ذلك.

فإنَّه يقال: مجهول الحال كما هو المصطلح عليه عندهم تارةً؛ يراد به من لم يعرف عقيدته وإنْ كان موثوقاً به, ولا ريب في قبول خبره لما دلَّ على قبول خبر الثقة وإنْ كان فاسد العقيدة, فضلاً عمّا إذا لم يعلم عقيدته. وأخرى؛ يراد به الجهل بوثاقته وصدقه في مقالة من جهة شيوع القدح فيه, والظاهر سقوط ظهور حال الراوي الذي تقدم بيانه بالنسبة إليه فلا بدَّ من الرجوع إلى دليل آخر لاعتبار خبره, وهو إمّا إطلاق الأدلَّة اللفظية والسيرة

ص: 152

الشامل لخبر كلِّ من تحقق فيه أول مرتبة الوثوق بالنسبة إليه, وهو الموافق لسهولة الشريعة أيضاً, نظير ما قيل في بحث العدالة من أنَّ مقتضى الإطلاقات ترتيب آثار العدالة على من إتَّصف بأول مرتبتها ولا يعتبر الإتّصاف بأزيد منها فراجع.

أو لا بُدَّ من إحراز الوثوق بالصدور من قرائن أخرى كما تأتي الإشارة إليها فإنَّه حينئذٍ يقبل خبر من عرف بالكذب فضلاً عن مجهول الحال.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ بعض مراتب الضعف لا تنافي بعض مراتب الوثوق والصدق فلا وجه لطرح كل ضعيف خصوصاً بالنسبة إلى جملة كثيرة من التضعيفات كما لا يخفى على الخبير.

العاشرة: إنَّ مورد احتياج الخبر الموثوق به هو الأحكام الشرعية التكليفية الإلزامية كالواجبات والمحرمات, وأمّا غيرهما فلا حاجة إليه فإنَّ المعروف بين العلماء التسامح في أدلَّة السنن مع أنَّ دواعي الكذب فيها قليلة جداً خصوصاً مع بناء المعصومين علیهم السلام والثقات من الرواة على فضح من يُشم منه رائحة الكذب فيها مع العلم بوجود الكاذبين من عصر النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى زمان المعصومين علیهم السلام وكان لنفس هذه الإشاعة الأثر المهم في الإهتمام بالحديث نقلاً وضبطاً وناقلاً ومنقولاً عنه ومنقولاً اليه.

كما اهتم العلماء بإظهار كذب المفترين والكذابين مهما أمكنهم لذلك من سبيل بحيث يصحُّ أنْ يقال بأنَّ الكذب في الإستناد كان ملازماً لظهور الكذب وفضيحة الكاذب, ومن أجل ذلك يمكن تأسيس أصل معتبر وهو أصالة عدم تعمد المسلم في الكذب على النبي صلی الله علیه و آله و سلم وسائر المعصومين علیهم السلام , فلا وجه لملاحظة السند في غير الواجبات والمحرمات بعد فرض الإعتماد على المتن وتسامح العلماء فيه.

ص: 153

وأمّا الواجبات والمحرمات فإنَّ الأخبار المتضمنة لهما قد احتفَّت بقرائن معتبرة يحصل منها الوثوق بالصدور, لا سيما عند المتأخرين الذين بذلوا غاية جهدهم في تهذيب الفقه عن الأخبار الضعيفة والروايات النادرة, فلا ثمرة في تعيين طبقات الرجال بعد كون متن الحديث موثوقاً به من سائر الجهات.

الحادية عشرة: ذكرنا أنَّ الوثوق بالرواية لا ينحصر بخصوص السند الموثق, بل أنَّ موجبات الوثوق بالصدور كثيرة خصوصاً في عصر المعصومين علیهم السلام وأوائلالغيبة الكبرى يستخرجها الفقيه المتتبع في الروايات والكلمات, وقد جمعها بعض العلماء كما ذكر جملة منها المحدث العاملي قدس سره في الفائدة الثانية من خاتمة الوسائل؛ فراجع, ويصحُّ أنْ يعدّ من جملة القرائن المعتبرة التي يمكن الإعتماد عليها في الوثوق بالصدور هو أنَّ نسبة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وسائر المعصومين علیهم السلام إلى من يروي عنهم نسبة المعلم إلى المتعلم وهكذا؛ كلُّ طبقة سابقة إلى الطبقة اللاحقة المتلقين للأحاديث عنهم, ومقتضى العادة والسيرة أنَّ المتعلم لا يكذب على المعلم فيما يتعلم منه, وإنْ فعل ذلك لشاع وبان ولم يخفَ على أحد, كما أنَّ مقتضى العادة أنَّ في كلِّ دين ومذهب أقوام متخصصون في كلِّ عصر وزمان يهتمون بحفظ ما يتعلق بذلك المذهب ويبذلون وسعهم في سبيل حفظ تلك الآثار عن الدسِّ والإفتراء فيها, وهذه العادة جارية في مذهب الإمامية بل على نحو أشد وأتقن فإنَّهم المعروفون بالصلاح والثقة وأنَّ الداخل فيهم على غير هذه الصفة يظهر حاله ويتبين أمره في أقرب الأوقات؛ كما لا يخفى على من راجع أحوال الرواة؛ هذا مع قطع النظر عن عناية الله سبحانه بالشريعة الحتمية والمذهب الحقّ العدل, فإنَّ المقطوع به من عنايته الخاصة أنَّه تعالى يوفق في كلِّ عصر ثقات يحفظون هذا المذهب؛ رواية ونقلاً واجتهاداً وبحثاً وغير

ص: 154

ذلك مِمّا له الدخل في البقاء حتى يظهر الحقّ عجل الله تعالى فرجه الشريف, وهذا الأمر المتعارف يكون من طرق إحراز الوثوق ما لم تكن قرينة على الخلاف.

وربما يستشكل على هذه الطريقة في توثيق الروايات أنَّها تشبه طريقة العامة في عملهم بالأخبار المروية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؛ حيث يكتفون في التوثيق بظاهر الإسلام فيكون المناط عندهم مانعية الكذب لا شرطية الوثوق مطلقاً, وكما يشبه منهج الصوفية في العمل بكلِّ حديث منسوب إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم من دون التفات إلى الأسانيد؛ لاكتفائهم بحسن الظاهر. وهذان المنهجان مرفوضان عند الإمامية الذين اشترطوا في العمل بالأخبار والأحاديث شروطاً خاصة, منها: الوثاقة في الأسانيد كما عليه أكثر المتقدمين أو الوثاقة بالصدور كما عليه أغلب المتأخرين, بل إشترط بعضهم في الراوي العدالة لا مجرد الوثاقة.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنَّ هذه الطريقة لم تخرج عن الطريقة المألوفة عند الإمامية, فإنَّ الإعتماد على الوثاقة والصدق مطلقاً, إلا أنَّ الإختلاف في تعيين الأسلوب الذي يتحدد به تعيين الصدق والوثاقة, فإنَّ المعروف عند علمائنا تعيينه في الراوي بالشهادة والإشتهار ونحو ذلك, بينما في هذه الطريقة يمكن تحديده بغير ذلك مِمّا تدلُّ عليه السيرة ويشمله الإطلاق والعموم كما عرفت, فلا يصحُّ الإكتفاء بظاهر الإسلام إذا لم يقترن بالصدق والوثوق ولو في أدنى مراتبه ولم يعضده سيرة أو عموم وإطلاق كما لا يكتفي بحسن الظاهر كما تقدم.الثانية عشرة: إنَّ وثوق الراوي على قسمين:

الأول: الوثوق في القول.

الثاني: الوثوق كذلك مضافاً إلى أنَّه لا ينقل إلا عن الثقة, وهذا القسم كثير في رواة أحاديثنا ولا يختص بخصوص العدد المعروف عند علمائنا وهم الثمانية عشر الذين ادعى

ص: 155

الإجماع إلى اعتبار مراسيلهم, فإنَّ اعتبار مثل هذا الإجماع مورد بحث وإشكال, إلا أنْ يُراد من الإجماع إتّفاق جمع من أهل الخبرة لا الإجماع المصطلح حتى يستشكل عليه.

والحاصل من جميع ما ذكرناه أنَّ المعتبر في العمل بالأخبار والاحاديث هو الوثوق بالصدور سواء حصل من وثاقة الراوي أم من جهات أخرى معروفة ذكرنا بعضاً منها, والمعتبر من الوثوق أدنى مراتبه التي تشملها الإطلاقات والعمومات والسيرة العقلائية, كما أنَّ المعتبر في الراوي هو الوثوق من جهة الصدق فقط لا من كل جهة.

ومِمّا ذكرنا يظهر أنَّ جملة من التضعيفات الواردة في كتب الرجال يمكن أنْ تكون دخيلة من العامة أو من دسائس المعاندين, فإنَّ من يراجع كتبهم في هذا الموضوع يرى الطعن الكبير منهم لأحاديث الشيعة وكتب أخبارهم عناداً منهم مع الحق وأهله ومن أجل ذلك لا بُدَّ من التفحص الكامل من هذه الجهة, ومع ذلك لا ينفعهم توثيقاتنا كما لا ينفعنا توثيقاتهم, ولعل أهم ما ينفع الجميع هو التطبيق بين روايات الفريقين والأخذ بالمتفق عليه بيننا وبينهم وهو كثير جداً وإنْ اختلفت في العبارات, وبذلك ترتفع جملة من الإشكالات والخلافات والتفصيلات.

ثم أنَّ السيد الوالد قدس سره تعرض في المقام إلى بحث الإجتهاد والتقليد باعتبار كونهما من الحجج المعتبرة بين العقلاء وقد ذكرنا ما يتعلق بهما في الفقه وسيأتي في آخر بحث الأصول عمدة الكلام فيهما إنْ شاء الله تعالى.

إعتبار مطلق الظن

والبحث فيه إنَّما يقع بالمقدار الذي يفي بتقريب أصل البحث والإغماض عن التفاصيل التي ذكرها الأصوليون؛ فإنَّ كثيراً منها مجرد فرض وتقدير, وإنْ كان أصل هذا البحث فرض وتقدير أيضاً لأنَّه مبني على عدم تمامية الدليل على الحجج الشرعية وانسداد بابه,

ص: 156

مع أنَّه قد عرفت حجية بعض الظنون كخبر الثقة والشهرة ونحوهما وهي التي تسمى بالظنون الخاصة.

وكيف كان؛ فقد ذكر الأصوليون في حجية مطلق الظن أموراً:

الأمر الأول: إنَّ مخالفة الحكم الإلزامي المظنون مظنة للضرر ودفع الضرر المحتمل واجب فضلاً عن المظنون فيكون العمل بالظن القائم على الحكم الإلزامي واجباً وهو المطلوب.

ويرد عليه: عدم قبول الكبرى؛ فإنْ أريد من الضرر العقاب الأخروي فإنَّ الذي يجب دفعه ينحصر بما إذا كان في أطراف العلم الإجمالي أو في الشبهات اليدويةقبل الفحص وفي غيرهما تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان عقلاً والبراءة شرعاً وليس المقام منهما, وعلى فرض كونه من أحدهما فإنَّ صحة النتيجة متوقعة على تمامية باقي مقدمات الإنسداد لأنَّه حينئذٍ يصير من إحدى مقدماتها كما لا يخفى, وسيأتي عدم تمامية دليل الإنسداد.

وأمّا إذا كان المراد به الضرر الدنيوي فإنَّه يرد عليه:

1- إنَّ تبعية الأحكام مطلقاً للمصالح والمفاسد الدنيوية يحتاج إلى دليل وهو مفقود على نحو الطلاق والعموم كما تقدم منّا مكرراً وإنْ كان مِمّا لا يمكن إنكاره على الإجمال.

2- إنَّه ليس كل ضرر دنيوي يجب دفعه على الإطلاق بل السيرة العقلائية على خلاف ذلك فإنَّ بنائهم على ملاحظة الجهات الخارجية, فقد تقتضي تحمل الضرر لما يترتب عليه من المقاصد الصحيحة العقلائية التي يكون الضرر المحتمل بالنسبة إليها بحكم العدم إلا أنْ يكون الضرر على نحو لا يغلبه شيء من الأغراض العقلائية, فلا ريب في وجوب دفعه حينئذٍ ولا دليل على كون المقام كذلك إنْ لم يمكن على عدمه.

ص: 157

3- إنَّه على فرض تحققه فإنَّه إذا لم يدلُّ دليل على أنَ الحكم الذي في مورده من الكبائر فهو مكفّر بالحسنات كما تدلُّ عليه جملة من الآيات, منها قوله تعالى: ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(1), وهو يختص حينئذٍ فيما إذا كان الضرر المحتمل عقاباً أيضاً فلا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل في المقام كما هو واضح.

الأمر الثاني: إنَّ من البديهي وجود أحكام إلزامية في الشريعة ومع عدم العلم بها تفصيلاً وجب الإحتياط ومع تعسره وجب الأخذ بالمظنون.

الأمر الثالث: إنَّه بعد لزوم الأخذ بتلك الأحكام في الجملة لو لم يؤخذ بالمظنون لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح فيجب الأخذ بالمظنون.

ويرد على ذلك بأنَّ كلَّ واحد منهما هي مقدمة من مقدمات الإنسداد الآتية وهي لا تنتج إلا بعد انضمام سائر المقدمات التي يأتي بيانها.

الأمر الرابع: دليل الإنسداد وهو مركب من مقدمات خمس كما ذكرها المحقق الخراساني قدس سره (2) أغلبها قابلة للمناقشة, ولم يكن لهذا الدليل إسم ولا رسم في كتب المتقدمين وإنَّما

ذكره متأخري المتأخرين:الأولى: العلم إجمالاً بثبوت تكاليف إلزامية في الشريعة بل يكفي الإحتمال العقلائي بذلك.

الثانية: إنسداد باب العلم والعلمي في مقام تعيينها.

الثالثة: عدم جواز إهمالها بمجرد انسداد باب العلم فيها.

الرابعة: بطلان العمل بوظيفة الجاهل لعدم جواز الرجوع إلى القواعد والأصول المقررة في كل مسألة من البراءة أو الإحتياط أو الإستصحاب أو القرعة أو الأخذ بفتوى الغير.

ص: 158


1- . سورة هود؛ الآية 114.
2- . كفاية الأصول؛ ص311.

الخامسة: عدم جواز الأخذ بالموهومات في مقابل المظنونات؛ لبطلان ترجيح المرجوح على الراجح.

فإذا صحَّت جميع هذه المقدمات بتعين العمل بالظن لا محالة لأنَّه لو لم يؤخذ به فإمّا أنْ يكون من جهة الإهمال لكلِّ المحتملات؛ وهو خلف المقدمة الثالثة. أو من جهة إعتبار الجمع والإحتياط بلحاظها وهو خلف المقدمة الرابعة, أو بترجيح الموهوم على المظنون وهو خلف المقدمة الخامسة.

وهذه المقدمات قابلة للمناقشة من جهة التنسيق الفني أو من جهة أصلها وقوامها:

أمّا المقدمة الأولى؛ فإنَّ حقَّ التعبير فيها أنْ يقال فيها: نعلم بوجود أحكام في موارد الطرق المعتبرة تأسيساً أو إمضاءً بحث لو تفحصنا وظفرنا بها ورجعنا في غيرها إلى الأصول المعتبرة لم يلزم محذور عقلي ولا شرعي أبداً, وقد تفحصنا وظفرنا بها فنرجع في غيرها إلى الأصول المعتبرة, ولا ريب في صحة هذه المقدمة إذ لا ريب في تحققها خارجاً ومعها لا تصل النوبة إلى سائر المقدمات أصلاً لأنَّها عقيمة رأساً فلا حاجة إلى البحث عن سائر المقدمات صحة وفساداً.

توضيح ذلك: إنَّه لا إشكال في وجود العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في مجموع الشبهات والدليل عليه إمّا من جهة الإعتقاد بالشريعة والدين الذي يستلزم ثبوت أحكام وتشريعات إلزامية أو من جهة ملاحظة مجموع الأخبار والأمارات التي وردت في الفقه مِمّا تدلُّ على وجود تكاليف إلزامية في الشرع المبين.

إلا أنَّه قد يدعي إنحلال هذا العلم الإجمالي بعلم إجمالي أصغر منه بحث يمكن الإحتياط التام في أطرافه وقد ذكروا في تصوير هذه الدعوى وجوهاً:

1- إنحلال العلم الإجمالي بالتكاليف في مجموع الشبهات بالعلم الإجمالي في حدود الأمارات القائمة في الفقه على الحكم الشرعي فلا يجب الإحتياط في الشبهات

ص: 159

المجردة عن الأمارة على التكليف كما تقدم بيانه في بحث خبر الواحد وهذا الوجه صحيح في الجملة كما سيأتي, إذ لا دليل على أنَّ دائرة العلم الإجمالي الكبير أكثر عدداً مِمّا يعلم إجمالاً في دائرة الأمارات, وحينئذٍ الإحتياط في أطراف هذا العلم قد لا يوجب العسر والحرج.

2- إنحلال كِلا العلمين السابقين بالعلم الإجمالي في دائرة الروايات التي هي بأيدينا, وقد تقدم مثل ذلك في بحث حجية الخبر الواحد.

3- إنحلال كل العلوم الإجمالية بالعلم التفصيلي بالتكاليف الحاصل من الضرورات والمسلمات الفقهية أو الأدلَّة المتواترة والقطعية أو الإطمئنانات الشخصية, فإنَّ التكاليف الحاصل من مجموعها لا تقل عن المعلوم بالإجمال من التكاليف من مجموع الشبهات بحيث يسقط العلم بوجود تكاليف خارج عنها فينحل العلم الإنسدادي في مجموع الشبهات بذلك, وهذا وجه صحيح فلا يبقى موضوع للمقدمة الأولى كما عرفت وتنهار سائر المقدمات الأخرى لعدم تحقق الموضوع فيها.

وأمّا المقدمة الثانية؛ أي إنسداد باب العلم والعلمي فهي أيضاً غير تامة بالنسبة إلى إنسداد باب العلمي وإنْ كانت تامة بالنسبة إلى العلم في عصر الغيبة وفي بعض البلاد والحالات في عصر الحضور لأنَّه بعد قيام الأدلَّة على حجية الظهور والخبر الواحد فلا وجه لدعوى إنسداد باب العلمي في الفقه, يضاف إلى ذلك أنَّه قد عرفت مكرراً إنْ كان المراد بالعلم مطلق ما يوجب الإطمئنان وسكون النفس, كما هو كذلك في العلم الوارد في الكتاب والسنة, فلا ريب في انفتاح بابه في الأحكام كما لا يخفى على البصير وإنْ كان المراد به ماهو المصطلح عليه عند أهل العقول, أي ما لا يحتمل الخلاف فيه أصلاً.

ص: 160

فقد عرفت أنَّه وإنْ كان مسدوداً في غير الضروريات والمتواترات والمسلمات الفقهية وما استفاض فيه الروايات أو الإجماع القطعي ولكن باب العلمي مفتوح في الأحكام بعد حجية الظهور والخبر الواحد.

وأمّا المقدمة الثالثة؛ وهي عدم جواز إهمال التكاليف, فإنَّه مِمّا لا ريب فيها وذلك لأنَّه إمّا للقطع بأنَّ إهمال التكاليف المعلومة بالإجمال مبغوض لدى الشارع, أو للإجماع القطعي على عدم جواز الإهمال من الإمامية بل من المسلمين, وإمّا لأنَّ نفس هذا العلم الإجمالي منجز عقلاً فلا يصح الإهمال لدى العقلاء, وهي وجوه ثلاثة؛ عليها تبتني الكشف والحكومة في الظن الإنسدادي فإنَّه إنْ إستند البطلان إلى أحد الوجهين كانت النتيجة هي الكشف لكونها تابعة لأخسّ المقدمات, ولا ريب في أنَّ كلَّ واحد منهما شرعي لا أنْ يكون عقلياً وإنْ استند البطلان إلى الأخير نستنتج الحكومة لفرض كون جميع المقدمات عقلية حينئذٍ وسيأتي الكلام في هذا الموضوع وبيان صحة هذا التقسيم وعدمها.

إلا أنَّ الكلام في أنَّ هذه المقدمة هل يمكن إعتبارها مقدمة بحد نفسها أو أنَّها مستدركة لبيان عدم صحة الرجوع إلى البراءة في كلِّ الشبهات في قبال المقدمة الراجعة التي يقصد منها عدم لزوم الإحتياط في تمام الأطراف؟.

والحقُّ هو الأخير؛ لأنَّ عدم الرجوع إلى البراءة في تمام الأطراف؛ إمّا أنْ يرجع إلى انتفاء المقتضي أو يرجع إلى ثبوت المانع عنه؛

أمّا الأول؛ فالظاهر أنَّ المقتضي لجريان البراءة العقلية تام, وحينئذٍ إنْ تم ما ذكر في دليل الإنسداد والقول بحجية الظن عند الإنسداد فإنَّه يكون بياناً فلا يتحقق موضوع البراءة في المظنونات بخلاف المشكوكات والموهومات فإنَّ موضوع البراءة فيها تام فتجري بلا مانع لانحلال العلم الإجمالي بمنجزيته في المظنونات, وأمّا إذا لم يتم ما ذكر في دليل

ص: 161

الإنسداد ولم يصح ما ذكره المحقق الخراساني فيه كما عليه المشهور فلا مقتضي لجريان البراءة العقلية في المظنونات كما هو الصحيح المعتمد عليه.

وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّه لا مقتضي لجريان البراءة العقلية في المظنونات على جميع المسالك؛ لا على مسلك المشهور ولا على مسلك المحقق الخراساني, وأمّا البراءة الشرعية فقد يقال بأنَّه إنْ كان دليلها حديث الرفع وهو خبر واحد لا حجية له عند الإنسداد فلا مقتضي لها إثباتاً أيضاً, وأمّا إذا كان دليلها الكتاب الكريم كقوله تعالى: ﱥﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼﱤ(1), فإنْ بنينا على عدم حجية الظهورات فالنتيجة كما تقدم أيضاً وإلّا فالمقتضي للبراءة الشرعية يكون تامّاً إنْ لم يتحقق مانع عن إجرائها كما سيأتي بيانه.

وأمّا الثاني؛ وهو إبراز المانع من إجراء البراءة، وقد ذكروا موانع ثلاثة من جريان البراءة في تمام الشبهات:

الأول: الإجماع؛ فإنَّه لم يرخص فقيه إجراء البراءة في تمام الفقه.

الثاني: لزوم الخروج عن الدين؛ والمراد به الخروج عن مذاق الدين, فإنَّ الشارع لم يرض بترك هذا الكم الهائل من الأخبار والأحاديث التي تشتمل على الأحكام الشرعية وقد بذل علماء الطائفة الجهد الكبير في حفظها والاهتمام الشديد في إثباتها ونشرها, فانَّ الشارع لا يرضى بتركها جميعاً وإهمالها لمجرد عدم العلم بها.

الثالث: العلم الإجمالي الموجب لتساقط أصالة البراءة في أطرافه.

وقد إستشكل على كلِّ واحد من تلك الوجوه الثالثة:

أمّا الوجه الأول؛ فإنَّ ثبوت الإجماع في فرض الإنسداد موضع تشكيك, بل المتيقن منه عدم جريانها في الشبهات في حال الأنفتاح إذ لم يعهد عن المتقدمين الإنسداد كما تقدم بيانه.

ص: 162


1- . سورة الإسراء؛ الآية 15.

ولكن يمكن ردّه بأنَّه يصحُّ دعوى القطع ولو بملاحظة الوجه الثاني على عدم إجراء العلماء البراءة في جميع الشبهات كما هو واضح من مذاقهم في الفقه إلا أنْ يقال أنَّ هذا الوجه حينئذٍ يرجع إلى الوجه الثاني.وأمّا الوجه الثاني؛ فقد يقال بإرجاعه إلى الوجه الثالث بدعوى أنَّه لولا القطع بثبوت تكاليف إجمالاً لم يكن وجه لعدم إجراء البراءة في الشبهات, إذ لو احتمل عدم التكليف أصلاً لم يعرف أنَّ مذاق الشارع مانع عن جريانها.

ويمكن ردّ ذلك بأنَّ الوجه الثالث يبتني على إجراء الأصول في أطراف الشبهة ثم تساقطها, بينما الوجه الثاني لا يبتني على ذلك بل يبتني على أنَّ إجراء الأصول في تمام الأطراف يستلزم تفويت الشريعة ومعظم الفقه وهو مِمّا لم يرتض به الشارع وإنْ لم يكن مانع من إجراء الأصل في الأطراف.

وأمّا الوجه الثالث؛ فقد إستشكل عليه بما يلي:

1- إنَّ هذا العلم الإجمالي غير منجز, لأنَّ المكلف مضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف وهو ما يكفي عند بعض الأصوليين ومنهم صاحب الكفاية؛ في إسقاط العلم عن التنجيز في سائر الأطراف ولو كان الإضطرار إلى أطراف غير معينة.

وفيه: ما سيأتي في محله من عدم تمامية هذا المبنى, مع أنَّه يمكن أنْ يكون الإضطرار إلى معين كما إختاره المحقق العراقي قدس سره ؛ حيث حاول إرجاع الإضطرار إلى أطراف معينة وهي الموهومات أو مع المشكوكات وذلك لأنَّ الإضطرار إبتداءً وإنْ كان متوجهاً إلى غير المعين لأنَّه بملاك دفع العسر الناشيء من الإحتياط التام في تمام الأطراف فيرتفع باقتحام بعضها لا بعينه, إلا أنَّ أطراف الإحتياط ليست متساوية الأقدام, بل بعضها مظنون الإنطباق على المعلوم بالإجمال وبعضها موهومة أو مشكوكة, فالعقل يستقل بلزوم

ص: 163

صرف هذا الخروج عن قانون العلم الإجمالي إلى أبعد الأطراف عن المعلوم الإجمالي وهو الموهومات أو مع المشكوكات فيكون كالإضطرار إلى معين.

وما ذكره صحيح وإنْ حاول السيد الصدر قدس سره الرد عليه بما هو قابل للمناقشة فراجع.

2- ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ العمدة في إثبات المقدمة الثالثة هو الوجه الأول والثاني دون الوجه الثالث وهو العلم الإجمالي, لأنَّه باطل بانضمامه إلى الوجهين الأولين, وذلك بأنَّ كلَّ واحد من الوجهين لو تمّا فإنَّه يكشف عن وجود منجز في البين به ينحل العلم الإجمالي لفرض تنجزه في بعض أطرافه, فيدخل تحت كبرى انحلال العلم الإجمالي بقيام منجز في بعض أطرافه.

وأمّا إذا فرضنا عدم تمامية الوجهين والاقتصار على الثالث فلا ينتج حجية الظن بل غايته التبعيض في الإحتياط لأنَّ هذا العلم الإجمالي إنْبني على عدم منجزيته فلا تتعارض الأصول النافية في أطرافه, وإنْ بني على منجزيته فكلُّ شبهة سوف تكون منجزة بالعلم المذكور وحينئذٍ لا يعقل تنجزه ثانياً بالظن لأنَّ المتنجز لا يتنجز.

ويرد عليه: إن الوجهين لو تمّا فلا يحلان العلم الإجمالي لأنَّهما ينظران إلى أمر يختلف عمّا يرمي إليه الوجه الثالث, فإنَّهما يثبتان أنَّ الإقتحام في جميع الشبهات يوجب الخروج عن الدين وهو مخالف للإجماع القطعي ولكن إقتحام بعض الأطراف دون بعض لا يوجب المحذور المتقدم بينما الوجه الثالث وإنْ دلَّ على أنَّ العلم الإجمالي يوجب حرمة المخالفة القطعية كالوجهين المتقدمين أيضاً ولكن انحلاله يتوقف على قيام منجز تعييني في بعض أطرافه, والوجهان لا يقتضيان ذلك فلا يضران الوجه الثالث بل يمكن القول بأنَّهما لا ينفعان من دونه.

ص: 164


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص41-42.

وكيف كان؛ فكل واحد من الوجوه ينظر إلى جهة معينة, على أنَّ قوله قدس سره من أنَّ المتنجز لا يتنجز ثانياً غير تامّ بحدِّ نفسه على ما هو مذكور في المعضلات, هذا كلُّه ما يتعلق بالمقدمة الثالثة التي عرفت أنَّه مِمّا لا ريب فيها.

وأمّا المقدمة الرابعة؛ فهي صحيحة أيضاً, إذ لا يجب الإحتياط وغيره من القواعد التي تثبت التكليف.

أمّا الرجوع إلى العالم فلا يصح, لغرض إنسداد العلم والعلمي والرجوع إليه يكون من العلمي؛ هذا مع إباء نفوس المجتهدين عن الرجوع إلى غيرهم, بل قد ذكرنا في بحث الإجتهاد والتقليد أنَّه لا يصح بالنسبة اليهم.

وأمّا الإحتياط فقد ذكروا في المنع من الرجوع إليه وجوهاً:

الوجه الأول: إنَّ الإحتياط إذا كان تامّاً مخلاً للنظام أو موجباً للعسر والحرج فلا إشكال في أنَّهما منفيان لدى العقلاء كافة في كيفية الإمتثال, ويرون ذلك منكراً بل يلومون من احتاط بما يوجب العسر والحرج فضلاً عمّا يوجب إختلال النظام, ويكفي في ذلك عدم الردع في الشريعة فكيف بالأدلَّة الكثيرة؛ فإنَّ منها؛ ما يدلُّ على أنَّه لا حرج في الدين, ومنها؛ ما يدلُّ على سماحة الشرعية وسهولتها, ومنها؛ ما دلَّ على ان الشرع المبين قد لوحظ فيه أضعف الناس, ومنها؛ إهتمام الرواة والعلماء بحفظ الأخبار ونشرها وتعليمها وتعلمّها والتفقه فيها مِمّا يدلُّ جميع ذلك على نفي الإحتياط وسقوطه إذا كان إمتثاله يوجب العسر والحرج فضلاً عمّا إذا كان يوجب اختلال النظام.

وبالجملة؛ إنَّ الإمتثال الحرجي خلاف الطريقة العقلائية فيكون خلاف الطريقة الشرعية إلا مع التنصيص على الجواز -وهو مفقود- إنْ لم يكن تصريح بالمنع كما عرفت, ومع

ص: 165

وضوح ذلك فقد تمسك الشيخ الأنصاري قدس سره (1) بنفي هذاالنوع من الإحتياط بقاعدة نفي العسر والحرج, واستشكل عليه المحقق الخراساني قدس سره (2), والظاهر أنَّ النزاع بينهما يرجع إلى فقه القاعدة وتفسيرها.

وقد ذكر الأصوليون في تفسيرها آراءً:

1- ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (3) من أنَّ المراد من العسر والحرج المنفي هو الحكم الشرعي نفسه لكن بحسب آثاره ونتائجه, فإنَّه بحسب الدقة وإنْ لم يصدق عليه عنوان الحرج أو الضرر فإنَّه يصدق على آثاره, حيث تكون ضررية أو حرجية مسببة عن الحكم الشرعي فصحّ تطبيقه على السبب.

وعلى هذا يكون النفي نفياً حقيقياً, لأنَّه منصبّ على الحكم الشرعي القابل للرفع الحقيقي بعناية تلبيس الحكم عنوان نتيجته وأثره فيكون عنوان الضرر والحرج كناية عن الرفع.

2- ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنَّ هذه العناوين تنطبق حقيقة على متعلق الحكم الذي هو المنشأ الحقيقي للضرر أو الحرج كالوضوء الضرري أو الحرجي والحكم ليس إلا من دواعي الضرر أو الحرج, وعليه يكون نفي الضرر أو الحرج نفياً غير حقيقي, إذ لا يمكن نفي الموضوع الخارجي بل نفياً إدّعائياً طريقياً لنفي حكمه نظير قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَام)(4).

ص: 166


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص194.
2- . كفاية الأصول؛ ص314.
3- . فوائد الأصول؛ ج3 ص262.
4- . دعائم الإسلام؛ ج2 ص193.

3- ما ذهب إليه بعضٌ(1) من أنَّ النفي للضرر أو الحرج نفي حقيقي, لكن لما كان الضرر واقع خارجاً والمولى بما هو مولى ليس في مقام نفيه؛ فلا بُدَّ من تقييد إطلاق المنفي بالحرج أو الضرر الذي ينشأ من الشارع, وهذا التقييد قرينته معه وهي ظهور حال المولى في النفي المولوي.

وهناك وجوه أخرى يأتي ذكرها في البحث عن قاعدة الضرر والحرج.

وكيف كان؛ فإنَّه يمكن تقريب الإستدلال بقاعدة نفي العسر والحرج على نفي وجوب الإحتياط على التفسير الأول بوجوه:

أولها: تطبيق القاعدة على نفس التكاليف المعلومة بالإجمال, لأنَّها في حال الإنسداد تكون سبباً للإحتياط والحرج, وإنْ كانت في حال الإنفتاح وفي نفسها لا تكون حرجية.

وقد عرفت أنَّ الحكم قد ترتب عليه ما يترتب على أثره ونتيجته.وقيل: إنَّ هذا الوجه صحيح بناءً على علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة, وأمّا بناءً على إقتضائه لذلك فإنَّه يمكن أنْ يقال أنَّ الحرج لم ينشأ عن التكليف بل عن المركب منه ومن عدم الترخيص في الأطراف. والحقُّ أنَّه حتى بناءً على العلية فإنَّ الحكم بالاحتياط لم يكن سبباً للحرج, فإنَّ تشريع الإحتياط إنَّما هو من أجل الحفاظ على الحكم الواقعي إلا أنَّ الشارع له أنْ يقتصر على بعض الأطراف والتبعيض في الإحتياط في مقام رفع العسر والحرج فلا يستلزم الحكم بالإحتياط العسر والحرج وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ثانيها: تطبيق القاعدة على نفس وجوب الإحتياط.

وقد استشكل عليه صاحب الكفاية قدس سره بأنَّ وجوب الإحتياط عقلي, والقاعدة ترفع ما يكون من الشارع لا أحكام العقل.

ص: 167


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص440.

ويرد عليه: ما ذكرناه في بحث القطع من أنَّ الشارع يمكنه رفع حكم العقل والترخيص في المقام في بعض الأطراف إمّا لأنَّ حكم العقل معلق على عدم ترخيص الشارع وإمّا لأنَّ أحكام العقل هي أحكام شرعية باعتبار أنَّ العقل يدرك الوظائف العملية تجاه الشارع ومنها وجوب الإحتياط.

ثالثها: إجراء قاعدة نفي الحرج بلحاظ عدم الترخيص الشرعي في بعض الأطراف الذي ينشأ منه لزوم الإحتياط التام الحرجي.

وأمّا تقريب الإستدلال بها على التفسير الثاني الذي ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره من أنَّ مفاد القاعدة نفي الموضوع والمتعلق طريقاً إلى نفي الحكم, فقد إستشكل على تطبيق القاعدة بأنَّه لا موضوع لحكم شرعي ضرري لأنَّ متعلق التكاليف الواقعية في نفسه ليس بضرري ولا حرجي والحرج في الإحتياط ليس موضوعاً لحكم الشارع, وقد أُجيب عن هذا الإشكال بعدة وجوه:

منها: التوسعة في القاعدة ليشمل موضوع حكم العقل بوجوب الإحتياط إذا كان حرجياً أو ضررياً لكونه من تبعات التكاليف الشرعية فيقبل الرفع برفع منشأه فلا وجه لتخصيص القاعدة بالحكم الشرعي بالأصالة فقط.

ومنها: إنَّ القاعدة تنفي وجوب الإحتياط شرعاً المحتمل ثبوتاً, وبذلك تنفي ملاكه ومقتضيه أيضاً, أي عدم إهتمام المولى بملاكاته الإلزامية المتزاحمة في مقام الحفظ وهذا يكفي في إرتفاع موضوع حكم العقل بوجوب الإحتياط لأنَّه معلق على عدم وصول ترخيص شرعي ويرجع ذلك إلى ما ذكرناه من عدم إهتمام المولى بملاكاته الإلتزامية وهناك وجوه أخرى لا تخلو عن مناقشة.

ص: 168

وأمّا بناءً على التفسير الثالث فالأمر فيه واضح, فإنَّ الحرج الخارجي إنَّما نشأ من قبل الشارع لأنَّه من الإحتياط التام في مقام الإمتثال فينفيه بنفي منشأه ولو بإثبات الترخيص في بعض الأطراف.وهذه الوجوه وإنْ امكن تصحيحها وقبولها في المقام, ولكن الامر أوضح مِمّا ذكروه كما عرفت في أول البحث من أنَّ طريقة العقلاء في الإمتثال هي عدم العمل بالإحتياط إذا إستلزم الضرر أو الحرج والشارع لم يخرج عن طريقتهم في إمتثال أحكامه الشرعية ولم يردع عنها فضلاً عن إمضائها بأساليب متعددة.

الوجه الثاني(1): الإجماع على نفي الإحتياط وعدم وجوبه وهو يرجع إلى إتفاق العقلاء وليس من الإجماع الشرعي, فلا وجه للإشكال بما ذكروه في المقام.

هذا كله ما يتعلق بالإحتياط التام وأمّا الإحتياط الذي لا يوجب الضرر والحرج فقد ذكروا وجوهاً في نفيه أيضاً, ولكن عمدة ما يمكن أنْ يقال فيه أنَّ وجوبه منحصر بالعلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الواقع, ولكن لا أثر لهذا العلم الإجمالي؛

أمّا أولاً؛ فلأنَّ العلم الإجمالي الذي يمكن تصويره هو ما ذكرناه في إبتداء البحث من أنَّنا نعلم إجمالاً بتشريع أحكام في الشريعة لو تفحصنا عنها لظفرنا بها في موارد الطرق المعتبرة وقد تفحصنا واطلعنا عليها فيها فيزول العلم الإجمالي حينئذٍ رأساً فلا يبقى موضوع لوجوب الإحتياط من رأسه.

وأمّا ثانياً؛ فلأنَّ هذا العلم الإجمالي غير منجز من أساسه لخروج جملة كثيرة من أطرافه عن مورد الإبتلاء في كلِّ عصر وزمان, وان كان هذا الخروج يتغير بحسب الظروف والجهات

ص: 169


1- . في نفي الإحتياط.

الخارجية كخروج أحكام العبيد والإماء ونحوها في هذه الأعصار عن محل الإبتلاء, كما أنَّ في أوائل الإسلام قد خرجت جملة مهمة منها غير الضروريات عن مورد الإبتلاء.

والحاصل؛ إنَّ الإبتلاء وعدمه من الأمور التدريجية التي يطرأ عليها الكثرة والنقصان كما لا يخفى على العاقل فلا دليل على وجوب الإحتياط, إلا أنْ يقال: إنَّ العلم الإجمالي الكبير وإنْ كان كذلك حيث لا تنجز له من هذه الجهة, وأمّا العلم الإجمالي الصغير وهو الحاصل بين الأحكام الإبتلائية فلا ريب في تنجزه فيجب الإحتياط حينئذٍ وهو المطلوب.

ولكنه مردود بأنَّه منحلٌّ أيضاً ولا أثر له بسبب الأمارات المعتبرة والضروريات والمسلمات وغيرها فلا تنجز للعلم الإجمالي مطلقاً؛ كبيره وصغيره على حدٍّ سواء, فلا وجه لوجوب الإحتياط ولا تبعيضه كما لا يخفى, وأمّا الأصول والقواعد الأخرى فهي إمّا أنْ تكون مثبتة للتكليف فلا محذور من الرجوع إليها وإمّا أنْ تكون نافية، فقد اختلفوا فيها فذهب بعضهم إلى عدم صحة الرجوع إليها، وذلك لعدة أمور:

1- إمّا لأجل استلزامه الخروج عن الدين.

2- وإمّا لأجل الإجماع على ذلك.

3- أو لأجل العلم الإجمالي بثبوت أحكام إلزامية في البين.ففي إجراء الإستصحاب يلزم التناقض بين صدر دليل الإستصحاب وذيله وسيأتي بيانه كما لا يجري سائر الأصول معه أيضاً لاختصاصها بالشك البدوي دون المقرون بالعلم الإجمالي.

والجميع مورد نقاش ونظر؛ أمّا الأمر الأول فهو صحيح إنْ جرت الأصول في جميع أحكام الشريعة أو معظمها ولا يقول به أحد, فإنَّ العقلاء إنَّما يجرون الأصول في مورد فقد الأمارات والقواعد المثبتة المعتبرة وهي موجودة وكافية فيرجع في غيرها إلى الأصول

ص: 170

النافية. وأمّا الثاني فإنَّه قد استقر بناء الفقهاء إلى الرجوع إليها بعد الفحص واليأس عن غيرها. وأمّا الثالث فلما مرّ من سقوط العلم الإجمالي عن التنجز فالمقتضي لجريانها موجود والمانع مفقود, وقد ذكر في الإستصحاب بالخصوص أيضاً من أنَّه لا يمكن الإكتفاء به في نفي التكاليف لأنَّ دليل الإستصحاب أخبار الآحاد وهي غير حجة عند الإنسدادي ولو فرض قطعية أسانيدها ودلالاتها فإنَّ الإستصحابات النافية ساقطة بالمعارضة حالها حال البراءة أو لما ذكر من التناقض بين الصدر والذيل, وأمّا الإستصحابات المثبتة للتكليف فقد ذكرنا أنَّه لا مانع من جريانها لعدم وجود محذور في البين مِمّا ذكر أو لقلة مواردها في الشبهات الحكمية بحيث يمكن القول بصحتها جميعاً, وإذا فرض العلم بانتقاض بعضها إجمالاً مع عدم إمكان تعيينها وهو متحقق حتى عند الإنفتاحي, خصوصاً في دائرة المعاملات التي تجري فيها أصالة الفساد إذا قلنا أنَّها ترجع إلى إستصحاب عدم ترتب الأثر الشرعي فلا يضرّ بجريانها على ما هو الصحيح كما سيأتي بيانه.

ولكن أشكل الشيخ الأنصاري قدس سره (1) في جريان الإستصحاب المثبت مع العلم بالإنتقاض بلزوم التناقض بين صدر دليله وذيله.

وأورد عليه المحقق الخراساني قدس سره (2) بأنَّ ذلك إنَّما يتجه إذا كان أطراف العلم الإجمالي كلها مِمّا يلتفت إليها الفقيه في عرض واحد كما إذا كانت محدودة، وأمّا إذا كانت كثيرة وفي تمام الفقه فكلُّ شبهة منها عندما يجري الإستصحاب المثبت فيها تكون الشبهات الأخرى مغفول عنها, فلا يجري الإستصحاب فيها ليلزم التناقض بين الصدر والذيل في أدلَّة الإستصحاب كما ذكره الشيخ قدس سره .

ص: 171


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص563-564.
2- . كفاية الأصول؛ ص430.

ويرد عليه: إنَّ الغفلة وعدم الإلتفات الفعلي عن الشك لا يمنع من جريان الإستصحاب لوجود الشك إرتكازاً, فإنَّ الشكَّ قد يجامع الغفلة والإلتفات كالعلم ولا يشترط في جريان الإستصحاب أنْ يكون الشك الموضوع له ملتفتاً إليه كما سيأتي بيانه في محله ولكن مِمّا يهون الخطب أنَّ أصل إشكال مناقضة الصدر والذيل فيالإستصحاب مطلقاً غير وارد لأنَّ محذور جريان الأصول النافية في أطراف العلم الإجمالي تارةً؛ ثبوتي وأخرى؛ إثباتي.

أمّا الأول: فإنَّ القول بوجوب الإجتناب -مثلاً- عن جميع الأطراف مقدمة للعلم, وعدم وجوب الإجتناب عن أحدهما محذور بنفسه لا ينبغي صدوره عن عاقل فضلاً عن الحكيم, وكذا عدم وجوب الإجتناب عن الأطراف جميعاً للأصل مع وجوب الإجتناب عن أحدهما لا بعينه.

وأمّا الثاني: فإنَّه بناءً على شمول اليقين في قول الإمام الصادق علیه السلام : (وَلَا تَنْقُضِ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ وإِنَّمَا تَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَر)(1) لليقين الإجمالي أيضاً, فإنَّ لزوم التناقض إنَّما يتحقق باعتبار أنَّ مقتضى الصدر حرمة نقض اليقين بالشكّ في كلِّ واحد من الطرفين, ومقتضى الذيل عدم حرمة نقض اليقين بالشكِّ في مورد العلم الإجمالي فيلزم التناقض.

ويرد عليه:

أولاً: إمكان منع شموله لليقين الإجمالي فلا يلزم المحذور كما سيأتي بيانه.

وثانياً: على فرض الشمول فإنَّ اليقين الإجمالي إمّا أنْ يلحظ بالنسبة إلى يقين كل واحد من الطرفين بالخصوص الذي كان سابقاً ثم شك في البقاء أو بالنسبة إلى مجموعهما من حيث المجموع, أو بالنسبة إلى المردد من حيث الترديد, أو بالنسبة إلى المعلوم واقعاً وفي علم الله

ص: 172


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص245.

تعالى. والجميع لا يجري فيه الإستصحاب؛

أمّا الأول؛ فلا ريب في عدم اليقين بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين على خلاف اليقين الإستصحابي.

وأمّا الثاني؛ فلا ريب أيضاً في عدم تحققه في الخارج حتى يكون مجرى الإستصحاب ليلزم التناقض المزبور لأنَّ مجراه هو الفرد الشخصي الخارجي والمجموع من حيث المجموع ليس إلا أمراً وهمياً.

وأمّا الثالث؛ فلا تحقق له أصلاً لا خارجاً ولا ذهناً.

وأمّا الرابع؛ فهو حق ولكنه ليس مجرى الإستصحاب في شي حتى يلزم التناقض في دليله. إذ لا شك فيه مع أنَّه ليس له أثر عملي لفرض التردد الظاهري.

لكن ما ذكر وإنْ كان صحيحاً إلا أنَّه يمكن لنا القول بأنَّ التنافي في الثبوتي بين جريان الأصول في الأطراف والعلم الإجمالي بالخلاف يسري إلى مقام الإثبات أيضاً لمكان التلازم العرفي بينهما كما هو واضح, ولعل هذا هو مراد من قول بلزوم التناقض, أي التنافي بالعرض لا بالذات, وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات فيمن ينفيه, أي ما بالذات ومن يثبته, أي ما بالعرض.والحاصل؛ إنَّه لا بأس بالإستصحاب المثبت للتكليف لكنه لا يضر الإنسدادي لقلة موارده فلا يوجب مع ضمه إلى المعلوم تفصيلاً إنحلال العلم الإجمالي الكبير وأمّا الإستصحاب المنفي للتكليف فلا مجرى له, وأمّا سائر الأصول النافية فلا مجرى لها في أطراف العلم الإجمالي لأنَّ جريانها يكون في الشبهات البدوية لا أطراف العلم الإجمالي.

وأمّا القرعة لو قلنا بصحة إجراءها لإثبات حكم أو نفيه فالكلام فيها نفس ما ذكر في الإستصحاب المثبت مع أنَّه قد أورد عليها:

1- إنَّه لا مقتضي لحجيتها, إذ دليلها أخبار الآحاد.

ص: 173

وفيه: إنَّ الأخبار التي وردت في القرعة يمكن الإعتماد عليها إنْ لم نقل بأنَّها مستفيضة.

2- إنَّ الفقهاء جعلوا قاعدة القرعة في طول إنعدام الوظائف الشرعية والعقلية فلو كان ما يحلّ المشكل ولو عقلاً لارتفع موضوعها كما هو المستفاد من أخبار القرعة فلا يعقل أنْ تكون رافعة لحجية الظن كشفاً أو حكومة.

وهذا صحيح على ما سيأتي في قاعدة القرعة فلا مجرى لها لارتفاع موضوعها مع وجود الظن الذي يقيم على حجية الإنسدادي الدليلي العقلي.

وأمّا أصالة التخيير فالمعروف أنَّه لا دليل عليها إلا في موارد الدوران بين المحذورين ولا بأس به, ولكنه لا يضرّ بالعلم الإجمالي فلا يقيد الإنسدادي.

هذا كله ما يتعلق بالمقدمة الرابعة.

وأمّا المقدمة الخامسة؛ التي هي قبح ترجيح الموهوم على المظنون عند الدوران بينهما فهي صحيحة بعد تمامية المقدمات السابقة فيتعين الأخذ بالمظنونات فتكون كالنتيجة للمقدمات السابقة لو تمت.

وذكر بعض الأصوليين أنَّ هذه المقدمة لا بُدَّ أنْ تدرس على المسالك المختلفة من التبعيض في الإحتياط والكشف والحكومة المدَّعاة من قبل بعض الأصوليين, وأطال الكلام في ذلك ولكنه تطويل بلا طائل تحته, فإنَّه على جميع المسالك هذه المقدمة تامة لا إشكال فيها بعد تمامية المقدمات السابقة.

وقد إتَّضح من جميع ما تقدم أنَّه لا ثبوت لدليل الإنسداد أصلاً, وعلى فرض ثبوته فهو يفيد التبعيض في الإحتياط لو فرض أنَّ دائرة العلم الإجمالي بالأحكام أوسع من موارد الأمارات والقواعد والأصول المعتبرة فيعمل حينئذٍ بالإحتياط حتى يضعف العلم وتصير الأفراد كالشك البدوي عرفاً فيعمل بالأصول النافية حينئذٍ, ومن هنا يمكن

ص: 174

توجيه كلام الأصوليين في المقام بأنْ نقول: إنَّ من يذهب إلى أنَّ نتيجة دليل الإنسداد هي العمل بالأصول النافية, أي بعد ضعف العلم الإجمالي وصيرورة إطلاقه كالشك البدوي ومن قال بأنَّ بالتبعيض في الإحتياط أي قبل ذلك فيصير النزاع لفظياً بلا ثمرة.

ينبغي التنبيه على أمور

الأمر الأول: لو فرض تمامية دليل الإنسداد فهل تكون نتيجة إعتبار الظن في المسألة الأصولية, أي الحجية والطريقية, أي الظن بالطريق فقط, أو في نفس الأحكام فقط أي الظن بالواقع أو فيهما معاً.

وذهب بعضٌ إلى الأول مستدّلين بوجوه:

الوجه الأول: إنحصار الواقعيات بمؤدياتها والإنسدادي يريد من إثبات حجية الظن كونه طريقاً إلى الواقع.

وأورد عليه بأنَّه يستلزم منه التصويب المحال أو المجمع على بطلانه.

الوجه الثاني: إنَّ امتثال التكاليف لا بُدَّ أنْ يكون من الطرق التي تثبت حجيتها بدليل الإنسداد.

وفيه: إنَّه لا دليل على ذلك بعد الإنسداد إلا ما منع عن العمل بالقياس والاستحسان ونحوهما وذلك لا يستلزم التقييد, نعم؛ هناك ملازمة غالبية بين التكاليف وتلك الطرق ولكن لا تصل إلى التقييد.

الوجه الثالث: إنَّ الظن بالطريق أقرب إلى الواقع.

وفيه: إنَّه مجرد دعوى.

الوجه الرابع: إنَّ العلم بالواقع يستلزم العلم بجعل طريقاً إليه أيضاً فإذا تمَّ دليل الإنسداد يعمل بالظن بالطريق وفي غير ذلك يرجع فيه إلى البراءة.

ص: 175

وأشكل عليه بأنَّ الطريق المجعول لا موضوعية فيه بوجه بل هو طريق محض إلى الواقع والمدار كله عليه فلا أثر في جعل الطريق على فرض حجيته إلا الطريقية.

والصحيح عدم الفرق في الحجية على فرض تمامية المقدمات بين الظن بالواقع أو بالطريق أو بهما, للملازمة الغالبية بينهما.

والحقُّ ما ذكره السيد الوالد قدس سره سقوط هذا البحث من أصله لأنَّ دليل الإنسداد من المسائل الأصولية, والمناط في المسألة الأصولية ما كانت مستلزمة لصحة الإعتذار وحينئذٍ فكل ظن مطلق صحّ الإعتذار به لدى الشارع الأقدس يشمله دليل الإنسداد سواء كان في الطريق أم في الحكم أم فيهما معاً بلا واسطة أم معها بخلاف ما لا يصح الإعتذار به؛ فإنَّه لا يشمله دليل الإنسداد؛ سواء كان في الطريق أم في غيره.

مع أنَّ ظاهر العلماء التسالم على لزوم الأثر الشرعي فيه فالطريق المجرد عنه لا فائدة فيه كما أنَّ النزاع المزبور عديم الفائدة باعتبار أنَّ الظن بالطريق يستلزم الظن بالواقع وبالعكس غالباً, وإنْ لم يكن دائمياً فإنَّه قد ينفك أحدهما عن الآخر عقلاً بل وأحياناً في الخارج أيضاً ولكنه لا يوجب تفصيل القول فيه.الأمر الثاني: هل تكون نتيجة دليل الإنسداد لو تمّ اعتبار الظن شرعاً المعبر عنه بالكشف أو لغاية إمتثال المظنونات المعبر عنه بالحكومة, قبل بيان الحق في هذا الموضوع لا بُدَّ من تفسيرهما وبيان الفرق بينهما.

فقد ذكر بعضهم أنَّ المراد بالكشف حجية الظن شرعاً, غاية الأمر أنَّه يستكشف بدليل الإنسداد العقلي أو الملفق من مقدمات عقلية ونقلية, فتكون الحجية المجعولة للظن حجية شرعية جعلها المولى.

ص: 176

وأمّا حجية الظن على الحكومة فقد فسرها المحقق الخراساني قدس سره (1) بأنَّها حكم العقل بحجية الظن عند الإنسداد على حدِّ حكمه بحجية القطع عند الإنفتاح.

واستشكل عليه المحقق النائيني قدس سره (2) بأنَّ هذه الحجية المدعاة للظن بحكم العقل إمّا أنْ تكون مجعولة أو تكون منجعلة. وعلى الأول؛ يكون معناه أنَّ العقل يجعل الحجية للظن وهو غير صحيح لأنَّ العقل شأنه الإدراك لا الجعل والتشريع, وعلى الثاني؛ فهذا معناه أنَّ الحجية من لوازم الظن وذاتياته لأنَّ ما لا يكون من لوازم موضوع ذاتاً لا يكون مجعولاً بجعله, مع أنَّه قد عرفت سابقاً أنَّ الحجية ليست ذاتية لغير العلم, فلو لم يحكم الشارع بحجية الظن ومنجزيته فإنَّه يحكم العقل في مورده بقبح العقاب بلا بيان.

وأُجيب عنه بأنَّ حجية الظن على الحكومة منجعلة له عند الإنسداد كالحجية للقطع, غاية الأمر أنها ليست من لوازم ماهية الظن مطلقاً, بل تكون من لوازم الوجود التي يكون ترتبها على الملزوم موقوف على تحقق شرطه كالإحراق المترتب على النار بشرط الجفاف مثلاً أو الملاقاة والشرط في المقام هو الظن بشرط إنسداد باب العلم الإجمالي فيحكم العقل بحجيته, فيرجع روح المطلب حينئذٍ إلى دعوى إدراك العقل أنَّ الظن في حال الإنسداد كافٍ للبيانية وارتفاع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

مع أنَّه قد عرفت في بحث القطع أنَّ الحجية الذاتية يمكن أنْ ينالها جعل الشارع تأكيداً أو ردعاً ونحو ذلك وما ذكرناه في المقام شاهد على ما تقدم فراجع وتأمل.

كما أنَّه يمكن أنْ يشكل على ما ذكره المحقق النائيني قدس سره لنفي حكم العقل بحجية الظن أيضاً من أنَّه حتى لو تمت مقدمات الإنسداد فإنَّه لا ينتج حجية الظن بحكم العقل لأنَّ

ص: 177


1- . كفاية الأصول؛ ص204.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص264.

الظن مع قطع النظر عن العلم الإجمالي لا يمكن أنْ يكون بياناً رافعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان الذي يقول به المحقق النائيني وغيره, لأنَّ حاكمية الظن على القاعدة خلاف كون العقل مدركاً لا جاعلاً ومشرعاً.نعم؛ العلم الإجمالي بنفسه منجز, وهو يقتضي الإحتياط لولا الدليل على عدم لزومه فيكون الحكم هو التبعيض في الإحتياط وهو غير حجية الظن بحكم العقل.

ثم أنَّ المحقق النائيني قدس سره بعد رده على شيخه الخراساني حاول أنْ يذكر وجهاً آخر في بيان الحكومة على مسلك التبعيض في الإحتياط وخلاصة ما ذكره قدس سره في ضمن قضايا فرضية:

الأولى: أنْ يُراد حجية الظن بحكم العقل في مقام الإمتثال والخروج عن عهدة التكليف المنجز بالعلم الإجمالي, وحيث أنَّه فرض عدم إمكان الإحتياط والإمتثال اليقيني أو عدم وجوبه شرعاً فإنَّه حينئذٍ يحكم العقل بلزوم الإمتثال الظني وليس المقصود تنجز التكليف بالظن حتى يكون منافياً لقبح العقاب بلا بيان ولكن لما لم يجب الإحتياط في الجميع كما عرفت فيجب الإحتياط في الباقي بقانون منجزية العلم الإجمالي وهذا هو التبعيض في الإحتياط.

الثانية: أنْ يُراد به أنَّ الظن يوجب صرف تنجيز العلم الإجمالي إلى الطرف المظنون بعد عدم إمكان الموافقة القطعية أو عدم وجوبها أي عدم تنجزه من جميع الأطراف.

الثالثة: إنَّ العلم الإجمالي وإنْ كان ينجز الجامع وأمّا الأطراف بخصوصياتها متنجز بالإحتمال بعد تعارض الأصول فيها إلا أنَّه حيث تتزاحم الإحتمالات في مقام التنجيز بعد عدم وجوب الإحتياط التام يكون الظن مرجحاً في حل التزاحم.

ص: 178

الرابعة: إنَّ التنجز من حيث الأصول ثابت للتكليف في أي طرف من أطراف العلم الإجمالي ولكن الإضطرار يوجب ترك الإحتياط الذي قد يؤدي إلى ترك بعض التكاليف المعلومة بالإجمال من حيث الوصول فلا بُدَّ من ترجيح المظنونات على المشكوكات والموهومات بقوة احتمال الأهمية التي هي من المرجحات في التزاحم.

والظاهر؛ إنَّ جميع تلك الأمور الفرضية ترجع إلى نتيجة واحدة في الواقع وإنْ إختلفت صياغتها حسب اختلاف المباني في منجزية العلم الإجمالي.

والصحيح ما اختاره السيد الوالد قدس سره (1) في الحكومة الذي ذكر في توجيهه أنَّه بعد فرض تمامية مقدمات الإنسداد يحكم العقل بكفاية الإمتثال الظني ما لم يردع عنه الشارع كما في القياس ونحوه ولا نحتاج بعد ذلك إلى استكشاف حكم الشرع ولو فرض تحققه يكون إرشاداً محضاً أو مؤكداً لفرض كفاية المقدمات في لزوم الإمتثال الظني وكفايته عقلاً.

قد يقال: إنَّ معنى الحجية هو أنْ يكون الشيء تخصص به العمومات أو تقيّد به المطلقات ويعمل به كسائر الحجج المعتبرة والظن بناءً على الحكومة لا يكونكذلك فإن معناه كفاية الإمتثال الظني وليس هذا من الحجية بشيء, بل يكون نظير كفاية الإحتياط في الإمتثال.

فإنَّه يقال: إنَّ ما ذكر مبني على إصطلاحهم في الحجية ولكن إذا قلنا أنَّها عند العقلاء ما يصح أنْ يحتجّ بها العبد لدى المولى فلا ريب في إطلاقها بهذا المعنى على الظن بناءً على الحكومة فلا محذور من تخصيص العام أو تقييد الإطلاق به لأنَّ من مقدماته العلم بالأحكام وهو حجة بالذات, مع أنَّ الحجية إنَّما هي لأجل الطريقية للإمتثال ولا موضوعية فيها بوجه, وهذا هو الأصل الذي لا بُدَّ أنْ يعتنى ويهتم به فلا ثمرة عملية في هذا البحث بل ولا علمية معتنى بها وإنْ أطالوا الكلام فيه.

ص: 179


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص147.

وأمّا القول بأنَّ مدرك بطلان الإحتياط هو الإجماع وهو دليل شرعي فيكون الظن حجة شرعية من أجله لأنَّه من مقدماته؛ فهو غير تام, لأنَّ بطلان الإحتياط المطلق أوضح من أنَّ يخفى -كما عرفت- ولا ريب في كونه عقلائياً ولو فرض تماميته فهو حاصل من المرتكزات العقلائية لا أنْ يكون إجماعاً فقهياً معتبراً كما تقدم سابقاً.

الأمر الثالث: لو فرض تمامية مقدمات الإنسداد وحجية الظن فإنَّه يقع السؤال من أنَّ هذه النتيجة كلية تشمل جميع الخصوصيات بمعنى إعتبار الظن من أيّ سبب حصل وفي أي مورد وبأي مرتبة كان.

أو أنَّها مهملة من هذه النواحي ويحتاج التعميم إلى دليل آخر فيكون دليل الإنسداد على فرض تماميته جزء الدليل لا أنْ يكون تمامه.

ذهب بعض الأصوليين إلى الثاني والقول بالتعميم على فرض الإهمال ثم استدلوا عليه بأمور:

1- الإجماع عليه.

وفيه: إنَّ الموضوع من المستحدثات, فلا يمكن تحصيل الإجماع عليه مع أنَّ التعميم مع الإحتياج إليه من المرتكزات, فلا يمكن أنْ يكون من الإجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم علیه السلام لا سيما في هذه المسألة التي تبتني على مقدمات جعلية فكرية صرفة نظير المقدمات المنطقية الفكرية.

2- الظن بعد تمامية دليل الإنسداد يكون كالقطع مطلقاً فلا يفرق فيه بين الموارد والأسباب والمراتب.

ويرد عليه: إنه كذلك لو لم يكن قدر متيقن للثلاثة من المورد والسبب والمرتبة في البين ومع وجوده يكون تنظيره بالقطع من القياس مع الفارق كما لا يخفى.

ص: 180

3- إنَّ مقتضى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في جميع موارد الظنون ومراتبها واسبابها هو التعميم.

ويرد عليه بانحلال العلم الإجمالي بما هو المتيقن الإعتبار في الجهات الثلاث.1- إنَّ الإطلاق هو مقتضى قاعدة الإشتغال بعد العلم باعتبار الظن في الجملة.

وفيه: أنْ لا موضوع لقاعدة الإشتغال في غير معلوم الإعتبار كما عرفت.

وذهب آخرون إلى الأول وكون الظن على الإطلاق إلا مع القرينة على الخلاف وذلك لأنَّ مقتضى طبع الإستدلال على شيء أنْ يكون وافياً بحدود المدلول وقيوده مطلقاً وهو مقتضى سيرة العقلاء أيضاً في العلوم والمحاورات وأمّا الإجمال والإهمال فهما أمران طارئان خلاف السيرة العقلائية إلا إذا تعلق غرض خاص بهما فلا بُدَّ من نصب قرينة عليه, ولا فرق في ذلك بين الكشف والحكومة إلا مع وجود الظن الإطمئناني في البين, فإنَّ مقتضى بناء العقلاء والمتشرعة عدم التعدي عنه إلى غيره, وكذا لو فرض اهمية المورد بحيث لا يكتفي فيه بغير الإطمئناني منه أو بأصل الظن مطلقاً وتشخيص ذلك ليس من وظيفة الأصول فيرجع فيه إلى الفقه.

ويمكن أنْ يجعل النزاع لفظياً, فمن قال بالإهمال أي الإكتفاء بالقدر المتيقن لو كان, ومن قال بالتعميم يقول به بحسب عموم الدليل ثبوتاً ولكن مع وجود القدر المتيقن الكافي يجب الإقتصار عليه خارجاً ولا يجتزئ فقيه التعدى عنه.

كما أنَّه لو كانت أسباب حصول الظن ومرتبته وموارده متَّحدة من تمام الجهات فالنتيجة كلية لا محالة, ومع الإختلاف بالقوة والضعف وبالأهمية يتحقق القدر المتيقن, فيقتصر عليه مع الكفاية ويتعدى عنه مع عدمها.

ولا يخفى سقوط هذا النزاع من أصله لعدم اجتراء أحد على التعدي عن المتيقن إلى غيره سواء قلنا بالكلية أم بالإهمال فلا ثمرة لهذا البحث كما لا يخفى.

ص: 181

الأمر الرابع: بعد فرض تمامية مقدمات الإنسداد وحجية الظن مطلقاً كما تقدم لكن ورد النهي عن الظن الحاصل من القياس وقد عمل به الإمامية فلم يعتمدوا على الظن القياسي إلا أنَّه قد استشكل بعضهم في هذا النهي بوجهين:

الوجه الأول: إنَّ القياس كسائر موارد الظن قد يصيب الواقع وربما يخطئ فيكون النهي عنه موجباً لتفويت الواقع على المكلفين عند الإصابة وهو منافٍ لمقام الشارعية بلا فرق بين القول بالكشف أو الحكومة.

وأورد عليه بأنَّ إصابة الواقع أحياناً في القياس مع المفاسد الكثيرة المترتبة عليه يعتبر من الخير القليل النادر الذي يستلزم منه الشر الكثير وليس بناء العقلاء العمل بمثل ذلك وتحمّل الخبر القليل مِمّا يوجب الوقوع في الشر الكثير بل لا يلتفتون إلى مثل هذا الخير القليل.

الوجه الثاني: إنَّه بناءً على الحكومة يكون الظن كالقطع عند العقل فكما لا يصحُّ النهي عن إتّباع القطع فكذا الظن الإنسدادي بناءً على الحكومة وقد اشتهر أنَّ الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص.وفيه: إنَّ الحكم العقلي الذي لا يقبل التخصيص يختص بالعقل الحاكم المحيط بكلِّ ماله دخل في حكمه من الجزئيات والكليات أو الجزء والكلّ إحاطة واقعية من كلّ حيثية وجهة, ومثل هذه العقول مختصة بمن كان مؤيداً بروح القدس الذي ينكشف عليه الواقع فيراه على ما هو عليه, وأمّا سائر العقول فإنَّ أحكامها مطلقاً تعليقية وليست تنجيزية فهي معلقة على عدم ورود التخطئة أو التخصيص من عقل قاهر آخر يكون نسبة جميع العقول إليه نسبة الشمعة إلى الشمس, فإذا ورد منه التخطئة أو التخصيص فلا حكم لها أصلاً كما هو واضح.

ص: 182

الأمر الخامس: لو قام ظن على عدم اعتبار ظن آخر يتعين الأخذ بالظن المانع لأنَّ المحتملات في المقام أربعة:

الأول: طرح المانع والممنوع معاً, وهو مخالف لتمامية النتيجة كما هو المفروض.

الثاني: الأخذ بهما معاً ولكنه مخالف لاعتبار الظن المانع ومستلزم للجمع بين المتمانعين وهو باطل.

الثالث: الأخذ بالظن الممنوع وهو يستلزم ترجيح المرجوح المخالف لحكم العقل.

الرابع: أخذ الظن المانع وترك الظن الممنوع وهو المتعين فهو من قبيل دوران الأمر بين التخصص والتخصيص, فإنَّ إخراج الظن المانع عن المقدمات يحتاج إلى مخصص ولكن خروج الظن الممنوع عنها إنَّما يثبت بوجود الظن المانع ومع دوران الأمر بينهما فإنَّ مقتضى المحاورات العقلائية تقديم التخصص على التخصيص كما تقدم بيانه في مباحث الألفاظ وإنْ كنّا ذكرنا هناك أنَّ تقديم أحدهما على الآخر يكون تابعاً للظهور المحاوري عند العرف فراجع.

الأمر السادس: إذا تمَّ دليل الإنسداد وقلنا بحجية الظن فإنَّ ما يترتب على ذلك إمّا القول بحجية الظن في إثبات الواقع المعبّر عنه بالكشف, وإمّا القول بحجيته لغاية إمتثال مظنونات التكليف المعبّر عنه بالحكومة وقد تقدم الكلام فيها, وإمّا القول بحجية من اجل اعتبار الظن بالفراغ بعد تعلق أصل التكليف وثبوته بحجة معتبرة وذهب الأصوليون إلى أنَّ ذلك لا ربط له بدليل الإنسداد أبداً لعدم تكفل مقدماته له ولابدَّ أنْ تكون النتيجة تابعة لها فإنَّ من المقدمات العلم بالواقع إجمالاًوانسداد باب العلم والعلمي بالنسبة إليه, والمفروض العلم بالواقع تفصيلاً وتنجز التكليف به فعلاً, وأمّا الظن بالإمتثال فلا ربط له بدليل الإنسداد بل مقتضى أصالة عدم الحجية عدم إعتبار مثل هذا

ص: 183

الظن, كما أنَّ مقتضى قاعدة الإشتغال اليقيني تحصيل الفراغ يقيناً ولا يكتفى بالظن به إلا إذا دلَّ دليل خاص على اعتباره تسهيلاً من الشارع فيكتفي بالإمتثال الإحتمالي كما ورد بالنسبة إلى عدم الإعتبار بالشك بعد الوقت المعبّر عنه بقاعدة (الوقت حائل), وما ورد بعدم الإعتناء بالشكبعد الفراغ والتجاوز عن العمل والمحل مثل حديث: لا تعاد إلا من خمس وغيرها من القواعد الإمتنانية التسهيلية.

الأمر السابع: لا اعتبار بالظن مطلقاً سواء كان من الظن الخاص الذي قام الدليل على اعتباره أم كان من الظن المطلق الذي دلَّ عليه دليل الإنسداد على فرض اعتباره في الإعتقاديات.

ولا ريب أنَّ الإعتقاديات على نحوين؛ أحدهما ما يتعلق بالمبدأ والمعاد والنبوة والإمامة التي هي من المناصب الآلهية فإنَّه يجب تحصيل العلم بها, والثاني ما يجب الإعتقاد به على ما هو عليه في الواقع ولو لم يعلم به. ولا موضوع لاعتبار الظن بقسميه فيهما.

والكلام يقع في معرفة الله تعالى ومعرفة النبي والإمام علیهم السلام ومعرفة المعاد.

أمّا الأول؛ فالمعروف عدم اعتباره فيها بل يجب تحصيل العلم والمعرفة فيها عقلاً.

واستدل عليه تارةً؛ بقاعدة حسن شكر المنعم عقلاً, إذ لا ريب أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قد أنعم على جميع خلقه بأنواع النعم وأنحائه وأنَّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام علیه السلام هم من النعم الآلهية ووسائط الفيض والنعمة أيضاً, ولا شبهة في توقف الشكر على معرفة المنعم والواسطة فتجب المعرفة عقلاً من باب المقدمة.

ويورد عليه:

1- إنَّ شكر المنعم حسن عقلاً بلا إشكال, ولكن ليس كل ما هو حسن عقلاً بواجب كذلك, فلا تتم قاعدة المقدمية في المقام إلا بناءً على وجوب شكر المنعم وهو يحتاج إلى دليل عقلي آخر.

ص: 184

2- إنَّ معرفة الله عَزَّ وَجَلَّ التي هي من أجلِّ الكمالات النفسانية لا تثبت وجوبها بقاعدة المقدمية ليكون وجوبها غيرياً بل لا بُدَّ أنْ يكون نفسياً وكذا النبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام علیه السلام .

وأخرى: بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل التي هي من القواعد العقلائية في الجملة ولا ريب في احتمال الضرر في ترك معرفة الله تعالى والنبي صلی الله علیه و آله و سلم والإمام علیه السلام مع احتمال إرادتها من تلك الذوات المقدسة فيحكم العقل بوجوبها دفعاً للضرر.

وأورد عليه بأنَّ الضرر المحتمل إنْ كان دنيوياً فليس كل احتمال ضرر دنيوي بواجب الدفع كما تقدم مراراً وإنْ كان أخروياً فهو متوقف على المخالفة, وهي متوقفة على إثبات المولوية له تعالى وصدور الأمر منه ثم المخالفة, وذلك كله متأخر عن أصل المعرفة فلا يمكن إثباتها به كما هو واضح.

وفيه: إنَّ الضرر في المقام يشمل الدنيوي والأخروي معاً لاهمية المورد فإنَّه ليس بشيء أهم منه. وأمّا الضرر الدنيوي فلأنَّه لا ريب في أنَّ الجهل بالله تعالىونبيه وخليفته نقص نفساني كبير, فإذا كان الجهل بالعلوم المتعارفة نظير علم الهندسة والطب والعلوم الأدبية يعدُّ نقصاً عرفياً عقلائياً فكيف لا يكون في الجهل بما هو أهم الكمالات النفسانية أيضاً, وأمّا الضرر الأخروي فهو وإنْ كان في الغالب مترتباً على مخالفة التكليف ولكنه ليس متقوماً بها بل المناط فيه تفويت الواقع عن عمد واختيار بعد التوجه إليه في الحملة, ولا إشكال في تحققه في المقام بعد احتمال العقاب في ترك المعرفة واحتمال أنَّ الله تعالى يريدها من عباده.

وأمّا الثاني؛ في وجوب معرفة المعاد؛ فقد استدلَّ عليه بما يلي:

أولاً: إنَّ العلم به مقدمة لامتثال التكاليف فيجب من باب المقدمة.

ص: 185

وفيه: إنَّه لا كلية فيه لأنَّ من عباد الله تعالى من يعبده حباً به تعالى؛ لا خوفاً منه ولا طمعاً في جنته.

ثانياً: إنَّه من ضروريات الإسلام بل جميع الشرائع الإلهية.

ويُرد بأنَّ وجوب معرفته حينئذٍ يكون شرعياً لا أنْ يكون عقلياً كسائر الضروريات.

ثالثاً: إنَّ في ترك معرفته احتمال الضرر بنحو ما مرّ في معرفة الله تعالى وقد عرفت الإشكال فيه والجواب عنه, فيمكن الإعتماد على هذا الدليل في المقام كما لا يخفى.

والحاصل؛ إنَّ الدليل على الوجوب العقلي لمعرفة أصول الإعتقاد عن المبدأ والمعاد والنبي وخليفته علیه السلام هو قاعدة دفع الضرر المحتمل.

هذا ما يقتضيه الكلام على نحو الإيجاز, والتفصيل مذكور في محله.

وأمّا سائر البحوث التي تتعلق بهذا الموضوع من إثبات وجوده تبارك وتعالى ووحدانيته والعبادة والحاكمية والربوبية ونفي الشريك عنه والكلام في سائر صفاته المقدسة, وإثبات وجوب وجود النبي والإمام؛ فإنَّ موضعها في كتب الحكمة والكلام, ثم أنَّه قد يُستدلُّ على وجوب المعرفة شرعاً بأمور:

الأول: دعوى الإجماع.

ويُرد بأنَّه ليس من الإجماع التعبدي, بل هو حاصل مِمّا ارتكز في الأذهان من دفع الضرر.

الثاني: ما ورد في الترغيب إلى المعرفة والعلم.

وأورد عليه بأنَّه أعم من الوجوب, مع أنَّ الوجوب المولوي متوقف على معرفة المولى, فلو توقفت عليه لاستلزم الدور, وعلى فرض دفع الدور بالإجمال والتفصيل وتمامية الإستدلال يكون إرشاداً إلى حكم العقل.

ص: 186

الثالث: قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

مشاهده آیه در سوره

[51–56] (مشاهده آیه در سوره))(1)؛ بناءً على تفسير العبادة بالمعرفة, كما جاء على لسان الإمام الصادق علیه السلام (2).

وفيه: مضافاً إلى ما ورد على سابقه أخيراً من أنَّه إرشاد إلى حكم العقل أنَّ المعرفة على فرض صحة تفسير العبادة في الآية بها هي:

1- المعرفة التكوينية؛ وهو غير صحيح قطعاً لاستلزامه الكذب, أي خلق الله الجن والإنس وهم يعرفون الله تكويناً.

2- المعرفة بمعنى الغاية الجعلية؛ ولا إشكال في حصولها, كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام (خَلَقَهُمْ لِيَأْمُرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ)(3), وقد تحقق ذلك منه عَزَّ وَجَلَّ -سواء عبده العباد أم لم يحصل-.

وبعبارة أخرى: غاية الخلق بيان التكاليف بواسطة الأنبياء والرسل, وقد حصل وثبت بأحسن وجه.

وهو لا ربط له بالمقام مع أنَّه لا بُدَّ وأنْ يحمل على المعرفة الكاملة الحاصلة من العبادة لا أصل ذات المعرفة, لأنَّ العبادة متوقفة عليها كما لا يخفى.

الرابع: الإستدلال بقوله تعالى في آية النفر: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(4), فإنَّ الظاهر من التفقه في الدين هو المعرفة.

ص: 187


1- . سورة الذاريات؛ الآية 56.
2- . علل الشرائع؛ ج1 ص9.
3- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص84.
4- . سورة التوبة؛ الآية 122.

ويرد عليه: إنَّ الآية في مقام الترغيب إلى التفقه وكيفيته في الجملة وأمّا ما يجب فيه التفقه فليست في مقام بيانه, وعلى فرضه فإنَّه إرشاد إلى حكم العقل كما عرفت آنفاً فلا يكون دليلاً مستقلاً.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ معرفة المبدأ والمعاد ومعرفة الرسول والإمام من أمهات مسائل العلوم كلها, وهي غاية الغايات ومحور الكمالات وأساسها, وبدونها لا ينتفع الإنسان بشيء في الدارين إلا مجازاً, ولا يصحُّ لنا القول بأنَّها ثبتت بأدلَّة تقبل المناقشة بما عرفت, بل الصحيح أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أودع في مخلوقاته مصدراً خاصاً يختلف عن سائر مصادر المعرفة عنده بل هي ترجع إليها عند تشابك الأهواء واشتداد الأحوال, بها يدرك الخالق المبدأ والمعاد وما يرجع إلى كمال الإنسان وقد سميت هذه الحاسة بمسميات مختلفة كالفطرة والعقل والميثاق ونحو ذلك, وهي تشير إلى هذه الحاسة التي هي من جملة مصادر المعرفة في الإنسان وبها يدرك هذا الجانب من معارفه المتنوعة كما ذكرنا سابقاً, وهي واجهة من واجهات العقل الذي له فعاليات وواجهات مختلفة فلم تخرج عن دائرة فعالياتالعقل والشرع بمنظومته المتكاملة, فالدليل على وجوب المعرفة عقلي وشرعي ولا حاجة إلى القول بأنَّ الشرع إرشاد إلى حكم العقل؛ فإنَّ الشرع يثبت أبعاداً لا يثبته العقل, وهذا البحث نفيس يحل جملة من الإشكالات التي يثيرها في هذا الموضوع أو أمثاله غير المتدينين من العلمانيين والملاحدة والكفار في أصول الإعتقاد والمعارف العلية, ولعل من إستدلَّ بالضرورة في وجوب المعرفة والإعتقاد الحازم يريد ما ذكرناه لا الضرورة المصطلح عليها في الفقه.

ص: 188

فوائد مبنائية

من جميع ما تقدم يظهر أنَّ ما ذكره السيد الوالد قدس سره في فوائده في المقام لا حاجة إليها إلا على مبنى القوم نذكر جملة منها:

الفائدة الأولى: لا ريب أنَّ المعرفة أعم من الإعتقاد والجزم, والواجب في الأصول الأربعة -التوحيد والمعاد والنبوة والإمامة- الإعتقاد والجزم دون مجرد المعرفة فتكون المعرفة طريقاً إلى عقد القلب والجزم بما علم فلا يكفي مجرد العلم والمعرفة, وقد عرفت أنَّ ذلك من لزوم ما لا يلزم بناءً على ما ذكرناه من وجود تلك الحاسة التي تدعو إلى المعرفة الكاملة بالخالق والمعاد والنبوة والإمامة, نعم؛ قد تضعف تلك الحاسة لأجل الشبهات وتراكم الغفلات ولكنها لا تزول وهي تبقى تدعو الفرد إلى ذلك, فكلما ازداد شعاعها ازدادت المعرفة حتى تصل إلى أعلى المراتب وأكملها كما في الأنبياء وعباد الله الصالحين, نعم؛ قد لا يحصل الجزم والإعتقاد المطلوبين في هذه المعرفة إلا بالتفكر ومزيد العلم.

الفائدة الثانية: لا يعتبر في المعرفة أنْ تكون حاصلة من الإستدلالات الكلامية والحكمية أو غيرها من البراهين العلمية, بل يكفي حصول الإعتقاد والجزم ولو من تلقين الآباء والأجداد وأمثالهم؛ للإتّفاق على صحة إسلام العوام وغيرهم مِمَّن حصل لهم الجزم بها من دون الرجوع إلى تلك الأدلَّة والبراهين.

ولكن عرفت أنَّ حصول الإعتقاد الجازم يتبع سطوع نور تلك الحاسة وشدة تأثيرها إذا أزال الفرد العقبات عن طريقه فتتحقق له مرتبة عالية, فإذا كان السبب في إزالة العقبات بالأدلَّة والبراهين فإنَّ تأثير هذا المصدر من المعرفة الخاصة أشد وأعلى وهكذا بالنسبة إلى تلقين الآباء والمجتمع.

الفائدة الثالثة: للإعتقاد الجازم مراتب متفاوتة يكفي أدناها في تحقق الإسلام والإيمان كما هو مقتضى سيرة الأنبياء والأوصياء العظام عليهم الصلاة والسلام على الإكتفاء بذلك,

ص: 189

ولولا ذلك لاختلَّ النظام وتعطلت الأحكام, ومن أجل ذلك يترتب جميع أحكام الإسلام على من أقرَّ بالشهادتين ولم تترتب إذا لم يحصل منه الإقرار بهما.وما ذكره صحيح لا إشكال فيه وهو شاهد صدق على ما حققناه من اختلاف العقل والشرع في هذا الموضوع في بعض الآثار. كما أنَّهما يفترقان في استحقاق العقوبة؛ فإنَّ الشرع لا يعذر الجاهل المقصر الملتفت بل وغيره أيضاً مع الإنتهاء إلى الإختبار, وأمّا بالنسبة إلى القاصر فالله تعالى أعلم بما يصنع فيه؛ وفي بعض الأخبار أنَّه تتم الحجة عليه في عالم البرزخ.

وللقصور مراتب أيضاً:

منها: ما إذا لم يكن للشخص إستعداد لفهم الأمور.

ومنها: ما إذا كان له ذلك ولكن لم يلتفت إلى اختلاف الأديان أصلاً.

ومنها: ما إذا التفت إليه ولكن قطع به عن طريقة الآباء والأجداد وعدم احتماله للخلاف يمنعه عن اتباع الحقّ.

والظاهر تحقق الأقسام الثلاثة بناء على ما ذكرناه, وقد استبعد السيد الوالد قدس سره تحقق القسم الثاني في هذه الأعصار, لأنَّ أسباب الغفلة متعددة واستيلائها على الإنسان المعاصر متحقق ولا بُدَّ من إزالتها بحكم العقل والشرع.

ص: 190

المقصد الرابع

الأصول العملية

ص: 191

ص: 192

المقصد الرابع مباحث الأصول العملية

اشارة

قبل الدخول في فصول تلك المباحث واستعراض الأصول والقواعد العملية لا بُدَّ من تقديم أمور.

الأمر الأول: ذكرنا في أول هذا الكتاب أنَّ علم الأصول ما يبحث فيه عن تعيين الوظيفة وما يصح أنَّ يعتذر به لها ولا بُدَّ أنْ تكون نتائج مسائله تقع في طريق إستفادة الوظائف والإعتذار, وقلنا بأنَّ ما يصح الإعتذار به إمّا أنْ يكون عذراً بنفسه وهو القطع, أو تكون المعذرية لأجل الكشف الناقص فيه وهو الظن, وقد تقدم الكلام فيهما, أو لا يكون فيه جهة كشف لها.

والكلام في المقام في الأخير -وهو ما يصحُّ الإعتذار به من دون جهة كشف فيه أبداً, أي الشك الذي يكون مجرى الأصول العملية- وقلنا أنَّ هذا المنهج يخالف ما ذهب إليه الأصوليون في موضوع علم الأصول وتحديد مسائله الذي لا تخلو من عدة مناقشات كما تقدم بيانه, وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره (1) في المقام أنَّ الذي يثبت الأصول العملية إنَّما هو الحكم الظاهري, وذكر في بيانه تارةً؛ بأنَّ هذه الأصول هي المرجع عند الشك في الحكم الواقعي, بمعنى: إنَّ ما يثبت بها هو الحكم الظاهري بعد الشك بالواقع.

وقد إستشكل عليه المحقق الخراساني قدس سره (2) بأنَّه يشمل الأحكام الواقعية للشكوك ولا يلتزم به أحد, كما في قول المولى: (يجب عليك التصدق إذا شككت في وجوب الصلاة)؛ فإنَّ وجوب التصدق بناءً على كلامه لا بُدَّ أنْ يكون حكماً ظاهرياً, لتفرعه عن الشك في

ص: 193


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص506 وما بعدها.
2- . كفاية الأصول؛ ص9.

الواقع وليس كذلك, ومن أجل ذلك قيَّد ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره بأنَّه الحكم الثابت في فرض الشك بالواقع بعنوان تعيين الوظيفة بالنسبة إلى الواقع المشكوك.

وأخرى: بأنَّ الحكم الظاهري هو الثابت بالأصل في طول الحكم الثابت بالدليل علماً أو ظناً لأنَّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الواقع فهو متأخر طبعاً عن الواقع فيكون التنافي بين حكم الأصول وحكم الأمارة كالتنافي بين الحكم الظاهري والواقعي, وإنَّ الجمع بينهما بتعدد المرتبة فإنَّ بينهما الطولية والتأخر الطبيعي.

واستشكل عليه المحقق النائيني قدس سره (1) بأنَّه لا تنافي بينهما بالمرة, لأنَّ المجعول في الأمارة هو الطريقية, فلا حكم في موردها حتى يتوهم المنافاة.ولكن يمكن دفع ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنَّ مراد الشيخ من الطولية بين الحكمين أنَّه لا تنافي بين دليلي الحكمين الواقعي والظاهري بما هما دليلان بعدم اجتماع مفاديهما في آن واحد لا أنَّ التنافي بينهما إنَّما يكون بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري بل يكون التنافي بين الحكمين الظاهريين أو الواقعيين, وحينئذٍ لا وجه للإشكال عليه بأنَّ المجعول في الأمارات الطريقية, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: إنَّ الأصول العملية لا تنحصر في عدد معين بل هي كثيرة لكن أهمهما وأعمها الأربعة المعروفة؛ البراءة والتنجيز والإحتياط والإستصحاب, وذكر الأصوليون في بيان مجاريها بأنَّ المكلف إمّا أنْ يعلم بالتكليف ولو بجنسه أو لا يعلم, وعلى الأول إمّا أنْ يمكن الإحتياط أو لا يمكن, وعلى الثاني إمّا أنْ يعلم بالحالة السابقة أو لا, والأول مجرى الإحتياط, والثاني مجرى التخيير, والثالث مجرى الإستصحاب, والأخير مجرى البراءة, والمهم من البحث فيها تحديد حقيقة الأصل العملي الشرعي ثبوتاً وفرقه عن الدليل الإجتهادي,

ص: 194


1- . فوائد الأصول؛ ج2 ص326.

وقد اختلفوا في ذلك وذكروا وجوهاً:

الوجه الأول: ما عرفت آنفاً من أنَّ اعتبارها إنَّما هو في ظرف الجهل واستتار الواقع وفقد الحجة المعتبرة بحيث يكون ذلك من مقوماتها فلا اعتبار لهذه الأصول مطلقاً معها، ولذا ترد عليها كلّ حجة وتكون حاكمة عليها لزوال موضوعها بوجود الحجة والجهل بالواقع كما يكون موضوع جعل الأصول العملية كذلك يكون مورد جعل الأمارات المعتبرة أيضاً, ولكن الفرق بين الجهلين أنَّه في مورد الأصول قيد لاعتبارها فلا أثر لها مع إمكان تحصيل الحجة على الواقع بخلافه في مورد الأمارات؛ فإنَّه فيها تكون حكمة الجعل لا أنْ تكون علّة المجعول حدوثاً وبقاءً؛ إذ رُبَّ أمارة تكون معتبرة حتى في صورة إمكان تحصيل العلم بالواقع, نظير أصاله الصحة والطهارة على قولٍ, ولا يبعد ذلك, كما أنَّه قد يكون الجهل بالواقع مورداً لحكم واقعي آخر -كالجهر في موضع الإخفات وبالعكس- جهلاً بالواقع, فإنَّه مورد سقوط الإعادة أو القضاء واقعاً, وله نظائر في الفقه كما لا يخفى على الخبير, فاختلفت حيثية الجهل بالواقع في الموارد الثلاثة فافهم.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره على ما نقَّحه المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ الفرق بين الأمارات والأصول يتمثل في سنخ المجعول في كلِّ واحد منهما, حيث أنَّ المجعول في الأمارة الطريقية والعلمية, والمجعول في الأصول إيجاب الجري العملي أو تنزيله منزلة العلم في الجري العملي, وعلىهذا الفرق رتَّبوا أنَّ الأمارة حجة في لوازمه وملزوماته دون الأصل العملي, لأنَّ الأمارة علم فتكون مثبتاً لجميع ذلك, بخلاف الأصل الذي لا يثبت إلا الجري العملي في أمر وهو لا يلزم منه الجري العملي على لوازم ذلك الشيء, لأن الجري العملي فعل خارجي فقد يحكم المولى بعمل دون عمل.

ص: 195


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص481.

وقد إستشكل على ذلك السيد الخوئي بأنَّ مجرد كون المجعول في باب الأمارات العلمي لا يقتضي حجية مثبتاتها, لأنَّ العلم بالشيء إنَّما يستلزم العلم بلوازمه إذا كان العلم وجدانياً لا تعبدياً لأنَّه مجرد تعبد وحكم شرعي يكون حدود جعله بيد الشارع, ومن هنا أنكر حجية مثبتات الأمارات واعتبرها كالأصول من حيث إحتياج حجية مثبتاتها إلى عناية زائدة ودليل خاص, فهو قدس سره لم ينكر الميزان في تفرقة الميرزا بين الأمارة والأصل ولكنه أنكر ما يترتب على ذلك من حجية مثبتات الأمارات دون مثبتات الأصول.

والصحيح كما سيأتي توضيحه؛ أنَّ مثبتات كِلا الأمرين -الأمارات والأصول- لم تكن حجة إلا ما يرجع إلى ما يفهم من دليل كلّ واحد منها, مهما كان وجه الفرق بينهما.

هذا بالنسبة إلى الأثر.

وأمّا بالنسبة إلى أصل التفرقة بينهما؛ فإنَّه لم يدلُّ دليل على قبوله, فإنَّ هذه المصطلحات حادثة لم ترد في دليل شرعي حتى نتعبد بها, وإنَّما ذكر الأصوليون مصطلح العلمية والطريقية لبيان الفرق بين الأمارة والأصل وفي الواقع إنَّهما مجرد صورة فنية للتمييز بين مثبتات الأمارة ومثبتات الأصل.

وقد عرفت عدم تمامية الثمرة, ولذا ذهب السيد الصدر قدس سره (1) إلى قبولها بناءً على ما سلكه في جعل الحجية في باب الأمارات من أنَّه لأجل علاج التزاحم الحفظي على أساس المرجح الكيفي وهو الترجيح بقوة الإحتمال والكاشفية, فإنَّه حينئذٍ تكون المثبتات حجة على القاعدة لأنَّ الحجية تكون بنفس الملاك الكاشف عن المثبتات أيضاً, غاية الأمر أنَّ الحجية إنَّما تثبت بالمدلول المطابقي, واللوازم تثبت بالمدلول الإلتزامي الذي يصرح به.

ص: 196


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص13.

ولكن سيأتي أنَّ ذلك من مجرد التفنن في العبارة, فإنَّ المهم هو الرجوع إلى دليل الحجية في كِلا الموضوعين؛ الأمارة والأصل, واستفادة التعميم حتى يشمل المثبتات, وإلا فنفس جعل الحجية لا يثبت لها حجية اللوازم, وسيأتي في تنبيهات الإستصحاب تتمة الكلام, فكان الأجدر بالسيد الخوئي هو إنكار أصل التفرقة لا قبوله ثم إنكار الثمرة.ثم أنَّهم ذكروا في الثمرات المترتبة على هذا الفرق بتقديم الأمارات على الأصول من جهة حكومتها عليها, لأنَّ الأصل أخذ في موضوعه الشك وعدم العلم وفي الأمارة إنَّما يكون المجعول فيها العلمية والطريقية فتكون رافعة لموضوع الأصل تعبداً وبحكم الشارع فهم يجعلون حكومة الأمارات على الأصول من مسالك جعل الطريقية والعلمية.

ولكن الحقَّ أنَّ الحكومة لم تكن بهذا المناط, بل لما عرفت من أنَّ قوام حجية الأصل واعتباره فقد الحجة المعتبرة والحكومة المصطلحة بأيِّ معنى فسرت كما سيأتي إنَّما تكون على أساس لحاظ الخصوصية في لسان دليل الحاكم والمحكوم, وهذا المناط لا يجري في الأمارة والأصل, وقد احسن السيد الوالد قدس سره في المقام؛ حيث عبَّر عن ذلك بأنَّه ترد عليها -أي الأصول- كل حجة لزوال موضوعها بوجودها.

الوجه الثالث: التفرقة بين الأمارة والأصول على أساس أنَّ موضوع الأصل قد أخذ فيه الشك بخلاف الأمارة حيث لم يؤخذ فيه إلا نفس قيام الأمارة.

وفيه: إنَّ تفسيره ناقص لا يفي بتفسير الفروق والآثار المترتبة على كلِّ واحد من الأصل والأمارة مع أنَّه غير معقول في نفسه, لأنَّ عدم أخذ الشك في موضوع الأمارة في جعلها الظاهري يستلزم إطلاقه لحال العلم غير صحيح لما تقدم في بحث القطع.

