تقریب تهذیب الأصول المجلد 4

هوية الکتاب

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء الرابع

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

ص: 1

اشارة

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء الرابع

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

© جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 2

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأُصُول

الجزء الرابع

آية الله السيد

علي الموسوي السبزواري

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

(لا يَخْفى أنَّ الأُصولَ مُقدمَّةٌ وَآلةٌ لِلْتَعرُّفِ على الفِقهِ؛ وَلَيسَ هُوَ مَطلُوباً بالذّاتِ, فَلا بُدَّ أَنْ يَكونَ البَحْثُ فِيهِ بِقَدَرِ الإحْتياجِ إِلَيهِ فِي ذِي المُقدِّمَة؛ لا زائِدَاً عَلَيهِ, وَأَنْ تَكُونَ كَيْفيَّة الإِسْتِدلالِ فِيهِ مِثلها فِي الفِقه فِي مُراعاةِ السُّهُولةِ, وَما هُوَ أَقْرَبُ إلى الأَذْهانِ العُرفيَّةِ, لابْتِناءِ الكِتابِ وَالسُنَّةِ اللَّذَينِ هُما أَساس الفِقْهِ عَلى ذلِك, فَالأُصُولُ مِنْ شُؤُونِ الفِقْهِ؛ لا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ خُصُوصيّاته مِنْ كُلِّ جِهَةٍ)(1).

فَقِيهُ عَصْرِهِ وَفَرِيدُ دَهْرِهِ آيَةُ الله العُظْمى

السَّيِّد عَبْدُ الأَعْلى المُوسَويُّ السَّبْزَوارِيُّ قدس سره

ص: 5


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص6.

ص: 6

الأمر الثالث: مبحث الضدّ

اشارة

الأمر الثالث(1)

وموضوع البحث هو أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا؟

تمهيدٌ فيه أمور

أولاً: لا ريب إنّ البحث في هذه المسألة من المباحث الأصولية؛ أما كونها من غير المستقلات العقلية بناءً على الملازمة أو المقدمية، وإما من المباحث اللفظية بناءً على أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضده. وأنّ النهي عن الضد جزء مدلوله، أو أنه من لوازمه العرفية المتوقفة على الإستظهار من الأدلة. وحيث أنّ العينية والجزئية باطلان، وأنّ اللزوم يرجع إلى بعض مراتب الملازمات العقلية؛ فيكون هذا البحث من الملازمات العقلية غير المستقلة كما ستعرف من تفصيل الكلام.

ثانياً: المراد من الإقتضاء في كلمات الأصوليين الأعم من العينية والجزئية واللزوم مطلقاً؛ سواء كان لزوماً بيّناً بالمعنى الأخص أو غيره.

وعلى أي تقدير يكون المراد من الإقتضاء هو اللا بُدّية من أي وجه تحصل.

ثالثاً: المراد من الضد هو مطلق المعاند والمنافي سواء كان أمراً وجودياً؛ وهو المعبر عنه بالضد الخاص، أو كان أمراً عدمياً؛ وهو المعبر عنه بالنقيض، ويعبر عنه بالترك أيضاً. وليس المراد منه الضد بالمعنى الفلسفي المختص بالأمر الوجودي المعاند لغيره تمام المعاندة فلا يشمل الضد العام.

وعلى هذا يكون المراد هو الضد العرفي فيشمل الترك الذي يعبر عنه النقيض والضد الخاص كالضدين الذين لا ثالث لهما, والضد المشترك بين الأضداد الوجودية الذي اصطلحوا عليه بالضد العام.

ص: 7


1- . من أمور الملازمات العقلية غير المستقلة.

رابعاً: قسّم أغلب الأصوليين تبعاً للمحقق الخراساني(1) إلى ثلاثة فصول؛ الأول؛ في الضد الخاص, والثاني؛ في الضد العام, والثالث؛ في ثمرات المسألة. وإنْ كان اهتمام بعض الأصوليين انصبَّ على بحث الترتب الذي هو من أهم ثمراتها, ومن أجله اقتصر السيد الوالد قدس سره (2) على ذكر الأقوال وبعض ما استدل به على أهمها.

وكيف كان؛ فالكلام يقع في فصول ثلاثة:

ص: 8


1- . كفاية الأصول؛ ص130.
2- . تهذيب الأصول ج1 ص222.

الفصل الأول الضد الخاص

اشارة

وقبل الدخول في الكلام عن هذا الفصل لا بد من بيان أنه يقوم على قضية أنّ الأمر بشيء يقتضي حرمة ضده العام؛ لأنّ بعض البراهين التي استُدل بها لإثبات حرمة الضد الخاص تتوقف على التسليم به. كما أنها تقوم على أن الأمر بشيء يقتضي سقوط الإيجاب المطلق عن ضده الخاص, وإلا كان من طلب الضدين مطلقاً، وهو محال غير معقول. وبعد الإلتزام بهما يقع البحث تارةً؛ في أنه هل يمكن طلب الضد مقيداً بعدم الإشتغال بالواجب على نحو الترتب أو لا يمكن، وهو بحث نفيس يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى. وأخرى؛ في أنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضده.

والمعروف أنّ هناك مسلكين لإثبات حرمة الضد الخاص.

المسلك الأول: مسلك التلازمالمسلك الثاني: مسلك المقدمية

وكل واحد من هذين المسلكين يتوقف على دعائم ومركب من مقدمات لا بُدَّ من إثباتها بالدليل والبرهان. وإن لم تتم ولو كانت واحدة منها فلا يتم المسلك ويبطل من أساسه.

أما المسلك الأول(1)؛ فيتوقف على ثلاث دعاوى:

الأولى: إنّ كل ضد ملازم لعدم ضده الآخر فيما لا ثالث له, وعدم الأضداد كلها فيما إذا كان له ثالث.

الثانية: إنّ المتلازمين وجوداً متلازمان في الحكم ويتحدان فيه، فلو كان أحدهما واجباً يكون الآخر كذلك لاقتضاء التلازم ذلك؛ فإذا كانت إزالة النجاسة عن المسجد واجباً نفسياً ذاتياً فورياً يكون ترك الصلاة واجباً ذاتياً فورياً لمكان الملازمة بينهما خارجاً.

ص: 9


1- . التلازم.

الثالثة: إنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن نقيضه؛ أي الضد العام، فإذا كان ترك الصلاة واجباً يكون فعلها مبغوضاً وحراماً لأن الفعل نقيض الترك. وإذا أردنا تطبيق ذلك على مثال الصلاة والإزالة الواجبتين نقول: إنّ الصلاة ضد الإزالة الواجبة وهي ملازمة لعدم الإزالة ولها حكم الأمر الأول، فيكون هذا العام واجباً بحكم الأمر الثاني فيحرم النقيض وهو الصلاة بحكم الأمر الثالث. فإذا تمت تلك الأمور ثبتت حرمة الضد لا محالة.

إلا أنّ الكلام يقع في تمامية بعضها:

أما الأولى؛ فقد تقدم إنه لاريب فيه، بل هو بديهي لفرض التضاد، فإنّ كل ضد يمتنع اجتماعه مع ضده الآخر، وهذا اللازم مع عدم ضده، وهو تام حتى في الضدين اللذين لهما ثالث، إذ الواجب يلازم مع عدم تلك الأضداد كلها لا محالة.

وأما الثانية؛ فإنه لا دليل عليها من عقل أو نقل فإنّ التلازم الوجودي بين المتلازمين لا يستلزم التلازم بين الحكمين بالنسبة إلى الحكم الواقعي. نعم؛ لا يصح اختلافهما في الحكم العقلي بحيث يكون أحدهما واجباً والآخر حراماً. ويمكن أن لا يكون محكوماً بحكم فعلي ظاهري أبداً.

والقول بأنّ الواقعية لا تخلو عن حكم إنما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي النفس أمري دون الظاهري الفعلي. اللهم إلا إذا أوجبت الملازمةُ المصلحةَ أو المفسدة في اللازم فلا ريب في كونه موجباً للمشاركة في الحكم. ولعل من يقول بأنّ التلازم يوجب الإتحاد في الحكم، أي في ما إذا أوجب وجود الملاك للحكم أيضاً. وإلا فإنّ مجرد التلازم بالوجود لا يثبت التلازم.

وعليه؛ تكون الأحكام العقلية في الملازمة الوجودية؛ إما أن توجب وجود ملاك الحكم ومناطه في اللازم أو لا، وعلى الثاني؛ إما أن يكون اللازم محكوماً بخلافحكم ملازمه فعلاً أو لا حكم له ظاهراً، وإما أن تكون الملازمة تُثبت الحكم باللازم بلا ملاك.

ص: 10

والإحتمال الأول صحيح ولا إشكال فيه، والثاني باطل، والثالث صحيح لا بأس به، والأخير باطل لبطلان الحكم بلا ملاك.

وهذه الاحتمالات عقلية, وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

وأما الثالثة؛ فسيأتي الكلام عنه في الفصل القادم.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ هذا المسلك لإثبات حرمة الضد الخاص غير تام لبطلان المقدمة الثانية.

وأما المسلك الثاني(1): فيتوقف على ثلاث قضايا لا بُدَّ من التسليم بها:

الأولى: توقف كل ضد على عدم الضد الآخر، أي مقدمية عدم الضد للضد الآخر.

الثانية: وجوب مقدمة الواجب.

الثالثة: حرمة الضد العام للواجب.

فإذا تمت تتم حرمة الصلاة في المثال المتقدم؛ التي هي الضد الخاص للإزالة الواجبة, لأن وجوبها يستلزم وجوب عدم الصلاة بحكم الأمر الأول والثاني، ووجوبه يستلزم حرمتها بحكم الأمر الثالث.

أما الأمر الثاني فقد تقدم الكلام عنه في بحث المقدمية فراجع.

وأما الأمر الثالث فسيأتي الكلام فيه, وإنما الكلام في الأمر الأول؛ ويقع البحث في جهتين:

أحداهما؛ في تقريب ما ذكروه في وجه المقدمية، والأخرى؛ في البراهين التي أُقيمت في إبطال المقدمية.

أما الجهة الأولى؛ فقد اختلف الأصوليون في بيان المقدمية في المقام على أقوال:

القول الأول: القول بأنّ ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر, وبالعكس مطلقاً.

القول الثاني: القول بأنّ ترك أحدهما مقدمة لوجود آخر من دون عكس.

ص: 11


1- . المقدمية.

القول الثالث: عكس الثاني.

القول الرابع: التفصيل بين الضد الموجود خارجاً يتوقف وجود الآخر على رفعه ولا توقف في غير هذه الصورة رأساً.

وقد ذهب المتأخرون إلى عدم المقدمية مطلقاً وقد تفطّن إليه سلطان العلماء قدس سره (1) ثم تبعه جميع من تأخر عنه، وجميع تلك الأقوال تبتني على إثبات المقدمية بين الضد وعدم الضد الآخر. ويمكن الإستدلال عليه بوجوه، والسيدالوالد قدس سره (2) فصّل بين الأقوال، ولا حاجة إلى ذلك إذ أنها تشترك في ملاك واحد والوجوه هي:

الوجه الأول: برهان التمانع والتنافي بين الضدين في الوجود، وهو دليل القول الأول وقد رده صاحب الكفاية(3) بأنه يستلزم الدور، لأنه لو كان مجرد التنافي في الصدق مستلزم للتوقف لكان الأمر في النقيضين كذلك.

ويلزم توقف كل نقيض على رفع النقيض الآخر وهو مستحيل، لأنّ رفع النقيض الآخر هو عين الأول فيكون من توقف الشيء على نفسه، وهذا واضح بالعيان.

على أن يقال في وجه التخلص من هذا النقض بأنّ التوقف من طرف الوجود فعليّ، ومن طرف الترك الذي هو ضد العدم شأني إقتضائي؛ إذ لا علّية ولا معلولية في الأعدام كما هو ثابت في محله، فلا محذور في هذا النحو من الدور، بل التعبير بالإقتضاء أيضاً باطل؛ فإنّ هذه التعبيرات من شؤون الوجودات, وليس للأعدام أي حظ فيها.

ولكن يمكن الرد عليه؛ بأنّ ذلك صحيح في العدم المطلق, والمقام من عدم الملكة, مع أنه من المصادرة على المطلوب فإنه لا ينافي أصل التوقف في الجملة, وإلا لم يصح بعض

ص: 12


1- . حاشية سلطان العلماء على معالم الدين؛ ص 282-283.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص222-228.
3- . ص130.

التعبيرات بالنسبة للعدم. ومن أجل ذلك ذهب بعض الأصوليين إلى القول في أنّ وجود أحد الضدين في ظرف عدم الآخر، وعدم الآخر في ظرف وجود ضده من قبيل القضية الحيثية الحقيقية. وهذا حق لا ريب فيه، ولكنه لا ربط له بالمقدمية أصلاً. هذا إذا أُريد بالترك العدم، وإن أُريد به الأمر الوجودي الذي هو فعل إختياري للنفس فلزوم الدور له موقع فيه.

الوجه الثاني: إنّ عدمَ المانع من أجزاء علة الشيء؛ فلا ريب أنّ العلة بجميع أجزائها وجزئياتها من مقدمات المعلول, ومقدمة الواجب واجبة, كما ذكرناه آنفاً. هذا هو دليل القول الثاني.

وأورد عليه؛ بأنّ العدم لا يصلح أن يكون منشؤه لتحقق الشيء، فلا وجه لمقدمية عدم المانع.

ويمكن مناقشته؛ بأنّ صدور الوجود من العدم مِمّا لم يقل به أحد، فيكون المقصود أنّ عدم المانع من شرائط قابلية المحلّ لوجود أحد الضدين, وعدم المانع ليس من العدم المطلق حتى لا يصلح لشيء أبداً, بل هو من عدم الملكة القابل لمثل هذه الأمور باعتبار ملكته التي يضاف ذلك العدم إليها.

الوجه الثالث: إنّ كل ضد لو لم يكن متوقف على عدم الضد الآخر لزم إمكان تحقّق علته التامة مع فرض وجود ذلك الضد. وهو محال؛ لأنّه إن فرض وجود العلة التامة للضد مع فرض تأثيره في إيجاد معلوله -وهو الضد- لزم اجتماعالضدين, وإن لم يفرض تأثيره لزم تفكيك العلة التامة عن المعلول, وكلاهما مستحيل، فلا بد أن يتوقف وجود كل ضد على الضد الآخر.

ويرد عليه: إنّ أقصى ما يستفاد من ذلك أنّ العلة التامة للضد لا تجتمع مع الضد الآخر، وليس توقف وجود الضد على عدم الضد الآخر، فربما يكون التوقف على عدم الضد

ص: 13

الآخر. اللهم؛ إلا أن يريد المستدل من ذلك بيان أصل التوقف في الجملة ولكنه لا يثبت المقدمية كما أسلفنا.

الوجه الرابع: دعوى مقدمية عدم الضد لوجود الضد الآخر بالطبع لا في رتبة الوجود أو زمانه، فإنّ التقدم قد يكون زمانياً لتقدم الموجود في الزمان الأول على الموجود في الزمان الثاني، وقد يكون في الوجود كتقدم العلة التامة على المعلول، وقد يكون بالطبع, وهو على ما فسروه في الحكمة المتعالية؛ بأنه عبارة عن الذي يكون موجوداً كلما فرض وجود المتأخر بالطبع دون العكس. وضربوا لذلك أمثلة متعددة؛ منها تقدم أجزاء الماهية عليها, فإنّ الحيوانية متقدمة بالطبع على الإنسان, إذ كلما فرض الإنسان كان الحيوان موجوداً. وكذلك بين المقتضي ومقتضاه دون العكس، فإنه كلما فرض وجود المقتضي كان المقتضى موجوداً دون العكس, وكذلك بين الشرط والمشروط إذ كلما وجد المشروط كان الشرط أيضاً موجوداً دون العكس. والمقام يكون كذلك فإنه كلما وجد الضد كان عدم الضد الآخر ثانياً لا محالة دون العكس, إذ قد يوجد عدم الضد من دون وجود الضد الأول.

وفيه: إنّ ذلك إنما يرجع إلى القضية الحيثية الحقيقية، وهو حق لا ريب فيه ولكن لا يكون المناط بالمقدمية والوجوب الغيري, فإنّ المناط هو التوقف في الوجود. والتقدمُ في الطبع لا يلزم أن يكون كذلك.

ومن جميع ذلك يظهر بطلان الأقوال التي ذكرت في تقريب المقدمية. فهذا المسلك كسابقه غير تام بجميع تقريباته.

تنبيهات:

التنبيه الأول: ربما يُتمسك لحرمة الضد الخاص بالسراية, فإنّ الأمر بالإزالة يقتضي حرمة ضدها العام وهو تركها الملازمة مع الصلاة – التي هي الضد الخاص – فتحرم بالسراية، وهو في الواقع يرجع إلى مسلك المقدمة ومن تطبيقاتها.

ص: 14

وأورد عليه؛ بأنه لا يتم في الضدين الذين لهما ثالث, إذ لا يكون عدم الإزالة حينئذ ملازماً مع الصلاة حتى تسري حرمته إليها.

وأُجيب عنه بوجوه أهمها:

الوجه الأول: إنّ عدم الإزالة ملازم للجامع بين الصلاة والضد الثالث, سواء كان هذا الجامع حقيقياً أم إنتزاعياً, فإنه على كل تقدير عنوانٌ ملازم قابل لتعلق الحكم به فتسري الحرمة منه إلى ذلك الجامع, وبالإنحلال تكون الصلاة محرمة. وهذابخلاف مسلك المقدمية فإنه بناءً عليه يكون الأمر بالإزالة موجباً لحرمة عدمها -الضد العام- وفعلُ الصلاة -الضد الخاص- علةٌ له باعتبار أنّ عدم الضد إذا كان مقدمة كان وجوده يعني انتفاء أحد أجزاء العلة, وهو علة تامة لانتفاء المعلول فيحرم لا محالة.

الوجه الثاني: إنّ عدم الإزالة له حصتان؛ أحداهما ملازمة مع الصلاة، والأخرى ملازمة مع الضد الثالث؛ فإذا حرم عدم الإزالة سرت الحرمة إلى كلتا الحصتين لإنحلالية الحرمة، فتحرم الحصة الملازمة مع الصلاة.

الوجه الثالث: إنّ عدم الإزالة وإن لم يكن ملازماً مع الصلاة إذا كان هناك ضد ثالث، ولكنّ الصلاة ملازمة مع عدم الإزالة لاستحالة اجتماع الضدين, وحينئذٍ؛ لو فرض عدمُ حكمٍ للصلاة أصلاً كان خلافاً لقانون (عدم خلوّ الواقعة عن حكم), ولو فرض أنها ذات حكم غير الحرمة لسرى بقانون الملازمة إلى عدم الإزالة المحرم بحسب الفرض، فيكون من اجتماع الحكمين المتضادين فيتعين أن تكون الصلاة محرمة وهو المطلوب.

وهذان الوجهان لا يخلوان عن المناقشة ويظهر ذلك بالتمعن.

التنبيه الثاني: قد تثبت الحرمة من دون الحاجة إلى كبرى النهي عن الضد العام للواجب؛ بأن يقال: إنّ الفعلين المتضادين في الوجود الخارجي يلزم أن يكون تضاد بين حكميها

ص: 15

على نحو يناسب سنخ التضاد الموجود بينهما, فإذا كان وجود أحدهما موجباً لامتناع الآخر فينبغي أن يكون إيجاب أحدهما مستلزماً للمنع عن الآخر. ولكن هذه الدعوى لم يقم عليها برهان أو دليل ولم يدّعِها أحد بخلاف المسلكين المتقدمين.

شبهة الکعبي

التنبيه الثالث: من جميع ذلك يظهر بطلان الشبهة المنسوبة إلى الكعبي(1)؛ حيث قيل في تقريرها:

إنّ ترك الحرام يتوقف على فعل من الأفعال فيكون إتيان ذلك الفعل مقدمة له، وترك الحرام واجب, ومقدمة الواجب واجبة. فلزم من ذلك انتفاء المباح.

والوجه في بطلانها ما يلي:

1- بطلان المقدمية رأساً، فلا موضوع لأصل الشبه لبطلان أساسها.

2- إنه يكفي في ترك الحرام وجود الصارف عنه بأيّ وجه اتفق؛ من جهة دينية أو دنيوية مطلقاً, نعم؛ لو انحصرت علة ترك الحرام في فعل من الأفعال على نحو العلية التامة المنحصرة فإنه لا ريب في وجوب ذلك الفعل.وأما الجهة الثانية(2)؛ أي توقف أحد الضدين على عدم الآخر، فالبراهين المذكورة في المقام عديدة أهمها:

البرهان الأول: إنه لا يتوقف أحد الضدين على عدم الآخر؛ أي لا مانعية بين وجود أحدهما وعدم الضد الآخر حتى يكون ترك أحدهما مقدمة لوجود الآخر. لأنّ وجود أحد

ص: 16


1- . وهو أبو القاسم عبد اللّه ابن احمد بن محمود البلخي الفاضل المشهور، كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم (الكعبية) وهو صاحب مقالات، له اختيارات في علم الكلام. والكعبي نسبة الى بني كعب، والبلخي نسبة الى بلخ أحدى مدن خراسان.
2- . في البرهان على بطلان المقدمية.

الضدين مستند إلى إرادة فاعلة, ومع تحققه لا يكون المحل قابلاً لوجود الضد الآخر, وأما عدم قابلية المحل لهما من اللوازم الذاتية للمحل, والذاتي لا يتخلف ولا يعلل كما قيل.

البرهان الثاني: ما ذكره السيد الخوئي(1) في تفسير كلام المحقق الخرساني (قدس سراهما) هو: إنّ الضد لو كان متوقفاً على عدم الضد الآخر لكان متأخراً رتبة عن ذلك, والثاني باطل لقيام البرهان على أنّ عدم الضد في رتبة الضد وليس في رتبة متقدمة عليه، فثبت بطلان المتقدم وهو التوقف. والبرهان المدعى هو أنّ ثبوت الضد الآخر إما أن يفرض في رتبة الضد الأول أو لا؛ فإن كان في رتبته لزم ثبوت الضدين واجتماعهما في رتبة واحدة وهو مستحيل كاستحالة اجتماعها في زمان, وإن فرض عدم ثبوته في مرتبة الضد الآخر كان عدمه ثابتاً فيها لا محالة لاستحالة ارتفاع النقيضين؛ فكان كل ضد متحداً رتبة مع عدم ضده ويستحيل توقفه عليه.

ثم استشكل على هذا الوجه بأنّ التنافي بين الأضداد إنَّما يكون بلحاظ عالم الوجود الخارجي، واجتماعهما في زمان واحد لا في عالم الرتب, ومن أجل ذلك نجد استحالة اجتماع الضدين خارجاً في زمان واحد. ولو فرض تغايرهما رتبة كما لو فرض أنّ أحدهما في طول الآخر وعلة له.

والحق؛ إنّ هذا الوجه وما قيل فيه من الإشكال لا يتفقان مع الواقع. أما الوجه فإنه يحتوي على مغالطة وهي أنّ المراد باجتماع الضدين في رتبة واحدة له معنيان:

الأول: كونهما توأمين معلولين لعلة واحدة.

الثاني: عدم العلية بينهما؛ فلا طولية بينهما سواء كانا معلولين لعلة ثالثة أو لعلتين؛ فإن أريد به المعنى الأول فهو وإن اقتضى استحالة اتحاد الضدين في رتبة واحدة غير أنّ هذا لا

ص: 17


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج3 ص20-22.

يقتضي أن يكون عدم أحدهما في رتبة الآخر بهذا المعنى ولا يستلزم منه ارتفاع النقيضين, لأنّ نفي معلولية الضدين لعلة ثالثة لا يستلزم أن يكون كل منهما مع عدم الآخر معلولاً لتلك العلة, فأنّ نفي عليّة شيء لشيء لا يعني علّيته لنقيضه كما هو واضح.وإن أُريد به المعنى الثاني فيمكن الجواب عنه بأنّ وحدة ترتب الضدين يعني أنه لا طولية بينهما، وليس هذا من اجتماع الضدين لا في الزمان ولا في الرتبة الواحدة بالمعنى المتقدم المستحيل بحكم العقل.

وأما جواب الإشكال الذي ذكره فهو خلط بين معنين، للقول باستحالة اجتماع الضدين في رتبة واحدة كاستحالة اجتماعهما في زمان واحد. فإن يُراد بذلك اشتراط استحالة اجتماع الضدين وحدة الرتبة, كما يشترط وحدة الزمان والمكان.

وفيه: إنه تضيق لدائرة استحالة اجتماع الضدين فإنه يرجع إلى أن استحالة اجتماع الضدين في زمان واحد يشترط فيه وحدة الرتبة أيضاً, وأما لو كان أحدهما في طول الآخر جاز الإجتماع, وهو بعيد.

وإما أن يراد بذلك أنّ ثبوت الضدين في رتبة واحدة كثبوتهما في زمان واحد، وهو مستحيل. فتكون هذه الدعوى عكس الدعوى السابقة إذ فيها توسعة لدائرة الإستحالة بين الضدين لتشمل عالم الرتب أيضاً الذي هو عالم التحليلي العقلي.

فيقال: إنه كما يستحيل اجتماع العلة والمعلول في رتبة واحدة فإنه يستحيل اجتماع الضدين فيها أيضاً، ولكن هذه الدعوى تحتاج إلى برهان ولا يصحّ ردها إلى استحالة اجتماع الضدين في زمان واحد ولو كانا طوليين فإنه مسلّم ولكنه قدس سره يدعى الزيادة عليه في الإستحالة، كما لا يصحّ دعوى أنّ التنافي بين الأضداد إنما هو في عالم الوجود الخارجي دون عالم الرتب لأن العلة والمعلول لا يجتمعان في رتبة واحدة، بمعنى استحالة اجتماعهما

ص: 18

في رتبة واحدة. فالتضاد في عالم الرتب معقول كعالم الوجود الخارجي، وبناءً عليه يكون هذا الوجه غير سديد.

البرهان الثالث: ما أفاده المحقق النائيني قدس سره (1), وهو يتوقف على أمرين:

الأمر الأول: إنّ المانع لا يعقل أن يكون مانعاً إلا في طول تمامية المقتضي والشرط للممنوع لفرض أنّ المانع إنما يكون دوره في عالم العلل والمعلولات، وهو المزاحمة والممانعة من تأثير المقتضى، فلا بد من ثبوته وثبوت شرطه أيضاً كما هو معلوم.

الأمر الثاني: إنّ مقتضى المحال محال أيضاً؛ إما بداهة أو بالبرهان، وهو كون المقتضي من أجزاء العلة, وهو إنما يكون في الممكن الذي يتساوى فيه الوجود والعدم لا المحال الذي هو واجب العدم, كما هو واضح.

فإذا تمّ هذان الأمران يكون القول بتوقف وجود الضد على غير أمر الضد الآخر باطلاً؛ لأنه لو قلنا بالتوقف كان الآخر مانعاً عنه فإن كانت هناك مانعية قبل وجوده كان محالاً للزوم وجود المانع في المانعية قبل المقتضي, وإن كان مانعاً حين وجود المقتضي فإنّ فرض عدم مقتضي الضد الآخر كان الآخر مانعاً عنه،وحينئذٍ؛ إن كانت مانعيته قبل وجوده عاد الإشكال المزبور وهو كونه محالاً، لأنه لا بد من لزوم المقتضي, ولو فرض وجود مقتضي الضد الممنوع لزم المحال لفرض وجود مقتضٍ لضد المانع وهو يستلزم تحقق مقتضيين لاجتماع الضدين؛ ومقتضى المحال محال.

وأشكل عليه السيد الخوئي قدس سره (2) بأنّ مقتضي المحال وإن كان محالاً لكن المقام لا يكون منه, لأنّ مقتضي الضد لا يقتضي إلا وجود ذات الضد وهو ليس بمحال, وإنما المحال هو

ص: 19


1- . نقله السيد الخوئي في المحاضرات؛ ج3 ص10.
2- . المصدر السابق.

اجتماع الضدين ولا يوجد مقتضٍ له، فهو قدس سره فرّق بين أن يكون شيءٌ ما مقتضياً للمحال وبين أن يقتضي شيءٌ شيئاً ويقتضي شيءٌ آخر شيئاً آخر ويكون اجتماعهما محالاً.

ودفعه السيد الصدر قدس سره (1) بأنّ مقتضي أحد الضدين؛ إما أن يقتضي ذات ذلك الضد مطلقاً ولو في ظرف تحقق الآخر، أو يكون مقتضياً مشروطاً بعدمه، أو يكون مقتضياً للضد الذي لا يوجد الضد الآخر معه؛ أي بقدر ما يثبت من الضد ينفي الضد الآخر ويمنع عنه.

ثم ذكر أنّ هذا المعنى الثالث لو ثبت فلا يلزم منه مقتضي المحال؛ إذ لا يعني اقتضاء أحد المقتضيين للضد في ثبوت الضد الآخر حتى يكون محالاً، ولكن هذا الإحتمال في الواقع جعله المحقق النائيني قدس سره برهاناً مستقلاً كما سيأتي بيانه.

ولكن الحق أن يقال: إنّ صياغة هذا الدليل لو كانت على ضوء ما ثبت في المنطق والحكمة لكان الأمر كما ذكره المحقق النائيني قدس سره , إلا أنّ الصحيح؛ هو أن المحال إذا كان بلحاظ الوجود الخارجي كاجتماع الضدين وارتفاع النقيضين وأمثالهما فإنّ المحال فيها يكون بلحاظ العالم الخارجي فقط وليس في عالم التصور والفرض, ومن المعلوم أنّ المقتضيات والموانع والشروط من حيث العلل والمعلولات تكون بحسب الوجود الخارجي, فإذا تحقق المقتضي وانتفى المانع وتحقق الشرط الصحيح والمقتضي للحصة الصالحة للتأثير فسوف يتحقق المعلول، فلا يمكن أن يوجد الضد الآخر وسيستحيل تحقق مقتضيه أيضاً. فلو انعكس الأمر في الضد الآخر لتم ما ذكرناه ويستحيل تحقق الضد، فلا يبقى محل لتحقيق مقتضى المحال، إلاّ أن يكون في مرحلة التصور فقط. وهو خارج عن مورد البحث الذي يكون في العالم الخارجي، وفي وجود الضد لفرض كونه محالاً في الوجود لا في مرحلة التصور.

ص: 20


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص305-306.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من التفصيل بين المحال بالذات والمحال بالغير أنه يرجع إلى ما ذكرناه فهو صحيح، وإلا كان من مجرد تغيّر الألفاظ مع ما فيه من الإشكال الذي يظهر عند التدقيق في عبارته.البرهان الرابع: إنّ توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر يستلزم الدور, وقد ذكروا في تقريبه عدة وجوه:

الوجه الأول: إنّ المدلول المطابقي لما ذكره الخصم في تقريب مدعاه؛ وهو توقف وجود الضد على عدم الآخر, فإنّ هذا يستلزم أن يكون وجود البياض فعلاً موقوفاً على عدم السواد لكونه مانعاً عن البياض, والمفروض أنّ السواد أيضاً يتوقف على عدم البياض. وعلى ذلك تكون مانعية السواد عن البياض مستحيلة لأنّ وجوده في طول عدم البياض فكيف يعقل أن يُفرض إعدامه لهم.

ولكن الذي يمكن أن يُشكل عليه هو إنه يحتمل أن يكون دخلُ عدم الضد في وجود الضد الآخر ليس على المانعية. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: أن يكون مستنداً إلى المدلول الإلتزامي لمدّعى الخصم الذي يقول بأنّ التوقف يكون على أساس دخل عدم الضد في وجود الآخر, فإذا كان عدم السواد مثلاً دخيلاً في وجود البياض وقابلية المحل له كان لازمه أنّ البياض دخيل في قابلية المحل لعدم السواد, فيكون كلُّ من عدم السواد والبياض موقوفاً على الآخر في القابلية.

وفيه: إنه غير تام؛ لأنّ قابلية المحل للبياض قد تكون -مثلاً- على عدم شيء آخر، ولكن عدمه لا يشترط في قابلية المحل له، إذ ربما يكفي في عدم قابلية المحل لوجوده. فإنه من الواضح أنّ عدم عروض العارض يكفي في عدم قابلية المحل له من دون اشتراط وجود ما يجعل المحل قابلاً له.

ص: 21

الوجه الثالث: إنّ أحد الضدين لو كان موقوفاً على عدم الآخر كان وجوده لا محالة علّة لعدم الآخر أيضاً بقانون: أنّ نقيض العلة علةٌ لنقيض المعلول، فيلزم من توقف وجود البياض على عدم السواد، وعدم السواد على البياض. وهو من توقف الشيء على نفسه وهو محال.

وقد ذكروا فيها مناقشات:

المناقشة الأولى: ما ذكرها الشيخ النائيني نقلاً عن المحقق الخوانساري (قدس سراهما)(1) بأنّ مانعية الضد تتوقف على وجود المقتضي للضد الآخر، وهي مستحيلة؛ لأنّ وجود الضد الموجود مستند إلى عدم الآخر، ولكن عدم الآخر ليس من جهة مانعية الوجود, لأنّ الضد المعدوم لا مقتضي له وإلا كان مقتضياً للمحال وهو محال كما عرفت سابقاً.

المناقشة الثانية: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (2) معترضاً على كبرى؛ أنّ مقتضي المحال محال. وقد سلك طريقاً آخر وهو أن وجود أحد الضدين يكشفعن عدم تعلق الإرادة الأزلية بالضد الآخر وإلا لما تخلفت عن المراد فيستحيل وجود مقتضي الضد المعدوم حتى يكون الضد الموجود مانعاً عنه.

وناقشه بعض المحققين(3) بأنّ غاية ما يثبت به هو عدم تعلق الإرادة الأزلية بالعلة التامة للضد المعدوم.

وهذا لا يعني انتفاء أي جزء من أجزائها فربما يكون الجزء المنتفي هو عدم المانع الذي هو الضد الموجود.

ص: 22


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص254-255.
2- . كفاية الأصول؛ ص130.
3- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص308.

ولكن يمكن رد هذه المناقشة بأنّ انتفاء إرادة الفاعل كاشف عن احتمال انتفاء أي واحد من أجزاء العلة، وهو يكفي في انتفائها؛ لأنّ وجودها يستدعي تمامية الأجزاء وثبوتها.

ويكفي احتمال العدم في أحد أجزائها رفعٍها. ولعله لأجل ذلك قال السيد الوالد قدس سره (1) ذكر بأن عدم الآخر لا يستند إلى وجود ضده، بل إلى عدم إرادته مع إرادة ضده، ويكفي في عدم إرادته الإجمال والإرتكاز من دون حاجة إلى الإلتفات التفصيلي فيكون عدم إرادته مطوياً في إرادة ضده من دون احتياج إلى إرادة مستقلة كانطواء إرادة إجمالية في إرادة تفصيلية، وهو كثير شائع. وكان هذا هو الأقرب إلى الذوق العرفي كما هو واضح.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ ما ذكره السيد الصدر قدس سره في تقرير المناقشة وردّها هو تطويل بلا طائل تحته، مع أنها لا تخلو من المناقشة.

المناقشة الثالثة: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2) من أنّ وجود الضد وإن كان موقوفاً على عدم الآخر إلا أنّ عدم الآخر ليس متوقفاً على وجود الأول, وإنما يتوقف على عدم عدمه, فإنّ نقيض العلة علةٌ لنقيض المعلول، ونقيض كلّ شيء رفعه فإذا كان وجود الضد المعدوم متوقفاً على عدم الموجود كان عدمه موقوفاً على عدم الموجود لا نفس الموجود, وعدم العدم ملازم مع الوجود لا عينه، ومن المعلوم أنه يستحيل أن يكون العدم وجوداً ؟

وأورد عليه:

1- إنّ المقصود من قولهم إنّ نقيض كل شيء رفعه ليس إلا التعبير عن أن الوجود نقيضُ العدم، والعدم نقيض الوجود, ولذا تقدم أنه قدس سره ذكر أنّ المراد بالرفع

ص: 23


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص277.
2- . نهاية الدراية؛ ج1 ص225.

هو الفاعلي والمفعولي, كما أن قانون نقيض العلة علة النقيض المعلول؛ لا يراد به غير الوجود والعدم.

2- إنّ عدم العدم ليس أمراً وجودياً أو ملازماً له، بل هو أمر اعتباري أو انتزاعي معلول لوجود نفسه، فإنّ رجع التوقف على الوجود فليس من تأثير الوجود في العدم لأن مثل هذا العدم إعتباري.

وما ذكره قدس سره من القانون وما يترتب عليه كله يكون من الأمور الإعتبارية التي لا بد من أن تنتهي إلى الأمور الواقعية، وتنتهي إلى واجب الوجود. وحينئذ تأتي في الفروض المقدرة المعروفة في الكتب المفصلة.

3- إنّ أصل هذا النقاش وأن أمكن به دفعُ توقف وجود الضد على نفسه، ولكنه يستلزم توقفه على عدم نفسه وهو مستحيل أيضاً. وهناك مناقشات أخرى لا جدوى من ذكرها.

4- إنه قد يُسأل: ما المراد من عدم العدم؛ فإن كان المراد به واقع العدم فهو مستحيل، لأن فيه ما يستلزم التناقض أو إثبات الشيء لنفسه, وإن كان المراد به انتزاع مفهوم إعتباري للعدم وإضافة العدم إليه على حد إضافته إلى الماهيات فهذا المفهوم أمر إعتباري ذهني محض ويستحيل أن يكون علة للوجود الحقيقي كما هو مفاد كلام المحقق الإصفهاني قدس سره .

5- إن ما ذكره في وجه الإشكال خلافُ مدّعى القائلين بتوقف الضد على عدم الضد الآخر؛ لأنهم يريدون بذلك أنّ وجود الضد الموجود هو العلة في عدم الضد المعدوم فيكون التنافي والتضاد بين الوجودين، لا بين وجود أحدهما وعدم عدم الآخر, كما هو واضح.

ص: 24

والحاصل؛ أنّ ما ذكره من إشكال الدور بالتقريب الثالث غير تام بناءً على الوجه الثاني الذي ذكرناه من الوجوه الثلاثة في ردّه.

ثم إنّ ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره من المناقشة -إن تم- فيكون في الضدين اللذين لا ثالث لهما، حيث يستحيل توقف أحد الضدين على عدم الآخر. لأنّ فرض عدم أحد الضدين هو فرض الفراغ عن وجود الضد الآخر لاستحالة ارتفاعها حسب الفرض. وأما الأضداد المتعددة فهل يتم فيها ما ذكره؟ قيل: إنه غير تام لنفس الوجوه التي ذكرناها، لا سيما الوجه الثالث منها؛ فإما أن نقول أنها من أجل بداهة عدم الفرق أو بدعوى أنّ في الأضداد المتعددة يكون عدمٌ ما عدا الضد الواحد علة لوجود ذلك الضد، وفي ظرف عدم مجموع الأضداد الأخرى يكون الضد الأول واجباً فيستحيل العلية.

البرهان الخامس: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) تفسيراً لعبارة الكفاية وهو يتألف من أمرين:الأول: إنّ النقيضين في رتبة واحدة؛ فالسواد وعدمه في رتبة واحدة ومثله البياض وعدمه لأنهما يختلفان على محل واحد, فيكون كل واحد منها يختلف عن الآخر في موضعه فلا يمكن أن يكونا مختلفين في الرتبة.

الثاني: إنّ ما في الرتبة المتقدمة متقدم أيضاً.

واعتبر أنّ هذين الأمرين من القضايا التي قياساتها معها التي لا تحتاج إلى إقامة البرهان.

فإذا تم هذان الأمران ثبت أنّ أحد الضدين يستحيل أن يكون متوقفاً على عدم الآخر لأنّ عدم الآخر يكون في رتبة وجوده بمقتضى الأمر الأول؛ فإذا ما يتوقف عليه وجود الأول كان متقدماً عليه رتبة فيكون وجود الآخر أيضاً متقدماً عليه بحكم الأمر الثاني, وإذا

ص: 25


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص219-220.

أردنا تطبيق هذين الأمرين على الضدين يستلزم التهافت في الرتبة بينهما وكون كل منها متقدماً على الآخر ومتأخراً عنه, وهو مستحيل.

وهذا البرهان يتوقف على صحة الأمرين اللذين هما الأساس، ولكنها مخدوشان.

أما الأول؛ فلأنّه إن أُريد من مقولة النقيضين في رتبة واحدة عدم أحدهما للآخر وتقدمه عليه؛ فهو وإن كان صحيحاً لكنه لا يستلزم الأمر الثاني وهو أنه لو كان أحدهما علّة لشيء ومتقدماً عليه كان الآخر كذلك وإن أُريد أنهما ثابتان في مرتبة واحدة، لأنّ أحدهما يخلف الآخر في موضعه مثلاً فتكون المرتبة قيداً في ثبوت كل واحد منها وهو ممنوع، لأنّ أحدهما يخلّف الآخر في موضعه، وهو الذي يكون في الواقع لا في ظرف ثبوت الأول زماناً أو رتبة, فإذا ثبت وجود شيء في زمان لا يكون عدمه مقيداً بذلك الزمان، وإلا لزم ارتفاع النقيضين في فرض ارتفاع القيد كما هو واضح.

وأما الثاني؛ فلأنّ مقولة ما يكون متقدماً فهو متقدم؛ إن أُريد به المتقدم بالزمان فهو صحيح، ولكن لا باعتبار هذه المقولة بل باعتبار كونه بنفسه متقدماً بالزمان مقترناً مع تقدم الآخر بالزمان أيضاً.

وإن أُريد به التقدم في الرتبة -أي المقارن مع المتقدم- رتبة المعنى السلبي وهو عدم كونه علّة ولا معلولاً للآخر, وأنه بهذا المعنى لا يقتضي تقدم أحدهما لتقدم الآخر, إذ ملاك التقدم هو العلّية, فلا يلزم أن يكون المقارن مع العلة علة للمتأخر أيضاً، وإن أُريد به المعنى الثبوتي وهو التوأمة وكونهما متلازمين ومعلولين لعلة ثالثة فهو مردود بأنّ الضد وعدمه ليسا في رتبة واحدة بهذا المعنى؛ إذ لا يلزم أن يكون النقيضان معلولين لعلة ثالثة وإلا اجتمع النقيضان. مع أنه لا يتحقق في مثل هذا المعنى من التقدم الملاك الذي ذكرناه وهو ملاك العلّية، لأنّ علّية أحد المتلازمين في التقدم لا يقتضي علّية الآخر.

ص: 26

ومما يهوّن الخطب أن صاحب الكفاية -وهو الذي ذكر هذا الأصل في البرهان السابق- وغيرَه من مفسري كلامه لا يريد ذلك؛ لأنه وإن منع المقدمية بين وجود الضد وعدم الآخر حتى بناءً على التمانع بين الضدين, إذ لا منافاة بين عدمأحدهما ووجود الآخر، بل بينهما كمال الملائمة والمعية الخارجية, كما في عدم أحد النقيضين مع وجود الآخر بلا تقدم ولا تأخر حتى يكون ترك أحدهما متقدمة لوجود الآخر. وهو صحيح؛ ولكن لو ثبت التقدم فإنه لا يختص بما ذكره فإنه يكفي التقدم العلمي في الإجتماع والمعية الخارجية كما في العلة التامة مع المعلول. وما ذكرناه من البراهين والنقض والإبرام فهي مبنية على أساس ما ذكره المناطقة والفلاسفة في كتبهم، وإدراج تلك البحوث إلى علم الأصول مِمّا أوجب إطالة الكلام في المناقشة مع أنّ هذا العلم بمعزل عنها، ولا ثمرة عملية بل ولا علمية مهمة تترتب عليها.

والأجدر هو الرجوع إلى الذوق العرفي، وقد ذكرنا أنه لا تقدم بين وجود أحد الضدين وعدم الآخر؛ إما لتوسط الإرادة بينهما، أو لوجود كمال الملائمة والمعية الخارجية بينهما. ولو فرض التنزل وثبوت التقدم بينهما فهو تقدّم علمي فقط، ولا يوجب التقدم في الخارج.

ومن جميع ذلك يظهر أنه لا جدوى في ذكر بقية البراهين التي أقاموها على إبطال التقدم بين أحد الضدين وعدم الآخر, وإن استحسنها بعض المحققين فراجع.

ثم إنه مِمّا ذكرناه يتبين فساد بطلان بقية الأقوال التي تعتمد على أساس المقدمية؛ مثل القول بمقدمية وجود أحد الضدين لترك الآخر من دون عكس، والقول الذي يفرق بين وجود الضد فيتوقف وجود الآخر على رفعه، وبين فراغ المحل عن الضدين فلا توقف حينئذ. فإنها تبتني على ثبوت المقدمية في الجملة, وقد عرفت بطلانها مطلقاً فلا يبقى موضوع لهذه الأقوال رأساً.

ص: 27

وقد أدرج السيد الصدر قدس سره (1) بحث احتياج الوجود البقائي إلى العلة كالوجود الحدوثي؛ حيث ذكر بأنّ وجود الضد يوجب امتناع الضد الآخر، لأنّه في طول مانعيته, فعلى نظرية حاجة الوجود البقائي إلى العلّة يكون الضد بقاءً في طول مانعية مقتضيه أيضاً فتستحيل مانعيته. بخلاف ما إذا قلنا بنظرية الحدوث في الإحتياج إلى العلّة دون البقاء؛ فإنه لا بأس بأن يكون الضد الموجود هو المانع عن الضد المعدوم في مرحلة البقاء.

وأما مقتضي الضد الموجود فإنه يمنع عن الضد المعدوم في مرحلة الحدوث فقط ثم يرتفع.

ولكن إقحام هذا البحث في المقام لا وجه له؛ فإنّ الطريق الأقصر في نفي التوقف والمقدمية هو إما توسط الإرادة مطلقاً بين وجود أحد الضدين وترك الآخر. قلنا بنظرية احتياج البقاء إلى العلة أو لم نقل بها؛ فإنّ كل حادث يحتاج إلى العلةيكون حدوثاً بالنسبة إلى ما بعده، وأنّ الإرادة التي تعلقت بالبقاء هي الواسطة بين الوجود والعدم. مع أنّ هذه النظرية مورد البحث عند العلماء؛ فإنه البقاء عند الفاعل المختار كالحدوث لأنّ الحادث مفتقر في كل آن من آنات بقائه، وسيأتي بيانه في محله.

ص: 28


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص314.

الفصل الثاني الضد العام

اشارة

والمراد به النقيض؛ أي الترك، ومورد البحث هو أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن تركه، وقد ذكروا في الإقتضاء وجوهاً:

الأول: العينية والمطابقة.

الثاني: التضمنية.

الثالث: الإلتزامية.

والبحث تارةً؛ يقع في مرحلة الثبوت، أي في مرحلة الحكم والإعتبار بأن يقال أنّ طلب الفعل يقتضي النهي عن ضده العام، فيكون هناك حكمان؛ حكم يتعلق بطلب الفعل، وحكم آخر يتعلق بالنهي عن الترك. وفي مرحلة الحب والبغض والإرادة والكراهية.

وأخرى؛ يقع في مرحلة الإثبات.

حينئذٍ نقول: إنه على كل حال لا ينبغي الإشكال في أن الأمر بشيء والنهي عن تركه يستعمل أحدهما مكان الآخر فإذا قيل: (صلِّ) فإنه بمنزلة ما لو قيل: لا تترك الصلاة، فهما بمعنى واحد وإن اختلفنا في المدلول التصوري, بالنسبة إلى المفردات؛ ففي مرحلة الإثبات يكون هذا الإستعمال من جهة الملازمة فإنّ طلب الشيء يلازم مبغوضية تركه, لا أن يكون عينه؛ لا العينية الخارجية ولا المفهومية, وهو -كما عرفت- لاختلاف مداليل المفردات، ولا أن يكون الترك جزء مفهومه حتى يدل عليه بالدلالية التضمنية, كما عرفت مكرراً من أنّ الوجوب بسيط لا تركُّب في حقيقته. نعم؛ هو في شرح الإسم يكون كذلك تسهيلاً للأفهام وإشارة إلى ذلك المفهوم البسيط، وهو ليس بعادم النظير فلا يكون التركُّب في الذات والحقيقة كما لا يختص به.

ص: 29

وأما في مرحلة الثبوت؛ ففي عالم الحكم يمكن أن يقال بأنه يختلف بحسب الآراء في مفاد النهي؛ فلو قلنا بأن النهي عن شيء عبارة عن طلب نقيضه, وبما أنّ نقيض الفعل هو الترك, ونقيض الترك هو الفعل فيكون الأمر بشيء نقيض النهي عن تركه وهو الضد العام، فيكون دالاً عليه على نحو العينية، إذ المفروض أنّ النهي عن ترك الشيء ليس إلا طلب فعله، أما لو قلنا بأنّ النهي عبارة عن الزجر مثلاً, والأمر عبارة عن اعتبار البعث والإرسال فلا محال لأن يكون أحدهما غير الآخر, فلا يقتضي العينية أبداً. كما أنّ الإقتضاء بنحو التضمن؛ فإن قلنا بأنّ الأمر عبارة عن طلب الفعل مع المنع عن الترك فحينئذٍ يكون معنى الأمر متضمناً عن النهي عن نقيضه.

وقد عرفت أنّ الحكم مطلقاً أمر اعتباري؛ والأمور الإعتبارية بسائط وليست مركبات ولا يعقل لها جنس كما تقدم مكرراً، والإعتبارات سهلة المؤونة.

وأما الإقتضاء بنحو الملازمة فيرد عليه: بأنّ الحكم لما كان إعتبارياً فإنه يكون بيد المولى الذي يعتبر الحكم بعد تحقق مبادئه الإختيارية، ولا يمكن أن يتحقق بالأمر الملازم الذي له مبادئ إختيارية؛ مع أنه لو كان النهي داعياً فلا فائدة فيه بعد فرض الإعتبار الأول، فلا يكون النهي الغيري موضوعاً مستقلاً للطاعة والداعوية.

هذا كله بلحاظ عالم الحكم والإعتبار، وأما بلحاظ عالم الحب والبغض والإرادة والكراهة فاقتضاء حب فعلٍ للبغض عن ضده العام يبتني على الفروض المتصورة في تفسير الحب والبغض من النفس البشرية، وهي على ما يلي:

الفروض المتصورة في تفسر الحب و البغض

الفرض الأول: نفي وجود حب أصلاً, وإنما تتحقق عاطفة البغض فإذا تعلقت بترك شيء يقال عنه حب الفعل.

وفيه: إنه خلاف الوجدان، فإنّ عاطفة الحب والبغض كلتاهما مِمّا لا ينكر وجودهما.

ص: 30

الفرض الثاني: وجود عاطفة واحدة تختلف بحسب المتعلق، فإذا نُسبت إلى فعل سميت حباً، بينما إذا أُضيفت إلى نقيضه سميت بغضاً. وبناءً عليه يكون الأمر بالشيء عين النهي عن ضده.

وفيه: إنه مجرد فرض وتقدير لا واقع له؛ فهو خلاف الوجدان وإنّ عاطفة الحب والبغض تختلفان بحسب حدّهما ومتعلقهما؛ أحدهما محبوب والآخر مبغوض، ولا يُعقل أن تتحدا.

الفرض الثالث: وجود عاطفتين مستقلتين ذاتاً وماهيةً ولكنهما تنشآن من منشأ واحد وهو المصلحة والملاك؛ فإذا كان أحدهما يتعلق بفعل ما فيه المصلحة يسمى بالحب، والآخر يتعلق بتركه ويسمى بالبغض. وعليه؛ تكون الدلالة التضمنيةمناسبة لهذا الفرض، فإنّ الأمر بالشيء يتضمن النهي عن تركه. ولا يرِد عليه بمثل ما أورد على الفرض الأول والثاني، ولكنه يثبت أنهما عاطفتين عرضيتين.

الفرض الرابع: وجود عاطفتين -كما في السابق- لكنهما طوليتين بأن يقال: إنّ بغض الترك يتولد من حب الفعل، وفي طوله يتولد بغض فوات محبوبه، وعليه يكون الأمر بالشيء ملازماً للنهي عن ضده العام.

والظاهر أنه تطويل لا طائل تحته؛ فإنّ الحكم ليس إلا اعتبار خاص وإنما يكون منشؤه وجود المصلحة والمفسدة ولكل واحد منهما منشأ يختلف عن الآخر وتختلفان بحسب الأغراض. فثبت أنّ الإرادة والكراهة في النفس وبناءً عليه فإنّ متعلق الأمر يختلف عن متعلق النهي، وإن استلزم أحدهما الآخر في بعض الموارد كما في المقام بأن يكون الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده العام. والذوق العرفي والوجدان لا ينفيانه, وبذلك يسلم من كثير من الإيرادات التي ذكروها في المقام.

ص: 31

ص: 32

الفصل الثالث: في بيان الثمرة التي تترتب على مسألة الضد

ذكر الأصوليون ثمرتين تترتبان على هذه المسألة، ولكنهما روحاً ثمرة واحدة، وهما:

الأولى: إذا تزاحم واجب مضيق مع واجب آخر موسع عبادي, كما إذا تزاحمت إزالة النجاسة الفورية عن المسجد مع الصلاة في أول وقتها مثلاً, فإنه لا إشكال في فعلية الواجب المضيق, وحينئذٍ لو قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص فسوف تقع العبادة باطلة إذا ترك الإزالة في المثال المزبور واشتغل بالصلاة لكونها منهياً عنها. وإن كان النهي غيرياً فإنه يقتضي الفساد, وأما إذا أنكرنا الإقتضاء فلا تقع فاسدة.

الثانية: إذا تزاحم واجبان مضيقان, وكان أحدهما أهم من فعل الآخر وكان المهم عبادياً فإنه بناءً على عدم الإقتضاء، ولأصالة الصحة وعدم المانعية في العبادة التي يكون تركها مقدمة لإتيان الواجب الأهم. وقد أنكر الشيخ البهائي قدس سره (1) تلك الثمرة تخصيصاً من جهة أنّ العبادة باطلة على كل حال سواء قلنا بالإقتضاء أم لم نقل كما سيأتي بيانه.

وكيف كان فقد أورد على الثمرتين بإعتراضين:

الإعتراض الأول: إنه بناءً على إنكار الإقتضاء لا تقع العبادة صحيحة, لأنها وإن لم يكن منهياً عنها ولكنه لا أمر بها, إذ لا يعقل الأمر بها مع طلب ضدها مع انه يشترط في صحة العبادة الأمر فالثمرة منتفية على كلا الفرضين.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق قدس سره بتوضيح من الشرّاح(2): إن الثمرة في الفرع الأول موجودة فإنه لا مانع -بناءً على عدم الإقتضاء- من الأمر بالإزالة, والأمر بجامع الصلاة

ص: 33


1- . زبدة الأصول؛ ص118.
2- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج3 ص52-53.

الموسعة في جميع أجزاء الوقت، لأنه لا تضاد بين الجامع المذكور وبين الإزالة, وإنما التضاد بينهما وبين الفرد من الصلاة الواقع في خصوص ذلك الوقت, وليس هو الأول من الفرد المأمور به، وإنما المأمور به هو الجامع الذي ينبسط قهراً على الفرد المزاحم أيضاً فيكون مجزياً عقلاً. وأما بناءً على الإقتضاء فإنّ ذلك الفرد سيكون منهياً عنه فلا يجتمع مع الأمر بالجامع المنطبق عليه لاستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

وأشكل المحقق النائيني قدس سره (1) عليه من أنّ اعتبار القدرة في التكليف؛ إن كان من باب حكم العقل بقبح التكليف بغير المقدور لأنه إحراج للمكلف على مخالفة مثلاً فيصحّ ما ذكره، لأنه على هذا الأساس يمكن أن يقال بأنّ العقل لا يحكم بأزيد مناعتبار القدرة على الواجب بنحو لا يلزم من التكليف الإحراج المذكور، ومثل ذلك يكفي فيه القدرة على بعض أفراد الواجب الموسع فيبقى تعلّق التكليف بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره من الواجب الموسع معقولاً، إذ لا يلزم منه المحذور العقلي فيكون الفرد المزاحم فرداً من المأمور به أيضاً.

وأما إذا كان اعتبار القدرة من جهة الخطاب باعتبار اقتضاء نفس التكليف لذلك فلإنه عبارة عن جعل الداعي للمكلف نحو الفعل -وهو لا يكون إلا بلحاظ ما يعقل جعل الداعي إليه, وهو الأمر المقدور- فلا محالة أنّ الخطاب يتضيق بحدود مقدور متعلقه فلا يكون هناك أمر بالجامع بين الفرد المزاحم وغيره من الواجب الموسع؛ لأنه لا قدرة عليه شرعاً بحسب الفرض فلا يقع فرداً من المأمور به.

وأورد عليه السيد الخوئي(2) بإيرادات ثلاثة؛ إثنين منها لا يرد على المحقق النائيني قدس سره لأنه خلاف مبناه فلا حاجة إلى ذكرهما كما هو مفصل. والثالث منها؛ هو أنّ مفاد الأمر

ص: 34


1- . المصدر السابق.
2- . المصدر السابق؛ ص59.

ليس إلا عبارة عن اعتبار الشيء في ذمة المكلف لا البعث والإرسال والتحريك كي يقال بأنه موقوف على إمكان الإنبعاث ولا انبعاث لغير المقدور، فالمقدور بحسب الحقيقة ليس قيداً للخطاب لا بحكم العقل ولا من باب اشتراط إمكان الإنبعاث نحو المتعلق، وإنما هو شرط عقلي في مقام الإمتثال ولزوم الطاعة إلى قيد في مرحلة التخيير واستحقاق العقاب.

وفيه: إنّ الكلام ليس في المدلول التصوري للأمر كي ترتبط المسألة به، وإنما الكلام في المدلول التصديقي للأمر والمراد الجدّي له؛ الذي هو حقيقة الحكم وروحه، فإنه بأي عبارة يُذكر وفي أية صيغة كان من النسبة الإرسالية أو التحريكية أو اعتبار الفعل في ذمة التكليف أو غير ذلك؛ فإنّ ذلك لا بُدَّ أن يكون بداعي البعث أو التحريك أو الطاعة أو العبودية كما اخترناه ولايمكن أن يتحقق نحو غير المقدور.

وقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) في دفع إيراد المحقق النائيني قدس سره بأنّ اشتراط القدرة في الخطاب والحكم لأجل جعل الداعي لا يعني تخصيص متعلق الخطاب بالحصة المقدورة خاصة، وإنما يعني اشتراط كونه مقدوراً.

ومن المعلوم أنّ الجامعَ بين المقدور وغير المقدور مقدورٌ، ولو كانت الأفراد طولية لا عرضية, فإنّ القدرة على الجامع الذي هو متعلق الخطاب والحكم موجود؛ فيكون البعث نحوه معقولاً كما هو واضح, ثم استثنى من ذلك ما إذا كان التخيير بين الأفراد شرعياً لا عقلياً فإنّ تعلّق الخطاب بالفرد المزاحم يكون غير معقول، إلا أنه خلف الفرض.ويرد عليه: بأنه من المعلوم إن تعلّق التكليف بالجامع على نحو الطريقية إلى الأفراد لا على نحو الموضوعية، والأفراد إن كانت مقدورة للمكلف؛ كان التكليف بالجامع ممكناً.

ص: 35


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص323.

وأما إذا كانت غير مقدورة فلا يصحّ التكليف حينئذٍ.

وأما إن كان بعض الأفراد غير مقدور عليه؛ فإن زاحمه واجب سقط التكليف بغير المقدور وتوجه إلى المزاحم المضيق المقدور.

وأما إذا كان موسعاً فلا وجه لسقوط التكليف والأمر بالمزاحمة.

وحينئذٍ لا فرق بين أن يكون اعتبار القدرة من باب حكم العقل أو من جهة الخطاب؛ فإنّ اعتبار القدرة في أصل التكليف إنما يكون من جهة الغرض من التكليف، وهو لا يحصل إذا لم يكن متعلق التكليف مقدوراً فإنه من السفه، والحكيم يجلّ عن ذلك.

هذا وإنّ المترتب على الأحكام والتكاليف هو إظهار الطاعة والعبودية للمولى، فما ذكروه في وجه اشتراط القدرة غير تام, والنتيجة؛ أنّ ما ذكره المحقق الثاني قدس سره تام لا إشكال فيه.

وما أورده عليه المحقق النائيني والرد الذي ذكره السيد الخوئي عليه وغيرهما؛ كل ذلك خلاف الأساس المبني عليه اشتراط القدرة.

الوجه الثاني: إمكان تصحيح العبادة المبتلاة بالضد الأهم لأجل الملاك؛ فلو سلّم سقوط الأمر من أجل التضاد وعدم القدرة عليه فإنه لا يستلزم زوال الملاك ولا موجب له.

وقد أُشكل عليه بأنّ مناطات الأحكام وملاكاتها ليست معروفة لدينا حتى يُدّعى ثبوت الملاك في الفرد المزاحم بعد سقوط الحكم والأمر، ولكن يمكن أن يُجاب عنه بأنه يمكن استكشافه بإحدى طرق:

الطريق الأول: التمسك بالدلالة الإلتزامية للخطاب في الفرد المزاحم؛ فإنه كما يدل على الحكم بالمطابقة كذلك يدل بالإلتزام على ثبوت الملاك, فإذا ارتفع الأول لأجل بعض المحاذير لكونه من طلب غير المقدور, ولكن يمكن التمسك بالدلالة الإلتزامية لإثباته فلا محذور في ثبوت الملاك.

ص: 36

وأورد عليه بعض الأصوليين(1) بأنّ الدلالة الإلتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحجية، نعم؛ لو كانت التبعية بين الدلالتين في تكوينهما فقط لا في الحجية لأمكن تصحيح العبادة المزاحمة عن طريق الملاك.

وفيه: إنَّها ليست من التبعية في الحجية، وإنما هي من التكوين في المقام، فان الخطاب نشأ من الملاك فالمقصود منها الإستلزام العقلي؛ بأن يقال إنّ ثبوت الأمر في مورد يستلزم عقلاً الكشف عن وجود الملاك واقعاً، فيكون الأمر معلولاً له،لا أن يكون الملاك معلولاً للأمر، وسقوطُ المعلول لا يكشف عن سقوط العلة كما هو واضح.

الطريق الثاني: التمسك بإطلاق المادة لإثبات الملاك على ما ذكره المحقق النائيني قدس سره بأن يقال: إنّ الخطاب يكون متكفلاً لمطلوبين؛ أحدهما طلب المادة, والآخر وجود الملاك، وكلا هذين المطلبين يستفاد من خطاب (صلّ) مثلاً؛ المستفاد منه وجوب الصلاة ووجود الملاك فيها، غاية الأمر أنّ الأول مدلول لفظي لصيغة الأمر والثاني مدلول سياقي للخطاب.

والفرق بين الطريقتين هو أنّ الدلالة على الملاك في الثاني في عرض الدلالة على الحكم وليس مدلولاً إلتزامياً طولياً للخطاب حتى يسقط بسقوطه بناءً على التبعية، فيكون مقتضى إطلاق القضية الثانية هو ثبوت الملاك حتى في الفرد المزاحم. وفي الأولى يكون مدلولاً إلتزامياً طولياً.

وأُشكل عليه: بأنه لا أصل موضوعي في البين؛ لأنّ الخطاب يدل على الحكم والطلب أولاً وبالذات وتكون الدلالة على الملاك في طول ذلك، فيكون ثبوت الحكم هو الدال على ثبوت الملاك.

ص: 37


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج3 ص74-77.

ويردّه ما ذكرناه آنفاً من أنّ الأمر معلول للملاك؛ فسقوطه لا يدل على سقوط العلة.

نعم؛ قد يشكل بأنه لا يصحّ التقرب بالملاك مع النهي بناءً على الإقتضاء.

ولكنه مردود بأنّ النهي المانع من صحة التقرب هو ما إذا كان تعلّقه بالعبادة بحسب الذات لا بالعرض، والمقام من الثاني دون الأول؛ فإنّ النهي تعلّق بترك الأهم، وحيث إنّ المهم يلازمه خارجاً مع ترك الأهم فيصير مورد النهي بالعرض لا بالذات.

وبعبارة أخرى؛ إنّ النهي في المقام من باب الوصف بحال المتعلق لا الذات, ولا دليل على كون مثل هذا النهي موجباً للفساد بل مقتضى الأصل عدمه.

والحاصل هو إنه يمكن تصحيح العبادة بالملاك.

الطريق الثالث: تصحيح العباد المزاحمة بإثبات الأمر بالضدين على نحو الترتب، أي ثبوت تصحيح العبادة بالأمر الترتيبي. وسيأتي بيانه مفصّلاً.

وعليه؛ يمكن تصحيح العبادة المزاحمة إما بالأمر العرضي فيما إذا قلنا بأنّ الأمر تعلّق بالجامع، أو بقصد الملاك المولوي، أو بالأمر الترتيبي.

إذن؛ ما ذكر من الإعتراض على الثمرة ساقط.

الإعتراض الثاني: وهو عكس الأول؛ أي دعوى صحة العبادة حتى على القول بالإقتضاء لأنّ النهي الذي تعلّق بالعبادة المزاحمة يكون غيرياً وهو لا يقتضي الفساد. والمراد من النهي الغيري في المقام -كما أوضحه المحقق النائيني قدس سره -ما كان من أجل الغير وليس الملاك في متعلقه، بل إنّ متعلقه باقٍ على ما هو من الملاك الفعلي فيكون إيقاعه صحيحاً باعتبار الملاك الموجود فيه.

وأورد عليه: بأنّ ذلك فرع وجود الملاك، وإحرازُه في الفرد المزاحم مشكلٌ لأنه يسقط بعد سقوط الأمر بالعبادة المزاحمة فلا يمكن إثبات وجود الملاك فيها. وبناءً على الإقتضاء لا

ص: 38

يمكن إحرازه حتى بنحو الترتب لمكان النهي، وقد عرفت فساد هذا الإيراد بثبوت الملاك حتى مع سقوط الأمر لأجل التضاد.

كما أنّ الإيراد عليه بأنّ الملاك إن كان المراد به المحبوبية فهو مستحيل بناءً على الإقتضاء؛ لأنه بناءً على الإقتضاء تثبت المبغوضية، وهي لا تجتمع مع المحبوبية. وإن كان المراد به المصلحة فهي لا تصلح للمقربية بما هي هي من دون إضافته إلى المولى، فلا يكون مقرباً بناءً على الإقتضاء، وهو غير تام أيضاً لأنّ الملاك الذي أمر المولى به هو غير المحبوبية ولا المصلحة بل تحقيق الطاعة وإظهار العبودية في امتثال الأحكام المولوية, فهو لا يسقط بسقوط الأمر. وعلى فرض التنزّل والقول بأنّ الملاك هو المصلحة فيصحّ القول بثبوتها مع سقوط الأمر، وتعلّقُ النهي بالعبادة بناءً على الإقتضاء لا يقتضي سقوط المصلحة وانقلابها إلى المبغوضية كما عرفت؛ لأن النهي المتعلق بالعبادة نهيٌ غيري ولم يتعلق بذات العبادة.

وكيف كان؛ فالإعتراضان الواردان على ثمرة القول بالإقتضاء لم يكونا تامّين، وما قيل في مناقشتهما والمطارحات التي ذكرت لا تخلو من نقاش، وما ذكروه من الثمرة أيضاً لا يمكن الإلتزام به؛ فإنهم قالوا بأنه بناءً على الإقتضاء في الفرع الأول -وهو ما إذا كانت العبادة المزاحمة واجباً موسعاً- تكون العبادة فاسدة, وعلى العدم تكون صحيحة لوجود الأمر بها في عرض الضد الآخر. وكذلك في الفرع الثاني فيما إذا كانت واجباً مضيقاً فإنه بناءً على الإقتصاء تكون فاسدة، وبناءً على العدم تكون صحيحة بناءً على إمكان الترتب كما سيأتي الحديث عنه. ولكن عرفت آنفاً بأنه بناءً على الإقتضاء يمكن تصحيح العبادة المزاحمة سواءً كانت واجباً موسعاً أو مضيقاً, لأنّ النهي المتعلق بها غيريٌ بالمعنى الذي ذكرناه وهو الذي لم يتعلق بذات العبادة، فإنه قد تعلق بترك الأهم, وحيث إنّ المهم يلازم خارجاً ترك الأهم أصبح مورد النهي بالعرض لا بالذات، فلا ثمرة مهمة تترتب على هذا البحث.

ص: 39

وعليه؛ لا حاجة إلى ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) في صياغة ثمرة القول بالإقتضاء بنحو أوسع ليكون بطلان العبادة المزاحمة أحد مظاهرها. فإنه ذكر بأنه بناءً على الإقتضاء يدخل الخطابان بالضدين في باب التعارض؛ لأنّ الأمربالأهم منها يقتضي النهي عن الآخر فيعارض الآخر به. وبناءً على عدمه والقول بإمكان الترتب يدخلان في باب التزاحم بينهما في مقام الإمتثال. ومن نتائج هذا؛ إنه على القول بالتعارض يُحكم بفساد العبادة باعتبار عدم ما يحرز به الملاك عادة، وهو بخلافه على القول بعدم الإقتضاء.

فإنه ممنوع صغرى وكبرى لأنه؛

أولاً: يرجع إلى عدم وجود المقتضي للصحة لا لأجل المانع، وقد تقدم بطلان ذلك.

ثانياً: إنه تقدم إمكان إحراز الملاك على ما بيناه، فلا موضوع للتعارض كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

ص: 40


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص328.

الفصل الرابع في الترتُّب

اشارة

الترتُّب(1)

من ملحقات مسألة الضد بحث الترتب، حيث ذكرنا سابقاً أنه يمكن تصحيح العبادة المزاحمة بالضد الأهم بنحو الترتب.

والبحث عنه يقع في جوانب متعددة:

الجانب الأول: الترتب عبارة عن تصور أمرين فعليين بالضدين الأهم والمهم في آن واحد، وهو آنٌ قبل الإتيان بالمهم وصلاحية كل واحد منها للداعوية؛ فيصحّ إتيان كل منهما فعلاً بداعي الأمر الفعلي. ويتحقق الإمتثال حينئذٍ كما في سائر الموارد التي يمتثل الأمر فيها مع عدم تزاحم في البين.

ومن أجل ذلك يكون النزاع في إمكان الترتب في مقام الإمتثال وقدرة المكلف فقط لا في مقام الجعل والثبوت, إذ لا إشكال من أحد في صحة جعل المتزاحمين خطاباً وملاكاً؛ فمن يثبت قدرة المكلف على الإمتثال يقول بوقوع الترتب لا محالة, ولكنه لا بد أن يعترف بالإمتناع مع عدم القدرة, ومن يثبت عدم القدرة على الإمتثال لا مناص له إلا القول بالامتناع، ولكنه يعترف بالوقوع مع القدرة.ومنه يظهر بطلان ما ذكره السيد الصدر قدس سره من إدخال المقام في بحث التعارض لا التزاحم في مقام الإمتثال. ويأتي مزيد بيان فيه.

ولم يكن لبحث الترتب في كلمات القدماء عين ولا أثر، وقد جاء في كلمات متأخري المتأخرين. وكانت المسألة نظرية بحتة، وكان الغالب على الكلمات هو الإمتناع كما عليه الشيخ الأنصاري والمحقق الخراساني (قدس سراهما)، ولكن المعروف فيما يقرب من عصرنا الجواز, وقد ألّفوا فيه رسائل متعددة.

ص: 41


1- . يمكن عدّ هذا الموضوع فصلاً رابعاً لمسألة الضد ولكنه من ملحقاتها.

الجانب الثاني: الخطابان سواءً كانا متعارضين أم لا؛ يتصوران على أنحاء مختلفة يأتي التعرض لها في بحث التعارض. وموجز الكلام فيها هي:

1- أن لا يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر كخطاب: صلّ، وصم، وصلّ، ولا تصلّ.

2- أن يكون رافعاً لموضوع آخر يجعله؛ كما إذا أمره المولى بدخول العبد السوق، وإن دخل المسجد يسقط الحكم الأول ويجب عليه البقاء في المسجد.

3- مثل الحالة السابقة ولكنه رافع بفعلية مجهول الحكم الآخر؛ كما إذا نذر بفعل معين مقدور، ثم أصبح مرجوحاً، فإنه يرتفع حين وجوب الوفاء بالنذر؛ لأنّة من المعلوم أنّ وجوب الوفاء بالنذر مأخوذ فيه رجحان متعلقه والقدرة عليه، ومثلُه وجوب الوفاء بالشرط.

4- أن يكون كذلك رافعاً بوصوله وانكشافه بالحكم الآخر كما إذا جعل الغاية في الأصول العملية هي الإنكشاف والعلم الوجداني فإنها ترتفع بوصول الحكم الواقعي لا بوجوده واقعاً.

5- أن يكون أحد الحكمين رافعاً للآخر بتنجّزه, كما إذا اعتبرنا أنّ الغاية في الأصول العملية هي المنجزية؛ فإنه حينئذٍ يكون الحكم الواقعي المنجز ولو بغير العلم الوجداني رافعاً لها أو وارداً عليها.

6- أن يكون الحكم بامتثاله رافعاً للآخر كما في التكليف بالكفارات، فإنه بامتثال الأمر بالصوم وعدم الإفطار يرتفع وجوب الكفارة.

وقد يقال بالترتب على القول به في المقام وهو تزاحم الواجبين كالإزالة والصلاة، ويكون من القسم الأخير, إذ بامتثال الأهم يكون هو الرافع للأمر بالمهم لا جعله ولا فعلية مجعوله ولا وصوله ولا تنجزه.

ص: 42

وأما إذا قيل باستحالة الترتب فالتقييد بعدم الإمتثال لا يرفع محذور الإستحالة والإمتناع، بل لا بُدَّ من التقييد بعدم تنجز الأهم لا بعد وصوله أو بعدم فعليته, فإنه بهذا المقدار من التقيد يرتفع محذور الإمتناع من البين, لأنّ جعل الأمر بالمهم مقيداً بعدم تنجّز الأهم غير ممتنع بل هو معقول, فيكون إطلاق خطاب المهم لحال عدم تنجّز الأهم غير ساقط، فيكون المتزاحمان من القسم الخامس بناءً على هذا المسلك.وقد فصل السيد الصدر قدس سره (1) في المقام بتفسيره الباعثية والمحركية التي هي الداعي وراء التكاليف والتي على أساسها لا تشمل التكاليف غير المقدورة، ولكنه تفصيل لا مبرر له؛

أما أولاً: فلما ذكرناه مكرراً من أنّ الداعي في التكاليف إنما هو تثبيت العبودية وتحصيل

التقرب لا للباعثية والمحركية, وقد يكون ما ذكرناه أدعى في التحريك مِمّا ذكروه كما هو واضح.

وأما ثانياً: فإنّ المحركية والباعثية على فرض قبولها إنما تكفي في التكليف على نحو الإنبعاث العقلي إذا كان التكليف غير مبتلى بالمزاحم، وعلى تقدير المزاحمة يكون الإنبعاث الإقتضائي وتتحقق الفعلية باختيار المكلف على نحو الترتيب. كما سياتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وأما ثالثاً: فلإنّ التكليف بداعي الإنبعاث يكون على تقدير الإنقياد والوصول والتنجّز.

الجانب الثالث: ذكر الأصوليون في وقوع الترتب وصحته شروطاً إذا اجتمعت صحّ الترتب ووقع، وإلا؛ فإن اختل واحد منها فلا يبقى موضوع للصحة فضلاً عن الوقوع, وهي:

شروط الترتیب

الشرط الأول: وجود الملاك في كل واحد من المتزاحمين ثبوتاً وتمامية الحجة على كل واحد منها إثباتاً؛ فلا بد أن يتم المقتضي لكل واحد من الحكمين. والبحث يقع في المانع في فرض تحققه، وهو ينحصر -كما تقدم- بمرحلة قدرة المكلف على الإمتثال, وهذا الشرط متفق عليه عند القائلين بالترتب والمجوزين له فهو مورد إجماعهم.

ص: 43


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص333 وما بعدها.

الشرط الثاني: كون الأهم مضيقاً سواء كان المهم كذلك أم لا، وسواء كان التضيُّق من جهة الملاك الذاتي كإنقاذ الغريق, أو من جهة فورية الخطاب كإزالة النجاسة عن المسجد.

ولعل الوجه في اعتبار هذا الشرط هو؛ إنه لو لم يكن الأهم مضيقاً وكان موسعاً لما كان تزاحمٌ في البين لقدرة المكلف على الجمع بين الإمتثالين، فلا تصل النوبة إلى الترتب كما هو معلوم.

الشرط الثالث: كون الضدين مِمّا لهما ثالث, ولا يكون فعل أحدهما في ظرف ترك الآخر من الأمور التكوينية, فيكون الأمر به حينئذٍ من الشارع إرشاديا لا مولوياً. ومورد البحث في الترتب هو اجتماع الأمرين المولويين في آن واحد.

الشرط الرابع: إنحصار مورد البحث بمرحلة قدرة المكلف فقط من دون أن يكون هناك مانع آخر من موانع التكليف, لأنه لا موضوعَ للخطاب مع وجودمانع عنه في البين، فلا يفرض اجتماع الخطابين في آن واحد حتى يتحقق موضوع الترتب.

الشرط الخامس: كون الأهم والمهم متعددين وجوداً كما هو ظاهر كلماتهم، فيخرج بحث تداخل الأغسال واجتماع الأمر والنهي -بناء على الجواز- من مورد الترتب لفرض اتحاد الوجود في متعلق الخطاب فيها.

الشرط السادس: إمكان فرض إطلاق خطاب الأهم وتقيّد خطاب المهم بترك الأهم؛ وإلا فمع فرض بقاء إطلاق الخطابين من كل جهة فإنه مِمّا لم يقل أحد بجوازه.

الجانب الرابع: إستُدل للقول بامكان الترتب بما يلي:

الدليل الأول: ما ثبت في الفقه في جملة من الموارد التي تدل على الترتب؛

منها؛ عدم سقوط الأمر بالصلاة الرباعية فيما إذا وجب على المكلف أن يسافر بنذر أو غيره وقد عصى ذلك, فإنه في مثل ذلك؛ إما أن يقال بسقوط الصلاة رأساً، أو بثبوت صلاةٍ ثنائية في حقه، أو بثبوت صلاة رباعية عند عدم السفر.

ص: 44

والأوّلان خلافُ الضرورة الفقهية، والثالث إنما يصحّ بناءً على الترتب.

الدليل الثاني: ما إذا كان الوجوب للإقامة ولكن المكلف سافر، فلا إشكال في وجوب الصلاة الثنائية عليه لو سافر على تقدير عدم الإقامة وهو الترتب.

ومنها؛ ما إذا وجب السفر في شهر رمضان ولم يسافر فلا إشكال في عدم سقوط الصوم عنه، وهو من الترتب أيضاً, ومثل ذلك في الفقه كثير.

وأُشكل عليه بوجوه:

1- إنّ تلك الفروع الفقهية أجنبية عن الترتب؛ لأنّ من شروط الترتب هو تعدّد وجود كل من الخطابين لا أن يكون أحدهما موجباً لرفع موضوع الآخر فيكون حكماً واحداً.

والأمثلة المذكورة لا تكون إلا من قبيل ذلك؛ ففي مثال الصلاة الرباعية فهي وإن كانت مقيدة بالحضر وعدم السفر إلا أنّ ذلك ليس من شرائط الوجوب بحسب الفرض, فلا يكون تحت الطلب كي يكون الأمر به مطارداً مع الأمر بالسفر ومقتضياً لتحرك المكلف باتجاه معاكس مع ما يقتضيه الأمر بالسفر كما كان في موارد الترتب.