والفرق بين الأمارة والأصل في مقام الإثبات والدلالة دون مقام الإنشاء والجعل؛ بمعنى أنَّه إنْ ورد في لسان الدليل الشك فالحكم الظاهري هو الأصل العملي وإلا فهو أمارة,

ص: 197

وهذا الوجه وإنْ كان يسلم من الإعتراض الثبوتي الذي توجه إلى الوجه السابق, ولكنه غير تام؛ إمّا لأنَّه لا يفي ببيان الفرق بين الأمارة والأصل من حيث آثارهما. وإمّا لأنَّه يربط الحكم الظاهري بنوع لسان الدليل واللفظ الوارد فيه, فإذا استدلَّ مثلاً بآية النبأ أو النفر على حجية خبر الثقة يكون أمارة, وإن استدلَّ بآية السؤال عن أصل الذكر كان أصلاً؛ وهو واضح البطلان.

نعم؛ إنَّ هذا الوجه يعالج مشكلة تقديم الأمارة على الإستصحاب بناءً على مسلك الطريقية الذي هو مختار المحقق النائيني؛ حيث إدّعى أنَّ دليل الأمارة يتقدم على دليل الأصل العملي, رغم أنَّ المجعول فيهما معاً الطريقة؛ فإنَّ المأخوذ في موضوع دليل الإستصحاب عدم العلم واليقين بينما لم يؤخذ ذلك في موضوع دليل الأمارة, والعقل يقضي بتخصيصه بصورة عدم العلم الوجداني فيكون إطلاقه رافعاً لموضوع دليل الإستصحاب دون العكس, وسيأتي تفصيل ذلك إنْ شاء الله تعالى.

والصحيح من هذه الوجوه ما ذكرناه في الوجه الأول وإنْ أمكن إرجاع بعضها إلى بعض؛ حيث أنَّ كلَّ واحد قد لاحظ جانباً من جوانب المشكلة.

هذا كلُّه في الأمارة والأصل العملي الشرعي وأمّا الأصل العملي العقلي وفرقه عن الأصل الشرعي -بل مطلق الحكم الظاهري سواء كان أصلاً أم أمارة- فالذي ذكره بعض الأصوليين هو أنَّ الحكم الظاهري علاج مولوي بينما الأصل العملي العقلي لا يعدو أنْ يكون مدركات عقلية لحدود حقِّ طاعة المولى على العبد, ولذا كانت مرتبة الأصول العملية العقلية دون مرتبة الأمارة والأصل الشرعي فهي واردة على الأولى رافعة لموضوعها, والسرّ يرجع إلى أنَّ الأصول الشرعية فضلاً عن الأمارة ناظرة إلى متطلبات المولى وإرادته والأصول العقلية تنظر إلى حدود حقّ طاعته في ما يطلبه وهي متفرعة عليها ومعلقة عليها.

ص: 198

وهذا الذي ذكروه صحيح في الجملة بناءً على مسلكه من أنَّ الأصول الشرعية تبيّن إرادات المولى والأصل العقلي يبين حدود حقّ الطاعة, ولكن الصحيح أنَّ كِلاهما يرجعان إلى طاعة المولى, ولكن الأصل الشرعي لبيان الخصوصيات دون الأصل, وسيأتي تفصيل ذلك إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: بعدما عرفت أنَّ موضوع الأصول العملية الجهل والشك بالواقع فالمدار فيهما على الجهل الثابت المستقر, وهو يختص بما بعد الفحص عن الحجة واليأس عنها, ولا استقرار قبله ولا اعتبار بالأصول, كما لا يصح الرجوع إليها إلا بعد اليأس عن الظفر بالحجة بعد الفحص عنها, والمدار على اليأس العقلائي لا اليأس العقلي, ثم إنَّه بعد اليأس عن الظفر بالحجة لا يفرق حينئذٍ في منشأ حصول الجهل بالواقع بين كونه فقدان النص أو إجماله أو تعارضه بناءً على السقوط, وإلا فإنَّه بناءً عليه فيخرج عن مورد البراءة كما لا يخفى, فإنَّ المرجع في الجميع هو البراءة في الشبهات الحكمية؛ تحريمية كانت أو وجوبية غيرية كانت أو نفسية, فلا بُدَّ أنْ يجعل الجميع تحت بحث واحد لا تكثيره كما صنعه الشيخ الأنصاري وغيره واختصاص بعض الأقسام بقول لا يوجب تعدد البحث كما هو معلوم. كما أنَّ المراد من الجهل والشك في مورد الأصول عدم الحجة المعتبرة فيعمّ موارد الظنون غير المعتبرة أيضاً.

الأمر الرابع: ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ البحث عن الشبهات الموضوعية مطلقاً خارج عن فن الأصول لأنَّه متكفل للبحث عن الكليات التي يصحُّ الإعتذار بها في الشريعة, والشبهات الموضوعية بمعزل عن ذلك فالبحث عنها إستطرادي والفقيه والعامي فيها على حدٍّ سواء, ولكن ذلك على إطلاقه غير تام فإنَّه ينطبق عليها تعريف علم الأصول حتى على ما عرفه السيد الوالد قدس سره من أنَّه ما يصحُّ الإعتذار به.

ص: 199


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص160.

الأمر الخامس: قسَّمَ بعض الأصوليون الأصول العملية إلى مطلقة وتنزيلية واحترازية, ومثل للأول بالبراءة وللثاني بالإستصحاب وللثالث بأصالة الصحة,وفي بعض الكتب التمثيل للأخير بالإستصحاب وللثاني بالبراءة أو الإحتياط الشرعيين؛ وسيأتي معرفة الإختلاف إنْ شاء الله تعالى.

وجعل المحقق النائيني قدس سره (1) الميزان في هذا التقسيم هو اليقين الذي له حيثيات أربع:

1- حيثية الثبوت والإستقرار مقابل التردد والتذبذب.

2- حيثية الكاشفية.

3- حيثية البناء والجري العملي على طبقه.

4- حيثية التنجيز والتعذير.

والحيثية الأولى؛ تختص باليقين والقطع ولا تشمل غيرهما ولو كان تعبدياً, لأنَّها خصوصية تكوينية فلا يمكن تحصيلها بالتعبد والتنزيل.

وأمّا الثانية؛ فهي تثبت في الأمارات باعتبار تنزيلها منزلة العلم في الطريقية والكاشفية.

وأمّا الثالثة؛ فهي التي تثبت في الأصول التنزيلية.

وأمّا الرابعة؛ فهي التي تثبت في الأصول غير التنزيلية ولو كان بجعل شرعي ظاهري كما عرفت في بحث القطع.

وأشكل على هذا التقسيم بعض الأصوليين؛ بأنَّ المنظور إليه في هذا التقسيم إمّا في الثبوت أو في الإثبات بالمعنى الذي يشمل الجعل والإنشاء.

أمّا في مرحلة الثبوت؛ فإنَّ التمييز بين الأصلين -التنزيلي والإحترازي- يمكن أنْ يرجع إلى ما ذكره بعض في الحكم الظاهري من أنَّه إذا كان ترجيحه بملاك نوعية المحتمل محضاً

ص: 200


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص162.

فهو أصل غير تنزيلي, وإذا كان بملاك نوعية المحتمل مع مراعاة الكاشفية فهو أصل تنزيلي, فإنَّ فيه قوة الإحتمال والكاشفية نوعاً ما, ومن آثاره أنَّه لو زالت قوة الإحتمال لم يعد الأصل التنزيلي حجة.

وأمّا التمييز بينهما في مرحلة الإثبات؛ فقيل أنَّ دليل الإعتبار تارةً؛ يتكفل إثبات المنجزية أو المعذرية من دون عناية زائدة فيكون الأصل غير تنزيلي كما في قوله: (إحتط لدينك), وأخرى؛ فيه عناية زائدة تنزيليه فيكون أصلاً تنزيلياً أو محرزاً, وهذه العناية الزائدة إمّا أنْ يثبت تنزيل الحكم الظاهري التعبدي منزلة الحكم الواقعي؛ بأنْ يقول: كلُّ شيء طاهر على الظاهر هو طاهر بطهارة واقعية تنزيلاً وتعبداً فيترتب عليه آثار الحكم الواقعي, وأمّا تنزيل الأصل نفسه منزلة العلم واليقين.

أمّا في الكاشفية أو بلحاظ الجري العملي, وهذا هو مصطلح الشيخ النائيني قدس سره في الأصل التنزيلي مثل الإستصحاب حيث جعل الإحتمال فيه منزلة العلم واليقينولو في الجري العملي دون غيره الذي جعل التنزيل فيه بلحاظ الكاشفية فاعتبر الإستصحاب من الأمارات والأثر العملي المترتب لهذه العناية التنزيلية هو ترتيب آثار القطع الموضوعي على الأصل المذكور بالحكومة الواقعية ولها تطبيقات عديدة.

والحَقُّ أنْ يُقال: أنَّ أصل التقسيم مجرد إصطلاح أصولي ولا يترتب عليه ثمرة عملية لأنَّ الأصول -كما سيأتي- تختلف من حيث تقديم بعضها على بعض وأنَّ بعضها مقدم على الآخر سمّي بهذا الإصطلاح أم لا.

الأمر السادس: عرفت أنَّ الأصول العملية كثيرة أهمها الأربعة المعروفة وهي: البراءة والإشتغال أي الإحتياط والتخيير والإستصحاب, وقد ذكروا في وجه تخصيصها بالبحث دون غيرها من القواعد والأصول العملية أنَّها أعمّ؛ تجري في جميع أبواب الفقه, وأهمّ؛

ص: 201

لكثرة البحوث فيها أو لأنَّ غيرها قد لا تجري في الشبهات الحكمية فلا تقع طريقاً في إستنباط الأحكام الشرعية كأصالة الصحة, وقال بعضهم بأنَّ هذه الأصول الأربعة لها جذور عقلية بخلاف غيرها, فإنَّ دليلها النقل ولكنه ليس بسديد ولا عمومية له, وكيف كان؛ فإنَّ الأصول الأربعة من الإرتكازات العقلائية يكفي في اعتبارها شرعاً عدم ورود الردع عنها فلا حاجة إلى إقامة الدليل على اعتبارها من الكتاب والسنة والإجماع وتطويل الكلام في ذلك, فإنَّ العقلاء بفطرتهم بعد الفحص عن الحجة واليأس عنها لا يرون أنَّهم ملزمون بشي فعلاً وتركاً وهذا هو البراءة المصطلحة, كما أنَّهم بفطرتهم يرون العلم الإجمالي منجزاً في الجملة ويعبّر عنه في الإصطلاح بالإشتغال والإحتياط, وعند الدوران بين المحذورين لا يرون أنفسهم ملزمين بشيء منهما بالخصوص ويعبّر عنه بالتخيير, ومع اليقين السابق والشك لاحقاً تحكم فطرتهم باتّباع اليقين السابق ويعبّر عنه بالإستصحاب ولا ريب في تقديمه على باقي الأصول الثلاثة فلا حاجة إلى التطويل كما لا يخفى ولعل ما ذكره السيد الصدر في تاريخ الأصول العملية يرجع إلى ما ذكرناه وإلا فالإشكال فيه واضح.

الأمر السابع: بحث الحظر والترخيص والأصل فيهما أعمّ مورداً عن بحث البراءة, لأنَّ الأخيرة إنَّما تكون بعد ورود الشريعة والتفحص في الأدلَّة وأمّا الأول فهو يصحُّ حتى قبل الشريعة وتحقق التشريع أيضاً فيقال: هل أنَّ مقتضى العبودية هو المنع عن كلِّ شيء إلا بعد إذن المعبود الخالق أو أنَّ مقتضى كثرة عناية المعبود وكرمه هو الترخيص في كلِّ شيء إلا مع التصريح بالمنع.

الأمر الثامن: الشبهات إمّا أنْ تكون حكمية أو تكون موضوعية. والأولى؛ إمّا وجوبية أو تحريمية, وقد تقدم أنَّ الشبهات الموضوعية خارجة عن علم الأصول على ما ذهب إليه بعض الأصوليين ومنهم السيد الوالد قدس سره , وعرفت أنَّه يمكن إدراجها في علم

ص: 202

الأصول وجعلها في مسائله لكفاية مطلق الأثر في إدراج شيء من مسائل علم الأصول, ولا ريب في تحققه.

وأمّا الشبهات الحكمية فقد وقع الخلاف بين علماء الإمامية في الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى التحريمية منها فذهب الأصوليين إلى نفي الحرمة, وأمّا الأخباريون فقد أنكروا الرجوع إليها في تلك الشبهات, ويأتي ذكر أدلَّة الطرفين فيما يدَّعونه, والظاهر أنَّ نزاع الأخباري والأصولي إنَّما يكون صغروياً لا أنْ يكون كبروياً؛ لاتّفاق الجميع على قبح العقاب بلا بيان, ولذا يعتمدون عليها بأجمعهم في الشبهات الوجوبية, وقد عرفت أنَّها من القواعد الفطرية العقلائية ولكن الأخباري يدَّعي أنَّ أخبار الإحتياط تصلح أنْ تكون بياناً والأصولي يثبت عدم الصلاحية فيكون النزاع صغروياً كما لا يخفى وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 203

ص: 204

الفصل الأول أصالة البراءة

اشارة

قبل الخوض في هذا الأصل لا بُدَّ أنْ نشير إلى أنَّ الشيخ الأنصاري قدس سره تعرض إلى أصل البراءة في مسائل بلغت إثنتي عشرة مسألة وخالفه المحقق الخراساني قدس سره حيث ذكر هذا البحث في عنوان واحد وهو الذي اختاره جمعٌ منهم السيد الوالد قدس سره كما ذكرنا ذلك فيما تقدم في الأمر الثالث من الأمور التمهيدية.

ثم إنَّ جمعاً من الأصوليين ومنهم السيد الوالد قدس سره قد استدلَّ على البراءة في الشبهات الحكمية مطلقاً -وجوبية كانت أو تحريمية- بالأدلَّة الأربعة ولم يفرق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية في البحث عنهما خلافاً لآخرين, حيث جعل لكلِّ واحدة منهما بحثاً مستقلاً فتكلم إبتداءً عن البراءة العقلية ثم عن البراءة الشرعية الذي قام الدليل الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها ونحن نقتفي أثرهم في ذلك ونتكلم عن البراءة في بحثين مستقلين:

البحث الأول: البراءة العقلية

تقدم أنَّ البراءة مِمّا قام الدليل القطعي العقلي عليه بل ذكرنا أنَّ الأصول العملية مطلقاً من الإرتكازيات العقلائية يكفي في مشروعيتها عدم ورود الردع عنها في الشرع, فلا ريب في استقرار بناء العقلاء على الحكم بقبح العقاب بلا بيان حتى اكتسب ذلك صيغة فنية تحت قاعدة عقلية سميت قاعدة قبح العقاب بلا بيان والأدلَّة الشرعية إرشاد إليها, وقد أرجع علماء الأصول هذه القاعدة إلى مولوية المولى وحق طاعته واعتبروهما من الكليات المتواطئة التي لا تقبل التشكيك من الزيادة والنقصان لا أنْ يكون لهما مراتب, فكلُّ تكليف إذا قامت الحجة عليه يجب امتثاله وإنْ لم تقم الحجة عليه لا يجب؛ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان, لأنَّ مولوية المولى تنتقض بعدم إقامة الحجة والبيان.

ص: 205

والمراد منهما لزوم طاعة المولى في كلِّ تكليف يصدر عنه واقعاً إذا تمت عليه الحجة والبيان وإنْ اختلفوا في ميزان الحجية والمنجزية, وبحثوا عن حقِّ طاعة المولى في علم الكلام, وعن ميزان الحجية في علم الأصول فقالوا أنَّ الحجة تارةً؛ تكون ذاتية وهي القطع, وأنَّ كلَّ حجة لا بُدَّ أنْ ترجع إليه كما تقدم الكلام فيه في بحث القطع, وقالوا بأنَّ الحجية تنتفي بانتفاء القطع لأنَّها ذاتية له وهذا هو موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان, ويترتب على ذلك أنَّ الظن لا حجية فيه فلا بُدَّ أنْ تكون مكتسبة من جعل جاعل وهي الحجية المكتسبة, وفي هذا القسم يقع السؤال المعروف في أنَّ الجاعل كيف يجعل الظن حجة ومنجزاً ويخصص قاعدة قبح العقاب بلا بيان, والأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص, ومن أجل ذلك ظهرت اتّجاهات ونظريات في رفع هذا الإشكال منها نظرية جعل الطريقية العلمية للحكومة على حكم العقل ومنها نظرية أنَّ العقاب على مخالفة الحكم الظاهري المقطوع به لا الواقعي؛ إمّا مطلقاً أو في خصوص ما لم يجعل له العلمية كقاعدة الإحتياط الشرعية, ومنها أنَّ الأحكام العقلية التي لا تقبل التخصيص هي تلك التي تصدر عن عقل جامع لا العقول القاصرة, ومنها غير ذلك.

وذكر السيد الصدر قدس سره أنَّه لا فرق بين مولوية المولى وحقّ طاعته ولا فصل بينهما, بل البحث عن الحجية بحث عن حدود المولوية بحسب الحقيقة, لأنَّ المولوية عبارة عن حقّ الطاعة وهذا الحقّ يدركه العقل بملاك من الملاكات كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو ملاك المالكية, وهذا الحقّ له مراتب متفاوتة؛ فكلّما كان الملاك أكبر كان حقّ الطاعة أوسع, فقد يفرض في بعض مراتب منعمية المنعم ما لا يترتب عليه حق الطاعة إلا في بعض التكاليف المهمة لا في كلّها وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة من ذلك؛ بأنْ تكون درجة المنعمية بدرجة يترتب عليه حق الطاعة في المشكوك والمحتملات من التكاليف,

ص: 206

إذن فالحجة ليست شيئاً منفصلاً عن المولوية وحق الطاعة؛ فيكون مرجع البحث في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو البحث عن مولوية المولى, وهل تشمل التكاليف المحتملة أو لا؛ باعتبار أنَّ مولوية المولى الحقيقي هل في سعة بحيث تشمل التكاليف المحتملة أو ضيقة في خصوص التكاليف المعلومة, وهذا مِمّا يرجع فيه إلى حكم العقل العملي تجاه الخالق سبحانه, ومن هنا ذهب إلى عدم جريان البراءة العقلية في التكاليف الموهومة.

وحاصل ما يريده أنَّ مقتضى مولوية المولى وحقّ الطاعة على العباد أنَّ العبد يأتي بكلِّ تكليف يحتمله ويتوهمّه فلا تجري البراءة العقلية ولا مجرى لقاعدة قبح العقاب العقلية وإنْ كانت الأدلَّة الشرعية تثبتها فتثبت البراءة الشرعية في غير المعلومات من محتملات التكليف وموهوماتها, وسيأتي أنَّه غير تامّ؛ والصحيح هو ثبوت البراءة العقلية وصحة قاعدة قبح العقاب بلا بيان وفي غير معلوم التكليف، واستدلَّ على ذلك بوجوه عديدة:

الوجه الأول: ما ذكرناه من الإحالة إلى الوجدان العرفي والعقلائي في باب المولويات العرفية العقلائية, حيث أنَّهم لا يؤاخذون على ارتكاب مخالفة التكليف الواقعي في مورد الجهل وعدم العلم به, وهو مِمّا يدلُّ على ارتكازية قاعدة قبح العقاب بلا بيان عقلائيتها.

وأشكل عليه بأنَّ هذا الوجه مبني على أنْ يكون حقّ الطاعة والمولوية أمراً واحداً لا درجات لها ولا مراتب, وهذا لا يجري في المولويات العرفية والعقلائية باعتبارها مجعولة لا أنْ تكون ذاتية وبملاكات ضعيفة فالمقدار المجعول من المولوية عقلائياً ليس بأكثر من موارد العلم بالتكليف, وأمّا المولى الحقيقي الذيتكون مولويته ذاتية بملاك تام كامل مطلق وهو المنعمية التي لا حدَّ لها أو المالكية والخالقية فالعقل لا يرى أيَّ قصور في مولويته وحق طاعته فيشمل عمومها لكل تكليف حتى في موارد عدم العلم به.

فهذا الوجه قد وقع فيه الخلط بين المولويات العرفية الإعتبارية والمولوية الذاتية الحقيقة.

ص: 207

ويرد عليه: إنَّ هذا الإشكال مبني على كون مولوية المولى وحق طاعته من الأمور المشككة التي لها مراتب تكون في بعضها أشدّ بحيث تشمل التكليف غير المعلوم وفي بعضها أخف فيقتصر على التكليف الأكثر وهو التكليف المعلوم وهو غير تام كما سيأتي؛ على أنَّ هذا الوجه يمكن إرجاعه إلى ما فطر عليه العقول من دون النظر إلى المولويات العرفية الإعتبارية بل الفطرة تنظر إلى الحقائق والواقعيات لا الإعتبارات المحضة.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ القاعدة مرجعها إلى أنَّه يقبح العقاب على ترك التحرك حيث لا يكون هناك موجب للحركة, وقد عدّه من القضايا التي قياساتها معها وفي التكاليف إنَّما تكون محركيتها بوجوداتها الواقعية الواصلة لا مجرد واقعيتها.

وأورد عليه بأنَّ المحرك إمّا أنْ يكون تكوينياً وهو الذي ينشأ من وجود غرض تكويني نحو الشيء ملائم مع قوة من قوى الإنسان أو رغبة من رغباته, وإمّا أنْ يكون محركاً تشريعياً, وهو عبارة عن حكم العقل بلا بدية التحريك؛ سواء كان لدى الإنسان غرض فيه أم لا؛

أمّا الأول؛ فإنَّ المحرك التكويني لم يكن محركاً إلا بالوصول, فإنَّ الشيء بوجوده الواقعي لم يكن من مبادئ الإرادة والتحرك لأنَّهما من العمليات الشعورية النفسانية وهي بحاجة إلى الوصول كما هو واضح, لكن الوصول له مراتب ودرجات تتفاوت بحسب درجات أهمية الشيء فتختلف من إحتمال وجود المطلوب.

وأمّا الثاني؛ فمرجعه إلى حق الطاعة, فهو الذي يلزم تطبيق العمل على وفق ما أمر به المولى وهذا لا إشكال فيه, ولكن الكلام في حدود هذا الحق؛ فمن يقول أنَه يشمل حالة

ص: 208


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص186.

الشك وعدم العلم بالتكليف فإنَّه يرى بوجود المحرك المولوي وثبوت الموجب له حتى مع الوصول الإحتمالي.

وفيه: إنَّ المحركية سواءً كانت تكوينية أم تشريعية لا تحقق لها, ولا يمكن أنْ تكون موجودة إلا بوصول ما يجب لها على نحو يوجب تحرك المكلف نحو التكليف, وهذا واضح جلي لا يمكن إنكاره, والوصول وإنْ كان له مراتب ودرجات إلا أنَّها تكون في حدود ما يحكم به العقل الذي يحدد هذه المحركية فيخصوص العلم بالتكليف فإنَّ العقل كما يدرك أصل المحركية نحو التكليف مطلقاً حتى المشكوك إلا أنَّه ينظم تلك المحركية أيضاً في خصوص التكاليف المعلومة بحيث لا تشمل التكاليف غير المعلومة.

وبعبارة أخرى: إنَّ الأحكام العقلية شأنها شأن غيرها من الأحكام الشرعية والعرفية تنظم بعضها بعضاً, فإنَّ العقل كما يدرك أصل المولوية وحقّ الطاعة على نحو العموم والشمول بحيث يشمل كلّ الإحتمالات إلا أنَّه هناك أحكام عقلية أخرى تنظم تلك العبودية نظير ما يحكم العقل بأنَّ الطاعة لا بُدَّ أنْ تكون في حدود ما يرضي المعبود ولا يبغضه, ولذا يحكم العقل ببطلان العبادة في ما هو المبغوض لديه, وكذا فيما يبغضه فليكن المقام كذلك, فإنَّ العقل إذا كان يدرك أصل العبودية وحق الطاعة ومولوية المولى ولكن نفس العقل يدرك أيضاً أنَّه لا مؤاخذه فيما لم يصل من التكليف إلى العبد فيقبح العقاب على التكليف غير المعلوم؛ فما ذهب إليه السيد الصدر قدس سره من إنكاره البراءة العقلية غير وجيه.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1)؛ من أنَّ القاعدة -أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان- من أفراد حكم العقل في باب الحسن والقبح العقليين اللذين مرجعهما إلى قضيتي حسن العدل وقبح الظلم.

ص: 209


1- . نهاية الدراية؛ ج2 ص190-191.

وفي المقام بعد افتراض المولوية نرى أنَّ مخالفة التكليف الذي قامت عليه الحجة خروج عن زي العبودية فيكون ظلماً قبيحاً, وأمّا مخالفة ما لم تقم عليه الحجة فليس ظلماً ولا يستحق فاعله العقاب واللوم.

وأنكر السيد الصدر قدس سره (1) عليه بأنَّه مصادرة على المطلوب, فإنَّه ما المراد من الحجة؛ فإنْ أريد بها ما يصحح العقاب كانت القضية بشرط المحمول, وإنْ أريد بها العلم فهو أول الكلام, فيكون الدليل عين المُدّعى.

وفيه: إنَّ ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره مؤيد لما ذكرناه من أنَّ التمسك بقضية حسن العدل وقبح الظلم ينظم قضية حقّ الطاعة ومولوية المولى في خصوصهما ولم يستلزم من تعميمها ما يوجب القبح عليه تعالى.

فما استدلَّ به المحقق المزبور في غاية المتانة وهو دليل على ما ذكرناه, فهذه القاعدة التي ذكرها هي التي تنظّم حقّ الطاعة في حدود ما لا يستلزم منها الظلم بالنسبة إلى المولى الحقيقي وإلا جاز مؤاخذة العبد وعقابه.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره أيضاً من أنَّ الحكم ينقسم إلى إنشائي وحقيقي, والأول؛ ما يحصل بالجعل والإنشاء من دون أنْ يفرض فيه داعي البعث والتحريك وهو محفوظ حتى في الأوامر الاستهزائية فضلاً عن الإختيارية.والثاني؛ ما يحصل بالجعل بداعي التحريك والبعث الحقيقي وهو الذي يكون حكماً حقيقياً ومن الواضح أنَّ الخطاب لا يعقل أنْ يكون باعثاً ومحركاً إلا أنْ يصل إلى المكلف لعدم الباعثية في صورة عدم الوصول, فالحكم الحقيقي لا يكون كذلك إلا في حالة وصوله, ومن دون ذلك لا وجود للحكم الحقيقي فلا يقبح العقاب على تركه لعدم وجوده.

ص: 210


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص27-28.

وأورد عليه السيد الصدر قدس سره بأنَّ الإنشاء يمكن أنْ يكون محركاً في حالة وصوله الإحتمالي بناءً على سعة دائرة حقّ الطاعة, وتصور عدم محركيته إنَّما يكون بناءً على ضيق دائرته وهو مصادرة.

وفيه: إنَّه لم تكن مصادرة بعد ما ذكرناه من أن حقَّ الطاعة, وإنْ اتَّسعت دائرته ليشمل الوصول الإحتمالي إلا أنَّه نضّم بحكم عقلي آخر من عدم شموله لما يستلزم منه قبح المؤاخذة والعقاب وذلك في التكليف غير المعلوم.

وأمّا الإعتراض عليه بأنَّ الحكم الإنشائي وإنْ لم يكن موجوداً في حالة عدم الوصول, إلا أنَّ ملاكات الأحكام ومبادئه من المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة فهي أمور تكوينية محفوظة في حالات العلم والجهل معاً, وهذه المبادئ هي روح الحكم وحقيقته وهي تكفي للحكم بالمنجزية وحق الطاعة في موارد قبالها سواء سمي ذلك حكماً اصطلاحاً أم لا. فإنَّه يرد عليه مضافاً إلى ما ذكرناه من أنَّه مجرد احتمال وجود المبادئ لا يكون حكماً ولا باعثاً ولا يجب امتثاله إذ لم تصل إلى المكلف، مع أنَّ ذلك نزول عن محركية حقّ الطاعة الذي هو أعظم من تصور المبادئ والحكم إلى أدنى الدرجات, فإنَّ تصور حقّ الطاعة ومولوية المولى يقتضي العبودية والإمتثال بكلِّ ما يحتمله تصور المبادئ أو لا, فالصحيح ما ذكرناه وما ذهب إليه السيد الصدر لا يمكن المساعدة عليه فافهم.

هذا تمام الكلام في البراءة العقلية وإنْ فصل بعض الأصوليين الكلام فيها بما لا يرجع إلى محصل.

وكيف كان؛ فإنَّ هذا البحث لا ثمرة له عملاً, فإنَّ البراءة الشرعية جارية في موارد الشك في التكليف ولا موجب للرجوع إلى الإحتياط فيه.

ص: 211

البحث الثاني: البراءة الشرعية

وقد استدلَّ عليها بالكتاب والسنة والإجماع.

والكلام يقع ضمن أمور:

الأمر الأول: الإستدلال بعدة آيات من الكتاب الكريم نذكر منها:

الآية الأولى: قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)(1).وقد ذكر في تقريب الإستدلال بها: إنَّ (ما) الموصولة تشمل التكليف, والمراد بالإيتاء هو الوصول, فيكون المعنى عدم التكليف إلا بما أوصله الله تعالى إلى العباد من الأحكام, إذن التكليف المجهول مِمّا لم يؤته الله فلا تكليف به.

وبعبارة أخرى: إنْ كان المراد من الموصول التكليف والحكم ومن الإيتاء الوصول فيكون مفاده عدم التكليف بغير ما وصل, وهو عبارة أخرى عن البراءة.

وتحقيق الكلام فيه: إنَّ المحتملات في مدلول الآية أربعة:

الإحتمال الأول: أنْ يكون المراد بالموصول فيها خصوص المال؛ فيكون المعنى أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لا يكلف بالأنفاق إلا إنفاق ما اعطاه الله من المال, ويعضد هذا الإحتمال كون المال مورد الآية الشريفة, لأنَّ في صدرها:(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ)

الإحتمال الثاني: أنْ يُراد بالموصول مطلق الفعل أعمّ من إنفاق المال وغيره؛ فيكون الإيتاء بمعنى الإقدار وإعطاء القدرة, ويكون المعنى لا يكلف الله إلا بما أقدر العبد عليه, والأنفاق مع التقتير في الرزق من مصاديق ما لم يقدر الله العبد عليه.

الإحتمال الثالث: أنْ يُراد بالموصول خصوص الحكم الشرعي؛ فيكون الإيتاء بمعنى الإعلام والوصول.

ص: 212


1- . سورة الطلاق؛ الآية 7.

الإحتمال الرابع: أنْ يُراد بالموصول أعمّ من الفعل والحكم؛ فيكون المراد بالإيتاء الإعلام في الحكم والإقدار بالنسبة إلى الفعل, لأنَّ إيتاء كلّ شيء بحسبه.

وغير خفيّ أنَّه على الأولين لا ربط للآية الشريفة بالمقام -وهو البراءة الشرعية- لأنَّه على الأول ينتفي التكليف بخصوص ما لم يُقدر الله العبد على المال, وعلى الثاني ينتفي التكليف بغير المقدور فتكون من أدلَّة اعتبار القدرة مع التكليف, وكلّ منهما لا يرتبط بما نحن فيه.

والثالث والرابع وإنْ كان كلّ واحد منهما ينطبق على ما نحن فيه فتفيد نفي التكليف المجهول؛ إلا أنَّه استشكل على الثالث بأنَّه يتنافى مع مورد الآية الشريفة الذي هو الأنفاق بما يملك من المال, وعلى الرابع بأنَّ تعلّق فعل (يكلف) في الآية بالحكم يختلف عن نحو تعلقه بالفعل, فإنَّ تعلقه بالحكم يكون بنسبة المفعول المطلق, وتعلقه بالفعل نسبة المفعول به, ولا جامع بين النسبتين؛ فإرادتهما معاً يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

وحاول العلماء الجواب عن هذا الإشكال بوجوه:

الجواب الأول: محاولة المحقق العراقي(1) الجواب عنه بوجهين:أحدهما؛ إستعمال الموصول في المعنى الكلي العام وإرادة الخصوصيات من دوال أخرى خارجية فيرتفع المحذور فيكون تعلق الفعل بالموصول بنحو واحد, وتعدده بالتحليل إلى

نحوين لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول.

وعليه؛ يمكن التمسك بإطلاق الآية على البراءة.

والآخر؛ المراد من التكليف في الآية الشريفة ليس هو المعنى الإصطلاحي وهو الحكم حتى يلزم أنْ تكون منه نسبته إلى الحكم نسبة المفعول المطلق, لأنَّ إرادة هذا المعنى منها يستلزم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها, لأنَّها تدلُّ على نفي التكليف واقعاً في

ص: 213


1- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص202.

حقِّ الجاهل وهذا مِمّا لا يلتزم به العلماء, وإنَّما المراد من التكليف هو المعنى اللغوي منه وهو المشقة والكلفة, وعليه؛ تعلقه بالموصول بمعناه الجامع بين النسبتين؛ المفعول به والمفعول وهو المفعول النشوي, فيكون المعنى على الأول أنَّه تعالى لا يوقع عبادة في كلفة حكم أو فعل إلا ما آتاه الله من قبله حكم أو فعل آتاه إياهم, فتكون نسبة الفعل إلى الموصول نسبة واحدة مع التحفظ على إرادة المعنى العام منه واستفادة الخصوصيات من دالٍّ آخر, فيكون الإطلاق في الآية يدلُّ على البراءة.

وقد أشكل على ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من أنَّ ما ذكره إنَّما يثبت وجود نسبة جامعة بين النسبتين وهو خلاف ما برهن عليه في المعاني الحرفية من تباين النسب ذاتاً وعدم وجود جامع ذاتي ماهوي بينها إلا أنْ يريد وجود نسبة ثالثة مباينة ذاتاً مع كلٍّ من النسبتين تكون ملائمة مع إطلاق الموصول, فهو وإنْ كان ممكناً إلا أنَّه لا يمكن إثباته بإجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في الموصول بل تكون النتيجة على الأقل الإجمال.

وفيه: إنَّه تقدم الكلام في مبحث الوضع أنَّ المعاني الحرفية لا تختلف عن غيرها في وضعها إلا في بعض الخصوصيات من كون استعمالها ربطياً لا إستقلالياً فيمكن تصحيح ما ذكره المحقق العراقي على ذلك مع أنَّه لم يدَّعِ أنَّه إستعمال في نسبتين متباينتين أو إرادة نسبة ثالثة, بل المستعمل فيه المعنى الكلي الجامع وتصويره بما يجمع بين أمرين متباينين بمكان من الإمكان كما لا يخفى.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنَّ المصدر قد ينظر إليه بنحو الإسم, وهو بهذا النظر يكون ذاتاً فيصحُّ أنْ يقع مفعولاً به لأنَّه بهذا اللحاظ يكون ذاتاً كسائر الذوات لا أنْ يكون مصدراً وحدثاً.

ص: 214

وأورد عليه بأنَّ المصدر وإنْ أمكن أنْ ينظر إليه بعناية وهي تثبت كيفية لحاظ المصدر لا أنْ يكون هناك شيئان حقيقيان خارجاً؛ أحدهما المصدر, أي الحدث والآخر إسم المصدر, أي الذات, والإطلاق ومقدمات الحكمة في إسم الموصوللا تثبت إلا عمومه لا أنْ تثبت كونه كحدث في الخارج يصلح لذلك كما هو المفروض.

وقد أشكل أيضاً على الإستدلال بالآية الكريمة على البراءة بوجوه:

1- إنَّ سياق الآية الكريمة إنَّما يدلُّ على الأخذ بالقدر المتيقن وهو المال فقط فيكون مانعاً من دلالة الموصول على الإطلاق.

2- إنَّ مفاد الآية الكريمة يكون نظير مفاد قبح العقاب بلا بيان, لأنَّها تنفي الكلفة من قبل التكليف مع عدم وصوله.

وعليه؛ تكون أدلَّة الإحتياط على تقدير تمامية دلالتها واردة عليها, فهي تفيد إيجاب الإحتياط فيكون واصلاً من جهته فيرتفع موضوع الآية, ولذا يصح للأخباري الإستدلال بالآية الكريمة على وجوب الإحتياط.

3- إنَّ الإيتاء بما هو منسوب إليه سبحانه عبارة عن الإعلام بالتكليف عن طريق الوحي إلى أنبيائه وأمرهم بتبليغه, فإذا لم يتحقق الإعلام منه عَزَّ وَجَلَّ لم يجب تبليغه, فيكون مفاد الآية الكريمة مفاد قول أمير المؤمنين علیه السلام : (إِنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُوداً فَلَا تَعْتَدُوهَا وفَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تَنْقُصُوهَا وسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَسْكُتْ عَنْهَا نِسْيَاناً)(1), فلا ربط لها بالمقام الذي هو عدم وصول التكليف إلى العباد من جهة إخفائه بسبب ظلم الظالمين.

ص: 215


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 27 ص175.

والحقُّ أنَّ شيئاً مِمّا ذكر غير تام, فإنَّ الآية الكريمة في مقام بيان قاعدة كلية, وإن قوله عَزَّ وَجَلَّ: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)(1) قد سيق مساق الكبرى الكلية المعلّل بها, ومثل ذلك لا يناسب التقييد بالمورد, فيكون مفاد الآية الكريمة عدم التكليف بشيء أبداً؛ حكماً أو غيره, إلا بما أقدره الله تعالى عليه وأعطاه من المال وبيان التكليف, وإيصال الحكم نحو من الإقدار عليه عرفاً, فيكون إنطباقه على الصدر من انطباق الكلي على بعض أفراده ومصاديقه, ويشهد لما ذكرناه ما ورد في الحديث عن مولانا الصادق علیه السلام حين سُئل عن تكليف الناس بالمعرفة قال علیه السلام : (لَا؛ عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ؛ (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسعَهَا)(2) و(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)(3))(4), فيتم الإستدلال بها على البراءة الشرعية, وظهور عمومها يشمل قبل البعثة وبعدها, ومن ذلك يتَّضح أنَّ الإشكالات المزبورة إنَّما نشأت من عدم التعمق من مدلول الآيةالكريمة وسلخها عن معناها الكلي وكونها بمنزلة القاعدة التي يتمسك بها في موارد كثيرة ولها مصاديق متعددة.

على أنَّ بعض تلك المناقشات نشأت من توهم كون المراد من التكليف في قوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ ) هو الحكم, والذي هو اصطلاح أصولي فتوهم أنَّه لا يشمله إلا كون الموصول مفعولاً مطلق وهو أنَّه مخالف لمفهوم الحكم والجعل فيصحّ وقوعه مفعولاً به على حدّ سائر الذوات من المال والفعل, لكنَّنا تعدينا عن ذلك وجعلنا الآية قد سيقت على نحو القاعدة الكلية والكبرى المعللّ بها.

ص: 216


1- . سورة الطلاق؛ الآية 7.
2- . سورة البقرة؛ الآية 286.
3- . سورة الطلاق؛ الآية 7.
4- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج 1 ص163.

ومنه يظهر أنَّ الإشكال الذي ذكر أنَّ من أدلَّة الإحتياط على فرض تمامية دلالتها واردة عليها باعتبار أنَّها تثبت حكماً فلا يكون جهل للحكم؛ فإنَّ مفاد الآية الشريفة بناءً على ما ذكرناه من أنَّه لا كلفة في المورد الذي لم يصل تكليف فيه ويجهل الحكم في مورده, وهذا ينافي إيجاب الإحتياط الشرعي لا أنْ يكون مفاد الآية الشريفة أنَّ الشيء الذي لم يصل لا يكلف بسببه فلا يكون نافياً للإحتياط الشرعي لأنَّه يثبت الكلفة بسببه.

قد يقال بأنَّ الآية الكريمة بناءً على ذلك لا تشمل الشبهات الموضوعية, لأنَّ الحكم من الشارع يختص بالشبهات الحكمية, ولكن الصحيح أنَّ عموم الآية يشمل الشبهتين معاً, وأنَّ الإتيان أعمّ من التكويني والتشريعي لا الأخير خاصة؛ كما عرفت من أنَّها سيقت على أنْ تكون قاعدة وكبرى كلية, فهي تدلُّ على نفي وجوب الإحتياط في الشبهتين معاً لكن لا تشمل الشبهة قبل الفحص, فإنَّ الحكم لا يصدق إلا على ما يكون المدرك موجوداً في أيدينا لما عرفت سابقاً من أنَّ الشبهة التي تكون مورد البحث ما كانت مستقرة وقبل الفحص لا تكون كذلك.

الآية الثانية: قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)(1).

وتقريب الإستدلال بها: إنَّ مفاده ملازمة العذاب لتمامية الحجة وتحقق المخالفة, فمع عدم تماميتها لا موضوع للعذاب, مقابل أنَّه مع تمامية الحجة وعدم تحقق المخالفة فإنَّه لا عقاب أيضاً, فيكون مفاد الآية الشريفة مفاد قبح العقاب بلا بيان فيصحُّ الإستدلال بها للمقام وبعث الرسول كناية عن إتمام الحجة وتمامية البيان لا مجرد بعث الرسل فقط من دون تمامية البيان.

ص: 217


1- . سورة الإسراء؛ الآية 15.

واستشكل عليه بوجوه:

الإشكال الأول: إنَّها على نفي فعلية العقاب لا أصل استحقاقه وهو أعم من المقصود, فإنَّ الذي يقيد المقام الثاني دون الأول.وفيه: إنَّه يمكن دعوى الملازمة العرفية بين نفي الفعلية ونفي الإستحقاق؛ خصوصاً بالنسبة إلى عنايات الله عَزَّ وَجَلَّ غير المتناهية لا سيما قبل تمامية الحجة والبيان, فإنَّ الملازمة حينئذٍ متحققة.

وقد يقال بأنَّه منقوض في الظهار, حيث يثبت الإستحقاق دون الفعلية؛ ولكنه مردود بأنَّ ذلك لدليل خاص لا يضرّ بدعوى الملازمة العرفية, فإنَّ هذا مع قطع النظر عن الدليل الخاص على خلافها, كما ورد الدليل على عدم الفعلية في مورد الشفاعة ومورد تكفير السيئات بالحسنات وفي غيرهما, فإنَّ الملازمة العرفية بين نفي الإستحقاق ونفي الفعلية متحققة, ولعل ما ذكره بعضهم في الجواب عن هذا الإيراد بأنَّ لسان الآية الكريمة من ألسنة الترخيص ورفع المسؤولية عرفاً يرجع إلى ما ذكرناه ولا بأس به.

الإشكال الثاني: إنَّ العذاب المذكور في الآية هو العذاب الدنيوي لا الأخروي؛ فيكون أجنبياً عن المطلوب.

وفيه: إنَّه مخالف لعموم الآية وعدم وجود ما يدلُّ على تقييد العذاب فيها بالدنيوي إلا ما يقال بأنَّ فعل الماضي يدلُّ على ذلك, ولكن ذلك ينافي سياق الآية الذي يدلُّ على نفي الشأنية لا الإخبار عن الأمم الماضية الهالكة, إنْ لم نقل بأنَّ السياق يدلُّ على نفي العذاب الأخروي فإنَّ مجموع الآيات التي من ضمنها آية المقام إنَّما ترشد إلى عالم التشريع, أي عالم المسؤولية والإدارة والعقاب الأخروي.

الإشكال الثالث: إنَّ المقدار الذي يثبت بها هو البراءة ما لم يصدر من الشارع البيان لا ما لم يصل إلى المكلف, لأنَّ بعث الرسول غاية ما يمكن أنْ يحمل عليه هو الكناية عن صدور

ص: 218

التشريع لا وصوله إلى المكلف, والمطلوب هو إثبات البراءة فيما لم يصل إلى المكلف, فغاية ما تدلُّ عليه الآية إناطة العقاب بالصدور والتشريع لا بالعلم والوصول وهو مطلب آخر لا يمكن إحرازه في الشبهات أو إحرازه باستصحاب عدم الصدور ولكنه مرجوع إلى الإستصحاب الذي يمكن إجراؤه في عدم جعل الحكم إبتداءً وإنْ كان الأول موضوعياً والثاني حكمياً, ولكن يمكن الإشكال على ما ذكر بما تقدم من أنَّ بعث الرسول كناية عن بيان الحجة وتماميتها وهما يتحققان بالتشريع والوصول لا أنْ يختّص بالأول فقط.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ الآية بالتقريب الذي ذكرناه تفي بالمطلوب وتثبت البراءة.

ثم إنَّ بعض الأخباريين إستدلَّ بهذه الآية الكريمة على عدم الملازمة بين حكم العقل والشرع إذ لا ريب في ثبوت حكم العقل بحسن الإحسان وقبح الظلم قبل بعث الرسل والأنبياء, فإنَّه إذا تمت الملازمة بين الحكمين يلزم ثبوت العقاب قبل البعثة أيضاً لقاعدة الملازمة مع أنَّ الآية تنفيه فتبطل بها.ويرد عليه: إنَّ الآية الكريمة إنَّما تنفي العقاب قبل البعثة مِمّا ينبغي أنْ يؤخذ منهم لا نفي العقاب قبلها مطلقاً حتى فيما استقلت آراء العقلاء كافة بقبحه, فالآية الكريمة ساكتة عن ذلك, وقد يستفاد ذلك من أدلَّة أخرى كما هو مفصل في محله.

الآية الثالثة: قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(1).

وتقريب الإستدلال بها: إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قد أخبر نبيه كيفية المحاجّة مع أهل الكتاب في تحريم ما لم ينزل به من سلطان؛ بأنَّه لا يجد فيما أوحي إليه محرماً غير ما ذكر فإنَّ عدم الوجدان يكفي في التخلص من تبعات التكليف.

ص: 219


1- . سورة الأنعام؛ الآية 145.

ولكن يمكن الإشكال عليه بأنَّ عدم الوجدان من النبي صلی الله علیه و آله و سلم دليل على عدم الوحي قطعاً وعدم التشريع فلا حرمة في الواقع جزماً, ولم تكن الآية في مقام جعل الحكم الظاهري فإنَّه لا يناسب مقام التخاصم مع أهل الكتاب كما لا يخفى, فإذا لم يكن تشريع في البين فلا وجه لإجراء البراءة, فإنَّها تجري في مورد عدم الوصول وإخفاء الحكم بسبب ظلم الظالمين.

الآية الرابعة: قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)(1).

بتقريب: إنَّ الإضلال بأيِّ معنى أخذ الموجب للعقوبة لم يكن يتحقق إلا بعد بيان موجبات التقوى؛ وهو معنى البراءة, إذ البيان يُراد به الوصول والعلم ولكن الإشكال في أنَّ مفاده سنخ براءة منافية مع دليل الإحتياط أو محكومة له, وقد أشكل الشيخ الأنصاري قدس سره (2) في دلالتها على البراءة بما لا مزيد عليه.

والحاصل؛ إنَّ الآيات الشريفة لو تمت دلالتها على البراءة وسلمت عن الإشكال فإنَّها إرشاد إلى حكم العقل من قبح العقاب بلا بيان.

الأمر الثاني: الإستدلال بالسنة على البراءة

وقد إستدلَّ بعدة أخبار:

حديث الرفع
اشارة

منها: حديث الرفع المشهور بل المستفيض نقله بين الفريقين, فقد روى الصدوق في الخصال عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ؛ الْخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ ومَا لَا يَعْلَمُونَ ومَا لَا يُطِيقُونَ ومَا اضْطُرُّوا

ص: 220


1- . سورة التوبة؛ الآية 115.
2- . فرائد الأصول؛ ج2 ص24.

إِلَيْهِ والْحَسَدُ والطِّيَرَةُ والتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْوَةِ(1)؛ مَا لَمْ يَنْطِقُوا بِشَفَةٍ)(2).وموضع الإستشهاد قوله صلی الله علیه و آله و سلم : (ومَا لَا يَعْلَمُونَ) المعطوف على ما رفع عن الأمة فقد رفع ما لا يعلمون, ولتوضيح الإستدلال به وما ذكره الأعلام في المقام يقع الكلام في عدة مقامات:

المقام الأول:

دلالة الحديث على البراءة الشرعية تبتني على المراد من كلمة (رفع) وتوضيح الجواب عن الأمور التالية:

1- في أنَّ الرفع والدفع واحد.

2- الرفع والوضع.

3- الرفع ظاهري أو واقعي.

أمّا الأول؛ فقد ذهب المحقق النائيني قدس سره (3) إلى أنَّ الرفع والدفع واحد وأنَّ الرفع في الحقيقة دفع باعتبار أنَّهما يمنعان من تأثير المقتضي في الزمان اللاحق, لأنَّ بقاء كلّ شيء يحتاج إلى علّة مبقية كحدوثه, وعليه؛ يصحّ استعمال الرفع في مقام الدفع حقيقة بلا تجوز وعناية.

وقد أشكل عليه بأنَّ حقيقة الرفع والدفع وإنْ كانت واحدة بحسب الوضع اللغوي كما ذكره إلا أنَّ الذي يمكن تصوير الفرق بينهما عرفاً أنَّ ما يمنع من تأثير المقتضي إنْ كان في مرحلة الحدوث يطلق عليه الدفع وإنْ كان يمنع من تأثير المقتضي في مرحلة البقاء يطلق عليه الرفع؛ فهما مختلفان مفهوماً عرفاً, ومن أجل ذلك لا يمكن استعمال أحدهما في مقام الآخر إلا على نحو المسامحة في المحاورات, ولا يرتبط ذلك بمقام الوضع كما هو واضح,

ص: 221


1- . وفي نسخة: الخلق.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج15 ص369.
3- . فوائد الأصول؛ ج3 ص336-337.

نعم؛ قد يقال بأنَّ الرفع في الحديث استعمل بما يساوق معنى الدفع لأنَّ من الواضح عدم حدوث الأحكام في مقام الإضطرار وغيره لا أنَّها حدثت ثم ارتفعت فالمقصود بيان عدم استمرارها, ولعله من أجل هذا حاول بعض مقرري السيد الخوئي تصحيح إرادة معنى الرفع من لفظه في الحديث باعتبار عدم ثبوت هذه الأحكام للأمم السابقة فيكون عدم ثبوتها إرتفاعاً لا إندفاعاً.

والحقُّ أنَّ جميع ما ذكر تطويل لا طائل تحته وبدون فائدة؛ بعد أنْ كان المراد من الحديث معلوماً فالبحث عن إتّحاد الرفع والدفع يكون بلا أثر عملي يذكر؛ قلنا بأنَّ استعمال الرفع في معناه حقيقي أو استعماله في معنى الدفع مجازاً وبالعناية أم لم نقل.

أمّا الثاني؛ المنساق من الرفع عرفاً ولغةً أنَّه خلاف الوضع, ويدلُّ عليه قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ ..... وَعَنِ الطِّفْلِ حَتَّى يَحْتَلِمَ)(1), أي أنَّه لميوضع الإلزام في هذه الموارد المذكورة في حديث الرفع سواء كان لعدم المقتضي له أصلاً أم لوجود المانع.

وعليه؛ فإنَّ الحديث يدلُّ على أنَّ الإلزام المجعول غير معاقب عليه ويثبت المطلوب, وربما يقال بأنَّ ذلك ينافي لما هو المشهور من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل وعدم اختصاصها بالأول؛ ولكنه باطل بأنَّ الاشتراك إنَّما يصحُّ فيما ثبت الحكم بالدليل لا فيما إذا لم يثبت عليه

دليل فلا موضوع لقاعدة الإشتراك فيها.

وأمّا الثالث؛ فإنَّه مِمّا لا إشكال فيه أنَّ هناك رفع ووضع حقيقي واقعي للتكليف كذلك يكون رفع ووضع ظاهري له وهو يعني رفع إيجاب الإحتياط من ناحية ذلك التكليف ووضعه.

ص: 222


1- . دعائم الإسلام؛ ج1 ص194.

ويكفي في دلالة الحديث على البراءة أنْ يكون المراد من الرفع الظاهري منه لا الواقعي, وربما يستشكل عليه بأنَّ هذا خلاف الظاهر للرفع الذي يراد به الرفع الواقعي ولا أقل أنَّه ليس ظاهراً في الرفع الظاهري فيكون مجملاً, وهذا الإشكال ينحلّ إلى دعويين:

إحداهما؛ إنَّ ظاهر الرفع هو الواقعي لا الظاهري وإرادة الثاني تحتاج إلى عناية خاصة؛ إمّا في مادة الرفع؛ بأنْ لا يكون المراد منها الرفع الحقيقي للحكم المجهول, وإمّا في نسبته إلى ما لا يعلمون؛ حيث يراد الرفع الحقيقي من المادة ولكن لا للحكم المجهول بل لإيجاب الإحتياط من ناحيته؛ وكِلتا العنايتين على خلاف الأصل.

والأخرى؛ إنَّه لو أريد منه الرفع الواقعي فلا يمكن إثبات ما هو المطلوب, إذ في موارد الشبهات يعلم عادة بأنَّه لو ثبت الحكم الواقعي في حقِّ العالِم فهو ثابت في حق الجاهل أيضاً لقاعدة الإشتراك.

وأشكل عليهما بأنَّ العناية التي ذكرت في الدعوى الأولى لا بُدَّ منها على كلِّ حال؛ سواء أريد به الرفع الواقعي أم الظاهري, لأنَّ الرفع الواقعي يستلزم منه تقييد التكليف الواقعي بالعلم به وهو مرفوض بل هو مستحيل إلا أنْ يكون المراد أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول, ومعه لا يكون المرفوع هو المجعول الذي لا يعلمونه بل المرفوع فعلية الحكم وما لا يعلمونه هو الجعل فلم يسند الرفع إلى ما لا يعلمونه, وقالوا أنَّ هذه العناية واقعة على كلِّ حال فيتعين إرادة الرفع الظاهري, واستشهد عليه تارةً؛ بأنَّه من مناسبة الحكم والموضوع, فإنَّ مناسبة أخذ الشك وعدم العلم في لسان الدليل يستدعي أنْ يكون الحكم هو الظاهري دون الواقعي.

وأخرى؛ مِمّا استشهد المحقق العراقي على ذلك بسياق الخبر الإمتناني الذي يتحقق في رفع إيجاب الإحتياط وإنْ كان الإمتنان يحصل أيضاً في الرفع الحقيقي ولكنه مردود بما عرفت.

ص: 223

وثالثة؛ بأنَّ ظاهر الحديث أنَّ المرفوع حتى لو لم يكن هذا الحديث لكان موضوعاً على الأمة وهذا لا يناسبه إلا الرفع الظاهري فإنَّه لولاه لكان إيجاب الإحتياط موضوعاً على الآية, وأمّا الرفع الواقعي فليس كذلك إذ ربما لا يكون ما لا يعلمونه من التكاليف ثابتاً في الواقع.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ إطلاق الرفع في الحديث الشريف يشمل كِلا الحكمين؛ الواقعي والظاهري؛ إنْ كانا ثابتين في المورد الذي لا يعلم حكمه إلا أنْ يستلزم من رفع أحدهما ما ينافي القواعد المسلمة, كما في رفع الحكم الواقعي حيث يستلزم منه اختصاص الحكم بالعالم دون الجاهل وهو مستحيل, فحينئذٍ ينتقل إلى الرفع الظاهري, فالمقتضي لشمول الرفع لكِلا الحكمين موجود في الحديث ولكن قد يثبت مانع في البين يمنع من شموله لأحدهما وهذا الوجه هو الذي يناسب سياق الحديث الدالّ على الإمتنان الشامل لكليهما ولا يكون الحديث مجملاً مردداً بين الرفع الواقعي والظاهري فالحديث تام الدلالة بناءً على ما ذكرناه فيستفاد منه البراءة ويرفع به الحكم الظاهري وهو إيجاب الإحتياط في موارد الجهل بالحكم.

المقام الثاني: في بيان أمور تتعلق بالتمسك بالحديث في إثبات البراءة.

الأمر الأول: ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ الحديث قد ورد في مقام بيان القاعدة الكلية والإمتنان على الأمة, فإنَّ مقتضى عمومه وإطلاقه تعميم متعلق الرفع لكلِّ ما أمكن رفعه في الشريعة وكان فيه التسهيل والإمتنان على الأمة, سواء كان التكليف نفسياً أم غيرياً؛ حكمية كانت الشبهة أم موضوعية, كما تعمّ الوضعيات أيضاً؛ تأسيسية كانت أم إمضائية أم كان من تنزيل الموجود منزلة المعدوم أم العكس؛ فيرفع الإلزام والصحة والجزئية والشرطية والسببية والمسببية والقضاء والإعادة وكل أثر شرعي إلا ما خرج بالدليل.

ص: 224


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص166.

والكلام في ذلك يقع من جهات:

الأولى: في إمكان تصوير الجامع بينها ثبوتاً.

الثانية: في عموم مفاد الحديث إثباتاً.

الثالثة: في ذكر الإشكالات الواردة في المقام.

أمّا الجهة الأولى؛ فقد ذكر صاحب الكفاية في توجيه الجامع بأنَّ مدلول إسم الموصول في (ما لا يعلمون) يساوق الشيء, وهو جامع بين التكليف والموضوع الخارجي, لأنَّ كلاً منهما شيء لا يعلمونه فيكون مشمولاً للحديث إذا كان قابلاًللرفع, وعليه؛ فلا يختص بهما كما ذكره قدس سره بل يشمل جميع ما ذكره السيد الوالد قدس سره , لأنَّ مفهوم الشيء يشملهما.

وقد إعترض عليه بأنَّ الموصول إذا أخذ بمعنى الشيء الجامع بين التكليف والموضوع الخارج واسند الرفع إليه يلزم الجمع في الإسناد بين الإسناد الحقيقي والمجازي, لأنَّ إسناد الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم والتكليف حقيقي بينما إسناده إلى الموضوع الخارجي مجازي عنائي إذ لا يرتفع الموضوع الخارجي حقيقة, والجمع بينهما غير معقول.

وأُجيب عنه بعدة وجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من عدم البأس في أنْ يكون إسناد واحد من ناحية حقيقياً ومن ناحية أخرى مجازياً, لأنَّ التقابل بين الحقيقة والمجاز ليس تقابلاً حقيقياً كالأضداد بل يكون اعتبارياً, فلا مانع من صدقهما معاً في إسناد واحد باعتبارين.

وعليه؛ يكون إسناد الرفع في الحديث إلى الشيء -أي الموصول- من حيث إنطباقه على التكليف يكون حقيقياً ومن حيث إنطباقه على الموضوع الخارجي يكون مجازياً.

ص: 225


1- . نهاية الدراية؛ ج4 ص49.

وأشكل عليه بأنَّ الإنسداد إنْ كان في مجال التطبيق والمصداق بلحاظ التكليف يكون حقيقياً, وبلحاظ الموضوع يكون مجازياً؛ فهو صحيح كما ذكره قدس سره ولكن الملحوظ هو مرحلة الإستعمال والإسناد الكلامي التي هي مرتبة أسبق من مرحلة انحلال المعنى على مصاديقه خارجاً, ففي هذه المرتبة فإنَّ الهيئة الإسنادية إمّا أنْ تكون مستعملة فيما هو له فتكون حقيقة, أو في غير ما هو له فتكون إسناداً عنائياً مجازياً لاختلاف النسبتين والتباين بينهما, فلا يمكن الإستعمال فيهما معاً, لأنَّه من الإستعمال في أكثر من معنى ولا جامع بينهما لتباينهما سنخاً كما عرفت فلا بُدَّ أنْ تكون في استعمال واحد.

وفيه: إنَّ إثبات التباين في النسبة التي هي من الإعتباريات أمر غريب في حد نفسه مع أنَّه يمكن الجمع بين النسبتين المتباينتين باعتبارين ولحاضين؛ ولا ضير في ذلك, ويأتي تتمة الكلام مع أنَّ الكلام في مرحلة التطبيق, وأمّا مرحلة الإستعمال فقد استعمل اللفظ فيما هو له, وهو الشيء المبهم المتوغل في العموم.

الوجه الثاني: ما ذكره أيضاً من أنَّ الشيء إذا شمل الحكم والموضوع الخارجي معاً فقد أسند الرفع إلى المركب مِمّا له الرفع وما ليس له الرفع والمركب كذلك ليس له الرفع, كما أنَّ المركب من الذاتي والعرضي ليس بذاتي.

وأورد عليه:

أولاً: بمثل ما أورد على سابقه من اختلاف النسبتين وتباينهما سنخاً فلا يكفي مجرد توسيع نطاق طرف النسبة للتعميم والجواب عنه نفس ما ذكرناه.

ثانياً: إنَّ المركب مِمّا يقبل الرفع وما لا يقبل لو أريد به العام المجموعي كما هو الظاهر من كلمة المركب الذي هو قابل للرفع حقيقة برفع الجزء القابل منه, فإنَّ المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه, نعم؛ لو كانت عبارته قدس سره أنَّ الجامع بين ما يقبل الرفع وما لا يقبل لكانت صحيحةً, لأنَّ الجامع لا يمكن رفعه إلا برفع تمام مصاديقه فإذا كان فيها ما لا يقبل الرفع

ص: 226

فالجامع لا يقبله ولكن ذلك أيضاً لا يفيد, لأنَّ الجامع بمعنى صرف الوجود خلاف الإنحلالية كما هو واضح.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ المراد من الموصول التكليف الأعم من الحكم الكلي والجزئي فيكون الإسناد حقيقياً على كل حال.

وأورد عليه بأنَّه صحيح وتنحل به الشبهة, إلا أنَّه يبقى الإشكال بالنسبة إلى الفقرات الأخرى في الحديث الشريف, فإنَّ الموصول فيها لا يكون إلا الفعل الخارجي ولكن يمكن الجواب عنه بأنَّ الفعل في تلك الفقرات طريق إلى الحكم الجزئي المتعلق به.

الوجه الرابع: إنَّ الرفع في الحديث عنائي على كلِّ حال, فليس المقصود الرفع الحقيقي الواقعي بل الظاهري, وهو رفع بالعناية والمجاز سواء أسند إلى الفعل أم إلى الموضوع الخارجي, والمعنى أنَّ الكلفة والمشقة المترتبة على ما لا يعلمونه أو لا يطيقونه موضوعةٌ؛ سواء كان حكماً أم فعلاً وموضوعاً خارجاً.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ جميع الوجوه المذكورة فيها من التكلّف كما لا يخفى, وهي على التسليم بأصل الإشكال المزبور غير واردة من الأساس, فإنَّ الحديث فيه من قوة الخطاب ما يدلُّ على أنَّه في مقام تأسيس قاعدةٍ كلية, وأنَّه في مقام الإمتنان والتسهيل على الأمة, وهذا الأسلوب في التقنين له من الشمول والعموم والإطلاق ما يشمل جميع ما يرتبط بذلك؛ سواء كان موضوعاً أم تكليفياً, أم وضعياً, والتكليف كان نفسياً أم غيرياً, فإنَّ ذلك هو الذي يناسب جعل القانون، والإمتنان والتسهيل الذي يدلُّ عليه سياق الحديث فلا حاجة إلى تأويل الموصول تارةً؛ ليكون بمعنى الشيء أو بمعنى التكليف أو يكون الرفع عنائياً لا أنْ يكون حقيقياً, فإنَّ كلّ ذلك تطويل لا طائل تحته, فإنَّ الأسلوب الذي يتبع في

ص: 227


1- . بدائع الأفكار؛ ص325.

جعل القوانين الكلية وما يقارنه من الدلالات لكونه في مقام التفضل والإمتنان يختلف عن غيره كما هو الشأن في كثير من الدساتير الحديثة إلا أنْ يخرج فرداً من ذلك القانون الكلي بدليل خاص كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.وأمّا الجهة الثانية؛ بعدما عرفت أنَّ الحديث فيه من العموم والإطلاق ما يشمل الشبهتين؛ الحكمية والموضوعية؛ إمّا بتصوير الجامع أو من أسلوبه الخاص الذي هو في مقام إعطاء القاعدة الكلية كما ذكرنا؛ فقد ذكر بعض الأصوليين أنَّ الحديث قيد عمومه وإطلاقه, وقد ذكروا لذلك وجهين:

الوجه الأول: دعوى الإختصاص بالشبهة الموضوعية بقرينة السياق في الفقرات الثمانية الأخرى, حيث أنَّها جميعاً يراد بالموصول فيها أو غيره الموضوع الخارجي, فظهور السياق يحمل الموصول في ما لا يعلمون على الفعل أيضاً.

ويرد عليه:

أولاً: ما ذكرناه من أنَّ الأسلوب الخاص في الحديث الشريف يشمل كل ما يرتبط بالموضوع الوارد فيه إلا ما خرج بالدليل, ففي جميع الفقرات الأسلوب واحد وإنَّما اختصَّ بالموضوع لقرينة لا تجري في غيرها, فيشمل كِلتا الشبهتين فيما لا يعلمون, حيث لا قرينة على الإختصاص والتقييد.

ثانياً: إنَّ تعدد الدوال في سياق واحد أمر عادي في الخطابات وهي بحسب المفهوم ولكن الإختصاص فيها في المصداق كما عرفت.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من دعوى الإختصاص بالشبهة الحكمية, لأنَّ ما لا يعلمون لا ينطبق على الموضوع الخارجي, لأنَّ الموضوع الخارجي ذاته معلومة وإنَّما الشك في وصفه وعنوانه وهذا بخلاف الحكم.

ص: 228

وفيه: ما عرفت سابقاً من أنَّ الحديث الشريف في مقام بيان القاعدة الكلية مع أنَّه يكفي الجهل بالعنوان لصحة تطبيق الموصول على الموضوع الخارجي كشرب الخمر فيقال إنَّه مِمّا لا يعلمونه, كما أنَّه ربما يكون الذات الخارجية مشكوكة فلا إشكال في عموم الحديث للشبهتين وغيرهما مِمّا ذكرناه.

وأمّا الجهة الثالثة؛ في ذكر بعض الإشكالات حول ما استفيد من الحديث من البراءة وقد ذكرنا بعضاً منها فيما سبق وهي:

الإشكال الأول: إختلفوا في ما هو المقدّر في متعلق الرفع من كونه جميع الآثار أو المؤاخذة أو الأثر الظاهر وهذا الإختلاف إنَّما ينشأ فيما إذا قلنا بمجازية الإسناد حيث يقع الكلام في أنَّ الرفع أسند مجازاً إلى نفس المذكورات أو أسند حقيقة إلى أمر مقدر مضاف إليها ثم ما هو الأمر المقدّر؟.

وأمّا إذا قلنا بأنَّ الرفع المسند إلى متعلق الحكم يكون إسناداً حقيقياً لا تجوز فيه ولا عناية فلا مجال للإحتمالات السابقة وهذا هو الصحيح الذي اخترناه, فإنَّ الملحوظ هو رفعه في عالم التشريع لا عالم التكوين, فإنَّ رفع الحكم عنه ملازم لعدم ثبوته في عالم التشريع والأحكام حقيقة فيصح إسناد الرفع إليه حقيقة.وبعبارة أخرى: إنَّ رفع الموضوع في عالم التشريع يكون برفع حكمه وهو كافٍ في صحة إسناد الرفع إليه حقيقة بلحاظ ذلك العالم الخاص, فيكون رفع الحكم واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض, وعليه؛ فلا حاجة إلى التكلّف.

والقول بأنَّ إسناد الرفع إلى الموضوع حقيقة, لأنَّ الشوق والإرادة التي هما من الصفات النفسية التي له متعلق وهو كما يكون له وجوداً خارجياً يكون له وجوداً شوقياً, فيصحُّ إسناد الرفع إلى معروض الحكم حقيقة لانعدامه حقيقة بانعدام نفس الحكم, لأنَّ له وجود بوجود الحكم نفسه فإنَّ هذا الوجه لا يخلو من تكلف واضح.

ص: 229

الإشكال الثاني: تقدم فيما سبق أنَّ الرفع فيما لا يعلمون إذا كان رفعاً واقعياً كما هو كذلك في سائر فقرات الحديث يستلزم منه ارتفاع الحكم المجهول فيستلزم منه المستحيل, وهو أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه وهو محال, كما لا يمكن إناطة الواقع بقيام الأمارة فإنَّه يستلزم منه التصويب المجمع على بطلانه, بل ادعى وجود الأخبار المتواترة التي تدلُّ على أنَّ الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل.

والحقُّ أنَّ الرفع في الحديث في جميع فقراته رفع حقيقي والمرفوع فيما لا يعلمون هو الحكم الفعلي المجهول لا الحكم الواقعي حتى يستلزم منه ما ذكر من المحال, مع أنَّ إدّعاء الأخبار المتواترة على الإشتراك هي مجرد دعوى, إذ لم يوجد في الأخبار ما يدلُّ على ذلك, وربما يستظهر منها أنَّ ذلك يختص بالشبهات الموضوعية.

وكيف كان؛ فلا محذور في الإلتزام بأنَّ الرفع واقعي فالحكم يرتفع واقعاً عند الجهل به, ولا موجب للإلتزام بأنَّ الرفع ظاهري كما عليه الأصوليون, وعلى فرض ذلك ذكرنا أنَّ الرفع بإطلاقه يشمل كِلا الرفعين؛ الواقعي والظاهري, ولكن الموضوع فعلية الحكم وإنْ كان بوجوده الإنشائي أو الشأني متحققاً, فيكون الحكم الواقعي بوجوده الإنشائي موجوداً وإن كان فعليته عند الجهل موضوع.

وربما يستفاد هذا الوجه من كلمات الشيخ الأنصاري قدس سره (1) في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

وعلى ما اخترناه لا يستلزم منه خرق الإجماع أو مناقضته لضرورة إلا أنْ يستشكل عليه بأنَّه ينافي ظاهر الحديث الذي يختص بالشبهات الموضوعية.

ص: 230


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص44.

وقد عرفت أنَّ النصوص متضافرة على بقاء الحكم الواقعي وثبوته فيها, ولكن ذلك لا يوجب الإشكال, لأنَّ المرفوع حينئذٍ فعلية الحكم فيها لا نفس الحكم الواقعي لأجل تلك النصوص.الإشكال الثالث: ذكر بعض الأصوليين أنَّه بناءً على أنَّ الرفع في الحديث يكون ظاهرياً فما هو المراد الجدي منه؟ فهل هو يتكفل حكماً وجودياً أو المراد الجدي هو الرفع فقط تمسكاً بظاهر اللفظ؟.

فاختار بعضهم أنَّ المقصود الجدي من الكلام جعل الحليّة الظاهرية, ولكن كُنِّيَ عنها برفع الحكم؛ وهو استعمال شايع عرفاً, إذ أنَّ كثيراً ما يعبّر عن حلية الشيء بعدم المانع منه, فيكون المنشأ بالقصد الجدي في حديث الرفع هو الحلية الظاهرية لا رفع الحكم فقط, فيكون نظير قول الإمام الصادق علیه السلام : (كُلُّ شَيْ ءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ)(1), ولكن هذا يؤدي الحليّة بالمطابقة وحديث الرفع يؤديها بالكناية, وقال أنَّه ربما يستظهر هذا من كلام الشيخ الأنصاري قدس سره .

وبناءً على هذا الإحتمال يكون اللازم من حديث الرفع إذا ثبت به الحلية الظاهرية هو رفع الحرمة واقعاً دفعاً لمحذور إجتماع الحكم الظاهري والواقعي فيكون الحديث حاكماً على دليل الإحتياط لأنَّه بالدلالة الإلتزامية يدلُّ على نفي الواقع فيرتفع موضوع وجوب الإحتياط الذي موضوعه إحتمال الواقع.

وأمّا إذا لم نقبل بهذا اللازم وحكمنا بأنَّ الحكم الظاهري لا يلزم ارتفاع الواقع بل يبقى على فعليته مع قيام الحكم الظاهري كما ذهب إليه المحقق النائيني فإنَّه يتحقق التعارض بين حديث الرفع ودليل الإحتياط.

ص: 231


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج5 ص313.

والحَقُّ أنْ يُقال: أنَّ الحديث لا نظر فيه إلى جعل الحلية الظاهرية لأنَّ الصريح من مدلوله المطابقي هو رفع الحكم عند عدم العلم به, نعم؛ يقع الكلام في أنَّ متعلق الرفع هو الحكم الواقعي نفسه أو وجوب الإحتياط؛ وقد عرفت أنَّ الأول هو المتعين, فإنَّ الحكم الواقعي هو الذي تحت سلطة الشارع رفعاً ووضعاً. ويلازمه رفع ما يترتب على الواقع من الآثار أيضاً كالمؤاخذة والإحتياط ونحو ذلك.

نعم؛ نظراً لعدم خلو الواقعة عن حكم فلا بُدَّ أنْ يقابل دفع الحكم الواقعي وضع للحكم فيه رفعاً لمحذور خلو الواقعية, فربما تكون الحلية أو غيرها, وإنَّ الشارع لأهمية الواقع قد يجعل وجوب الإحتياط فيكون نحواً من ثبوت الحكم الواقعي فيكون موجباً لتصحيح نسبة الوضع إليه, فيكون عدم جعل الإحتياط في هذا المورد من أسباب رفع الواقع حقيقة وبهذا اللحاظ يتعلق الرفع حقيقة بالواقع برفع سببه وهو الإحتياط.

وعلى ذلك لا ملزم للإلتزام بأنَّ الموضوع حقيقة هو إيجاب الإحتياط كما هو ظاهر الشيخ قدس سره ومن تبعه ولو لم نقبل هذا الوجه ولم نقل بأنَّ إيجاب الإحتياطنحو جعل ووضع للواقع بأنَّ الإشكال الذي يتوجه هو عدم صحة إسناد الرفع إلى الواقع حقيقة إذ جعل الواقع حينئذٍ لا يكون بيد الشارع كي يرفعه.

ولكن هذا الإشكال مرفوع بما ذكرناه مع أنَّه يمكن الجواب عنه برفع فعلية الحكم الواقعي الثابت فلا مؤاخذة عليه قطعاً, فيكون الرفع قد تعلق بنفس الحكم الواقعي ولكن في مرحلة الفعلية مع الالتزام بثبوته الواقعي وربما يعبّر عنه بالرفع الظاهري أيضاً ويأتي تتمة الكلام أيضاً.

ص: 232

المقام الثالث: ما يتعلق ببقية الفقرات الأخرى في الحديث وفقهه.

والكلام عن ذلك يقع في أمور:

الأمر الأول: قد ورد في الحديث فقرات عديدة لا تقبل الرفع من الشارع بما هو شارع ومولى فلا بُدَّ أنْ تكون هناك عناية خاصة وإعمال تصرف يتعلق الرفع بها؛ إمّا في الرفع أو في الموضوع وهما فيما عدى فقرة (ما لا يعلمون) والإحتمالات التي يمكن تصويرها هي:

الإحتمال الأول: الإلتزام بالتقدير؛ فيقال أنَّ المرفوع هو الآثار المترتبة على الموضوعات الخارجية.

الإحتمال الثاني: أنْ يكون الرفع قد أسند حقيقة إلى الفعل بلا تقدير ولكنه بما هو موجود في عالم التشريع وموضوعاً للأحكام الشرعية فيكون نظير (لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَام)(1)؛ الذي هو نفي لوجودها في عالم التشريع.

الإحتمال الثالث: أنْ يكون مسنداً إلى الفعل حقيقةً مع عناية في الرفع نفسه, بحيث يراد به الرفع التعبدي؛ نظير (ولَيْسَ بَيْنَ الْوَالِدِ ووَلَدِهِ رِباً )(2).

الإحتمال الرابع: أنْ يكون الرفع قد أسند إليها حقيقة باعتبار أنَّ فيها كلفة وثقل على المكلف وفي ذمتهم ما يتعلق بها من الأحكام فيكون رفعها برفع تلك الآثار الثقلية المناسبة لها كما يشير إليه قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)(3), فليس المرفوع الوجود التشريعي المطلق ولا الوجود الذي يستسيغه الشرع, ويؤيد هذا المعنى ما ورد في بعض أخبار المقام (وضع عن أمتي)؛ ذهب إلى كلِّ واحد منها بعض, والظاهر انه لا جدوى في

ص: 233


1- . دعائم الإسلام؛ ج2 ص193.
2- . مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل؛ ج 13 ص339.
3- . سورة البقرة؛ الآية 286.

هذا الإختلاف فإن الجميع متفقون على عدم الرفع التكويني لكونه منافياً للتحقق الخارجي فلا بُدَّ أنْ يكون الرفع بلحاظ الآثارالشرعية كالكلفة أو العقاب الذي هو أهم الآثار لأنَّ في رفعه يكون رفع غيره بالأولى أو رفع التكليف فيكون متضمناً لرفع الجميع.

وكيف كان؛ فإنَّها وإنْ كانت مختلفة اعتباراً لكنها متلازمة عرفاً كما لا يخفى, وحينئذٍ لا حاجة إلى تفصيل الكلام في ترجيح بعض تلك الإحتمالات المزبورة بعدما عرفت من عدم الفائدة, ومع ذلك فقد ذكر جمعٌ في توجيه ذلك فقال: إنَّه لا إشكال في سقوط الإحتمال الثالث باعتبار أنَّ رفع الوجود الخارجي تنزيلاً وإنْ كان يصح في بعض فقرات الحديث, ولكنه غير صحيح في ما لا يطيقون؛ لعدم وجوده خارجاً, فلا يعقل رفعه تنزيلاً وتعبداً مع أنَّ الرفع في الجميع واحد فيدور بين الإحتمالين؛ الأول والثاني.

وقد يقال: بوقوع التعارض بين ظهورين في الحديث؛ أحدهما ظهور الكلام في عدم التقدير النافي للإحتمال الأول والمثبت للإحتمال الثاني, وظهور أخذ العناوين المذكورة في أنَّها ملحوظة بما هي فانية في وجوداتها الخارجية لا التشريعية أو التحميلية النافي للإحتمال الثاني والمعين للإحتمال الأول.

ومن أجل ذلك ذهب بعض إلى جريان أصالة عدم التقدير دون الظهور الآخر فإنَّه المتعين عرفاً في مثل هذا النوع من التعارض فظاهر السياق هو الإحتمال الثاني عرفاً.

ولكن الصحيح أنَّ جميع ذلك تطويل بلا طائل تحته, فقد عرفت أنَّ المعاني متلازمة, مع أنَّ الرفع التنزيلي كما يتعلق بسائر الفقرات يتعلق أيضاً بفقرة (ما لا يطيقون), ونفي وجوده الخارجي مجازفة, فإنَّه صحيح عرفاً أيضاً باعتبار كونه ثقلاً خاصاً يستشعر به المكلف.

ولا ثمرة عملية تترتب على الإحتمالات المتقدمة كما عرفت, ولكن ذكر بعضهم ثبوت الثمرة بين الإحتمال الأول والأخيرين، فعلى الإحتمال الأول يكون الحديث مجملاً من

ص: 234

حيث أنَّ المنفي تمام الآثار أو خصوص المؤاخذة, ولا يمكن رفع الإجمال إلا بقرينة, وهي إمّا المناسبة العرفية, كما هو كذلك في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(1), أو حذف المتعلق الذي يدلُّ على العموم كما هو المعروف.

وقد أشكل على كلتيهما؛ أمّا الأولى؛ فإنَّ كِلا التقريرين يكون مناسباً في المقام بخلاف غيره, وأمّا الثانية؛ بأنَّ موضوع الإطلاق إنَّما يتم فيما إذا كان هناك مفهوم معين يشك في المراد منه, لا ما إذا شكَّ في المفهوم المقدر وأنَّه الأعم أو الاخص.وبناءً على الإحتمالين الآخرين يكون مقتضى إطلاق رفع الوجود الخارجي أو التحميلي لتلك الموضوعات رفعاً للتحميلات التشريعية أو رفع الوجود الخارجي بلحاظ تمام تلك الآثار.

والصحيح ما عرفت من أنَّه لا إجمال في البين أبداً, لأنَّ نفي كل أثر يلازم نفي الأثر الآخر المترتب على تلك الموضوعات, لا سيما رفع العقاب الذي عرفت أنَّه من أهم الآثار, لأنَّ برفعه يكون رفع غيره بالأَولى؛ يضاف إلى ذلك أنَّه لا مانع من إثبات الإطلاق على الإحتمال الأول أيضاً, إمّا بالمناسبة العرفية التي في المقام هي المؤاخذة والعقاب أو الكلفة والمشقة أو حذف المتعلق بعد ثبوت المفهوم وعدم الإجمال فيه كما عرفت.

هذا ما يتعلق بالثمرة بين الإحتمال الأول وغيره.

ص: 235


1- . سورة المائدة؛ الآية 3.

أمّا الثمرة بين الأخيرين فقد ذكر السيد الصدر قدس سره أنَّها تظهر في موردين:

المورد الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من مناقشته في شمول الحديث للإضطرار إلى الترك, كما إذا إضطر إلى ترك صلاة العشاء لينفي الحديث الأثر المترتب عليه من وجوب صوم اليوم التالي, لأنَّ الحديث بلسان النفي والرفع ونفي الترك عبارة عن الوضع عرفاً لا الرفع, والتقابل العرفي بين الوضع والرفع يمنع من إطلاقه للإضطرار إلى الترك من نفي آثاره التحميلية, وهذا إنَّما يتم بناءً على الإحتمال الثالث الذي يكون النظر فيه إلى العالم الخارجي لا الإحتمال الثاني الذي يكون النظر فيه إلى عالم التشريع, لأنَّ التقابل بين الرفع والوضع إنَّما يكون لو كان النظر إلى الخارج إذ لا واسطة بين الوجود خارجاً وعدمه كذلك, وأمّا بلحاظ عالم التشريع فإنَّ رفع موضوعية الترك لا يعني وضع موضوعية الفعل, لأنَّ الوجود التشريعي أمر ثبوتي وهو يعني وقوعه موضوعاً له وهو غير وقوع الفعل موضوعاً.

والحقُّ أنَّ ما ذكره غير تام لما يلي:

أولاً: إنَّ التقابل الإرتكازي الذي فرضه بين الرفع والوضع غير تام في الحديث, لأنَّ الرفع قد إنصبَّ على أمر ثبوتي وهو ما اضطروا إليه سواء كان فعلاً أم تركاً.

ثانياً: إنَّ التقابل إنْ ثبت بين الرفع والوضع في غير مورد الحديث لكنه غير ثابت في المقام, والظاهر أنَّ المراد من الرفع فيه هو وضع الآثار المترتبة على المضطر إليه من الكلفة والمشقة ونحوهما من الآثار المناسبة, وهو يلازم رفعهاعن المكلف, ويؤيد ذلك ما ورد في بعض أحاديث المقام (وضع عن أمتي) فلا فرق بين الفعل المضطر إليه أو الترك ولا أساس لهذه الثمرة.

ص: 236


1- . فوائد الأصول؛ ج3 ص127.

المورد الثاني: إنَّه بناءً على الإحتمال الثالث -وهو كون الرفع منصباً على الوجود الخارجي تعبداً وتنزيلاً- فإنَّه كما يرتفع الأثر التحميلي على الفعل المضطر إليه لارتفاع موضوعه تنزيلاً كذلك تترتب الآثار غير التحميلية المترتبة على ارتفاع المضطر إليه, لأنَّ التعبد الذي يرفع أحد النقيضين تعبد بالنقيض الآخر لا محالة للتقابل بينهما.

وأمّا بناءً على الإحتمال الثاني لما عرفت من عدم التقابل بين رفع الوجود التشريعي ووضع موضوعية نقيضه للتشريع.

ويرد عليه: إنَّ التعبد الذي يرفع أحد النقيضين لا يستلزم التعبد بالنقيض الآخر, فإنَّ التعبديات إنَّما تدور مدار دلالة الدليل على ذلك, وهو قياس على الأمور الخارجية, فقد يدلُّ الدليل على التعبديات وقد لا يدلُّ على ذلك كما في المقام؛ فإنَّ إمتنانية الحديث وكونه وارداً مورد التسهيل فإنَّه يدلُّ على رفع الآثار التحميلية كما هو ظاهر الحديث ولا يستفاد منه غير ذلك.

والصحيح إنَّ الثمرات المذكورة غير واردة على التقادير كما ذكرناه؛ فراجع.

الأمر الثاني: ظاهر الحديث إرتفاع الحكم في الموارد المذكورة في الحديث فهل يرتفع الملاك والمقتضي للحكم المرفوع أيضاً؟.

وتظهر الثمرة في أنَّه لو أتى المكلف الفعل الذي لا طاقة له أو المضطر إلى تركه عرفاً فهل يكون صحيحاً لانخفاظ الملاك في الصحة لو قلنا به أو عدم صحة الفعل لو قلنا بعدم إنخفاظه لعدم ثبوت كاشف عن الملاك فلا طريق إلى إثبات صحة الفعل.

وقد يقال بانحفاظ الملاك والمقتضي للحكم, ويمكن الإستدلال عليه بأحد وجهين:

الوجه الأول: إنَّ الإمتنان إنَّما يثبت في ما إذا ثبت الملاك والمقتضي للحكم, وأمّا عدم الحكم لعدم ملاكه ومقتضيه فلا يكون فيه امتنان وتفضل على الأمة.

ص: 237

وأورد عليه بأنَّ هذا إنَّما يتمّ في حق الموالي العرفية لا المولى الحقيقي الذي تكون أحكامه تبتني على مصالح ترجع إلى العباد, فإنَّه لا معنى لرفع الحكم مع وجود ملاكه ومصلحته إمتناناً عليهم.

وفيه: إنَّ ابتناء الأحكام على مصالح ترجع إلى العباد شيء وسقوط الملاك والمقتضي شيء آخر, فإنَّ المفروض أنَّ سقوط الحكم والملاك أو ثبوت كلّ واحد منهما إنَّما يرجع إلى مصلحة العباد أيضاً كالتسهيل والتلطف والإمتنان فلم يخرج عن دائرة المصلحة, فحينئذٍ إنْ اقتضت المصلحة سقوط الحكم والملاك كان هو المتعين وإنْ اقتضت المصلحة سقوط الحكم فقط دون الملاك كان صحيحاً.الوجه الثاني: إستفادة عدم السقوط من كلمة الرفع التي تستعمل في موارد النفي بعد الوجود, فلا بُدَّ من افتراض نحو وجود للمرفوع وهو الوجود الشأني والإقتضائي, أي تحقق الملاك وثبوته, ولكن ذكرنا في ابتداء البحث من أنَّ الرفع أعم من ذلك, وعلى فرض اختصاصه بمورد النفي بعد الوجود فإنَّه قد يفرض ثبوت الأحكام في موارد العناوين التسعة الواردة في الحديث في أول الشريعة أو الشرائع السابقة, وتكون مناسبة الرفع باعتبار ثبوتها بإطلاق أدلتها لولا الرفع, فالصحيح ثبوت الملاك في الواقع وإنْ سقط الحكم ظاهراً بحديث الرفع.

الأمر الثالث: لا ريب في تقديم حديث الرفع على أدلَّة الأحكام الأولية لأنَّه كسائر القواعد التسهيلية الإمتنانية في طول الأحكام الأولية الواقعية التي تقدم عليها بالمرتكزات العقلائية في قوانينهم المجعولة من دون اختصاص بالشريعة الختمية, وسيأتي أنَّ الأصوليين يقولون أنَّ المناط في الحكومة أنْ يكون أحد الدليلين ناظر إلى الدليل الآخر, والحديث ناظر إلى الأدلَّة الأولية, فقد تحقق ملاك الحكومة والتقديم فيه, وروح الحكومة والتقدم هو المنع عن وصول تلك الأحكام الأولية إلى مرتبة الفعلية لمصالح شتى وأغراض عقلائية لا تحصى,

ص: 238

لأنَّ الواقعيات ووصولها إلى مرتبة الفعلية يحتاج إلى توفر الشروط وفقد الموانع, فتكون الأدلَّة الإمتنانية التسهيلية, بل الثانوية مطلقاً كاشفة عن عدم فعلية الأحكام الواقعية؛ إما لفقد شرط, أو وجود مانع عنها, فلا محالة تتقدم عليها؛ بلا فرق بين أنْ يسمى هذا التقديم تخصيصاً أو حكومة أو وروداً فإنَّه لا ثمرة عملية بل ولا علمية تترتب عليها، كما سيأتي بيان ذلك في محله إنْ شاء الله تعالى.

كما أنَّه لا فرق بين أنْ تكون الحكومة والتقدم بلحاظ عقد الوضع في الحديث أو عقد الحمل وإنْ كان الفرق بينهما في أنَّ الحكومة إنْ كانت بلحاظ كون الموضوع هو الأثر تكون من عقد الحمل, وإنْ كانت بلحاظ إبقاء المرفوع على حقيقته وكان التصرف في الرفع تكون من عقد الوضع فإنَّ الحديث حاكم على تلك الأحكام الأولية على كلِّ حال فلا ثمرة أيضاً في نوعية الحكومة.

قد يقال: إنَّ هذا التقدم يستلزم إمّا النسخ أو التصويب أو الصرف؛ وجميع ذلك باطل.

فإنَّه يقال: إنَّه لا يلزم منه تلك؛ أمّا النسخ؛ فإنَّه عبارة عن زوال أمر التشريع ومدته, وحديث الرفع يبين قيد الحكم المشروع في مرتبة الفعلية لا زوال مدته فلا ربط له بالنسخ.

وأمّا التصويب؛ فهو عبارة عن حدوث الحكم بتمام مراتبه بالعلم به, وفي مورد حديث الرفع قد تحقق الواقع واقتضاء مصلحة, ومثل الجهل ونحوه يمنع الفعلية وسقوط آثارها من المؤاخذة وغيرها فلا ربط له بحديث الرفع أيضاً.

وأمّا الصرف؛ فهو عبارة عن صرف الواقع وتغييره بواسطة حديث الرفع إلى خصوص صورة العلم مثلاً وهو باطل إنْ أريد به الصرف حتى بالمرتبة الإقتضائية, وأمّا إذا أُريد الصرف في المرتبة الفعلية فهو ما يدلُّ عليه حديث الرفع فلا مشاحة في الإصطلاح, فلا إشكال في الحكومة والتقدم.

ص: 239

الأمر الرابع: الآثار التي تترتب على شيء على أنحاء:

النحو الأول: ترتبها عليه بالعنوان الأولي من دون دخول العناوين الثانوية المذكورة في الحديث فيها حدوثاً وبقاءً, وتترتب عليه لا بشرط صفتي العلم والجهل مثلاً, كحرمة شرب الخمر, وهذا النحو لا بُدَّ من استفادته من لسان الدليل الدال عليه.

النحو الثاني: ما كانت تترتب عليه بقيد العلم به وعدم طروّ أحد تلك العناوين, كما في ترتب الكفارة على الإفطار العمدي.

النحو الثالث: ما كانت مترتبة عليه مقيدة بأحد تلك العناوين كالجهل, كما في وجوب سجدتي السهو لمن سهى في صلاته.

وأمثلة كل واحد من تلك الأقسام كثيرة في الفقه, والظاهر أنَّ مورد التمسك بالحديث خصوص القسم الأول, فإنَّه القدر المتيقن من الآثار المرفوعة بهذا الحديث.

ولا إشكال في خروج الثاني عن مورد الحديث لانتفاء الأثر بعروض أحد العناوين المذكورة في الحديث لفرض أخذ العلم به مثلاً فهو خارج عنه تخصصاً.

وأمّا الثالث؛ فلا وجه لشمول الحديث له ورفع الأثر لأنَّه بعد أنْ دلَّ الدليل على ثبوته مع فرض الجهل ونحوه فيكون مقدماً على الحديث, وهو واضح فيما إذا دلَّ الدليل عليه, وأمّا إذا احتمل ثبوته من دون دليل؛ فإذا قلنا بشمول الحديث لنفيه يتمسك به فينتفي بحسبه وإلا فينتفي بالأصل النافي بعد تنقيح موضوعه, وهذا هو الذي ذهب إليه المحققون وإنْ كان تمسك بعضهم على ذلك بدليل موهون, حيث استدلوا عليه بأنَّه لو شمل الحديث لمثل هذا القسم من الآثار لزم منه كون العناوين التسعة مقتضية لحكم ومانعة عنه في آن واحد وهو محال.

وهو باطل؛ فإنَّه لو شمل الحديث لمثله لم يبق مقتضٍ لثبوته فلا يستلزم ما ذكر.

ص: 240

وقد استدل السيد الصدر قدس سره (1) على عدم شمول الحديث لهذا الصنف من الآثار لأنَّ هذه العناوين تارةً؛ تؤخذ كمعرف للعنوان الأولي فيكون المرفوع هو العنوان الأولي والحيثيات التسع الثانوية حيثيات في الرفع. وأخرى؛ تؤخذ موضوعاً وقيداً في الموضوع؛ فعلى الأول لا معنى لأنْ ينطبق الحديث على القسم الثالث إذ ليسالحكم فيه مترتباً على العنوان الأولي, وعلى الثاني يختص بالقسم الثالث ولا يشمل الأول, فالجمع بين الأمرين غير تام, وبما أنَّ الثاني غير محتمل ولا مناسب عرفاً مع الظاهر من الحديث فيتعين الأول.

والحقُّ أنَّ ما ذكره قدس سره يرجع إلى ما ذكرناه في الواقع وليس شيئاً جديداً, فالصحيح هو عدم شمول الحديث لهذا القسم من الآثار.

الأمر الخامس: لا ريب في إمتنانية الحديث الشريف, ويدلُّ عليه قرينتان؛ لفظية وسياقية. أمّا اللفظية؛ فهي كلمة (عن) الظاهرة في رفع الشيء الثقيل وذي التبعة, وأمّا السياقية؛ فإضافة الرفع إلى الأمة, وهو لسان التحبب والتلطف بهم.