2- إنّ الضرورة الفقهية إنما تدل في الفروع الفقهية المذكورة على عصيان المكلف إذا ترك الصلاة الرباعية في الأول، والثنائية في الثاني، والصوم في الثالث، ولكنها لا تدل على تخريج ذلك من أنها على أساس الأمر الترتبي؛ فلو أقمنا الدليل على استحالة الترتب فلا بُدَّ من صياغة وجه ثبوتي آخر غير الضرورة الفقهية.

وقد ذُكر له وجهان:أحدهما؛ أن يكون هناك أمران عرضيان أحدهما يتعلق بالسفر والآخر بالجامع بين السفر والصلاة الرباعية في الحضر, أو الثنائية في السفر أو الصوم في الحضر.

ص: 45

وتصوير وجود الأمرين بحيث يتعلق أحدهما بالجامع تخيراً والآخر بالفرد تعيناً ممكنٌ؛ فيكون تارك السفر والصلاة معاً معاقباً بعقابين لا محالة، لأنه ترك مطلوبين مقدورين له.

والذي ألجأهم إلى هذا الوجه الذي يتعدد فيه الأمر هو الفرار من محذور طلب الضدين غير المقدور للمكلف.

والآخر؛ تحريم الجامع بين التركين؛ ترك السفر وترك الصلاة الرباعية, ويكفي في قُربية العمل حينئذٍ قصد التخلص من الحرام إذا كان متوقفاً عليه؛ نظير الوضوء لأجل مس المصحف, فيكون الفعل قُربياً بهذا الإعتبار، فيكون تارك السفر والصلاة معاً معاقباً بعقابين؛ تركه للواجب، وفعله للحرام.

1- القول بأن السفر والحضر قيدان في الواجب، وأما الوجوب فهو مطلق قد تعلّق بالجامع بين الرباعية الحضرية والثنائية السفرية؛ فلا ترتب أصلاً في البين، وإنما هناك أمران من أول الأمر بالسفر وبالجامع المذكور، ولا ترتب لعدم التضاد بين متعلقيهما؛ إذ السفر يمكن أن يجتمع مع الجامع المذكور كما هو واضح. ولكن هذا المسلك غير متعيّن، بل هناك مسلك آخر يذهب إلى أن السفر والحضر من شرائط التكليف بالرباعية أو القصر، ويأتي هنا الإشكال المعروف من أنه إذا كان المكلف حاضراً أول الوقت مسافراً آخره؛ فإن كان شرط التكليف بالرباعية أن يكون المكلف حاضراً في تمام الوقت لزم عدم تكليفه في المثال المذكور، مع أنه لو صلى قبل سفره كان مؤدياً للواجب. ولو فرض أنّ الشرط هو الحضر ولو في أول الوقت لزم القول بوجوب الرباعية عليه قبل السفر وكونه عاصياً فيما إذا سافر من دون الصلاة، وهو مِمّا لم يلتزم به أحد.

ص: 46

وأجيب عنه في الفقه بوجوه:منها؛ إفتراض تقييدٍ زائد في دليل التكليف وشرطه، هو شرط الحضور في أول الوقت مضافاً إلى شرط آخر وهو أن لا يسافر بعد ذلك سفراً غير مسبوق بالصلاة الرباعية.

ومن الأدلة على امكان الترتب ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) نقلاً عن بعض؛ وهو أنّ الأمر بالمهم في مرتبة متأخرة عن الأمر بالأهم ليس من الأمر بالضدين، وذلك لأنّ الأمر بالمهم مترتب على ترك الأهم، وهذا الأخيرفي رتبة فعل الأهم؛ لأنّ النقيضين في رتبة واحدة, ومن المعلوم أنّ فعل الأهم متأخر عن الأمر بالأهم واقتضاءه لأنه معلول له, فيكون الأمر بالمهم واقتضاءه لفعل المهم متأخراً عن الأمر بالأهم واقتضاءه، فلا محذور.

وأورد عليه بإيرادات أهمها:

أولاً: النقض بما إذا قيدنا الأمر بالمهم بامتثال الأهم لا بعصيانه فإنه سوف تكون رتبة الأمر بالمهم متأخرة عن رتبة الأمر بالأهم، مع إنه لا إشكال في استحالته حتى عند القائل بإمكان الترتب.

ولكن هذا النقض مدفوعٌ بأنه على تقدير إتيان الأهم يكون فعل المهم غير مقدور في نفسه؛ إذ الضد المقيد بوجود الضد الآخر ممتنع في نفسه، فيكون الأمر به أمراً بالممتنع في نفسه لا أن يكون الأمر بالضد المقدور في نفسه.

ثانياً: إنّ مشكلة المنافاة والتضاد في اجتماع المتضادين تكون في اجتماعهما في زمان واحد لا في رتبة واحدة، لأنها من شؤون وجود الضدين في الزمان. وقد تقدم بأنّ استحالة اجتماع الضدين لا ترتفع حتى لو فرضت الطولية بينهما، كما لو كان أحدهما علة للآخر؛ ففي

ص: 47


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص233.

المقام؛ إجتماع اقتضاء الأمرين بالضدين في زمان واحد -وهو مستحيل- لو كان في رتبتين فإنّ ملاك الإستحالة هو المعية في الزمان لا في الرتبة، وعليه؛ فإنّ غاية ما يثبت بهذا التقريب هو عدم المعية في الرتبة.

ثالثاً: إنّ التضاد بين الأمرين إنما نشأ من التضادين بين متعلقيهما؛ أي الصلاة والإزالة كما هو في المثال المعروف، فتعدّد الرتبة بين نفس الأمرين لا يدفع مشكلة الأمر بالضدين؛ لأنّ التضاد بين الأمرين عرضي ولا بد من علاج التضاد الذاتي بين المتعلقين ورفع التضاد بينهما، فإن قلنا بمبدأ كون النقيضين في رتبة واحدة؛ أمكن العلاج المذكور حيث يكون فعل المهم متأخراً عن الأمر به المتأخر عن ترك الأهم الذي هو في رتبة فعل الأهم فيتأخر المهم عن الأهم الذي هو في رتبة فعل الأهم، فيتأخر المهم عن الأهم وأما إذا أُنكر هذا القانون فسوف تبقى المضادة والممانعة بين المتعلقين على حالها فيكون الأمر بهما -ولو في رتبتين- أمراً بالضدين.

الدليل الثالث: إنّ الأمر بالمهم معلولٌ لعصيان الأهم, وسقوط الأهم أيضاً معلول لعصيان الأهم, أو انتفاء الموضوع وعدم الإمتثال ولو بنحو الشرط المتأخر, لأنّ العصيان كالإمتثال سببٌ للسقوط. فالأمر بالمهم مع سقوط الأهم من رتبة واحدة؛ لأنهما معلولان لشيء واحد, وهو يعني أنه في رتبة الأمر بالمهم لا الأمر بالأهم حتى يقتضي الإمتثال، فلا يتنافى الأمران.

وهذا الوجه يختلف عن سابقه في أنه لم يتوقف على قانون أنّ النقيضين في رتبة واحدة؛ حيث لم يكن ينطلق من أنّ الأمر بالمهم متأخر عن ترك الأهم فيكونمتأخراً عن نفس الأهم والأمر به، بل انطلق من أنّ مرتبة الأمر بالمهم من رتبة سقوط الأمر بالأهم لكونهما معلولين لشيء واحد.

ص: 48

ولكن يرد عليه ما ورد على سابقه من أنّ مشكلة اجتماع الضدين أو الأمر بالضدين لا ترتفع بتعدد الرتبة, لأنّ الإستحالة تكون في المعية الزمانية ولا ينفع عدم المعية في الرتبة لدفع المحذور.

مع أنه لو كان الإختلاف في الرتبة مقيداً فلا بد من تصويره في المتعلقين لا بين الأمرين.

الدليل الرابع: إنّ الأمر بالمهم باعتباره مترتباً على عصيان الأمر بالأهم المترتب على الأمر بالأهم فلا تُعقل مانعيته عنه ومزاحمته له؛ إذ أنّ الذي يكون وجوده في طول شيء آخر يستحيل أن يكون مانعاً عنه ورافعاً له, لأنّ مانعية المعدوم مستحيلة, وعليه فلا يمكن أن يكون الأمر بالمهم مزاحماً للأمر بالأهم, وهو يعني عدم التضاد والمانعية بينهما, ومعه لاوجه لفرض المزاحمة من قبل الأمر بالأهم أيضاً, لأنّ ملاك التضاد والمطاردة هو ما إذا كانت من الطرفين وإلا فلا مطاردة حتى من طرف الأهم للمهم.

وأورد عليه؛ بأنّ هذا الوجه يبتني على أنّ المطاردة والممانعة بين الضدين من جهة المقدمية, وكون كل منهما مانعاً عن الآخر, فتكون استحالة اجتماعهما استحالة بالغير كما عرفت، لأنه يلزم منه وجود المعلول مع عدم علته فيدفع بإقامة البرهان على عدم المانعية في المقام باعتبار الطولية, وقد عرفت فيما سبق أنّ استحالة اجتماع الضدين ليست استحالة بالغير بل استحالة بالذات.

والحق؛ أن يقال أنّ ما ذكروه في وجه إمكان الترتب وصحته، وما قيل في مناقشة تلك الوجوه على فرض تماميتها هي وجوه عقلية بحيث أبعدت هذا الموضوع عن الإعتبار العقلي، والإعتبار العرفي، بل حتى عن الإستظهارات الأصولية الصناعية.

أما بحسب الدليل العقلي؛ فإنّ المقتضي للجواز والصحة هو الملاك والخطاب وهو متحقق، والمانع مفقود فلا بد من وقوعه حينئذٍ, وما يتوهم من المانعية مِمّا ذكرناه سابقاً. وستأتي الإشارة إليها في أدلة المانعين من أنه غير تام.

ص: 49

وأما بحسب الإستظهار الأصولي؛ فإنه لا ريب في الإمتناع إذا كان الخطابان عرضيين من كل جهة، وأما إذا كانا طوليين؛ أي فيما إذا كان خطاب المهم مشروطاً بترك الأهم ومترتباً عليه ولو عصياناً فلا استحالة ولا امتناع حينئذٍ.

ومع فرض وجود القدرة الطولية وجداناً, فإذا قال المولى: (أزل النجاسة عن المسجد، وصلّ, وإن تركت الأول عصياناً فلا تترك الثاني) بجعل الجملة الأخيرة بياناً لكيفية صدور الأمرين؛ فلا يتبلور الإمتناع حينئذٍ. نعم؛ لو كانت الجملة الأخيرة من قبيل الشروط في التكليف فقد خرج المثال عن موضوع الترتب.وأما بحسب الإستظهار العرفي فإنّ وقوع الأوامر ترتيبية في المحاورات العرفية كثيرٌ ومتعدد، وهو أصدق شاهد على الصحة وعدم الإمتناع؛ كما إذا قال المولى: (أسقني الماء، وافرش سجادتي) فإنه مبني على الترتب. ولو قال المولى: (وإن عصيتني في الأول فلا تعصني في الثاني) هو بيان للترتيب بالنظر العرفي دون أن يكون هناك شرط في الخطاب حتى يخرج عن موضوع البحث الذي نحن فيه؛ وهو مِمّا إذا لم يكن هنا شرط لفظي في البين، لأننا ذكرنا في شروط الترتب أن يكون هناك إطلاق لدليل الأهم وخطابه بخلاف خطاب المهم الذي هو مشروط بترك الأهم ولو عصياناً.

فلا فرق بين الشرط اللفظي والشرط الواقعي السياقي العقلي في حاق الواقع صوناً للكلام عن القبح واللغوية. لأنّ المدار في جميع تلك الأمور هو إمكان التصرفات العرفية المحاورية، فلا بد من التصحيح بكل وجه أمكن قبوله بالنظر العرفي, بل العقلي ولو بالدقة العقلية إذا كان له وجه صحيح؛ لأنهم أخرجوا المسألة عن العرفيات وأدخلوها في الدقيات. ولعل العلماء أرادوا من تلك التخريجات التي سبق ذكرها هذا المعنى وإن لم تخلُ عن المناقشة كما عرفت.

ص: 50

ثم إنه لا ينقضي العجب من أن القائلين بامتناع الترتب أنهم يعترفون بوقوعه في العرفيات مع كون أدلة الشرعيات منزلة على العرفيات، وأنّ الدقيات العقلية هي بمعزل عن الشرعيات كما هو واضح.

الجانب الخامس: في الأدلة التي استدل بها جمعٌ على امتناع الترتب وهي متعددة:

أدلة القول بامتناع الترتب

الدليل الأول: إنّ الترتب من طلب الضدين الذي هو ممتنع وقبيح عقلاً فيكون محالاً بالنسبة إلى الشارع لاستحالة صدور المحال منه تعالى.

وفيه: إنّ الترتب طردُ طلبِ الضدين لا أن يكون جمعاً بينهما في الطلب، وقد تقدم بيانه من كون المهم مشروطاً بعصيان الأهم وتركه فكيف يكون طلباً للضدين.

وسيأتي بيان هذا الوجه تفصيلاً.

الدليل الثاني: إنّ القول بالترتب يستلزم تعليق وجوب المهم على إرادة المكلف واختياره؛ فيلزم خروج الواجب عن وجوبه, لأنه؛ إن اختار ترك الأهم وجب المهم, وإلا فلا يجب. يضاف إلى ذلك تعليق الواجب على العصيان مع أنه يستلزم تعدد العقاب عند تركهما معاً وهو بعيد عن ساحته عَزَّ وَجَلَّ.

ويرد عليه: إنّ تعليق الوجوب على الإختيار كثير في الفقه؛ كتعليق وجوب القضاء على ترك الأداء وعصيان أمره, وتعليق وجوب الكفارات على ارتكاب المحذورات في الصوم والإحرام, وغيرهما مِمّا هو كثير.وأما تعدد العقاب؛ فيمكن القول بفعلية عقاب الأهم وتداخل عقاب المهم فيه عند تركهما معاً، ولا محذور فيه من عقل أو نقل, فيكون منشأ استحقاق العقاب متعدداً نظراً إلى تعدد الخطاب حقيقة أو اعتباراً أو انحلالاً. ويظهر ذلك في الواجبات الكفائية، هذا بحسب القواعد. وأما بحسب التفضيلات الإلهية على عبيده فهي أمر خارج عن درك عقولنا.

ص: 51

الدليل الثالث: إستحالة الترتب باعتبار أنّ المترتب عليه هو الأمر بالمهم؛ الذي هو عصيان الأهم. وهذا لا يخلو؛ إما أن يؤخذ بنحو الشرط المتقدم أو بنحو المقارن أو بنحو المتأخر؛ فإذا كان من قبيل الأول فيلزم أن يكون الأمر بالمهم فعلياً في الزمان الثاني بعد زمان العصيان وترك الأهم, وهذا يوجب خروج البحث عن مفروض الكلام, لأنه ليس من الترتب المبحوث فيه عن إمكانه واستحالته، إذ المقصود منه هو اجتماع الأمرين في زمان واحد لا أن يكون فعلية أحدهما في زمن متأخر عن زمان فعلية الأول, مع أنّ موضوع البحث هو وقوع التزاحم بين واجبين مضيَّقين متضادين في الزمان الواحد.

وإذا كان من قبيل الشرط المقارن فهو غير ممكن لاستلزامه أن يكون الأمر بالمهم مقارناً زماناً مع زمان عصيان الأهم؛ الذي هو زمان امتثال المهم فيكون الأمر بالمهم معاصراً مع امتثاله، وهو غير ممكن، بل لا بُدَّ من تقديم الأمر الباعث على الإمتثال والإنبعاث.

وإذا كان من قبيل الشرط المتأخر فهو يستلزم إمكان الشرط المتأخر والواجب المعلق بأن يكون الأمر بالمهم متقدماً زماناً على عصيان الأهم الذي هو زمان امتثال المهم، فيكون كلٌّ من الشرط والواجب في الأمر بالمهم متأخراً عنه وهو مستحيل.

ويمكن الجواب عن جميع ذلك بما يلي:

أولاً: ما ذكرناه آنفاً من أنّ هذا الشرط يرجع إلى تقيد إطلاق الواجب المهم، وليس فيه اشتراطٌ حتى تُتصور فيه هذه الوجوه.

ثانياً: النقض بسائر التكاليف فأنها تثبت أول أزمنة الإمكان؛ فلو التزم بها فسوف يتقدم الأمر على الإمتثال، فما يقال في تلك الأوامر التي يلتزم فيها بتقدم الأمر على الإمتثال زماناً أنّ زمان الواجب يكون فيها متأخراً ولو آناً مّا بنحو الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر؛ حيث إنّ القدرة على الواجب في ظرفه شرط للتكليف المتقدم في كل واجب معلّق نقول به في المقام.

ص: 52

ثالثاً: إنّ القولَ بالإحتمال الثالث وهو الشرط المتأخر، والقول بالإحتمال الثاني وهو الشرط المقارن تهافتٌ؛ فإنّ القول بلزوم تقدم الأمر على الإمتثال زماناً يستلزم القول بالشرط المتأخر والواجب المعلق في الواجبات.رابعاً: إنه لا موجب للقول بلزوم انفكاك الأمر عن الإمتثال, فإنّ كل ما قيل في وجه ذلك مردود؛ مثل قول المحقق الخراساني(1) من أن الأمر يكون من أجل جعل الداعي في نفس المكلف على الإمتثال، وهو موقوف على حصول مباديه من التصور والتصديق بالفائدة والجزم، وهي أمور زمانية لا بد من تحققها من سبق زمان فلا بد من تأخّر الأمر عن تحقق الداعي لامتثاله.

وفيه: إنّ هذه المبادئ مجردة عن الزمان وجداناً ولا تتوقف على وجود الأمر وفعليته، بل يمكن تماميتها قبل فعليته كما هو واضح.

أو مثل قول المحقق النائيني قدس سره (2) من أنّ الأمر لا بد من تقدمه زماناً على زمان حصول الإمتثال، وألا لزم؛ إما تحصيل الحاصل إذا كان الطلب في زمان وجود الإمتثال المحقق, أو طلب المستحيل إذا كان الإمتثال في زمان الأمر معدوماً.

وكل هذا مردود بأنّ ثبوت الأمر في زمان وجود الإمتثال ليس طلباً للحاصل، بل لشيء غير حاصل بقطع النظر عن هذا التحصيل؛ فطلب الحاصل أو الممتنع هو ذلك الطلب الذي يكون المطلوب فيه حاصلاً أو ممتنعاً بقطع النظر عن ذلك التحصيل، نظير العلل التكوينية وإن كان من أجل كون الإمتثال علة لسقوط الأمر والطلب؛ فيستحيل أن يكون الأمر ثابتاً في زمن الإمتثال وإلا لاجتمع ثبوته مع سقوطه وهو تهافت، فلا بد من تقدم

ص: 53


1- . کفاية الأصول (مشكيني)؛ ج 1 ص 163- 164.
2- . فوائد الأصول؛ ج1 ص203 وما بعدها.

الطلب على الإمتثال زماناً؛ فإنّ فيه من الإمتثال ما لم يكن موجباً لسقوط الأمر في الإمتثال، بل في طوله.

وإن كان من أجل كون الطلب علة لوقوع الإمتثال فلا بد وأن يكون متقدما عليه.

فإنه يرد عليه: أنه يلزم منه التقدم في الرتبة لا في الزمان.

والحق؛ أنّ جميع ذلك غير تام في نفسه؛ فإنّ الأمر والإمتثال من عالمين مختلفين؛ فالأول من الإعتبار، والثاني من الأعراض فلا يكون أحدهما علة للآخر.

ثم إنّ بعض العلماء(1) حاول التخلص من الإشكال بالقول بعدم انحصار تخريج القول بالترتب في أخذ العصيان شرطاً، بل يمكن أخذ العزم على العصيان شرطاً فتكون شرطيته بنحو الشرط المقارن معقولاً لا محالة.

ولكن يرد عليه: بأنّ العزم والنية طريق إلى العصيان خارجاً وليست له موضوعية خاصة، مضافاً إلى أنه يستلزم منه محذور آخر سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.الدليل الرابع: إنه بناءً على ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره (2) من استحالة الإطلاق إذا استحال التقييد لكون التقابل بينهما بالعدم والملكة يمكن القول باستحالة الترتب أيضاً.

وذلك إما من إجل أن إطلاق الأمر بالمهم لحالتي عصيان الأمر بالأهم وامتثاله مستحيل؛ إذ يلزم منه طلب الضدين في عرض واحد فيكون تقييده بعصيان الأهم أيضاً مستحيلاً, كما عرفت من أنّ التقابل بينهما بالعدم والملكة.

وفيه: النقض بالتكاليف كلها؛ فإنه لا يمكن إطلاقها للعاجز، لعدم تحقق الغرض وهو جعل الداعي فيلزم منه استحالة تقييدها بالقدرة أيضاً لكون التقييد فيها المقابل للإطلاق من العدم والملكة.

ص: 54


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص344.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص520.

مع أنه قد تقدم في بحث الإطلاق والتقييد أنّ هذه المقالة مورد بحث ونظر؛ فقد يقال بأنّ استحالة التقييد هي التي توجب استحالة الإطلاق دون العكس وقد تقدم بيانه. وعليه فإنّ استحالة الإطلاق لا تصّح في إثبات استحالة الأهم بالمهم مقيداً بعصيان الأهم. وأما من أجل كون تقييد الأمر بالمهم بحالة امتثال الأهم المستحيل فلأنه تكليف بغير المقدور فيكون الإطلاق بمعنى رفض هذا التقييد الذي يستتبع شمول الأمر بالمهم بحالة عدم امتثال الأهم أيضاً مستحيلاً, لأنه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق فيستحيل الترتب الذي فيه إثبات الأمر المهم في حال عدم امتثال الأهم.

ويرد عليه: بالنقض بسائر التكاليف أيضاً؛ لإنها يستحيل تقييدها بحالة العاجز، فلا بد أن يكون إطلاقها المستلزم لثبوتها في حق القادر مستحيلاً أيضاً. مع أنّ المورد ليس من تقابل العدم والملكة؛ إذ التقابل فيه من تقابل الضدين والتقييدين فلا يلزم من استحالة أحدهما إستحالة الآخر.

الدليل الخامس: ذكرنا أنّ الأمر بالمهم المعلّق على عصيان الأهم إما أن يؤخذ عصيان الأهم بالنسبة إليه شرطاً متقدماً أو متأخراً؛ وقد عرفت ما يتعلق بهما من المحاذير، وأنّ أخذه شرطاً مقارناً يلزم منه عدم اجتماع الأمرين الترتُّبِيَين في زمان واحد, لأنّ ظرف عصيان الأهم هو ظرف سقوطه، فالعصيان علة لسقوط الخطاب, والعلة والمعلول متعاصران زماناً, فيكون ثبوت الأمر بالمهم فعلياً في ظرف لا يكون الأمر بالمهم فعلياً فيه, وهو خارج عن كلام القائل بالترتب لأنه يقول بقصور الأمرين الفعليين بالضدين في زمان واحد بنحو الترتب.

وأورد عليه: بأنّ سقوط الأمر هنا ليس سببه العصيان وإنما العجز عن امتثال التكليف, وإنّ ظرف العصيان ليس ظرف العجز لأنّ العصيان ندٌّ للإمتثال، وهو يعني أنّ إعمال

ص: 55

القدرة في الترك وظرف إعمال القدرة هو ظرف القدرة فيستحيلأن يكون ظرف العصيان هو ظرف العجز لاستحالة اجتماع الضدين في زمان واحد ولو في رتبتين؛ ففي ظرف العصيان يكون الأمر باقياً وغير ساقط. وإنما يسقط بعد العجز الحاصل في طول العصيان زماناً, وهكذا الأمر في الإمتثال.

وحاول البعض(1) التخلص من هذا الإشكال وسابقه بأخذ العزم على العصيان وعدم العزم على الإمتثال شرطاً في فعلية الأمر بالمهم فيكون من الشرط المقارن أو المتقدم.

ولكن علّق عليه المحققان الإصفهاني والنائيني (قدس سراهما):

أما المحقق الإصفهاني قدس سره (2) فقد ذكر ما حاصله: إنّ أخذ العزم على العصيان شرطاً في فعلية الأمر بالمهم يؤدي إلى الواجب المعلّق، لأنّ زمان الواجب المهم هو نفس زمان العصيان المتأخر بحسب الفرض عن زمان العزم على العصيان, فإذا كان زمان العزم هو زمان الأمر بالمهم كان من الواجب المعلق لا محالة، وإن فُرض أنّ زمانه زمان العصيان المتأخر عن زمان العزم كان فيه محذور الشرط المتقدم، لأنّ العزم متقدم زماناً على الواجب المشروط، وإن فُرض أن زمان الواجب متخلل بين زمان العزم وزمان العصيان لزم المحذوران معاً.

والحق أنّ ما ذكره قدس سره يبتني على التدقيقات العقلية المغروسة في ذهنه، ولكنه إن رجع إلى حقيقة النية والعزم عند الإنسان يجد أنّ العزم مجردٌ عن الزمان، وهو معاصر للفعل أو العصيان؛ مع أنّ إطلاق العزم لم يؤخذ في الشرطية، إذ المأخوذ هو العزم الثابت، بل يكون هو إرادة الإنسان فلا يبقى وجه لأخذ إطلاق العزم، فالعزم على العصيان؛ إن أُخذ شرطاً

ص: 56


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص349.
2- . نهاية الدراية؛ ج1 ص233.

فيكون العزم ثابتاً, وإن أُخذ مطلق العزم على العصيان شرطاً كان التكليف بالمهم فعلياً حتى مع البداء وتبدل العزم فيلزم المطاردة بين الأمرين بالضدين.

ويضاف إلى ذلك كلِّه أنّ العزم لا موضوعية له وإنما هو طريق إلى الخارج كما عرفت فما ذكره قدس سره من مجرد الفرض والتقدير.

أما ما علّقه المحقق النائيني قدس سره (1) فدعوى رجوع محذور المصادمة والمطاردة بين الأمرين بالضدين على تقدير أخذ العزم على المعصية شرطاً للأمر بالمهم، حيث أفاد أنّ النكتة التي بها تعقلنا إمكان الترتب تقتضي أن يكون المترتب عليه الأمر بالمهم هو عصيان الأهم ولا تكفي شرطية العزم على العصيان في دفع المحذور، فإنّ تلك النكتة هي أن يكون ما يترتب عليه الأمر بالمهم مِمّا يقتضي الأمر بالأهم هدمه أولاً وبالذات، فإنه على هذا سوف ترتفع غائلة المطاردة بينالأمرين. ومن الواضح أنّ الأمر بالأهم يقتضي بذاته هدم عصيان الأهم وتركه لا العزم على عصيانه، فلو عزم على العصيان ولكنه لم يعص وصدر منه الأهم لم يكن الأمر بالمهم فعلياً.

ويمكن التعليق عليه: بأنه إن رجع إلى ما ذكرناه من أنّ العزم لا موضوعية له بل هو طريق إلى ما هو المتحقق في الخارج فهو حق, وإلا فإنّ كلامه لا يخلو عن نقاش.

وعلَّقَ السيد الخوئي قدس سره (2) عليه: بأنّ ما ذكره غير تام في الواجبات العبادية التي يكون الداعي والعزم فيها مأخوذاً في الواجب، بل حتى الواجبات التوصلية فيما إذا كان التكليف فيها يقتضي تخصيص متعلقه بالحصة الإختيارية كما هو مسلك المحقق النائيني قدس سره .

ص: 57


1- . أجود التقريرات؛ ج 1، ص306.
2- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج3 ص150.

وفيه: إنّ أخذ العزم في الواجبات العبادية مجرداً عن الفعل لا اعتبار به، بل لا بُدَّ أن يترتب عليه الفعل وهو عام في كل فعل إختياري سواء كان عبادياً أم لا، ولذا لم يحكم أحد بأنّ النية مجردةً عن العمل تكون كافية في سقوط التكليف ويتحقق بها الإمتثال. وإليه أشار ما ورد عن الإمام السجاد علیه السلام : (..... وَلَا عَمَلَ إِلَّا بِالنِّيَّةِ)(1).

ولا أظنّ أنّ المحقق النائيني قد غفل عن ذلك كما علق عليه السيد الصدر قدس سره (2) : إنّ ما يقتضي الأمر بالأهم هدمه أولاً وبالذات ليس هو العصيان وترك الأهم وإنما هو العزم عليه, وعدم العزم على الإمتثال, لأنّ التكليف إنما يجعل من أجل أن يكون داعياً في نفس العبد, فيكون مقتضاه الأولي هو إيجاد الداعي والعزم في نفس العبد على الإمتثال، فهو يهدم العزم على العصيان وعدم العزم على الإمتثال أولاً وبالذات.

وفيه: إنّ ذلك صحيح إذا اعتبرنا العزم على الإمتثال شرطاً في الأعمال، ولكنه ليس كذلك. وقد ذكرنا أنّ الفرض المترتب على تشريع الأحكام ليس مجرد إيجاد البعث والإنبعاث في نفس المكلف حتى يكون متنافياً مع العزم على العصيان كما ذكره, وإنما هو إظهار المعبود لحقه العظيم على العبادة لإظهارهم العبودية له والطاعة لخالقهم. ولا ريب أنّ هذا المبدأ العام إنما يتحقق في تمامية الإستعدادت والقابليات ودفع الموانع والمحاذير التي فيها سلامة النوايا والإبتعاد عن مظاهر غضبه.

والحق ما ذكرناه من أنّ العزم على العصيان مجرداً عن نفس العصيان لا موضوعية له في الموضوع المبحوث عنه في المقام. ومنه يظهر أنّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره مبني على نكتة أن يكون الأمر بالمهم يقتضي الأمر بالأهم أولاً وبالذات برفعه وانهدامه، ولكن إذا

ص: 58


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج8 ص234.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص348.

كانت النكتة هي رفع التضاد والمنافرة بين الأمرين المتضادين بوجه عقلي مقبول لا ينافي ما يريده الشارع؛ وهو إسقاط الأمر بالأهم عن الفعلية وإبقاء فعلية الأمر بالمهم، وهو تحققه بالعزم المستتبع للترك لا مجردِّ العزم حتى لو تبدل بعد ذلك, ولعله لأجل ذلك تختلف الأفعال من هذه الجهة من حيث إمكان أخذ القصد بلا اختيار وغير ذلك.

ويكفي التصديق بما ذكرناه الوجدان في عدم اعتبار أخذ العزم على العصيان، بل المعتبر نفس العصيان وأنّ العزم طريق لا غير ولا موضوعية له.

الجانب السادس: ذكرنا ما يتعلق بإمكان الترتب وتحققه، وبقي من الأدلة والبراهين ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) لإثبات الأمرين بالضدين بنحو الترتب وهو يتوقف على خمس مقدمات وهي لا تخلو عن نقاش:

فالمقدمة الأولى؛ تتكفل لبيان إمكان الترتب واستحالة ما يترتب عليها، وقد تقدم بيان ذلك وذكرنا بأنه بناءً على إمكان الترتب ينتفي التعارض بين خطاب الأهم والمهم بتقييد خطاب المهم، وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره أنّ الأمر بالمهم لا يمكن انحفاظه مع فعلية الأمر بالأهم واشتغال المكلف بامتثاله, ولكن على القول بالترتب يرفع اليد عن خطاب المهم بمقدار قليل وهو ما إذا امتثل الأهم، وأما على القول باستحالة الترتب فيرفع اليد عن الخطاب المهم بمقدار أكثر، إذ لا بُدَّ من رفع اليد عن إطلاقه لفعلية الخطاب بالأهم وتنجزه ولو لم يشتغل به.

وكلامه وإن كان يوهم بانحفاظ إطلاق الخطابين وثبوت التعارض بينهما حتى على القول بالترتب مع أنه قد تقدم بأنه بناءً على الترتب لا يبقى أحد الخطابين على إطلاقه فيرتفع التعارض ولكن سيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

ص: 59


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص198- 200.

والمقدمة الثانية؛ تبيّن أن ثبوت الأمر بالمهم المشروط بعصيان الأهم لا ينافي الأمر بالأهم ولا يطارده، وقد تقدم البحث عنه أيضاً.

والمقدمة الثالثة؛ لدفع الشبهات التي ذكرناها آنفاً.

والمقدمة الرابعة؛ في إثبات أنّ الأمر بالأهم لا يطارده الأمر بالمهم.

والمقدمة الخامسة؛ في كيفية استخراج النتيجة من محتوى تلك المقدمات، وقد مهدت هذه المقدمات لدفع بعض الشبهات التي ترد على الترتب والتي تقدم ذكرها أيضاً.

والكلام يقع في بعض تلك المقدمات؛ أما المقدمة الأولى؛ فقد تقدم الكلام فيها.وأما المقدمة الثانية؛ فقد عنونها المحقق النائيني قدس سره بأن الواجب المشروط لا يخرج بتحقق شرطه عن كونه مشروطاً. والبحث عنها يقع من وجهين:

الوجه الأول: في بيان شرائط الحكم التي فُسّرت بتفسيرين:

أحدهما؛ القول بأنّ المراد من شرائط الحكم هي المؤثرات في إيجاد الحكم على حد تأثير الاسباب في المسببات, وقد اختلفوا أيضاً في توجيه ذلك؛ فمنهم من ذهب إلى أنّ الشرط سبب للحكم حقيقة على حدّ سببية النار للإحراق في الظواهر الطبيعية من دون دخل للجعل فيه.

ومنهم من ذهب إلى أنّ الشارع يجعل السببية بين الشرط والحكم فيكون الشرط في طول ذلك هو المسبب للحكم.

ومنهم من ذهب إلى أنّ الشرط بوجوده العلمي وبتشخيص المولى يكون شرطاً حقيقياً له في وجود الحكم.

والآخر؛ إنّ الشرائط ليست إلا عبارة عن الموضوع وظرف تحقق الحكم المأخوذ في القضايا الحقيقية وكونه مفروغ الوجود؛ فالمولى يوجه الحكم ويعتبره على ذلك الموضوع

ص: 60

المقدّر الوجود فلا يكون دور الشرط أكثر من دور الموضوع وكونه وعاءً لثبوت الحكم, وأما موجد الحكم وفاعله فهو الجاعل لاغير.

والحق؛ أنّ ما ذكروه مبني على اعتبار الحكم من الأعراض، وأما اذا قلنا بأنه من الإعتبار المحض فلا يصحّ ما ذكروه؛ فإنّ الإعتبار خفيف المؤنة ويكون بيد المعتبر يعتبره كيفما شاء وإن خالف بعض القوانين الطبيعية الجارية في الظواهر الطبيعية؛ فيعتبر المولى الحكمَ مع شرائطه. سواء كانت من المؤثرات أو الأسباب أو الموضوع وغير ذلك مِمّا ذكروه كما تقدم منا مكرراً. وكيف كان؛ فإنّ المحقق النائيني قدس سره يختار التفسير الثاني من هذين التفسيرين لحقيقة الحكم.

الوجه الثاني: إنه بناءً على التفسير الثاني لشرائط الحكم يتضح أنّ الأمر بالمهم لا ينافي الأمر بالأهم بخلاف التفسير الأول, وقد قُرِّب ذلك بعدة تقريبات يمكن القول بأنها لا تنافي عبارة المحقق قدس سره ، وتكون مراده. ونحن نذكرها وما يمكن أن يورد عليها:

التقريب الأول: القول بأنّ الشرط لو كان سبباً للحكم وعلة لثبوته على حدّ الأسباب الطبيعية لمسبباتها كان لا محالة حيثية تعليلية لثبوت الحكم على موضوعه الذي هو ذات المكلف, فلو أُخذ العصيان شرطاً لفعلية الأمر بالمهم كان حيثية تعليلية لثبوت الأمر بالمهم على ذات المكلف الذي هو موضوع للتكليف بالأهم في نفس الوقت؛ فيلزم اجتماع الضدين -أي الأمرين- في موضوع واحد وهو مستحيل. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الشرط موضوع للحكم يؤخذ مفروضالوجود فإنّ حيثية العصيان سوف تكون تقييدية فيتعدد موضوع الحكم والتكليف بالأهم والتكليف بالمهم.

ويورد على هذا التقريب: بأنّ تعدد عنوان الموضوع للأمرين وكون أحدهما ذات المكلف والآخر هو المكلف العاصي لا يدفع المحذور طالما ينطبق العنوانان على مكلف واحد الذي

ص: 61

يتوجه إليه التكليف بالضدين وهو مستحيل، فإنّ مشكلة الأمر بالضدين ليس من ناحية اجتماع الأمرين بالضدين في موضوع واحد نظير اجتماع الأمر والنهي حتى ترتفع هذه المشكلة بتعدد العنوان، فيكون كل واحد منها معروضاً لحكم معين, بل المشكلة تكمن في عدم إمكان الجمع بين الأمرين في الإمتثال؛ فيكون التكليف بغير المقدور لحصول المطاردة بين الأمرين والمزاحمة بينهما, وهذا المحذور لا يندفع بافتراض أنّ الشرط علة للحكم أو موضوعاً له.

التقريب الثاني: إنه بناءً على القول بأنّ الشروط أسباب ومؤثرات في إيجاد الحكم يكون المؤثر مقتضياً لإيجاد أثره ما دام موجوداً؛ فإذا وجد الأثر فعلياً ينتهي دور إيجاده، بخلاف ما إذا كانت الشرائط من مجرد الموضوع الذي يرتبط به الحكم, فوجود الموضوع لا يخرج المحمول عن ارتباطه وإناطته بذلك الموضوع المحمول عليه ذلك؛ فالبياض الذي موضوعه الجسم فإنه يوجد بوجود الجسم ولا يخرج عن الإرتباط والترتب عليه بل يظلّ منوطاً به.

وحينئذٍ نقول: إنّ عصيان الأهم إذا كان شرطاً بمعنى المؤثر في إيجاد الأمر بالمهم فيوجد هذا الأخير، ويخرج الواجب المشروط عن كونه مشروطاً إلى الواجب الفعلي فيكون مقتضياً مطلقاً لفعل متعلقه المساوق مع ترك الأهم فتقع المطاردة والتنافي بين الأمرين, وأما إذا كان العصيان شرطاً بمعنى الموضوع فتحقُّقه لا يخرج الأمر عن كونه مشروطاً به ومترتباً عليه فيستحيل أن يكون مقتضياً له وإلا كان دوراً.

وأورد عليه: بأنه إن جعلنا الحكم من الأعراض فهو منوط بالموضوع حتى بعد وجوده سواءً كان الشرط بمعنى المؤثر أو الموضوع، والإرتباط والإناطة لا ترتفع في كلتا الحالتين بالنسبة إلى الحكم وموضوعه بعد وجود الموضوع كذلك بالنسبة إلى الأثر ومؤثره بوجودها؛ فكما يحتاج العرض إلى موضوعه حتى بعد وجوده كاحتياج المعلول إلى علته يستحيل أن

ص: 62

يحقق موضوعه ويقتضيه؛ كذلك المعلول يستحيل أن يحقق علته ويقتضيها, فالتفرقة بين الشرط بمعنى المؤثر والشرط بمعنى الموضوع من هذه الناحية مِمّا لا يرجع إلى محصل.

التقريب الثالث: إنه بناءً على أن الشرط بوجوده العلمي وتشخيص المولى له يكون شرطاً حقيقياً للحكم؛ يكون الشرط مجرد داعٍ للمولى -كالمصلحة والمفسدة- ويكون تشخيصه له هو السبب لإنشاء الحكم على المكلف, وليس للمكلف إعمال تشخيصه في ذلك. وعليه فلو فرض عصيان الأهم شرطاً في وجوب المهم كان هذا الشرط من هذا القبيل, كما إذا كان المكلف بين يدي المولى وأحرز أنهيعصي الأمر بالأهم؛ فأمره بالمهم يكون منافياً ومطارداً مع الأمر بالأهم لأنه تكليف مطلق بالضدين، وهو تكليف بغير المقدور بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الشرط بمعنى الموضوع.

ورُدَّ هذا التقريب؛ بأنه لم يكن متوهماً من قال بامتناع الترتيب في المقام,. فإنّ الدخول في بحث امتناع الترتب واستحالته؛ إنما يكون بعد الفراغ من كون التكاليف المشروطة مجعولة على نهج القضايا الحقيقية, وليست عبارة عن الجمع بين تكاليف مطلقة بخصوص من يتحقق الشرط فيهم. إلا أن الأمر بالمهم بعد كونه مِمّا وضع مطلقاً لخصوص من يتحقق الشرط فيهم لم تلاحظ العصيان شرطاً في ثبوتها، وإلا لم يثبت تكليف لعلم المولى بعصيان جلّ العباد لتكاليفه فهي مطلقة، فلا بُدَّ من مراجعة الدليل وما يستفاد منه كما في المقام الذي يتوجه فيه تكاليف على المكلف ولم يمكنه امتثالهما في زمان واحد، فتقع المطاردة والتناقض فيما بينهما، فيرجع في إثبات شرطية العصيان لثبوت أحدهما دون الآخر من دليل خاص كما ذكرناه مفصلاً.

وكيف كان؛ فإن المستفاد من مجموع ما تقدم أنّ هذه المقدمة التي ذكرها المحقق النائيني قدس سره (1) لم تحلّ هذه المشكلة وبيان النكتة في رفع التنافي والمطاردة بين الأمر بالأهم مع الأمر

ص: 63


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص 206.

بالمهم، وإنما انصب اهتمام هذه المقدمة لبيان معاني الشرطية، وقد عرفت أنّ ما ذكره غير تام في حد نفسه؛ إذ أنّ تلك المعاني تبتني على كون الحكم والتكاليف من الأعراض والقضايا الحقيقية المستعملة فيها، وأما إذا قلنا بأنها من الإعتبار فلا يصحّ ما ذكره لكونه أجنبياً عن روح البحث الذي لا بُدَّ من إثباته وهو كون الأمر بالمهم الذي يكون مشروطاً بعصيان الأهم والذي لا يمكن أن يكون مقتضياً له فترتفع المطاردة بين الأمرين بالمهم والأمر بالأهم.

وتفصيل البحث فيه يقع في ضمن أمور:

الأمر الأول: إنّ ثبوت الحكم في التقدير والتقييد من التقديرات والتقييدات يكون على أنحاء ثلاثة:

أحدها؛ أن يثبت الحكم بإطلاق الخطاب لذلك التقدير أو التقييد به في نفس الجعل الأول، ست الا عبارة عن الموضوع وظرف تحقق الحكم المأخوذ في القضايا الحقيقية مفروغ الوجود , فالحكم يوهو صحيح بالنسبة إلى التقسيمات الأولية التي تثبت في نفسها وبقطع النظر عن طور الحكم عليه؛ كتقسيم العالم إلى العادل وغيره, فيحفظ الحكم في فرض العدالة مثلاً بالإطلاق في خطاب (أكرم العالم)، أو بلحاظ تقييده بالعالم العادل, وهو تام في جميع التقسيمات الأولية إلا ما يقال بأنه غير تام في قسم واحد كما سيأتي.ثانيها؛ أن يثبت الحكم بنتيجة الإطلاق؛ الذاتي أو الملاكي فيما إذا لم يمكن حفظ الخطاب في تقدير من التقديرات لا بالإطلاق، ولا بالتقييد بالجعل الأول بل لا بد من جعل آخر يحفظ به الحكم، ويسمى ذلك بمتمّم الجعل، لأنّ روح الحكم وملاكه إما يكون مطلقاً أو مقيداً بذلك التقدير. وهذا القسم يكون بالنسبة إلى التقسيمات الثانوية كثبوت الحكم في صورة جهل المكلف بالحكم أو علمه به باعتبار استحالة إثبات الحكم فيها بالجعل الأول إبتداءً.

ص: 64

ثالثها؛ أن يحفظ الحكم في تقدير من التقديرات بذاته لا بالإطلاق والتقييد ولا بنتيجة الإطلاق والتقييد لاستحالة ذلك. وهذا إنما يكون بالنسبة إلى ثبوت الحكم في حالتي العصيان والإمتثال والوجود والعدم لمتعلقه, فإنّ إطلاق الخطاب أو تقييده بالجعل الأول أو الجعل الثاني بنتيجة الإطلاق والتقييد لهذين التقديرين مستحيلٌ، لأنه إن اشترط التكليف بالإمتثال كان من طلب الحاصل، وإن قيّد بالعصيان يكون من طلب الممتنع. فإذا امتنع التقييد يمتنع الإطلاق؛ إما من أجل ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من امتناع التقييد عند امتناع الإطلاق(1)، أو باعتبار أنّ الإطلاق للحالتين يستلزم الجمع بين المحذورين من تحصيل الحاصل أو تحصيل الممتنع. وعليه فلا يمكن أن يكون الخطاب محفوظاً بالإطلاق أو التقييد في مثل هذا الإنقسام وهو انقسام متعلقه إلى حالتي الوجود والعدم أو العصيان والإمتثال، فلا بد أن يكون الخطاب محفوظاً في تلك الحالة بذاته؛ إي إنه بنفسه متعرض إلى إيجاد المتعلق وامتثاله وليس من قبيل الموضوع وقيوده التي يحتاج حفظ الخطاب فيها إلى الإطلاق أو التقييد في الجعل الأول أو قيمته.

الأمر الثاني: الفرق بين الحفظ الذاتي للخطاب في القسم الثالث وبين حفظه بالإطلاق أو التقييد أو نتيجة الإطلاق أو التقييد في القسمين الآخرين؛ هو أنّ الحكم تكون نسبته إلى ذلك التقدير في القسمين الأولين نسبة المعلول إلى العلة، وفي القسم الثالث نسبة العلة إلى المعلول, فإنّ وجوبَ إكرام العالم الثابت -في تقدير العدالة- بالإطلاق أو التقييد أو نتيجة الإطلاق والتقييد فرعُ ثبوت ذلك التقدير في العدالة، وفي طوله.

وهذا بخلاف ثبوت الحكم في القسم الثالث فإنه ليس في طول وجود المتعلق أو عدمه بل المتعلق في طوله وجوداً وعدماً، ويتفرع على ذلك أنّ الحكم في النحوين الأولين لا يمكنه

ص: 65


1- . كما تقدم.

أن يحفظ تقدير ثبوته وموضوعه، لأنّ المعلول لا يمكنه إثبات علته أو نفيها, وأما في النحو الثالث فباعتبار كون الحكم علة فيه؛ فهو إيجاد ذلك التقدير وحفظه وهدم عدمه.الأمرالثالث: إنّ نتيجة ذلك وإن كان فعلية كلا الخطابين الأهم والمهم في حال عصيان الأهم، إلا أنه لا يستلزم ذلك التنافي بينهما الإختلاف في سنخ ثبوتها؛ فإنّ ثبوت خطاب الأهم إنما يكون بالنحو الثالث، بينما ثبوت خطاب المهم يكون بالنحو الأول. وبذلك ترتفع المنافاة بين الأمرين لارتفاع المنافاة بين المقتضَيين -بالفتح-؛ إذ مقتضى الأمر بالأهم هو هدم عدم الأهم كما قلناه في الأمر السابق، وليس مقتضى الأمر بالمهم هو عدم الأهم كما عرفت في السابق أيضاً من عدم تعرض الحكم المحفوظ في التقدير بالنحو الأول لإثبات ذلك التقدير أو نفيه, وهذا يعني أنّ الأمر بالأهم يقتضي هدم عدم الأهم, والأمر بالمهم يقتضي هدم عدم المهم على تقدير عدم الأهم. ففي المثال المعروف نقول أنّ الأمر بالإزالة -الأهم- يقتضي هدم عدم الإزالة, والأمر بالصلاة يقتضي هدم عدم الصلاة على تقدير عدم الإزالة؛ فالأمر بالإزالة لا يقتضي هدم الصلاة على تقدير الإزالة حتى يكون خلاف مقتضى الأمر بالمهم، بل يقتضي هدم الإزالة نفسها. ولكن لو فرض عدم الإزالة فالأمر بالأهم -الإزالة- لا يقتضي عدم الصلاة على ذلك التقدير. وهكذا يظهر أنّ مقتضى كلّ من الأمرين متعاكس مع مقتضى الأمر الآخر؛ فما يقتضي الأمر بالأهم هدمه لا يقتضي الأمر بالمهم إثباته, وما يقتضي الأمر بالمهم هدمه لا يقتضي الأمر إثباته, فترفع المطاردة والمنافرة بينهما.

ومن جميع ذلك يظهر؛ أنّ هذه المقدمة تثبت روح الترتب وإن تضمنت عبارات المحقق النائيني قدس سره على بعض الإصطلاحات والنكات الإضافية مِمّا أوجب غموض ما يريده قدس سره ، وأنّ ما كان يقصده صحيح ولا إشكال فيه.

ص: 66

الإيرادات على طريقة المحقق النائيني

ومع ذلك فقد أورد عليه بعدة إيرادات يمكن أن ترِدَ على طريقة إثباته نذكر المهم منها وهي:

1- إنّ ما ذكره من التقسيم في حفظ الخطاب من لزوم ما لا يلزم؛ فإنه إن جعلنا الحكم وما يرتبط به من الإعتبار فلا إشكال في حفظ ذلك الإعتبار، أما مع تقدير معين أو لا؛ من دون فرق بين الأقسام الثلاثة المذكورة فإنّ الحكم والإرتباط والتقدير كلها إعتبار وهو خفيف المؤونة، فأيّ محذور مِمّا ذكره من تحصيل الحاصل أو طلب الممتنع أو استلزام الدور ونحو ذلك..؟ ولذا قلنا بجواز أخذ قصد القربة في نفس الجعل الأول, وكذا تقييد الخطاب بالعلم أو الجهل ونحو ذلك.

أما إذا جعلناهما من الأعراض كما هو مفروض كلامه فقد تقدم في بحث التعبدي والتوصلي عدم الحاجة إلى متمم الجعل ونتيجة الإطلاق.وأما الإطلاق والتقييد اللحاظيين فقد تقدم الكلام في بحث الإطلاق والتقييد أنه لم يكن الإطلاق لحاظاً دائماً، بل يمكن أن يكون ذاتياً ومن دون لحاظه(1) فهو يختلف حسب الحالات، ولا يلزم منه أي محذور

2- إنّ الخطاب في إصطلاح المحقق النائيني قدس سره المسمى بالحفظ الذاتي غير تام ومن لزوم ما يلزم؛ فإنّ ما ذكره في وجه استحالة حفظ الحكم في تقديرَي الإمتثال والعصيان بالتقييد على فرض كونه مستحيلاً؛ ولكنّ إطلاقه للتقديرين ليس بمستحيل بل ضروري.

ص: 67


1- . أي الإطلاق.

وكلا الوجهين اللذين ذكرهما في وجه الإستحالة غير تام؛ لأنهما مبنيان على أنّ كون التقابل بين الإطلاق والتقييد من العدم والملكة وقد ارتضاه قدس سره .

ولكن الحق؛ أنّ التقابل بينهما ليس كذلك مطلقاً بل قد يكون من السلب والإيجاب. مع أنّ المحذور الثاني الذي ذكره من اشتمال الإطلاق على محذوري التقييد بالإمتثال والتقييد بالعصيان غيرُ تام في حد نفسه؛ لأنّ المحذور إنما حصل من ناحية التقييد، فلا بد أن يثبت في المقيد لكي يثبت في الإطلاق أيضاً.

3- إنه على فرض قبول ما ذكره فإنه لم يتحصل منه معنى للحفظ الذاتي؛ فإنّ الحكم تابع لوجود موضوعه وثبوته، وكل حكم يقتضي التحريك نحو متعلقه وهدم تركه ذاتاً, وهذا التحريك فرع ثبوته. ولكن الكلام فيما يحفظ ثبوته.

4- ما ذكره في الأمر الثاني من أنّ الحكم والإطلاق والتقييد في الجعل الأول أو في الجعل الثاني يكون في طول ذلك التقدير، وفي القسم الثالث يكون العصيان والإمتثال في طول الحكم؛ فإنه وإن صحّ بالتقييد في الأول ولكنه غير ثابت في الإطلاق الشامل لتقدير من التقديرات، لأنه ليس فرع ثبوت ذلك التقدير، فإنّ وجوب الإكرام الثابت للعالم الفاسق بالإطلاق لا يكون فرع فسق العالم أو عدالته، لا سيما وأنّ المحقق النائيني قدس سره يرى أنّ الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى الحكم يكون على سبيل القضية الحقيقية المفروض وجود أفرادها، فلا طولية في الحكم.

كما أنّ طولية الإمتثال للأمر غير تامة بعد اعتبار الأحكام ومتعلقاتها من قبيل القضايا الحقيقية التي يفرض وجود الأفراد فيها. نعم؛ في الخارج إنما يكون الإمتثال موجباً لسقوط الحكم, فلا طولية بينهما.

ص: 68

والحاصل؛ أنّ ما ذكره قدس سره إنما يتم في القضايا الخارجية ولكنه لا يرى الأحكام وموضوعاتها وتقديراتها من تلك, بل هي قضايا حقيقية بفرض وجود الأفراد فيها، ولا طولية وعلّية ومعلولية في الفرض والتقدير.

من كل ما تقدم يظهر وجه الإشكال في الأمر الثالث من عدم المطاردة بين الأمر في المهم والأمر بالأهم؛ فأنه صحيح في الأمر بالمهم وهو لا يقتضي ترك الأهم، ولكن الأمر بالأهم يقتضي ترك المهم فيثبت التنافي بين المقتضييَن.

هذا ولكن يمكن رفع المنافات بوجوه أخرى كما عرفت وسيأتي.

وأما المقدمة الخامسة التي جعلها لدفع بعض الإشكالات على الترتّب الذي تقدم فتعتبر بمنزلة الخلاصة لما ذكر من الأبحاث في المقدمات الخمس، ولكنه قدس سره ذكر في هذه المقدمة مطلباً جديداً لتعزيز برهان إمكان الترتب وحاصله؛ إنّ وجه المنع عن الأمر بالضدين إنما يرجع إلى محذور طلب الجمع بين الضدين، وهذا غير حاصل في الأمر بالضدين بنحو الترتب؛ إذ أنه ليس من طلب الجمع وإنما هو من الجمع في الطلب، لأنّ طلب الجمع إنما يلزم لو كان الأمر بالضدين مطلقاً أومقدمياً بالإمتثال الآخر, وأما إذا كان أحدهما مطلقاً والآخر مقيداً بعد امتثال الآخر فهو طلب الجمع، لأنه لو فرضنا -محالاً- إمكان الجمع بين الضدين وإيقاع المكلف لهما معاً؛ لم يقعا معاً على صفة الوجوب، بل يكون الأهم هو الواجب والمهم غير واجب لعدم تحقق شرطه وهو ترك الأهم, وهذا هو الذي يريد الترتب إثباته؛ فإنه بناءً عليه لا يستلزم الأمر بالضدين لطلب الجمع بينهما بل استحالة استلزامها لذلك.

وما ذكره قدس سره متين جداً, ولو كان كلامه على طوله ينصبّ على إثبات هذا الأمر لكفى برهاناً ودليلاً على الترتب, وهو الذي ذكرناه في شروط الترتب, والمفهوم العرفي منه أيضاً.

ص: 69

ومع ذلك فقد عقّب عليه بعض العلماء(1) من أنه إن لم ترجع هذه النكتة إلى الطولية بين الأمرين في الإقتضاء، وإلا فيمكن أن يجاب عليه بأنه إن فرض اجتماع الضدين محالاً دون اجتماع النقيضين فللخصم أن يقول إن عدم اتصاف المهم بالمطلوبية ليس لأجل عدم الأمر به بل لأجل عدم كونه هو المطلوب، لأنّ المطلوب هو المهم المقيّد بعدم الأهم, لأنّ قيود الهيئة والوجوب ترجع إلى المادة والواجب أيضاً، وأنّ فرض اجتماع النقيضين محالٌ أيضاً, وأنّ الأهم موجود ومعدوم في آن واحد.

وعلى هذا؛ فالنتيجة المترتبة أنّ الفعلين واجبان ومطلوبان معاً لتحقق شرط وجوبهما خارجاً كما هو واضح.وهو مردود بردّ الفروض التي لم يفرضها الميرزا قدس سره ؛ فإنه فرض عدم الوجوب الذي منه يأتي إشكال الجمع في الطلب لعدم كون المهم واجباً مع وجود الأهم, ويكون الطلب للأهم والمهم يختلف من حيث الإطلاق والتقييد.

ولعله إليه يرجع ما ذكره السيد الصدر(2) في وجه صحة الترتب بأنّ الأولى في الترتب لا يطلب الجمع بين الضدين بنكتة جعله الأمر بالمهم في طول اقتضاء الأمر بالأهم، ومعه يستحيل أن يكون الأمران مؤديين إلى طلب الجمع وسيأتي بيانه.

ص: 70


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص358-359.
2- . المصدر السابق؛ ص359.

الجانب السابع: في بيان ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) من إمكان الترتب وعدم استحالته، وذكر في صحة ذلك أمرين:

الأمر الأول: ويتكون من نقطتين:

النقطة الأولى: إنه لا ريب في أنّ المحذور الموجود في الأمر بالضدين إنما يكون بلحاظ التمانع بينهما في مقام التأثير والإمتثال بحيث لو قطعنا النظر عن ذلك لم يكن هناك محذور آخر من تناقض أو اجتماع للضدين لعدم التضاد ذاتاً بين الأمرين كما هو واضح.

النقطة الثانية: إنّ التمانع المزبور في مقام التأثير يرتفع فيما إذا ترتب الأمر بالمهم على عدم فعل الأهم وتركه لاستحالة مانعية الأمر بالمهم عن تأثير الأمر بالأهم, واستحالة مانعية الأمر على عدم الأهم، ومعه يستحيل أن يكون مانعاً عن اقتضاء الأمر بالأهم وتأثيره؛ لأنّ معنى ذلك هو كون عدم الأهم مستنداً إلى الأمر بالمهم وهو محال. وهذا هو معنى أنّ اقتضاء الأمر بالمهم في طول عدم اقتضاء الأمر بالأهم, فلا تنافي بين النقيضين.

وأما الإستحالة الثانية؛ فلأنّ الأمر بالأهم إذا كان مانعاً عن تأثير الأمر بالمهم في فرض عدم وجود الأمر بالمهم فهو غير معقول، إذ المانع يكون عن تأثير مقتضى ما لا بُدَّ أن يفرض في ظرف وجود ذلك المقتضي, وإن كان مانعاً عن تأثيره في فرض وجوده؛ ففرض وجوده هو موضوعه الذي هو عدم الأهم وهو ظرف محرومية الأمر بالأهم عن التأثير في نفسه، فالأمر بالمهم -بحسب الفرض- مترتب على فرض عدم الأهم وعدم تأثيره، فإذا فرض مانعية الأمر بالأهم عن تأثير المهم فإنه يكون مستحيلاً, لأنه خلف، وعليه يتبرهن عدم إمكان التمانع بين الأمرين.

ص: 71


1- . المصدر السابق؛ ص360 وما بعدها.

الأمر الثاني: هو مبني على ما سلكه السيد الصدر قدس سره في تفسير الواجب المشروط من أنّ الوجوب المشروط والإرادة المشروطة يرجع لبّاً إلى إرادة مطلقة متعلقة بالجامع بين الجزاء على تقدير الشرط وعدم الشرط، فإرادة الماء على تقدير العطش مرجعها إلى إرادة فعلية للجامع بين أن لا يعطش، وشرب الماء على تقدير العطش. فإنه بناءً على ذلك ترتفع شبهة استحالة الترتب في المقام رأساً لأن الأمر بالمهم المشروط يترك الأهم ويرجع إلى إرادة الجامع بين إتيان المهم على تقدير عدم الأهم، أو إتيان الأهم. ومن الواضح أنّ الأمر بالجامع بين المهم والأهم ليس مضاداً أصلاً مع الأمر بالأهم، وإنما التضاد بين الأهم والمهم تعييناً كما هو واضح.

ويمكن الإشكال عليه بما يلي:

أولاً: إنّ فعلية الأمر بالمهم وإن كانت متفرعة على عدم الأهم فرضاً؛ أما عدم الأهم فليس مستنداً إلى الأمر بالمهم كما فرضه قدس سره حتى يستلزم الإستحالة، لأنه مستند إلى إرادة الفاعل المختار الذي عزم على تركه وعصيانه، ومع تحققه صار الأمر بالمهم فعلياً بعد صدوره من المولى مِمّا أوجب التنافي في مقام التأثير.

ثانياً: لإنّ الإستحالة إنما تتحقق لو كان التأثير من الجانبين؛ كما إذا كان عدم الأمر بالأهم مؤثراً في تحقق الأمر كما هو المفروض وبالعكس، ولكن الأمر بالأهم لم يكن مانعاً عن تأثير الأمر بالمهم لأنه إذا فرض عدمه وانتفاء تأثيره، إذ كيف يفرض كون وجوده مانعاً، إنه خلف.

ثالثاً: إنّ مسلكه قدس سره في الواجب المشروط موضع نقاش لمخالفته لظاهر أدلة الواجبات المشروطة التي تدل على تعلّق الإرادة بالمقيد والقيد معاً، لا تعلقها بالجامع إلا إذا دلَّ دليل على ذلك كما في المندوبات التي يقال عنها أنّ أدلتها تدل على تعدد المطلوب، أما في غيرها كالواجبات فإنّ الأدلة تدل على وحدة المطلوب فيها.

ص: 72

رابعاً: إنه بناءً على ما سلكه في الواجبات المشروطة لا يلائم مقامنا وجريانه هنا غير تام؛ فإنه خلاف ما ذكره في النقطة الأولى من أنّ التمانع إنما يكون في مقام التأثير والإمتثال، فإذا فرض ارتفاع التعيين في كل واحد من الأمرين بناءً على رأيه فسيرتفع التضاد فلا تصل النوبة إلى العلاج الترتيبي الذي ذكره.

خامساً: إنّ إرادة الجامع تتولد منها إرادة تعينية بالجزاء على تقدير عدم الشرط، فيرجع التضاد بينها وبين إرادة الأهم.

فالحق؛ إنّ ما ذكره من أنّ اقتضاء الأمر بالمهم في طول عدم اقتضاء الأمر بالأهم؛ إن رجع إلى ماذكرناه من تقييد إطلاق الأمر وأنّ الترتب إنما يرفع طلبالجمع بين الأمرين المتضادين فهو صحيح، وإن اختلف في التعبير. وإلا فالإشكال فيما ذكره واضح.

الجانب الثامن: ذكرنا سابقاً أنه بناءً على الترتب يستلزم تعدد العقاب فيما إذا خالف المكلف كلا الأمرين وترك الضدين معاً, مع أنّ المكلف لم يكن له إلا قدرة واحدة على أحد الطلبين, فيكون أحد العقابين على أمر غير إختياري، وهو قبيح كالتكليف من غير اختيار.

كما أورد عليه بأنّ أقصى ما يستفاد من جميع ما قيل في الترتب هو إمكانه ثبوتاً، ولكنه لا دليل عليه إثباتاً.

وقد أجبنا عن الإشكالين فيما سبق من البحوث ونزيد في المقام ما يلي:

أما الإشكال الأول: فقد أجاب عنه المحقق النائيني قدس سره (1) بجوابين:

الجواب الأول: النقض بالواجب الكفائي إذا لم يتحمل التكرار, كقتل حيوان مفترس مثلاً فإنه في مثل ذلك لا يكون صدور الفعل من الكل مقدوراً إلا مشروطاً بترك الآخرين في حين أنه لا إشكال في معاقبة الجميع عند عصيان الواجب الكفائي.

ص: 73


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص 309.

وأورد عليه: بأنّ هناك فرق بين الموردين؛ حيث يمكن فرض قدرات متعددة بعدد المكلفين في الواجب الكفائي، غاية الأمر أنّ لكل واحد منهم إعمالَ قدرته مع عدم المزاحم الخارجي الذي منه سبق غيره إلى امتثال الواجب الذي لا يقبل التكرار، لأنّ اعتبار القدرة في مثل ذلك؛ إما في واحد معين وهو ترجيح بلا مرجح, وإما في الجامع بينهم وهو أمر إعتباري لا وجود له. فلا محيص من القول بأنّ القدرة تكون لكل واحد من المكلفين مع الشرط المذكور؛ أي فيما إذا لم يكن مزاحم خارجي الذي منه سبْق غيره إلى امتثال الواجب, ومثل هذا مفقود في المقام لأنه لم تكن في البين إلا قدرة واحدة لا يمكن للمكلف صرفها إلا في أحدهما. وعليه؛ فلا يكون في الواجب الكفائي إلا عقاب واحد ينسب إلى المكلفين كلهم على حدٍّ سواء لعدم خصوصيةٍ في أحدهم من حيث القدرة فلا محالة يستحق الجميع العقاب، فلا نقض.

وقيل في النقض بوجه آخر وهو التكليف بالضدين في زمانين؛ كما إذا وقع التضاد بين الزيارة ليلاً والزيارة نهاراً عند المكلف بحيث لم يمكنه أن يأتي بهما معاً, وكان هناك تكليف بالزيارة صباحاً أو الزيارة ليلاً على تقدير عدم الزيارة صباحاً. وهو تكليف جائز حتى عند القائلين بامتناع الترتب لعدم استلزامه التكليف بالضدين في زمان واحد, فلو فرض عصيان المكلف وتركه للفعلين معاً كان هناك عقابان لا محالة حتى عند القائل بعدم إمكان الترتب.ويرد عليه بمثل ما أورد على سابقه من أنه لم يكن للمكلف إلا قدرة واحدة لا بد من صرفها في أحد الفعلين إذ لا قدرة على الفعلين معاً, فيكون أحد العقابين على ما ليس بالإختيار.

ولكن للنظر فيما ذكر في الجواب عن كلا النقضين مجال واسع كما لا يخفى.

ص: 74

الجواب الثاني: الجواب الحلّي(1)؛ وحاصله: إنّ الإشكال المزبور مبني على توهّم كون العقاب الثاني إنما يكون على عدم الجمع بين الضدين، وهو غير مقدور, مع أنه ليس كذلك وإنما هو عقاب على الجمع بين المعصيتين وقد كان مقدوراً للمكلف أن لا يجمع بين المعصيتين فيما لو جاء بالأهم.

نعم ذكر قدس سره في آخر كلامه بأنّ العقاب على كل من المعصيتين لكون كل منها كان مقدوراً في نفسه، وميزان العقاب أن تكون المعصية المعاقب عليها مقدورة في نفسها.

وأورد عليه: بأنّ الميزان في صحة العقاب أن يكون التخلص من المخالفة مقدوراً للمكلف, وأما أن يكون الفعل والإمتثال مقدوراً فهو شرط في معقولية التكليف وعدم لغويته، ومن الواضح في المقام أن يكون التخلص من مخالفة التكليفين؛ الأهم والمهم على نحو الترتب مقدوراً للمكلف وإن لم يكن امتثالهما معاً مقدوراً له فيكون تعدد العقاب في محله، اللهم إلا أن يشترط في تحقق المعصية مخالفة التكليف المولوي بنحو يؤدي إلى تفويت الملاك عليه، لا مجرد الخطاب المولوي. وعليه؛ فلو كان الخطابان الترتّبيان فعليين من حيث الملاك بأن لا يكون الإشتغال بأحدهما رافعاً للآخر ملاكاً فلا يستحق إلا العقاب الواحد، لأنّ المكلف لم يفوّت باختياره إلا ملاكاً واحداً وأما الملاك الآخر فقد كان فائتاً عليه، فلا بد من التفصيل بين الحالتين.

والحق أن يقال -كما ذكرنا سابقاً- بفعلية عقاب الأهم لوجود منشأ استحقاقه لهما، ولكن يحتمل قوياً تداخل عقاب المهم فيه عند تركهما معاً ولا محذور فيه من عقل أو نقل؛ فيكون منشأ استحقاق العقاب متعدداً نظراً لتعدد الخطاب حقيقة أو اعتباراً أو انحلالاً, كما في الواجبات الكفائية.

ص: 75


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج 3 ص 142، وأجود التقريرات؛ ج 1 ص 308.

هذا بحسب القواعد، وأما بحسب التفضلات الإلهية فهي خارج عن إدراك عقولنا.

وأما ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) في ميزان العقاب من أنه التخلص من مخالفة التكليف المولوي بنحو يؤدي إلى تفويت الملاك عليه لا مجرد الخطاب المولوي؛ فليس الأمر كما ذكره إذ مجرد تفويت الخطاب ومخالفته كافٍ في استحقاق العقاب، ولذا يستحق العاصي العقاب في مخالفة الأوامر الإمتحانية، ومجردتفويت الملاك من دون أن يكون خطاب مولوي في تحصيله لا يكون كافياً في استحقاق العقاب، كما أنّ مجرد موافقة الملاك لا يكون موجباً لاستحقاق الثواب من دون خطاب كما تقدم مكرراً إلا أن ينطبق عليه عنوان راجح. نعم؛ إنّ استحقاق العقاب إنما يكون بعد تشريع الخطاب على الفعل المقدور، فهو المصحّح للعقاب لا أن يكون شرطاً فيه فتكون مخالفة الفعل المقدور وتحقق المعصية بتركه هي المصححة للعقاب، وهذا هو الميزان في العقاب كما ذكرنا.

وأما الإشكال الثاني؛ فقد كان مبنياً على أنّ غاية ما ثبت مِمّا تقدم هو إمكان الترتب ثبوتاً، ولكن لا دليل عليه إثباتاً، لإنه لم يرد دليل على كون الأمر بالمهم مشروطاً بعدم الأهم ليثبته به.

وقد أجاب المحقق النائيني قدس سره (2) بجوابين:

الجواب الأول: إنّ إثبات الواجب المشروط الترتّبي لا يحتاج إلى دليل خاص به، وإنما إطلاق الخطاب بالصلاة بنفسه يثبت ذلك تطبيقاً لقانون: كلما دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الخطاب بالفرد أو عن بعض حالاته تعين الثاني، لكون الإطلاق بلحاظ تلك الحالة متيقن السقوط على كل تقدير.

ص: 76


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص362.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص309.

وأما الإطلاق بلحاظ الزائد عن تلك الحالة المتيقنة فلا يعلم سقوطه، والأصلُ هو حجية كل إطلاق ما لم يثبت سقوطه؛ ففي المقام يكون الإطلاق بلحاظ حالة الإشتغال بالأهم متيقن السقوط على كل حال، وأما بلحاظ ترك الأهم فهو ممكن الثبوت بناءً على الترتب فيثبت بالإطلاق، وهو معنى الوجوب الترتبي المطلوب.

الجواب الثاني: إنّ إثبات خطاب الآخر يكون بطريق اللّم بدعوى أنه في موارد التزاحم يكون الملاك ثابتاً بمقتضى إطلاق دليله، فبناءً على إمكان الخطاب الترتبي يستكشف ذلك بالبرهان اللّمي.

وأُجيب عنهما:

أما الأول؛ فهو صحيح من حيث الكبرى ولكن تطبيقها على المقام فيه مسامحة، لأنه بناءً على الترتب لا تدخل الخطابات في باب التعارض أصلاً، إذ لا يلزم منه تقييد زائد على ما هو مأخوذ في كل خطاب من القيود العامة لباً -أعني قيد القدرة- فإنّ عدم الإشتغال بواجب أهم أو مساوٍ يكون مأخوذاً في الخطاب عموماً كما سيأتي في بحث التزاحم. فالأمر دائر بين التقييد واللاتقييد؛ أي لا تقييد الأقل والأكثر.

وأما الثاني؛ فقد تقدم أنّ الملاك لا يمكن إثباته عادة بالدلالة الإلتزامية التي تسقط بسقوط الدلالة المطابقية.

يضاف إلى ذلك أنّ الرجوع إلى الملاك ليس من ثمرات القول بالترتب الذي هو محل النزاع وإنما هو من ثمرات القول بثبوت الملاك مع سقوط الخطاب ممن يقول بالترتب. ويرى أنّ الملاك الموجود في المهم يقتضي أمراً تعييناً بالمهم مشروطاً بترك الأهم؛ فلو كان الملاك تعيينياً فلا بُدَّ من أن يكون الخطاب على وزان الملاك. وأما القائل باستحالة الترتب فإنه يصور الخطاب الثاني على شكل الأمر بالجامع بين الضدين أو بتحريم الجمع بين التركين.

ص: 77

والحق؛ إنّ ذلك كله تطويل بلا طائل تحته، وقد تقدم الجواب عما ذكر من الإشكالين فيما سبق من البحوث ولا حاجة لنا إلى اثبات الخطاب الآخر بطريق اللم بعد ما كان العرف يرى صحة الخطاب الترتبي وعدم سقوطه، والأدلة الشرعية منزّلة على العرفيات.

وأما ما ذكره المستشكل في تطبيق الكبرى (التي هي صحيحة) من أنّ الترتب لا يدخل الخطابات في باب التعارض، فأنه لا يغيّر من الحقيقة شيئاً، كما هو معلوم.

فالحقُّ ما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) من أنَّ الخطاب الترتبي من المداليل السياقيةلأنه واقع في المحاورات العرفية والأدلة الشرعية منزلة على العرفيات كما تقدم بيانه؛ نظير المفاهيم والجمع العرفي عند أهل المحاورة، ولعلَّ العلماء في تخريجاتهم الأصولية وغيرها أرادوا ذلك أيضاً. فإذا اعترف من ذهب إلى امتناع الترتب شرعاً بوقوعه عرفاً فلا واقع لهذا الاستدلال أصلاً. وكيف كان؛ فإذا ورد خطابٌ مطلق بالأهم وكذا بالنسبة إلى المهم وتحققت شروط التزاحم؛ فإما أن يسقطا معاً أو يسقط الأهم دون المهم أو يكون بالعكس أو يثبتان معاً؛ والأول باطل عند الجميع، والثاني ترجيح المرجوح على الراجح، والثالث إسقاط لأحد الخطابين بلا وجه مع إمكان بقائه فيتعين الأخير عقلاً وعرفاً.

الجانب التاسع: في أقسام الترتب؛ فإما أن يكون الترتب من جانب واحد أو من الجانبين، وعلى كل واحد منها؛ إما أن يكون الضدان الأهم والمهم أو يكون كلاهما بمستوى واحد من حيث الأهمية، والكلام يقع في القسم الأخير، وهو ما إذا كان الترتب من الجانبين وكلا الضدين بمستوى واحد من حيث الأهمية. وقد تقدم البحث في الأقسام الأُخر.

وقد يقال باستحالة الترتب من الجانبين حتى لو فرضت عدم الإستحالة من جانب واحد، وذلك لوجود محذور زائد.

ص: 78


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص235.

وقد ذُكر لذلك تقريبين:

التقريب الأول: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنّ الترتب من الجانبين، وجعل كون كل واحد من الخطابين مشروطاً بعصيان الآخر يستلزم الدور؛ إذ الأمر بالصلاة -مثلاً- متوقف على عصيان الإزالة المتوقف على وجود الأمر بالإزالة فعلاً، وإلا لم يتحقق عصيان، فيكون الأمر بالصلاة متوقفاً على الأمر بالإزالة وكذلك العكس وهو من الدور، ويمكن رفعه بوجهين:

الوجه الأول: إن المرتب عليه الذي يكون منشأ انتزاع العصيان هو ترك الفعل وهو غير متوقف على الأمر به ولكن الترك في المقام يختص بترك الأمر وهو ليس بمعنى العصيان.

الوجه الثاني: أن يكون الشرط هو العصيان التقديري لا المنجّز؛ بمعنى أنّ الأمر بالإزالة -مثلاً- مشروط بأن تصدق القضية الشرطية التي تقول بأنه لو كان أمر بالصلاة كان المكلف عاصياً له وكذلك العكس، وواضح أنّ القضية الشرطية لا تتوقف على فعلية الأمر وأنها لا تستلزم صدق طرفيها.

التقريب الثاني: إنّ الترتب من الجانبين يستلزم المحذور في مرحلة الإمتثال؛ فإذا فرضنا أنّ العبد منقاد، وفرضنا أنه لولا الأمر لما كان له داعٍ إلى أي واحد من الفعلين في نفسه فإنّ الذي يوجب الترتب من الطرفين بالنسبة إلى هذا العبد داعيان كلٌّ منهما مشروط بعدم الآخر، وهو مستحيل لأنّ تحقيق كل من الفعلين في مقام الإمتثال متوقف على عدم الآخر، واستحالته بيّنة؛ إذ يلزم من وجودهما معاً عدم وجودهما، ومن عدمهما وجودهما، ومن وجود أحدهما الترجيح بلا مرجح لأنه موقوف على فعلية الأمر به الموقوف على ترك الآخر، مع أن نسبة الداعيين والأمرين إلى المكلف على حدٍّ سواء.

ص: 79


1- . نقله في بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص364, وفي كتاب الهداية إلى غوامض الكفاية؛ ج2 ص178.

ولكن الحق أن يقال: إنّ هذا الإشكال غير وارد أصلاً، لأنّ المكلف بعد علمه بتوجه الأمرين وعلمه بتحقق موضوع أحدهما على الأقل إجمالاً فإنه يحدث في نفسه داعٍ إجمالي نحو الجامع بين الفعلين فلا يكون هناك داعيان مشروطان، فيكون تطبيق ذلك الداعي الإجمالي نحو الجامع على كل من الفعلين كما يقال في رغيفي الجائع وطريقي الهارب.

وربما يُبيَّن الإشكال المزبور بصيغة الدور ببيان آخر وهو إنّ فعل الصلاة موقوف على الداعي إليها الموقوف على العلم بالأمر الموقوف على العلم بترك الإزالة المتولد إما من نفس ترك الإزالة أو من العلم بعدم الداعي إلى الازالة؛ فعلى الأول يكون كل واحد من الفعلين متوقفاً على عدم الآخر، وعلى الثانييكون كل من الداعيين متوقفاً على عدم الآخر. وإذا توقف شيئان كل منهما على عدم الآخر لزم الدور.

ولكن الجواب عنه يظهر بما سبق من أنّ الداعي ينطبق نحو الجامع.

والتحقيق أن يقال: أن أصل الدور غير متحقق للاختلاف الرتبي بين إمتثال الأمر وعصيانه، فإنّ أول آن للشروع في امتثال أحد الأمرين وعصيان الأمر الآخر هو نفس رتبة ثبوت الأمرين معاً، وتتحقق الطاعة والعصيان في رتبة متأخرة، فيصحّ أن يكون عصيان آمر أحد الأمرين شرطاً مقارناً للأمر الآخر. وكذا العكس؛ إذ ربما يكون الإلتزام بالترتب من الجانبين أسهل من الترتب من جانب واحد خلافاً لما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنه إذا استحال الترتب من طرف واحد فهو من الطرفين أيضاً كذلك، ولذلك استغرب من الشيخ قدس سره الذي أنكر الترتب من طرف واحد، ولكن ذهب في تعارض الخبرين -بناءً على السببية- إلى أنّ الأمر بالعمل بكل واحد منهما مشروط بترك الآخر، وهذا ليس إلا الترتب من الطرفين وهل يكون ضم محال إلى محال موجباً للإمكان؟.

ص: 80

ولكنّ الذي ينبغي أن يقال: إنه لا فرق بين القسمين في إمكان الترتب أو استحالته، وقد تقدم ما يدل على إمكانه وصحته مطلقاً، وذكرنا أنّ الترتب يتوقف على عدم مانعية الأمر بالمهم عن تأثير الأمر بالأهم لأنه بذلك يرتفع الدور، كما يتوقف على عدم مانعية الأمر بالأهم عن الأمر بالمهم، فإذا أنكر أحدهم الثاني واعترف بالأول فلا بُدَّ أن يقول بإمكان الترتب من الطرفين وكفايته في إثباته وإن كان ذلك لا يكفي في إثبات الترتب من طرف واحد إلا بالإعتراف بالثاني.

وأما ما ذكره الشيخ قدس سره في الخبر المتعارضين فلا بُدَّ من تخريجه من وجه آخر بعد معرفة مقصوده.