وهذا في الواقع يرجع إلى الأول أيضاً, وكلتا القرينتين تدلان على أنَّه إذا لم يكن إمتنان في مورد الرفع فلا يشمله الحديث, وإنْ فرّق بينهما من حيث مقدار التحديد والتقييد الحاصل من كلِّ واحد منهما على أساس إطلاق الحديث فإنَّ الدليل الثاني لا يقتضي التقييد بأكثر من أنْ يكون في رفع التكليف إمتناناً لمن رفع عنه سواء كان فيه ما يخالف الإمتنان للآخرين أم لا, بينما الدليل الأول تمنع عن إطلاق الرفع لما إذا كان فيه ما يخالف الإمتنان ولو بالنسبة إلى الآخرين, وقد ذكر الفقهاء على أساس ذلك فروعاً عديدة في الفقه؛

منها: إنَّهم فرَّقوا بين معاملة المضطر والمكره فحكموا بصحة بيع المضطر وعدم شمول الحديث له, بخلاف المكره؛ حيث حكموا ببطلان بيعه لأنَّ نفي صحة الأول خلاف الإمتنان عليه بخلاف الثاني.

ص: 241


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص52.

ومنها: الإكراه على ضرب شخص وإلا ضربه, فإنَّهم قالوا بعدم شمول رفع ما استكرهوا عليه حتى يجوز له ضرب الآخر, لأنَّه خلاف الإمتنان للأمة وإنْ كان فيه إمتنان على المكره, وهما مِمّا اتفق عليه الأصحاب.

ومنها: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ الحديث لا يشمل ما إذا كان الإضطرار بسوء الإختيار, فإنَّ عدم رفع الحكم في حقِّ من يلقي بنفسه في الإضطرار ليس على خلاف الإمتنان, وهو يرجع إلى أنَّ الحديث لا إطلاق له بحيث يشمل موارد الإضطرار بسوء الإختيار لان مثله لا يستحق الإمتنان عرفاً.

وهناك فروع أخرى ذكرها الفقهاء في الفقه.

الأمر السادس: ذكر العلماء موارد قالوا لا إشكال في عدم شمول الحديث لها, كنجاسة شيء بالملاقاة, فإنَّه لا ريب في عدم ارتفاعها سواء كانت الملاقاة بالإختيار أم بأحد العناوين التسعة في الحديث, وكذلك الجنابة إذا تحقق موجبها, وذكر بعض المحققين في وجه خروجها عن الحديث تخصصاً أنَّ الحديث ينظر إلى أفعال المكلفين فيرفع أحكامها وآثارها إذا انطبق عليها أحد العناوين التسعة, وأمّا ما كان موضوعاً للحكم كيفما إتفق لا أنْ يكون بما هو فعل للمكلف وصادرعنه موضوعاً لحكم كالملاقاة مع النجس مثلاً فلا يرفع أثره بالحديث وإنْ وقع بفعل المكلف لأنَّ الحديث ناظر إلى رفع آثار أفعال المكلفين.

وهذا الجواب صحيح ولكنه منقوض بما يكون فعلاً للمكلف وموضوعاً لآثار تحميلية, ومع ذلك لا ترتفع تلك الآثار بالحديث كالإتلاف نسياناً لمال الغير؛ فإنَّه فعل للمكلف وبما هو كذلك يقع موضوعاً للضمان, وكمس الميت؛ فإنَّه فعل المكلف, وليس كالملاقات التي قد تقع بين شيئين بلا نسبة إلى المكلف إذا وقع بأحد العناوين التسعة, فقد ذهب

ص: 242


1- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص212.

الفقهاء إلى عدم شمول الحديث لرفع الضمان ورفع وجوب الغسل إذا وقعا بأحد العناوين المذكورة.

ومن أجل ذلك ذهب بعض الأصوليين إلى القول بأنَّ المناط في ذلك هو أنَّ المورد إذا كان الإختيار والعمد مِمّا له الدخل في تحققه وترتب الأثر عليه, سواء كان فعلاً مباشراً للمكلف أم سببياً وكون العمد والإختيار دخيلاً في ترتب الحكم يستفاد إمّا من كون الفعل متعلقاً للحكم الشرعي التكليفي؛ حيث يشترط فيه الإختيار لا محالة, وإمّا من وقوعه موضوعاً لا متعلقاً, إلا أنَّه بنفسه يكون متضمناً للقصد والإختيار كما في الأفعال الإنشائية كالمعاملات, وإمّا من وقوعه موضوعاً لحكم تكليفي تحميلي يستظهر من دليل ترتيبه أنَّه إنَّما رتّب عقوبة ومجازاة مِمّا يكون ظاهراً في دخل الإختيار والعمد في ترتيبه, كما في ترتيب الكفارة على الإفطار فيرتفع بالإكراه, وشيء من ذلك غير صادق على مثل النجاسة بالملاقاة أو الجنابة بموجبها أو الضمان بالإتلاف أو الغسل بمسِّ الميت.

الأمر السابع: ذكرنا ان الحديث بعمومه وإطلاقه يشمل جميع أقسام الحكم؛ سواء كان تكليفياً أم وضعياً والحكم التكليفي إمّا أنْ يكون إستقلالياً أو ضمنياً وغيرها مِمّا تناله يد الجعل.

ولا إشكال في شمول الحديث للتكليف الإستقلالي كما عرفت في البحوث السابقة وهو يتصور على أنحاء؛ منها: ما يكون مطلوباً على نحو مطلق الوجود إذا انطبق عليه أحد العناوين المذكورة فيه كما إذا أكره أو اضطر على المخالفة.

ومنها: ما إذا كان الإكراه على فعل أحد مصاديق التكليف؛ بأنْ أكره مثلاً على إكرام عالم في مقام إكرام العلماء, فإنَّه قد يقال بعدم شمول الحديث لنفي وجوب إكرامه حتى على الإحتمال الثالث, وذلك لعدم الإمتنان في رفع وجوبه, بخلاف ما إذا كان التكليف بنحو صرف الوجود, فلا إشكال في شمول الحديث له.

ص: 243

ومنها: ما إذا اضطرَّ أو أكره على ترك فرد من أفراد الطبيعة التي يجب صرف وجودها؛ فلا يشمله الحديث, لأنَّ ما هو متعلق الحكم في عالم التشريع لا إكراه ولا اضطرار إلى تركه إلا على الإحتمال الثالث من تنزيل الترك أو الفعل الخارجي منزلة نقيضه إذا انطبق عليه أحد العناوين, فإنَّه ربَّما يقال بأنَّه من تنزيل الترك منزلة الفعل فيكون تعبداً بالفعل فيكون إمتثالاً تعبدياً فلا يجب على المكلف الإتيان بصرف الوجود في ضمن فرد آخر.وأمّا التكليف الضمني فلو اضطرَّ إلى تركه مثلاً في جزء من الوقت أو أكره عليه كذلك فإنَّ الظاهر أنَّه لا إشكال في عدم شمول الحديث له, لأنَّ ما صار مصبّاً للعنوان ليس بنفسه متعلقاً للحكم بل مصداق له إلا إذا كان مستوعباً لتمام الوقت فيشمله الحديث.

وأشكل عليه بأنَّ الواجب هو الفعل والإضطرار أو الإكراه وقع على الترك وهو لم يكن متعلقاً للحكم حتى يكون له وجود تشريعي فيرتفع, فهو خارج عن مورد حديث الرفع.

ويرد عليه: إنَّ الوجود التشريعي للترك متحقق عرفاً أيضاً.

ثم إنَّه قد اختلف الأصوليون في صحة العمل في هذا المورد بحيث لا يجب عليه القضاء بمقتضى حديث الرفع في الواجب النفسي فذهب جمعٌ إلى الصحة واستدلوا عليه بما يلي:

1- ما ذكرنا في الوجه الثالث في تفسير الرفع من التعبد والتنزيل, وتنزيله منزلة نقيضه فيكون تعبداً بإتيان الجزء والمركب كاملاً, وهو صحيح إذا اخترنا هذا الوجه كما عرفت.

2- إنَّ وجوب القضاء حكم تحميلي مترتب على ترك الواجب في الوقت والمفروض أنَّه قد وقع هذا الترك عن اضطرار أو إكراه فيرتفع أثره التحميلي حينئذٍ.

وأشكل عليه:

أولاً: إنَّه إنَّما يتمّ لو كان الموضوع لوجوب القضاء هو الترك لا الفوت الذي هو عنوان مسبب عن الترك, فإنَّه بناءً على ظهور إختصاص الحديث بما يكون فعلاً مباشراً للمكلف سلباً وإيجاباً لا مترتباً عليه فلا يشمله الترك.

ص: 244

وفيه: ما تقدم في أحد مباحثنا السابقة الإشكال في كون الفوت موضوعاً للقضاء, وعلى فرضه فإنَّ الترك أيضاً تابع للفعل الإرادي عرفاً.

ثانياً: إنَّ وجوب القضاء ليس فيه نكتة من دليله يقتضي على أنَّ الإختيار والعمد دخيل فيه, فإنَّه ليس عقوبة بل استيفاء لما بقي من الملاك, كما أنَّه ليس متعلقاً للتكليف بل موضوعاً ولا مستنبطاً بذاته للقصد والإختيار كالمعاملات, وقد عرفت أنَّ جميع ذلك هو المناط في شمول حديث الرفع للتكليف الإستقلالي.

وفيه: إنَّ القضاء فيه نوع عقوبة كما يفهم منه العرف.

وذهب آخرون إلى عدم صحة العمل فيجب عليه القضاء لأنَّه لا يمكن استفادة الصحة في المقام من حديث الرفع, لأنَّ مفاده نفي الوجوب النفسي بنفي الوجوب الإستقلالي عن المركب فهو لا يثبت الأمر بالباقي لتثبت صحته.

ويمكن القول بعدم القصور في شمول الحديث له ولكن عدم صحة العمل هو الأوفق, وأمّا الأحكام الوضعية كالإكراه في البيع أو الإضطرار إليه فالحكم فيه ما ذكرناه إلا فيما إذا كان الإكراه إلى ترك معاملة كان المكلف يقصدها كمن قصدطلاق زوجته فأكره على تركه فقد يتخيل بجريان الحديث لإثبات وقوع النتيجة المطلوبة بأحد تقريبين.

أمّا بناءً على الإحتمال الثالث من التنزيل والتعبد كما تقدم تفصيله.

وإمّا أنْ يقال بأنَّ بقاء الزوجية أثر شرعي مترتب على ترك الطلاق بقاءً وقد أكره على ذلك فيرتفع وجوده التشريعي برفع حكمه وهو الزوجية.

ويرد عليه: إنَّ مثل هذا الترك لا ينطبق عليه أنَّه من أفعال المكلفين ولا يكون الإختيار والإلتفات دخيلاً في الحكم.

ص: 245

والخلاصة: إنَّ المستفاد من جميع ذلك هو أنَّ شروط تطبيق حديث الرفع على موارد أربعة:

1- أنْ يكون موضوعاً أو متعلقاً لحكم شرعي فيكون له وجود تشريعي.

2- أنْ يكون في رفعه موافقاً للإمتنان على الأمة.

3- أنْ يكون فعلاً من أفعال المكلف أو تروكه لا مجرد وجود شيء أو عدمه المحمولي.

4- أنْ يكون الإختيار والقصد والإلتفات دخيلاً في ترتبه.

وهذه الشروط مِمّا اتَّفق عليه العلماء وإنْ كان لهم خلاف في التطبيق.

الأمر الثامن: ذكرنا أنَّ الحديث يرفع كل ما تناله يد الجعل ولو إمضاءً كالسببية والمسببية والشرطية والجزئية والمانعية والقاطعية ونحوها, فيصحُّ التمسك به في المعاملات الإكراهية لرفع السبب كما يصحُّ رفع المسبب بل يصحُّ رفعهما معاً أيضاً وفي موارد نسيان الجزء أو الشرط أو المانع أو القاطع يصحُّ رفع نفس هذه العناوين أولاً وبالذات كما يصحُّ رفع وجوب التدارك من الإعادة أو القضاء مِمّا يكون من الأمور الشرعية وآثارها, لأنَّ الجميع مِمّا تناله يد الجعل, نعم؛ مع إمكان جريان الأصل في رفع الموضوع لا وجه لجريانه في رفع الحكم كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

كما أنَّه مع كثرة الأدلَّة الثانوية الواردة في نسيان الجزء والشرط خصوصاً في الصلاة لا نحتاج إلى حديث الرفع.

وربَّما يقال: إنَّ حديث الرفع ورد مورد التسهيل والإمتنان, فهو يجري فيما إذا أمكن التكليف وصحَّ عقلاً, والتكليف في مورد الجهل والخطأ والنسيان قبيح عند العقلاء؛ فلا يشمله الحديث ولا يصحُّ التسهيل والإمتنان فيما يكون قبيحاً عندهم فمع عدم التكليف في هذه الموارد عقلاً لا تصل النوبة إلى الرفع الشرعي حتى يتحقق فيه التسهيل والإمتنان.

ص: 246

وكذا الكلام في (ما لا يطيقون), ومن أجله استشكل في المراد من قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)(1)؛ فإنَّه إذا كان التكليف بما لا يطاق قبيحاً عقلاً فلا وجه لهذا الدعاء.

فإنَّه يقال: إنَّ ما هو قبيح في الموارد الثلاثة هو التكليف بقيد الجهل والخطأ والنسيان, وأمّا وجوب الإحتياط والتحفظ حتى لا تتحقق هذه الأمور مهما أمكن أو وجوب التدارك بعد زوالها فلا قبح فيه أصلاً فرفع ذلك إنَّما يكون من تسهيل الشرع وامتنانه.

وأمّا الآية الكريمة فقد قيل في توجيهها أنَّ لما لا يطاق مراتب متفاوته؛ منها: ما لا يطاق عقلاً, ومنها: ما يكون خلاف المتعارف, ومنها: ما يكون خلاف السهولة, كوجوب الصوم في كلِّ سنة شهرين أو أربعين يوماً -مثلاً- مِمّا لا يكون من أفراد ما لا يطاق عقلاً ولا عرفاً ولكنه خلاف السهولة, والدعاء ورد بالنسبة إلى القسم الأخير فقط.

والصحيح: إنَّ الآية بمعزل عن التكاليف, فإنَّها تشير إلى نتائج الأعمال وسائر الأمور الدنيوية التي يعيش في خضمّها الإنسان ويعاني من آثارها, فالدعاء يرجع إلى طلب العفو منه عَزَّ وَجَلَّ وعدم تحميل آثار الأعمال ونتائجها, وعدم الوقوع في تلك المتاعب والصعاب بعد ثبوت استحقاقها بفعل أسبابها من نفسه, ويرشد إليه قوله تعالى (وارحمنا) وقوله تعالى: (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)(2), والتفصيل موكول إلى محله.

الأمر التاسع: قد ورد في الحديث؛ الطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق وهي بمباديها لا يمكن رفعها, فلا بُدَّ من توجيه رفعها بأنْ يقال أنَّ لها مراتب متفاوتة جداً:

الأولى: ترتيب الآثار الخارجية المحرمة, ولا ريب في حرمتها.

ص: 247


1- . سورة البقرة؛ الآية 286.
2- . سورة البقرة؛ الآية 286.

الثانية: ما تكون ثابتة في النفس وتوجب إضطرابها دائماً من دون أنْ تترتب عليها الآثار المحرمة, ولا ريب في كونها من الصفات النفسانية الذميمة, ويمكن أنْ يكون المراد من رفعها رفع حرمتها أو رفع مطلق الآثار عنها ببركة الإسلام وتفضل نبوة خير الأنام.

الثالثة: ما يكون من مجرد الخطور النفسي مع عدم بقاء له في النفس أصلاً فضلاً عن الأثر الخارجي.

وهذه المراتب مختلفة بالنسبة إلى النفوس ولا يبعد أنْ يكون قول أبي عبد الله الصادق علیه السلام : (ثَلَاثَةٌ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا نَبِيٌّ فَمَنْ دُونَهُ؛ التَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِوالطِّيَرَةُ والْحَسَدُ؛ إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْتَعْمِلُ حَسَدَهُ)(1) إشارة إلى الأخيرة بأنَّ النبي إذا أخطر شيئاً منها على قلبه المقدس يتداركه الله تعالى بتأييد غيبي, كما يرشد إليه قوله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)(2), وهذا مِمّا لا ينافي العصمة في شيء أبداً, ولكنه ربما يكون القول بذلك ينافي مقاماتهم الشريفة لا سيما خاتم الأنبياء وأوصيائه العظام صلوات الله عليهم؛

فلا بُدَّ أنْ يحمل على محامل؛ أحسنها ما ذكره الشيخ الصدوق قدس سره من أنَّ توصيفهم بها إنَّما يكون بحال المتعلق لا الذات, بمعنى أنَّهم يتطير بهم كما قوله تعالى: (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ)(3), أو يحسد عليهم كما في قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(4), أو يكون من يفكر في الوسوسة في الخلق مِمَّن حوله من المنافقين كقوله تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)(5) , والتفصيل مذكور في محله.

ص: 248


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج8 ص108.
2- . سورة الإسراء؛ الآية 74.
3- . سورة يس؛ الآية 18.
4- . سورة النساء؛ الآية 54.
5- . سورة المدثر؛ الآيات 18-19.

الأمر التاسع: ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) أنَّه قد شذَّ عنوانان من العناوين الواردة في الحديث, وهما الخطأ والنسيان, حيث لم يقل: ما نسي أو ما أخطأ فيه مِمّا يشعر بأنَّ المقصود رفع آثار نفس الخطأ والنسيان, ثم قال: إنَّ الصحيح أنَّ المراد بهما المنسي, وما وقع فيه الخطأ أيضاً, فالمرفوع هو الفعل بعنوانه الأولي كما في العناوين الأخرى, لأنَّه لو أريد رفع نفس النسيان والخطأ لكان حال المكلف الناسي والمخطئ أسوء مِمّا إذا لم يرفع عنه الخطأ والنسيان, إذ رفع النسيان عنه يعني افتراضه غير ناسي فيكون معاقباً عليه.

وقيل: إنَّ هذا الذي ذكره قدس سره يناسب الإحتمال الثالث الذي كان الرفع فيه رفعاً للوجود الخارجي تعبداً, وتنزيله منزلة نقيضه, بخلاف الإحتمال الثاني؛ إذ لا يلزم منه تنزيله منزلة الموضوع في دليل العمد كما تقدم.

والصحيح أنْ يقال بأنَّ الظاهر من الحديث في جميع فقراته عدا الطيرة والحسد هو رفع آثار العنوان الأولى في الخطأ والنسيان أيضاً لوحدة السياق, فإنَّ العناوين الثانوية الأخرى قد أخذت مشيرة ومعرفّة إلى العنوان الأولى المرفوع وجعلت حيثية الكلام للرفع, فكذلك يكون عنوان الخطأ والنسيان ولا ينتقض بالحسد والطيرة؛ فإنَّها عناوين أولية, بخلاف الخطأ والنسيان؛ فإنَّهما من العناوين الثانوية ويمكن إرجاع ما ذكره المحقق النائيني وغيره إلى ما تقدم من التلازم العرفي بينها والإختلاف بينهما عن سائر العناوين الثانوية الواردة في الحديث لوحدةالسياق, ولعل الوجه في اختلاف التعبير يرجع إلى أنَّ المرفوع في الخطأ والنسيان هو أثر النسيان وما يترتب عليه من الأفعال لا المنسي كما هو واضح.

ص: 249


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص223 وما بعدها.

الأمر العاشر: المعروف عدم اعتبار مثبتات الأصول العملية, فلو كان مجرى البراءة أمراً عرفياً أو عقلياً ويترتب عليه أثر شرعي لا اعتبار بها, بخلاف الأمارات؛ حيث أنَّ المعروف اعتبار مثبتاتها, فهي حجة حتى لو كان مورد جريانها الأمر العرفي والعقلي ويترتب عليه الأثر الشرعي, وقد تقدم الكلام في ذلك.

وكيف كان؛ فإنَّه في كلِّ مورد يكون جريان الأصل فيه مثبتاً لنا التمسك بنفس حديث الرفع الذي هو من الأمارات ويحكم بالأثر الشرعي ولو كان بواسطة أمر عقلي أو عرفي, وكذلك الأمر في الإستصحاب, وسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

المقام الرابع: في سند الحديث

لا إشكال في صحَّة حديث الرفع لجهات عديدة:

الأولى؛ إستفاضة نقله.

الثانية؛ معروفيته في كتب الأحاديث.

الثالثة؛ إعتماد العلماء عليه في العمل والفتوى.

الرابعة؛ إنَّه منقول بسند معتبر.

الخامسة؛ إنَّ متنه يشهد بصحة سنده.

ومع كل تلك القرائن الدالة على اعتباره يكون البحث عن سنده من التطويل بلا طائل تحته, ومع ذلك فقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) في المقام كلاماً طويلاً مع اعترافه بصحته.

وخلاصة ما ذكره: إنَّ الحديث منقول بطرق مختلفة:

منها؛ ما نقله الشيخ الحر العاملي في الوسائل في كتاب الجهاد عن كتابي التَّوْحِيدِ والْخِصَالِ للصدوق قدس سره ؛ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ

ص: 250


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص58.

عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق علیه السلام أنَّه قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ؛ الْخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ ومَا لَا يَعْلَمُونَ ومَا لَا يُطِيقُونَ ومَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ والْحَسَدُ والطِّيَرَةُ والتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْوَةِ(1)؛ مَا لَمْ يَنْطِقُوا بِشَفَةٍ)(2).

ونقطة الضعف في هذا السند أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى العطّار؛ فإنَّه بالرغم من كونه شيخ الصدوق لكن لم يثبت توثيقه منها، ولكن نقل الشيخ الصدوق له في من لا يحضره الفقيه في كتاب الوضوء مرسلاً بعنوان: قَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم : (وُضِعَ عَنْأُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ؛ السَّهْوُ والْخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ ومَا لَا يَعْلَمُونَ ومَا لَا يُطِيقُونَ والطِّيَرَةُ والْحَسَدُ والتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ مَا لَمْ يَنْطِقِ الْإِنْسَانُ بِشَفَةٍ)(3), ولكنه مرسل لا أنْ يكون نظره إلى ما ذكره في الخبر السابق.

ومنها؛ ما رواه صاحب الوسائل في كتاب الإيمان بسنده إلى كتاب احمد بن محمد بن عيسى عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق علیه السلام أنَّه قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)(4), لكن لم يرد فيه بقية العناوين التسعة لا سيما (ما لا يعلمون).

ومنها؛ ما نقله صاحب الوسائل في كتاب الإيمان أيضاً عن أحمد بن محمد بن عيسى عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي ثَلَاثٌ؛ الْخَطَأُ والنِّسْيَانُ والِاسْتِكْرَاهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : وهُنَا رَابِعَةٌ وهِيَ: مَا لَا يُطِيقُونَ )(5).

ص: 251


1- . وفي نسخة: الخلق.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج15 ص369.
3- . من لا يحضره الفقيه؛ ج1 ص59.
4- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج23 ص237.
5- . المصدر السابق.

والإشكال عليه كالإشكال على سابقه؛ لم يرد فيه بقية الفقرات؛ لا سيما فقرة الإستدلال (ما لا يعملون).

ومنها؛ نقلٌ آخر له في الوسائل عَنْ نَوَادِرِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سِتُّ خِصَالٍ؛ الْخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ومَا لَا يَعْلَمُونَ ومَا لَا يُطِيقُونَ ومَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ)(1). والطريق إلى نوادر أحمد بن محمد صحيح ومعتبر.

ثم استشكل في كلِّ واحد من تلك الروايات من جهتين:

الجهة الأولى: المناقشة في تصحيح رواية الخصال؛ حيث ذكروا بأنَّ الشيخ قدس سره نقل الحديث عن الخصال بسنده وطريقه الصحيح إلى جميع كتب وروايات سعد بن عبد الله كما ذكره في الفهرست, وسعد واقع في هذا السند بعد أحمد بن محمد بن يحيى؛ فيمكن تعويض هذه القطعة من السند بطريق الشيخ المذكور.

وذكر قدس سره في مناقشته لذلك أنَّه لم يقبل نظرية التعويض على نحو العموم والشمول؛ إذ فيها إجمال, فلا بُدَّ من الإقتصار على المورد المتيقن وهو كلُّ ما يراه رواية له بأنْ يسنده وينسبه في كتبه إليه, ففي هذا المورد يمكن تطبيق نظرية التعويض على كلام متروك في محله والحديث ليس كذلك.

الجهة الثانية: المناقشة في رواية الجعفي من ناحية إسماعيل بن جابر الجعفي؛ فإنَّه مردد بين عدة عناوين, فقد ذكر النجاشي في كتابه في عنوان إسماعيل بنجابر الجعفي من دون أنْ يذكر توثيقاً بشأنه, غير أنَّ له كتاباً وذكر طريقاً إليه صحيحاً ينقل عنه صفوان بن يحيى, وذكر الشيخ في الفهرست هذا العنوان من دون لقب وقال أنَّ له كتاباً ولم يوثقه ولكن

ص: 252


1- . المصدر السابق.

ذكر في رجاله عنوان إسماعيل بن جابر الخثعمي الكوفي وشهد بوثاقته؛ فإنْ قلنا بالتعدد لم يقع هذا العنوان الموثق في سند الحديث.

ثم ذكر طريقين للتخلص من الإشكال:

أحدهما: توثيقهما لنقل صفوان عنهما كما ذكر النجاشي في عنوان الجعفي والشيخ في فهرسته في عنوان إسماعيل بن جابر والطريق صحيح فثبت وثاقتهما.

والآخر: محاولة التوحيد بين الثلاثة بمجموع قرائن.

وأشكل عليهما أيضاً بما يلي:

أولاً: إنَّ الوارد في سند حديث الرفع إسماعيل الجعفي لا إسماعيل بن جابر الجعفي, وحينئذٍ يحتمل أنْ يكون إسماعيل بن عبد الرحمن الجعفي الذي لم يوثق, وهذا الرجل وإنْ نقل عنه الصدوق في مشيخته بواسطة صفوان إلا أنَّ الطريق إلى صفوان فيه محمد بن سنان الذي لم يثبت توثيقه.

ثانياً: لو سلَّمنا أنَّ المراد هو إسماعيل بن جابر لكن لا يعقل أنْ يكون الناقل عنه أحمد بن محمد بن عيسى بلا واسطة؛ لأنَّه لم ينقل في الفقيه عن أحد من أصحاب الصادقين علیهما السلام إلا مع واسطة أو واسطتين, لأنَّ الفاصل بينه وبين الإمام الصادق علیه السلام أكثر من مائة عام, فإمّا أنْ تكون الواسطة محذوفه أو يكون إسماعيل الذي هو من أصحاب الإمامين الباقرين علیهما السلام ليس إبن جابر الجعفي.

والحقُّ أنَّ جميع ما ذكره غير صحيح؛ أمّا بالنسبة إلى رواية الجعفي فلأنَّ وقوع صفوان بن يحيى -الذي لم ينقل إلا عن ثقة- في الطريق يكفي في تصحيح الرواية كما هو مذكور في محله.

وأمّا الفاصل الزماني فهو إنَّما يضرّ لو كان النقل مباشرة, وأمّا إذا كان عن الكتاب فلا إشكال فيه, حيث أنَّ لإسماعيل بن جابر الجعفي كتاباً معروفاً, وأحمد بن محمد بن يحيى

ص: 253

قد نقل الحديث عن كتابه ومثل هذا يعتبر من الحسن فيكون إعتيادياً.

ثالثاً: إنَّ إسماعيل الجعفي قد وقع في روايات الفقيه كثيراً, والمنصرف منه هو إسماعيل بن جابر الجعفي وندرة روايات إسماعيل بن عبد الرحمن لا سيما أنَّهم قد عبّروا عن الأول بأنَّه وجه من أصحابنا.

رابعاً: بالنسبة إلى رواية الخصال فإنَّه يكفي في صحة سنده رواية الشيخ قدس سره له عن الخصال بسنده المعتبر إلى سعد بن عبد الله الذي هو واقع بعد أحمد بن محمد؛ فتكون رواية الصدوق معتبرة أيضاً بعد عدم الإختلاف بين الروايتين ولا حاجة إلى نظرية التعويض؛ فإنَّها من لزوم ما لا يلزم.هذا كلُّه إذا لم تعتبر نظرية توثيق أصحاب الإمامين الباقرين الصادقين علیهما السلام إلا ما خرج بدليل؛ فإنَّ الأمر واضح حينئذٍ, فالحديث معتبر سنداً.

هذا ما يتعلق بحديث الرفع الذي هو العمدة في المقام.

ومنها(1): مرسل الصدوق: (كلُّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي)(2).

وقد استدلَّ به على البراءة الشرعية بناءً على كون المراد بالشيء مطلق مجهول الحكم, وبالورود الحكم الثابت التام الذي يسلم عن الإشكال والمناقشة العرفية الصحيحة.

وقد أشكل عليه بوجهين:

الأول: المناقشة السندية؛ حيث أنَّه مرسل.

وقد أُجيب عنه بأنَّه يكفي في الإعتبار إعتماد الفقهاء عليه في الفقه واعتضاده بروايات مختلفة في أبواب متفرقة, وأنَّ مضمونه مِمّا تقتضيه سهولة الشريعة المقدسة.

ص: 254


1- . التوحيد(للصدوق)؛ ص413.
2- . من الأخبار التي استدلَّ بها على البراءة.

الثاني: الإجمال؛ حيث يحتمل فيه وجوهاً:

1- أنْ يُراد بالشيء ما يكون بعنوانه الأولي من حيث هو, وبالورود التشريع؛ فيكون دليلاً لبحث الحظر والإباحة لا بحث البراءة لمجهول الحكم بعد تمامية التشريع من كلِّ وجه كما عرفت إلا أنْ يشملها بالملازمة العرفية.

وفيه تأمل كما تقدم بيانه في أول بحث البراءة.

2- أنْ يُراد به مجهول الحكم, وبالورود مطلق التشريع؛ فتكون أدلَّة الإحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية مقدمة عليه؛ لكفايتها في تشريع الإحتياط, فيكون المرسل حينئذٍ من أدلَّة الإخباريين.

3- أنْ يُراد بالشيء مطلق مجهول الحكم, وبالورود الحكم الثابت غير القابل للمناقشة؛ وبناءً عليه يكون من أدلَّة البراءة بعد المناقشة في أدلَّة الإحتياط, وبناءً على هذه الإحتمالات يصير المرسل مجملاً وكونه ظاهراً في الأخير مشكل.

ومنها: حديث الحجب؛ فقد ورد في المعتبرة: (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم )(1).

وهو من حيث السند معتبر, وأمّا دلالته فقد قيل أنَّه يدلُّ على وضع التكليف عمّا حجب الله علمه عن العباد, فما لم يصل إلى المكلف فهو محجوب عنهم لا محالة.

ولكن اعترض على ذلك بأنَّ الحجب الذي أسند في الحديث إلى الله عَزَّ وَجَلَّ يوجب اختصاصه بما إذا كان خفاء التكليف بتعيين منه تعالى فيكون المعنى: إنَّ ما أخفاه الله تعالى عن عباده ولم يبيّنه لهم فهو محجوب عنهم وليسوا مسؤولينعنه, لأنَّ علوم الناس تارةً؛ تكون مِمّا رغب فيه الشارع، وأخرى؛ مِمّا لم يرغب فيه ولم ينه عنه، وثالثة؛ مِمّا نهى عنه لكون مفسدة تعلّمه أكثر من مصلحته لقصور أفهام الناس عن الإحاطة بما هو عليه.

ص: 255


1- . التوحيد(للصدوق)؛ ص413.

والمنساق من الحديث هو الأخير؛ فيكون نظير الأحاديث التي تنهى عن الغور في القضاء والقدر ونحوهما من أسرار التكوين, وهذا المعنى أجنبي عن البراءة المبحوث عنها في المقام.

وقد حاول بعض الأصوليين دفع هذا الإعتراض؛ فقالوا بالرجوع إلى الإستصحاب الموضوعي؛ بأنْ يستصحب إمّا عدم البيان وإمّا الحجب الثابت في أول أزمنة التشريع وقبل بيانه للعباد.

ويمكن ردُّ الأول بأنَّ الإستصحاب العدمي لا يثبت الحجب الوجودي.

والثاني بأنَّه خلاف معنى الحجب الذي لا يصدق إلا مع تعمد الإخفاء وعدم البيان وهو لا يصدق على ذلك الزمان القليل الذي يمرّ على المكلف وهو في طريق الإيصال إلى العباد.

وقيل في ردِّ الإعتراض أيضاً: إنَّ الحجب المنسوب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بما هو خالق لا بما هو مولى ومشرع يكون صادقاً حتى على عدم الوصول إلى المكلف, لأنَّ الإحتجاب عنه أيضاً مضاف إليه سبحانه بما هو خالق كل شيء بل يشمل على هذه الشبهات الموضوعية, لأنَّ حجب الموضوع أيضاً مضاف إليه تعالى بما هو خالق فيكون مفاد الحديث على هذا أنَّه يتعدد الحجب وينحل بعدد العباد بمقتضى التقابل بين الحجب عن العباد والوضع عنهم, وعليه؛ يكون خير دليل على البراءة.

ويرد عليه بأنَّ فيه تكلُّف واضح وخلاف المنساق من الحديث, فإنَّه ذكرنا آنفاً أنَّ سياق الحديث هو تلك العلوم التي حجبها عن عباده ونهاهم عن تعلّمها فلا ربط له بالبراءة؛ سواء نسب الحجب إليه سبحانه بما هو خالق أم بما هو مولى ومشرع.

ومنها(1): حديث الحلية المعروف؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق علیه السلام قَالَ: (كُلُّ شَيْ ءٍ فِيهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ أَبَداً حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ )(2).

ص: 256


1- . التوحيد(للصدوق)؛ ص413.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج17 ص88.

ومنها: معتبرة مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام ؛ قَالَ: سَمِعْتُهُ علیه السلام يَقُولُ: (كُلُّ شَيْ ءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ, وذَلِكَ مِثْلُ الثَّوْبِ؛ يَكُونُ عَلَيْكَ قَدِ اشْتَرَيْتَهُ وهُوَ سَرِقَةٌ, أَوِ الْمَمْلُوكِ عِنْدَكَ ولَعَلَّهُ حُرٌّ قَدْ بَاعَ نَفْسَهُ أَوْ خُدِعَ فَبِيعَ قَهْراً, أَوِ امْرَأَةٍ تَحْتَكَ وهِيَ أُخْتُكَ أَوْ رَضِيعَتُكَ, والْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا؛ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ تَقُومَ بِهِ الْبَيِّنَةُ)(1).ومنها: الخبر المعروف في الكتب الأصولية؛ (كُلُّ شَيْ ءٍ فِيهِ الْحَلَالُ والْحَرَامُ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ فَتَدَعَهُ بِعَيْنِهِ)(2).

وقد أشكل على الإستدلال بها بأنَّها تختص بالشبهات الموضوعية واستفادة الحكمية منها مشكل جداً, ومع الشك يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية الذي تقدم بطلانه, وتفصيله أنَّ ذلك واضح في صحيحة عبد الله بن سنان؛ فإنَّ صدرها ظاهر في حلية الشيء الذي ينقسم إلى قسمين؛ حلال وحرام؛ مِمّا أوجب الإشتباه والتردد, كالجبن المتَّخذ من الميتة فيكون حراماً والمتخذ من المذكى فيكون حلالاً, وهذا لا يصدق إلا في الشبهات الموضوعية, كما أنَّ ذيلها (بعينه) الدالّ على كونه إحترازياً لا أنْ يكون تأكيداً يدلُّ على أنَّ المراد منها الشبهات الموضوعية؛ حيث يكون الحرام فيها معلوماً ولكن لا بعينه كما في موارد العلم الإجمالي وهو ينطبق في الشبهة الموضوعية بخلاف الحكمية, وأمّا معتبرة مسعدة بن صدقة فإنَّ الأمثلة المذكورة فيها قرينة على عدم إرادة البراءة منها بوجه, وإنَّ التطبيقات والقاعدة المذكورة في ذيلها مِمّا يدلُّ اختصاصها بموارد تحقق العلم الإجمالي بوقوع المحرمات وثبوتها في الجملة فلا يكون مانعاً عن ثبوت الحلية في كلِّ مورد بدليلها, وهناك إحتمالات في فقه الحديث مذكورة في محلها.

ص: 257


1- . المصدر السابق؛ ص89.
2- . المصدر السابق؛ ج25 ص119.

وأمّا الخبر فهو وإنْ أمكن الإستدلال به على البراءة إلا أنَّه لم يوجد في كتب الحديث.

ومنها: صحيح عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ الإمام الكاظم علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ؛ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فِي عِدَّتِهَا بِجَهَالَةٍ؛ أَ هِيَ مِمَّن لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَداً؟. فَقَالَ علیه السلام : (لَا؛ أَمَّا إِذَا كَانَ بِجَهَالَةٍ فَلْيَتَزَوَّجْهَا بَعْدَمَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا, وقَدْ يُعْذَرُ النَّاسُ فِي الْجَهَالَةِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: بِأَيِّ الْجَهَالَتَيْنِ يُعْذَرُ؛ بِجَهَالَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أم بِجَهَالَتِهِ أَنَّهَا فِي عِدَّةٍ؟. فَقَالَ علیه السلام : إِحْدَى الْجَهَالَتَيْنِ أَهْوَنُ مِنَ الْأُخْرَى؛ الْجَهَالَةُ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وذَلِكَ بأنَّه لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ مَعَهَا. فَقُلْتُ: وهُوَ فِي الْأُخْرَى مَعْذُورٌ؟. قَالَ علیه السلام : نَعَمْ؛ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. فَقُلْتُ: فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُتَعَمِّداً والْآخَرُ بِجَهْلٍ؟. فَقَالَ علیه السلام : الَّذِي تَعَمَّدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى صَاحِبِهِ أَبَداً)(1).

والإستدلال به في المقام يتوقف على تجريده عن الخصوصية؛ إذ أنَّه وارد في خصوص النكاح في العدة وهو قضية في واقعة خاصة كما اعترف بها الجميع؛ من الأخباريين والأصوليين؛ كسائر الموارد الخاصة التي ورد فيها الدليل الخاصعلى عذرية الجهل, كالجهر في موضع الإخفات وبالعكس والتمام في مورد القصر جهلاً.

يضاف إلى ذلك أنَّ في مورد الصحيح مقتضى أصالة بقاء العدة إنْ كانت الشبهة موضوعية,

وأصالة عدم ترتب الأثر على العقد إنْ كانت حكمية عدم جواز الإقتحام, بخلاف المقام؛ فإنَّه يعتبر في جريان البراءة أنْ لا يكون ٍأصل موضوعي في البين إلا أنْ يقال بأنَّ قوله علیه السلام : (وقَدْ يُعْذَرُ النَّاسُ فِي الْجَهَالَةِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ) لا يخلو من التأييد للمقام ولكنه ليس كما عرفت.

ص: 258


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج20 ص451.

ثم إنَّه قد استشكل في فقه الحديث بأنَّ الجهالة التي يعذر الناس بها, فإنَّها وإنْ كانت تشمل الجهالة في الحكم أو الموضوع لكن المراد منها فيه غموض, فإنَّه إمّا أنْ يكون المراد منها الغفلة وعدم الإلتفات أصلاً فلا يقدر معه على الإحتياط أبداً في الشبهتين؛ الموضوعية والحكمية, فلا وجه للتفرقة بينهما.

وإمّا أنْ يكون المراد بها عدم العلم مع الإلتفات إليه, فإنَّه يقدر على الإحتياط فيهما معاً, فلا وجه للتفريق بينهما على كلِّ حال.

وإمّا أنْ يكون المراد بالجهالة في الحكم الغفلة والجهالة في الموضوع عدم العلم مع الإلتفات إليه، فهو خلاف الظاهر.

وقد أُجيب عنه تارةً؛ باختیار القسم الأخير, وذلك لأنَّ عدم العلم مع الإلتفات إليه بالنسبة إلى نفس الحكم في هذا الأمر المهم العام البلوى مما لا ينبغي بالنسبة إلى المسلم, وأمّا الغفلة عنه فإنَّه قد يصدر من الإنسان ولا منقصة فيها على أحد, فكأنَّه علیه السلام أشار في كلامه إلى أنَّ المسلم في هذه الأمور الإبتلائية لا بُدَّ أنْ يكون عالماً بها, وإنْ حصل جهل منه فهو غفلة لا أنْ يكون من عدم العلم, وأخرى؛ بأنَّه يصح استعمال الجهالة فيه في المعنى الأعم من الغفلة وغيره, فيكون إرادة خصوص الغفلة بالنسبة إلى الحكم من باب تعدد الدالّ والمدلول, وتفصيل الكلام موكول إلى محله.

ومنها: ما رواه الكليني في الكافي؛ عَنْ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحَجَّالِ

عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئاً؛ هَلْ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ؟. قَالَ: (لَا)(1).

ص: 259


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ج1 ص164.

وتوجيه الإستدلال به أنَّه بعد ملاحظة كون المعرفة طريقاً إلى العمل؛ فإنَّه حينئذٍ يكون نفي المؤاخذة والعقاب على ترك العمل نتيجة الجهل وعدم المعرفة, والقرينة على ذلك أنَّ الإرتكاز يدلُّ على أنَّ المعرفة إنَّما تلحظ على نحو الطريقيةإلى العمل غالباً, وهذا لا يكون إلا مع عدم العلم بالحكمين؛ الواقعي والظاهري, أي إيجاب الإحتياط معاً, وإلا لم يترتب عدم العمل.

وهذا التوجيه صحيح لو لم نقل بأنَّ الحديث وارد في باب الإعتقادات, فيكون من أدلَّة معذورية الجاهل القاصر وفيه بحث كما هو مفصل في علم الكلام.

ومنها: ما رواه عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي حَدِيثٍ مَنْ أَحْرَمَ فِي قَمِيصِهِ؛ إِلَى أَنْ قَالَ: (أَيُّ رَجُلٍ رَكِبَ أَمْراً بِجَهَالَةٍ فَلَا شَيْ ءَ عَلَيْهِ)(1).

والجهالة -كما عرفت- يصدق على عدم العلم التصديقي كما يصدق على الغفلة والجهالة التصورية, وإطلاق الشيء المنفي يشمل المؤاخذة والعقاب, نعم؛ يخرج منهما خصوص الجهل عن التقصير في الشبهات الحكمية؛ كما لو ترك الفحص كما عرفت من ثبوت العقاب فيه, فيكون مفاد الحديث مثل سابقه في رفع المؤاخذة لو صدر العمل عن جهالة ولو بالحكم الظاهري بإيجاب الإحتياط.

هذه جملة من الأخبار التي استدلَّ بها على البراءة الشرعية, وهي وإنْ لم يخلُ بعضها عن المناقشة في الدلالة أو في السند ولكن في بعضها الآخر ليس كذلك، فلا إشكال في ثبوتها.

البحث الثالث: الإستدلال بالأصل على البراءة

وقد ذكر في بيانه أنَّه يثبت بوجوه ثلاثة:

الأول: إستصحاب عدم التكليف قبل البلوغ.

الثاني: إستصحاب عدم التكليف قبل الشرع أو أول الشريعة قبل التشريع.

ص: 260


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج8 ص248.

الثالث: إستصحاب عدم التكليف الثابت قبل تحقق موضوع التكليف المشكوك أو قيوده.

والأول؛ من إستصحاب عدم الجعل، والثاني والثالث؛ من إستصحاب عدم المجعول.

وتوضيح البحث والكلام فيها يقع في أمور:

الأمر الأول: قد استشكل فيها بوجوه عديدة وهي:

1- إنَّ المستصحب لا بُدَّ أنْ يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي لما سيأتي في بحث الإستصحاب من أنَّه لا بُدَّ أنْ يكون مجعولاً للمولى أو موضوعاً له حتى يكون التعبد به بلحاظ ما هو المجعول فيه, وعدم الحكم ليس بمجعول ولا موضوع لمجعول, وهذا الإشكال يشمل الاقسام الثلاثة.

وأُجيب عنه تارةً؛ بأنَّ الإستصحاب يجري في الأعدام الأزلية؛ فكيف في المقام؟.

ولكنه مردود بأنَّ القول بجريان بالإستصحاب في الأعدام الأزلية لا يعني الإلتزام بجريانه في عدم الجعل.وأخرى؛ بأنَّ الميزان أنْ يكون مورد الإستصحاب تحت قدرة المولى رفعاً ووضعاً وعدم الحكم كالحكم المجعول تحت قدرته ولا نحتاج إلى أكثر من ذلك.

وثالثة؛ إنَّ المناط أنْ يكون مورد الإستصحاب قابلاً للتصرف المولى الظاهري, أي بالتنجيز والتأمين, وهو يتحقق في التعبد في عدم المجعول الشرعي أو موضوعه كما هو ثابت في نفس المجعول وموضوعه, ويمكن إرجاع هذا الجواب إلى الثاني أيضاً فلاحظ.

2- ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ الأثر المطلوب ترتبه يكون تارةً؛ تمام موضوعه مجرد الشك لا الواقع كحرمة إسناد ما لا يعلم أنَّه من الدين إلى الدين.

وأخرى؛ يكون مترتباً على كلٍّ منهما كما فرضنا أنَّ حرمة التشريع على كلٍّ منهما.

ص: 261


1- . أجود التقريرات؛ ج3 ص321.

وثالثة؛ يكون مترتباً على الواقع المستصحب, كالطهارة المترتبة على عدم الملاقاة.

والإستصحاب إنَّما يجري في الثالث فقط؛ إذ الأول لا يكون الواقع فيه موضوعاً للأثر المطلوب حتى يجري الإستصحاب فيه, والثاني يكون الأثر مترتباً على نفس الشك المحرز وجداناً فيكون حكمه محرز وجداناً أيضاً, ولا حاجة إلى الإستصحاب لأنَّه من تحصيل الحاصل.

وهذا الإشكال كسابقه لا يختص بأحد الأقسام الثلاثة.

ويرد عليه بأنَّه فرق بين عدم البيان والبيان على العدم؛ والبراءة من الأول والإستصحاب من الثاني, فيكون الفرق واضحاً, مع أنَّ ما ذكره خلط بين معنيين من الأثر فإنَّه تارةً؛ يقصد به الحكم الشرعي الذي يراد إثباته بالتعبد.

وأخرى؛ يقصد به الأثر العملي, بمعنى التنجيز والتأمين.

والأول يكون إثباته بالإستصحاب ظاهرياً تعبداً لأنَّه من آثار المستصحب لا الإستصحاب.

بينما الثاني يكون إثباته به واقعاً وجدانياً لأنَّه من آثار نفس التعبد الثابت وجداناً.

واستصحاب عدم التكليف في المقام هو الأثر بالمعنى الثاني, بينما نظر المحقق قدس سره إلى الأول, وحينئذٍ؛ بناء على الثاني فإنَّ التأمين يثبت بأحد ملاكين؛ الشك أو الإستصحاب, فإنَّه يترتب عليه وجداناً التأمين واقعاً فتكون فائدة التأمين المستصحب حينئذٍ إثباته باعتبار تصدي المولى لإبراز عدم إهتمامه بتكاليفه الإلزامية في مقابل التزاحم, وهو لم يثبت إلا بالإستصحاب لا بمجرد الوجدان.

3- إنَّ عدم التكليف المحرز حال الصغر هو العدم بملاك قصور المحل ونفي الحرج, بينما العدم المشكوك هو العدم في الموضع المقابل.

وهذا الإشكال يختص بالثاني والأول.

ص: 262

ويرد عليه: إمّا بالنقض؛ بأنَّه ليس عدم التكليف قبل البلوغ لأجل نفي الحرج دائماً بل ربما لا يكون كذلك, وهو كثير؛ كما في الصبي المميز, فإنَّه قابل للتكليف وإنْ رفعه الشارع إمتناناً عنه.

وإمّا بالحلّ؛ بأنَّ العدم لا يتعدد بتعدد ملاكه, فأركان الإستصحاب في عدم الحرمة مثلاً تامة.

4- إنَّ الإستصحاب إنَّما يجري مع حفظ الموضوع وهو لم يحفظ في المقام, لأنَّ حيثية الصغر والصِبا مقومة لموضوع الإباحة والترخيص الثابتان حينه, وهي قد ارتفعت جزماً, فلو كانت إباحة على البالغ فهي إباحة أخرى.

وهذا الإشكال يختص بالأول والثاني كسابقه.

ويمكن الجواب عنه:

أولاً: إنَّ العرف يرى أنَّ الإباحة بعد البلوغ هي نفسها قبله, والنظر العرفي في وحدة الموضوع معتبر في جريان الإستصحاب كما سيأتي.

وثانياً: إنَّه على فرض القبول فإنَّه إنَّما يتم في استصحاب الإباحة, وأمّا إذا أريد منه استصحاب عدم التكليف فلا إشكال فيه ولا تعدد للموضوع بلحاظ الحكم العدمي كما هو واضح.

5- إنَّ استصحاب عدم الجعل قبل البلوغ مثبت, إذ الأثر المطلوب منه هو التنجيز والتأمين, وهما مترتبان على المجعول لا الجعل, وترتب المجعول على الجعل وانتفاؤه بانتفائه عقلي لا شرعي.

ولكن الحقّ؛ أنَّ المجعول ليس شيئاً وراء الجعل ليكون منظوراً إليه استقلالاً كما سيأتي بيانه في بحث الإستصحاب, مع أنَّ التنجيز لا يحتاج فيه إلى أكثر من إحراز موضوعه, فإذا أحرز ذلك حكم العقل بالمنجزية؛ فحينئذ ينتفي حكم العقل بالمعذرية والتأمين.

ص: 263

6- إنَّ عدم الجعل المتيقن هو العدم الأزلي للتكليف, أي قبل الشريعة, وهو عدم غير مربوط إلى المولى, أي العدم النعتي بعد تحقق الشريعة ومولوية المولى وإثبات العدم النعتي بالأزلي من الأصل المثبت.

وهذا الإشكال يختص بالثالث من الأقسام.

وفيه: إنَّه لا يضر إذ لا تمايز في الأعدام كما هو مقرر في محله, وفي كثير من الأحيان يحرز عدم جعل الحكم من أوائل الشريعة بنحو العدم النعتي, مع أنَّموضوع التأمين مطلق عدم الجعل ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع, أي العدم المحمولي؛ فلا حاجة إلى إثبات العدم النعتي.

الأمر الثاني: ذكر بعضهم أنَّ الرجوع إلى الإستصحاب بأيِّ وجه كان من الوجوه المتقدمة موجب لرفع موضوع البراءة لا أنْ يكون مثبتاً لها, لأنَّ للإستصحاب حكومة على البراءة وهو يجري في جميع الشبهات الحكمية التي تجري فيها البراءة, فيلزم من جريانه إلغاء دليل البراءة.

وبعبارة أخرى: يشترط في جريان البراءة عدم وجود أصل موضوعي أو حكمي في موردها, وإلا فلا تجري.

وأجاب السيد الخوئي(1) عن هذا الإشكال بوجوه قابلة للمناقشة:

الوجه الأول: إنَّ دليل البراءة لم تؤخذ بشرط لا من حيث الإستصحاب, بل يدلُّ على أنَّها

التأمين في الشبهات, فربما يكون التأمين بنكتة الإستصحاب, ومع عدم إحراز التعدد يكون مفاد الدليل حجة.

ص: 264


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص272.

ويرد عليه: إنَّ هذا خلاف ظاهر أدلَّة البراءة التي تدلُّ على أنَّ التأمين المجعول فيها إنَّما هو بملاك الشك, وعدم العلم بالتكليف لا يملك سبق عدم الحكم الذي هو ملاك الإستصحاب.

الوجه الثاني: إنَّ البراءة إنَّما تجري إذا كان يترتب عليها فوائد وثمرات فينزل دليل جعلها عليها, وذلك في موارد: منها: مورد الدوران بين الأقل والأكثر الإرتباطيين, فإنَّه تجري البراءة فيه دون الإستصحاب؛ للعلم بأصل التكليف واستصحاب عدم تقييده بالجزء أو الشرط الزائد المعارض باستصحاب عدم إطلاقه.

وفيه: إنَّ إستصحاب عدم الإطلاق لا يجري, لأنَّه؛ إمّا أنْ يُراد به إثبات التقييد به فهو مثبت, وإمّا أنْ يُراد به إثبات أثر التقييد, وهو لزوم الإتيان بالزائد؛ فهو صحيح, ولكن موضوعه التقييد لا عدم الإطلاق, وسيأتي تتمة الكلام في بحث دوران الأمر بين الأقل والأكثر تفصيل الكلام في ذلك.

ومنها: ما إذا كان الأثر مترتباً على الإباحة بعنوان الإباحة, فإنَّه سوف يترتب بإجراء أصالة البراءة والحل دون استصحاب عدم التكليف.

وفيه: إنَّه يثبت حتى مع الإستصحاب إذا أجري في الإباحة قبل البلوغ أو الشرع أو قبل تحقق قيد التكليف المشكوك مع وجود الموضوع بل هو أولى لأنَّه أصل تنزيلي, بينما أصالة الحلّ غير تنزيلي فلا يثبت فيها الإباحة الواقعية.ومنها: ما إذا تعارض الإستصحابان كما في فرض توارد الحالتين فلا يجري استصحاب الإباحة ولم نلتزم بجريان إستصحاب العدم الأزلي.

وفيه: إنَّه من مجرد الفرض في عدم إمكان إجراء الإستصحاب بالوجوه الثلاثة, ولا يمكن تنزيل أدلَّة البراءة وحملها عليه.

ص: 265

الوجه الثالث: إنَّ هذا الإشكال مبني على دعوى حكومة الإستصحاب على البراءة لا تقدم دليله على دليلها بالأظهرية أو الجمع العرفي, والحكومة مبنية على كبرى قيام الأمارات والإستصحاب مقام القطع الموضوعي, وهو موضع إشكال على ما تقدم بيانه في بحث القطع, إذ هو مبني على جعل الطريقية في الأمارات والإستصحاب, وهو غير ثابت. وهذا الجواب ذكره السيد الصدر وهو موضع نقاش.

والصحيح في الجواب أنْ يقال بأنْ لا تعارض بين مفاد الإستصحاب ومفاد البراءة, فلا حكومة له عليها, لأنَّ الأول يبين البيان على العدم والثاني يبين عدم البيان, وربما يلتقيان فيكون آكد.

الأمر الثالث: إستشكل السيد الخوئي على إستصحاب عدم جعل التكليف بأنَّه معارض باستصحاب عدم جعل الإباحة للعلم الإجمالي بجعل أحد الأحكام الخمسة التكليفية في كلِّ واقعة.

وهذا الإشكال لا يجري في الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة المتقدمة, فإنَّ استصحاب عدم الحكم في عالم الجعل لا يجري في استصحاب الإباحة, ولكنه حاول الإجابة عنه بوجهين:

أولهما: إنَّ الإباحة على نحوين؛ حدهما ما تكون بعنوان الترخيص الشرعي الذي هو أحد الاحكام الخمسة الشرعية والثاني ما يكون بعنوان ما لم يرد فيه نهي أحدهما ما تكون بعنوان اببببيأحدهما؛ ما تكون بعنوان الترخيص الشرعي الذي هو أحد الأحكام الخمسة الشرعية, والثاني؛ ما يكون بعنوان ما لم يرد فيه نهي ولم يجعل فيه حرمة, واستصحاب عدم الجعل الموضوعي فيه حاكم على عدم الإباحة, وقد استفاد هذه الإباحة من مثل قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْ ءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(1).

ويورد عليه بأنَّه لم يفهم من قوله صلی الله علیه و آله و سلم هذا المعنى من الإباحة, وإنَّما هو يدلُّ على اعتبار القدرة في العمل, وإنَّه إذا عجز عنه يرتفع التكليف بمقدار ذلك العجز؛ سواء في أفراد

ص: 266


1- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج22 ص31.

الواجب أم بلحاظ أجزائه, فيكون ناظراً إلى مفاد قاعدة الميسور, وعلى فرضه فإنَّه ينافي ما ذكره في حديث (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي), حيث إنَّ الدليل لا يعقل أنْ يأخذ أحد الضدَّين في موضوع الآخر.

ثانيهما: إنَّه لا بأس بجريان الإستصحابين معاً ولا تعارض بينهما, لأنَّ الأصول في أطراف العلم الإجمالي إنَّما تتعارض إذا استلزم من جريانها الترخيص في مخالفة عملية, وهو غير متحقق في المقام.وأشكل عليه السيد الصدر قدس سره (1) بأنَّ استصحاب عدم الإباحة لا يجري في نفسه, ولو جرى لما نفعه الجواب المذكور, وذلك لأنَّ استصحاب عدم الإباحة إنْ أريد به التأمين فإنَّ موضوعه ليس هو الإباحة بل عدم الإلزام, وإنْ أريد به إثبات التنجيز فهذا لا يحصل لأنَّ موضوعه الإلزام, وهو لا يثبت بنفي ضده, وهذا بخلاف إستصحاب عدم التحريم أو الوجوب, فإنَّه ينفي موضوع التنجيز, وعليه؛ لا محذور في جريان إستصحاب عدم الجعل.

والحقُّ أنَّ ما ذكراه (قدس سرّاهما) من التطويل الذي لا طائل تحته, فإنَّ ما ذكره السيد الخوئي بحدِّ نفسه غير تام إذ لم يكن فرق بين الإباحتين فيما يترتب عليهما من عدم الحكم في مورد جريانهما, ومفاد عدم جعل التكليف يكون أيضاً كذلك فلا محذور في جريان استصحاب عدم الجعل, نعم؛ قد يختلفان في بعض اللوازم, وهو لا يضرّ فيما إذا لم تكن مقصودة.

الأمر الرابع: إنَّ إستصحاب عدم التكليف يجري في كِلتا الشبهتين؛ الحكمية والموضوعية كما ذكره جمعٌ من الأصوليين, ولكن قد يترائى من الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة المتقدمة

ص: 267


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص73.

-وهو استصحاب عدم الجعل- اختصاصه بالشبهات الحكمية ولا يجري في الشبهات الموضوعية لان كل فرد من أفراد الموضوع الخارجي له حصة من الجعل الكلي فيرجع الشك في الموضوع إلى الشك في سعة ذلك الجعل أو ضيقه.

وقد أشكل السيد الصدر عليه بأنَّ تكثّر الموضوع يوجب تكثّر الحكم بمعنى المجعول لا الجعل, وهو تكثّر إنحلالي وليس حقيقياً, وأمّا الحقيقي -وهو الجعل الذي هو أمر واقعي- فلا يتعدد ولا يزيد ولا ينقص بتكثّر موضوعه.

ويرد عليه بأنَّه هيّن بعد عدم الفرق بين الجعل والمجعول في النظر العرفي وعلى فرضه فإنَّه يمكن القول بالتعدد بلحاظ المجعول, وهو لا يضر بالوحدة الحقيقية؛ كما في كثير من الموارد.

ثم إنَّه قد يستدلُّ على البراءة بالإجماع في الشبهتين؛ الوجوبية والتحريمية. ولكن إثباته مشكل جداً لكثرة الخلاف والمخالف, وعلى فرض تحققه فهو معلوم المدرك, كما أنَّه قد يستدلُّ بدليل العقل, وقد ذكر في تفسيره كلاماً طويلاً ولكن لا إشكال في استقرار بناء العقلاء على الحكم بقبح العقاب بلا بيان ويمكن عدّه من القواعد العقلائية, وترجع الأدلَّة المتقدمة على فرض تمامية دلالتها فيكون إرشاداً إلى هذه القاعدة إنْ فرض عدم تمامية أدلَّة الإحتياط.

هذا كلُّه ما يتعلق بأصل البراءة.

ص: 268

الفصل الثاني الإحتياط

اشارة

الفصل الثاني(1)

والبحث عنه يقع من جهات:

الجهة الأولى: في وجوب الإحتياط الشرعي.

وقد استدل عليه بالكتاب والسنة؛

أمّا الكتاب؛ فقد استدلَّ بعدة آيات:

منها: ما دلَّ على النهي عن القول بغير العلم, كقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(2)؛ الدالّ على النهي عن الإفتاء والإسناد في مورد الشك وعدم العلم, فيكون القول بالبراءة وارتكاب المجهول قولاً بغير علم فيكون منهياً عنه, ولا يكون الإلتزام بالإحتياط من ذلك لا سيما إذا لم يكن إفتاء بالإحتياط بل هو إلتزام بترك المشكوك, والترك لا يستلزم إسناد شيء إلى الشارع, بخلاف القول بالبراءة؛ فإنَّه يستلزم الترخيص.

ويرد عليه بأنَّ القول بالبراءة إذا استند إلى الحجة المعتبرة لا سيما القاعدة العقلائية من قبح العقاب بلا بيان ليس قولاً بغير العلم, ولا شكّ أنَّ الإخباري والأصولي يعلم بحرمة إسناد الحكم الواقعي في موارد الشبهة, فهو يعلم بحرمة إسناد الإباحة, كعلمه بحرمة إسناد الحرمة الواقعية, ولكن الإفتاء بالإباحة الظاهرية من الإسناد بعلم عند تمامية أدلَّة البراءة الشرعية والعقلية.

وأمّا القول بأنَّ البراءة العقلية ليس من الإسناد إلى الشارع بل إفتاء بالوظيفة الفعلية عقلاً عند الشك؛ فقد عرفت الجواب عنه بأنَّ هذا الدليل العقلي قد أقرَّه الشارع, وإنَّ أدلَّة البراءة الشرعية إرشاد إليها.

ص: 269


1- . من فصول مباحث الأصول العملية.
2- . سورة الإسراء؛ الآية 36.

وكيف كان؛ فهذه الآيات لا تدلُّ على حرمة إسناد البراءة إلى الشارع وليس هو قولاً بغير علم.

ومنها: قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(1).

وتقريب الإستدلال به أنَّه يدلُّ على النهي عن تعريض الإنسان نفسه للهلكة, وهذا العنوان ينطبق على الإقتحام في الشبهة البدوية, لأنَّه في معرض الوقوع في محذور ارتكاب ما هو محرم شرعاً, وهي من الهلكة؛ فيشمله قوله عَزَّ وَجَلَّ فتثبت الحرمة.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّ القول بالبراءة إستناداً إلى الحجة المعتبرة ليس من الهلكة التي يحرم إلقاء النفس إليها كما عرفت.

ثانياً: إنَّ المحتملات في الآية الشريفة ثلاثة:

1- أنْ يكون المراد من الهلكة العقاب الأخروي.

وقد عرفت أنَّه منفي بدليل البراءة الذي هو وارد على الآية الشريفة كوروده على قاعدة دفع الضرر المحتمل.

2- أنْ يكون المراد من الهلكة الضرر الدنيوي.

ويرد عليه بأنَّه ليس كلّ ضرر دنيوي يكون من الهلكة, بل الهلكة ما يؤدي إلى الهلاك وهو الموت أو ما يقرب منه, ومن المعلوم أنَّ المحرمات المحتملة لا يحتمل فيها الهلكة بهذا العنوان.

3- أنْ يكون المراد من الهلكة الأعم منهما.

ويرد عليه ما ذكر آنفاً في الإحتمالين السابقين.

ص: 270


1- . سورة البقرة؛ الآية 195.

ثالثاً: إنَّ النهي في الآية الكريمة لا يكون مولوياً؛ إذ أنَّه نهي عمّا فرض كونه هلكة في الرتبة السابقة بأنْ يكون التكليف منجزاً فيقتحم فيه فيتركه إذا كان واجباً ويفعله إذا كان منهياً عنه. وفي موارد البراءة لا يكون الأمر كذلك فلم يكن النهي إلا إرشاداً وتحذيراً عن دخول نار الهلكة, وإذا فرض عدم احتمال العقاب لوجود المؤمّن المولوي عليه فلا موضوع للنهي عن إلقاء النفس في التهلكة.

ومنها: قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)(1), والآيات التي تأمر بتقوى الله, كقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)(2)؛ فإنَّها تدلُّ على المجاهدة في طاعة الله تعالى وبذل غاية الجهد في تقواه عَزَّ وَجَلَّ, وهو يشمل الإحتياط في الشبهات وأنَّ الإقتحام فيها لم يكن من بذل الجهد في طاعة الله سبحانه ولم يتَّقه.وفيه: إنَّ الجهاد في الله تعالى والتقوى إنَّما يكون بطاعته عَزَّ وَجَلَّ فيما شرَّعه وارتضاه, كنصرة دين الله والدفاع عنه وقتال أعدائه وامتثال تكاليفه, هو أيضاً من أفراد التقوى, يضاف إلى ذلك أنَّه لا بُدَّ أنْ تكون الطاعة ثابتة ومتنجزة بالعلم؛ فيكون الأمر الوارد في هذه الآيات إرشادياً ولا يمكن إثبات إيجاب الإحتياط الذي هو المطلوب عند المستدلّ بها.

وبالجملة؛ إنَّ العمل بالبراءة بعد تمامية دليلها لا يكون منافياً للتقوى وجهاد النفس.

ومنها: قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)(3).

باعتبار أنَّ الرد إليهما عبارة عن التوقف وعدم الإقتحام في الشبهات نظير قول الإمام الباقر علیه السلام : (الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَة)(4).

ص: 271


1- . سورة الحج؛ الآية 78.
2- . سورة آل عمران؛ الآية 102.
3- . سورة النساء؛ الآية 59.
4- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص50.

وفيه: إنَّه أجنبي عن وجوب الإحتياط؛ موضوعاً ومحمولاً.

أمّا الموضوع؛ فلأنَّه ورد في التنازع والمخاصمة فلا يشمل مجرد الشك وعدم العلم بالحكم الشرعي.

وأمّا المحمول؛ فلأنَّ المراد من الردِّ إلى الله ورسوله هو تحكيمهما فيما يرجع إلى شؤون الأمة وأخذ الشريعة منهما في شؤون الحياة, ولا نظر إليها إلى الإحتياط, مع أنَّ البراءة بعد تمامية دليلها من أفراد الشريعة, فالآية الشريفة أجنبية عن المقام بالكلية.

ومن جميع ذلك يظهر عدم دلالة ما استدلَّ به من الكتاب على وجوب الإحتياط.

وأمّا السنة؛ فقد استدلَّ بها الإخباريون على وجوب الإحتياط في الشبهات التحريمية وهي على طوائف عديدة:

الطائفة الأولى: أخبار الوقوف عند الشبهات

وقد ادعى بعضهم تواترها ولكنها لم تكن مستفيضة فضلاً عن أنْ تكون متواترة.

منها: مقبولة عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (..... فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الإقتحام فِي الْهَلَكَاتِ)(1).

ومنها: رواية مَسْعَدَةَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ آبَائِهِ علیهم السلام عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم أَنَّهُ قَالَ: (لَا تُجَامِعُوا فِي النِّكَاحِ عَلَى الشُّبْهَةِ, وَقِفُوا عِنْدَ الشُّبْهَةِ, يَقُولُ: إِذَا بَلَغَكَ أَنَّكَ قَدْ رَضَعْتَ مِنْ لَبَنِهَا وأَنَّهَا لَكَ مَحْرَمٌ ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَةِ)(2).ومنها: خبر أَبِي سَعِيدٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الإقتحام فِي الْهَلَكَةِ )(3).

ص: 272


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص157.
2- . المصدر السابق؛ ج20 ص260.
3- . المصدر السابق؛ ج27 ص155.

ومثله خبر داود بن فرقد عن أحدهما علیهما السلام , والسكوني عن علي علیه السلام ؛ إلى غير ذلك من الأخبار التي وردت في هذا المضمون، وقد جمعها صاحب الوسائل في الباب الثاني عشر من كتاب القضاء وبلغ عددها واحد وسبعون حديثاً, ولعل من إدّعى تواترها كان نظره إلى ذلك, ولكن عرفت عدم صحة هذه الدعوى, مع أنَّ كثيراً منها لا يرتبط بالمقام إلا بالمناسبات البعيدة.

وكيف كان؛ فقد إستدل بها على وجوب الإحتياط لأنَّ المراد من الوقوف عدم التحرك والإقدام على العمل.

وأشكل عليه بأنَّه إذا كان المراد من الوقوف هو التوقف عن الحكم الواقعي المفروض كونه مشكوكاً فهذا مسلّم عند كلٍّ من الأخباري والأصولي, وأمّا إذا كان المراد هو التوقف عن العمل فهذا لا معنى له, إذ لا بُدَّ من الفعل أو الترك على كلِّ واحد من القولين؛ البراءة والإحتياط, وأمّا إذا كان المراد التوقف في الإفتاء بالحكم الظاهري منعاً أو ترخيصاً فيشترك فيه الأصولي والأخباري أيضاً.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنَّ المراد من الوقوف هو مطلق السكون وعدم المضّي, وهذا كناية عن عدم الحركة والإقدام على الفعل, فيدلُّ على وجوب الإحتياط كما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره ؛ فلا يرد عليه هذا الإشكال.

والصحيح في الجواب أنْ يقال: إنَّه في هذه الأحاديث قرائن تدلُّ على أنَّها لا ربط لها بوجوب الإحتياط, وهذه القرائن هي:

القرينة الأولى: إنَّ الوقوف جُعل مقابلاً للإقتحام وليس من الواضح أنَّه بمعنى الإجتناب مقابل الإرتكاب, إذ الإقتحام هو الإقدام بلا رويّة وفكر فيكون النهي عنه في الشبهة معناه النهي عن الدخول فيها من دون مبالاة وفكر, وعليه؛ تكون الأحاديث مثل سائر

ص: 273

ما ورد من أنَّه لا بُدَّ من الإقتحام من مستند ومدرك له, ومن الواضح أنَّه لا ينطبق على قول الأصولي الذي استند في ارتكابه للشبهة إلى مدرك شرعي أو عقلي ولا يعدّ مقتحماً للشبهة.

القرينة الثانية: كلمة الشبهة؛ فإنَّه قد حصل خلط في هذه الكلمة الواردة في تلك الأحاديث بحملها على ما هو المصطلح عند الأصوليين فيها؛ وهو الشك, بل المراد منها المعنى اللغوي؛ وهو المثل والمماثلة, وباعتبار تماثل الطرفين في مورد الشك سميت بالشبهة, ويدلُّ على هذا المعنى بعض الأخبار التي استعملت الشبهة فيها بمعنى الضلالة والبدعة والخديعة, فقد ورد في خطبةٍ للإمام أمير المؤمنين علیه السلام : (وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ)(1).

وفي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنَّه قال لأبي ذر: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ مِنَ الشَّيْ ءِ الَّذِي لَا يُتَّقَى مِنْهُ خَوْفاً مِنَ الدُّخُولِ فِي الشُّبْهَة)(2)، إلى غير ذلك من الأخبار التي ورد فيها هذه الكلمة, وقد استعملت بالمعنى اللغوي, أي الضلالة والبدعة, ولا ريب أنَّه يجب التوقف عند مثل هذه الشبهة عند الجميع ولكنه أجنبي عن محل الكلام.

القرينة الثالثة: إنَّ حديث النكاح الذي ذكرناه؛ (لَا تُجَامِعُوا فِي النِّكَاحِ عَلَى الشُّبْهَةِ, وَقِفُوا عِنْدَ الشُّبْهَةِ, يَقُولُ: إِذَا بَلَغَكَ أَنَّكَ قَدْ رَضَعْتَ مِنْ لَبَنِهَا وأَنَّهَا لَكَ مَحْرَمٌ ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَةِ)؛ فإنَّه يظهر من هذه الرواية وجود الخطر في المحتمل دون مجرد الإحتمال, فلا تدلُّ على منجزية الإحتمال وجعل إيجاب الإحتياط شرعاً الذي هو مدعى الأخباري, وعلى فرض الإشكال في استفادة هذا المعنى من سائر الروايات في المقام لكنه يوجب سقوط الإستدلال بها.

ص: 274


1- . نهج البلاغة؛ خطب أمير المؤمنين علیه السلام ؛ (38) من كلام له علیه السلام ؛ وفيها علة تسمية الشبهة شبهة ثم بيان حال الناس فيها.
2- . مجموعة ورّام؛ ج2 ص62.

ثم أنَّ جمعاً من الأصوليين إستشكلوا على الإستدلال بهذه الأحاديث على وجوب الإحتياط بوجوه يمكن إدراجها في وجهين:

الوجه الأول: إنَّ هذه الروايات فرضت ثبوت الهلكة في الرتبة السابقة على النهي فتكون إرشاداً إلى حكم العقل بلزوم تجنب الهلكة والعقوبة المحتملة, ولا يمكن أنْ يكون مولوياً؛ فتختص هذه الطائفة بالموارد التي يكون الحكم منجزاً فيها في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أو قبل الفحص, بخلاف الشبهة البدوية بعد الفحص؛ فلا احتمال للهلكة فيها بقبح العقاب بلا بيان.

وأُجيب عنه بأنَّ إطلاق الأمر الإرشادي شامل للشبهة البدوية أيضاً فيكشف عن ثبوت الهلكة ووجوب الإحتياط أيضاً بحكم الشارع.

وأشكل السيد الصدر قدس سره (1) على أصل الإشكال وجوابه؛

أمّا الجواب؛ فلأنَّه يخرج القضية من كونها حقيقية إلى كونها قضية خارجية، أي ناظرة إلى حكم شرعي خارجي وهو إيجاب الإحتياط في موارد الشبهة البدوية أو مطلقاً, وهذا خلاف الظاهر من المطلقات.وأمّا أصل الإشكال فإنَّه مبني على قاعدة قبح العقاب بلا بيان, وهو قدس سره قد أنكرها بل العقل يحكم بالهلكة واستحقاق العقوبة في مورد الإقتحام في الشبهات البدوية من دون مؤمن شرعي.

ثم قال: إنَّه لو سلَّمنا القاعدة فلا ينبغي الإشكال في أنَّ من ألسنة بيان الحكم المولوي الإلزامي ذكر العقاب والهلكة المترتبة على الإقتحام في الشبهة كما هو رائج في أدلَّة الأحكام الواقعية فضلاً عن الظاهرية التي يكون الواقعي محفوظاً في موردها.

ص: 275


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص93-94.

ويرد عليه: ما ذكرناه سابقاً من ثبوت قاعدة قبح العقاب بلا بيان, وحينئذٍ لا يحكم العقل بالهلكة واستحقاق العقوبة في موارد الشبهات البدوية مع وجود المؤمن, كما أنَّ مجرد ذكر العقاب أو الهلكة في مورد الإقتحام لا يثبت الحكم المولوي الإلزامي, إذ لم تكن قرينة أخرى عليه, وفي خصوص المقام فإنَّ قاعدة قبيح العقاب بلا بيان توجب صرفها إلى الشبهات التي يكون الحكم فيها منجزاً كما في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي, وقبل الفحص, فالإشكال متين ولكن الجواب عنه غير صحيح, لأنَّ الأمر الإرشادي لا يشمل الشبهات البدوية بعد الفحص لوجود المؤمن من الهلكة والعقاب.

الوجه الثاني: إنَّ ثبوت الهلكة والعقاب فرع وصول التكليف وإيجاب الإحتياط ولا يكفي ثبوته واقعاً, فلو أريد ايصاله بنفس هذا البيان لزم الدور, وإنَّ فرض وصوله في المرتبة السابقة وكون هذا البيان إرشاداً إلى ذلك كفى ذلك الخطاب الواصل في إثبات الإحتياط من دون حاجة إلى هذه الروايات وتكون بلا فائدة.

وردّه المحقق العراقي قدس سره (1) بأنَّ هذا من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية, لأنَّ إطلاق الوقوف عند الشبهة للشبهة البدوية في حق المخاطبين فرع وصول إيجاب الإحتياط إليهم لأنَّه مقيد عقلاً ولبّاً بذلك, فمع الشك فيه كيف يمكن التمسك به لإثبات المدلول المطابقي ثم الإلتزامي وهو من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأورد عليه بأنَّ نظر الجواب مبني على عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان العام قضية خارجية تعهد المولى بنفسه إحراز قيدها في الخارج كما هو مبنى صاحب الإشكال.

ص: 276


1- . لم یصرّح المحقّق العراقيّ بذلك، غايته أنَّه ذكر أنّ تقييد هذه الروايات يكون بروايات البراءة، لا لزوم التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة؛ مقالات الأصول؛ ج2 ص65.

كما ردّه السيد الصدر قدس سره (1) بأنَّ ظاهر الخطاب في كونه قضية حقيقية لا خارجية.

وفيه: إنَّ إثبات ذلك يحتاج إلى إمعان نظر زائد, وهو يدلُّ على شموله للقضيتين.كما ردّ أصل هذا الإشكال بوجه آخر؛ إمّا للنقض بأدلَّة بيان الأحكام الواقعية بلسان ترتب العقاب, وإمّا بأنَّه لا يشترط في العقوبة وصول التكليف, وإمّا بأنَّ هذه الروايات سواء حملت على القضية الخارجية أم القضية الحقيقية فإنَّه يمكن أنْ تكون دليلاً على الإحتياط؛ ثم فصَّل الكلام في ذلك فراجع.

ولعمري؛ إنَّه من التطويل بلا طائل تحته, فإنَّ ظاهر هذه الروايات ثبوت العقوبة في الرتبة السابقة, وهو لا يحصل إلا بعد ثبوت التكليف ووصوله, وهو لا يتحقق إلا في الشبهات التي يكون الحكم فيها منجزاً.

الطائفة الثانية: أخبار التثليث

وقيل إنَّها مستفيضة, ولكنها ثلاث روايات:

الأولى: رواية جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الصَّادِقِ علیه السلام عَنْ آبَائِهِ علیهم السلام قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ؛ أَمْرٌ تَبَيَّنَ لَكَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعْهُ, وأَمْرٌ تَبَيَّنَ لَكَ غَيُّهُ فَاجْتَنِبْهُ, وأَمْرٌ اخْتُلِفَ فِيهِ فَرُدَّهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ)(2).

الثانية: مقبولة عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي حَدِيثٍ قَالَ: (وإِنَّمَا الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ؛ أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَيُتَّبَعُ, وأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَيُجْتَنَبُ, وأَمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : حَلَالٌ بَيِّنٌ وحَرَامٌ بَيِّنٌ وشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ؛ فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ, ومَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ وهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ, ثُمَّ قَالَ

ص: 277


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص94.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص162.

فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ)(1).

الثالثة: ما رواه النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم -وأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ- (إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ والْحَرَامَ بَيِّنٌ وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ(2) لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ, فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ, ومَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي؛ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ, أَلَا ولِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى, أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ, أَلَا وإِنَّ لِلْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وهِيَ الْقَلْب)(3).

ودلالتها على وجوب الإحتياط في مورد الشك واضحة. ولكن أشكل على ذلك؛

أمّا الرواية الأولى؛ فإنَّ الظاهر منها النهي عن إعمال الرأي في الدين ووجوب ردّ حكم ما لم يكن بيّناً رشده وبيّناً غيّه إلى الله تعالى سواء كان بين الرشد مِمّا أدرك العقل العملي حسنه أم كان مجمعاً عليه وبيّن الغيّ مِمّا ادركه يعقل العمليقبحه وضلاله أو كان مجمعاً على بطلانه, وما لم يكن منهما وهو إمّا المشكوك أو ما اختلف عليه؛ فلا بُدَّ من ردِّ علمه إلى الله.

وبعبارة أخرى: إنَّ الحديث يدلُّ على أنَّ ما يشك كونه رشداً أو غيّاً لا بُدَّ أنْ يجتنب فلا يدلُّ على ما شك في حرمته وحليته.

فإذا تمت أدلَّة البراءة العقلية والنقلية فتكون واردة على هذا الحديث, إذ يدخله في بين الرشد في الظاهر ويبقى الحكم الواقعي مشكوكاً فلا يمكن إثبات وجوب الإحتياط لها في المقام.

ص: 278


1- . المصدر السابق؛ ص157.
2- . وَفِي رواية: حَلَالٌ بَيِّنٌ وحَرَامٌ بَيِّنٌ وبَيْنَهُمَا شُبُهَاتٌ.
3- . مجموعة ورام؛ ج2 ص267.

وأمّا الرواية الثانية؛ فلأنَّ التثليث الوارد في كلام الإمام علیه السلام لا ربط له بالمقام وهو وجوب الإحتياط في الشبهة البدوية كما عرفت, إذ المراد في المشكل هو ما لم يكن من الدليل العقلي العملي ولم يكن من المجمع عليه, فيكون المراد في رد علمه إلى الله والرسول عدم الإعتماد عليه في مقام أخذ الحكم الشرعي, وهي مِمّا اتفق عليه الأصولي والإخباري.

وأمّا التثليث الوارد في كلام الرسول صلی الله علیه و آله و سلم الذي استشهد به الامام علیه السلام لتطبيقه على كلامه علیه السلام فهو وإنْ ورد فيه لفظ الحلال والحرام لكنه أيضاً لا يدلُّ على دعوى الإخباري, فإنَّ المراد من ترك الشبهات عدم الإعتماد عليها لا الإجتناب؛ حتى يكون مناسباً مع الحكم المعلل في كلام الإمام علیه السلام , وهو ردّ المشكل إلى الله تعالى, ويشهد لهذا التعبير بالأخذ بالشبهة والذي يناسب باب الإعتماد الإستناد لا مجرد العمل.

وهذا مع أنَّه يرد عليه ما ذكرناه في الطائفة الأولى من أنَّ المراد بالشبهات ما التبس فيه الحق بالباطل الذي يعتمد عليه صاحب البدعة فلا نظر بها إلى الشك في الحكم الفرعي.

وأمّا الرواية الثالثة؛ فإنَّها على كِلا النقلين؛ (حَلَالٌ بَيِّنٌ وحَرَامٌ بَيِّنٌ وبَيْنَهُمَا شُبُهَاتٌ) أو (الْحَلَالَ بَيِّنٌ والْحَرَامَ بَيِّنٌ وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ) -وإنْ كان النقل الأول أنسب بالإستدلال من النقل الثاني- ولكن على كلِّ واحد منهما لا يدلُّ على ما يريده الإخباري من وجوب الإحتياط في موارد الإشتباه والشك فإنَّه لو ثبت وجوب الإحتياط في مورد الشك لدخل في (حَلَالٌ بَيِّنٌ) ولو لم يثبت لدخل في (حَرَامٌ بَيِّنٌ), وفي موارد الشك يكون الدخول في (حِمَى اللَّهِ تَعالى), ولا يمكن إثبات حكمه بهذه الرواية.

والقول بأنَّ تشريع الإحتياط إنَّما هو من أجل الإهتمام بالمحرمات الواقعية في فرض الشك وليس بملاك نفسي حتى يلزم القول به في موارد الشك والتردد، بل يكون وقاية للحركات البينة, فيكون لسانها إبراز الإهتمام بالملاكات الواقعية وإيجاب حفظها مردود, فإنَّ ذلك من الدواعي لا أنْ تكون من العلة في تشريع الإحتياط, وربما يكون الغرض شيء آخر.

ص: 279

وكيف كان؛ فالرواية ترشد إلى حكم العقل باجتناب ما يؤدي إلى إرتكاب الحرام البيّن وإلى جرأة المكلف في اقتحام المعاصي والآثام, فإنَّ العقل يحكم باجتنابها مقدمة لترك الإثم؛ وهذا صحيح قد اتَّفق عليه الجميع.

فهذه الطائفة لا تدلُّ على وجوب الإحتياط في مورد الشك في الحكم والجهل به كما يريده الإخباري.

الطائفة الثالثة: الأخبار التي تدلُّ على لزوم الإحتياط في وقائع معينة

وهي كثيرة:

منها: موثقة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَضَّاحٍ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الْعَبْدِ الصَّالِحِ علیه السلام : يَتَوَارَى الْقُرْصُ ويُقْبِلُ اللَّيْلُ ثُمَّ يَزِيدُ اللَّيْلُ ارْتِفَاعاً وتَسْتَتِرُ عَنَّا الشَّمْسُ وتَرْتَفِعُ فَوْقَ اللَّيْلِ (1) حُمْرَةٌ ويُؤَذِّنُ عِنْدَنَا الْمُؤَذِّنُونَ؛ فَأُصَلِّي حِينَئِذٍ وأُفْطِرُ إِنْ كُنْتُ صَائِماً أَوِ أَنْتَظِرُ حَتَّى تَذْهَبَ الْحُمْرَةُ الَّتِي فَوْقَ اللَّيْلِ(2)؟. فَكَتَبَ إِلَيَّ: (أَرَى لَكَ أَنْ تَنْتَظِرَ حَتَّى تَذْهَبَ الْحُمْرَةُ؛ وتَأْخُذَ بِالْحَائِطَةِ لِدِينِكَ)(3).

ومنها: صحيحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام عَنْ رَجُلَيْنِ؛ أَصَابَا صَيْداً وهُمَا مُحْرِمَانِ؛ الْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا أَوْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ؟. فَقَالَ علیه السلام : (لَا؛ بَلْ عَلَيْهِمَا أَنْ يَجْزِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّيْدَ. قُلْتُ: إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا سَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ أَدْرِ مَا عَلَيْهِ؟!. فَقَالَ: إِذَا أُصِبْتُمْ بِمِثْلِ هَذَا فَلَمْ تَدْرُوا؛ فَعَلَيْكُمْ بِالاحْتِيَاطِ حَتَّى تَسْأَلُوا عَنْهُ فَتَعْلَمُوا)(4).

ص: 280


1- . وَفِي نسخة: الجبل.
2- . وَفِي نسخة: الجبل.
3- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج10 ص124.
4- . المصدر السابق؛ ج13 ص46.

وقد استدلَّ بها على وجوب الإحتياط للأمر به وإنْ وردت في وقائع معينة لكنها من باب التطبيق لا الخصوصية.

وقد أشكل عليه؛ أمّا موثقة ابن وضاح؛ فإنَّ الظاهر منها أنَّ الشبهة فيها من الشك في المكلف به, والجميع متَّفقون على الإحتياط فيه بعد تنجز التكليف, فحينئذٍ يكون الحكم على طبق القاعدة؛ وهي تحصيل الفراغ اليقيني, ولا يستفاد منها حكم الإحتياط في جميع الشبهات مع أنَّه لو كان المراد منها مطلق الإحتياط فإنَّ الشبهة فيها موضوعية والإخباري لا يقول بالإحتياط فيها كالأصولي.

وفي الرواية إحتمالات بعضها يخالف رأي الامامية ولا يجري فيها الإحتياط كما هو مفصل في الفقه. وعلى فرض دلالتها على الإحتياط فإنَّه يختص بواقعة معينه ولا يمكن استفادة الحكم الكلي في جميع الموارد.وأمّا صحيحة عبد الرحمن؛ فإنَّ تقريب الإستدلال بها يكون بإرجاع قوله علیه السلام (إِذَا أُصِبْتُمْ بِمِثْلِ هَذَا) إلى مسألة الصيد, وأنْ يكون المردد بالإصابة الشبهة الحكمية, لأنَّ الشك في مورد الصيد كان في أصل الحكم.

ويرد عليه: إنّ قوله علیه السلام : (إِذَا أُصِبْتُمْ بِمِثْلِ هَذَا) كما يحتمل إرجاعه إلى مسألة الصيد يحتمل كما هو الظاهر إرجاعه إلى الجملة الأخيرة؛ وهي إذا صادفتم سؤالاً لا يُعرف جوابه فعليكم بالإحتياط بعدم الإفتاء حتى يسأل ويعرف حكمه, وحينئذٍ يخرج عن موضوع البحث فتدلّ على السؤال وتعلم الأحكام الشرعية.

وعلى فرض التنزل وقلنا برجوع قوله علیه السلام إلى مسألة الصيد وتكون الشبهة حكمية فغاية ما تدلُّ عليه وجوب الإحتياط قبل الفحص في مورد إمكان الفحص وفي مورده يجب الفحص بلا خلاف.

ص: 281

الطائفة الرابعة: ما يستفاد منها الترغيب في الإحتياط وحسنه الذي اتفق عليه الكلّ

منها: المرسلة المعروفة عن الإمام الصادق علیه السلام : (مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ )(1).

ولكن هذه المرسلة إنَّما تبين أنَّ اتّقاء الشبهة إستبراء للدين, ولكنها لم تدلُّ على كبرى وجوب الإستبراء الذي هو المطلوب.

ومنها: ما رواه الشيخ في أماليه عن الإمام عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا علیه السلام يَقُولُ: (إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام قَالَ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ فِيمَا قَالَ: يَا كُمَيْلُ؛ أَخُوكَ دِينُكَ فَاحْتَطْ لِدِينِكَ بِمَا شِئْتَ)(2), ولكن جعل التطبيق بمشيئة المكلف نفسه لا يفهم منه أكثر من الرجحان والإستحباب, فيدلُّ على الحثّ والترغيب على رعاية الدين وحفظه لكونه جديراً لذلك, وعدم التجاوز عن حدوده وأحكامه, وحفظ آدابه وسننه؛ وهذا أجنبي عمّا يريده الإخباريون من وجوب الإحتياط في الشبهة البدوية.

ومنها: ما ورد عن ابي عبد الله علیه السلام : (أَوْرَعُ النَّاسِ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ الشُّبْهَةِ)(3), وهو لا يدلُّ على وجوب الإحتياط في الشبهة أيضاً كسابقتها.

الطائفة الخامسة: ما دلَّ على حرمة الجري والحركة بلا علم

كقول الإمام الصادق علیه السلام : (..... ومَنْ هَجَمَ عَلَى أَمْرٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ جَدَعَ أَنْفَ نَفْسِهِ)(4). ولكنه إرشاد إلى حكم عقلي وهو لا بُدَّ ان يستند في عمله على ركنوعلم وهذا لا نقاش فيه, والأصولي يستند في حكمه بالبراءة على دليل وبرهان فلم يخرج عن مفاد هذه الروايات.

ص: 282


1- . المصدر السابق؛ ج27 ص173.
2- . الأمالي (للمفيد)؛ ص283.
3- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج27 ص162.
4- . المصدر السابق؛ ص156.

إلى غير ذلك من الأخبار التي قد يستدلُّ بها على الإحتياط ولكنها بعيدة عمّا يقصده الإخباري, وعلى فرض دلالتها على وجوب الإحتياط فإنَّ المحتملات في وجوب الإحتياط أربعة:

الأول: الوجوب النفسي المولوي

كوجوب الصلاة والزكاة ونحوها.

وفيه: إنَّه خلاف المنساق من الإحتياط لدى المتشرعة بل أهل المحاورة, فإنَّ المتبادر منه عندهم الطريقية المحضة كما في جميع الطرق والأمارات لا النفسية مطلقاً, وفي الروايات التي رويناها وغيرها قرائن تدلُّ على ما ذكرناه وهي واضحة لمن تدبر فيها.

الثاني: الوجوب الغيري المقدمي

وفيه: إنَّه يتوقف على ثبوت وجوب ذي المقدمة, وهو منحصر بأطراف العلم الإجمالي أو الشبهات البدوية قبل الفحص، والمقام ليس منهما, مع أنَّه قد عرفت أنَّ وجوب المقدمة عقلي وليس شرعي فتتكون الروايات على فرض دلالتها على الوجوب إرشاداً إلى حكم العقل بوجوبه في الموردين فيصير أجنبياً عمّا نحن فيه.

الثالث: الوجوب النفسي الطريقي المحض

ويرد عليه ما أوردناه على الإحتمال الأول بمخالفته للمنساق من أخبار الإحتياط والمتبادر منها.

الرابع: الإرشاد المحض إلى حسن الإحتياط عقلاً؛ الذي قد يصل إلى حدِّ الوجوب

كما في بعض الموارد, مثل أطراف العلم الإجمالي, وما قبل الفحص في الشبهات البدوية وربما يبقى على مجرد حسنه كما في المقام؛ وهذا الوجه هو المنساق عند العرف مِمّا ورد في الإحتياط شرعاً.

ص: 283

والحاصل؛ إنَّ روح الإحتياط هو حفظ الواقع والطريقية المحضة ولا يزيد عن الأمارات المعتبرة في الطريقية, فإنَّه كما يتنجز بها يكون الإحتياط كذلك ولكنه منحصر في موارد تنجز الأحكام كأطراف العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص, وفي غيرهما لا تنجّز للواقع وإنَّما كثرة الإهتمام بالإحتياط والتوقف في الشبهات إنَّما هو من أجل كثرة الإهتمام بالواجبات والمحرمات, فإنَّهما بمثابة من الأهمية ينبغي الإحتياط في مشتبه الوجوب فعلاً ومشتبه الحرمة تركاً وليس ذلك إلا حسن الإحتياط عقلاً, ومن جميع ذلك يستفاد عدم تمامية ما يستدلُّ به من الاخبار على وجوب الإحتياط أيضاً.

الجهة الثانية: الإستدلال بالدليل العقلي على لزوم الإحتياط عقلاً

وقد ذكروا في تقريبه وجوهاً:الوجه الأول: ما ذكره قدماء الأصوليين من أنَّ الأصل في الأشياء الحظر إذا لم يسبق الجواز, وذكر الشيخ الطوسي في (العدة) بأصالة الوقف بعد استشكاله في استعمال كلمة الحظر, ولعل نظره يرجع إلى مقام الإفتاء فيكون المراد منه الإحتياط حتى في مقام الإفتاء إلا بما يرد عن الائمة الهداة علیهم السلام من الترخيص على خلافه.

وهو صحيح لا إشكال فيه, ولكنه محكوم بأدلَّة البراءة كما عرفت, مع أنَّ هذا الأصل موضع إشكال وليس مسلّماً عند الجميع؛ فلا وجه لجعله دليلاً؛ يضاف إلى ذلك أنَّه بحث عن حكم الأشياء قبل البعثة وظهور الشريعة, وما نحن فيه بحث عن حكمها بعد تكميل الشريعة وعدم ظهور دليل لنا على حكم من الأحكام؛ فلا ربط لإحداهما بالأخرى.

الوجه الثاني: ما ذكره متأخروا الأصوليين من وجود علم إجمالي بالتكليف في جميع الشبهات فيكون منجزاً فيجب الإحتياط تحصيلاً للعلم بالفراغ, فلا يكون المقام من الشبهة في أصل التكليف فإنَّه ليس إلا مغالطة.