تطبيقات الترتب

الجانب العاشر: في تطبيقات الترتب

ذكرنا أنّ بحث الترتب من المباحث التي تترتب عليها ثمرات فقهية كثيرة ومتعددة، وإن وقع الخلاف في بعض تلك الموارد. وقد عدّوا منها صحة الصلاة جهراً في موضع الإخفات وبالعكس إذا كان عن جهل أو نسيان، وكذلك الصلاة تماماً في موضع القصر جهلاً. وقد ذكروا في بيان ذلك وجوهاً؛ منها ما ذكره الشيخ كاشف الغطاء قدس سره (1) من الإلتزام بالترتب باعتبار أنّ هناك أمراً بالصلاة جهراً واقعاً، وعلى تقدير الترك يوجد أمر بالصلاة إخفاتاً.

واعترض القائلون بالترتب على تطبيقه في المقام وذكروا عدة إشكالات أهمها:

الإشكال الأول: ما أفاده المحقق النائيني قدس سره (2) من أنّ الترتب إنما يعقل في الضدين اللذين لهما ثالث، وأما الضدان اللذان لا ثالث لهما فلا يعقل الترتب فيهما لأنّ صدور

ص: 81


1- . كشف الغطاء؛ ص 278.
2- . فوائد الأصول؛ ج1 ص223.

الضد الآخر على تقدير ترك الأول ضروري فلا يمكن الأمر به حينئذٍ ولو بنحو الترتب. ففي المقام يكون الجهر والإخفات من الضدين اللذين لا ثالث لهما لأن القراءة لا تقع إلا جهرية أو إخفاتية.

وقد أشكل عليه السيد الخوئي قدس سره (1) بأنّ الضدين في المقام هما القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية وهما من الضدين اللذين لهما ثالث، وذلك بترك القرائتين معاً في الصلاة، فلا إشكال في التطبيق المذكور من هذه الجهة.

وأورد على ما ذكر بما يلي:

1- إنَّ الترتب لا يعقل في الأمرين الضمنيين بلا فرق بين كيفية الجعل بأن يتعلق الأمر بالجهر والأمر بالإخفات، أو الأمر بالقراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية. وإنما الترتب في الأمر بالصلاة الجهرية والأمر بالصلاة الإخفاتية، وذلك لأنّ افتراض الترتب بين الأمرين الضمنيين في خطاب واحد يستلزم أخذ ترك الجزء كالجهر -مثلاً- شرطاً للأمر الضمني بالإخفات؛ فإن أُخذ شرطاً في موضوع الأمر الضمني خاصة فهو غير معقول، لأنّ مقتضى ضمنيته أنّ هناك أمراً واحداً بالمجموع فلا بُدَّ أن يكون الشرط مأخوذاً في ذلك الأمر الإستقلالي. وإنّ أُخذ شرطاً في موضوع الأمر الإستقلالي بالمركب بنحو شرط الوجوب لزم منه أخذ ترك الجهر -مثلاً- في الخطاب الواحد الذي من ضمنه الأمر بالجهر، وهو مستحيل. وإن أُخذ شرطاً في متعلق الأمر بالإخفات بنحو شرط الواجب لزم فعلية كلا الأمرين الضمنيين أي الأمر بالجهر والإخفات المفيد لعدم الجهر وهو طلب الجمع بين الضدين، وهو محال.

ص: 82


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج3 ص163-165, وأجود التقريرات؛ ج1 هامش ص310- 311.

ويرد عليه: إنه من مجرد الإفتراض والتقدير الذي هو بعيد عن الخطاب الشرعي؛ فإنّ الخطاب الضمني كالخطاب الإستقلالي في جريان الترتب فيه، مع أنّ رجوع الأول إلى الثاني في لسان الخطاب كثيرٌ، فلا فرق بين أن يقال بأنّ الصلاة تكون جهراً وإخفاتاً، أو يقال القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية في الصلاة. وقد ذكرنا فيما سبق أنّ الأمر بالمجموع ينحلّ إلى أوامر بعدد الأجزاء فيكون كل جزء مأمور بالأمر الضمني من دون أن يستلزم المحذور الذي ذكره المستشكل والذي تقدم الجواب عنه فراجع.

2- إنّ الشرط لو كان هو عدم الجهر؛ الأعم من السالبة بانتفاء المحمول بأن يقرأ ولا يجهر، أو السالبة بانتفاء الموضوع بأن لا يقرأ أصلاً فالأمر بالقراءة الإخفاتية يكون معقولاً.

وأما إذا كان الشرط هو عدم الجهر في القراءة بنحو السالبة بانتفاء المحمول خاصة فالأمر بالإخفات لا يكون معقولاً حينئذٍ؛ فإمكان الأمر بالقراءة الإخفاتية وعدمه مبني على أحدى هاتين الفرضيتين اللتين قال بكل واحدة منهما المحقق النائيني والسيد الخوئي قدس سره .

وفيه: إنّ صحة الصلاة مع المخالفة في الجهر والإخفات جهلاً أو نسياناً يكشف عن أنّ الشرط هو الأعم، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الإشكال الثاني: ما أفاده المحقق النائيني قدس سره (1) أيضاً من أنَّ الترتب إنما يعقل في الأمرين المتزاحمين إتفاقاً، وأما إذا كان التضاد بين الفعلين دائمياً فلا يعقل فيه الترتب، والجهر والإخفات في القراءة من هذا القبيل.

ص: 83


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص223- 224.

وأشكل عليه السيد الخوئي قدس سره أيضاً بعدم اختصاص الترتب بالتضاد الإتفاقي.

ولكن يمكن أن يقال بأنّ الجهر والإخفات إن أُخذا في الصلاة فلا يكونان من المتضادين لعدم التضاد بين الصلاة الجهرية والصلاة الإخفاتية لإمكان إيقاعهما معاً في الخارج، فليس هذا التطبيق من الترتب حتى تصل النوبة إلى اختصاصه بالترتب الإتفاقي دون الدائمي. ولا يخفى ما فيه.

الإشكال الثالث: ما ذكره قدس سره أيضاً(1) وحاصله: إنّ الأمر الترتبي بالتمام في المقام غير معقول، لأنه غير قابل لأن يكون بعثاً حقيقياً باعتباره غير قابل للوصول للتنجّز على المكلف، وكل أمر لا يكون صالحاً للتنجيز لا يكون أمراً حقيقياً. والوجه في عدم إمكان وصول الأمر الترتبي المذكور هو أنّ موضوعه عبارة عن المسافر الذي قد عصى الأمر بالقصر وهو جاهل بوجوبه. ومن الواضح أنّ إحراز المسافر لهذا الشرط لا يكون إلا مع علمه بوجوب القصرعليه أو تنجزه في حقه، ومعه يرتفع موضوع الأمر الترتبي.

ويرد عليه: إنه مغالطة واضحة، لأنّ موضوع الأمر الترتبي هو المسافر الجاهل بالقصر تفصيلاً وإن كان عالماً بأصل وجوب الصلاة على المسافر على نحو الإجمال، وإحراز هذا الشرط بمكان من الإمكان، وإلا؛ فلو قلنا بما قاله المحقق النائيني قدس سره لم يبق هذا الحكم أبداً ولم يكن للرواية الواردة في من (لم تقرأ عليه آية التقصير)(2) مورداً للتطبيق أصلاً.

وعلى فرض القبول لما ذكر فلا حاجة إلى العلم بهذا الشرط، فإذا صلى تماماً وهو ذاهل عن هذا الشرط في السفر فتكون صلاته صحيحة إن كان جاهلاً بأصل وجوب القصر عليه. فإحراز موضوع الأمر الترتبي في المقام معقول في حق المكلف وهذا هو الصحيح في

ص: 84


1- . المصدر السابق؛ ص222.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج8 ص506.

الجواب، فلا حاجة إلى ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من أنّ الموضوع هو ترك الصلاة القصرية الذي ليس هو عنوان عصيان الأمر بالقصر؛ فإنّ الترك قد حصل من حيث جهله بالقصر مطلقاً، والعصيان كذلك. وكيف كان؛ فإنّ إحراز موضوع الأمر الترتبي في المقام ممكن ولا إشكال فيه. ولكن فكّر بعضهم أنّ أصل المحذور الذي ذكره المحقق قدس سره لا يرتفع لأنّ نكتة الإشكال باقية على حالها, فالمكلف إنما يمكنه أن يحرز ذوات أجزاء موضوع الأمر الترتّبي دون أن يعلم بموضوعيته، ووصول الحكم لا بُدَّ فيه من إحراز الموضوع بما هو موضوع، والوجه في عدم إمكان إحراز المكلف في المقام موضوعية تركه للقصر للأمر الترتّبي هو أنّ المكلف بحسب الفرض معتقد بوجوب التمام عليه بخطاب أولى، ومعه لا يعقل أن يحرز كونه موضوعاً لوجوب التمام بخطاب ثانوي ترتّبي؛ إذ إحرازه لذلك إن كان بإحراز كون اعتقاده بوجوب التمام موضوعاً لنفس ذلك الوجوب كان فيه محذور أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم الذي هو محذور شبه الدور، وإن كان بإحراز كونه موضوعاً لوجوب تمام آخر كان من اجتماع المثلين في نظره. وعليه فالمكلف المسافر في المقام دائماً يكون إتيانه بالتمام بتحريك أمر تخيّلي بالتمام يعتقده كخطاب أولي على المكلفين جميعاً في الحضر والسفر، وأما وجوب التمام الترتبي المخصوص بالمسافر الجاهل بوجوب القصر فلا يعقل وصوله إليه ومحركيته نحو التمام.

والحق؛ إن جميع ذلك من التطويل بلا طائل تحته فإنَّ موضوع الأمر الترتّبي ليس أمراً جديداً بالتمام عليه عند جهله بوجوب القصر حتى يحتاج إلى وصوله إليه وهو غير معقول لانه يشترط فيه العلم به بل هو الأمر الاولي على المكلفين جميعاً في الحضر والسفر، فإذا تحقق الشرط وهو الجهل بوجوب القصر فيتنجز عليه، وهو كافٍ في الداعوية والمحركية وإن اتصف بالعنوان الثانوي فهو أمر ترتّبي فلا حاجة لتصوير أمر آخر موضوع له، مع أنه قد تقدّم في أحد مباحثنا أنّ الأمر التخيلي كافٍ في الداعوية والمحركية.

ص: 85

الإشكال الرابع: إنَّ الأمر بالتمام إن كان مترتباً على ترك القصر في تمام الوقت فالمكلف إذا علم بوجوب القصر عليه بعد إتيانه بالتمام كانت وظيفته القصر ولم يكن ما أتى به من التمام صحيحاً ومطابقاً للأمر، وهذا خلف الفتاوى الفقهية التي تقضي بصحة التمام وعدم لزوم القصر بعدها، وإن كان مترتباً على ترك القصر آناً مّا فيلزم إيجاب الوظيفتين عليه لتحقق موضوعهما معاً.

ويمكن الجواب عنه؛ بافتراض تصرفين في الخطابين:التصرف الأول؛ هو تقييد الأمر بالتمام بأن لا يكون مصلياً القصر إلى حين إتيانه بالتمام، وعدم خروج الوقت. فلو لم يصلّ القصر إلى حين إتيانه بالتمام كان موضوعاً لوجوب التمام فتقع صلاته صحيحة.

التصرف الثاني؛ تقييد الأمر بالقصر بعدم الإتيان بالتمام، ولكن لا على نحو الشرط المتأخر حتى يكون معناه الترتب من الطرفين الذي يعني المساواة بين الواجبين في الأهمية الذي هو خلف الفتوى، بل بنحو الشرط المقارن بأن يكون عدم إتيانه بالتمام بل عدم إتمامه للتمام، ولهذا لو التفت في أثناء العمل إلى وجوب القصر بطلت صلاته في الآن الأول لكونه موجباً لوجوب القصر عليه فعلاً، فيكون الإتيان بالتمام بعد ذلك رافعاً لموضوع الوجوب من باب انتفاء الموضوع وسقوط الأمر، لا رافعاً له من أول الأمر من باب عدم ثبوته.

والحاصل؛ إنه بناء على ثبوت الأمر الترتبي في المقام كما ذهب إليه الشيخ الكبير كاشف الغطاء فإنّ صحة الصلاة في الموارد الثلاثة؛ الجهر والإخفات والتمام تكون موافقة للقاعدة، وإن منع الأمر الترتبي في المقام فإنّ تصحيح الصلاة يكون بوجه آخر كما سيأتي بيانه في أواخر مباحث الأصول العملية، هذا مع قطع النظر عن الأخبار وإلا فلا إشكال في الصحة لورود النص المعتبر فيها وعليه عمل الأصحاب وفتواهم.

ص: 86

الموسع و المضیق

الجانب الحادي عشر: ذكرنا سابقاً أنّ الواجبين إما أن يكونا مضيقين أو موسعين، والأهم يكون موسعاً، والمهم يكون مضيقاً أو بالعكس.

والترتب إنما يجري فيما إذا كان الأهم مضيقاً سواء كان المهم مضيقاً أو موسعاً فيدخل قسمان من الأقسام الأربعة في مورد البحث وهما الأهم المضيق والمهم مثله، والأهم المضيق والمهم الموسع، فيثبت الأمر الترتبي كما عرفت مفصلاً. ولكن المحقق الثاني قدس سره (1) ذكر(2) أنه بالإمكان الأمر بالواجب الموسع المزاحم مع الواجب المضيق في عرض واحد من دون حاجة إلى الرجوع إلى الترتب لأنّ الواجب الموسع يرجع إلى إيجاب الجامع، والإتيان به مع الواجب المضيق مقدور للمكلف فلا يلزم الأمر بهما في عرض واحد طلب غير المقدور المستحيل.

وقد عُلِّق على هذا الكلام بملاحظات ترجع إلى المباني المختلفة، وهذا البحث الذي تقدم في بحث الضد ولكن نذكره في المقام على سبيل الإيجاز، وهي:

الملاحظة الأولى: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (3) من أنّ ذلك مبني على كون القدرة شرطاً في التكليف من باب حكم العقل، وأما لو كان الخطاب بنفسه يقتضي اختصاص متعلقه

بالحصة المقدورة لأنّ مفاده البعث والتحريك وهو لا يُعقل نحو غير المقدور، فلا بُدَّ من تقييد الواجب الموسع بغير الفرد المزاحم بواجب آخر، فلا يمكن الأمر به في زمان المزاحمة إلا على نحو الترتب لعدم القدرة عليهما شرعاً.

ص: 87


1- . جامع المقاصد؛ ج5 ص13-14.
2- . لا يظهر هذا المتبنى من كلام المحقق الكركي قدس سره ، وقد نُسب إليه.
3- . أجود التقريرات؛ ج1 ص314.

ولكن عرفت التفصيل في بحث الضد في كيفية اعتبار القدرة في التكليف وحقيقة التكليف، وأنّ المعتبر هو مقدورية متعلق التكليف، والجامع بين المقدور وغير المقدور، ولا يحتاج إلى التقييد بالحصة المقدورة.

الملاحظة الثانية: أن يبني على القول بعدم استحالة الإطلاق إذا استحال التقييد، وأما لو قال باستحالته كما هو مبنى الميرزا قدس سره بأنه كلما استحال التقييد إستحال الإطلاق فلا يمكن الأمر بالواجب الموسع في المقام بنحو مطلق بحيث يشمل الفرد المزاحم، لأنّ التقييد بالفرد المزاحم مستحيل فيكون الإطلاق مستحيلاً. وقد تقدم أنه غير صحيح كما عرفت من أنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب لا العدم والملكة مع أنه يصح في الإطلاق السلبي، وأما الإطلاق الإيجابي؛ أي الشمول للحصة المقيدة فلا إشكال لأنّ التقييد بالفرد غير المزاحم ممكن، فيكون عدم التقييد للحكم الشامل للفرد المزاحم ممكناً.

الملاحظة الثالثة: دعوى ابتناء إمكان ذلك على القول بإمكان الواجب المعلق لأنه يستلزم فعلية الأمر بالجامع في الزمان الأول الذي هو زمان المزاحمة مثلاً، مع كون الواجب غير مقدور شرعاً في ذلك الزمان وإنما يكون مقدوراً بعد ذلك الزمان، فيلزم تقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب. وهذه بعينها مشكلة الواجب المعلق؛ فإن قيل باستحالته كان الأمر بالجامع مستحيلاً في المقام أيضاً.

ولكن أورد عليه بعدة إيرادات؛ منها أنّ ذلك مبني على بعض المسالك في امتناع الواجب المعلق دون كلها، لأنّ القائلين باستحالته يستندون إلى أحد مأخذين في إثبات الإمتناع، وقد تقدم ذلك.

ص: 88

الملاحظة الرابعة: إنّ الأمر بالواجب الموسع في عرض الأمر بمزاحمة المضيق يبتني على عدم رجوع التخيير العقلي إلى التخيير الشرعي؛ الذي يعني الأمر بكل فرد مشروطاً بعدم الآخر وإلا كان التكليف بالفرد المزاحم، ولو كان مشروطاً بترك سائر الأفراد فهو غير معقول، وهذا صحيح ولكنه لا يبطل كلام المحقق النائيني قدس سره في المقام لأنّ التخيير العقلي لا يرجع إلى التخيير الشرعي وإنماهو تكليف الجامع، بل ربما يرجع التخيير الشرعي إلى العقلي كما يأتي تفصيله. وبذلك ينتهي بحث الترتب ويكون هو المدخل إلى بحث التزاحم وخروج مورد التعارض كما تقدم تفصيله.

ص: 89

ص: 90

الأمر الرابع دلالة النهي على الفساد

اشارة

الأمر الرابع(1) دلالة النهي على الفساد

دلالة النهي على الفساد

والموضوع في هذا البحث هو أنّ النهي عن العمل هل يستلزم الفساد أو لا؟.

وقد يستبدل الشيء بالعمل لأن الكلام في صحة العمل وفساده أو يحذف كل واحد منهما ليكون البحث هل النهي يقتضي الفساد؟ وكيف كان ينبغي تقديم أمور:

الأمر الأول: هذا المبحث تعددت فيه جهات البحث وهي تختلف باختلاف الحيثيات والجهات المرتبطة به شأنه شأن كثير من مباحث هذا العلم؛ فإن كان مورد البحث هو أنّ المفسدة في الشيء تسقطه عن التقرّب به إلى المعبود كان البحث كلامياً، وإن كان من حيث وجوب الإعادة أو القضاء في العبادات كان البحث فقهياً، وإن كان من جهة إنّ كل عبادة منهي عنها تكون فاسدة عقلاً، يكون من الملازمات العقلية غير المستقلة.

ولكن الأصوليين أدرجوه في مباحث الألفاظ؛ إما لأنهم لم يعقدوا في الأصول بحثاً مستقلاً للملازمات، أو من أجل وجود القول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة العقلية بين النهي والفساد فيها؛ فلو جعل البحث عقلياً لم يكن هذا القول من أقوال المسألة بخلاف ما لو جعل البحث لفظياً فإنه يكون من أقوالها. ولن تترتب على ذلك ثمرة فالإعراض عنه أولى.

الأمر الثاني: إنّ هذا البحث يجري في مقام الثبوت والإثبات معاً فإنَّه على الأول؛ يكون البحث في ثبوت الملازمة الواقعية بين النهي عن العبادة وفسادها، وعلى الثاني؛ يكون إثبات ذلك بأحدى الدلالات المعتبرة اللفظية.

ولكن المحقق الخراساني قدس سره خصَّ البحث في بمقام الإثبات بدعوى أنّ من جملة الأقوال هو القول بدلالة النهي عن الفساد مع إنكار الملازمة رأساً، ولأجل شمول مورد

ص: 91


1- . من أمور الملازمات العقلية غير المستقلة.

البحث لهذا القول فلا بُدَّ من الإختصاص كما عرفت آنفاً. ولكن تخصيص البحث بمقام الإثبات لأجل قول ثبت فساده بالدليل مِمّا يورث العجب، مع أنه يمكن توجيه كلامه ولا حاجة لذكره لعدم ترتب فائدة مهمة عليه.

الأمر الثالث: إنّ هذا المبحث مغاير لمبحث اجتماع الأمر والنهي، وقد تقدم الكلام فيه إلا أننا نزيد في المقام: أنّ الإختلاف بين المبحثين يكون من حيث العنوان والعرف والدقة لأن البحث في المقام أن النهي بعد تعلقه بالعبادة هل يوجب فسادها، وفي مسألة الإجتماع في أن النهي هل يتعلق بالعبادة مع تعدد الجهة أو لا.

وبعبارة أخرى؛ إنّ الفرق بين المبحثين أنّ المقام يكون النهي عن العبادة فيه مفروع عنه، وفي السابق مشكوك فيه مع تعدد الجهة.

الأمر الرابع: النهي الوارد في عنوان البحث وإن كان ظاهراً في النهي الشرعي إلا أنّ ملاك البحث يشمل كل ما يسمى نهياً سواءً كان نفسياً كالنهي عن السجود للصنم أم غيره, لما ورد في أكثر من رواية بعدم جواز الصلاة في ما لا يؤكل لحمه(1) أصلياً كان كما في المثالين المتقدمين أم تبعياً، كما في مورد ترك الأهم والإتيان بالعبادة المهمة في ظرف الترك، بل إنه يعمّ النهي التنزيهي إن فُرض تعلقه بذات العبادة، فإنّ إطلاق النهي يشمل جميع تلك الأقسام لأنّ ملاك البحث يعم الجميع. ولكن لا بُدَّ من القول بخروج النهي الإرشادي الذي يكون إرشاداً إلى الماهية وفساد العمل كالنهي عن الصلاة في ما لا يؤكل لحمه مثلاً، لفرض أنّ مثل هذا النهي يقتضي الفساد لا محالة لكونه إرشاداً إليه، فما دام كذلك فلا معنى للبحث عنه.

ص: 92


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج4 ص345.

نعم؛ قد يقع البحث في الصغرى وأنه متى يُستفاد كون النهي إرشاداً، وسيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى.

كما يخرج النهي التنزيهي لفرض وقوع الإتفاق على صحة العبادات والمعاملات المكروهة، مع أننا اشترطنا تعلّق النهي التنزيهي بذات العبادة، وهو فرضٌ غيرُ واقع لأنّ النواهي التنزيهية متعلقة بالجهات الخارجة عن ذات العبادة لتقوّم العبادة بالرجحان الذاتي عرفاً وشرعاً وعقلاً مع أنَّ السيرة العملية عند المتشرعة قائمة على خروج النهي التنزيهي عن مورد البحث.

وأما دخول النهي التبعي في محل البحث فهو مبني على كونه موجباً لسقوط العبادة خطاباً وملاكاً، وإلا فمع بقاء الملاك فإنه يمكن تصحيح العبادة به بناءً على الترتب كما مرّ فيكون المقصود بالنهي في المقام هو النهي التحريمي فيقع البحث في أنّ تحريم العبادة هل يوجب فسادها أو لا؟.الأمر الخامس: العبادة والمعاملة الواردتان في عنوان البحث قد فُسّرتا بتفسيرات مختلفة:

فقيل: إنّ المراد بالعبادة الأعم مِمّا يكون بذاته عبادةً لله تعالى لولا حرمته، كالسجود لله تعالى والخضوع له فإنه عبادة بنفسه، ومما لا يكون كذلك، ولكن لو أمر به عباده لا يسقط بدون قصد القربة، كالصلاة والزكاة ونحوهما، فيقع البحث أنّ النهي هل يمنع من تحقق العبادية التي تترتب على السجود أو الصلاة مثلاً لولا النهي أو لا يمنع.

وقيل: إنّ المراد من العبادة هي المأمور به لأجل التعبد به، أو ما يتوقف صحته على النيّة وما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء.

وأورد على تلك التفسيرات بأنها غير صحيحة، لأنَّ العبادة بهذه المعاني يمتنع تعلُّق النهي بها حتى يتكلم باقتضائه الفساد وعدمه، إذ يمتنع تعلُّق النهي بما فرض تعلّق الأمر به فعلاً أو ثبوت صحته فعلاً أو ما كان فيه المصلحة فعلاً.

ص: 93

ولكن يمكن رفع الإشكال عنها بأنّ المراد منها هو الصحة والمصلحة الشأنيتين دون الفعلية منهما، ولكن مِمّا يهوّن الخطب أنّ هذه التعاريف من شرح الاسم دون كونها من التعاريف الحقيقية.

والحقُّ أنْ يقال: إنّ المراد من العبادة ما هو المرتكز في الأذهان، وهي تلك الوظائف التي يُتقرب بها إلى الله تعالى سواءً كان ذلك من لوازمها الذاتية، كالسجود وقراءة القرآن والدعاء ونحوهما مِمّا يكون قصد الخلاف مانعاً عن صحتها، لا أن يكون قصد القربة معتبراً فيها؛ أم كانت متقومة بقصد القربة كالصلاة والصوم والصلاة والحج ونحوهما، فيطلق على هذين القسمين العبادة بالمعنى الخاص في اصطلاح الفقهاء، وهو مورد البحث في المقام.

وقد تطلق العبادة على ما يمكن أن يُقصد بها التقرب إليه عَزَّ وَجَلَّ، وتسمى في اصطلاح الفقهاء بالعبادة بالمعنى الأعم، فتشمل جميع المباحات والمندوبات التوصلية، بل ترك المحرمات لإمكان قصد التقرب بها جميعاً ويترتب الثواب عليه أيضاً.

وتقابل العبادة على المعنيين المعاملات؛ فإنها تارةً؛ تطلق على خصوص العقود والإيقاعات، واصطلح عليها الفقهاء بالمعنى الأخص، وأخرى ما يقابل العبادات بالمعنى الأخص فيشمل الجميع؛ أي ما لم يكن عبادة بالمعنى الأخص، وهذا هو المراد من قولهم في المقام النهي في المعاملة لا يوجب الفساد.

الأمر السادس: لا ريب في أنّ الصحة والفساد من العناوين الإضافية التي تنتزع من مطابقة الشيء لما هو المطلوب منه ومخالفته له، ويطلق عليها التمامية وعدمها أيضاً. ولا يختصان بالمجعولات الشرعية أو العرفية بل يجريان في التكوينيات فإنّ لكل شيء أثر خاص به الذي يطلب منه فيكون بالنسبة إليه صحيحاًأو فاسداً، ولكن الفرق بين التكوينيات وغيرها أنّ

ص: 94

الوصفين فيها يكونان حقيقياً، وفي غيرها يكونان إعتباريين, بل يمكن أن يجعلا من الإعتباريات مطلقاً لأنهما من الإنتزاعيات.

ومن أجل كونهما من الأمور الإضافية فيمكن أن يتصف الشيء الواحد بهما بلحاظ ترتب أثر معين عليه، وعدم ترتب أثر آخر عليه. وعليه يكون اتصاف الشيء بهما مختلفاً باختلاف الأنظار لاختلافها في الأثر المترتب والمرغوب؛ فقد يكون الشيء صحيحاً وفاسداً عند شخص واحد. وقد تقدم في بحث الصحيح والأعم تفصيل ذلك، إلا أنّ المهم بيانه هو: هل أنّ الصحة من الأمور المجعولة أو لا.

وتحقيق هذا يتضح في جريان استصحاب الصحة عند الشك في فقدان الجزء أو حصول المانع في الشبهة الحكمية, لأنّ الصحة إذا كانت من المجعولات الشرعية كانت مِمّا يقبل التعبد وضعاً ورفعاً، فيصحّ إجراء الأصول فيها، ويأتي الكلام فيه ضمن بحث الإستصحاب.

الأمر السابع: النهي إمّا أن يتعلق بذات العبادة كقوله تعالى: ( لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ)(1) أو يتعلق بجزئها كما عن زُرَارَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا علیهما السلام قَالَ: (لَا تَقْرَأْ فِي الْمَكْتُوبَةِ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْعَزَائِمِ؛ فَإِنَ السُّجُودَ زِيَادَةٌ فِي الْمَكْتُوبَةِ)(2). أو يتعلق بشرطها كالنهي الوارد في الصلاة فيما لايؤكل لحمه(3) .

ولا إشكال في بطلان العبادة في القسم الأول كما عرفت.

والظاهر سريان النهي في الآخرين الى الذات عرفاً, ولأنّ المشتمل على المبغوض لايمكن التقرب به وهو ما يستنكره العقلاء؛ مع أن النهي بكلا قسميه -جزءاً كان أم شرطاً- فهو

ص: 95


1- . سورة النساء؛ الآية 43.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 6 ص105.
3- . المصدر السابق؛ ج4 ص345 ب2 من أبواب لباس المصلي.

إشارة إلى فساد المقيد به كما هو المعروف بين الفقهاء، فيكون فساد العبادة المنهي عنها بقيدها من باب الوصف بحال الذات لا المتعلق, فيكون مثل القسم الأول وهو العبادة المنهي عنها بذاتها من غير فرق.

نعم؛ بحسب الدقة العقلية يكون من باب الوصف بحال المتعلق ,إلا إنّ كلمات الأعلام مختلفة في المقام كما ستعرف من بيان الأمثلة لكل واحد من هذه الأقسام وهي كثيرة مذكورة في كتب الفقه كالرياء في جزء العبادة وقراءة سورة العزيمة والقران بين السورتين والزيادة العمدية, وغير ذلك؛ والكبرى واحدة وإن تعددت الصغريات.

إذا عرفت ذلك فالكلام يقع في مسألتين:المسألة الأولى: في النهي عن العبادة.

المعروف بطلان العبادة إذا تعلق النهي بها، ومما يشهد به وجدان كل عاقل أنّ التقرب إلى المعبود بما هو مبغوض ومنفور لديه مستنكرٌ وقبيح وباطل.

وجعل بعضهم كالسيد الوالد قدس سره (1) ذلك من القضايا التي قياساتها معها, ويكفي نفس تصورها في الإستدلال عليها.

ومع ذلك فقد إستدلوا عليه بأدلة عديدة نذكر المهم منها:

الدليل الأول: إنّ النهي إذا تعلق بالعبادة يكشف إنّياً عن ثبوت المفسدة فيها، ولا ريب أنّ المفسدة منافية ومضادة مع المصلحة فيكون النهي الكاشف عن المفسدة كاشفاً عن عدم المصلحة أيضاً, فيثبت أنّ العبادة المنهي عنها فاقدة للملاك والمصلحة فلاتكون مجزية لامحالة، فلا بُدَّ من الإعادة أو القضاء لوجوب استيفاء الملاك.

ص: 96


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص240.

وأورد عليه:

1- إنّه يدل على القصور الذاتي في العبادة فلا يختص بالعبادة بل يشمل الواجبات غير المشروطة بقصد القربة أيضاً؛ فإنه إذا ثبت أنّ النهي يكشف عن وجود المفسدة ومع ثبوتها لا توجد المصلحة للتضاد بينهما فلا يمكن أن يكون ذلك مجزياً أو مسقطاً للأمر.

2- إنّه بناءاً على هذا الأمر يكون الموجب للبطلان هو النهي بوجوده الواقعي وإن لم يصل إلى المكلف، لكونه ناشئاً عن المفسدة سواء وصل إلى المكلف أم لم يصل، والمفسدة لا تجتمع مع المصلحة, سواء كانت المفسدة واصلة أم لا. وعليه يكفي مجرد احتمال النهي في الواقع وإن لم يصل الينا في عدم الجزم بصحة العبادة حتى لو كانت الحرمة مؤمّنة، وهذا مِمّا لا يقول به الفقهاء.

والظاهر أنّ هذا البرهان يختص بالنهي الذي يدل على فساد العبادة ويرشد إلى كون متعلق النهي بنفسه مفسدة، لا أن تترتب عليه مفسدة.

وفي غير هذا القسم لا يتم هذا البرهان فإنه ربما يكون في متعلق النهي مصلحة، ولا استحالة في مورد إذا كان فيه مفسدة أن تترتب عليه المصلحة أيضاً فإنه ليس بعزيز الوجود أن يكون في الفعل المنهي عنه المفسدة والمصلحة معاً.

الدليل الثاني: إنّ النهي يكشف عن مفسدة غالبة؛ فلو كانت هناك مصلحة في الفعل المنهي عنه فسوف تكون مغلوبة لا محالة للمفسدة الغالبة, ولا يمكن حينئذٍ التقرب بمثل هذا الفعل إلى المولى, فيتعذر وقوع العبادة على وجه صحيح من جهة عدم التمكن من التقرب.

وهذا البرهان إنما يقضي بالبطلان على أساس قصور قدرة المكلف وعدم صلاحية الفعل في إثباته على وجه قربيّ, لا من ناحية القصور الذاتي في العبادة كما في البرهان الأول فلو

ص: 97

فرض إمكان التقرب بالفعل الذي تكون المصلحة فيه مغلوبة لو وقع الفعل صحيحاً لفرض اشتماله على مصلحة الأمر.

ومن هنا يختص هذا البرهان بالعبادات ولا يشمل غيرها من الواجبات، كما أنّ البطلان على أساس هذا البرهان يكون ناشئاً من النهي بوجوده الواقعي وإن لم يصل إلى المكلف فإنّ النهي يكون ناشئاً عن مفسدة غالبة؛ فلو كانت مصلحة فهي مغلوبة, ويستحيل التقرب بمثل ذلك إلى المولى, وعليه يكون مجرد احتمال عدم وصول الحرمة والنهي في الواقع إلينا يكفي لعدم الجزم بصحة العبادة, حتى لو لم يكن هذا الإحتمال منجّزاً للحرمة.

وأورد عليه أيضاً: بأنه غير تام، لأنّ الإقتراب إلى المولى؛

إما أن يراد به تحقيق انبساط صدر المولى واسئناسه به من ناحية تحقق أغراضه وميوله؛ وذلك من قبيل أن يقتل العبد عدوَّ المولى فإنه اقتراب إلى المولى من ناحية أنه حقق غرضه ولو فرض أنّ العبد كان يتخيل أنه صديق المولى وتجرأ فقتله ثم تبين عدواً له.

وإما أن يراد بالإقتراب بحسب موازين العبودية والمولوية؛ فلو قتل عدوَّ المولى بتخيل أنه صديقه فإنه ليس اقتراباً إلى المولى عقلاً بل هو ابتعاد عنه, ولو قتل صديق المولى بتخيل أنه عدوّ يكون اقتراباً إلى المولى وليس ابتعاداً عنه وإن كان مفوِّتاً لغرض المولى ومؤثِراً على نفسه.

فلو كان الشرط في العبادات هو الإقتراب بالمعنى الأول كان لهذا البرهان وجهاً وجيهاً, فإنّ مغلوبية المصلحة للمفسدة مساوقة لعدم إمكان التقرب بالمعنى الأول فتبطل العبادة، ولكن الشرط في العبادات هو الإقتراب بالمعنى الثاني، ومن الواضح أنّ مجرد مغلوبية المصلحة للمفسدة لا يعني عدم إمكان التقرب بالمعنى الثاني إلا أنه لا بُدَّ من إضافة نكتة

ص: 98

زائدة ترجعنا إلى بعض البراهين التالية، فإنّ مناط التقرب بالمعنى الثاني ليس ذات المصلحة بما هي هي، بل العلم بالمصلحة أو ما بحكمه، وحينئذٍ يمكن أن تكون المصلحة مغلوبة، أو لا توجد مصلحة أصلاً، ومع ذلك يتحقق التقرب بالمعنى المطلوب كما إذا تخيّل عدم النهي وتوهم أنّ هناك مصلحة غالبة. ولكن سيأتي عدم تمامية هذا الإيراد.

الدليل الثالث: إنّه مع تعلق النهي بالعبادة يسقط الأمر عنها لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي، فإذا سقط الأمر فلا يمكن أن يُحرز ثبوت الملاك والمصلحة في ذلك الفرد المنهي عنه من العبادة كما عرفت من أنّ الملاك إنما يُستكشف من الأمر الذي تعلق بها بالدلالة الإلتزامية والتي تسقط بسقوط الدلالة المطابقية. وعلى فرض إحراز الملاك لا يمكن إحراز أن تكون الحصة المنهي عنها موجبةلسقوط الوجوب وإبراء الذمة, ولايمكن الإجتزاء بها لأنّ الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

والنتيجة هي بطلان العبادة بإتيان ذلك الفرد المنهي عنه. وهذا الدليل يتفق مع الأول في أنّ البطلان يرجع إلى القصور الذاتي في العبادة لعدم إحراز الملاك في العبادة, فلا يختصّ بالعبادات بل يأتي في الواجبات التوصلية أيضاً، ولكن الذي يؤخذ على هذا الدليل أنّ البطلان فيه يكون بطلاناً ظاهرياً لا واقعياً لأنه يثبت بأصالة الإشتغال.

كما إنه يرد عليه بأنّ النهي عن فرد من أفراد العبادة يوجب تقييد الإطلاق ببقية الأفراد؛ فإن فرضنا عدم وجود الإطلاق لدليل الوجوب كما إذا ثبت الوجوب بدليل لبّي لا إطلاق له، ويكون الفرد المتيقن منه هو ثبوت الوجوب على المكلف لو لم يأتِ بالفرد المنهي عنه، فلو أتى به لا يكون من الشك من تفريغ الذمة حتى تجري أصالة الإشتغال, بل يكون الشك في أصل التكليف بالوجوب فتجري أصالة البراءة فلا تجب الإعادة.

ص: 99

وأما لو افترضنا وجود إطلاق بدليل الوجوب بخلاف الفرض السابق فستكون النتيجة هي بطلان العبادة وعدم الإجتزاء بها، ولكن البطلان إنما يكون منشؤه إطلاق دليل الوجوب دون أصالة الإشتغال, لعدم الإكتفاء بذلك الفرد المنهي عنه لعدم وجدانه للملاك والمصلحة سواء كان الواجب تعبدياً أم كان توصلياً.

الدليل الرابع: أنّ المكلف بعد تعلّق النهي بالعبادة لا يمكنه إيقاعها بداعٍ إلهيٍّ محض بل يكون في جنبه داعٍ شيطانيٌ عصياني أيضاً، فإذا قيل -فقهياً- بأنه لايكفي لتصحيح العبادة وجود الداعي الإلهي فقط بل لا بُدَّ أن لا يكون معه داعٍ شيطاني, فمع وصول النهي تقع العبادة باطلة. ولكن هذا الدليل يخص البطلان بوصول النهي، ومع عدم وصوله لا يتحقق الداعي الشيطاني، كما إنه يختص بالعبادات لأنه لا قصور ذاتي في العبادة بل القصور يرجع إلى قدرة المكلف في عدم قصد القربة محضاً من دون قصد العصيان, فلا يشمل الواجبات التوصلية.

ولكن الإشكال الذي يتوجه عليه أن الكبرى التي استند عليها هذا الدليل وهي انتفاء الداعي الشيطاني وتحقُّق الداعي القربي المحض إنما هي مسألة فقهية لا بُدَّ من إثباتها في الفقه، وهو الذي يقتضيه الإرتكاز وعليه إجماع الفقهاء, وغير بعيد أن يكون هذا الإرتكاز راجع إلى الوجدان الذي ذكرناه في ابتداء البحث من عدم إمكان إطاعة الله من حيث يُعصى, فالعبادة لا بُدَّ أن تكون بداعٍ قربيّ خالص من دون أن يكون معه داعٍ عصياني شيطاني، فالعمدة ما ذكرناه من دعوى الوجدان بقبح التقرب إلى المعبود بما مبغوض لديه.وهناك براهين أخرى استدلوا بها على البطلان؛ فإن أمكن إرجاعها إلى ما ذكرناه فهو، وإلا فلا تسلم من المناقشة. هذا كله من حيث مقام الإثبات وقيام الدليل على الملازمة بين النهي والبطلان.

ص: 100

تحرير الأصل عند الشك

لايخفى إنّ محلّ البحث هو معرفة الأصل في اقتضاء النهي فساد العمل وثبوت الملازمة بينهما بعد العلم بتعلق النهي بالعمل فلا وجه لإيقاع البحث في صورة الشك في الفساد من جهة كون الشبهة موضوعية أو حكمية وتحقيق الحال فيه. فالبحث تارةً؛ يكون في تحقق الملازمة بين النهي والفساد ثبوتاً، فتكون المسألة أصولية، وأخرى يكون في تحقيق الأصل في المسألة الفرعية.

أما الأولى(1)؛ فقد يقال بأنّ الأصل يختلف بحسب المقصود بالصحة والفساد في العبادة, وهي أحد معانٍ ثلاثة:

المعنى الأول: الصحة والفساد بمعنى موافقة الأمر وعدمها, وعليه لا شك في الفساد من هذه الحيثية إذ مع تعلق النهي بها لا يتعلق بها أمر فلا تقع العبادة موافقة للأمر أبداً بعد انتفاءه فلا وجه للبحث عن الأصل لعدم الشك.

المعنى الثاني: الصحة والفساد من جهة وفاء العمل بالملاك وعدمه, وهذا المعنى قد يقع مورداً للشك، فإنه مع تعلّق النهي بالعمل قد يلتزم ببقاء ملاك الأمر على ما كان عليه، وإنما غلب عليه ما يكون مانعاً عن تأثيره, كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (2) في بحث اجتماع الأمر والنهي، ولكنه غير تام كما ذهب إليه جمعٌ من انتفاء الملاك, لأنه المصلحة الراجحة، ومع تعلق النهي لا تبقى مصلحة راجحة وإلا لامتنع تعلق النهي فيكون ملاك النهي موجباً لرفع ملاك الأمر لا مانعاً عن تأثيره.

ص: 101


1- . الملازمة بين النهي والفساد.
2- . كفاية الأصول؛ ص157.

ومن أجل ذلك يكون هذا الأمر مورد البحث ويصير مورد الشك فيكون مجرى الأصل، ولكن لايوجد أصل يعيّن أحد الطرفين كما هو واضح.

المعنى الثالث: الصحة والفساد من جهة مقربيّة العمل وعدمه، وهذا المعنى يقع مورد الشك فيحصل الشك في أنّ المبغوضية الفعلية هل تتنافى مع التقرب المعتبر في العبادة أو لا، وهنا أيضاً لا أصل لدينا يعين أحد الطرفين.

والظاهر أنّ المسألة عقلية أكثر من كونها راجعة إلى معنى الصحة والفساد فيقع البحث فيها من حيث ثبوت الملازمة العقلية بيين النهي والفساد ثبوتاً تارةً؛ وأخرى في إثباتها من حيث كونها مسألة لفظية، أي ظهور النهي في المانعية وكونه إرشاداً إلى الفساد أو أنه ظاهر في الحرمة التكليفية.واختار السيد الوالد قدس سره (1) في الأول العدم بإجراء الأصل في أصل الملازمة، فإنّ مقتضى الأصل عدم ثبوت الملازمة بالعدم الأزلي دون النعتي؛ إذ ليست له حالة سابقة كما عرفت آنفاً.

ثم قال بأنّ نفس الشك في الثبوت وعدمه يكفي في عدم الثبوت فلا بُدَّ في إثباتها من حجة معتبرة, وإلا فإنّ مقتضى الأصل عدم الإعتبار.

وقال في الثاني إنه لو شك في دلالة النهي على الملازمة وظهور لفظ النهي في الفساد بإحدى الدلالات المعتبرة فإنه يمكن الرجوع إلى الأصل في عدم الدلالة بالعدم الأزلي ونفي الظهور، كما أنّ الشك في ثبوت الدلالة يكفي في عدمها, فتكون نتيجة المسألة الأصولية مطلقاً عند الشك فيها هو عدم إحراز الفساد بلا فرق بين العبادات والمعاملات.

ص: 102


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص240.

وحينئذٍ يصح التمسك بالعمومات والإطلاقات على الصحة إلا إذا قلنا بأنّ الرجوع إليها هومن التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه، لا سيما في العبادات التي تقدم أنّ الوجدان فيها حاكم بقبح التقرب إلى المعبود بما هو مبغوض لديه, وهو ارتكازي لدى كل عابد.

والنتيجة هي بطلان العبادة ودلالة النهي على الفساد وإرشاده إليه، فيكون مقتضى الأصل في المسألة الأصولية مخالفاً لذلك.

وأما الثانية(1)؛ فالظاهر فيها أنّ الشك فيها يرجع إلى الشك في مانعية النهي عنه فيكون من صغريات الأقل والأكثر في العبادات, فإنّ خروج معلوم الفساد عن الإطلاق والعمومات يكون متيقناً, ولا علم بخروج مشكوك الفساد. فمن قال بالبراءة في الأقل والأكثر يقول بها هنا أيضاً, ومن قال بالإحتياط يلزمه القول به في المقام بالإعادة أو القضاء. ولكن التمسك بالإطلاق والعموم في المقام لا يخلو من إشكال لوجود تلك القرينة المعهودة في الأذهان والتي تعرضنا لها سابقاً.

ومع ذلك فقد أُشكل عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنّ القرينة إنما تجري فيها إذا كان الفساد محرَزاً بالحجة المعتبرة, ولذا اشتهر أنّ النواهي التحريمية في العبادات مطلقاً إرشادٌ إلى الفساد, وأما إذا كان الفساد مشكوكاً لجهة من الجهات فلا تجري تلك القرينة المعهودة, فالمرجع حينئذٍ هو الأصل بلا فرق بين أن يكون مورد النهي هو الجزء أو الشرط, لأنّ تقييد الذات لكل واحد منهما يوجب اتصاف الذات بالمبغوضية أيضاً وإن أمكن التفكيك بينهما عقلاً. نعم؛ يستثنى من هذه الصورة ما إذا كان شيءٌ واجباً في العبادة من دون تقييدها به جزءاً أو شرطاً فلا يوجب النهي عنه فسادها لفرضعدم التقييد في البين سواء كان ذلك الشيء؛ عبادة أيضاً

ص: 103


1- . حكم المسألة الفرعية الفقهية.

كوجوب صلاة الظهرين لمن كان صائماً في شهر رمضان, أم لم يكن عبادة كإزالة النجاسة من المسجد لمن كان معتكفاً فيه، فلو فسدت صلاة الصائم في شهر رمضان فلا تضرّ بصومه، ونحو ذلك سلام الأجنبي على الأجنبية أثناء اشتغالها بصلاة الفريضة فردّت عليه إن قلنا بأنّ صوت الأجنبية عورة.

الوجه الثاني: إنّ الأصل في العبادات المشكوكة هو البطلان مطلقاً. ولذا اشتهر أنّ العبادات توقيفية، فلا بُدَّ من الإقتصار على المعلوم صحتها والتي علم صدورها من الشارع, فهي من هذه الجهة كالحجية، حيث إنّ مجرد الشك فيها يكفي في عدم الحجية, فلا يبقى موضوع للتمسك بالإطلاقات والعمومات ولا نحتاج إلى القرينة المعهودة أيضاً.

ولكن يمكن الجواب عنه؛ بأنه لا أصل لما أصّلوه من عقل أو نقل, ولاريب في توقيفية العبادات وأنها من الأمور المسلّمة في الجملة، ولكن بمعنى إنها منوطة بجعل الشارع, ولكن بعد الجعل لا بُدَّ من العمل في ما يُشك في اعتباره بالرجوع إلى القواعد المعتبرة والأصول المقررة كما جرت عليه سيرة الفقهاء.

الوجه الثالث: إنّ مورد النهي في العبادات؛ إما أن يكون نفس العمل من حيث هو, أو العمل مع قصد القربة، والأول خارج عن مورد البحث، إذ لا عبادية ذاتية في غالب العبادات وإنما تكون عباديتها لأجل قصد القربة, فمع النهي عن نفس العمل لا يتحقق قصد القربة قطعاً، والثاني باطل من حيث التشريع فلا موضوع لبحث أنّ النهي في العبادة هل يوجب الفساد.

ويمكن الجواب عنه بما يلي:

أولاً: إنّ هذه المغالطة لا تجري فيما إذا كانت عبادية العبادة ذاتية كالسجدة, وقراءة القرآن والذكر والدعاء ونحوها.

ص: 104

ثانياً: إنّ متعلق النهي إنما هو العمل مع قصد القربة, والفساد يرجع إلى وجود النهي الذي يعتبر العلة الذاتية للفساد, ومع وجودها لا تصل النوبة إلى العلة العرضية التي هي التشريع، فلا يُسند الفساد إليه, لأنّ ما بالذات أولى بأن يُعلّل به كما هو المعروف من انتهاء العلة العرضية إلى العلة الذاتية.

الوجه الرابع: عدم جواز التمسك بالإطلاق لدليل المأمور به لعدم الأمر في مورد النهي, فإنّ العمل منهي عنه فلا يمكن أن يكون متعلقاً للأمر فيكون خارجاً عن الإطلاق.

وفيه: ماعرفت آنفاً من إمكان تصوير الأمر ووجوده وإن كان مغلوباً للنهي، وإذا حصل الشك فإنه لو علم بانتفاء الأمر فلايبقى مجال للشك حينئذٍ.

والحاصل؛ إنه يمكن القول بأنه ليس في البين أصل عملي في المسألة الفرعية عند الشك في دلالة النهي عن العبادة على الفساد, فلا يستفاد منه بطلان العملوفساده، اللهم إلا إذا كان النهي قد تعلّق بالعبادة بحجة معتبرة فإنّ الإرتكاز العرفي الذي تقدم بيانه يثبت الملازمة بين النهي وفساد العبادة عند العقلاء, فيكون الشك في الفساد بعد تعلق النهي من مجرد الفرض.

خاتمة فيها أمور

الأمر الأول: ذكرنا فيما سبق أنه لافرق في بطلان العبادة إذا تعلق بها النهي بينما إذا تعلق بذات العبادة أو بجزء من أجزاءها أو بشرط من شروطها لرجوع النهي في الأخيرين إلى الذات واتصافها بالمبغوضية أيضاً وإن أمكن التفكيك بينهما عقلاً.

وقدم المحقق النائيني قدس سره في وجه البطلان أيضاً فيما إذا كان الجزء محرّماً فيقيد الواجب بغيره، وهو يعني أنه يكون مانعاً عن صحة العمل فلو أتى به يبطل من ناحية المانع.

ص: 105

وأُشكل عليه بأنّ تحريم جزء معين وإن كان يوجب تقييد الواجب بغيره وأنه لا إشكال فيه إلا أنّ ذلك لايعني كونه مانعاً من صحة الواجب, فلو تعلّق النهي بشرط العبادة وكان هذا الشرط بنفسه عبادة كالوضوء, فإنه يبطل لا محالة، وببطلانه يبطل المشروط, ولو لم يكن المشروط عبادة فيمكن التمسك حينئذٍ بإطلاق دليل الشرطية لإثبات أنه مصداق للشرط فتدخل المسألة في كبرى اجتماع الأمر والنهي؛ فإنّ الفعل يكون مأموراً به باعتباره شرطاً شرعاً في الواجب ويكون محرماً أيضاً مثل التستر بالثوب المغصوب.

ويرد عليه: إنه إذا كانت المسألة مبنية على التحليل العقلي والدقة كذلك فقهياً فيمكن أن يقال:

1- إنه يمكن التفرقة بين الشرط والجزء؛ حيث يمكن التمسك بإطلاق دليل الشرطية في مورد النهي إذا لم ينجّز الحرمة لأجل الجهل مثلاً, فإنه ربما يكون النهي الواقعي متعلقاً بالقيد ومتعلق الأمر هو التقيد، ولايمكن التمسك بإطلاق دليل المركب المأمور به في مورد النهي عن جزءه.

2- إنّ إداخال المسألة في بحث اجتماع الأمر والنهي غير صحيح، فإنّ النهي قد تعلق بالقيد لا بالتقيّد، والأمر الضمني في الشرط يتعلق بالتقيّد ولا يسري إلى القيد فيكون أحدهما غير مصبّ الآخر. فلا بُدَّ من الرجوع إلى العرف في موارد النهي عن جزء العبادة أو شرطها؛ فإنّ الذوق العرفي يرى بأنّ النهي عنهما في العبادة يسري إلى الذات فتتصف بالمبغوضية أيضاً، ولعل مراد المحقق النائيني قدس سره (1) ذلك أيضاً وإن قصرت عبارته عن إفادته. وكثير من الأصوليين عندما يريدون التعبير بالذوق العرفي إنما يعبرون بما استقرت في عقولهم من الأدلة العقلية

ص: 106


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص465-466.

فيعبرون عن الذوق العرفي بالبرهان العقلي فتتحقق المخالفة، ولذا يورد عليهم بإيرادات كثيرة، والمقام من هذا القبيل.

فالحقُّ ما ذكرناه؛ فإن أوجب مبغوضية الجزء مبغوضية أصل العبادة كالرياء ونحوه فلا إشكال في فسادها، وأما إذا لم يكن كذلك؛ فإذا فرض كونه عبادة أيضاً فالنهي يقتضي فساد ذلك الجزء، فلو تداركه صح العمل إن لم يكن هناك مانع آخر يوجب بطلان العبادة أصلاً كالزيادة ونحوها، ولو لم يتداركه بطل أصل العمل باعتبار نقصان جزءه.

الأمر الثاني: تقدم سابقاً أنّ النهي التحريمي يقتضي فساد العبادة، وذكرنا أنّ عنوان البحث وإن كان يشمل النهي التنزيهي أيضاً إذا تعلّق بذات العبادة. ولكنه خارج عن مورد البحث لوجوه:

الوجه الأول: الإجماع على صحة العبادات المكروهة التي تعلّق بها نهي كراهتي.

الوجه الثاني: إنه لم يوجد في الشريعة نهياً تنزيهياً يتعلق بذات العبادة، بل النواهي التنزيهية تتعلق بالجهات الخارجية عن ذات العبادة لتقوم الرجحان الذاتي في العبادات عرفاً وشرعاً وعقلاً.

الوجه الثالث: السيرة العملية القطعية قائمة على خروج النهي التنزيهي عن مورد البحث، ومع ذلك فقد يظهر من بعضٍ(1) جريان البحث في النهي التنزيهي حيث ذكر أنّ النهي التنزيهي على أقسام:

القسم الأول: النهي الكراهتي الناشئ من نقص محبوبية هذا الفرد من العبادة -لا من مبغوضيته- فهو لا يقتضي البطلان مطلقاً سواء كان نقص المحبوبية لنكتة قلة المصلحة فيه أم لنكتة أنّ المصلحة فيها مزاحمة بمفسدة أخف وأضعف.

ص: 107


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص120.

ولكن تبقى المحبوبية على نحو ضعيف ولا دخل بذلك بمسألة اجتماع الأمر والنهي كما عرفت سابقاً من اختلاف الملاك في كل واحد من البحثين.

القسم الثاني: إنّ النهي الكراهتي ينشأ من مبغوضية فعلية في هذا الفرد مع الإلتزام بامتناع اجتماع الأمر والنهي حتى لو كان نهياً تنزيهياً. وفي هذا القسم التزم ببطلان العبادة على أساس أن النهي ينشأ من مبغوضية ذاتية تكشف عن عدم محبوبية متعلقة بعدم إمكان اجتماع الحب والبغض في شيء واحد, وأنّ المبغوضية الذاتية في الفرد تكون دليلاً على أنّ الجامع المنطبق على هذا الفرد لم يكن واجداً لملاك المأمورية وهو يعني وقوع هذا الفرد من العبادة باطلاً بنكتة قصوره الذاتي وعدم وجدانه للملاك.القسم الثالث: النهي الكراهتي الذي ينشأ من مبغوضية فعلية مع الإلتزام بجواز اجتماع الأمر والنهي بدعوى أنّ الأمر متعلق بصرف الوجود والنهي يتعلق بالحصة، ففي هذه الصورة لا يقتضي النهي الكراهتي الفساد لعدم قيام برهان يدل عليه.

نعم؛ القدر المتيقن قيام البرهان على إرتكاز أنّ الشرط في صحة العبادة هو عدم وجود داعٍ شيطاني، ولكن القدر المتيقن منه عدم وجود الداعي الشيطاني العصياني بحيث يترتب عليه العقاب فلا يشمل مثل المخالفة الحاصلة من ارتكاب النهي الكراهتي.

والحق؛ أنّ شيئاً مِمّا ذكر ليس له واقع عملي في الخارج، فإنّ العبادات المكروهة إنما يتعلق النهي الكراهتي فيها بأمور خارجة عن ذات العبادة لتقوّم الرجحان الذاتي في العبادة عقلاً وشرعاً وعرفاً, فلا يتصور فيها تحقق النهي الكراهتي عن مبغوضية ذاتية.

وعلى فرض قبول ما ذكره فإنه لا يتصور فيه اجتماع الحب والبغض في مورد العبادة المكروهة بعد كشفه عن انتفاء الملاك في المأمور به, فلا أمر حينئذٍ فتخرج عن مورد اجتماع الأمر والنهي.

ص: 108

وإن قال بأنّ النهي الكراهتي لا ينفي المحبوبية الذاتية فإنه إقرار منه بثبوت الأمر وعدم القصور الذاتي، ولا دليل على سقوطه لوجود الملاك في المأمورية. فما ذكره قدس سره لا يمكن قبوله.

الأمر الثالث: ذكرنا أنّ النهي الذي يدل على الحرمة التكليفية الذاتية يقتضي فساد العبادة، ومرشدٌ إلى الحرمة الذاتية وبطلان العبادة، ولكن هل تكون الحرمة التشريعية كذلك، فلو فرض أنّ المكلف كان يعلم بأنّ العبادة غير مأمور بها ويأتي بها بقصد أنها مأمور بها, فلا إشكال في وقوع العبادة باطلة, ولكن هل يكون البطلان لأجل حرمتها التشريعية, أو على أساس عدم تعلق الأمر في نظر المكلف. ومن المعلوم أن عدم تعلّق الأمر لا يكون لأجل مزاحمة الحرمة التشريعية له فيكون بطلان العمل لأجل القصور الذاتي.

ومرةً أخرى يأتي بها المكلف من دون العلم بأنها غير مأمور بها, بل كان يشك مثلاً في كونها مأمور بها فيأتي بها بقصد أنها مأمور بها من قبل الشارع، فتقع العبادة باطلة لا لأجل القصور الذاتي فيها، بل على أساس أنه أتى بها بقصد التشريع.

وقد ذكروا وجوهاً في تقريب أنّ الحرمة التشريعية تقتضي الفساد، وهي:

الوجه الأول: القول بأنّ حرمة التشريع لا تستند إلى القصد والهاجس القلبي، بل تكون من ناحية الفعل الخارجي, لأنّ التشريع يكون وجهاً وعنواناً للعمل، فإنه يحرم إذا حرم هذا العنوان. فلو تحققت الحرمة في العبادة فإنه يصير حالها حالالحرمة الذاتية فتوجب البطلان وتقتضي الحرمة التشريعية الفساد, كما هو مقتضى الأدلة والبراهين التي تقدمت الإشارة إليها.

الوجه الثاني: القول بأنّ حرمة التشريع إنما تستند إلى القصد والإسناد القلبي، ولا تنضبط على العمل الخارجي؛ فحينئذٍ يقال بأنّ حرمة التشريع تكفي لجعل القصد المحرك للعمل

ص: 109

محرماً فلا يمكن أن يكون مقرّباً، لأنّ المقرّب إنما يكون بما هو محبوب شرعاً دون ما إذا كان مبغوضاً، فيكون الفرق بين الحرمة التشريعية وبين الحرمة الذاتية؛ فإن في الأخيرة يكون مورد الحرمة هو نفس العمل والمبغوضيتة وكان بالإمكان أن يتحقق القصد الإلهي، أما في الحرمة التشريعية يكون القصد شيطانياً فلا يمكن التقرب على أساسه.

الوجه الثالث: القول بعدم تعلّق الحرمة الشرعية لا بالفعل الخارجي ولا بالقصد والإسناد القلبي، بل الإفتراض بأنّ قبح التشريع إنما يكون من باب قبح التجري الذي هو في طول حق المولى فلا يمكن أن يكون موجباً لحكم شرعي.

وعلى هذا الإحتمال؛ لا إشكال في قبح هذا الإسناد والقصد عقلاً لأنه هتكٌ لحق المولى وهدرٌ له، فيستحيل أن يكون مقرباً إلى المولى.

وأحسن هذه الوجوه هو الوجه الأول كما سيأتي توضيحه في محله إن شاء الله تعالى.

الأمر الرابع: ذكرنا أنّ عنوان البحث يشمل النهي المولوي والنهي الإرشادي، وعرفت أنّ النزاع في اقتضاء النهي الفساد إنما هو من النهي المولوي، وأما النهي الإرشادي فلا إشكال في دلالته على الفساد؛ إما لكونه إرشاداً إلى البطلان رأساً، وهو الصحيح. أو لكونه إرشاداً إلى عدم المطلوبية، وهو لا يكون إلا لأجل عدم الملاك وهو يدل على البطلان أيضاً.

وكيف كان؛ فهو خارج عن البحث، وإنما الكلام في تمييز النهي المولوي عن النهي الإرشادي وتحديد الصغريات لكل واحد منها؛ فقد قيل بأنّ النهي تارةً؛ يكون نهياً عن عنوان ينطبق على العبادة سواء كان وصفاً ملازماً لها، كالجهر والإخفات في القراءة أم كان وصفاً مفارقاً، كالنهي عن الغصب المنفك منها. وأخرى يكون النهي متعلقاً بحسب دلالته بنفس عنوان العبادة، كالنهي عن الصلاة أو النهي عن الركوع، ويكون إخباراً عن الفساد.

ص: 110

ولا إشكال في أنّ القسم الأول يشير إلى أنّ النهي ظاهر في المولوية, لأنّ النهي فيه قد استعمل بداعي الزجر لا بداعي الإخبار كما عرفت في بحث النواهي من أنّ القاعدة الأولية كونه ظاهراً في الزجر.

وأما القسم الثاني ففيه صور:

الصورة الأولى: أن يكون النهي قد تعلّق بأصل العبادة لا بخصوصية من خصوصياتها من قبيل النهي عن صوم يوم عاشوراء؛ فإنه قد ورد في مقام توهّمالأمر, ومثل هذا النهي يحمل على الإرشاد لأنّ العبادة من حيث هي عبادة إنما يترقب فيها الأمر فإذا ورد النهي عنها فإنما يكون إرشاداً إلى عدم الأمر.

ولو فرض إجماله وعدم الظهور في واحد منهما، ولكن يمكن استكشاف الإرشاد بعدم وجود الأمر؛ إما لأجل النهي المولوي وهو لا يجتمع مع الأمر أو الإرشاد إلى عدم الأمر فهو المطلوب. ولكن قد يناقش في أنّ النهي المولوي قد يجتمع مع الأمر كما عرفت سابقاً, ولا ربط له بمسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي حتى يستكشف عدم الأمر.

الصورة الثانية: أن يكون النهي متعلقاً بخصوصية من خصوصيات العبادة كجزئها أو شرطها, وتلك الخصوصية مِمّا يتوهم فيه الأمر لولا ورود النهي كونها جزئها أو شرطها, مثل النهي عن قراءة آية السجدة في الصلاة فلولا النهي لكانت قراءة سورتها من أجزاء الصلاة. وقد يقال بأنّ النهي في هذه الصورة إنما يكون ظاهراً في نفي الجزئية أو الشرطية في متعلقه فيكون ظاهراً في الإرشاد لأنه نهيٌ ورد في مورد توهّم الأمر، وعلى فرض الإجمال وتردده بين التحريم والإرشاد يأتي الكلام السابق فيه.

الصورة الثالثة: أن يكون النهي متعلقاً بخصوصية لا يترقب فيه توهم الأمر؛ مثل النهي عن الإتيان بسورة ثانية في الصلاة, فالنهي وارد في مورد توهّم الأمر, فلا بُدَّ من حمله على

ص: 111

الإرشاد إلى المانعية, لإنّ الأوامر إذا تعلّقت بخصوصية من خصوصيات المركّب تكون إرشاداً إلى الجزئية أو الشرطية أو المانعية.

وعليه؛ يكون الأمر بالسورة في الصلاة يكون إرشاداً إلى الجزئية, وإذا تعلّق بعدم تكرار السورة يكون إرشاداً إلى المانعية, فيكون مانعاً من الصلاة.

هذا كلُّه مع قطع النظر عن القرينة المعهودة التي ربما تكون قرينة على الإرشاد إلى الفساد في بعض الموارد المتقدمة.

هذا هو تمام الكلام في المسألة الأولى, وهي دلالة النهي عن العبادة على فسادها.

المسألة الثانية: النهي عن المعاملة

اشارة

والكلام فيه يقع في مقامات:

المقام الأول: النهي في المعاملات

ويكون على أقسام ثلاثة:

الأول: أن يكون إرشاداً إلى الفساد سواء تعلّق بالمنشأ في الإيقاعات؛ كقول النبي صلی الله علیه و آله و سلم (لَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ)(1), أم بأحد الطرفين فيها وفي العقود, كإيقاعات الصبي والمجنون وعقودهما, أم تعلّق بأحد العوضين في العقود كبيع الخمر والكلب مثلاً,أم تعلّق بالمورد في الإيقاعات كالنهي عن الطلاق الثلاث بلفظ واحد، أم تعلّق بمطلق السبب كبيع المنابذة والحصاة ونحوها.

الثاني: أن يكون النهي تكليفياً كالنهي عن البيع في وقت النداء للجمعة, وغسل الثوب المتنجس بالماء المغصوب.

الثالث: ما إذا لم يستظهر من الأدلة أنّ النهي عن المعاملة إرشاد إلى الفساد حتى يثبت البطلان، أو يكون تكليفياً محضاً فلا فساد حينئذٍ.

ص: 112


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج23 ص15.

وعلى جميع الأقسام؛ إما أن يتعلق النهي بذات السبب وهو صيغة المعاملة بما أنه فعل من أفعال المكلفين، وإما أن يتعلق بالمسبب يعني التمليك الخاص من إنشاء البيع مثلاً فيكون التحريم متعلقاً بما يترتب على السبب من أثر، وإما أن يتعلق بالتسبب بالسبب الخاص إلى مسببه كالنهي عن المراهنة بالعوض، فإنّ نفس التمليك غير محرّم كما أنّ نفس السبب من دون عوض لم يكن محرّماً كذلك, فيختص التحريم بالتسبب إلى حصول التمليك بالسبب الخاص.

المقام الثاني: في بيان القاعدة التي تقتضي الفساد في تلك الأقسام

اشارة

لا بُدَّ من بيان أنّ موضوع القاعدة هو النهي المولوي التحريمي، وأما النهي الإرشادي فلا إشكال في البطلان وفساد المعاملة، كما إذا كان النهي إرشاداً إلى فساد العبادة بلا فرق بينهما من هذه الجهة سواء كان النهي إرشاداً إلى البطلان رأساً, أم كان إرشاداً إلى الجزئية والمانعية، فإنّ المركب ينتفي بانتفاء جزئه أو وجود مانعه فتلحق المعاملة بالمانع عن صحتها. وحينئذٍ يقع الكلام في:

النهي المولوي التحريمي

وفيه بحوث:

البحث الأول: فيما إذا تعلق النهي بنفس السبب بما أنه فعل من أفعال المكلف، لا توهم لنكتة في البطلان, إذ لا تهافت بين مبغوضية السبب وبين جعل السببية شرعاً، فيتمسك بالعمومات والإطلاقات وأصالة الصحة وعدم منشأ الفساد في المقام كما كانت في العبادة.

نعم؛ لا ريب في تحقق الإثم لفرض تحقق المخالفة فيكون غسل الثوب مثلاً في ماء مغصوب مبغوضاً موجباً للإثم ومع ذلك يتحقق غسل الثوب. وما يأتي ذكره في البحث الآتي في وجه البطلان لا يأتي في هذا القسم، وقد يُتوهم أنّ مقتضى أصالة عدم ترتب

ص: 113

الأثر وعدم النقل والإنتقال هو الفساد إلا أنه مردود بالعمومات والإطلاقات وأصالة الصحة الدالة على النفود والصحة، فلا وجه للرجوع إلى الاصل مع وجود الدليل. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

البحث الثاني: ما إذا تعلّق النهي بالمسبب، والكلام فيه يقع من ناحيتين:

الأولى: في أصل معقولية تعلّق النهي بالمسبب.

والثانية: في دلالته على البطلان بعد المعقولية.أما الناحية الأولى؛ فقد ذكروا في بيان الإشكال عليها أحد وجهين:

الوجه الأول: إنّ النهي لا بُدَّ أن يتعلق بما يكون فعلاً لنفس المكلف فلا يتوجه النهي إلى مكلف بما هو فعل شخص آخر, والمسبب في المقام ليس فعلاً للمكلف لأنّ ماهو فعل المكلف إنما هو إنشاء المعاملة فقط دون نقل الأموال من ملك شخص إلى ملك شخص آخر، فإنّ ذلك من فعل المشرِّع أو المقنِّن، و(فساده واضح) لأنّ المقنِّن الذي شرّع السببية وجعل إنشاء المعاملة سبباً لحصول الإنتقال فإنّ المسبب يصير تابعاً لإيجاد السبب.

وبعبارة أخرى؛ إنّ القدرة على السبب قدرةٌ على المسبب لكونه سبباً توليدياً للمكلف فيمكن تعلّق النهي به كما في سائر الموارد من الأسباب التوليدية.

الوجه الثاني: بعد التسليم بأنّ نقل المال من ملك إلى ملك هو المسبب ويكون فعلاً مسبباً للمكلف، ولكنه فعل من أفعال الله تعالى, فلو لم يكن هذا الإنتقال مبغوضاً له عَزَّ وَجَلَّ فلا وجه للنهي عنه. وأما لو كان مبغوضاً له فلا بُدَّ أن لا يفعله عَزَّ وَجَلَّ مادام كونه فعله مباشرة من دون حاجة إلى أن ينهى العبدَ عنه ويلجئه إلى ترك السبب حتى لايتحقق المسبب.

ص: 114

والجواب عن ذلك تقدم في بحث الأوامر عند الكلام عن الإرادة والجبر والإختيار. وهذا الإشكال لا يختص بالمقام بل يجري في كل أفعال المكلفين، وقد تقدم الجواب عنه, مع أنه يمكن القول بأنّ الله عَزَّ وَجَلَّ أحب أن يحصل المسبب من ناحية هذا السبب الذي يفعله المكلف, ولا يحب عدم حصوله من ناحية عدم جعل السببية بعد وقوع السبب خارجاً.

ويمكن القول أيضاً بأنّ نفي السببية بعد جعل السبب والمسبب يكون خلاف الحكمة، وهو عَزَّ وَجَلَّ لا يفعل ماهو خلاف الحكمة وإن كان قادراً عليه كما في مسألة جعل العالم في البيضة، وتفصيل ذلك في محله(1). مع أنه يمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ المسبب له هو حيثيتان؛ بأحداهما يكون فعل الشارع المولى، وبالأخرى يكون فعل المكلف، فيكون عقلائياً متعلَّقاً للتحريم من حيثية كونه فعلاً له تسبباً، فالملكية إذا كانت مبغوضة للشارع لم يعتبرها وإن لم تكن مبغوضية تشريعية بل تكوينية فلا يعقل أن يتعلق بها التحريم، فما يعقل أن يتعلق به التحريم يكون بلحاظ أنه فعل المكلف وهو إيجاد الملكية والتسبب إلى اعتبارها شرعاً بسبب العقد.

ولتحقيق الكلام في المقام وزيادة في توضيح المطلب نقول:

إنّ اعتبار الملكية -مثلاً- وإن كان تحت سلطة الشارع وبيد المولى إلا أنّ تحققه إنما يكون بتسبب المكلف وإنشاءه، وبهذا اللحاظ أُسند التمليك إلى المكلف كمايستند إلى الشارع, فهنا تمليكان؛ أحدهما تمليك المكلف والآخر تمليك الشارع، وعليه؛ فإذا فرض تعدد التمليك وجداناً فيكون المحرم المبغوض هو تمليك المكلف لا مطلق التمليك من الشارع لأمر ليس من مبغوضاته، وهذا هو الذي يمكن تفسير مسلك المشهور به والقائل بأنّ واقع المعاملة هو الإنشاء بداعي تحقق الإعتبار العقلائي أو الشرعي، فهي التسبيب إلى إعتبار الشارع.

ص: 115


1- . الهداية الكبرى؛ الباب الثامن؛ باب الإمام جعفر الصادق علیه السلام ؛ ص258، والتوحيد (للصدوق)؛ ص130.

نعم؛ بناءً على ما ذهب إليه بعض الفقهاء منهم السيد اليزدي(1) من أنّ الإعتبار له مواطن ثلاثة وهي: الإعتبار الشخصي والإعتبار العقلائي والإعتبار الشرعي، وهو يعني أنّ المنشئ يعتبر المنشأ في نفسه ويكون اعتباره موضوعاً لاعتبار العقلاء، والأخير موضوعاً للإعتبار الشرعي.

وبهذا يكون الجواب عن الإشكال المزبور أوضح لأنّ فعل المكلف المتعلق للتحريم أجنبي من رأس عن فعل الشارع فيكون المبغوض هو الإعتبار الشخصي لأنه هو القابل للتحريم دون غيره، وهو لا يتنافى مع اعتبار الشارع وجعله فإنه غير مبغوض.

وأما الناحية الثانية؛ وهي اقتضاء النهي معقولية تعلّقه بالمسبب للبطلان فقد إستدل عليه بوجهين:

الوجه الأول: إنّ النهي عن المسبب يكشف عن مبغوضيته شرعاً من غير فرق بين أن يتعلق النهي بخصوص المسبب الشرعي أو يتعلق بالجامع بينه وبين المسبب العقلائي فإنّ مبغوضية الجامع تسري إلى الأفراد لانحلالها، فإذا كان المسبب الشرعي مبغوضاً للشارع فلا بُدَّ أن لا يفعله بنفسه بأن لا يجعل السببية إلا أن يثبت المسبب عند ثبوت السبب، فالنهي عن المسبب يكشف عن عدم جعل السببية، وهو معنى البطلان.

وأشكل عليه بوجوه أهمها:

1- إنه يمكن أن تكون فعلية المسبب خارجاً مبغوضة للشارع فينهى عنه، ولكن مع ذلك يجعل السببية لوجود مصلحة أقوى في نفس الجعل فإنّ جعلَ الحكم الوضعي عن مصلحة في نفس الجعل معقولٌ وإن كان يُشك في نشوء الحكم التكليفي من مصلحة في نفس الجعل.

ص: 116


1- . في حاشيته على المكاسب؛ ج1 ص59-60.

وفيه: إنّ في ذلك تهافتاً عند العرف، أي بين وجود المصلحة في نفس الجعل وبين النهي عن المجعول وهو المسبب، إذ لا فائدة لمثل ذلك الجعل في المعاملات التي تبتني على اعتبارات عرفية عقلائية.

إنه يمكن فرض محبوبية المسبب الشرعي ومع ذلك ينهى عنه, لأنه وإن فرضت محبوبية السبب ولكنها لا تكون مطلقة بل تكون متوقفة على وقوع1- السبب خارجاً, وأما مع عدم وقوع السبب خارجاً فيكون المسبب مبغوضاً لفعلية المفسدة وعدم فعلية المصلحة.

ويرد عليه: إنّ حقيقة المعاملة عرفاً هو ما يترتب على السبب من الأثر وإلا كان لغواً، فإذا فرضت مبغوضية المسبب الشرعي فلا يمكن فرض محبوبيته حتى لو كان من ناحية سبب معين. وما ذُكر من ناحية التحليل العقلي يمكن القول به ولكنه في نظر العرف لا يكون صحيحاً.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1)، وحاصله: إنّ صحة البيع مثلاً تتوقف على ثلاثة أركان:

الأول: أن يكون طرف المعاملة -كالبايع- مالكاً للمبيع أو مأذوناً كالوكيل والمتولي.

الثاني: أن يكون مسلطاً على التصرف الوضعي في العين؛ بأن لا يكون المالك مجنوناً أو محجوراً عنه بنحو لا يمكنه إيجاد النقل والإنتقال في أمواله.

الثالث: أن يأتي بالصيغة المناسبة من الإيجاب والقبول؛ أي تحقيق السبب.

فإذا تمت هذه الأركان يترتب عليه الأثر المطلوب من البيع، وأما إذا اختلّ أحد هذه الأركان الثلاثة فسوف تصير المعاملة فاسدة, وحينئذٍ يقال بأنّ النهي عن السبب يوجب

ص: 117


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص404.

انهدام الركن الثاني؛ فلو كان تمليك المصحف مثلاً للكافر محرماً فلا سلطنة على هذا التصرف, ومعه تبطل المعاملة لا محالة.

ثم إنه قدس سره أشكل على نفسه بأنّ النهي عن المسبب إذا كان موجباً لبطلان المعاملة وعدم وقوع المسبب خارجاً لزم خروج المسبب عن قدرة المكلف، ومع خروجه عن القدرة لا يعقل النهي عنه.

وأجاب عنه بأنّ النهي لو كان متعلقاً بخصوص الحصة الشرعية من المسبب والتمليك الشرعي لكان الإشكال صحيحاً, وأما إذا فرض أنّ النهي عن الحصة العقلائية من المسبب والتمليك العقلائي فلا يلزم المحذور, لأنّ النهي الشرعي لا يزيل السلطنة العقلائية على المسبب العقلائي وإنما يزيل السلطنة الشرعية، فإنه حتى بعد هذا النهي يبقى المكلف قادراً على تحقيق المسبب العقلائي.

وقد أُشكل عليه بوجوه أهمها:

الوجه الأول: إنّ النهي إذا كان متعلقاً بالمسبب العقلائي فإنه وإن كان يرفع الإشكال الذي ذكره إلا أنه يُبطل حينئذٍ أصل الاستدلال الذي ذكره لإثبات البطلان، لأنّ النهي عن المسبب العقلائي لا يزيل السلطنة على المسبب الشرعي حتى يوجب هدم الركن الثاني.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنه يمكن فرض أنّ المصحح للمعاملة هو السلطنة الشرعية على المسبب العقلائي, فيقال إنه مع النهي لا تثبت مثل هذه السلطنة، أويقال في الجواب عنه بأنّ الركن في المعاملة هو السلطنة على المسبب الشرعي ولكن النهي إذا تعلقّ بالمسبب العقلائي فإنه يوجب زوال السلطنة الشرعية على المسبب العقلائي بالدلالة الإلتزامية العرفية على زوال السلطنة الشرعية على المسبب الشرعي أيضاً.

ويمكن الدفاع عن المحقق النائيني قدس سره بأنه لو فرض بأنّ النهي إنما تعلق بالجامع بين المسبب الشرعي والمسبب العقلائي فينهي عن إيقاع الجامع بين الحصتين, وحينئذٍ يسلم

ص: 118

من الإشكال لأنّ الجامع بين الحصتين أمر مقدور وإن لم تكنْ الحصة الشرعية غير مقدورة كما ذكره. ولكن إثبات كون المنهي عنه هو الجامع بينهما يحتاج إلى دليل, وظاهر الخطاب لا يدل عليه.

الوجه الثاني: إنّ الدليل الذي ذكره من أنّ النهي يوجب انتفاء السلطنة الفعلية على المبيع غيرُ سديد؛ فإنّ السلطنة في المقام وقعت محلاً للخلاف، فإنهم ذكروا لها معانٍ ثلاثة:

المعنى الأول: المراد من السلطنة هو عدم المحرومية والممنوعية شرعاً عن إيجاد السبب.

وهذا المعنى هو عبارة أخرى عن الجواز التكليفي وعدم الحرمة الشرعية؛ فإن كان مراده هذا المعنى فهو عين المدعى ولا يصح جعله دليلاً عليه لإنّ هذا الشرط حينئذٍ يعني اشتراط عدم النهي عن المسبب, ومعنى ذلك أنّ النهي يوجب البطلان لأنّ النهي يكون مانعاً من الصحة، وهو ليس إلا تغييراً في الألفاظ وتلاعب بها.