ص: 284

وأشكل عليه بما يلي:

أولاً: بالنقض بالشبهات الوجوبية التي اتفق الكلّ على جريان البراءة فيها, مع أنَّها داخلة في هذا الدليل الذي يجري في كِلتا الشبهتين؛ التحريمية والوجوبية معاً.

ثانياً: بانحلال العلم الإجمالي؛ حقيقياً وحكمياً, وقد تقدم بيان كيفية الإنحلال، وخلاصة ما ذكرناه هو أنَّه؛ أمّا الإنحلالي الحقيقي؛ فلأنَّ هناك علمان أحدها علم إجمالي كبير يتعلق بمجموع الشبهات, والآخر علم إجمالي صغير يتعلق بخصوص الأمارات المعتبرة بوجود تكاليف فيها لا تقل عدداً عن المعلوم الإجمالي الأول.

وأشكل عليه الشيخ الأنصاري قدس سره (1) بأنَّه يوجب العمل بتمام الأمارات حتى في غير خبر الثقة, لوجود علم إجمالي في تمام الشبهات.

وأُجيب عنه بدعوى الإنحلال بما يعلم وجوده في دائرة أخبار الثقات, وأشكل على هذا الجواب بما تقدم سابقاً فراجع.

أمّا الإنحلال الحكمي فقد ذكر المحقق النائيني قدس سره (2) في تقريبه أنَّ دليل حجية الخبر إنَّما يفيد العلم التعبدي في موارد الأخبار فيلغي تعبدا العلم الإجمالي وينفيه لأنَّه متقدم بالعلم بالجامع مع الشك في كلِّ طرف, فإذا ارتفع الشك في الطرف تعبداً زال العلم الإجمالي كذلك فلا يكون منجزاً, ومن هذا سمي إنحلالاً حكمياً.

وأشكل عليه بأنَّه لا نسلّم بأنَّ دليل حجية الأمارة مفاده إلغاء الشك, ولا نسلم أنَّ العلم الإجمالي مكون من العلم بالجامع والشك في الطرف, وإنَّ التعبد يهدم أحد الركنين فيكون هدماً للمركب منهما, وعلى فرض التسليم بكِلا الأمرين فإنَّ دليل حجية الخبر لا تنفي

ص: 285


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص115.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص487-488.

منجزية العلم الإجمالي لأنَّه مترتب على العلم بالجامع مع عدم أصل مؤمن في الأطراف, وفي المقام؛ فإنَّ جرت الأصول في الأطراف وتساقطت فإنَّ المنجزية باقية على حالها ولو هدم عنوان العلم الإجمالي تعبداً, لأنَّ المنجزية من آثار هذا السبب الواقعي سواء سمّي علماً إجمالياً أم لا.

ومن أجل ذلك ذكر بعضٌ في تقريب الإنحلال الحكمي أنَّه بمعنى عدم تأثير العلم الإجمالي في التنجيز, فينحل حكمه وإنْ كان ذاتاً غير منحلّ, وإنْ كان يختلف بحسب المسلكين المعروفين في منجزية العلم الإجمالي من حيث كونه مقتضياً له أو علة تامة, وقد تقدم بيان ذلك.

والصحيح أنَّه لا ثمرة عملية بين الإنحلال الحقيقي والحكمي ولا علمية معتداً بها كما ذكره السيد الوالد قدس سره (1), ومع ذلك فقد ورد إشكال على كِلا التقريبين؛ وحاصله: إنَّ الطرف الذي قامت الأمارة فيه على التكليف إنَّما يخرج عن مورد البراءة بناءً على التقريب الأول أو عن قابليته للتنجز بالعلم الإجمالي بناءً على التقريب الثاني من حين وصول تلك الأمارة إلى المكلف والعلم بها لا من أول الأمر, فيبقى الطرف قبل العلم بالأمارة مجرى الأصل المؤمن صالحاً للتنجز بالعلم الإجمالي, فيكون العلم الإجمالي بالتكليف فيه في فترة ما قبل قيام الأمارة أو في الطرف الآخر علماً إجمالياً منجزاً على كِلا المسلكين والخروج عن الطرفية لأحد الطرفين, بعد ذلك لا يمنع عن تنجز العلم الإجمالي.

ويمكن الجواب عنه كما ذكره المحققون من أنَّ الشبهات الحكمية التي قامت الأمارة عليها يكون التكليف فيها منجزاً من أول الأمر, لأنَّها شبهات قبل الفحص؛ فلم تكن مورداً للأصل المؤمن ولا صالحاً للتنجز بالعلم الإجمالي؛ وهو جواب صحيح لكنه لا يتم في الشبهات الموضوعية التي لا يجب فيها الفحص.

ص: 286


1- . تهذیب الأصول؛ ج2 ص178.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ ذلك تطويل بلا طائل تحته, لأنَّ العلم الإجمالي ليس مطلقاً من كلِّ جهة, بل إنَّه علم إجمالي بوجود المحرمات فيما بأيدينا من الطرق والأصول المعتبرة بحيث لو تفحصنا لظفرنا بها, وقد تفحصنا وظفرنا بها فلم يبقَ علم إجمالي منجز في البين أصلاً.

الوجه الثالث: الإستدلال بقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل؛ باعتبار أنَّ الإقتحام في المشتبه ومحتمل الحرمة مظنّة للضرر, والعقل يحكم حينئذٍ بعدم جوازه دفعاً للضرر فيجب الإحتياط.

وأورد عليه:أولاً: بالنقض بالشبهات الوجوبية التي اتَّفق الكل على عدم وجوب الإحتياط فيها.

ثانياً: بأنَّ الضرر إنْ أريد به العقاب الأخروي فإنَّه لا عقاب في البين لقاعدة قبح العقاب بلا بيان, وإنْ أريد به الضرر الدنيوي فهو ممنوع صغرى وكبرى؛ كما تقدم في أدلَّة حجية الظن فراجع.

والحاصل: إنَّه لا دليل على وجوب الإحتياط في موارد الشبهات البدوية؛ تحريمية كانت ووجوبية, من أي سبب حصل الشك والشبهة, إمّا من جهة فقد النص, أو إجماله, أو تعارضه لعدم تمامية البيان الواصل إلى المكلف فيهما فتجري أدلَّة البراءة, ولا اعتبار بالبيان في مورد الإجمال ولا بما هو معارض بمثله لدى العرف والعقلاء.

ثم أنَّه لا فرق في الحرمة المشكوكة بين كونها نفسية أو غيرية, كما لا فرق في الوجوب المشكوك بين كونه نفسياً أو غيرياً عينياً أو كفائياً؛ لشمول أدلَّة البراءة لجميع ذلك كما هو معلوم.

هذا كله في الشبهة الحكمية؛ تحريمية كانت أم وجوبية بجميع الأقسام المحصورة فيهما.

وأمّا الشبهات الموضوعية فاتفق العلماء بأجمعهم على جريان البراءة فيها, ويدلُّ عليه مضافاً إلى الإجماع المحقق؛ جميع ما مرّ من أدلَّة البراءة من الكتاب والسنة والعقل, لأنَّ

ص: 287

المراد بالبيان الذي لا تجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما لا تجري معه أدلَّة البراءة الشرعية هو تبيين الحكم بقيوده المعتبرة فيه لا مجرد صدوره من الشارع بأيِ وجه اتفق, ولا ريب أنَّ تبين الموضوع من حدود الحكم وقيوده ومع عدمه لا تتم الحجة والبيان كما لا يخفى على الخبير.

الجهة الثالثة: في بيان النسبة بين أخبار الإحتياط لو تمت دلالتها عليه وبين أدلَّة البراءة الشرعية

والكلام فيه يقع من أنحاء أربعة:

النحو الأول: النسبة بين أخبار الإحتياط وأخبار البراءة.

وقد اختار بعض الأصوليين(1) أخصية أخبار البراءة الشرعية بالنسبة إلى أخبار الإحتياط واستدل عليه بأمور ثلاثة:

1- إنَّ أخبار البراءة لا تشمل مواد العلم الإجمالي, بخلاف أخبار الإحتياط.

2- إنَّ أخبار البراءة لا تشمل الشبهات قبل الفحص, بخلاف أخبار الإحتياط.

3- إنَّ أخبار الإحتياط واردة في مطلق الشبهات, ولكن بعض اخبار البراءة ورد في خصوص الشبهة التحريمية, كقوله علیه السلام : (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي).

ويرد عليها:

أمّا الأول والثاني؛ فهو مبنيٌّ على عدم شمول أخبار البراءة لموارد العلم الإجمالي والشبهات قبل الفحص؛ إمّا بالإنصراف أو القرينة العقلية والعقلائية التي تعتبر كالمتصلة، فتكون أخص من أخبار الإحتياط. أو لا يقال بأخصيتها لأجل انقلاب النسبة, فإنَّه بعد تخصيص أخبار البراءة بالشبهات البدوية تصبح أخص من أخبار الإحتياط فتخصص بها ولكن جميع ذلك غير تام؛ إذ أنَّ انقلاب النسبة مرفوض بكبرياتها فضلاً عن تطبيقاتها, مع أنَّ

ص: 288


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص280-282.

أخبار الإحتياط أيضاً تكون أخص من أخبار البراءة من ناحية عدم شمولها للشبهة الموضوعية الخارجية تخصيصاً أو تخصصاً كما في مقبولة عمر بن حنظلة التي وردت في الأخبار المتعارضة وهي مخصوصة بالشبهة الحكمية.

وأمّا الثالث؛ فإنَّه قد عرفت عدم دلالة الخبر المذكور على البراءة الشرعية, مع أنَّه لو فرض دلالتها فإنَّ في أخبار الإحتياط ما يكون وارداً في الشبهة التحريمية؛ (حَلَالٌ بَيِّنٌ وحَرَامٌ بَيِّنٌ وبَيْنَهُمَا شُبُهَاتٌ)؛ فإنَّه لا يشمل الشبهة الوجوبية.

وقيل بأنَّه يمكن الجمع بين أخبار الإحتياط وأخبار البراءة على وجه يرجح أخبار الإحتياط معه, ذلك لأنَّ أخبار الإحتياط على قسمين؛ قسم يكون عامّاً يشمل الإحتياط في مطلق الشبهة كقول أمير المؤمنين علیه السلام : (أَخُوكَ دِينُكَ فَاحْتَطْ لِدِينِكَ). وقسم يختص بالشبهات الحكمية كالمقبولة.

وأمّا اخبار البراءة؛ فإنَّ عمدتها حديث الرفع, وهو إمّا يختص بالشبهات البدوية بعد الفحص بمخصص كالمتصل, وإمّا أنْ يفترض عمومه لكلِّ الشبهات لكن خرج منها موارد العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص بمخصص منفصل.

فعلى الأول؛ يكون حديث الرفع معارضاً مع القسم الثاني بالعموم من وجه, وبعد التساقط يرجع في الشبهة الحكمية بعد الفحص إلى العام وهو القسم الأول من أخبار الإحتياط.

وعلى الثاني؛ يكون حديث الرفع معارضاً مع القسم الأول من أخبار الإحتياط, وبعد التساقط يرجع إلى القسم الثاني لكونه أخص منه فإنَّه المرجع بعد تساقط المتعارضين.

ولكن ذلك صحيح مع قطع النظر عن تطبيق قواعد التعارض وإلّا فلا بُدَّ من ترجيح أخبار البراءة لموافقتها مع الكتاب.

النحو الثاني: النسبة بين أخبار الإحتياط وبين الآيات الشريفة التي استدل بها على البراءة.

ص: 289

فإنَّ بعض الآيات تختص بالشبهة الحكمية كقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)(1), ولسانها يأبى عن التخصيص فيقدم أخبار الإحتياط لا محالة, وبعض الآيات كقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)(2) لا تشمل الشبهة قبل الفحص, فتكون النسبة بينها وبين أخبار الإحتياط العموم من وجه.

وفي مثل ذلك تسقط أخبار الإحتياط عن الحجية في مورد التعارض, وحينئذٍ لا بُدَّ من تخصيص أخبار الإحتياط بالقرآن أو سقوطها عن الحجية.

النحو الثالث: النسبة بين أخبار الإحتياط ودليل الإستصحاب على البراءة.

ذهب السيد الخوئي(3) إلى أنَّ الإستصحاب حاكم على أخبار الإحتياط لأنَّ موضوعها الشك واستصحاب عدم التكليف يرفع الشك ويجعلنا عالمين بالعدم تعبداً.

ويرد عليه: إنَّه غير تام في الإستصحاب, إذ قد أخذ في موضوعه الشك واليقين؛ وهما ركناه, ولا وجه لإلغاء الشك فيه واعتباره علماً تعبدياً, فلا بُدَّ أنْ يكون المراد من ذلك هو إبقاء اليقين تعبداً لا إلقاء الشك, نعم؛ يعقل ذلك في الأمارات؛ حيث لم يؤخذ الشك في اعتبارها, وسيأتي البحث عنه في باب الإستصحاب إنْ شاء الله تعالى.

النحو الرابع: بعد فرض تعارض أدلَّة البراءة مع أدلَّة الإحتياط وتساقطهما فالمرجع البراءة العقلية, أو الأدلَّة الشرعية لإثبات البراءة, حيث لم يدلُّ دليل على بيان الحكم الواقعي ولا على إيجاب الإحتياط, حيث أنَّ المستفاد من أدلَّة الإحتياط هو المحافظة على الواقع وإيصاله إلى المكلفين, وليست ناظرة إلى مرحلة الشك في إيجاب الإحتياط حتى يتحقق

ص: 290


1- . سورة التوبة؛ الآية 115.
2- . سورة الطلاق؛ الآية 7.
3- . مصباح الأصول؛ ج2 ص32، ودراسات في علم الأصول؛ ج3 ص175.

التعارض مع أدلَّة البراءة, وهذا هو روح الإحتياط. ومنه يظهر أنَّ أدلَّة البراءة متقدمة على أدلَّة الإحتياط وواردة عليها, ويكون هذا البحث من التطويل بلا طائل تحته ولهذا لم يذكره السيد الوالد قدس سره .

تنبيهات
التنبيه الأول: تقدم الأمارات على الأصول الموضوعية، والأخيرة على الأصول الحكمية.
اشارة

ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره (1) أنَّ من شروط جريان البراءة عدم وجود أصل موضوعي في مورده ينقح به موضوع الإلتزام, وإلا قدم على البراءة بالحكومة, وهذا الذي ذكره من صغريات المقولة المعروفة التي تسالم عليها العلماء, بلارتكز في النفوس من تقديم الأمارات على الأصول الموضوعية التي هي عبارة عمّا يرتفع بها موضوع أصل آخر وهو الشك, وهي مقدمة على الأصول الحكمية, فلا يجري الأصل الموضوعي مع وجود الأمارة كما لا يجري الأصل الحكمي مع وجود الأصل الموضوعي, وقد جرى على ذلك عمل الفقهاء في تمام أبواب الفقه, فحينئذٍ لا تجري أصالة البراءة مطلقاً مع وجود أصل موضوعي في موردها, والأصول الموضوعية كثيرة, مثل أصالة عدم التذكية, وأصالة احترام النفس والعرض والمال, وأصالة الحرية, وغيرها من الأصول المعتبرة الموضوعية التي بجريانها يزول الشك فيرتفع موضوع البراءة فلا تجري قهراً وإنْ اختلف العلماء في ملاك التقديم وعمومه ليشمل الإستصحاب الحكمي؛ فقد قال المحقق النائيني قدس سره (2) أنَّ الحكومة لا تختص بالإستصحاب الموضوعي بل حتى الحكمي, كاستصحاب الحرمة الثابتة حال كون الزبيب عنباً مثلاً فإنَّه حاكم على البراءة, لأنَّ دليل الإستصحاب يجعله

ص: 291


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص409-410.
2- . فوائد الأصول؛ ج3 ص380.

علماً وطريقاً فيتقدم على البراءة, ومن هنا جعلوا الشرط عدم جريان استصحاب في مورد البراءة.

ولكن ما ذكره قدس سره أخيراً من تقديم الإستصحاب على البراءة مطلقاً صحيح لكن لا بالملاك الذي ذكره بل بملاك آخر كما سيأتي البحث عنه في باب الإستصحاب.

وهناك بحث يرتبط بحكومة الأمارات على الأصول، وحكومة الأصل السببي والموضوعي على الأصل المسببي بالحكومة والملاكات التي ذكروها، وقد ذكر الأصوليون في المقام بعض الأصول الموضوعية والقواعد الفقهية تبعاً للشيخ قدس سره ، نذكر منها ما يلي:

أصالة عدم التذكية

والبحث فيها يقع في مقامات:

المقام الأول: الفرق بين الميتة وعدم التذكية

التذكية: عبارة عمّا يوجب حلية أكل الحيوان القابل للتذكية أو طهارته, وبدونها لا يجوز ذلك, وقد نسب إلى المشهور أنَّ غير المذكى في اصطلاح الكتاب والسنة عبارة أخرى عن الميتة, فهما وإنْ إختلفا مفهوماً لكنهما متحدان شرعاً, ونتيجة ذلك أنَّه بجريان أصالة عدم التذكية يحكم بالنجاسة وحرمة الأكل فلا يكون الأصل مثبتاً؛ لفرض أنَّ غير المذكى ميتة شرعاً, ومع وحدة الموضوع يثبت حكم كلّ منهما للآخر طبعاً.وذهب جمعٌ من الفقهاء إلى الإختلاف بينهما مفهوماً وشرعاً فقد يترتب على عنوان الميتة حكم لا يترتب على غير المذكى, واستشكلوا على مختار المشهور بأنَّه دعوى لا شاهد عليها بعد الإعتراف بكونهما مختلفين لغةً وعرفاً المستلزم لاختلاف الحكم.

ص: 292

وأمّا الأخبار الواردة في المقام فهي على قسمين:

القسم الأول: تلك الأخبار التي ورد فيها لفظ (لَا تَأْكُلْ) عند فقد بعض الشروط, ولفظ (كُلْ) عند تحققها, كقول أبي جعفر علیه السلام : (..... ولَا تَأْكُلْ مِنْ ذَبِيحَةٍ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلَيْهَا)(1).

وقول أبي عبد الله علیه السلام بعد أنْ سئل عَنْ ذَبِيحَةٍ ذُبِحَتْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ: (كُلْ ولَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ)(2).

وظهور هذه الأخبار في حرمة الأكل مِمّا لا ينكر ولكن شمولها للنجاسة؛ فلا تدلُّ عليه بوجه من الوجوه, مع أنَّها واردة في مقام البيان ومحل الحاجة, مع أنَّ النجاسة أهم من حرمة الأكل لاستلزامها لها دون العكس, إذ ربما يكون شيئاً يحرم أكله ولكنه ليس بنجس.

القسم الثاني: جملة من الأخبار التي وردت فيما قطع من الحيوان:

منها: ما عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: (قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیه السلام : مَا أَخَذَتِ الْحِبَالَةُ مِنْ صَيْدٍ فَقَطَعَتْ مِنْهُ يَداً أَوْ رِجْلًا فَذَرُوهُ فَإِنَّهُ مَيِّتٌ, وكُلُوا مَا أَدْرَكْتُمْ حَيّاً وذَكَرْتُمُ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلَيْهِ)(3).

ومنها: قول الإمام الصادق علیه السلام قَالَ: (مَا أَخَذَتِ الْحِبَالَةُ فَانْقَطَعَ مِنْهُ شَيْ ءٌ أَوْ مَاتَ فَهُوَ مَيْتَةٌ)(4).

ص: 293


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج6 ص233.
2- . المصدر السابق؛ ص234.
3- . المصدر السابق؛ ص214.
4- . المصدر السابق.

ومنها: ما في خبر الْكَاهِلِي قال: سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام وأَنَا عِنْدَهُ يَوْماً؛ عَنْ قَطْعِ أَلَيَاتِ الْغَنَمِ؟. فَقَالَ علیه السلام : (لَا بَأْسَ بِقَطْعِهَا إِذَا كُنْتَ تُصْلِحُ بِهَا مَالَكَ. ثُمَّ قَالَ علیه السلام : إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ علیه السلام أَنَّ مَا قُطِعَ مِنْهَا مَيْتٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ)(1).ومنها: ما روي عن أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: (فِي أَلَيَاتِ الضَّأْنِ تُقْطَعُ وهِيَ أَحْيَاءٌ إِنَّهَا مَيْتَةٌ)(2).

ومنها: ما رواه عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ؛ إِنَّ أَهْلَ الْجَبَلِ تَثْقُلُ عِنْدَهُمْ أَلَيَاتُ الْغَنَمِ فَيَقْطَعُونَهَا؟. فَقَالَ: (حَرَامٌ هِيَ. فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ؛ فَنَصْطَبِحُ بِهَا؟. فَقَالَ: أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ يُصِيبُ الْيَدَ والثَّوْبَ؛ وهُوَ حَرَامٌ)(3).

ومنها: ما رواه الْبَزَنْطِيِّ صَاحِب الإمام الرِّضَا علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ؛ تَكُونُ لَهُ الْغَنَمُ يَقْطَعُ مِنْ أَلَيَاتِهَا وهِيَ أَحْيَاءٌ, أَ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا قَطَعَ؟. قَالَ علیه السلام : (نَعَمْ؛ يُذِيبُهَا ويُسْرِجُ بِهَا, ولَا يَأْكُلُهَا ولَا يَبِيعُهَا)(4).

وغير ذلك من الروايات.

وقد استدل بها المشهور على ما ذهبوا إليه من اتحاد عنوان الحلّية وعنوان غير المذكى, لأنَّها نزلَّت الأخير منزلة الميتة.

وأورد عليه بأنَّ من أهم آثار الميتة هو حرمة الأكل, فيكون التنزيل من هذه الجهة وهو مسلّم, وأمّا التنزيل من كلِّ جهة حتى من حيث النجاسة فهو مشكوك يرجع فيها إلى

ص: 294


1- . المصدر السابق؛ ص255.
2- . المصدر السابق.
3- . المصدر السابق.
4- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج17 ص98.

الأصل, وأمّا التعليل الوارد في رواية الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: (أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ يُصِيبُ الْيَدَ والثَّوْبَ؛ وهُوَ حَرَامٌ)؛ فلا بُدَّ من حمله على بعض المحامل, لأنَّ تنجيس اليد والثوب ليس بحرام قطعاً ويحتمل الحرمة الغيرية بالنسبة إلى الصلاة, وهي تكون بالنسبة إلى غير المذكى أيضاً فلا تختص بالميتة لقول الإمام الصادق علیه السلام في موثقة ابْنِ بُكَيْرٍ: (فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَالصَّلَاةُ فِي وَبَرِهِ وبَوْلِهِ وشَعْرِهِ ورَوْثِهِ وأَلْبَانِهِ وكُلِّ شَيْ ءٍ مِنْهُ جَائِزَةٌ؛ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ ذَكِيٌّ؛ قَدْ ذَكَّاهُ الذَّبْحُ )(1).

وفي خبر الصَّيْقَلِ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الرِّضَا علیه السلام : إنِّي أَعْمَلُ أَغْمَادَ السُّيُوفِ مِنْ جُلُودِ الْحُمُرِ الْمَيْتَةِ فَيُصِيبُ ثِيَابِي؛ فَأُصَلِّي فِيهَا؟. فَكَتَبَ علیه السلام إِلَيَّ: (اتَّخِذْ ثَوْباً لِصَلَاتِكَ)(2)؛ فإنَّه لأجل تلطخ الثوب بأجزاء الميتة فلا تصحّ فيها الصلاة من هذه الجهة, مع أنَّ ثبوت النجاسة فيها لا تلازم نجاسة غير المذكى إلا بالدليل وهو كما عرفت آنفاً.والصحيح أنْ يقال: إنَّ مفهوم الميتة من الواضحات التي لا يشك فيه أحد, وقد وردت النصوص من الكتاب والسنة على هذا المعنى, إلا أنَّ له مصداقان عند العرف: أحدهما؛ يرجع إلى ما مات حتف الأنف وهو الفرد الشايع, والآخر؛ ما لم يجتمع فيه شروط التذكية الشرعية؛ ويجمعها عنوان واحد هو: زهوق الروح وعدمه في هذا الجسد الخارجي.

ومن أجل هذا أطلقت على الأرض اليابسة التي خلت من الزرع والتي يعبّر عنها بالأرض الميتة التي إذا أنزل عليها المطر؛ (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(3).

كما أطلق هذا اللفظ في موارد كثيرة, كالقلب الميت الذي فقد فيه التحسس إلى فهم الإيمان والحقائق ونحو ذلك, وليس هذه الإطلاقات من المجاز في شيء.

ص: 295


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص397.
2- . المصدر السابق؛ ص407.
3- . سورة الحج؛ الآية 5.

وعلى هذا الأساس أفتى أكثر الفقهاء بأنَّ ما يترتب على الميتة يترتب على الحيوان غير المذكى, ولعل نظرهم كان إلى هذا الملاك الذي يقصده المرتكز المتشرعي المستفاد من الأخبار الواردة في الميتة وغير المذكى حيث يترتب عليهما أحكام متعددة ولكنها متفاوته من حيث الحلّية وغيرها, كالأكل والصلاة في الجلد وأجزائه والنجاسة, وتمام البحث يكون في الفقه, ومن الجدير بالذكر أنَّ بعض الأصوليين يعتقد بالإختلاف بين المفهومين وتغاير الأحكام المترتبة على كلِّ واحد منهما على حدٍّ سواء؛ فيرتب على الميتة النجاسة ولا يرتبها على غير المذكى وإنْ اشتركا في حرمة الأكل ولكنه ينسى ما يذكره في الأصول فيذهب في الفقه إلى اشتراكهما في النجاسة أيضاً ولعله يرجع إلى عدم إمكان إنكار المرتكز المتشرعي المستفاد من الأدلة كما ذكرنا.

المقام الثاني: الحيوانات بالنسبة إلى التذكية وعدمها على أقسام:

الأول: ما لا يقبل التذكية ولا أثر لها بالنسبة إليه مطلقاً لا بالنسبة إلى الطهارة ولا بالنسبة إلى الحلية فهو نجس وحرام مطلقاً ذُكي أو لم يذكّ, كالكلب والخنزير.

الثاني: ما يقبل التذكية وتكون لها الأثر في الحلية والطهارة, كالأنعام الثلاثة؛ حيث أنَّها بالموت تحرم وتتنجس وبالتذكية تكون حلالاً وطاهرة.

الثالث: ما لا يؤثر التذكية من حيث الأمرين, كالحشرات؛ فإنَّها طاهرة في حال الحياة والموت ذكيت أم لا ويحرم أكلها كذلك.

الرابع: ما لها التأثير في الطهارة فقط دون الحلية كالسباع فإنَّها إنْ ماتت حتف الأنف تكون محرمة ونجسة, ولكن إذا ذُكيت تكون طاهرة وإنْ حرم أكلها.

ومن أجل اختلاف الحيوانات في التذكية قد يحصل الشك في حيوان؛ إمّا من جهة الشبهة الحكمية, أي الحكم الكلي لنوع حيوان خاص كما إذا تولد حيوان لا يتبع أبويه في الإسم

ص: 296

والصفة قابل لها أم لا, أو تكون الشبهة موضوعية خارجية, وتفصيل ذلك أنَّ الشك يتصور على أنحاء أربعة:1- الشك في حلية أكل ذلك الحيوان في نفسه مع قطع النظر عن التذكية, إذ ليس كل ما يقبل التذكية من الحيوانات يحلّ أكل لحمه, فقد يشك في حيوان كذلك بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية كما إذا طرأ عليه مانع عن الأكل كالجلل.

2- الشك في حليته من ناحية الشك في قبوله للتذكية التي هي شرط في حلية أكل لحمه.

3- الشك في طروّ ما يمنع عن قبول التذكية, كما إذا احتمل كون الجلل مانعاً عن قبول التذكية بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

4- الشك في تحقق التذكية للشك في شروطها؛ إمّا بنحو الشبهة الحكمية كما لو شكَّ في شرطية أمر زائد, أو بنحو الشبهة الموضوعية كما لو شكَّ في تحققها خارجاً بعد الفراغ عن شرطيتها.

والكلام في الأقسام المزبورة:

أمّا القسم الأول؛ فإنْ كانت الشبهة حكمية, فالمرجع عمومات الحلية, كقوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)(1), أو أصالة الحلّ, أو استصحابه الثابت قبل التشريع, ولا يصحّ استصحاب عدم التذكية لعدم الشك من ناحيتها.

وإنْ كانت الشبهة موضوعية فلا يمكن التمسك بالعمومات لعدم إحراز موضوعها, نعم؛ إذا أمكن ذلك ولو بالإستصحاب على نحو العدم الأزلي جاز التمسك بالعمومات, ولكن إذا لم يمكن فيرجع إلى أصالة الحلّ أو إستصحاب عدم الحرمة بنحو العدم الأزلي, ولا مجال لاستصحاب عدم التذكية أيضاً.

ص: 297


1- . سورة الأنعام؛ الآية 145.

قد يقال: بالإمكان الرجوع إلى استصحاب حرمة أكل الحيوان الثابتة حال حياته بناءً على حرمة أكل الحيوان حياً؛ الذي هو مقدم على أصالة الحلّ بلا فرق بين الشبهتين؛ الحكمية والموضوعية من هذه الناحية.

فإنَّه يقال: إنَّ الحرمة الثابتة حال حياة الحيوان إذا كانت بملاك حياته, وهي تزول بزوالها قطعاً, فلا يشك في بقائها حتى تستصحب. نعم؛ إذا كان الملاك في الحرمة كونه غير مذكى في حال الحياة تمسكاً بإطلاق المستثنى منه في قوله تعالى: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ)(1), ليشمل الحيوان الحي.

ولكن يورد عليه بالقطع بارتفاع الحرمة بعد الممات والشك في حرمة أخرى في الحيوان بعينه, مع أنَّ التذكية شرط لحلية الحيوان الذي زهق روحه لا مطلق الحيوان, كما هو المستفاد من الأدلَّة.

وأمّا القسم الثاني؛ فقد فصّل بعض الأصوليين الكلام فيه, فذكر أنَّ القول بجريان أصالة عدم التذكية يتوقف على تنقيح أمرين:

أولهما: هل التذكية أمر بسيط أم أنَّه عنوان مركب من الأفعال والشروط المقررة شرعاً لذبح الحيوان نظير الطهارة الحديثة في أنها أمر بسيط أو مركب من الغسلات والمسحات, وعلى فرض كونها أمراً بسيطاً هل هو بسيط بالنسبة إلى نفس الأفعال الخارجية, أي نسبته إليها نسبة العنوان إلى المعنون, كالتعظيم بالنسبة إلى القيام, أم أنَّ نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب, وعلى كلِّ حالٍ؛ فهل أنَّ هذا العنوان البسيط أمر تكويني أو أمر إعتباري شرعي. كما أنَّها لو كانت مركبة من الأفعال والشروط فهل هي تذكية بلا أخذ قابلية وخصوصية في الحيوان المذبوح أم أنَّها مأخوذة مع هذه الخصوصية والقابلية.

ص: 298


1- . سورة المائدة؛ الآية 3.

ثانيهما: إنَّ موضوع الحرمة إمّا أنْ يفترض كونه الحيوان غير المذكى أعني عدم التذكية المضاف إلى الحيوان, وإمّا أنْ يفترض عدم التذكية المضاف إلى الحيوان زاهق الروح بما هو زاهق الروح؛ فإنَّه على الأول؛ يكون موضوع الحرمة مركباً من جزئين عرضيين, وهما زهوق روح الحيوان وكونه غير مذكى بنحو العدم النعتي أو المحمولي. وعلى الثاني؛ يكون موضوع الحرمة مركباً من جزئين طوليين, أي الحيوان الزاهق روحه بغير تذكية, واختلفت كلماتهم في توجيه جريان أصالة عدم التذكية.

وفي المقام توجيهات للأعلام, وهي:

التوجيه الأول: للمشهور وهو؛ إنَّ اخترنا في البحث الأول أنَّ التذكية أمر بسيط فهو مسبوق بالعدم لا محالة, وحينئذٍ لو فرض أخذه بما هو مضاف إلى ذات الحيوان في موضوع الحرمة فإنَّه يجري استصحاب عدم التذكية؛ سواء كان مأخوذاً بنحو العدم النعتي أم المحمولي وسواء كانت الشبهة حكمية أم موضوعية, لأنَّ هذا العنوان البسيط مسبوق بالعدم على كلِّ حال في حال حياة الحيوان فيستصحب.

وأمّا لو فرض أنَّ التذكية أمر مركب من نفس الأفعال الخارجية فإنْ فرض عدم خصوصية وقابلية معينة للحيوان المذبوح في التذكية فيرجع الشك في حليته إلى ناحية أخرى, فيدخل في القسم السابق لفرض إحراز التذكية فيه.

وإنْ فرض أخذ خصوصيته مع تلك الأفعال في التذكية؛ إمّا بنحو الشرطية أو القيدية؛ فقد يفصل بين الشبهة الحكمية فلا يجري فيها استصحاب عدم التذكية, لأنَّ واقع تلك الخصوصية المشكوكة مردد بين ما يقطع بعدمه وما يقطع بثبوته فلا وجه للإستصحاب حينئذٍ. وبين الشبهة الموضوعية؛ كما إذا تردد الحيوان المذبوح خارجاً بين كونه غنماً أو وحشاً لظلمة الهواء ونحوهما مِمّا يوجب الشبهة الموضوعية, فإنْ أخذت الخصوصية المشكوكة

ص: 299

كالأهلية مثلاً في التذكية جرى استصحاب عدمها الأزلي إذا لم تكن من الحيثيات الذاتية للحيوان فتثبت الحرمة أيضاً, وإنْ أخذت قيداً في التذكية فيستصحب عدم المقيد, فإنَّ ذات المقيد وإنْ كانمحرزاً ولكن تقيده بتلك الخصوصية غير محرز؛ فيجري استصحاب عدم التذكية بمعنى عدم المقيد بما هو مقيد.

ولكن ذلك إنَّما يصح إذا لم يكن في البين عموم يدلُّ على قبول كل حيوان للتذكية إلا ما خرج بالدليل وإلا كان هو المرجع في الشبهة الحكمية, وفي الشبهة الموضوعية يجري استصحاب عدم ذلك العنوان الخارجي بنحو العدم الأزلي وبه يتضح موضوع العام.

ولكن ستعرف من تضاعيف كلامنا أنَّ ما ذكره لا يخلو من نقاش وأنَّه تطويل بلا طائل تحته.

التوجيه الثاني: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ التذكية إذا كانت أمراً بسيطاً جرى استصحاب عدم التذكية, وإنْ كانت مركباً من فري الأوداج وقابلية المحل للتذكية لا يجري الإستصحاب؛ سواء كانت القابلية جزءً أم قيداً, إذ ليس لها حالة سابقة لتستصحب؛ سواء كانت الشبهة حكمية أم موضوعية, ودعوى جريان الإستصحاب في الأعدام الأزلية مردودة بأنَّ هذه القابلية ذاتية للحيوان, ولا يجري الإستصحاب في الذاتيات.

وأورد عليه بأنَّ الخصوصية والقابلية للتذكية لم تكن ذاتية في الحيوان فقد تكون مثل أهلية الحيوان. ويمكن الجواب عنه بأنَّ القابلية غير الأهلية كما هو واضح؛ فإنَّ الأولى تكوينية والثانية إكتسابية, فتكون القابلية من الذاتيات التي كشف عنها الشرع في خصوص التذكية وحلية لحم الحيوان سواء كان المراد من هذه القابلية هو خصوصية الحيوان أم قابلية التذكية بلا فرق أيضاً بين أنْ تكون قيداً أو شرطاً مضافاً إلى ذات الحيوان أو الحيوان

ص: 300


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص256.

زاهق الروح بما هو زاهق الروح فما ذكره السيد الصدر من التفصيل الذي ذكرناه لا أساس له وسيأتي مزيد بيان لذلك إنْ شاء الله تعالى.

التوجيه الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ التقابل بين موضوع الحلّية وموضوع الحرمة إنْ كان تقابل التضاد إذا كان موضوع الحرمة حتف الأنف وموضوع الحلية التذكية, فإنَّ استصحاب عدم التذكية معارض باستصحاب عدم الموت حتف الأنف, وإنْ كان التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب جرى عدم التذكية بلا إشكال, وإنْ كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة أي عدم التذكية في المحل القابل لها فلا يجري استصحاب عدم التذكية لعدم الحالة السابقة, إذ في حال الحياة لا تكون القابلية للتذكية ثابتة, وبعد زهاق الروح يشك في حصول التذكية من قول الأمر.

ويورد عليه:

أولاً: إنَّ ما ذكره من التشقيق العقلي لا مجرى له في هذا العنوان الشرعي الإعتباري الذي لا بُدَّ من مراجعة الأدلَّة الشرعية فيه.

ثانياً: أشكل عليه بعدم معقولية فرض التقابل بين موضوع الحرمة والحلّية بنحو التضاد أو العدم والملكة, لأنَّه يكفي في الحلّية عدم تحقق ملاكات الحرمة وانتفاء موضوعها, فإذا كان موضوع الحرمة أو الحلية وجودياً كالموت حتف الأنف أو إستصحاب عدم التذكية ولو فرض معقولية ذلك ثبوتاً بأنْ جعلت الحلية على المذكى والحرمة على الموت حتف الأنف؛ فإنَّ إستصحاب عدم التذكية لا يجري ليعارض استصحاب عدم الموت حتف الأنف, إذ لا يثبت الموت حتف الأنف إلا على القول بالأصل المثبت, فإذا لم يثبت موضوع الحرمة لا يبقي له أثر.

ص: 301


1- . نهاية الدراية؛ ج2 ص206.

والحقُّ أنَّ ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره بعيد عن هذا الموضوع الشرعي الإعتباري ولا حاجة إلى الإيراد عليه بما ذكروه, فالصحيح ما ذكره المحقق العراقي قدس سره , وهو الأقرب إلى الأذهان أيضاً مع تفصيل فيه كما سيأتي.

وأمّا القسم الثالث(1)؛ وهو الشك في الحلّية من ناحية طرو ما يحتمل مانعيته عن التذكية, كالجلل؛ فإذا كانت الشبهة حكمية كما إذا شك في مانعية الجلل عن التذكية لا يجوز استصحاب عدم التذكية لعدم الشك في وجود الموضوع فتصل النوبة إلى أصالة الحل أو البراءة, أو الرجوع إلى أصالة عدم المانع إذا رجع إلى الشك في مانعية الوجود.

وقد يقال بإمكان الرجوع إلى استصحاب الحلية التعليقي بأنْ يقال أنَّ هذا الحيوان لو كان يذبح قبل الجلل كان حلال اللحم يقيناً فيستصحب؛ ولا بأس به, ولكن لا حاجة لنا إلى هذا الإستصحاب لكونه محل الخلاف بين الأصوليين.

هذا كلُّه إذا كانت التذكية عنواناً مركباً من الأفعال لفري الأوداج والشروط, وأمّا إذا كانت أمراً بسيطاً وقد عرفت أنه يرجع فيه إلى استصحاب عدم التذكية بنحو العدم الأزلي أو النعتي إلا إذا كان في المقام عام يثبت التذكية بإطلاقه الأحوالي؛ فيكون هو المرجع.

وقد يقال بالرجوع إلى الإستصحاب التعليقي بالتقريب المتقدم؛ وهو: إنَّ هذا الحيوان لو كان يذبح قبل الجلل كان مذكى فالآن كذلك, ولكن عرفت أنَّ الإستصحاب التعليقي موضع بحث عند الأصوليين مضافاً إلى عدم إمكان الرجوع إلى الإستصحاب التعليقي مع وجود إستصحاب تنجزي في البين كما في المقام لأنَّ الأخير حاكم على الأول كما سيأتي بيانه.

ص: 302


1- . من أقسام الشكّ.

وأمّا إذا كانت الشبهة موضوعية؛ فإذا علم بمانعية الجلل ولكن شك في تحققها بنحو الشبهة الموضوعية فقيل أنَّه ياتي التفصيل الذي ذكر سابقاً, فإنْ فرضنا أنَّ التذكية عبارة عن الأفعال والشروط, جرى إستصحاب عدم الجلل, وكذا إنْ فرضنا أنَّها أمر بسيط وكان أمراً مجعولاً شرعياً, وأمّا إذا كان أمراً تكوينياً مسبباً عن الأفعال مع عدم الجلل جرى إستصحاب عدم التذكية, ولا يصح استصحاب عدم الجلل لإثبات التذكية لأنَّه من الأصل المثبت.

ولكن يرد عليه بأنَّ التذكية وإنْ اعتبرناها أمراً تكوينياً لكن الشارع أخذها لحكم شرعي؛ فاستصحاب عدم الجلل يثبت هذا الموضوع الشرعي وبه يخرج عن الأصل المثبت كما سيتي بيانسسسللالالاتنةتتأااي ث فلاتلاال أتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا القسم الرابع؛ وهو الشك في تحقق التذكية لأجل الشك في توفر شروطها؛ فإنْ كان من الشبهة الحكمية بأنْ شك في شرطية شيء أو مانعيته عن التذكية فإنَّه يجري فيها ما ذكرناه في الشبهة الحكمية في القسم السابق من التفصيل بين ما إذا كانت التذكية عبارة عن الأفعال والشروط, فإنَّه لا مجرى لاستصحاب عدم التذكية فالمرجع هو أصالة الحل أو البراءة أو أصالة عدم المانع, وأمّا إذا كانت أمراً بسيطاً فالمرجع أصالة عدم التذكية, وأمّا إذا كانت الشبهة موضوعية فإنَّه يجري إستصحاب عدم التذكية أو استصحاب عدم الشرط أو الجزء المشكوك إذا كانت التذكية أمراً مركباً, وكانت كذلك الجزء والشرط حالة سابقة.

هذا ما ذكره الأصوليون في الأقسام المتقدمة من الشك في التذكية, ولكن الحقّ أنَّ كثيراً مِمّا ذكروه لا يخلو من إشكال وتطويل لا طائل تحته, بل بعض فروضها خارج عن محل الإبتلاء.

ص: 303

وبيان ذلك يكون بعد ذكر أمور:

الأمر الأول: المعروف أنَّ كلَّ حيوان قابل للتذكية, واستدل على ذلك بوجهين:

الوجه الأول: الإجماع الذي ادّعاه صاحب الحدائق قدس سره على أنَّ كل حيوان يقبل التذكية إلا ما خرج بالدليل.

الوجه الثاني: ما ذكره صاحب الجواهر قدس سره (1)؛ من أنَّه يفهم من مجموع النصوص الواردة في لباس المصلي من قبول التذكية لكلِّ حيوان طاهر العين حال الحياة وإنْ لم يكن مأكول اللحم ولكن لا يصلى فيه عدا ما استثني, ففي صحيح إبْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام عَنْ لِبَاسِ الْفِرَاءِ والسَّمُّورِ والْفَنَكِ والثَّعَالِبِ وجَمِيعِ الْجُلُودِ؟. قَالَ: (لَا بَأْسَ بِذَلِكَ)(2).وغير ذلك من النصوص على تفصيل مذكور في الفقه.

وعليه؛ فلا يبقى موضوع للقسم الثاني من أقسام الشكوك -وهو الشك في الحكم الكلي لنوع خاص- إذ لا معنى لأصالة عدم التذكية فيه مع وجود مثل هذه الإطلاقات والإجماع المدعى مع أنَّ إجراء عدم التذكية إمّا لأجل توهم حرمتها النفسية أو لأجل الحرمة الغيرية, كالإستعمال فيما يعتبر فيه الطهارة وكِلاهما مجرى البراءة كما تقدم من أنَّ الشك في الحرمة مطلقاً من مجاري البراءة؛ نفسية كانت أو غيرية, فراجع.

الأمر الثاني: إختلف العلماء في أمر التذكية؛ فذهب بعضهم (قدست أسرارهم) -كالمحقق النائيني قدس سره (3)- أنَّها أمر مركب, أي أنَّها عبارة عن عملية الذبح الشرعي بشروطها, واستدلَّ عليه بما ورد في كلمات اللغويين في تفسير التذكية بأنَّها الذبح ونسبته إلى الذابح في اللغة والروايات.

ص: 304


1- . جواهر الكلام؛ ج36 ص196.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج4 ص352.
3- . فوائد الأصول؛ ج3 ص382-383.

وذهب آخرون إلى أنَّها أمر بسيط وأنكروا كلام اللغوي أو حجيته في مقام ردّهم على القول الأول ونسبة التذكية إلى الذابح صحيحة على كلِّ حال, فإنَّ المسبب التوليدي ينسب إلى فاعله أيضاً على نحو الحقيقة, والظاهر أنَّه الثاني؛ لأنَّه الأنسب إلى ما يفهم من الروايات نظير الطيب وملائمة الطبع والنقاء. فقد ورد في بعض الروايات كل يابس ذكي وفي باب الجلود, الجلد الذكي تجوز الصلاة فيه وحمله على أنه جلد حيوان الذكي خلاف الظاهر, كما ورد أنَّ كلّ ما لا تحلّ فيه الحياة من الميتة كالصوف والظفر فهو ذكي, وورد أنَّ الجنين ذكاته ذكاة أمّه, وما ورد أنَّ ذكاة السمك إخراجه حياً من الماء؛ وغير ذلك مِمّا يناسب كونها أمراً اعتبارياً بسيطاً منتزع من نفس الأعمال ومنطبق عليها, كالطهور والوضوء, لا أنَّها نفس الأفعال بل هي الحالة النفسانية الحاصلة منها فتكون بسيطة وهي نظير التوليديات.

ولكن الحقَّ أنَّه بناءً على كونها أمراً بسيطاً توليدياً يكون الشك في حصولها من ناحية الشك في أسبابها, وسيأتي أنَّ الأصل الجاري في السبب يغني عن جريانه في المسبب, ولو كان توليدياً لمكان اتحاد التوليديات مع أسبابها عرفاً فيصح إنتساب الأصل الجاري في أسبابها إلى المسببات أيضاً فلا ثمرة عملية ولا علمية في تنقيح أنَّها مركبة أو بسيطة.

الأمر الثالث: قيل إنَّ المستفاد من الروايات أنَّ التذكية أخذت في موضوع الحلّية وصحة الصلاة بما هي مضافة إلى زاهق الروح لا إلى الحيوان, فإنَّ ظاهر قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ)(1) أنَّ المقسم في كِلا المستثنى والمستثنى منه هو الحيوان زاهق الروح بقرينة ذكر أنواع منه.

ص: 305


1- . سورة المائدة؛ الآية 3.

والحقُّ أنَّه لا ثمرة عملية أيضاً في هذا الخلاف في أنَّها منتسبة إلى الحيوان أو زاهق الروح على ما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

إذا تبين ذلك نقول: إنَّ الشكَّ في التذكية فيما عدا قابلية المحل من سائر الشروط؛ فإنْ كانت الشبهة موضوعية فلا ريب في كونها مسبوقة بالعدم فتجري أصالة عدم تحقق الشرط كما تجري أصالة عدم التذكية فيحرم أكله ولا تصح الصلاة فيه إلا إذا كانت أمارة على الخلاف من يد مسلم أو سوقه أو أرضه ونحوها فتثبت الحلية وصحة الصلاة.

وإنْ كانت الشبهة حكمية فإنَّ مقتضى الأصل عدم اعتباره.

وإنْ كان الشك في التذكية من ناحية قابلية المحل فالأصل الجاري منحصر في العدم الأزلي ومفاد ليس التامة, لأنَّ كل حيوان حين تكوّنه إمّا أنْ يتكون قابلاً للتذكية أو غير قابل, وهذه القابلية من لوازم الذات غير المنفكة عنه وهي من الحوادث المسبوقة بالعدم فيجري استصحاب العدم الأزلي، ولا يتصور فيها جريان أصالة العدم بالعدم النعتي العارض على الموضوع.

وقد أشكل على جريان الأصل بوجوه:

الوجه الأول: إنَّه مثبت, لأنَّ المستصحب هو كلي عدم تحقق قابلية التذكية والمطلوب عدم قابلية موضوع معين فيكون الإستصحاب مثبتاً بالنسبة إليه.

ويرد عليه: إنَّ هذا الإشكال لا يختص بالمقام بل يجري في جميع استصحاب العدم الأزلي ولكنه مردود بأنَّ الكلي والحصة متّحدان مع الفرد الخارجي, وإنْ كان بينهما فرق اعتباري عقلي فلا يكون الأصل مثبتاً, وله نظائر كثيرة, مثل إستصحاب عدم العام لإثبات عدم الخاص المتحد معه.

الوجه الثاني: إنَّ هذا الأصل معارض باستصحاب عدم الخصوصية المقتضية للحرمة, وبعد سقوطهما يكون المرجع أصالة الحلّ والطهارة فيكون حلالاً وطاهراً.

ص: 306

وأورد عليه:

1- إنَّ المحللات محصورة وليس المورد منها فيكون حراماً, ولذا ذهب بعضهم إلى التفكيك بين الحرمة وغيرها.

ويرد عليه بأنَّه يمكن دعوى العكس فيحل حينئذٍ لا محالة إذ لا دليل على انحصار المحللات بل المحرمات محصورة.

2- إنَّ الحلّية تعلقت بأمر وجودي وهو الطيبات, فلا بُدَّ من إحراز الطيب وإلا فتشمله أدلَّة الخبائث فيكون حراماً.

وفيه:

أولاً: بالنقض؛ بأنَّ الحرمة تعلقت بالأمر الوجودي أيضاً وهو الخبائث فلا بُدَّ من إحرازه وإلّا فيكون حلالاً.ثانياً: بالحلّ؛ بالمنع من كون الطيب أمراً وجودياً بل الطيب ما لا يستقذره الطبع كما هو المذكور في محله فراجع.

الوجه الثالث: إنَّ استصحاب الأعدام الأزلية بعيد عن الأذهان العرفية المنزلة عليها الأدلَّة, ولكن سيأتي الكلام في باب الإستصحاب تفصيل الكلام في هذا النوع من الإستصحاب إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الرابع: الإعتماد على أصالة عدم التذكية في إثبات الحرمة في المقام وهو الشك في القابلية, ولكنه غير صحيح لوجوه:

1- إنَّ القابلية للتذكية مِمّا لا يمكن العلم بها إلا عن طريق الوحي, فلو كان حيوان حراماً واقعاً وكانت فيه خصوصية الحرمة وجب على الشارع بيانها لانحصار معرفته ببيانه, فعدم البيان في مثله يكفي في الحلية؛ مع أنَّ عمومات الحلية بيان.

ص: 307

2- إنَّ مقتضى عمومات الحلية وقاعدتها حلية كلّ حيوان.

3- حصر ما لا تقع عليه التذكية فيما نص عليه بالخصوص.

4- ما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) من أنَّ مقتضى سهولة الشريعة المقدسة وإطلاقات الحلية أنَّ الحرمة تتقوم بخصوصية خاصة, ومع الشك فيها يجري الأصل الأزلي في عدمها, فالحلية مرسلة مطلقة والحرمة مقيدة بالخصوصية.

ومن جميع ذلك يظهر وقوع التذكية على كلِّ حيوان إلا ما خرج بالدليل, فلا موضوع لأصالة عدم التذكية من هذه الجهة, نعم؛ تجري بالنسبة إلى سائر شروط التذكية كالإستقبال والتسمية ونحوهما إلا أنْ تكون أمارة على الخلاف كما تقدم.

ويشهد لذلك جملة من الأخبار التي وردت في هذا الموضوع والتي ربما يستفاد منها أصالة عدم التذكية, فإنّ جلّها وردت في الشبهات الموضوعية, ففي خبر أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْمٍ أَرْسَلُوا كِلَابَهُمْ وهِيَ مُعَلَّمَةٌ كُلُّهَا وقَدْ سَمَّوْا عَلَيْهَا, فَلَمَّا أَنْ مَضَتِ الْكِلَابُ دَخَلَ فِيهَا كَلْبٌ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُونَ لَهُ صَاحِباً فَاشْتَرَكَتْ جَمِيعُهَا فِي الصَّيْدِ. فَقَالَ:. (لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي أَخَذَهُ مُعَلَّمٌ أم لَا)(2).

وفي خبر آخر عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (..... فَإِنْ تَرَدَّى فِي جُبٍّ أَوْ وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَلَا تَأْكُلْهُ ولَا تُطْعِمْهُ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي التَّرَدِّي قَتَلَهُ أَوِ الذَّبْحُ )(3).وغيرها من الأخبار التي وردت في الشبهات الموضوعية.

ص: 308


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص185.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج23 ص343.
3- . المصدر السابق؛ ج24 ص11.

وأشكل عليه بأنَّها معارضة بما ورد في تجويز أكل الطائر الذي شك الصائد في أنَّه هل سمّى حين رماه أم لا. وما دلَّ على جواز الصلاة فيما لم تعلم أنَّه ميتة فإنَّ ذلك يدلُّ على إلغاء أصالة عدم التذكية في الشبهات الموضوعية.

وفيه: إنَّه لا بُدَّ من حمل الروايات التي يستفاد منها بطلان استصحاب عدم التذكية في الشبهات الموضوعية على محامل؛ منها؛ إنَّ التسمية شرط ذكري, فتكون التذكية قد حصلت واقعاً كما تدلُّ عليه بعض الروايات.

ويتضح ذلك من الوجوه والأجوبة المذكورة في الفقه.

التنبيه الثاني: في حسن الإحتياط غير المخلّ بالنظام
اشارة

عرفت عدم تمامية الأدلَّة التي استدلَّ بها على وجوب الإحتياط في الشبهات البدوية, وإنَّما وقع البحث في حسنه بل إستحبابه فذكروا:

تارةً؛ حسنه إذا لم يكن مخلاً بالنظام في جميع الموارد, ويدلُّ عليه النص والإجماع كما تقدم بيانهما, بل يمكن دعوى اتّفاق العقلاء عليه.

وتارة أخرى؛ حسن الإحتياط في التوصليات كذلك كما ذكرناه, بل يترتب عليه الثواب إذا كان بعنوان الرجاء والمطلوبية، بل المشهور حسنه في جميع الشبهات البدوية عقلاً وإستحبابه شرعاً للروايات التي تمسك بها الأخباري على وجوبه ولم تتم دلالتها كما تقدم بيانه, ولكنه لا إشكال في دلالتها على أصل الرجحان والإستحباب في نفسها أو في مقام الجمع بينها وبين أدلَّة البراءة.

ولكن ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) ومن تبعه إلى أنَّ تلك الأخبار إنَّما تحمل على الإرشاد إلى حكم العقل ولا يعقل الأمر المولوي بالإحتياط.

ص: 309


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص204.

وذكر في وجه ذلك أمرين:

الأمر الأول: إنَّ حسن الإحتياط حكم عقلي في سلسلة معلومات الأحكام الشرعية ومثل هذا يستحيل أنْ يكون منشأً لحكم شرعي بالملازمة.

ويرد عليه: إنَّه ممنوع كبرى وصغرى؛ أمّا الكبرى فقد تقدم بيانه في بحث القطع, وأمّا الصغرى فلا فرق في الملاك عند العقل عمّا هو عند الشرع, فإنَّ الإحتياط من ناحية العبد يدلُّ على شدة الإنقياد وتمام الطاعة, ومن ناحية أمر المولى فلأنَّه يدلُّ على شدة اهتمامه بملاكات أحكامه وتشريعاته؛ وكِلا اللحاظين مِمّا يدلُّ على أنَّ حكم العقل بحسن الإحتياط يكون بصورة تعلقه بملاكه يكون بوجه أقوى, فيتعدد ملاك الإحتياط عند العقل عن الإحتياط عند الشرع وهو ما ينفي استحالته ولو كان في سلسلة معلومات الأحكام.الأمر الثاني: إنَّ جعل إستحباب الإحتياط لغو, إذ يكفي في تحريك العبد نحو الإحتياط امتثال الحكم الواقعي بعد حكم العقل بحسن الإحتياط.

ويرد عليه: إنَّ المستفاد من الأخبار التي وردت في الإحتياط تعدد الملاك فيه, مع أنَّ الأمر بالإحتياط إنْ كان بملاك نفسي كما يستفاد من بعض الأخبار المتقدمة فلا لغوية فيه, وإنْ كان بملاك الطريقية إلى حفظ ملاكات الأحكام اللزومية الواقعية فهو أيضاً لا لغوية فيه كما عرفت آنفاً, فيتطابق الحكم الشرعي مع الحكم العقلي وهو مِمّا يزيد في تحريك العبد كما يثبت الثواب إذ مجرد حكم العقل قد لا يثبت ذلك, وهو واضح, فلا محذور من إستفادة إستحباب الإحتياط في الشبهات البدوية مطلقاً, بل يصحُّ أنْ يثبت في الإحتياط كما تدلُّ عليه بعض الأخبار إستحبابان؛ نفسي وطريقي, ولا محذور في ذلك وله نظائر في الفقه كما عرفت من تعدد الملاك والعلة كما ذكره المحقق النائيني والسيد الوالد (قدس سرّاهما) في المقام بثبوت الثواب دون الإستحباب, ولكنه هيّن بعدما عرفت.

ص: 310

وتارةً ثالثة؛ في الإحتياط في العبادات التي هي على أنحاء:

الأول: دوران الأمر منها بين الوجوب والندب.

الثاني: دوران الأمر منها بين الوجوب وغير الندب.

الثالث: دوران الأمر منها بين الندب وغير الندب.

ولا إشكال في حسن الإحتياط؛ أمّا الأول؛ فبعد ثبوت الأمر الذي يتقوم العبادة به؛ لما ذكرناه آنفاً من حسن الإحتياط عقلاً, بل إستحبابه شرعاً فهذه الكبرى مسلّمة في المقام أيضاً.

إلا أنَّ الكلام في تصوير الإحتياط صغروياً حيث في العبادة قصد الأمر وهو لا يتأتى مع الشك وعدم العلم بالأمر إلا بنحو التشريع المحرم الذي يوجب بطلان العبادة.

وقد أجبنا عن هذا الإشكال في بحوثنا الأصولية والفقهية من أنَّه لا حاجة إلى قصد الأمر في صحة العبادة, بل يكفي فيها إثبات العبادة بداعي التقرب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ ولو مع احتمال الأمر الذي يكفي في انبعاث العبد بداعٍ قربيّ بعد إحراز كون العمل مِمّا يمكن التقرب به إلى المولى.

وأمّا المناقشة في ذلك؛ بأنَّه لا يمكن الإكتفاء بمجرد الإحتمال مع إمكان العلم بالأمر والتقرب المقترن بالعلم به فإنَّه مردود بأنَّه لا دليل على اعتبار الجزم بالأمر في صحة العبادة, مع أنَّه يمكن إحراز الأمر المحقق في ضمن الوجوب والندب والجزم به كما فصّلناه في الفقه.

وأمّا الثاني والثالث؛ فقد أشكل في جريان الإحتياط فيهما بعدم إحراز الامر حينئذٍ, ومن المعلوم أنَّ العبادة متقومة بذلك, ومع عدم تحقق العبادة لا موضوع للإحتياطفضلاً عن حسنه؛ فإنَّه عبارة عن إتيان المتعلق بجميع ما اعتبر فيه؛ جزءً وشرطاً.

ص: 311

ولذا حكى عن شيخنا الأنصاري قدس سره إنكار الإحتياط فيهما رأساً, حيث قال: (وفي جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الإستحباب وجهان؛ أقواهما العدم)(1).

وأورد عليه: إنَّه قد خالفه في كتبه الفقهية ورسائله العلمية كما لا يخفى على من راجعها.

وكيف كان؛ فقد أُجيب عن الإشكال بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ من حسن الإحتياط عقلاً يستكشف الأمر به شرعاً بقاعدة الملازمة.

وفيه: إنَّ الحسن قد تعلق بذات الإحتياط من حيث هو, وأمّا الأمر الذي يراد إثباته إنَّما يكون بالنسبة إلى متعلقه لا ذاته, ولا ربط لأحدهما بالآخر, وقد عرفت آنفاً أنَّ الكبرى مسلّمة وإنَّما الإشكال في التطبيق على العبادة.

وأمّا ما قيل في الجواب عن ذلك بأنَّ مورد قاعدة الملازمة هو الحسن الذاتي الذي يكون وصفاً بحال الذات وحسن الإحتياط طريقي محض لا ذاتية فيه بوجه فلا وجه لأنْ يكون مورد قاعدة الملازمة؛ لإنَّه مردود بما ذكرنا من أنَّه يمكن أنْ يكون في الإحتياط حسن ذاتي كما تشير إليه بعض الأخبار.

الوجه الثاني: إنَّ من ترتب الثواب على الإحتياط يستكشف الأمر لكون الثواب معلولاً للإمتثال وهو معلول الأمر.

ويرد عليه: إنَّ ترتب الثواب أعم من امتثال الأمر إذ قد يترتب على النوايا الحسنة مجردة عن العمل والإمتثال, فهو تفضل إلهي مع أنَّ الكلام في أصل ثبوت الأمر واقعاً لا في طريق استكشافه في الظاهر, بل يمكن أنْ يقال في الرد بأنَّ معلول الشيء لا يعقل أنْ يكون من مبادئ ثبوته لأنَّه دور ظاهر.

ص: 312


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص381.

الوجه الثالث: إنَّ نفس الأوامر التي وردت في الإحتياط تكفي للداعوية, فيقصد الأمر الإحتياطي.

ويرد عليه:

1- إنَّ تلك الأوامر ليست عبادية, فمن أين يحصل الأمر العبادي في المتعلق.

2- إنَّها طريقية محضة, ولا بُدَّ أنْ يكون الأمر العبادي ثابتاً في المتعلق قبل عروض الأمر الإحتياطي.

فهذا الوجه كسابقه؛ مغالطة بين نفس الإحتياط والعمل المحتاط فيه.والحقُّ كما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) أنْ يقال بأنَّ كيفية الإمتثال موكولة إلى العقلاء وهي لديهم إمّا علمي تفصيلي أو إجمالي أو إحتمالي رجائي, وإنَّ الإمتثال برجاء المطلوبية نحو امتثال لديهم ولم يرد من الشارع ردع عن هذه الطريقة العقلائية بل قررها بالترغيب إلى الإحتياط بأساليب مختلفة, فكما أنَّ الإمتثال في موارد إحراز الأمر بالأمارات أو الوصول المعتبرة صحيح شرعاً فكذلك في موارد رجاء الأمر إنْ لم يكن الإنقياد فيها أشد كما لا يخفى, ويترتب عليه الثواب قلنا بثبوت الإستحباب أم لم نقل به ومن ذلك يظهر فساد كثير مِمّا ذكره الأصوليون والفقهاء في المقام وإنَّه من التطويل الذي لا طائل تحته, وقد يتمسك لإثبات الأمر في المقام بأخبار من بلغ بدعوى أنَّ مفادها تحقق الأمر الشرعي في موارد احتمال ثبوت الأمر, وقد يعبّر عن ذلك بقاعدة التسامح في أدلَّة السنن.

ص: 313


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص187.
قاعدة التسامح في أدلَّة السنن

والكلام فيها يقع من جهات:

الجهة الأولى: وردت في جملة الأخبار أنَّ من بلغه عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم شيء من الثواب على عمل فعمله إلتماساً للثواب أعطي ذلك وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع, وإنْ كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يقله؛ نذكر بعضاً منها:

1- صحيحة هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَعَمِلَهُ كَانَ أَجْرُ ذَلِكَ لَهُ؛ وإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم لَمْ يَقُلْهُ)(1).

2- ما روي عنه علیه السلام قَالَ: (مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَفَعَلَ ذَلِكَ طَلَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم كَانَ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ؛ وإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم لَمْ يَقُلْهُ )(2).

3- ما روي عنه علیه السلام أيضاً: (مَنْ سَمِعَ شَيْئاً مِنَ الثَّوَابِ عَلَى شَيْ ءٍ فَصَنَعَهُ كَانَ لَهُ وإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا بَلَغَهُ )(3).

4- ما ورد عن أبي جعفر علیه السلام قَالَ: (مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْتِمَاسَ ذَلِكَ الثَّوَابِ أُوتِيَهُ؛ وإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ كَمَا بَلَغَهُ)(4).إلى غير ذلك من الأخبار.

ويمكن أنْ تستأنس لها في الجملة بما ورد في أخبار كثيرة: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ)(5).

ص: 314


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص81.
2- . المصدر السابق.
3- . المصدر السابق؛ ص82.
4- . المصدر السابق.
5- . المصدر السابق؛ ج15 ص230.

وعموم قوله تعالى: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)(1).

وقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا)(2).

وقوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا)(3).

وغيرها من الآيات الشريفة وإنْ لم يمكن الإستدلال بها, لأنَّ المراد من قوله تعالى: (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلً) و(ثَوَابَ الدُّنیَا) و(مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ)هو ما ثبت الأمر به شرعاً لا ما لم يحرزه, إلا أنْ يُراد منهما الخير الإعتقادي كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

وكيف كان؛ فإنَّ المحتملات في مضمونها هي:

الأول: مجرد الوعد من الشارع بإعطاء ذلك الثواب لمن عمله فتكون القضية خبرية لا إنشائية, وبعد حصول الوعد منه نقطع بالوفاء فلا يكون هناك أمر ولا مطلوبية ولا ترغيب بل هو تفضل إلهي لا يتوقف على شيء غير البلوغ إلى العباد كما لا يتوقف على قصد الأمر ولا على غيره بل المناط كلُّه إتيان العمل الذي وعد فيه الثواب فتكون مثل الأخبار التي يستفاد منها عدم توقف الثواب على قصد الأمر تمسكاً بإطلاقها.

الثاني: أنْ يكون إرشاداً إلى حكم العقل بحسن الإحتياط والإنبعاث من المطلوبية الإحتمالية فيكون ترغيبياً صادراً عن المولى بما هو عاقل لا بما هو مولى.

الثالث: الإستحباب على عنوان ثانوي, وهو بلوغ الثواب؛ بأنْ يقال أنَّ هذه الأخبار من الجملة الخبرية الواقعة موقع الإنشاء, فيكون معنى (فعمل به) أي فليعمله.

الرابع: أنْ يكون حكماً مولوياً طريقياً -ظاهرياً- من أجل التحفظ على الملاكات الواقعية الراجحة؛ إمّا بجعل الحجية للخبر الضعيف وهو المعبر عنه بالتسامح في أدلَّة السنن, وإمّا

ص: 315


1- . سورة الكهف؛ الآية 30.
2- . سورة آل عمران؛ الآية 145.
3- . سورة آل عمران؛ الآية 30.

بجعل إيجاب الإحتياط الإستحبابي في مورد بلوغ الثواب من دون جعل الحجية للخبر الضعيف.

الخامس: أنْ يكون المقصود تكميل محركية الأوامر الإستحبابية فيما إذا فرض بلوغ ثواب على مستحب مفروغ عن إستحبابه, فإذا كان دليل ذلك المستحب ضعيفاً فيضعف مرتبة الأمر الإستحبابي كونه مِمّا يجوز تركه؛ فمن أجل ذلك حثَّ المكلفين على عدم إهمال المستحبات بالوعد على الثواب؛ وهذا الترغيب المولوي وإنْ كان طريقياً لكنه لا يتضمن أمراً بل مجرد ترغيب بالوعد المولويفتكون في مقام بيان أنَّ كمية الثواب وكيفيته بأيِّ نحو بلغ إلى العبد يؤتى بها وإنْ لم تكن صادرة واقعاً عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم , فلا يستفاد من هذه الأخبار إستحباب عمل لم يثبت إستحبابه في الرتبة السابقة, فإذا شكّ في الإستحباب لا يمكن التمسك بأخبار وأدلَّة الترغيب إلى الطاعة والحثّ على عدم إهمال المستحبات الشرعية من جهة جعل ثواب ترغيبي تفضلي في ذلك المورد.

والإحتمال الأول -من تلك المحتملات-؛ خلاف ظاهر تلك الأخبار والمنساق منها؛ التي هي في مقام الحث والترغيب والطلب لا مجرد الإخبار أو الوعد الصرف, لأنَّ توقف الثواب على إضافة العمل إلى الله تعالى غالباً من القرائن الحالية التي تمنع من التمسك بإطلاقها مع أن في بعض أخبار المقام ما يدلُّ على لزوم الإضافة إلى الشارع, كقول أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : (مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَفَعَلَ ذَلِكَ طَلَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم كَانَ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ وإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله و سلم لَمْ يَقُلْهُ)(1), أو قول الإمام الباقر علیه السلام : (مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْتِمَاسَ ذَلِكَ الثَّوَابِ أُوتِيَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ كَمَا بَلَغَه)(2).

ص: 316


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص81.
2- . الكافي (ط - الإسلامية)؛ ج2 ص87.

والإحتمال الثاني؛ فإنَّه كذلك خلاف ظاهرها أيضاً؛ الذي يكون خطاباً صادراً عن المولى بما هو مولى لا بما هو أحد العقلاء سواء كان بلسان الأمر أم الطلب أم الوعد على الثواب.

والإحتمال الأخير وإنْ كان وارداً في حدِّ نفسه ويشهد عليه ما ورد في الصحيحة المزبورة: (مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ)؛ الدال على المفروغية من الخبر ورجحان العمل في الرتبة السابقة, لكن حمل مطلقات بقية الروايات عليه لا وجه له؛ حيث أنًّها في مقام بيان بلوغ الثواب على نحو الطبيعة المهملة الصادقة على الذات والكمية, لا سيما أنَّه إذا كان المراد من الخير الخير الإعتقادي دون الواقعي أو الخير العرفي وإنْ لم يكن شرعياً قد ورد الدليل عليه بالخصوص.

أمّا الإحتمال الثالث؛ وهو أنْ يكون مفادها أمراً إستحبابياً بعنوان تعلق ثانوي وهو بلوغ الثواب, فيكون نفس البلوغ من حيث هو بلوغ موجباً لحدوث الملاك والأمر, فتكون هذه الأخبار حاكمة على ما يدلُّ على اعتبار الوثوق بالصدور فإنَّه يكون معتبراً في جميع الروايات إلا تلك التي تدلُّ على السنن وهو المعبّر عنه بقاعدة التسامح في أدلَّة السنن. وهذا الوجه قريب من فضل الله تعالى ومناسب لمذاق الشرع وإنْ كان بعيداً عن صناعة الإستدلال كما لا يخفى على البصير.

واستدل عليه بوجوه أيضاً:

الوجه الأول: إنَّه بعد دوران الأمر بين هذا الإحتمال والإحتمال الرابع؛ بأنْ يقال أنَّه لا يمكن إستفادة الحكم الظاهري في جعل الحجية كما هو مورد الإحتمال الرابع من تلك الأخبار, لأنَّ لسان الحجية إنَّما هو إلغاء إحتمال الخلاف والبناء على أنَّ المؤدى هو الواقع, كما في سائر أدلَّة الأمارات لا فرض عدم ثبوت المؤدى في الواقع كما هو ظاهر قول الإمام الصادق علیه السلام : (وإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم لَمْ يَقُلْهُ).

ص: 317

وأُجيب عنه بأنَّه لا ينحصر الأمر الطريقي في جعل الحجية للخبر الضعيف حتى يورد عليه بما ذكر بل يمكن أنْ يكون الأمر بالإحتياط وهو لا ينافي التعبير المذكور في الرواية.

ويرد على أصل الوجه والجواب بأنَّ الوجه مبنيّ على جعل الطريقية في باب الأمارات كما هو مختار المحقق النائيني قدس سره , وأمّا بناءً على المباني الأخرى في جعل الحكم الظاهري فلا يصح هذا الوجه كما تقدم بيانه.

وأمّا الجواب؛ فإنَّ استفادة الأمر بالإحتياط من هذه الأخبار بعيدٌ أيضاً كما ستعرف إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض المحققين(1) من أنَّ ظاهر قوله (فعمله) أنَّه جملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء, نظير قوله علیه السلام : (يسجد سجدتي السهو), والجملة الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء تكون ظاهراً في أنَّها بداعي الأمر.

ويرد عليه: إنَّ استعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء صحيح إذا كانت واقعة في مقام الخبر، والجملة الحملية في المقام لا تكون كذلك, لأنّ قوله (فعمله) ورد في موقع الشرط, حيث قال علیه السلام : (مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَعَمِلَهُ), وعليه؛ تكون في موقع الفرض والتقدير, نظير قوله: (من أجنب فليغتسل), فإنَّه لا يفهم منه الأمر بالإجناب؛ على أنَّ هذه القرينة لو تمت فإنَّما هي تنفي احتمال الإرشادية في هذه الأخبار؛ وهو الإحتمال الثاني دون غيره.

الوجه الثالث: لا ريب أنَّ أخبار من بلغ مطلقة من حيث اعتبار قصد القربة فلا بُدَّ من تقييدها بما دلَّ لفظاً وعقلاً على اعتبار قصد القربة في إتيان العمل البالغ عليه الثواب, إذ بدونه لا إستحقاق للثواب أبداً كما عرفت, وهذا القيد لا يناسب أنْ يكون الأمر طريقياً

ص: 318


1- . فوائد الأصول؛ ج3 ص150.

من أجل الإحتياط والتحفظ على الملاكات الواقعية الراجحة, لأنَّ ثبوت الثواب على العمل على الإطلاق يوجب تحريك العبد مطابقاً ولو لم يوجد في نفسه داعٍ قربيّ ويكون أحفظ للملاكات الواقعية.

وفيه: إنَّ الأمر الطريقي بالإحتياط ليس بأكثر من الإمر الإستحبابي الواقعي المشكوك فكما أنَّ الثاني لا يترتب عليه ثواب إلا إذا أتى به بداعٍ قربيّ كذلكالأمر الطريقي الذي من شأنه التحفظ على الأوامر الواقعية المشكوكة بجعلها كالأوامر المعلومة من حيث التحريك المولوي؛ فهذا القيد مناسب مع كِلا الإحتمالين.

الوجه الرابع: ترتب الثواب على عمل ربما يكون دليلاً على مطلوبيته أو إستحبابه بالملازمة بين الثواب والأمر كما لا يخفى, وربما يكون من أجل الإنقياد والإتيان بالعمل برجاء مصادقة المأمور به الواقعي وهو حسن عقلاً ويستحق فاعله الثواب, فلا ينحصر وجه ترتب الثواب على وجود أمر نفسي لكن إطلاق هذه الأخبار لمّا لم يكن من أجل رجاء المصادفة والإنقياد فهو يقتضي الأمر به لا محالة, إذ لا موجب للثواب فيه إلا الإستحباب فيتعين الإحتمال الثالث, وعلى ذلك اتَّفق المحققون على أنَّه لو تمَّ هذا الإطلاق في أخبار من بلغ في إتيان العمل لا بداعي الإنقياد يثبت الإستحباب النفسي وإنْ إختلفوا في أصل هذا الإطلاق وسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

وفيه:

أولاً: لا ملازمة عقلاً بين ترتب الثواب وثبوت الأمر, فلا بُدَّ من إثباته بوجه آخر؛ إمّا من أجل الكناية؛ بأنْ يكون ذكر الثواب كناية عن الأمر لكونه معلولاً له عادة وعرفاً من قبيل (زيد كثير الرماد), وإمّا من أجل وجود تقدير إرتكازي عرفي, وهو أنَّه لو علم المكلف بحكمه وأحرزه فعمله كان ذلك الثواب فتكون هذه الملازمة بين ترتب الثواب على عمل

ص: 319

لمن يعلم بحكمه وبين أنْ يكون حكمة الإستحباب عقلية, فكانت هذه الملازمة من المرتكزات العرفية.

ومن الواضح أنَّ كِلتا النكتتين إنَّما تجريان لو لم يكن هناك نكتة أخرى عرفية صالحة لأنْ تكون هي المنشأ لترتب الثواب وجوباً له كما في المقام فإنَّه يمكن أنْ يكون لأجل الإنقياد ونحوه وليست هذه النكتة بأضعف من النكتتين.

ثانياً: إنَّه يمكن أنْ يكون ترتب الثواب تفضل إلهي من دون استكشاف الأمر أبداً, وأمّا لو كان الثواب إستحقاقياً وكان على الطاعة فلا بُدَّ أنْ يكون إتيان العمل بداعي القربة وإطاعة المولى, وهو وإنْ أوجب استكشاف الأمر إلا أنَّه في المقام وإنْ فرض موضوعه هو الإتيان بعمل بلغ عليه الثواب بقصد قربي إلهي ولكن لا يوجب ثبوت أمر إستحبابي لعنوان البلوغ ولا يمكن التمسك بإطلاقه بإتيان العمل لا بداعي الإنقياد واحتمال الأمر, إذ من الواضح أنَّ إطلاق الحكم فرع إطلاق الموضوع ولا يمكن إثبات الموضوع بالحكم.

والحقُّ أنَّه لا يمكن إثبات الإحتمال الثالث بتلك الوجوه ولا يمكن إثبات الإحتمال الرابع أيضاً لتساوي الإحتمالين في مفاد الأخبار.

والصحيح؛ أنَّه لا بُدَّ أنْ نرجع إلى أخبار من بلغ ونرى ما يمكن أنْ نستفيد منها, فإنَّ الذي تدلُّ عليه تلك الأخبار هي:

1- أنْ يكون ثواب من المعصوم علیه السلام , وإلا فلا تشمله الأخبار, فإنَّ مجرد تخيل الثواب أو صدوره من غير المعصوم لا يكفي في شمول تلك الأخبار وإنْ كان هناك خلاف في ثواب ما يذكره العلماء من دون نسبة إلى المعصوم علیه السلام .

2- أنْ يكون هناك عمل صادر من المكلف يقصد به نيل ذلك الثواب فإنَّه لا ريب أنَّ الثواب الإلهي إنَّما يتحقق إذا كان عمل صادر من المكلف بداعٍ قربيّ.

ص: 320

3- لا حاجة إلى تحقيق أنَّ الثواب الموعود به حقيقياً واقعياً, فإنَّه لو ظهر أنَّ الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لم يقله يعطى ذلك الثواب.

4- إنَّ تلك الأخبار لا نظر لها إلى إثبات الإستحباب؛ إمّا على بلوغ الثواب أو الفعل الموعود عليه الثواب إلا بقرينة؛ إمّا عقلية أو نقلية أو عرفية كما ذكروها وهي غير تامة.

5- لا يستفاد منها أنَّ الثواب الموعود به الذي ربما لا يكون له واقع ينحصر الغرض فيه أنْ يكون بداعي المحركية نحو إتيان الأمور المندوبة التي تصحّ فيها الداعوية أو حفظ ملاك الأمر الواقعي المندوب, بل ربما يكون تفضل إلهي على عباده ورأفته بهم أو اختبارهم أو غير ذلك من الحِكم والمصالح التي ربما لا يمكن دركها.

6- إنَّ تلك الأخبار ترشد إلى أكثر من مجرد الوعد أو الإرشاد إلى حكم العقل كما هو واضح مِمَّن لاحظها.

7- إنَّ اهتمام الشارع بالثواب مِمّا يرشد إلى اعتنائه بالعمل الذي وعد عليه الثواب, فيكون مِمّا يوجب الوثوق بصدور الخبر الذي تضمن العمل الموعود عليه الثواب, وهذا هو المراد من قولهم التسامح في أدلَّة السنن.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ استفادة الإستحباب الشرعي أو ثبات الإستحباب في مورد الثواب بالمعنى الذي ذكرناه صحيح, ولعل هذا هو مقصود ما ذكره السيد الوالد قدس سره : (نعم؛ يصحُّ ذلك إنْ كان برجاء الثواب والتماسه, وما نسب إلى المشهور من إطلاق الفتوى بالإستحباب في موردها من غير تقييد برجاء المطلوبية, ولكن إطلاق كلامهم منزّل على ما ذكرناه أو مرتكزات نوع المتشرعة من أنَّهم يأتون بمعلوم الأمر برجاء الثواب فكيف بمحتمل الأمر)(1).

ص: 321


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص189.

الجهة الثانية(1): إنَّه على فرض استفادة الإستحباب من تلك الأخبار؛ إمّا مطلقاً أو في ما إذا كان لأجل درك الثواب؛ فقد يقال بترتب جميع آثار المطلوب الشرعي, فلو دلَّ خبر ضعيف على غسل مسترسل اللحية وقلنا باستحبابه فيترتب عليهالثواب كما يترتب عليه ما إذا جفت بلة يده ولم يتمكن المسح بها فيجوز له أخذها من محلِّ الإسترسال والمسح بها ولكنه بعيد؛ لقصور تلك الأخبار عن إثبات غير الثواب فيقتصر على خصوص الثواب وهو الأحوط أيضاً, لعدم ورود الأدلَّة في مقام البيان من هذه الجهة.

الجهة الثالثة: ذكر بعض الأصوليين أنَّه لا ثمرة فقهية بين القولين؛ القول بالإستحباب النفسي لعنوان ما بلغ عليه الثواب, والقول بجعل الحجية للخبر الضعيف إذا ثبت إستحباب ذلك العمل؛ سواءً بعنوانه الأولي أم الثانوي, ولا تشمل هذه الأخبار مورداً صحيحاً دلَّ دليل على العقاب والحرمة ودلَّ خبر ضعيف على الثواب فيه حتى يقال بوقوع التزاحم بين دليل الحرمة والخبر الضعيف الذي دلَّ على الثواب بعد حجيته بقاعدة التسامح.

وأورد عليه بأنَّه يمكن تصوير ثمرات عديدة تترتب على القولين:

منها: تحقق التعارض فيما إذا دلَّ خبر ضعيف على إستحباب أو وجوب فعل وترتب الثواب عليه, ودلَّ خبر صحيح آخر على عدم رجحانه, فإنَّه بناءً على القول الثاني لا يثبت الرجحان بينما يثبت الإستحباب بالعنوان الثانوي على القول الأول.

ومنها: لو فرض ورود خبرين ضعيفين على إستحباب عملين وعلم من الخارج عدم إستحبابهما معاً, أي علم بكذب أحدهما؛ فإنَّه بناءً على القول الثاني يقع التعارض بينهما لعدم إمكان جعل الحجية إلى العلمية والطريقية لمجموع شيئين علم بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع فالتعارض يقع فيما إذا استفيد من أخبار من بلغ حجية الخبر الضعيف لا في إثبات الإستحباب والثواب فقط.

ص: 322


1- . من جهات الكلام عن قاعدة التسامح في أدلَّة السنن.

وفيه: إنَّه حتى بناءً على استفادة الإستحباب النفسي لعنوان ما بلغ عليه الثواب فإنَّه إذا قلنا بثبوته في المدلول الإلتزامي فإنَّه ينفي إستحباب شيء آخر فيقع التعارض أيضاً, كما إذا استفدنا الحجية للخبر الضعيف بلا فرق بينهما فإمّا أنْ نستفيد التعميم لكلٍّ منهما أو لا نستفيد ذلك, ولا وجه للتفريق.

ومنها: لو ورد دليل على عدم إستحباب عمل يضرّ بالنفس ولو بالعنوان الثانوي وورد خبر ضعيف على إستحباب عمل وترتب الثواب ولو كان مضراً بالنفس؛ فإنَّه بناءً على جعل الحجية يكون الخبر الضعيف مخصصاً للدليل الآخر ولكن التعارض بناءً على ثبوت الإستحباب بين أخبار من بلغ والدليل الأول بنحو العموم من وجه فيتساقطان ولا يثبت الإستحباب.

وغير ذلك مِمّا ذكره السيد الصدر قدس سره , ولكن ذلك مبنيّ على ما تدلُّ عليه تلك الأخبار في أنَّه هل نستفيد منها حجية خبر الضعيف بجميع خصوصياته وآثاره أو أنَّ الذي يثبت مجرد الإستحباب فقط, فإذا تعارض مع إطلاق دليل العام النافي للإستحباب أو غيره مِمّا ذكر يوجب رفع الإستحباب من دون ترتيب حكم التخصيص أو الجمع العرفي على الخبر الضعيف أو نحو ذلك, فيكون مردّه إلىإستفادة الإستحباب بجميع آثاره وخصوصياته أو لا يمكن إستفادة ذلك إلا الإستحباب فقط, فلا وجه للتفرقة بينهما كما هو الصحيح فإنَّها لم تكن في مقام البيان من هذه الجهة, فما ذكر من عدم الثمرة الفقهية بين القولين صحيح إلا ما إذا ثبت بدليل صحيح.

الجهة الرابعة: إختلف المحققون من الأصوليين في شمول أخبار من بلغ لمن يأتي بالعمل الذي بلغ عليه الثواب بغير داعي الإنقياد وبلوغ ذلك الثواب فقد ذهب بعضهم إلى عدم شمولها لهذا الفرض لوجود القرينة التي تدلُّ على تقييدها بفرض الإنقياد وهي أحد أمرين:

أولهما: استفادة ذلك من التفريع في قوله علیه السلام : (مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَعَمِلَهُ)؛ فإنَّه يدلُّ على كون العمل متفرعاً على البلوغ.

ص: 323

وثانيهما: ما ورد في جملة من تلك الأخبار بالإتيان إلتماساً للثواب أو لقول النبي صلی الله علیه و آله و سلم , فيحمل غيره عليه من باب حمل المطلق على المقيد.

وقد نوقش كِلا الأمرين:

أمّا الأول: فقد ردَّ تارةً؛ بما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّ البلوغ قد أخذ بنحو الحيثية التعليلية للعمل لا بنحو الحيثية التقيدية ولكن الصحيح ما ذكرناه سابقاً من أنَّ تلك الأخبار إنَّما تدلُّ على أنَّ البلوغ كان داعياً إلى العمل لنيل الثواب وهو لا يتحقق إلا بداعٍ قربيّ قلنا بالحيثية التعليلية أو التقييدية, فإنَّ المكلف إنَّما يبتغي من عمله نيل الثواب الموعود به وهو لا يحصل بداعٍ قربيّ. ولا ريب أنَّ ذلك مِمّا يوجب انطباق الإنقياد عليه في الجملة, ولعل مراد المحقق الخراساني ذلك.

وأخرى؛ إنَّ العمل لم يفرّع في هذه الأخبار على داعوية احتمال الأمر حتى يختَّص بالإنقياد وإنَّما فرع على داعوية الثواب حيث قال: علیه السلام : (مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلی الله علیه و آله و سلم شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَعَمِلَهُ), ومن المعلوم أنَّ ترتب الثواب لا يكون إلا مع قصد القربة فلا بُدَّ من قصده في الجملة, وهو يتحقق إمّا بقصد الإنقياد أو الأمر الجزمي المتعلق في هذه الأخبار بالعمل البالغ عليه الثواب.

وهو صحيح لما ذكرناه آنفاً أيضاً من أنَّ صدق الإنقياد على العمل الذي أتى به بداعٍ قربيّ إنطباقي؛ إنضمَّ إليه قصد الأمر الجزمي أم لا, وهذا هو المستفاد من ظواهر تلك الأخبار التي تدلُّ على إتيان العمل بداعي نيل الثواب الواقعي البالغ منظمّاً إلى قصد القربة.

ص: 324


1- . كفاية الأصول؛ ص353. ولم يصرّح صاحب الكفاية بتقسيم الحيثيات، وإنَّما فُهم ذلك منه كما في حاشية المشكيني على الكفاية؛ ج4 ص127.

وثالثةً؛ إنَّ التفريع على البلوغ لا يقتضي اختصاصه بالحصة الإنقيادية, لأنَّ تفريع عمل على شيء كما يمكن أنْ يكون من باب التفريع على داعيه, كقولك: (وجب عليّ كذا ففعلته)؛ كذلك يمكن أنْ يكون من باب التفريع على موضوع داعيه, كقولك: (دخل الوقت ففعلته), وفيما نحن فيه كذلك؛ فإنَّه من تفريع العمل على بلوغ الثواب من باب أنَّه موضوع لتحقق الداعي الذي هو إمّا الإنقياد أوالإطاعة وقصد الأمر الجزمي المستفاد من نفس هذه الأخبار وليس تفريعاً على داعي الإنقياد ورجاء بلوغ الحكم الواقعي, أو ثوابه ليكون مخصوصاً به.

ويرد عليه: إنَّ ذلك صحيح فيما إذا لم يكن الداعي القربي دخيلاً في ترتب الثواب كما هو المفروض, فإنَّ الإنقياد حاصل مع هذا القصد قهراً, سواء انضمَّ إليه قصد انقياد يدلُّ على الثواب أم الأمر الجزمي أم الإطاعة ونحو ذلك.

ولعلَّ ما ذكرناه هو الذي أراده المحقق الإصفهاني قدس سره في إثبات الإطلاق في المقام بقوله من أنَّ ظاهر الأخبار ترتيب نفس الثواب الذي أبلغه الخبر الضعيف على العمل لا العمل المأتي به بداعي الإنقياد ورجاء الواقع فيثبت إستحباب العمل مطلقاً لا خصوص الحصة الإنقيادية منه.

وأمّا إيراد السيد الصدر قدس سره عليه فيظهر بطلانه مِمّا تقدم ذكره, فإنَّ الأخبار إنَّما تدلُّ على أنَّ مراد البلوغ هو ذات العمل لا العمل بقيد الإتيان بداعي الإنقياد, مع أنَّه حاصل مع قصد القربة كما في سائر العبادات التي يؤتى بها بقصد القربة من دون حاجة إلى قصد الإنقياد في ترتب الثواب ونيله؛ فيكون المقام كذلك.

ومِمّا ذكرنا يظهر الجواب عن الأمر الثاني الذي استدلَّ به على اعتبار الإنقياد وتخصيص المطلقات به, فإنَّه لا حاجة إلى جعل مطلقات ومخصصات حتى تذهب إلى التخصيص,

ص: 325

فإنَّ أخبار المقام بأجمعها ترشد إلى أمر واحد؛ وهو ترتب ذات العمل على بلوغ الثواب لا العمل بقيد الإتيان بداعي الإنقياد, ولا يستفاد من قوله إلتماساً للثواب غير ذلك.

وحينئذٍ لا حاجة إلى الإيراد عليه بأنَّ التخصيص إنَّما يتم لو أحرز وحدة الحكم من الخارج أو ثبت استحالة تعدده للزوم اجتماع المثلين أو نحوه, بخلاف ما إذا لم تحرز ذلك كما هو الحال في المستحبات؛ حتى قيل بأنَّها مبنية على تعدد المطلوب فيها, مع أنَّ هذه الأخبار التي ورد فيها هذا القيد إلتماساً لذلك الثواب أو طلب قول النبي صلی الله علیه و آله و سلم لا يستفاد منها تقييد المتعلق وجعل المطلوب المولوي خصوص هذه الحصة بل لبيان أنَّ ذلك شرط لترتب الثواب, فلا وجه لتوهم الإختصاص والتقييد على تقدير استفادة حكم مولوي وهو إستحباب العمل من هذه الأخبار.

الجهة الخامسة: في شمول أدلَّة أخبار من بلغ للخبر الدالّ على كراهية فعل ورجحان تركه وغيرها.والبحث فيه يقع في مقامات ثلاثة:

المقام الأول: في اختصاصها بما يدلُّ على الإستحباب أو تشمل موارد الكراهة ونحوها؛ فقد استشكل بعضهم في شمولها لمورد الكراهة؛ إمّا لأنَّ الوارد فيها الطلب لا الزجر والمنع.

وردَّ بأنَّ ذلك لا يأتي فيما يكون بلسان الحثّ والترغيب.

وإمّا من جهة انصراف ألسنتها بقرينة قوله (فعمله) إلى الفعل ونحوه لا إلى محض الترك والأمر العدمي.

وفيه: إنَّه لو تمَّ فإنَّه يوجب عدم شمول هذه الأخبار لما إذا ثبت إستحباب ترك فعل بخبر ضعيف أيضاً, فلا يختص الإشكال بالمكروهات, ولكن الصحيح هو الرجوع إلى العرف وفهمه من هذه الأخبار, فإنَّه يحكم في أنَّ الملاك هو بلوغ الخبر والثواب على شيء؛ سواء

ص: 326

كان فعلاً أم تركاً؛ وجوداً وعدماً, فيكون ذكر الثواب والفعل والعمل من باب المثال, وعليه؛ فلا يختص الحكم بالمندوبات والمكروهات.

ومن هنا جرت سيرة العلماء على التسامح في المندوبات التوصلية وفي أدلَّة المكروهات والفضائل والمعاجز والأخلاقيات, وما ورد لدفع الأوجاع والأمراض, وما ورد لقضاء الحوائج من الصلوات والدعوات وغيرها, وما ورد في الأمور التي لها آثار وضعية دنيوية؛ والوجه في ذلك ما ذكرناه من الملاك في الثواب على مجرد المثال وأنَّه ذكر من باب الغالب والترغيب لا الخصوصية, فيكون المعنى أنَّ من بلغه شيء عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم في غير الواجب والحرام يترتب أثر ذلك الشيء عليه وإنْ كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يقله, ويمكن أنْ يكون مدرك التسامح في غير الثواب مضافاً إلى ما ذكرناه الإجماع على التسامح أيضاً, كما يمكن أنْ يستدلّ على التسامح في جميع ذلك بقول الإمام الصادق علیه السلام : (الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ؛ فَحَيْثُمَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ضَالَّتَهُ فَلْيَأْخُذْهَا)(1), بناءً على أنَّ المراد منها كلّ ما فيه خير وصلاح الأمة؛

وإنْ كان في تفسيرها وصدق الحكمة على بعض الصغريات المتقدمة محل إشكال.

وكيف كان؛ فالأمر هيّن بعدما عرفت.

المقام الثاني: الكلام في حجية الخبر الضعيف الذي يتضمن المكروه ونحوه كالكلام في الخبر المتضمن للثواب، وكذا الكلام في إثبات الكراهة بأخبار من بلغ.

والحقُّ أنَّه لم تثبت الكراهة أو حجية الخبر الضعيف بأخبار من بلغ, كما عرفت من أنَّه خلاف ظهور تلك الأخبار وأنَّ الذي يمكن إثباته من أخبار من بلغ مجرد رجحان الترك.

المقام الثالث: إذا دلّ دليل على إستحباب شيء وآخر على كراهته؛ فإنَّه بناءً على اختصاص أخبار من بلغ بالمستحبات وعدم شمولها للمكروهات فلا تزاحم بينهما ولا تعارض لعدم

ص: 327


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج8 ص167.

حجية خبر الكراهية بحسب الفرض, وأمّا إذا قلنا بشمولها للمكروهات فقد يقال بعدم المانع من ثبوت إستحباب كلٍّ من الفعل والترك؛ غاية الأمر يقع بينهما التزاحم ولا ضير في المستحبات؛ فإنَّه كثيراً ما يكون في كلٍّ من الفعل والترك مصلحة ورجحان بلا فرق في ذلك بين أنْ يكون كِلاهما تعبديين أو توصليين أو بالإختلاف.

واستشكل السيد الخوئي(1) في ذلك وذهب إلى التفصيل بين ما إذا كان الإستحباب والكراهة

معاً توصليين أو كان أحدهما على الأقل تعبدياً؛ إذ في الحالة الأولى يقع التنافي بين استحباب الفعل والترك معاً إذ يلزم منه لغوية الجعلين, فإنَّ المكلف لا يمكنه الجمع بين الفعل والترك بل أحدهما ضروري في حقه دائماً بخلاف الحالة الثانية التي يمكن فيها مخالفتهما معاً بالإتيان بالفعل مثلاً من غير قصد القربة فيكون من التزاحم.

ولكن يرد عليه:

أولاً: إنَّ ذلك مبنيٌّ على أنْ يكون لسان هذه الأخبار الأمر, وهو ليس كذلك فإنَّ لسانها ترتب الثواب وهو لا يقتضي أكثر من المحبوبية والرجحان وهو يمكن فيما لا ثالث لهما وفيما لا يمكن فيه الثواب.

ثانياً: إنَّ ما ذكره قدس سره إنَّما يتحقق فيما إذا كان الإستحباب ثانياً بأخبار من بلغ لا بالخبرين الضعيفين, لأنَّ المفروض عنده عدم ثبوت حجية الخبرين الضعيفين بأخبار من بلغ التي لسانها ترتب الثواب, وهو لا يكون إلا في فرض التقرب, فلا يمكن فرض التزاحم بين إستحباب الفعل وإستحباب الترك بعد نفي التعبد في الإستحباب.

ثالثاً: إنَّ ما ذكره في التوصلين من ثبوت التنافي بين إستحباب الفعل والترك معاً لأنَّه يلزم منه لغوية الجعلين لأنَّ المكلف لا يمكنه الجمع بين الفعل والترك غير صحيح, فإنَّه إنْ تمَّ

ص: 328


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص194-195.

في فرض الواجب وفي الضدين الذين لا ثالث لهما ولكنه لا يتم في المستحب والمكروه التوصليين, إذ يمكن تركهما لا بقصد منه إلى الفعل أو الترك كما هو الحال عند من لا يبالي أو من اشتغل بغيرهما ومجرد لا بُديةأحدهما للمكلف صحيح في غير المقام الذي يثبت الجواب فيه وفي قاعدة التسامح في أدلَّة السنن كما هو معلوم.

رابعاً: ذكرنا سابقاً أنَّه على فرض ثبوت الإستحباب بأخبار من بلغ أو الحجية فإنَّه لا إطلاق لها ليشمل كلّ ما يترتب على المستحب الثابت بدليل صحيح من اللوازم والملزومات, لأنَّ أخبار من بلغ لم تكن في مقام البيان من هذه الجهة فراجع.

الجهة السادسة: في شمول قاعدة التسامح لفتوى المشهور أو الفقيه الواجد باستحباب شيء مع عدم ذكر المدرك.

والبحث يقع في مقامات:

المقام الأول: في إدراج فتوى المشهور أو الفقيه تحت قاعدة التسامح؛ فذهب بعضهم إلى عدم الشمول لعدم النسبة إلى المعصوم علیه السلام والشارع أولاً وبالذات؛ وقيل بالشمول من حيث انتهائهما إليهما فتشمل، ومقتضى التسامح في المندوبات هو الثاني.

والحقُّ؛ إنَّه لا بُدَّ من التفصيل بين حصول اطمئنان بأنَّ الفقيه إنَّما يذكر الثواب والإستحباب مستنداً إلى دليل معلوم عنده وإنْ لم يذكره غيره لمعروفية وثاقته عند العلماء ومشهورية علمه عندهم, كما بالنسبة إلى ابن بابويه والد الصدوق ونظائره؛ فإنَّه يصح القول بشمول قاعدة التسامح لفتوى المشهور بالثواب على عمل أو فتوى الفقيه كذلك لأنَّهما ينتهيان إلى السنة حينئذٍ, وبين غيره مِمَّن لم يكن كذلك؛ فلا يمكن القول بشمول القاعدة لقوله لعدم نسبته إلى المعصوم أو السنة الشريفة وإنْ قيل بالشمول أيضاً للتسامح في أدلَّة السنن مطلقاً.

ص: 329

المقام الثاني: في جواز إفتاء المجتهد باستحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب للعامي الذي لم يصل إليه ذلك الخبر ومنشأ الإشكال هو أنَّ المستفاد من أخبار من بلغ, وإنَّ الموضوع في قاعدة التسامح هو بلوغ الثواب على العمل.

ومن هنا قالوا بأنَّه يمكن الإستفادة من هذه الأخبار حكماً فرعياً وهو إستحباب العمل البالغ عليه الثواب, فموضوعه في الواقع يتقوم بمن بلغه الثواب على العمل فإنَّه بناءً على إستفادة هذا الحكم الفرعي من أخبار من بلغ فإنَّه يشكل شمولها لفتوى المجتهد باستحباب العمل الذي بلغه الثواب عليه لعدم تحقق الموضوع بالنسبة إلى المقلدين, فإذا أراد المجتهد أنْ يفتي بالإستحباب فلا بُدَّ إمّا أنْ يبلغ مقلديه بالثواب وثبوت الخبر الضعيف عليه ثم يفتي بالإستحباب, أو يقيد موضوع الإستحباب بالبالغ إليه الثواب؛ هذا إذا استفدنا من أخبار من بلغ حكماً فرعياً.

وأمّا إذا استفدنا منها الحكم الأصولي وهو حجية الخبر الضعيف على الإستحباب فيصح للمجتهد أنْ يفتي بالإستحباب بقول مطلق عند مقام الخبر عنده لأنَّه قد تحقق عنده الدليل على الإستحباب ولا يكون موضوعه مقيداً بشيء كما في الفرض السابق, نظير ما إذا قام عنده خبر صحيح على استحباب عمل خاصفيصح له حينئذٍ أنْ يفتي بمضمون الخبر الضعيف لقيام الحجة لديه وهو كافٍ في مقام الإفتاء.

هذا كلُّه إذا استفدنا من أخبار من بلغ الحكم الفرعي وهو إستحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب أو استفدنا منها الحكم الأصولي وهو حجية الخبر الضعيف, وأمّا إذا قلنا بعدم دلالة تلك الأخبار على أحد الحكمين -كما هو المختار- فلا مجال لذلك كله, فيكون الحكم ما ذكرناه في المقام الأول بالنسبة إلى العوام وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 330

المقام الثالث: في صحة إفتاء مجتهد بالإستحباب إعتماداً على فتوى فقيه أو باستحباب عمل, ولا بُدَّ من تخريج الإفتاء بأحد وجوه:

الوجه الأول: إنَّه بعد جعل الحجية للخبر الضعيف عند الفقيه يصبح عند الفقيه الآخر قناعة بقيام الحجة عنده إذا كان رأيه إثبات الحجية للخبر الضعيف من أخبار من بلغ أيضاً؛ لقيام الأمارات مقام القطع الموضوعي عندهما. وهو صحيح في الجملة, وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في بحث القطع.

الوجه الثاني: إفتاء المجتهد بالحكم الظاهري الفرعي وهو الإستحباب الثابت في حقه جزماً إذا كان المستفاد من أخبار من بلغ أنَّ موضوعه واقع الخبر المبلغ للثواب لا البلوغ, وهذا يثبت في حق المجتهد الآخر وغير المجتهد على حدٍّ سواء, ولكنه مبني على ما إذا كان المستفاد من تلك الأخبار ذلك؛ لا خصوصية البلوغ, وإلا فلا بُدَّ أنْ يبلغ الطرف الآخر مجتهداً وغيره وإلا فلا يمكن الحكم بالإستصحاب لمن لم تثبت عنده هذه الخصوصية كما عرفت سابقاً.

الوجه الثالث: إنَّ المجتهد يفتي بكبرى إستحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب عموماً ويخبر بتحقق صغرى الخبر المبلغ للثواب في الموارد الخاصة فيتحقق صغرى البلوغ للمقلد أيضاً فيثبت الإستحباب في حقه فإنَّه لا يراد من البلوغ إبلاغ الراوي المباشر بالخصوص.

والحقُّ أنَّ جميع ما ذكر في المقامات الثلاثة يرجع إلى أنَّ فتوى الفقهاء بالثواب أو الإستحباب أو الحجية في جميع الموارد ينتهي بالآخرة إلى السنّة فيمكن الإعتماد عليها فيصح العمل من المقلد والمجتهد. ومن هنا أطلق السيد الوالد قدس سره الكلام في المقام.

الجهة السابعة: في شمول أخبار من بلغ للخبر الضعيف المعلوم الكذب وجداناً أو تعبداً وكيفية الجمع بين هذه الأخبار وما ورد من أنَّ الرشد في خلافهم إذا كان الخبر عامياً ضعيفاً.

ص: 331

أمّا الأول؛ فقد ذهب مشهور المحققين إلى أنَّها لا تشمل موارد العلم وجداناً أو تعبداً بكذب الخبر الضعيف الدالّ على الإستحباب, كما إذا دلَّ خبر صحيح على حرمة الفعل الذي دلَّ عليه الخبر الضعيف أو عدم إستحبابه إمّا من أجل الإنصراف أو من جهة الحكومة, لأنَّ الدليل المعتبر يدلُّ على نفي الإستحباب؛ إمّابالمطابقة أو الإلتزام, وهذا مِمّا يجعل الفرد عالماً تعبداً بعدم الإستحباب وكذب الخبر الضعيف, مع أن أخبار من بلغ قد أخذ في موضوعها احتمال صحة البلوغ ومطابقته للواقع في خصوص القطع بالكذب أو الحرمة, فإنَّه مضافاً إلى ما ذكروه لا يمكن أنْ يحصل للعبد إثبات نحو الفعل في نفسه احتمال الثواب فلا تشمله أخبار من بلغ, نعم؛ إنْ لم يحصل القطع بالكذب بل دلّ دليل معتبر على عدم الإستحباب فإنَّه يمكن القول بشمول أخبار من بلغ له, إذ لم يعتبر فيها أنْ لا يحصل الجزم بعدم الإستحباب, ومجرد أنَّ الدليل المعتبر يجعلنا عالمين تعبداً بعدم الإستحباب غير ضائر؛ لما قلنا من أنَّه لم يؤخذ في أخبار من بلغ عدم العلم أو الشك واحتمال المطابقة, فيكفي احتمال بلوغ الثواب مطلقاً في الشمول وهو مقتضى التسامح في أدلَّة السنن أيضاً.

وأمّا الثاني؛ فقد ذكر جملة من الإخباريين بثبوت التنافي بين أخبار من بلغ وما ورد من النهي عن الرجوع إلى المخالفين ورواياتهم, قال المحدث المجلسي (1): (ثم اعلم أن بعض الأصحاب يرجعون في المندوبات إلى أخبار المخالفين ورواياتهم ويذكرونها في كتبهم وهو لا يخلو من إشكال لورود النهي في كثير من الأخبار عن الرجوع إليهم والعمل بأخبارهم لا سيما إذا كان ما ورد في أخبارهم هيئة مخترعة وعبادة مبتدعة لم يعهد مثلها في الأخبار المعتبرة والله تعالى يعلم).

ص: 332


1- .بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج2 ص257.

فإذا وردت رواية عامية تدلُّ على عمل فيه ثواب معين فتشكل شمول أخبار من بلغ لها لما دلَّ على النهي من العلم بأخبارهم وما ورد من أنَّ الرشد في خلافهم.

وقد أُجيب عنه بوجوه لا يخلو بعضها عن إشكال, والصحيح أنْ يقال: إنَّ أخبار من بلغ تشمل غير الإلزاميات إلا إذا ورد النهي عن ذلك كالعبادات ونحوها, وما ورد من النهي عن العمل بأخبارهم تختص بالإلزاميات وما يرتبط بالعقيدة أو ما تثبت عبادة مبتدعة أو هيئة مخترعة فلا تنافي بينهما.

هذا تمام الكلام في قاعدة التسامح في أدلَّة السنن.

التنبيه الثالث: دوران الأمر بين التعيين والتخيير

تقدم مفصلاً الكلام في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية وهو مما اتفق عليه جميع العلماء؛ الأصوليون والأخباريون على حدِّ سواء بلا فرق بين أقسام الوجوب من العيني والكفائي وغيرها, بشرط احتمال إلاباحة، وإلا فلا مجرى للبراءة من دونه, وتفصيل ذلك في ضمن أمور:

الأمر الأول: إذا تردد الوجوب بين كونه تعيينياً أو تخييرياً بعد العلم بأصل الوجوب وهي المسألة المعروفة في الفقه والأصول بدوران الأمر بين التعيينوالتخيير، فالمشهور فيها هو الأول, واستدلّ عليه تارةً؛ بالأصل العملي وقاعدة الإشتغال إذا ترك الفرد الذي يحتمل فيه التعيين وأتى بالفرد الآخر.

وأخرى؛ بالتمسك بالإطلاق الذي تقدم الكلام فيه في مباحث الألفاظ من أنَّه يقتضي كون الوجوب عينياً تعيينياً نفسياً, إلا إذا دلَّ دليل على الخلاف فيطابق الأصل اللفظي مع الأصل العملي على التعيينية, وهذا هو المشهور بينهم كما عرفت.

الأمر الثاني: إذا تردد الوجوب بين كونه عينياً أو كفائياً والكلام فيه ما يذكر في سابقه.

ص: 333

ولكن قد استشكل على كِلا الأمرين:

أمّا الأمر الأول؛ فقد ردَّه جمع من المحققين بأنَّ خصوصية التعيينية والعينية قيد زائد مشكوك كسائر القيود المشكوكة والمرجع حينئذٍ البراءة لا الإشتغال؛ لعدم العلم بأصل التكليف بحدوده وقيوده, وعدم تمخض الشك في الشك في الإمتثال فقط حتى يكون المرجع الإشتغال, نعم؛ لو اكتفى في وجوب الإحتياط مجرد العلم بجنس التكليف من دون العلم بنوعه لوجب الإحتياط في المقام ولكنه ممنوع, لأنَّ التكليف المنجز ما إذا علم بنوع التكليف من الأدلَّة المعتبرة.

وقد استشكل هنا بعض المحققين على جريان البراءة بأنَّ المعتبر في جريانها أنْ يكون المجرى من الأمور الوجودية لا العدمية والمقام من الأخيرة, لأنَّ التعيينية عبارة عن عدم العدل والبدل للواجب وهو أمر عدمي ولا يتعلق الجعل بالعدم والعدمي كما هو واضح.

ويمكن الجواب عنه:

أولاً: إنَّه مخالف للعمومات والإطلاقات الواردة في أصل البراءة التي تشمل الوجودي والعدمي, وهو الموافق للتوسعة والتسهيل التي هي ملاك البراءة.

ثانياً: إنَّه منقوض بالإستصحاب والأصول العدمية المقررة شرعاً سواء كانت تأسيسية أم إمضائية وقد تعلق بها الجعل فليكن المقام كذلك.

ثالثاً: إنَّ هذه العدمات من أعدام الملكات التي لها خطٌّ من الوجود كما هو المعروف في علمي الحكمة والكلام.

رابعاً: إنَّه لا وجه لكون المقام عدمياً, فإنَّ التعيينية خصوصية خاصة في الواجب التعييني مِمّا يقتضى إثباتها بذاتها, فلا مانع من جريان البراءة عنها عند الشك فيها.

ص: 334

وأمّا الأمر الثاني؛ فلما ذكر في مباحث الألفاظ من أنَّ الإطلاق اللفظي في الوجوب وإنْ كان يقتضى العيني التعييني النفسي لكنه في مقام الإثبات وكلامنا في مقام الثبوت, فلا وجه للخلط بينهما فراجع.الأمر الثالث: الواجب التخييري تارةً؛ شرعي يكون في ظاهر الخطاب الشرعي كخصال الكفارات, وأخرى؛ عقلي كما في المتزاحمين المتساويين خطاباً وملاكاً, وثالثةً؛ أصولي, أي التخيير في أخذ الحجة كما في الخبرين المتعارضين بعد فقد المرجح, والرجوع إلى البراءة إنَّما يصح في القسم الأول فقط في نفي التعيين, وأمّا الأخيران فإنَّ احتمال التعيين في أحدهما يكون مرجحاً يجب الأخذ به فلا يصح الرجوع إلى البراءة حينئذٍ.

والحاصل: إنَّ موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير أربعة:

الأول: الشكُّ في أصل تشريع الوجوب إبتداءً ثم الشك في أنَّه على فرض الثبوت أنَّه تعييني أو تخييري, فيكون في البين شكّان طوليان.

والمرجع فيه البراءة عند جميع العلماء.

الثاني: العلم بأصل الوجوب والشكّ في أنَّه تعييني أم أنَّه أحد فردي الواجب التخييري, وهذا المورد هو الذي وقع الخلاف فيه.

وقد اخترنا الرجوع إلى البراءة فيه كما عرفت.

الثالث: العلم بوجوب كلّ واحد من الطرفين والشك في أنَّ هذا الوجوب من كلٍّ منهما تعييني أو تخييري.

والمرجع فيه البراءة أيضاً لعين ما ذكرناه في المورد السابق.

الرابع: العلم بوجوب شيء والعلم بأنَّ الشيء الآخر بدل عنه ومسقط له سواء كان مباحاً أم مندوباً والشك في أنَّه واجب تعييني أو لا.

والمرجع فيه البراءة عنه أيضاً لما ذكرناه في سابقه.

ص: 335

ومن جميع ذلك يظهرالحكم فيما إذا دار الأمر بين الواجب العيني والكفائي؛ فإنَّه يجب الإتيان به سواء كان في الواقع عينياً أم كفائياً بوجوب قيام الكل بالإتيان بالواجب الكفائي, ولكن لو أتى به أحد المكلفين يشكّ في تعلق الوجوب بالنسبة إليه للشكّ في العينية, فالمرجع فيه إلى البراءة أيضاً.

وقد ذكرنا أنَّ الرجوع إلى البراءة في جميع ما ذكرناه وإنْ كان هو الصحيح الموافق للتحقيق ولكن الأحوط ما ذهب إليه المشهور؛ لاحتمال كون العلم بجنس التكليف منجزاً مع إمكان الإحتياط وإنْ لم يمكن إثباته بالدليل كما عرفت.

التنبيه الرابع: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية

والكلام فيه يقع في مقامات ثلاثة:

المقام الأول: لا ريب في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية حتى عند المنكرين لها في الشبهة الحكمية سواء كانت الموضوعية وجوبية أم تحريمية بجميع أقسامها, والدليل عليه الذي يُعد من أمتن الأدلَّة وهو عدم كفاية مجرد العلم بالتكليف في تنجزه وصحة المؤاخذة عليه, بل لا بُدَّ من إحراز موضوعه ومتعلقه, فإنَّ إحرازهما من حدود إحراز الحكم وقيوده, ومع عدم إحراز ذلك يجري دليل البراءة؛ عقلياً كان أو نقلياً كما تقدم بيانه مفصلاً, ولكن ذكر بعضالأصوليين في مقام الإستدلال أنَّ المعروف عندهم جريان البراءة العقلية والنقلية كلتاهما في الشبهات الموضوعية مطلقاً؛ أمّا البراءة النقلية فلإطلاق بعض أدلتها اللفظية كحديث الرفع ونحوه وإنْ كان بعضها الآخر تختص بالشبهات الحكمية وبعضها الآخر ربما يختص بالشبهة الموضوعية كقول الإمام الباقر علیه السلام : (كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ حَلَالٌ وحَرَامٌ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ)(1), ولكن ذكر

ص: 336


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج6 ص339.

بعضهم بأنَّ هذا الحديث وإنْ ورد في موارد العلم الإجمالي بقرينة قوله علیه السلام : (فِيهِ حَلَالٌ وحَرَامٌ), وقوله علیه السلام : (حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ)؛ فيدلُّ على البراءة في الشبهة البدوية بالدلالة الإلتزامية وحيث أنَّ البراءة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي والشك في المكلف به فيسقط مدلوله المطابقي فلا يمكن التمسك بالمدلول الإلتزامي أيضاً للتبعية بين الدلالتين, ولكن الكلام في أنَّ مفاد هذا الحديث هل يختص بموارد العلم الإجمالي, وعلى فرضه فهل يشمل الأطراف المحصورة وغير المحصورة معاً, أم يختص بالأول, فإذا أمكننا إثبات الإختصاص بالمحصورة وعدم شموله لغير المحصورة فإنَّه يمكن إثبات البراءة في الشبهات البدوية بالملازمة, وسيأتي البحث عن جميع ذلك مفصلاً عند البحث عن مفاد هذا الحديث في مبحث العلم الإجمالي كما تقدم في إمكان جريان البراءة في أطراف العلم الإجمالي.

وأمّا البراءة العقلية فإنَّه بناءً على ما ذهب إليه المشهور من جريانها في الأحكام الشرعية, فقد ذهب بعضهم إلى عدم جريانها في الشبهات الموضوعية لتمامية البيان من قبل المولى كبروياً وإنَّما الشك في صغرى الحكم, وليس من وظيفة المولى بيانه, ولكن ذهب الأكثر إلى جريانها أيضاً وأُجيب عن الإشكال المزبور بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكرناه آنفاً من عدم كفاية العلم بالتكليف في تنجزه وصحة المؤاخذة عليه بل لا بُدَّ من إحراز موضوعه ومتعلقه فإنَّ إحرازهما من حدود الحكم وقيوده ومع عدم إحرازهما تجري البراءة العقلية لعدم تمامية البيان.

الوجه الثاني: إنَّ المراد بالبيان الإظهار وهو كما يتوقف على وصوله كبروياً كذلك يتوقف على وصوله صغروياً.

ص: 337

وأورد عليه بأنَّ هذه قاعدة عقلية وليست نصاً شرعياً حتى يبحث في معنى كلمة البيان لغةً وعرفاً, وإنَّها هل تشمل الشبهات الموضوعية أم لا.

وفيه: إنَّه ليس الكلام في مفهوم البيان بل في سعته وضيقه, فإنَّه إذا قلنا بأنَّ الموضوع والمتعلق من حدود الحكم وقيوده فإنَّ البيان لا بُدَّ أنْ يشملهما ومع عدم إحرازهما تجري البراءة لعدم تمامية بيان الحكم.الوجه الثالث: إنَّ المراد بالبيان في القاعدة العلم لا المعنى اللغوي لكلمة البيان فيكون الملاك في هذه القاعدة عدم المقتضي للتحريك الذي هو العلم, وهو ثابت في الشبهتين الموضوعية والحكمية على حدٍّ سواء, وهو يرجع إلى ما ذكرناه من عدم وجوب التحريك بمجرد العلم بالحكم بل لا بُدَّ من العلم بموضوعه ومتعلقه لأنَّهما من حدوده وقيوده, والظاهر أنَّ ما ذكروه يرجع إلى الوجه الأول وإنْ اختلفت العبارات.

والحقُّ جريان البراءة العقلية والنقلية في الشبهة الموضوعية مطلقاً؛ وجوبية أو تحريمية, بجميع أقسامها.

المقام الثاني: وقع الكلام في بيان الضابط في الشبهة الموضوعية؛ وقبل الدخول في ذلك نقول أنَّ التكليف له أطراف أربعة:

الأول: نفس الحكم والتكليف من الوجوب والحرمة, أي الإنشاء أو الإعتبار الخاص.

الثاني: المتعلق كالشرب في (لا تشرب الخمر) والصلاة في (تجب الصلاة).

الثالث: الموضوع؛ وهو متعلق المتعلق, كالخمر في (لا تشرب الخمر) والعالم في (أكرم العالم).

الرابع: القيود المأخوذة في التكليف؛ إمّا أنْ ترجع إلى نفس التكليف كالبلوغ والعقل والقدرة وهي الشرائط العامة, وإمّا أنْ ترجع إلى خصوص تكليف معين كدخول الوقت والإستطاعة وهما الشرائط الخاصة. وحينئذٍ؛ إن كان الشك يرجع إلى الأول أي نفس

ص: 338

التكليف مع قطع النظر عن أطرافه الثلاثة الأخرى كانت من الشبهة الحكمية لا محالة, وقد عرفت أنَّها مجرى البراءة بلا إشكال, وليس كلامنا فيه في المقام وكذا إذا كان الشك في الطرف الرابع وهو الشروط العامة أو الخاصة فلا إشكال في جريان البراءة لأنَّه شك فيما يستتبع التكليف فيشك في أصله فلا إشكال في هذين القسمين إنَّما الكلام في الطرفين الآخرين, وقد اختلفوا في بيان الضابط على أقوال:

القول الأول: ما ذكره المحقق النائيني(1) من أنَّ الضابط في الشبهات الموضوعية أنَّه إذا كان الشك فيما يستتبع التكليف كان مجرى البراءة, وإنْ كان الشك في أمر خارجي لا يستتبع التكليف بل التكليف يستتبعه, فهو مجرى الإحتياط لأنَّه من الشك في الإمتثال بحسب الحقيقة وتفصيل ذلك أنَّه إذا كان الشك في الطرف الثاني أي متعلق الحكم فإنَّه تارةً؛ يفرض فيما ليس له طرف ومتعلق كحرمة الغناء ووجوب التكلم من دون أنْ يتعلق بشيء, ففي هذا الفرض يكون الشك في فعل المكلف نفسه وهذا إنَّما يعقل في ما إذا كان أمراً تسبيبياً لا فعلاً مباشرياً, إذلا معنى لشك الفاعل في فعل نفسه إلا بعد العمل الذي هو مجرى قاعدة الفراغ, وهو خارج عن محل البحث والشك في تحقق الفعل التسبيبي كالقتل بإطلاق النار عليه يكون من الشك في المحصل الذي هو من أوضح موارد الشك في الإمتثال الذي هو مجرى قاعدة الإشتغال ولا يكون فيما يستتبع التكليف كما في سابقيه من الأطراف.

وأخرى؛ يفرض له متعلق وطرف فيمكن أنْ يكون الشك في المتعلق بلحاظ طرفه, كما إذا شك في مكان معين أنَّه من عرفات ليكون فيه من الوقوف بعرفه أم لا يكون كذلك؛ فلا يجزي الوقوف فيه, وهنا؛ إمّا أنْ تكون الشبهة حكمية أو تكون موضوعية, وفي القسم

ص: 339


1- . رسالة في اللباس المشكوك بغير المأكول، ضمن كتاب منية الطالب؛ ج2 ص289.

الأخير فصل بعضهم بين الشبهة الوجوبية كما في وجوب الوقوف بعرفة وبين الشبهة التحريمية كما في حرمة الإفاضة من عرفات.

ففي الأولى يجري الإشتغال؛ لأنَّ الشك في سعة الإمتثال لا فيما يستتبع التكليف لأنَّ التكليف بوجوب الوقوف بعرفات فعلي معلوم على كل حال.

وفي الثانية تجري البراءة؛ لكون الشك في انطباق عنوان الإفاضة من عرفات في ذلك المكان فهو الشك فيما يستتبع التكليف, لأنَّ إنطباق عنوان الإفاضة على هذا المكان من عرفات على نحو مفاد كان الناقصة يكون من قيود التكليف بالحرمة وفعليته, لأنَّ المولى إنَّما يحرم ما يصدق عليه أنْ يكون من الإفاضة من عرفات, فصدق هذه الشرطية من قيود التكليف بالحرمة بخلاف التكليف بالوجوب, فإنَّ مطابقة الفعل الخارجي مع العنوان الذي تعلق به الأمر يكون في عهدة المكلف.

وأمّا إ ذا كان الشك في الطرف الثالث؛ أي موضوع الحكم فإنَّه يفرض تارةً؛ أنْ يكون الموضوع أمراً جزئياً مفروغاً عن وجوده في الخارج وإنَّما الشك في إضافة المتعلق إليه كما في القبلة, فإنَّ الشك حينئذٍ بحسب الحقيقة ليس في الموضوع المستتبع للتكليف لأنَّه مفروض الوجود بل يكون في الإمتثال وتحقيق الواجب فيكون مجرى قاعدة الإشتغال. وأخرى؛ يفرض كلياً ويكون مأخوذاً بنحو صرف الوجود كما في (توضأ بالماء) فإنَّه إذا فرض الشك في وجوده خارجاً من الشك في الموضوع المستتبع للتكليف فتجري البراءة, أمّا إذا كان الشك في فرد من الأفراد لا في أصل وجوده فليس الشك في الموضوع المستتبع للتكليف, لأنَّ الموضوع صرف الوجود وهو معلوم على كلِّ حال ولكن الشك في سعة دائرة الإمتثال وإمكان تطبيق الواجب على الفرد المشكوك فيجيب الإحتياط. وثالثة؛ يفرض كلياً يكون مأخوذاً بنحو مطلق الوجود كما في (أكرم العالم), فإنَّ الشك يكون في كلِّ فرد منه شكاً في موضوع يستتبع التكليف الزائد لأنَّ الحكم ينحل حينئذٍ إلى قضايا عديدة

ص: 340

شرطية شرطها تحقق فرد من ذلك الموضوع وجزاؤها فعلية الحكم كما هو كذلك في القضايا الحقيقية, فمع الشك في كلِّ فرد يتحقق شك في تكليف فعلي زائد مرتبط بذلك الفرد فتجري البراءة عنه.ومن جميع ذلك يظهر أنَّ الضابط في الشبهة الموضوعية التي تجري البراءة فيها أنْ يكون الشك فيها مستتبعاً لفعلية التكليف من قيوده أو موضوعه لا في سعة دائرة الإمتثال وما يستتبعه التكليف بعد الفراغ عن فعليته.

وأشكل عليه بعدة وجوه:

منها: إنَّ ما ذكره من عدم تصور الشك في المتعلق إذا لم يكن له طرف لأنَّه لا يعقل أنْ يشك الإنسان في فعل نفسه إلا إذا كان أمراً تسبيبياً فهو غير صحيح, فإنَّه يعقل أنْ يشك الإنسان في عمله ولو لم يكن أمراً تسبيبياً كما إذا شك حين العمل في أنَّه مطابق لما يريده المولى أم لا.

ومنها: إنَّ البراءة لا تختص بما إذا كان موضوع الحكم خارجياً إنحلالياً بل يجري حتى فيما إذا كان واحداً وهو المجموع على نحو الشمولية, كما في (أكرم كل العلماء) على نحو المجموعية وشك في أنَّ زيداً من العلماء فإنَّه تجري البراءة فيه أيضاً لأنَّه شك بين الأقل والأكثر الإرتباطي بنحو الشبهة الموضوعية.

ومنها: إنَّ جريان البراءة في الشبهة الموضوعية لا يختص بما إذا كان الشك في قيود الحكم أو في تحقق موضوعه المأخوذ قيداً في التكليف بحسب الحقيقة كما سيأتي بيانه.

القول الثاني: ما ذكره المحقق الخرساني قدس سره (1) من أنَّ الضابط وحدة الحكم المشكوك وتعدده, فإنْ كان واحداً كان المرجع الإشتغال وإنْ كان متعدداً جرت البراءة, ولعله يريد

ص: 341


1- . كفاية الأصول؛ ص178.

بذلك أنَّ الحكم المشكوك إنْ كان شمولياً لا بدلياً يرجع إلى الشك في المتعلق لا في الموضوع أو سائر قيود الحكم.

القول الثالث: أنْ يكون الميزان والضابط في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية ليس إلا أنْ يكون الشك في ما يستتبع الحكم الفعلي الذي هو أمر وهمي تصوري لا تصديقي وأنَّ ما يستتبعه ليس خصوص ما أخذ قيداً أو شرطاً في جعل التكليف ولا ما جعل موضوعاً له, بل ما يتوقف عليه فعلية ذلك التكليف خارجاً واتّصاف الفعل بكونه مصداقاً لمتعلق التكليف بنحو مفاد كان الناقصة, فالميزان هو الشك في قيود التكاليف الفعلية بهذا المعنى.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ جميع ذلك يمكن إرجاعه إلى شيء واحد, وهو إنَّ الشبهة الموضوعية في حال عدم وجود ما يوجب إحراز متعلق الحكم وموضوعه فتجري البراءة حينئذٍ, لأنَّ إحرازهما من حدود إحراز الحكم وقيوده, فيرجع الشك فيه إلى ما يستتبع التكليف كما عبر به النائيني وغيره مِمّا ذكرناه؛ سواء كان تعلق الحكم بالموضوع على نحو العام السرياني الإنحلالي أم على نحو صرفالوجود أم على نحو العام المجموعي من حيث المجموع؛ فإنَّه تجري البراءة في جميع ذلك.

وما قيل من أنَّه في الأخير يكون التكليف معلوماً بحدوده وقيوده فيكون من موارد الإشتغال لا البراءة؛ فهو مردودٌ بأنَّ المجموع ليس إلا الأفراد ولا تحقق له في غيرها, والشك في بعضها يكون من الشك في أصل التكليف بالنسبة إليه فيكون من موارد الأقل والأكثر فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر كما هو واضح, مع أنَّه ليس في الشرعيات تكليف يكون من العام المجموعي بالنسبة إلى الأفراد فيكون من مجرد الفرض والتقدير.

نعم؛ قد يتصور ذلك بالنسبة إلى أجزاء المركب الذي تعلق به التكليف سواء كانت تلك الأجزاء من الأجزاء الزمانية كما في الصوم, أم غيرها كما في الصلاة مثلاً فإنَّ صحة الصوم متوقفة على إمساك جميع أجزاء الزمان الصومي من حيث المجموع فلو تخلّف في جزء من

ص: 342

أوله أو وسطه أو آخره بطل الصوم, كما أنَّ صحة الصلاة تتوقف على تحقق سائر شرائطها من إبتداء الصلاة إلى ختامها, فلو تخلّف بعضها في جزء من أجزائها بطلت, وهكذا في جميع المركبات التي تعتبر فيها شروط خاصة ولكن ذلك كله ليس من العام المجموعي بالنسبة إلى الأفراد.

المقام الثالث: في تطبيقات هذا الميزان؛ فإنَّه قد يقع فيها التباس, ولكن بعد ما عرفت من أنَّ المناط في الشبهة الموضوعية هو عدم إحراز المتعلق أو الموضوع فإنَّه تجري البراءة فيه, لأنَّ إحرازهما من إحراز الحكم وقيوده فيكون الشك فيهما مِمّا يستتبع التكليف, بلا فرق في كيفية تعلق الحكم بالموضوع سواء كان على نحو الحكم السرياني أم على نحو صرف الوجود أم على نحو العام المجموعي من حيث المجموع؛ كانت الشبهة وجوبية أم تحريمية, فمن موارد الإلتباس ما إذا شكّ في الدين أو الفائتة بين الأقل والأكثر فإنَّه تجري البراءة عن الأكثر لعدم إحرازه فيكون من الشك في أصل التكليف, ولكن نسب إلى المشهور الإحتياط في خصوص الفائتة المرددة بين الأقل والأكثر مع ذهابهم إلى البراءة في نظائرها كالدين وغيره, فإنْ كان ذلك لأجل القاعدة فهي تقتضي البراءة لا الإحتياط كما عرفت, مضافاً إلى أنَّ القاعدة فيها تقتضي عدم الإعتناء بالشكّ بعد الوقت فلا يجب القضاء. وإنْ كان من أجل استصحاب عدم الإتيان, فهو محكوم بقاعدة عدم الإعتناء بالشك بعد الوقت, وإنْ كان من أجل النص الخاص فهو مفقود. وإنْ كان من أجل كثرة اهتمام الشارع بالصلاة, ولكنه لا يقتضي وجوب الإحتياط وإنْ اقتضى حسنه واستحبابه, ولعله من أجل ذلك اختار بعضهم التفصيل بين ما إذا علم عدد الفوائت ثم عرض عليه النسيان فتردد بين الأقل والأكثر فإنَّه يجب الإحتياط بإتيان الأكثر وبين ما إذا حصل التردد من أول الأمربلا سبق العلم فلا يجب. وهو مردود أيضاً بما عرفت من أنَّ المسألة من صغريات الشك في أصل التكليف على كلِّ تقدير.

ص: 343

ومن موارد الإلتباس ما إذا وقعت الطبيعة متعلقاً للتكليف إيجاباً أو تحريماً, وقد عرفت أنَّه لا يهم كيفية تعلق الحكم بها فيما إذا أوجب الشك فيه عدم إحراز المتعلق, فإنَّه تجري البراءة لأنَّ إحرازه من موجبات إحراز الحكم, ولكن ذكر بعضهم تفصيلاً في ذلك، وأنَّ تعلقه يتصور على وجوه:

الوجه الأول: أنْ تكون ذات الطبيعة متعلقاً للتكليف والحكم, وهو الذي يعبر عنه بالطبيعة الصرفة, فقيل أنَّه إذا كان الحكم إيجاباً يكون بدلياً فلا تجري البراءة عند الشك في انطباقه خارجاً، وإنْ كان نهياً يكون شمولياً فتجري البراءة عند الشك في انطباقه خارجاً, وقد حاول السيد الصدر قدس سره (1) أنْ يرفع الإلتباس بالقول بأنَّ شمولية النهي تارةً؛ تكون في عالم الجعل بمعنى انحلاله إلى نواهي وأحكام عديدة بعدد العناوين, فيكون لكلٍّ منها امتثال وعصيان مستقل بخلاف الأمر؛ فإنَّه لا يدلُّ إلا على وجوب واحد متعلق بصرف وجود الطبيعة ويسقط بإتيان أول الوجود.

وأخرى؛ شمولية النهي في عالم الإمتثال, فإنَّه فرق بين الأمر والنهي فيه وذلك لأنَّ الأمر الواحد يكفي في امتثاله الإتيان بمصداق منه وفي النهي لا يتحقق الإمتثال إلا بترك تمام الأفراد إلى الطبيعة.

والحقُّ أنَّ ما ذكره صحيح في مرحلة التصور والإفتراض, وأمّا في المرحلة الفعلية والإمتثال الذي هو مفروض الكلام فإنَّ الشمولية في النهي ما ذكره من تعلقه بالطبيعة, ولا يتحقق الإمتثال إلا بتركها, بخلاف الأمر؛ فإنَّه قد تعلق بالطبيعة التي تتحقق في فرد منها.

والشكّ في كلِّ واحد منهما؛ إنْ كان في الموضوع والمتعلق فإنَّه يرجع إلى الحكم سواء كان الموضوع بدلياً أم شمولياً وهو في الأمر لا يوجب الشك في الحكم وفي النهي يوجب ذلك, ومن أجل ذلك لا تجري البراءة في الأول دون الثاني.

ص: 344


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص147.

الوجه الثاني: أنْ يتعلق الحكم على نحو مطلق الوجود, أي العام الإستغراقي, ومعناه انحلال الحكم إيجاباً أو تحريماً بعدد المصاديق فيكون مجرى البراءة.

الوجه الثالث: أنْ يتعلق الحكم بالوجود الأول من الطبيعة فيكون في الأمر والوجوب بدلياً وفي النهي والتحريم شمولياً بلحاظ الأفراد العرضية من الوجود الأول لأنَّ إعدامه من الطبيعة لا يتحقق إلا بترك جميع الأفراد العرضية بخلاف إيجاده, أمّا إذا شك في فرد خارجي كان مجرى البراءة في الشبهة التحريمية دون الوجوبية, لأنَّه شك في سعة دائرة الإمتثال فيجب الإحتياط, ولكن الصحيح ما ذكرناه آنفاً في المقام أيضاً فإنَّه إذا لم يحرز الموضوع أو المتعلق فإنَّه لم يحرزالحكم ويوجب الشك فيه فالمرجع البراءة في كلٍّ منهما إلا أنْ لا يحصل شك في الحكم بعد إحرازه وهو كذلك في الأمر دون النهي.

الوجه الرابع: أنْ يكون على نحو العموم المجموعي فيكون حكماً واحداً؛ إيجاباً أو تحريماً لا أحكاماً عديدة, فقيل بجريان البراءة في الشبهة الوجوبية لأنَّه من الشك بين الأقل والأكثر الإرتباطيين بخلاف الشبهة التحريمية لكون النهي عن المجموع حرمة المجموع, وقد تقدم الجواب عن ذلك وقلنا أنَّه في كلٍّ منهما مجرى البراءة؛ إمّا في الأمر لأنَّه من الشك بين الأقل والأكثر, وإمّا في التحريم, وقد تعلق بها بالأكثر, فيجب تركه على كلِّ حال, ويشك في لزوم ترك الأقل أيضاً فتجري البراءة.

الوجه الخامس: أنْ يكون متعلق الحكم على نحو مطلق الوجود, أي أمراً مسبباً حاصلاً من مجموع أفراد الطبيعة, وهنا لا تجري البراءة لا في الشبهة الوجوبية ولا في الشبهة التحريمية معاً لأنَّه شك في المحصل.

والصحيح ما ذكرناه من الميزان في جميع تلك الوجوه.

ص: 345

التنبيه الخامس: في جريان البراءة في المستحبات

أمّا البراءة العقلية فلا مجرى لها فيها, لأنَّها فرع ثبوت العقاب في مورد الشك ولا عقاب في ترك المستحبات.

أمّا البراءة النقلية فقد اختلف العلماء في ثبوتها فيها, فذهب بعضهم إلى التفصيل بين الإستحباب الضمني والإستحباب الإستقلالي, فقال بعدم جريانها في الإستحباب الإستقلالي وذلك لأنَّ جريان البراءة فيه لنفيه يلازم نفي إستحباب الإحتياط ظاهراً كما في جريان البراءة في الواجبات, حيث أنَّ جريان البراءة فيها يلازم نفي وجوب الإحتياط بالنسبة إليها, ومن المعلوم ثبوت استحباب الإحتياط بلا إشكال.

أمّا الإستحباب الضمني فإنَّه تجري البراءة فيه, أي عند الشك في شرطية أو جزئية أمر للمركب المستحب فإنَّ جريانها فيه طريق إلى جواز الإتيان بالباقي بقصد الأمر المطلق وعدم لزوم التشريع منه.

وبعبارة أخرى: تجري البراءة بالنسبة إلى الوجوب الشرطي لذلك الجزء أو الشرط دون الوجوب التكليفي.

وذهب آخرون -كما هو الصحيح- إلى عدم جريان البراءة في المستحبات مطلقاً؛ لا الإستقلالي ولا الضمني؛ أمّا الأول فلعدم شمول أدلَّة البراءة الشرعية له فإنَّها إنَّما تدلُّ على نفي الكلفة والإلزام والعهدة وأنَّ سياقها سياق الإمتنان, مِمّا يدلُّ على اختصاصها بالتكاليف الإلزامية المشكوكة.

وأمّا الإستحباب الضمني؛ فلأنَّ جريان البراءة فيه إنْ أثبت إطلاق الأمر فيجوز إتيان الباقي بقصد الأمر فهو من الأصل المثبت, وإنْ أريد منه نفي حرمة التشريع في الإتيان بالباقي بقصد الأمر الجزمي فإنَّها تثبت بمجرد الشك ولا تنفع البراءة في نفيها.

ص: 346

وأمّا ما ذكر في الإستدلال لنفي البراءة في القسم الأول من أنَّه لو أجرينا البراءة لنفي الإستحباب الإستقلالي يستلزم نفي استحباب الإحتياط. وهو مردود لاتفاق الكلّ على حسنه واستحبابه.

فإنَّه يرد عليه:

أولاً: إنَّه لا نسلم ثبوت استحباب الإحتياط, فإنَّه إنْ أريد منه حسن الإحتياط عقلاً أو إستحبابه شرعاً الثابت بأخبار من بلغ كما تقدم بيانه فإنَّه أجنبي عن مدلول البراءة الشرعية, لأنَّها تنفي الإستحباب الشرعي الطريقي الظاهري, ولا ربط له بالحسن العقلي أو الإستحباب النفسي.

ثانياً: إنْ أريد منه استحباب الإحتياط شرعاً في الشبهات الحكمية كحكم ظاهري طريقي وهو يثبت بأخبار الأمر بالإحتياط التي استفاد الأخباريون الوجوب منها بخلاف الأصوليين الذين يذهبون إلى أنَّها إرشاد إلى حكم العقل في موارده أو الحمل على محامل كما تقدم بيانه, فلا مانع من جريان البراءة في نفي الإستحباب الواقعي المشكوك كحكم طريقي من هذه الناحية فقط وإنْ نفينا جريان البراءة فيه من جهة أخرى كما تقدم آنفاً.

ص: 347

ص: 348

الفصل الثالث في أصالة التخيير

اشارة

الفصل الثالث (1)

إنّ الواقعة المشتبهة تارةً؛ يدور الحكم فيها بين الحرمة وغير الوجوب, وأخرى؛ يدور بين الوجوب وغير الحرمة, وثالثة؛ يدور الأمر فيها بين الحرمة والوجوب.

والأولى والثانية تقدم الكلام فيهما في الفصل السابق مفصلاً.

وأمّا الثالثة: وهي المعبّر عنه بدوران الأمر بين المحذورين؛ وهذا الفصل معقود للبحث فيه, والوجوب والحرمة قد يفرضان توصليين معاً وقد يفرض أحدهما على الأقل تعبدياً, وكلٌّ منهما إمّا أنْ تكون الواقعة المشتبهة غير متكررة, وإمّا أنْ تكون متكررة, والكلام يقع في عدة مقامات, وقبل الخوض فيها لا بُدَّ من تقديم أمور:

الأمر الأول: في بيان موضوع هذا الأصل

عرفت في أول مباحث الحجج أنَّ المشكوك إمّا أنْ تلحظ فيه الحالة السابقة وهو مجرى الإستصحاب, أو لا يلحظ ذلك, وحينئذٍ؛ فإنْ لم يعلم التكليف أصلاً -ولو بجنسه- فهو مجرى البراءة, وإنْ علم به فإنْ أمكن الإحتياط فيكون من مورد الإشتغال, وإنْ لم يمكن ذلك فهو مجرى التخيير, فيختص مورده بأمرين؛ أحدهما العلم بجنس التكليف, أي الإلتزام في الجملة فعلاً أو تركاً, والثاني عدم إمكان الإحتياط رأساً.

الأمر الثاني: للتخيير إطلاقات عديدة وهي:

1- التخيير التكويني الإرتكازي؛ كما إذا علم بأنَّ السكوت في آن واحد إمّا هو واجب أو حرام عليه, وهو مورد التخيير الفطري التكويني, لأنَّه بحسب إرادته الإرتكازية إمّا فاعل أو تارك.

ص: 349


1- . من فصول مباحث الأصول العملية.

2- التخيير العقلي؛ بما إذا كان في البين خطابان فعليان تامّا الملاك من كلِّ جهة, ولفقد المرجح وعدم تمكن المكلف في الجمع بينهما حينئذٍ يحكم العقل بالتخيير, وهناك مورد آخر للتخيير العقلي وهو الذي يكون بالنسبة إلى الأفراد, كما إذا كان خطاب فعلي معلوم بنوعه وله أفراد متساوية من كلِّ جهة؛ فالعقل يحكم بالتخيير بين الأفراد أيضاً.

3- التخيير الشرعي؛ فإمّا أنْ يكون مولوياً واقعياً كما إذا علم بوجوب فردين أو أكثر للتكليف واقعاً كما في خصال الكفارات, وإمّا أنْ يكون ظاهرياً كما في التخيير الشرعي في الأمارات المتعارضة.

4- التخيير العقلائي؛ الذي يحكم به نوع العقلاء في كلِّ ما تردد بين شيئين ولم يعلم أحدها بالمخصوص.

إذا عرفت أقسام التخيير وموارد جريانها نقول أنَّ التكليف المعلوم جنسه إذا كان توصلياً فلا يجري فيه تلك الأقسام إلا القسم الأول وهو التخيير الفطري التكويني, لأنَّه بحسب إرادة الإنسان الإرتكازية إمّا فاعل أو تارك, فلو علم بأنَّ السكوت في آن واحد إمّا هو واجب أو حرام عليه فلا بُدَّ أنْ يفعل أحدهما بحسب ارتكازه, ولا يجري فيه التخيير العقلي بكِلا قسميه لأنَّ التكليف فيه معلوم بجميع خصوصياته, ولكن إمّا أنْ يتعارض مع تكليف آخر في مقام الإمتثال ولم يتمكن المكلف من الجمع بينهما؛ فالعقل يحكم بالتخيير بينهما, وإمّا أنْ يكون التكليف معلوماً بنوعه وله أفراد متساوية من كلِّ جهة؛ فالعقل يحكم بالتخيير بالنسبة إلى الأفراد, والمفروض في الواجب التوصلي المفروض ليس إلا تكليف واحد معلوم بجنسه مردد بين الأمر والنهي ولم يتمكن الإحتياط أصلاً, وقد عرفت أنَّ العقل وإنْ كان يحكم بأنَّه إمّا تارك أو فاعل ولكن هذا غير التخيير العقلي كما هو واضح, فهو خارج عن التخيير العقلي تخصصاً.

ص: 350

كما أنَّه لا يجري التخيير الشرعي مطلقاً, لأنَّه في فرض العلم بوجوب فردين أو أكثر للتكليف واقعاً أو ظاهراً, والمفروض وحدة التكليف من كلِّ جهة وإنْ لم يعلم متعلقه, مع أنَّ الخطابات المولوية -تعينية كانت أو تخييرية- لا بُدَّ أنْ تكون صالحة للداعوية وإلا كانت لغواً, وفي المقام يكون المكلف بحسب إرادته الفطرية الإرتكازية إمّا فاعل أو تارك فلا يصلح الخطاب للداعوية, فيكون الحكم الشرعي فيه لغواً, إلا أنْ يكون إرشاداً محضاً إلى فاعلية المكلف بحسب ذاته وتكوينه, ولا كلام فيه لأنَّ الكلام في الخطاب المولوي بلا فرق فيه بين التخيير الواقعي كما في خصال الكفارات أو الظاهري كما في التخيير الشرعي في الأمارات المتعارضة, كما أنَّ في التخيير الشرعي الواقعي يكون كلّ واحد من الطرفين أو الأطراف تام الملاك والخطاب وليس المقام كذلك لعدم الملاك إلا في الواحد.

وكذا لا تجري البراءة والحلية الشرعية, لأنَّ جريانهما في خصوص أحدهما -أي الواجب أو الحرمة- يكون بغير مرجح, وفيهما معاً مخالف للعلم بأصل الإلزام, وأمّا أصل العقاب في الجملة فقد يقال بعدمه لعدم كفاية العلم بجنس التكليف في العقاب عند العقلاء لعدم تنجزه بعد عدم إمكان المخالفة القطعية وإنَّما هو على مخالفة نوع التكليف بعد العلم به وتنجزه, نعم؛ قد يفرض أنَّه بجريان البراءة والحلية يكون هذا الجريان إرشاداً إلى حكم العقل بعد صحة العقاب.

هذا كلُّه فيما إذا كان التكليف المعلوم جنسه توصلياً, وأمّا إذا كان كلُّ واحد منهما أو أحدهما المعين تعبدياً فإنَّه لا إشكال في إمكان تصوير المخالفة القطعية بترك قصد القربة فتحرم, وإنْ لم تجب الموافقة لعدم إمكانها.

والظاهر أنَّه مع عدم ثبوت أحدهما بالخصوص يكون الحكم هو التخيير, بدعوى أنَّه الأصل لدى العقلاء في كلِّ ما تردد بين شيئين مثلاً ولم يعلم بالخصوص وإنْ كان فرق بين

ص: 351

هذا التخيير والتخيير في التوصلي، لأنَّه هناك فطري تكويني وهنا عقلائي إختياري, ولا بُدَّ من قصد القربة فيما يعتبر فيه, سواء كان كلّ منهما كذلك أم أحدهما؛ هذا إذا لم تكن مزية في أحدهما وإلا كان من موارد الدوران بين التعيين والتخيير كما تقدم بيانه, وسيأتي تفصيل ذلك كله إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: عرفت أنَّ مناط التخيير هو الجهل بالتكليف والتحيّر بالنسبة إلى الواقع وعدم الترجيح, وظاهر ذلك كون التخيير إستمرارياً, فلا موجب لزواله بعد الأخذ بأحدهما إلا لزوم المخالفة القطعية.

وربما يقال بأنَّه ليس بمانع لحصول العلم بها بعد العمل, لأنَّ المخالفة المحرمة ما إذا كانت عن علم وعمد عند الإرتكاب فيحصل العصيان حينئذٍ ولكنه ليس بسديد, لأنَّه مع العلم بوقوعه في الحرام في صورة استمرار التخيير يكون مثل العلم الإجمالي بالوقوع في الحرام في الأطراف التدريجية, وهو غير صحيح كما سيأتي من عدم الفرق بين التدريجية منها والدفعية وهو المناسب لمرتكزات المتشرعة أيضاً وليس لأحد من العلماء الترخيص فيه, ومن أجل ذلك يصحُّ القول بأولوية الموافقة الإحتمالية في المقام عن الموافقة القطعية لاستلزام الأخير المخالفة القطعية أيضاً, وعليه؛ فإذا اختار أحدهما سقط حقه في التخيير في الآخر.

هذا ما اردنا إثباته في التمهيد وتفصيل ذلك يقع في مقامات:

المقام الأول: وفيه نقاط من البحث:

النقطة الأولى: إذا كان الطرفان توصليين وكانت الواقعة غير قابلة للتكرار كما إذا علم بأنَّه حلف على سفر معين أو على تركه؛ وقد اختلف الأعلام في جريان البراءة العقلية أو الشرعية أو عدم جريانهما, وجريان التخيير العقلي, أو التفصيل في جريانهما على أقوال.

ص: 352

وقد عرفت في الأمر الثاني مِمّا تقدم أنَّه لا مجرى للبراءة العقلية والشرعية في المقام؛ أمّا البراءة العقلية فإنَّ عدم جريانها لأجل عدم صحة العقاب في مثل المقام المجهول فيه التكليف وعدم تنجزه, وقيل: بأنَّها منفية لعدم تنجز العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي, فإنَّه وإنْ لم يقصر هذا العلم الإجمالي عن سائر العلوم الإجمالية في سائر المقامات لأنَّه بيان تام على ثبوت التكليف كما هو واضح, ولكن الكلام في تأثير هذا العلم والبيان في تنجيز الفعل أو الترك في المقام بحيث يوجب إدخاله الطاعة والمولوية أو صحة العقاب, فإنَّ هذا العلم لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولا حرمة المخالفة القطعية ولا وجوب الموافقة الإحتمالية؛ إذ الأول والثاني غير ممكنين بحسب الفرض, والثالث ترجيح بلا مرجح, فيستحيل التخيير كما يستحيل ثبوت حقّ الطاعة لأنَّه يكون فيما هو خارج عن القدرة, وكل ذلك أحكام عقلية تشكل البرهان على عدم اقتضاء العلم الإجمالي في مواردالدوران بين المحذورين, فالعلم الإجمالي بأصل الإلزام غير مؤثر؛ لا في حق الطاعة ولا في العقاب, لكن يبقى إحتمال كل من الوجوب والحرمة؛ فإنَّه تارةً؛ يلاحظ اقتضاؤه بما هو طريق للعلم الإجمالي ويستمد منجزيته منه, وأخرى؛ يلاحظ اقتضاؤه للمنجزية في حدّ نفسه.

أمّا الأول؛ فقد عرفت أنَّ العلم الإجمالي في المقام لا يعقل أنْ يكون منجزاً أصلاً.

وأمّا الثاني؛ فقد تقدم أنَّه لو تنجز كلّ واحد منهما معاً لاستلزم المحال, وإنْ كان أحدهما منجزاً دون الآخر لاستلزم الترجيح بلا مرجح فلا يتنجز شيء منها, وهذا هو معنى التخيير الفطري الذي تقدم بيانه, فلا يكون احتمال الوجوب واحتمال الحرمة منجزاً في المقام؛ لا بملاك الطرفية للعلم الإجمالي ولا في نفسهما ولو لم يكونا طرفاً للعلم الإجمالي, ولا فرق في جميع ذلك بين القول بالبراءة العقلية وعدمه كما ذهب إليه السيد الصدر,

ص: 353

وذهب المحقق العراقي قدس سره (1) إلى عدم جريانها أيضاً, وذكر في وجه ذلك العلم الإجمالي وإنْ لم يكن منجزاً, وهو يعني ترخيص العقل في الإقدام على الفعل أو الترك, إلا أنَّه ترخيص بملاك الإضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز عقلاً من تحصيل الموافقة القطعية لا بملاك عدم البيان الذي هو ملاك البراءة العقلية, وعليه؛ فإذا أريد إبطال منجزية العلم الإجمالي بنفس البراءة العقلية فهو مستحيل, لأنَّها فرع عدم البيان, ومن المعلوم أنَّ البراءة العقلية لا تحكم بأنَّ هذا بيان أو ليس بيان, لأنَّها لا تنقح موضوعها بل لا بُدَّ من إثبات عدم البيان في الرتبة السابقة عليها فلا بُدَّ أنْ يكون بقاعدة عقلية أخرى لا بقاعدة قبح العقاب, تلك القاعدة هي عدم إمكان إدانة العاجز المعبّر عنها بالتخيير العقلي إذا أريد إجراء البراءة العقلية بعد إبطال منجزية العلم الإجمالي وبيانيته بالقاعدة العقلية التي أشرنا إليها فلا معنى لذلك, لأنَّ تلك القاعدة بنفسها يتكفل الترخيص العقلي ولا فائدة في محصل للترخيص في طول الترخيص.

وأورد عليه بأنَّ الأثر المترتب على إجراء البراءة العقلية إنَّما هو لإثبات تأمين نفي العقاب من ناحيته, وأمّا الأثر المترتب على نفي بيانية العلم الإجمالي بملاك الإضطرار فهو شيء آخر وملاكه تام من ناحيته مِمّا ينفي البراءة العقلية غير ما ينفي بملاك الإضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز وإنْ اشتركا في إسقاط العلم الإجمالي عن البيانية والمنجزية.

والحقُّ أنَّ ذلك تطويل لا طائل تحته لما ذكرنا من أنَّ مثل هذا العلم الإجمالي الذي لا يكون فيه إلا التحيّر بالنسبة إلى الواقع لا أثر له في المنجزية ولا عقاب بالنسبة إلى تركه كما لا يثبت حق الطاعة كما عرفت.

هذا كلُّه بالنسبة إلى البراءة العقلية فلا تجري بملاك عدم البيان.

ص: 354


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث ص293، ومقالات الأصول؛ ج2 ص223.

وأمّا البراءة بملاك التحيّر فلا إشكال في جريانها, وأمّا البراءة الشرعية فقد اختلف العلماء في جريانها أيضاً, وقد عرفت أنَّها لا تجري أيضاً, واستدلوا عليه بأمور:

ما أفاده المحقق العراقي قدس سره أيضاً(1) بمثل ما ذكره في المنع عن البراءة العقلية من أنَّ جريانها فرع عدم منجزية العلم الإجمالي في المرتبة السابقة, لأنَّ منجزيته تمنع عن البراءة، وسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في المقام إنَّما يكون بملاك الإضطرار وعدم إمكان إدانة العاجز, وفي طول ذلك لا معنى للبراءة والترخيص, وقد عرفت الجواب عنه من أنَّ العقلاء لا يرون منجزية هذا العلم الإجمالي الذي لا أثر فيه إلا التخيير.

إنَّ جريان البراءة الشرعية يعني نفي إيجاب الإحتياط شرعاً بلحاظ الوجوب أو الحرمة وأمّا جعل إيجاب الإحتياط الذي روحه ترجيح أحد الطرفين المحتملين على الآخر في مقام الحفظ في موارد الدوران بين المحذورين فهو معقول, فليست البراءة الشرعية كالبراءة العقلية من هذه الناحية.

ولكن على القول بأنَّه إذا نفينا منجزية العلم الإجمالي في المقام وقلنا بعدم تأثيره بحكم العقلاء كما تقدم بيانه فلا يحتمل جريان البراءة الشرعية, وأمّا إيجاب أحد الطرفين شرعاً حينئذٍ إنَّما يكون بملاك نفسي لا بلحاظ الإحتياط كما هو واضح.

1- ما أفاده المحقق النائيني قدس سره (2) من أدلَّة البراءة الشرعية؛ ما كان منها بلسان أصالة الحلّ؛ فلا يشمل المقام لأنَّ الحلية غيرمحتملة للعلم بالإلتزام, وإنَّ الأمر مردد بين الوجوب والحرمة. وكذا ما كان منها بلسان رفع ما لا يعلم؛ فإنَّه لا يشمل المقام أيضاً, لأنَّ الرفع هنا طريقي يقابل الوضع الظاهري وهو إيجاب

ص: 355


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص83.
2- . فوائد الأصول؛ ج3 ص162-163، وأجود التقريرات، ج2، ص232.

الإحتياط, ومن الواضح أنَّ إيجاب الإحتياط تجاه الوجوب أو الحرمة المشكوكين غير معقول فلا معنى للرفع والبراءة الشرعية أيضاً.

وفيه: إنَّ الرفع الظاهري في كلٍّ من الوجوب والحرمة يقابله الوضع في مورده وهو ممكن فيكون الرفع ممكناً أيضاً, ومجموع الوضعين وإنْ كان مستحيلاً لكن كلٌّ من الرفعين لا يقابل إلا وضعاً واحداً وهو ممكن مع أنَّ إمكان جعل حكم ظاهري بالحلية لا يتوقف على أنْ تكون الحلية الواقعية محتملة, لأنَّ حقيقة الحكم الظاهري ترجيح أحد نوعي الأغراض الواقعية المتزاحمة, فلا وجه للقول بتقومه باحتمال مماثلة الحكم الواقعي له بل المراد منه التأمين عنه أو تنجيزه, ومع العلم به لا معنى لجعل شيء مؤمناً عنه أو منجزاً له.1- المنع من شمول أدلَّة البراءة الشرعية للمقام, لأنَّ المنساق منها -لا سيما مثل أصالة الحل- أنَّها علاج مولوي لحالات التزاحم بين الأغراض الإلزامية والترخيصية في مقام الحفظ بتقديم الغرض الترخيصي على الإلزامي؛ لا علاج التزاحم بين غرضين إلزاميين, كما في المقام.

وفيه: إنَّه صحيح من بعض أدلَّة البراءة كدليل الحلية ولكن بعضها الآخر كدليل الحجب يأبى عن ذلك, فإنَّه يدلُّ على رفع كلّ حكم مشكوك وهو صادق على كلّ واحد من الوجوب والحرمة ولا موجب لرفع اليد على إطلاقه وصرفه إلى ما ذكر.

2- الوجوب أو الحرمة؛ فهو ترجيح بلا مرجح, وفيهما معاً مخالفة للعلم الإجمالي بأصل الإلتزام, وبالنسبة إلى اصل العقاب في الجملة فلا أثر لها للعلم بعدم العقاب لما عرفت من أنَّه لا عقاب في مورد العلم بجنس التكليف لعدم كفايته في تنجزه بعد عدم أمكان المخالفة القطعية, وإنَّما هو على مخالفة نوع التكليف بعد العلم به وتنجزه, والظاهر أنَّ ما ذكره الأصوليون في عدم جريان البراءة الشرعية في المقام يرجع إلى ما ذكرناه وإن قصرت عباراتهم وأطالوا الكلام في ذلك فراجع.

ص: 356

ومن جميع ذلك يتبين عدم جريان البراءة في موارد الدوران بين المحذورين بنكتة ثبوتية وإثباتية.

النقطة الثانية: هل يجري إستصحاب عدم التكليف في الطرفين الذي نتيجته البراءة أيضاً؟

قد يقال بجريانه لعدم تأتي ما ذكر سابقاً فيه, إذ لا ظهور لدليل الإستصحاب لكونه بملاك التسهيل وذهب المحقق النائيني قدس سره إلى عدم جريانه(1), لكون الإستصحاب أصلاً تنزيلياً ولا يجري أصلان تنزيليان مع العلم الإجمالي بالخلاف, لأنَّ الأصل التنزيلي فيه شائبة الأمارية.

وهو صحيح في الجملة إذا قبلنا بكون الإستصحاب من الأصول التنزيلية كما سيأتي توضيح ذلك مفصلاً إنْ شاء الله تعالى.

النقطة الثالثة: إنَّ ما تقدم فيما إذا لم تكن مزية في أحد الجانبين والا فالتقديم في ذي المزية, وأمّا بالنسبة إلى الأصل الشرعي كالبراءة أو الإستصحاب فلا كلام زيادة على ما ذكرناه آنفاً, وأمّا من ناحية الأصل العقلي والوظيفة العملية فقد تقدم سابقاً في مسألة دوران الأثر بين التعيين والتخيير بيان الخلاف بين الأعلام فيها, حيث ذهب بعض إلى الأخذ بالمتعين لأنَّه الأهم من الطرفين إحتمالاً أو محتملاً, وإنَّه كما يحكم العقل بمنجزية أصل الإحتمال كذلك يحكم بمنجزية درجته الزائدة في أحد الطرفين.وذهب آخرون إلى البراءة؛ لعدم منجزية الإحتمال في نفسه وإنَّما المنجز هو العلم والبيان؛ وهو الصحيح؛ راجع ما ذكرناه سابقاً.

هذا كلُّه في فرض عدم إمكان التكرار مع كون الطرفين توصليين.

ص: 357


1- . فوائد الأصول؛ ج2 ص164.
المقام الثاني: فيما إذا فرض عدم تكرر الواقعة مع كون أحد الطرفين على الأقل تعبدياً,

كما إذا فرضنا الوجوب تعبدياً, مثل المرأة التي تشك في حيضها؛ فيدور الأمر بالنسبة إلى دخولها في المسجد الحرام في الحجّ بين الوجوب والحرمة, وقد ذهب المحقق الخراساني قدس سره (1) فيه بأنَّ العلم الإجمالي يكون منجزاً ويؤثر في اقتضاء حرمة المخالفة القطعية, لأنَّها ممكنة فيما إذا أتى بالفعل لا بقصد القربة, وإنْ لم يكن العلم مؤثراً في الموافقة القطعية لأنَّها غير ممكنة, وهذا المقدار يكفي في تنجز العلم الإجمالي.

واعترض عليه المحقق العراقي قدس سره (2) بأنَّ هذا مناقض مع مبناه في مسألة الإضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي لا بعينه, فإنَّه يقول بسقوط العلم الإجمالي عن التنجز رأساً حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية لمنافاة الترخيص التخييري مع التكليف المعلوم بالإجمال, والترخيص في المقام تخييري أيضاً, نعم؛ كلامه تام على المبنى الآخر القائل ببقاء منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة القطعية حتى مع الإضطرار إلى بعض أطرافه.

وقد تقدم في التنبيه الثالث إنَّه مع إمكان تصوير المخالفة القطعية في المقام وذلك بترك قصد القربة فإنَّه وإنْ لم تجب الموافقة لعدم إمكانها ولكن المختار هو التخيير أيضاً, لأنَّ الأصل لدى العقلاء في كلِّ ما تردد بين شيئين مثلاً ولم يعلم أحدهما بالخصوص هو التخيير, وذكرنا أنَّ هذا الأصل عقلائي إختياري, وحينئذٍ لا بُدَّ من قصد القربة فيما يعتبر فيه ذلك.

ويمكن أنْ يقال في وجه ذلك أيضاً أنَّ المقام بحسب الدقة من قبيل الإضطرار إلى أحد الطرفين بعينه الذي لا يكون العلم الإجمالي منجزاً, لأنَّه في طول الإضطرار إلى المخالفة الإحتمالية لعدم إمكان الموافقة القطعية, فلا يكون المكلف قادراً على الإتيان بالفعل بقصد

ص: 358


1- . كفاية الأصول؛ ص180.
2- . مقالات الأصول؛ ج2 ص83-84.

قربي لانتفاء الداعوية عند المكلف إذ هي متوقفة على أرجحية الفعل على الترك؛ إمّا بلحاظ غرض المولى أو حق طاعته, ومن المعلوم انتفائها, وذلك يقتضي عدم المخالفة القطعية ونسبته إلى الطرفين على حدٍّ سواء, وعليه؛ نقطع بسقوط الوجوب العبادي على تقدير ثبوته في نفسه لعدم القدرة على امتثاله فيصبح إحتمال الحرمة مشكوكاً بالشك البدوي وكذلك الحال لو كان كِلاهماتعبدياً, وحينئذٍ نقول بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز, وهذا هو الذي اعتمده العقلاء في المقام حيث يذهبون إلى التخيير.

وحاول بعضهم إثبات منجزية العلم الإجمالي في المقام, أي حرمة المخالفة؛ بأنَّ الإتيان بالفعل بداعٍ غير إلهي مقطوع الحرمة على كلِّ حال؛ إمّا لكونه محرماً بالحرمة النفسية إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال هو ذلك, أو بالحرمة الغيرية إذا كان التكليف هو الوجوب العبادي بناءً على أنَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص, لأنَّ الفعل بداعٍ آخر ضدٌّ للفعل بداعٍ قربيّ؛ غاية الامر تكون هذه الحرمة المعلومة تفصيلاً يحتمل سقوطها بالعجز عن إمكان تحصيل ملاكها, فيدخل تحت كبرى العلم بأصل التكليف والشك في السقوط من باب الشك في القدرة وهو مورد الإحتياط.

ويرد عليه: إنَّه فاسد بناءً ومبنىً؛ أمّا الثاني؛ فلفساد اقتضاء الأمر النهي عن ضده الخاص, وأمّا الأول؛ فلأن الحرمة الغيرية لا تدخل في العهدة وإنَّما الداخل فيها الغرض النفسي المطلوب مولوياً وهو مردد بين غرضين محتملين؛ أحدهما مقطوع السقوط بالعجز والآخر يشك في أصل ثبوته.

ولكن الصحيح أنَّ ما ذكره الأصوليون في المقام لا يرجع إلى محصّل ولا يخلو عن الإشكال، وأحسن ما يمكن الردّ به عن الإشكالات الواردة في المقام هو أنْ نرجع إلى ما ذكرناه آنفاً من أنَّ العقلاء يذهبون إلى التخيير في المقام, وقد عبرنا عنه بالتخيير العقلائي في كلِّ ما تردد بين شيئين ولم يعلم أحدهما بالخصوص, وحينئذٍ لا بُدَّ من قصد القربة فيما

ص: 359

إذا اختار المكلف الأمر العبادي, نعم؛ لو علم بوقوعه في الحرام في صورة استمرار التخيير فيكون مثل العلم الإجمالي بالوقوع في الحرام في الأطراف التدريجية, فإنَّه لا يصح حينئذٍ كما يأتي في بحث العلم الإجمالي من عدم الفرق بين التدريجية منها والدفعية كما هو مقتضى مرتكزات المتشرعة, وقد حاول السيد الصدر قدس سره التفصي من الإشكال فقهياً(1) بإثبات داعيين إلهيين في المقام؛ أحدهما الوجوب الداعي إلى الفعل والآخر احتمال الحرمة الداعي إلى الترك, فإذا فرض أنَّ كِلا الداعيين علَّة تامة في نفسه لتحريك المكلف ولكنه يبتلي بالمزاحمة بمثله, فاللازم على المكلف تحصيل داعٍ نفساني لترجيح الفعل على الترك الذي يكون كافياً في تحصيل قصد القربة في العبادات والتزاحم بمثله لا يضرّ بالقربية, لأنَّ جهة النقص إنَّما نشأت من المزاحمة بداعٍ قربيّ لا بداعٍ دنيوي, فلا يقاس بموارد المزاحمة مع داعٍ آخر دنيوي يحرك نحو ضده الذي لا بُدَّ من التماس ترجيح فعله بداعٍ دنيوي آخر, وتحصيل الداعي القربى في كلٍّ من الفعل والترك من المكلف ممكن في المقام,وذلك بأنْ يكون بداعي ترك المخالفة القطعية الذي به يتحقق الغرض الشرعي من الفعل أو الترك إذا كان الأمر به قريباً.

وهذا الذي ذكره صحيح فيما إذا كان الإبتلاء في المقام موجب لانتفاء قصد القربة, وحينئذٍ يلتمس لإثباته بهذه الطريقة وغيرها, ولكن الحقّ أنَّه مع ثبوت التخيير العقلائي لا موجب لسقوط الأمر فيما إذا اختار أحد الطرفين ومعه يمكن تحصيل القربة, فما ذكره تطويل بلا طائل تحته.

هذا كله فيما إذا فرض تساوي الطرفين, وأمّا إذا كان في أحدهما مزيّة فهو المتعين كما تقدم بيانه.

ص: 360


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص162.
المقام الثالث: فيما إذا كانت الواقعة قابلة للتكرار,

كما إذا فرضنا العلم إجمالاً بوجوب أو حرمة فعل ما يوم الخميس أو الجمعة معاً, والعلم الإجمالي الدائر بين المحذورين في كلٍّ من اليومين وإذا كان يستحيل مخالفته القطعية ولا يقبل التنجيز, إلا أنَّه يوجد علمان إجماليان آخران يمكن مخالفتهما القطعية:

أحدهما؛ العلم إجمالاً بوجوب الفعل في يوم الخميس أو حرمته في يوم الجمعة, ومخالفته القطعية تكون بالترك في يوم الخميس والفعل يوم الجمعة, كما أنَّ موافقته القطعية تكون بالفعل يوم الخميس والترك يوم الجمعة.

والآخر؛ عكس الأول, ومخالفته القطعية تكون بالفعل في يوم الخميس والترك يوم الجمعة, وموافقته القطعية تكون بالترك يوم الخميس والفعل يوم الجمعة, وهما يشتركان في أنَّه لو فعل في أحد اليومين وترك في الآخر فقد خالف مخالفة قطعية, وأمّا الموافقة القطعية فهي غير ممكنة, لأنَّ موافقة كلٌّ من العلمين تزاحم وتعاكس موافقة الآخر, إلا أنَّ الموافقة الإحتمالية بتركهما في اليومين أو فعلهما كذلك ممكنة, والكلام يكون في الوجوب بعد الفراغ عن منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات.

فقد ذهب المحقق الإصفهاني قدس سره إلى عدم الوجوب(1), لأنَّ المعلوم بالإجمال ليس إلا تكليفين؛ أحدهما التكليف في يوم الخميس, وعدم منجزيته مفروغ عنه لاستحالة مخالفته وموافقته القطعية, والآخر التكليف في يوم الجمعة, وهو أيضاً كذلك, وأمّا العلمان الإجماليان التدريجيان فهما من العلمين الدائرين بين المحذورين وليسا علماً بتكليف جديد وراء التكليفين اللذين رخص فيهما.

ص: 361


1- . نهاية الدراية؛ ج4 ص218-220.

وأشكل عليه بأنَّه يمكن فرض العلم التدريجي في المقام وذلك فيما إذا علم إبتداءً بأنَّه إمّا تعلق النذر بالفعل في كلٍّ من اليومين أو الترك في كلٍّ منهما, فالترك في كلِّ واحد من اليومين مع الفعل في اليوم الآخر طرفان للعلم الإجمالي في عرضه طرفية الترك والفعل في اليوم الواحد, وهذا يعني أنَّ التكليف قد تعلق به فيعرض واحد عِلمان إجماليان؛ أحدهما لا يمكن أنْ يتنجز والآخر يكون منجزاً لحرمة مخافته القطعية, والحقُّ هو مراعاة الموافقة الإحتمالية وأنَّها أولى من الموافقة القطعية؛ لاستلزام الأخير المخالفة القطعية أيضاً؛ هذا إذا لم يكن في البين أهمية لأحد العلمين على الآخر وإلا يتعين الأخذ به, وسيأتي تفصيل الكلام فيه في بحوث العلم الإجمالي إنْ شاء الله تعالى.

هذا تمام الكلام في أصالة التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين.

ص: 362

الفصل الرابع: أصالة الإحتياط

اشارة

الفصل الرابع(1)أصالة الإحتياط

تمهيد

عرفت مِمّا سبق أنَّه كلّما كان الشك في مورد في أصل التشريع وثبوته واقعاً فهو شكّ في أصل التكليف ويكون مورد البراءة وقد تقدم ما يتعلق بأصل البراءة.

وكلما علم بثبوت أصل التشريع فيه وشك في جهات أخرى فهو من الشك في المكلف به, وهو مورد الإحتياط والإشتغال.

والشك في المكلف به تارةً؛ يكون عند العلم الإجمالي بأصل التكليف. وأخرى؛ يكون المراد به الشك في الإمتثال الذي هو من الشبهة الموضوعية لا الشبهة الحكمية, والكلام في الأولى دون الثانية, والجهات الأخرى التي يقع فيها الشك حيث يرجع فيها الشك في المكلف به هي عديدة:

1- الشكّ في نوع التكليف بعد العلم بأصل جنسه؛ كما إذا علم بأصل الإلزام وتردد بين الوجوب والحرمة مع إمكان الإحتياط.

2- الشك في المتعلق؛ كما إذا علم الوجوب تفصيلاً وتردد متعلقه بين الظهر والجمعة مثلاً.

3- الشك في الموضوع الخارجي؛ كما إذا ترددت القبلة بين جهتين أو جهات.

وجميع ذلك تارةً؛ في الشبهة التحريمية, وأخرى؛ في الوجوبية. وكلٌّ منهما تارةً؛ يكون من المتباينين وهو ما لم يكن معلوم التنجز في البين, وأخرى؛ من الأقل والأكثر وهو ما تحقق فيه معلوم التنجز وشك في الزائد, والكلام يقع في مقامات:

ص: 363


1- . من فصول مباحث الأصول العملية.
المقام الأول: في منجزية العلم الإجمالي

المقام الأول: تقدم في مباحث القطع أنَّه لا إشكال في منجزية العلم الإجمالي, وهو تارةً؛ يلاحظ بالنسبة إلى حرمة المخالفة سواءً كان بمعنى الإلتزام بالجامع أم بقيوده فهذا مِمّا لا ريب فيه لأنَّ البيان بمقدار الجامع ثابت على كلِّ حال, وقد تسالم على ذلك عامة المحققين المتأخرين, وإنْ كان يظهر من بعض القدماء عدم اقتضائه لكن لم يظهر مقصودهم من ذلك إلا أنْ يكون مرادهم جريان الترخيص الشرعي في أطرافه, وقد تقدم الكلام فيه.

وأخرى؛ يلاحظ منجزيته بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية بإتيان جميع الأطراف وعدم جريان البراءة القطعية في بعض الأطراف بعد تحقق امتثال الجامع المعلوم؛ فقد ذهب المشهور إلى اقتضائه لوجوب الموافقة بحد نفسه, ولكن ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) في أحد تقريراته عدم اقتضائه للتنجيز بذاته وإنَّمايثبت نتيجة تساقط الأصول العقلية والشرعية في الأطراف, وربما ربط بعضهم ذلك بمعرفة حقيقة العلم الإجمالي في أنَّه يتعلق بالجامع أو أنَّه يتعلق بالواقع, وقد تقدم في بحث القطع شرح ذلك وذكرنا أنَّ الأقوال ثلاثة:

1- إنَّه يتعلق بالجامع.

2- إنَّه يتعلق بالفرد المردد.

3- إنَّه يتعلق بالواقع.

ص: 364


1- . ذهب المحقّق النائينيّ قدس سره على ما في تقريرات السيد الخوئي قدس سره (أجود التقریرات؛ ج2 ص245) إلى عدم اقتضائه للتنجيز بهذا المقدار، ولكنّ المشهور في مدرسة المحقّق الخراساني قدس سره هو الإقتضاء، وهو المنقول عن المحقّق النائيني في تقرير الشيخ الكاظمي (فوائد الأصول؛ ج4 ص9). والظاهر أنّ الاختلاف بين التقريرين باعتبار تعدّد الدورتين، لأنّ دورة البحث التي كتبها الشيخ الكاظميّ سبقت الدورة التي كتبها السيّد الأستاذ، فكأنّ الشي ء الّذي استقرّ رأي المحقّق النائيني رحمه الله عليه أخيراً هو القول بعدم الإقتضاء.

وحاول بعضهم رفع الخلاف والقول بأنَّه يتعلق بعنوان جامع يفترضه الذهن ويرمز به إلى الفرد الجامع الحقيقي, والصحيح؛ إنَّ الخلاف لا يرجع إلى حقيقة العلم الإجمالي بل إلى شيء آخر، سيأتي بيانه, وعلى أيِّ حال فقد ذهب بعض الأصوليين إلى عدم منجزيته للموافقة القطعية بناءً على جميع المسالك في حقيقة العلم الإجمالي وذلك لأنَّ العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة مثلاً لا يقتضي أكثر من وجوب الإتيان بأحدهما لا كِليهما وذكر في وجه ذلك بأنَّ المقدار الذي تمَّ عليه البيان إنَّما هو الجامع بينهما وأمّا خصوصية الظهر أو الجمعة فلا بيان عليهما, ومن الواضح أنَّ امتثال ما تم عليه البيان -وهو الجامع- إنَّما يتحقق عقلاً بإتيان أحدهما, وهذا البرهان يناسب جميع المسالك التي ذكرت في حقيقة العلم الإجمالي كما يظهر للمتأمل فيها بوضوح, وحينئذٍ لا يكون العلم الإجمالي منجزاً لوجوب الموافقة القطعية ولكن ذهب المشهور -كما عرفت- إلى منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية, واستدلوا على ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما يستفاد من كلمات المحقق النائيني قدس سره في بعض تقريرات تلامذته من أنَّ العلم الإجمالي وإنْ كان بنفسه لا يقتضي تنجيز الموافقة القطعية لكنه لما كان العلم الإجمالي مقتضياً بنحو العلية لحرمة المخالفة القطعية أوجب ذلك تعارض الأصول المؤمنة الشرعية والعقلية وتساقطهما في الأطراف, فيبقى الإحتمال في كلٍّ من الطرفين بلا مؤمن شرعي ولا عقلي فيتنجز التكليف المعلوم بالإجمال.

وأشكل عليه بأنَّه لا وجه لافتراض التعارض والتساقط في البراءة العقلية وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان, إذ لا منافاة أصلاً بين تنجيز الجامع وعدم تنجز كل من الخصوصيتين فمن أول الأمر تجري البراءة فيما زاد على الجامع لا في كلٍّ من الطرفين وإيقاع المعارضة بينها بل يستحيل ذلك, إذ لا معنى لوقوع التعارضفي حكم العقل لأنَّه

ص: 365

إنْ كان ملاك حكم العقل هو عدم البيان تامّاً في كلٍّ من الطرفين إستحال التصادم بين البرائتين وإلا لم تجر البراءة لعدم المقتضي لا للتعارض, نعم؛ ترك كِلا الطرفين يكون تركاً للجامع فيكون معاقباً بهذا اللحاظ لأنَّ الجامع معلوم فيتنجز الوجوب بمقدار إضافته إلى الجامع لأنَّه الذي تم عليه البيان.

وهذا وإنْ صحَّ في البراءة العقلية, ولكنه لا يتم في البراءة الشرعية التي تتبع مقدار ظهور الدليل عرفاً, وهو لا يساعد على هذا التفصيل.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي في أنّ الأول يعرض على الصورة الذهنية بالحدّ الإجمالي المبهم لا التفصيلي، وهذان الحدان الإجمالي والتفصيلي يعرضان على ما في الذهن من الصور لا بلحاظ الخارج فإنَّه ليس فيه إلا حدّ واحد وهو الحدّ الشخصي, ففي عالم الذهن لا يسري العلم الإجمالي العارض على الحد الإجمالي إلى الحد التفصيلي لأنّ الحدين متباينان، وكل منهما له حده الخاص به ويستحيل أن يسري أي عارض إلى غير معروضه، ولكن ذلك لا يرتبط بالتنجيز لأنَّه حكم خاص يعرض على الواقع لا على الصورة الذهنية كالعلم؛ فلا يقال فيه أنه يستحيل أن يسري من الحدّ الإجمالي إلى الحد التفصيلي لأنّ الواقع لم يكن له إلا حدّ واحد شخصي فيتنجز الواقع بهذا العلم بحده الواقعي في كل من الطرفين. فما يقال من أنَّه كما لا يسري العلم الإجمالي إلى الواقع فحدّه التفصيلي كذلك لا يسري التنجز إليه خلطٌ بين الحدود الذهنية العارض عليها العلم وبين الحدّ الخارجي المعروض للحكم بالتنجز.

وأشكل عليه بأنَّه لو فرض كون معروض التنجز هو الواقع، ولكن الوصول والعلم جزء العلّة في تنجزه, وإلا كان داخلاً تحت التأمين العقلي، والبيان إنَّما تم بمقدار الجامع لا

ص: 366


1- . مقالات الأصول ج2 ص87.

أكثر، والواقع وإن لم يكن له حدّان تفصيلي وإجمالي لأنهما من الخصائص العارضة على الصور الذهنية لكن له جامع وخصوصية وهما حدّان له. والبيان إن تم على الجامع الذي هو أحد حدّي الواقع ويتحقق بالإتيان بأحد الطرفين، وأمّا الحد الثاني فهو الذي لا يتحقق إلا بإتيان كلا الطرفين.

الوجه الثالث: إنّ العلم الإجمالي وإن تعلق بالجامع ولكن الجامع تارةً؛ ينظر إليه قبل تخصصه وانطباقه في الخارج كما في الواجب التخييري، وأخرى؛ ينظر إليه مفروغاً عن تخصصه وانطباقه على الخارج كما في المقام حيث يعلم بوجوب إحدى الخصوصيتين أيضاً زائداً على الجامع، فتتنجز الخصوصية في الفرض الثاني لا محالة.وأشكل عليه: إنّ ما هو داخل تحت العلم عنوان الخصوصية الإنتزاعي لا واقعه فيبقى العقاب على واقع تلك الخصوصية بلا بيان. ويرد عليه بأنَّه غير صحيح كما سيأتي بيانه.

الوجه الرابع: ما يظهر من كلمات المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ ترك الموافقة القطعية بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفة إحتمالية للجامع, لأنّ الجامع إن كان موجوداً في ضمن هذا الطرف فقد خولف وإلا فلا، والمخالفة الإحتمالية للتكليف المنجز غير جائزة عقلاً لأنها مساوقة لاحتمال المعصية؛ وحيث إنّ الجامع منجز بالعلم الإجمالي فلا تجوز مخالفته الإحتمالية.

وأشكل عليه بأنّ الجامع إن لوحظ بحدّه فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الآخر مخالفة إحتمالية له؛ لأنّ الجامع بحدّه لا يقتضي أكثر من التطبيق على أحد الفردين، والمفروض أنّ العلم وقف على الجامع بحدّه, وأنّ التنجز تابع لمقدار العلم فلا مخالفة إحتمالية للمقدار المنجز أصلاً.

ص: 367


1- . نهاية الدراية ج3 ص91-95.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنّ جميع ذلك تبعيد للمسافة عن جادة الصواب وخروج عنها؛ فإنّ العلم صفة من الصفات النفسية التي تعرض على القوة الفكرية في الإنسان كالشك والظن، وهو يختلف عن اليقين الذي يعرض على القلب الذي له آثار طيبة تظهر في جميع العوالم وهو الذي يطلبه الأنبياء والأولياء والمؤمنين، ومبتغى سعي العرفاء في سيرهم وسلوكهم، والمبحوث عنه في علم الاخلاق والعرفان. رزقنا الله عَزَّ وَجَلَّ اليقين.

والعلم صفة نورانية لا ظلمة فيها أبداً لا يطرأ عليه التفصيل والإجمال، وما يطرأ عليه فيهما إنَّما هو من ناحية موضوعه, فإنّ له متعلق في الذهن والفكر وليس فيه إجمال وموضوع خارجي يطرأ عليه الإجمال والتردد، فإذا تعلق العلم بالحكم أو التكليف فقد تم البيان عليه ويجب على المكلف الخروج عن عهدة امتثاله فإن كان موضوعه معلوماً بجميع خصوصياته فلا إشكال؛ فإنّ البيان تام بجميع خصوصياته حينئذٍ، وأمّا إذا طرأ عليه التردد والشك فإنَّه لا يسري إلى المتعلق أو تلك الصفة، ولكن العرف قد يتسامح ويسري الإجمال إليها بالنظرة التسامحية. ولكن الواقع لا يكون كذلك، ومن أجل هذه النظرة التسامحية يحكم العقلاء بأنّ إتيان أحد الطرفين لا يكفي في الخروج عن العهدة، بل يعدّ الإقتصار على إتيان أحد الأطراف من المخالفة كما ذكره المحقق الإصفهاني لأنّ العلم والبيان قد تمّ على كِلا الطرفين عند العرف فتجب الموافقة القطعية. ويمكن إرجاع ما ذكره العلماء إلى ذلك وإلا فهي بعيدة عن حقيقة العلم الإجمالي. وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ومِمّا ذكرنا يتبين إنه لا فرق بين تعلق العلم الإجمالي بالحكم كما في مثال الظهر والجمعة الذي يعبّر عنه بالشبهة الحكمية، وبين تعلقه بالمكلف به المعبّر عنه بالشبهة الموضوعية؛ كما إذا علم بوجوب إكرام العالم وتردد بين زيد أو عمرو، فإنَّه في كلا القسمين تجب الموافقة

ص: 368

القطعية ولا يمكن تحققها إلا بإتيان جميع الأطراف إلا إذا دلّنا دليل على عدم الحاجة إلى التكرار, كما يقال في ظهر الجمعة حيث يستفاد من الأخبار انه لم تكن إلا صلاة واحدة؛ إمّا الظهر أو الجمعة، وأمّا في غير ذلك فيجب التكرار كما في المثال المتقدم فلابدَّ من إكرام كليهما للعلم بوجوب إكرام العالم والتردد بينهما، لأنّ العلم في جميع الموارد قد تعلق بالحكم أو التكليف، وهو في مقام الإمتثال مردد بين طرفين أو أطراف فيجب الخروج عن العهدة، ولا يمكن تحققه إلا بالموافقة القطعية وارتكاب جميع الأطراف. نعم، في الصلاة في ظهر الجمعة قد دلّ الدليل على عدم الوجوب إلا لصلاة واحدة فيتخير المكلف بين إتيان صلاة الظهر أو صلاة الجمعة.

وأمّا ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) في القسم الأول من أنَّ التكليف لم يتعلق إلا بالجامع وهو الذي تم عليه البيان، ويتحقق الجامع في ضمن فرد واحد فلا يجب الفرد الآخر؛ فهو مردودٌ بأنّ العلم قد تعلق بالتكليف وأصل الحكم وهو معلوم على التفصيل، وإنَّما التردد والإشتباه يكون في ما يتحقق به الإمتثال، وإتيان أحد الأطراف لا يوجب الخروج عن العهدة بعد تنجز العلم يقيناً.

المقام الثاني: في مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصول المرخصة في تمام الأطراف

والبحث يقع تارةً؛ في مانعيته ثبوتاً، وأخرى؛ في مانعيته إثباتاً.

فالكلام يقع في جهتين:

الجهة الأولى: ذهب المحققون إلى علّية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية بمعنى كونه مانعاً ثبوتاً من جريان الأصول المرخصة في تمام الأطراف، فلا يمكن الترخيص كذلك.

ص: 369


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص171.

واستدلوا على ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره (1) من التضاد والتناقض بين جعل الترخيص الظاهري في تمام الأطراف وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال بعد فرض بلوغه مرتبة الحكم الفعلي، إذ لا يعقل الحكم والإرادة الفعلية المطلقة في أحد الطرفين مع الترخيص العقلي لكلا الطرفين.نعم، يعقل ذلك فيما إذا لم يكن التكليف الواقعي فعلياً بأن تتوقف فعليته على شيء آخر كتعلق العلم التفصيلي به.

ويظهر من كلامه عدم الفرق بين الشك البدوي والعلم الإجمالي والعلم التفصيلي من هذه الناحية؛ فإنَّه في جميع ذلك إن فرض بلوغ التكليف مرتبة الفعلية المطلقة فلا يمكن الترخيص في خلافه، وأمّا إذا كانت فعليته موقوفة على أمر غير حاصل كالوصول في العلم أمكن الترخيص فيه، غاية الأمر أنّ العلم والوصول بنفسه من موجبات بلوغ التكليف مرتبة الفعلية.

وأشكل عليه بأنَّه إن كان المراد من الفعلية, فعلية تحفّظ المولى على التكليف عند الإشتباه والتزاحم فهذه الفعلية تناقض الترخيص في الخلاف، فلا يمكن جريانه في تمام الأطراف لأنّ معنى الفعلية على هذا هي إيجاب الإحتياط والإلزام بحفظ التكليف حتى في موارد الشبهة والشك، وهو ضد الترخيص والإباحة الظاهرية.

وهذا الأمر لا كلام فيه وإنَّما الكلام في إمكان رفع اليد عن التكليف المعلوم بالإجمال واقعاً في مرحلة المحركية والحفظ بجعل الإباحة والترخيص في تمام الأطراف, نظير رفع اليد عن التكليف المشكوك بالشك البدوي كذلك.

ص: 370


1- . كفاية الأصول؛ ص180.

وإن كان المراد من الفعلية ذاتاً بقطع النظر عن مسألة المزاحمة، أي؛ فعلية التكليف في نفسه بلحاظ مبادئه أو جعله واعتباره أو موضوعه, فالفعلية بهذا المعنى لا تنافي الترخيص الظاهري في تمام الأطراف.