المعنى الثاني: السلطنة على المسبب بمعنى القدرة التكوينية على إيجاده، وهذا المعنى يستحيل أن يؤخذ في موضوع إمضاء المسبب، فإنّ القدرة التكوينية على المسبب في طول إمضاء المسبب، إذ مع عدم إمضاء الشارع للمسبب فلا قدرة على إيجاده، وإذا كانت القدرة في طول الإمضاء فكيف يعقل أخذها في موضوعه، وإذا لم تكن السلطنة مأخوذة في موضوع الإمضاء فلا ضير في أن يكون النهي عن المسبب مزيلاً لها.

المعنى الثالث: المراد من السلطنة على المسبب عبارة عن مجرد الأمر الإعتباري؛ أي اعتبار أنّ المكلف مالكٌ لإيجاد السبب, واعتبار حق التصرف فيه. ولكن مجرد اعتبار كونه مالكاً للتصرف الوضعي وإيجاد المسبب لا يعني أنّ الشارع قد أمضى المسبب حقيقةً وأقدره على التصرف الوضعي، لأنه من الواضح أنّ لدينا قدرتين على التصرف؛ قدرة تشريعية بمعنى جواز التصرف تكليفاً، وقدرة وضعية بمعنى قابلية التصرف المعتبرة من الشارع.

ص: 119

والتحريم إنما يرفع القدرة الأولى، أما القدرة الوضعية فارتفاعها بالتحريم أول الكلام وهو عين المُدّعىبيانه: إنه لو سُلِّم اشتراط مثل هذا الإعتبار فإنّ نهي الشارع عن المسبب وتحريمه لا يوجب زواله، إذ لا تنافي بين اعتبار التحريم وبين اعتبار كون المكلف مالكاً لإيجاد المسبب مطلقاً لا على نحو التناقض، لأنّ النسبة بين الإعتبارين ليست نسبة الوجود إلى العدم ولا بنحو التضاد؛ فإنّ الإعتبار سهل المؤونة ولا تضاد بين الإعتباريات إلا بحسب آثارها وهو مفقود في المقام.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره لا يعدو كونه دعوى ثبوت أحد المعاني المزبورة في محل النزاع، فلا دليل على ملازمة التحريم للفساد إلا الوجه الأول الذي ذكروه وإنْ كان لا يخلوعن إشكال أيضاً.

البحث الثالث(1): فيما إذا تعلّق النهي بآثار المسبب كالنهي عن التصرف فيما انتقل إليه من الثمن في البيع مثلاً، وقد ذكروا طرقاً ثلاثة لإثبات دلالة النهي عن البطلان:

الطريق الأول: أن يكون النهي والتحريم موجباً لزوال جميع الآثار التي يمكن أن تترتب على المسبب. ومثل هذا النهي يدل على البطلان إما بالدلالة الإلتزامية العقلية لأجل أنّ الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية، فإذا وجدت الثانية إنتُزعت الأولى, وإلا فلا يمكن الإنتزاع. وإما لأجل أنّ جعل الحكم الوضعي في مورد لا يترتب عليه الأثر يكون لغواً.

الطريق الثاني: إمكان أن يكون التحريم موجباً لزوال الأثر الركني والرئيسي لا تمام الآثار. وذلك الأثر الركني الذي يزول بالتحريم الذي كان لازماً عرفياً وعقلائياً للمسبب بحيث

ص: 120


1- . من بحوث النهي المولوي التحريمي.

لايتصور العقلاء ثبوت المسبب من دونه, فلا نهي حينئذٍ يكون دالاً على البطلان بالدلالة الإلتزامية العرفية دون العقلية كما في الأول.

الطريق الثالث: أن يكون النهي مزيلاً لأثرٍ غير ركني من الآثار، وحينئذٍ يقال بأنّ مثل هذا النهي يوجب البطلان أيضاً باعتبار أنّ المعاملة لو كانت صحيحة حتى بعد زوال الأثر لزم تخصيص دليل ذلك الأثر الذي يدل على ترتبه على المعاملة الصحيحة, وأصالة عدم التخصيص تثبت بطلان المعاملة.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ المقام من دوران الأمر بين التخصيص والتخصص؛ فلو كانت المعاملة صحيحة ومع هذا لا يترتب عليها الأثر فهو يعني تخصيص دليل الأثر، ولو كانت المعاملة باطلة فهي خارجة عن موضوع دليل الأثر، وهو معنى التخصص.

والمعروف في دوران الأمر بين التخصيص والتخصص هو جريان أصالة عدم التخصيص فيثبت التخصص. ولكن قد تقدم أنّ الصحيح هو عدم جريان الأصل والرجوع إلى القرائن في تعيين أحدهما، ولو فرض جريان أصالة عدم التخصيص في أمثال المقام فيكون دليل الأثر بإطلاقه دالاً على بطلان المعاملة.وحينئذٍ؛ إن كان هناك دليل يدل على صحة هذه المعاملة ولو بالإطلاق -كمطلقات أدلة الصحة- فقد وقع التعارض لا محالة بين إطلاق دليل الصحة وإطلاق دليل الأثر، فلا بد من علاج التعارض؛ فقد يتقدم دليل الصحة على إطلاق دليل الأثر، وهذا هو الصحيح باعتبار أنه عند الشك في شمول إطلاق دليل الأثر نرجع إلى دليل الصحة فيرتفع البطلان فلا بُدَّ من ترتيب الأثر فلا يدل النهي على البطلان لكونه من مجرد النهي التكليفي.

ولو فرض عدم الإستفادة من تلك الأدلة شيئاً لا دلالة النهي عن الفساد ولا دلالته على الصحة فالمرجع هو العمومات والإطلاقات لو كانت موجودة، وإلا فالمرجع هو أصالة الصحة, ولا يمكن حينئذٍ الرجوع إلى أصالة عدم ترتّب الأمر وعدم النقل كما هو واضح.

ص: 121

هذا كله إذا علمنا بأنّ النهي الوارد عن المعاملة يدل على الفساد أو يدل على مجرد الحكم التكليفي فيترتب على كل واحد منهما ما ذكرناه.

وأما إذا شككنا ولم نستظهر من الأدلة أنّ النهي إرشاد إلى الفساد حتى يدل على الفساد، أو أنه تكليفي محض فلا يثبت البطلان، فإنّ مقتضى الإطلاق والعموم وأصالة الصحة هو عدم البطلان في هذا القسم أيضاً, ولكن المرجع في تعيين كون النهي إرشاد إلى الفساد أو كونه تكليفي محض هو القرائن المعتبرة من نص أو إجماع معتبر، وقد تقدم ما يرتبط بذلك أيضاً فراجع.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني وهو إثبات كون النهي دالاً على البطلان بحسب القواعد.

المقام الثالث: في استفادة البطلان من الدليل الخاص

قد يتمسك ببعض الروايات لإثبات أنّ النهي عن المعاملة يوجب الفساد شرعاً, مثل معتبرة زرارة عن أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ مَمْلُوكٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ؟. فَقَالَ: (ذَاكَ إِلَى سَيِّدِهِ؛ إِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وإِنْ شَاءَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ؛ إِنَّ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ وإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ وأَصْحَابَهُمَا يَقُولُونَ إِنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ فَاسِدٌ ولَا تُحِلُّ إِجَازَةُ السَّيِّدِ لَهُ؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام : إِنَّهُ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ وإِنَّمَا عَصَى سَيِّدَهُ؛ فَإِذَا أَجَازَهُ فَهُوَ لَهُ جَائِزٌ)(1).

وتقريب الإستدلال بها: إنّ ظاهر جواب الإمام علیه السلام أنه لو كان عاصياً لله تعالى لكان النكاح باطلاً من أصله. فكل عقد أو إيقاع إذا تحققت فيه معصية الله تعالى يكون باطلاً، فيكون ظاهر العصيان في الحديث هو العصيان التكليفي حتى يوجب فساد النكاح. وعلى هذا فكلّ معاملة لو كان منهياً عنها لوقع باطلاً، وهذا هو معنى أنّ النهي عن المعاملة يوجب الفساد. ولكن الصحيح عدم دلالة الحديث علىذلك إذ العصيان الوارد فيه هو العصيان الوضعي بمعنى الإتيان بما لم يؤذن فيه ولم يرضه.

ص: 122


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 21 ص114.

ويدل على ذلك قرائن عديدة في الحديث وهي:

القرينة الأولى: إنّ مورد السؤال وقوع النكاح بغير إذن سيده فكانت المعصية هي المعصية الوضعية حتى لو فرض أنّ السيد قد نهى عبده عن التزويج ومنعه منعاً تكليفياً، وإنّ حمْلَ معصية السيد على المعصية التكليفية خلافُ الظاهر إذ لا أثر له بعد قوله علیه السلام (إِنْ شَاءَ أَجَازَهُ) فإذا كان المقصود من عصيان السيد هو العصيان الوضعي فلا يكون المراد من عصيان الله عَزَّ وَجَلَّ هو العصيان الوضعي أيضاً بحكم المقابلة بينهما (إِنَّهُ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ وإِنَّمَا عَصَى سَيِّدَهُ) فيكون عدم عصيانه لله تعالى باعتبار أنه تعالى أمضى قانون النكاح أصلاً، وعصيانه لسيده باعتبار عدم إمضاءه لشخص هذا النكاح فيكون هذا الدليل دالاً على فساده بالخصوص حيث لم يستأذن من سيده.

القرينة الثانية: أنّ الحديث يدل على إنه إن (أجاز فهو له جائز) إذ بالإجازة يرتفع المحذور الذي هو عصيان السيد فيصحّ النكاح, فلو كان العصيان تكليفياً فلا ترفعه إجازة السيد ويستحيل أن يتبدل إلى الجواز والترخيص بعد العمل، فلا بُدَّ أن يحمل العصيان في الحديث على العصيان الوضعي.

القرينة الثالثة: إنه لو حملنا العصيان على الوضعي منه فيكون الفرق بينه وبين الله معقولاً وواضحاً، أما لو كان المقصود منه المعصية التكليفية فلا إشكال في أنّ معصية السيد تكون معصية الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه تعالى أمر العبد بإطاعة سيده وعدم عصيانه فتكون معصية السيد معصية لهذا الأمر الشرعي، إلا أن يكون هنالك دليل يدل على تقييد ذلك في خصوص النكاح، وهو مفقود.

القرينة الرابعة: إنّ الإمام علیه السلام إنما حكم بأنه عصى سيده، وهذا لا يكون إلا إذا كان المقصود هو العصيان الوضعي لا العصيان التكليفي، فأنّ النهي التكليفي من السيد لو

ص: 123

كان متعلقاً بمجرد إنشاء العقد والتلفظ فلا حق له في مثل هذا النهي، ومع عدم استحقاقه لا طاعة لمثل هذه النواهي عقلائياً فلا تكون مخالفتها عصياناً له شرعاً. وإن كان متعلق نهيه هو المسبب وإيجاد العلقة النكاحية فهو لم يتحقق بعد في الخارج ما لم يمضِ السيد، والمفروض عدم تحققه فالعصيان أيضاً غير ثابت.

والحاصل؛ إن مفاد الحديث هو: إنه لم يرتكب ما لم يأذنه الله تعالى في صحة نكاحه -كنكاح المحارم- حتى يقع باطلاً رأساً ولم ينفعه إذن السيد، وإنما ارتكب ما لم يأذن سيده؛ فإذا أذِن نفذ؛ ويدل عليه صحيح ابن حازم عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِيمَمْلُوكٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ أَ عَاصٍ لله؟ قَالَ: (عَاصٍ لِمَوْلَاهُ. قُلْتُ: حَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: مَا أَزْعُمُ أَنَّهُ حَرَامٌ ونَوْلُهُ(1) أَنْ لَا يَفْعَلَ إلا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ)(2).

والمراد بالحرام هنا الحرمة التي لا تزول برضا السيد.

ختام فيه أمران:

الأمر الأول: إذا سقط النهي في العبادة؛ فأما أن يكون سقوطه عن التنجّز مع بقائه واقعاً كالجهل، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون بواسطة الإضطرار أو النسيان أو شيء يكون موجباً لسقوطه ظاهراً وواقعاً. ولا ريب في عدم سقوط النهي في القسم الأول ويبقى على المانعية، وإنما الكلام في القسم الثاني؛ فهل ترتفع المانعية بسبب تلك الأعذار؟

ذهب المشهور إلى ارتفاع المانعية وسقوط النهي، وأفتوا بصحة الصلاة بالذهب والحرير لو اضطر إلى لبسهما أو كان هناك سبب آخر لرفع الحرمة الموجبة لسقوط النهي واقعاً. ولكن ذهب جمع من المحققين إلى عدم إرتفاع المانعية بمجرد تحقق ما يوجب ارتكاب النهي

ص: 124


1- . وفي نسخة: وقل له: نولك أن تفعل، أي: حقك وينبغي لك.
2- . المصدر السابق؛ ص113.

لأنّ عمدة ما استند إليه المشهور هو كون المانعية من جهة النهي فإذا سقط النهي بسبب النسيان أو الإضطرار فلا بُدَّ من سقوط المانعية أيضاً ضرورة إنعدام المعلول بانعدام العلة.

وأورد عليه: بأنّ المانعية ليست معلولة لوجود النهي، بل هي معلولة لما هو علّة للنهي أيضاً وهي المفسدة التي صارت سبباً للنهي, فإذا ارتفعت الحرمة بسبب الإضطرار ونحوه فإنه لا يوجب رفع المفسدة أيضاً لأنها أمر تكويني غير قابل للرفع تشريعياً إلا بلحاظ آثارها الشرعية, وإلا فهي لا ترتفع إلا برفع تكويني.

وبتعبير آخر: إنّ المفسدة التي كانت السبب في النهي والتحريم هي التي تكون مقتضية للمانعية, ومن الممكن أن يقترن المقتضي بالمانع بالنسبة إلى أحد مقتضييه دون الآخر, وليس من قبيل العلة التامة لهما حتى يكون ارتفاع أحد المعلولين ملازماً لارتفاع الآخر.

وفيه: إنّ سقوط النهي كاشف عن سقوط المانعية عرفاً.

الأمر الثاني: تقدم الكلام في التشريع ونزيد في المقام أنّ التشريع والإفتراء على الدين والتجري عناوين ثلاثة؛ والأول: عبارة عن إدخال ما ليس في الدين فيه.

والإفتراء: هو الإخبار عن الجعل.

والتجري: هو إتيان فعل بعنوان أنه مبغوض للمولى، وهو ليس كذلك واقعاً.

والفرق بينها؛ أنّ التشريع من صفات الفعل أو الفاعل، والإفتراء لا يرتبط بالعمل المأتي به وهو محرم بلا إشكال، بينما قد يناقش في أصل حرمة التشريع، وأما التجري فلا ريب أن الفعل في مورده بنفسه يتعنون بعنوان الهتك بالمولى؛ فإماأن يكون مورد التحريم أو العقاب أو القبح على اختلاف في ذلك، وقد تقدم مايرتبط بذلك وسيأتي مزيد بيان له إن شاء الله تعالى والحمد لله أولاً وآخراً.

وبهذا ينتهي البحث عن مسألة اقتضاء النهي للفساد، وبه يتم الكلام في المجلد الأول من تهذيب الأصول، نحمده تعالى على ما أنعم ونسأله التوفيق.

ص: 125

ص: 126

المقصد الثالث

مباحث الحجة

ص: 127

ص: 128

الكلام في ما يصحّ الإعتذار به عند العقلاء ولم يردع عنه الشارع

مقدمة

تقدم في أول مباحث علم الأصول بيان اختلاف العلماء في موضوع هذا العلم ونتيجة هذا الإختلاف أنهم إختلفوا في مباحث الحجية والأمارات أيضاً في أنها من مباحث علم الأصول أو أنها خارجة عنها، كما إنّ الذين إعتبروا دخولها في هذا العلم إختلفوا في وجه ذلك.

ونحن في غنى عن ذلك إذ قلنا بأنّ المناط في دخول بحث في علمٍ من العلوم هو ما يرتّب عليه من الأثر الذي يرتبط بالغرض المترتب على ذلك العلم بأيّ نحو كان؛ فسوف تكون هذه المباحث التي سيأتي الكلام عنها مفصلاً من صميم علم الأصول كما هو الشأن في جميع الدراسات الحديثة، فلا ينبغي إتعاب النفس في توجيه ما يذكر هل هي من مباحثه أو لا، والتماس الوجوه لذلك وتطويل الكلام فيه مِمّا لا طائل تحته، فلا وجه للقول بأنّ البحث عن القطع غير داخل في مسائل هذا العلم كما ذهب إليه السيد الخوئي(1).

ثم إنهم اختلفوا أيضاً في ميزان كون المسألة أصولية؛ فمن ذهب إلى أنّ الميزان هو ما تقع نتيجتها في طريق الإستنباط بأن تكون كبرى كلية لو إنضم إليها صغراها لأنتجت حكماً فرعياً، والقطع بالحكم لا يقع في طريق الإستنباط بل هو قطع بنفس النتيجة وبنفس الحكم الفرعي.

وهذا واضح بالنسبة إلى القطع الطريقي، وأما القطع الموضوعي؛ أي القطع المأخوذ في موضوع الحكم كما إذا قال المولى: (إذا قطعت بحكم فرعي فتصدق)؛ فهو وإن كان دخيلاً في فعلية وجوب التصدق إلا أنّ نسبته إليه نسبة الموضوع إلى حكمه كالخمر بالقياس إلى الحرمة.

ص: 129


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص7.

ولكن عرفت مفصلاً في بداية علم الأصول أن الميزان أيضاً ليس ذلك، بل الميزان هو ما يترتب عليه من الغرض الذي وُضع لأجله هذا العلم, مضافاً إلى أن ما يذكر من المباحث في القطع تكون داخلة في تشخيص الحجية التي هي أهم مباحث علم الأصول، وتحصيل القطع عن الأدلة الشرعية وتثبيت الحكم الشرعي به إنما هو من مسائل هذا العلم.

كما عرفت فيما تقدم من أنّ الميزان في مسائل علم الأصول غير ذلك فقد ذكر السيد الوالد قدس سره (1) ما يبحث فيه عن كيفية تعيين الوظيفة وما يصح أن يعتذر به لها.

أو يكون الميزان هو ما تقع نتائج مسائل هذا العلم في طريق استفادة الوظائف والإعتذار.وعلى هذا تكون بحوث هذا القسم من الكتاب لأنه يقع فيما يصح الإعتذار به عند العقلاء, أو ما يقع في طريقة استفادة الوظيفة ومايصح الإعتذار به.

وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

وكيف كان؛ فالأمر واضح لا نحتاج إلى تطويل الكلام فيه.

وقبل الدخول في مباحث الحجية لا بُدَّ من ذكر بعض الأمور التمهيدية:

الأمر الأول:

ذكر الشيخ الأعظم قدس سره (2) في تقسيم مباحث الحجج والأصول العملية أنّ المكلف إذا التفت إلى الحكم الشرعي فإما أن يحصل على القطع أو الظن أو الشك.

وقد وقع الكلام في هذا التقسيم، وعمدة الأقوال هي:

القول الأول: التقسيم الثلاثي كما صنفه الشيخ قدس سره وعليه ألّف كتابه وجعله على مقاصد ثلاثة؛ الأول في القطع، والثاني في الظن، والثالث في الشك. ثم ذيّلها بخاتمة ذكر فيها مبحث التعارض والتعادل والتراجيح.

ص: 130


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص5.
2- . فرائد الأصول(الرسائل)؛ ج1 ص2.

وأشكل عليه بوجوه:

أولها: أنّ الظن إن كان المراد منه ما يعمّ الظن النوعي والشخصي لا خصوص الظن الشخصي كما سيأتي فلا مقابلة بين الظن والشك لاجتماع الظن النوعي مع الشك كما لا يخفى. وثانيها: إنّ الشك ليس موضوعاً للأحكام بعنوانه بل الموضوع هو مطلق عدم العلم بالحكم والجهل به ولو كان ظناً إذا لم يقم دليل على اعتباره. وثالثها: لزوم تداخل الأقسام لأنه إن كان المراد من الظن خصوص المعتبر منه فهو خلاف إطلاق كلمة الظن، وإن أريد الأعم منه ومن غير المعتبر تداخلت الأقسام.

فقد يكون المكلف شاكاً بالحكم ولكن قام لديه دليل معتبر، فلا يجري في حقه الأصل. وإن كان ظاناً بالحكم بظن غير معتبر كان موضوعاً للأصل فيلزم أن تكون بعض موارد الظن محكومة بحكم الشك وبعض موارد الشك محكومة بحكم الظن.

هذا إذا كان نظر المستشكل هو التداخل في المورد.

وأما إذا كان مراده التداخل في المصداق فقد ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره (1) أنّ هذا المعنى ليس من التداخل في شيء باعتبار أنّ الحجية في بعض موارد الشك لا تثبت للشك بعنوانه, كما أنّ الأصل في بعض موارد الظن لا يثبت للظن بعنوانه. ورابعها: إنّ تثيلث الأحكام مبني على أن يكون المراد بالحكم في المقسمخصوص الحكم الواقعي مع أنه لا موجب له, لأنّ المهم هو الجامع للحكم الأعم من الواقعي والظاهري فيكون التقسيم ثنائياً كما صنعه صاحب الكفاية قدس سره (2).

ص: 131


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص16 وما بعدها.
2- . كفاية الأصول؛ ص258.

ويمكن الإشكال على جميع ذلك:

1- إنّ التقسيم إنما هو باعتبار البحث عن إمكان الحجية وامتناعها أو ضرورتها؛ فالقطع يكون حجة بالضرورة باعتبار كشفه التام، والظن من حيث إمكان الحجية باعتبار كشفه الناقص وامتناعها بالنسبة إلى الشك لأنه مستلزم لجعل الطريق إلى المتناقضين وهو محال. فالتثليث إنما هو للإشارة إلى هذا الإختلاف فلا تداخل في الأقسام.

وقد أشكل عليه المحقق العراقي قدس سره (1) بأن البحث إما أن يكون في إمكان جعل الحجية للظن من جهة قابليته في نفسه في قبال قسيميه, وهذا الأمر تكفي فيه الإشارة الإجمالية ولا يحتاج إلى البحث فيه مفصلاً. وإن كان البحث فيه من جهة إمكانه إلى دفع إشكال ابن قبة الذي وقع البحث فيه مفصلاً, ويصطلح عليه بإمكان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري فهو غير مختص بالظن. وإن وقع البحث فيه من حيث كونه ظناً فهو ليس بحثاً أصولياً.

ويرد عليه: بأنّ كلا البحثين يرجع إلى بحث واحد، ويعتبر من الآثار المترتبة على الظن باعتبار كشفه الناقص ولا ينافي أن يشترك معه قسم آخر وإن كان الشيخ الاعظم قدس سره فصل بين البحثين فذكر البحث الأول على سبيل الإيجاز بينما فصلّ الكلام في الثاني.

2- إنّ المهم في التقسيم هو تبويب البحوث التي تذكر في الأقسام الثلاثة لئلا تتداخل، ولا يضرّ إذا اشتركت في أمر معين. وليس المهم هو تحصيل الجامع للحكم بتقليل الأقسام وإلا أمكن الإستغناء عن ذلك والرجوع إلى عنوان تشخيص الوظيفة العملية سواء كانت حكماً شرعياً واقعياً أو ظاهرياً أم حكماً عقلياً.

ص: 132


1- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص4 وما بعدها.

وإنما المقصود هو بيان الملاك والمناط في الوظيفة بأزاء موضوعها أو ملاكاتها.

3- إنّ الظن غير المعتبر يكون بمنزلة الشك وحكمه، والمعتبر منه بحكم القطع يكون من الإلحاق الحكمي، والإلحاق الحكمي لا ينافي التعدد الموضوعي الذي لا بُدَّ من ذكره في المقام.

القول الثاني: التقسيم الثنائي وهو الذي ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره (1) حيث ذكر بإنّ المكلف إذا التفت إلى حكم فعلي ظاهري أو واقعي؛ فإما أن يحصل لهالقطع أو لايحصل، والثاني موضوع لحكم العقل من إتباع الظن لو تم دليل الإنسداد بناءً على الحكومة وإلا فالرجوع إلى الأصول العملية. وقد ذكر في توجيه عدوله عن تثليث الأقسام أنّ أثرالقطع يترتب عليه سواء تعلق بحكم واقعي أو ظاهري، ولا تختص آثاره بما إذا تعلق بحكم واقعي, وإذا كان الأمر كذلك فإنّ الأمارات والأصول العملية تدخل في عنوان القطع بالحكم، ولا يخفى ما فيه؛ لأنّ التقسيم الثلاثي إشارة إجمالية إلى المباحث التي تذكر في بحث الحجية والأمارات وإلا فيمكن جعل العنوان واحداً ونقول بأنّ المكلف إذا التفت إلى الحكم فلا بد من تحصيل الحجية على عمله، ولكن هذا العنوان ليس فيه تلك الإشارة الإجمالية إلى مباحث الكتاب.

مع أنّ ما ذكره ليس تقسيماً للمباحث الأصولية الواردة في الكتاب لأنّ المناط حينئذٍ يكون بلحاظ ما يترتب من الأثر على الأمارة كالخبر والأصول كالإستصحاب مِمّا يؤدي في صورة إعمال الإستناط واليقين بالحكم الشرعي، وهو خروج عن مفروض البحث في هذا الكتاب من إعتبار نفس هذه العناوين الثلاثة.

ص: 133


1- . كفاية الأصول؛ ص257.

ثم إنه ما هو المراد من قوله إما أن يحصل له القطع أو لا؟ فإنّ كون قسيم القطع إما أن يكون الظن أو الشك فله موضع آخر من كتابه. فهو ليس إلا تغيير في العبارة، وإنما المناط على الحكم الواقعي أو الظاهري كما سيأتي.

القول الثالث: التقسيم الثنائي الذي ذكره صاحب الكفاية(1) أيضاً، وهو تقسيم المكلف إلى القاطع بالحكم ومن قام لديه الطريق المعتبر، ومن لم يتم له الطريق المعتبر الذي هو موضوع الأصول الشرعية والعقلية. وإنما عدل إلى هذا التقسيم فراراً من محذور التداخل في الأقسام والتخلص مِمّا أورد على الشيخ الأنصاري قدس سره .

وفيه: إنّ هذا التقسيم لا يرفع الإشكال الذي ذكر على سابقه كما هو واضح، يضاف إلى ذلك أنّّ هذا التقسيم لا يتناسب مع موضوعات الكتاب التي هي البحث عن حجية الأمارة واعتبارها من حيث ذاتها لا الأمارة المعتبرة.

القول الرابع: ماذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2) وهو تقسيم المكلف إلى من قام لديه طريق تام ومن قام لديه طريق ناقص لوحظ لا بشرط من حيث الإعتبار وعدمه, ومن لم يقم لديه طريق ناقص كذلك سواء لم يقم عنده طريق أصلاً أو قام عنده طريق غير معتبر. فالأول موضوع القطع، والثاني إشارة إلى مباحثالأمارات، والثالث إلى مباحث الأصول؛ لأنّ موضوعها من لم يقم لديه طريق ناقص لا بشرط.

وهذا التقسيم وإن سلم عن الإشكالات المتقدمة لا سيما ما أورد على المحقق الخراساني لعدم أخذه الحكم في الموضوع, ولكن لا يسلم مِمّا أوردناه آنفاً على ما ذكره المحقق الخراساني من أنه راجع إلى تقسيم المكلف ولزوم التداخل في بعض الموارد؛ لأنّ المأخوذ

ص: 134


1- . المصدر السابق.
2- . نهاية الدراية؛ ج3 ص17.

في بحث الأمارة قد يكون موضوعاً من الأصل في بعض أفراده كما إذا لم يقم دليل على إعتبار الطريق فإنّه يكون من موارد الأصول مع أنه يصدق قيام الطريق لا بشرط من حيث الإعتبار وعدمه.

القول الخامس: ماذكره السيد الصدر قدس سره (1) بعد بيان مقدمته، وهو أنّ الصحيح أن يكون المراد من الحكم خصوص الواقعي منه دون الاعم منه ومن الظاهري وإلا لزم التداخل في الأقسام لأنّ الظن بالحكم الواقعي المعتبر مثلاً يدخل في القسم الأول من حيث هو قطع بالحكم الظاهري، وفي القسم الثاني من حيث هو ظن بالحكم الواقعي مع أنه واقعة واحدة، وأنّ إجزاء الوظائف هل يكون بلحاظ الحكم الواقعي فقط أو يكون بلحاظ الحكم الظاهري أيضاً. والكلام؛ إما في الأصول غير التنزيلية أو في الأمارات والأصول التنزيلية. أما غير التنزيلية (أي البراءة والإشتغال) فقد يتوهم إجراء البراءة عن الحكم الظاهري الإلزامي المحتمل كما تجري عن الإلزام الواقعي, فإن شك في جعل الشارع لوجوب الاحتياط في شبهات معينة أمكن إجراء البراءة.

ثم ذكر ما يرتبط بالحكم الظاهري من التفصيل بين المسلك المشهور في حقيقته الذي يقول بعدم وجود مبادئ للحكم الظاهري وأنّ الملاك في نفس جعله فيكون منجزاً للواقع. وبين المسلك الذي اختاره القائل بوجود ملاك في الحكم الظاهري وهو محفوظ حتى مع الشك فيه وعدم وصوله. ومن هنا يكون تنافٍ بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية حتى مع وصول التأمين عنه بما أنه مشكوك، ولكن ذلك لا يمنع من عدم المعذرية.

ص: 135


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص21.

ولكن ما ذكره قدس سره لا يرفع الإشكال المزبور الذي ذكرناه على المحقق الخراساني، وإن كان ما ذكره راجع إلى كيفية جعل الحجية للأمارات والأصول مطلقاً؛ التنزيلية وغير التنزيلية وكمية الجعل، وسيأتي بيان ذلك مفصلاً.

والصحيح أن يقال بأنّ التقسيم في بداية كل علم إنما يكون صحيحاً باعتبار كونه بمنزلة الفهرست لما سيأتي من التفاصيل في متن العلم ومسائله، ولا يضّر التداخل والإشتراك في بعض الموارد والتداخل المصداقي في مورد آخر باعتبارات مختلفة. فالتقسيم الذي ذكره الشيخ الأعظم صحيح وموافق للإعتبار.ثم إنّ الأصوليين اختلفوا في وجه التقسيم الثلاثي؛ فالمعروف بينهم كون الوجه هو أنّ المكلف قد حصل له إحدى الصفات الثلاثة وهي القطع بالحكم أو الظن أو الشك فيه، ومن أجله حصل من الإشكال ما حصل، والإيراد كما عرفت وسيأتي.

ولكن لو كان الوجه غير ذلك لما تحقق كثير من الإشكالات، وذلك بالرجوع إلى الغرض الذي كان السببَ في حصول ذلك التقسيم، وهو وإن كان متعدداً إلا أنه يمكن لنا تصوير ذلك بوجه قريب يوافق الكثير من مسائل هذا العلم كما صنعه جمع من الأصوليين منهم السيد الوالد قدس سره (1) فقد جعل الوجه هو تحقيق العذر فيه والإعتذار لدى العقل والمولى، فإنّ كل ما يذكر في هذا القسم من علم الأصول إنما هو لأجل الرجوع إلى ما يصحّ الإعتذار به عند العقلاء ولم يردع عنه الشارع، حيث ذكر إنه ينقسم إلى ما يكون عذراً بنفسه أو لا؛ والثاني إما أن تعتبر المعذرية فيه لأجل الكشف الناقص الموجود أو لا، فالأول هو القطع, والثاني هو الظن, والثالث هو الشك؛ الذي يكون مورداً لاعتبار الأصول العملية الأربعة.

ص: 136


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص5.

ولعلّ السرّ في ذلك يرجع إلى أنّ القطع فيه الكشف التام، والظن فيه الكشف الناقص, والشك لا كشف فيه، وهو صحيح لابأس به، وبهذا يسلم من الإيرادات والمناقشات التي ذكروها في المقام.

الأمر الثاني:

وقع الكلام في اختصاص المقسم وهو المكلف -الذي تعرض عليه الحالات المتقدمة- بالمجتهد أو يعم المقلد أيضاً. ذهب جمع من الأصوليين إلى الأول منهم المحقق النائيني(1) والسيد الوالد قدس سره (2).

واستدلوا عللى ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ماذكره المحقق العراقي قدس سره (3) من أنّ غير المجتهد لا يحصل له القطع والظن والشك لغفلته، وأنّ حصولها إنما يكون بعد الإلتفات إلى الحكم بالبداهة.

الوجه الثاني: ماذكره المحقق العراقي أيضاً(4) من أنّ حجية الأمارات والأصول إنما تتوقف على الفحص وعدم المعارض، وهما من شأن المجتهد لا غيره، إذ لا قدرة لغيره على الفحص عن المعارض وتحصيل اليقين والجزم بعدمه.

الوجه الثالث: ماذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (5) من أنّ المجتهد هو موضوع حجية الأمارة أو الأصل دون غيره، فإنّ ظاهر أدلة حجية الخبر وأدلة الخبرينالمتعارضين وظاهر قول أمير المؤمنين علیه السلام : (مَنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ فَشَكَّ) (6) أنّ موضوعها هو المجتهد لا المقلد.

ص: 137


1- . فوائد الأصول؛ ج2 ص2-7.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص6.
3- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص4.
4- . المصدر السابق.
5- . نهاية الدراية؛ ج3 ص19.
6- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص247.

الوجه الرابع: ماذكره جمعٌ(1) من أنّ هذا التقسيم إنما هو لأجل تحديد الوظائف المقررة في كل قسم من الأقسام الثلاثة لاستنباط الحكم الشرعي وهي وظائف المجتهد, لانه المخاطب بها دون غيره فلا يترتب على هذه الصفات لو حصلت لغير المجتهد فلا تكون من مسائل هذا الفن, هذا وقد ذهب اخرون إلى التعميم.

وناقشوا هذه الوجوه بما يلي:

أما الوجه الأول؛ فهو مجازفة محضة، فإنّ حصول هذه الصفات لغير المجتهد بالمقدار الذي يتحقق للمجتهد حاصل بالبداهة في الضرورات الدينية كوجوب الصلوات الخمس والصوم والحج ونحو ذلك، أو العلم ببعض خصوصيات تلك العبادات كعدد الركعات ونحو ذلك .كما أنّ غير المجتهد إذا التفت إلى الحكم قد يحصل له الشك والتردد بل يكون غالباً كذلك، ومنعُ حصول الإلتفات بعيدٌ بالبداهة.

وأما الوجه الثاني؛ فإنّ غير المجتهد ربما يعتمد في مقام الفحص على المجتهد فيحصل له الإطمئنان لكلامه, أو يأخذ بقوله من باب الإعتماد على حجية الخبر.

ويكفي الإعتماد على الإطمئنان في موارد كثيرة مِمّا لا يحتاج إلى إعمال النظر والإستنباط، فلا نحتاج إلى معرفة المعارض إلى الإستنباط.

وذكر بعضهم(2) في مقام الرد على هذا الوجه بأنّ المجتهد يقوم مقام المقلد في الفحص بمقتضى أدلة الإفتاء والإستفتاء، فإنه إن تم فيكون في بعض الموارد التي تحتاج إلى الفحص والإستنباط وإعمال الفكر والنظر. ولكنه غير تام في تلك الموارد التي لاتحتاج إلى ذلك بل يكتفي بالإطمئنان كما عرفت. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

ص: 138


1- . بحوث في علم الأصول ج4 ص9 مسنداً إلى الشيخ النائيني قدس سره .
2- . منتقى الأصول؛ ج4 ص12.

وأما الوجه الثالث؛ فهو دعوى لا شاهد عليها، إذ أنّ عموم أدلة حجية الخبر -مثلاً- كآية النبأ وغيرها تشمل المجتهد وغيره، بل أنّ عمدة أدلة حجية الخبر هو سيرة العقلاء وعدم اختصاصها بالمجتهد واضح لا غبار عليه, وكذلك ما ورد في الخبرين المتعارضين. وكذا ما ورد في حجية الإستصحاب فإنه لا إختصاص لها بالمجتهد.

والإشكال عليه بأنّ اعتبار القطع يكون لكل من حصل له، وكذا اعتبار الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية لغير المجتهد لا يصلحان لأن يكون من مسائل الأصول إذ ليس كل ما اعتبر لكل أحد يكون من مسائله؛ غيرُ تام لأنّالموضوعات التي تحتاج إلى البحث والفحص واليأس عن المعارض التي هي مقدمات عملية الإستنباط، وإعمال الفكر والنظر يكون من مختصات المجتهد.

ولكن ليس كل المسائل الأصولية والأحكام الفرعية كذلك، وحينئذٍ يكفي إما حصول الإطمئنان وإن تحقق من قول المجتهد أو الإعتماد على قوله من باب حجية الخبر.

وأما الوجه الرابع؛ فيظهر الجواب عليه إذ لا وجه لتخصيص المكلف في موضوع التقسيم بالمجتهد بل هو أعم منه ومن غيره.

ثم إنّ ها هنا إشكالاً معروفاً في ثبوت الأثر لقطع المجتهد لعدم كون الحكم الملتفت إليه فعلياً بالنسبة إليه في بعض الموارد وهو يتحقق من جهتين:

الجهة الأولى: إنّ بعض الأحكام التي يلتفت إليها المجتهد موضوعها غير المجتهد، كأحكام الحيض بالنسبة إلى المجتهد الرجل؛ فأنه لا يكون له علم بالحكم الفعلي بالنسبة إليه.

الجهة الثانية: إنّ بعض الأحكام وإن كان موضوعها عام يشمل المجتهد وغيره ولكنه لا يكون محل ابتلاءه فعلاً، فلا يتصور في حقه العمل حتى يصحّ التعبّد في حقه، لأنه يكون بلحاظ الجري العملي.

ص: 139

قد يقال ان المحقق الخراساني قدس سره نبّه إلى ذلك في عبارته المعروفة: (إنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلق به أو بمقلديه)(1), فإنه ربما يكون ناظراً إلى تعميم الآثار في حالات المجتهد بالنسبة إليه وإلى مقلديه فلا نظر له إلى أنّ اختصاص العنوان بالمجتهد.

وكيف كان؛ فإنّ الإشكال يرجع إلى دعوى اختصاص آثار القطع بما إذا كان الحكم متعلقاً بنفس القاطع مجتهداً كان أو مقلداً، لأنّ الحكم المتعلق بغيره فعلياً بالنسبة إليه فلا يتصور فيه التعبد, فإنّ من لم يقم عنده الأمارة لا معنى لإلزامه في مضمونها والتعبد به, وعليه فلا وجه لتعميم الحكم ليشمل المجتهد والمقلد لتخلفه في بعض الحالات كما إذا كان الحكم مختصاً بالمقلد فلا ينفع قيام الأمارة أو بالأصل لدى المجتهد.

وبعبارة أخرى: إنّ من قامت عنده الأمارة هو المجتهد دون المقلد, والمفروض أنّ المجتهد لا علاقة له بالحكم الذي أدّت إليه الأمارة، فلا يتصور في حقه التعبد لانتفاء الأثر العملي بالنسبة إليه، ومن يتصور في صفة التعبد وهو المقلد لابتلاءه بالحكم لم تقم لديه الأمارة. وهكذا الحال بالنسبة إلى الإستصحاب فإنّ من كان على يقين فشك هو المجتهد، ولكن لا أثر للتعبد في حقه لانتفاء علاقته بالحكمومن كان له علاقة بالحكم ويتصور في حقه التعبد هو المقلد وهو لم يكن على يقين فشكَّ.

وعليه؛ فلا وجه لجعل موضوع البحث مطلق من كان قاطعاً بالحكم ولو لم يكن له أثر عملي بالنسبة إليه فلا بُدَّ من تقييد متعلق القطع وقسيميه بما إذا كان ذا أثر عملي بالنسبة إلى المكلف نفسه.

ص: 140


1- . كفاية الأصول؛ ص257.

وقد أجيب على ذلك الإشكال بوجوه:

الوجه الأول: إنّ مقتضى أدلة الإفتاء والإستفتاء تنزيل المجتهد منزلة المقلد فيكون قيام الأمارة عند المجتهد بمنزلة قيامها عند المقلد, وكذلك يكون يقينُ المجتهد وشكُّه يقينَ المقلد وشكِّه وإلا كان الإفتاء والإستفتاء لغواً كذا ذكره المحقق الإصفهاني(1).

الوجه الثاني: إنّ المجعول في باب الأمارات إما أن يكون هو الحكم الظاهري المماثل للواقع وإما أن يكون هو الحجة على اختلاف المراد بها؛ فقيل إنه مفهوم الحجية نفسها، وقيل إنه المعذرية، وقيل إنه الطريقية كما سيأتي تفصيل ذلك.

فإن كان المجعول هو الأول (أي الحكم الظاهري في حق من لا يعلم بالحكم الواقعي)؛ فقيام الخبر عند المجتهد على حكم الحائض غير العالمة بحكمها يُثبت حكماً ظاهرياً بحسب أدلة اعتباره، فإنه يوجب حصول اليقين الوجداني للمجتهد بالحكم الظاهري الثابت في حق الحائض وهو صحيح. ولا ضير في حصول يقين لشخص بحكم شخص آخر, ولم يكن من التعبد حتى يُدّعى استحالته لمن لم يكن له علاقة بالحكم عملاً، فإذا صحّ ذلك فيكون يقين المجتهد حجة على المقلد وجاز متابعته في يقينه.

وأما إذا كان المجعول هو الحجة مطقلاً فقد يستشكل بأن الحجية إنما تقوم بالوصول، وقد اشتهر بأنّ في الحجية ما يلازم القطع بعدمها، وعليه فلا تكون مجعولة فعلاً في حق الحائض لعدم وصول الخبر إليها فلا يكون حجة عليها, فلا يتحقق اليقين للمجتهد بحكمها, كما أنّ الحجية لم تكن مجعولة في حق المجتهد لعدم ارتباط العمل به.

ولكي يندفع هذا الإشكال بأن الكبرى لو كانت مسلّمة وقلنا بأنّ الحجية منقوصة بالوصول كما سيأتي، ولكن الجميع ملتزمون بأنّ هناك أمراً مجعولاً في حدّ نفسه له ثبوت

ص: 141


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص14.

واقعي وإن كانت فعليته تتحقق بوصوله فإنه من المحال أن يكون جعل الحجية معلقاً على وصوله للزوم الخلف أو الدور كما في أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم, وعليه يكون حال الحجية حال الحكم الظاهري، فتعلّق اليقين بها وإن لم تكن فعلية في حق المتيقن لعدم الأثر الفعلي بالنسبة إليه كما لم تكن كذلك بالنسبة إلى المقلد لعدم وصولها إليه, فيجري ما ذكر في الحكم الظاهريهنا أيضاً، فإن قام الخبر لدى المجتهد فإنه يوجب له العلم بحكم مقلده المجعول في حقه وإن لم يكن فعلياً في حق المقلد لعدم وصوله، ولكنه يصير فعلياً بعد إخبار المجتهد به لحجية يقينه في حق مقلده فيكون قوله وصولاً للحجية الإنشائية.

وبناءً على هذا الوجه لا حاجة إلى القول بأنّ مقتضى أدلة الفتوى هو تنزيل المجتهد منزلة المقلد باعتبار أنّ قيام الخبر -مثلاً- لدى المجتهد هو قيامه لدى المقلد؛ فإنه لا يستفاد من أدلة التقليد هذا التنزيل لا سيما دليل الإنسداد الذي هو عمدة الأدلة في التقليد، فإنّ الإستفادة المزبورة منه إنما يكون بدليل الإقتضاء وهو بعيد عن دليل الإنسداد العقلي. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

هذا كله في مورد الأمارات، وأما في مورد الإستصحاب فقد يتوهم عدم تمامية الحل المزبور فيه بدعوى أنّ موضوع الإستصحاب هو اليقين السابق والشك اللاحق لا مطلق عدم العلم، وهذا لم يتحقق بالنسبة إلى المقلد فأنه لم يحصل له اليقين السابق بالحكم ولا الشك اللاحق، فلا يحصل للمجتهد العلم بالحكم فإنّ يقينه وشكّه لا ينفعان، ولا يقين وشكَّ للمقلد حتى يثبت في حقه الحكم الظاهري.

وبعبارة أخرى: إنّ موضوع الحكم بالنسبة إلى المقلد غير متحقق، فلا يتحقق للمجتهد علم بحكم المقلد الظاهري الفعلي وإلا كان من قبيل جريان الإستصحاب لدى شخص

ص: 142

توفَّر موضوعه بالنسبة إليه فيجري في حق غيره إذا لم يحصل له اليقين والشك. وهذا لم يقل به أحد من العلماء.

ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الحكم الثابت في باب الأمارات, فإنه لم يؤخذ في موضوعه اليقين السابق والشك اللاحق حتى يكون منتفياً عن المقلد بل إنّ موضوع الحكم في باب الأمارات هو عدم العلم بالواقع، وهذا متحقق في المقلد -حسب الفرض- وإلا لم يكن مقلداً فيثبت الحكم الظاهري في حقه فيمكن للمجتهد العلم به.

هذا ويمكن القول بأن التوهم المزبور إنما يتم فيما إذا قلنا بأنّ موضوع الإستصحاب هو اليقين السابق والشك اللاحق، وأنّ لهما الدخل في الحكم الإستصحابي بأيّ معنى كان مفاد الإستصحاب، كما سيأتي بيان المسالك المختلفة فيه إن شاء الله تعالى.

وأما إذا قلنا بأنّ المراد من اليقين والشك في الإستصحاب هو المتيقن والمشكوك، ويكون مدلول أدلة الإستصحاب هو اعتبار بقاء الحادث لأجل كون مفادها اعتبار الملازمة بين الحدوث والبقاء كما ذهب إليه المحقق الخراساني(1) ومال إليه المحقق الأنصاري(2) في بعض المواطن.فإنه بناءً على هذا الوجه لا نحتاج إلى وجود اليقين بالحدوث بل ثبوت الحدوث بأي دليل يكفي لإثبات البقاء. فما يدل على الحدوث يدل على البقاء بالملازمة، فتكون صفة اليقين والشك مأخوذتان على نحو الطريقية ويسقطان عن الموضوعية بالمرة.

فلا إشكال في الإستصحاب أيضاً لأنّ حاله حال الأمارات, فإنّ أدلة الإستصحاب تضيف الملازمة بين الحدوث والبقاء من دون دخلٍ لليقين بالحدوث؛ فإذا ثبت الحدوث

ص: 143


1- . كفاية الأصول؛ ص460-461.
2- . فرائد الأصول؛ ج2 ص542.

للمجتهد ثبت لديه البقاء بمقتضى أدلة الإستصحاب فيحصل له اليقين بالحكم الظاهري للمقلد، وهذا هو مفاد الأمارة أيضاً كما عرفت.

ولكن يمكن لنا الإلتزام بأنّ لليقين والشك دخل في ثبوت الحكم للإستصحاب بأيّ شيء كان مفاد الإستصحاب، فيكون للإشكال المزبور وجه وجيه لأنّ ما له دخل في الإستصحاب لم يكن حاصلاً للمقلد فلا يحصل للمجتهد اليقين بحكم المقلد.

وربما يقال في رفع هذا الإشكال بأنّ المجتهد ذو يقين وشك، فموضوع الإستصحاب حاصل بالنسبة إليه لأنه كان على يقين بحكم المقلد في الواقعة التي جهل حكمها, وهو يشك في بقاء حكم المقلد. إلا أنّ الإستصحاب بالنسبة إلى نفس المجتهد ليس بذي أثر عملي فلا يصحّ، إذ الحكم لا يرتبط به.

ويمكن لنا الجواب عن هذه الشبهة بتصوير أثر عملي لإجراء الإستصحاب بالنسبة إليه؛ وهو جواز الإفتاء به وإسناده إلى المولى، ولا ريب أنه حكم ظاهري وبدونه يكون إسناده محرماً لأنه تشريع، وهذا أثر عملي يصحّ فيه إجراء الإستصحاب من قبل المجتهد، فيجوز له الإفتاء ويجب على المقلد أخذه لأدلة التقليد.

والحاصل؛ إنّ المقسم يعمّ المجتهد وغيره من دون إشكال, فإنّ غير المجتهد يعلم بأنه مكلف بتكاليف شرعية، وأنه لا بُدَّ من امتثال الأحكام الإلهية, فإذا التفت إلى واقعة معينة؛

إما أن يحصل له القطع بحكمها إيجاباً وتحريماً؛ إما لأجل كونه من الأحكام الضرورية كوجوب الصلوات اليومية وحرمة الخمر، أو يقينية كعدد الركعات في الصلوات اليومية وحرمة التصرف في المال المغصوب ونحو ذلك مِمّا هو كثير.

وإما أن يحصل له الظن المناسب في شأنه وهو فتوى المجتهد ويحصل له اليقين بحجيةٍ من ضرورة أو إجماع، فإنه يعمل بقطعه أيضاً ويكون ظنه حجة.

ص: 144

وإن لم يحصل له قطع ولا قطعي بسبب من الأسباب كما إذا لم يكن مجتهدٌ ليصل إلى فتواه، أو كان ولكنه لم يصل إلى فتواه فلا محالة تصل النوبة إلى الشك فيرجع إلى حكم العقل ويستقل بوظيفته؛ إما البراءة أو الإشتغال أو التفصيل حسب الموارد. وهذه هي نفس المراحل التي يمرّ بها المجتهد أيضاً ولكن مع وجود الفارق بينهما في عدم تحقق بعض الفروض المتقدمة بالنسبة إلى غير المجتهد,ولكنه لا يجعله خارجاً عن المقسم ولايكون سبباً في تخصيص المقسم بغير المجتهد.

وإذا كان إشكالٌ في البين فإنما ينشأ عن القول باختصاص خطابات الوظائف المقررة بألسنتها المختلفة من جعل الحجية أو الطريقية أو الحكم الظاهري أو الوظيفة العملية بالمجتهد. وقد قيل في وجه الإختصاص وجوهاً عديدة وقد عرفت سابقاً بعضها وتقدم الجواب عنها.

ولكن لو كنا نحن وتلك الخطابات التي لم يؤخذ فيها عنوان المجتهد، فلا بُدَّ أن لا يكون هناك سبب آخر للإختصاص بأن يقال في وجه الإختصاص أنّ تلك الوظائف بحسب موضوعها تكون مقيدة بقيود وشروط لا تتحقق إلا في حق المجتهد عادةً، فإنّ حجية الظهور -مثلاً- مقيَّدة بالفحص عن المخصص والمقيد والحاكم, كما أنّ حجية الخبر تتوقف على الفحص وعدم المعارض، أو حجية الإستصحاب متقوّمة باليقين السابق وغير ذلك. ومن هنا جاء تحديد عملية الإفتاء، ولكن سيأتي في الموضع المناسب أنّ عملية الإفتاء الخاص من باب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة الذي له مصاديق كثيرة؛ كالرجوع إلى الطبيب والمهندس وغيرهما، وهذا يعني أنّ هناك واقعاً محفوظاً يشترك بين الخبير وغيره ولكن الخبير يدركه بنظره دون الذي لا يدركه، فيرجع الأخير إلى الأول. وهذا المعنى صحيح فيما إذا أدرك المجتهد الحكم الواقعي وقطع به فيكون نظره طريقاً اليه,

ص: 145

بعدما اشترك الجميع فيه واما لو فرض عدم قطع المجتهد بالحكم، ولكنه انتهى إليه بواسطة الوظائف الظاهرية كالتعبد بالخبر أو الأصل العملي أو نحو ذلك؛ فإنّ الإشكال الذي يجري إنما يكون باعتبار أنه لا يمكنه أن يفتي غيره الذي لا يشترك معه في مقومات تلك الوظيفة، فإنه إن أراد أن يفتي بالحكم الواقعي فهو إفتاء بما لا يعلم، وإن أراد أن يفتي بالحكم الظاهري فهو مخصوص بالمجتهد حسب الفرض؛ لأنّ موضوعه متقوم به دون غيره.

كما أنه يشتد الإشكال بما ذكرناه في ابتداء البحث فيما إذا كانت الواقعة خارجة عن مورد ابتلاء المجتهد؛ إما لاختصاص الموضوع بالنساء، أو لعدم ترتب الأثر العملي عليه، فحينئذٍ لا يوجد علم بحكم واقعي حتى يفتي به، ولا حكمَ ظاهري لأنه غير ثابت في حقه لكونه ليس محل ابتلاءه, فحينئذٍ يحصل الإشكال في تحليل عملية الإفتاء بعد تسليم ثبوت حجية الفتوى فقهياً.

وقيل في حلّ الإشكال كلاماً كثيراً ووجوهاً متعددة ذكرنا جملة منها فيما سبق، ونذكر في المقام كلام السيد الصدر(1) فإنه حاول حلّ الإشكال في مراحل ثلاثة:

المرحلة الأولى:إذا فرضنا اختصاص الوظائف الظاهرية بالمجتهد فإنه يستلزم اختلال عملية الإفتاء، فلا بُدَّ من تخريجها حينئذٍ وفق القاعدة بالتقريب التالي:أولاً: القول بأنّ الحكم الظاهري وإن كان مختصاً بالمجتهد لتحقق موضوعه عنده دون المقلد ولكنه يصبح عالماً بالحكم الواقعي المشترك بين المجتهد والمقلد تعبداً فيفتي المجتهد مقلديه بالحكم الواقعي الذي هو معلوم لديه لحصوله العلم عنده به، ولكن هذا التخريج لو تم إنما يكون في باب الأمارات المجعول فيها الحجية والطريقية.

ص: 146


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص11 وما بعدها.

وهو غير تام في موارد الأحكام الظاهرية، كما أنه غير تام في باب الأمارات أيضاً إلا على المسلك الذي يذهب إلى جعل ما ليس بعلم علماً.

يضاف إلى ذلك؛ إنه حتى بناءً على مسلك جعل الطريقية والعلمية فإنّ هذا التخريج لا يتم أيضاً لأن القطع الموضوعي للحكم بجواز التقليد إنما هو القطع الحاصل عن خبرة وبصيرة وكونه من أهل الفن لا مطلق القطع، ولو كان حاصلاً من طرق خفية كالرؤيا أو الجفر ونحو ذلك فإنّ دليل الحجية لا يعبِّد المفتي بذلك. وسيأتي في الموضع المناسب النقاش في جعل الطريقية وقيام الحجج مقام القطع الموضوعي، ولكن يورد على الأخير بأنه عود على بدء؛ فالكلام هو أنّ اختصاص الحكم الظاهري بالمجتهد لأجل كونه من أهل الخبرة، وقد حصل له القطع بالحكم تعبداً.

ثانياً: إنّ المقلد بالرجوع إلى المجتهد في موضوع الحكم الظاهري والوظيفة العملية يصبح حقيقةً موضوعاً للرجوع إليه في نفس الوظيفة فيشترك معه فيها, فشمول دليل التقليد له يتضح له موضوعاً حقيقة ووجداناً لشموله ثانياً بلحاظ الحكم الظاهري والوظيفة العملية نظير شمول دليل حجية الخبر للخبر مع الواسطة؛ حيث يتضح موضوع إخبار الواسطة بشمول دليل الحجية لغير المباشر.

ويورد عليه: بأنه يلزم منه عدم جواز الإفتاء من قبل المجتهد الذي لا يكون رأيه حجة في حق العامي؛ لأنّ الحكم الظاهري الثابت في حق ذلك المجتهد لم يثبت في حق العامي الذي لا يكون رأي المجتهد حجة في حقه فكيف يجوز للعامي تقليده؟.

المرحلة الثانية: إنه لو فرض عدم إمكان تخريج رجوع العامي إلى المجتهد على أساس قاعدة أهل الخبرة إلا إذا التمسنا له مؤونة زائدة يضمها إلى القاعدة فيتم المطلب ثبوتاً ويندفع الإشكال. فهل يمكن استفادة تلك المؤونة الزائدة من دليل التقليد إثباتاً ؟.

ص: 147

ذكر إنه يمكن الرجوع إلى افتراض التنزيل لإثبات تلك المؤونة، وذلك بتنزيل حال المجتهد منزلة العامي فيكون فحصه منزلة فحص العامي، وكذلك يقينه بالحالة السابقة ينزل منزلة يقين العامي فتشمله حينئذٍ الوظائف المقررة التي انتهى إليها المجتهد.ويمكن قبول هذا في الوظائف الشرعية، أما بالنسبة إلى الوظائف العقلية مثل قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو منجزية العلم الإجمالي فهو غير تام؛ لأنه يستوجب جعل حكم مماثل لحكم العقل بحيث ينتج منه البراءة والإحتياط الشرعيين في حق العامي، ومثل هذا التنزيل بلحاظ حكم العقل غير معقول كما هو واضح.

وكيف كان؛ فإنّ هذه المؤونة الزائدة في مرحلة الثبوت يمكن تصويرها وفرضها إلا أنّ استفادتها في مرحلة الإثبات إنما يتم بكونها أمر مركوز في أذهان المتشرعة، والمتفاهم من أدلة التقليد هو رجوع العامي إلى المجتهد ليطبق على نفسه ما يطبقه المجتهد على نفسه فيثبت في حقه ما يثبت على المجتهد من الواقع أو التنجيز أو التعذير. وهذا لا يكون إلا مع فرض التنزيل المذكور، فيستفاد من دليل التقليد التوسعة في موضوع تلك الوظائف الظاهرية بالدلالة الإلتزامية.

ويرد على هذا التخريج:

1- إنّ استفادة مثل هذا التنزيل من دليل التقليد بعيدٌ، لا سيما أنّ عمدة الأدلة هو دليل الإنسداد والسيرة العقلائية، فهو دليل بيّن.

2- إنه لو تم ما ذكر فلا يتم في مورد عدم جواز إفتاء المجتهد الذي لا يجوز تقليده كما عرفت آنفاً، لأنّ جواز إفتاءه فرع انطباق الوظائف الثابتة في حق العامي، وهو فرع تنزيل فحصه أو يقينه السابق أو علمه الإجمالي منزلة فحص العامي ويقينه وعلمه الإجمالي، وهذا التنزيل إنما يستفاد من دليل التقليد حسب الفرض؛ فإذا لم

ص: 148

يكن شاملاً له لعدم جواز تقليده إما لعدم عدالته أو لكونه غير أعلم فلا تثبت تلك الوظيفة في حق العامي حتى يمكن أن يفتي به، مع أنه يجوز له الإفتاء بمقتضى الوظيفة الثابتة في حق المجتهد باعتبار كونه عالماً بالواقع.

المرحلة الثالثة: وذكر فيها قدس سره أنّ منشأ الشبهة وأصل الإشكال هو دعوى اختصاص الوظائف المقررة بالمجتهد، ولكن يمكن علاج كل واحد من تفاصيل هذه الدعوى بالنسبة إلى المواضع العديدة الخاصة مستقبلاً بما يلي:

1- دعوى أنّ الإختصاص من جهة لزوم الفحص من موضوع دليل الحكم الظاهري سوى كان أمارة أو أصلاً.

ويمكن رفعها بأنّ الفحص بعنوانه غير مأخوذ في دليل الحكم الظاهري، وإنما الثابت هو عدم شمول أدلة الأحكام الظاهرية لموارد تكون فيها حجة على الخلاف في معرض الوصول؛ أي الوصول إلى أهل الخبرة لا إلى كل أحد.

ويمكن إحراز هذا الأمر الموضوعي في حق الجميع باعتبار أنه إذا فحص المجتهد ولم يجد حجة على الخلاف فيتحقق شرط الحجية في حق الجميع؛ وذلك إما بأنّ الشرط في الفحص أنه للخبير البصير أوعدم وجدانه، والمفروض أنّالمجتهد قد فحص بالفعل ولم يجد حجة على الخلاف فيتحقق موضوع الوظيفة الظاهرية بالنسبة إلى الجميع.

ولكن يرد عليه: بأنّ الخبير البصير إن كان المراد به المجتهد الأعلم الذي يتعين تقليده خاصة لزم منه عدم جواز إفتاء المجتهد الذي لا يجوز تقليده للعامي حتى لو فحص ولم يجد، مع أنّ شرط الحجية -وهو فحص الخبير البصير- قد تحقق بالنسبة إليه مع أنه غيره، بل إنه لا يجوز له أيضاً العمل بتلك الوظيفة لأنّ الشرط بحسب فحص المجتهد الأعلم وعدم وجدانه، لا فحص كل أحد وعدم وجدانه.

ص: 149

ويمكن أن يستشكل عليه بما ذكرناه آنفاً من أنّ الإشكال المزبور إنما هو عود على بدء؛ فإنّ الذي يراد إثباته هو كون فحص المجتهد الأعلم هو فحص غيره، فإذا كان هناك إشكال فإنه يكون في أصل المبنى لا إلى ما يستلزم منه. وإما أن يكون الشرط أمراً واقعياً في نفس الأمر؛ وهو أن لا يتواجد ما يكون حجة على الخلاف في معرض الوصول سواء تحقق الفحص عن أحد أم لا, فيكون فحص كل مجتهد طريقاً إلى إحراز هذا المقدار من عدم الوجدان للحجية والطريقية، وعلى هذا تكون الوظيفة الظاهرية موضوعاً وحكماً، ويكون تقليد العامي له من باب الرجوع إلى أهل الخبرة، ويكون العلم بهذا الحكم المشترك لا أن يكون الحكم الواقعي المخصوص.

1- أن تكون دعوى الإختصاص ناشئة من جهة أنّ الحجية والحكم الظاهري منوط بالوصول والعلم به، فيختص بالعالم ولا يعمّ كل أحد كما في الأحكام الواقعية.

وتقريب هذه الدعوى يكون بأحد وجهتين:

الأولى: إستظهار ذلك من دليل الحجية الدال على أنّ وصول خبر الثقة حجةٌ. وهذا العنوان إنما يصدق على من وصله الخبر لا الخبر بوجود الواقعي، فيكون المراد من الوصول هو التعبدي منه.

وفيه: إنه خلاف ظواهر الأدلة، مع أنه لم يرد مثل هذا العنوان في أي دليل من أدلة الحجية.

الثانية: إن إطلاق الحكم الظاهري لغير العالم به يكون من اللغو المستحيل بخلاف الحكم الوقعي، ولا يقاس عليه؛ فإنّ إطلاقه إنما يكون لأجل الإحتياط بالنسبة إليه، وأما الحكم الظاهري فهو طريقي محض.

وفيه: إن كان المراد من الوصول هو الوصول بالعلم الوجداني كان لما ذكر وجه، على فرض تسليم كونه لغواً ومستحيلاً.

ص: 150

وأما إذا استفدنا من الأدلة أنّ المناط مطلق الوصول حتى التعبدي منه؛ وهو حاصل كما عرفت في المقام بفتوى المجتهد فلا يكون جعله على العامي لغواً.

3- أن يكون الإختصاص حاصلاً من جهة أخذ اليقين بالحالة السابقة موضوعاً في بعض الوظائف الظاهرية كالإستصحاب، وهو لا يكون إلا في حق المجتهد فيكون يقينه في ذلك محققاً لموضوع الوظيفة لا طريقاً لإحرازه.

ويمكن الجواب بما ذكرناه سابقاً في وجه حجية الإستصحاب، حيث قلنا بإنّ المستفاد من أدلة حجية الإستصحاب أنّ الموضوع مطلق ثبوت الحالة السابقة ويستفاد منها الملازمة بين الحدوث والبقاء، فيكون ثبوت الحالة السابقة هو الحكم المشترك طريقاً إلى إحراز موضوع الحكم الظاهري في حق العامي المقلد.

وعلى فرض كون نفس اليقين قد أُخذ موضوعاً للإستصحاب فإنه لا إشكال أيضاً بناءً على قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي، فإنّ يقين المجتهد بثبوت الحكم في الحالة السابقة بنفسه يكون دليلاً وعلماً تعبدياً للعامي في إثبات الحالة السابقة، فيكون الرجوع في هذه المسألة محققاً لموضوع الإستصحاب في المسألة اللاحقة. ولكن ذلك كله يحتاج إلى إثبات وسيأتي تفصيل ذلك.

ثم إنّ السيد الصدر قدس سره إختار وجهاً آخر في تصحيح التقليد ورجوع العامي إلى المجتهد وعدم اختصاص الحكم به بأن يكون هناك تقليدين طوليين؛ بأن يكون في كل مسألة فتوى المجتهد فيها بوظيفة هي من شؤون منجزيةِ علمٍ ثابت في المرتبة السابقة، لا من شؤون الواقع المعلوم كما في موارد العلم الإجمالي بالتكليف فيحتاج إلى افتراض تقليدين طوليين.

ص: 151

والصحيح؛ إنّ الذي ينبغي أن يقال في المقام هو:

أولاً: لو كنا ونفس الحالات المزبورة فلا مانع من عروضها على كل مكلف ملتفت سواء كان مجتهداً أم غير مجتهد، فإنه إذا التفت إلى واقعة معينة؛

إما أن يحصل له القطع بحكمها إيجاباً أو سلباً كما إذا علم بوجوب الصلاة إما لأجل كونه ضرورياً من ضروريات الدين أو من اليقينيات، أو علم بحرمة الخمر كذلك، ومثل هذه اليقينيات كثيرة في الفقه الإسلامي.

وإما أن يحصل له الظن بالحكم بما يناسب شأنه وهو الظن بفتوى المجتهد, ولكن أصل حجيتها كانت من اليقينيات عنده مِمّا أوجب العمل بظنه.

وإما أن يشك في حكم تلك الواقعة لعدم حصول القطع والقطعي عنده، كما إذا لم يكن مجتهدٌ حتى يصل إلى فتواه، أو كان ولكن لم يصل إليها، فلا محال أنه إذا حصل له الشك فإنه يرجع إلى حكم العقل فيستقل إما البراءة أو الاشتغال أو التفصيل حسب الموارد. وهذه المراحل هي نفسها التي يمر بها المجتهد وإن كان هناك فارق بينهما في أنّ بعض الفروض لم تتحقق بالنسبة إلى العامي ولكنه لا يجعله خارجاً عن أصل المقسم ولا يكون سبباً في تخصيصه بالمجتهد.ثانياً: عدم اختصاص خطابات الوظائف المقررة بألسنتها المختلفة من جعل الحجية أو الطريقية أو الحكم الظاهري أو الوظيفة العملية بالمجتهد، وهذا مِمّا لاريب فيه فإنه لم يؤخذ فيها عنوان المجتهد.

ثالثاً: قيل في وجه الإختصاص بالمجتهد أموراً ذكرنا جملة منها فيما سبق، وأهمها؛ أنّ تلك الوظائف قد قُيِّد موضوعها بالفحص وعدم العثور على المعارض، وهو أمر يختص بالمجتهد فلا يشمل غيره. ومن هنا جاءت عملية الإفتاء.

ص: 152

رابعاً: إنّ عملية الإفتاء إنما ترجع إلى قاعدة رجوع الجاهل إلى الخبير، ولا إشكال أنّ ذلك يستدعي أن يكون واقعاً محفوظاً يشترك فيه المجتهد والعامي؛ والأول يدركه بنظره دون الثاني. وهذا صحيح في الأحكام الواقعية ولا إشكال فيه، لإنه إذا وصل إليه المجتهد بنظره يثبت في حق العامي أيضاً، ولكن الأحكام الظاهرية التي لم يصل إليها المجتهد بالقطع إنما تستفاد من الأمارات والأصول العملية ونحو ذلك؛ فإنّ الإشكال فيها يحصل من جهة أنه إذا أفتى غيره فإن كان الإفتاء بالحكم الواقعي فهو لم يقطع به فتكون فتوىً بدون علم، وإن أفتى بالحكم الظاهري فأنه يكون مختصاً بالمجتهد لأنّ موضوعه متقوم به كما تقدم.

وقد وقع الأصوليون لحلّ هذا الإشكال في اضطرابات ونقاشات، وقد تقدم ذكر جملة منها.

خامساً: الأوجهُ أن يقال في حلّ الإشكال: إن المجتهد إذا أفتى بالحكم الظاهري الذي أمكنه الحصول عليه من الأمارات والأصول العملية ونحو ذلك، فقد حصلت عنده القناعة العلمية به وهذا المقدار يكفي في التعبد بما يفتيه إلى غيره وأنّ العامي يرجع إليه لأجل تلك القناعة العلمية، فتحصل له قناعة بالحكم أيضاً ولا نحتاج في عملية الإفتاء التي هي من رجوع الجاهل إلى العالم الخبير أكثر من هذه القناعة، ولا يستلزم منه تلك الإشكالات التي ذكروها في المقام, فإنّ القناعة العلمية لم تكن مختصة بالفتوى بل تعمّ كل الميادين العلمية في كل فن وعلم. وقد أمضى الشارع هذا الأمر العرفي المركوز في الأذهان كسائر الأمور العرفية التي لم يرد ردع عنها في الشرع ولا نحتاج إلى فرض العلم أو العلمي أو تقليدين أو تنزيل أو نيابة وغير ذلك، فإنّ كل ذلك من التطويل الذي لا طائل تحته. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

ص: 153

سادساً: عرفت أنّ الحق هو تعميم الأقسام لكل مكلف، ولكن لا ريب أنّ كثيراً من الفروض تختص بالمجتهد الذي لا بُدَّ له من نظر ودراية واستنباط ونحو ذلك، وهو مختص بالمجتهد.ولكن ذلك لا يوجب التخصيص بالمجتهد فإنه بعد إتمام عملية الإستنباط وابتناء الفتوى عملياً تحصل القناعة العلمية لكلا الطرفين؛ المجتهد والعامي، ويجوز للأول أن يفتي غيره ويحق للثاني تقليده.

الأمر الثالث:

اشارة

قد وقع الكلام في تخصيص المقسم بالمكلف وعدمه، فاختار الشيخ الأعظم قدس سره (1) الأول بينما عدل عن ذلك الآخوند الخراساني قدس سره (2) فجعل المقسم هو: (البالغ الذي وضع عليه القلم)، وذلك لأنّ لفظ المكلف ظاهر في فعلية التلبّس بالمبدأ وهو التكليف, مع أن الواقعة الملحوظة قد لا يكون فيها تكليف بل فيها ترخيص وإباحة، ومن أجله استبدل المكلف بالبالغ الذي وضع عليه قلم التشريع والجعل ولو كان على غير نحو الإلزام.

ولكن الحق أن يقال: إنّ تلك المناقشة لفظية بين العلمين, فالمحقق الخراساني قدس سره استفاد من عبارة الشيخ قدس سره أنّ المكلف هو المكلف في شخص الواقعة لا المكلف في نفسه؛ أي من كان ملزماً من قبل الشريعة بما يلزم به سائر الناس مع قطع النظر عن الواقعة المتلفت إليها.

ولعل الشيخ الأنصاري قدس سره كان نظره إلى إخراج المجنون والصغير المرفوع عنهما قلم التكليف، فيكون المقصود ذات المكلف لا المكلف بما هو مكلف.

وكيف كان؛ فإنّ الصحيح هو عدم الإختصاص, وجريان هذه الوظائف في حق غير البالغ أيضاً.

ص: 154


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص25.
2- . كفاية الأصول؛ ص257.

ويتم ذلك في جملة من الموارد أهمها ما يلي:

المورد الأول: لا ريب في اختصاص الأحكام بالبالغين وارتفاعها عن غير البالغين، بل هو من ضروريات الدين إلا أنّ إطلاق هذا غير تام في مورد الشك والشبهة, فقد يكون الشك في الشبهة الحكمية في ثبوت حكم على غير البالغ المميّز؛ أي القابل للتكليف عقلاً, كما إذا فرض الشك في ثبوت الأحكام الثابتة بمقتضى الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع في حق غير البالغين فيتعين عليه حينئذٍ أن يسلك إما طريق الإجتهاد أو التقليد أو الإحتياط لتحديد وظيفته بالنسبة إلى ذلك الحكم، فيكون حاله حال غيره. وتعيين الوظيفة في تلك الشبهة؛ إما بالرجوع إلى إطلاق أدلة رفع القلم عن الصبي الحاكم على إطلاقات أدلة الأحكام الواقعية إذا كان فيها إطلاق قابل للتقييد ما لم يثبت مقيد لنفس هذا الإطلاق ، ولو كان نفس حكم الفعل وقانون الملازمة لو فرض عدم قابليتها للتخصيص, ولكن به يمكن التمسك بأدلة الرفع لرفع فعلية العقاب عن غير البالغ ولو كان مستحقاً له، فلا بأس بالتمسك به حينئذٍ.المورد الثاني: أن يتحقق الشك في أصل البلوغ بنحو الشبهة الحكمية، وأنه هل يتحقق بدخول الخامس عشر أو بإكماله مثلاً، وحينئذٍ يمكن القول بأنّ دليل الحكم إن كان له إطلاق في نفسه فهو حجة لإثبات فعلية الحكم، ودليل الرفع لا يصلح للتقييد به بعد فرض إجماله وإلا لحكم به بلا إشكال، أما إذا فرض عدم الإطلاق في دليل الحكم فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأصول العملية من الإستصحاب أو البراءة وهما متفقان على نفس التكليف.

المورد الثالث: أن يكون الشك في البلوغ على نحو الشبهة المفهومية، كما لو شك في صدق الشعر الخشن مثلاً على الشعر النابت في البدن الذي هو من علامات البلوغ.

ص: 155

وفي هذه الصورة لا بُدَّ من الرجوع إلى الوظائف المقررة. ومنشأ هذه الشبهة هو أنّ هناك عموم فوقاني ومخصص مجمل مفهوماً دائر بين الأقل والأكثر كعموم (أقيموا الصلاة)، والمخصص الذي يدل على أنّ غير البالغ وهو الذي لم ينبت عليه شعر خشن لم تجب عليه الصلاة، وهو مجمل مفهوماً لا يعلم شموله لهذه الصورة وحينئذٍ لا يمكن الرجوع إلى الإستصحاب في الشبهات المفهومية في نفسه كاستصحاب عدم نبات الشعر الخشن في المقام فيكون المرجع إلى عمومات التكليف.

ولكن يمكن القول بأن هذه الموارد قليلة وحكمها معلوم لا يكون سبباً للقول بتعميم المقسم ليشمل غير البالغ.

الأمر الرابع: لا ريب أنّ موضوع الأصول العملية هو الشك في الحكم كما سيأتي بيانه، والمعروف المتداول منها في الفقه هي الأربعة المعروفة: الإستصحاب والإحتياط والتخيير والبراءة. وهذه الأصول الأربعة عقلية وعقلائية لم يرد ردع عنها في الشرع بل قد أمضاها، ولها من الشمول والعمومية بحيث تجري في جميع الأبواب، وحصرها إستقرائي ويمكن أن يكون عقلياً بالعرض كما سيأتي.

وهناك أصول أخرى ليست بتلك المثابة من السعة والشمول والسريان فقد تختص ببعض الأبواب، وهي كثيرة كأصالة احترام المال والعرض والنفس، وأصالتي الحرية والصحة، وأصالة الطهارة، وأصالة الحليّة، وأصالة عدم التذكية، إلى غير ذلك من الأصول العملية المعتبرة التي يعتمد عليها العلماء في أبوابها.

الأمر الخامس: وقع الكلام في حصر مجاري الأصول الأربعة المعروفة، وحاول جمع من الأصوليين جعلها وجهاً عقلياً؛ بأن يقال إنّ الشك؛ إما أن يلحظ فيه الحالة السابقة أو لا يلحظ، وعلى الثاني إما أن يعلم بالتكليف ولو بجنسه أو لا يعلم، وعلى الأول إما أن

ص: 156

يمكن الإحتياط أو لا يمكن. والأول مجرى الإستصحاب، والثاني مجرى الإحتياط، والثالث مجرى التخيير، والرابع مجرى البراءة.وإنما يرجع إلى الوجه العقلي لأنّ هذه الأصول الأربعة تختص بمجاريها اختصاص العرض بموضوعه، فيكون الحصر فيها عقلياً ولكن بالعرض لا بالذات. وقيل غير ذلك، ولا يترتب على هذا البحث ثمرة مطلقاً.

إلا أن هناك اختلافاً في مؤديات تلك الأصول الأربعة ومقدار كشفها؛ فالمعروف أن في الإستصحاب كشف لا يوجد في غيره حتى اعتبره بعضهم أنه من الأمارة(1).

وذهب آخرون إلى أنه برزخ بين الأمارة المحضة والأصل المحض(2)، فيصحّ أن يقال: إنّ ما اعتُبر إما أن يكون أمارة محضة أو أصلاً محضاً أو برزخاً بينهما؛ والأول كخبر الواحد، والثاني البراءة، والثالث الإستصحاب.

هذا تمام الكلام في الأمور التمهيدية، ويقع الكلام في كلِّ واحد من الأقسام الثلاثة، وكلُّ قسم يكون في مبحث.

ص: 157


1- . كما عن السيد الخوئي في مباني الإستنباط؛ ص293، وکذلك الشيخ الأنصاري, ولکنه قد فرّق في الإستصحاب بين أن يكون مبناه الأخبار فيكون أصلاً، وبين أن يكون مبناه حكم العقل فيكون أمارة؛ قال: (إنّ عدّ الإستصحاب من الأحكام الظاهريّة الثابتة للشى ء بوصف كونه مشكوك الحكم نظير أصل البراءة، وقاعدة الاشتغال مبنيّ على استفادته من الأخبار. وأما بناء على كونه من أحكام العقل فهو دليل ظنّي إجتهادي نظير القياس والاستقراء على القول بهما). [فرائد الأصول؛ ج2 ص543].
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص8.

ص: 158

المبحث الأول ما يكون معتبراً في نفسه

القطع

تمهيد فيه مباحث:

المبحث الأول: وقع الكلام في كون مبحث القطع من مسائل علم الأصول وعدمه، وقد أشرنا إليه في الأمور التمهيدية، كما تقدم الكلام فيه في بداية هذا الكتاب عند البحث في تمييز المسائل الأصولية عن غيرها فراجع.

والذي ينبغي أن يقال في المقام أنهم ذكروا في نفي كون بحث القطع من مسائل علم الأصول لعدم تحقق الضابط الذي ذكر في المسألة الأصولية فيه، وهو وقوع القطع في طريق استنباط الحكم الشرعي, لأنه إذا قطع بحكم أو بموضوع فلا يمكن تشكيل قياس الإستنباط فيهما؛ فإذا قطع بالحكم فهو قطع بالنتيجة ونفس الحكم الفرعي فيقال: هذا واجبٌ، أو قطع بموضوع فيقال: هذا ماءٌ، فلا يصحّ أن يقول هذا مقطوع الوجوب أو مقطوع المائية لكون القطع بالنسبة إلى موضوعه طريقاً من دون أن يكون مأخوذاً فيه بوجه من الوجوه، وأما القطع الموضوعي فإنه موضوع للحكم لا أن يكون مستنبطاً من القطع.

ولكن يمكن الجواب عنه بما يلي:

أولاً: عرفت أنّ موضوع علم الأصول هو ما يبحث فيه عن كيفية استفادة الوظيفة وما يصحّ أن يُعتذر به لها، ولا ريب أنّ هذا الميزان صادق على القطع لكونه مِمّا يصح الإعتذار به، بل سيأتي أن القطع هو الأصل في كل ما يعتذر به, فلا فرق فيه بين الأمارات والأصول العملية من هذه الجهة؛ أي صحة الإعتذار في الوظائف العملية التي هي المناط في المسألة

ص: 159

الأصولية، فيصحّ أن يقال: هذا واجب للقطع به، وكلُّ ما وجب القطع به يصحّ الإعتذار به، فهذا يصح الإعتذار به, وهكذا الأمر بالنسبة إلى الموضوع كالماء ونحوه.

ثانياً: إن الخلاف قد وقع في الضابط في المسألة الأصولية كما تقدم في أول بحوث الأصول، وذكرنا الصحيح فيه فيما تقدم فراجع. والإشكال مبني على بعض الأقوال وقد عرفت الجواب عنه، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

المبحث الثاني: لا ريب في أنّ القطع حالة من الحالات النفسية الطارئة على الإنسان وصفة نفسية كسائر الصفات النفسانية, فله حقيقة خاصة وآثار مخصوصة، فإنّ حقيقته الكشف والمرآتية، وأهم آثاره لزوم العمل على طبقه واستحقاق العقاب على مخالفته. ولا ريب في كونه عذراً مع المخالفة للواقع قصوراً لا تقصيراً، وهذه الآثار من المرتكزات التي يلتزم بها كل عاقل، ولذلك كان وجوب العمل به وجوباً إرتكازياً عقلائياً كوجوب دفع الضرر ونحوه, وهذامِمّا لا إشكال فيه، وإنما الكلام في أصل حجيته ووجوب اتباعه شرعاً ومنجزيته كما سيأتي.

المبحث الثالث: القطع الذي هو مورد البحث والذي يتعلق بحكم أو بموضوع؛ إما أن يكون طريقاً إلى الواقع ومرآة له ويسمى القطع الطريقي وهو الشايع والمنصرف إليه عند إطلاق اللفظ، أو يكون القطع مأخوذاً في الحكم أو الموضوع ويسمى بالقطع الموضوعي ويختص بما إذا دلّ الدليل على كشف الحكم لا توليده، وهو نادر. وسيأتي بيان ما يترتب على كل واحد منهما وأقسامهما

المبحث الرابع: القطع هو العلم الوجداني وليس وراء ذلك شيئاً آخر، فهو والعلم واليقين على حدٍّ سواء في أنه تلك الصفة النفسانية التي تقابل الظن والشك وإن اختلف كل واحد منها عن الآخر في بعض الخصوصيات اللغوية. وإنما أجرى الأصوليون لفظ القطع على

ص: 160

غيره لسدّ الباب على القاطع حتى لا يشترك معه ببعض الحالات النفسانية فيلتبس الأمر عليه فيشكل الأمر عليه، ولذلك سمي بالقطع.

إذا عرفت هذا فالكلام يقع في جهات:

جهات البحث

الجهة الأولى: في طريقية القطع؛ وكونها ذاتية أو جعلية

اشارة

وفيها أمور:

الأمر الأول: الكلام في أصل القضية؛ وقد ذكر الأصوليون أنّ حقيقة القطع هو الكشف عن الواقع ورؤيته، وأنّ ذلك يكون من ذاتياته؛ فإنه حقيقة الإنكشاف والرؤية لا أنه مرآة وما به ينظر، فهو بحسب ماهيته وذاته طريق.

ومن الواضح أنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري وأن الماهية هي هي بنفسها فلا معنى لجعل الطريقية له أصلاً بجميع أنحاء الجعل: لا بسيطاً؛ إذ لا يتعلق ذلك بالماهية، ولا جعلاً مركباً مستقلاً أو تبعاً. وأما الجعل بمعنى وجوده فهو ممكن، إذ المولى قادر على إيجاد القطع الذي هو الإنكشاف, كما أنّ للموالي العرفيين القدرة على إيجاد معدّات القطع ببيان البراهين والأدلة ونحوها.

وهذا الأمر مِمّا يدركه العقلاء بمرتكزاتهم كما يدركون سائر الصفات النفسانية التي منها القطع، وإن وقع الخلط في كلمات القوم لا سيما الشيخ الأعظم قدس سره (1) بين مقام طريقية القطع ومقام حجيته.

الأمر الثاني: لا ريب في أنّ للقطع الذي عرفت حقيقته آثاراً خاصة وهي: وجوب عمل العقلاء على طبقه، ولزوم الحركة على وفقه جزماً، وكونه منجزاً للواقع، واستحقاق العقاب على مخالفته، وكونه عذراً مع المخالفة للواقع قصوراً لا تقصيراً.

ص: 161


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص5.

وهذه الآثار من المرتكزات التي يلتزم بها كل عاقل أيضاً.

فللقطع أثران مهمان عقليان:

أحدهما؛ وجوب متابعة القطع، ويطلق عليه الحجة أيضاً.

والآخر؛ منجزيته، بمعنى استحقاق العقاب على مخالفته وكونه عذراً عند المخالفة قصوراً لا تقصيراً.

وقد وقع الخلاف بين الأعلام في مدرك ذلك على أقوال:

القول الأول: إنهما ببناء العقلاء، وتكون داخلة في القضايا المشهورة وهو الذي ذهب إليه المحقق الإصفهاني قدس سره (1).

وحاصل كلامه: إنّ المقصود من وجوب العمل عقلاً هو إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة المقطوع لا أنّ هناك تحريكاً وبعثاً من العقل أو العقلاء نحو المقطوع؛ إذ ليس شأن القوة العاقلة إلا إدراك الأشياء لا البعث والتحريك، وأما تأثير القطع في منجزية التكليف واستحقاق العقاب فليس أمراً ذاتياً قهرياً بل هو أمرٌ جعلي عقلائي، وذلك لأنّ استحقاق العقاب على المخالفة الواصلة إنما يكون من باب الخروج عن رقّ العبودية، فتكون المخالفة هتكاً للمولى وظلماً له، وليس حسن العدل وقبح الظلم بمعنى استحقاق المدح والذم عليه من الأحكام العقلية الواقعية بل من الأحكام العقلائية؛ وهي ما تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظاً للنظام. ويعبّر عن ذلك بالقضايا المشهورة مقابل المدركات العقلية التي تدخل في القضايا البرهانية، لأنّ القضايا البرهانية منحصرة في الضروريات الست وهي: الأوليات والحسيات والفطريات والتجريبيات والمتواترات والحدسيات. وليس حسن العدل وقبح الظلم من إحداها فيتعين أن يكون داخلاً في القضايا المشهورة.

ص: 162


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص17.

والحاصل؛ إنه قدس سره يختار كون استحقاق العقاب أمر جعلي من قبل العقلاء، ورتبّ على ذلك قابلية هذا الحكم للمنع شرعاً كسائر مجعولات العقلاء وبناءاتهم، ولا يخفى أنّ هذا أثر كبير في منجزية العلم الإجمالي وإمكان جعل الأصول في أطرافه، وسيأتي تحقيق ذلك.

القول الثاني: ما اختاره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنّ حجية القطع بمعنى وجوب متابعة القطع والعمل على طبقه من لوازمه الذاتية وقال إنه من صريح الوجدان.

القول الثالث: إنه بحكم العقل وإلزامه، وهو ضعيف لما عرفت من أنّ العقل ليس من شأنه إلا الإدراك، وأما الإلزام والبعث والزجر فهي من وظائف المولى وشؤونه. نعم؛ الإنسان بل الحيوان بحسب فطرته يميل إلى ما يجلب النفع إليهويتجنب ما يضرّه وينافي طبعه، ولكن ذلك ليس من باب إلزام العقل. فهذا القول لا يمكن قبوله.

أما القول الأول؛ فقد قال السيد الخوئي قدس سره (2) في ردّه بأنه لاريب في أنّ هناك قضايا مشهورة بين العقلاء؛ عليها حفظ النظام وإبقاء النوع, فإنه لولا قبح الظلم لحصل التعدي بين أفراد الإنسان واختلّ النظام وحصل الهرج، إلا أنها أجنبية عن المقام بوجهين:

الوجه الأول: إنّ حجية القطع -بمعنى وجوب متابعته ولزوم الحركة على طبقه- كانت ثابتة في زمان وجود آدم علیه السلام قبل وجود العقلاء في العالم.

ويرد عليه: إنّ فيه مسامحة واضحة، فإنه في زمان وجود آدم علیه السلام لا وجود للقطع ولا ما يترتب عليه من الآثار، فإنه كان يعمل بحسب ما أودع الله تعالى فيه من الفطرة وما ألهمه عَزَّ وَجَلَّ من العلم في حياة طابعها الذاتي العام هو السذاجة والبساطة، مع أنّ هذا الإشكال غير صحيح أصلاً؛ فإنّ آدم علیه السلام مرآة الإنسانية الكاملة بما عندها من العقل وما يترتب عليه من القضايا.

ص: 163


1- . كفاية الأصول؛ ص258.
2- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص14-15.

الوجه الثاني: إنّ حكمهم إنما يكون في الأمور الراجعة إلى حفظ النظام، وليس متابعة الشارع في أوامره مطلقاً وكونها داخلة في حفظ النظام، وضرب لذلك مثالاً في الصلاة فإنه ربما يقال بأنه لا دخل لها في إبقاء النوع، ولا يلزم من تركه اختلالٌ أصلاً.

ويرد عليه: إنّ ما أتى به الشارع إنما يرجع إلى حفظ النظام النوعي للإنسان مادياً ومعنوياً، وإنّ الصلاة بوجودها العبادي الخاص إنما له التأثير التام في تثبيت النظام المعنوي، ولذا فإنّ الأنبياء الذين هم قادة الأمم موصون بالصلاة والزكاة.

القول الرابع: ماذهب إليه السيد الخوئي قدس سره (1) من أن وجوب متابعة القطع إنما هو حكم عقلي نظري يحكم العقل، لا بمعنى البعث والتحريك من القوة العاقلة وإلزامها، بل بمعنى إدراكه حسن متابعته وقبح مخالفته وصحة أن يعاقب المولى عبده المخالف لقطعه عند مصادفته للواقع، واستحالة ذلك إذا كان متابعاً لقطعه وإن كان مخالفاً للواقع. وكثيراً ما يطلق الحكم على الإدراك العقلي كما هو واضح.

وعلى هذا فيكون من الأمور النظرية لا من القضايا المشهورة، فتكون متابعة القطع أي المقطوع من لوازم القطع القهرية لا الجعلية؛ فإنّ الإدراك من الأمور التكوينية، وهكذا متعلقه وهو استحالة العقاب على تقدير موافقته وإمكانه على تقدير مخالفته، فإنّ كل واحد من الأمرين غير قابل للجعل التشريعي.القول الخامس: ما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره (2) من أنّ وجوب متابعة القطع واستحقاق العقاب على المخالفة من المرتكزات التي يلتزم بها كل عاقل؛ فوجوب العمل على طبقه ليس وجوباً شرعياً بل هو من الوجوب الإرتكازي العقلي كوجوب دفع الضرر.

ص: 164


1- . المصدر السابق؛ ص15.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص12.

وهذا ما ذهب إليه أغلب العلماء، ولكنه قدس سره اختلف عنهم في إمكان تعلق الجعل الشرعي بهما إثباتاً للتأكيد وردعاً لمصالح يعرفها الشارع, كما يصح ردع الشارع عنهما لأنّ اعتبار الكواشف مطلقاً في الشريعة معلقة على عدم ردع الشارع عنها، فالقاطع وإن كان يرى الواقع باعتقاده ولكن للشارع الحكيم أن يقول له لا أعتبر الواقع ولا أريده منك ولامحذور فيه.

وقد أنكر السيد الصدر قدس سره (1) ذلك وذكر في المقام ما حاصله:

إنّ النزاع يرجع إلى جعل حجية القطع بمعنى متابعته ومنجزيته بمعنى استحقاق العقاب على المخالفة واستحالته على المتابعة من صغريات قاعدة حسن العدل وقبح الظلم باستحقاق فاعل الأول للمدح والثواب ومرتكب الثاني الذم والعقاب، فاختلفت مبانيهم في حجية القطع باختلاف مبانيهم في تلك المسألة؛ فمن جعل قبح الظلم وحسن العدل أمراً واقعياً يدركه العقل من قبيل الإمكان والإمتناع كانت حجية القطع عنده كذلك أيضاً، ومن ذهب منهم مذهب الفلاسفة من كون حسن العدل وقبح الظلم حكماً عقلائياً حكم به العقلاء حفظاً للنظام وكانت حجية القطع من القضايا المشهورة وهي القضايا المجعولة من قبل العقلاء، ومنهم من قال غير ذلك كما عرفت.

ولكن بناء حجية القطع على قاعدة حسن العدل وقبح الظلم غير صحيح؛ فإنه إن أُريد بذلك بيان استحقاق المثوبة على الموافقة والعقوبة في المخالفة وتنبيه الخصم إلى ذلك فلا إشكال ولا مشاحة في الاصطلاح.

وأما إذا أريد الاستدلال على ذلك بتلك القاعدة فقد ذكر بأنه لا يتم، لأنه قد أُخذ في موضوعها قبح الظلم الذي من أفراده سلب ذي حقٍ حقه, فلا بُدَّ أن يكون في المرتبة

ص: 165


1- . بحوث في علم الأصول (تقريرات حسن عبد الساتر)؛ ج8 ص44.

السابقة فرض حق الآمر على المأمور حتى يعدّ مخالفته سلباً لحقه وإلا لم يكن ظلماً؛ فإن أُريد إثبات ذلك بنفس قاعدة قبح الظلم كان دورياً، وإن كان بعد الفراغ من ثبوت حق الطاعة والمولوية على العبد فيكون من تطبيق القاعدة فهو مستدرك، لأنه بعد الفراغ عن حق الطاعة للمولى على العبد وبعد افتراض وجدانية القطع لدى القاطع فلا يحتاج إلى شيئ آخر، فإنه لا يراد من المنجزية إلا حق الطاعة ولزوم الإمتثال، والمفروض إنه حصل القطع بذلك صغرى وكبرىفلا تحتاج إلى توسيط عنوان قبح الظلم وإدخاله في الإستدلال فإنّ جريانه فرع ثبوت مولوية المولى وحق الطاعة له. اللهم إلا أن يراد بذلك تنبيه المرتكزات إلى وجود الحق كما عرفت.

ثم إن مولوية المولى إن كانت ذاتية ثابتة له بلا جعل واعتبار وإنما هو أمر حقيقي واقعي فهي مختصة بالله تعالى بحكم مالكيته الحقيقية التي ثبتت له عَزَّ وَجَلَّ بملاك خالقيته وربوبيته العظمى، وهذه المولوية إنما يدركها المخلوق بقطع النظر عن أمور أخرى مثل شكر المنعم ونحوه مِمّا حاول الحكماء إثباتها, وإن أمكن إثباتها من الطاعة بما ذكروه ولكن أصل المولوية ثابتة بملاك المالكية المطلقة.

وعلى أيّ حال؛ فإنّ هذه المولوية ذاتية ويستحيل أن تكون جعلية لأنّ ثبوت الجعل ونفوذه فرع ثبوت المولوية في المرتبة السابقة؛ فإذا ثبتت المولوية الذاتية فلا تثبت الجعلية وبناء العقلاء على هذه المولوية بمعنى جعلهم لها، بل بمعنى إدراكهم لها على حدّ إدراكهم للقضايا الواقعية الأخرى.

وأما غيرها من أقسام المولوية فهي جعلية تتبع مقدار الجعل في السعة والضيق سواء كانت مجعولة من قبل المولى الحقيقي كالنبي والإمام، أو من قبل العقلاء أنفسهم كما في الموالي العرفيين.

ص: 166

والمولوية الذاتية إنما يحقق القطعُ صغراها الوجدانية لأنّ ثبوت القطع للقاطع وجدانيٌ، وثبوت مولوية المولى الحقيقي في موارد القطع بديهيٌ لأنه القدر المتيقن من حدود هذه المولوية، ولا يعقل أن يكون اكتمال درجة الكشف عن حكم المولى موجباً لارتفاع هذه المولوية، وقلّتها موجبة للمولوية؛ مع أنه يدعى ثبوت هذه المولوية في موارد الظن والإحتمال أيضاً.

ولهذا أنكر السيد الصدر قدس سره (1) قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات البدوية خلافاً لمذهب المشهور، ورتّب على ذلك ثمرات متعددة.

وذكر قدس سره في تفصيل ذلك أنّ المشهور ميّزوا بين مولوية المولى وبين حق طاعته ومنجزية أحكامه، وأنّ مولوية المولى أمرٌ واقعي مفروغ عنه لا نزاع فيه، ولا مساس لبحث حجية القطع بذلك أبداً. وأما منجزية القطع وحجيته فهو مختص بالأمر الثاني. وقد ذكروا أنّ التكليف يتنجز بالوصول والقطع ولا تنجُّز بلا وصول، ولهذا حكموا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وقد أشكل على ذلك بأنّ ذلك يرجع إلى حدود مولوية المولى وحق طاعته؛ لا أن يكون هناك تفصيل بين المولوية وحق الطاعة بأن يكون في البين بابان أحدهما باب مولوية المولى، والآخر حق طاعته، والمنجزية ترجع إلى الثاني. ولكنهاختار أن يكون الثاني من لوازم أن يكون للمولى حق طاعته على العبد في مورد التنجيز؛ فإذا حصل تبعيض عقلي في المنجزية فهو تبعيض في المولوية, فلا بد أن يكون البحث عن دائرة مولوية المولى وتعيين مقدارها.

ص: 167


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص29.

وقد ذكر ثلاث فرضيات:

الفرضية الأولى: أن تكون مولوية المولى أمراً واقعياً موضوعُها واقع التكليف بقطع النظر عن الإنكشاف ودرجته. وهذا باطل لأنه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزاً ومخالفته عصياناً، وهو خلف معذرية القطع.

الفرضية الثانية: أن يكون حق الطاعة في خصوص مورد القطع وما يصل إلى المكلفين من تكاليف المولى. وهذا هو الذي ذهب إليه المشهور وهو التبعيض في المولوية بين موارد القطع والأصول وموراد الشك. وقد حكم السيد الصدر ببطلان هذه الفرضية لأنّ مولوية المولى من أتم مراتب المولوية كما عرفت، وحقّه في الطاعة على العباد أكبر حق لأنه ناشئ من المملوكية والعبودية الحقيقية.

الفرضية الثالثة: المولوية في حدود ما لم يقطع بالعدم. وهو الذي اختاره(1) وعلى أساسه أنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان والتي على أساسها ذهب المشهور إلى التبعيض في المولوية قياساً على بعض المولويات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف. فإن دلّ دليل على أنّ الشارع أمضى هذه السيرة العقلائية في مولوياتها فلا بأس به، ولكن يكون ذلك من البراءة الشرعية ولأجل ذلك ذكر بأنّ الفرق بين القطع وبين غيره من سائر الإحتمالات ودرجاتها يكون في أمرين:

الأول: القطعُ حجةٌ في جانبي التنجيز والتعذير معاً بخلاف المراتب الأخرى التي لا يكون في مواردها إلا التنجيز، وذلك لأنّ حق الطاعة لا يشمل موارد القطع بالترخيص وليس هذا تبعيضاً في مولوية المولى بل تخصيصاً؛ لاستحالة محركية المولوية في مورد القطع بالترخيص.

ص: 168


1- . المصدر السابق؛ ص30.

الثاني: إنّ منجزية غير القطع من الظن والإحتمال وهي قابلة للردع عنها شرعاً بجعل الترخيص ظاهرياً على الخلاف، وأما منجزية القطع فغير قابلة لذلك.

وهذا هو الذي وقع مورد الخلاف بين الأصوليين والمحدثين في خصوص القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة.

والحق أن يقال: إنّ هناك أمرين مفروغ منهما عند الجميع:

أحدهما؛ مولوية المولى التي تثبت للمولى الحقيقي بمقتضى خالقيته ومالكيته لما سواه، ويلازم هذه المولوية خضوع المخلوقات وتسخيرها وتسليمها له عَزَّ وَجَلَّ وثبوت إرادته التامة فيهم بالبداهة.والآخر؛ هو حق الطاعة التي ثبتت له عَزَّ وَجَلَّ بمقتضى ربوبيته العظمى، وأنه ثابت في أعناق عباده من باب شكر المنعم وغيره، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1), بل إنّ ما سواه عَزَّ وَجَلَّ يستشعر العبودية، كما قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(2).

ويلازم ذلك لزومُ هذا الحق والخروج عن عهدته بالطاعة له وعبادته عَزَّ وَجَلَّ عقلاً. ولا ريب في أنّ ذلك لا يتحقق إلا بالقطع أو بالوصول، وفي غير ذلك يجب عقلاً لأنّ العبادة والطاعة متقومة بالذكر والمعرفة مطلقاً؛ كلٌّ حسب حاله. ولا ريب أنها لا تحصل إلا بما ذكرناه من القطع أو الوصول.

وقد وقع الخلط بين الأمرين في الكثير من الكلمات مع أنّ تيميز أحدهما عن الآخر حاصل من حيث السبب واللوازم؛ فإنّ الأول ينشأ من الخالقية والمالكية التامة ويترتب عليه ذلّ

ص: 169


1- . سورة الذاريات؛ الآية 56.
2- . سورة الإسراء؛ الآية 44.

العباد وخضوعهم التكويني لخالقهم وتسخيرهم تحت إرادته، والثاني ينشأ من ربوبيته العظمى ويترتب عليه الخروج عن هذا الحق بالطاعة والعبادة من باب شكر المنعم. ومن كلا الأمرين تتحقق مولويةُ المولى الذاتية واتصافُها بالكمال والواقعية التامة. وفي الأول لا تنتفي المولوية، ولا تتصف إلا بالكمال والتمام. كما إنها لا تزول ولا ترتفع أبداً سواء كان هناك مخلوق أو لا، بينما يمكن أن يكون الكشف عن حكم المولى تابعاً لمقدار الكشف فلا يشمل الوهم والإحتمال. وسيأتي تفصيل ذلك في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث(1): بعدما عرفت الأقوال في حجية القطع ومنجزيته وتقدم أنّ معظم الأصوليين يبنون على عدم إمكان جعل حكم عملي على خلاف المقطوع به؛ فلا مورد يكون القطع يخالف حجيته ومنجزيته أو معذريته كما تجعل الأحكام الظاهرية في موارد الشبهات. وقد ادُّعى استحالة ذلك، واستدلوا عليه بالأدلة التالية:

الدليل الأول: إنّ الردع عن القطع يستلزم اجتماع الضدين واقعاً في فرض الإصابة، أو في نظر القاطع في فرض الخطأ. وكلاهما محال لأنّ القطع بوقوع المحال محال أيضاً.

الدليل الثاني: إنّ الردع مناقض لحكم العقل بحجية القطع ومنجزيته، وهو مستحيل لأنه إن أريد بذلك إزالة الحجية الذاتية كان من التفكيك بين الذات والذاتي، وإن أُريد جعل ما يخالفها رغم ثبوت الحجية الذاتية عقلاً فهذا تناقض مع حكم العقل.

الدليل الثالث: إنّ الردع يلزم منه نقض الغرض ولو بحسب نظر القاطع.والحق؛ أنّ شيئاً مِمّا ذكر لا يصلح لأن يكون مانعاً وأن يجعل الحكم في مورد القطع سواء كان على خلاف المقطوع به أو كان موافقاً له.

ص: 170


1- . من الأوامر التي تشتمل عليها الجهة الأولى من جهات البحث.

أمّا الدليل الأول؛ فقد أورد عليه:

1- إنه مشترك بين القطع وغيره من موارد جعل الحكم الظاهري من الأمارات والأصول العملية, وإن كان الفرق بين الموردين أنه في موارد الحكم الظاهري يكون الإمتناع في احتمال اجتماع الضدين؛ وهو مثل القطع باجتماعها، وكلاهما محال.

2- إنّ التضاد وامتناعه إنما يكون في الأمور التكوينية، وأما الإعتباريات التي منها الأحكام ففي معزل عن ذلك. وقد تقدم في ما سبق من البحوث إثبات ذلك، وسيأتي في مبحث علاج الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية الذي اختلفت المسالك فيه.

وأما الدليل الثاني؛ فلأنه مبني على التفكيك بين الذات والذاتي، وهو فرع أن يكون القطع علّة تامة للتنجيز وهو غير تام لاحتمال أن تكون العلة إقتضائية معلقة على عدم ورود حكم من الشارع كما هو الحال في موارد الإحتمال والشك في الإمتثال المعلق على الفحص، مع أن المقام ليس من العلل التكوينية حتى يستحيل الإنفكاك بين العلة والمعلول كما عرفت.

وأما الدليل الثالث؛ فلأنّ الغرض إن كان هو الداعي إلى الجعل وهو التحريك؛ فهو إن كان تنجيزياً فقد يقال بنقض الغرض إن جُعل حكمٌ ترخيصي في مورد القطع، وأما إذا كان تعليقياً فلا يحصل نقض الغرض. وأما إذا أُريد من الغرض هو الملاك الواقعي فهو يرجع إلى برهان التضاد المتقدم، وعرفت الجواب عنه.

والحاصل؛ إنّ ما ذُكر إنما نشأ من الخلط بين الأمور التكوينية والأمور الإعتبارية، وما يجري في الأولى من التضاد ونقض الغرض ونحوه لا يجري في الثانية فلا يتم ما ذكروه في جعل الأحكام والقطع بها ونحو ذلك. وقد تقدم الكلام في ذلك مراراً.

ص: 171

الأمر الرابع: ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) من أنه لا يعقل جعل حكم ظاهري في مورد القطع؛ لا نفسياً لاستلزامه التضاد كما تقدم، ولا طريقياً لأنّ القاطع يرى نفسه مستثنى من الخطاب روحاً وملاكاً، وإن كان مشمولاً له صورةً. وكل خطاب يكون شموله للمكلف من باب ضيق الخناق وبحسب الصورة لا يكون منجزاً أو معذراً.

ويرد عليه: إنه يرجع إلى ما ذكره من الأدلة من الخلط بين الأمور التكوينية والأمور الإعتبارية الجعلية، فما ذكره من عدم تعقل الخطاب النفسي وكونه منالتضاد غير تام كما عرفت. وأما أنّ عدم تنجّز الخطاب الصوري وعدم معذريته فهو غير تام؛ فإنه قد يكون في جعل الخطاب في مورد القطع حكمٌ ومصالحٌ لم تكن موجودة في نفس القطع مع كونه كافياً في التنجيز والمعذرية فإنّ الفائدة لم تنحصر فيهما كما هو الشأن في كثير من الكواشف والأحكام العقلائية التي أمضاها الشارع الأقدس.

والصحيح هو ما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره (2) وإن كان كلامه يتركب من أمرين:

أحدهما: إنّ حجية القطع أمر عقلي، وإنّ استحقاق العقاب على مخالفته والمثوبة على موافقته والمعذرية عند المخالفة من مصاديق حسن العدل وقبح الظلم الذي تطابقت آراء العقلاء عليها فصارت من القضايا المشهورة.

والآخر: إمكان تدخل الشارع في مورد القطع وإلغاء الحجية بتشريع حكم خلاف حكم المقطوع به.

ص: 172


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص33-34.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص12 وما بعدها.

أما الأمر الأول؛ فقد ذهب إليه جمع من العلماء(1) وذكروا في توجيه ذلك أنّ وجوب العمل بالقطع إنما يرجع إلى إذعان العقل باستحقاق العقاب على المخالفة لا أن يكون هناك بعثاً وتحريكاً من العقل أو العقلاء نحو المقطوع إذ ليس شأن القوى العاقلة إلا إدراك الأشياء لها لا البعث والتحريك, كما عرفت.

توضيح ذلك: إنّ النفس لها قوى متعددة كالقوى الغضبية والقوة الشهوية والقوة العاقلة، ولكل واحدة من هذه الثلاث ملائمات ومنافرات، والنفس لها السيطرة والهيمنة عليها وتدرك أنّ هذا الأمر مِمّا يلائم القوة الغضبية أو القوة العقلية، وأنّ ذلك الأمر ينافيها، وشأن القوة العاقلة تعديل جميع القوى وتنظيمها؛ فمثلاً إنّ العدل يلائم القوة العاقلة، والظلم ينافرها، فإن قلنا بأنّ حسن العدل وقبح الظلم أمراً عقلياً فهو يرجع إلى أنّ العدل يلائم القوة العاقلة والظلم ينافرها, كما أنّ الإنتقام يلائم القوة الغضبية. ومن أجل ذلك نرى أنّ العقل ينفر من الظلم ولو لم يكن له ارتباط بالنظام أو بالإنسان. فالتمثيل بالغير منفور عقلاً ولو لم يكون للمقتول أي ارتباط بفرد، أو كان في مكان بعيد عن الأنظار لم يطّلع عليه أحد. ومن هنا جاء التعبير بحكم العقل، ولكنه أقرب إلى العرف لا أن يكون العقل هو الباعث والزاجر.

فإذا ثبت كون حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم بهذا المعنى فهو يحكم أيضاً بحسن الإطاعة وقبح المعصية من باب أنّ المعصية ظلم للمولى والإطاعة عدل، ولكن ذلك إنما يترتب بعد ثبوت المولوية والعبودية والإذعان بها ليثبت حقالإطاعة حتى تكون معصيته ظلماً. ففي كل مورد ثبت ذلك ترتب عليه حكم العقل.

ص: 173


1- . نهاية الدراية؛ ج2 ص31.

ومن هنا يأتي وجوب متابعة القطع عقلاً لأنّ عدم متابعته معصية وهي ظلم للمولى، وهو مِمّا ينافر القوى العقلائية.

وأما الأمر الثاني؛ وهو المنجزية بمعنى استحقاق العقاب، فإنّ العقل لا يمكنه إثبات العقاب؛ أي المجازاة على العمل بالمعنى العام فإن كان للتشفي فهو مستحيل على الله تعالى مضافاً إلى كونه مِمّا يلائم القوة الغضبية لا القوة العاقلة. وكذا الحكم إن كان بلا فائدة ولا غرض لأنه لغوٌ محض وهو لا يصدر من العاقل.

ولكن دلّ الدليل النقلي على ثبوت العقاب فلا بد أن يكون سببه أحد أمور ثلاثة:

الأمر الأول: القول بتجسم الأعمال؛ بمعنى أنّ نفس المعصية تتجسم بالعقاب بلحاظ اقتضاء ذاتها؛ نظير تكوين الشجرة من البذرة. وقد التزمه به بعض العلماء.

الأمر الثاني: إنه لأجل تكميل النفس وإيصالها إلى المرتبة الكاملة، كما يقال في المرض في دار الدنيا.

الأمر الثالث: كونه على طبق المصلحة النوعية للعالم الأخروي؛ كاختلاف الأشخاص بالأموال في الدار الدنيا لكونه على طبق المصلحة النوعية لهذا العالم.

ولا ريب أنّ هذه الطرق الثلاثة لا دخل لحكم العقل فيها، وليس للعقل طريق إلى إدراك ما يكون من الأعمال سبباً ذاتياً للعقاب، أو إدراك ماهو من طريق كمال النفس، وما هو على طبق المصلحة النوعية فإنه قد يعاقب المطيع لإكمال نفسه كما يُبتلى المؤمن في دار الدنيا، أو يعافيه لأجل المصلحة النوعية. فلا حكم للعقل في مورد تُجهل خصوصياته وشؤونه، فلا بُدَّ من متابعة الدليل النقلي الذي دلّ على العقاب سعةً وضيقاً وموضوعاً.

وبالجملة إنّ القعاب الدنيوي الثابت للتأديب غيرحاصل في الآخرة لأنه لغو محض, وأما العقاب الثابت بعنوان آخر من تلك العناوين الثلاثة لا طريق للعقل إليه ولا يكون من

ص: 174

موارد حكم العقل. كما إنه لا سبيل لبناء العقلاء في استحقاق العقاب من باب تطابق آراء العقلاء حفظاً للنظام كما هو واضح.

ولأجل عدم حكم العقل في العقاب ذهب بعض الأصوليين إلى انتفاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في باب البراءة؛ فإنّ العقاب ليس من حكم العقل حتى يكون الحكم في تحديد مورده. وسيأتي بيانه، فيكون المناط في ثبوت العقاب هو الدليل النقلي، فإذا دلَّ على ثبوت العقاب في مورد المعصية فيكون ظاهره هو العقاب على المخالفة العمدية إذا صدرت عن علم، وإن دلّ دليل على ثبوته على مطلق المخالفة فلا بُدَّ أن نرجح مقدار دلالة الدليل. وتمام الكلام في موضعه.والحاصل من جميع ذلك أنّ حجية القطع بمعنى وجوب متابعته إنما يكون من شأن إدراك القوة العاقلة بما يترتب على المخالفة من العقاب الذي هو تابع لتحقق المخالفة، وهذا المعنى هو الاقرب إلى العرف.

كما إنه لا سبيل للعقل في إثبات العقاب في مورد المخالفة, فلا بُدَّ من الرجوع إلى الدليل النقلي في تحديد موضوعه وتقدير وسائل شؤونه.

فإذا كان الأمر كذلك فإنه لا محيص من الإعتراف بأنّ الشارع يمكنه جعل حكم مخالف في موارد القطع، وهو يكشف عن عدم إمضاء الشارع للحكم المقطوع به كما في سائر الكواشف. كما إنه يصحّ جعل حكم مماثل للحكم المقطوع تأكيداً، وهو الشق الثاني الذي انفرد به السيد الوالد قدس سره .

ومن جميع ذلك يظهر أنه يمكن تعلّق الجعل بجميع أقسامه بالقطع؛ فإنّ الجعل البسيط يتعلق به، بمعنى إيجاده وحصوله في النفس من ترتيب المقدمات الدخيلة في حصوله. وكذلك يتعلق به الجعل المؤلف؛ أي جعل الحجية والكاشفية، ولكن المشهور بينهم

ص: 175

استحالته لما عرفت من أنه؛ إما أن يكون الجعل بين الشئ وذاتياته لا بينه وبين عوارضه المفارقة، والمناط في هذا الجعل هو الفقدان، ولا فقدان بينه وبين ذاتياته. وإما لأنّ تعلّق الجعل به يستلزم التسلسل بدعوى أنّ جعل كل شئ لا بُدَّ وأن ينتهي إلى العلم، فإن كانت حجيته مجعولة فإنه يلزم التسلسل فلا يعقل الجعل التكويني بين القطع والكشف كما عليه المشهور.

وقد ناقش السيد الوالد قدس سره (1) ما ذكره المشهور بما يلي:

1- إنَّ ما ذكره الفلاسفة من عدم تعلق الجعل التكويني بين الشئ وذاتياته مرفوض بالنسبة إلى مجعولات الله تعالى، فإنّ مقتضى قدرته التامة وربوبيته العظمى وخالقيته الكبرى هو تعلّق إرادته المقدسة بين الشئ وذاتياته. وقد ذكر قدس سره ذلك في تفسيره. وبذلك خالف ما عليه الفلاسفة والحكماء بأجمعهم.

2- إنّ التسلسل يتحقق في القضايا الخارجية، فإذا كان جعل الحجية للقطع بنحو القضية الخارجية فيتحقق فيه التسلسل كما في الدسومة والدهن، وأما إذا كانت على نحو القضية الطبيعية فلا يلزم منه التسلسل لأنّ القضايا الطبيعية أُخرجت من حيّز العدم إلى الوجود وتتوقّف إحداها على الآخرى. ولكل واحد من هذين الأمرين تفاصيل ومباحث قيمة مذكورة في الكتب الفلسفية دون المقام.وعلى ما ذكره المشهور من عدم إمكان جعل الحجية للقطع وعدم تعلقه فإنه لا يعقل سلبها عنه أيضاً؛ لأنّ كل ما لا يمكن تعلّق الجعل بوجوده لا يمكن تعلق الجعل بعدمه أيضاً لأنّ القدرة -كما ثبت في محله- إنما تساوي المشيئة بالنسبة إلى طرفي الوجود والعدم,

ص: 176


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص13وما بعدها.

فالقادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك, فإذا لم يكن تعلقها بأحد الطرفين إمتنع تعلقها بالطرف الآخر أيضاً.

ولكن ما ذكره السيد الوالد قدس سره إنما هو بالنظر العلمي في إمكان تعلق الجعل بما هو مقتضى ذات القطع وذاتياته، ولكن في مقام الواقع والإثبات لم يتحقق مثل هذا الجعل والنزاع إنما يكون في مرحلة الثبوت فقط. هذا كله بالنسبة إلى الجعل التكويني.

وأما الجعل التشريعي بمعنى وجوب متابعة القطع؛ فقد قالوا بعدم إمكانه أيضاً سلباً وإيجاباً؛ أما الأخير؛ فكما عرفت من أنّ الجعل التشريعي إنما يكون لإيجاد الداعي والمفروض حصوله للقاطع بمقتضى قطعه فيكون الجعل التشريعي لحجية القطع من تحصيل الحاصل.

وأُشكل عليه بأنّ الغرض لم يكن منحصراً فيما ذكروه، بل إنّ هناك أغراضاً أخرى مترتبة على الجعل التشريعي كإيجاد الداعي من قبل الشارع تأكيداً وإتماماً للحجة وغير ذلك كما عرفت، فيكون القطع كسائر الحجج العقلائية التي شملتها عناية الشارع ولو بعنوان عدم الردع.

وأما سلب الحجية عن القطع فقد قالوا في امتناعه بأنه؛ إما أن يُحكم في مورده بعين الحكم المقطوع به، وهو تحصيلٌ للحاصل, أو بمثله، وهو اجتماع المثلين في نظر القاطع، أو بضده وهو إجتماع الضدين فيه، أو لا يحكم بشئ أبداً فيلزم خلّو الواقعة عن الحكم وهو خلاف ما تسالموا عليه من عدم جوازه.

وأورد عليه:

أما الأول؛ فلما عرفت من إمكان تصوير الغرض الصحيح العقلائي فيه فيخرج من موضوع تحصيل الحاصل حينئذٍ.

وأما الثاني والثالث؛ فبأنّ الأحكام اعتبارات عقلائية ويعتبر في إجتماع المثلين والضدين أن يكونا من الموجودات الخارجية كما هو ثابت في محله.

ص: 177

وعلى فرض كون الأحكام من الموجودات الخارجية أو يكون المراد بها مطلق المعاندة العرفية فإنه يكفي في رفع محذور الإجتماع إختلاف الحيثية فمن حيث متعلق صلاحية القطع للداعوية يكون مورد الحكم الشرعي المجعول, ومن حيث تعلّق القطع به يكون مورد حكم آخر, وهما حيثيتان مختلفتان عرفاً تكفيان في رفع محذور التماثل والتضاد.

وأما الرابع؛ فلأن الممنوع خلّو الواقعة عن الحكم واقعاً وفي نفس الأمر دون الفعلي الظاهري، فيمكن الإلتزام بعدم حكم للشارع ظاهراً وإن كان له فيها حكم واقعاً كما سيأتي بيانه في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.والحاصل من جميع ذلك أنه يمكن تعلّق جعل الشارع في مورد القطع فيجعل الشارع الحجية للقطع أو يسلبها عنه.

الأمر الرابع(1): بعدما عرفت الوجه في إمكان جعل مسألة حجية القطع من مسائل علم الأصول بل صحته، وأنّ المراد من حجية القطع هو وجوب متابعته والتحريك نحو المقطوع به وتعلّق الجعل التشريعي به إيجاباً وسلباً. ولا وجه لذكر أقسام الحجة التي هي خارجة عن مباحث الأصول ولكن الشيخ الأنصاري قدس سره (2) أشار إلى عدم كون هذه المسألة أصولية لعدم صحة إطلاق الحجة عليه بمعنى الوسط في القياس وتبعه غيره، واختصر المحقق الخراساني قدس سره (3) بالإشارة لما ذكره من عدم كون المسألة أصولية، بينما أعرض كثير من الأصوليين عن هذا الأمر ولم يتعرضوا إليه لا بالإشارة ولا بغيرها.

ولابأس بتوضيح معاني الحجة إتماماً للفائدة.

ص: 178


1- . من الأوامر التي تشتمل عليها الجهة الأولى من جهات البحث.
2- . فرائد الأصول؛ ج1 ص4.
3- . كفاية الأصول؛ ص257.
إطلاقات الحجة

ذكروا أنّ للحجة إطلاقات ثلاثة:

الأول: المعنى العرفي العام ويقرب منه المعنى اللغوي؛ وهو كون الحجة: مّما يصحّ الإعتذار والإحتجاج به. فإنّ كل ما يصحّ احتجاج المولى به على العبد وبالعكس فيقطع به العذر يعتبر حجةً.

وبهذا يصحّ إطلاقها على القطع وجميع الأمارات بل الأصول العملية والقواعد الفقهية.

وهو صحيح يقبله العقل والنقل من دون دليل على الخلاف.

الثاني: ما اصطلح عليه في علم الميزان من أنّ الحجة ما يكون وسطاً في القياس؛ أي ما كان علّة لتحقق الشئ وثبوته -كالتغير الذي هو علّة للحدوث- ويركز في البرهان على حدوث العالم. والمعروف عدم صحة إطلاق الحجة بهذا المعنى على القطع لعدم كونه علة لثبوت المقطوع به، بل يكون كاشفاً عنه, فلا ملازمة بين القطع وبين الحكم واقعاً، والمفروض اشتراط الملازمة بين القطع وتحقق الحكم المقطوع به في صدق هذا المعنى من الحجة.

وأشكل عليه السيد الوالد قدس سره (1) بما يلي:

إنّ القطع إنما يكون علّة لثبوت المقطوع به الأولي الذاتي القائم بالنفس. ولكنه كاشف عما يكون في الخارج وبينهما نحو إتحاد نظير المعقول1- الأولى والمعقول الثانوي, فيصح إطلاق الحجة بهذا المعنى على القطع أيضاً.

2- أن يكون القطع علّة للثبوت خارجاً أيضاً، لأنّ القطع بشئ علةٌ لاستحقاق العقاب على المخالفة, والثواب على الموافقة، فيقال مثلاً:

إنّ هذا مقطوع الوجوب؛ وكل مقطوع الوجوب يستحق العقاب عى مخالفته.

ص: 179


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص14.

فهذا يستحق العقاب على مخالفته. فلا وجه لنفي إطلاق الحجة بهذا المعنى على القطع على نحو الإطلاق.

ولكن يمكن الإشكال عليه بأنّ العقاب لم يكن معلقاً على مجرد القطع بل العلة في الإستحقاق، هو المخالفة، فيكون الحدّ الوسط هو المخالفة. فيقال:

إنّ هذا مقطوع الوجوب ويستحق العقاب على مخالفته.

وكل مخالفة للمقطوع به يستحق العقاب عليه؛ فلم يتم الشرط.

نعم؛ يمكن قبول الوجه الأول باعتبار أنّ المقطوع به الأولي الذاتي القائم في النفس غير المقطوع به الثانوي، وإن كان بينهما اتحاد في الجملة كما فُصِّلَ القول عند البحث عن المعقول الأولي والمعقول الثانوي الذي تترتب عليه ثمرات عديدة مذكورة في محله.

الثالث: الإصطلاح الأصولي؛ وهو ما يقع في قياس الإستنباط، وما يكون واسطةً في الإثبات شرعاً، كالأدلة الإجتهادية والقواعد المعتبرة التي تثبت بها الأحكام مثل البينة وقول ذي اليد ونحوهما، مِمّا يثبت به موضوعاتها. فكل ما يكون معتبراً شرعاً تأسيساً أو إمضاءً ويثبت به حكم أو موضوع يطلق عليه الحجة في إصطلاح الأصول.

وقد عرفت أنه صرح بعض الأصوليين(1) بعدم صحة إطلاق هذا المعنى على القطع أيضاً؛ إما لأنّ القطع الطريقي هو عين انكشاف الحكم، أو لأنّ القطع إنما يكون اعتباره عقلياً ولا يمكن الجعل الشرعي بالنسبة إليه.

ولكن عرفت إمكان تعلق الجعل الشرعي به ولو على نحو الإمضاء، بل إنّ جُلّ الحجج الشرعية -لولا كلها- هي إمضائية ولو على نحو عدم ثبوت الردع، وليكن القطع كذلك، بل يصحّ أن تطلق الحجة بهذا المعنى على الأصول العملية أيضاً لكونها واسطة

ص: 180


1- . الشيخ النائيني قدس سره في: فوائد الأصول ج3 ص7.

لإثبات متعلقاتها في الجملة؛ فيقال:

هذا مِمّا قامت عليه أصالة البراءة، وكل ما قامت عليه أصالة البراءة لا إلزام بالنسبة إليه، فهذا لا إلزام بالنسبة إليه.وهكذا بالنسبة إلى سائر الأصول العملية بلا فرق بين القول بأنها من الأصول العقلائية التي أمضاها الشرع كما إختاره السيد الوالد قدس سره (1) أو الأصول الشرعية كما اختاره أكثر الأصوليين.

والحاصل؛ إنّ الحجية بهذا المعنى(2) يصحّ إطلاقها على القطع سواء كان تعلق بالموضوع أم بالحكم. وقد ورد مثل ذلك في كلام الفقهاء فيقولون هذا حرام -مثلاً- قطعاً، أو هذا مِمّا قطع به الأصحاب.

والحق؛ إن إطلاق الحجية على القطع لا يخرج عن المعنى المعهود منه في جميع معاني الحجة، ولأجل ذلك صحّ إطلاقها عليه.

وإن كان بالمعنى الدقي العقلي؛ الذي عليه اصطلاح أهل الميزان فلا يصح إطلاقها على القطع.

ولكن عرفت أنه يصحّ الإطلاق بالتفكيك بين المقطوع به الأولي الذاتي والمعقول الثانوي.

وأما المعنى الثالث؛ فإن نظرنا إليه بالمنظار العرفي فيمكن إطلاقه عليه أيضاً, وقد استعمله الفقهاء كثيراً في كلماتهم، فيمكن تصحيحه بالمنظار الأصولي إذا تعلق الجعل الشرعي بالقطع كما هو المختار.

وعلى هذا؛ لا محذور في إطلاق الحجة على القطع بالمعاني الثلاثة.

ص: 181


1- . أشار إليه في تهذيب الأصول؛ ج2 ص15.
2- . أي المعنى الأصولي.

هذا كله في القطع الطريقي، وكذا بالنسبة إلى المقطوع الموضوعي فلا إشكال من أحد في صحة إطلاق الحجة عليه بالإطلاقات الثلاثة، لصحة تعلّق الجعل به، إذ لا معنى لأخذه في الموضوع إلا ذلك، سواء كان تمام الموضوع أو جزءه بنحو الصفتية الخاصة أو بنحو الكشف.

ولكن مِمّا يهون الخطب أنه لا ثمرة عملية تترتب على هذا البحث، ولأجله تركه بعض الأصوليين.

الإطمئان

الأمر الخامس: في الإطمئنان، ولا ريب في كون حجيته عقلائية، وأنّ سيرة الناس قائمة على العمل به في جميع أمورهم من الأحكام أو الموضوعات، ولم يكن العلم الجزمي الذي لا يقبل التشكيك مناط عملهم إلا في موارد قليلة جداً، ولولا الإطمئنان لاختل النظام ولم يردع الشارع عن هذه السيرة القطعية إذ لو كان هناك طريق آخر غيره لظهر. ويكفي في حجيته عدم ثبوت الردع عن الأمور العامة الإبتلائية بين الناس، ولو فرض الشك في ثبوت الردع فإنّ مقتضى الأصل عدمه. ومن ذلك يظهر أنّ حجيته هي من باب بناء العقلاء، ومع ذلك فقد اختلف العلماء في أنّ حجية الإطمئنان من باب حجية العلم أو من باب حجية الأمارات؛ فإنه على الأول تكون حجيته بحكم العقل فلا يمكن الردع عنه بخلافالثاني فإنه يمكن الردع عنه وإن لم يثبت مثل هذا الردع كما عرفت. والبحث علمي صرف لا يأتي على مسلك السيد الوالد قدس سره الذي ذهب إلى إمكان ردع الشارع عن متابعة القطع.

وكذلك لا يتأتى على مسلك المحقق الإصفهاني قدس سره (1) القائل بأنّ حجية القطع ببناء العقلاء, بخلاف المسلك الذي القائل بأنّ حجية القطع عقلية كما عرفت من التفصيل،

ص: 182


1- . نهاية الدراية؛ ج2 ص31.

وذهب بعضهم(1) أنّ البحث إنما يتأتى في أحد الأثرين المترتبين على القطع؛ فذهب إلى أنّ الإطمئنان كالقطع من وجوب الإتباع، وكالأمارة في الثاني وهو المنجزية؛ بمعنى استحقاق العقاب على المخالفة لأنه ليس من آثار العلم بل من آثار الواقع وهو المخالفة وعدم الترخيص بها من المولى.

ولكن عرفت أنّ المنجزية بالمعنى المزبور ليست من آثار الواقع بل هي مترتبة على المخالفة

المعلومة، أو في فرض عدم ثبوت الترخيص فيكون حكم العقل حكماً تعليقياً؛ أي على عدم ثبوت الترخيص. وقد تقدم ما يتعلق بذلك ويأتي التفصيل في البحوث القادمة.

الأمر السادس: ذكر الأصوليون أنّ حكم العقل في مورد القطع تنجُّزيٌّ غير معلق على شئ بخلاف الظن الإنسدادي بناءً على الحكومة، فإنّ أصل اعتباره معلق على عدم ثبوت الردع من الشارع فلا يمكن قياس أحدهما على الآخر.

واستدلوا عليه بأنّ العقل لا يحكم بشئ إلا مع إحاطته بجميع ما له دخل في حكمه؛ فمع الإحاطة يكون حكمه تاماً منجزاً, ومع العدم فلا يحكم أبداً.

ويمكن أن يورد عليه -كما ذكره السيد الوالد قدس سره (2)- إنه صحيح في العقل المحيط بالواقعيات إحاطة واقعية من كل جهة, وأما العقول التي هي في طريق الإستكمال في كل آن فلا وجه لذلك فكم قد ثبت الخطأ في الأحكام العقلية, وليس لأحد أن يدّعي أنّ مطابقة القطع للواقع أكثر من مطابقة الأمارات المعتبرة أو بالعكس مع أنك عرفت أنّ الكواشف مطلقاً في كل شريعة سواء كانت من الأصول أم من الفروع لا بُدَّ أن تكون تحت إحاطة الشارع وإلا اختل النظام.

ص: 183


1- . منتقى الأصول؛ ج4 ص34.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص17.

الأمر السابع: تقدم أنه لا يمكن الجعل التأليفي بين الذات والذاتيات، وهذا الأمر وإن كان متفقاً عليه عند العلماء وفي أغلب العلوم وأنه أصبح من البديهيات التيلا يمكن إنكارها؛ ولكن السيد الوالد قدس سره (1) عقّب على ذلك بأنّ الذاتي على قسمين:

أحدهما؛ الذاتي الواقعي، والآخر؛ الذاتي الإدراكي، وبينهما عموم من وجه؛ والأول هو الذي يمتنع فيه الجعل التأليفي بخلاف الثاني.

ثم قال: (مع الشك يصح الجعل إذ أنّ موضوع الإمتناع إحراز الذاتية الواقعية).

ومنه يظهر أنّ المراد من لوازم الذات التي لا يصحّ الجعل التأليفي فيها هي اللوازم للماهية والذات الواقعي دون اللوازم العقلائية للشئ، فإنه يصحّ الجعل التأليفي بلا إشكال.

ومما ذكره قدس سره يتبين أنّ لوازم الذات الواقعية إن أدركتْها العقول القاصرة يمتنع تعلق الجعل، ولكن الكلام في تحقق هذا الأمر فإنّ العقول لا يمكن أن تدرك إلا ظواهر الأشياء دون حقائقها إلا أن تكون إفاضة من خالقها وبارئها، فما يقال في العلوم بالنسبة إلى الحقائق إنما يرجع إلى ما تدركه العقول لا بالنسبة إلى الواقع. وعليه، فالجعل الممتنع يختص بالواقع وهو قليل أو معدوم، والعلم عند الله تعالى فهو أعلم بالخلق والجعل وخصوصياتهما. وما تدركه العقول إنما هو لوازم إدراكية وهي ظواهر الأشياء دون حقائقها وواقعيتها فيكون تعلق الجعل ممكناً، وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات.

كما يظهر أنّ لوازم القطع ليست من لوازم الذات التي يمتنع تعلّق الجعل بها، بل هي إما لوازم إدراكية أو لوازم عقلائية كما ذهب إليه المحقق الإصفهاني واختاره السيد الوالد قدس سره أيضاً، فالجعل يتعلق على كلا التقديرين.

ص: 184


1- . المصدر السابق؛ ص17-18.

الأمر الثامن: ذهب المحقق الخراساني قدس سره (1) إلى أنّ الحكم له مراتب أربعة هي:

الإقتضاء؛ ويعبر عنه بالشأنية أيضاً، وهذه المرتبة عبارة عن المصالح والمفاسد المقتضية لتشريع الأحكام على طبقها.

والإنشاء: هو عبارة عن الجعل والتشريع.

والفعلية: هي عبارة عن وصوله إلى المكلف.

والتنجز: هو عبارة عن استجماع المكلف لجميع شروط التكليف وفقده لموانعه.

وقد علّق جمعٌ من الأصوليين على هذا التقسيم، وأورد عليه السيد الوالد قدس سره (2) بوجهين:الوجه الأول: إنه إن أراد من إطلاق الحكم عليها إطلاقاً حقيقياً فهو موهون، لأنّ الحكم لا يطلق حقيقة على مرتبة الإقتضاء التي هي من التكوينيات التي لا ربط لها بالأحكام التي هي من المجعولات الإعتبارية.

وإن أراد الأعم منه ومن المجازي فإنّ مبادئ الحكم لا تختص بها، فإنّ العلم بالصلاح والإرادة ونحوهما أيضاً يصحّ إطلاق الحكم عليها مجازاً، فلا وجه للتخصيص بالأربعة إلا أن يريد من الإقتضاء المعنى العام الذي يشمل جميع ذلك كله.

الوجه الثاني: إنّ ما ذكره مبني على كون المجعول في مورد الأمارات هو الحكم، وأما على مسلك من يقول بأن المجعول فيها هو الحجية فقط فلا وجه لهذا التقسيم في موردها, بل لا وجه له في مورد القطع أيضاً, إذ لا أثر للقطع بالحكم الإقتضائي والإنشائي كما صرح هو بذلك أيضاً.

ص: 185


1- . مطوي في كتبه قدس سره ؛ فلاحظ فوائد الأصول؛ 148.
2- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص18-19.

والصحيح الموافق للتحقيق أنّ الحكم مطلقاً خالقياً كان أم خلقياً إنما هو جعل القانون بداعي صيرورته فعلياً بالنسبة إلى واجدي الشرائط؛ سواء كانوا كذلك حين صدوره أو بعد ذلك، فالقانون فعلي دائماً من طرف الجاعل لصلاحيته لإتمام الحجة والبيان، وأنه كذلك بالنسبة إلى واجدي الشرائط مطلقاً.

وأما بالنسبة إلى غيرهم فلا حكم لهم أبداً لكي يُبحث على أنه إنشائي أو لا، فإنّ الإنشاء؛ إن كان بلا داعٍ فهو محال عليه تعالى وقبيح بالنسبة إلى غيره، وإن كان بداعٍ آخر غير الفعلية فلا وجه لصيرورته فعلياً حتى مع تحقق الشرائط.

وبالجملة؛ إنه ليس للحكم إلا مرتبة واحدة وهي الفعلية سواءً أُضيف إلى الحكم أو المحكوم، فلا وجه للتقسيم إلى مرتبة الإقتضاء والإنشاء والتنجّز والفعلية.

وعلى أي حال؛ لا يترتب على هذا التقسيم ثمرة عملية ولا علمية, كما أنه لا مشاحّة في الإصطلاح.

ص: 186

الجهة الثانية: التجري وما يتعلق به.

اشارة

الجهة الثانية(1): التجري وما يتعلق به.

والمراد به؛ إنّ كل تكليف تنجّز على المكلف سواء كان بمنجّز عقلي كما في موارد القطع والإحتمال المنجز، أم بمنجّز شرعي كما في الأمارات والأصول، فإنه لا يخلو عن حالتين:

الأولى: أن يكون مصادفاً للواقع وخالفه المكلف، فهو لا محالة عصيانٌ قبيحٌ يستحق فاعله العقاب بلا شبهة.

الثانية: أن لا يكون التكليف مصادفاً للواقع ولكن خالفه المكلف، وهذا هو التجري المبحوث عنه في المقام. وعليه، فلا يختص التجري بالمخالفة الإعتقادية في مورد القطع بل يجري في سائر الأمارات والأصول المجعولة شرعاً مع تبيّن الخلاف، وإن كان القطع من أظهر أفراده ومصاديقه.

ويقابل التجري الإنقيادُ؛ وهو العمل على طبق القطع أو الأمارة أو الأصل سواء طابق الواقع أم لا.

نعم، إن كان القطع أو الأمارة مأخوذاً على نحو الضد الخاص فلا يجري هذا البحث فيه لإنّ مخالفته إنما يكون معصية حقيقية، وزواله إنما يكون من تبدّل الموضوع لا من تبيّن الخلاف كما عرفت سابقاً.

وقد يتوهم أنّ البحث لا يشمل موارد الحكم الظاهري الشرعي بدعوى أنّ العصيان شبه حاصل على كل حال بلحاظ مخالفة نفس الحكم الظاهري الإلزامي.

ويشكل عليه بأنّ ذلك يرجع إلى حقيقة الحكم الظاهري؛ فإن قيل بأنّ الحكم الظاهري هو حكم طريقي لم ينشأ عن مصلحة في متعلقه وإنما يحفظ به الملاك النفسي في الحكم الواقعي سواء كان لسان جعله جعل الطريقية والكاشفية أم جعل الحكم المماثل أم جعل

ص: 187


1- . من جهات مباحث القطع.

المنجزية والحجية أم أيّ شئ كان؛ فإنّ هذا الإختلاف في الجعل لا يغيّر من حقيقة الحكم الظاهري كما سيأتي بيانه مفصلاً، فلا معصية في مخالفته كما هو واضح.

وإن قيل بأنّ الأحكام الظاهرية ليست تكليفية، بل تتميم للكشف والطريقية، وليس فيها عصيان مستقل عن الواقع، فهو صحيح أيضاً. ولكن سيأتي إنّ الحكم حتى الظاهري لو كان بلسان التكليف والحكم المماثل لا يكون له عصيان مستقل عن الحكم الواقعي في ملاك البحث الأصولي وملاك البحث الفقهي وملاك البحث الكلامي. وعلى هذا؛ يمكن أن تجري هذه المسألة بأنحاء ثلاثة فتكون بالنسبة إلى بعضها أصولية، وإلى الآخر كلامية، وبالنسبة إلى ثالث فقهية.

فإن كان عنوان البحث أنّ التجري هل يوجب استحقاق العقاب أو لا؛ فمن هذه الجهة يكون البحث كلامياً، وأما إذا كان البحث في أنّ الفعل المُتجرّى به محرم أو باقٍ على ما كان عليه فانه يكون فقيهاً، وأما كونه أصولياً فقد حُرِّر بوجهين:

أحدهما: إذا كان البحث في أنّ أدلة التكاليف الواقعية هل تشمل الموضوعات الإعتقادية ولو لم يكن مصادفاً للواقع كمقطوع الخمرية من مثل لا تشرب الخمر.والآخر: ان يكون الكلام في انه إذا تعلق القطع بشئ وانتزع عنوان المقطوعية منه هل يمكن ان تكون من العناوين التي يتأكد بها الحكم أو يتبدل أو لا تكون كذلك؟ وسيأتي بيان كل واحد من الوجهين في البحوث الآتية.

والكلام في التجري يقع في مقامات:

المقام الأول: في حكم التجري

وقع الكلام في حكم التجري في أنه قبيح يستحق العقاب أو لا قبح فيه، أو أنه يوجب القبح الفاعلي ويكشف عن سوء السريرة والإعتقاد.

ص: 188

وبعبارة أخرى: إنّ الفعل المتجرى به قبيح عقلاً, أو لا قبح فيه باعتبار أنّ حكم العقل بالقبح يختص بالمعصية ولا يشمل التجري أو بالعكس. ولهم في ذلك مسالك ترجع إلى اختلافهم في المناهج والمدارس التي اتبعوها في علم الأصول؛ من المسلك العقلي الصرف والمسلك العقلائي، ومن كان من الأصوليين مسلكه الرجوع إلى العرف والإعتبارات العقلائية كما هو مختار السيد الوالد قدس سره (1) في الفقه والأصول حيث أرجع الحكم إلى ما هو المرتكز عند العرف، فقال: إنَّ التجري والإنقياد من الموضوعات العرفية في جميع الأزمان والمذاهب والأديان فلا بُدَّ من الحكم بقبح الأول وكونه موجباً لاستحقاق العقاب, وحسن الثاني وكونه موجباً لاستحقاق الثواب من الرجوع إلى المرتكزات العقلائية, فإن كان هناك دليل شرعي من نص أو إجماع فهو إرشاد محض إلى تلك المرتكزات لا أن يكون دليلاً مستقلاً في مقابله. نعم؛ يمكن أن يكون فيه جهة المولوية أيضاً مضافاً إلى الإرشاد.

ولا ريب أنّ حكم العقل معلوم لا شبهة فيه وهو قبح المعصية واستحقاق فاعلها العقاب سواء كان منشأ هذا الحكم هو حق المولى على العبد أو غير ذلك. ولكن الكلام في أنّ هذا الحكم العقلي هل يختص بالمعصية الحقيقية أو أنه يشمل موارد التجري فلا بُدَّ من أن يقع البحث في هذا الأمر.

وتنقيح الموضوع يكون ببيان المحتملات فيه, وهي:

الإحتمال الأول: أن يكون موضوع ذلك هو التكاليف الواقعية، وعلى هذا الإحتمال فلا يثبت في موارد التجري إذ لا حق للمولى فيها حتى تكون مخالفته معصية يستحق فاعلها العقاب.

وأُشكل عليه بأنه يستلزم ثبوت العقاب على مخالفة الحكم الواقعي وإن لم يكن منجزاً, بل حتى لو كان قاطعاً بالعدم.

ص: 189


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص21.

ولا ريب في بطلانه، ولكن سيأتي إمكان تصحيح ذلك من دون أن يلزم منه هذا المحذور.الإحتمال الثاني: أن يكون موضوع هذا الحكم هو إحراز التكليف بمنجز شرعي أو عقلي, سواء كان هناك تكليف واقعي أم لا, فيكون الإحراز المذكور هو تمام الموضوع. وعلى هذا الإحتمال يكون في موارد التجري حق للمولى وتتحقق المعصية عند المخالفة لغرض إحراز التكليف بمنجز عقلي وهو القطع.

الإحتمال الثالث: أن يكون موضوعه مركباً من التكليف الواقعي ومن إحرازه بمنجز عقلي أو شرعي. ويعتبر هذا الإحتمال هو الوسط بين الإحتمالين السابقين. وعليه، لا تثبت المعصية في موارد التجري لعدم ثبوت حق المولى فيها لعدم تحقق موضوعه.

والكلام يقع في صحة كل واحد من تلك الإحتمالات، ولا بُدَّ من التمييز بين أمور ثلاثة:

أولها؛ في قبح التجري وعدمه. وثانيها؛ في استحقاقه للعقاب أو لا. وثالثها؛ في حرمته شرعاً كما عرفت. والكلام يقع في كل واحد من هذه الأمور الثلاثة على نقاط:

النقطة الأولى: في قبح التجري

والكلام تارةً؛ يقع في صيغة التجري وقبحه، وأخرى؛ في حكم الفعل المتجرى فيه. والكلام يقع في الناحيتين:

الناحية الأولى: في صيغة التجري

وقد اختلف الأصوليون في قبح التجري عقلاً ولهم فيه آراء ومسالك:

المسلك الأول: مسلك الشيخ قدس سره (1) الذي يذهب إلى إنكار القبح رأساً في موارد التجري، وإنما الموجود فيها مجرد سوء السريرة وخبثها وشقاوتها الذي انكشف بالعقل نظير الكلمات القبيحة التي تكشف عن معانيها القبيحة وتبعه المحقق الخراساني قدس سره (2).

ص: 190


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص8.
2- . كفاية الأصول؛ ج1 ص259.

وأورد عليه بعدة إيرادات:

1- إنّ صدور المعصية الحقيقية أعمّ من خبث السريرة والشقاوة؛ فربما يصدر عن السعيد الذنب والطغيان لغلبة الجهالة والشهوة كما هو واضح، بل إنّ الشيطان لم يترصد إلا السعداء وإن كانت الشقاوة والخبث الذاتي منشأ الطغيان وصدور المعاصي في كل واحد منهما على نحو الإقتضاء لا العلّية التامة، إذ ليس كل من يصدر منه الذنب والعصيان يكون شقياً وخبيثاً ذاتاً، كما إنه ليس كل من يصدر منه الطاعة يكون سعيداً وطيباً ذاتاً.وقد ورد في بعض الأخبار أنّ الله تعالى قد يحبّ العبد ويبغض عمله، وقد يبغض العبد ويحب عمله(1).

وهذا هو الموافق للأدلة العقلية والمستفاد من الأدلة النقلية.

2- إنّ الفعل في المقام يكشف كشفاً تصديقياً عن عدم احترام العبد لمولاه وهو بنفسه ظلمٌ وهتكٌ لحق المولى، فيكون بنفسه موضوع القبح في المقام. ومنه يظهر أنّ القياس على الألفاظ القبيحة باطل ومع الفارق. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله عند اختيار ما هو الصحيح في المقام.

ثم إنّ للمحقق الخراساني قدس سره (2) في المقام كلاماً يخالف ما هو الثابت عند الإمامية من استحقاق العقاب في التجري والثواب من تبعات البعد والقرب إلى الله تعالى ويرجعان

ص: 191


1- . ورد مثل هذا النص بلسانین؛ أحدهما؛ ما نقله أمير المؤمنين علیه السلام عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُ الْعَبْدَ ويُبْغِضُ عَمَلَهُ ويُحِبُّ الْعَمَلَ ويُبْغِضُ بَدَنَه). [نهج البلاغة؛ الخطبة154]. والآخر؛ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام : (أَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُ الْعَبْدَ ويُبْغِضُ عَمَلَهُ، ويُبْغِضُ الْعَبْدَ ويُحِبُّ عَمَلَه). [الأمالي (للطوسي)؛ ص411].
2- . كفاية الأصول؛ ص110.

بالأخره إلى الاستعداد الذاتي الذي يكون ذاتياً كذاتية الإنسانية للإنسان, وذاتي الشئ ضروري الثبوت له وهو غير معلّل كما هو المعروف.

ويرجع كلامه إلى ثبوت السعادة والشقاوة الذاتيتين بلا دخل للإختيار فيهما، ولكن هذا الكلام مردود عقلاً ونقلاً، بل لما هو الثابت عند الإمامية من نفي السعادة والشقاوة الذاتيتين. فقد أثبت الأئمة الهداة علیهم السلام نظريتهم في أفعال العباد من الأمر بين الأمرين، بنفي الجبر والتفويض بقانون: لا جبر ولا تفويض.

المسلك الثاني: مسلك المحقق النائيني قدس سره (1) الذي سلّم بقبح التجري ولكنه حاول التمييز بين القبح الفعلي والقبح الفاعلي، وادعى بأنّ التجري من الثاني والمعصية من الأول، ورتّب على ذلك عدم استحقاق العقاب لأنه من شؤون القبح الفعلي لا الفاعلي. وهذا هو الذي انتهى إليه الشيخ الأنصاري قدس سره .

وقد نسب هذا الكلام إليه في تقريراته مع اختلاف مقرري بحثه في النقل عنه.

وكيف كان فإنّ كلامه يحتمل فيه وجوهاً:

1- أن يكون مقصوده إنكار قبح التجري رأساً، ولكنه يكون قبيحاً بالعرض والمجاز. وهو الذي ذهب إليه الشيخ قدس سره .

ويرد عليه ما أوردناه بما تقدم.

2- أن يكون مقصوده أنّ هناك قسمين من القبح ثبوتاً؛ أحدهما؛ مركزه ذات الفعل مع قطع النظر عن إضافته إلى فاعله ويقابله الحسن كذلك. وهذا هو الحسن والقبح الفعليان. والآخر؛ مركزه الفعل بما هو مضاف إلى فاعله الذي صدر منه ويقابله الحسن كذلك؛ وهما الحسن والقبح الفاعليان, وهما قد يتحدان وربما يختلفان, كما في

ص: 192


1- . فوائد الأصول؛ ج2 ص16- 17، وأجود التقريرات؛ ج2 ص36.

کنس الطريق فإنه حسن في حدّ نفسه، ولكن صدوره من العالم الذي له منزلة إجتماعية قبيحٌ، بخلاف ضرب اليتيم فإنه قبيح من حيث الفعل والفاعل, وباب المعصية يختلف عن باب التجري في أنّ الفعل في نفسه قبيح في المعصية, وأما في التجري فصدوره من القاطع قبيح لا في نفسه.

وأورد عليه السيد الصدر قدس سره (1) بأنّ الحسن والقبيح لا يضافان إلى الأفعال في أنفسها بل بلحاظ صدورها من الفاعل, نعم، المصلحة والمفسدة موضوعهما الفعل في نفسه، وأما في الحسن والقبح فليس موضوعه إلا الفعل المضاف إلى فاعله, كما سيأتي من أنّ الحسن والقبح ما يمدح عليه أو يذم, وهو لا يتحقق إلا بعد إضافة الفعل إلى الفاعل لا الفعل في نفسه، فهذا التفصيل ليس بسديد.

وعلى فرض التنزل وقبول التقسيم المزبور فإنّ في التجري يكون الفعل مضافاً إلى الفاعل وهو قبيح، فلا بُدَّ أن يستحق العقاب عليه. ويكفي في القبح هذا المقدار من الإضافة، ومن أجله قلنا بأنّ كنس العالم للطريق يكون قبيحاً ومذموماً.

فلا وجه لاختصاص استحقاق العقاب بخصوص صدور القبيح في نفسه بقطع النظر عن فاعله.

ولكن يمكن مناقشة ما ذُكر بأنّ مسألة الحسن والقبح تختلف عن موضوع استحقاق العقاب على القبيح؛ فإنّ الأول يمكن تصويره كما ذكره المحقق النائيني، وأما مسألة العقاب فإنه لا يكون على المخالفة وصدور القبيح وانطباق عنوان تضييع حق المولى والخروج عن طاعته. ولا ريب أنّ الفعل لا بُدَّ له من فاعل فلا يمكن تصوير الفعل مع قطع النظر عن فاعله في مسألة العقاب كما ذكره المحقق النائيني، وإنما هو في مرحلة

ص: 193


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص39.

التصور والثبوت في الحسن والقبح لا في موارد استحقاق العقاب. وما يكون مورد الاستحقاق إنما هو في مرحلة الإثبات والوقوع والنسبة إلى الفاعل ليصدق عليه أنه خروج عن حق الطاعة والظلم على المولى. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

3- أن يكون مقصوده أنّ القبح الفاعلي مركزه نفس الإضافة والنسبة بين الفعل والفاعل لا الفعل ذاتاً ولا الفعل بما هو مضاف.

وفيه: ما ذكرناه آنفاً من أنّ التفكيك بين الإضافة والفعل المضاف أمر تحليلي وليس واقعياً. وهذه الأمور التحليلية سواء قلنا بأنها اعتبارية أو واقعية لا تكون مورد المسؤولية والتبعية والعقاب, وإلا لزم ثبوت تبعات عديدة في فعل واحد وهذا مِمّا لم يلتزم به أحد، والوجدان يقضي بعدم ثبوت أكثر من مسؤولية واحدة في الفعل.يضاف إلى ذلك أنه على فرض ثبوت التعدد بين الإضافة والفعل المضاف فلماذا لا يثبت في التجري ويستحق المتجري العقاب باعتبار أنه قد صدر منه قبيح لثبوت النسبة والإضافة وكونها اختيارية للفاعل أيضاً.

4- أن يكون مقصوده أنّ القبح الفعلي يتعلق بالفعل بعنوانه الأولي, والقبح الفاعلي يتعلق به بالعنوان الثانوي, ككونه إقدام على المعصية أو الظلم.

ويمكن الإشكال عليه بأنّ ذلك لا يوجب الفرق في استحقاق العقاب في التجري لأنه قد صدر عنه فعلاً بعنوان أنه قبيح وظلم للمولى.

وأما الإشكال عليه بأنّ تعلق القبح حتى في المعصية لا يكون بالعنوان الأولي بل الثانوي فهو غير سديد؛ فإنّ القبح إذا تعلق بالفعل عرفاً فإنه يوجب استحقاق العقاب سواء كان بالعنوان الأولي أو الثانوي. فهذا المسلك بجميع تفاصيله لا يمكن قبوله؛ فإنه من مجرد التحليل العلمي في مرحلة التصور، ولكنه بعيد عن الواقع لا سيما الفهم العرفي في القبح واستحقاق العقاب.

ص: 194

الحسن والقبح

تعرّض بعض الأصوليين لمسألة الحسن والقبح في المقام تبعاً لما ذكره المحقق النائيني مع أنّ البحث عنها خارج عن مسائل علم الأصول. وتحقيقاً للمسألة نقول:

إنّ مسألة الحسن والقبح من المسائل الخلافية التي دخلت في الإسلام وأخذت قسطاً وافراً من الجدال بين العلماء وترتبت عليها آثار مهمة علمية وعملية. وفيها اختلط كثير من الأمور حيث ذكروا فيها ما يرتبط بغيرها، وبهذا أدرجوا موضوع استحقاق العقاب في هذه المسألة وجعلوه من فروعها.

والكلام فيها تارةً؛ يقع في الحسن والقبح، وأخرى؛ في استحقاق العقاب، والنزاع المعروف في الحسن والقبح في جهتين:

الأولى: كون الحسن والقبح من الأحكام العقلية؛ الذي ذهب إليه المعتزلة، أو أنهما من الأحكام الشرعية كما هو رأي الأشاعرة. وهذا النزاع معروف في علم الكلام لا ربط له بمقامنا.

الثانية: النزاع بين عموم الفلاسفة من جهة وهم الذين يذهبون إلى أنهما قضايا واقعية وأنّ العقل هو المدرك لهما على حدّ القضايا النظرية الأخرى، فيكون العقل فيها دور المدرك الكاشف؛ نظير الإمكان والإمتناع والإستحالة التي هي من مدركات العقل النظري.

وبين المحققين من الحكماء من جهة أخرى حيث ذهبوا إلى أنها قضايا عقلائية إنما يدركها العقلاء، فعبّروا عنها بأنها من القضايا التي تطابقت آراء العقلاء عليها.

ولا بُدَّ من تنقيح الكلام في كل واحد من تلك البحوث وإيضاح ما يتعلق بها في ضمن أمور:الأمر الأول: إختلفوا في تحديد معنى الحسن والقبح الذين يستعملان صفتين من الصفات المشبهة أيضاً؛ فذكر بعضهم أنّ الحسن ما يستحق فاعله المدح والثواب، والقبح ما يستحق فاعله العقاب.

ص: 195

ومن أجل هذا التعريف أدخلوا مسألة استحقاق العقاب في هذا الموضوع.

ومنهم من فسّر الحسن والقبح بأنه ما ينبغي أن يقع، وما لا ينبغي.

ومن أجله جعلوا الحسن والقبح من الأمور الواقعية التكوينية من دون جعل جاعل، وحينئذٍ؛ فإن انطبقا على فعل الإنسان نفسه فيقال إنه ينبغي في نفسه أو لا ينبغي، وأما إذا انطبقا على فعل الآخرين ومواقفهم تجاه فاعل القبيح فيقال إنّ عقابه أو ذمّه مِمّا ينبغي أو لا ينبغي، فيكون استحقاق العقاب والثواب تطبيق آخر لنفس الأمر الواقعي المدرك على مواقف الآخرين.

ومنهم من فسّر الحسن والقبح كون الأمر الواقعي المدرك على مواقف الآخرين.

ومنهم من فسّرهما بكونهما صفة كمال وصفة نقصان. وهذان التعريفان لا ربط لهما بمحلّ الكلام وإن أمكن إرجاع بعضها إلى آخر.

الأمر الثاني: إنّ قاعدة الحسن والقبح من القواعد المسلّمة ولها تطبيقات عديدة، فقد جعل بعض العلماء من أهمها قبح الظلم وحسن العدل؛ لأنّ الظلم هو الأمر بالقبيح الذي لا ينبغي فعله، كما أنّ العدل هو الحسن الذي ينبغي فعله. كما جعل من تطبيقاتها الكذب والخيانة وهتك المولى وغير ذلك باعتبار أنّ كل ذلك مِمّا لا ينبغي فعله ويُذَمُّ فاعله.

ولكن ذهب بعض إلى عكس ذلك؛ حيث جعل قاعدة الحسن والقبح من فروع قبح الظلم وحسن العدل لأنّ الظلم عبارة عن سلب ذي الحق حقه، وهذا يعني افتراض ثبوت الحق في موضوع القضية، ولا بُدَّ أن لا يكون هذا الحق جعلياً إذ الكلام في مدركات العقل العملي التي هي أمور واقعية، وهذا الحق الواقعي لا معنى له إلا أن يرجع إلى ما ينبغي فعله وما لا ينبغي.

ص: 196

ولكن الحق أن يقال: إن أرجعنا الظلم إلى عنوان ما لا ينبغي فهو يرجع إلى قاعدة الحسن والقبح العقليين. إذ أنّ سلب ذي الحق حقه إنما هو السبب في كون الظلم مِمّا لا ينبغي فعله لا أن يكون له معنى آخر غير ما ذكروه، وكذا بقية الصغريات التي ذكرناها, كالكذب والخيانة وغيرها.

وأما إذا جعلنا الظلم والعدل من المفاهيم الواقعية التي يدركها العقل مستقلاً من دون إرجاعها إلى قضية الحسن والقبح فلا بُدَّ أن تكون هذه القضية من أفراد ذلك العنوان وإرجاع سائر الصغريات إلى هذا الحكم العقلي العام وهو قبح الظلم وحسن العدل، فكل حكم عقلي آخر لا بُدَّ من إرجاعه إليه، بل إنّ كل شئ لا بُدَّ أن نفتش فيه وكونه ظلماً أو عدلاً كما هو الحق. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.الأمر الثالث: إنّ الفعل القبيح قد يكون واضحاً لا لبس فيه مفهوماً وتطبيقاً, وربما يقع الخطأ في تشخيصه. والخطأ إما أن يحصل في توسعة دائرته أو ضيقها بحيث يشك في ثبوت القبح مع ثبوته واقعاً، والتوسعة على خلاف ذلك بأن لا يشك في ثبوت القبيح مع عدم ثبوته كذلك.

وعلى كِلا التقديرين؛ قد يكون الخطأ في الكبرى؛ بمعنى أنه لا يرى حُسناً وقبحاً في مخالفة شخص أصلاً، أو في حالة معينة كحالة عدم البيان مثلاً.

وقد يكون في الصغرى بأن يشتبه فيتصور كون شخصاً معيناً هو المنعم عليه وليس كذلك، أو بالعكس.

وعلى جميع تلك التقادير يقع السؤال في أنّ الخطأ في أحد هذه الأقسام الأربعة هل يوجب إرتفاع القبح عن الفعل وكون المكلف معذوراً عقلائياً أولاً؟.

ص: 197

ولا بُدَّ من بيان كلّ واحد منها:

القسم الأول والثاني: وهو الخطأ في الكبرى؛ فقد يقال بأنه لا يمكن افتراض أخذ العلم بالقبح كبرى في موضوع القبح لاستلزامه أخذ العلم بشئ في موضوعه، وهو مستحيل لأنه دور أو خلف، ولا يقاس ذلك بأخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول الذي قد يقال بإمكانه كما هو الصحيح لأنه معقول فيما إذا كان هناك أمران جعلٌ ومجعول كما في الإنشائيات، فيمكن أخذ العلم بالإنشاء في موضوع المنشأ وأما الأمور الواقعية النفس أمرية فليست إلا مطلباً واحداً، ولا يعقل أخذ العلم بها في ثبوتها بل لا بُدَّ من افتراض واقعيتها وثبوتها مع قطع النظر عن العلم بها.

فمثلاً؛ في جانب التوسعة إنّ من يخطئ فيما يعتقد مولوية الجار -مثلاً- وثبوت حق الجار، وهو مخطئ من جانب التضييق، فمن يقول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فإنّ المخالفة الصادرة منه قبيحة واقعاً وإن كان مخطأ بنحو التضييق وغير عالم به لعدم إمكان أخذ العلم بذلك في موضوع القبيح.