ويرد عليه: ما سيأتي من أنَّ العلية للتكليف بأيِّ معنى لوحظت إنَّما تورث الاقتضاء للحجية والتنجز في مورد العلم الإجمالي ومع ذلك لا يمكن اجراء الأصول في اطراقه والتخصيص فيها ولعل هذا هو مراد المحقق الخراساني قدس سره من كلامه المتقدم.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ الترخيص في تمام الأطراف ترخيص في معصية التكليف الواصل, والترخيص في المعصية قبيح لا يصدر من الحكيم.

وبعبارة أخرى؛ إنّ الترخيص الظاهري يتناقض مع حكم العقل بقبح المعصية لا بینه وبين الحكم الواقعي كما ذكره المحقق الخراساني.

وأورد عليه بأنَّه لا تضاد بين الترخيص الظاهري وحكم العقل بقبح المعصية كما لا تضاد بينه وبين الحكم الواقعي لوجود الحكم الظاهري لانحفاظ مرتبته، وبذلك يرفع موضوع حكم العقل بقبح المعصية، وإلا فهو حكم عقلي غير قابل للتخصيص ولا يكون ترخيص المولى في تمام الأطراف هو الترخيص في المعصية؛ فإنَّه ليس رفع مولوية المولى أو الترخيص في هتك حرمته ومعصيته حتى يقال باستحالته لأنّ مولوية المولى ذاتية، وقبح معصيته لا يقبل التخصيص.ويمكن مناقشة ذلك بأنّ الترخيص في تمام الأطراف مع وجود ما فيه اقتضاء الحجية والتنجز كما في موارد العلم الإجمالي مِمّا يقبح لأنَّه يستلزم منه الأذن في المعصية وهو قبيح، وإلا فلا إشكال في أنّ الحكم الظاهري الموجب للترخيص يرفع موضوع حكم العقل بقبح المعصية، فالنزاع صغروي.

ص: 371


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص6، وأجود التقريرات؛ ج2 ص241.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّه لا يعقل الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في المنجزية لأنّ الإجمال يكون في خصوصيات لا دخل لها فيما يدخل في العهدة وتشتغل الذمة به بحكم العقل لأنّ موضوعه هو العلم بالأمر أو النهي الصادرين عن المولى، وأمّا خصوصية كونه متعلقاً بالظهر أو الجمعة فلا دخل لها في المنجزية فلا قصور في منجزية العلم الإجمالي.

ونوقش فيه بأنّ عدم الفرق بين العلمين التفصيلي والإجمالي بالنسبة إلى أصل الإلزام وكونه منجزاً صحيحٌ، ولكن حكم العقل بالمنجزية معلق على عدم ورود ترخيص من الشارع؛ سواء في موارد العلم التفصيلي أم الإجمالي, غاية الأمر أنّ عدم الترخيص الشرعي في مورد العلم التفصيلي ضروري الثبوت لاستحالة الترخيص فيه؛ إمّا من أجل لزوم التضاد إن كان نفسياً، وإمّا من أجل عدم معقوليته كونه طريقياً.

وهذا بخلاف العلم الإجمالي الذي يكون الإلتباس والتزاحم بين ملاكات الأحكام الواقعية الترخيصية والإلزامية حاصلاً فيه.

ويرد عليه: ما ذكرناه آنفاً من قبح الترخيص في مورد يكون فيه الإقتضاء للحجية والتنجز؛ فالعلم الإجمالي والتفصيلي من هذه الجهة على حدّ سواء ولا تصل النوبة إلى ملاحظة الإلتباس والتزاحم بين ملاكات الأحكام الظاهرية والواقعية كما هو واضح.

الوجه الرابع: ما يمكن استفادته من كلام المحقق العراقي قدس سره من أنّ الترخيص الظاهري إن لم يكن مناقضاً مع فعلية الحكم الواقعي لتعدد رتبتهما حتى في موارد العلم, ولكنه مع ذلك يكون مناقضاً لحكم العقل بوجوب الإمتثال إن كان هذا الحكم منجزاً لا معلقاً، وكذلك يناقض اقتضاء التكليف الواقعي للتحريك وحفظ غرض المولى إذا قام

ص: 372


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص305- 307.

طريق منجز عليه عقلاً يستكشف تنجيزية حكم العقل في المقام من ارتكازية التضاد بين الترخيص الشرعي في تمام الأطراف مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال عند العقلاء؛ إذ لولاه لما كان تضاد بينهما لا بلحاظ أغراضه ومبادئه ولا بلحاظ الغرض المقدمي وهو التحريك بالخطاب لأنَّه فرع وجود طريق منجّز.

وأشكل عليه:

1- إنَّه إذا سلمنا بالمناقضة بين الترخيص وحكم العقل لكونه تنجيزياً فهذا لا يوجب سراية المناقضة إلى التكليف الواقعي لا بلحاظ مبادئ الحكم الواقعي الأصلية ولا بلحاظ الغرض المقدمي.

2- إنَّه لا معنى لارتكازية التضاد عند العقلاء بين الترخيص في تمام الأطراف والتكليف الواقعي المعلوم بالإجمال فإنَّه إنْ أريد بها ارتكاز العقلاء بحسب تعايشهم وأوضاعهم واغراضهم العقلائية فهو وان كان صحيحاً لكنه ناشيء من غلبة أهمية أغراضهم الإلزامية وأرجحيتها من أغراضهم الترخيصية، فلو انعكس الأمر وكانت أغراضهم الترخيصية أهم من الأغراض الإلزامية أو تكون مساوية لها، فلا تثبت هذه الإرتكازية.

وإنْ أريد ارتكازية العقلاء بلحاظ حكم العقل بالمنجزية محضاً وكونه تنجيزياً لا تعليقياً أي؛ على نحو العلية لا الإقتضاء فإنّ هذا الإرتكاز نشأ من حكم العقل بالتنجيز لا من حكم العقلاء فكيف يعقل أنْ يكون حكم العقل بالتضاد أجلى وأظهر من الأول.

3- إنّ حكم العقل بالتنجيز وحق الطاعة تعليقي دائماً.

ص: 373

ويمكن الجواب عنه بأنّ المناقضة بين الترخيص الشرعي في تمام الأطراف وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال إنَّما نشأت من جهات متعددة فهي:

إمّا أنْ يكون من جهة استلزام الإذن في الإرتكاب والمعصية؛ وهو قبيح.

وإمّا من جهة كون العلم الإجمالي والتفصيلي بالنسبة إلى أصل الحكم والإلزام على حدّ سواء؛ فكما لا يجوز الترخيص في التفصيلي كذلك لا يصحّ في الإجمالي.

وإمّا من جهة كونه مناقضاً لحكم العقل بوجوب الإمتثال.

وإمّا من جهة كون التكليف الواقعي مقتضياً للتحريك وحفظ غرض المولى؛

فإنّ جميع تلك المناشيء ما يوجب الإقتضاء للحجية والتنجز في موارد العلم الإجمالي، ولا يعقل في مثل ذلك الترخيص في تمام الأطراف.

ولعله لأجل ذلك يحكم العقلاء بالتضاد في الأحكام المولوية دون الأحكام الدائرة بينهم كما ذكره المستشكل؛ فإنّ الأحكام الدائرة بينهم تابعة للمنافع والأغراض المادية الموهومة بخلاف الأحكام الشرعية التي تبتني على المصالح والحكم الواقعية، ولا يمكن قياس أحدهما على الآخر ويكون الحكم من العقلاء تنجيزياً لا تعليقياً ويسري ذلك إلى التضاد بين الترخيص والأحكام الواقعية كما هو واضح.

ويتضح من جميع ذلك؛ أنّ العلم الإجمالي مانع ثبوتي من إجراء الأصول المرخصة في تمام الأطراف والترخيص الشرعي فيها، ولكن تقدم في مباحث القطع أنّ هذه المناقضة العقلية لا تمنع مولوية المولى فإنّ الشارع المقدس له أنيجعل حكماً ظاهرياً في موارد العلم التفصيلي فضلاً عن العلم الإجمالي فيكون حكم العقل تعليقياً لا تنجيزياً كما ذكرنا ذلك في مباحث القطع فراجع.

ص: 374

الجهة الثانية: في المانع الإثباتي عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

قد يقال: بأنّ المستفاد من كلمات المحققين (قدست أسرارهم) هو عدم وجود المانع الإثباتي وإنَّما هو ثبوتي فقط. وصرحوا بشمول أدلَّة الأصول لكل طرف من أطراف العلم الإجمالي في حدّ نفسه، ولكن الصحيح هو وجود المانع الإثباتي أيضاً ويمكن الإستدلال بوجوه:

الوجه الأول: إنّ الفهم العرفي من أدلَّة الأصول العملية والإرتكاز العقلائي يدلان على عدم جعل الترخيص الظاهر في تمام الأطراف؛ وذلك لأنَّ المرتكز في الأذهان هو أنَّ مورد الشك الذي تجري فيه الأصول لابُدَّ أنْ يكون الإقتضاء بالنسبة إلى الحجية والتنجز من كل حيثية وجهة فلو كان فيه الإقتضاء لها فلا مورد للأصول، ولا أقل من الشك في ذلك، فلا يمكن التمسك بأدلتها اللفظية لأنَّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ولا أدلتها اللبّية لأنّ المتيقن منها غير ذلك. فلا محيص من الإحتياط حينئذٍ، ولا ريب في ثبوت الإقتضاء في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي فلا مجرى للأصول في أطرافه.

وقد يستشكل على ذلك بأنّ ذلك إنَّما يتم فيما إذا لوحظت الأطراف بنحو الجمع والوحدة، وأمّا إذا لوحظ كل طرف مستقلاً مع قطع النظر عن الآخر فيكون لا اقتضاء من كل جهة فيتحقق شرط جريان الأصل، وحيث لا يمكن الجمع فإنَّه يحكم بالتخيير كما في الأمارتين المتعارضتين.

ويمكن الجواب عنه بما يلي:

أولاً: إنّ لحاظ الوحدة والجمع إنَّما هو في متعلق العلم التفصيلي الذي هو علّة تامة للتنجز، وأمّا الإقتضاء فيثبت بملاحظة كل طرف مع قطع النظر عن الآخر بنحو عدم الإعتبار، لا إعتبار العدم، إذ يلزم منه الخلف لأنَّه يستلزم منه عدم كونه طرفاً للعلم الإجمالي، وهو خلاف المفروض من كون أحد طرفيه في الواقع.

ص: 375

ثانياً: إنّ التخيير إمّا عقلي أو شرعي؛ والأول يثبت في ما إذا كان الملاك تامّاً في كل طرف، والثاني لا يثبت إلا بدليل شرعي. وهما منفيان؛ أمّا الأول فلعدم الملاك في كل واحد منهما حتى يثبت التخيير العقلي فينتفي ثبوتاً، وأما الثاني فلعدم الدليل على التخيير الشرعي فهو منفي إثباتاً، فلا وجه للتخيير مطلقاً. نعم، لو قلنا بأنّ التخيير في المتعارضين عقلائي فلا يحتاج إلى ورود دليل بالخصوص فهو يثبت في المقام إذا فرضنا جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي فيتم المقتضي له، فيكون المانع منحصراً في لزوم المخالفة العملية منالعمل لها، ومع ذلك فهو ممنوع أيضاً لعدم المقتضي لجريانها في أطراف العلم الإجمالي أصلاً.

الوجه الثاني: إنّ الأغراض الإلزامية في التكاليف لا ترفع اليد عما أحرز منها في نظر العقلاء بمجرد غرض ترخيصي محتمل؛ إذ الأغراض الترخيصية في ارتكاز العقلاء لا يمكن أن تبلغ مرتبة تتقدم على الغرض الإلزامي المعلوم فكأن الترخيص في تمام الأطراف في أنظارهم يتناقض مع الغرض الإلزامي ويوجب تفويته. ولعل المحقق العراقي قدس سره نظر إلى هذا الإرتكاز حيث جعله كاشفاً عن حكم عقلي بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة.

وكيف كان؛ فإنّ هذا الإرتكاز دليل متصل وقرينة محفوفة بالخطاب تمنع من انعقاد إطلاق في أدلَّة الأصول ليشمل أطراف العلم الإجمالي، فيكون المانع إثباتاً، كما هو واضح.

الوجه الثالث: إنّ الأصول العملية إذا لوحظت بالنسبة إلى أطراف العلم الإجمالي تكون على أقسام ثلاثة:

القسم الأول: ما يكون منافياً لنفس المعلوم بالإجمال ومضاداً له كأصالة الإباحة في مورد دوران الأمر بين المحذورين؛ فإنّ الإباحة تضاد الإلزام المعلوم فلا يجري مثل هذا الأصل في أطراف العلم الإجمالي لغرض التضاد.

ص: 376

القسم الثاني: الأصل الإحرازي المعبّر عنه بالأصل التنزيلي كالإستصحاب حيث إنه متكفل للإحراز والتنزيل في الجملة عرفاً فبجريانه في أطراف العلم الإجمالي يستلزم منه تنزيل أطراف المعلوم بالإجمال منزلة خلافه، فيلزم منه المنافاة والضدية، فلا مجرى لمثل هذه الأصول الإحرازية من هذه الجهة أيضاً كاستصحاب الطهارة مثلاً في أطراف ما علم إجمالاً بوقوع النجاسة فيها.

القسم الثالث: ما تجري وتسقط بالمعارضة كأصالة البراءة. ومن أجل ذلك فلا تشمل أدلَّة الأصول أطراف العلم الإجمالي.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ هذا التفصيل لا حاجة إليه إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي يقتضي التنحيز لما عرفت من أنَّ وجود ما فيه الإقتضاء بنفسه مانع من جريان الأصول، والترخيص ولا تشمله أدلتها.

وأمّا إذا قلنا بعدم كون العلم الإجمالي مقتضياً للتنجز فالأمر واضح فلا منافاة ولا مضادة ولا معارضة فتكون أطراف العلم الإجمالي كالشبهات البدوية التي تجري الأصول بلا مانع في البين.

الوجه الرابع: ما استدل به الشيخ الأنصاري قدس سره (1) بعد أن جعل المانع ثبوتاً من إجراء الأصول العملية مطلقاً في أطراف العلم من لزوم المخالفة العملية كما تقدم بيانه في الجهة الأولى، وذكر بأنّ المانع إثباتي في خصوص الإستصحاب لأنَّهيستلزم مناقضة صدر دليله مع ذيله؛ فإنّ قول الإمام الصادق علیه السلام : (وَلَا تَنْقُضِ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ) يتناقض مع قوله قوله علیه السلام : (وإِنَّمَا تَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَر) لأنّ مقتضى الصدر إستصحاب الطهارة في كلِّ واحدٍ من الإنائين اللذين علم بنجاسة أحدهما إجمالاً فيجوز الإرتكاب حينئذٍ، ومقتضى

ص: 377


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص544، وص563.

الذيل وجوب نقض اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة فيجب الإجتناب، وليس ذلك إلا التنافي والتناقض في الدليل ويلزم منه العلم بكذب أحد الإستصحابين، فلا يجري الإستصحاب في أطراف العلم الإجمالي.

وقد أشكل عليه بما يلي:

1- ليس جميع أدلَّة الإستصحاب يكون فيه هذا الذيل حتى يلزم منه التكاذب.

ويرد عليه: إنّ خلو بعض الأخبار عنه لا يضرّ، إذ لا بُدَّ من حمله على ما ورد في غيره لأنّ هذا الذيل فطري إرتكازي، ومن أجل ذلك جعل بعضهم أنّ هذا التنافي ثبوتي يسري إلى مقام الإثبات أيضاً.

2- إنه لا يظهر منه قدس سره في مسألة ما إذا توضأ بمايع مردد بين الماء والبول صحة استصحاب طهارة الأعضاء وبقاء الحدث مع العلم ببطلان أحدهما، ولا فرق بينه وبين المقام.

وفيه: إنه لا ربط له بالمقام لأنَّ الوضوء من إناء واحد من الإنائين اللذين علم ببولية أحدهما لا علم فيه ينقض الحالة السابقة حتى يلزم التناقض من إجراء الأصلين، والشيخ قدس سره لا يقول به ظاهراً أيضاً. وأمّا الوضوء من الإناء المردد بين البول والماء فإنّ العلم ببطلان أحد الأصلين فيه إنَّما يكون مبنياً على عدم صحة التفكيك في لوازم الأحكام الظاهرية من كل حيثية وجهة، وإثباته مشكل جداً ولذا يمكن القول ببقاء الحدث للأصل وبقاء طهارة البدن للأصل أيضاً.

3- إنّ التناقض يلزم إذا كان متعلق اليقين واحداً وفي مورد العلم الإجمالي ليس الأمر كذلك لأنّ العلم التفصيلي متعلق بكل واحد من الأطراف، والإجمالي تعلق بواحد لا بعينه، فيختلف المتعلق ويرتفع التناقض.

ص: 378

وفيه: إنَّه ليس المراد من التناقض في المقام التناقض المنطقي، بل المراد منه العرفي أي مطلق المنافرة والتضاد كما سيأتي بيانه في بحث التعارض, ولا ريب في تحقق هذا التناقض العرفي.

4- إنّ قوله علیه السلام : (وَلَا تَنْقُضِ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ) له أثر يصحّ تعلق الجعل به وهو ترتب آثار المتيقن على المشكوك شرعاً، وأمّا قوله علیه السلام : (وإِنَّمَا تَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَر) فلا أثر له شرعاً لأنّ نقض اليقين باليقين وجداني، واليقين مِمّا لا تناله يد الجعل كما عرفت في بحث القطع.وفيه: إنه أيضاً بلحاظ الحكم المترتب على اليقين وهو مجعول ويكفي هذا المقدار في صحة تعلق الجعل.

والحاصل؛ إنّ ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره في المانع الإثباتي من جريان الإستصحاب في أطراف العلم الإجمالي صحيح. ويأتي تمام الكلام في بحث الإستصحاب أيضاً.

الوجه الخامس: إستصحاب التكليف المعلوم بالإجمال في كل طرف، فلا تجري الأصول الترخيصية في الأطراف حينئذٍ.

ويرد عليه: إنّ المحتملات في هذا الإستصحاب عديدة؛ فإن أريد به الإستصحاب في طرف خاص وفرد مخصوص فليس له حالة سابقة, وإن أريد به إثبات المقدمية لكل طرف بالنسبة إلى العلم الإجمالي فهو معلوم لا نحتاج في إثباته إلى هذا الإستصحاب فإنَّه من تحصيل الحاصل, وإن أريد به استصحاب الكلي لإثبات المقدمية فهو من تحصيل الحاصل أيضاً، وإن أريد به إثبات الوجوب في طرف معين فهو مثبت, وإن أريد به استصحاب الفرد المردد فلا تحقق له لا خارجاً ولا ذهناً. فلا وجه لهذا الإستدلال بجميع شقوقه كما لا حاجة إلى كثير من تلك الأدلَّة فإنّ تنجز العلم الإجمالي أظهر من الإستدلال بمثل تلك فهو كالعلم التفصيلي في وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية إلا

ص: 379

في موارد خاصة تقدمت الإشارة إليها في بحث القطع وستأتي تتمة الكلام. هذا كله في جريان الأصول والترخيص في جميع الأطراف.

المقام الثالث: الترخيص في بعض الأطراف؛

بحيث لا يكون العلم الإجمالي مانعاً من جريان الأصول المؤمّنة في بعض أطرافه. والكلام فيه كسابقه من أنَّ العلم الإجمالي؛ إن كان علّة للتنجز فيجب الإحتياط ولا يمكن الترخيص فيه مطلقاً, ولكن بعض الأصوليين فصّل الكلام في المقام أيضاً من حيث الثبوت والإثبات.

وحق الكلام أن يقال: إنّ البحث كله يرجع إلى أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة للتنجز أو أنه على نحو الإقتضاء فإنَّه على الأول يجب الإحتياط عقلاً، وعلى الثاني يمكن تعليق التنجز على عدم ورود الترخيص الشرعي فيه. وعلى كل حال فمن ذهب إلى إمكان جريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف فإنه يقول به في بعض الأطراف كما اختاره السيد الصدر، فلا مجال لهذا البحث في المقام أيضاً.

وأمّا من ذهب إلى استحالة جريان الأصول في جميع الأطراف فيقول بها في بعض الأطراف أيضاً؛ وإن كان هناك خلاف في توجيه هذه الإستحالة؛ فذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى أنّ منجزية العلم الإجمالي من أجل تعارض الأصول المرخصة في الأطراف وتساقطها فلا يكون العلم بنفسه مانعاً لولا المعارضة،وعليه يمكن إجراء الترخيص والتأمين العقلي في بعض الأطراف لولا المعارضة. ومنهم من اختار أنّ العلم الإجمالي بذاته مانعاً عن ذلك لأنَّه علّة للتنجز فلا يمكن الترخيص في أطراف العلم الإجمالي لا كلاً ولا بعضاً, وهو الذي اختاره المحقق العراقي قدس سره (2) مستدلاً عليه بأنّا لا نحتاج إلى

ص: 380


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص242.
2- . مقالات الأصول؛ ج2 ص249 وما بعدها.

مزيد برهان سوى إثبات علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية فإنّ الجميع متفقون على أنّ العلم الإجمالي ينجز ما تعلق به، وإنَّما الإختلاف في أنه؛ تعلق بالجامع فلا ينجز إلا مخالفة الجامع فيجوز الترخيص في بعض الأطراف، أو بالواقع فلا يجوز الترخيص في بعض الأطراف أيضاً، ولكن من يرى تعلّق العلم الإجمالي بالجامع يقول بعليته لحرمة المخالفة القطعية.

وبعبارة أخرى: إنّ المعلوم بالعلم الإجمالي؛ إن كان هو الجامع فلا مقتضي لأصل وجوب الموافقة القطعية، وإن كان هو الواقع فلا بُدَّ من افتراض تنجزه على نحو العلية لأنّ هذا شأن كل معلوم مع العلم.

وأشكل على ذلك بأنَّه غير سديد لأنّ من يقول بالعلية لا يفرق عنده بين تعلقه بالجامع أو بالواقع؛ لأنّ الجامع معلوم تفصيلاً وتنجيزه للواقع في كل من الطرفين، ومن يقول بالإقتضاء فإنَّه يرى أنّ الجامع غير معلوم تفصيلاً، بل هو مردد.

والحق؛ أنّ ذلك كله تطويل لا طائل تحته، فقد عرفت سابقاً أنّ العلم الإجمالي علّة تامة للتنجز فيجب الإحتياط ولا يجوز الترخيص في أطرافه مطلقاً لا في جميعها ولا في بعضها. والسرّ في ذلك يرجع إلى أنّ مرتبة الحكم الظاهري لا تكون محفوظة في موارد العلم الإجمالي، وقد تقدم تفصيل ذلك.

ولعل مراد المحقق العراقي قدس سره هذا المعنى وإن قصرت عباراته عنه, ويمكن القول بأنَّه بناءً على ذلك يصحّ لنا القول بعدم إجراء الترخيص في بعض الأطراف وإن كان العلم الإجمالي مقتضياً للتنجز أيضاً. ويرشد إلى ذلك أن القائلين بالإقتضاء يرون أنّ العلم الإجمالي منجز في حرمة المخالفة القطعية؛ فإنّ ذلك لا يتم إلا بلحاظ الموافقة القطعية وقد عرفت الوجه فيها.

ص: 381

وفي المقام محاورة علمية بين المحققين النائيني(1) والعراقي(2) (قدس سرّاهما) لها ارتباط بما ذكره العراقي قدس سره ؛ حيث نقض المحقق النائيني قدس سره على ما استدل به المحقق العراقي قدس سره بأنّ العلم الإجمالي ليس بأشد من العلم التفصيلي,والأخير يعقل فيه الترخيص في المخالفة الإحتمالية لمعلومه كما في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز، وهذا يعني عدم كونه علّة لوجوب الموافقة القطعية فكذلك العلم الإجمالي. نعم، لا يجوز الترخيص في مخالفتها القطعية.

وأجاب المحقق العراقي قدس سره عن النقض المزبور بأنَّه خلط بين الأصل الجاري في مرحلة الإمتثال والجاري في مرحلة التكليف, فإنّ قاعدة الفراغ وأمثالها ليست ترخيصاً في ترك الموافقة القطعية لتكون منافية لافتراض علّية العلم لوجوبها، بل هي إحراز تعبدي للموافقة، أي موافقة قطعية تعبدية وافتراض علّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وجداناً وتعبداً، وأين هذا من جريان الأصل لنفي التكليف في بعض الأطراف إلا إذا قامت أمارة نافية على أحد الطرفين، فحيث إنّ لازمها حجة فهي تثبت أنّ الموافقة القطعية التعبدية في الطرف الآخر.

وحاول المحقق النائيني قدس سره الجواب عنه بأنّ العلم الإجمالي لا ينجز أكثر من الجامع وإنَّما تجب الموافقة القطعية بعد تعارض الأصول، وفي موضع آخر(3) ذكرأنّ العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة لأنّ العلم الإجمالي إنَّما ينجز التكليف المعلوم فلابد من موافقته القطعية إمّا وجداناً أو تعبداً، وجريان الأصل الثاني في أحد الطرفين يدلُّ بالإلتزام على جعل الطرف الآخر بديلاً عن الواقع المعلوم الإجمالي.

ص: 382


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص12.
2- . مقالات الأصول؛ ج2 ص88- 89، ونهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص309- 315.
3- . وذلك لأنّ عبارة التقرير متذبذبة.

وردّه المحقق العراقي قدس سره بأنَّه إن أريد أنّ الأصل الثاني في أحد الطرفين يجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع المعلوم بالإجمال فهذا غير صحيح لأنَّه لا يدل عليه لا بالمطابقة ولا بالإلتزام؛ لأنّ مثبتات الأصول ليست بحجة، وإن أريد أنّ دليل حجية الأصل؛ أعني إطلاق حديث الرفع الذي هو أمارة يدلُّ بالإلتزام على جعل البدل في المرتبة السابقة على جعل الأصل في بعض الأطراف؛ ففيه: إنّ الموافقة القطعية التعبدية إنَّما تكون بالقطع بجعل البدل ووصوله لا مجرد جعله واقعاً، والقطع بجعل البدل لا يمكن أن يدلُّ عليه إطلاق دليل الأصل بالملازمة كما هو معلوم.

وقد يقال بأنّ الوصول يتحقق بنفس دليل الأصل.

ولكنه مردود بأنّ المفروض تقدم الدلالة الإلتزامية في المرتبة السابقة بالوصول، فمع عدم الوصول وجداناً في المرتبة السابقة يقطع بعدم صحة جعل الأصل الثاني، فلا مدلول إلتزامي من دون وصول إلا أنّ المدلول ثابت من دون وصول، ولكنه يتحقق بنفس دليل الأصل.

والصحيح؛ إنّ ما ذكره العَلَمان إنَّما يبتني على المسالك المذكورة في جعل الأحكام الظاهرية وأنواعها؛ فما ذكره المحقق العراقي قدس سره إنَّما يصحّ في النقض علىالمحقق النائيني الذي كان رأيه التمييز بين ألسنة جعل الحكم الظاهري، فهو يرى أنّ جعل الطريقية والعلمية يكفي في رفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وأمّا بناء على مسلك من يقول أنّ جعل الحكم الظاهري في جميع الموارد هو تقديم الأغراض الترخيصية على الإلزامية أو العكس عند التزاحم في مقام الحفظ, وأنّ التقديم تارةً؛ يكون بلسان الترخيص وأخرى؛ بلسان الإكتفاء بالموافقة الإحتمالية وافتراضها موافقة كاملة؛ فإنَّه بناءً على ذلك يكون رأي المحقق النائيني أقرب، إذ لا معنى للقول بأنّ أحد اللسانين ممتنع دون الآخر مهما اختلفت

ص: 383

ألسنة الأمارات والأصول، إلا أنّ حق الكلام ما ذكرناه آنفاً وما سواه تطويل لا طائل تحته لأنّ العلم الإجمالي بحسب ما ذكرناه إنَّما ينجز التكليف المعلوم فهو علّة للتنجز فلابدّ من الموافقة القطعية، وحكم العقل بالإحتياط تنجيزي وليس تعليقياً على عدم ورود الترخيص الشرعي كما ذهب إليه بعضٌ. هذا كله بحسب مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات, فقد عرفت أنّ أدلَّة الأصول قاصرة عن شمول أطراف العلم الإجمالي ثبوتاً وإثباتاً؛ بلا فرق بين جمع الأطراف وبعضها لأنّ جريانه في البعض ضمن جريانه في الكل، فيكون الدليل نفس الدليل. ويظهر من بعض الأصوليين أنّ المانع من جريان الأصل في بعض الأطراف إثباتي بملاك التعارض. ويمكن توجيهه لأنَّه بعد العلم بعدم جريان الأصل في كل الأطراف في وقت واحد يحصل التعارض بين إطلاق دليل الأصل لكل طرف وبين إطلاقه لسائر الأطراف، ومقتضى التعارض هو التساقط في جميع الأطراف.

وقد نقض المحقق العراقي قدس سره هذا المحذور الإثباتي باعتبار التساقط بأحد وجهين:

الأول: النقض بموارد العلم التفصيلي بالتكليف والشك في الإمتثال، لأنّ حكم العقل بمنجزية العلم لو كان مطلقاً على عدم ترخيص شرعي لأمكن الترخيص في مورد المخالفة الإحتمالية لتكليف معلوم فإنَّه يصحّ التمسك بإطلاق دليل البراءة في مورد الشك في الإمتثال الذي يكون في الواقع من الشك في بقاء التكليف فإنَّه لا فرق في الشك في التكليف بين كونه شكّاً في الحدوث أو البقاء.

ويردّه:

1- إستصحاب عدم الإتيان أو إستصحاب بقاء الحكم على البراءة في موارد الشك في الإمتثال دائماً.

ولكن يرد عليه بالمنع عن جريان البراءة في موارد الشك في الإمتثال عند جميع المحققين لعدم المقتضي، لا لوجود المانع؛ ولهذا لا يقبل الجريان حتى يقول بعدم حجية الإستصحاب.

ص: 384

2- إنصراف أدلَّة الترخيص عن موارد الشك في الإمتثال واختصاصها بموارد الشك في أصل الحكم لفرض العلم بالتكليف، وثبوت الحكم آناً ما1- يستدعي الفراغ اليقيني عنه، ولو فرض الشك في الحكم في الآن الثاني فلا يمكن تطبيق البراءة على الحصة الباقية للحكم فإنَّه لا يكون مؤمّناً بعد الإشتغال اليقيني. نعم؛ لو فرض ورود دليل خاص على البراءة والترخيص في مورد الشك في الإمتثال أخذ به كما ثبت ذلك في بعض الموارد في الفقه من قبيل الشك في جهة القبلة على قول من يجوز الصلاة إلى جهة واحدة بداراً حتى مع العلم أو احتمال تعينها فيما بعد فإنه بذلك يكون من الشك في الإمتثال مع تنجز التكليف بالعلم التفصيلي.

الثاني: ما ذكره قدس سره من أنَّ العلم بالتكليف لو لم يكن علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية ولكنه يكون مقتضياً لها فيكون معلقاً على عدم الترخيص الشرعي، وأنّ إطلاق دليل الترخيص يكون وافياً بإثباته في بعض الأطراف تخييراً؛ لأنّ المحذور إنَّما ينشأ من إجراء الأصل في كلٍّ من الطرفين مطلقاً سواء ارتكب المكلف الطرف الآخر أم اجتنبه، فإذا ألقينا إطلاق الأصل في كلِّ منهما أنتج إثبات ترخيصين مشروطين(1), فالمحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأصل في كل طرف ولا يتوقف دفعه على الغاء الأصل رأساً وحيث أنَّ رفع اليد عن شيء من مفاد الدليل لا يجوز إلا لضرورة, والضرورة تتقدر بقدرها فلا يجوز إلا رفع اليد عن الإطلاق الاحوالي لدليل الأصل في كل طرف لما إذا ارتكب الطرف الآخر لان هذا القدر المتيقن من سقوط على كل حال, وأمّا الإطلاق الأفرادي في كل طرف فلا موجب لرفع اليد عنه وهو يثبت التخيير وجواز ارتكاب أحد الطرفين بدلاً.

ص: 385


1- . كلٌّ منهما منوط بترك الآخر؛ ومثل هذا لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية.

والحاصل؛ إنَّه يجري في كل طرف ترخيص ظاهري مشروط بترك الآخر وهذا هو الجمع بين الترخيص لا الترخيص في الجمع بين الطرفين بل هو يستحيل فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق الترخيص في كل من الطرفين.

وهذا الإشكال وارد على كل من اختار إقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز والموافقة القطعية مقابل من قال بالعلية وقد أُجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ دليل الأصل في كل طرف له إطلاقاً إفرادياً وإطلاقاً أحوالياً لحالة ترك الفرد الآخر أو فعله والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الاحواليين معاً كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين خاصة فأيّ مرجح لأحدهما على الآخر.

وفيه: ما عرفت من أنَّ رفع المحذور لا بُدَّ من أنَّ يكون بمقدار الضرورة وبملاك التعارض وهو بحسب الواقع ليس بين الإطلاقين الأفراديين في الطرفين, بل بين الإطلاقين الأحواليين, ومن أجل ذلك يمكن الحفاظ على الإطلاق الأفرادي في كلٍّمن الطرفين فيتعين سقوط الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل في كلٍّ من الطرفين فلا موجب لرفع اليد عن الإطلاق الأفرادي.

الوجه الثاني: إنَّ إجراء الأصل إذا كان مقيداً في كل طرف فهناك أوجه عديدة للتقييد, فقد يجري الأصل في كل طرف مقيداً بترك الآخر, أو بأنْ يكون قبل الآخر, أو بأنْ يكون بعد الآخر فأي مرجح لتقييد على تقييد؟.

وأورد عليه بأنَّ مغزى التقييد يرجع إلى إلغاء الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل وإبقاء الحالة لتي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر, وأمّا حالة كونه قبل الآخر مثلاً فإنَّ جريان الأصل فيها يعارض جريانه في الطرف الآخر حالة كونه بعد صاحبه

ص: 386

-أي الوجه الثاني- ولا تحصل المخالفة القطعية لأنَّها تنشأ من الجمع بين الترخيصين لا من الترخيص في الوجود الثاني وحده, فإنَّه مخالفة احتمالية وليس معنى الترخيص فيه الترخيص في أنْ يأتي بالوجود الأول.

الوجه الثالث: إنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فاذا امتنع أحدهما إمتنع الآخر, وفي المقام إذا امتنع إطلاق الترخيص في كل طرف إمتنع التقييد أيضاً.

وأورد عليه: إنَّه على فرض قبول المبنى في الإطلاق والتقييد فإنَّ الممتنع في المقام إجتماع الإطلاقين لا ذاتهما حتى يلزم امتناع التقييد.

الوجه الرابع: إنَّ الجمع بين الترخيصين المشروطين وإنْ كان لا يؤدي إلى المخالفة القطعية ولكنه يؤدي إلى الترخيص القطعي في المخالفة وذلك فيما إذا ترك الطرفين معاً وهي محال أو قبيح, فإنَّ القبيح لا يختص بالترخيص في المخالفة القطعية بل يتحقق في الترخيص القطعي في المخالفة فإنَّه قبيح أيضاً ولهذا لا يجري الأصل المؤمن في طرفي العلم الإجمالي وإنْ كان المكلف عاجزاً عن الجمع بينهما فإنَّه لم يلزم منه الترخيص من المخالفة القطعية ولكنه يحصل منه الترخيص القطعي في المخالفة.

ويرد عليه: إنَّه يمكن تصوير الترخيصات المشروطة على نحو لا تصبح كلها فعلية في وقت واحد ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية, وذلك بأنْ نفترض أطراف العلم الإجمالي ثلاثة ويفترض أنَّ الترخيص في كل طرف مقيد بترك أحد بديليه وفعل الآخر ولو متأخراً في عمود الزمان, فإذا علم بأنَّه سوف يترك الثاني ويفعل الثالث يجوز له ارتكاب الأول فلا يلزم الترخيص الفعلي القطعي في المخالفة الواقعية, نعم؛ يلزم الترخيص القطعي في المخالفة مشروطاً بشرط غير معلوم الحصول لدى المكلف, وهذا لا يضرّ, وإلا لزم عدم جريان الترخيص في الإضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه.

ص: 387

مع أنَّه قد تقدم في أحد مباحثنا أنَّ الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلاً ولا قبيحاً ذاتاً, وإنَّما يمتنع إذا كان منافياً للحكم الواقعي ومصادماً مع أحد مقتضياته في مرتبة الجعل أو مبدئه أو أثره, وفي المقام لم يتحقق شيء منه, وأمّا مصادمته مع الجعل فإنَّه لا خير فيه, فإنَّ الجعلين لا تضادّ بينهما؛ إذ الجعل سهل المؤونة.

وأمّا المصادمة معه في المبادئ فإنَّها لم تتحقق أيضاً, لأنَّ مبدأ الحكم الواقعي في متعلقه ومبدأ الظاهري في نفسه لا في متعلقه فلا تضادّ.

وأمّا المصادمة في أثر الجعل العقلي فإنَّه إنْ أريد منه حرمة المخالفة القطعية فالمفروض عدم استلزام الترخيص القطعي في الطرفين للترخيص من المخالفة القطعية, وإنْ أريد منه وجوب الموافقة القطعية فالمفروض أنَّه معلق على عدم ورود الترخيص الشرعي, فلم يبق إلا دعوى أنَّ الترخيص القطعي في المخالفة قبيح في نفسه وإنْ لم يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية, وهي دعوى عهدتها على مدَّعيها.

الوجه الخامس: إنَّ الحكم الظاهري يجب أنْ يكون محتمل المطابقة مع الواقع, والترخيص المشروط ليس كذلك, فإنَّ الثابت في الواقع إمّا الحرمة المطلقة أو الترخيص المطلق, ولم يكن في الواقع الإباحة المشروطة في شيء من الطرفين.

وأورد عليه بأنَّه لم يشترط في الحكم الظاهري ذلك بل الشرط فيه أنْ يكون الحكم الواقعي مشكوكاً وأنْ يكون الحكم الظاهري صالحاً للتنجز أو التعذير, مع أنَّه على فرض التنزيل فإنَّه يمكن القول بأنَّ الحكم الظاهري محتمل المطابقة مع الواقع في حالة خاصة لإتمام الحالات.

ص: 388

الوجه السادس: إنَّ الترخيص في كلِّ طرف يتصور على أحد وجوه ثلاثة؛ جميعها باطلة وغير معقولة:

أولها: الترخيص المطلق.

ثانيها: الترخيص مع تقييد الموضوع المرخص فيه بترك الآخر, أي: الترخيص في الحصة المقترنة مع ترك الآخر.

ثالثها: الترخيص مع تقييد الحكم بحالة ترك الآخر.

والأول؛ يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية.

والثاني؛ معناه أنَّ محتمل الحرمة كالشرب -مثلاً- مقيد بترك الآخر, مع أنَّ هذا المقيد بما هو مقيد لا يحتمل حرمته, وإنَّما المحتمل حرمة شرب هذا المائع أو ذاك المائع.

والثالث؛ يرجع إلى الثاني في النتيجة, لأنَّ قيود الحكم ترجع إلى المتعلق كما هو المذكور في الواجب المشروط فيعود الإشكال.ولكن القول بسريان قيود الحكم إلى المتعلق لا يعني كون المتعلق مقيداً بها بل المراد ذات الطبيعة هي المتعلق, لأنَّ الإطلاق ليس أمراً لحاظياً بل هو ذاتي, وعليه؛ يمكن الحكم على طبيعي الشرب بترخيص مقيد ترك الآخر.

وهناك وجوه أخرى ذكروها في المفصلات وجميعها لا تخلو عن المناقشة.

والصحيح أنْ يقال في رد ما ذكره المحقق العراقي من النقض ما أوردناه في المقام الأول وهو كما يلي:

أولاً: إنَّ المتفاهم العرفي من أدلَّة الأصول والمنساق إلى الأذهان أنَّ مورد الشك الذي تجري فيه الأصول لا بُدَّ أنْ يكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجية والتنجز من كل حيثية وجهه, فلو كان فيه الإقتضاء لها فلا مورد للأصول مطلقاً ولا مجرى لها في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً كما تقدم بيانه.

ص: 389

ثانياً: ما ذكرناه من أنَّ الأصول العملية قاصرة عن شمول أطراف العلم الإجمالي حتى مع شرط ترك الآخر, لأنَّها على أقسام؛ فإنَّ قسماً منها يكون منافياً لنفس المعلوم بالإجمال ومضادا له, كأصالة الحل والإباحة.

وقسماً منها يكون تنزيلياً إحرازياً, وقد عرفت أنَّ جريانه في أطراف العلم الإجمالي يستلزم منه المنافات والضدية.

وقسماً منها يكون الظاهر منها علاج التزاحم بين غرضين ترخيصي وإلزامي محتمل فلا تشمل ورود العلم الإجمالي بالالزام مع قطع النظر عن مسألة الإبتلاء بالمعارض.

ثالثاً: التمسك ببعض الأخبار الواردة في موارد متفرقة من العلم الإجمالي بالتكليف حيث تأمر بالإجتناب والموافقة القطعية كالروايات الواردة في الغنم التي يعلم بكون بعضها موطوءة.

ومن جميع ذلك يظهر بطلان شبهة التخيير من جريان الأصل الترخيصي في أطراف العلم الإجمالي.

ثم إنَّه قد استدلَّ ببعض الوجوه أيضاً لجريان الأصل الترخيصي في بعض أطراف العلم الإجمالي وهي موهونة نذكر بعضها:

1- دعوى إجراء الأصل في كل طرف للتأمين عن ارتكابه بالخصوص من دون أنْ يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعية ولا التقييد في إطلاق دليل الأصل, لأنَّ الترخيص في كل طرف بالخصوص باعتباره مشكوكاً لا ينافي لزوم الإتيان بالجامع لكونه معلوماً نظير التخيير الشرعي بين الخصال الثلاث حيث أنَّ الجامع واجب بالرغم من الترخيص من ترك كلٍّ منهما بخصوصه وعدم الإلزام به.

ص: 390

وفيه: ما عرفت من أنَّ الأصل لا مجرى له فيما فيه اقتضاء الحجية, مع أنَّ تنجيز الجامع ووجوب الإتيان به من باب حكم العقل لا أنَّ التكليف المعلوم بالإجمال متعلق به.

ومن أجل ذلك يكون نظير المقام بخصال الكفارات باطلاً, لأنَّ الواجب التخييري يكون التكليف فيه متعلقاً بالجامع.

2- إذا فرض أهمية أحد الطرفين في مورد العلم الإجمالي فإنَّ مقتضى القاعدة فيه جريان الأصل الترخيصي في الطرف غير الأهم, إذ لا يحتمل جريانه في طرف الأهم دونه, فالترخيص في الطرف الأهم معلوم سقوطه على كلِّ حال فلا يبقى محذور للتمسك بإطلاق الترخيص في الطرف غير الأهم.

ويرد عليه: ما ذكرناه من أنَّه لا مقتضي لجريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي مطلقاً كما عرفت, وسيأتي مضافاً إلى أنَّ أهمية أحد التكليفين الواقعيين لا تعنى الأهمية في الحكم الظاهري بحيث نقطع بعدم جريان الترخيص الظاهري في الأهم مقابل جريانه في المهم, فإنَّ ملاكات جعل الحكم الظاهري تختلف عن الحكم الواقعي كما هو واضح.

وغير ذلك من الوجوه التي لا يخفى بطلانها.

وقد اتَّضح من جميع ذلك إنَّه في موارد العلم الإجمالي بالتكليف يجري فيها الإحتياط فتجب الموافقة القطعية وتحرم المخالفة القطعية.

وتبين مِمّا ذكرناه أيضاً أنَّ المحذور من جريان الأصل والترخيص في تمام الأطراف أنَّ بعضها ثبوتي وبعضها إثباتي, وهو الموافق لمبنى المشهور بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية, والموافق لمبنى المحقق العراقي حتى بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ومبنى السيد الوالد قدس سره , خلافاً لما ذهب إليه السيدر الصدر قدس سره , حيث اعتبر المانع إثباتياً لا ثبوتياً, وقد ذكر قدس سره ثمرات(1) للفرق بين مسلك المشهور ومسلكه.

ص: 391


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص196 وما بعدها.

3- إذا دلَّ دليل تام السند والدلالة على الترخيص في المخالفة القطعية في مورد, كما في جوائز السلطان أو آكل الربا إذا تاب فإنَّه بناءً على كون المحذور ثبوتياً لا بُدَّ من طرح الدليل الخاص أو تأويله بينما يؤخذ به ويلتزم بالترخيص في المخالفة بناءً على كون المحذور اثباتياً إرتكازياً, فإنَّ الإرتكاز لا ينفع مع وجود نص خاص على خلافه, فإنَّه يعمل به لا محالة؛ واعتبر هذه الثمرة صحيحة.

ويرد عليه:

أولاً: ما تقدم بيانه في مبحث القطع من تقديم الحكم الشرعي في مورد حكم العقل ولا يستلزم منه محذور عقلي أو شرعي ويأتي ما يتعلق بذلك أيضاً.ثانياً: إنَّ مفروض الكلام في تقديم الأصول المؤمنة وتثبيت الترخيص المؤمن عليه في أطراف العلم الإجمالي؛ كلاً أو بعضاً, ولا كلام في تقديم الأمارة التي هي بمنزلة العالم أيضاً على الترخيص في بعض الأطراف، كما سيأتي بيانه عند ذكر موارد جواز إقتحام أطراف العلم الإجمالي.

ومن ذلك يظهر فساد جملة من الثمرات التي ذكرها في المقام أيضاً.

1- إنَّه بناءً على كون المحذور إثباتياً لا يجري الأصل الترخيصي في بعض أطراف العلم الإجمالي إذا كان في الطرف الآخر أصل إلزامي حاكم؛ كما إذا فرض جريان استصحاب التكليف في أحد الطرفين الحاكم على البراءة, فإنَّه لا يمكن الرجوع إلى البراءة في الطرف الآخر أيضاً, لأنَّ إطلاق دليل البراءة في كلٍّ منهما قد ابتلى بالإجمال والتعارض الداخلي, ولا يجدي قيام أصل إلزامي في أحد الطرفين للرجوع إلى الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لأنَّه ساقط ذاتاً لا حجية.

وفيه: إنَّه لا يختص بكون المحذور إثباتياً بل يجري أيضاً حتى على المسلك الثبوتي, فإنَّ قبح الترخيص في المخالفة القطعية حكم عقلي وهو بمنزلة القرينة المتصلة بالخطاب.

ص: 392

مع أنَّه قد تقدم أنَّ دليل الأصل الترخيصي مقيد بما لم يعلم تفصيلاً حرمته والأصل الإلزامي الحاكم يتَّضح صغرى هذا الإطلاق كما لا يخفى.

والحاصل من جميع ذلك؛ إنَّ العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية لتنجز الإحتمال في كلٍّ منهما فلا يجوز الإقتحام لا في جميع الأطراف ولا في بعضها بلا مؤمن شرعي, والمحذور في جريان الأصل مطلقاً؛ ثبوتي وإثباتي, ولا فرق في منجزية العلم الإجمالي بين أنْ يكون المعلوم تكليفاً من نوع واحد أو نوعين كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة آخر, لأنَّ كلاً من الوجوب والحرمة قد دخلت في عهدة المكلف ويجب عليه الخروج عن عهدته؛ إلا إذا دلَّ دليل على الإقتحام أو الترك ويعتبر ذلك قاعدة أصولية؛ وقد سميت بقاعدة منجزية العلم الإجمالي.

المقام الرابع: في أركان منجزية العلم الإجمالي
اشارة

المستفاد من جميع البحوث المتقدمة أركان قاعدة منجزية العلم الإجمالي وهي عديدة:

الركن الأول: العلم بالتكليف؛ ولولاه لكانت الشبهة بدوية وتجري البراءة فيها؛ سواء كان العلم وجدانياً أم كان تعبدياً حاصلاً من الأمارة الشرعية كالبينة ونحوها.

الركن الثاني: إختصاص العلم بأصل التكليف الجامع وإلا فلو انحلَّ وسرى إلى أحد الأفراد دون غيره لانقلب العلم الإجمالي إلى التفصيلي فيكون منجزاً في ذلكالفرد المعلوم تفصيلاً, وهذا هو المعبر عنه في الإصطلاح الأصولي بانحلال العلم الإجمالي الذي سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

الركن الثالث: أنْ يكون كلّ طرف صالحاً لأنْ يشمله دليل الأصل الترخيصي مع قطع النظر عن العناوين الطارئة حتى عن عنوان التعارض الناشئ من العلم الإجمالي, لأنَّ منجزيته في طول تساقط الأصول في أطرافه, فلو كان أحد الأطراف غير مشمول لدليل الأصل المؤمن يجري الأصل في الطرف الآخر بدون محذور.

ص: 393

وقيل: إنَّ ذلك يتم بناءً على مسلك الإقتضاء, وأمّا على مسلك العلية فلا يتم, لأنَّ العلم الإجمالي بناءً عليه لا يكون منجزاً لجريانه بل لا بُدَّ من إبطال العلم الإجمالي عن التنجز في المرتبة السابقة ليصح جريان الأصل المؤمن, ولعله لذلك عدل المحقق العراقي إلى بيان وجه آخر فذكر أنَّ تنجيز العلم الإجمالي يتوقف على صلاحية تنجيز معلومه على جميع تقاديره, فإذا لم يكن صالحاً لذلك في أحد الطرفين لا يصلح للتنجيز حينئذٍ إلا على بعض تقادير معلومه وهو غيرمعلوم فيكون كالشبهة البدوية, أو فيما إذا كان في أحد الأطراف أمارة أو أصل إلزامي يكون التكليف منجزاً في ذلك الطرف بالأصل, ومعه لا يمكن أنْ يتنجز بالعلم الإجمالي أيضاً, لأنَّ المنجز لا يتنجز لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على أثر واحد.

وهذا التقريب وإنْ كان لا يخلو من نقاش كما سيأتي ولكن نتيجته مع ما ذكرناه واحدة, وإنَّ في موارد جريان الأمارة أو الأصل المنجز في أحد الطرفين يجري الأصل في الطرف الآخر بدون محذور فلا فرق بين القول بالإقتضاء أو العلية.

الركن الرابع: أنْ يكون جريان البراءة في أطراف العلم مؤدياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية, ومن الممكن وقوعها خارجاً من المكلف على وجه مأذون فيه وإلا فلو كانت المخالفة القطعية ممتنعة على المكلف حتى مع الإذن والترخيص لقصور في قدرته فلا محذور في إجراء البراءة, وهذا على مبنى الإقتضاء واضح, وقد يعبّر عن ذلك بوجه آخر كما ذكره بعضهم؛ وهو عدم لزوم الترخيص القطعي في المخالفة من جريان البراءة في كل الأطراف وإنْ كانت المخالفة القطعية ممتنعة وسيأتي وجه الفرق بين الصيغتين.

ص: 394

تنبيهان:

التنبيه الأول: قد عرفت مِمّا سبق أنَّه لا فرق بين المسلكين؛ العلية والإقتضاء, لوجوب الموافقة القطعية, ولكن ذكر بعض المحققين أنَّ الفرق بين مسلك علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ومسلك الإقتضاء يظهر فيما إذا لم يكنفي أحد طرفي العلم الإجمالي أصل ترخيصي ولا إلزامي وكان في الطرف الآخر أصل ترخيصي, فإنَّه بناءً على الإقتضاء يجري الأصل الترخيصي في ذلك الطرف بلا معارض فلا تجب الموافقة القطعية من ناحيته, وأمّا بناءً على علية العلم الإجمالي ومنعه عن جريان الترخيص في أطرافه فلا يجري الترخيص بل تجب الموافقة القطعية بالإجتناب عن الطرفين معاً.

وقد إعترض على ذلك المحقق النائيني قدس سره فقال بأنَّ هذا من مجرد الفرض ولا وقوع له خارجاً إذ لا يتفرد أحد الطرفين بالأصل الترخيصي إلا إذا كان في الطرف الآخر أصل إلزامي شرعي أو عقلي وهو يوجب إنحلال العلم الإجمالي وبطلانه عن التخيير بناءً على مبنى العلية, لأنَّه إمّا أنْ يكون الشكّ فيه في أصل التكليف أو في الإمتثال؛ فإنْ كان شكاً في التكليف فهو مجرى البراءة فلا يجري الترخيص في الطرف الآخر حتى على الإقتضاء, وإنْ كان شكاً في الإمتثال فهو مجرى أصالة الإشتغال العقلية أو استصحابه وهو يبطل تنجيز العلم الإجمالي حتى على مسلك العلية.

وردّه المحقق العراقي قدس سره (1) بأنَّه يمكن فرض مصداقية ذلك فيما إذا كان في كلٍّ من الطرفين أصل ترخيصي في عرض واحد وامتاز أحد الطرفين على الآخر بوجود أصل ترخيصي طولي فيه, فإنَّه يتعارض الأصلان الترخيصيان العرضيان وبعد التساقط نرجع إلى الأصل الترخيصي الطولي في ذلك الطرف بلا معارض فيجري بناءً على مسلك الإقتضاء دون مسلك العلية, ولأجل ذلك جعله نقضاً على مسلك الإقتضاء.

ص: 395


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص320.

والصحيح؛ إنَّه يمكن تصوير فروض متعددة لاختصاص الأصل الترخيصي ببعض الأطراف:

الفرض الأول: أنْ يكون أحد طرفي العلم الإجمالي في نفسه مِمّا لا يجري فيه الترخيص, كما إذا علم بوجوب الصلاة عند رؤية الهلال أو وجوب صلاة الفريضة التي دخل وقتها والذي هو مجرى قاعدة الإشتغال, وفي هذا الفرض يتم ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في عدم ظهور الثمرة التي ذكروها في مسلك العلية, لأنَّ قاعدة الإشتغال أو استصحابه تلغي منجزية العلم الإجمالي وتوجب إنحلاله, فيجري الأصل الترخيصي في الطرف الآخر على كِلا المسلكين, فيكون اعتراضه موجهاً لأنَّ الموجب في الإنحلال الحكمي هو الأصل الإلزامي الجاري في بعض الأطراف.

نعم؛ لو قلنا بأنَّ الموجب للإنحلال الحكمي وسقوط العلم الإجمالي عن التنجز إنَّما هو الأصل النافي في أحد الطرفين فلا يتمّ ما ذكره, فيكون الإعتراض مبنائيٌّ, وسيأتي ما يتعلق بهذا المبنى, فإنَّه تام ومقبول على كليته أم لا.الفرض الثاني: أنْ يكون الأصل الترخيصي في أحد الطرفين محكوماً بأصل إلزامي, كما إذا كان أصل الحلّ في أحد الطرفين محكوماً باستصحاب الحرمة, وفي هذا الفرض يحكم الجميع بجريان الأصل الترخيصي في الطرف الآخر بلا محذور, ولكن ذكروا شبهة في المقام لا بُدَّ من حلّها وهي: إنَّ دليل الأصل الترخيصي -كأصالة الحلّ- بناءً على كون المحذور في شموله لتمام أطراف العلم الإجمالي هو الإرتكاز, أو يكون ثبوتياً فهو بمثابة القرينة المتصلة بوجود الإجمال الداخلي الهادم للإطلاق, والظهور له وجريان الأصل الإلزامي في أحد الطرفين لا يمكن أنْ يرفع الإجمال عن دليل الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لانهدام ظهوره كما عرفت, وهذه الشبهة لا تختص بهذا الفرض بل تجري في فروض أخرى أيضاً.

ص: 396

ويمكن الجواب عنها على فرض شمولها لجميع الفروض المتصورة؛ بأنَّ إطلاق دليل الترخيص شامل لكل طرف من أطراف العلم الإجمالي إذا لم يكن فيه محذور الترخيص في المخالفة القطعية, لأنَّ المقيد له إنَّما يثبت التقييد بمقدار ما لم يعلم تفصيلاً حرمته ويشمل كل طرف لعلم إجمالي لا يوجد منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر وبالأصل الإلزامي الحاكم تتحقق صغرى هذا القيد.

الفرض الثالث: أنْ يكون في أحد الطرفين أصلان ترخيصيان طوليان وفي الطرف الآخر أصل ترخيصي واحد, كما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين وكان في أحدهما حالة سابقة من الطهارة فتستصحب معارضاً مع أصالة الطهارة في الطرف الآخر, وبعد التعارض والتساقط يصح الرجوع إلى أصالة الطهارة في مورد الإستصحاب لكونها أصلاً طولياً لم يدخل في المعارضة في الأصل الترخيصي في الطرف الآخر, وهذا هو مورد كلام المحقق العراقي قدس سره (1) الذي اعتبره نقضاً على مسلك الإقتضاء حيث قال: يستبعد القول بعدم وجوب الموافقة القطعية في ذلك.

وقد اختلفوا في الجواب عن هذا النقض, وأهم الأجوبة في المقام:

الجواب الأول: ما عن المحقق النائيني قدس سره (2) من أنَّ التعارض إنَّما يكون بين المجعولين والمؤديين, وبما أنَّ المجعول في كلٍّ من الطرفين شيء واحد وإنْ اختلفت الطرق والأدلَّة عليه فلا يبقى ترخيص في أيّ واحد من الطرفين.

واعترض عليه المحقق العراقي قدس سره بما يلي:

أولاً: إنَّ المجعول في استصحاب الطهارة وقاعدتها ليس واحداً بل متعدد, فإنَّ أحدهما في طول الآخر ولا محذور فيه.

ص: 397


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص12, ونهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص321.
2- . أجود التقريرات, ج2 ص246, وفوائد الأصول؛ ج4 ص16.

وفيه: إنْ أريد من المجعول روح الحكم ومبادئه فهو واحد في القاعدة والأصل كما ذكره المحقق النائيني قدس سره والإعتراض غير وارد عليه, لأنَّ الحكم الظاهري روحاً واحد وإنْ تعددت مناشئه وملاكاته.

ثانياً: إنَّ التنافي وإنْ كان بين المجعولين المدلولين للدليلين إلا أنَّ ذلك بلحاظ كونهما مدلولين بما هما مدلولان, وهذه حيثية تقييدية, فإذا كان أحد الطرفين حيثيتان للدلالة وسقطت إحداها في الرتبة السابقة وصلت النوبة إلى الدلالة الذاتية بلا محذور.

وفيه: إنَّ هذا اللحاظ موطنه الأمور العقلية لا في مقام الدلالات التي ترجع إلى الفهم العرفي وذوق العرف, وهو يدلُّ على نفي الحيثية التقييدية وأنَّ المجعول فيهما واحد.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره أيضاً من أنَّه يلزم من جريان الأصل الترخيصي الطولي المحال, لأنَّه يلزم من وجوده عدمه, وذلك لأنَّ جريان هذا الأصل الطولي يكون في طول سقوط الأصل الترخيصي الحاكم عليه, وسقوط هذا الأصل في طول منجزية العلم الإجمالي واقتضاؤه لتساقط الأصول في أطرافه, فإذا جرى الأصل الطولي أوجب انحلال العلم الإجمالي وارتفاع منجزيته التي كانت هي السبب في سقوط ذلك الأصل الحاكم, وهذا يعني أنَّه يلزم من جريان الأصل الطولي عدم جريانه وارتفاع موضوعه, وهو محال.

وفيه: إنَّ ما أوجب رفع الأصل الطولي غير ما أوجب سقوط الأصل الحاكم, فإنَّ الأول رفع من أجل منجزية العلم لوجوب الموافقة القطعية, وأمّا الثاني فإنَّ ما أوجب سقوط الأصل الحاكم إنَّما هو منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية كما هو واضح.

الجواب الثالث: ما ذكره بعضهم(1) من أنَّ المعارضة إنَّما هي بين الأصلين العرضيين في طرف والأصل الطولي في الطرف الآخر, فالتعارض وقع ابتداءً بين الأصول الثلاثة لا

ص: 398


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص230-233, ومصباح الأصول؛ ج2 ص356-360.

بين الأصلين العرضيين أولاً ثم وصلت النوبة إلى الأصل الطولي بلا معارض, لأنَّ الحجية ليست من أحكام الرتب حتى يشترط فيها وحدة الرتبة, بل من أحكام الزمان فيسقط الجميع معاً, إلا أنَّه يتَّضح من ذلك صورتان:

الأولى: ما إذا كان الأصلان العرضيان من سنخ واحد, كما إذا علم إجمالاً بنجاسة الثوب أو الماء, فإنَّ قاعدة الطهارة في كلٍّ منهما تسقطان بالمعارضة وتصل النوبة إلى أصالة الحل في الماء ليجوز شربه, فإنَّ دليل الأصل الترخيصي الذي من سنخ واحد لا يشمل كِلا الطرفين لكونه يستلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية, ولا يشمل أحدهما بالخصوص لكونه ترجيحاً بلا مرجح, فلا يشمل شيئاً منهما؛ فلا مانع من شمول دليل الأصل الطولي للطرف المختص به.الثانية: إذا كان الأصل الطولي مخالفاً في مؤداه للأصل العرضي, أي: كان إلزامياً؛ فإنَّه حينئذٍ حتى إذا كان الأصلان العرضيان غير متسانخين فإنَّهما يتعارضان ويتساقطان وتصل النوبة إلى الأصلين الطوليين في الطرفين سواء كانا إلزاميين أم كان أحدهما إلزامياً والآخر ترخيصياً, كما إذا علم إجمالاً بزيادة ركوع في الصلاة السابقة أو نقيصة ركوع في الصلاة التي بيده بعد تجاوز المحل؛ فإنَّ قاعدة الفراغ في الأول مع قاعدة التجاوز تتساقطان وتصل النوبة إلى استصحاب عدم الزيادة في الصلاة السابقة فتثبت صحتها واستصحاب عدم الإتيان بركوع الصلاة التي بيده فيثبت بطلانها.

ويمكن الإشكال على هذا التفصيل: تارةً؛ في الإستثناء الأول, وأخرى؛ في الإستثناء الثاني وثالثةً؛ في أصل المطلب.

أمّا الأولى؛ ما تقدم من أنَّه إذا كان الأصلان الترخيصيان من سنخ واحد يحصل الإجمال الداخلي في دليله بخلاف دليل الأصل الترخيصي غير المسانخ في أحد الطرفين فيكون

ص: 399

حجة بلا معارض, بلا فرق في ذلك بين طولية الأصلين الترخيصيين في الطرف الواحد أو عرضيتهما, ولكن ذلك يختص بما إذا كان دليل الترخيص في الطرفين واحداً غير دليل الأصل الترخيصي الثالث؛ سواءً كان في طولهما أم لا.

وأمّا الثانية؛ فإنَّ تساقط الأصلين العرضيين -كقاعدتي الفراغ والتجاوز في المثال- ثم الرجوع إلى الأصلين الطوليين غير صحيح على كِلا المسلكين؛ الإقتضاء والعلية.

أمّا على مسلك الإقتضاء؛ فلأنَّ وقوع التعارض بين الأصل الترخيصي الطولي في أحد الطرفين مع الأصل الترخيصي العرضي في الطرف الآخر بنفسه صار في الفرض أيضاً, ولا يكفي جريان الأصل الطولي الإلزامي في أحد الطرفين في تخليص الأصل الترخيصي الطولي عن المعارضة, فكما أنَّ محذور الترخيص في المخالفة واستحالة الترجيح بلا مرجح يُسقط الأصلين الترخيصيين العرضيين -وهما قاعدتي الفراغ والتجاوز في الطرفين- كذلك يُسقط استصحاب عدم الزيادة في الصلاة التي فرغ منها.

وأمّا على مسلك العلية؛ فإنَّه لا بُدَّ من القول بجريان قاعدة الفراغ -التي هي الأصل الترخيصي- في الطرف الأول فضلاً عن الأصل الطولي لعدم منجزية العلم الإجمالي بعد فرض جريان الأصل الإلزامي في أحد الطرفين وإنْ كان طولياً, وتنتفي العلية بمجرد جريان هذا الأصل الإلزامي في أحد الطرفين كما تنتفي المعارضة والترجيح بلا مرجح, لأنَّ الأصل المتوهم معارضته في الطرف الآخر -وهو قاعدة التجاوز في المثال- لا يجري في نفسه مطلقاً لا قبل إنحلالالعلم الإجمالي ولا بعده, ومعه تكون قاعدة الفراغ في الصلاة السابقة فضلاً عن استصحاب عدم الزيادة بلا معارض.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ كل ذلك تطويل لا طائل تحته؛ لما عرفت من أنَّ الأصل الترخيصي لا مقتضي لجريانه في أطراف العلم الإجمالي لتصل النوبة إلى التعارض والتساقط, فالمرجع في

ص: 400

تلك الأمثلة هو الرجوع إلى الأصل الإلزامي الطولي في أحد الطرفين ووجوب الإحتياط في الطرف الآخر, إلا إذا انحلَّ العلم الإجمالي وسقط عن التنجز, ومعه لا يفرق فيه بين مسلك الإقتضاء ومسلك العلية بعد سقوط التنجز والعلية, وهو ما سيأتي البحث عنه إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا الثالثة -وهي بما يرتبط بأصل المطلب-؛ من أنَّه إذا افترضنا طولية أحد الأصلين الترخيصيين في أحد طرفي العلم الإجمالي -وإنْ نوقش ذلك صغروياً-؛ يبقى السؤال هل أنَّ المعارضة تسري إلى الأصل الترخيصي الطولي أيضاً فيسقط الجميع, أو تختص هذه المعارضة بالأصلين العرضيين في الطرفين فيجري الأصل الترخيصي الطولي في ذلك بلا معارض كما حاول صاحب مسلك العلية بالنقض به على مسلك الإقتضاء؟ ولأجل الخروج من هذه المحاولة ذكرت وجوه عديدة لا تخلو من مناقشة ولا داعي لذكرها, ومن أراد التفصيل؛ فليراجع(1).

التنبيه الثاني: إذا تحققت الطولية بين طرفي العلم الإجمالي،كما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي بالنسبة إلى الطرف الآخر طولياً مترتباً عليه, وذلك فيما إذا فرضنا أنَّ وجوب الحج للمستطيع متوقف على عدم وجوب وفاء الدين فعلم إجمالاً؛ إمّا بوجوب الحج عليه أو وفاء بالدين.

وقد اختلفوا في منجزية العلم الإجمالي حينئذ؛ والمعروف عندهم جريان الأصل الترخيصي عن وجوب الوفاء بالدين الذي يكون منقحاً لموضوع وجوب الحج،ومن أجل ذلك أورد المحقق العراقي قدس سره (2) نقضاً على مسلك العلية وحاول التخلص منه.

ص: 401


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص215 وما بعدها.
2- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص215.

أمّا تفسير نقضه فلأنَّه بناءً على العلية لا يمكن إجراء الأصل حتى في طرف واحد من أطراف العلم الإجمالي إلا بعد انحلاله بأصل إلزامي في طرف أخر أو جعله بدلاً عن الواقع, وكِلا الأمرين لم يتحققا في المقام إلا في رتبة متأخرة عن جريان الأصل الترخيصي وهو لا يصح على مسلك العلية.

وأمّا جوابه عن ذلك فلأنَّ وجوب الحج -الطرف الطولي- إذا كان مترتباً على عدم وجوب الوفاء بالدين واقعاً أو ظاهراً، فالأصل الترخيصي النافي، كما ينفي وجوب الوفاء بالدين فيكون ترخيصاً بهذا المعنى لكنه يثبت وجوب الحج فيكون بهذا المعنى أصلا إلزامياً فيوجب انحلال العلم الإجمالي بمدلوله الوجوديالإلزامي فيصح الأخذ بمدلوله العدمي الترخيصي وإنْ كان هناك فرق بين الثاني والأول؛ فإنَّ الفرض الثاني يكفي فيه الأصل غير التنزيلي كأصاله البراءة عن وجوب الوفاء بالدين, وفي الفرض الأول لا بُدَّ من إحرازالموضوع في وجوب الحج بالأصل التنزيلي كاستصحاب عدم وجوب الوفاء بالدين، هذا إذا كان وجوب الحج متوقفاً على عدم وجوب الوفاء بالدين. أمّا إذا كان وجوب الحج مترتباً على مطلق التأمين والمعذورية عن وجوب الوفاء بالدين؛ فإنَّ ذلك يوجب عدم صلاحية العلم الإجمالي للتنجز, لأنَّ العلم الإجمالي لا بُدَّ أنْ يكون صالحاً لتنجز كِلا طرفيه في عرض واحد، وفي المقام يستحيل ذلك, لأنَّه لو تنجز وجوب الوفاء بالدين إرتفع وجوب الحج يقيناً, فتكون منجزيه مستحيلة.

وأورد عليه السيد الصدر قدس سره (1) بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ شمول الأصل لدلالتين؛ إحداهما وجودية توجب وجوب الحج، والأخرى عدمية توجب عدم وجوب الوفاء بالدين إنَّما يصح فيما إذا تكفل دليل الأصل

ص: 402


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص225 وما بعدها.

بيانهما معا، وهذا ممنوع في أصل البراءة بالإتّفاق وفي الإستصحاب على قول؛ فإنَّ دليل البراءة لا يتكفل إلا نفي الحكم المشكوك ظاهراً، وأمّا الأمر الإلزامي المترتب على انتفاء الحكم المشكوك ولو ظاهراً فلا بُدَّ أنْ يترتب بدليله من باب تحقق موضوعه بجريان الأصل الظاهري, وهو لا يعني إنَّ الأثر الإلزامي إنَّما يكون في طول ثبوت الأثر الترخيصي في أحد طرفي العلم الإجمالي أولاً، بل هو غير ممكن بناءً على مسلك العليه فيرد النقض.

ويمكن الجواب عنه بأنَّه لا مانع من استفادة ذلك من إطلاق دليل الأصل الترخيصي بعد انضمام دليل الأثر الشرعي الثابت في الطرف الآخر.

يضاف إلى ذلك أنَّ ما ذكره قدس سره تامّ في عالم الرتب, فإنَّ رتبة جريان الأصل الترخيصي متقدمة على رتبة جريان الأصل الإلزامي كما هو واضح, ولكنهما يتحققان في زمان واحد فلا يكون الأصل الترخيصي مؤمناً عن احتمال تكليف منجز بالعلم الإجمالي, إذ في زمان جريانه لايكون العلم الإجمالي منجزاً.

الوجه الثاني: إنَّ مانعية العلم الإجمالي عن الترخيص إنَّما كانت لاستلزام الأصل الترخيصي لمحذور عقلي تنجزي وهو الترخيص في المخالفة, وهذا المحذور فرع الحفاظ على العلم الإجمالي, فإذا كان الأصل رافعاً له فليس هناك مخالفة لحكم العقل التنجيزي ولا وجه لعدم جريانه، كما لا حاجة إلى جواب المحقق العراقي حينئذٍ.وفيه: إنَّ مجرد جريان الأصل الترخيصي في أحد طرفي العلم الإجمالي في مفروض المثال لا يكون كافياً لانحلال العلم الإجمالي ورافعاً له ما لم ينضمّ إليه الأصل الإلزامي في الطرف الآخر، كما عرفت آنفاً.

ص: 403

الوجه الثالث: إذا كان وجوب الحج مترتباً على عدم تنجز الدَين لا يعقل تحقق العلم الإجمالي بالتكليف لا أنَّه يتحقق، ولكنه لا يتنجز، لأنَّه لو أريد العلم إجمالاً بوجوب الوفاء بالدين واقعاً أو وجوب الحج بذلك, فمن الواضح أنَّه يمكن أنْ لا يكون الوجوبان معاً، وذلك بأنْ لا يكون الدين منجزاً عليه من دون وجوب واقعي, فإنَّ التنجيز أعمّ من الحكم الواقعي فلا وجوب وفاء ولا وجوب حجّ، وإنْ كان المراد العلم إجمالاً بتنجز أداء الدين عليه أو وجوب الحج؛ كان الجواب أنَّه لا معنى للشك في التنجز إلا بدواً وإلا فبعد التأمل يستقر عنده التنجيز أو التأمين لا محالة على اختلاف المباني في منجزية العلم الإجمالي، وعلى كلِّ حالٍ فلا يحصل علم إجمالي بالتكليف، بل إذا استقر عنده تنجز وجوب الوفاء بالدَين وعلم تفصيلاً بعدم وجوب الحج عليه، وإذا إستقر عنده عدم تنجز وجوب الوفاء علم تفصيلاً بوجوب الحج, وفي كِلا التقديرين يكون وجوب الوفاء بالدين محتملاً.

ويرد عليه: إنَّ نفي العلم الإجمالي بالتكليف مطلقاً غير صحيح, فإنَّه يمكن فرض أنَّ المنجزية هي بنفسها من الأحكام الواقعية ولا حاجة إلى فرض أحد الطرفين واقعياً، وحينئذ إذا علم إمّا بوجوب الحج عليه أو وجوب الوفاء بالدين فيتنجز العلم الإجمالي في حقه واقعاً, فإذا انحلَّ أحد الطرفين ارتفع التنجيز كما عرفت آنفاً.

وقد تبين من جميع ذلك أنَّه يمكن فرض الطولية بين طرفي العلم الإجمالي وصحة جريان الأصل الترخيصي في أحدهما الذي أُخذ عدمه في موضوع الآخر, ويثبت وجوب الآخر واقعاً مطلقاً؛ سواءً كان مترتباً على عدم وجوب الآخر واقعاً كان الأصل الجاري فيه تنزيلياً أم غير تنزيلي.

ص: 404

المقام الخامس: موارد عدم وجوب الموافقة القطعية
اشارة

المشهور بين الأصوليين سقوط العلم الإجمالي عن تنجيز الموافقة القطعية في موارد, وهي:

المورد الأول: ما إذا دلَّ دليل خاص على أنَّ الشارع يكتفي بالإمتثال الإحتمالي ولا يأمر بالإحتياط فلا يجب حينئذٍ, ومن المعلوم أنَّه لا يكون ذلك إلا مع ورود دليل مخصوص فيدور مداره, وله تطبيقات عديده؛ منها؛ قاعدة الفراغ، وقاعدة التجاوز وقاعدة (الوقت حائل)، ومنها؛ ما إذا ورد الدليل على الإكتفاء بالإمتثال التنزيلي كموارد حديث (لا تعاد الصلاة إلا من خمس) وقاعدة اعتبار الظنبالركعات وقاعدة (لا شكَّ لكثير الشك), وغير ذلك من الموارد الكثيرة المذكورة في الفقه مِمّا دلّ الدليل على سقوط الإحتياط وعدم لزومه.

وقد يتوهم أنَّ بعض تلك القواعد غير شامله لمورد العلم الإجمالي, ولكنه موهون بأنَّه يمكن تصوير ذلك في مورد العلم الإجمالي أيضاً, كما إذا علم إجمالاً بأنَّه إمّا شكَّ في دخوله في السورة أو سها عن ذكر الركوع بعد رفع الرأس عنه؛ فإنَّه تصحّ صلاته ولا يعتنى بشكه لبعض تلك القواعد, بل يصح أنْ يقال بصحه صلاته لو أحرز كلاً منهما تفصيلاً في محله ولا شيء عليه كما هو مفصل في الفقه.

المورد الثاني: ما إذا كان في بعض الأطراف تكليف فعلي ثابت بعلم أو بأمارة معبرة، سواء كان من سنخ التكليف المعلوم بالإجمال أم من غيره, فيجري الأصل في الطرف الآخر ويسقط العلم الإجمالي عن التنجيز فلا تجب الموافقة القطعية, وهذا هو المعبر عنه بانحلال العلم الإجمالي وسيأتي الكلام فيه مفصلاً، وتقدم في البحوث السابقة ما يرشد إليه فراجع.

المورد الثالث: ما إذا لم يصلح العلم الإجمالي للداعوية، كما في دوران الأمر بين المحذورين فيتخير المكلف في ارتكاب أحدهما وترك الآخر على تفصيل تقدم فراجع.

ص: 405

المورد الرابع: خروج بعض الأطراف عن مورد الإبتلاء, والكلام فيه من جهات:

الجهه الأولى: في المراد من الخروج عن محل الإبتلاء؛ فإنَّ له حالات:

منها: عدم صدور الفعل بحسب طبعه عن المكلف لتوقفه على مقدمات وعنايات فائقة أو طويلة بحيث يرى كأنَّه غير مقدور له عرفاً وإنْ كان مقدوراً عقلاً، كما في استعمال كأس في بلد لا يمكن الوصول إليه عادة أو كان ذلك في الطرف الإجمالي مِمّا تنتفر الطباع منه ولا يقدم عليه كما في أكل الخبائث, وغير ذلك؛ والجامع بينهما هو انصراف المكلف عن الفعل بحسب الطبع الأولي والنوعي عند الناس بقطع النظر عن عناية أو خصوصية زائدة فيكون بحكم العاجز عنه عرفاً وإنْ لم يكن عاجزاً حقيقة.

ومنها: الخروج حقيقةً؛ بعروض العجز عليه في ما لم يكن مقدوراً حقيقة, كما إذا علم بنجاسة أحد مائين مثلاً وكان أحدهما مِمّا لا يقدر المكلف على الوصول إليه عقلاً.

ومنها: الخروج شرعاً عن مورد ابتلائه, كما إذا علم بنجاسة أحد إنائين؛ أحدهما ملك له والأخر ملك لغيره لم يأذن له بالتصرف فيه.

الجهه الثانية: إنَّ المناط في الإبتلاء إنَّما هو القدرة على ارتكابه, ولا ريب في اعتبار القدرة في التكليف. وهذه القدرة المشروطة إمّا أنْ تكون دقية عقلية، أو شرعية خاصة، أو عاديه عرفية, ولا إشكال في عدم اعتبار الأولى, فإنَّها ليستمناطاً للتكاليف الشرعية؛ لاستلزامه العسر والحرج والمشقة من كلِّ جهة, والأحكام الشرعية مبنية على التسهيلات النوعية, وقد شرعها الله عَزَّ وَجَلَّ على العباد بما لايستلزم العسر والحرج لهم.

وأمّا الثانية؛ فإنَّها تتبع الدليل, فإنْ دلَّ على اعتبارها في مورد خاص يؤخذ به وإلا فلا إعتبار بها.

وأمّا الثالثة؛ أي القدرة العرفية, فهي المناط في مطلق التكاليف إلا إذا دلّ دليل على الخلاف. ولا ريب أنَّها متقومة بالإبتلاء للمكلف عند العقلاء، فيكون دليل اعتبار

ص: 406

الإبتلاء في التكليف نفس دليل اعتبار القدرة فيه ودليل سقوط التكليف عما خرج عن مورد الإبتلاء عين دليل عدم صحة التكليف بغير المقدور, وتقدم في بحث دوران الأمرين المحذورين أنَّ التكليف المطلق لا بُدَّ وأنْ يصلح للداعوية المطلقة, وما هو خارج عن مورد الإبتلاء لا يكون كذلك فيكون التكليف في حاقّ الواقع معلقاً على الإبتلاء فيلزم من ذلك الخلف.

الجهة الثالثة: الأقسام المتصورة في المقام, وهي:

1- إذا كان بعض أطراف العلم الإجمالي غير مقدور حقيقةً.

2- ما إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محل الإبتلاء عرفاً.

وكِلا القسمين إمّا أنْ يكون العجز الحقيقي أو العرفي مقارناً مع العلم الإجمالي وإمّا أنْ يكون متقدماً عليه. وإمّا أنْ يكون العجز قد حصل بعد العلم الإجمالي.

وهذا القسم الأخير سيأتي الكلام فيه في بحث الإضطرار إنْ شاء الله تعالى.

أمّا الكلام في القسم الأول؛ وهو إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد مائعين وكان أحدهما مِمّا لا يقدر المكلف على الوصول إليه عقلاً؛ فلا إشكال في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية؛ لما عرفت من اعتبار القدرة في عموم التكاليف, وهذا هو مراد من استدلَّ بأنَّ مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون علماً بتكليف فعلي, فالركن الأول من أركان منجزية العلم منتفٍ، لأنَّ النجس إذا كان هو المائع الذي لا يقدر عليه المكلف، فليس موضوعاً للتكليف، إذ كان التكليف مشروطاً بالقدرة لا محالة فلا علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير فيشك في وجوده لاحتمال كون النجس في المقدور.

ولا حاجة إلى محاولة السيد الصدر قدس سره في إدراج ذلك في بحث الإضطرار بناءً على أنَّ الإضطرار العقلي إلى ترك الحرام كالإضطرار العقلي إلى فعله، فكما لا يتنجز العلم الإجمالي

ص: 407

مع الإضطرار إلى ارتكاب طرف معين كذلك لا يتنجز مع الإضطرار إلى تركه، ثم استشكل في أنَّ الإضطرارين يتّفقان في نقطة ويختلفان في أخرى وفصَّل الكلام في بيان الفرق.

والظاهر أنَّه تطويل لا طائل تحته، فإنَّه بعد اتّفاق الجميع على اشتراط القدرة في التكليف، وكل واحد من الإضطرارين يساوق انتفاء القدرة في الفعل أو الترك فلايكون التكليف ثابتاً على كل تقدير. نعم؛ قد يختلفان في بعض الأمور كمبادىء النهي؛ ولا يضر.

وقد يقال: إنَّ عدم تنجز العلم الإجمالي في هذا القسم يكون على أساس اختلال الركن الثالث أي جريان الأصل المؤمن في الطرف المقدور بلا معارض، إذ لا معنى لجريانه في الطرف غير المقدور, فينحل العلم الإجمالي حكماً وهو تبعيد للمسافة كما هو واضح.

وكيف كان؛ فإنَّه لا فرق في انحلال العلم الإجمالي وسقوطه عن التنجز على كِلا المسلكين؛ العلية والإقتضاء، لأنَّ معنى التنجز هو الدخول في العهدة عقلاً والطرف غير المقدوركما لا يعقل تعلق الخطاب به كذلك لا يعقل تنجزه ودخوله في العهدة عقلاً.

وأمّا الكلام في القسم الثاني؛ وهو ما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارجاً عن مورد الإبتلاء عرفاً؛ فالمشهور-كما عرفت- عدم منجزية العلم الإجمالي فيه أيضاً, وفي توجيه السقوط مسلكان:

المسلك الأول: ما تقدم من أنَّ الإبتلاء وعدمه يرجعان إلى القدرة وعدمها, وأنَّ المناط في القدرة هوالقدرة العرفية, وهذا واضح مِمّا تقدم فتسقط فعلية التكليف مع خروج الطرف عن محل الإبتلاء ليكون الدخول في محل الإبتلاء شرطاً في فعليته.

المسلك الثاني: ما ذهب إليه بعض الأصوليين من أنَّ السقوط إنَّما يكون من جهة عدم توفر الركن الثالث وهو جريان الأصل المؤمن في أحد أطرافه, وذكر في توجيه ذلك من

ص: 408

أنَّ ما ذكره المشهور إنَّما يرجع إلى كون منجزية العلم الإجمالي وعدمها منوط بالدخول في محل الإبتلاء في صحة التكليف, فمن أنكر منجزية العلم الإجمالي استند إلى أنَّ الدخول في محل الإبتلاء شرط في فعلية التكليف, فلا علم إجمالي به مع خروج أحد طرفيه عن الإبتلاء كما عرفت آنفاً.

ولكن من أنكر اشتراط التكليف بالدخول في محل الإبتلاء فإنَّه لا بُدَّ أنْ يقول بمنجزية العلم الإجمالي وأمّا عدم منجزيته فلا يرتبط بهذه المسألة أصلاً بل حتى على القول بفعلية التكليف في موارد الخروج عن محل الإبتلاء, فإنَّ هذا العلم الإجمالي لا يكون منجزاً؛ لانتفاء الركن الثالث في المقام, لأنَّ وصف الدخول في محل الإبتلاء شرط في جريان الترخيص الظاهري, وبه لا يتنجز العلم الإجمالي في مورد خروج بعض الأطراف عن مورد الإبتلاء.

وبيان ذلك؛ إنَّ وصف الدخول في الإبتلاء كالعجز الحقيقي؛ لا يمكن أنْ يكون دخيلاً في الملاك، لأنَّ هذا الوصف لا يمكن أنَّ يكون مخصصاً للفعل إلى حصة داخلة في محل الإبتلاء وحصة غير داخله فيه. وعليه؛ فالملاك محرز على كلّ حال وهذا وحده كافٍ في التنجيز ولو فرض اشتراط التكليف والخطاب بوصف الدخول في محل الإبتلاء, لأنَّ إحراز روح التكليف ومباديه يكفي في التنجيز,ولو فرض عدم النهي مثلاً لاستهجانه أو لغويته, فالصحيح عدم اشتراط التكليف بمعنى الخطاب بالدخول بمحل الإبتلاء إذ لا وجه لذلك, فإنَّه إنْ ادعيّ استهجان إطلاق الخطاب للفقير المستضعف بالنهي عن جباية الضرائب مثلاً التي هي خارجة عن محل ابتلائه إذ هي من شؤون السلاطين، فمن الواضح أنَّ هذا الإستهجان مرتبط بجهات عرفية في باب المحاورة، ولهذا يثبت هذا الإستهجان حتى مع تقييد النهي بالدخول في محل إبتلائه, ويرتفع بافتراض الخطاب عامّاً وبنحو القضية للناس جميعاً، كما إذا قال لايجوز لأحد أنْ يظلم.

ص: 409

ودعوى استلزامه لغوية الخطاب بمعنى الجعل والإعتبار أو بمعنى التحريك المولوي باعتبار ضمان عدم صدور الفعل الخارج عن محل الإبتلاء فيكون صدوره من المولى عبثاً ولغواً.

ولكن هذه الدعوى غير صحيحة؛ إذ أنَّها لو تمت فهي بالخطابات الجزئية والتي فيها مؤونة زائدة ولا تتم فيما إذا كان استفادة التحريم بإطلاق خطابه, كحال الخروج عن محل الإبتلاء, يضاف إليه أنَّه يكفي في فائدة النهي والزجر تمكين المكلف من التعبد بتركه والإتيان به على وجه قربي فإنَّه قد يثبت في الفقه أنَّه يكفي في العبادية وجود داعي النهي وإنْ انظمَّ إليه داعٍ آخر غير محرم.

كما أنَّ دعوى استلزامه استحالة الخطاب والتحريك المولوي لأنَّه تحصيل للحاصل مردودة أيضاً؛ بأنَّ فائدة تمكين المكلف من التعبد بتركه, فيخرج ما نحن فيه عن تحصيل الحاصل بل هو من تحصيل في عرض تحصيل آخر, فيكون كل واحد منهما جزء للعلّة؛ فالمكلف له زاجران عن الفعل أحدهما الطبع والخروج عن محل الإبتلاء والآخر النهي المولوي.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ الخروج عن محل الإبتلاء لا يكون شرطاً في الخطاب والتكليف فضلاً عن الملاك ومبادئ التكليف. فالركن الأول من أركان منجزية العلم الإجمالي متوفر فيه, إلا أنَّ الركن الثالث فغير متوفر لان وصف الدخول في محل الإبتلاء شرط في جريان الترخيص الظاهري وبذلك يفسر عدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج بعض أطرافه عن محل الإبتلاء.

والحاصل؛ إنَّ كِلا الفريقين يتفقان على سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في موارد الخروج عن محل الإبتلاء ولكنهما يختلفان في المناط له.

ص: 410

والصحيح؛ ماذهب إليه المشهور من أنَّ المناط هو انتفاء الركن الأول من أركان منجزية العلم الإجمالي, وهو انتفاء التكليف المنجز في الخارج عن مورد الإبتلاء وذلك لأنَّه لو عرضنا مفروض الكلام -وهو الفرد الخارج عن محل الإبتلاء- على النظر العرفي وتحديد الملاك فيه يحكم بأنَّ المكلف لا يقدر على إتيان الفرد الخارج عن محل ابتلائه وأنَّ التكليف ساقط في حقه, ومعه لا تصل النوبه إلى إثبات التكليف فيه ثم إخراجه بجريان الأصل المؤمن في الطرف الآخر, لأنَّ الأول بمنزلة العلّة القريبة ومعها لا تصل النوبه إلى العلّة البعيدة, مع أنَّه يمكنتصوير عدم الحكم في الخارج من مورد الإبتلاء وتخصيصه بالحصة الداخلة بوجود صحيحة أخرى, كما إذا كان الخارج لأجل المنافرة مع الطبع أو تحتاج إلى مقدمات بعيدة شاقة بحيث تكون المفسدة غالبة فلا ملاك لتحريمه مثلاً. والوجدان يحكم بذلك كما هو واضح.

وكيف كان؛ فلا ثمرة عملية في هذا النزاع؛ فلاحظ. وإنْ ذكر السيد الوالد قدس سره ثمرات علمية نذكر واحدة منها وتأتي البقية في ضمن البحوث الآتية؛

فقد ذكر المحقق العراقي قدس سره (1) الذي يرى شرطية الدخول في محل الإبتلاء في التكليف فيكون شرطاً في منجزية العلم الإجمالي, بحيث لو انتفى عُدَّ عند العرف عاجزاً عنه؛ فهو شرط في الوجوب أيضاً، فكما لا يصح نهي المحكوم عن ارتكاب مظالم الحاكم كذلك لا يمكن أمره بما هو من شؤونه، فلو علم إجمالاً بوجوب ذلك أو وجوب فعل آخر داخل في محل إبتلائه لم يكن منجزاً عليه.

وردّه السيد الصدر قدس سره (2) من أنَّ الدخول في محل الإبتلاء ليس شرطاً في التحريم والنهي, وكذلك أمر المولى الحقيقي غير مقيد عقلاً وعرفاً إلا بالقدرة على أمتثاله تكويناً،

ص: 411


1- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص338.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص289.

أمّا صعوبة المقدمات أو كثرتها فلا تمنع من صحته فضلاً عن تنجيزه, لأنَّ مولوية مولانا ذاتية ومطلقة، وليست كالمولويات العرفية التي ربَّما يدَّعى ضعفها وعدم ثبوتها في موارد الأفعال الشاقة, فلو أريد عدم الأمر من قبل الشارع بالفعل الشاق الخارج عن محلِّ الإبتلاء لعدم تعلق غرض له بذلك فهو بلا موجب لوضوح أنَّ الشارع قد يتعلق غرضه بذلك كما أمر نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم بنشر الدين وفتح العالم ومقارعة المتكبرين وإذلال الملوك والقياصرة، مع أنَّ مثل هذا العمل كان بالنظر البدائي غير مقدور له وأنَّ التكليف به لغو.

ولو أريد دعوى أنْ لا يتنجز على المكلف، فقد عرفت ان التنجيز مرتبط بدائرة المولوية وحق الطاعة, وهي مطلقة في حق مولى الموالي سبحانه وتعالى؛ فقياس الوجوب في المقام بالتحريم في غير محله.

والحقُّ أنَّ ما ذكره غير تام لما يلي:

أولاً: لِما عرفت من أنَّ الإبتلاء وعدمه يرجعان إلى القدرة وعدمها عرفاً, ولا ريب في اشتراط التكليف مطلقاً بها؛ سواء كان أمراً أم نهياً.

ثانياً: إنَّ القدرة المعتبرة في التكاليف أعم من القدرة التكوينية والعرفية التي يكون الإبتلاء منها كما عرفت فلا تختص بالتكوينية فقط كما زعم.

ثالثاً: إنَّ صعوبة المقدمات وكثرتها قد تلحق المأمور بغير المقدور عرفاً, فالنزاع صغروي؛ بلا فرق بين الأوامر المولوية الحقيقية والأوامر العرفية, فإنَّ المولىالحقيقي لا يخرج في تكليفه وأوامره ونواهيه عن الطرق العرفية المألوفه في أوامرهم إلا إذا دلّ دليل على اختصاصه بشيء خلافها.

رابعاً: إنَّ المثال الذي ذكره خارج عن موضوع المقام, فإنَّ نشر الدين وفتح العالم وكسر شوكة المتكبرين من صميم الدين, ولو لم يكن كذلك لم ينتشر الدين. نعم؛ إنَّ له مراتب متعددة ربما لا تصل التوبة إلى المراتب العليا إلا بعد طيِّ المرتبه الأدنى؛ كما في مراتب

ص: 412

الأمر بالمعروف، وإلا فلو تم ما ذكره لما وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم تكن هناك قدرة فعلية على المراتب العليا؛ ولم يقل به أحد.

خامساً: إنَّ دائرة مولوية المولى الحقيقي وحق الطاعة وإن كانت مطلقة ولكنها لا تخرج عن قوانين العقل الذي خلقها الخالق العظيم لتنظيم قوانين الحياة الدنيوية والأخروية وقد تقدم البحث عن ذلك في بحث البراءة فراجع.

الجهة الرابعة: الخروج عن محل الإبتلاء تارةً؛ يعلم به؛ فقد عرفت أنَّه يوجب سقوط تنجز العلم الإجمالي عن الموافقة القطعية, وأخرى؛ يطمئن بعدم الخروج؛ فالعلم الإجمالي منجز وتجب الموافقة القطعية, وثالثةً؛ يشك في خروج أحد الأطراف عن محلِّ الإبتلاء وعدمه؛ وحينئذٍ فإنْ أمكن إحراز الإبتلاء أو عدمه ولو بالأصل فهو، وإلا فهل يجب الإحتياط، أو تجري البراءة, قولان؛ استدلَّ للأول بما يلي:

أولاً: بعموم الخطاب وإطلاقه، لكونه شكاً في أصل التخصيص والتقييد.

ثانياً: إنَّ المستفاد من الأدلَّة الواردة في الأبواب المتفرقة والمتعارف في التكاليف العرفية توقف سقوط التكليف على إحراز العجز وعدم كفاية الشك في القدرة في ذلك فيكون المقام نظير الرجوع إلى البراءة في الشبهات البدوية قبل الفحص الذي لا يجوز اتفاقاً.