والصحيح؛ إنّ ذلك غير تام، فإنه كما يمكن التفكيك بين الإنشاء والمنشأ في الإنشائيات فإنه يصحّ التفكيك في الأمور الواقعية في مرحلة التصور والتحليل العقلي كما هو الحاصل في المعقول الأولي والمعقول الثانوي، فيمكن أخذ العلم بالموضوع في أحدهما دون الآخر.

فلو حصل خطأ في التطبيق توسعةً أو تضييقاً فيمكن أن نلتزم بعدم ثبوت القبح وعدم استحقاق العقاب إلا إذا كان هناك ما يدل على ثبوت أحد الأمرين فيصحّ أن يؤخذ علم الفاعل بقبح فعله، وإلا لم يكن قبيحاً ولم يستحق العقاب والذم. والظاهر أنّ بناء العقلاء على ذلك أيضاً فيكشف عن إمكان اخذ العلم بالقبح في موضوع نفسه ولا استحالة في ذلك. هذا كله في الخطأ في الكبرى توسعةً أو تضييقاً.

ص: 198

القسم الثالث والرابع: الخطأ في الصغرى؛ وهوكسابقه، فإنَّه إنْ كان يمكن أخذ العلم وعدم الخطأ في موضوع القبح سواء كان في التضييق؛ فمن تخيّل أنّ شخصاً ليس هو الذي أنعم عليه, أو تخيّل أن هذا ليس بحرام عند الله تعالى, فهو من الخطأ في الصغرى بنحو التضييق. أم في جانب التوسعة كأن تخيّل بأنّ شخصاً قد أنعم عليه, أو أن هذا حرام عند الله تعالى, وهو التجري لا يكون في كلتا الحالتين قبيحاً، فإنّ ارتكابه في الأول لا يكون قبيحاً ولا يستحق العقاب, وفي الثاني يكون قبيحاً ويستحق عليه العقاب، لأنّ العلم بالصغرى مأخوذ في موضوع الحكم بالقبح.

وبالجملة؛ إذا تخيّل العدم إرتفع القبح والعقاب، وإذا تخيلّ الثبوت ثبت القبح والعقاب ولو لم تكن الصغرى ثابتة في الواقع, والدليل على الأول هو الوجدان، وعلى الثاني هتك المولى وإنتهاك حقه حتى في فرض عدم المخالفة الواقعية.

ومن جميع ذلك يظهر أنّ هناك صوراً:

الأولى: ثبوت القبح بالعنوان الأولي الواقعي فقط، كما أنه في المخطئ في الكبرى بنحو التضييق، وهذا لا عقاب عليه.

الثانية: ثبوت القبح بالعنوان الثانوي فقط وهو المخطئ في الكبرى بنحو التوسعة إذا خالفها.

الثالثة: ثبوت كلا القبحين؛ الأولي الواقعي والثانوي, وذلك في الخطأ في الصغرى ولم يخطأ في الكبرى سواء كان قطعه بالحكم مصيباً وهو المعصية، أم مخطئاً وهو التجري، لأنّ القطع بالصغرى مأخوذ في الكبرى حسب الفرض، فإنه في حالة الإصابة قبح أولي ثابت ثبوتاً واقعاً، وقبح ثانوي حاصل بعنوان الإقدام على مخالفة المولى. وسيأتي مزيد بيان.

ص: 199

الأمر الرابع: المسالك المعروفة في الحسن والقبح هي:

المسلك الأول: مسلك الفلاسفة من أنّ الحسن والقبح عقليان؛ فهما من الأمور الواقعية التكوينية التي يدركها العقل ويكشف عنها كما عرفت. ويترتب عليه ثبوت القبح والعقاب على الأمر الواقعي من دون إمكان أخذ العلم بموضوعه كما عرفت آنفاً من أنه يستلزم الدور أو الخلف، وقد عرفت الجواب عنه.

المسلك الثاني: مسلك الحكماء الذين يعتبرون الحسن والقبح من القضايا المشهورة التي تدخل في صناعة الجدل لا القضايا البرهانية وقد إختلفوا في تفسيره بما يلي:التفسير الأول: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (1) من أنّ الحسن والقبح قضية إنشائية من قبل العقلاء، لا أن تكون خبرية فتكون على حدّ سائر المجعولات العقلائية؛ غاية الأمر قد تطابق العقلاء عليها باعتبار إدراكهم للمصالح والمفاسد من وراءها، وإليه يرجع من فسَّر الحسن والقبح بأنهما موقفان عقلائيان عمليان مدحاً أو قدحاً.

ويرد عليه:

1- إنّ هذا التفسير مخالف لكلمات أصحاب هذا المسلك من الحكماء؛ فإنّ صريح كلماتهم أنّ المشهورات قضايا مقرونة بالتصديق الجازم كالقضايا الضرورية مع الفرق بينهما، لأنّ التصديق الجازم من الضروريات حقٌ مضمون بخلاف المقام. وعلى كل الحالات فلا ريب أنّ فرض التصديق الجازم يستلزم فرض كون القضية خبرية تصديقية لا إنشائية جعلية.

2- إنّ دعوى كون الحسن والقبح مجعولات عقلائية؛ إما لأجل قيام البرهان على استحالة كونها قضايا خارجية، لأنها لو كانت كذلك لاحتاجت إلى محلّ يعرض

ص: 200


1- . نقله في بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص45؛ بعنوان: إنّ ذلك ما يتراءى من كلمات السيد الأستاذ.

عليه كما في البياض -مثلاً- فلا ريب في أنّ الفعل الحسن أو القبيح متصفان بذلك قبل وجودها. وإما لأجل أنه لا يدرك شيئاً آخر في الخارج وراء المصلحة والمفسدة في الأفعال، وإن وُجد ذمّ العقلاء ومدحهم فيكون تبعاً للمفسدة والمصلحة.

وأورد على كل واحد من الأمرين:

أمّا الأمر الأول؛ فلأنّ لوح الواقع أوسع من لوح الوجود كما عرفت مكرراً، فإنه ربما لا يمكن تحقق شئ في الوجود ولكنه في لوح الواقع ممكن وصحيح.

وأمّا الأمر الثاني؛ فقد أورد السيد الخوئي عليه بأنّ قضية الحسن والقبح لو لم تكن من القضايا المجعولة من قبل العقلاء فما شأن العاقل الأول قبل وجود العقلاء وتشريعاتهم، فإنه ينبغي أن يقال بعدم قبح الظلم وحسن العدل في حقه، وهو خلاف الوجدان فلا بُدَّ أن تكون هذه القضايا واقعية في حقه.

ولكن يمكن الإيراد عليه بأنّ العاقل الأول قد منحه الله تعالى ما يدركه العقلاء بعد ذلك لكونها قضايا واقعية يدركها العقل العملي.

والرد عليه بأنه من يعرف حال العاقل الأول من أنه كان يدرك الحسن والقبح فهو أشبه بكلام من لا يعرف صنع الله تعالى في الإنسان. فالثابت إنّ تلك القضايا هي من القضايا الواقعية التي بيّنها العقلاء بإدراكاتهم.فالحق؛ إنّ قضايا الحسن والقبح ليست هي القضايا التشريعية، وهي غير المصلحة والمفسدة، ولا ربط لأحداها بالأخرى؛ فإنّ الوجدان قاضٍ بأنّ الحسن والقبح قضية خاصة لا ربط لها بالمصلحة والمفسدة، فربما تكون هناك موارد من الحسن والقبح ولا تكون في الفعل مفسدة أو مصلحة.

ص: 201

ولعلّه لأجل ذلك أنّ العلماء لا يجرون أحكام التزاحم بين القبيح والمصلحة أو الحسن والمفسدة، فالظلم لا يكون حسناً مهما تترتب عليه مصلحة، كما أنّ العدل لا يكون قبيحاً مهما نتج منه الضرر والخسارة إذا كان عدلاً.

التفسير الثاني: إنّ الحسن والقبح قضايا مشهورة، بمعنى أنها تصديقات جازمة ولكن غير مضمونة الحقانية؛ أي ليس التصديق الجازم فيها أنّ شيئاً من أحد المناشئ في القضايا المضمونة التي حصروها في القضايا الست المعروفة في المنطق، فقضايا الحسن والقبح لم تكن من القضايا الأولية المضمونة فهي ليست من المدركات الأولية لا للعقل ولا للحس ولا للوهم، وإنما يحصل التصديق الجازم نتيجة التأديب والتربية الإجتماعية.

وقد صرّح ابن سينا(1) بأنّ الإنسان لو خلق فريداً وحيداً لما أدرك بعقله حسن العدل وقبح الظلم.

ولكن هذا المطلب يتوقف على معرفة الميزان في كون قضية أولية أو لا.

وقد قيل في توجيهه(2)

أحد أمرين:

أولهما؛ إنّ القضية الأولية هي التي تكون جهة القضية ضرورية؛ أي ضرورية المدرك لا الإدراك نفسه، فإنّ القضية إذا كان ثبوت الحكم فيها للموضوع بالضرورة كما في (الأربعة زوج) كانت قضية ضرورية أولية مضمونة الحقانية.

وهذا الميزان وإن كان ينطبق في قضايا العقل العملي كما في العدل حسن والظلم قبيح بالضرورة ولكن الإشكال على هذا الميزان بأنه لا ينطبق على أكثر ما اعتبروه من القضايا الست الأولية.

ص: 202


1- . منطق الشفاء؛ ج3 ص63 وما بعدها.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص47-48.

وثانيهما؛ إنّ الضرورة تلحظ بالنسبة إلى الإدراك نفسه لا المُدرك، فإن كان إدراك قضية ناشئاً من القوة العاقلة لا بأسباب عقلائية كالفرح والغضب والعاطفة كانت القضية ضرورية.

وأُشكل عليه: بأنّ ذلك لا ينطبق على قضايا الحسن والقبح؛ إما للقطع أو لاحتمال أن تكون هذه القضايا حاصلة من تلقين العقلاء وتأديبهم لنا, كما يُشعر به كلام ابن سينا المتقدم. وإما لأنه لو تفحصنا القضايا الست المعروفة لا نجد شيئاً منها يمكن أن ينطبق على المقام؛ فإنّ ما يحتمل أن تندرج فيه هو الأوليات والفطريات، لا التجريبيات والمتواترات والحسيات والمشاهدات.أما كون ذلك في الفطريات فإنما يكون الحكم فيها مستنبطاً من نفس القضية كما في قولك (الأربعة زوج) باعتبار انقسامها إلى متساويين، وهذا المقياس لا ينطبق على قضية العدل حسن والظلم قبيح، لعدم استبطان برهان فيها.

وكذا الأوليات فهي ما يكون مجردُ إدراك الطرفين والنسبة فيها كافياً للتصديق الجازم بها، مع أنّ هذا أيضاً لا ينطبق على كل واحد من تلك القضايا الأولية والفطرية بدليل الإختلاف فيهما من قبل الناس, مع أنّ الأوليات لا يقع فيها اختلاف لكون تصور أطرافها كافياً للتصديق.

ولكن يمكن الجواب عن ذلك:

أما الدعوى الأولى؛ فلأنه لو فرض القطع أو احتمال كون منشأ قضايا الحسن والقبح هو التلقين فيلزم منه زوال التصديق عندنا بمجرد الإلتفات إلى ذلك، مع أنه خلاف الوجدان وخلاف تصريحهم واعترافهم بكونها قضايا فيها تصديق جازم.

وأما الدعوى الثانية؛ فلأنها ممنوعة كبرى وصغرى: أما الكبرى فلأنّ القضايا الأولية التي ينبع إدراكها من القوة العاقلة لا يلزم فيها تطابق الناس على إدراكها إذ القوة العاقلة لا

ص: 203

تكون بدرجة واحدة عند الجميع، بل تكون من المراتب المشككة كما هو الحال في القوة الحسية فكما لا يشترط في حسية القضية إحساس الكل بها حتى عند من يكون بصره ضعيفاً كذلك الحال في القوة العاقلة.

يضاف إلى ذلك أنّ ارتباط قضايا الحسن والقبح كثيراً بمواقف الناس ومساسها بمصالحهم وعواطفهم يجعلها في معرض التشكيك فيها والتكذيب لها خلافاً للقضايا النظرية البحتة, فلا يكون الإختلاف فيها اختلافاً موضوعياً حقاً.

وأما الصغرى فهي أيضاً ممنوعة لأنه لا خلاف بين العقلاء في كبريات ومقتضيات الحسن والقبح، وإنما الخلاف والنقاش في صغرياتها أو في موارد التزاحم بين مقتضيات الحسن والقبح.

والحق؛ إنّ شيئاً مِمّا ذكر غير تام، فإنّ المفروض في القضايا البرهانية أو قضايا الحسن والقبح أنّ الملحوظ فيها نوع الإنسان مع قطع النظر عن العيوب والعوارض الطارئة من ضعف البصر ونحوه، فإنّ القوة العاقلة بالنسبة إلى نوع الناس لا اختلاف فيها وإن اختلفت بلحاظ أفراد الناس لتفاوتهم فيها.

وكذلك بالنسبة إلى قضايا الحسن والقبح فإنها مِمّا تتابعت عليها آراء نوع العقلاء, فلا خلاف في كبريات كل واحدة من القضايا، وإنما الإختلاف يأتي من ناحية التطبيق وتشخيص الصغرى فإنه يختلف باختلاف المدركات والإدراكات.

المسلك الثالث: كون قضايا الحسن والقبح من القضايا الواقعية باعتبار مناشئهما عقلائية لأنهما مِمّا تطابقت عليها آراء العقلاء، فهي قضايا تمسّ الحياة العملية فليست هي من القضايا النظرية الصرفة، لأنّ الحسن والقبح لم يحدث في الأشياءوالأعمال اعتباطاً إذا لم يكن لها منشأ خاص من نفع أو مصلحة أو ضرر أو مفسدة أو قبح، فلا بُدَّ أن يكون هناك سبب خاص لدرك العقلاء الحسنَ أو القبح.

ص: 204

ومن هنا جاء الإختلاف بين قضايا الحسن والقبح وبين غيرها من القضايا البرهانية؛ فإنّ الأولى لها واقع حقيقي أو اعتباري، وإدراك للعقلاء لذلك الواقع من كون الفعل أو الشئ حسناً أو قبيحاً.

وهذا الرأي هو الجامع بين المسلكين السابقين، ولا يشتمل على ما أورد على كل واحد منها. والبحث نفيس وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

رأي السيد الصدر قدس سره في قبح التجري

رأي السيد الصدر قدس سره في قبح التجري(1)

وهو الرجوع إلى حق المولى على العبد ومعرفة دائرة هذا الحق له من السعة ليشمل المعصية الحقيقية والتجري معاً، أو أنه يختص بالمعصية فلا يشمل التجري, وقد ذكر ثلاثة تصورات في المقام:

الأول: أن يكون موضوع هذا الحق هو التكاليف الواقعية، وعليه يكون حق الطاعة للمولى مختصاً بالتكاليف الواقعية فلا يشمل موارد التجري لعدم وجود التكليف الواقعي فيه.

وهذا الإحتمال ساقط، لأنّ لازمه تحقق المعصية في موارد مخالفة التكليف الواقعي حتى لو لم يكن منجزاً، بل حتى إذا كان قاطعاً بالعدم وهو باطل.

الثاني: أن يكون موضوعه التكليف المنجز بمنجز شرعي أو عقلي سواء كان هناك تكليف واقعي أو لا, فيكون الإحراز هو تمام الموضوع. وعلى هذا الإحتمال تدخل موارد التجري أيضاً لأنّ فيها تكليف محرز، فيثبت حق المولى وطاعة على العبد.

الثالث: أن يكون موضوعه مركباً من الواقع وإحرازه بمنجز عقلي أو شرعي. وهذا هو الوسط بين التصويرين السابقين, وعليه فلا يثبت حق المولى في موارد التجري لعدم تمام موضوعه.

هذا كله في مقام الثبوت.

ص: 205


1- . بحوث في علم الأصول (تقريرات حسن عبد الساتر)؛ ج8 ص70-71.

وأما في مقام الإثبات؛ فقد اختار الوجه الثاني لأنّ حق الطاعة حقٌ ذاتي لا أن يكون حقاً مجعولاً، وأنه ليس من قبيل الحقوق الأخرى التي لها واقع محفوظ بقطع النظر عن القطع والشك, بل يكون للإنكشاف والقطع دخل فيه, فبحسب الحقيقة هناك حق للمولى على العبد بأن يطيع مولاه ويستعد لأداء الوظيفة التي يأمر بها مولاه.

كما إنه ليس بملاك تحصيل مصلحة له أو عدم إضرار به كما في سائر حقوق الناس وأموالهم. ولا ريب أنّ مثل هذا الحق الإحترامي يكون تمامُ موضوعه نفسَالقطع بتكليف المولى أو مطلق تنجزه لا واقع التكليف، فلو تنجّز على العبد ومع ذلك خالف مولاه فإنه بذلك قد خرج عن أدب العبودية واحترام مولاه ولو لم يكن تكليف واقعاً فيصحّ التصور الثاني من التصورات الثلاثة المتقدمة. ثم ذكر قدس سره إنه بناءً على الإحتمالين الآخرين أيضاً وصحتهما؛ فإنه يمكن القول بقبح التجري؛ لأنّ الإقدام على الظلم وسلب الحق قبيح عقلاً وإن لم يكن ظلماً واقعاً لعدم ثبوت حق كذلك.

والحق أن يقال: أنّ قبح التجري عقلاً مِمّا لا إشكال فيه لأنّ الرجوع إلى العرف أولى من تلك الإحتمالات العقلية والتصورات الذهنية، فإنه إذا رجعنا إلى العرف في تنقيح موضوع التجري والإنقياد نرى أنهم يحكمون بقبح الأول وحسن الثاني، لأنّ في الأول هتك المولى والمبارزة معه والظلم عليه وكل ذلك قبيح عقلاً، فإن كان ما ذكروه يرجع إلى هذا المرتكز العرفي فهو صحيح، وإلا فهو تطويل بلا طائل تحته.

كما إنه لو ورد دليل من نص أو إجماع فإنه يكون إرشاداً محضاً إلى هذا المرتكز العرفي وإن كان يمكن استفادة جهة المولوية منهما مضافاً إلى الإرشاد كما سيأتي بيانه.

هذا كله فيما يتعلق بقبح التجري عقلاً.

ص: 206

الناحية الثانية: في حكم الفعل المُتجرى فيه.

ذهب الأصوليون إلى عدم قبحه وذكروا له وجوهاً عديدة، كما أنهم استدلوا بها على عدم قبح التجري نذكر المهم منها:

الوجه الأول: ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل(1) من أنه يستحيل اتصاف التجري بالقبح، لأنّ الحسن والقبح لا يُتصف بهما إلا إذا كان اختيارياً.

والمناط في اختيارية الفعل تعلق الإرادة به وكونه محور إرادته، وموارد التجري لا تكون كذلك لأنّ من شرب ماءً بتخيّل أنه خمر فإنه يُثبت ثلاثة عناوين؛ شرب الخمر، وشرب الماء، وشرب مقطوع الخمرية. والأول غير متحقق بحسب الفرض، والثاني ليس بقبيح في نفسه ولو صدر عن إرادة، والثالث ليس باختياري لأنّ المتجري قد تعلقت إرادته بشرب الخمر لا بشرب مقطوع الخمرية.

وأورد المحقق الإصفهاني قدس سره (2) عليه بإشكالين:الأول: إن لازمه لو شرب الخمر لا بما هو خمر بل بعنوان آخر كإرادة كونه شراباً بارداً مثلاً فلا يكون شربه للخمر إختيارياً لأنه لم يكن يقصده بل يقصد التبريد.

وأورد عليه بإنّ مثل هذا له إرادة نفسية للتبريد، ولكن ينقدح منها إرادة غيرية للمقدّمة الّتي هي شرب الخمر، وبذلك تكون المقدمة وهي شرب الخمر بنفسها مصبّاً للإرادة، فتكون اختيارية، غايته أنّها إرادة غيرية، وهذا يكفي في تحقق عنوان الإختيارية.

الثاني: لو تعلقت إرادته بالجامع بين الحرام وغيره كما لو توقف علاج مرضه على شرب المايع فطبقه على الخمر فحينئذٍ لا يكون صدور الحرام إختيارياً.

ص: 207


1- . درر الفوائد في شرح الفرائد؛ ص13.
2- . نهاية الدراية؛ ج2 ص10.

وأجاب عنه بأنّ تعلق الإرادة بالجامع مع تطبيقه على الخمر يستلزم إرادته له، وإلا يكون من الترجيح بلا مرجح.

والحق؛ أنّ شيئاً من النقيضين غير تام لأنّ إرادة الحرام تارةً؛ تكون بالإستقلال، وأخرى بالتبع والإستلزام وكلتاهما قبيح وحرام ولكنهما لا تجريان في التجري لأنّ شرب مقطوع الخمرية لا يلازم شرب الخمر بل هو مباين له.

وكيف كان؛ فإنه يرد على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره :

1- عدم تمامية ما ذكره في معنى إختيارية الأفعال؛ بمعنى أنّ كل فعل يكون إختيارياً إذا كان مصبَّ إرادة الفاعل وشوقَه المؤكد المستتبع لتحريك العضلات، وهذا المناط لم يتحقق في موارد التجري كما عرفت.

بمعنى أنّ هذا المبنى غير تام؛ فإنّ الإختيار ليس بمعنى تعلّق الإرادة والشوق، بل كون الفعل صادراً عن سلطة الفاعل بحيث إن شاء تركه.

وهذا المعنى يكفي فيه مجرد الإلتفات إلى العنوان وصدوره منه. فما ذكره المحقق الخراساني من مقالته بأنّ إرادة أحد المتلازمين لا تسري على ملازماته فهو غير صحيح لما عرفت من أنّ اختيارية الفعل لا تناط بتعلق الإرادة، بل المناط فيه هو سلطته على أحد الطرفين من الفعل أو الترك، وهو يشمل الملازمات، ولا ترد النقوض التي ذكرها المحقق الإصفهاني قدس سره أيضاً.

وأما إذا كان مراده قياس الإرادة التكوينية على الإرادة التشريعية فإنّ النقوض التي ذكرها المحقق الإصفهاني أيضاً غير تامة، لأنّ الإرادة قد تعلقت بالحرام بالإستلزام أيضاً ولكنه لا يجري في التجري لأنّ شرب مقطوع الخمرية لا يلازم شرب الخمر بل هو مباين له كما عرفت.

ص: 208

2- إنّ ما ذكره صاحب الكفاية من أنّ إرادة شئ لا يستلزم لإرادة لوازمه وملازماته في المقام لم يلتزم به في الإرادة التشريعية.فلم يتم كِلا المبنيين؛ لا مبناه في اختيارية الأفعال, ولا مبناه في عدم استلزام شئ لإرادة لوازمه وملازماته.

3- لو سلّمنا القبول لكلا المبنيين فإنه لا يتم في موارد التجري في الشبهة الحكمية. كما لو اعتقد حرمة شرب التتن فشربه فإنّ عنوان شرب معلوم الحرمة يكون أعم من شرب التتن عند العالم بحرمته, فتكون إرادة الأخص إرادة للأعم بالإستلزام.

كما أنه لم يتم في موارد التجري في الشبهة الموضوعية لتعلق الغرض بشرب معلوم الخمرية فيكون اختيارياً حينئذٍ.

4- إنه سيأتي في بحث قبح الفعل المتجرى فيه عرفاً وملازمته لقبح نفس التجري. وهذا الحكم العرفي كما يدل على اختيارية الفعل المتجرى فيه فإنه لا معنى لقبح الفعل عرفاً إذا لم يكن اختيارياً للفاعل.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره أيضاً وهو يتألف من مقدمتين:

الأولى: إنّ الإلتفات إلى العنوان شرط في اختياريته.

الثانية: إنّ عنوان مقطوع الخمرية لا يلتفت إليه غالباً في مقام العمل, لأنّ القطع إنما ينظر إليه آلياً لا استقلالياً, وعليه، فلم يصدر منه شرب مقطوع الخمرية بالإختيار والإرادة حتى يكون قبيحاً.

والمقدمة الأولى صحيحة حتى على مبناه في اختيارية الأفعال، والمقدمة الثانية صحيحة غالباً في ثبوت ذلك الحكم وتنجزه، لأنّ التنجز فرع الإلتفات إلى موضوعه, والمفروض أخذ القطع فيه وهو غير ملتفت إليه. ولكن هذا الإيراد غير تام لأنّ المحقق الخراساني لم

ص: 209

يدّعِ استحالة الإلتفات إلى القطع نفسه وإنما ادعى أنه في موارد القطع الطريقي الذي يكون غرض القاطع في المقطوع به لا إلى القطع نفسه. وأما إذا تعلق الغرض بنفس القطع فلا محذور في الإلتفات إليه كما في موارد القطع الموضوعي فإنّ غرض المكلف هو إحراز نفس القطع الموضوع للحكم.

وكيف كان؛ فإنّ الصحيح في الجواب ما ذكرناه آنفاً من أنّ الإلتفات الآلي الإجمالي إلى القطع كافٍ في الإختيار، لأنّ الإلتفات المطلوب هو المقابل للغفلة المطلقة الذي ينافي السلطة والإختيار لا خصوص الإلتفات التفصيلي.

وبعبارة أخرى؛ إنّ الفاعل الذي يُقدم على فعل ما يقصد ذلك الفعل بالخصوص فإنه يقصد ما يترتب عليه من اللوازم والآثار، فتكون جميعها دخيلة في غرضه.

الوجه الثالث: إنّ في موارد التجري في الشبهة الموضوعية لا يوجد فعل صادر من المكلف إختياراً أصلاً؛ فيكون حالُ من شرب الماء بتخيّل أنه خمر حالَ النائم الذي شرب الخمر، لأنّ ما قصده -وهو شرب الخمر- لم يقع منه خارجاً، وما وقع -وهو شرب الماء- لم يقصده ولم يرده حتى يكون فعلاً اختيارياً له.وقد أشكل قدس سره على نفسه بأنّ الجامع بين ما وقع وما قصد -وهو شرب مقطوع الخمرية- كان مقصوداً له فيكون قد صدر منه بالإختيار.

وأجيب عنه بأنّ الجامع له فردان؛ أحدهما في ضمن الخمر الواقعي, والآخر في ضمن الماء المتخيّل كونه خمراً. وإرادة القاصد للجامع إنما تكون إرادة ضمنية وهي إرادة الفرد الأول وهو الخمر الواقعي (وهو لم يقع)، وإنّ الذي وقع هو الفرد الثاني الذي لم يكن مقصوداً لا استقلالاً ولا ضمناً.

ص: 210

والحق؛ إنّ شيئاً من الإشكال والجواب لم يتم، لأنّ الوجدان قاضٍ بالفرق بين فعل المتجرى وفعل النائم؛ فإنّ في الأول التفات وتوجُّه إلى العنوان المتحقق في الخارج دون الثاني، ويكفي ذلك في صيرورة فعل الإنسان إختيارياً يتحمل الفاعل مسؤولية فعله عقلاً وشرعاً, وهذا الأمر لا يتم إلا بأن يكون الفرد المتحقق في الخارج قد صدر منه إختياراً بعد أن طبّق مراده عليه، فقد تحرك بإرادة منه نحو ذلك الفرد المتشخص خارجاً وإن لم يكن ذلك مطابقاً للواقع.

الوجه الرابع: إنه لو قلنا بقبح التجري يلزم منه قبح الفعل، ولو صادف مصلحة مهمة لازمة للمولى، كما إذا أنقذ ابن المولى بتصوير أنه عدوه، مع كون ذلك محبوباً لدى المولى من الواضحات. ولو التزمنا بقبح الفعل المتجرى به مع كونه محبوباً للمولى لزم منه اجتماع الضدين.

ويرد عليه: إنه خلط بين الحسن والقبح، وباب المصلحة والمفسدة والحب والبغض، فإنّ الفعل وإن كان فيه مصلحة أوجب، ولكنه ليس بحسن بل هو قبيح.

والحق؛ قبح الفعل المتجرى به لكونه من مظاهر الطغيان والظلم على المولى عرفاً، ويكفي ذلك في قبحه لدى العقلاء من دون أن يستلزم الحرمة الشرعية لأنّ التجري الخارجي قائم بالفعل والفاعل معاً فينطبق قبحه عليهما كذلك عرفاً، ولكن إثبات الحرمة إما أن يكون بالعقل أو بالعرف أو بالشرع؛ والأولان أجنبيان عن إثبات الحرمة كما هو معلوم لأنّ تشريع الحكم إنما يكون من إختصاص الشرع لا غيره فضلاً عن شهادتهما بعدم الحرمة في المقام. وأما الشرع فلا دليل عليه في البين، إلا ما يُدّعى في بعض صغريات التجري كالإجماع المدعى على أنه مع خوف ضيق الوقت يأثم في تأخير الصلاة وإن بان السعة. والإجماع على وجوب إتمام الصلاة على من خاف الضرر في سفره وإن بان الخلاف.

ص: 211

ولكن الإشكال في حجية مثل هذه الإجماعات مع أنّ الخوف في المثالين وأمثالهما له الموضوعية في ثبوت الحكم، فيكون خلافه من المعصية الحقيقية لا من التجري لما عرفت من أنه يثبت فيما إذا كان طريقياً محضاً لا ما إذا كان له الموضوعية وله دخل في الموضوع ولو في الجملة. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

النقطة الثانية: في استحقاق العقاب على التجري

إختلف الأصوليون في ذلك، والصحيح أنّ التجري يوجب استحقاق العقاب، وأنّ المتجري يستحق العقاب على الفعل المتجرى به. واستدلوا على ذلك بأمور:

الأمر الأول: ما ذكره السيد الشيرازي قدس سره (1) من أنّ المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو ارتكاب ما يعلم مخالفته للتكليف لا ما يكون مخالفاً واقعاً، فيكون المهم هو العلم بالتكليف لا إصابته الواقع, وإلا تعطلت الأحكام، حيث لا يمكن إحراز الإصابة في أغلب الموارد، وعليه يكون المتجري والعاصي على حدّ سواء من جهة تحقق المناط لاستحقاق العقوبة فيهما.

وأورد عليه المحقق النائيني قدس سره (2) بأنّ هناك فرقاً بينهما؛ فإنّ المتجري يكون علمه من قبيل الجهل المركب، فهو ليس بعالم حقيقة بخلاف العاصي.

وأشكل على البرهان والإيراد معاً؛ أما البرهان فلأنه لم يكن العلم بالتكليف مناط إستحقاق العقوبة بل المناط هو الإصابة للواقع الذي هو محرز عند القاطع والمتجري على حدٍ سواء, فإنّ القاطع يرى قطعه مطابقاً للواقع، فهو دائماً يحرز التكاليف ويرى نفسه مستحقاً للعقاب على تقدير المخالفة فلا يلزم تعطيل الأحكام.

ص: 212


1- . نقله في أجود التقريرات؛ ج2 ص28-29.
2- . المصدر السابق.

وأما الإيراد فلأنه مبني على كون المناط في استحقاق العقاب هو المصادفة، مع أن السيد لا يرى ذلك بل المناط منه حكم العقل بالقطع, وعبّر عنه بالعلم، وليس نظره إلى المصطلحات المنطقية حتى يورد عليه بأنّ هذا جهل مركب وليس بعلم.

والحق أن شيئاً مِمّا ذكر ليس بتامّ كما سيأتي.

الأمر الثاني(1): إنّ الميزان في استحقاق العقاب؛ إما القبح الفعلي أو الفاعلي، والأول غير تام وإلا استلزم منه استحقاق العقاب على شرب الخمر واقعاً باعتقاد أنه خلٌّ وهو واضح البطلان، فيتعين الثاني فيكون المتجري والعاصي على حدّ سواء.

وقد أورد عليه المحقق النائيني قدس سره أيضاً بأنّ هناك إحتمال ثالث؛ وهو أن يكون الميزان في الإستحقاق هو القبح الفاعلي الناشئ من قبل القبح الفعلي؛ أي يكون المناط هو مجموع القبحين، فتتحقق التفرقة بين العاصي والمتجري.

الأمر الثالث: ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره (2) من أنّ عدم استحقاق المتجري للعقوبة معناه أنّ سبب العقاب في العاصي هو إصابة قطعه للواقع، وإلا فلا فرق بينه وبين المتجري من سائر الجهات مع أنّ الإصابة وعدمها أمر غير إختياري فلا يمكن إناطة العقوبة بها.

وأجاب عنه بالرجوع إلى التفكيك بين المقتضى للإستحقاق والمانع عنه؛ فإنّ المقتضي يجب أن يكون أمراً إختيارياً، وأما المانع فلا يلزم فيه ذلك لوجود أمور مانعة غير إختيارية كالعجز مثلاً.

ص: 213


1- . وهو المقدمة الرابعة في برهان السيد الشيرازي.
2- . فرائد الأصول؛ ج1 ص11.

وعليه؛ فالمقتضى في المقام للإستحقاق هو التصدي للمعصية، وهذا اختياري للمتجري والعاصي معاً, وأما عدم المصادفة فهو المانع عن استحقاق العقوبة ولا ضير في كونه غير إختياري.

وبعبارة أخرى: إنّ استحقاق عقاب من صادف قطعه الواقع ليس مستنداً إلى ماهو خارج عن اختياره ولو فرض إختصاص العقاب به، كما إذا قيل باختصاص حق الطاعة للمولى بموارد أحكامه وتكاليفه الواقعية فقط، وذلك لأنّ لكل فعل أبواب متعددة لعدمه لا بُدَّ أن تنسدّ كلها حتى يتحقق الفعل خارجاً، ولا يلزم أن يكون سدّ كل تلك الأبواب للعدم والتي منها إصابة القطع للواقع إختيارياً للفاعل، بل قد تنسدّ جملة منها بأسباب خارجة عن الإختيار، ويصحّ التكليف إذا كان واحداً منها تحت اختيار المكلف.

الأمر الرابع(1): لو فرض أنّ شخصين قطع كل واحد منهما بخمرية ما في إناءه الخاص به، وشرباه فقد صادف أحدهما الواقع دون الآخر؛ فإما أن نقول باستحقاق كل منهما للعقاب، أو بعدم استحقاقهما له، أو استحقاق المصادف للواقع دون غيره. والأخير مستلزم لتعلق الإستحقاق بأمر غير إختياري، والثاني مخالف للضرورة، فيتعين الأول.

وأورد عليه بأنّ العرف والوجدان شاهدٌ على صحة الأخير لتطابقهما على أنّ من صادف قطعُه الواقع، شاربٌ للخمر باختياره، وأنّ غير المصادف لم يشرب الخمر بل لم يحصل منه إلا الجرأة والطغيان والهتك بالنسبة إلى المولى، وهذا كافٍ في استحقاق العقاب أيضاً، فكل واحد منهما المصادف وغير المصادف على حدّ سواء في استحقاق العقاب.

الأمر الخامس: إنّ المناط في استحقاق العقاب هو حصول الهتك والطغيان والظلم بالنسبة إلى المولى، ولا ريب في تحقق ذلك كله في موارد التجري لدى العقلاء كافة. وليس المناط

ص: 214


1- . ذكره السيد الوالد قدس سره في تهذيب الأصول؛ ج2 ص23.

في استحقاق العقاب العلم بالتكليف أو العلم بالإصابة وغير ذلك، فإنه لم يقم عليه دليل بل العرف والعقلاء على ما ذكرنا من المناط في استحقاق العقاب.

وقد أُشكل على ذلك بالوجوه التالية:

1- إنه مع احتمال أن يكون لتفويت الغرض على المولى الدخل في تحقق المخالفة واستحقاق العقاب فلا يمكن القول بانحصار السبب فيما ذكر من المناط.

ويمكن الجواب عنه بأنّ تفويت الغرض في الرتبة المتأخرة عن الهتك والظلم على المولى اللذين هما في الرتبة الأولى، فيقال إنه تجرأ على المولى وبارزه ففوت عليه الغرض.

2- إنّ ذلك يوجب القول بأنّ استحقاق العقاب قد تعلّق بأمر غير ملتفت إليه فلم يكن اختيارياً، وهو باطل لأنّ عنوان التجري غير ملتفت إليه كالناسي الذي لا يلتفت إلى النسيان, إذ لو التفت إليه لزال نسيانه بلا إشكال. وهكذا التجري فإنه لو التفت المتجري إليه لزال عنه هذا العنوان, فلم يكن عنوان التجري مِمّا يلتفت إليه فلم يكن اختيارياً فكيف تناط به المخالفة واستحقاق العقاب.

وفيه: إنّ مورد استحقاق العقاب ومناطه هو الهتك والطغيان والإقدام على المعصية. ولا ريب في كون كل واحد منها ملتفتاً إليها وكونها اختيارية كما لا يخفى.

3- إنه مع تحقق الإستحقاق في مورده؛ فإن بقي الواقع على ما كان عليه من عدم استحقاق العقاب عليه فهو من اجتماع الضدين، وإن انقلب عما كان عليه فلا موجب له لعدم تغيّر الفعل المتجرى به بالتجري كما سيأتي بيانه.

ويرد عليه: أن نختار بقاء الواقع على ما كان عليه، ولا يلزم منه اجتماع الضدين لاختلاف الجهتين فإنّ جهة الطغيان التي أوجبت الإستحقاق غير جهة واقع الفعل المتجرى به ولا ربط لأحداهما بالأخرى حتى يلزم منه اجتماع الضدين.

ص: 215

4- إنّ القول باستحقاق العقاب على المخالفة الإعتقادية يستلزم شمول الخطابات الأولية للمخالفة الواقعية والإعتقادية معاً، ولا جامع بينهما إلا الإرادة والإختيار والعلم؛ والأولان غير ملتفت إليهما حين الفعل فلم يكونا إختياريين, والأخير طريقي إلى المخالفة الواقعية وموضوعي في الإعتقادية. ولا ريب أنّ موضوعية العلم لشئ خلاف الأصل تحتاج إلى دليل بالخصوص وهو مفقود.

وأجيب عنه بأنّ الهتك والظلم للمولى والإقدام على المعصية من المستقلات العقلية لاستحقاق العقوبة, وهو الجامع للمخالفة الواقعية والإعتقادية معاً، وتشمل الأدلة الأولية لهما بهذا الجامع القريب.1- قد ورد في جملة من الأخبار العفو عن قصد المعصية وقد ذكر بعضها الشيخ(1) وأنّ إطلاقها يشمل المقام.

وفيه: إنها معارضة بما دلّ على المحاسبة والعقاب من النصوص الشرعية كقوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)(2)، وقد ذكر العلماء في الجمع بين الطائفتين وجوهاً عديدة:

فقيل: إنّ العفو محمول على التفضّل فلا تنافي في أصل الإستحقاق.

وقيل: كل ما دلّ على الإستحقاق على عدم الموافاة على الإيمان فمات كافراً, وما دلّ على العفو على الموت مع الإيمان فيشمله التفضل حينئذٍ وتشهد له بعض الأخبار.

وقيل: يحمل ما دلّ على العفو على ما إذا ارتدع بنفسه، وما دلّ على الثبوت على ما إذا منعه عن قصده مانع خارجي.

ص: 216


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص12.
2- . سورة البقرة؛ الآية 284.

وقيل: بحمل ما دلّ على الثبوت على بعض المراتب، وما دلّ على العدم على بعض مراتب أخرى لأنّ للعقوبة والاستحقاق مراتب متفاوتة جداً أدناها الحرمان من الإلتذاذ بالمناجاة مع الله تعالى وسلب التوفيق لصلاة الليل مثلاً، وأعلاها الخلود في النار، وبينهما مراتب متفاوتة شدةً وضعفاً.

وقيل: إنه يحمل على الأشخاص؛ فإنّ إرادة المعصية بالنسبة إلى الأولياء والعلماء العاملين تعدّ معصية لدى العرف، بخلاف إرادتها بالنسبة إلى غيرهم من الجهال ونحوهم من الغافلين.

والصحيح؛ إن ما دلّ على المحاسبة في الإعتقادات الباطلة، وما دل على العفو في الإرادة السيئة والمعصية مع عدم حصول الإقدام الفعلي عليها.

النقطة الثالثة: في حرمة التجري شرعاً

وقد استُدل عليها بأمور ثلاثة:

الأمر الأول: إطلاقات الأدلة الأولية التي تدل على حرمة التجري في الشبهات الموضوعية؛ أي الخطأ في التطبيق.

وتقريب الإستدلال بها يكون في ضمن توجيهات ثلاثة:

التوجيه الأول: إنّ الإرادة والإختيار لا يتعلقان بالواقع بل بما يراه الفاعل واقعاً, بل إنّ تعلق الإرادة بالواقع غير معقول لأنّ المحرك نحو الفعل هو نفس القطع والإحراز لا الواقع ولا إصابة القطع للواقع، ولهذا نجد الإرادة والتحرك في موارد التجري والجهل المركب مع عدم وجود الخمر الواقعي.

التوجيه الثاني: التكاليف إنما تكون من أجل التحريك والبعث، فمتعلقها بحسب الحقيقة إرادة الفعل واختياره.

ص: 217

التوجيه الثالث: إنه لو كان متعلق التكليف هو الإرادة والإختيار المتعلقين بالفعل بوجوده الواقعي؛ أي الإرادة المصادفة للواقع بما هي مصادفة للواقع لكان تكليفاً بالمحال فلا بُدَّ أن يكون متعلقه هو الإرادة والإختيار بما يراه الفاعل واقعاً، وهذا صادق في موارد التجري على الفعل المتجرى به فيكون حراماً.

وأجيب عن ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (1)، وهو ما يلي:

1- بالنقض بالواجبات؛ فمن صلّى مع القطع بدخول الوقت ثم بان خلافه فلا بُدَّ أن تكون صلاته مجزية لتحقق المأمور به بالأمر الواقعي الأولي؛ وهو اختيار ما قطع بكونه صلاة في الوقت.

وأورد عليه بأنّ الواجب إذا كان مضيقاً كما إذا وجبت الصلاة في كل الوقت، أو وجب إكرام كل عالم فتخيّل أنّ زيداً عالمٌ فأكرمه فتبين عدم كونه عالماً، فالذي يقول بحرمة التجري يلتزم بثبوت الوجوب فيه وحرمة الترك، وإذا كان الواجب موسعاً فيكون تعلُّق التكليف بالإرادة بالفرد الواقعي من الصلاة في الوقت مقدورٌ في حقه لا محالة، فلا يسقط التكليف عنه.

2- بالحلّ؛ بدعوى أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها عند العدلية، وهي في الأفعال بوجوداتها الواقعية كما هو مقتضى ظواهر أدلتها أيضاً.

ولكن هذا الجواب لا يفيد؛ لأنّ المستدل يعترف بأنّ ظاهر الخمر هو الخمر الواقعي ولكنه يقول بأنّ الخطاب يشمل التجري من باب ظهور كل تكليف في أنه بداعي التحريك والباعثية دون التكليف بإصابة القطع للواقع لأنه تكليف بغير المقدور فلا يصح تقييد التكليف بها.

ص: 218


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص27.

وتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد عند العدلية لا ينافي اشتراط تعليق التكليف بالمقدور والفعل الصادر عن اختيار.

الوجه الثاني: أنّ ذلك خلط بين المراد التشريعي والمراد التكويني من التكاليف؛ فإنّ القول بأنّ التكليف يحصل بداعي المحركية والباعثية فهو يعني أنّ المراد التكويني ومقصود الأمر من تكليفه أن تنقدح الإرادة والشوق في نفس المكلف نحو ما كُلِّف به، لا أنّ التكليف والإرادة التشريعية متعلق بالإرادة والإختيار. معأنه لو فرض كون التكليف متعلقاً بالإرادة والإختيار فإن أُخذ قيد إصابة الإرادة للواقع في متعلق التكليف بنحو قيد الواجب لزم محذور التكليف بغير المقدور، وإن أُخذ بنحو قيد الوجوب بأن يحصّل إصابة قطعه للواقع شرطاً في التكليف فلا محذور في البين. وهذا هو لازم اختصاص التكاليف بموضوعاتها الواقعية كما هو واضح.

والحق في الجواب أن يقال: إنّ الخطابات الأولية لا تشمل الواقع والمزعوم كلاهما؛ إذ لا جامع بينهما إلا الإرادة والإختيار والعلم؛ أما الأولان فلا يمكن أن يناط بهما التكليف لعدم الإلتفات إليهما، وأما الأخير فلأنه طريقي محض، فلو كان موضوعياً فلا بُدَّ من دليل خاص به وإلا فالأصل عدمه, فلا يمكن إثبات الحرمة في موارد التجري. وما قيل من أنّ التكليف إنما يكون لأجل التحريك والبعث نحو الفعل فهو غير تام مطلقاً سواء كان على نحو المراد التكويني أم التشريعي؛ إذ التكليف إنما يكون لأجل الوصول إلى الكمال اللائق بكل إنسان وهو يلازم التحريك والبعث.

الأمر الثاني: التمسك بقاعدة الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل.

وهي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع؛ فإنه بعد ما ثبت قبح الفعل المتجرى به عقلاً وأنّ الشرع يحكم بلزوم تركه فتثبت حرمة التجري شرعاً.

ص: 219

والكلام يقع في مقامين؛ أحدهما في تطبيق الصغرى على المقام، والآخر في نفس الكبرى.

المقام الأول: إنه قد منع في صحة تطبيق الكبرى على المقام بعد ما ثبت صحة الصغرى كما عرفت سابقاً.

والموانع عديدة نذكر المهم منها:

المانع الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنّ المحتملات في استكشاف خطاب شرعي لحرمة التجري؛ إما أن يكون من نفس الخطاب الأولي بحيث يكون خطاب (لا تشرب الخمر) من أول الأمر يشمل الخمر الواقعي والمزعوم (التجري) فتثبت الحرمة فيها بنفس ذلك الخطاب، أو يفرض أنه بخطاب آخر؛ وعلى الثاني، فإما أن يفترض أنّ الخطاب الثاني مخصوص بموارد التجري، أو يفرض شموله لموارد التجري والعصيان معاً. فالفروض ثلاثة وجميعها فاسدة؛

أما الاول؛ فلأنّ حرمة الفعل المتجرى به إنما تنشأ بحسب الفرض من قبح التجري الذي ينشأ من وصول حرمة شرب الخمر الواقعي فيكون متأخراً عنها, ولا يعقل أن يؤخذ المتأخر مع المتقدم في خطاب واحد.وأما الثاني؛ فلأنّ حرمة خصوص الفعل المتجرى به يستحيل وصولها إلى المكلف لأنّ المتجري لا يرى نفسه متجرياً بل عاصياً، فيكون جعله لغواً كما عرفت آنفاً.

وأما الثالث؛ فلأنّ تحرير الجامع بين التجري والمعصية وإن كان قابلاً للتنجز على المكلف إلا إنه يكون في نظر القاطع أخص مطلقاً من حرمة الخمر الواقعي؛ فإنّ النسبة بين حرمة الخمر الواقعي وحرمة مقطوع الخمرية واقعاً وإن كانت العموم من وجه إلا أنه بحسب نظر القاطع الذي يرى قطعه مصيباً للواقع دائماً تكون النسبة حينئذٍ هي العموم المطلق،

ص: 220


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص23.

فيلزم إجتماع المثلين بحسب نظره وهو محال. وإنما يعقل تعدد الحكم لو كان بينهما تباين أو عموم من وجه حتى يصح تعددهما بلحاظ موردَي الإفتراق.

ويرد على ما ذكره قدس سره من الفروض ما يلي:

أما الفرض الأول؛ فلأنّ الجعل وعالم المجعولات والأحكام الشرعية من الإعتبارات، ولا مانع من تأخر بعضها عن بعض وأخذ بعضها في موضوع البعض الآخر مع كونها جميعاً مجعولة بخطاب واحد.

وفي المقام يكون وصول الحرمة الفعلية للخمر الواقعي الذي يريد شربه مأخوذاً في موضوع الحرمة الفعلية للتجري، ولا محذور وإن كانا مجعولين بخطاب واحد.

وأما الفرض الثاني؛ فلأنه لا يشترط في وصول التكليف الوصول التفصيلي, بل يكفي فيه الوصول الإجمالي أو بالحجة ولا استحالة في ذلك، فإنّ التجري في المقام لا يختص بموارد العلم بالواقع بل يثبت في مطلق موارد تنجز الواقع ولو بغير العلم كما اعترف به المحقق النائيني نفسه, فإذا تنجز التحريم الواقعي بغير العلم وفرضنا حرمة الفعل المتجرى به فالمكلف يحصل له العلم الإجمالي بحرمة هذا الفعل على كل حال أما بعنوانه الأولي أو بعنوان التجري، فيكون مقطوع الحرمة.

وأما الفرض الثالث؛ فقد أجاب عنه السيد الخوئي قدس سره (1) تارةً؛ بأنه يمكن أن يفرض في مورد عدم وصول حرمة الخمر الواقعي للمكلف ووصول حرمة معلوم الخمرية إليه ويكفي ذلك لتعدد الحكم.

وأخرى؛ بأنه لا مانع من تعدد الحكم على نحو العموم المطلق، كما في مثل تعلق النذر بالصلاة الواجبة فلا يلزم اجتماع المثلين حينئذٍ.

ص: 221


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص25.

وأورد عليه السيد الصدر قدس سره (1) بما لا يرجع إلى محصل؛ مع أنَّه يكفي في رفع غائلة اجتماع المثلين التعدد ولو كان اعتبارياً. ولعل ما ذكره السيد الخوئي يكفيفي ذلك, مع أنّ أصل اجتماع المثلين غير مضرّ في المجعولات الإعتبارية، وإنما يستحيل في الأعراض والموجودات الخارجية كما هو ثابت في محله.

المانع الثاني: ما ذكره بعض الأصوليين من أنّ حرمة التجري التي استُكشفت من القبح لا يصحّ القول باختصاصها بالتجري فقط فإنه بلا موجب، إذ ليس المتجري بأسوء حالاً من العاصي، بل مثل هذا الحكم غير قابل للتنجز والوصول إلى المكلف، لأنّ المتجري يجد نفسه عاصياً دائماً، وإن فرض شموله للعاصي أيضاً لزم التسلسل إذ لكل خطاب عصيان وباعتبار ذلك العصيان يتحقق خطاب آخر له عصيان آخر وهكذا.

وأورد عليه:

1- إنه يمكن وصول الحرمة إلى المكلف ولو في موارد التنجز بغير العلم، واختصاص التحريم بالمتجري ليس بملاك أسوئيته ليقال بأنه بلا موجب، بل بملاك مزيد الإهتمام والحفظ المولوي لملاك القبح بجعل خطاب شرعي في مورده. وأما مورد العصيان فالخطاب الشرعي موجود فيه فلا موجب لجعل خطاب آخر منه.

2- إنّ استحالة التسلسل إنما تكون في الموجودات الخارجية لا الإعتبارية، فيمكن أن تكون مجعولات عديدة متسلسلة بعدد الإلتفات إلى العناوين الثانوية المترتبة والتي يعتبرها العقل قبيحة إذا توجه والتفت إليها.

والحق؛ إنّ ما ذكر لا يكون مانعاً من تطبيق الكبرى لو قلنا به, فإنه يمكن توجيه الخطاب للمتجري بملاك يختلف عن ملاك خطاب العاصي، ولا يستلزم التسلسل لأنّ الخطابات

ص: 222


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص60-61.

إنما تكون تابعة لملاك خاص بها وعلى فرض ثبوت التسلسل، ولكنه لا يضرّ بعد اختصاصه بالموجودات الخارجية، والإعتباراتُ بمعزل عنها.

المانع الثالث: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (1) من أنّ كبرى الملازمة بين ما حكم به العقل حكم به الشرع مخصوصة بما يدركه العقل في سلسلة علل الأحكام الشرعية كقبح الكذب وغصب مال الغير، لا في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية كحسن الإطاعة وقبح المعصية فإنه في هذا القسم لا يعقل جعل حكم شرعي، إذ لو كان حكم العقل بحسن الطاعة وقبح معصية الحكم الواقعي كافياً في المحركية وإتمام الحجة على العبد وزجره عن المعصية فلا حاجة إلى جعل الحكم الشرعي الثاني, وإن لم يكن كافياً فلا فائدة في جعل حكم آخر إذ هو مثل الحكم الأول ولا يزيد عليه شيئاً فيكون لغواً على كل تقدير، ومحل كلامنا وهو حرمة التجري من هذا القبيل.

وفيه: إنه غير تام صغرى وكبرى؛ فإنه سيأتي أنّ قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع إنما تثبت في كل مورد يهتم الشارع به لجهة من الجهات كحفظ الملاك بأكثر مِمّا يقتضيه الحسن والقبح العقليين أولاً لإتمام الحجة على المكلف أو لترتب الثواب والعقاب، إذ لا يكفي حكم العقل فيهما كما هو معلوم، أو للإهتمام بالموضوع المترتب عليه الحكم. ولا يمكن أن يحصل ذلك إلا بجعل الشارع إمكان استكشاف جعل شرعي في مورد الحكم العقلي من غير فرق بين أن يكون حكم العقل في سلسلة علل الأحكام أو في سلسلة معلولاتها. وفي مورد التجري يمكن للشارع جعل خطاب تحريمي له حفظاً لملاكات الأحكام الواقعية زيادة على الحفظ ولو في حق من تنجز عليه التكليف الواقعي بغير العلم، فلو علم المكلف بحرمة التجري عليه على كل حال فقد يكون مانعاً من

ص: 223


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص26.

الإقدام على ارتكاب المخالفة، فإنّ للإنقياد والإبتعاد عن خطابات المولى مراتب ودرجات؛ فربما يقدم على ارتكاب المخالفة في موارد الإحتمال أو الظن بما لا يُقدم عليه في موارد العلم بلزوم الطاعة وقبح المعصية, فما قيل بأنّ الحكم العقلي بالقبح ثابت منذ البداية؛ فإذا كان محركاً للعبد كفى وحصل المقصود بلا حاجة إلى توسيط حكم شرعي وجعله وإلا فلا فائدة في جعله وتوسيطه في البين لأنه وحده لا يكون محركاً من دون حكم العقل بقبح المعصية.

فإنه يرد عليه: ما عرفت آنفاً من أنّ الحكم المولوي للشارع له ملاكات متعددة ربما تختلف عن الملاك العقلي؛ فقد يكون لأجل اهتمام الشارع بحفظ الملاك بأكثر مِمّا يقتضيه الحسن والقبح العقليين، أو إتمام الحجة على المكلف، أو لبيان ترتب الثواب والعقاب، أو للإهتمام بالموضوع، ونحو ذلك مِمّا يكون ملاك للشرع في الحسن والقبح زائداً على الحسن والقبح الثابتين بالعنوان الأولي لذلك الفعل. ومن أجل هذا الملاك يحدث عنوان جديد وهو إطاعة المولى ومعصيته بحيث تكون مخالفته ظلماً له فيتأكد الملاك العقلي ويتعدد فيكون محركاً للعبد حينئذٍ.

وقد عرفت من المباحث السابقة أنّ المحركية التي تحدث في المكلف لم تكن منشأ الحكم العقلي ولا الحكم الشرعي وإنما تحدث من استشعار العبد بالعبودية والخروج عن عهدة الحق الثابت للمولى عليه، وإنما يستكشف ذلك من الحكم العقلي أو الحكم الشرعي.

والحق ما ذكره بعض الأعلام(1) من أنّ الشارع تارةً؛ يكون غرضه في مقام حفظ الفعل الحسن وترك الفعل القبيح بنفس تلك الحافظية والمحركية الذاتية الثابتة في الفعل من ناحية حسنه أو قبحه وإستحقاقه للمدح والثواب أو الذم والعقاب عليه.

ص: 224


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص58.

وأخرى؛ يكون غرضه في حصول مرتبة أشد وأرفع من ذلك بحيث يكون له اهتمام أكبر؛ فعلى الأول لا موجب لافتراض إعمال المولى المولوية وجعل حكم شرعي يشابه الحكم العقلي وإنما يرشد إلى حكم العقل ويؤكده. وعلى الثاني فلا محالة يتصدى من أجل مزية الحافظية والإهتمام إلى إعمال المولوية والأمر بذلك الفعل الحسن، أو النهي عن الفعل القبيح شرعاً.

وأما تشخيص هذه المزية من الإهتمام فقد يكون على أساس الإستظهار من دليل شرعي، أو على أساس المناسبات الذوقية والعقلائية التي لا يمكن التعويل عليها إلا إذا وصلت مرتبة الإطمئنان.

وما ذكره صحيح، إلا أنه لا يوجب الملازمة وبطلانها بالكلية, بل تثبت في موارد خاصة معدودة. والتجري المبحوث عنه في المقام ليس منها, فلا يمكن استفادة حكم شرعي وهو الحرمة في مورده، ومجرد القبح العقلي لا يثبتها بالتكليف كما عرفت سابقاً، فيكون جعل حرمة التجري لمزيد الإهتمام وتثبيت الإحتياط في نفسه وسدّ أبواب العدم بهذا الخطاب وبذلك تنتفي اللغوية، فما ذكره السيد الخوئي غير تام صغرى وكبرى. ومن جميع ذلك يتبين أنه يمكن تطبيق الكبرى على التجري وإثبات حرمته بقاعدة الملازمة إلا أنّ الكلام في بيان الكبرى.

المقام الثاني: في بيان أصل الكبرى؛ وهي أن كل ما حكم به الشرع حكم به العقل، واستُدل له بما يلي:

الدليل الأول: ما ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره (1) بأنّ الملازمة بين ما حكم به العقل وحكم الشرع بديهية واضحة باعتبار أنّ الشارع سيد العقلاء ورئيسهم فإذا حكم العقلاء بحكم بما هم عقلاء كان في طليعتهم سيدهم وعلى رأسهم.

ص: 225


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص344, وغيرها في أكثر من موضع.

ومن هنا يكون التعبير بالملازمة فيه مسامحة واضحة، بل الأصح التعبير بالتضمن لأنّ الشارع في ضمن العقلاء وبنائهم الذي هو مدرك هذه القضايا العملية.

وأشكل السيد الصدر قدس سره (1) عليه بأنّ الحسن والقبح أمران واقعيان ثابتان في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود, وليسا أمرين تشريعيين، وحكم العقلاء لا يراد به سوى إدراكهم لهذه القضايا النفس أمرية لا تشريعهم لهما.

ولو تنزلنا وقبلنا ما ذكره الحكماء فإنه لا موجب لدعوى الملازمة بين حكم العقلاء وحكم الشرع فضلاً عن التضمن، لأنّ حكمهم إنما يصدر عنهم باعتبار وقوعه في طريق المصالح التي يشخصونها لحفظ نظامهم، والشارع سبحانه خارج عن دائرة تلك المصالح، فأيُّ ملزم بأن يكون تابعاً لأحكامهم والنظام الذي يشخصونه.ويرد عليه:

1- إنّ الحسن والقبح وإن كانا أمرين واقعيين ثابتين في لوح الواقع ولكن لهما مساس في التشريع أيضاً كما تقدم بيانه، وحكم العقلاء تارةً؛ يكون مجرد إدراك لهما من دون تشريع حكم، وأخرى يكون مضافاً إلى المدرك منهم لها ويكون تشريعُ حكمٍ منهم في موردهما، والكلام إنما يكون في تمييز كل واحد منهما.

2- إنّ إنكار دعوى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع لأجل كون حكم العقلاء لأجل المصالح التي يشخصونها لحفظ نظامهم فهو مكابرة واضحة؛ إذ مفروض الكلام هو في أنّ حكم العقلاء إنما حصل منهم لأجل دركهم الحسن والقبح الواقعي في مورده لا مجرد وجود مصلحة خاصة بهم تكون بمعزل عن مصلحة الشارع فقد تكون مصلحة في حفظ نظام العقلاء، وحينئذٍ يكون الشارع ملزماً

ص: 226


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص58 وما بعدها.

لمتابعتهم لأنه رئيسهم وهو في ضمنهم كما عرفت. وقد ذكر بعضهم أنه يستحيل جعل حكم شرعي واستكشافه في مورد حكم العقل لأنّ حكم الشارع يكون بداعي التحريك بتوسيط حكم عقلي في النهاية.

الدليل الثاني: التمسك بالإجماع على حرمة التجري، وقد عرفت أنه لم يكن إجماع على حرمة التجري مطلقاً, بل قد ورد في موارد خاصة في من يتيقن بضيق الوقت وترك الصلاة وتبين سعته، والإجماع فيمن خاف الضرر في سفره ثم تبين الخلاف.

ولكن عرفت أنه ليس من الإجماع المعتبر، بل هو من الإجماع المنقول كما أنّ الحكم الثابت في المسألة الأولى وهو مجرد استحقاق العقاب لا الحرمة. وفي المسألة الثانية أنه ثابت لأجل وجود خوف الضرر كما في نظائره وهو خارج عن بحث التجري وتفصيل الكلام في مدارك المسألتين موكول إلى الفقه.

الدليل الثالث: التمسك بالأخبار على حرمة التجري

ذكر الشيخ الأعظم قدس سره (1) جملة من الأخبار واستفاد منها حرمة التجري؛ كالنبوي؛ وهو قوله صلی الله علیه و آله و سلم : (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفِهِمَا عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ فَالْقَاتِلُ والْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ؛ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَرَادَ قَتْلًا)(2). وهو ظاهر في أنّ التجري في الشبهة الموضوعية حرام إذا كان أصل الفعل محرماً كبروياً ولكن يقصده المكلف خارجاً.وأشكل عليه بعض الأصوليين(3) على تقدير تمامية سنده؛ إنه لا يدل على أكثر من حرمة قصد المعصية الواقعية، فلا ربط له بالحرام الخيالي وما يعتقده المكلف حراماً مع عدم كونه حراماً في الواقع.

ص: 227


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص12-13.
2- .وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 15 ص148.
3- . مصباح الأصول؛ ج2 ص29.

ويرد عليه: إنه إذا دلّ على حرمة قصد المعصية فلا فرق بين قصدها في مورد يكون الفعل مصادفاً للواقع لو صدر منه أولاً، فإنه لا فرق بينهما من هذه الجهة وهي قصد المعصية. ولكن الحق في الجواب ما ذكرناه سابقاً وهو:

1- إنها معارضة بما دلّ على المؤاخذة على مجرد القصد.

2- إنها تدل على حرمة نفس الرضا بالقتل أو بالمعصية فتكون النية هي معصية من دون ملاحظة وقوع الفعل الخارجي.

3- ذكر السيد الصدر قدس سره (1) إنها لا تدل على أكثر من استحقاق العقوبة على القصد وهو أعم من الحرمة، ولكن يمكن أن يقال بأنّ الأمر وإن كان كذلك إلا أنّ سياق الكلام يدل على الملازمة بين الإستحقاق والحرمة في المقام.

4- إمكان حملها على محامل ذكرنا جملة منها سابقاً، وقد ذكر بعض الأصوليين(2) في وجه الجمع بين الطائفتين من الأخبار بحمل الطائفة التي تدل على المؤاخذة على ما إذا قصد المعصية ولم يرتدع من قصده حتى حيل بينه وبين العمل لسبب خارجي.

والطائفة الثانية التي تدل على عدم المؤاخذة على ما إذا إرتدع عن قصده بنفسه, وذلك لانقلاب النسبة؛ لأنّ النبوي المتقدم يدل بمقتضى ذيله على العقاب فتخصص الطائفة الأولى بفرض عدم الإرتداع لا محالة.

ويورد عليه:

أولاً: إنّ انقلاب النسبة لم يثبت ولا يُجدي نفعاً لما سيأتي بيانه في بحث التعارض.

ثانياً: إنّ النبوي إن استفدنا منه حرمة الإلتقاء بالسيف فهو حرام مستقل، وهو غير إرادة

ص: 228


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص64.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص31-32.

القتل والأمر فيه واضح؛ فإنه أمرٌ مستقل أجنبي عن مورد الكلام وإن دلّ على أنّ إرادة القتل وقصده فلا وجه لحمله على ما إذا لم يرتدع، فإنّ قصد القتل وإرادته أعم من ذلك إلا أن يُدّعى أنه القدر المتيقن.

ولكن سيأتي إنّ مجرد وجود القدر المتيقن بين الطائفتين المتعارضين لا يكون وجهاً للجمع العرفي بتخصيص كل منها بالمتيقن من مضمونه.وقد ذكرنا أنّ من أوجُه الجمع بين الطائفتين حمل الطائفة الثانية على التفضّل والمنّة من الله تعالى على عباده. ويدلّ عليه ما ورد: (إن الله تفضّل على آدم على أن لا يكتب على ولده وذريته ما نووا ولم يفعلوا) (1) وغير ذلك.

والطائفة الأولى تدل على ثبوت أصل الإستحقاق للعقوبة.

ولكن ذكرنا أنّ الصحيح في وجه الجمع بحمل الطائفة الأولى على الإعتقاد الباطل، والطائفة الثانية على نية المعصية وارتكاب الحرام من دون صدور الفعل خارجاً.

تنبيهات

التنبيه الأول: تقدم إنه لا يختصّ التجري بفرض القطع بالحرمة؛ فيجري في كل مورد يتنجز التكليف عليه بمنجز عقلي أو شرعي مع عدم وجود مؤمّن عن التكليف الواقعي المحتمل، ولو جاء به فقد جاء مصادفةً للحرام الواقعي عليه بجميع حصصه وصوره

ص: 229


1- . هذه الروایة ذكرها السيد الصدر قدس سره في تقريراته ولکن لم يذكر سندها ولا مصدرها ولم نجد لها أي أثر في المجامع الحديثية، وعلى كل حال هذه الرواية لا تنفي استحقاق العقاب. ولا توجد آية أو رواية تفيد عدم الإستحقاق إلا رواية واحدة وهي مصحّحة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد علیهما السلام قال: (لو كانت النيّات من أهل الفسق يؤخذ بها أهلها إذاً لأُخذ كل من نوى الزناء بالزنا، وكل من نوى السرقة بالسرقة، وكل من نوى القتل بالقتل، ولكن الله عدل كريم ليس الجور من شأنه، ولكنه يثيب على نيات الخير أهلها وإضمارهم عليها، ولا يؤاخذ أهل الفسق حتّى يفعلوا). [وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص55].

حتى صورة رجاءه لعدم المصادفة مع الحرام الواقعي، فيكون إقدامه تجرياً وخروجاً عن زي العبودية والطاعة لمولاه, ومجرد رغبته ورجاءه عدم مصادفة الحرام الواقعي لا يرفع موضوع حق المولى، وهذا واضح.

نعم قد وقع الكلام في من حصل على مؤمّن على الإرتكاب ولكنه أقدم على المشتبه برجاء مصادفة الحرام؛ كمن شرب مستصحب الحليّة برجاء أن يكون هو الحرام الواقعي. وذكر المحقق النائيني قدس سره (1) إنّ هذا تجرٍّ أيضاً ويترتب عليه أحكامه.

وكلامه على إطلاقه غير تام؛ لأنّ ذلك إما أن يكون باعتبار نفس الفعل الذي أقدم عليه تجريّاً وقبيحاً فهو غير تام، لأنّ المفروض أنّ له مؤمّناً شرعياً يستند إليه.

وإما أن يكون من جهة حالته النفسانية وهو شوقه إلى الحرام الواقعي أو عدم مبالاته بأحكام الشرع المبين وملاكاته فيكون تجريّاً من هذه الجهة، وهو صحيح لأنّ الملاك في قبح التجري متوفر فيه وهو الهتك للمولى والمبارزة معه وظلمه وعدم مراعاة حقه, فإنّ جميع ذلك يستدعي الإنقياد والطاعة، ولكن ذلك لا ربط له بشرب المايع برجاء مصادفته للخمر الواقعي، بل يرتبط بالفعل النفسانيوالإستعداد والإهتمام. فإذا انطبق عليه عرفاً أنه متجرٍّ في ذلك فيترتب عليه أحكام التجري وإلا فلا.

التنبيه الثاني: إنّ التجري -كما عرفت- طغيانٌ وظلم على المولى، وقبحهما من المسلّمات لدى العقلاء ولا يزول ذلك بعروض عنوان حسنٍ أرجح منه مع كونه ملتَفتاً إليه بالعمد والإختيار، ولكن ذلك لا يتم بناء على ما ذهب إليه صاحب الفصول قدس سره (2) من أنّ

ص: 230


1- . هذا ما حُكي عن المحقق النائيني في تقریرات السید الصدر وغیره، ولم نجده صريحاً في الموضع المقرر وإنما جاء في أكثر من مكان في فوائد الأصول؛ ج4 ص65 وص104.
2- . الفصول الغروية؛ ص316، ص431.

الحسن والقبح يختلفان بالوجوه والإعتبارات. وعليه؛ إذا طرأ على عنوان التجري عنوانٌ حَسَنٌ يقع الكسر والإنكسار بين قبح التجري وبين المصالح الواقعية للمولى التي توجب الحسن فيقدّم الأقوى والغالب منها، فربما يرتفع قبح التجري إذا صادف واجباً واقعاً فيه مصلحةٌ كبيرة أو حسنٌ أرجح منه، كما إذا إشتبه عليه مؤمنٌ ورع بكافر واجبِ القتل وقطع بأنه الكافر ومع ذلك تجرّى ولم يقتله فلا يستحق الذم مع التجري لتدارك قبح تجرّيه بحسن حفظ النفس المحترمة. كما أنه ربما يشتد قبحه فيما إذا صادف مكروهاً واقعياً، وربما يتعدد قبحه إذا صادف الحرام الواقعي.

وأورد عليه المحقق العراقي قدس سره (1) بأنّ قبح التجري مرتبته متأخرة عن مرتبة الحكم الواقعي لأنّ مرتبته مرتبة العصيان المتأخر عن الحكم فلا يقع بينهما المنافاة. وهذا الجواب يرجع إلى ما ذكروه في بحث كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري. وسيأتي في بحث الحكم الظاهري الكلام في المبنى والبناء.

وأجيب عنه أيضاً بأنّ الحسن والقبح ليسا مجعولين من قبل العقلاء بملاك حفظ المصلحة ودفع المفسدة, بل هما بابان عقليان مستقلان عن المصلحة والمفسدة؛ فربَّ ما فيه مصلحة يكون إقدام المكلف عليه قبيحاً، وربَّ ما فيه المفسدة يكون الإقدام عليه حسناً. فالبابان مختلفان موضوعاً ومحمولاً؛ فإنّ المصلحة والمفسدة أمران واقعيان وجوديان بخلاف الحسن والقبح فإنهما أمران ذاتيان حقيقيان في لوح الواقع. وقد تقدم بيان ذلك.

كما أنّ المصلحة والمفسدة لا يشترط في تحققهما وموضوعهما العلمُ أو الإلتفات، بخلاف الحسن والقبح فإنهما متقومان بذلك, فلا يقع الخلط بينهما.

ص: 231


1- . نهایة الأفکار؛ ج2 ص375.

نعم؛ قد يكون إحراز المصلحة في مورد رافعاً لموضوع القبح كما في ضرب اليتيم لمصلحة التأديب، ومن ذلك يظهر بطلان ما ذكره صاحب الفصول من جعل المصلحة والقبح كأمرين واقعيين يقع بينهما الكسر والإنكسار مع قطع النظر عن إحراز المكلف للمصلحة.وأجيب عنه أيضاً بأنّ الطغيان صدر عنه عن عمد واختيار، بخلاف الحسن والمصلحة فإنه لم يكن ملتَفتاً إليه أصلاً فلا يوجب الحسنُ واستحقاق المدح رفعَ القبح الذي صدر منه بالعمد والإختيار, فلا فرق في ذلك بين أن يكون قبح التجري ذاتياً أو بالوجوه والإعتبارات؛ فإنّ الترجيح مطلقاً لا بُدَّ أن يكون بما يصدر عن العمد والإختيار, نعم؛ ملاك الحسن موجود فيه ولكنه غير ملتفت إليه مع وجود الإلتفات الفعلي إلى القبح وملاكه، وهو متحقق في التجري.

التنبيه الثالث: ذكر صاحب الفصول(1) أيضاً بناءً على ما ذهب إليه من اختلاف الحسن والقبح بالوجوه والإعتبار؛ أنّ التجري إذا صادف الحرام الواقعي فإنّ قبحه يتعدد، وكذا التداخل في العقاب كما إذا صادف مكروهاً واقعياً يشتد قبحه، وعلى فرض قبول ذلك يمكن القول بالصحة في الثاني، وأما الأول فمخدوش لوجهين:

أولاً: عدم تعقّل مصادفة التجري المصطلح عليه في علم الأصول للمعصية الواقعية والحرام الواقعي لتحقق التباين بين التجري المبحوث عنه في المقام والمعصية الحقيقية لاعتبار المصادفة في الأخيرة وعدم المصادفة في الأول.

ثانياً: إنه على فرض التعقل بأن يكون مراده قدس سره هو إتيان الحرام لأجل مبغوضية الفعل لدى المولى لا لغلبة الشهوة ونحوها من العامل النفساني -كالشوق إلى إتيان الحرام- فلا وجه للتداخل أيضاً لأنه خلاف الأصل كما تقدم بيانه في بحث مفهوم الشرط, ولكن

ص: 232


1- . الفصول الغروية؛ ص431-432.

يمكن أن يُوجّه كلامه قدس سره بأحد وجهين؛ إما أن يكون المراد من التداخل هو اشتداد العقاب لا التداخل الإصلاحي، أو يقال بأنه يأتي بالفعل بقصد شرب جنس الحرام واعتقد أنه خمر فبانَ كونه مايعاً نجساً. ويمكن أن يقال بتحقق القبح والعقاب أو الحرام من جهتي الحرام والتجري.

التنبيه الرابع: التجري له مراتب متعددة؛

فتارةً؛ يكون في مجرد القصد فقط بأن يكون قصده هو ارتكاب الحرام وشوقه إليه من دون صدور فعل منه في الخارج.

وأخرى يكون فيه مع ارتكاب بعض المقدمات.

وثالثة مع الإتيان بما يعتقد كونه حراماً.

ورابعة تحققه بمجرد عدم المبالاة في الدين.

وخامسة إرتكاب محتمل الحرمة برجاء إصابة الحرام.

وسادسة إرتكاب محتمل الحرمة برجاء عدم إصابة الحرام.

وفي الأخيرتين؛ إما أن يكون مع المؤمّن عن التكليف الواقعي المحتمل، وإما أن لا يكون مؤمّن كذلك كما عرفت سابقاً، والجامع لجميع تلك الأقسام هو مفهومالتجري في الجملة مع الإختلاف في الشدة والضعف. والمتيقن من استحقاق العقاب وقبح الفعل هو القسم الثالث والقسم الخامس مع المؤمّن عن التكليف لوجود التكليف المنجز. وقد تقدم ما يتعلق بباقي الأقسام في مطاوي بحوثنا السابقة.

التنبيه الخامس: ذكر بعض الأصوليين ثمرة القول بقبح التجري فيما إذا كان العمل المأتي به عبادة وقد تنجز على المكلف حرمته؛ كصلاة الجمعة بالحرمة الذاتية مثلاً. ومع ذلك يأتي بها برجاء صحتها وعدم حرمتها ثم انكشف عدم حرمتها، أو اعتقد غصبية المكان

ص: 233

ومع ذلك صلى فيه ثم بانَ الخلاف, فإنه بناءً على القبح العقلي لا تصحّ الصلاة لعدم صلاحية القبيح للتقرب به وإن لم يكن محرماً شرعاً.

وأما إذا لم نقل بالقبح العقلي فتصحّ الصلاة ولا شئ عليه وتكون مجزية حينئذٍ.

وأشكل عليه بأنّ الفعل العبادي يقع باطلاً على كل تقدير؛ لأن المقصود من التقرب أن يفعله بداعي المولى ومن أجله، ومع فرض تنجّز الحرمة عليه كيف يتأتى للمكلف هذا الداعي، فهذه الثمرة غير تامة. ولكن يمكن أن نقول بأنّ القبح العقلي العرفي إذا كان ملازماً للقبح الشرعي وأُحرز ذلك أوجب استحقاق العقاب عليه فيتم ما ذكروه من الثمرة.

وأما إذا لم يحرز ذلك فلا وجه للبطلان أصلاً، وقد عرفت أنه لا طريق لنا لإثبات هذه الملازمة من عقل أو نقل على نحو الكلية.

التنبيه السادس: عرفت أن التجري والإنقياد مفهومان متقابلان؛ فما يجري في الأول من الأحكام والأقسام يجري في الإنقياد ولكن مع استحقاق الثواب وحسن الفعل المستفاد من الأدلة الأربعة.

ص: 234

الجهة الثالثة: في أقسام القطع

اشارة

الجهة الثالثة(1): في أقسام القطع

ذكر جمعٌ من الأصوليين؛ منهم الشيخ الأنصاري(2) والمحقق الخراساني(3) -وإن كان الإختلاف بين العلمين في بعض الأقسام كما سيأتي بيانه- وغيرهما أقساماً للقطع:القسم الأول: القطع الطريقي المحض من دون أن يكون له مدخلية في الموضوع أصلاً وهو الشايع والغالب في العقليات والشرعيات والعرفيات، بلا فرق في هذا القسم بين أن يكون القطع بصغرى الحكم كخمرية المايع الخاص، أو بكبراه كتحريم كل خمر.

القسم الثاني: القطع الموضوعي، وهو القطع الذي له دخل في ترتب الحكم على الموضوع بنحو تمام الموضوع على نحو الكشف والطريق إلى متعلقه.

القسم الثالث: القطع الموضوعي المأخوذ كذلك على نحو الصفة القائمة بالنفس بإلغاء جهة كشفه.

القسم الرابع: القطع الموضوعي المأخوذ بنحو جزء الموضوع على نحو الكشف والطريق إلى الواقع المتعلق.

القسم الخامس: القطع الموضوعي كذلك على نحو الصفتية.

والمراد بتمام الموضوع؛ أي ما كان القطع موضوعاً في الحكم، كما إذا قال المولى (إذا قطعت بحكم فتصدق)، فيكون القطع هو المناط في الحكم لا أن يكون الموضوع مركباً منه ومن متعلقه وإن كان يلزم المتعلق, لأنّ القطع من الصفات الحقيقية وأنّ الإضافة لا تحقُّق لها بدون المتعلق، فيكون زواله من تبدل الموضوع لا من تبين الخلاف، كما أنّ المراد بجزء

ص: 235


1- . من جهات مباحث القطع.
2- . فرائد الأصول؛ ج1 ص7.
3- . کفایة الأصول؛ ص263.

الموضوع أنّ الموضوع مركب من القطع ومن متعلقه؛ فكلٌّ منهما له الدخل في تحقق الموضوع.

واقتصر الشيخ الأنصاري على تقسيم القطع إلى الطريقي والصفتي، وأضاف المحقق الخراساني إليهما تقسيم القطع الموضوعي إلى تمام الموضوع وجزء الموضوع.

وقد أُشكل على كلا التقسيمين:

أما بالنسبة إلى تقسيم الشيخ قدس سره فقد قيل إنّ القطع الموضوعي دائماً يكون بما هو كاشف ولا يمكن أخذه بما هو صفة بقطع النظر عن حيثية كشفه؛ لأنّ الكاشفية ذاتية للقطع بل هي نفسه، وليس شيئاً زائداً على الكشف ليعقل أخذه بما هو صفة, فليس القطع الموضوع مأخوذاً إلا بنحو الكشف, غاية الأمر أنه تارةً؛ يكون بنحو تمام الموضوع، وأخرى بنحو جزء الموضوع، والواقع والمتعلق جزؤه الآخر.

والمحقق الخراساني قدس سره في عبارته الوجيزة(1) التي تحتمل وجهين، حاول الإجابة عن هذا الإشكال بوجهين:الوجه الأول: إنّ العلم كما اشتهر بين الحكماء نور في نفسه ونور لغيره، فله حيثيتان نورية؛ فقد تلحظ نوريته لنفسه فيكون صفة في النفس، وقد تلحظ نوريته لغيره فيكون بنحو الكاشفية.