وقبل التعرض للجواب عن ذلك فقد اعتبر السيد الصدر قدس سره هذا من ثمرات النزاع في المسألة السابقة فقال(1): إنَّه بناءً على التفسير الذي اخترناه لعدم منجزية العلم الإجمالي في موارد خروج بعض أطرافة عن محل الإبتلاء من عدم جريان الأصل المؤمن في الطرف الخارج بالإرتكاز العقلائي، فمع الشك في خروجه يكون من موارد الشك في الإرتكاز, وبالتالي الشك في وجود المعارض للأصل في الطرف الداخل في محل الإبتلاء فيسقط العلم الإجمالي عن المنجزية في الخارج.

ص: 413


1- . المصدر السابق؛ ص290.

ولكن عرفت آنفاً ضعف البناء والمبنى فلا وجه للإعادة. مع أنَّه يمكن توجيه السقوط أيضاً بوجه آخر فلا يجب الإحتياط، وذلك لأنَّ ما استدل به غير تام؛ أمّا الأول؛ فلأنَّ التمسك بالعام في المقام من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية, لأنَّ عمومات التكليف وإطلاقاتها تخصصت بدليل اعتبار القدرة, والمشكوك مردد بيندخوله في العمومات أو في دليل المخصص فلا يصحّ التمسك بكلِّ واحد منهما بالنسبة إليه.

وأمّا الثاني؛ فهو عين المدعى وأول الدعوى ، وإذا لم يثبت كون المتفاهم من القرائن الخارجية أنَّ الخارج عن العمومات هو من أحرز عجزه فقط، وفي مورد الشك لا بُدَّ من الرجوع إلى العمومات.

هذا إذا قلنا بصحة الإطلاق في المقام ليتمسك به عند الشك, ولكن صحة الإطلاق ممنوعة إذا لم يحرز فيه الإطلاق الواقعي حتى يصح التمسك بالإطلاق اللفظي, لأنَّ التكليف يعني الملاك والمصلحة والمبادئ تختص بالقادرين ولا تشمل العاجزين فيشك في الإطلاق اللفظي -أي الخطاب- للشكّ في أصل التشريع, ولا وجه للشك في مثله بالإطلاق اللفظي، ومن عدم صحة التمسك بالإطلاقات يتعين الرجوع إلى البراءة ؛ بلا فرق بين أنْ يكون الشك في الخروج عن محل الإبتلاء على نحو الشبهة المفهومية؛ كما إذا شك في أنَّ هذا المقدار من البعد بين المكلف ومورد التكليف كافٍ في صيرورتهِ عرفاً بحكم العاجز أم لا. وبين أنْ يكون على نحو الشبهة المصداقية كما إذا شك في أنَّ الإناء الآخر هو في بلد بعيد عن ابتلاء المكلف أو أنَّه في بلد قريب؛ فإنَّ المناط في جميع ذلك حكم العرف بأنَّه عاجز في أصل ابتلاء المكلف فلا يمكن التمسك بالدليل من الطرف المشكوك, ولكن ذهب بعض الأصوليين إلى التفصيل في المقام بناءً على أنَّ المناط في سقوط العلم عن المنجزية هو الإرتكاز العرفي في عدم جريان الأصل الترخيصي في طرف

ص: 414

الخارج عن محل الإبتلاء فقال: إنَّ الشبهة المفهومية على أقسام؛ لأنَّه تارةً؛ يكون بمعنى شك العرف بنفسه بما هو عرف في ارتكاز عدم جريان الأصل لهذه المرتبه من الخروج، فإنَّه يعقل ذلك بالنسبة إلى العرف كما هو واضح؛ لا سيما في الأمور التشكيكية كما في المثال.

وأخرى؛ يكون بمعنى شك العرف في نكتة الإرتكاز في أنَّها عند المولى غير ما هو موجود عند العرف وتختلفان.

ثالثاً؛ أنْ يحصل الشك عند العرف باعتبار الأشخاص, فربما يكون الإرتكاز العرفي ثابتاً في شخص دون آخر فاحتمل أنَّه شذَّ عن هذا الإرتكاز بعضٌ لجهة من الجهات, والظاهر أنَّه تفصيل لا طائل تحته, فقد عرفت أنَّ المناط في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية هو العجز وعدم القدرة في تلك الموارد لا سقوط الأصل الترخيصي بالمرتكز العرفي, مع أنَّ الموارد المذكورة شك في أصل تحقق الإرتكاز لا أنْ يكون شك في الخروج عن الإبتلاء, وحينئذٍ يكون المناط هو الصدق العرفي؛ ففي كل مورد تحقق الإرتكاز العرفي ليجري الأصل الترخيصي وعند عدمه لا يجري فيجب الرجوع إلى دليل التكليف أو الإجمال, إلا إذا كان هناك مانع من التمسك به, كما إذا كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقيةكما عرفت, أو إذا أثبتنا عدم ثبوت الإطلاق الواقعي فلا يثبت الإطلاق اللفظي فالمرجع هو البراءة حينئذٍ لعدم فعلية التكليف على كلِّ تقدير.

ثم أنَّه قد عرفت أنَّه في مورد الشك في الخروج هو البراءة لعدم التكليف الفعلي وعدم صلاحية ما استُدل به على الإحتياط, وفي مقابل ذلك يمكن ذكر وجهين لإثبات المنجزية:

الوجه الأول: ماذكره المحقق العراقي قدس سره (1) بناءً على تفسيره للخروج عن محل الإبتلاء بعدم القدرة العرفية على الإرتكاب كما اخترناه, فقال: إنَّ موارد الشك في خروج طرف

ص: 415


1- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص342.

عن محلِّ الإبتلاء من موارد الشك في القدرة المنجز عقلاً, فيكون علمنا الإجمالي علماً بتكليف فعلي على أحد التقديرين، ويكون منجزاً عقلاً على تقدير آخر فيكون منجزاً لا محاله.

واعترض عليه المحقق الكاظمي(1) في حاشيته على تقريرات بحوث أستاذه المرزا النائيني قدس سره بأنَّه لو تم ذلك لزم التنجز حتى في مورد القطع بخروج بعض الأطراف عن محل الإبتلاء، لأنَّ الملاك معلوم إجمالاً, والشك في القدرة عليه حيث لا يدري هل هو في الطرف الداخل في محل الإبتلاء فيكون مقدوراً أو الخارج فلا يكون مقدوراً.

ولكن الصحيح عدم ورود هذا الإعتراض, وذلك لأنَّه خلط بين فرض الشك في القدرة على شيء فيه الملاك وبين الشك في كون الملاك في ما يكون مقدوراً أو ما لا يكون مقدوراً.

والأول؛ هو مراد العراقي، والثاني؛ هو مراد الكاظمي، وفي الأول تتحقق المنجزية في ما فيه احتمال القدرة على شيء فيه الملاك يقيناً، لأن احتمال العجز عن تحصيل فعل معلوم المطلوبية لا يكون عذراً يقيناً, وهذا غير الشك في تحقق الملاك في طرف خارج عن العهدة يقيناً أو في طرف يمكن أنْ يدخل في العهدة يقيناً, ولا يقاس الأخير بالأول كما هو واضح.

هذا وقد اشكل السيد الصدر(2) على المحقق العراقي قدس سره بأنَّه خلط بين الشك في القدرة على الإمتثال والشك في القدرة على العصيان، والذي لا يكون عذراً احتمال العجز وعدم القدرة على الإمتثال, بل لا بُدَّ من التصدي له على كلِّ حال حتى ينكشف إمّا القدرة عليه أو العجز عنه حقيقةً, وهذا لا ربط له بالمقام الذي يكون المطلوب فيه هو ترك الحرام,

ص: 416


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص19.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص294.

وهو يتحقق على كل تقدير ولكنه يشك في القدرة على اقتحام الحرام وعصيانه, وحينئذٍ لا معنى لأنْ يقال بأنَّه يجب عقلاًالتصدي للإقتحام, فمورد هذه القاعدة هو الشك في القدرة على امتثال تكليف المولى.

ولا يخفى أنَّ ما ذكره لو تم فإنَّه إنَّما يكون في ما إذا كان الملاك محرزاً في موارد الشكّ في الإمتثال والعصيان في الخارج عن محل الإبتلاء. ولكن عرفت آنفاً من اختصاص الملاك بالقادر فقط ولا يثبت في حقِّ العاجز؛ فلا إطلاق واقعي.

الوجه الثاني: التمسك بإطلاق دليل التكليف لإثبات فعليته حتى في المورد المشكوك خروجه عن محل الإبتلاء, فيتشكل لنا علم إجمالي بتكليف يكون فعلياً وجدانياً على أحد التقديرين وتعبداً على التقدير الآخر, فيكون منجزاً, ولهم إتجاهات ثلاثة في صحة التمسك بهذا الإطلاق, وهي:

1- ما اختاره المحقق النائيني قدس سره (1) من صحة التمسك به مطلقاً في الشبهة المفهومية أو الشبهة المصداقية.

2- ما اختاره المحقق العراقي قدس سره (2) من التفصيل بين الشبهتين, فيجوز في الشبهة المفهومية دون المصداقية.

3- ما اختاره المحقق الخراساني قدس سره (3) من عدم صحة التمسك بالإطلاق مطلقاً؛ وقد استدل له بأمرين:

الأول: ما أفاده في الكفاية من أنَّ التمسك بالإطلاق إثباتاً فرع إمكانه ثبوتاً، والشك في المقام في إمكانه ثبوتاً فلا معنى للتمسك به إثباتاً.

ص: 417


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص20.
2- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص344.
3- . كفاية الأصول؛ ص93.

الثاني: ما جاء في تقريرات المحقق النائيني قدس سره من أنَّ المخصص اللبّي في المقام متصل بالعام, وعند إجماله لا يجوز التمسك بالعام لسريان الإجمال إليه لاتصاله به.

وأشكل المحقق النائيني قدس سره على الأمر الأول بأنَّ التمسك بالإطلاق ليس مشروطاً بإحراز إمكانه ثبوتاً في المرتبه السابقة بل هو على عكس ذلك, فإنَّه بمجرد احتمال الإمكان يأتي احتمال صدق الإطلاق الإثباتي, ومع احتمال صدقه يكون حجة بدليل حجية الظهور، ويثبت في طول ذلك بالمدلول الإلتزامي إمكان مفاده ثبوتاً.

وحاول المحقق العراقي قدس سره تفسير كلام المحقق الخراساني قدس سره بما لا يستلزم الإشكال عليه, فقال بأنَّ التمسك بالإطلاق يعني حجيته، وجعل الحجية يعني جعل الحكم الظاهري التعبدي بوجوب الإجتناب مثلاً عن الفرد المشكوك خروجه عنمحل الإبتلاء, وحينئذٍ إذا كان ملاك الشك في الإمكان والإستحالة مشتركاً بين الحكم الواقعي بوجوب الإجتناب والحكم الظاهري به لكون شرطية الدخول في محل الإبتلاء بالنسبة إليهما على حدٍّ سواء؛ فمع الشك فيه يشك في معقولية الحكم الظاهري والحجية أيضاً, فلا معنى للتمسك بالإطلاق في المقام بل لا بُدَّ من القطع بإمكانه، كما إذا ورد نص من المعصوم علیه السلام عليه, ولا يمكن إثبات ذلك بالملازمة كما أفاده المحقق النائيني قدس سره لأنَّ مدرك حجية الظهور إنَّما هو سيرة العقلاء وبنائهم, والمفروض أنَّهم يشكون في صحة جعل مثل هذا الحكم؛ سواء كان واقعياً أم ظاهرياً, ومن ذلك يظهر الجواب كما أورده المحقق النائيني قدس سره على هذا الدليل بالنقض بأنَّه لو لم يصح التمسك بالإطلاق لزمه أنَّه كلما يشك في صحة إطلاقٍ لاحتمال عدم المصلحه أو المفسده في ذلك المورد فهو يستلزم احتمال قبح التكليف أو استحالته وعدم إمكانه مع أنَّه لا إشكال في صحة التمسك بالإطلاق فيها وعدم اشتراط إحراز إمكانه في التمسك به, فإنَّ هذا النقض غير تام كما

ص: 418

عرفت, مع أنَّه ليس كل ما يشك في صحة إطلاق أنْ يكون من جهة عدم إمكانه كما هو واضح.

فالحق في الجواب ما ذكرناه من أنَّ التكاليف الواقعيه تخصصت بالقدرة, بدليل العقل والسيرة العقلائية, وبناءً عليه يكون إحتمال الخروج عن محل الإبتلاء مساوقاً لاحتمال عدم إمكانه, فلا إطلاق في الواقع حتى يثبت الإطلاق اللفظي.

وأمّا كلامه أخيراً من أنَّ الحكم الظاهري ليس مثل الحكم الواقعي؛ فإنَّ مبرر جعل الأول هو الحفاظ على الواقع المحتمل على تقدير المصادفة, وليس مبرر جعله فعلية حصول الغرض لتأتي شبهة تحصيل الحاصل أو نحو ذلك، وعليه؛ يكون جعل الحكم الظاهري في مورد احتمال عدم الحكم الواقعي ولو من ناحية احتمال عدم إمكانه معقولاً وموجباً لتنجيز هذا الإحتمال فيلزم الإحتياط.

وهو أيضاً غير تام؛ لأنَّ معقولية الحكم الظاهري إنْ كان لأجل غرض خاص به فهو, وأمّا إذا لم يكن كذلك -كما هو المفروض- فإنَّ فرض جعل الحكم الظاهري لأجل الحفاظ على الواقع المحتمل، فإذا لم يكن حكماً واقعياً لا معنى لجعل حكم ظاهري لأجل حفظه.

هذا كله مايرتبط بالأمر الأول.

وأمّا الأمر الثاني؛ فقد أورد عليه المحقق العراقي قدس سره بأنَّه لو سلمنا كون المخصص في المقام كالمتصل فإنَّه ليس مفهوماً خارجاً عن العام لفظاً, وعليه؛ يجوز التمسك به بأنَّه شك في مقدار الخارج من أفراد العام فيتمسك به, إلا إذا جزم بخروجه.

ولكن هذا الجواب ليس بشيء؛ فإنَّه ربما يكون مقصود المحقق النائيني قدس سره أنَّ للخروج عن محل الإبتلاء مراتب بعضها يفرض فيه خروج الفرد عن العام بالمخصص لوضوحه عند العقل, وفي بعضها ينعدم هذا الوضوح أو يقل ويكون ضعيفاً, فلا يحكم العقل بعدم

ص: 419

صحة جعل الحكم فيه ولا يكون خارجاً بالمخصص اللبّي المتصل فيتمسك بالعام فيه مطلقاً أو في خصوص الشبهة المفهوميه حسب اختلاف المباني.

والصحيح؛ عدم صحة ذلك أيضاً، ولا يجوز التمسك بإطلاق دليل التكليف في المقام كما ذهب إليه المحقق الخرساني قدس سره (1) فإنَّه مضافاً إلى ما ذكرناه فقد تمسّك السيد الصدر قدس سره (2) بوجوه ثلاثة في كلام طويل، وذكر أنها ترجع إلى أمر واحد وهو؛ أنه مهما كان القيد إليه بما هو جاعل تختلف عن نسبة المكلف إليها، ومهما كان القيد بوجوده الواقعي دخيلاً في الحكم لم يصحّ التمسك بالعام وكانت نسبة المولى بما هو جاعل إلى حيثية الشك لا تختلف عن نسبة المكلف إليها. وفي ما نحن فيه تكون الحيثية المشكوكة نسبتها إلى المولى والمكلف على حدّ واحد لأنّ قيد الدخول في محل الإبتلاء كقيد القدرة بوجوده الواقعي يكون دخيلاً في صحة الحكم.

وهذا الوجه هو روح ماذكره السيد الوالد قدس سره كما هوظاهر كلمات أستاذه المحقق العراقي قدس سره وغيره؛ فالحكم بوجوده الواقعي مقيد بالقدرة، فلا إطلاق هناك حتى يثبت الإطلاق إثباتاً.

ومن جميع ذلك يظهر وجه المناقشة في التفصيل المنسوب إلى المحقق العراقي مِمّا تقدم نقله، فلا فرق في عدم صحة التمسك بالإطلاق إثباتاً في كلتا الشبهتين المفهومية والمصداقية.

الجهة الخامسة: ينبغي الإشارة إلى أمرين:

الأمر الأول: عرفت مِمّا سبق أنّ المنع الشرعي يوجب الخروج عن محل الإبتلاء لتحقق المناط فيه، وهو عدم القدرة على الإمتثال عرفاً؛ فلو خرج بعض أطراف العلم للإجمالي

ص: 420


1- . كفاية الأصول؛ ص362.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص297-298.

عن محل الإبتلاء شرعاً فإنَّه يلحق بالخروج تكويناً؛ كما إذا علم بنجاسة أحد الإنائين وعلم تفصيلاً بغصبية أحدهما بعينه، فالمغصوب خارج عن محل الإبتلاء شرعاً فيجري أصل الطهارة في الطرف الآخر، ويكون مؤمّناً لعدم منجزية العلم الإجمالي(1).وأشكل عليه المحقق العراقي قدس سره (2) وتبعه بعض الأصوليين من أنَّه لو اريد من العلم التفصيلي بحرمة أحد الطرفين العلم بحرمته من سنخ الحرمة المعلومة بالإجمال، كما إذا علم تفصيلاً بنجاسة أحد الطرفين بالخصوص فهو ملحق بمسألة انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي في أحد أطرافه انحلالاً حقيقياً أو حكمياً كما سيأتي بيانه.

وإن أريد العلم بالتكليف من سنخ آخر كما في المثال، فحرمة شرب النجس المعلومة بالإجمال تكليفٌ آخر وضيق جديد على عهدة المكلف يجري بلحاظ الأصل المؤمّن حتى في الطرف المعلوم غصيبته، لأنَّه بذلك يؤمّن عن الضيق والعقاب الزائد فيكون معارضاً معه الأصل المؤمّن عن هذا التكليف في الطرف الآخر.

والحق؛ أنّ المنع الشرعي بمنزلة المنع التكويني؛ فكما أنَّ الأخير يوجب الخروج عن محل الإبتلاء وبه ينحل العلم الإجمالي بلا فرق بين الحكم المعلوم تفصيلاً من سنخ المعلوم إجمالاً أو مغايراً له. نعم، قد ينشأ الإشكال في بعض الموارد لطروّ بعض الشبهات کتقارن العلم التفصيلي مع العلم الإجمالي أو تقدمه عليه أو تأخره عنه حيث يوجب الخلط والإشتباه بين كونه موجباً لانحلال العلم الإجمالي رأساً. وكما إذا علم بنجاسة أحد الإنائين مع العلم بغصبية أحدهما أو نجاسته فإنَّ العلم الإجمالي ينحل في هذه الصورة بعروض علم تفصيلي عارض.

ص: 421


1- . ذكره المحقق النائيني قدس سره في فوائد الأصول؛ ج4 ص57.
2- . مقالات الأصول؛ ج2 ص243.

وفي بعض الموارد يكون العلم الإجمالي منجزاً ثم يعرض ما يوجب خروجه عن محل الإبتلاء؛ كما إذا علم بنجاسه أحد إنائين؛ أحدهما ملك، والآخر مأذون في التصرف فيه، ثم باعه مالكه إلى شخص آخر لم يأذن له في التصرف فإنَّه يوجب خروجه عن محل الإبتلاء لعدم تمكنه من التصرف فيه شرعاً؛ فقد يقال بعدم سقوط منجزية العلم الإجمالي الأصل الموافق لجريانه في الطرف الآخر أيضاً. فالإشكال إنَّما نشأ في التطبيق. وسيأتي بيان الميزان فيه إنْ شاء الله تعالى.

وهذا واضح على مسلك المشهور، وكذلك على مسلك السيد الصدر قدس سره (1), حيث اعتبر سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في موارد الخروج عن محل الإبتلاء إنَّما كان من جهة فقد الركن الثالث؛ وهو عدم جريان الأصل المؤمّن في الطرف الخارج دون الطرف الآخر الداخل تحت الإبتلاء بالإرتكاز العرفي، فإنّ دليل الأصل ينصرف عن الإناء المغصوب كما كان منصرفاً عن الإناء الخارج عن محل الإبتلاء تكويناً فكأنّ العرف لا يرى شمول دليل الأصل الترخيصي للفرد المغصوب بلحاظ حرمة شرب النجس.و لكن إشكال السيد الصدر عليه بشمول الأدلة المرخصة التي هي أدلَّة التوسعة والرافعة لكل ضيق محتمل حتى في مورد ضيق آخر معلوم تفصيلاً للتأمين عن عقوبة زائدة في اقتحامها، فلا وجه لدعوى الإنصراف.

وفيه: إنّ شمول دليل الأصل للمعلوم تفصيلاً أمر يأباه العرف؛ حيث لا يجوز شربه على كل حال لكونه مغصوباً يقيناً ونجس إجمالاً، ومركوزية جعل الأحكام الظاهرية لرفع الضيق، والتوسعة ليشمل كل ضيق محتمل لا تنافي أنْ يكون هناك بناء عرفي يمنع من شموله للمعلوم تفصيلاً.

ص: 422


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص229.

وكيف كان؛ فإنّ كل ذلك إنَّما يتم فيما إذا لم يوجب الأصل الترخيصي في الطرف المعلوم حرمته أثر آخر، وإلا، كما في المثال المذكور آنفا حيث يترتب على جريان قاعدة الطهارة في معلوم الغصبية جواز الوضوء أو طهارة ملاقيه فتعارض الأصول وتساقطها في الطرفين كما هو واضح.

الأمر الثاني: لو كان شيء مورد الإبتلاء من جهة وخارجاً من جهة أخرى،كما إذا كان الشخص صائماً وكان عنده إناءان أحدهما المعين مضاف والأخر مطلق طاهر، ووقعت قطرة من البول ولم يعلم أنها وقعت في المضاف أو المطلق، فهل يكون العلم الإجمالي منجزاً لحرمة الشرب عليه، ولو كان صائماً فيتنجز العلم الإجمالي أو لا يكون منجزاً، إذ لا يحدث العلم الإجمالي تكليفاً جديداً بالنسبة إلى حرمة الشرب عليه لكونه صائماً، فلابد من الرجوع إلى العرف في ترجيح أحد الإحتمالين. والظاهر تنجز العلم الإجمالي وحرمة الشرب وإن كان في مرحلةٍ مّا ممنوعٌ عنها لأجل أمر طارئ كالصوم أو مرض أو نحو ذلك مِمّا يزول عادة. ولكن الكلام في هذا المورد في أنه هل يجوز له التوضؤ بالمطلق لعدم جوازه بالمضاف قطعاً قبل حدوث العلم الإجمالي؛ فيكون الوضوء تكليفاً حادثاً على كل تقدير؟ فيه إشكال وخلاف سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

المورد الخامس(1): الإضطرار؛ فيما إذا اضطر المكلف إلى ارتكاب أطراف العلم الإجمالي, وهو على أقسام:

القسم الأول: ما إذا اضطر إلى ارتكاب جميع الأطراف واقتحام تمامها، وهو يوجب سقوط العلم التفصيلي عن التنجز فضلاً عن العلم الإجمالي لأدلة الإضطرار من النص والإجماع كقولهم علیهم السلام : (لَيْسَ شَيْ ءٌ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا وقَدْ أَحَلَّهُ لِمَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ)(2).

ص: 423


1- . من موارد سقوط العلم الإجمالي عن تنجيز الموافقة القطعية.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج4 ص373.

وهذا لا إشكال فيه، وإنْ ذكر بعضهم بعض المناقشات غير التامة سيأتي ذكرها والجواب عنها إنْ شاء الله تعالى.

القسم الثاني: الإضطرار إلى بعض الأطراف، وهو على نحوين:أحدهما: الإضطرار إلى طرف معين من أطراف العلم الإجمالي.

وثانيهما: الإضطرار إلى ارتكاب أحد الأطراف لا بعينه.

وكلٌّ منهما تارةً؛ يكون الإضطرار فيه قبل تنجز العلم الإجمالي، وأخرى؛ يكون بعده كما إذا علم بوقوع قطرة دم إمّا على الثوب أو في الماء، ثم اضطر إلى شرب الماء، وثالثة؛ يكون الإضطرار مقارناً مع العلم الإجمالي.

وتشترك هذه الحالات في أنّ العلم الإجمالي قد تشكّل وتحققت شروط منجزيته ولا سيما الركن الأول، وهذا بخلاف ما إذا كان الإضطرار مقارناً أو قبل حصول سبب التكليف، كما إذا اضطر إلى شرب الماء ثم علم بوقوع قطرة نجس إمّا فيه أو على الثوب؛ ففي هذه الصورة لا يتشكل العلم الإجمالي بالتكليف أصلاً لعدم تحقق الركن الأول من أركانه لأنّ عدم الإضطرار جزء الموضوع للتكليف، وبما أنّ المكلف يحتمل أنّ النجس المعلوم هو المضطر إليه بالذات، فلا علم بالتكليف الفعلي فتجري الأصول المؤمّنة فيه بلا معارض، فلا بُدَّ أنْ يكون الإضطرار بعد حصول سبب التكليف ليتشكل العلم الإجمالي.

وهذا الذي عرفت أنّ الصور فيه ثلاثة؛ فذهب المحقق الخراساني قدس سره (1) إلى عدم تنجز العلم في جميع الصور المتقدمة لأنّ من شروط تنجزه عدم الإضطرار إلى الإرتكاب، ومع تحقق الإضطرار ينعدم الشرط فينعدم المشروط. ولهم في ذلك مناقشات، ولا بُدَّ من ذكر كل صورة لوحدها؛

ص: 424


1- . كفاية الأصول؛ ص359.

الصورة الأولى: ما إذا حصل الإضطرار بعد حصول العلم الإجمالي، وقد عرفت انحلاله لفقد شرط تنجزه لأنّ التكليف على تقدير انطباقه على مورد الإضطرار فقد انتهى أمره ولا أثر لجريان البراءة عنه فعلاً، فلم يحصل علم إجمالي بالتكليف من أول الأمر فتجري البراءة في الطرف الآخر بلا معارض.

وقد أشكل عليه بأنَّه يمكن الرجوع إلى الإستصحاب في إثبات التكليف في الفرد غير المضطر إليه، واختلفوا في بيان الإستصحاب على أقوال: منها؛ ماذكره السيد الوالد قدس سره (1) من أنه بعد اتفاقهم على أنّ الإستصحاب لا يجري في واقع التكليف المعلوم على إجماله؛ لأنَّه من استصحاب الفرد المردد أنه بعد تنجز العلم الإجمالي وقبل حصول الإضطرار فقد أثر العلم الإجمالي أثره فيستصحب التنجز في الطرف غير المضطر إليه.

ومنها؛ ماذكره بعضهم(2) من أنَّنا نعلم إجمالاً بثبوت تكليف مردد بين الفرد القصير في الطرف المضطر إليه بلحاظ قبل الإضطرار، وبين الفرد الطويل في الطرف الآخر فيستصحب ذلك ويكون من استصحاب جامع التكليف وهو من القسم الثانيمن استصحاب الكلي، نظير استصحاب الحدث بعد الوضوء عند التردد بين الحدث الأكبر والأصغر، فإنَّه يصحّ استصحاب جامع التكليف وإن لم يمكن إثبات الفرد الطويل لأنَّه مثبت، وثبوت جامع التكليف يكون منجزاً لحكم العقل، فلا بُدَّ من الفراغ اليقيني عنه بامتثال الفرد الطويل وترك الفرد غير المضطر إليه(3).

ص: 425


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص203.
2- . نسبه في بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص272 إلى أستاذه السيد الخوئي قدس سره .
3- . وقع خلط في عبارات السيد الخوئي قدس سره ؛ ففي الدراسات؛ ج3 ص280 الإشارة إلى الفرق بين الإستصحاب والبراءة في المقام، أمّا في المصباح؛ ج2ص443- 444 فقد ميّز أحد الوجهين من الآخر؛ قال في مقام بيان هذا الوجه: (إنّ استصحاب عدم الفرد الطويل إمّا حاكم على استصحاب الكلّي أو معارض له، فالإستصحاب الكلّي ساقط على كلِّ حال؛ إمّا للمعارضة أو لكونه محكوماً).

ومنها؛ ماذكره المحقق العراقي(1) من استصحاب جامع الوجوب لأنّ استصحاب الجامع يثبت التكليف في الطرف الباقي لكونه لازماً لنفس الإستصحاب لا للمستصحب ليكون من الأصل المثبت، ولازم الإستصحاب لازم للدليل الإجتهادي الدال على كبرى الإستصحاب بحسب الحقيقة، وذلك لأنَّ الحكم الظاهري ببقاء الجامع لا يمكن أن يوجد إلا ضمن ثبوت أحد الفردين ظاهراً، فإذا علم بارتفاع أحدهما تقع الملازمه بين ثبوت الجامع وثبوت الفرد الآخر فيثبت باستصحاب الجامع الفرد الطويل، ولا يكون من الأصل المثبت وله نظائر في الفقه.

وهذا الوجه يمكن إرجاعه إلى ما ذكره السيد الوالد قدس سره .

وكيف كان فإنَّه يمكن الإشكال على الإستصحاب في المقام بوجوه:

الوجه الأول: إنّ أطراف العلم الإجمالي إنَّما يجب الإمتثال فيها من أجل المقدمية لا النفسية المستقلة كما هو معلوم، ومع سقوط التنجز في الطرف المضطر إليه تسقط المقدمية لا محالة فيصير استصحاب التنجز بلا ملاك.

ويورد عليه: بأنّ ملاك التنجز في أطراف العلم الإجمالي إنَّما هو من أجل تحصيل العلم بالإمتثال، وهذا متحقق في المقام لأنَّه لو ترك الطرف الآخر غير المضطر إليه يحصل له العلم بعدم ارتكاب الحرام في الطرف المضطر إليه؛ إمّا لأجل الإضطرار إلى ارتكابه، أو لأنَّه ترك الحرام واقعاً إن كان في غيره. ومن أجل هذا لا نفرق بين أنْ يكون الإضطرار إلى طرف معين أو كان إلى طرف غير معين فإنَّه في الأخير وإن أمكن أن يرفع اضطراره بكل واحد منها ولكن ليس له الترخيص في ارتكاب كليهما، فيستصحب أصل التنجز في الجملة فيه أيضاً.

ص: 426


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الأول؛ ج 4 ص124.

الوجه الثاني: إنّ الرجوع إلى أصل الإشتغال في الطرف غير المضطر إليه غير صحيح لأنَّه ليس الشك في سقوط تكليف منجزٍ مّا بالعجز أو بالإمتثال، بل الشك إنَّما يكون من أجل أنّ أصل التكليف قد تعلق بالطرف المضطر إليه أو بالطرف الآخر غير المضطر إليه، ومثل هذا الشك يرجع إلى الشك في موضوع التكليفوفي بقاءه فعلاً وهو مجرى الأصل المؤمّن كالشك في فعليته حدوثاً كما هو معلوم.

الوجه الثالث: إنّ استصحاب الجامع في المقام باطل لأنّ الجامع يكون بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله لخروجه عن القدرة بالإضطرار، ومثل ذلك لا يكون داخلاً في دائرة المولوية ولا يصلح للتنجيز، فلا يجري استصحاب الجامع.

ومنه يظهر الفرق بين المقام وبين مثال الحدث المردد بين الأصغر والأكبر فإنَّه يجري فيه استصحاب جامع الحدث لتنقيح موضوع التكاليف المشتركة المترتبة على هذا الجامع كحرمة مسّ المصحف ونحوها.

وسيأتي في بحث الإستصحاب تفصيل الكلام في استصحاب الكلي من القسم الثاني أنّ استصحاب الجامع لا يثبت الفرد الطويل، بل يصحّ إثبات الأثر المشترك.

الوجه الرابع: إنَّ إثبات شيء زائد على المستصحب للأزمنة مع الحكم الإستصحابي نفسه إنَّما يتجه إذا لم يستلزم من ذلك خروج المستصحب عن المدلول المطابقي لدليل الإستصحاب، وإلا لم يجز التمسك بإطلاقه كما في المقام؛ فإنّ وجوب الطرف غير المضطر إليه يحتمل أنْ يكون متبايناً مع الوجوب الثابت بالعلم الإجمالي أولاً، فلا يكون الجامع الموجود في ضمنه إلا مبايناً عرفاً مع ما كان واجباً سابقاً، لا أنه نفس الجامع وزيادة لأنّ المفروض أنّ مدلول الإستصحاب المطابقي هو إبقاء ما كان تعبداً مع كونه نفس المعلوم والمتيقن سابقاً، فإذا لم يحرز كون المشكوك نفس المتيقن لم يجز التمسك بدليل الإستصحاب للتعبد بثبوته.

ص: 427

ومن جميع ذلك يظهر أنه لو كان الإضطرار بعد حصول العلم الإجمالي بالتكليف لا يوجب سقوط تنجزه عن الفرد الآخر غير المضطر إليه سواء كان الإضطرار إلى طرف معين أم غير معين؛ فإنَّه يترك الطرف الآخر فيحصل العلم بالإمتثال كما عرفت آنفاً.

الصورة الثانية: ما إذا حصل العلم الإجمالي بعد الإضطرار؛ فإنَّه لا إشكال في سقوطه عن التنجز وعدم وجوب الإجتناب عن الطرف غير المضطر إليه. ومنه يعلم حال كونه مقارناً مع العلم الإجمالي فإنّ الدليل واحد كما عرفت.

الصورة الثالثة: إذا كان الإضطرار لا بعينه بعد العلم الإجمالي، وقد عرفت أنه لا يوجب سقوط التنجز في الطرف غير المضطر إليه، وإن كان يظهر من بعض الأصوليين وجوب الإجتناب عن غير ما يدفع به الإضطرار مطلقاً سواء كان قبل العلم الإجمالي أم بعده أم مقارناً له، مخالفاً بذلك ماذكره المحقق الخراساني قدس سره من عدم تنجز العلم الإجمالي لأنّ الترخيص التخييري ينافي التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال فيرتفع العلم، ويكون احتمال التكليف في الطرف الآخر بدوياً ويرجع إلى البراءة.وقبل بيان التفصيل لا بُدَّ أن يعلم بأنّ الكلام في ثبوت حرمة المخالفة القطعية بارتكاب الطرف الآخر لا في وجوب الموافقة القطعية فإنَّ الظاهر سقوطها لأنّ الإضطرار إلى أحدهما يوجب الترخيص التخييري بلا إشكال.

وذكر المحقق النائيني قدس سره (1) أنه لا منافاة بين الترخيص التخييري وبين التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال كما زعمه المحقق الخراساني قدس سره ، وذلك لأنَّ المنافاة المدعاة إمّا أنْ تكون مع العلم الواقعي، وإمّا أنْ تكون مع الحرام المعلوم بما هو معلوم أي مع حكم العقل بقبح المخالفة.

ص: 428


1- . فوائد الأصول؛ ج4 ص31-32.

أمّا الأول؛ فغير صحيح لأنّ هذا الترخيص ليس ترخيصاً واقعياً في الحرام الواقعي إذ لا اضطرار إلى الحرام الواقعي، وإنما نشأ الترخيص في طول الجهل بالحرام الواقعي وتردده بين الطرفين فلا يكون الترخيص التخييري في المقام منافياً مع الحرام الواقعي ولا يقتضي رفع اليد عنه.

وأمّا الثاني؛ فالمفروض أنّ الترخيص في المخالفة الإحتمالية في أطراف العلم الإجمالي لا بأس به سواء كان تخييراً أم تعييناً. فالصحيح أنه لا منافاة بين التكليف الواقعي والترخيص

التخييري، فالعلم الإجمالي ثابت على حاله ولكنه لم يتنجز في وجوب الموافقة القطعية لغرض الترخيص في ارتكاب أحدهما، ولكن يبقى على تنجيزه في حرمة المخالفة القطعية، وهذا هو المسمى بالتوسط في التنجيز.

ولكن اعتبر المحقق العراقي قدس سره أنّ ما ذكره إنَّما يتم بناءً على مسلك الإقتضاء في منجزية العلم الإجمالي دون العلية، لأنَّه بناءً على مسلك العلية لا يجوز الترخيص في المخالفة الإحتمالية للتكليف المعلوم أيضاً؛ فإذا ثبت ذلك كان منافياً لا محالة مع التكليف الواقعي، وبارتفاع المنافاة لا حاجة لحرمة المخالفة القطعية أيضاً.

إلا أنّ ما ذكره المحقق العراقي قدس سره إنَّما يصحّ في الحكم بوجوب الإجتناب عن الفرد الآخر باعتبار أنّ هذه المنافاة ليست لأصل التكليف رأساً، بل هو منافاة لإطلاقه إذا صادف اختياره للحرام الواقعي لا أكثر، فيكون العلم الإجمالي علماً بالتكليف المفيد بهذا القيد، وهذا ما يسمى بمسلك التوسط في التكليف.

والحق؛ أنه لا منافاة بين التكليف الواقعي مع الإضطرار التخييري على كلا المسلكين؛ الإقتضاء والعلية لأنّ المقصود بالعلية هو عدم جعل الشك مؤمّناً، ويتذرع المكلف به في الإرتكاب لغرض تمامية الوصول بالعلم. ولكن هذا لا ينافي أنْ يكون في البين مؤمّن آخر

ص: 429

وهو العجز والإضطرار، فإنّ المكلف إذااضطر إلى عدم الموافقة القطعية فعلاً لا شرعاً؛ كما إذا كانت تؤدي الموافقة القطعية إلى هلاك نفس محترمة ملاك حفظها أهم مع بقاء التكليف الواقعي المعلوم على حاله لعدم الإضطرار إليه، فترتفع مرتبة الإمتثال القطعي وتبقى حرمة المخالفة القطعية على حالها فيكون من التوسط في التنجيز لا في التكليف.

ثم إنه قد عرفت أنّ التوسط في التنجيز هو سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الموافقة القطعية وبقاء منجزيته في حرمة المخالفة القطعية وهذا واضح، وأمّا التوسط في التكليف فقد عرّفه المحقق العراقي قدس سره (1) بما سبق ذكره ولكن ذكر المحقق النائيني قدس سره (2) في تفسيره أنّ الإضطرار وإن كان إلى الجامع وأحد الطرفين تخييراً لا تعييناً إلا أنّ أي فرد يختاره المكلف يكون بحسب نظر العرف هو المضطر إليه، فيكون الترخيص في اقتحامه واقعياً رافعاً للإلتزام الواقعي على تقدير وجوده فيه بمقتضى أدلَّة رفع الإضطرار؛ فتقع المنافاة بين الترخيص بملاك الإضطرار وبين إطلاق التكليف الواقعي فيفيد بصورة ما إذا لم يُخْتَر ذلك الفرد فيحصل التوسط في التكليف. ولكن القول بسريان الإضطرار من الجامع إلى الفرد لا وجه له عرفاً، بل الإضطرار عقلاً وعرفاً ليس إلا إلى الحرام الواقعي فلا يوجب رفع اليد عن إطلاق دليله أصلاً.

وكيف كان؛ فبناءً على التوسط في التكليف والقول بأنّ هذا التكليف المتوسط مِمّا يقتضي تخييره للطرف الآخر الباقي بعد رفع الإضطرار، ولكن يختلف العلمان النائيني والعراقي قدس سره في كيفية تصوير هذا التكليف المتوسط؛ فقد ذهب الأول منهما إلى أنّ التكليف يصبح مشروطاً بعدم اختيار الحرام الواقعي لرفع الإضطرار، ولكنه فصّل في استلزام

ص: 430


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص353.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص270- 271.

ذلك بتخيير الفرد الآخر بين ما لو فرض كونه شرطاً متأخراً بحيث إذا اختار الفرد الحرام لرفع الضرورة كشف ذلك عن عدم حرمة ذلك الفرد من أول الأمر، وبين فرض كونه شرطاً مقارناً بحيث ترتفع حرمته من حين الإختيار؛ فعلى الأول لا تنجيز في البين للشك في التكليف من جهة الشك في شرط فعليته من أول الأمر، وعلى الثاني يكون أصل التكليف معلوماً حدوثاً قبل الإختيار ولكنه يرتفع بقاءً فيكون من حالات العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الفرد القصير في الفرد الذي اختاره بلحاظ قبل الإختيار، وبين الفرد الطويل في الطرف الآخر. واختار قدس سره الفرض الثاني لأنّ المتيقن من سقوط التكليف بالضرورة هو ذلك الفرد القصير لا أكثر.

والحق؛ أنّ كلا الفرضين يفيدان التنجيز في الطرف الآخر لما عرفت في ابتداء البحث من أنَّ ملاك التنجز في العلم الإجمالي هو تحصيل العلم بالإمتثال، وهومتحقق بترك الطرف الآخر لأنَّه وإن كان مخيراً في رفع اضطراره بكل واحد منهما ولكن ليس له الترخيص في ارتكاب كليهما، فيبقى التنجز فيه عرفاً، فلابد من تركه. وروح ماذكره المحقق النائيني يرجع إلى ذلك وإن قصرت عبارته، مِمّا أدى إلى النقض والإبرام. ولعل هذا هو مراد ما ذكره المحقق العراقي قدس سره أيضاً من أنَّ القيد لا يرجع إلى التكليف، بل هو راجع إلى متعلقه فيكون المقصود ليس وجوب الإجتناب عن الحرام الواقعي؛ بمعنى سدّ جميع أبواب عدمه، بل سدّ بعض أبواب عدمه؛ أي عدم ارتكاب كل الأطراف، فيكون الحال كما هو لو انقلب وجوب الإجتناب عن الحرام الواقعي من التعيينية إلى التخييرية.

والدليل على جميع ماذكروه هو الفهم العرفي من مثل هذه الخطابات في المقام، وحينئذٍ يكون الإشكالُ عليه من جهة تبديل التعيينية والتخييرية الذي يحتاج إلى دليل مردود بالفهم العرفي. ويمكن إرجاع كلام أحدالعَلَمَين في التوسط إلى الآخر أيضاً، فتأمل.

ص: 431

ونتيجة البحث على كلا الرأيين هو أنّ التوسط في التنجيز والتوسط في التكليف واحد، فإنَّه يجب الإجتناب عن الطرف الآخر بعد اختيار أحد الطرفين لرفع اضطراره. ولا ثمرة عملية تترتب على هذا النزاع.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ ما ذكره بعضُ المحققين قدس سره (1) من أنَّ الإضطرار إلى غير المعين يوجب الإجتناب عن غير ما يدفع به الإضطرار مطلقاً سواءً كان قبل العلم الإجمالي أم بعده أم مقارناً له، وذلك لأنَّ الإضطرار إلى غير المعين لا ينافي الزام الشارع ثبوتاً بالإجتناب عن الحرام بأنْ يكلف المكلف بالإجتناب عما يختاره لو كان الحرام فيه، ويلزمه برفع الإضطرار بغيره بخلاف الإضطرار إلى المعين؛ فإنَّه لو كان الحرام فيه ليس للشارع إلزامه برفع إضطراره بغيره، إذ المفروض أنه مضطر إلى خصوص المعين فقط ولا يمكنه رفع الإضطرار بغيره، وهو صحيح بحسب الفهم العرفي أيضاً.

فيكون صحيحاً ثبوتاً وإثباتاً، فلا يجري الأصل في الطرف الآخر كما تقدم.

وإن استشكل السيد الوالد قدس سره في ذلك بأنَّه لا دليل على الإلتزام بما ذكره إثباتاً، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض. ولكن يمكن لنا إثبات ذلك بالفهم العرفي كما عرفت.

ختام فيه أمور

الأمر الأول: الإضطرار؛ يطلق ويراد به أحد معانٍ ذكرناها في بحوثنا السابقة وهي:

1- العجز التكويني عن الإمتثال.

2- العجز الشرعي، أي الإشتغال بالأهم أو بالمساوي، كما لو اضطر إلى شرب النجس لأجل حفظ نفس محترمة يجب حفظها.

ص: 432


1- . نقله في تهذيب الأصول؛ ج2 ص206.

3- الحرج أو الضرر إذا اقتضى كل واحد منهما الترخيص الشرعي، وإن لم يكن عجز في البين ولا اشتغال بواجب أهم.

وقد تقدم أنّ القسم الأول يكون الترخيص فيه عقلياً ولا يعقل فيه الترخيص الشرعي، وإن كان للشارع التصرف في الترخيص بصرفه إلى طرف معين.

وأمّا القسم الثاني فيكفي فيه علم المكلف بالمزاحمة بالأهم، ولا حاجة إلى الترخيص الشرعي أيضاً وإن كان قابلاً له ولو بإيصاله بطرق مختلفة كالإيصال إلى الأهمية.

وأمّا القسم الثالث فإنّ الترخيص فيه يكون شرعياً محضاً، وإن أمكن إرجاعه إلى العقل أيضاً بوسائل مختلفة ولكنه يحتاج إلى تأمل. وما ذكرناه آنفاً يجري في كل الأقسام الثلاثة سواءً كان الضرر أو الحرج باقتحام طرف بعينه أم كان الضرر أو الحرج باقتحام طرف لا بعينه. وإن استشكل بعض الأصوليين في الأخير في شمول أدلة نفي الحرج والضرر للمقام تارةً؛ بأنّ هذه الأدلة تنفي الحكم بلسان نفي موضوعه فلابد حينئذٍ من موضوع له حكم شرعي يستلزم منه الحرج، وفي المقام الحكم الشرعي المعلوم بالإجمال ليس موضوعه حرجياً ولا ضررياً وإنَّما الضرر في الإحتياط والموافقة القطعية باجتناب تمام الأطراف، وهذا ليس موضوعاً لحكم شرعي بل عقلي، فلا تحكم عليه أدلَّة نفي الحرج أو الضرر. وأخرى؛ بأنّ هذه الأدلَّة وإن كانت تنفي منشأ كل حرج أو ضرر؛ وهو هنا الحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال ولو في طول حصول الإجمال إلا أنه يشترط فيه أنْ يكون حكماً شرعياً لا عدم حكم أو ترخيص، والضرر في المقام ينشأ من عدم الترخيص الشرعي في الأطراف لا من مجرد الحكم الواقعي الإلزامي.

ولكن يظهر الجواب عن كلا الإعتراضين مِمّا سبق في بحوث البراءة، فقد ذكرنا أنّ أدلَّة نفي الحرج والضرر تشمل أطراف العلم الإجمالي إذا كانت موافقته القطعية حرجية أو

ص: 433

ضررية، وذلك ينفي إيجاب الإحتياط التام. فلا فرق بين الأقسام الثلاثة سوى أنه في القسمين الأولين يكون العجز التكويني أو الإشتغال بالأهم رافعين لمنجزية التكليف وعذراً عقلياً، وفي الحرج والضرر رافعاً لإيجاب الإحتياط التام، واهتمام المولى بأغراضه بمرتبة العلم الإجمالي الذي هو حقيقة الحكم الظاهري سواءً قلنا أنه من التوسط في التكليف أم التوسط في التنجيز إذ لاثمرة عملية في هذا الخلاف كما عرفت آنفاً.

الأمر الثاني: ذكرنا أنه إذا تحقق الإضطرار إلى طرف من أطراف العلم الإجمالي؛ فإن كان بعد ثبوت العلم الإجمالي فإنَّه وإن أوجب سقوطه عنالمنجزية في الطرف المضطر إليه، ولكنه لا يسقط عن المنجزية في الطرف الآخر عند المضطر إليه، بخلاف ما أذا تقارنا أو تقدم الإضطرار على العلم؛ فقد عرفت الخلاف فيه، فهل أنّ هذا التفصيل يختص بالإضطرار أو يشمل جميع موارد سقوط التكليف في أحد الطرفين كالتلف أو الإمتثال أو العصيان ونحو ذلك؟.

يظهر من المحقق الخراساني قدس سره (1) إختصاصه بطرو الإضطرار إلى طرف معين من أطراف العلم الإجمالي، بخلاف فرض التكليف حيث حكم فيه بالتنجيز.

ولكن في حاشيته على الكفاية(2) إستدرك وجعل الإضطرار الحاصل بعد العلم الإجمالي غير مؤثر في إسقاط منجزية العلم باعتبار العلم المردد بين القصير والطويل.

ونتيجة كلامه في الكفاية والحاشية أنه بملاحظة العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل لافرق بين الإضطرار والتلف، ومع قطع النظر عن ذلك يكون الإضطرار مسقطاً لمنجزية العلم مطلقاً بخلاف التلف فإنَّه يوجب سقوطه عن المنجزية إذا كان مقارناً أو قبل العلم.

ص: 434


1- . كفاية الأصول؛ ص360.
2- . فوائد الأصول؛ ص95.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّه إذا كان المناط في جميع موارد سقوط التكليف في أحد الأطراف؛ هو كون العلم الإجمالي مردد بين القصير والطويل فيشمل الإضطرار والتلف والإمتثال والعصيان وبدونه لا منجزية في تمام موارد السقوط فيختص بالإضطرار، فإنه يقال: بأنه ربما يمكن توجيه عدم سقوط المنجزية في فرض تلف أحد الأطراف والإتيان به بخلاف الإضطرار والعسر والحرج مِمّا يكون فيه دليل شرعي على تخصيص الخطابات ورفعها بإبراز فرق بينهما من حيث أنّ المخصص في الأول عقلي وفي الثاني شرعي، فإنّ المخصص العقلي يرفع الخطاب فقط دون الملاك، بخلاف المخصص الشرعي الذي يكشف عن عدم الملاك أيضاً. وعليه؛ يكون الملاك محرزاً في الأول والشك في القدرة على حفظه لأنّ عروض التلف على أحد الطرفين يرفع القدرة عقلاً على تحقيق الملاك لو كان فيه، فيدخل في الشك من القدرة الذي يجب فيه الإحتياط عقلاً.

ولكن يرد عليه بما ذكرناه في الموجب الرابع من موجبات سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية؛ وهو خروج أحد الأطراف عن مورد الإبتلاء فراجع. ونزيد هنا أنه لو تم ما ذكر في المقام فإنَّه يجري في تقارن التلف مع العلم الإجمالي أو تقدمه عليه أيضاً، مع أنه لا يتم إلا في باب الواجبات لا المحرمات التي يطلب فيها الترك، فإنّ القدرة على الإمتثال موجودة فيها وإنَّما الشك في القدرة علىالعصيان، كما إذا كان الحرام في الطرف التالف والشك فيه ليس موجباً للإحتياط عقلاً، ويضاف إلى ذلك أنّ العقل إنَّما يحكم بعدم مؤمّنية احتمال العجز وعدم القدرة على الإمتثال في مورد يقطع بوجود الملاك فيه، وأمّا مع احتمال عدم الملاك في المورد المقدور فلا مانع من الرجوع فيه إلى الأصل المؤمّن عقلاً أو شرعاً لأنَّه من الشك في أصل التكليف بحسب الحقيقة، والعلم الإجمالي بوجود الملاك في الجامع بين المقدور وغير المقدور لا يكون منجزاً. وقد تقدم ماينفع المقام أيضاً فراجع.

ص: 435

الأمر الثالث: عرفت إنّ الإضطرار الحاصل بعد العلم بالتكليف لا يوجب سقوطه عن المنجزية عن الطرف غير المضطر إليه بلا فرق بين أنْ يكون الإضطرار إلى طرف معين أو غير معين لوجود العلم الإجمالي المردد بين القصير والطويل كما تقدم توضيحه، وقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) أنّ الصحيح التفصيل بين حالتين:

الأولى: ما إذا كان الطرف الذي يختاره لرفع اضطراره متعيناً معلوماً عنده من أول الأمر، كما إذا فرض أنّ أحد الإنائين أنظف من الآخر فإنَّه سوف يتشكل لديه نفس العلم الإجمالي المردد بين القصير في الطرف الذي سوف يختاره بعد الإضطرار أو الطويل في الطرف الآخر.

والثانية: ما إذا لم يكن الطرف الذي سوف يختاره لرفع الضرورة متعيناً لديه من أول الأمر، فإنَّه حينئذٍ لا يتشكل علم إجمالي كذلك لإنّ الفرد الذي يختاره لرفع الإضطرار غير متعين عنده، وإنَّما يعلم إجمالاً بحرمة أحد الفردين عليه قبل الإضطرار ويشك في هذه الحرمة؛ هل تكون مختصة بما قبل الإضطرار؛ أي قصيره، أو تبقى بعد الإضطرار أيضاً؛ أي طويله. وهذا من الشك في التكليف الدائر بين الأقل والأكثر الذي تجري فيه البراءة عن الأكثر.

والحق؛ أنّ هذا التفصيل لا يرجع إلى محصل، فإنّ المكلف من أول الأمر يعلم بحرمة أحد الفردين فإذا ارتفع الإضطرار بأحدهما يبقى العلم الإجمالي منجزاً في الطرف الآخر، وهذا ليس علماً إجمالياً حاصلاً بعد خروج أحد طرفيه عن محل الإبتلاء فإنَّه لم يكن في المورد إلا علم إجمالي واحد منجز في كل واحد من الطرفين؛ خرج أحدهما بالإضطرار وبقي في الفرد الآخر غير المضطر إليه.

ص: 436


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص282.

فما ذكره بعض الأصوليين هو الذي اخترناه من عدم سقوط العلم عن المنجزية في الطرف الآخر مطلقاً هو الصحيح، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني قدس سره في الحاشية.المورد السادس(1): فقدان بعض الأطراف، وقد ذكره السيد الوالد قدس سره وتقدم آنفاً الوجه فيه, وذلك لأنَّ تنجز التكليف مطلقاً مشروط بالقدرة على متعلقه، والفقدان يوجب إنتفاء القدرة.

هذا إذا كان الفقدان قبل العلم أو مقارناً له، أمّا إذا كان بعد العلم وتنجيزه فبمقتضى الإستصحاب هو بقاء تنجزه على التفصيل الذي ذكرناه في الإضطرار، فإنَّها من باب واحد، فيجري في المقام جميع ما ذكرناه في الإضطرار إبراماً ونقضاً، وإشكالاً وحلاً، فلا وجه للإعادة فراجع.

المقام السادس: في الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي
اشارة

وفيه: إمّا أنْ تكون الأطراف غير محصورة فلا إشكال في عدم نجاسة الملاقي، وإمّا أنْ تكون محصورة كما إذا لاقى شيء مع أحد طرفي العلم الإجمالي بالنجاسة، وله حالتان:

الحالة الأولى: وجود ملاقي لكل واحد من الطرفين، فلا إشكال في وجوب الإجتناب عنهما معاً للعلم الإجمالي بنجاسة أحد الملاقيين كالعلم بنجاسة أحد الطرفين.

الحالة الثانية : وجود ملاقٍ واحد لطرف من الطرفين، والمشهور عدم وجوب الإجتناب عن الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة لجريان أصالة الطهارة فيه بلا معارض وبلا دليل حاكم عليها. ولكن بعد الملاقاة ينشأ علمان إجماليان؛ علم إجمالي بنجاسة أحد الطرفين، وعلم إجمالي بنجاسة الملاقِي (بالكسر)، أو الملاقَى (بالفتح).

ص: 437


1- . من موارد سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية.

إلا أنّ الكلام يقع في تنجز حرمة الملاقي بكل واحد من هذين العلمين الإجماليين, فيقع البحث من جهات:

الجهة الأولى: في تنجز العلم الإجمالي بالنسبة إلى حرمة الملاقي، وقد عرفت أنّ المشهور بين الأصحاب عدم تنجزها به فيجوز استعمال الملاقي فيما يشترط فيه الطهارة كالشرب

والتوضوء به ونحو ذلك إذا كان مثل الماء. واستدلوا على ذلك بما يلي:

أولاً: أصالة الطهارة من دون معارض ولا دليل حاكم عليها.

ثانياً: إنّ العلم الإجمالي إنَّما يتنجز حكماً إذا كان الشيء المعلوم تمام الموضوع لذلك الحكم لا جزءه، كما في حرمة شرب أحد المائين اللذين يعلم بخمرية أحدهما فإنّ حرمة شرب الخمر تمام موضوعه الخمر وهو معلوم في البين، بخلاف حكم الحدّ الذي يجري على شارب الخمر فإنَّه لا يجري في حق من يشرب أحدهمالأنّ موضوعه مركب من جزئين؛ خمرية المايع، وشرب المكلف له، والثاني غير معلوم، وإن كان الأول معلوماً بالعلم الإجمالي، وهو لا يكفي في تنجز هذا الحكم.

وفي المقام يقال بأنّ حرمة شرب نفس النجس المعلوم ضمن أحد الطرفين أو التوضئ به إنَّما تتنجز بالعلم الإجمالي لكونه علماً بتمام الموضوع لها، وأمّا حرمة الملاقي لأحدهما فلا يتنجز به لأنَّه موقوف على العلم بملاقاته مع النجس وهو غير معلوم.

وهذه قاعدة كلية في تنجز العلم الإجمالي تجري في جميع الموارد، ولها تطبيقات عديدة:

منها؛ ما إذا كان للشيء أثر شرعي، وأمّا إذا لم يكن شيء من الطرفين موضوعاً لحرمة تكليفية أو وضعية فيكون العلم الأول منجزاً أيضاً؛ كما إذا علم بنجاسة أحد الدرهمين فإنّ هذا لا ينجِّز شيئاً، إذ ليس الدرهم مأكولاً ولا ملبوساً في الصلاة ليتنجز ذلك به. وأمّا حرمة شرب ملاقيه أو التوضؤ به فلا علم بتمام موضوعه.

ص: 438

ومنها؛ ما إذا كان المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين تمام الموضوع لحكم دون الطرف الآخر، كما إذا علم بنجاسة الدرهم أو الماء فإنَّه تجري أصالة الطهارة في الماء بلا معارض لعدم ترتب أثر على نجاسة الدرهم، وهذا ليس علماً إجمالياً بموضوع تكليف فعلي على كل تقدير.

ومنها؛ الحكم في المائين المسبوقين بالكريّة إذا نقص أحدهما غير المعين عن الكرية، وعلم بملاقاة النجاسة لأحدهما المعين، فإنَّه يجري استصحاب الكريّة فيه من دون أن يعارض ذلك باستصحاب كريّة الآخر، إذ ليس فيه أثر فعلي يترتب على كريّته وعدمها، وليس العلم بعدم كريّة أحدهما علماً بتمام الموضوع للإنفعال، بل لا بُدَّ من العلم بملاقاة النجاسة لغير الكر وهي غير معلومة. ولكن أصل هذه القاعدة والكبرى وإن كانت مثبتة ومسلّمة إلا أنّ الكلام يقع في تطبيقاتها؛ فإنَّه قد يقع خطأ فيه في موارد عديدة لأسباب متعددة ربما يكون من الخلط بين الأحكام التكليفية؛ كحرمة شرب النجس، والأحكام الوضعية؛ كحرمة التوضئ به وبطلانه.

وأشكل عليه السيد الصدر قدس سره (1) بما حاصله: إنّ الحكم التكليفي بحرمة شرب النجس إنَّما يكون فعلياً إذا تحقق خارجاً؛ أمّا قبل وجوده فلا حرمة لشربه، وإمّا لعدم القدرة عليه إذا فرض عدمها على إيجاده وهو المانع الثبوتي، أو للإستظهار من دليل الحكم وهو دليل إثباتي. وأمّا الحكم الوضعي بحرمة التوضئ به فهو منتزع من ضيق دائرة الواجب وتقييده بأنْ يكون بالطاهر، وفعلية هذه الحرمةالوضعية ثابتة من أول الأمر منذ فعلية الواجب وقبل تحقق النجاسة في الماء أو اللباس.

ص: 439


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص301.

وبعبارة أخرى: إتصاف الصلاة فيه بكونها صلاة في النجاسة بنحو مفاد كان الناقصة شرط في انحلال الحرمة سواء وجدت النجاسة بالفعل في الخارج أم لا، وصدق هذه الشرطية غير متوقف على وجود النجس بالفعل في الخارج.

وعليه؛ فالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين علم بموضوع حرمة الصلاة أو الوضوء بملاقيه الفعلية قبل تحقق الملاقي في الخارج، وعليه فإنّ العلم الإجمالي الأول كما ينجزّ الحكم التكليفي للطرفين فإنه ينجز الحكم الوضعي لملاقي الطرفين من أول الأمر، فتكون حرمة التوضئ بملاقيه النجس منهما أو لبسه في الصلاة قبل الملاقاة منجزاً، فيحدث علم إجمالي بحرمة وضعية للتوضئ بملاقي هذا الطرف أو بملاقي ذاك الطرف وهي فعلية من الآن وقبل تحقق الملاقاة، وبعد تحققها في أحد الطرفين يكون احتمال الحرمة فيها تكليفاً منجزاً من أول الأمر لا تكليفاً جديداً. فلا مجال للبراءة العقيلة ولا للأصول المرخصة؛ أمّا الأول فهو واضح، وأمّا الثاني فلأنّ المرخصة إمّا أن تؤمّن عن جميع الأحكام الثلاثة؛ أعني حرمة شرب الملاقي، وحرمة التوضي بالملاقي أو الصلاة فيه كأصالة الطهارة الجارية في الملاقي. وإمّا أن تؤمن عن الحرمة الوضعية للملاقي كأصالة الطهارة في الملاقي، والأول؛ ساقط بالمعارضة للعلم الإجمالي، والثاني يسقط أيضاً بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر للعلم إجمالاً أول الأمر بالحرمة الوضعية في الملاقى قبل تحقق الملاقاة، أو حرمة شرب الآخر أو لبسه في الصلاة.

ومن هنا تظهر حرمة الوضوء بالملاقي والصلاة فيه حتى إذا كانت الملاقاة بعد خروج الطرف الآخر عن محل الإبتلاء؛ فلم يتشكل العلم الإجمالي الثاني الذي هو منجز وذلك لأنَّ هذا الحكم تنجز بمجرد حصول العلم الإجمالي الأول.

ص: 440

والحق؛ أنّ ما ذكره لا يمكن المساعدة عليه لما يلي:

أولاً: إنه مبني على تنجز العلم الإجمالي الثاني وهو الحادث بين الملاقي والملاقى(بالفتح). وهو مخدوش صغرى وكبرى؛ فإنَّه لم يحدث علم إجمالي جديد سوى العلم الإجمالي الأول بين الطرفين، ولا موضوع للعلم الإجمالي الثاني بل هو من توابع الأول، وقد عرفت أنه وإن تنجز في طرفي العلم الإجمالي وأوجب الإجتناب عنهما لكنه لم يكن كذلك في ملاقي أحد الطرفين. والعرف أكبر شاهد على ذلك حيث لم يحدث عندهم علم إجمالي آخر بين الملاقي والملاقى، بل هو مجرد شك في الملاقي.وثانياً: إنّ الحكم الوضعي في المقام كالحكم التكليفي لأنَّه إمّا منتزع منه أو لدلالة الدليل عليه، فإنّ كل واحد منهما يشترط في تنجزه أنْ يكون الشيء تمام الموضوع لذلك الحكم، فلا يفرق بين حرمة شرب النجس وحرمة التوضؤ؛ فإمّا أنْ يكونا فعليين إذا توفرت شروط فعليتهما كالقدرة على الإمتثال ونحوه، وإلا فلا فعلية لهما، والتنجز حاصل في طرفي العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين، وأمّا ملاقيه فلم يتنجز فيه فيرجع فيه إلى الدليل نفسه، والعلم الإجمالي وإن نجزّ الحكم التكليفي والوضعي في الطرفين ولكن لا دليل على منجزية الحكم الوضعي في الملاقي، ويكفي الشك في ذلك في الرجوع إلى الأصل في نفيه. ومجرد كون الحكم الوضعي فعلياً في كل واحد من الطرفين لا يكون موجباً لفعليته في الملاقي له.

الجهة الثانية: قد أُشكل على جريان الأصل في الملاقي بوجوه:

الأول: سراية النجس إلى الملاقي من الملاقى.

وفيه: إنّ السراية لا تكون إلا من النجس الواقعي أو المتنجس كذلك لا ما حكم فيه إمّا بالإجتناب عنه مقدمة لتحقق الإجتناب عن شيء وإمّا الإجتناب عن ملاقيه، فلا دليل على السراية مطلقاً لا من العقل ولا من العرف ولا من الشرع.

ص: 441

الثاني: ما تقدم من أنَّ الملاقي أصبح طرفاً للعلم الإجمالي كالملاقى.

وفيه: إنه إن كان المراد إثبات علم إجمالي واحد بين طرفي النجاسة، فإذا كان المراد أنّ الملاقي صار طرفاً من العلم الإجمالي فقد أصبح له ثلاثة أطراف.

وفيه: إنَّه مجرد دعوى، بل الأنظار العرفية لا تساعد على ذلك؛ فإنَّهم يرون الفرق الواضح بين الملاقى وملاقيه في الطرفية للعلم الإجمالي فإنّ الملاقي ليس كما إذا جعل أحد طرفي العلم الإجمالي في إناءين مثلاً، فلا يرون أنّ العلم الإجمالي يكون فيه ثلاثة أطراف حينئذٍ، فهو كما إذا لاقى شيء طاهر مع أحد أطرافه فلا تتغير أطرافه عما كانت عليه عند العرف.

الثالث: الدليل على نجاسة ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي مفقود، ولم يدّعِه أحد من العلماء، فلا دليل على وجوب الإجتناب عن ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي إلا ما يقال في بعض صور المسألة كما يأتي بيانه.

الرابع: إنّ أصالة الطهارة في الملاقي إنَّما يصحّ الرجوع إليها بعد تعارض أصالة الطهارة في طرفي العلم الإجمالي وتساقطهما, ونتيجته الرجوع إلى أصالة الطهارة في الملاقي لأنَّه أصل طولي لا معارض له.

وقد أشكل عليه بأنّ ذلك إنَّما يتوقف على تمامية أمور أربعة:

1- القول بالإقتضاء لا العلية، وهذا الأمر قد عرفت الكلام فيه مفصلاً، وتقدم أنه لا فرق فيه بين القول بالعلية أو الإقتضاء فراجع.

2- إنّ الأصل الطولي لا يسقط بالمعارضة مع الأصلين العرضيين.وقد أورد عليه السيد الخوئي قدس سره (1) بإيرادين:

أحدهما: عدم الطولية بين أصالة الطهارة في الملاقي وأصالة الطهارة في الطرف الآخر. وإنَّما الطولية بينهما وبين أصالة الطهارة في الملاقى، وليس هو المعارض معها.

ص: 442


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص415.

والآخر: إنّ تعدد الرتب لا أثر له في المقام، لأنّ الأحكام الشرعية ظرفها الزمان لا الرتب؛ فإن اجتمع أصلان في طرفي العلم الإجمالي في زمان واحد فلا محالة يتعارضان ويتساقطان وإن كان أحدهما متأخراً عن الآخر رتبة.

ويمكن الإشكال عليه:

أمّا الأول؛ فلأنّه لا معارضة بين الأصل في الملاقي والأصل في الطرف، إذ الملاقي لم يكن طرفاً له عرفاً حتى تقع المعارضة بينهما وتبقى الطولية بينه وبين الأصلين في الطرفين سالمة.

وأمّا الثاني؛ فلأنّه إن تمّ في بعض الموارد كما هو مذكور في الفقه مثل ملكية العمودين حين يقال بالإنعتاق بعد الملكية في رتبة سابقة، لا في زمان الملكية حتى لا يستلزم تملك العمودين.

ويقال في الجواب عن ذلك بأنّ الأحكام الشرعية أمور زمانية فلا بدَّ أنْ تكون فعليتها في عالم الزمان لا في عالم الرتب.

ولكن هذا غير تام في المقام لأنّ الأصل المتأخر فعليته عن أصل آخر يستحيل أنْ يكون مزاحماً معه ومعارضاً له، وهذا لا ربط له بمسألة زمانية الأحكام الشرعية.

1- إنّ أصالة الطهارة في الملاقي في طول أصالة الطهارة في الملاقى.

وأُشكل عليه بما يلي:

أولاً: عدم الطولية في الأصول المتوافقة كما في المقام، فإنّ الأصول متوافقة في الطهارة.

وثانياً: هذا وإن سُلِّم في الأصل السببي والمسببي، ولكنه غير تام في مثل أصالة الطهارة في الملاقي والملاقى لأنّ الحكومة سواء كانت بملاك رفع الموضوع أم بملاك النظر لم تثبت، لأنّ دليل قاعدة الطهارة لا يعبّدنا بالعلمية لكي يتوهم رفع موضوع الشك في طهارة الملاقي، فالملاك الأول منتفٍ كما ينتفي الملاك الثاني لأنَّه إنَّما يتم في دليلين لا إطلاق دليل واحد.

ص: 443

ويرد عليهما بأنّ الطولية ثابتة في المقام بحكم العرف وإن كانت الأصول متوافقة, ولأجل هذا النظر العرفي تثبت الحكومة بين الأصلين في المقام لثبوت الملاك لها.

2- عدم وجود أصل طولي في طرفي الملاقى.وقد أورد عليه المحقق العراقي قدس سره (1) تبعاً للسيد حيدر الصدر قدس سره وأسماه بالشبهة الحيدرية(2) وهو أنه توجد في طول أصالة الطهارة في الطرف الآخر أصالة إباحته إذا كان مِمّا يؤكل أو يُشرب أو يُلبس في الصلاة فتعارض أصالة الطهارة في الملاقي.

ويمكن الجواب عنه بما يلي:

أولاً: سقوط أصالة الإباحة فيه مع أصالة الطهارة بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الملاقى.

وثانياً: إنّ أصالة الإباحة لا توجب سقوط آثار الطهارة في الملاقي لأنها ثبتت بأصول مرخصة طولية لا يوجد في عرضها أصل طولي في الطرق الأخرى في نفس المرتبة.

والحاصل؛ إنّ جميع تلك الإشكالات مبنية على جعل الملاقي طرفاً من أطراف العلم الإجمالي مع أنك عرفت آنفاً أنّ الملاقي لم يكن كذلك بالنظر العرفي، بل هو مورد الشك

ص: 444


1- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص363.
2- . من الشبهات الواردة في العلم الإجمالي عند الشبهة المحصورة وتقرّر كما يلي: كما أنّ جريان أصالة الطهارة في الملاقي في طول جريان أصالة الطهارة في الملاقى، كذلك جريان أصالة الحل في الطرفين في طول جريان أصالة الطهارة فيهما، إذ لو اجريت أصالة الطهارة وحكم بالطهارة لا يصل الدور إلى جريان أصالة الحلّ، فتكون أصالة الطهارة في الملاقي وأصالة الحلّ في الطرف الآخر في مرتبة واحدة؛ لكون كليهما مسببيّاً، فإنّا نعلم إجمالاً -بعد تساقط أصالة الطهارة في الطرفين- بأنّ هذا الملاقي نجس أو أنّ الطرف الآخر حرام، فيقع التعارض بين أصالة الطهارة في الملاقي وأصالة الحل في الطرف الآخر، ويتساقطان فيجب الاجتناب عن الملاقي. نعم؛ لا مانع من جريان أصالة الحل في الملاقي بعد سقوط أصالة الطهارة فيه للمعارضة بأصالة الحل في الطرف الآخر، لعدم المعارض له في هذه المرتبة.

والوهم فيجري الأصل فيه بلا معارض. فهو موضوع آخر ومجعول آخر غير طهارة الملاقى فلا تسقط بسقوطها كما نبّه إليه المحقق النائيني.

على أنه يصحّ لنا القول بأنّ أصالة الإباحة تسقط في الطرف مع سقوط أصالة الطهارة بالمعارضة لكون المجعول فيهما واحد وإن تعدد الجعل لساناً كما عرفت.

والحق؛ ما ذهب إليه المشهور من صحة جريان أصالة الطهارة في الملاقي من دون أن يعارضه أصل آخر أو يقوم دليل حاكم عليه يحكم بوجوب الإجتناب عنه.

الجهة الثالثة: في بيان الأقوال بعد ما ظهر مِمّا تقدم أنّ الأصل يجري في الملاقي مطلقاّ ويحكم بطهارته وعدم وجوب الاجتناب عنه، ولكن هناك أقوال أخرى تذهب إلى التفصيل وهي:

القول الأول: ما ذهب إليه المحقق الأنصاري قدس سره (1) حيث وافق المشهور إلا في صورة واحدة وهي ما إذا حصلت الملاقاة قبل العلم الإجمالي بالنجاسة وفقدالملاقى، ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة المفقود أو شيء آخر فإنَّه يجب الإجتناب عن الملاقي حينئذٍ لعدم جريان الأصل في المفقود لكونه بلا موضوع فيجري في الملاقي والشيء الآخر ويسقط بالمعارضة فيؤثر العلم الإجمالي أثره.

وفيه : إنّ جريان الأصل لا يدور مدار وجود الموضوع وعدمه، بل يدور مدار ترتب الأثر الشرعي عليه؛ فمعه يجري وإن فُقد الموضوع ومع عدم الأثر لا يجري وإن كان الموضوع موجوداً. والأثر الشرعي هو طهارة الملاقي بجريان الأصل فيه بلا معارض بعد تساقط الأصلين الجاريين في المفقود والطرف الآخر كما عرفت.

ص: 445


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص242.

إلا أن يقال بأنّ هذا الأثر وجوده كعدمه؛ إذ لا نحتاج إليه مع جريان أصالة الطهارة في نفس الملاقي فيكون إثبات الطهارة بواسطة الأصل الجاري في الملاقي المفقود من التطويل بلا طائل.

ولكن ذلك غير صحيح لأنّ المناط في جريان الأصل مطلق الأثر الشرعي أعم من أن يكون تأكيداً أو تأسيساً، والمقام من الأول دون الثاني. على أنّ الأصل لا يجري في الملاقي ابتداءً إلا بعد إسقاط الأصل في الملاقى وإخراج الملاقي عن الطرفية.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق الخراساني ( قدس سره )(1) من تثليث الأقسام وهو:

1- وجوب الإجتناب عن الطرفين والملاقي، وذلك في ما إذا حصل العلم الإجمالي والعلم بالملاقاة دفعة واحدة لصیرورة الجميع طرفاً للعلم الإجمالي فيؤثر أثره بعد تعارض الأصول وتساقطها.

وفيه: ما عرفت آنفاّ من أنَّ ذلك مبني على اعتبار المعية الزمانية في الأحكام فتتعارض الأصول الثلاثة وتتساقط لأنها في عرض واحد في عالم الزمان.

وقد تقدم بطلان ذلك فإنَّه يستحيل أن يعارض المتأخر ما سبقه في الرتبة فإنَّه لا ريب في أنّ الأصل الجاري في الملاقي في رتبة متأخرة عن الأصل الجاري في الملاقى والطرف الآخر لأنّ نجاسة الملاقي -على فرض ثبوتها- مستندة إلى الملاقاة فقط وهي معلولة لنجاسة الملاقى ووجوب الإجتناب عنه، وليس من أجل كونه طرفاً للعلم الإجمالي بالذات، فمع سقوط الأصل في الملاقي وطرفه بالمعارضة تجري أصالة الطهارة في الملاقي بلا مزاحمة لاختلاف الرتبة.

ص: 446


1- . كفاية الأصول؛ ص363.

2- وجوب الإجتناب عن الملاقى دون الملاقي، وذلك في ما إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف، ثم حصل العلم بالملاقاة.

وهذا هو المشهور الذي تقدم بيانه والإستدلال عليه وما استشكل عليه والجواب عنه.1- وجوب الإجتناب عن الملاقي دون الملاقى، وهو يتحقق في موردين:

أحدهما: ما إذا علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر, ولكن حال حدوث العلم الإجمالي كان الملاقي مورد الإبتلاء والملاقى خارج عنه ثم عاد إلى مورد الإبتلاء وذلك لأنَّ الملاقي صار طرفاً من أطراف العلم الإجمالي حينما كان مورد الإبتلاء وخروج الملاقى عن الإبتلاء حين حدوث العلم الإجمالي فيتنجز في الأول دون الثاني.

ويرد عليه بأنّ المناط في تنجز العلم هو كون الشيء طرفاً له بالذات لتكون الأصول في رتبة واحدة وفي عرض واحد فتسقط بالمعارضة.

وهذا المناط لم يتحقق في الملاقي كما عرفت، فيكون طرفاً بالعرض لا بالذات.

ويدلّ عليه النظر العرفي كما تقدم بيانه، فجعل الملاقي طرفاً للعلم الإجمالي مغالطة واضحة. وهذا المورد يشبه ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره وقد عرفت ما فيه.

والآخر: ما إذا علم بنجاسة الملاقي أو الطرف بلا توجه إلى سبب نجاسته، ثم حدث العلم بأنَّه كان من جهة الملاقاة، وحدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف مع العلم بأنَّه لم يكن سبب لنجاسة الملاقي سوى الملاقاة.

ففي هذه الصورة حكم بوجوب الإجتناب عن الملاقي لأنَّه قد حصل العلم الإجمالي ابتداءً بنجاسة الملاقي أو الطرف وتنجَّزَ فيؤثر أثره، ثم حصل علم إجمالي آخر بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر, وهو علم إجمالي عارض على علم إجمالي سابق منجز فلا أثر له

ص: 447

إلا إذا كان أثره من غير سنخ الأول. وليس المقام كذلك فيجب الإجتناب عن الملاقي دون الملاقى.

ويرد عليه: إنه بعد العلم بأنّ سبب نجاسة الملاقي هو الملاقاة وانحصاره بها من دون سبب آخر غير الملاقاة يكون العلم الإجمالي الأول لغواً وغير مؤثر فينحصر الأثر في العلم الإجمالي الثاني، فيتعارض الأصلان في الملاقى والطرف ويسقطان بالمعارضة، بينما يجري الأصل في الملاقي من دون أن يعارضه أصل أو يتحكم عليه دليل.

وهذا كله فيما إذا لم يحمل الملاقي عن الملاقى شيئاً من النجس أو المتنجس وكان من مجرد الملاقاة، وإلا يحكم عليه بوجوب الإجتناب ظاهراً لاسيما إذا كان ما حمله شيئاً معتداً به لاحتمال صيرورته طرفاً للعلم الإجمالي عرفاً.

ومن جميع ذلك كله يظهر فساد القول بوجوب الإجتناب عن الملاقي لأنَّه طرف في العلم الإجمالي الحاصل بينه وبين الطرف الآخر كما ذهب إليه السيد الصدر قدس سره .

تنبيهات

التنبيه الأول: ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) في وجه سقوط العلم الإجمالي في الملاقي وانحلاله الذي اصطلح عليه بالإنحلال الحقيقي بما خلاصته: إنّ الميزان في انحلال أحد العلمين وخروجه عن الصلاحية للتنجز بسبب الآخر هو سبق معلوم الآخر لا سبق نفس العلم، وهذا الميزان ينطبق في المقام على العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف, لأنّ معلومه متأخر عن المعلوم بالعلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف فينحل به سواء كان نفس العلم متأخراً عنه أم لا.

ص: 448


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص262-263.

وكلامه قدس سره يبتني على أمور:

1- العلم الإجمالي إنَّما يكون منجزاً إذا كان علماً بالتكليف الفعلي على كل تقدير، ويترتب على ذلك أنّ بعض أطراف العلم الإجمالي إذا كان منجزاً بمنجز سابق شرعي أو منجز عقلي كذلك؛ كالطرفية لعلم إجمالي آخر فلا يكون للعلم الإجمالي أثر، إذ لا يكون علماً بالتكليف على كل تقدير.

2- إنّ تنجيز العلم إنَّما يكون باعتبار كاشفيته وطريقته، لا بوجود نفسه بما هو صفة خاصة. وعليه لو تعلق العلم بمعلوم سابق فلابدَّ من ترتب الأثر من ذلك الزمان دون زمان حدوثه.

3- إنّ إبطال العلم الأسبق معلوماً لمنجزية العلم المتأخر معلوماً لا يفرّق فيه بين أنْ يكون السبق فيه زمانياً أو رتبياً، ولو فرض اقتران المعلومين في الزمان نظير المثال الذي ذكرناه آنفاً وهو العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين والعلم الإجمالي بنجاسة الملاقي لأحدهما أو الطرف الآخر فإنّ المعلوم بالعلم الأول أسبق رتبة عن المعلوم بالعلم الثاني.

فإذا تمت هذه الأمور الثلاثة يثبت انحلال العلم الإجمالي الثاني الحاصل بين الملاقي والطرف الآخر لتأخر معلومه، وتنجز العلم الإجمالي السابق بين أحد الإناءين لتحقق الميزان الذي يكون فيه وهو سبق المعلوم الآخر لا سبق نفس العلم. وكلامه يبتني على أنه إذا كان هناك علم إجمالي آخر غير العلم الإجمالي الأول وهو منتفٍ كما عرفت.

وكيف كان؛ فقد استشكل عليه السيد الصدر قدس سره (1) بأنّ جميع ذلك قابل للمناقشة:

أمّا الأمر الأول؛ فلأنَّه لا شك في كون تنجيز العلم الإجمالي منوطاً بالعلم بالتكليف المولوي، ولكن ذلك يصدق على المنجز العقلي إذا كان في واحد معين من أطراف العلم

ص: 449


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص313.

الإجمالي, لأنّ المقصود من التكليف الذي يشترط كون العلم الإجمالي علماّ به هو الإلزام المولوي, والعلم الإجمالي به ثابت فعلاً ولا ينافيه فرض وجود منجز عقلي في أحد أطرافه.ولكن هذا الإيراد يمكن دفعه بأنَّه؛ إمّا أنْ يكون مقصود المحقق النائيني بالتكليف المولوي هو الإلتزام المولوي حتى ينافيه فرض وجود منجز عقلي, والمراد منه هو الكلفة المساوقة للتنجز الشامل لهما فيصبح حينئذٍ القول بعدم وجود علم إجمالي بالتكليف مع وجود منجز تعييني في أحد الطرفين، لأنّ الكلفة فيه محرزة وجداناً ولا حاجة إلى تأويل الكلفة بهذا المعنى إلى التنجيز كما ذكره السيد الصدر قدس سره .

وكيف كان؛ فإنّ الأمر ممّا يمكن رفع الإلتباس فيه ليشمل ما ذكره قدس سره .

وأمّا الأمر الثاني: فهو مما لا يمكن قبوله، لأنّ العلم بمعلوم سابق يستحيل أنْ يكون منجزاً له إلا من حينه, لأنّ العلم بالنسبة إلى حكم العقل بالمنجزية ليس طريقاً بل هو موضوع، غاية الأمر إنه موضوع بما هو كاشف، فلا منجزية قبل العلم. نعم؛ إنَّما يترتب الأثر من زمان المعلوم السابق، ولكن ذلك ليس معناه سبق التنجيز.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ ما ذكره قدس سره إنَّما هو إيراد لفظي؛ فإنَّه لا إشكال في أنّ المعلوم إذا كان سابقاً على زمان العلم فإنه بعد تنجز العلم ينسحب الأثر إلى ذلك المعلوم من حيث الزمان. فالتنجز للعلم من حيث حدوثه وأثره يكون من زمان المعلوم السابق، ولعل المحقق النائيني أراد من كلامه هذا إن دققنا النظر فيه.

وأمّا الأمر الثالث؛ فقد أورد عليه بأنَّه لا تقدم رتبي في المثال الذي ذكره، فإنّ نجاسة الإناء الآخر الواقعة طرفاً للعلم الإجمالي الأول بنجاسة أحد الإناءين هي نفس النجاسة الواقعة طرفاً للعلم الإجمالي الثاني بنجاسة الملاقي أو الطرف، ولا معنى لفرض السبق والتأخير الرتبي بينهما فإنّ الطرف المشترك بين العلمين واحد ونسبته إلى العلمين على نحو واحد.

ص: 450

وفيه: ما عرفت من أنَّ نجاسة الملاقي تبتني على نجاسة الإناءين اللذين تعلق بها العلم الإجمالي وتنجز فيهما، ولذا لو خرج أحد الإناءين عن الإبتلاء ثم حدث ملاقاة للإناء الآخر الموجود فلا يشكّ أحد في نجاسته لجريان الأصل في الملاقى ويحكم بطهارته فلا يمكن إنكار التقدم الرتبي.

ولكن سيأتي أنّ كلام المحقق النائيني على إطلاقه قابل للمناقشة.

وكيف كان؛ فإنّ كلامه غير تام لعدم حدوث علم إجمالي آخر حتى نرجع إليه في انحلاله بما ذكره كما عرفت.

التنبيه الثاني: عرفت من مطاوي البحث بطلان القول بوجوب اجتناب الملاقي مطلقاً من جهة السببية لا من جهة السراية، ولكن يظهر من المحقق النائيني قدس سره ربط وجوب الإجتناب عن الملاقي بهما، حيث ذهب إلى التفصيل بين القول بالسببية والقول بالسراية؛ فعلى الأول لا يجب الإجتناب عن الملاقي لعدمتنجزه لا بالعلم الإجمالي الأول لعدم كونه علماً بتمام الموضوع لحكم الملاقي, ولا بالعلم الإجمالي الثاني لما تقدم من سلامة الأصل الطولي الجاري فيه عن المعارضة.

وأمّا على القول بالسراية فإنَّه يجب الاجتناب عن الملاقي لتنجزه بالعلم الأول والثاني كلاهما؛ أمّا الأول فواضح، وأمّا الثاني فلأنَّه على القول بالسراية لا تكون هناك طولية بين الأصلين في الملاقي والملاقى.

والمناقشة فيما ذكره واضحة بعد الإطلاع على ما ذكرناه؛ فإنَّه لا علم إجمالي آخر سوى العلم الإجمالي بين الإناءين فينتفي موضوع هذا التفصيل، مع أنه لا تحقق للسراية إلا إذا حمل الملاقي من الملاقى شيئاً كما تقدم بيانه, وعلى فرض صحة ما ذكره قدس سره فلو شككنا في السراية أو السببية فالعلم الإجمالي لا يكون منجزاً لأنَّه لم يحرز السراية التي فيها مؤونة

ص: 451

زائدة كما هو واضح؛ فتكون هذه المؤونة مجرى الأصول المؤمنة العقلية والنقلية. كما أنَّ العلم الإجمالي الثاني على فرض القول به, لا يكون منجزاً أيضاً لأنَّه يشك في وجود معارض للأصل المؤمّن في الملاقي لاحتمال السببية الموجب للطولية، وعدم إمكان معارضة الأصل المرخص في الطرف الآخر للأصل المرخص في الملاقي فيشك في وجود الحاكم عليه الرافع لموضوعه.

التنبيه الثالث: ذكر المحقق في المقام فرعاً جعلوه مشابهاً لملاقي أطراف الشبهة المحصورة وهو المذكور في باب الغصب، وحاصله: لو علم المكلف بأنّ إحدى الشجرتين مملوكة للغير إجمالاً فأثمرت إحداهما فالعلم الإجمالي بغصبية إحدى الشجرتين إنَّما تنجزّ حرمة التصرف فيهما معاً, وأمّا بالنسبة إلى الثمرة فلا علم بتمام الموضوع لحرمتها ويشك في وجوب ردّها إلى الغير فلا يحرم التصرف فيها لا بالعلم الأول لما ذكره، ولا بالعلم الإجمالي بغصبيتها أو غصبية الشجرة الأخرى لانحلاله بأحد الوجوه المتقدمة، فيكون حال هذا الفرع حال ملاقي أحد طرفي العلم الإجمالي بالنجاسة وهو الفرع السابق.

والكلام فيه يقع من ناحيتين:

الناحية الأولى: في حكم الشجرتين؛ ولا إشكال في تنجز العلم الإجمالي فيها من جهة حرمة التصرف في الشجرة المغصوبة للعلم بتمام موضوعها، وإنَّما الكلام يقع في ضمانها إذا تلفت إحداهما بالتصرف فيه بما يوجب ذلك؛ فمن قال بالضمان يكون مستنده أنّ تمام الموضوع فيه أنْ يكون المال للغير وأنْ يكون تحت يد الإنسان بلا إذن مالكه، وكلاهما محرز في المقام.

وقبل الكلام فيه نقول: إنّ الضمان يطلق على معنيين:

أحداهما؛ العهدة بمعنى الذمة، وإن ذكر المحقق النائيني قدس سره أنّ العهدة وعاء الأعيان، والذمة وعاء الأمور الكلية.

ص: 452

ولكن لم يظهر ذلك من سائر كلمات العلماء، ويمكن إرجاعهما إلى شيء واحد. والتفصيل موكول إلى محله.

والآخر؛ الضمان بمعنى اشتغال الذمة.

وبين هذين المعنيين نسبة التباين بحسب المفهوم، ونسبة العموم من وجه بحسب المصداق، لأنّ الضمان بمعنى العهدة مرجعه إلى المسؤولية والتعهد والتكليف من دون أن يستلزم حق الملكية، بينما الضمان بمعنى إشتغال الذمة بالقيمة، مرجعه إلى تملّك الشيء على الآخر، وحيث أنّ الملكية بحاجة إلى مملوك فقد فرضت الذمة وعاءً له. ويجتمع المعنيان في مثل ما إذا أتلف شخص مال الغير فإنَّ ذمته تشتغل بمثله أو بقيمته كما أنَّه مسؤول عن أداءه إليه.

وأمّا مورد تحقق الضمان دون شغل الذمة فمصاديقه نادرة في الفقه إلا في بعض الفروع كالكفالة؛ فإنّ مرجعها إلى التعهد بإحضار المديون أمام غريمه من دون أن تشتغل ذمة الكفيل بالدين، خلافاً للعامة وعلى خلاف في ذلك بين فقهاءنا.

وأمّا مورد تحقق شغل الذمة دون العهدة فهو كثير في الفقه؛ مثل ضمان الثمن قبل قبض المبيع فإنّ ذمة المشتري مشغولة به، ولكن لا يجب دفعه قبل قبض المبيع إذا عرفت ذلك.

قد يقال: إنّ الذي تكون يد الغير تمام الموضوع له هو الضمان بالتعهد لا اشتغال الذمة فإنّ الغاصب بمجرد وضع اليد على مال الغير يصبح مسؤول عن أداءه إليه ويحرم عليه التصرف فيه. وأمّا اشتغال الذمة فليس وضع اليد عليه تمام الموضوع له، بل جزؤه، وجزؤه الآخر تلف المال، فالعلم الإجمالي ليس علماً بتمام الموضوع لشغل الذمة.

ولكن يرد عليه: بعدم الإنفكاك بين الأمرين عند وضع اليد على ملك الغير فإنَّه قد ثبت في بحث الضمان أنّ العين بعد غصبها تنتقل إلى ذمة الغاصب، لأنّ لها وجود ذمي فإن كانت موجودة فيجب إرجاعها إلى مالكها، وإنْ تلفت يجب إرجاع بدلها إليه بما لها من

ص: 453

الخصوصيات والأوصاف حين انتقالها إلى الذمة، ولذا حكمنا عليه بوجوب ردّها حين الدفع. ولعل المشهور الذين لم يميزوا بين الأمرين في المقام يرجع إلى هذا على ما يستفاد من كلماتهم في تفسير الضمان؛ فقد عبر بعضهم بالضمان عن شغل الذمة وبالعكس، وقال آخر بأنّ الضمان معناه شغل الذمة بالبدل من القيمة أو المثل. وثالث قال بأنّ الضمان يعني كون المال في عهدته بكامل خصوصياته الشخصية والمثلية والقيمية، وكلما تعذر إرجاع شيء منها بقي الباقي منها في العهدة فيجب رده. ورابع قال بأنّ العين تبقى في العهدة بتمام خصوصياتها؛ غاية الأمر أنّ عهدة العين تقتضي ردها عند وجودها وردّ بدلها حين فقدها.

وجميع هذه التفاسير يمكن إرجاعها إلى ما ذكرناه، والعرف يؤيد ذلك أيضاً.وعليه؛ يكون العلم الإجمالي منجزاً للضمان بكلا معنييه لملازمتهما، كما أنَّ العرف يفهم الوحدة من الضمان إذا وضع الإنسان يده على ملك الغير بغير إذنه فيكون ملاك إرجاعه إلى صاحبه هو الحكم التكليفي وضمانه واحد.

والعلم الإجمالي الذي أوجب إرجاع الشجرة إلى صاحبها هو نفسه الذي يوجب إرجاعها عند التلف ولكن بالبدل، فإنّ اشتغال الذمة في كلا الفرضين واحد وأنه علم إجمالي متجزئ واحد، لا أنْ يكون هناك علمان إجماليان أحدهما تعلق بالعين عند وجودها، والآخر عند التلف كما هو واضح، وهو الذي ذكرناه أيضاً في الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي.

الناحية الثانية: في أثر العلم الإجمالي بالنسبة إلى الثمرة وضمانها؛ فمن قال بمنجزية العلم الإجمالي في الفرع السابق وهو الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي فلا اشكال عنده في ضمان الثمرة بنفس الملاك الذي ذكره هناك من منجزية العلم الإجمالي الثاني بينها وبين الشجرة المغصوبة الأخرى، وأمّا من قال بعدم المنجزية لهذا العلم إمّا لانحلاله بأحد

ص: 454

الوجوه المتقدمة أو لعدم ثبوته كما اخترناه، ولأنّ وضع اليد على أحد الأصلين الذي هو ملك الغير لا يكفي في ضمان الثمرة، بل لا بُدَّ من العلم بوقوع اليد على ثمرة الأصل المغصوب فلا بُدَّ لهم من تخريج الضمان فيها بوجه آخر؛ فالمشهور هو ضمان الثمرة، ويمكن توجيه ذلك بأحد وجوه:

أولها: إنّ ملكية الثمرة لم تخرج عن ملكية الشجرة، وإنما هي انبساط لها، وفي هذه الحالة يتحقق العلم بتمام موضوع الحكم وهو حرمة التصرف في ملك الغير بغير إذنه.

ويرد عليه: إنّ احتمال الإنبساط بعيد فقهياً، وبعيد عن النظر العرفي أيضاً؛ لأنّ الملكية عند العرف؛ إمّا أنْ تكون ملكية مستقلة لا ربط لها بملكية الشجرة وإن كانت سبباً لها، وإمّا أنْ تكون تابعة لها يجري عليها ما يجري على ملكية الشجرة. وهذا هو الذي يستفاد من قاعدة تبعية الفرع للأصل.

ثانيها: إنّ وضع اليد على الأصل يكفي في ضمان الثمرة أيضاً، ومن أجله يضمن الغاصب في مسألة تعاقب الأيادي حتى الثمرة الحاصلة عند اليد الثانية.

وأشكل عليه بأنّ وضع اليد على الثمرة زائداً على الأصل وإن كان غير لازم في باب الضمان إلا أنّ كون الثمرة من الأصل المغصوب لا بُدَّ من إحرازه لتحقق موضوع الضمان، وهو غير محرز في المقام.

ثالثها: إنّ الثمرة لها وجود تقديري لدى العقلاء بلحاظه تقع مورداً للأحكام من جواز بيعها قبل وجودها في بيع السلف, وإنّ الغاصب كما يضمن أصل الشجرة يضمن الثمرة التقديرية إذا كانت صالحة لذلك من أول الأمر.ومثل هذا الإرتكاز العقلائي متحقق في كثير من موارد المعاملات، وعليه؛ تدخل الثمرة من أول الأمر قبل وجودها فيتنجز ضمانها بالعلم الإجمالي الأول، ويكون كافياً في التنجيز أيضاً.

ص: 455

المقام السابع: العلم الإجمالي بالتدريجيات
اشارة

الأفراد؛ إما أنْ تكون دفعية عرضية؛ وقد تقدم الكلام فيها مفصلاً، وإمّا أنْ تكون طولية كما إذا علم إجمالاً بتكليف في هذا الأمر أو في الزمان المستقبل وهو المسمى بالعلم الإجمالي بالتدريجيات. والثاني؛ إمّا أنْ يكون الزمان ظرفاً للتكليف كما إذا علم المكلف بأنّ بعض معاملاته في الأسبوع أو الشهر تكون ربوية، أو يكون الزمان قيداً للتكليف كما إذا علمت المرأة بأنّ حيضها ثلاثة أيام في جملة العشرة مثلاً.

وقد وقع الخلاف في منجزية هذا العلم الإجمالي؛ فاختار جمع من الأصوليين تنجز العلم في جميع تلك الأقسام، واستدل السيد الوالد قدس سره (1) على ذلك بأنّ فعلية التكليف في التدريجيات كفعليته في الدفعيات بلا فرق بينهما فتسقط الأصول بالمعارضة، ويؤثر العلم الإجمالي بالتكليف أثره فيجب امتثاله.

وقد أشكل عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنه لا وجه لتعارض الأصول في التدريجيات لفقد شرطه الذي هو وحدة الزمان، فإذا انتفى التعارض فلا يبقى موضوع لتنجز العلم الإجمالي وتأثيره.

وفيه: إنَّه تقدم مكرراً وسيأتي بيانه في بحث التعارض مفصلاً أنّ التعارض بالإصطلاح الأصولي أعم من التناقض المنطقي، والأخير يعتبر فيه وحدة الزمان بخلاف التعارض فإنَّه لا يعتبر فيه ذلك.

الوجه الثاني: إنّ الأفراد التدريجية التي توجد بعد ذلك خارجة عن مورد الإبتلاء، فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً من هذه الجهة كما تقدم بيانه.

وفيه: إنه لا إشكال في صدق كون الأفراد التدريجية مورد الإبتلاء عرفاً كصدقه في الدفعيات والعرضيات.

ص: 456


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص210.

الوجه الثالث: إنّ تردد موضوع التكليف بين أيام وأوقات متعددة يوجب عدم التمسك بدليله لأنَّه يكون من التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية للشك في ثبوت تكليف فعلي في حق المكلف على كل تقدير وإنَّما يحتمل ذلك. والعلم إنَّما يتنجز إذا كان هناك تكليف فعلي.

وفيه: إنّ العلم بأصل وجود التكليف في الجملة يكفي في قبح تفويته عقلاً, ولا يلزم إثباته في وقت مخصوص حتى يكون ذلك من التمسك بالعام في الموضوعالمشتبه، وقد علمت سابقاً أنّ العلم بأصل الخطاب يكفي في قبح تفويته عقلاً فيكون العلم الإجمالي منجزاً.

هذا كله إذا كان العلم الإجمالي صالحاً للداعوية، وإلا فلا يكون منجزاً ويصحّ الرجوع إلى البراءة، كما إذا علم بأنَّه يبتلى بمعاملة ربوية في سنة أو ستة أشهر مثلاً وكانت معاملاته كثيرة؛ ففي هذه الصورة تكون من الشبهة غير المحصورة. وقد عرفت عدم تنجز العلم الإجمالي في الأفراد العرضية إذا كانت كذلك فضلاً عما إذا كانت تدريجية طولية، ولا فرق في جميع ذلك كله بين أنْ يكون الزمان قيداً أو ظرفاً للتكليف، وإن كان يظهر من الشيخ الأنصاري قدس سره (1) صحة الرجوع إلى البراءة فيما إذا كان الزمان قيداً للتكليف في الطرف المنوط بزمان متأخر، فتارةً؛ يكون استقبالياً خطاباً وملاكاً, وأخرى؛ يكون استقبالياً خطاباً لا ملاكاً، وثالثة؛ يكون استقبالياً أداءً فقط؛ أي أنّ زمان الواجب متأخر مع فعلية التكليف خطاباً وملاكاً من أول الأمر، حيث ذكر بأنه لا إشكال في منجزية العلم الإجمالي في الصورة الثالثة لكونه علم بتكليف فعلي على كل تقدير، وكذلك الصورة الثانية لأنّ الداخل في العهدة هو الملاك وأمّا الخطاب فهو كاشف عنه وعن الإرادة، والمفروض العلم بفعليتها على كل تقدير.

ص: 457


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص248-249.

وإنَّما الكلام في الصورة الأولى؛ فقد ذكر في وجه المنع عن منجزية العلم الإجمالي فيها أحد وجهين:

الأول: إختلال الركن الأول من أركان منجزية العلم الإجمالي؛ وهو عدم وجود تكليف فعلي في حق المكلف على كل تقدير، وهو لايكفي في المنجزية.

وفيه: ما تقدم من أنَّ التكليف الفعلي متحقق في عمود الزمان وإن لم يكن في هذا الآن إلا إذا كان المعلوم هو جزء الموضوع للتكليف دون جزءه الآخر؛ فإنَّه في مثل هذا لا علم لتكليف فعلي ولو في عمود الزمان، فإنّ الجامع بين التكليف في هذا الآن والتكليف الآخر الذي يصبح فعلياً في الآن المتأخر يحكم العقل بمراعاته كما تقدم. فلا يتصور العلم الإجمالي في التدريجيات من هذه الناحية.

الثاني: إختلال الركن الثالث؛ أي جريان الأصل في الطرف الحالي من دون محذور لأنّ الأصل إنَّما يجري في الطرف الحالي، وأمّا الاستقبالي فلا يجري الأصل إلا في زمانه، فلا معارض بالفعل للطرف الحالي ليمنع من جريانه.

ولكن عرفت فساد ذلك مِمّا سبق من أنَّ التعارض الأصولي ليس من قبيل التضاد المنطقي بين شيئين حتى يشترط فيه وحدة الزمان، فإنّ التعارض مردّه إلى إمكان شمول دليل الأصل لكل من الطرفين بالنحو المناسب له من الشمول زماناً.ومِمّا ذكرنا يظهر الجواب -كما قيل- بأنَّه لا يلزم من إجراء الأصل اجتماع الترخيصين المؤديين إلى المخالفه القطعية في زمان واحد الذي هو مناط في عدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي، بل في كلِّ زمان يجري الترخيص في أحد الطرفين وليس ذلك ترخيصاً في المخالفة القطعية. فإنَّه يقال بأنَّ إطلاق دليل الأصل يشمل الطرف الإستقبالي أيضاً وإنْ لم يثبت ترخيصاً فعلياً؛ بل استقبالياً, وهو يؤدي إلى المخالفة القطعية, ولا يختص ذلك بالترخيصين الفعليين، بل يعمّ الترخيص الفعلي والإستقبالي بلحاظ عمود الزمان المؤدي

ص: 458

إلى المخالفة القطعية.

وحاول المحقق العراقي قدس سره (1) الجواب عنه بتصوير علم إجمالي آخر غير تدريجي الأطراف؛ وذلك بأنّ التكليف إذا كان في الزمان المتأخر فإنَّه يجب حفظ القدرة إلى ذلك الزمان كما هو المعروف من وجوب حفظ المقدمات المفوتة وعدم جواز تضييع القدرة على الواجب قبل مجيء ظرفه، وهذا الوجوب فعليّ، وحينئذٍ يعلم إجمالاً بالجامع بين تكليف نفس الآن أو وجوب حفظ القدرة للتكليف الإستقبالي، وهذا العلم الإجمالي يكون كلا طرفيه فعلياً.

والحق؛ إنّ ذلك تطويل لا طائل تحته فإنّ حفظ القدرة على الإمتثال حكم عقلي, وهو إنَّما يثبت إذا كان هناك تكليف منجز، ولا منجز له إلا بالعلم الإجمالي بالتدريجيات؛ فإنْ كان هذا العلم منجزاً كفانا في تنجيز الطرف الحالي وإلا لم يكن حفظ القدرة واجباً.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ الصحيح منجزية العلم الإجمالي بالتدريجيات مطلقاً.

تنبيهان

التنبيه الأول: إذا اعتقد تنجز العلم الإجمالي في الأطراف مطلقاً؛ الدفعية العرضية أو التدريجية الطولية، ومع ذلك ارتكب بعض الأطراف فبان عدم تنجزه لفقد أحد شروطه فهو من صغريات التجري الذي تقدم الكلام فيه مفصلاً.

التنبيه الثاني: لا فرق في جميع ما تقدم بعد العلم بأصل التكليف بين أقسام الشبهة وهي:

1- الشبهة الموضوعية التحريمية؛ وقد تقدم تفصيل الكلام فيها.

2- الشبهة المفهومية التحريمية؛ كما إذا تردد مفهوم الغناء بين مطلق الترجيع أو ما كان من الطرب، ففي مورد الإجتماع لا إشكال في الحرمة، وفي مورد الإفتراق بأن كان مطرباً من دون ترجيع أو ترجيعاً بدون طرب فيجب الإحتياط في ذلك.

ص: 459


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص324.

3- الشبهة الموضوعية الوجوبية؛ كما في تردد الواجب في يوم الجمعة بين الظهر والجمعة.

4- الشبهة المفهومية الوجوبية, كتردد الصلاة الوسطى من حيث المفهوم بين الظهر والعصر والصبح، وفي جميع تلك الأقسام لا فرق في منشأ الشبهة مع فقْد النص أو إجماله بعد العلم بأصل التكليف في الجملة.

5- أنْ يكون منشأ الشبهة والتردد هو تعارض النصين, فإنَّه سيأتي حكمه في بحث التعارض إنْ شاء الله تعالى.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره جميع تلك الأقسام، وأورد لها أمثلة متعددة وذكر بعض المناقشات ويطلب التفصيل من كتابة القيم(1).

المقام الثامن: في الشبهة غير المحصورة
اشارة

المعروف سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الأطراف إذا كانت كثيرة وبدرجة كبيرة، المسمى عندهم بالشبهة غير المحصورة بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، وهو المشهور بينهم. أمّا بالنسبة إلى المخالفة القطعية فقد ذهب جمعٌ إلى عدم سقوط العلم عن المنجزية فيها، وإن اختار آخرون السقوط وعدم حرمة المخالفة القطعية.

والبحث في ذلك يقع في عدة نقاط:

النقطة الأولى: لا ريب في تقوّم الشبهة غير المحصورة بالكثرة في الجملة، وهم وإن اختلفوا في تحديد هذه الكثرة ولكنهم يتفقون على أنه لا بُدَّ أنْ تكون الشبهة غير المحصورة من هذه الناحية فحسب، فليس منها ما خرج بعض أطرافها عن مورد الإبتلاء أو ما سقط العلم فيه عن التنجز لجهة من الجهات فإنَّهما خارجان مفهوماً وموضوعاً عن موضوع

ص: 460


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص404 وما بعدها.

البحث لأنّ كل واحد منهما يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجز في المحصورة فضلاً عن غيرها. وإنَّما الكلام في تحديد الكثرة التي تكون موجباً لعدّ الشبهة من غير المحصورة.

والصحيح؛ هو الإبتعاد عن تحديدها بحدّ خاص, لاختلاف ذلك بحسب الموارد إختلافاً واضحاً فربما تكون الكثرة في مورد تكون الشبهة فيها غير محصورة مع أنها بعينها في مورد آخر تكون من المحصورة، فالمناط كله أنْ تكون كثرة الأطراف بحيث لا يمكن جمعها عادة في استعمال واحد بحسب المتعارف، وحينئذٍ لا يرى العقلاء أنّ العلم الإجمالي فيها منجزاً من كل حيثية وجهة, فيقدمون على ارتكاب بعض الأطراف بلا تردد منهم في ذلك.

وبعبارة أخرى: إنّ الكثرة بلغت عندهم درجة كبيرة بحيث يقدمون بفطرتهم على الإرتكاب، ومن أجل ذلك يصحّ ادعاء أنّ عدم صلاحية مثل هذا العلم للداعوية لإيجاب الموافقة القطعية من الوجدانيات، فنكون في غنى عن إقامة البرهان وتطويل الكلام في النقض والإبرام، إذ بعد تحقق هذا الموضوع الوجداني لا نحتاج في إثبات عدم وجوب الإجتناب في الشبهة غير المحصورة إلى دليلخارجي بل تكون من الموضوعات التي يكون حكمها ملازماً لتحقق موضوعها خارجاً.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ الملاك في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في المقام هو الكثرة فقط من دون لحاظ نكتة أخرى قد تقترن بهذا الملاك كخروج بعض الأطراف عن محل الإبتلاء أو الإضطرار إلى بعض الأطراف, أو العسر والحرج أو غير ذلك من الوجوه، لما عرفت من أنَّ كل واحد من ذلك يوجب سقوطه عن المنجزية سواء كانت معها الكثرة أم لم تكن. كما أنَّه لا بُدَّ أن يُعلم بأنّ عنوان غير المحصورة من المفاهيم العرفية فلا بُدَّ من مراجعة العرف فيها كما في سائر المفاهيم العرفية، فهو ليس من الموضوعات التعبدية ليبحث في تحديد معناه، ولا من الموضوعات المستنبطة حتى نحتاج إلى نظر الفقيه.

ص: 461

وقد عرفت الملاك في سقوط العلم الإجمالي فيها عند العرف فيكون الموضوع عرفياً وجدانياً، فإذا تحقق خارجاً حكم العقل بسقوطه عن المنجزية.

النقطة الثانية: إتبع الأصوليون في تقريب سقوطه عن المنجزية في الشبهة غير المحصورة مسلك البرهان فذكروا له منهجين للسقوط:

المنهج الأول: دعوى سقوطه عن المنجزية بلحاظ أدلَّة الأصول الترخيصية فإنَّه لا محذور في جريانها في الشبهة غير المحصورة باعتبار أنّ جريانها لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية عملياً؛ فإنّ كثرة الأطراف قد بلغ حدّاً لا يقدر المكلف اقتحامها جميعاً فتجري الأصول المرخصة بدون محذور وبذلك يختل الركن الرابع من أركان منجزية العلم الإجمالي.

وقد ناقش ذلك السيد الخوئي قدس سره (1) نقضاً وحلاً:

أمّا النقض؛ ففيما إذا تعذرت المخالفة القطعية في شبهة محصورة، كما إذا لم يمكن للمكلف أن يقتحم الطرفين معاً مثل ما إذا علم بحرمة المكث في أحد مكانين، فإنَّه لا يلزم من جريان الأصل فيهما الترخيص في المخالفة القطعية، مع أنه لا يقال بجواز الإقتحام في شيء منهما.

وأمّا الحل؛ فلأنّ المحذور إنَّما يكون في الترخيص القطعي في المخالفة، وهو حاصل في المقام ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة القطعية لعدم القدرة عليها.

والحق؛ أنّ شيئاً مِمّا ذكر لا يجري في المقام، لأنّ ملاك جريان الأصول فيه هو عدم تيّسر المخالفة لكثرة الأطراف وبناء العقلاء على جواز الإقتحام. وهذا البناء العقلائي هو الذي يقف أمام المحذور العقلائي الذي كان يمنع من جريان الأصول المرخصة في الأطراف

ص: 462


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص355.

لتعارضها مع التكليف الإلزامي المعلوم؛ فإنّ كثرة الأطراف قد بلغت حدّاً لا يرى العقلاء محذوراً في إجراء الترخيص وامتثالالغرض الترخيصي، فلا مانع من شمول دليل الأصل للأطراف. وسيأتي الجواب عن الثاني.

المنهج الثاني: إنّ سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الشبهة غير المحصورة يرجع إلى أنّ كل طرف يراد اقتحامه يوجد اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه؛ لأنَّه كلما ازدادت أطراف العلم تضاءل الإنطباق في كل طرف حتى تصل إلى درجة يطمئن بخلافه، والإطمئنان حجة ومؤمّن عقلائي. وبذلك يندفع ماقيل في المقام من أنَّ العقلاء إنَّما يعملون بهذه الظنون في أغراضهم الدنيوية لا ما إذا كان المحتمل بدرجة كبيرة من الأهمية كالعقاب الأخروي، لأنّ المقصود هو أنّ احتمال التكليف في كل طرف يكون ضعيفاً حتى يحصل الإطمئنان على خلافه، وليس المقصود إثبات ضعف احتمال العقاب في كل طرف.

وقد أشكل عليه صغرىً وكبرى:

أمّا الصغرى؛ فمن أجل عدم وجود اطمئنان فعلي، لأنّ الأطراف كلها متساوية في هذا الإطمئنان الفعلي بعدم انطباق التكليف عليه، فلو وجدت إطمئنانات فعلية في كل الأطراف لكان متناقضاً مع العلم الإجمالي بوجود النجس – مثلاً - في بعضها لأنّ السالبة الكلية مناقضة للموجبة الجزئية، ولو وجد الإطمئنان في بعض الأطراف دون بعض كان ترجيحاً بلا مرجّح. وقد ذكر ذلك المحقق العراقي قدس سره (1).

ويرد عليه بأنَّه مغالطة واضحة؛ فإنّ الإطمئنانات الجزئية لا تشكل على نحو تؤدي إلى الإطمئنان بالسالبة الكلية حتى يكون مناقضاً مع الموجبة الجزئية المعلومة بالإجمال، إلا أن

ص: 463


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص330.

يقال بأنّ الإطمئنانات الجزئية بعد اجتماعها تؤدي إلى الإطمئنان بالمجموع، فإنّ تلك المجموعة تؤدي لا محالة إلى إحراز المجموع، فيعود المحذور.

ولكن يمكن الجواب بأنّ اطمئنان كل جزئي إذا لوحظ بالنسبة إلى الاطمئنان الجزئي الآخر على نحو القضية الشرطية كان الإشكال صحيحاً؛ فإنَّه على هذا النحو يطمئن بوجود المجموع، ولكن الأمر في المقام ليس كذلك فإنّ كثرة الأطراف يوجب عدم اللحاظ المذكور، إذ الإطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على أي طرف وإن كان موجوداً فعلاً ولكن لا يستبطن الإطمئنان بعدم الإنطباق عليه حتى على تقدير عدم الإنطباق على الطرف الآخر حتى يتناقض المعلوم بالإجمال.وأمّا الكبرى؛ فلأنَّه على فرض حصول الإطمئنان بعدم انطباق التكليف فهو موجود في كل طرف، فتكون الإطمئنانات متعارضة في الحجية والمعذورية للعلم بأنّ بعضها كاذب، والتعارض يؤدي إلى سقوطها عن الحجية لأنّ حجيتها جميعاً غير معقولة، وحجية بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح.

ويرد عليه: إنّ حجية بعضها تكون على البدلية على ما يقتضيه البناء العقلائي، لما عرفت من أنَّ العقلاء بفطرتهم لا يرون المناقضة بين الترخيص والتكليف المعلوم بالإجمال إذا كانت أطرافه كثيرة، ويضاف إلى ذلك أنّ وجود الإطمئنان في المقام يكفي في المعذرية ويكون مؤمّناً، ولعله يرجع إلى أنّ الطرف الذي يحتمل فيه التكليف لا يكون منجزاً عند العقلاء. والحاصل؛ إنّ دليل الحجية للإطمئنان لا يقتضي أكثر من الحجية البدلية لا الحجية التعينية الشمولية ليلزم الترخيص في المخالفة القطعية.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ كلا المنهجين لإثبات سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية إذا كانت أطرافه غير محصورة لا بأس بهما، ولكن ذلك كله تطويل لا طائل تحته؛ فإنّ الوجدان

ص: 464

يكفي في الترخيص في المقام، والعقلاء يقدمون على اقتحام أطراف مثل هذا العلم الإجمالي بفطرتهم، فلا حاجة إلى برهان أكثر من تنقيح الموضوع عندهم ليترتب حكمهم عليه. وبالتالي يمكن إرجاع كلا المنهجين إلى ذلك.

ومن ذلك يتضح أنّ ما استُدل به على عدم منجزية العلم الإجمالي في الأطراف غير المحصورة؛ إن رجع إلى ما ذكرناه فلا بأس به، وإلا فلا يخلو عن إشكالات نذكر بعضها وهي: الأول: ما تقدم من أنّ المحقق النائيني قدس سره يرى عدم القدرة على المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة لفرض عدم إمكان اقتحام تمام الأطراف.

وفيه: ما عرفت من أنَّ ذلك سبب لتحقق البناء العقلائي وانقداح الوجدان عندهم، وإلا فإنّ مجرد عدم القدرة على المخالفة القطعية لا يكفي لجريان الأصل بنحو ينتج الترخيص في المخالفة القطعية القبيحة عند العقلاء، لأنّ الفعل القبيح لا يخرج عن كونه قبيحاً لمجرد عدم القدرة عليه كما عليه الجميع حتى المحقق النائيني قدس سره .

الثاني: الإجماع والتسالم على عدم وجوب الموافقة القطعية ووجوب الإجتناب عن تمام الأطراف في الشبهة غير المحصورة.

وفيه: إن رجع إلى ماذكرناه من البناء العقلائي فهو كما هو الصحيح، وإلا فلا اعتبار به.الثالث: التمسك بقاعدة العسر والحرج الشاملة لنفي الحكم ولو كان حاصلاً من الإحتياط والاشتباه كما في المقام.

وفيه: ما تقدم من أنَّ هذا المحذور لا يختص بالشبهة غير المحصورة، فلو حصل العسر والحرج في الشبهة المحصورة يكون موجباً لسقوط المنجزية أيضاً، وقد ذكرنا آنفاً أنّ البحث يختص بما إذا كان المانع هو كثرة الأطراف لا ما إذا حصل من ناحية أخرى غيرها.

ص: 465

الرابع: بعض الأخبار كما ورد عَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنِ الْجُبُنِّ؛ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ؟. فَقَالَ: (أَ مِنْ أَجْلِ مَكَانٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ حُرِّمَ فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ؛ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَا تَأْكُلْهُ وإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِ وبِعْ وكُلْ, واللَّهِ إِنِّي لَأَعْتَرِضُ السُّوقَ فَأَشْتَرِي بِهَا اللَّحْمَ والسَّمْنَ والْجُبُنَ, واللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ؛ هَذِهِ الْبَرْبَرُ وهَذِهِ السُّودَانُ)(1).

وغيره من الأخبار وفي دلاتها على المقام إشكال؛ وعلى فرضه ترشد إلى البناء العقلائي وتؤكد عليه.

ختام فيه أمور:

الأمر الأول: تقدم أنّ العلم الإجمالي يسقط بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة، وأمّا بالنسبة إلى المخالفة القطعية فقد وقع الخلاف فيه؛ فذهب بعضهم إلى عدم سقوطه عن المنجزية لأنّ القدر المتيقن من بناء العقلاء ومرتكزهم هو السقوط في الموافقة القطعية، والشك في التعميم للمخالفة القطعية يكفي في العدم بلا فرق في ذلك بين الشبهة الوجوبية والتحريمية.

وذكر بعضهم أنّ ذلك يختلف باختلاف مباني عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة فإنّ كان المبنى على الإجماع فهو دليل لبيّ فلا بدَّ من الإقتصار على المورد المتيقن وهو المخالفة الإحتمالية لا القطعية، وإن كان المدرك هو قاعدة نفي الحرج فإنَّه ينتفي بها الموافقة القطعية دون المخالفة القطعية، فإنّ هذين الدليلين يدلان على الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف لا بعينه، وحينئذٍ يبتني جواز المخالفة القطعية على جوازها في موارد الترخيص شرعاً في اقتحام بعض الأطراف لا بعينه.

ص: 466


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج25 ص119.

وإن كان المأخذ عدم القدرة على المخالفة القطعية فلا موضوع لهذا الفرع، وإن كان المدرك عدم ارتكاز المناقضة بين المعلوم الإجمالي والترخيص في الأطراف جازت المخالفة القطعية لعدمه في ذلك، وإن كان المدرك هو الإطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي في كل طرف إذا لوحظ وحده فهو إنَّما يجوّز الارتكاب بمقدار ما يطمئن معه بعدم المخالفة لا أكثر.ولكن الحق؛ أنّ جميع ذلك يرجع إلى البناء العقلائي -كما عرفت- وتقدم أنه يشك في شمول المخالفة القطعية فلا يجوز الإرتكاب إلا إذا قام دليل خاص في المورد.

الأمر الثاني: إذا شك في أنّ كثرة الأطراف هل بلغت حدّاً تكون من الشبهة غير المحصورة أو من المحصورة فإنَّه يظهر الكلام منه مِمّا سبق ذكره في الإبتلاء وعدمه عند الشك فيه.

وذكر بعضهم أنّ التفصيل السابق يجري في المقام أيضاً؛ فإن كان المدرك لجواز الإقتحام هو حصول الإطمئنان بعدم الإنطباق في كل طرف فلا يجوز الإقتحام إذ لا اطمئنان مع هذا الشك بحسب الفرض.

وإنْ كان المدرك عدم ارتكاز المناقضة فلا بُدَّ من الرجوع إلى العرف في تحديد هذا الإرتكاز في المقدار الموجود؛ فإن حكم بالمناقضة فلا يجوز الإقتحام وإلا فهو جائز، وإن شك العرف في أنّ المقدار من الكثرة من غير المحصور فلا بُدَّ من الإحتياط لأنَّه من إجمال المقيد المتصل لدليل الأصل وتردده بين الأقل والأكثر فلا يصح التمسك به.

وإنْ كان المدرك ما أفاده المحقق النائيني من عدم القدرة على المخالفة القطعية فقد ذكر المحقق العراقي قدس سره أنه داخل في الشك في القدرة فيجب الإحتياط.

وأشكل عليه بأنَّه من الخلط بين الشك في القدرة على امتثال التكليف واقعاً والشك في القدرة على المخالفة والعصيان القطعي المانع عن جريان الأصول الترخيصية، وما هو موضوع حكم العقل بالإحتياط هو الأول وهو غير متحقق في المقام وإنَّما المشكوك القدرة على المخالفة القطعية.

ص: 467

ويمكن ردّه بأنّ ما ذكره المحقق العراقي قدس سره صحيح لأنّ الشك في المقام على فرض رجوعه إلى الشك في القدرة على المخالفة والعصيان ولكن يجب الإحتياط أيضاً لما عرفت من عدم وجود بناء عقلائي في الترخيص فيرجع فيه إلى عموم دليل الخطاب وإطلاقه.

وذكر السيد الصدر قدس سره (1) أنّ المقام من موارد الشبهة المصداقية للمقيد لأنّ دليل الأصل مقيد لبّاً بالمتصل أو المنفصل بعدم استلزام المخالفة القطعية لقبحها عقلاً، فلا يصحّ حينئذٍ التمسك بعموم الدليل فيه إلا بناءً على جوازه في المخصص اللبّي مطلقاً أو إذا كان منفصلاً، ثم استدرك والتزم بمقالة المحقق النائيني قدس سره وذكر أنّ المحذور إنَّما هو لزوم الترخيص في المخالفة القطعية، وهو لا يتحقق مع الشك في القدرة على المخالفة لأنّ المكلف لا يرتكبها دفعة بل بارتكاب الأطراف تدريجياً. وهو بذلك سوف يقطع إمّا بعدم قدرته على المخالفة فلا محذور، وإمّا بقدرته عليها فتسقط الأصول في تمام الأطراف.والحق؛ أنّ ذلك كله تطويل لا طائل تحته، فإنَّه مع فرض الشك وعدم العلم بإمكان المخالفة القطعية لا يستلزم من جريان الأصول الترخيصية في الأطراف الترخيصُ في المخالفة القطعية فإنَّها لا تتحقق إلا بعد زوال الشك في إمكانها.

والصحيح أن يقال: إنه مع إحراز كون الشبهة غير محصورة فالحكم ما ذكرناه، ومع إحراز عدمه فلا موجب لسقوط العلم الإجمالي عن المنجزية. وأمّا في مورد الشك؛ فإن كان في البين بناء عقلائي على عدم الإقتحام في مثله فلا إشكال في تنجز العلم الإجمالي، وإلا فيمكن الرجوع إلى البراءة بعد عدم صحة التمسك بإطلاق الدليل كما تقدم بيانه في مورد الإبتلاء فراجع.

ص: 468


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص237.

الأمر الثالث: إذا كان المعلوم بالإجمال كثيراً في كثير، كما إذا علم بنجاسة خمسين إناء ضمن مائة إناء فهل يسقط العلم الإجمالي عن التنجز أيضاً أم لا؟ يظهر حكم ذلك مِمّا ذكرناه في ابتداء البحث عن المناط في كون الشبهة من غير المحصورة، وما إذا بلغت الأطراف من الكثرة حدّاً يمتنع عادة ارتكابها. ولا وجه لتحديد الكثرة بحدّ معين لاختلافه بحسب الموارد والجهات؛ فربما يكون في مورد من الشبهة المحصورة وهي بنفسها من مورد آخر لا يكون منها، والمقام من موارد تطبيق هذه الكبرى فإنّ المجموعة التي يجب اجتنابها تعتبر بمنزلة فرد واحد فلابد من ملاحظة الأفراد الأخرى من حيث الكثرة بحيث يعدّ المجموع من غير المحصورة. والمثال الذي ذكرناه لا يكون عند العرف من غير المحصورة؛ إذ كل الأدلَّة التي يمكن التمسك بها في سقوط العلم عن المنجزية لا تجري فيه فإنّ العرف والعقلاء يرون عدم تحقق الإطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كل فرد، بل احتمال الإنطباق معتدٌ به عندهم. وكذا بالنسبة إلى تحقق ارتكاز المناقضة، ولا عسر ولا حرج في الإحتياط ولا يعلم بثبوت الإجماع على فرض قبوله.

الأمر الرابع: إذا سقط العلم الإجمالي عن المنجزية في الشبهة غير المحصورة فهل يجري على الأطراف حكم الشبهة البدوية من كل جهة بحيث يجوز الإرتكاب أو الترك لكل الإطراف وسائر أحكام الشبهة البدوية أو أنه لا يجري عليها ذلك؟ الحق؛ هو الثاني، لأنّ البناء العقلائي الذي كان المناط في السقوط لا يؤيد ذلك، فيُقتصر على القدر المتيقين منه.

المقام التاسع: في الإنحلال الحقيقي والإنحلال الحكمي
اشارة

تقدم في المورد الثاني من موارد سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية إنه إذا ثبت علمٌ أو أمارة معتبرة أو أصل كذلك على حكم فعلي في أحد أطراف العلم الإجمالي فإنَّه ينحلّ إلى علم تفصيلي في الطرف المعلوم، وشبهة في الطرف الآخر، فيجري الأصل فيه من دون

ص: 469

معارض. ولا كلام في ذلك، وإنَّما البحث وقع في هذا الإنحلال هل هو حقيقي أو حكمي. ويقع البحث عنه في جهات:

الجهة الأولى: في المراد من الإنحلال الحقيقي؛ ويتضح ذلك من بيان حقيقة العلم الإجمالي، حيث تقدم أنه متقوم بركنين أساسيين؛ العلم بوجود الجامع، وعدم سريانه إلى الفرد، أي بقاءه على الجامع بما هو كذلك، ومردّه إلى الأول كما هو واضح. وعليه؛ فإذا انتفى أحدهما أوجب انحلاله ويمكن تصوير ذلك في مواضع:

الموضع الأول: ما إذا كان العلم بفرد معيناً لنفس المعلوم الإجمالي فينطبق عليه،كما إذا علم بوجود قطرة دم في أحد الإنائين ثم علم بوجودها في أحدهما المعين فإنَّه لا إشكال عند أحد في الإنحلال وزوال العلم الإجمالي لتشخص متعلقه.

الموضع الثاني: ما إذا لم يكن العلم بالفرد ناظراً إلى تعيين المعلوم الإجمالي، ولكن فيه علامة أو خصوصية غير محرزة في الفرد الآخر؛ كما إذا علم بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين ثم علم بسقوط قطرة من الدم في أحدهما المعين سواء كان المعلوم نفس القطرة الأولى أم غيرها، فإنَّه في هذه الصورة قد يقال بعدم انحلال العلم الإجمالي لأنّ معلومه المتميز لا يزال غير معلوم الإنطباق على أحد الطرفين بخصوصه بل نسبته إليهما على حدٍ سواء فلا يكون منحلاً. وقد قيل بالإنحلال لأنّ العلم الإجمالي بأصل النجاسة التي هي السبب للتكليف وإن لم يكن منحلاً لأنّ خصوصيته فيه لا يحرز انطباقها على الفرد، إلا أنه بلحاظ أصل التكليف وسبب التنجيز -وهو العلم بالنجاسة- يكون العلم الإجمالي منحلاً إذ لا يعلم بوجود تكليفين، بل تكليف واحد وهو منطبق في الفرد جزماً، ولا دخل للتردد والإجمال في خصوصيته في التنجيز.

ورُدَّ بأنّ عدم الإنحلال بلحاظ السبب يستوجب عدم الإنحلال بلحاظ التكليف الإجمالي أيضاً لأنّ ما يحصل فيه من الخصوصية عن ذلك السبب الخاص تكون نسبتها إلى الطرفين

ص: 470

على حدّ واحد، فلا ينحلّ بلحاظ ما هو موضوع الأثر والتنجيز أيضاً.

وبعبارة أخرى؛ إنّ الحصة المتولدة بنحو الحصة التوأم من ذلك السبب إنَّما تكون معقولة في باب الوجودات التصديقية إن لم تكن معقولة في باب المفاهيم، ولكنها معلومة إجمالاً ونسبتها إلى الطرفين على التساوي وهي موضوع للأثر والتنجيز. ولكن يمكن القول بأنّ العلم بوقوع قطرة الدم في أحد الإنائين يستوجب في النظر العرفي إنحلال العلم الإجمالي بعلم تفصيلي فيه وشك في الطرف الآخر من دون لحاظ سبب التكليف أو نفس التكليف، فيمكن إدراج هذا الإنحلال بالنظر العرفي أيضاً، وإن أمكن إرجاعه كالقسم السابق إلى موارد خاصة. وسيأتي مزيد بيان في الفرد الآتي.

الموضع الثالث: ما إذا لم يكن العلم بالفرد ناظراً إلى تعيين المعلوم الإجمالي ولم يكن للمعلوم علامة فارقة غير محرزة الإنطباق على الفرد. وهذا إنَّما يعقل عادة فيما إذا كان سبب العلم الإجمالي نسبته إلى الطرفين على حدّ واحد كما إذا علمنابنجاسة أحد الإنائين اللذين يملكهما الكافر، ولا يستبعد مساورته لهما زمناً طويلاً ثم بمساورته لأحدهما بالخصوص ونجاسته فهل ينحلّ إلى العلم التفصيلي حقيقة أم لا؟.

ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى الإنحلال وأنكره المحقق العراقي قدس سره (2)، واستدل الأول بوجوه:

الوجه الأول: إنّ هذا الفرد مثل الأقل والأكثر الإستقلاليين، بل هما من باب واحد؛ كما إذا علم بوجوب قضاء صوم يوم واحد من شهر رمضان وشك في قضاء يوم آخر. ولاريب في انحلال العلم وزواله فيه إذا صام يوماً لوجوبه عليه. وكذلك في المثال المزبور

ص: 471


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص273 – 238، وفوائد الأصول؛ ج4 ص4.
2- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث ص250.

حيث يدور الأمر بين نجاسة إناء واحد وهو معلوم تفصيلاً، أو نجاسة إنائين فيشك في الثاني بعد العلم تفصيلاً في الإناء الواحد.

وأشكل عليه بأنَّه قياس مع الفارق، فإنّ في موارد الأقل والأكثر لا يوجد إلا علم واحد من أول الأمر، لا علمان كما في المقام الذي فيه علم إجمالي تام الأركان من أول الأمر. ومن أجل هذا إذا صام يوماً واحداً زال العلم ويبقى الشك في اليوم الآخر، كما أنَّه لوشك في وجوب صوم يوم واحد لزال العلم أيضاً. وفي المقام لا يزول العلم ولو شك في نجاسة الإناء الآخر، فالإنحلال في باب الأقل والأكثر سالبة بانتفاء الموضوع.

ويرد عليه: إنَّه بعد العلم بمساورة الكافر لأحد الإنائين تفصيلاً في المثال المذكور ينقلب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي به وشك بالآخر، ولا فرق في موارد الأقل والأكثر أنْ يكون هناك علم واحد وشك بالآخر من أول الأمر، أو حدث في الأثناء كما سيأتي بيانه.

الوجه الثاني: إنّ أحد ركني العلم الإجمالي وهو أنَّ قابلية العلم بالجامع للإنطباق بعدد الأطراف ينهدم مع العلم التفصيلي؛ إذ يتبدل احتمال الإنطباق فيه بالعلم بالإنطباق.

وأورد عليه:بأنّ الركنين المذكورين يرجعان إلى نكتة واحدة وهي؛ إنّ العلم الإجمالي بالجامع بحدّه الجامعي؛ أي بشرط لا عن السريان إلى الحدّ الشخصي، وبهذا يفترق عن العلم بالجامع ضمن الفرد المحفوظ في العلم التفصيلي. ولكن لا بحدّه الجامعي فإنّ هذا العلم بالجامع هو الذي يحتمل الإنطباق على الأفراد، وإذا تعلق العلم تفصيلاً بأحد الأطراف فإنَّه ينكشف انطباقه على الفرد ويسري إليه، فإذا توقف الإنكشاف على الجامع لنقص في المنكشف فباكتمال هذا النقص يكتملالعلم لا محالة، فلا يبقى الإنكشاف على الجامع بحدّه الجامعي وهو معنى الإنحلال.

ص: 472

والحق أن يقال: إنّ العلم الإجمالي وإن كان علماً بالجامع واحتمال إنطباقه على كل طرف من أطرافه؛ فلو أخذ العلم بالجامع بحدّه الجامعي أي بشرط لا عن السريان إلى الحد الشخصي لخرج عن ركنيته للعلم الإجمالي واستلزم الخلف، فلا بدّ من إلغاء هذا الشرط حتى يتم ركنيته للعلم الإجمالي.

وحينئذٍ؛ لا ريب في أنَّ انكشاف هذا العلم الإجمالي أقل من انكشاف العلم التفصيلي، وبعد تحقق الأخير في أحد الأطراف يتم الكشف ويسري إليه، ولا حاجة إلى إثبات أنّ متعلق العلم الإجمالي، أي الجامع بحدّه بما هو معلوم متحد مع الفرد؛ فإنّ هذا حاصل لا محالة مع تحقق الإنكشاف التام بالعلم التفصيلي كما هو واضح.

الوجه الثالث: إنّ العلم الإجمالي بعد أن تعلق بالجامع وعلم بانطباقه على الفرد المعلوم تفصيلاً فلا محالة أنه يستحيل بقاء العلم الإجمالي مع العلم التفصيلي؛ إذ يلزم منهما اجتماع المثلين على موضوع واحد لأنّ العلم التفصيلي متعلق بالجامع في ضمن الفرد المعين، أي الجامع بشرط شيء، فلو بقي العلم الإجمالي المتعلق بالجامع المنطبق على هذا الفرد أيضاً لزم أنْ يكون الجامع في هذا الفرد محلاً لعلمين ومعرضاً لعرضين متماثلين وهذا مستحيل.

وفيه:

أولاً: إنه يمكن رفع المثلية باختلاف الجهة، فإنّ متعلق العلم التفصيلي هو الجامع بشرط شيء، والعلم الإجمالي متعلقه بشرط لا عن السريان.

وثانياً: إنه مع قيام العلم التفصيلي إنحل العلم الإجمالي بانتفاء أحد ركنيه كما عرفت.

وثالثاً: إنّ العلم بما هو صفة من الصفات النفسية شيء واحد ولا اختلاف فيه، وإنَّما الإختلاف بين التفصيلي والإجمالي من ناحية المتعلق، والمفروض انتفاء متعلق الإجمالي بقيام العلم التفصيلي فلا موضوع لاجتماع المثلين أبداً.

ص: 473

الوجه الرابع: إنّ العلم الإجمالي له لازم وهو غير موجود في المقام، فمن عدم وجوده ينكشف عدم وجود الملزوم، واللازم هو القضية المنفصلة في العلم الإجمالي، أي؛ إن كان في هذا الطرف فليس موجوداً في الطرف الآخر، وإن كان في ذاك الطرف فليس بموجود في هذا الطرف. وهذه القضية المنفصلة التي هي من لوازم العلم الإجمالي- كما صرّح به المحقق العراقي قدس سره - لا تصدق بعد العلم التفصيلي بنجاسة أحد الإنائين تفصيلاً، إذ يكون نجساً سواء كان الإناء الآخر نجساً أم لا.ويرد عليه: إنّ مقصود المحقق العراقي قدس سره هو أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي والمنكشف به يستحيل أنْ يكون أكثر من واحد بنحو مفاد النكرة لا إسم الجنس، حيث يشير إلى ذلك الواحد المعلوم بما هو معلوم. فنقول: إذا كان في هذا الطرف فليس الطرف الآخر وبالعكس، وهذا صحيح في المقام.

والحاصل من جميع ذلك؛ أنّ بعض تلك الوجوه وإن لم تنهض للبرهنة على الإنحلال ولكن بعضها الآخر تام سالم عن الإشكال عليه. ومع ذلك فالرجوع إلى الفهم العرفي في الإنحلال هو المتبع، كما يتضح ذلك مِمّا ذكره المحقق العراقي قدس سره في توجيه عدم الإنحلال حيث استدل ببعض الوجوه أيضاً على ذلك:

الأول: دعوى الوجدان على عدم الإنحلال، فإنَّه شاهد على وجود علمين أحدهما يتعلق بالجامع والثاني بالفرد المعين الذي لم يوجب انحلال الأول لعدم نظره إلى الأول.

وفيه: إنه معارض بدعوى الوجدان على الإنحلال عمن يدعيه، فإنّ كل واحد من الطرفين يدعيه في مورد يقتضي البرهان؛ إمّا على الإنحلال أو على عدمه؛ فالوجدان حينئذ متعاكس.

الثاني: ثبوت العلم الإجمالي بثبوت لازمه وهو احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف الآخر غير المعلوم تفصيلاً، فإنَّه موجود وجداناً وهو دليل عدم الإنحلال، وإلا فلو انحل لاستحال هذا الإحتمال. فالركن الثاني للعلم الإجمالي متحقق.

ص: 474

وفيه: إنّ مجرد الإحتمال غير كافٍ، بل لا بُدَّ من ثبوت حدّ للمعلوم بالإجمال بما هو محتمل الإنطباق حتى على المعلوم بالتفصيل، وإلا كان العلم الإجمالي منتقضاً بالعلم التفصيلي فإنّ فيه علماً بالجامع ضمناً، وليس كل مورد يحتمل فيه وجود الجامع يكون من موارد العلم الإجمالي نظراً لاختلاف الحدود، فإنّ حدّ العلم الإجمالي هو احتمال الإنطباق على كل واحد من الطرفين بحدّه الجامعي، وماهو معلوم بالتفصيل ليس معروضاً للعلم الجامع بهذا الحدّ فليس من مورد احتمال الإنطباق عليه، فلا يكفي مجرد احتمال الإنطباق في عدم الإنحلال.

الثالث: إنه لو قلنا بالإنحلال في هذا الفرض لزم عدم الفرق بينه وبين الفرض الأول مِمّا تقدم ذكره من أنَّه ينحلّ العلم الإجمالي فيه بلا إشكال، كما إذا علم إجمالاً بموت ابن زيد المردد بين خالد وبكر، ثم علم تفصيلاً بموت خالد فإنَّه ينحلّ الإجمال بلا إشكال كما تقدم في مستهل البحث. فلو قلنا في المقام كذلك لاستلزم عدم الفرق بينهما كما إذا علمنا بموت زيد أو بكر ثم علمنا بموت بكر مع أن الأثر الوجداني مختلف والحالة النفسانية متفاوتة كما يشهد به الوجدان فسينكشف منه عدم الإنحلال.

وفيه: إن الفرق الوجداني بين الحالتين صحيح، ولكن ليس على أساس الإنحلال في الأول وعدمه في الثاني، بل إنَّما هو من أجل أنّ في الأول يكون المعلومالإجمالي الذي له تعيّن واقعي قد تعين بالعلم التفصيلي فيكون لذلك المعلوم بالإجمال منطوق ومفهوم إثباتاً ونفياً؛ كما في سائر موارد العلم التفصيلي حيث إنه يدلُّ على أنّ ابن زيد هو خالد وليس بكراً، فهو علم بالإنطباق في هذا الفرد وعدم الإنطباق في الفرد الآخر. والمقام ليس كذلك حيث إنّ العلم التفصيلي ليس في مقام تعيين المعلوم بالإجمال لعدم تعين واقعي له، وعدم علامة مخصصة له فليس له مفهوم بلحاظ المعلوم بالإجمال، بل مجرد منطوق، أي احتمال الإنطباق على الطرف المعلوم تفصيلاً.

ص: 475

ومن جميع ذلك يظهر أنّ موضع النزاع بين الأعلام، ومحور الكلام عندهم الذي به يرتبط انحلال العلم الإجمالي وعدمه هو وجود حدّ للمعلوم بالإجمال، وإثبات خصوصيته إما أنْ لا ينطبق على الطرف المعلوم تفصيلاً أو لايوجد له ذلك، فإن قلنا بالأول فلا بدّ أن نقول بعدم الإنحلال، وإن قلنا بالثاني يحصل الإنحلال.

فقيل بوجود خصوصيته في متعلق العلم الإجمالي يحتمل الإباء عن الإنطباق على الطرف المعلوم بالتفصيل؛ وذلك لأنَّ المعلوم هو الجامع المقيد بوصف العلم الإجمالي أي بما هو معلوم إجمالي، وهو بما هو معلوم إجمالي يأبى عن الإنطباق على الفرد المعلوم تفصيلاً.

ويرد عليه بأنّ ذلك يستلزم الدور، لأنّ ثبوت العلم الإجمالي متوقف على ثبوت الخصوصية في معروضه فانتزاعها بلحاظ نفس العلم وتعلقه يعني توقفه على نفسه أو تعلقه بنفسه وهو محال.

وقيل بأنّ العلم الإجمالي وإن تعلق بالجامع بلا خصوصية وتعين إلا أنَّه متعلق بالجامع بما هو مفروغ عن وجوده لا بما هو جامع تصوري كما هو الحال بالجامع الذي يتعلق به الأمر والنهي؛ فلو علمنا بنجاسة أحد الإنائين كان معناه العلم بجامع للنجاسة مفروغ عن تحققه ووجوده في الخارج بحيث يمكن أن نشير إليه إجمالاً. وعليه؛ فلو لاحظنا نفس الجامع بقطع النظر عن هذه المفروغية فهو الجامع لا يأبى عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل على حدّ انطباق كل جامع على مصداقه.

وأمّا إذا لاحظنا هذا الجامع بما هو مفروغ عن وجوده فذلك الوجود المفروغ عنه والمشار إليه بتوسط هذا الجامع خصوصية وحدّ لا ينطبق على المعلوم بالتفصيل؛ إذ لا يعلم أنه هو المعلوم التفصيلي أو غيره، فهي خصوصية يتحمل الإباء عن الإنطباق على المعلوم التفصيلي.

ص: 476

وفيه: إنّ هذه الخصوصية لاتكون داخلة تحت العلم إلا بمقدار الجامع لا أكثر، فإذا كان هذا الجامع منطبقاً على الفرد المعلوم تفصيلاً تماماً فيستلزم الإنحلال للعلم الإجمالي بما ذكر من البرهان السابق لعدم وجود المانع من احتمال الإنطباق وهو وجود خصوصية في المعلوم الإجمالي.

وقيل: إنّ المسألة تبتني على الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي؛ فإن كان الفرق بينهما بالإجمال والتفصيل في الصورة الذهنية العلمية كما يقوله المحقق النائيني قدس سره فيصحّ القول بأنّ العلم بالجامع إذا لم تكن له خصوصية محتملة الإباء في الصورة الذهنية إلى التفصيل لا محالة.

وإن كان الفرق بينهما في الإشارة التي بها قوام العلم التصديقي كما يقوله المحقق العراقي قدس سره فإنّ انحلال العلم الإجمالي لا يكون إلا بزوال الإشارة الذهنية المرددة التي هي حقيقة العلم الإجمالي بحسب الفرض، وزوال الإشارة لا يكون بمجرد حصول العلم التفصيلي الذي يعني إمكان الإشارة بالمفهوم التفصيلي إلى الفرد الخارجي إذا احتمل أنْ يكون المشار إليه متعدداً؛ إذ لا يكون العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم الإجمالي.

ويرد عليه ما ذكرناه في مباحث القطع من أنه لا فرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي من حيث حقيقة العلم الذي هو نور وصورة ذهنية وهو المعلوم بالذات. والإختلاف إنَّما يكون من حيث المعلوم بالعرض الذي هو التردد الحاصل في الخارج؛ فإنّ العلم الإجمالي له أطراف متعددة مِمّا أوجب الضبابية في الإنطباق، والعلم التفصيلي له طرف معين لا ضبابية فيه. فما ذكر في الفرق بينهما غير تام في حدّ نفسه، وإن كان كلام المحقق العراقي قدس سره أقرب إلى المراد ولكنه لا يستوجب الثمرة المترتبة عليه كما سيأتي بيانه.

ص: 477

والصحيح؛ هو الرجوع إلى الفهم العرفي في تشخيص موارد انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، فإنّ العرف يحكم بالإنحلال إذا كان سبب حصول العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف على حدّ سواء، ففي هذه الصورة يتم الإنحلال، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا يتم الإنحلال.

بيان ذلك: إنَّه قد يكون سبب حصول العلم نسبته إلى الأطراف على حدّ سواء:

فإمّا أن يحصل ذلك بالبرهان كما إذا فرض أنّ قاضيين قد حكم كل واحد منهما في قضية معينة بحكمين متضادين وعلمنا بأنّ هذه القضية لا تتحمل إلا حكماً واحداً ويستحيل اجتماعهما فسوف يحصل العلم الإجمالي بكذب أحدهما لأنّ المحتملات عقلاً أربعة؛ صدقهما معاً، وكذبهما معاً، وصدق هذا وكذب الآخر، وبالعكس. فإذا قام البرهان على عدم اجتماعهما يبطل الوجه الأول ويتردد بين الأوجه الثلاثة التي تجتمع في جامع واحد وهو كذب أحدهما، فلو علم بعد ذلك بأنّ أحدهما قد قصّر في اجتهاده فلا اعتبار بحكمه فينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بكذبه وشكٍّ بدوي بكذب الآخر.

وإمّا أن يحصل العلم بطريق غير البرهان كالإستقراء ونحوه، كما إذا علمنا بنجاسة أحد إنائين هما من التحفيات مثلاً التي لم يستعملها صاحبها إلا في أوقاتمعينة، ثم علمنا تفصيلاً باستعماله لأحدهما بالخصوص في النجس؛ ففي هذين المثالين يكون سبب حصول العلم الإجمالي نسبتُه إلى الأطراف على نحو واحد من دون أنْ يكون خصوصية في المعلوم بالإجمال، والجامع بين الأطراف معلوم الإنطباق على الطرف التفصيلي فيتحقق الإنحلال لزوال سبب العلم الإجمالي لأنَّه كان عبارة عن استواء نسبة الأطراف إليه ولم يتعين في أحدهما لأنَّه يكون ترجيحاً بغير مرجح، وهو ينتفي إذا تحقق ترجيح بسبب العلم التفصيلي فإنَّه في نظر العرف يكون العلم التفصيلي الحادث في أحدهما مِمّا يزيل

ص: 478

السبب، فيتعين المعلوم بالإجمال في المعلوم التفصيلي وشك بدوي في الآخر. وأمّا إذا لم تكن نسبة سبب العلم الإجمالي إلى الأطراف على حدّ سواء بأنْ تكون له نسبة مع طرف واقعي بالخصوص ولكنه غير معلوم عند الإنسان؛ كما إذا وقعت قطرة دم في أحد الإنائين ونعلم بنجاسة أحد الإنائين، ثم علم تفصيلاً بوقوع قطرة في أحدهما بالخصوص ولكنه غير معلوم عنده أنها قطرة أخرى غير تلك القطرة؛ ففي هذه الحالة يصحّ القول بعدم الإنحلال لأنّ المعلوم بالإجمال يكون باقياً على حدّه وخصوصيته تحتمل الإباء عن الإنطباق على هذا الطرف التفصيلي، ولكن في هذه الصورة يحكم العرف بأنّ المعلوم التفصيلي أوجب رفع سبب العلم الإجمالي صحّ القول بالإنحلال أيضاً. ولعل اختلاف الأصوليين في هذه الصورة يرجع إلى هذا الحكم العرفي.

هذا كله في الإنحلال الحقيقي.

الجهة الثانية: في الإنحلال الحكمي فيما إذا لم يتحقق الإنحلال الحقيقي، والمراد به جريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف بلا محذور فيما إذا لم يكن علم تفصيلي في أحد الأطراف أو يكون خارجاً عن دائرة العلم الإجمالي الصغير، ولا يجري الأصل في الطرف الآخر لعدم وقوع موضوع له؛ فإنّ الأصل الترخيصي يجري فيه بلا معارض لانهدام الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي التي تقدم ذكرها. وقد اختلف الأصوليون في وضوح الإنحلال الحكمي بسبب اختلافهم في منجزية العلم الإجمالي على نحو الإقتضاء أو على نحو العلّية.

وبناءً على الأخير؛ فإنّ العلم الإجمالي ينجِّز الواقع ابتداءً من دون ملاحظة تعارض الأصول وتساقطها، ففي هذه الحالة لا يجري الأصل حتى في الطرف الواحد لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال المنجزعليه. ولذلك التجأ أصحاب هذا الرأي إلى القول بقصور العلم الإجمالي عن التنجز إذا جرى الأصل الترخيصي العقلي أو الشرعي في أحد الطرفين.

ص: 479

والصحيح؛ ما ذكرناه في بداية البحث من أنَّه لا فرق في المسلكين في منجزية العلم الإجمالي، وما قيل من الثمرات لا تحقق لها إلا في الفرض والإعتبار؛ وعلى كلا المسلكين فمع قيام العلم التفصيلي أو جريان الأصل الترخيصي في أحدالأطراف ينحلّ العلم الإجمالي لانتفاء قوامه وحقيقته. ومن ذلك يظهر أنّ إشكال السيد الصدر قدس سره (1) في المقام بعيد وتطويل بلا طائل.

الجهة الثالثة: في الفرق والثمرة المترتبة على الإنحلالين، وقد ذكروا فيه فروقاً:

منها؛ إنّ الفرق بين الإنحلال الحقيقي والإنحلال الحكمي هو أنّ في الأول يشترط أنْ يكون المعلوم التفصيلي والمعلوم الإجمالي متحدين زماناً وإن لم يشترط التعاصر بين نفس العلمين، لأنّ العلم التفصيلي المتأخر زماناً إذا أحرز كون المعلوم مصداقاً هو المعلوم الإجمالي من أول الأمر, فهو يوجب انحلال العلم الإجمالي وانعدام ركنه الثاني فيسري العلم من الجامع إلى الفرد فلا يكون للعلم الإجمالي إلا طرفاً واحداً لا طرفان حتى يقال بتنجزه.

وأمّا الإنحلال الحكمي فيشترط فيه تعاصر العلمين زماناً؛ فلو تأخر العلم التفصيلي عن الإجمالي لم يجز ارتكاب الطرف الآخر، وإن فرض أنّ المعلوم التفصيلي كان ثابتاً من أول الأمر لأنّ هذا المعلوم التفصيلي لم يكن منجزاً بشيء في الزمان السابق، فالأصل في هذا الطرف يعارض الأصل في الطرف الآخر في تلك الفترة الزمنية من أول الأمر.

ومنها؛ إذا قامت أمارة أو أصل منجز في بعض أطراف العلم الإجمالي؛ قيل: لا إشكال في عدم الإنحلال الحقيقي به لانحفاظ كِلا ركنيه وجداناً. ولكن الإنحلال يتحقق بأحد نحوين:

النحو الأول: الإنحلال الحقيقي تعبداً إذا كان المنجز أمارة؛ لأنّ المجعول فيها هو العلمية والطريقية فيترتب عليها كل آثار العلم تعبداً، ومن جملتها الإنحلال وجريان الأصل في الطرف الأخر.

ص: 480


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص249 وما بعدها.

وأشكل عليه بما يلي:

أولاً: إنه مبنى على كون المجعول في الأمارات العلمية، وهو ليس موضع اتفاق بين الأعلام، كما تقدم تفصيل ذلك.

وثانياً: إنّ الإنحلال أثر تكويني للعلم وليس اثراً شرعياً؛ فإن كان مفاد دليل حجية الأمارة تنزيلها منزلة العلم في الآثار والأحكام. ومن الواضح أنّ الإنحلال ليس منها، وإن كان مفاده جعل ما ليس بعلم علماً على طريقة المجاز العقلي فمن المعلوم أنَّ هذا الإعتبار والجعل لاتترتب عليه الآثار واللوازم الحقيقية للعلم والتي منها الإنحلال، وإنَّما تترتب عليه الآثار الإعتبارية فقط.

ويمكن الجواب عنه بأنّ جعل الآثار التكوينية ورفعها عن القطع يمكن أنْ يقع تحت تصرف الشارع بما هو كذلك كما عرفت ذلك في أول مباحث القطع، فإذا صحّ ذلك جاز جعل الإنحلال في الأمارات الشرعية أيضاً. يضاف إلى ذلك أنّ الإنحلال من آثار حجية القطع فإذا تحققت بالنسبة إلى الأمارة انتقل هذا الأثرإليها أيضاً من دون حاجة إلى تصوير كونه من الأثر التكويني أو ارتكاب المجاز العقلي، فالإنحلال من آثار الحجية سواء كانت في القطع أم الأمارة أم الأصل المنجز فلا مانع من الإنحلال الحقيقي التعبدي على هذا الرأي.

النحو الثاني: الإنحلال الحكمي؛ أي جريان الأصل الترخيصي في الطرف الذي لا توجد فيه أمارة أو أصل منجز بلا معارض فله حالتان:

الأولى: ما إذا كانت الأمارة معينة للمعلوم الإجمالي فلا ريب في انحلال العلم، حيث يتعين المعلوم الإجمالي في هذا الطرف وينتفي من الطرف الأخر. واحتمال التكليف فيه يكون مورد التأمين حينئذٍ.

ص: 481

الثانية: ما إذا لم يكن كذلك سواء كان المنجز أمارة غايته غير معينة للمعلوم الإجمالي، أم أصلاً شرعياً أم عقلياً منجزاً, كموارد الشك في الفراغ؛ فإنّ الإنحلال الحكمي حينئذٍ يتوقف على توفر شروط ثلاثة:

1- أنْ لا يقل البعض المنجز بالأمارة أو الأصل عن عدد المعلوم بالإجمال من التكليف.

2- أنْ لا يكون المنجز مثبتاً لتكليف مغاير لما هو المعلوم إجمالاً، كما إذا علم إجمالاً بحرمة الإنائين بسبب نجاسته وقامت بيّنة على حرمته بسبب الغصب.

3- أنْ لا يكون وجود المنجز متأخر عن حدوث العلم الإجمالي كما عرفت سابقاً في الثمرة الأولى.

فإذا توفرت هذه الشروط إنهدم الركن الثالث لجريان الأصل المؤمن في غير مورد المنجز بلا معارض على كِلا المسلكين؛ الإقتضاء والعلّية, لعدم صلاحية العلم الإجمالي للإستقلال في تنجيز معلومه على كل تقدير كما تقدم بيان ذلك كله.

فإذا اختلَّ الشرط الأول فالعلم الإجمالي منجز للعدد الزائد, فتكون الأصول فيه متعارضة، وإذا اختل الشرط الثاني فلأن ما ينجزه العلم في مورد غير ما تنجزه الأمارة فتتعارض الأصول بلحاظه.

وإذا إختل الشرط الثالث كان العلم الإجمالي منجزاً والأصول المؤمّنة في غير مورد الأمارة أو الأصل معارضة بالأصول المؤمّنة التي كانت تجري في مواردها قبل ثبوتهما.

ومنها(1)؛ أنّ الإنحلال الحكمي بالأمارة أو الأصل المنجز إنَّما هو بلحاظ وجوب الموافقة القطعية ولكن يبقى العلم الإجمالي على منجزيته من حيث حرمة المخالفة القطعية، فإذا اقتحم المكلف كلا الطرفين يكون مخالفاً قيل مخالفته وعصيانه أشد مِمّا اقتحم الطرف

ص: 482


1- . أي: الثمرات.

المنجز بالخصوص لأنّ منجزية العلم أشد من منجزية الحجةغير العلم، ومخالفته أقبح وأكثر جرأة على المولى من مخالفة الحجة التي يحتمل عدم إصابتها للواقع.

ولا يخفى أنّ بعض هذه الثمرات موضع الإشكال والنقاش يظهر مما سبق ذكره في مطاوي بحوثنا السابقة فراجع، بل يرجع بعضها إلى حقيقية الإنحلال أو حكمه. ومِمّا يهون الخطب أنه لا تترتب على هذا البحث ثمرة عملية، ولعله من أجل هذا تركه السيد الوالد قدس سره .

ختام فيه أمور:

الأمر الأول: مسألة اشتراك علمين إجماليين في طرف فيما إذا فرض أنْ يكون أحد طرفي العلم الإجمالي طرفاً لعلم إجمالي آخر، وهو إمّا أنْ يكون الحكم في العلمين الإجماليين من سنخ واحد؛ كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين ثم علم إجمالاً بنجاسة واحد منهما وإناء آخر، أو لم يكن الحكم من سنخ واحد كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإنائين ثم علمنا إجمالاً بغصبية أحدهما المعين وإناء ثالث فيكون هذا الطرف مشتركاً بين العلمين الإجماليين بالنجاسة والغصبية؛ فإن كان العلمان الإجماليان متعاصرين حدوثاً فلا شك في تنجيزهما وعدم انحلال أحدهما بالآخر مطلقاً، ويكون الطرف المشترك مورد التنجيز منهما معاً.

وأمّا إذا كان أحدهما سابقاً على الآخر معلوماً أو علماً فقد اختلفوا في الإنحلال وعدمه على أقوال:

القول الأول: إنحلال العلم الإجمالي المتأخر زمان حصوله بالعلم الإجمالي المتقدم وإن لم يكن معلومه متقدماً، وهو مختار السيد الخوئي قدس سره (1) فينحل العلم الإجمالي المتأخر بالعلم الإجمالي المتقدم إنحلالاً حكماً.

ص: 483


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص237، ومصباح الأصول؛ ج2 ص366.

القول الثاني: إنحلال العلم الإجمالي المتأخر معلومه بالعلم الإجمالي المتقدم معلومه زماناً، وهو مختار المحقق النائيني قدس سره (1).

القول الثالث: عدم الإنحلال مطلقاً في جميع الفروض، وهو مختار السيد الصدر قدس سره (2).

أمّا القول الأول؛ فإنَّه يرجع إلى دعوى انحلال العلم الإجمالي المتأخر بالعلم الإجمالي المتقدم، وإن كان معلومه معاصراً أو متقدماً لأنّ العلم الإجمالي السابق زماناً قد تنجّز في الطرف المشترك؛ إمّا ابتداءً -إذا قلنا بالعلّية-، أو من أجل تساقط الأصول بناءً على مسلك الإقتضاء، ومعه لا يكون العلم الإجمالي صالحاً للتنجيز لأنّ المتنجز لا يتنجز بناءً على مسلك العلّية فلا يمكن لهذا العلم المتأخر أن يتنجز كلا طرفيه أو من أجل عدم تعارض الأصول وتساقطها، لأنّ الطرفالمشترك قد سقط الأصل فيه بالعلم الإجمالي السابق من أول الأمر فيجري الأصل في الطرف المختص بالعلم الإجمالي الثاني بلا معارض.

وفيه: إنّ العلم الإجمالي لا يتنجز إلا بوجوده الفعلي في ذلك الزمان لا بمجرد حدوثه في زمان سابق، ومن أجل ذلك لو زال العلم في أي زمان كما إذا احتمل بأنّ الإناء لم يكن نجساً فعلاً ارتفع التنجز وجرى الأصل بلا محذور، وعليه سيكون متنجز الطرف المشترك بالعلم السابق لأجل بقاءه إلى زمان حدوث العلم الإجمالي المتأخر لا بمجرد حدوثه فيكون التنجز للعلم في هذا الطرف له سببان: أحدهما؛ بقاء العلم الإجمالي السابق، والآخر؛ حدوث العلم الإجمالي المتأخر. واختصاص أحدهما بالتأثير دون الآخر ترجيح بغير مرجح مع أنّ الأصل الجاري في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كل آن، فإذا جرى في الزمان السابق على حدوث العلم الإجمالي الثاني وكان معارضاً بالأصل في

ص: 484


1- . فوائد الأصول: ج4 ص13-14، وأجود التقريرات؛ ج2 ص248- 249.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص254.

الطرف المختص بالعلم الإجمالي الأول وهو يجري في الزمان اللاحق أيضاً فيكون له معارضان؛ وهما الأصلان الجاريان في الطرفين المختصين معاً، فالعلمان الإجماليان منجزان معاً.

وأمّا القول الثاني؛ فإنّ دليله يختص بما إذا كان التكليف الثاني من سنخ التكليف الأول، كما إذا علمنا بنجاسة أحد إنائين أحدهما أسود والآخر أحمر، ثم علم بوقوع نجاسة إمّا في الإناء الأحمر أو في إناء أبيض آخر، لأنَّه إذا كان المعلوم بالعلم المتأخر متقدماً زماناً كما إذا علم بوقوع قطرة دم؛ إمّا في الإناء الأحمر أو الأسود، وعلم بعد ذلك بأنّ الإناء الأسود أو الأبيض كان نجساً منذ الصباح فإنّ العلم الإجمالي لا يكون منجزاً؛ لأنَّه بعد حصول العلم بنجاسة الإناء الأبيض منذ الصباح ينكشف أنّ قطرة الدم التي علم إجمالاً بإصابتها أحد الإنائين لم تستوجب تكليفاً على كل تقدير؛ إذ لو كانت إصابة الأسود فقد كان نجساً منذ الصباح فلم يستوجب التكليف. وهكذا يكون الميزان بالعلم المتقدم من حيث المعلوم فإنَّه يوجب انحلال العلم الإجمالي الآخر إنحلالاً حقيقياً؛ بمعنى أنه لا يكون علماً بتكليف على كل تقدير. والظاهر من ذلك اختصاصه بما إذا كان التكليفان من سنخ واحد، وأمّا إذا اختلفا في السنخ كما ذكرنا في مثال الغصب أو النجاسة فلا يجري هذا الدليل فيه.

ويرد عليه: إنّ المناط في تأثير العلم الإجمالي أنْ يكون ملازماً للتكليف ويساوقه سواءً كان سبباً أم لا وفي المقام يعلم المكلف بان القطرة مساوقة وملازمة مع التكليف في أحد طرفي الاصابة ولا حاجة حينئذٍ إلى اشتراط منجزية العلم الإجمالي أنْ يكون علماً بتكليف, فإنّ المنجز منه هو العلم بأصل التكليف سواء كان حدوثياً أم من حيث البقاء، وسواء كان تكليف آخر أم لا.

ومن جميع ذلك يظهر عدم انحلال العلم الإجمالي في المقام مطلقاً؛ لا السابق ولا اللاحق، وسواء كان المعلوم متقدماً أم لا.

ص: 485

ولكن الحق هو التفصيل؛ فإنَّه إذا كان العلم الإجمالي المتأخر ناظراً إلى العلم الإجمالي السابق بحيث لا يكون في نظر العرف مِمّا يوجب تكليفاً جديداً فإنّ العلم السابق يوجب انحلال العلم المتأخر، وإلا يبقى كل واحد من العلمين على تنجزه. ولعل مراد العلمين المتقدمين هذا المعنى، فلا اختلاف حينئذٍ فافهم.

الأمر الثاني: إذا كان في أحد الطرفين أثر زائد؛ فقد ذكر المحقق النائيني قدس سره أنه إن كان هناك أثر مشترك في الطرفين وأثر زائد في أحدهما المعين, كما إذا علم بنجاسة هذا الماء المطلق أو ذاك الماء المضاف فإنّ الأثر المشترك بينهما هو حرمة الشرب، ولكن يختص الماء المطلق بأثر زائد وهو عدم جواز التوضئ به, فالعلم الإجمالي ينجز الأثر المشترك في الطرفين بلا إشكال، وأما الأثر المختص فهو شبهة بدوية لا علم به فيجري الأصل الترخيصي فيه بلا محذور.

واعترض عليه بأنَّ الأثر الزائد لا يصحّ نفيه لعدم وجود أصل ترخيصي به، وإنَّما هو أصالة الطهارة واستصحابها، والمفروض سقوطها بالمعارضة, فلا دليل يثبت به جواز التوضئ به. والمستفاد من هذا البيان أنّ الأثر الزائد خارج عن دائرة العلم الإجمالي؛ فإذا كان فيه أصل مخصوص جرى في نفيه بلا محذور، أمّا إذا أردنا نفيه بالأصل الذي جرى في طرفي العلم الإجمالي فقد سقط بالمعارضة.

ولكن ذلك غير تام؛ فإنّ الأثر المختص إن كان من أطراف العلم الإجمالي فقد تنجز بالعلم ولا يجري فيه الأصل ولو كان مختصاً به، أمّا إذا لم يكن منجزاً بالعلم لعدم كونه طرفاً من أطرافه أمكن نفيه بالأصل الترخيصي لعدم المانع من شمول دليل له, كما هو واضح.

فالنزاع يرجع إلى اعتبار كون الأثر المختص طرفاً للعلم الإجمالي أو عدم اعتباره، فإنّ كل واحد من الإعتبارين واضح. والظاهر اختلاف ذلك باختلاف الموارد؛ فقد يكون المورد

ص: 486

من موارد الأقل والأكثر كما إذا كان الأثر الزائد والمشترك في موضوعٍ واحد، فلو علم إجمالاً بأنَّه إمّا مدين لزيد بخمسة دنانير، أو قد نذر له عشرة دنانير. وهنا يتحقق بلحاظ السبب علم إجمالي، إلا أنه بلحاظ المسبب الذي هو التكليف في العهدة لا علم إجمالي لأنَّه من موارد الأقل والأكثر فيجري الأصل في الأثر الزائد إلا إذا كان هناك أصلٌ حاكم على الأصل الترخيصي النافي للأثر الزائد فلا إشكال حينئذٍ في سقوطه بالأصل الحاكم، وهو من القضايا التي قياساتها معها. وقد مثل السيد الخوئي قدس سره لذلك بما إذا علم بنجاسة الثوب إمّا بقطرة دم فيجب غسله مرة واحدة أو بول فيجب غسله مرتين فإنَّه لا يمكن إجراء الأصل عن وجوب الغسل مرة ثانية لأنَّه محكوم باستصحاب بقاء النجاسة بعد الغسل مرة واحدة.وفيه: إنّ الكبرى وإن كانت مسلّمة ولكن المثال غير تام لأنّ الأصل الحاكم وهو استصحاب بقاء النجاسة محكوم في الحقيقة باستصحاب موضوعي؛ وهو عدم ملاقاته مع البول المنقح لموضوع عموم مطهرية مطلق الغسل الذي خرج منه خصوص الثوب الملاقي مع البول، فمع الشك فيه يجري استصحاب عدمه الموضوعي. وهذا الأصل لا يعارض باستصحاب عدم ملاقاته بالدم لأنَّه إن أريد منه إثبات ملاقاته مع البول فهو من الأصل المثبت، وإن أريد نفي أثر ملاقاة الدم وهو وجوب الغسل مرة واحدة فهو معلوم تفصيلاً على كل حال وليس مورداً للشك ليجري فيه الأصل.

وأشكل عليه السيد الصدر قدس سره (1) أيضاً بأنّ الأصل المحكوم سواء أريد به البراءة عن وجوب الغسل مرة ثانية أم استصحاب عدم وجوبه؛ لا موضوع له في نفسه لأنّ الغسل ليس واجباً تكليفياً وإنَّما هو حكم وضعي بحصول الطهارة بعد الغسل مرة أو مرتين فلا معنى لإجراء البراءة أو استصحاب عدم وجوبه.

ص: 487


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص257.

وفيه: إنّ الغسل قد ورد الأمر به في بعض الأخبار كموثقة عَمَّارِ بْنِ مُوسَى السَّابَاطِيِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ يَجِدُ فِي إِنَائِهِ فَأْرَةً وقَدْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ مِرَاراً أَوِ اغْتَسَلَ مِنْهُ أَوْ غَسَلَ ثِيَابَهُ وقَدْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مُتَسَلِّخَةً؛ فَقَالَ: (إِنْ كَانَ رَآهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَوْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَمَا رَآهَا فِي الْإِنَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ ويَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ)(1)، فهو حكم تكليفي تجري فيه البراءة واستصحاب عدم وجوبه، وعلى فرض القبول فهو حكم وضعي حاصل من حكم تكليفي ويجري فيه الأصلان كما سيأتي بيانه.

وقد يكون الأثر الزائد والأثر المشترك في موضوعين كما في مثال إناء الماء المطلق وإناء الماء المضاف، وكما إذا علم إجمالاً باستقراضه من زيد خمسة دنانير أو من عمرو عشرة دنانير. وفي هذا المورد قد يقال بأنَّه يمكن إجراء الأصل المؤمّن عن الأثر الزائد المشكوك لأنَّنا نعلم بخطاب الإجتناب عن النجس، والأثر الزائد لا يكون داخلاً فيه فلا يعلم بخطاب الوضوء بالماء الطاهر فينفي بالأصل المؤمّن.

وأشكل عليه بأنَّه يحتمل ذلك، ويحتمل أيضاً العلم الإجمالي بحرمة شرب المضاف أو حرمة الوضوء بالماء المطلق, والأخير خطاب لا يكون لحرمة شرب الماء المطلق دخلٌ فيه، ولا نعلم بحرمة شرب الماء فيحدث علمان إجماليان عرضيان أحدهما متعلقه حرمة الشرب بكلا الإنائين، والآخر حرمة الشرب وحرمة الوضوء.

والصحيح؛ أنّ ذلك تبعيد للمسافة، إذ لا بُدَّ من ملاحظة الأثر الزائد فإن كان داخلاً في أطراف العلم الإجمالي بوجه من الوجوه المعتبرة من المطابقة أو الملازمة ولو كانت عرفية واضحة بنظر العرف فلا ريب في جريان الأصل فيه فتسقط بالمعارضة فيكون العلم

ص: 488


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص142.

منجزاً فيه أيضاً، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا يدخل في الأطراف فيجري فيه الأصل المؤمّن من دون معارض, وأمثلة كل واحد منهما واضحة، غايته قد يحدث خفاء فيقع النزاع، ولعل اختلاف الأصوليين يرجع إلى ذلك فحينئذٍ؛ إن أمكن الرجوع في الأثر الزائد إلى أصل ترخيصي غير مسانخ مع الأصل النافي للأثر المشترك في الطرفين جرى بلا معارض في الزائد بعد سقوط الأصل المسانخ في الطرفين، أو يكون في البين أصل حاكم في الأثر الزائد على الأصل الترخيصي وإذا فقد كل منهما فلابد من الإحتياط.

الأمر الثالث: العلم الإجمالي بالحكم الظاهري.

قد يكون متعلق العلم الإجمالي حكماً واقعياً؛ وهذا ما ذكرناه فيما سلف من البحوث وقد يتعلق بتكليف ظاهري, كما إذا قامت بيّنة على نجاسة أحد الإنائين وهو المسمى بالعلم التعبدي بالحكم الواقعي عند بعض الأصوليين. وحينئذٍ؛ فإمّا أنْ يكون الإجمال في متعلق الحجة في التطبيق كما إذا قامت بيّنة على نجاسة إناء معين تردد بين إنائين فيكون الإجمال في طول قيام الحجة، وإمّا أنْ يكون الإجمال في نفس الحجة والحكم الظاهري بمعنى قيام البيّنة على الجامع، أو شهدت البيّنة على الأقل ولم يعلم شهادتها على الأكثر.

أمّا القسم الأول؛ فلا إشكال في منجزيته كمنجزية العلم الإجمالي بالحكم الواقعي من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة, نعم هناك اختلاف بين العلمين في درجة التجري والعصيان بالنسبة إلى المخالفة, كما عرفت سابقاً. وقد ذكر الأصوليون فوارق بين العلم الإجمالي بالحكم الظاهري وبين العلم الإجمالي بالحكم الواقعي لا يترتب عليها ثمرة عملية بل ولا علمية، ومن أجل ذلك نذكر فرقاً واحداً وهو؛ إنّ الأصول الترخيصية في أطراف الإجمالي بالحكم الواقعي تكون متعارضة بعد تمامية موضوعها في نفسها، بخلاف الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالحكم الظاهري لأنها

ص: 489

مقيدة بغير مورد قيام الأمارة الإلزامية, وحيث يعلم قيامها إجمالاً فيكون الشك في تحقق موضوع أصالة الطهارة مثلاً في كل طرف، ويكون بابه من اشتباه الحجة باللا حجة وهو فرق نظري لا عملي لأنَّه يجري استصحاب عدم قيام الأمارة في هذا الطرف وعدم قيامها في ذلك الطرف المنقح لأصالة الطهارة أو البراءة عن الواقع المشكوك في كل طرف, وهذا التنقيح ظاهري بمعنى أنّ أثر الطهارة يترتب على هذا الأصل الموضوعي الذي وقع التعارض فيه فيكون حكمه كحكمه في الحكم الواقعي.وأمّا القسم الثاني؛ وهو ما إذا كان الإجمال في نفس البيّنة والحكم الظاهري بأن تقوم البيّنة على الجامع فقط. والكلام في جهتين: من حيث وجوب الموافقة القطعية لها، وفي وقوع التعارض بين دليل الأمارة ودليل الأصل.

أمّا الجهة الأولى؛ فقد يقال بأنّ الكلام فيها يختلف بحسب مباني القوم في تفسير حقيقة الحكم الظاهري:

1- مبنى المحقق الخراساني قدس سره (1) الذي يذهب إلى أنّ المجعول في الأمارة المنجزية والمعذرية. والمحتملات حينئذٍ هي؛ إمّا أنْ تكون الأمارة منجزة لأحد الطرفين بالخصوص فهو ترجيح بغير مرجح لأنّ نسبة البيّنة إلى كل منهما على حدٍّ واحد، وإمّا أنْ تكون منجزة لأحدهما المردد فهو مردود بأنّ الفرد المردد لا وجود له، وإمّا أنْ تكون منجزة لأحدها الواقعي وهو خلاف المفروض من أنَّ البيّنة لا تشهد إلا بالجامع بحيث يكون التردد في نفسها فلا نعلم بنجاسة أحدهما بالخصوص، وإمّا أنْ تكون منجزة للجامع بين الطرفين لأيٍّ منهما, فهذا يوجب التخيير وتجري البراءة عن حرمة كل منهما بخصوصه ولكن البيّنة إن نجزت

ص: 490


1- . كفاية الأصول؛ ص136.

الواقع عقلاً فهو خلف كون المنجزية شرعية لا عقلية وإن نجزت الواقع شرعاً فهو خلف أيضاً لأنّ البيّنة تشهد بالجامع لا بالواقع.

وبذلك اختلفت عن العلم الإجمالي المتعلق بالجامع لأنَّه ينجز الواقع، فلا وجه لوجوب الموافقة القطعية على هذا المبنى على كل الإحتمالات.

والحق؛ إنّ شيئاً مِمّا ذكر لا يصحّ لأنّ دليل حجية البيّنة يجعل المنجزية الثابتة للعلم لها أيضاً فيكون مؤدى الأمارة هو الجامع الذي يعلم فيه بالخصوصية المرددة، لا جامع أحد الإنائين كما في التخيير الشرعي فيكون حال الأمارة حال العلم الإجمالي من هذه الناحية لكن بدليل شرعي.

2- مبنى المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ الحكم الظاهري هو جعل الطريقية والعلمية التي هي في موارد العلم الإجمالي, فيكون متعلق البيّنة هو الواقع لا الجامع، ولكن بناءً عليه إذا احتمل كذب البيّنة لا مجرد خطئها فلا علم إجمالي للبيّنة متعلق بالواقع يكون جعل الحجية لها، بمعنى جعل العلم بما تتعلق به البيّنة والذي هو الواقع بحسب الفرض فيكون مفاد البيّنة هو الجامع الذي يمتثل بأحدهما لا محالة. فجعل الطريقية بمقدار مفادها لا يقتضي أكثر من التخيير. نعم؛ لو احتملنا خطأ البيّنة فقط لا العلم بعدم1- كذبها لم يرد هذا المحذور حيث يجعل علم البيّنة المتعلق بالواقع بحسب الفرض علماً تعبدياً.

ويجري نفس هذا الكلام على مبنى المحقق النائيني قدس سره (2) القائل بجعل الطريقة, فيكفي العلم بالجامع في تنجيز كِلا الطرفين.

ص: 491


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص6و19، ونهاية الأفكار؛ القسم الأوّل من الجزء الثالث؛ ص18- 20 ، والقسم الثاني من الجزء الثالث؛ ص327.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص345.

ويمكن الجواب عن هذا المحذور بأنّ المجعول في الأمارة هو الجامع سواء كان مطابقاً للواقع أم لا، وليس المقصود هو تعلق العلم بالواقع العرضي حتى يورد عليه بأنَّه غير موجود في موارد كذب البيّنة. وحينئذٍ يكون جعل علم البيّنة علماً تعبدياً بالواقع كذلك بجعل مفاد البيّنة كاشفاً عن مثل هذا العلم علماً تعبدياً بالواقع.

3- مبنى جعل الحكم المماثل للمؤدى عند إحتمال المطابقة بالواقع(1).

ولكن بناء على هذا الرأي إن فرض جعل حكم على طبق هذا الطرف أو ذاك بخصوصيته لم يكن مِمّاثلاً مع المؤدى, وإن فرض جعل الحكم على الجامع لم تجب الموافقة القطعية مع أنّ هذا لا يحتمل مطابقته للواقع لأنّا نعلم بأنّ الواقع ليس هو الجامع بنحو التخيير، بل هذا بخصوصه أو ذاك بخصوصه.

4- مبنى السيد الصدر قدس سره (2) في جعل الحكم الظاهري وأنه بمعنى اهتمام الشارع بالواقع على تقدير ثبوته في حال الشك كاهتمامه به في حال العلم بأي لسان كان بحسب الصياغة ومقام الإثبات؛ فإنَّه بناء على ذلك يكون معنى الحكم الظاهري الإلزامي هو اهتمام المولى بالواقع على تقدير وجوده في هذا الطرف أو ذاك، وهو يقتضي الإحتياط والخروج عن العهدة فتجب موافقته القطعية، كما لو علم بالنجاسة الواقعية في أحد الطرفين.

والصحيح أنْ يقال: إنّ البيّنة بمقتضى دليل حجيتها هي علم تعبدي، وهذا الدليل يجعل الأمارة بمنزلة العلم الإجمالي بالواقع من حيث المنجزية ووجوب الموافقة القطعية فيتكفل نفس هذا الدليل إلغاء جريان الأصول المرخصة في الطرفين ووجوب الإحتياط فتكون

ص: 492


1- . وهو المبنى التقليدي الموروث عن الشيخ الأعظم قدس سره .
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج5 ص264.

للبيّنة دلالات التزامية نستفيد منها جعل الحكم المماثل أو المنجزية، وغير ذلك مِمّا ذكر طبقاً لتلك الدلالات الشرطية الإلتزامية فإنّ الأمارة حجة في لوازمها أيضاً. وعليه؛ يتشكل علم إجمالي بنجاسة أحد الإنائين إمّا واقعاً أو ظاهراً، فلا إشكال في البين إلا ما قيل من الإشكال المعروف في المقام وجوابه معلوم على ما تبين فافهم.

وأما الجهة الثانية؛ فبعدما عرفت من منجزية البينة في المقام قد يقال بأنَّ التعارض يقع بين دليل الحجية ودليل الأصل الترخيصي في كل واحد منالطرفين لأنّ دليل الأصل تام الإقتضاء في نفسه من الطرفين فيقع التعارض بين إطلاقه وإطلاق دليل حجية البيّنة، ولا يقاس بموارد العلم الوجداني بالحكم لأنّ دليل الأصل فيه مناقض عقلاً أو عقلائياً مع الحكم الواقعي المعلوم الذي لا يمكن رفع اليد عنه لأنَّه يلزم التصويب فيقع التعارض بين الأصول في الأطراف بخلاف المقام فإنّ الحجية في كل من البيّنة والأصل مجعولة من قبل الشارع ظاهراً؛ فإذا لم يكن دليل البيّنة رافعاً لموضوع الأصل حكومةً أو وروداً لكونهما في موضوعين وعنوانين فلا محالة يقع التعارض بين إطلاق دليلهما.

وقد أُجيب عنه بوجوه:

الأول: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّه لو أريد إجراء الأصل في كل من الطرفين مطلقاً حتى على تقدير طهارة الآخر فهذا محكوم بالمدلول الإلتزامي للبيّنة لانها تدلُّ على نجاسة كل واحد منها بخصوصه على تقدير طهارة الآخر وإن اريد إجراءه في كل طرف بدلاً عن الآخر فهذا الإحتمال إنَّما نشأ في طول حجية البيّنة فلا يمكن أنْ يكون إطلاق دليل الأصل معارضاً مع دليل حجية البيّنة.

ص: 493


1- . نهاية الأفكار؛ القسم الثاني من الجزء الثالث ص326- 328.

وأورد عليه: إنّ احتمال طهارة كل من الطرفين ثابت في نفسه من أول الأمر لا أنه يكون في طول حجية البيّنة، فإطلاق دليل الأصل شامل له فيكون معارضاً مع إطلاق دليل البيّنة.

وفيه: إنّ هذا الإحتمال لم يتحقق إلا بعد قيام البيّنة كما هو واضح.

الثاني: إنّ هذا التعارض لو سلّم ولكنه يقدّم إطلاق دليل البيّنة على إطلاق دليل الأصل إمّا بالأخصية أو الأظهرية أو بالحكومة؛ فإنّ إطلاق دليل الحاكم والأخص والأظهر مقدم على إطلاق دليل المحكوم أو غير الأخص والأظهر.

ولكن هذا الجواب صحيح فيما إذا لم يكن التقديم من باب نفي الموضوع كما هو ظاهر مبنى جعل العلمية أوالطريقية، ويمكن تصحيحه حتى على هذا الوجه كما تقدم وسيأتي توضيحه.

الثالث: إنّ مجموع الأصلين مقيد عقلاً أو عقلائياً بعدم العلم بالحكم وقد علمنا بالحكم ببركة البيّنة فيقع التعارض بين الأصلين والتساقط. وهذا صحيح على كل المباني فإنَّه بعد تنزيل الأمارة منزلة العلم تعبداً يستفاد ذلك من الدلالة الإلتزامية لها كما تقدم. ومنه يظهر أنّ إشكال السيد الصدر قدس سره في غير محله.

الرابع: العلم إجمالاً بوجود حكم إلزامي؛ إمّا واقعي أو ظاهري في أحد الطرفين كما هو الحال بالنسبة إلى المعلوم الواقعي بالعلم الإجمالي فتتعارض الأصول وتتساقط.

تم بعون الله تعالى الجزء الخامس ... ويليه الجزء السادس؛ في الأقل والأكثر

ص: 494

الفهرست

الفصل الثاني: الإجماع .............................................................. 7

أدلة حجية الإجماع ................................................................. 10

الإجماع عند الامامية ............................................................... 19

أدلة الرد على التمسك بالإجماع ..................................................... 24

الشروط المطلوبة في كاشفية الإجماع ................................................ 27

أقسام الإجماع ...................................................................... 29

ختام فيه أمور ...................................................................... 36

الفصل الثالث: الشهرة ............................................................ 39

أقسام الشهرة ...................................................................... 39

شروط اعتبار الشهرة الإستنادية العملية ............................................ 45

زمان حصول الشهرة الإستنادية .................................................... 46

أدلة القول بالشهرة الفتوائية ........................................................ 47

نقل الشهرة ........................................................................ 57

ختام فيه أمور ...................................................................... 58

الفصل الرابع: حجية الخبر الواحد ................................................. 61

تمهيد في أمور ...................................................................... 61

البحوث المرتبطة بحجية خبر الواحد ............................................... 66

البحث الأول: في الخبر المتواتر ..................................................... 66

ص: 495

أقسام التواتر ....................................................................... 73

البحث الثاني: خبر الواحد ......................................................... 75

أصل حجية خبر الواحد ........................................................... 75

الإستدلال بالآيات ................................................................ 81

الآية الأولى: آية النبأ ............................................................... 81

مناقشة الإستدلال بالمفهوم ......................................................... 88

الآية الثانية: آية النفر ............................................................... 109

الآية الثالثة :آية الكتمان ............................................................ 117

الآية الرابعة: آية الذكر ............................................................. 119

آيات أخرى ....................................................................... 120

الإستدلال على حجية الخبر الواحد بالسنة .......................................... 120

الإستدلال بالإجماع والسيرة على حجية خبر الواحد ................................ 128

تحقيق في مبنى الآخوند الخراساني في المقام .......................................... 133

الاستدلال بالدليل العقلي على حجية خبر الواحد ................................... 136

نتائج البحث ...................................................................... 145

إعتبار مطلق الظن ................................................................. 157

التنبيه على أمور .................................................................... 175

فوائد مبنائية ....................................................................... 189

المقصد الرابع: مباحث الأصول العملية ............................................ 193

الفصل الأول: أصالة البراءة ....................................................... 205

البحث الأول: البراءة العقلية ...................................................... 205

ص: 496

البحث الثاني: البراءة الشرعية ...................................................... 212

حديث الرفع ...................................................................... 220

المقام الأول: دلالة الحديث على البراءة الشرعية ..................................... 221

المقام الثاني: في بيان أمور يتعلق بالتمسك بالحديث في إثبات البراءة .................. 224

المقام الثالث: ما يتعلق ببقية الفقرات الأخرى في الحديث وفقهه ..................... 233

المقام الرابع: في سند الحديث ....................................................... 250

المقام الرابع: في سند الحديث ....................................................... 250

البحث الثالث: الإستدلال بالأصل على البراءة ..................................... 260

الفصل الثاني: الإحتياط ............................................................ 269

الجهة الأولى: في وجوب الاحتياط الشرعي ......................................... 269

الجهة الثانية: الإستدلال بالدليل العقلي على لزوم الإحتياط عقلاً .................... 284

الجهة الثالثة: في بيان النسبة بين أخبار الاحتياط لو تمت دلالتها عليه وبين أدلة البراءة الشرعية ... 288

تنبيهات ........................................................................... 291

التنبيه الأول: تقدم الأمارات على الأصول الموضوعية والأخيرة على الأصول الحكمية ..... 291

أصالة عدم التذكية ................................................................ 292

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط غير المخل بالنظام .................................. 309

قاعدة التسامح في أدلة السنن ....................................................... 314

التنبيه الثالث: دوران الأمر بين التعيين والتخيير .................................... 333

التنبيه الرابع: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية .............................. 336

التنبيه الخامس: في جريان البراءة في المستحبات ..................................... 346

الفصل الثالث: في أصالة التخيير ................................................... 349

المقام الأول: وفيه نقاط من البحث ................................................. 352

ص: 497

المقام الثاني: فيما إذا فرض عدم تكرر الواقعية مع كون أحد الطرفين على الأقل تعبدياً ... 358

المقام الثالث: فيما إذا كانت الواقعة قابلة للتكرار .................................... 361

الفصل الرابع: أصالة الإحتياط .................................................... 363

المقام الأول: في منجزية العلم الإجمالي .............................................. 364

المقام الثاني: في مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصول المرخصة في تمام الأطراف ... 369

المقام الثاني: في مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصول المرخصة في تمام الأطراف ... 369

المقام الثالث: في الترخيص في بعض الأطراف ...................................... 380

المقام الرابع: في أركان منجزية العلم الإجمالي ........................................ 393

تنبيهان ............................................................................ 395

المقام الخامس: موارد عدم وجوب الموافقة القطعية .................................. 405

ختام فيه أمور ...................................................................... 432

المقام السادس: في الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي .............................. 437

تنبيهات ........................................................................... 448

المقام السابع: العلم الإجمالي بالتدريجيات ........................................... 456

تنبيهان ............................................................................ 459

المقام الثامن: في الشبهة غير المحصورة .............................................. 460

ختام فيه أمور ...................................................................... 466

المقام التاسع: في الإنحلال الحقيقي والإنحلال الحكمي ............................. 469

ختام فيه أمور ...................................................................... 483

الفهرست ......................................................................... 495

ص: 498

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.