الوجه الثاني: إنّ العلم من الصفات الحقيقية المتأصلة وليست اعتبارية ذات الإضافة؛ أي ليست كالأعراض التي تحتاج إلى موضوع فقط، بل تحتاج إلى ما تضاف إليه وتتعلق به

ص: 236


1- . وهي قوله: (وذلك لأنّ القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها. كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه وحاكٍ عنه).[كفاية الأصول؛ ص263].

أيضاً، فإن أُخذ العلم موضوعاً للحكم بقطع النظر عن إضافته إلى متعلقه كان صفتياً، وإن أُخذ بما هو مضاف إلى متعلقه كان على نحو الكاشفية.

وقد أورد على كلا الوجهين:

أما الأول؛ فإنّ المقصود من المقولة المعروفة (العلم نور في نفسه) اي إنّ كل شئ يوجد ويظهر في النفس بالعلم، وأما العلم فظهوره بنفسه. وحينئذٍ فإن كان المراد من العلم بنحو الصفتية أخذه بما هو حالة حاضرة في النفس ومع قطع النظر عن نوريته فهو يكون كغيره من حالات النفس الطارئة عليها كالحب والبغض، فيكون الموضوع ما يحضر في النفس من المجردات وهو خلاف المفروض. وإن كان المراد خصوصيته النورية فهي عين الكاشفية.

ويمكن ردّه بأنّ الفرق بين العلم وسائر الحالات الطارئة على النفس في أنه ليس فيها صفة النورية بخلاف العلم، ولأجله كان نوراً في النفس وظاهراً في نفسه ونوراً لغيره، حيث يظهر به. وهذا مِمّا لا يمكن إنكاره.

وأما الثاني؛ فإن كان المراد إضافة العلم إلى المعلوم بالذات فإضافته إليه تكون إضافة إشراقية(1) بحسب مصطلح الحكماء لا مقولية؛ أي لا تعدد بينهما ولا تغاير إلا بالإعتبار والتحليل، فهي عين العلم وليس شيئاً آخر زائداً عليه.

وإن كان المراد إضافته إلى المعلوم بالعرض خارجاً فهما وإن كانا شيئين ووجودين ولكنه ليست هذه الإضافة من مقومات العلم ولا لازماً فيه، بدليل أنه قد لا يكون مصادفاً للواقع أصلاً, بل في فرض المصادفة أيضاً ليست الإضافة حقيقية بل مجازية وبالعرض.

ص: 237


1- . الإضافة الإشراقية: هي التي تقابل الإضافة المقولية التي تكون بين أمرين، فتحصل الإضافة الإشراقية من جهة واحدة، كما يقال بأنّ علم الله تعالى بالأشياء هو من باب الإضافة الإشراقية، وأنّ علمه بالأشياء هو عين خلقها؛ بمعنى أن العلم ليس طرفاً بمفرده، بل علمه هو خلقه، وعلم الحق هو الذي أخرج الموجودات من كتم العدم إلى الوجود؛ لذلك قيل: إنّ علم الله تعالى هو علم فعلي.

وفيه: ما ذكرناه سابقاً من أنّ بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض نحو اتحاد في الجملة، وإن أمكن بحسب الدقة العقلية التفريق بينهما، ويكفي ذلك في جعله من الصفات ذات الإضافة. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.واختار السيد الصدر قدس سره (1) توجيهاً آخر في تصحيح هذا التقسيم بأن العلم وإن كان بنفسه انكشافاً ولكن له ملازمات في الخارج؛ وجودية أو عدمية كراحة النفس واطمئنانها واستقرارها وسكونها وغير ذلك.

وحينئذٍ؛ تارةً؛ يؤخذ العلم بما لها هذه الخصوصيات الصفتية الموضوعية، وأخرى؛ يؤخذ بما هو انكشاف وظهور بالذات للمعلوم.

والأول هو الموضوع على نحو الصفتية، والثاني هو الموضوع على نحو الكاشفية.

ولكن الذي يؤخذ على هذا التقريب أنه يمكن إرجاعه إلى المقولة المعروفة بأنّ العلم نور بنفسه ونور لغيره، وإن اختلف في التعبير؛ فإنه لاريب في أنّ العلم في الحالتين له ملازمات ولأجلها أمكن تصوير الإنفكاك بين الحالتين, فما ذكره الشيخ الأنصاري في تقسيمه صحيح بلحاظ الإعتبارين للعلم.

وأما تقسيم صاحب الكفاية فقد اعترض عليه المحقق النائيني قدس سره (2) بأنّ العلم المأخوذ بنحو الكاشفية لا يكون إلا جزء الموضوع، ولا يعقل أخذه بنحو تمام الموضوع فيكون القطع جزء الموضوع والجزءُ الآخر هو الواقع المنكشف فلا يصحّ أخذ العلم تمام الموضوع لأنّ معنى كونه تمام الموضوع أنه لا دخل للواقع في الحكم، ومعنى كونه مأخوذاً بنحو الطريقية أنّ للواقع دخلاً في الحكم، فالجمع بين الأمرين تناقض.

ص: 238


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص71.
2- . فوائد الأصول؛ ج3 ص9، وذكره من تبع مدرسته في هذا الرأي في مصباح الأصول؛ ج2 ص33.

وعلّق عليه السيد الصدر(1) بأنّ هذا الإشكال نشأ من اختلاف فَهم الكاشفية؛ فما فهمه المستشكل منه غير ما قصده صاحب هذا التقسيم الرباعي، فإنّ الكاشفية التي يريدها الأخير هو الإنكشاف الذاتي الحاصل للعلم سواء كان مصادفاً للواقع أم لا، وأما الكاشفية التي يريدها المحقق النائيني قدس سره فهي الإنكشاف بالفرض والمجاز, أي الإصابة للواقع، فلو أُريد أخذ هذه الحيثية العرضية في العلم موضوعاً فإنه لا يكون إلا بنحو جزء الموضوع لإتمام الموضوع كما أفاد، لأنّ فرض الإصابة لا يمكن مع فرض وجود الواقع. ولكن الكلام في ثبوت هذا المعنى المجازي للعلم، بل إنّ مقتضى إطلاق دليل أخذ العلم موضوعاً ينفي الكاشفية بهذا المعنى، فإنّ مقتضاه هو أخذ مطلق العلم سواء كان مطابقاً للواقع أو مخالفاً له, كما يؤخذ بإطلاق العلم بلحاظ مناشئه وأسبابه كذلك يتمسك بإطلاقه من حيث الإصابة وعدم الإصابة.وعليه؛ يصحّ تقسيم القطع الموضوعي إلى الأقسام الأربعة كما أفاده صاحب الكفاية, إلا أنه يمكن مناقشة ما ذكره بأنه ليس للعلم إطلاقان أحدهما حقيقي والآخر مجازي، فإنّ العلم لا بُدَّ أن يكون له واقع سواء كان الواقع له تحقق وثبوت في نفس الأمر أم لم يكن، بل كان العلم من الجهل المركب -على القول به- فإنه أيضاً واقع مزعوم.

وأما ما أفاده المحقق النائيني قدس سره فقد اقتصر على كون العلم مظهِراً لغيره، وأعرض عن كونه ظاهراً بنفسه، فإنه لا محالة يمكن أن يكون أخذه بنحو تمام الموضوع بما هو صفة أو هو انكشاف.

فالتقسيم صحيح من هذه الجهة كما عرفت.

ص: 239


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص71.

ومن جميع ذلك يظهر وجه المناقشة في ما استشكله السيد الصدر على صاحب الكفاية في قسم آخر للقطع وهو المأخوذ على نحو الصفتية؛ أي المأخوذ بما هو صفة للمقطوع به إما على نحو جزء الموضوع أو تمامه بدعوى أنه إن أُريد من المقطوع به المعلوم بالذات فليس هذا قسماً آخر للقطع الصفتي في مقابل ما مضى فإنّ القطع المأخوذ بنحو الصفتية للقاطع يكون خصوصيةً المعلوم أيضاً مأخوذاً فيه، وإلا لزم ثبوت الحكم عند القطع بأي شئ من الأشياء.

وإن أُريد من المقطوع به المعلوم بالعرض فإنّ الكاشفية تكون مجازية كما عرفت، وأنّ مفهوم القطع ليس مساوقاً معه. وحينئذٍ لا يمكن تقسيمه إلى ما يكون تمام الموضوع وما يكون جزء الموضوع، لأنّ هذه الإضافة المجازية مع الإصابة ولزوم وجود الواقع، فلا يكون الحكم ثابتاً بدونه. ثم اختار تقسيماً خماسياً يختلف مع المحقق الخراساني وغيره في بعض الأقسام.

ولكن عرفت عدم تمامية ما ذكره فإنّ القطع سواء كان بالمعنى الحقيقي أو المجازي فإنّ في كل واحد منهما واقع؛ إما حقيقي أو مزعوم موهوم، والقطع إنما يؤخذ على كونه صفة للقاطع أو للمقطوع به أو يكون كاشفاً عن ذلك الواقع، ولا يضرّ الواقع المزعوم بأصل التقسيم وإن كان له أثر من جهة أخرى كما سيأتي بيانه.

ولكن مِمّا يهوّن الخطب أنه لا أثر لهذا التقسيم الذي ذكروه سواءً من المحقق الخراساني أم غيره أم المتعارف في أخذ القطع الطريقي المحض في العقليات والشرعيات والعرفيات، فلا يترتب عليه أثر عملي إلا ما سيأتي في قيام الأمارات مقام القطع.

والظاهر إنه لا اختصاص لهذه الأقسام الخمسة بالقطع، وإنما يمكن تصويرها في الأمارات، بل يصحّ فرضها في الأصول العملية أيضاً، ولكن لا مصداق لها مطلقاً في الفقه إلا القطع الطريقي فإنّ الفرض والتقدير شئ والمصداق شئ آخر.

ص: 240

قيام الأمارة مقام القطع

والكلام يقع في مقامين:

المقام الأول: في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض.

لا إشكال في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض من دون أن يكون له مدخلية في الموضوع بنفس دليل اعتبارها. ومعنى قيامها مقام القطع الطريقي أنه يترتب عليها ما يترتب على القطع من المنجزية والمعذرية.

وهذا الأمر متفق عليه في مرحلة الإثبات وإن كان لهم نقاش في مقام الثبوت فقد يتوهم استحالة ذلك لأمور ثلاثة:

الأمر الأول: إنّ الأمارة إذا قامت مقام القطع الطريقي؛ فإذا نجّزت الواقع المشكوك مع كونه مشكوكاً فهو خلاف قانون قبح العقاب بلا بيان العقلي.

الأمر الثاني: إنها إن أنشأت حكماً ظاهرياً ونجّزته فيه, فإنه خلاف ما سيأتي بيانه من أنّ الحكم الظاهري ليس له تنجيز مستقل عن الحكم الواقعي المشكوك.

الأمر الثالث: إنه مع ذلك فهو ليس بمعنى التنزيل وقيام شئ منزلة القطع الطريقي المنجز للحكم الواقعي، بل هو تنجيز بملاك حكم آخر وهو الحكم الظاهري الذي وصل إلى المكلف بالعلم الوجداني.

وقد اختلف الأصوليون في الجواب عن ذلك، وسيأتي بيانها في المقام في الجواب عن شبهة ابن قبة، وعمدة الجواب يرجع إلى كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي.

واجيب عن الأول من هذه الأمور بأجوبة أهمها:

الجواب الأول: ما قيل من رجوع تلك الشبهة إلى الإعتراف بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كحكم عقلي مستقل عن حق الطاعة، ولذا يرتفع الإشكال لو أنكرنا تلك القاعدة على

ص: 241

القول بحق الطاعة كما ذهب إليه بعضٌ(1)، فحينئذٍ تكون الأمارات المنجزة مؤكِّدة للحق المذكور وموجبة لمزيد مسؤولية العبد تجاه مولاه في تلك الواقعة التي دلت الأمارة على الإلزام الشرعي فيها.

وأما الأمارة المؤمّنة على الحكم الترخيصي فهي لا تكون متنافية مع حكم عقلي لأنّ العقل وإن كان يحكم بالتنجيز لولا قيام الأمارة المرخصة إلا أنّ ذلك كان من باب حق الطاعة والمولوية، وهذا يرتفع موضوعاً مع قيام طريق قد أذن الشارع على أساسه في الإقدام، ومع حق الإذن يكون الإقدام جرياً على طبق العبودية ولا يكون سلباً لحق المولى كما هو واضح.

ويرد عليه: إنّ إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يبتني على أساس متين كما أشرنا إليه سابقاً، وعلى فرض التنزيل فإنّ الإشكال المزبور باقٍ على حاله حتى بناءً على إنكارها؛ فإنّ تنجيز الواقع المشكوك بما هو كذلك لا ينافي ما ذُكر إذا كان بدليل خاص كما هو المفروض، مع أنه لا يرتفع إشكال شبهة إجتماع الحكمالظاهري مع الحكم الواقعي التي ترجع إلى التضاد ونحوه مِمّا سيأتي بيانها وحلّها.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) عن الشبهة في المقام، وعمدة ما ذكره أنّ البيان المأخوذ عدمه موضوعاً من قاعدة قبح العقاب بلا بيان قد تمَّ ووُجد بقيام الأمارة لأنّ دليل حجية الأمارة قد جعلها علماً وبياناً؛ إما بلسان الحكومة بحيث يجعل الظن الخبري -مثلاً- منزلة العلم فيكون حاكماً على دليل قبح العقاب بلا بيان. وإما بلسان الورود وأنّ موضوع القاعدة هو البيان الأعم من الظاهري أو الواقعي؛ أي الأعم من العلم الوجداني والتعبدي فيجعل العلمية للأمارة بتحقق فرد من هذا الجامع حقيقة.

ص: 242


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص73.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص9.

وأُشكل على كِلا الوجهين بوجوه سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

وذكر السيد الصدر(1) بأنه لا نسلّم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان على إطلاقها لو فرض قبولها، بل في قسم خاص وهو الحكم المشكوك الذي لا يعلم بأنه على تقدير ثبوته لا يرضى المولى بتفويته حتى من الشاك لمزيد اهتمامه به، وأما الحكم الشرعي المشكوك الذي يعلم في مورده أنه على تقدير ثبوته أنّ المولى لا يرضى بتفويته فالعقل لا يحكم فيه بقبح العقاب، بل يحكم بالعقاب على تقدير التفويت فيكون دليل الحكم الظاهري المنجّز بحسب الحقيقة دالاً على أنّ التكليف في مورده من هذا القسم فيرتفع موضوع القاعدة لا محالة.

وفيه: إنّ تخصيص القاعدة العقلية بقسم دون قسم يحتاج إلى دليل عقلي آخر، وهو مفقود، مع أنّ الدليل على خلاف ذلك. وتقسيم الأحكام في الأهمية وإن كان صحيحاً إلا أنّ المفروض هو الشك في أصل الحكم فلا بُدَّ من إثباته من دليل وبيان من الشرع، فعاد الإشكال المزبور، وافتراض الأهمية لا يغيّر الحقيقة في القاعدة المزبورة.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (2) من أنّ أمرَ الخطاب الظاهري في مورد الأمارة أو الأصل مردد بين أن يكون مطابقاً للواقع فيكون خطاباً واقعياً منجزاً؛ إذ لا يراد من الخطاب الواقعي إلا أن يكون وراءه ملاكات ومبادئ حقيقية، وبين أن يكون خطاباً ظاهرياً لا ملاكَ وراءه.

وبما أنّ أصل الخطاب معلوم وجداناً فهذا يعني أنه على أحد التقديرين -وهو تقدير مطابقة الخطاب للواقع- يكون البيان ثابتاً في حقنا فيكون المقام شبهة مصداقية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا يصح التمسك بها.

ص: 243


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص75.
2- . مقالات الأصول؛ ج2 ص18.

وأورد عليه بأنّ المورد من الشبهة المصداقية بين الخطاب الواقعي المنجز والخطاب الظاهري غير المنجز، والجامع بين المنجز وغير المنجز لا تنجُّز له، مع أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو كونه واقعياً فإذا لم يتحقق العلم بذلك فبقبح العقاب بلا بيان. وهناك وجوه أخرى لا تخلو من مناقشة، سيأتي ذكرها والجواب عنها، وما هو الصحيح في المقام إن شاء الله تعالى.

المقام الثاني: قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي

عرفت أنّ القطع الموضوعي تارةً؛ يؤخذ بنحو الكشف، وأخرى بنحو الطريقية؛ أما الأولى فقد ذهب الشيخ قدس سره (1) إلى قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الصفتي وتبعه على ذلك جمع من الأصوليين كالمحقق النائيني(2) والسيد الوالد(3) (قدس سراهما) والدليل عليه هو نفس دليل اعتبارها.

وأنكر المحقق الخراساني قدس سره (4) قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي مطلقاً بجميع أقسامه، وذكر في وجه ذلك أنّ مقتضى حجية الأمارة ترتيب ما للقطع من الآثار بما هو حجة لا بما هو موضوع؛ فهو كسائر الموضوعات لأنّ دليل اعتبار الأمارة بأي وجه من وجوه الإعتبار؛ من جعل الحجية، أو جعل المنجزية، أو المعذورية، أو جعل الوسطية في الإثبات والطريقية كما يأتي تفصيل ذلك؛ كل تلك الأنحاء لا ترتبط بالقطع الملحوظ بما أنه صفة خاصة. إما بإلغاء جهة كشفه أو بأخذ خصوصية أخرى فيه معه, فإنّ جعل

ص: 244


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص6.
2- . فوائد الأصول؛ ج2 ص21.
3- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص29.
4- . كفاية الأصول؛ ص263.

المؤدى -مثلاً- أجنبي عن تنزيل الأمارة منزلة القطع، وجعل الطريقية والكاشفية لا ينفع بعد إلغاء جهة الكشف في القطع الصفتي، وكذا في جعل المنجزية أو المعذرية. وبالجملة إنّ القطع المأخوذ موضوعاً بنحو الصفتية كغيره من موضوعات الأحكام لا ينظر إليه دليل اعتبار الأمارة بأيّ نحو كان مفاده.

ولكن ذلك إنما يتم فيما إذا كان القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية وإلا إذا كان مأخوذاً في الموضوع بنحو الكشف والطريقية فإنّ ما ذكره لا يتم؛ فإنّ دليل اعتبار الأمارة قد يرتبط به، فإنّ مقتضى دليل اعتبارها يتكفل إلغاء احتمال الخلاف فيكون المجعول في الأمارات هو الكاشفية التامة المحرزة، فإنّ ذلك يفيد قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي، وسيأتي تفصيل ذلك.

أقسام القطع وقيام الأمارة مقامه

القطع إما أن يكون طريقياً محضاً كما هو الغالب، أو يكون مأخوذاً في الموضوع؛ جزءاً أو كُلّاً، يسمى بالقطع الموضوعي، وكل منهما؛ إما أن يكون على نحو الصفتية المحضة بإلغاء جهة الكشف، أو يكون على نحو الكشف والمرآتية، فالأقسام خمسة. والبحث يقع في موضوعين:

الأول: في ذكر الأقسام المزبورة وبحث الأصوليين فيها.

الثاني: في قيام الأمارة مقام القطع وأقسامه.

وخلاصة الكلام يقع في ضمن أمور:

الأمر الأول: إنّ مقتضى طبع القطع أن يكون طريقاً محضاً إلى متعلقه كسائر الحجج والأمارات، فأخذُه في الموضوع مطلقاً يحتاج إلى دليل خاص يدل عليه. وحينئذٍ يكون تابعاً لمقدار دلالة الدليل فقط؛ فتارةً؛ يؤخذ في الموضوع على نحوٍ بحيث يكون تمامَ الموضوع

ص: 245

بأن يجعل الحكم يدور مدار القطع أخطأَ أم أصاب. وأخرى؛ يؤخذ جزء الموضوع على نحو يجعل الحكم يدور مدار القطع ومتعلقه معاً بحيث إذا انتفى أحدهما ينتفي الحكم، وعلى كل منهما؛ إما أن يؤخذ فيه من حيث أنه كاشف عن الواقع أو من حيث أنه صفة خاصة من صفات النفس في مقابل الظن والوهم وسائر الصفات النفسانية. ومن هنا كانت الأقسام أربعة، وعلى كل منها؛ إما أن يؤخذ القطع بموضوع خارجي في متعلق الحكم مثل أن يقال: (إن قطعت بدخول الوقت وجبت عليك الصلاة)، أو يؤخذ القطع بالحكم في متعلق حكم آخر مثل أن يقال: (إن قطعت بوجوب الصلاة وجبت عليك الطهارة). فهذه ثمانية أقسام وهي أصولها في الجملة، ويمكن أن تتشعب منها أقسام أخرى مثل أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أيضاً كما سيأتي فتكون الأقسام تسعة، وبانضمام القطع الطريقي المحض تكون عشرة كاملة. وقد عرفت اختلاف العلَمين الأنصاري والخراساني في بعض الأقسام.

الأمر الثاني: إذا عُلم بكل واحد من تلك الأقسام فإنه يترتب على ذلك الأثر الخاص به، وأما إذا شك في مورد يكون القطع قد أخذ في الموضوع بأي نحو كان أو لم يؤخذ فإنّ مقتضى أصالة عدم جعله قيداً في الموضوع ينفي ذلك، لأنّ أخذه في الموضوع خصوصيةٌ زائدة منفية بالأصل عند الشك فيها، مع أنّ مقتضى أصالة الكاشفية المحضة في القطع مطلقاً ثابتة إلا ما خرج بالدليل.

الأمر الثالث: تقدم سابقاً قيام الأمارة مقام القطع، ولا إشكال في ذلك ثبوتاً، ولعل السر في ذلك يرجع إلى أنّ من أهم آثار القطع هو صحة الإعتذار به والإستناد إليه، كما أنّ من آثاره الكشف عن الواقع الذي يعدّ من لوازمه الذاتية. وهذا هو الأثر المغفول عنه غالباً لأنّ القاطع لا يرى إلا الواقع ولا يلتفت إلى قطعه وجهةِ الكشف فيه غالباً بينما الأثر

ص: 246

الأول هو الذي يلتفت إليه العقلاء في مقام العمل. وحينئذٍ يصحّ القول بقيام كل ما يصح الإعتذار به ويجوز الإستناد إليه مقامَ القطعمن هذه الجهة والحيثية بنفس دليل اعتباره سواء كان أمارة أو أصلاً؛ موضوعياً كان أو حكمياً فإنّ اعتبار الأصل لا يكون إلا من صحة الإعتذار به وجواز الإستناد إليه، ولا نحتاج إلى ملاحظة جهة الكشف فيها أبداً. وقد عرفت أنها مغفول عنها في القطع الذي هو أهم من الأمارات فضلاً عن غيره.

والحاصل؛ إنّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي مِمّا لا إشكال فيه إثباتاً لكونه المتيقن من دليل الحجية، بل هو الغاية من جعلها.

ولكن مع ذلك فقد وقع الإشكال فيه ثبوتاً حيث قد يُتوهم استحالة ذلك لأنّ الأمارة إذا قامت مقام القطع الطريقي؛ فإن نجزّت الواقع المشكوك مع كونه مشكوكاً فهو خلاف قانون قبح العقاب بلا بيان العقلي، وإن أنشأت حكماً ظاهرياً ونجزته ففيه إشكالان:

أولاً: إنه خلاف ما سيأتي من أنّ الحكم الظاهري ليس له تنجيز مستقل عن الحكم الواقعي المشكوك.

ثانياً: إنه خلاف معنى التنزيل وقيام شئ مقام القطع الطريقي المنجِّز للحكم الواقعي، بل هو تنجيز بملاك حكم آخر وهو الحكم الظاهري وقد وصل إلى المكلف بالعلم الوجداني.

وقد عرفت أنّ هذه الشبهة مع نظيرتها من شبهة إبن قبة وغيرها في باب الأمارات هي التي حركت الفكر الأصولي لالتماس التخريجات والتفسيرات لحقيقة هذا الحكم وكيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي، وقد أخذت قسطاً وافراً من البحوث الأصولية في هذا المجال.

ص: 247

الأمر الرابع: إنه قد أجيب عن تلك الشبهات بوجوه عديدة ذكرنا جملة منها فيما سبق ونذكر هنا ما يلي:

1- ما ذهب إليه السيد الصدر قدس سره (1) من أن ّالشبهة تبتني على الإعتراف بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كحكم عقلي مستقل عن حق الطاعة، ولكن بناءً على ثبوت حق الطاعة للمولى في موارد الجهل والشك بالواقع فلا إشكال في الأمارة المنجزة لكونها مؤكدة للحق المذكور وموجبة لمزيد المسؤولية تجاه مولاه في تلك الواقعة التي دلّت الأمارة على الإلتزام الشرعي فيها.

ولكن سيأتي أنّ حق الطاعة ثابت ولا ينافي حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.1- ما ذكره الحقق النائيني قدس سره (2) من أنّ البيان قد تم في قاعدة قبح العقاب بلا بيان بقيام الأمارة، لأنّ دليل الحجية قد جعل الأمارة علماً وبياناً.

وأورد عليه بإيرادات تقدم ذكرها.

الأمر الخامس: قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية، وقد أشكل عليه ثبوتاً بعدما عرفت أنه لا إشكال فيه إثباتاً بأن يمنع جعل ذلك بنفس دليل حجية الأمارة وقيامها مقام القطع الطريقي، وذلك لما قاله المحقق الخراساني قدس سره (3) من أنّ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي أو الموضوعي مرجعه إلى التنزيل، وهو إذا كان بصيغة تنزيل المؤدى منزلة المقطوع فإنه ينتج قيامها مقام القطع الطريقي لأنّ مفاده حينئذٍ جعل الحكم على طبق المقطوع لا القطع نفسه, وإذا كان بصيغة تنزيل نفس الأمارة منزلة

ص: 248


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص73-74.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص9.
3- . كفاية الأصول؛ ص263.

القطع فهو ينتج قيامها مقام القطع الموضوعي فيما له من الأحكام، ولا ينتج قيامها مقام الطريقي لأنّ الأثر المنزَّل عليه في الطريقي مترتب على المؤدى والمقطوع به دون نفسه، وملاحظة القطع فيه يكون على نحو الطريقية والمرآتية لا الموضوعية؛ فاستفادة التنزيلين معاً يستلزم اجتماع اللحاظين؛ الآلي والإستقلالي على شئ واحد وفي لحاظ واحد وهو محال.

وقد عرفت الجواب عن ذلك فيما تقدم أيضاً، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

والظاهر أنّ الإشكال إنما نشأ من جهة تصوير التنزيل وكيفيته، فقد اختلفوا في بيان ذلك؛ فما ذكره صاحب الكفاية أورد عليه المحققين النائيني والعراقي (قدس سراهما) وذكر السيد الصدر قدس سره (1) في بيان ذلك أنّ الحكومة والتنزيل؛ إما أن يُنظر إليهما من أنهما مجرد صياغة لفظية في مقام الإثبات يكشف عن مدلول تصديقي وهو التخصيص، وإما يُنظر إليها على أنها عملية إنشائية ثبوتية كما هو المنسجم مع تصورات صاحب الكفاية.

أما الأول؛ فإنه يرجع إلى حقيقة التقييدِ، والتنزيلُ إنما هو من مجرد بيان وتعبير عن القرينة المنفصلة. وعلى هذا الأساس لا يكون التنزيل هو جعل الحكم، وإنما بيان سعة الحكم. فتعدد التنزيل معناه تعددٌ لبيان القرائن المنفصلة في مقام تحديدما هو موضوع الحكم الشرعي في الدليل المنزَّل عليه, فلا يبقى موضوع لشبهة المحقق الخراساني وغيره فضلاً عن جواب المحقق العراقي(2).

ص: 249


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص87.
2- . للمحقق العراقي قدس سره إشكالٌ على الكفاية إنتصاراً لما جاء في الحاشية ودفعاً لمحذور استحالة طولية التنزيلين في المقام، حيث أفاد بأنه لا مانع من أن يكون فی البین تنزيل بلحاظ كل جزء، تنزيلاً مستقلاً مفصولاً عن التنزيل الآخر، سواء كان متقدماً أم متأخراً عنه رتبة، لأنّ المولى حينما يجعل حكماً -كوجوب الحج- على الموضوع المركب من البلوغ والإستطاعة، فكلٌّ من الجزءين يكون له حكم تعليقي؛ فالإستطاعة حكمها = = هو وجوب الحج لو انضم إليها البلوغ، والبلوغ حكمه وجوب الحج لو انضمت إليه الإستطاعة، فالمولى حينما يجعل وجوب الحج على البالغ المستطيع، يكون موضوعه كلّاً من الجزءين لأثر تعليقي، وإذا كان كلٌّ من الجزءين موضوع لحكم تعليقي، إذن فالتنزيل يكون لكل من الجزءين مستقلاً بلحاظ أثره التعليقي، فليس هناك عملية تنزيل واحدة، لأنه ليس هناك أثر واحد، بل أثران كلٌّ منهما مترتب على أحد الجزءين بشرط انضمام الآخر إليه. فالمولى في مقام التنزيل لا يطلب أكثر من إسراء هذا الحكم التعليقي على المنزل، وبما أنّ هذا الحكم التعليقي تمام موضوعه نفس الجزء فيمكن أخذه في موضوع التنزيل الآخر للجزء الآخر من دون محذور استحالة طولية التنزيلين في المقام. [مقالات الأصول؛ ج2 ص18، وفوائد الأصول؛ (تعليقة العراقي) ج3 ص106- 107].

وأما الثاني؛ وهو أنّ التنزيل حقيقةٌ ثبوتية بنفسها وجعلٌ للحكم بعنوان الإسراء فيمكن تصوير إشكال المحقق الخراساني قدس سره .

ولكن جواب المحقق العراقي لا يتم لأنّ التنزيل بلحاظ الحكم التعليقي المرتب على جزء الموضوع غير معقول، لأنّ تنزيل المؤدى منزلة الخمر الواقعي -مثلاً- لا بُدَّ وأن يُنظر فيه إلى حكم ثابت للخمر إما فعلي أو تعليقي ليسري بالتنزيل إلى المؤدى، إي إسراؤه إلى المنزل عليه وإلا فالتنزيل غير معقول والحكم الثابت في المنزل عليه هنا إن كان هو الحكم المعلق المستفاد من الجعل الأول للحكم على الخمر المقطوع الخمرية، فهذا خلف، لأنه معلق على انضمام الجزء الأصلي الآخر؛ فلو أُريد إسراؤه لَما أنتج المقصود، بل هو غير معقول لأنّ الجزء المعلق عليه في المقام هو القطع بالخمرية ومع حصوله لا يبقى موضوع التنزيل الظاهري في المؤدى, وإن كان هو الحكم المعلق على القطع التنزيلي الثابت ببركة التنزيل الثاني، فهذا أيضاً خلفٌ، لأنّ معناه أنّ التنزيل الثاني قد ضمّ فيه الجزء التنزيلي الثاني وهو القطع بالواقع التنزيلي لا الجزء الأصلي من الآخر وهو الخمر الواقعي.

وغير ذلك مِمّا ذكروه في المقام مِمّا يطول ذكره.

ص: 250

والحق؛ أنّ ذلك تطويل لا طائل تحته, فإنّ نفس دليل اعتبار الأمارة يتكفل تنزيلها منزلة القطع الطريقي لتحقّق حيثية الإعتبار والإعتذار فيها، ويمكن التمسك لذلك بالسيرة العقلائية فإنها قائمة على الإعتذار بالأمارة مثل اعتذارهم بالقطع، وهذا لا إشكال فيه كما عرفت.وأما القطع الموضوعي فقد اختلف الأصوليون في قيام الأمارة مقامه فيما إذا كان القطع مأخوذاً في الموضوع على نحو الكشف دون الصفتية، والحق صحة التنزيل أيضاً فيما أخذ فيه من حيث الكشف والإعتذار، لا من حيث صفة القطعية فقط، لأنه في قوة أن يقال: إنّ القطع فقط دون غيره مأخوذ في الموضوع، وحينئذٍ فلا وجه لقيام شئ مقامه، بخلاف ما أخذ فيه من جهة الكشف والإعتذار لتحقق مناط الدخل فيه وهو صحة الإعتذار والإعتبار لدى العقلاء.

وأما الإيراد عليه بالوجهين الذين تقدم ذكرهما وهما:

الوجه الأول: إنه مستلزم للجمع بين اللحاظين الإستقلالي والآلي في آنٍ واحد وفي مورد واحد واستعمال واحد من متكلم واحد. وهو غير معقول لأنه من الجمع بين الضدين لأنّ لحاظ الدخل في الموضوع يستلزم اللحاظ الإستقلالي، ولحاظ الكشف عن الواقع يستلزم اللحاظ الآلي، وهو باطل.

ويورد عليه بما يلي:

أولاً: إنه مبني على القول بجعل المؤدى، فيتحقق حينئذٍ اللحاظان؛ الإستقلالي بالنسبة إلى دخله في الموضوع، والآلي بالنسبة إلى المؤدى. وأما بناءً على القول بجعل المعذرية ومجرد الإعتبار فليس في البين إلا لحاظ واحد إستقلالي فقط وهو لحاظ الإعتبار الذي هو عين الدخل في الموضوع، فلا يتحقق الجمع بين اللحاظين الإستقلالي والآلي حينئذٍ.

ص: 251

ثانياً: إنه بناءً على القول بجعل المؤدى والتنزيل فلا يلزم المحذور، لأنه ليس فيه تعدد اللحاظ وإنما لحاظ واحد إنبساطي على المؤدى وعلى ما نُزِّل منزلة القطع وإن تفاوتا من جهتين. وله نظائر كثيرة كلحاظ وجوب الصلاة أو الحج المنبسط على الأجزاء المتفاوتة بالركنية وغيرها، أو بلحاظ المركب حقيقياً كان أم اعتبارياً المنبسط على الأجزاء مع كمال الإختلاف بينهما.

ثالثاً: إنّ التنزيل إنما يكون باعتبار الحصّة الخاصة من المؤدى المقارنة مع ما قام عليه؛ فلا إثنينية في اللحاظ حينئذٍ, لأنّ لحاظ الحصة بما هي تلك الحصة عينُ لحاظ ما تحققت به، فقد نُزِّلت الحصة الخاصة من غير المقطوع منزلة الخاصة منه. فاللحاظ متعلق بالحصة وهو مستلزم للحاظ ما قام عليه؛ أمارةً كان أم أصلاً.

الوجه الثاني: إنه يستلزم الدور، إذ الموضوع مركب من جزئين؛ المؤدى وما قام عليه، وإنّ تنزيل المؤدى منزلة الواقع يتوقف على تنزيل ما قام عليه منزلة القطع، وهو يتوقف على تنزيل المؤدى إذ لا أثر لكل واحد منهما منفرداً عن الآخر لفرض تركب الموضوع وتقوّمه بجزئين، وهذا هو الدور.

وأورد عليه:

1- إنه مبني على القول بجعل المؤدى, وأما بناءً على القول بجعل الإعتبار والإعتذار، فلا دور أصلاً.

2- إنه لا يستلزم الدور حتى على القول بجعل المؤدى لتقوّم الدور بالتعدد الوجودي في المتوقف والمتوقف عليه، والمقام ليس كذلك؛ فإنه لا تعدد للتنزيل حتى يتوقف أحدهما على الآخر، فإنه ليس إلا تنزيل واحد إنبساطي على جزئي الموضوع في عرض واحد من دون تعدد وتوقف فيه أبداً نظير انبساط الوجوب العيني النفسي على

ص: 252

أجزاء الصلاة في عرض واحد مع ترتب الأجزاء واختلافها واقعاً. وسيأتي في بحث الحجية مزيد بيان لرفع الدور وغيره.

والحاصل؛ إنه لا فرق في القطع الموضوعي الذي أُخذ القطع فيه على نحو الطريقية, وبين القطع الطريقي المحض في قيام الأمارة مقامها واستفادته من نفس دليل الأمارة، خلافاً لبعض الأصوليين(1) حيث أنكر استفادته من نفس دليل الحجية إلا إذا كان دليل القطع الموضوعي قد أخذ القطع في موضوعه بما هو حجة لا بما هو قطع قامت الأمارة مقامه بنفس دليل الحجية للورود لا الحكومة، ولكن ذلك من لزوم ما لا يلزم, وقد عرفت أنّ ما ذكره هو أساس حجية القطع وغيره.

الأمر السادس: في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الصفتية، والظاهر أنه لا وجه لقيام الأمارة مقامه لأنّ أخذ القطع على نحو الصفتية إنما هو بمنزلة التصريح بأنّ القطع دون غيره مأخوذ في الموضوع فيكون عدم قيام الأمارة مقامه لمانع في البين لا لقصور في دليل الإعتبار.

نعم؛ إن الإشكال في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية الذي تقدم لو تمّ فسوف يجري في المقام بصورة أوضح وأجلى.

وكيف كان؛ فقد ظهر فساد جملة مِمّا ذكروه في المقام مع أنها تفصيلات لا داعي لها.

تلخيص ونتيجة

ومن جميع ذلك نتبين ما يلي:

1- إنه بناءً على صحة قيام الأمارة مقام الطريقي والموضوعي معاً كما هو مذهب المشهور، فإنه يثبت في مواردها كل من أحكام المؤدى وأحكام القطع نفسه ببرکة

ص: 253


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص94.

دليل الحجية من غير فرق بين أن تكون التوسعة والحكومة بلحاظ أحكام المؤدى حكومة ظاهرية، وبلحاظ أحكام القطع نفسه حكومة واقعية؛ إذ لا ثمرة عملية بل لا علمية في ذلك وإن حاول بعضهم(1) إثبات الفرق بينهما.

2- إنه بناءً على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي كما عرفت؛ فهل يكون في طول قيامها مقام الطريقي بحيث لو لم يكن في موردٍ أثرٌ للقطع الطريقي فلا تقوم الأمارة هنالك مقام القطع الموضوعي، أو أنه في عرضه فلا تلازم بينهما فهما عرضيان. وتظهر الثمرة في فتوى الفقيه بالأحكام التي تكون خارجة عن ابتلاءه كأحكام النساء مثلاً, فإنه لا أثر بلحاظ مؤدى أدلة تلك الأحكام من الأمارات أو الأصول العملية بلحاظ نفس الفقيه؛ إذ لا تكون منجّزة عليه, وإنما الأثر بلحاظ نفس العلم بها الواقع موضوعاً للحكم بجواز الإفتاء الذي هو الحكم الداخل في إبتلاءه؛ فإن قيل بالطولية بين القيامين فلا يمكن للفقيه أن يفتي بالحكم الواقعي لعدم كونه عالماً به لا وجداناً ولا تعبّداً بحسب الفرض، وأما إذا قيل بالعرضية بينهما جاز له الإفتاء لكونه عالماً بالواقع اعتباراً أو تنزيلاً.

قد يقال: بأنّ هذه النقطة تختلف باختلاف المسالك في مدرك القول بقيام الأمارات مقام القطع الموضوعي, فإنه بناءً على مسلك المحقق النائيني قدس سره من أنّ دليل الحجية يجعل الأمارة علماً؛ لا موجب للطولية بين آثار القطع الطريقي والموضوعي في قيام الأمارة مقامها.وبناءً على مسلك المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل(2) من أنّ دليل الحجية يدل بالمطابقة على تنزيل المؤدى منزلة الواقع، وبالإلتزام على تنزيل القطع بالواقع

ص: 254


1- . المصدر السابق؛ ص95.
2- . درر الفوائد في الحاشية على الفرائد (الحاشيةالجديدة)؛ ص 31.

الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي؛ فإنه ربما يقال باختصاص ذلك بما إذا كان للواقع أثره ولو ضمناً، فإنه من دون ذلك لا يكون جعلياً يُنزَّل القطع به منزلة القطع بالواقع الحقيقي.

والحق ما ذكرناه في بدء البحث من نفي موردٍ لا يكون فيه أثر حتى يتصور فيه هذا التفصيل، فربما يكون الأثر مترتباً على المؤدى، أو يكون الأثر نفس عملية الإفتاء وقناعة الحاكم بالحكم وغير ذلك لما ذكرناه، فإنّ ذلك من الآثار المترتبة على الحجية التي تقوم عنده, ففي جميع الحالات لا يمكن تصوير عدم الأثر, فيكون الترتيب بينهما بالعرض فراجع ما ذكرناه في أول بحث القطع.

3- ذكر المحقق النائيني قدس سره في كيفية استفادة قيام الأمارات والأصول المحرزة مقام القطع الموضوعي أن يكون العلم الإجمالي بمخالفة أحدى الأمارتين عند التعارض بينهما مبطلاً لقيامهما مقام القطع الموضوعي، وترتيب الأثر المترتب عليه على كلٍّ منهما من أجل تعارضهما وتساقطهما بلحاظ الواقع وآثار القطع الطريقي.

ويورد عليه: إنها نتيجة غريبة لا يُلتزم بها فقهياً، فإنّ الفقيه يجوز له الفتوى بكلتا الأمارتين اللتين يعلم بكذب أحدهما, كما عرفت في التنبيه الأول من حكومة دليلالحجية بلحاظ أثر القطع الموضوعي بناءً على جعل الطريقية واعتبار الأمارة علماً، فلا انكشاف للخلاف بلحاظ هذا الأثر ولا يكون العلم الإجمالي بكذب أحداهما مانعاً عن ترتب أثر القطع الموضوعي بعد فرض أنّ قيامها مقام القطع الموضوعي ليس في طول حجيتها في إثبات الواقع والمؤدى.

ص: 255

4- ذكرنا أنه لا يختص الحكم بقيام الأمارة مقام القطع مطلقاً؛ طريقياً كان أو موضوعياً على نحو الكشف، بل يجري في الأصول العملية مطلقاً لتحقق المناط فيها؛ وهو الإعتبار والإستناد والإعتذار. ولا نحتاج إلى ملاحظة جهة الكشف فيها أبداً, لما عرفت من أنّ هذه الحجية مغفول عنها في القطع الذي هو أمّ الأمارات وأهمها فضلاً عن غيره. والقولُ بأنّ ذلك يتم في الأمارات التي يستند إليها ويعتذر بها، وفي الأصول العملية التي ليس فيها إلا العمل على طبقها فلا وجه لذلك؛ مردودٌ بأنّ المقصود الأصلي في الأمارت والأصول مطلقاً هو العمل؛ فلو لم يكن لها أثر عملي لما كان لاعتبارها وجه. فلا فرق بينهما من هذه الجهة، وإنما سميت بالأصول العملية في قبال الأصول اللفظية التي لها الدخل في العمل بالوساطة، لا في مقابل الأمارات بأن تكون الأصول العملية دخيلة في العمل خلافاً للأمارات فإنه فاسد قطعاً؛ بل إنّ جميع مباحث الأصول لا بُدَّ أن تكون لها ثمرة عملية، وبدونها لا معنى لها. وحينئذٍ نقول: إنّ الأمارات والأصول العملية والقواعد المعتبرة في حدّ أنفسها أمور معتبرة يصحّ الإستناد إليها لدى العقلاء، والشارع لم يردع عنها لأنّ جميع ذلك يقوم مقام القطع؛ إما في عرض إمكان تحصيل القطع، أو بعد تعذّر تحصيله، إذ المناط كلّه على صحة الإعتذار بها وجواز الإستناد إليها، وهو موجود في الجميع.

هذا كله بحسب أصل قيامها مقام القطع في الجملة، ولا ينافي ذلك تقدم بعضها على بعض في أنفسها كما سيأتي في محله من تقدّم الأمارات على الأصول مطلقاً، وتقدّم الأصول الموضوعية على الحكمية. وفي الأصول الحكمية يقدّم الإستصحاب على الجميع.

ص: 256

الجهة الرابعة: أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده

اشارة

الجهة الرابعة(1): أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده

وهذا هو القسم العاشر الذي ذكرناه في أقسام القطع سابقا، ولا ريب في إمكان أخذ القطع بشئ خارجي؛ كدخول الوقت أو مجئ الحاج في موضوع حكم شرعي كوجوب الصلاة أو وجوب الصدقة. وأما القطع بالحكم الذي يؤخذ في موضوع حكم أيضاً فإنه لا يخلو؛ إما أن يكون الحكمان متحدين، أو متماثلين، أو متضادين، أو متخالفين؛ فالصور أربع:

الصورة الأولى: ما إذا كان الحكمان متحدين

أي ما إذا أُخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه؛ فالمعروف إنه يستحيل ذلك. ولكن البحث تارةً؛ يقع في أخذ القطع بالحكم شرطاً في ثبوت شخص ذلك الحكم، وأخرى في أخذه مانعاً عن ثبوته، أي أخذ عدم العلم بالحكم في ثبوته.

فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأول: في أخذ العلم بالحكم شرطاً.

فقد ذهب المحققون من الأصوليين(2) إلى امتناعه لأنه يستلزم الدور إذ العلم بالحكم متأخر عن الحكم وهو متأخر عن الموضوع طبعاً، وكما أنه متقدم على الحكم كذلك إذا أخذ في موضوع نفسه يلزم تقدم الشئ على نفسه.

ص: 257


1- . من جهات مباحث القطع.
2- . لعلّ الأصل في دعوى الإستحالة هو العلّامة قدس سره ؛ فإنّه في بحوثه الكلاميّة في مقام الردّ على العامّة القائلين بالتصويب من أنّ التصويب محال؛ ذكر قدس سره ما حاصله: إنّ معنى ذلك أنّ الأحكام مخصوصة بمن يعلم بها، ومن لم يعلم بها لا يكون مخطئاً ولا يكون جاهلاً، لأنّ الجاهل هو أن يثبت له حكم وهو لا يدري، فإذا فرض أنّ الأحكام مختصة بالعالم، فالجاهل نسميه جاهلاً، وإلّا فهو بحسب الحقيقة لم يجهل ما هو ثابت في حق نفسه. = = وأشكل عليه العلّامة الحلّي قدس سره -[شرح تجريد الإعتقاد؛ ص254-255]- بأنّ هذا يلزم منه المحال، وهو أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه وهو دور، لأنّ الحكم إذا أخذ في موضوعه العلم به، يكون الحكم متوقف على العلم توقف الحكم على موضوعه، والعلم بالحكم في طول الحكم، فيتوقف العلم على معلومه، فيلزم التوقف من الجانبين، وهذا دور، إذن فالتصويب باطل. ثمّ إنّ المسألة دخلت علم الأصول تحت صياغة أنه هل يعقل أخذ العلم بالحكم في موضوع شخصه أو لا؟ وترتب على هذا ثمرات كثيرة كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

وأجيب عن هذا الإشكال بوجهين:

الوجه الأول: إنّ الدور المحال ما إذا تعدد المتوقف والمتوقف عليه وجوداً وحقيقة، والمقام ليس من ذلك؛ إذ التعدد فيه اعتباري محض كما هو كذلك بين كل علم ومعلوم، فإنه قد ثبت في محله اتحاد العقل والعاقل والمعقول وجوداً وبالأدلة القطعية، فراجع وتأمل.

الوجه الثاني: إنهما مختلفان جهةً؛ لأنّ متعلق القطع هو ذات الحكم وماهيته، لما ثبت في محله من تعلق العلم بالذوات والماهيات، قال الحكيم السبزواري(1):

للشئ غير الكون في الأعيانِ *** كونٌ بنفسه لدى الأذهان

وأما الحكم فهو بوجوده العيني الخارجي يتوقف على القطع به فيختلف المتوقف والمتوقف عليه فيتنفي الدور.

وبعبارة أخرى؛ إنه إذا أخذ القطع بالحكم في موضوعه بنحو يكون نفس القطع دون المقطوع به، أي المقطوع بما هو مضاف إلى المقطوع به بالذات فلامحذور، لأنّ الحكم الذي أخذ في موضوعه العلم به وإن كان موقوفاً على العلم، ولكن العلم به غير موقوف على الحكم بل يتوقف بناؤه ووجوده التكويني على المعلوم بالذات، وما يقوم العلم به هو

ص: 258


1- . المنظومة؛ 7 غرر في الوجود الذهني.

المعلوم بالذات القائم في نفس العالم لا المعلوم بالعرض المأخوذ في الخارج ببرهان تخلّفه عنه في موارد خطأ القطع وعدم إصابته للواقع.

وأما ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) من أنه إن أريد أخذ القطع بالحكم في موضوعه بنحو يكون كل من القطع والمقطوع به معاً مأخوذين في موضوع الحكم أي القطع بما هو مضاف إلى معلومه بالعرض فإنه واضح الإستحالة بل هو أشد من الدور لأنه مجرد فرض وتقدير فقط، لأنه بناءً على الوجه الأول من أنّ التعدد بين العلم والمعلوم والعالم إعتباري محض كما هو الثابت في اتحاد العقل والعاقل والمعقول وجوداً، فلا يمكن الإتحاد إلا بالفرض والتقدير وهو بعيد أيضاً.

وقد ذكر المحققون وجوهاً ثلاثة أخرى في وجه الإستحالة تعویضاً عن محذور الدور، وهي:

الوجه الأول: لزوم محذور الخلف؛ فإنّ القطع من خصائصه التكوينية هو الكشف عن الواقع وإراءته عنه، ولازم ذلك أنّ القاطع يرى أنّ المقطوع به شئ مفروغ عنه ثابت في الواقع بقطع النظر عن قطعه. ويترتب على ذلك استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه لأنَّه إنْ أريد أخذ القطع بحكم ثابت بلحاظ نفس هذا القطع فهذا خلف الخصوصية التكوينية المذكورة وان اريد اخذ القطع بحكم ثابت بقطع النظر عن القطع نفسه فهذا الحكم ليس شخص ذلك الحكم بل حكم آخر لان هنا الحكم المقطوع به الثابت في نظر القاطع بقطع النظر عن قطعه حكم مطلق والحكم الثابت بسبب القطع حكم مقيد والمطلق غير المقيد لا محالة, فيكون أخذ القطع بحكم في موضوع شخصه يستلزم الخلف في نظر القاطع، وهو مستحيل.

ص: 259


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص101.

وفيه: إنّ الفرض الأول غير صحيح لما عرفت من الإختلاف في الرتبة والتعدد الإعتباري؛ فإنه لا خلف لو أخذ القطع بحكم ثابت بلحاظ نفس هذا القطع. وأما الحكم المقطوع به الثابت في نظر القاطع بقطع النظر عن قطعه فهو الموضوع بحسب الذات والماهية كما عرفت.

الوجه الثاني: لزوم اللغوية؛ وذلك لأنّ شخص الحكم إنما يراد جعله للقاطع به بحسب الفرض، ففي المرتبة السابقة لا بُدَّ من فرض ثبوت القطع بالحكم لكي يحصل عليه، فإذا لم يكن القطع بالحكم حينئذٍ كافياً في محركية العبد نحو الإمتثال فلا يجدي جعل الحكم عليه في ذلك أيضاً.ويمكن الجواب عنه بما ذكرناه مكرراً من أنّ جعل الأحكام لم تقتصر الغاية فيه على المحركية فقط، فإنّ هناك أغراض أخرى متعددة منها؛ إتمام الحجة وتأكيدها، وبيان سبل كمال الإنسان وإرشاده إليه، وغير ذلك مِمّا تقدم ذكره مكرراً.

فإذا لم يتم أحدها في المقام؛ يتم الآخر، فلا إشكال في إثبات حكم آخر وهو شخص الحكم بعد ثبوت القطع بالحكم لأجل إتمام الحجية وبيان ما هو الكمال للإنسان وتأكيده. فما ذكره السيد الصدر في مناقشة ما ذكر من الجواب من أنّ تعدد الحكم يكون لأجل التأكيد غيرُ تام لما عرفت.

الوجه الثالث: إنه يلزم منه الدور في عالم وصول الحكم فتكون فعليته مستحيلة، وكلُّ جعل تستحيل فعليته يستحيل جعله. ووجه اللزوم هو أنّ الأحكام بمعنى المجعولات الفعلية التي هي محل الكلام في المقام, ووصولها إنما يكون بوصول موضوعاتها بعد فرض إحراز أصل الجعل. فالعلم المجعول تابع للعلم بموضوعه خارجاً، وحينئذٍ يكون العلمُ بالحكم مأخوذاً فيه مستحيلاً لأنّ القطع بالحكم يكون متوقفاً على القطع بموضوعه كما

ص: 260

عرفت، والمفروض أنّ موضوعه هو نفس هذا القطع، وهذا يعني أنّ القطع بالحكم يتوقف على القطع بالقطع بالحكم، وهذا دور لأنّ القطع بالقطع هو نفس القطع، لأنّ هذا هو قانون كل الصفات الوجدانية الحضورية؛ فإنها معلومة بنفس وجودها لا بصورة زائدة عنها, فيكون معناه هو: توقف القطع بالحكم على القطع بالحكم. وهذا هو الدور، وهو مستحيل.

وقد تبيّن الجواب عنه بأنّ الصفات النفسية لا تعدُّدَ فيها؛ فإنّ القطع بالقطع شئ واحد لا تعدد فيه. فما قلناه في الجواب عن الإشكال الأول يجري في المقام من اختلاف الرتبة أو التعدد في الجهة، ولا يزيد المقام عن ذلك الإشكال.

ومن جميع ذلك يظهر أنه لا وجه لاستحالة أخذ الحكم في موضوع شخص ذلك الحكم، وحينئذٍ لا نحتاج إلى التماس وجه خاص للخلاص من ذلك المحذور في الموارد التي ثبت فيها اختصاص الحكم بالعالم دون الجاهل؛ كوجوب القصر -مثلاً- أو وجوب الجهر والإخفات، فإنه لا إشكال في إمكان تخصيص الحكم بالعالم به في نفسه لو أراد المشرِّع ذلك، فإنه لا إشكال فيه عقلياً وعقلائياً ومتشرعياً وإن وقع الكلام بين الأعلام الذين لم يجوّزوا ذلك عقلاً كما عرفت في توجيه ذلك بذكر بعض التخريجات، وقد ذكروا لذلك وجوهاً:

الوجه الأول: أن يؤخذ العلم بالجعل في موضوع فعلية المجعول، ولا محذور فيه لأنّ الجعل غير المجعول على ما تقدم بيانه في بحوث الواجب المشروط, فيكون العلم بالجعل متوقفاً على الجعل وهو لا يتوقف على فعلية مجعوله، لأنه عبارة عن حقيقة ينشؤها الجاعل قبل أن يكون هناك موضوعٌ في الخارج كما هو واضح، والذي يتوقف على العلم بالحكم بهذا المعنى هو فعلية المجعول خارجاًعند تحقق الموضوع. ولا محذور في أن تكون فعلية

ص: 261

المجعول متوقفة على العلم بكبرى الجعل على حدّ توقفها على سائر الشروط والقيود كالبلوغ والقدرة مثلاً.

وقد أشكل على هذا الوجه، وهو غير تام، وسيأتي تفصيل الكلام فيه.

الوجه الثاني: أن يؤخذ العلم بالإبراز في موضوع الحكم المبرَز، والإبراز غير الحكم المبرَز، فلا محذور في أخذ العلم بالأول في موضوع الثاني؛ نظير ما إذا قال المولى (من سمع كلامي هذا يجب عليه الحج).

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من متمّم الجعل؛ حيث استحال تقييد الحكم بالعلم بالحكم, بل كذلك بعدم العلم به؛ فإنه يستحيل الإطلاق المقابل بكل منهما. وهذا يعني إهمال الجعل الأول إهمالاً مطلقاً فيضطر المولى إلى أن يتمّم الجعل الأول بجعل آخر ليتوصل إلى غرضه من الإطلاق والتقييد فيؤخذ العلم بالحكم الأول، ولا محذور فيه لتعدد الجعل، ولكنهما نابعين من ملاك واحد فلا محالة أنهما يكونان في قوة حكم واحد روحاً لا حكمين مختلفين، غاية الأمر يكون أحدهما مهملاً والثاني معيناً إطلاقاً أو تقييداً.

وقد أورد على هذا التوجيه بإيرادات متعددة تقدم بعضها في مباحث الأوامر ونذكر بعضها الآخر في المقام:

1- إنه لا داعي إلى جعل آخر بعد إمكان أخذ العلم بالحكم في نفسه كما عرفت آنفاً، بل هو غير صحيح.

2- إنّ استحالة التقييد في الجعل الأول توجب ضرورة الإطلاق لا استحالته؛ فإنّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب(2)، وحينئذٍ إذا استحال أحدهما وجب

ص: 262


1- . فوائد الأصول؛ ج3 ص11.
2- . أي: التناقض.

الآخر، وليس التقابل بينهما تقابل العدم والملكة كما يدعيّه المحقق النائيني قدس سره ، ولكن قد يشتمل على هذا الإطلاق بأنه مفروض على المولى فلا يكشف عن إطلاق حقيقي في الحكم بلحاظ غرضه وملاكه، فيكون حال هذا الإطلاق حال الأهمال كما عند الميرزا قدس سره .

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ الإطلاق بمعنى الإهمال يعني عدم الإطلاق والتقييد معاً الذي يرجع إلى ارتفاع النقيضين، وهو واضح الإستحالة فلا بُدَّ أن يكون الإطلاق حقيقياً لأن الأمر لا يخرج عن أحد الاطلاقين فإذا استحال أحدهما تعيّن الآخر.

3- إنّ الأهمال في الجعل الأول غير معقول لأنّ الأهمال إنما يعقل في مقام الإثبات وإبراز الحكم، لا في مقام الثبوت؛ فإنّ كل شئ في هذا المقام يكون متعيناً ومتحدداً بحده ويستحيل عدم تعينه في متن ثبوته ووجوده ذهناً أو خارجاً.وأورد عليه بأنه على فرض كون التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل الضدين، أو الملكة والعدم فلا يمكن إثبات استحالة الإهمال بالبيان المذكور، لأنّ الإهمال لا يعني اللاتعيين والوجود المردد، وإنما يعني عدم لحاظ الإطلاق وعدم لحاظ التقييد، أو عدم القابلية لذلك.

وبعبارة أخرى: لحاظ الطبيعة من حيث هي بلا لحاظ شئ آخر زائداً عليها لا لحاظها مرددة بين الإطلاق والتقييد، فأين هذا الإهمال من الإهمال في الوجود، فلا بُدَّ من إثبات استحالة الإهمال من نكتة أخرى.

فالحق؛ ما ذكرناه من إمكان أخذ العلم بالحكم في نفس الحكم ولا محذور فيه.

وهذه الوجوه تكون مؤيدة لما ذكرناه وإن كنا لا نحتاج إلى هذه الوجوه في تصحيح ذلك بعد وقوعه في الخارج، مع أنّ تلك الوجوه لا تخلو من نقض وإبرام.

هذا كله في المقام الأول.

ص: 263

المقام الثاني: في أخذ عدم العلم بالحكم في موضوعه

أي أخذ العلم به مانعاً عن الحكم؛ وهذا هو الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سره (1) في مقام توجيه كلمات المحدثين الذين يقولون بعدم حجية القطع الناشئ من الدليل العقلي بأنّ ذلك ليس من باب الردع عن الحجية الذاتية للقطع الطريقي، بل من باب أخذ عدم العلم المخصوص -وهو العلم الحاصل من مقدمات عقلية- في موضوع تلك الأحكام، فلا يكون هذا القطع طريقياً حتى يردع عنه.

وقد وقع الكلام في إمكان ذلك أو استحالته، والظاهر صحة ذلك أيضاً لما ذكرناه في المقام الأول من عدم تمامية محذور الدور لما عرفت، وعدم جريانه في المقام. ولكن أشكل عليه بوجه آخر؛ وهو لغوية جعل حكم مشروط بعدم العلم بجعله لما تقدم من أنّ الجعل إنما يكون لأجل التحريك نحو الإمتثال فإذا قُيّد الحكم بعد وصول الجعل كان لغواً, لكونه غير قابل للتحريك حينئذٍ لا للجاهل؛ للجهل به، ولا للعالم به لأنه على الفرض مقيّد بعدمه فلا يكون شاملاً له.

وأجيب عنه بأنّ هذا يلزم لو كان القيد المأخوذ هو عدم وصول الحكم بجميع مراتب الوصول، لا عدم الوصول المخصوص كما يدعيه الشيخ قدس سره في المقام؛ وهو الوصول العلمي العقلي، إذ يبقى أثر الجعل ومحركيته بغير الطريق المذكور.

ولكن الحق في الجواب ما عرفت مكرراً من أنّ الغرض من جعل الأحكام لم يكن منحصراً بالتحريك نحو الإمتثال؛ فإنّ هناك أغراضاً أخرى، منها؛ أن لا يكون الوصول عن الطريق المذكور وهو العلمي العقلي.

ص: 264


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص15.

هذا إذا أخذ عدم العلم بالجعل في موضوع فعلية المجعول. وأما إذا أخذ عدم العلم بالمجعول العقلي قيداً فلا محذور فيه؛ لا محذور الدور المتقدم في أخذ العلم لأنه لو كان أخذ العلم موقوفاً على المعلوم إلا أن عدم العلم لم يكن موقوفاً على ذلك. وكذلك لا يجري محذور اللغوية لما عرفت(1).

الصورة الثانية: ما إذا أخذ العلم بالحكم موضوعاً نحو حكم مماثل

كما إذا قال (إذا قطعت بحرمة الخمر حرمت عليك) أو يقول (مقطوع الخمرية حرام)، فقد قيل في وجه استحالته أنه في مورد اجتماع الحكمين؛ فإما أن يلتزم بتعددها، أو يتأكدهما، وكلاهما مستحيل فالمقدم مثله.

أما بطلان التعدد فلأنه من اجتماع المثلين؛ فإنّ الأحكام كالاعراض بلحاظ موضاعاتها، فيستحيل اجتماع فردين متماثلين منها عليه.

وأما بطلان التأكيد فيهما فلأجل أنّ الحكمين طوليان؛ فقد أخذ في موضوع أحدهما القطع بالآخر، ويستحيل توحّد الحكمين الطوليين وتأكدهما، لأنّ ذلك يعني وحدة وجودهما مع أنهما في رتبتين فيلزم تقدم المتأخر وتأخُّر المتقدم وهو محال، أو لأجل أنّ التأكد بحسب عالم الجعل والحكم لا يعني أن يندمج أحد الجعلين في الآخر تكويناً؛ فإنّ هذا غير معقول في نفسه لأنّ مادة اجتماع الحكمين تخرج عن كل من الجعلين، ويُجعل عليها جعل ثالث أكيد، ومادة الإجتماع في المثال هو الخمر الحرام المقطوع حرمته، ومن المستحيل إخراجهما عن الجعلين الأولين إذ يلزم منه تقييد جعل حرمة الخمر غير المقطوع حرمته وتقييد جعل حرمة مقطوع الحرمة بغير المصادف للواقع، وكلا هذين التقييدين محال كما هو واضح.

ص: 265


1- . هذا كله في الصورة الأولى.

والجواب عن ذلك هو: إنّ اجتماع المثلين كاجتماع الضدين يستحيلان في الصفات الحقيقية الخارجيةلا الأمور الإعتبارية، وأنّ الأحكام عليها.

هذا إذا كان الكلام بلحاظ الجعل.

وأما إذا كان بلحاظ الملاك ومبادئ الحكم من الحب والبغض والإرادة والكراهة؛ فإنّ المتعيّن هو الأخذ بالتأكيد والتوحيد ولا ينشأ محذور الطولية بين الحكمين لأنه لا تقدُّم ولا تأخُّر ولا طولية في الطبع ولا في العليّة؛ فإنّ الحكم الأول ليس علّة للحكم الثاني وإنما يكون التقدم والتأخر بالطبع، ولا محذور في توحدهما بالطبع كما هو الحال في الجزء والكل والجنس والنوع.

وبالجملة؛ إنّ الأحكام إن كانت نفس الإعتبار فهي من الإعتبارات العقلائية, كسائر اعتباراتهم التي يقوم عليها نظام معاشهم ومعادهم، فلا موضوع لاجتماع المثلين والضدين حتى يمتنع.وإن كانت الأحكام عبارة عن الملاكات ونفس الإرادة والكراهة فلا إشكال في إجتماع المثلين، وإن كانا من نوع واحد يكون من التأكيد والإشتداد، لا من اجتماع الضدين وإن كانا من نوعين لاختلاف موضوعها؛ لأنّ أحدهما قائم باعتقاد القاطع والآخر بنفس الحاكم فلا يكون الموضوع واحداً حتى يلزم المحذور. نعم؛ الموضوع الخارجي مورد إضافتهما بالعرض، وليس هذا مناط الإجتماع المحال.

وأما الإشكال العتيد من أنّ جعل حكم آخر من الشارع مثل ما قطع به المكلف يكون لغواً فيمتنع عليه من جهة قبح اللغوية على المولى؛ فالجواب عنه واضح من أنه لا لغوية فيه بعد ثبوت الغرض فيه بنحو آخر من التأكيد في الداعي وغيره كما عرفت, فلا محذور في أخذ العلم بالحكم في حكم مماثل له.

ص: 266

الصورة الثالثة: ما إذا اخذ العلم بالحكم من حكم مضاد

الصورة الثالثة: ما إذا اخذ العلم بالحكم من حكم مضاد له؛ كما إذا أخذ العلم بوجوب الصلاة في حرمة الخمر مثلاً، أو إذا قال (إذا قطعت بحرمة الخمر فهو حلال لك)، فقد قيل باستحالته لأنه يستلزم التضاد ونقض الغرض, فإنه يرجع إلى جعل حكم رادع عن طريقية القطع وكاشفيته، وهذا غير معقول؛ لا ظاهراً لعدم معقولية ملاكه، ولا واقعاً للزوم التضاد ونقض الغرض كما تقدم شرحه مفصلاً.

والجواب عنه يظهر مِمّا تقدم ذكره في الصورة الثالثة فإنّ التضاد غير حاصل لا في الأحكام ولا في الملاك.

الصورة الرابعة: ما إذا أخذ العلم بالحكم في حكم معاند ومخالف له؛

الصورة الرابعة: ما إذا أخذ العلم بالحكم في حكم معاند ومخالف له؛ كما إذا أخذ القطع بوجوب الصلاة في وجوب الصوم، فإنه لا إشكال في هذه الصورة ولا يستلزم منه أي محذور مِمّا ذكر في الصور الثلاث المزبورة كما هو واضح.

تنبيهان

التنبيه الأول: صرّح جمعٌ(1) بإمكان أخذ القطع بالحكم الإنشائي في موضوع آخر فعلي؛ شرطاً كان أو قيداً, لان إختلاف المرتبة یرفع الغائلة التي ذكرها من الدور.

وأورد عليه بأنّ الإنشاء إن كان بلا داعٍ فهو محالٌ على الشارع، وإن كان بداعٍ آخر من غير أن يصير فعلياً فلا يكون فعلياً عند تحقق الشرائط وهو خلف، وإن كان بداعي صيرورته فعلياً عند تحققها فيعود المحذور الذي تقدم ذكره في الدور ونحوه.

التنبيه الثاني: ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره وبعض المحققين من بعده كلاماً طويلاً في الظن وأقسامه ونسبتها مع أقسام القطع مع ذكر الفرق بينهما.

ولكن تلك الأقسام مجرد فروض وتصورات وليس لها تطبيق فقهي أو علمي إلا في موارد الأحكام الظاهرية التي سيأتي الحديث عنها مفصلاً.

ص: 267


1- . نقله في تهذيب الأصول؛ ج2 ص34.

الجهة الخامسة: الموافقة الإلتزامية وما يتعلق بها.

اشارة

الجهة الخامسة(1): الموافقة الإلتزامية وما يتعلق بها.

لاريب في وجوب الإلتزام بما جاء به النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم على الإجمال؛ لأنه عبارة أخرى عن الإعتقاد بالنبوة, كما لاريب في وجوب الإعتقاد بالمعارف الحقة كما سيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى.

والكلام في الموافقة الإلتزامية من جهتين:

أحداهما: من حيث وجوب الإلتزام بالتكاليف الفرعية بأن يكون في كل حكم شرعي حرام أو واجب تكليفان مستقلان لا ربط لأحدهما بالآخر.

أحدهما هو الإلتزام بالوجوب أو الحرمة قلباً، والآخر هو الإتيان بالوظيفة خارجاً. فيكون في البين موافقتان؛ إلتزامية وعملية، ومخالفتان كذلك مع صحة التفكيك بينهما, بأن يأتي به عملاً ولا يلتزم به قلباً, أو بالعكس. كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين حيث لا يمكن المخالفة العملية مع إمكانها التزاماً.

والأخرى: من حيث مانعيتها على تقدير القول بوجوبها عن جريان الأصول العملية في أطراف العلم الإجمالي.

وتظهر الثمرة فيما إذا لم يكن هناك مانع من ناحية الموافقة العملية؛ كما إذا كانت الأصول مثبتة والعلم الإجمالي ترخيصياً, أو كان من موارد الدوران بين المحذورين التي يستحيل فيها الموافقة أو المخالفة العملية القطعية وإنما تكون الموافقة الإحتمالية قهرية.

والمراد من الموافقة الإلتزامية هو التوجه النفساني الخاص المنتزع منه الخضوع والتسليم والإنقياد، وهو فعل إختياري نفساني ولكنه غير اليقين والقطع والإعتقاد ونحو ذلك، والتي تكون من مقولة الإنفعال لا الفعل.

ص: 268


1- . من جهات مباحث القطع.

وحينئذٍ يقال: إنّ الحكم الشرعي كما يستدعي فعلاً خارجياً من المكلف، فهل يستدعي فعلاً نفسياً وإلزاماً قلبياً؟.

المعروف بين الأصوليين عدم وجوب الموافقة الإلتزامية بهذا المعنى، وأنه ليس في البين إلا تكليف واحد متعلق بالجوارح والإتيان بالفعل المكلف به خارجاً، لا أن يكون هناك تكليفان يكون أحدهما متعلقاً بالجوانح فلا تجب الموافقة الإلتزامية ولا تحرم المخالفة الإلتزامية أيضاً.

وتحقيق الكلام في هاتين الجهتين أن يقال:

أما الجهة الأولى؛ فالمعروف عدم وجوب الموافقة الإلتزامية بهذا المعنى، فليس في البين إلا تكليف واحد متعلق بالجوارح، لا أن يكون هناك تكليفان بحيث يكون الآخر متعلقاً بالجوانح؛ فلا تجب الموافقة الإلتزامية ولا تحرم المخالفة الإلتزامية.

ويدل عليه الأصل بعد عدم الدليل عليهما من عقل أو نقل في هذا الأمر العام البلوى، ولم يكونا من شؤون ذات التكليف حتى تدل عليها أدلة التكاليف الأولية،إذ المناط فيها هو الإتيان بها خارجاً فقط، وليس الإلتزام -على فرض الوجوب- إلا طريقاً للإتيان بها.

نعم؛ لا ريب في حسنهما لأنهما نوع من الطاعة والإنقياد ومن دواعي الصلاح والفساد خصوصاً للعوام وأهل السواد.

وقد يستدل على وجوب الإلتزام بقاعدة الإشتغال.

وهو مردود بأنّ المقام من الشك في أصل التكليف، والمرجع فيه هو البراءة عقلاً ونقلاً. ومن المعلوم أنّ مورد قاعدة الإشتغال ما إذا كان الشك في الخروج عن العهدة بعد العلم بأصل التكليف، اللهم إلا أن يراد شرطية الموافقة الإلتزامية لصحة العمل الذي علم المكلف به، ولكنه باطل أيضاً لتطابق آراء المحققين على الرجوع إلى البراءة مع الشك في

ص: 269

الشرطية. ويمكن أن يكون مراد من قال بوجوبها ما تقدم من وجوب الإلتزام في الجملة وعلى نحو الإجمال بما جاء به النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، ولا ريب في وجوب ذلك عند الجميع، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

وأما الجهة الثانية؛ فالكلام يقع فيها في كيفية تصوير مانعية وجوب الموافقة الإلتزامية عن إجراء الأصول في أطراف العلم؛ فإنها تقرّب تارةً؛ على أساس أنه يؤدي إلى الإلتزام بالمتنافيين وهو محال باعتبار أن الإلتزام بالحكم المعلوم بالإجمال مع الحكم الظاهري المخالف في أطراف العلم يستحيل صدوره عن عاقل.

وردّ ذلك بأنّ المفروض أن متعلق أحد الإلتزامين حكم واقعي، ومتعلق الآخر حكم ظاهري فلا تنافي بين الجمع بينهما كما هو واضح.

وأخرى؛ بأنّ الإلتزام بالحكم الواقعي المعلوم وإن لم يكن التزاماً بالمنافي مع الحكم الظاهري المعلوم أيضاً لعدم المنافاة بينهما, ولكن نفس هذا الإلتزام متنافٍ مع الحكم العملي بالخلاف في تمام الأطراف، فالإلتزام الجدي بإباحة شئ لا يجتمع مع فرض جريان استصحاب حرمته ووجوب الإجتناب عنه عملاً.

وأجاب عنه السيد الخوئي قدس سره (1) بأنّ المنافاة إنما تتم لو كان الواجب هو الإلتزام التفصيلي في كل من الطرفين، وأما الإلتزام الإجمالي بإباحة أحد الإناءين فلا منافاة بين الإلتزام به وبين الحكم بحرمتهما عملاً وظاهراً، مضافاً إلى أنه لا منافاة أساساً بين الإلتزام بشئ وكون العمل الخارجي على خلاف ذلك؛ فإنّا لا نسلّم أنّ الإلتزام والبناء يقتضي موقفاً عملياً من الملتزم دائماً.

ص: 270


1- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص27-73.

وثالثة؛ بأنّ موضوع وجوب الإلتزام هو الحكم المعلوم وبإجراء الأصل في تمام الأطراف ينتفي ذلك الواقع المعلوم بالإجمال فينفي موضوع وجوب الإلتزامظاهراً إجمالاً أو تفصيلاً، مع أنه معلوم التحقق إجمالاً فيكون ترخيصاً من المخالفة من هذه الناحية، وهو على حد الترخيص في المخالفة العملية فإنّ الميزان في المنع عن جريان الأصول أن يؤدي إلى الترخيص في مخالفة التكليف الشرعي المعلوم بالإجمال سواء كان متعلقه فعلاً خارجياً أو فعلاً نفسياً.

وفيه: إن إجراء الأصل في تمام الأطراف لا ينفي الواقع مطلقاً, فإنّ اختلاف مورد كل واحد من وجوب الموافقة الإلتزامية وجريان الأصول العملية لو كانت جارية بنفسها فلا يكون أحدهما مانعاً عن الآخر؛ لأنّ مورد الإلتزام هو العقد القلبي والفعل النفساني، ومورد جريان الأصول العملية هو العمل خارجاً, ففي موارد جريان الأصول -الحكمية أو الموضوعية- يلتزم بالواقع على ما هو عليه ولا يمنع الإلتزامُ به جريانَ الأصل, كما لا يرفع بجريانه لزوم الإلتزام به. نعم؛ يمكن أن يقال بأنه على فرض وجوب الموافقة الإلتزامية إنما يكون في ما إذا لم يكن مؤمّن شرعي في البين، والأصل مؤمن, فينتفي به موضوع وجوب الموافقة حتى في مورد دوران الأمر بين المحذورين.

وإلا أن يقال بأنه لا وجه لجريان الأصول في موارد دوران الأمر بين المحذورين لأنّ العقل يستقل فيها بعدم الحرج في الفعل والترك, فليس في البين أثر عملي حتى يجري الأصل بالنسبة إليه.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ ذلك ليس مانعاً عن جريانه لو لم يكن مانع آخر في البين لما سيأتي من أنّ لزوم الأثر العملي من قبيل الحكمة لجريان الأصل لا العلّة التامة، فيجري الأصل وتثبت الإباحة الظاهرية ويلتزم بالواقع على ما هو عليه.

ص: 271

ويمكن أن نختصر المطاف ونقول بأنه يصحّ الإلتزام بالإباحة الثابتة بالأصل ولا تنافي حينئذٍ. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

ومن جميع ذلك يظهر أنه لا ثمرة في التفصيل الذي ذكره بعض الأعلام(1) من أنه على فرض وجود المانعية بالكيفية التي ذكروها فإنّ وجوب الموافقة الإلتزامية فيه إحتمالات كثيرة:

الإحتمال الأول: أن يكون الوجوب عقلياً في طول تنجز التكليف بأن يقال: إنّ العقل كما يحكم بلزوم الموافقة العملية للتكليف المنجز كذلك يحكم بوجوب الموافقة الإلتزامية والنفسية لما يتنجّز من التكاليف.

وعلى هذا التفسير يختص وجوب الموافقة الإلتزامية بالأحكام الإلتزامية لا الترخيصية؛ إذ لا تنجز لها، ولا الأحكام غير الواصلة لأنها ليست بمنجزة. والواصلة بعلم إجمالي دائر بين محذورين.وبناءً على هذا الإحتمال لا تعقل مانعية المخالفة الإلتزامية عن جريان الأصول لأنّ موضوع هذا الحكم هو التكليف المنجّز، والمفروض أن جريان الأصول يرفع المتنجز حقيقة فلا تكون هناك مخالفة.

الإحتمال الثاني: أن يكون وجوب الإلتزام عقلياً في عرض تنجّز التكليف من الناحية العملية، وذلك بأن يكون موضوعه نفس وصول التكليف لا تنجزه.

وبناءً على هذا الإحتمال لا مانع من جريان الأصول العملية من ناحية هذا الوجوب، لأنّ العلم الإجمالي ينجّز الجامع لا الواقع, وواضح أنّ المقدار الذي يتنجز بهذا العلم يكون بمقدار الجامع لأنه المقدار الواصل. وجريان الأصل حينئذٍ في الأطراف لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة الإلتزامية القطعية وإن كان يؤدي إلى الترخيص في المخالفة العملية.

ص: 272


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص114 وما بعدها.

والفرق بينهما واضح؛ لأنّ في الموافقة العملية وإن كان الواصل والمنجز بالعلم بمقدار الجامع أيضاً إلا أنّ إجراء الأصول في الأطراف يرخّص في ترك الطرفين خارجاً، والجامع الخارجي لا يوجد إلا في ضمن أحدهما، فيكون المكلف مرخصاً في ترك الجامع أيضاً. وهذا بخلاف الإلتزام فإنّ موضوعه الصور الذهنية وهي بمقدار ما وصل من التكليف يمكن الإلتزام بها لأنها مباينة مع الصورة الذهنية لكل من الفردين بعينه، فيمكن الإمتثال بمقدار الجامع مع ترك الإلتزام بالطرفين معاً.

الإحتمال الثالث: أن يكون وجوب الإلتزام وجوباً شرعياً مترتباً على واقع الحكم الشرعي الأولي سواءً كان معلوماً وواصلاً أم لا, فربما يتصور أنّ جريان الأصول في الأطراف يوجب نفي تلك الإباحة أو الحرمة الواقعية ظاهراً فيترتب عليه نفي أثرها وهو وجوب الإلتزام بها وهو ترخيص في المخالفة القطعية.

وقد عرفت أنه باطل لما يلي:

أولاً: كفاية الإلتزام بالحكم الظاهري الذي هو مؤدى الأصول وجريانها في الأطراف.

ثانياً: إنه قد يكون موضوع وجوب الإلتزام في الموارد التي لم يكن مؤمّن شرعي في البين، والحال أنّ الأصل مؤمّن فينتفي موضوع وجوب الموافقة الإلتزامية حتى في موارد دوران الأمر بين المحذورين.

ثالثاً: على فرض القول بوجوب الموافقة الإلتزامية فيكون من غير معقول بالنسبة إلى الحكم الواقعي الشرعي غير الواصل، لأنه إذا كان على نحو التفصيل يلزم منه التشريع إذا كان بمعنى الإلتزام بما لا يعلم كونه من الدين، ولكن إذا كان التشريع عبارة عن الإلتزام بما ليس من الدين واضحاً من دون دخل عدم العلم فيه كان المقام من موارد دوران الأمر بين المحذورين بلحاظ وجوب الإلتزام في كل من الطرفين.

ص: 273

وكيف كان؛ فإنّ التشريع إذا كان بمعنى الإلتزام بما لا يعلم كونه في الدين. وعليه لا بُدَّ من أخذ العلم بالحكم الشرعي في وجوب الإلتزام به شرعاً فيكون حال هذه الصورة حال السابقة من وجوب الإلتزام إلا بمقدار العلم.

ولكن إذا قلنا بكفاية الإلتزام بالواقع على إجماله فلا يلزم التشريع لأنّ موضوعه معلوم الثبوت، لأنّ كل واقعة لها حكم واقعي يستدعي وجوب الإلتزام الإجمالي به، وجريان الأصول في أي واقعة لا ينفي هذا الوجوب المتعلق بطبيعي الحكم المعلوم بالإجمال الثابت في كل واقعة.

الإحتمال الرابع: أن يكون وجوب الموافقة الإلتزامية وجوباً عقلياً موضوعه مطلق الحكم الشرعي ولو لم يصل كما في الإحتمال الثالث، فإنه يرد عليه ما أورد على سابقه.

ومن جميع ذلك يظهر أنه لا دليل على وجوب الموافقة الإلتزامية, وما ذكر من الإحتمالات غير تامة بعدما عرفت من إمكان توجيه الموافقة الإلتزامية على الوجه الذي ذكرناه.

تنبيهان

التنبيه الأول: لا ريب في أنه إذا كان المراد من الموافقة الإلتزامية هو التسليم والإنقياد لها والخضوع لشريعة الإسلام على نحو العموم والإجمال؛ فهذا من ضمن عقيدة المؤمن وهو من شؤون الإيمان فيكون وجوبه من وجوب الإيمان، ولا دخل بالمقام إذ لا بُدَّ للمسلم أن يتعبد بأنّ كل ما جاء به النبي صلی الله علیه و آله و سلم وإنما هو من قبل الله تعالى وإلا لم يكن مسلماً ومصدقاً بنبوته صلی الله علیه و آله و سلم .

التنبيه الثاني: إنه على فرض وجوب الموافقة الإلتزامية وحرمة مخالفتها فلا إشكال في تحقق طاعتين أو مخالفتين في كل حكم شرعي، وحينئذٍ لا إشكال في استحقاق العقاب على المخالفة إذ لا معنى للحرمة إلا ذلك, ولكن هل يصير العقاب فعلياً مع الموافقة العملية

ص: 274

وجهان؛ يحتمل الأول لأنه وفق القاعدة، لأنه ترك واجباً شرعياً وخالف حكماً إلهياً. ويمكن ترجيح الثاني لأنه بناءً على كون وجوب الموافقة الإلتزامية نفسيٌ طريقي لا موضوعية فيه. نعم؛ لو قلنا بالموضوعية فإنّ الأول يكون هو الأولى لو لم نقل بالسقوط من باب (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(1).

وأما لو تركهما معاً فمقتضى تعدد السبب تعدد العقاب أيضاً إلا إذا قلنا بالطريقية المحضة فإنّ العقاب واحد.وأما لو أتى بهما معاً فإنّ مقتضى سعة رحمة الله تعالى عظيم وفضله هو تعدد الثواب بناءً على ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية أيضاً, كما يظهر من بعض الآيات مثل قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ )(2).

وقوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا)(3).

والروايات التي وردت في مواضع متفرقة.

هذا بناءً على المشهور من أنّ الثواب يدور مدار قصد القربة.

وأما بناءً على أنه أعم من ذلك كما يظهر من بعض الأخبار فيمكن ترتب الثواب على الأعمال الجوانحية ولو لم يقصد القربة.

ولو ترك العمل واقتصر على الموافقة الإلتزامية فالظاهر ترتّب الثواب بالنسبة إليها في الجملة، ولكن لا يخفى إنه كما أنّ الثواب في الموافقة العملية يدور مدار كون العمل قريباً أو قصد القربة بالعمل فلا بُدَّ أن يكون كذلك في الموافقة الإلتزامية، وإن لم يكن كذلك بالنسبة إلى الموافقة الإلتزامية أيضاً.

ص: 275


1- . سورة هود؛ الآية 114.
2- . سورة البقرة؛ الآية 284.
3- . سورة القصص؛ الآية 83.

الجهة السادسة: حجة الدليل العقلي

اشارة

قد عرفت حجية القطع في حدّ نفسه، ولا إشكال من أحد في أنّ القطع المأخوذ في الموضوع تابع لمقدار دلالة الدليل فيه مطلقاً؛ تعميماً وتخصيصاً بالنسبة إلى الأسباب الحاصل منها وبالنسبة الى الأشخاص الحاصل لهم القطع، وبالنسبة إلى الموارد التي يحصل فيها القطع والمراتب الحاصلة، فإنّ جميع ذلك مِمّا يناله الجعل من كل جهة وهذا مِمّا إتفق عليه الأصحاب أيضاً كغير القطع من الحجج المجعولة العقلائية أو الشرعية تأسيساً أو إمضاءاً، فإنه لا ريب ولا خلاف في أنه مِمّا يصحّ فيها التعميم من كل جهة أو التخصيص ببعض الأسباب وبعض الأشخاص وبعض المراتب دون البعض، وهذا مِمّا لا خلاف فيه أيضاً.

وإنما الكلام في القطع الطريقي المحض فقد وقع البحث في خصوص القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة، أي الحاصل من الأدلة العقلية؛ فقد ذهب الإخباريون(1) إلى عدم حجية القطع فيها، بينما ذهب أكثر الأصوليين لا سيما المتأخرين فيها إلى الحجية واعتبروا أنّ الحجية من اللوازم الذاتية للقطع من غير فرق بين أسبابه وموارده ومن يتحقق منه. وقبل تحرير النزاع لا بُدَّ من تقديم أمور:

الأمر الأول: إنّ هذا البحث مما اختص به الإمامية ولا يشمل الدليل العقلي الظني كالقياس والإستحسان والمصالح المرسلة ونحو ذلك مِمّا بنى عليه العامة حجيتها.وقد أجمعت الإمامية تبعاً للأئمة الهداة علیهم السلام على عدم حجيتها وحرمة العمل بها، فلا يجوز التعويل عليها مطلقاً, فما هو مورد البحث عند الإمامية هو مشروعية استنباط الأحكام

ص: 276


1- . المحدث الأمين الأسترآبادي في الفوائد المدنية؛ ص129.

الشرعية عن الأدلة العقلية القطعية؛ فقد ذهب المشهور إلى صحة ذلك ولكن ذهب الإخباريون إلى عدم حجيتها.

والكلام في المقام في هذا، لا في الأول فإنّ موضع الأول هو الفقه. وسيأتي في بحث حجية الظن الكلام فيه أيضاً، وقد أطال الشيخ الأنصاري قدس سره (1) الكلام في نقل كلمات المحدثين ومناقشتها.

الأمر الثاني: المراد بالحكم العقلي ليس حكم القوة العاقلة بالمعنى الفلسفي، بل المراد به الحكم الذي يصدره العقل على نحو الجزم واليقين من دون أن يكون مستنداً إلى الكتاب أوالسنة الذي يذهب إليه الجمهور كثيراً الذين أسسوا في ذلك أصلاً وهو الإعتماد على الرأي, كما أنّ الحكم العقلي إذا كان من مبادئ التصديق بالكتاب والسنة، فإنه لا إشكال في حجيته عند الجميع، فلا ريب في أنّ حجية الكتاب والسنة لا بُدَّ أن تنتهي إلى استدلال عقلي وقناعة عقلية، كما أنه لا إشكال في حجية الحكم العقلي الذي يقع في طول الكتاب والسنة وفي مرحلة معلولات الأحكام الشرعية كما عبّر به المحقق النائيني قدس سره (2)؛ كحكم العقل بوجوب الإمتثال وإطاعة الحكم وقبح معصيته، فيختص النزاع بالأحكام العقلية التي يراد بها استنباط حكم شرعي منها في عرض الكتاب والسنة.

الأمر الثالث: لا ريب أنّ الأحكام العقلية على قسمين: أحكام نظرية، وأحكام عملية تبعاً للمقولة المعروفة في كتب الفلسفة والأخلاق من أنّ العقل النظري هو إدراك لما هو واقع. والعقل العملي إدراك لما ينبغي أن يقع.

ص: 277


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص15 وما بعدها.
2- . أجود التقريرات؛ ج3 ص354-355، وفوائد الأصول؛ ج3 ص398-399.

ولكي لا نقع في إشكالات التعميم والتخصيص في التعريف فالأولى تعريفهما بأنّ العقل النظري إدراك لما ينبغي أن يُعلم. والعقل العملي إدراك لما ينبغي أن يُعمل(1).

وكيف كان؛ فإذا أُريد التماس دليل عقلي على الحكم الشرعي فإنّ مدركه تارةً؛ يكون العقل النظري، وأخرى يكون مدركه العقل العملي؛

والأول (وهو العقل النظري) يتحقق في موردين:

أحدهما: باب الإستلزامات الواقعية التي يدرك العقل ثبوتها في الأحكام كما يدركها في التكوينات. كما في باب الإمكان والوجوب والإستحالة، فيحكمباستحالة اجتماع الأمر والنهي، أو إمكان الخطاب الترتبي، أو الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته، أو حرمة ضده.

والآخر: باب العلّية والمعلولية؛ بمعنى إدراك ما هو علّة الحكم وملاكه التام، فيستكشف على نحو اللّم ثبوت الحكم الشرعي في مورد إدراك العقل للملاك والعلّة.

أما المورد الأول؛ فإنّ الإستلزامات أحكام نظرية عقلية تكفي في حكم شرعي كما في مورد اجتماع الحكمين المتضادين، فإنه يكفي في انتفاء شئ كثبوت استحالته.

وأما لإثبات حكم شرعي فإنها لا تكفي في ذلك وحدها، بل لا بُدَّ من ضمّ ضميمة إليها، فإنّ مجرد إمكان شئ أو استحالة ضده أو ثبوت الملازمة بينه وبين شئ آخر لا يوجب ثبوت حكم ولا يكون دليلاً عليه. وهو صحيح لا إشكال فيه كما هو معلوم. وقد تقدم ما يتعلق بذلك في مباحث الملازمات.

ص: 278


1- . قال المحقق الإصفهاني: (إنّ تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدركات من حيث إنّ المدرك مِمّا ينبغي أن يُعلم، أو مِمّا ينبغي أن يؤتى به أو لا يؤتى به). [نهاية الدراية ج3 ص333].

وأما المورد الثاني؛ فهو على خلاف الأول إذ أنّ حكم العقل وإدراكه للملاك قد يوجب استقلاله في إثبات الحكم الشرعي.

ويظهر من جميع ذلك أنّ أحكام العقل النظري قد تستقل في إثبات حكم شرعي وقد توجب انتفاءه كما عرفت.

والثاني (وهو العقل العملي) فالظاهر أنه لوحده لا يكفي في إثبات حكم شرعي ما لم يضّم إليه ضميمة أخرى من حكم عقلي نظري آخر سواءً كان هذا الحكم العملي منطبقاً على فعل العبد؛ كحكم العقل بقبح الكذب مثلاً، فإنه بحاجة إلى ضمّ حكم العقل النظري المعروف وهو الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع؛ أم كان متعلقاً بفعل المولى كحكمه بقبح تكليف العاجز مثلاً، فإنه لا يستنبط منه حكم شرعي إلا بضمّ حكمه النظري باستحالة صدور القبيح من المولى.

هذا ما يتعلق بحكم الدليل العقلي في كل واحد من القسمين النظري والعملي. وبعد إتضاح موضوع هذا البحث فالكلام يقع في حجية الدليل العقلي وعدمها ضمن مباحث:

المبحث الأول: في صور العلم

وهي التي يمكن تصويرها في الإستدلال على أنّ جعل الحكم إنما يكون على نحو لا يشمل العالم به بالدليل العقلي وهي:

أولاً: أن يؤخذ العلم بالجعل الحاصل من الدليل السمعي في موضوع المجعول. وقد اختلفوا في إمكان ذلك كما عرفت، ولكن الصحيح ثبوته كما تقدم في أحد مباحثنا السابقة. وهذا التقييد إنما يقتضي انتفاء الحكم في حق الجاهل به، وهذا التوجيه يكون أكثر مِمّا يريده المنكر لحجية الدليل العقلي.

ثانياً: أن يؤخذ عدم العلم الحاصل من الدليل العقلي بالجعل في موضوع المجعول.

ص: 279

وهو وإن كان يفي بمقدار المقصود إلا أنه لا بُدَّ أن يقيَّد بعدم العلم من الدليل العقلي وحده وإلا لزم عدم الحكم في مورد قيام الدليلين العقلي والنقلي مع أنه لا إشكال في ثبوت الحكم فيه.

ثالثاً: أن يؤخذ عدم العلم الخاص بالمجعول في موضوعه. وقد تقدم الكلام في إمكانه في بحث التوصلي والتعبدي.

رابعاً: أن يقيد الحكم بالقيد المذكور في الوجوه السابقة، ولكن بنتيجة التقييد وبجعلين مستقلين لا بجعل واحد كما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره (1).

خامساً: أن يؤخذ العلم الشرعي الناشئ من الدليل الشرعي قيداً في متعلق الحكم لا في موضوعه، كما في وجوب الصوم المتعلق بالصوم مع قصد أمره الذي حصل العلم به من الدليل النقلي لا العقلي، فيقصد القربة بخصوص الحصة التي تنشأ من العلم الحاصل من هذا الدليل. وهو الذي ذكره المحقق العراقي قدس سره (2).

ويمتاز هذا الوجه عما سبقه من الوجوه أنّ الوجوب فعلي في حق من قطع بالدليل العقلي وكان بإمكانه تحصيل العلم بالدليل النقلي إلا أنّ عمله لا يكون صحيحاً ولا يعدّ امتثالاً. ولكن هذا الوجه يختص بخصوص العبادات دون الواجبات التوصلية، فضلاً عن الأحكام الترخيصية.

وأورد عليه بأنّ قصد الأمر والإمتثال لا يتوقف على العلم بالحكم حتى يمكن تخصيصه بحصة خاصة، بل يمكن قصد الأمر رجاءً أيضاً، ومعه لا يكون العلم أو منشؤه مخصصاً لقصد الأمر.

ص: 280


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص40.
2- . نهاية الأفكار؛ ج3 ص43-44.

ويمكن الجواب عنه بأنّ مفروض كلام المحقق العراقي قدس سره فيما إذا قصد الأمر والإمتثال بالحصة المذكورة بحسب الدليل لا مجرد إتيان الحكم الشرعي بقصد الأمر رجاءً؛ فإنه لا إشكال فيه. والإشكال الذي يوجه على المحقق المزبور بأنه لا دليل على مثل هذا التقييد فإنه مجرد فرض وتقدير.

وقد أشكل على المزبورة بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره (1) على تلك الوجوه بأنَّ التقييد المذكور حاصل في حق من قام عنده الدليل العقلي أيضاً، لأنّ القاطع بالحكم يقطع لا محالة بأنّ الشارع قد شرّع هذا الحكم وبيَّنه وبلّغه بدليل نقلي.

وأورد عليه بأنه مبني على العلم بتبليغ الحجج لا الوصول من قبل الحجج كما هو ظاهر بعض الأخبار(2) التي استند إليها في المقام، لأنّ الوارد فيها (بدلالته إليه) فإنّ ظاهر الدلالة الوصول.الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (3) من أن الوصول أو التبليغ متحقق لأنّ العقل أيضاً رسول وإن كان باطناً، وهو حجة على العباد.

وفيه: إنّ الكلام ليس في مدلول الحجة العقلي أو اللغوي حتى يقال بأنها تطلق على العقل، بل الكلام في الحجة بمعنى الإمام المعصوم الذي ورد في الروايات التي استدل بها الشيخ قدس سره في المقام.

ص: 281


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص19-20.
2- . مثل ما ورد عن أبي جعفر الباقر علیه السلام : (أَمَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَامَ لَيْلَهُ وصَامَ نَهَارَهُ وتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وحَجَّ جَمِيعَ دَهْرِهِ ولَمْ يَعْرِفْ وَلَايَةَ وَلِيِّ اللَّهِ فَيُوَالِيَهُ ويَكُونَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ بِدَلَالَتِهِ إِلَيْهِ؛ مَا كَانَ لَهُ عَلَى اللهِ جَلَّ وعَزَّ حَقٌّ فِي ثَوَابِهِ ولَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَان). [الکافي (ط. الإسلامية)؛ ج2 ص19 ح5].
3- . فوائد الأصول؛ ج3 ص62.

الوجه الثالث: ما ذكر السيد الصدر قدس سره (1) من أن التقييد غير تام؛ لا ثبوتاً ولا إثباتاً:

أما إثباتاً؛ فلأنّ مقتضى إطلاقات أدلة الأحكام عدم تقييدها بشئ مِمّا ذكره في الصور المتقدمة، وما ذكره الشيخ قدس سره من الروايات في كتابه غير تامة في الدلالة على إثبات مثل تلك التغييرات فهي أجنبية عن محل الكلام وتظهر لمن راجعها بوضوح ولا حاجة إلى ذكر كل واحد منها والتعليق عليها.

وأما ثبوتاً؛ فقد يورد عليه:

1- إنه بناءً على ما ذكروه يرجع النزاع بين الإخباري والأصولي إلى مثل النزاع بين فقيهين أحدهما يقول بجزئية شئ أو شرطيته، والآخر ينفيه فلا يثبت تقصير لا في النتائج ولا في المقدمات. فالإخباري يقول بعدم ثبوت حكم يكون دليله حكماً عقلياً، والأصولي يقول بثبوته.

وفيه: إنه فرق بين النزاعين؛ فإنّ نزاع الفقهاء إنما يكون بعد اعتراف كل واحد من الطرفين باعتبار المستند عند كل واحد منهما، ولكن الإستفادة منها تكون خطأً، بينما النزاع بين الأصولي والإخباري يرجع إلى تخطئة المستند والدليل، لا مجرد تخطئة الإستفادة والإستناد.

2- إنّ فرض تقييد الجعل وتضييقه بعدم العلم العقلي إنما يجدى في التخطئة في الأحكام التي يجعلها الشارع ابتداءً، لا الحكم الشرعي المستكشف بالدليل العقلي فإنه لا ريب في كاشفية الدليل العقلي، فلا يُعقل ضيق الجعل فانه خلف.

وفيه: إنه خروج عن محور النزاع؛ فإنّ الإخباري لا ينازع الأصولي في تلك الأحكام العقلية التي يستكشف منها الحكم الشرعي، فلو كان نزاع بينهما فإنه يكون لفظياً إذ الإخباري يقول بأنّ المناط هو الحكم الشرعي، والأصولي يرى أنه منكشف، فلا نزاع في الواقع.

ص: 282


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص122 وما بعدها.

1- إنّ الدليل العقلي قد يكون برهاناً على الحكم لا على ثبوته، كما لو حصل يقين بعدم الخطاب الترتبي لاستحالته مثلاً. ولا يعقل جعل إلزام مشروط يقطع المكلف بعدم الإلزام.

ويرد عليه بأنه خروج عن مورد البحث فيما إذا كان هناك حكم عقلي في المورد، لا عدم الحكم فيه، فإنه لا معنى حينئذٍ لجعل إلزام مشروط بقطع المكلف بعدم الإلزام فإنّ كلا طرفي النزاع الإخباري والأصولي لا يتنازعان في أن الإلزام متحقق مطلقاً من دون شرط على أنّ عدم الإلزام إن كان اسناده إلى الشرع كان حكماً كالأحكام الثبوتية.

والحق أنه لا حاجة للرجوع إلى تلك الصور المذكورة أو بعضها سواءً كانت تامة ثبوتاً وإثباتاً أم لا، فإنه يمكن القول بصحة الرجوع إلى الحكم العقلي المقطوع به وحجيته بوجه حسن مقبول؛ أما اختيار أنّ العقل إذا حكم بشئ وقطع به فإنه يستكشف منه حكم شرعي كما دلت عليه الأخبار، أو من باب أنّ الكتاب والسنة أمرنا باتباع العقل، ولا أقل العقل الفطري البعيد عن شوائب الأوهام، فيكون الرجوع إلى العقل رجوع إلى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، فيرضى به الشارع بحكم أمره المذكور كما أمرنا بالقرعة في تعيين الحق والحكم الشرعي بتعيين موضوعه، فإنه في الواقع رجوع إلى الشرع وعمل بما أمره الشارع. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

المبحث الثاني: في الأدلة على عدم حجية الدليل العقلي
اشارة

وقد استدل لذلك بأدلة عديدة نذكر منها:

الدليل الأول: عدم حصول القطع من الأدلة العقلية لعدم إحاطة العقول بالواقعيات.

ويرد عليه: إنه خلاف الوجدان إن أريد به السلب الكلي، وأنه من مجرد الدعوى إن أريد به كون الخطأ فيها أكثر مِمّا يحصل من غيرها؛ إذ لا شاهد على هذه الدعوى.

ص: 283

الدليل الثاني: عدم اعتباره لو فرض حصول القطع بالحكم منها لعدم وصول دليل من الشرع على تقريره، وكثرة مخالفته للواقعيات.

وفيه:

1- إنه خلاف الطريقة العقلائية من اتباع القطع مطلقاً، مع قطع النظر إلى منشأ حصوله.

2- إنه ورد في الأخبار ما يدل على اعتبار العقل وحجيته من أنه رسول باطني(1), وهو يكفي في التقرير كما سيأتي.

3- إنه لم يرد ردع من الشارع مثل ما ورد الردع عن العمل بالقياس والإستحسان مع ما عرفت أنهما خارجان عن مورد البحث، لكن لا يستفاد منهما لكون الردع الكلي بالنسبة إلى غيرهما.

نعم؛ ورد حصر أخذ الأحكام عن المعصومين علیهم السلام ، وهو أعم من التأسيسيات والإمضائيات، مع أنّ الأخيرة إنما تكون بحكم العقل واستكشاف الشرع لها. وحينئذٍ فإن مع عدم ورود الردع بالخصوص يستكشف الإمضاء في مثل هذا الأمر العام البلوى بين العقلاء.

الدليل الثالث: إنّ الدليل العقلي قاصر بلحاظ كاشفيته؛ فإنه لا يصلح لأن يكون يقيناً بالحكم الشرعي.

وقيل: إنّ هذا هو المناسب للنسبة إلى كلمات الإخباريين لا سيما المحدث الأسترآبادي قدس سره (2) الذي يعدّ من المتعصبين الأشداء في هذه الطريقة.

وأجاب عنه السيد الصدر قدس سره (3) بأنّ المدركات على قسمين: أحدهما؛ ما يرجع إلى العقل النظري، والآخر؛ ما يرجع إلى العقل العملي.

ص: 284


1- . عن أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام : (إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ؛ حُجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً؛ فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والْأَنْبِيَاءُ والْأَئِمَّةُ علیهم السلام , وأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُول). [الکافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص16].
2- . الفوائد المدنية؛ ص220.
3- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص125 وما بعدها.

والكلام يقع في مقامين لكل واحد من مدركات العقلين:

المقام الأول: مدركات العقل النظري

إنّ اليقين في هذه المدركات يكون على معنيين:

1- المعنى الأصولي؛ أي الجزم والإنكشاف التام الذي يفقد فيه الشك والتردد

2- اليقين بالمعنى المنطقي في كتاب البرهان؛ وهو الجزم المضمون حقانيته المقابل للواقع.

والمحدثون تارةً؛ يريدون المعنى الأول في الأدلة العقلية فينكرونه، وأخرى؛ ينكرون المعنى الثاني وهو المعنى المنطقي. فإذا كان مقصودهم هو المعنى الأصولي بأن يقال: إنّ الأدلة العقلية لا تكون حجة لأنّ موضوع الحجة هو اليقين الشخصي سواءً كان برهاناً أم لا؛ فإذا لم يكن ثمة يقين فلا حجة.

وعليه؛ إذا تمت الصغرى تتم الكبرى أيضاً.

ولكن ينقض عليه بأمرين:

الأول: إنه إذا تعطّل الدليل العقلي لإيجاد اليقين حتى الأصولي منه وانحصر مصدره بالدليل الشرعي فإنه كيف يمكن إثبات أصل وجود الشارع والشرع، وتلك الأدلة العقلية التي تثبت بها أصول الدين؟.

الثاني: النقض بتلك الإستدلالات التي يمارسها المحدثون بأجمعهم -حتى المحدث الأسترآبادي- في الفقه بأنّ جملة منها اعتمد أيضاً على أدلة وبراهين يكثر فيها الخطأ كغيرها من الإستدلالات العقلية.وكِلا هذين النقضيين غير وارد على المحدثين لإنهم لم يكونوا ينكرون كاشفية الدليل العقلي مطلقاً، بل خصوص الأدلة العقلية النظرية القبلية؛ أي قبل التجربة والحس.

وبقطع النظر عنه فقيل هذا العقل لا يحتاج إليه لا في إثبات أصول الدين ولا في الإستدلالات الفقهية.

ص: 285

أما أولاً؛ فلإنّ قضايا أصول الدين والعقيدة إنما تثبت كثبوت القضايا العرفية والتجريبية في الوضوح والحقانية باعتبار امتلاكها رصيداً حسّياً واستقرائياً على حدّ سائر القضايا الإستقرائية التجريبية، وإن كان يمكن الإستدلال عليها بالأدلة العقلية النظرية أيضاً.

وأما ثانياً؛ فلأنّ الإستدلالات الفقهية لا تعتمد غالباً إلا على قضايا الظهور والدلالة والتوفيق بينهما وبين السند ونحو ذلك، وهي كلها قضايا عرفية وليست نظرية برهانية. نعم؛ لا إشكال في أنّ نسبة الخطأ فيها لا تبلغ نسبته في النظريات العقلية.

ولكن يمكن الإشكال على كِلا الوجهين بأنّ المحدثين لم ينكروا جميع أقسام الأدلة العقلية لا سيما تلك التي تثبت بها أصول الدين؛ فإنها مبنية على أساس متين من حيث الوضوح والمتانة سواءً كانت تجريبية أم حسية أم فطرية ونحوها، فما هي غير قابلة للإنكار والتي اتفقت عليها آراء العقلاء كافة ولا تختص بالتجريبيات والحسيات -كما يدعيها السيد الصدر قدس سره - فإنها أيضاً قابلة للخطأ، ومن أجل ذلك خرجت تلك عن دائرة النزاع.

وأما المناقشات التي تدور في الفقه فهي كلها مبنية على الظهورات والدلالات العرفية التي تكون قابلة للمناقشة والنقض والإبرام، فهي خارجة عن مورد البحث أيضاً.

ثم ان السيد الصدر قدس سره ذكر بان هناك تقريبين لتبرير مدعى المحدث الأسترآبادي في نفي كاشفية الدليل العقلي وعدم صلاحيته لتكوين اليقين بالحكم الشرعي؛

التقريب الأول: إننا بعد العلم بوقوع الخطأ في كثير من القضايا البرهانية العقلية فسوف تتشكل نسبة معينة من القضايا التي يتطرق فيها الخطأ عن القضايا التي لا يتطرق فيها الإحتمال كقضايا الرياضيات التي هي مسلّمة عند الجميع لا سيما المحدثين، وعلى ضوء تلك النسبة يمكن تحديد قيمة احتمال صحة كل قضية من تلك القضايا وهي نسبة المقدار المعلوم خطؤها من تلك القضايا إلى مجموعها، وهو معنى زوال اليقين بها.

ص: 286

وأشكل عليه بأنّ هذه الطريقة تصحّ لتقييم ما يمارسه الغير من الإستدلال، وأما الإستدلالات التي يمارسها المستدل نفسه فلا تفيد معرفة النسبة المعلومة منالخطأ في مجموع القضايا البرهانية وغير البرهانية، والوجه في ذلك هو أنّ الذي یعیش القضية البرهانية والدليل العقلي الذي يكون مدركه اليقين العقلي إنما هو وجدانه العقلي فإنه يرى بداهة تلك المواد والقضايا الذي يتضمنها الدليل العقلي أو انتهائها إلى البديهي، ويرى صحة الإستنتاج منها فيكون هذا الوجدان الحسّي أمارة كاشفة تورث اليقين.

ويرد عليه أيضاً بإنّ تعيين النسبة المذكورة لا بُدَّ أن يستند إلى برهان عقلي، وهو يحتمل الصحة والخطأ؛ فإنها تعتمد على تمييز القضايا التي يتطرق فيها احتمال الخطأ عن تلك التي لا يتطرق فيها ذلك الإحتمال، وليست كل القضايا على وتيرة واحدة فإنّ قضايا الرياضيات التي اعتبرها مسلّمة عند الجميع حتى المحدثين فإنها ترجع إلى الحسيات أو التجريبيات، وهي كما ترى تقبل الإحتمالين وإن كانت النسب فيها قليلة. وعليه، فلا بُدَّ من الإلتزام بعدم الجزم واليقين بالمعارف الحسية نتيجة تحكيم هذه النسبة الرياضية، وهذا خلف المقصود عند الجميع من إنكار المعرفة رأساً ويرجع إلى ما ذكره المنكرون لكل معرفة.

التقريب الثاني: إنه بعد العلم بوقوع الخطأ في القضايا العقلية كثيراً فلا ينبغي أن يحصل للإنسان اليقين والجزم من أدلتها.

وأورد عليه: تارةً؛ بالنقض بأنّ هذه الدعوى لو كانت كلية لشملت نفس هذه الدعوى، فإنّ نفس هذه القضية لا بُدَّ إما أن تستند إلى قضية أخرى كأن تكون رياضية، فيرجع هذا التقريب إلى التقريب السابق، أو إلى قضية عقلية فتكون بنفسها محكومة بحكم القضايا العقلية الأخرى. وإن كان المقصود من هذه القضية أنّ الإخباري لا يحصل له اليقين بعد أن علم بالخطأ كثيراً من الدليل العقلي، ولكن هذا معناه أنه شاكّ ولا يقين له، وليس دليلاً

ص: 287

على عدم حصول اليقين موضوعياً ومنطقياً للآخرين الذين قد حصل لهم منشأ لليقين ويظهر القضية شخصية لا قضية كلية.

وأخرى؛ بالحلّ بأنّ عدم حصول اليقين بقضية للعلم بخطأ قضية أخرى إنما يكون في إحدى حالات ثلاث:

1- أن يكون بين القضيتين تلازم موضوعي، فإذا ثبت بطلان اللازم ثبت بطلان الملزوم لأنه مِمّا يستلزم الباطل، وهذا استلزام موضوعي منطقي بين اليقينين والمعتقدين يسري من أحدها إلى الآخر.

ولا ريب أنّ هذه الحالة خارجة عن مورد كلام الأصوليين واستدلالاتهم؛ فإنه لا كلام عندهم في أنه لو ثبت أنّ دليلاً عقلياً يستلزم منه الباطل فهو باطل مع أنّ ثبوت هذه الملازمة بين القضايا العقلية موضع بحث وإشكال.

2- أن تكون أحدى القضيتين دخيلة في تشكيل الدليل على صدق الأخرى، فإذا علم ببطلانها نكون قد فقدنا البرهان على صدق القضية الثانية وإن كان احتمال صدقها بنفسه إثباتاً.ويرد عليه: إنّ الدليل العقلي عند المستدل نفسه يقوم على استدلال الوجدان العقلي لا النسبة الإحتمالية؛ فإنّ العقل بعد تتبعه وفحصه جزم بالكبرى ثم طبقها على الصغريات مع جزمه بصحة تطبيقه بحسب وجدانه العقلي، فلا يتأثر بالخطأ في وجدان وفحص عقلي في استدلال آخر.

3- أن يكون زوال اليقين نتيجة تلجلج عقلي ذاتي لدى الإنسان بعد وقوفه على الأخطاء الكثيرة بحيث انتهى إلى عدم حصول اليقين له أصلاً, كما تحقق ذلك بالنسبة إلى المشككين على فرض صدق دعواهم، وهذه الحالة لا تدخل تحت أساس كلام منطقي موضوعي، ولا هي قائمة على فقدان البرهان على الحكم.

ص: 288

وإذا أردنا بحث تلك الحالات الثلاث بحسب الموازين والإستدلالات الأصولية فإنّ الحالة الأولى لا كلام لهم فيها، فلو ثبت أنّ دليلاً عقلياً مّا يستلزم منه الباطل فهو باطل، وكذا الحالة الثانية كما عرفت آنفاً.

وأما الحالة الثالثة فربما تكون محطّ نظر المحدث الأسترآبادي، وقد أثارها ضدّ الأصوليين بعد كون هذه الحالة في حد نفسها مطلباً نفسياً على حدّ سائر الأمور النفسية والموضوعية. وقد تكون التجربة الخارجية هي الدليل على ثبوتها وعدم ثبوتها كما نجد ذلك في نشاطات الإنسان الفكرية والعقلية، ولكن بعد مراجعة الوجدان العقلي للبشر يظهر بوضوح أنّ مجرد الوقوف على الخطأ في مرات عديدة كثيرة أو قليلة لا يوجب تعطيل القريحة العقلية عندهم، بل تبقى وقّادة تؤثر أثرها في إيجاد اليقين والجزم في مرات أخرى. وعلى هذا الأساس بقيت سلسلة الفكر الإنساني على نحو الجمع والفرد باقية على نظارتها وحيويتها ونشاطها رغم الأخطاء الكثيرة في الحياة الفكرية، وهذا أمرٌ واضح للعيان. فلا وجه لما ذكره المحدث الأسترآبادي وغيره من المحدثين من إنكار الدليل العقلي. هذا كله إذا كان المراد من اليقين الذي أنكروه هو اليقين بالمعنى الأصولي.

وأما اليقين بالمعنى المنطقي البرهاني فقد يكون هو مدعى المحدث الأسترآبادي، فإنه يزول بالوقوف على الأخطاء ولكن ذلك مجرد دعوى، وعلى فرض تماميتها فهي لا تضرّ في المقام لأنّ موضوع الحجية هو اليقين الأصولي لا ما يسميه المنطقي باليقين أو البرهان. هذا ما ذكره السيد الصدر قدس سره في توجيه كلام المحدث المزبور.

وذكر غيره من الأصوليين توجيهات أخرى ومناقشات متعددة؛ نذكر منها التوجيه المعروف من أنّ كثرة الخطأ في القضايا النظرية العقلية تنشأ عن عدم مراعاة علم المنطق فإذا أريد الحقانية جزماً فلا بُدَّ من ضمان تفاديه بإتقان تلك القواعد المنطقية ومراعاتها فتكون النتائج مضمونة.

ص: 289

وأشكل عليه بأنّ مراعاة القواعد المنطقية تعصم الدليل العقلي والأحكام من ناحية الصورة وكيفية الإستدلال، لا المادة والقضايا التي تدخل في الأقيسة.وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ الخطأ لا بُدَّ أن يرجع إلى الصورة لا إلى المادة بعد معرفة طريقة تولّد المعارف البشرية حسبما يصورها المنطق الصوري؛ حيث إنّ الفكر يسير من المعارف الأولية الضرورية التي هي أساس المعرفة البشرية إلى استنباط معارف جديدة بطريقة البرهان والقياس التي يحدد صورتها علم المنطق. فأيُّ خطأ يفترض؛ إن كان في الصورة فيكون علم المنطق هو العاصم منه، وإن كان في مادة القياس؛ فإن كانت في المادة الأولية فلا مجال لوقوع الخطأ فيها لا محالة. وإن كان في المادة الثانوية المستنتجة فلا محالة تكون مستنتجة من برهان وقياس فننقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى خطأ يكون في الصورة. لأنّ المعارف الأولية لا خطأ فيها لكونها ضرورية كما عرفت.

وعلى ضوء ذلك قسّم الفلاسفة مدركات البشر إلى قسمين:

المعارف الأولية؛ وقد اصطلحوا عليها بمدركات العقل الأول.

والمعارف الثانوية المستنتجة؛ وقد اصطلحوا عليها بمدركات العقل الثانوي.

وقد أشكل عليه السيد الصدر قدس سره بأنه لو سلمنا بهذا التقسيم فإنه يمكن الإنتصار للمحدثين في المقام بأنّ قواعد علم المنطق؛ إما أن تكون جميعها ضرورية كبرىً وتطبيقاً، أو لا يكون كذلك، بل بعضها ليس بضروري.

أما الأول؛ فلا ريب في بطلانه إذ لو كانت كذلك لما وقع خطأ خارجاً، إذ لا يوجد من يخالف البديهة والضرورة والمفروض أنه لا خطأ فيها.

وأما الثاني؛ فإن قيل بعدم البداهة في الكبريات فسوف يقع الخطأ في نفس العاصم لا محالة، وإن لم يكن كذلك وقلنا بعدم البداهة في التطبيق فنحتاج إلى عاصم في مرحلة

ص: 290

التطبيق، ولا يكفي مراعاة الكبريات المنطقية في صحة الذهن عن الخطأ، وعلم المنطق لا يعطي إلا الكبريات.

هذا بناءً على التصور المدرسي للمعرفة البشرية وطريقة التوالد فيها. ثم ذكر السيد قدس سره بأنّ هذا التصور خاطئ في أصل تقسيم المعرفة ومبادئها على ما شرحه في كتابه الأسس المنطقية للإستقراء. وقد انتقل إلى نظرية جديدة للمعرفة البشرية.

وخلاصة ما ذكره نقطتان:

النقطة الأولى: إنّ المدركات التي حددّها المنطق الصوري في العقل الأول في ست؛ اعتبرتها موادُّ البرهان في كل معرفة بشرية وهي؛ الأوليات والفطريات والتجريبيات والمتواترات والحدسيات والحسيات. ويعتبر المنطق الصوري تلك القضايا بديهية، ولكن السيد قدس سره (1) يوافقهم إلا في اثنين منها وهما الأوليات كاستحالة اجتماع النقيضين، والفطريات وهي التي قياساتها معها وهي لم ترجعإلى الأوليات. وأما غيرها؛ وهي القضايا الأربع الأخرى الباقية فليست المعرفة البشرية فيها قبلية بل بعدية؛ أي تثبت بحساب الإحتمالات وبالطريقة الإستقرائية التي يسير فيها الفكر من الخاص إلى العام حسب قوانين وأسس معينة شرحها في الكتاب المذكور(2)، وقد اعتبر أن المحسوسات التي هي أبده القضايا الأربعة الباقية تخضع للأسس المنطقية للدليل الإستقرائي، وذلك أنّ القضايا الحسّية على قسمين:

1- أن يكون واقع المحسوس فيها أمراً وجدانياً كالإحساس بالجوع والألم، وهذا لا إشكال في أوليته ولا يقوم على حساب الإحتمالات والطريقة الإستقرائية, لأنّ

ص: 291


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص130 وما بعدها.
2- . الأسس المنطقية للإستقراء.

الإدراك في هذا النوع يتصل بالمدرك بصورة مباشرة حيث يكون المدرك بنفسه ثابتاً في النفس، لا أن يكون أمراً موضوعياً خارجياً له انعكاس على النفس يراد الكشف عن مدى مطابقة ذلك الإنعكاس مع واقعه.

2- الإحساس بالواقع الموضوعي خارج النفس؛ كالإحساس بالسرير الذي يقام عليه، أو الصديق الذي يجلس معه، والكتاب الذي يطالعه ويأنس إليه ونحو ذلك مِمّا هو كثير. وهذا هو الذي لا يتعلق إحساسنا به مباشرة فكيف يمكن إثبات واقعيته من مجرد انطباعٍ حاصل في النفس أو الذهن، وكيف نثبت مطابقة ذلك الإنطباع للخارج، واعتبر أنّ ذلك من الألغاز الفلسفية.

وقد اختلفوا في تفسير ذلك إلى مذاهب ونظريات.

هذا هو الإتجاه الأول.

والإتجاه المتعارف(1) عند فلاسفتنا أن المحسوسات من القضايا الأولية، وهي وإن لم تكن معنونة بهذا الشكل في فلسفتنا ولكنها معنونة كذلك عند فلاسفة الغرب.

وقد ظهر ذلك عند بعض الفلاسفة المسلمين كالسيد الطباطبائي قدس سره (2) أنّ معرفتنا بالحسيات لا يمكن أن تكون أولية لوقوع الخطأ فيها، مع أنه لا خطأ في الأوليات، ولكن معرفتنا الحسية بالواقع الخارجي إجمالاً أولية، وإنّ معرفتنا بالتفاصيل ليست أولية. وبعبارة أخرى؛ التفصيل بين الإيمان بأصل الواقع الموضوعي في الجملة وبين الإيمان بتفاصيل المعرفة الحسية إلى معارف مستنبطة(3) بقانون العلّية، لأنّ الصورة الحسّية حادثة

ص: 292


1- . وهو الإتجاه الثاني.
2- . أصول فلسفه وروش رئاليسم (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي)؛ ص192وما بعدها، وص 208.
3- . وهذا هو الإتجاه الثالث؛ وهو للسيد الصدر في كتابه فلسفتنا.

لا بُدَّ لها من علّة، وقانون العلية قضية أولية أو مستنبطة من قضية أولية. وقد أنكر المثاليون الواقع الموضوعي رأساً(1).

وهذه الإتجاهات الأربعة حكم عليها السيد الصدر قدس سره (2) بالبطلان واثبت نظرية أخرى إكتشفها في الأسس المنطقية للإستقراء؛ وهي إنّ معرفتنا بالواقع الموضوعي جملة وتفصيلاً في المدركات الحسية قائمة على أساس الإحتمال الذي يشتغل بالفطرة لدى الإنسان وبعقل رزقه الله تعالى له سماه بالعقل الثالث، في قبال العقلين الأول والثاني. وقد أوضح ذلك مشروحاً في كتاب الأسس المنطقية للإستقراء(3)، واستدل لذلك بالفرق بين الإحساس في عالم الرؤية والإحساس في عالم اليقظة؛ فإنه لا شك بأنّ الأول لا واقع موضوعي له بخلاف الثاني؛ إلا على قول شيخ الإشراق السهروردي(4)؛ الذي كان يرى بعالم المثال في الأحلام، مع أنه لا فرق بين القسمين من جهةِ وجدانيةِ الإحساس عند النفس، وهذا دليل عدم بداهة المعرفة في الحسيات، وأنّ الإعتراف بموضوعية القسم الثاني يقوم على حساب الإحتمالات التي تبتني على قرائن وخصوصيات مكتنفة به دون القسم الأول الذي تكون إحساسات زائلة متقلبة بمجرد كشف الذهن عنها وغير متشابهة. إلى غير ذلك من الخصائص والنكات التي يقوم على أساسها حساب الإحتمالات. والحاصل؛ إنّ المحسوسات ليست قضايا أولية كما أنها لا يمكن أن تكون مستنتجة بقانون العلّية لأنّ هذا القانون غاية ما يقتضيه وجود علّة لحصول صورة في النفس، وأما هل أنها خارجية أو حركة جوهرية في النفس فلا يعين أحدهما.

ص: 293


1- . وهذا هو الإتجاه الرابع.
2- . دراسات في علم الأصول؛ ج4 ص132.
3- . القسم الرابع من الكتاب.
4- . مجموعة مصنفات شيخ الإشراق؛ ج 1 ص 493 وغيرها.

هذا مجمل الحديث عمّا سموه بالعقل الأول, والتفصيل مذكور في غير هذا الموضع.

النقطة الثانية: فيما يتعلق بالعقل الثاني والمنطق الصوري بعد افتراضه للعقل الأول على النحو المتقدم. يرى أنه كلما يستنبط من العقل الأول من المعارف بطريقة الإستدلال المنطقي الصحيح الذي يرجع جميعاً إلى الشكل الأول الضروري والبديهي الإنتاج فهو مضمون الحقانية، ويسمى بالعقل الثاني. فالقياس كما هو معروف يحتوي على ثلاثة حدود: أصغر وأوسط وأكبر. وفي القياس الأول لا تكون واسطة بين الموضوع والمحمول لأنها قضية أولية وإنما المستنبط هو ثبوت الأكبر للأصغر.

وعلى هذا الأساس يكون مشتملاً على قائمتين: قائمة المحمولات الثابتة بالضرورة لموضوعاتها، وقائمة أخرى للمحمولات الثابتة بالضرورة على تلكالمحمولات. وفي كل منهما القضيةُ أوليةٌ ضرورية وليست مستنبطة لعدم وجود حدّ أوسط.

نعم؛ ثبوت المحمول الثاني للموضوع الأول يكون نظرياً لأنه مستنبط بالحدّ الأوسط الذي هو موضوع في القائمة الثانية ومحمول في الأولى.

وعلى هذا الأساس فليس هناك نمو وزيادة حقيقية في المعرفة وإنما هو تحليل لما هو مجمل وتطبيق لما هو عام وكلي كما هو معروف.

وكيف كان؛ فإنّ المنطق الصوري بعد فرض حقانية القضايا الستّ التي تشكل مواد الأقيسة والمعارف النظرية، وكان استنتاج المعارف النظرية في العقل الثاني من تلك المواد حسب القياس البديهي الإنتاج؛ فمن هنا حكم بحقانية مدركات العقل الثاني أيضاً كحقانية مدركات العقل الأول.

ص: 294

ومن جميع ذلك يظهر أمران:

1- إنّ كل معرفة أولية مضمونة الحقانية.

2- إنّ المعارف النظرية في العقل الثاني إنما تستنتج من المعارف الأولية في العقل الأول بطريقة التوالد الموضوعي القائم على أساس التضمّن أو التلازم المنطقي المضمون الحقانية.

وقد نوقش كلا الأمرين:

أما الأول؛ فلأنّ بعض المعارف الأولية قد لا تكون مضمونة الحقانية بالرغم من كونها أولية، بل قد تكون مظنونة أو مشكوكة أو خاطئة فتحصل الأخطاء الكثيرة في العلوم النظرية. وهذه الأخطاء لم تكن ناشئة من خطأ الإستدلال عادة، بل من الخطأ في أوليات الإستدلال كما هو واضح.

ومن أجل ذلك نقول: إنّ كون الفكرة أولية لا تحتاج إلى الإستدلال والإستنباط شئ، وكونه مضمون الحقانية شئ آخر، ولا تلازم بين الأمرين مستشهداً على ذلك بوقوع الخطأ أو الشك في المعارف الوجدانية المحسوسة بالذات التي هي من الأوليات التي لا يتوسط شئ بينها وبين إدراكها؛ فإنّ الإدراك فيها ينصبّ عليها مباشرة ومع ذلك قد يحصل فيها التشكيك والخطأ. وهذا مِمّا لا يسع إنكاره.

فإذا كان حال الوجدانيات الأوليات هكذا فكيف حال غيرها من القضايا الأولية غير الوجدانية؛ فإنّ العلماء مثلاً كانوا يستدلّون على استحالة التسلسل ببرهان التطبيق؛ أي تطبيق العلل على المعلولات.

بتقريب: إنه إن تساويا لزم تساوي الجزء مع الكل لأنّ سلسلة المعلولات هي سلسلة العلل بإضافة واحد، والكلُّ لا بُدَّ وأن يكون أكبر من الجزء وإن تساويا كان معناه تناهي

ص: 295

أحدهما على الأقل. وقد كان هذا هو البرهان عند القدماء علىاستحالة التسلسل معتمدين على بديهية؛ أنّ الكل لا بُدَّ أن يكون أكبر من الجزء، حتى جاءت الرياضات الحديثة فأنكرت بداهة هذه القضية في الكميات اللامتناهية وجعلتها تختص بالكميات المتناهية؛ إذ ينعدم في غيرها معنى الكل والجزء.

وهذا خلاف قضية أولية.

ولذا قال بعض الحكماء في التسلسل: إنَّ كل مقدار من السلسلة عندما نفترضه بنحو العموم الإستغراقي نجده محصوراً بين حاصرين، فالعقل يحدس أنّ مجموع السلسلة أيضاً محصور بين حاصرين مفروضاً أنها قضية أولية حدسية في نظره.

ومن هنا يمتاز المنطق والرياضيات البحتة عن سائر العلوم النظرية في قلة الخطأ فيها؛ وذلك لأنّ مصادر العلوم الأولية منهما محدودة وواضحة لدى الجميع، ومن أجله قلّ الخطأ فيهما إلا إذا حصل عن الغفلة عن قواعد الرياضيات والمنطق التي يمكن تفاديها بالممارسة والدقة في التطبيق. هذا ما يتعلق بالأمر الأول.

أما الثاني؛ فإنّ المعارف الأولية يتولد منها قسمين من المعارف: معارف بملاك التلازم الموضوعي بين متعلق المعرفتين، ومعارف ظنية بدرجة من درجات الإحتمال حسب قواعد حساب الإحتمالات.

وهذا القسم هو الذي يدخل فيه أكثر معارف الإنسان حيث يندرج فيه جميع المعارف المستمدة من التجربة والإستقراء؛ فإنّ حساب الإحتمالات لا يوجب اليقين مهما امتد، وإنما ينشأ اليقين نتيجة ضعف الإحتمال حتى تتحول الظنون في نهاية المطاف إلى يقين وجزم بقانون ذاتي، لا موضوعي وضعه واضع ضمن ضوابط معينة مشروحة في أسس المنطق الإستقرائي.

ص: 296

هذا هو موجز ما ذكره قدس سره في المقام، ولا يخلو كلامه من مناقشات، وقبل بيانها لا بُدَّ من بيان أمر مهم له الإرتباط الوثيق بالموضوع ولو على سبيل الإيجاز، والتفصيل موكول إلى محله وهو البحث عن نظرية المعرفة.

نظرية المعرفة

والكلام فيها وإن كان خارجاً عن مباحث الأصول ولكن البحث نفيس فيه فوائد جمّة والكلام يقع ضمن أمور:

الأمر الأول: إنّ المراد من المعرفة هو المعنى العام الشامل لجميع العلوم، ويختلف حسب ما وصل إليه الفكر الإنساني من كل التوجهات والآراء فيها سواءً كانت عقلية أم نقلية, علمية واقعة تحت الحس والتجربة أم ميتافيزيقية كما سيأتي بيانه. وغير خفيّ أنّ هذه المعرفة تشتمل على عنصرين متقابلين يتمّم أحدهما الآخر؛

أحدهما؛ الشخص العارف أو الذات العارفة، والآخر؛ الشئ المعروف، فإنّ كل معرفة لا بُدَّ أن تتوفر فيها الذات والموضوع.والكلام في الموضوعات؛ أي الأشياء المعروفة يؤدي إلى تكوين معارف مختلفة باختلاف الموضوعات، مثل المعارف التي تتناولها الميتافيزيقيا كالألوهية والنفس والعالم وغيرها مما تشير إليها العلوم المختلفة. كما أنّ النظر في الذات العارفة يقتضي تركيزه على طريقة معرفتنا بتلك الموضوعات أو طريقة رؤيتنا بها، والهدف الأهم عند الباحثين في هذه النظرية هو البحث في مشكلة الحقيقة وإمكان الوصول إليها أيّاً كانت، أو عدم إمكانه كما أن الأغراض التي تترتب على نظرية المعرفة متعددة نذكر منها:

1- إنّ نظرية المعرفة تبحث عن أصول ومصادر معرفة الحقيقة؛ أ هي الحس أم العقل أم هما معاً أم أنّ هناك قوة درّاكة أخرى غيرهما.

ص: 297

2- إنها تبحث عن المدى الذي تصل إليه المعرفة؛ بمعنى هل يعرف الإنسان حتى الحقيقة القصوى أم أن معرفتها تقتصر على حقائق العلم والتجربة.

3- البحث عن قيمة المعرفة التي هي في متناول الإنسان.

4- البحث عن أنّ الحقيقة يمكن أن تفرض بذاتها اليقين بها فتكون بديهية غير مكتسبة أم أنها برهانية إستدلالية لا بُدَّ أن نلتمس علامات ليقينها وأدلة عليها، فإذا لم يحصل اليقين فإما هو الخطأ أو بطلان الحقيقة.

5- البحث عن الذات العارفة أ هي الإنسان الفرد المشخّص أم ذات خالصة عن العوارض الجزئية تكون مناط الكلية، والضرورة من المعرفة كالتي سماها (كانت) الذات الفوقانية، أو الروح الكلية عند (هيجل)، أو الذات غير الإنسانية عند (شليخ)، بحيث لم تعدّ المعرفة عند الأخيرين خاصية إنسانية بقدر ما هي خاصية إلهية.

ومن أجل ذلك كلّه احتاج الأمر أن تبحث نظرية المعرفة عن نوع الصلة بين الذات الإنسانية وتلك الذات الكلية.

كلّ هذا يعدّ بعض المسائل التي تبحث في نظرية المعرفة وعلى ضوءها تعددت المذاهب الفلسفية واختلفت فيما يختص بالمعرفة، وقد ختمت تلك المذاهب بالمذهب الوجودي الذي له موقف خاص في الوجود والمعرفة معاً، والذي يعتبر ردّ فعل قوي على نظرية هيجل التي لم تفرّق بين الوجود والمعرفة.

هذه نبذة مختصرة عن موضوع هذه النظرية والهدف والأغراض المتوخاة المترتبة عليها.

الأمر الثاني: إنّ هذه النظرية من أقدم النظريات في حياة الإنسان وإن اختلفت في الشدة والضعف وتفاوتت في البساطة والتعقيد على مرّ العصور؛ إذ ما دام الإنسان مفكراً فلا يمكن أن يكون فكره بدون معرفة.

ص: 298

وقد ذكر المؤرخون أنّ نظرية المعرفة ولدت عند فلاسفة اليونان، وبلغت الذروة عند فلاسفة الغرب المحدثين، ولكن الفيلسوف الألماني (نيشته) ذكر بأنّ الفلسفة اليونانية الحقّة تبدأ وتنتهي بفلاسفة عصر ما قبل سقراط، وبظهوره تبدلتالفلسفة؛ فالسابقون على سقراط كان لهم فضل إثارة مسألة الوجود، وسقراط هو الذي بدّل الأمر فقد حوّل النظر إلى المعرفة حتى تحويل الفضيلة إلى معرفة، ولكن الذي ذكره هذا الفيلسوف محلّ نظر، ويظهر جلياً عند مراجعة تاريخ الفلسفة اليونانية.

وكيف كان؛ فإنّ جوهر فلسفة سقراط هو مبدأ (إعرف نفسك بنفسك) واعتبر هذا بداية تشكيل النظرة الحديثة لهذه النظرية، كما جعل طريقتها الجدل الذي يولد الحقيقة.

ويبدو من الفلسفة الحديثة أنّ (كانت) أول من لفت الأنظار إلى ضرورة قيام نظرية المعرفة كنقطة البدء في كل فلسفة، ولكن ذلك لا يقتضي بالضرورة أنّ المعرفة لم تكن مطروحة من قبل؛ فإنّ تاريخ الفلسفة يشهد بأنّ مسائلها قديمة كانت قبل سقراط ومعاصريه من السوفسطائيين والشُكّاك، وبعد عصره احتدم الصراع بين المذاهب الفلسفية في هذا المجال وحصر النزاع بعد ذلك في إمكان المعرفة وعدم إمكانها؛ أي موقف الشك واللاأدرية وموقف الإعتقاد.

أما فلاسفة الإسلام فإنّ لهم قصب السبق على الفلسفة الحديثة في البحث عن نظرية المعرفة؛ حدودها وإمكانها وأهدافها وغاياتها ومصادرها، وإن كانت كثير من بحوثهم تلتقي مع الفلسفة اليونانية وغيرها من الفلسفات القديمة.

الأمر الثالث: إنّ أول مسألة أثارتها نظرية المعرفة هي مسألة إمكان المعرفة أو عدم إمكانها، بل إنّ موقف الإعتقاد من اللاأدرية من المسائل التي لها التقدم منطقياً وتاريخياً؛ لأنه لا شك إلا بعد اعتقاد كما تدل عليه النصوص، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً

ص: 299

فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(1).

وقد علّق أنصار المذهب الشكّي جميع أحكامهم على هذا المبدأ لأنهم لم يصلوا إلى حكم، فأصبح اللفظ دالاً على عدم المعرفة، ولكن المعروف أنه مذهب من مذاهب المعرفة باعتبارهم مفكرين، ولم يكن مذهب الشك عند أنصاره على نحو واحد؛ فإنّ هناك من شكّ في العقل دون الحسّ، ومنهم من شكّ في الحسّ دون العقل، وهو الذي لم ترفضه الفلسفات إلى يومنا هذا.

والذي ترفضه تماماً ويتسمى بمذهب الشكّ حقيقة هو الشكّ في الحسّ والعقل معاً، وهو المعروف عن (بيرون) اليوناني ومدرسته. وقد وُصف مذهبه بالشك المطلق، وهو الذي نادى بعدم الوثوق لا بالحسّ ولا بالعقل، وأن يبقى الفرد من دون رأي بلا ميل إلى هذا أو ذاك. فيجب أن نثبت وننفي معاً، أو لا نثبت ولا ننفي.ولكن لمّا لم يكن لمذهبه صورة واقعية في الفكر الإنساني حاول تلميذه (تيمون) أن يوجّه مذهب أستاذه بأن يرجعه إلى حالة (الصمت) ثم إلى مرحلة (السكينة) التي هي الهدف الحقيقي الذي يتوخاه (بيرون)؛ لأنّ فلسفته كسائر الفلسفات كانت تبحث عن السعادة، وهي التي تكون في السكينة التي لا يكدّر صفوها إلا اتحاد رأي أو حكم.

وكيف كان؛ فقد عمّر مذهب الشك طويلاً واحتج أصحابه بحجج متعددة في تصحيح موقفهم وهي:

الأولى: إنّ كلّ الأشياء متماسكة مترابطة بحيث لا يمكن لنا أن نعرف شيئاً واحداً إلا بمعرفة

ص: 300


1- . سورة البقرة؛ الآية 213.

كل الأشياء، ولكننا لا نعرف الأشياء كلّها بالطبع، فينتج: أننا لا نعرف شيئاً واحداً منها.

مثلاً؛ إنّ معرفة فرد ما يحتاج إلى معرفة كل أسلافه وماضيه وكل علاقاته وكل مكوناته الجسمانية إلى غير ذلك، ولا سبيل إلى هذا كله بالطبع فنحن نجهل الفرد.

وقد سموا هذا الدليل بحجة الجهل، ولا يخفى أنّ هذه الحجة تكررت بصور مختلفة في الفكر الإنساني وإن لم تكن من مذهب الشك فقط. يقول (باسكال): لا حقيقة خالصة، ومن ثمّ لا شئ يصحّ أن يكون حقيقياً بمعنى الحقيقة الخالصة.

ويرد عليه: إنّ فيه مغالطة واضحة، فإن كان المراد من جهل الحقيقة هو الحقيقة المطلقة التي لا يعلم أسرارها إلا خالقها فهو حق في الجملة لا على نحو الكلية، وإن كان المراد الحقيقة النسبية فلا ريب في بطلان ما ذكروه فإنّ الطرق والسبل إلى هذه المعرفة موجودة ومتوفرة في جميع العلوم، لأنّ العلم والجهل بالنسبة إليها نسبية مطردّة، وما ذكروه من المثال في معرفة الفرد مغالطةٌ واضحة؛ فإننا لا نحتاج إلى معرفة فرد -ظاهراً- إلى هذا الكم الهائل من المعارف، بل يكفي في معرفته بعض الجهات التي تكون مورد الحاجة وما تقتضيه المصلحة.

الثانية: هناك عدة أدلة؛ مثل: دليل خداع الحواس والعقل؛ فقد قالوا: إنه لا توجد علاقة لتمييز الحقيقة من الخطأ فإنّ نفس الحواس تبيّن لنا العمود المستقيم منكسراً في الماء ومستقيماً في خارج الماء فأين الحقيقة؟ كما أننا نرى في الأحلام أشياء لا نراها في اليقظة فأيهما الحقيقة؟ والمجنون يهذي وهو مقتنع بإنه سليم وبأنّ الناس حمقى، فمن يدري أنّ غير المجنون لا يكون مجنوناً.

ومثل دليل وبرهان الكذب؛ وهو ما إذا قال فرد بأنّ كل ما يقوله قومه كذب وأنهم كاذبون، فهل هو يكذب أو يصدق؛ فإن كان صادقاً فهو كاذب باعتباره فرد من قومه،

ص: 301

وإن كان كاذباً فهو صادق لأنه يقرر حقيقة كذب كل قومه، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تبدو أنها غريبة في حدّ نفسها. وقد وقع كثير من الناس بل بعضالفلاسفة أيضاً في شرك هؤلاء فلم يستطيعوا الجواب عنه ولم يجدوا مخرجاً منهم مِمّا أوجب تقوية جانب الشكاك.

ودليل خداع الحواس تكرر عند الغزالي وديكارت، وقد تصدى العلماء للجواب عنه بأساليب مختلفة، بل أصبح خداع الحواس من المسائل المدروسة في علم النفس، وعقد له باب خاص. وأما الأحلام فإنّ الصورة الحسية منها تشترك مع الصور الحسية في اليقظة؛ وهي في كلتا الحالتين واحدة إلا أنّ الفارق بينهما أنها في اليقظة حقيقية تعبر عن وقائع خارجية يمكن أن يعود إليها الفرد كيف شاء وأراد، ويشارك غيره فيها على حدٍّ سواء وهذا مصدر حقيقتها، فلا وجه للخلط بين الواقع والأحلام.

وأما حجة الكذاب فهي مشكلة قديمة حديثة تكررت في الفلسفة القديمة والحديثة، وقد ألّفَ بعض علماءنا رسائل في الردّ عليها، وتكررت أيضاً في الفكر الرياضي المعاصر في نظرية الأعداد اللامتناهية. وقد حاول أحد الرياضيين الجواب عنها بأنّ أول عدد منها هو عدد كل الأعداد التي نعرفها، فإذا عرفنا العدد الأول فسوف نعرف جميع الأعداد. واعترض عليه بأنّ العدد الأول هو واحد من الأعداد (باعتباره عدداً) فكيف يشمل ذاته، أو أنه ليس واحداً منها فكيف لا يكون عدداً ولا يشمل ذاته. وذكر أنّ هذه المشكلة تكمن في كلمة (كل) واختلاف مدلولاتها في كل مرة نستعملها فيها.

وكيف كان؛ فقد ذكروا الجواب عن هذا الدليل في مواضع مختلفة من العلوم.

الثالثة: دليل تناقض الناس؛ فقد استغل الشكاك تناقض الناس والإختلاف بين الشعوب وجعلوه دليلاً على إنكار الحقيقة، وقد تكرر هذا الدليل في كلماتهم بصور مختلفة دون أن يرتبط بمذهب الشك؛ فمثلاً نرى أنّ (باسكال) وهو من الفيزيائيين يقول بأنه لا شئ مِمّا يوصف بأنه عادل أو أنه غير عادل لا تتغير صفته بتغير الجو.

ص: 302

وبعض الفلاسفة خصّ هذا الدليل بما وراء الحس، فلا يجري في ضوء الإتفاق بين العقول الذي يمتاز به العلم. وحكم (كانت) بعدم الإتفاق في الميتافيزيقيا، فجاءت فلسفته النظرية تبين كيف أنّ العلم يكون معرفةً موضوعية، وأنّ الميتافيزيقيا لا تتحقق فيها الشروط المعتبرة في المعرفة؛ فأبطلها بسبب عدم الاتفاق الذي يكون ضرباً من التناقض.

والصحيح أن يقال: إنّ عدم الإتفاق هو من أهم أسباب الرقي والتكامل في جميع الشؤون الحياتية للبشر، لا أن يكون سبباً في سلب المعرفة.

ولا ريب أنّ فكرة التعايش السلمي بين الدول والأنظمة والأديان والأقوام إعتراف بواقع عدم الإتفاق، وبالتالي بالتناقض.

الرابعة: دليل استحالة البرهان أو المغالطة القائمة على التسلسل؛وخلاصته: إنّ كلّ برهان إما أن يستند إلى مقدمات مبرهنة، وإما أن يستند إلى مقدمات غير مبرهنة؛ فإن كانت المقدمات مبرهنة فيجب بيان برهانها ثم بيان برهان برهانها وهكذا إلى ما لا نهاية مِمّا يستحيل معه البرهان.

وإن كانت المقدمات غير مبرهنة فالذي يبرهن لم يبرهن شيئاً وهكذا يكون باطلاً وعاجزاً. ولكن هذه الحجة لم يعد لها وزن بعدما عرف في الرياضات منذ بزوغ فكرة (النسق الإستنباطي) التي تحدّ من التراجع في البراهين إلى ما لا نهاية، وذلك باتخاذ تعريفات ومسلمات إبتدائية يعوّل عليها برهان القضايا وهي المسماة بالأوليات؛ أي نسق علمي إستنباطي، كما هو الشأن في الهندسة.

وقد عرفت سابقاً أنه لا بطلان في مواد مقدمات الإستنباط في المنطق الصوري، وإنما الغلط -إذا تحقق- فهو من نوع الغلط في التأليف والصورة، والذي يرتفع بعد المراجعة وتطبيق المقدمات مع أصول المنطق الصوري.

ص: 303

هذه أهم الأدلة والحجج التي استدلوا بها على إنكار المعرفة ومذهب الشك، وقد عرفت أنّ منهم من أنكر إمكان المعرفة أو الحقيقة كلياً، وهناك من ينكر الحقيقة نسبياً؛ بأن ينكر إمكان معرفة حقيقة دون أخرى وهو مذهب اللاأدرية الذي يرجع إلى القرن الماضي، والذي تكرر ظهوره في تاريخ الفلسفة. وقد عبّر عنه (هربرت سبنسر) بأنه (ما لا يمكن معرفته)، أو (اللا معروف)؛ حيث حاول أن يجعل اللاأدرية إتجاهاً فكرياً في المعرفة مرتبطةً بصيغة خاصة بفكرة الألوهة أو بصفة أعم بعدم إمكان الميتافيزيقا برمّتها كما عند (كانت) وآخرين.

واعتبر بعض اللادينيين من اللاأدريين أنّ أفضل طريقة لمعرفة الله تعالى هي أن نعرفه بالإتحادية؛ إتحاداً يتجاوز حدود العقل. وتعتبر هذه الطريقة طريقة (لا معرفية) أيضاً، ولكن المعروف أنّ الفكر يصل إلى الألوهة، ولكنه لا يعرفها وذلك لأنّ ماهية الألوهية تتجاوز قدرتنا على الفهم.

وأنشأ بعضهم على هذه الفكرة ما سمّاه ب- (اللاهوت السلبي) وفسروا ذلك؛ بأنه لا معرفة إيجابية تعرّفنا ما هو، وأنّ الموجود هي المعرفة السلبية.

وهذه النزعة اختارها بعض المتكلمين المسلمين الذين يقولون بأنّ الله سبحانه يعرف بالسلب والتنزيه، وفي بعض الأخبار بأنّ كل ما خطر ببالك فهو ليس كذلك(1).

والحاصل؛ إنَّ مذهب الشك لم يظهر فقط في العصور القديمة، بل ظهر في العصر الحديث أيضاً كنظرية عارضة أو كوسيلة للحطّ من العقل والعقيدة على يد الفيلسوف الديني (بليز باسكال)، وقد ذكرنا أهم الحجج حتى لا يعود أحد إلى مثلها، فإنها موهونة جداً كما هو مفصل.

ص: 304


1- . ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر علیه السلام : (كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم) . [بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج66 ص293].

وموقف الشك بحدّ نفسه باطل؛ إذ يمكن لنا أن نقول بأنّ العالم قائم، والوصول إلى الحقيقة أمرٌ واقع لا يمكن إنكاره.

كما أنّ الشك المطلق يتعارض مع طبيعة الإنسان القائمة على الفكر والعمل، والشكاك إنما يعطّلون بنظريتهم هذه كل قواهم وعقولهم.

إنّ أية محاولة من قبلهم للإحتجاج معناها تصديقهم بقيمة الحجة وتمامية البرهان عندهم، وعلى هذا سيكونون إعتقاديين على نحو مّا، فهم لم يلتزموا بالشك مطلقاً، وهذا هو الموقف الإعتقادي الأكثر وضوحاً إذا فكرنا لحظة أنهم يلتزمون حقيقة واحدة؛ وهي موقف الشك المطلق أو الصمت، فهذا الإلتزام منهم إنما يكون اعتقاداً ويقيناً أيضاً. فيكون مذهبهم باطلاً من جهة نفس حججهم، ومن جهة تهافته. وبالتالي فهم اعتقاديون في الواقع سواءً شعروا بذلك أم لم يشعروا.

الأمر الرابع: وفي مقابل مذهبَي الشك واللاأدرية هو مذهبُ الإعتقاد وإمكان معرفة الحقيقة، وعلى ضوءه يقوم مذهب القطع أو الإيقان أو الإعتقاد القاطع؛ الذي يراد به أنّ كل فلسفة تؤكد وجود حقائقٍ مّا، وبالتالي فهي اعتقادية على نقيض مذهب الشك الذي لا يؤكد شيئاً. وقد استعمل (كانت) هذه في معنى أكثر دقة لبدل بها على الموقف الذي يؤكد كونه رأياً أو مذهباً أو يعرفها بصفة أعم، وهي موقف الإعتقاد الذي يتخذه العقل الخالص قبل أن يفحص مقدرته فحصاً نقدياً. وعلى ضوء هذا اعتبر (كانت) كل الفلسفات السابقة عليه غير نقدية فهي اعتقادية، بينما خص فلسفته بإسم المذهب النقدي لأنها تبدأ من فحص القوى العارفة، وتسمى هذا بالمذهب (الدغماتي).

ص: 305

وكيف كان؛ فإنّ مذهب الإعتقاد على نحوين:

الأول: الصورة التلقائية المشاهدة عند كل الناس حين يصدقون بسذاجتهم ويقطعون برأي دون نقد وتمحيص. ويعتبر بعضهم أن هذا هو شأن الفلسفات الأولى كفلسفات الطبيعيين الذين يصورون إمكان تفسير العالم الطبيعي دفعة واحدة بافتراضات.

الثاني: الصورة المذهبية للموقف الإعتقادي، وهذا هو الذي يهمّنا، وتظهر بعد ظهور الشك في قيمة تلك التفسيرات الساذجة, حيث ينكر كل تفسير وفهم، فهو لم يظهر إلا بعد ظهور الشاكين، ولذلك اعتبر وجوده ضرورياً كمذهب، وقيامه كفلسفة في المعرفة يرجع إلى معرفة الحقيقة ويدافع عنها.

وقد اتخذ هذا المذهب موقفاً معيناً من العقل وبقدرته المطلقة التي لا يحدّها حدّ، والمذهب العقلي يرى ذلك ويدافع عنه بشدة. وهذه العقلانية تجدها عند كبار الفلاسفة أمثال السقراطيين عبر القرون. بل حتى بداية العصر الحديث في الفلسفةالديكارتية والمذهب العقلي متعدد من حيث تفاصيله، ولكنه واحد من حيث المبدأ الذي يقوم عليه، وهو أنه توجد إلى قوة الحس قوة دراكة أخرى غير حسية وهي العقل، وهذه القوة هي التي تدرك ماهيات الأشياء أو المعقولات التي هي الحقائق، بل تدرك الحقيقة المطلقة ويعتبر أن تلك الماهيات أو المعقولات التي في أذهاننا ليست إلا نماذج مماثلة تماماً لما في خارج الذهن من أشياء وتكون صوراً مطلقة لها. وهذا الجانب من المذهب العقلي هو ما يعبّر عنه الفلاسفة بقولهم إنّ الحقيقة في الذهن هي نسخة لما في خارج الذهن، ومن ثم جاءت تسمية لهذا المذهب بأنه (مذهب الحقيقة نسخة)، وقد اختلف الفلاسفة في تفسيره من لدى سقراط حتى عصرنا الحاضر.

ص: 306

ف-(يراناغوراس) جعل الإنسان معيار الحقية، و(طيطاوس) جعل الحسّ علامة الحقيقة، و(فيلبوس) جعل اللذة علامة الخير، و(جورجياس) جعل القوة هي القانون، إلى غير ذلك.

وأما سقراط فقد كانت فلسفته بأزاء السوفسطائيين -كما صورها أرسطو- هي القول بالمعاني أو الماهيات المعقولة وهي الحقائق الثابتة وهي الكليات بالتعبير الأرسطي في مقابل الإحساسات المتغيرة والحقائق النسبية؛ محاولين تعريف تلك الماهيات بوجوه مختلفة مثل الفضيلة والخير والعدالة. ويعتبر أرسطو الماهيةَ بدايةَ العلم اليقيني وأساسه، إذ لا علم عند أرسطو إلا بالكلي وهو الماهية، ومن جهة أخرى كان سقراط الذي عاشر السوفسطائيين ودخل في صراع مرير معهم قد اعتبر أنّ العلم بالحقائق أو الماهيات لا يمكن تحصيلها بالتلقين أو يكتسب بالتعليم؛ فلا مكان لمهمة تعليم السوفسطائيين الذين كانوا ينشئون الناس على التعليم، وإنما يمكن أن يستدرج العقل وينبه إلى العلم بواسطة المحاورة والمجادلة لتوليد الحقائق منه متبدأً بقوله المعروف (إعرف نفسك بنفسك) فتتولد تلك الحقائق من أعماق نفسك، ولذلك سمى سقراط طريقته ب- (فن التوليد).

بينما كان مذهب أفلاطون أكثر وضوحاً في المذهب العقلي وإن كانت آراؤه تتشابه مع أراء سقراط الأستاذ إلى حدّ كبير؛ فقد اعتبر العقل أو النفس في رحاب الآلهة وظلها، والكليات كلها شاهد للماهيات، بل حتى مثال المثل الذي هو كالشمس التي تضيئها وهو مثال الخير، وأسس على ضوء ذلك نظريته المشهورة في المثل الأفلاطونية، ثم سقّط الإنسان سقوط عقاب فنسي ما شاهده، وهو الآن يتذكر في كل جهد يبذله لمعرفة بطريق المحاورة تلك الحقائق التي لا تتغير، ولا طريق لتعلمها إلا التذكر. وهذه النظرية قد أثبتها العلم الحديث وفي بعض الروايات الواردة عن الأئمة الهداة علیهم السلام الإشارة إليها

ص: 307

(إنكم لا تعلمون ما تتعلمون، وإنما تستذكرون ما تتعلمون)، وتسمى بنظرية الإستذكار. فالعلم ذكر والمحاورة تذكر, وعليه يكون وصف الحقائق بأنها نسخة أمر واضح في نظرية أفلاطونلأنّ تلك الذكريات التي تعثر عليها بالمحاورة مطابقة تماماً لتلك المثل التي نادى بها أفلاطون، وتمتاز هذه النظرية في المعرفة العقلية بالمثل أو المعاني التي يدعونا إليها الفلاسفة العقلائيون عن تلك المعرفة التي يدعو إليها السوفسطائيين من جهات:

الجهة الأولى: إنّ المعرفة عند السوفسطائيين حسية بخلاف المعرفة التي يدعو إليها غيرهم فإنها عقلية تبتني على رؤية العقل ودرايته.

الجهة الثانية: إنّ معرفة السوفسطائيين التي تبتني على الإحساسات إنما هي معرفة خيالية ومحدودة؛ فإنّ أصحابها سجناء الأرض الذين لا يرون إلا أشباحاً وخيالات يظنون أنها حقائق، وهم في الواقع قد أداروا ظهورهم عنها وسجنوا أنفسهم في تلك الأشباح والخيالات.

الجهة الثالثة: إنّ العقلائيين الذين اتبعوا المنهج العقلي وتدرجوا في معرفتهم إلى أن وصلوا إلى الحقائق قد فكوا وثاقهم الحسيّ بواسطة الجدل والمحاورة الذي صعد بهم عن طريق العقل إلى الماهيات أو المثل التي هي الحقائق في ذاتها، وهم الذي سماهم أفلاطون (أحباب المثل)، وهم الحكماء، واعتبرهم صفوة الجمهورية الفاضلة. وقال: علينا أن نرجوهم ليتحولوا إلينا ويحكموا بيننا بعض الوقت بمقتضى ما أصبحوا وعلموا من خير وفضيلة وعدالة وحكمة.

الجهة الرابعة: إنّ النظرة العقلية عند أفلاطون وغيره قد ذهبت بالمعرفة إلى أقصى حدودها إلى مثال المثل, وهي نظرة عقلية متفائلة تعبر عن سمات المذهب العقلي، وهي معرفة بغير حدود في إمكان تطبيقها والعمل بهديها.

ص: 308

هذا ما يتعلق بالمذهب العقلي عند أفلاطون، وأما أرسطو الذي هو فيلسوف عقلي يميل إلى الواقعية أكثر من غيره فإنّ نظريته تختلف عن أستاذه أفلاطون الذي يقول بمفارقة المثل للعالم المادي؛ فإنه نقل تلك المثل إلى عالم الحس وجعلها من الأشياء مطلقاً وسماها (الصورة)، فكانت فلسفته أكثر واقعية من فلسفة أفلاطون التي كانت مثالية واعتبر أنّ الماهيات تتألف من مادة وصورة، والصورة هي ماهية أو نوع الشئ وتنتزع الصورة من الأشياء أولاً بالحواس فتتجرد عن المادة الكثيفة التي تبقى في الخارج، ثم يتلقاها ما يسميه الحسّ المشترك فتصبح الصورة أكثر تجرداً، ثم تنطبع في المخيلّة لتبقى فيها تصورات عامة للإنسان مثلاً؛ يجرد منها العقل آخر الأمر الكلي، أي النوع، وهو ماهية الإنسان التي تنطبق على كل أفراد النوع. وعلى ضوء ما يقول أرسطو يكون كل شئ في العقل هو في السابق يكون في الحس كما تفسره المقولة المعروفة (من فقدَ حسّاً فقد فقدَ علماً). والماهية هي التي يقوم عليها العلم لأنها كلية؛ إذ العلم علم بما هو كلي، ولا علم إلا بالكلي كما يقول أرسطو، أما كيف تجرد الماهية الكلية من الصور المتخيلة؟ وكيف تتحقق الماهية في العقل؟ فقد ذكر أرسطو أنّ في العقل قوى متعددة:منها؛ قوة تشبه المادة من حيث أنها تنطبع الماهيات وتصير معقولات، ويسميها أرسطو بالعقل المنفعل، أي الذي ينفعل ويتقبل الماهية ويتحقق بها.

ومنها؛ قوة تكون بمثابة العلة الفاعلة التي تحقق تلك الماهيات بالفعل وقد سميت بالعقل الفعال لأنه أشبه بالضوء الذي به يخرج الألوان من القوة إلى الفعل، ويختلف منهجه عن منهج أفلاطون بما يلي:

أولاً: إنه أقرب إلى الواقعية من أستاذه حيث كان منهجه مثالياً صرفاً.

ثانياً: إنه أعطى أهمية للتعلم وكسب المعرفة عن طريق الحواس بخلاف أستاذه فإنه جعل دورها ثانوياً حيث جعلها من المنبهات كما تقدم.

ص: 309

ولكنه رجع وانتهى إلى الوقف الأفلاطوني الذي تحاشاه في البداية عندما أنزل الماهيات من عالم المثال إلى مجاورة المادة تصوراً للأشياء, فهو بقبوله عقلاً فعالاً -وإن لم يسمّه كذلك- يحقق الماهيات أو المعقولات في العقل البشري ويفتح الباب على مصراعيه لتأويلات عديدة من بعده بشأن هذا العقل ودوره في المعرفة.

ثالثاً: أثبت أرسطو أنّ عقل الإنسان قادر على الوصول إلى معرفة الحقائق كلها وبدون حدود. وقد وافقه أكثر الفلاسفة الذين أتوا من بعده ولا سيما فلاسفة الإسلام، ولكن ابن سينا رغم قبوله لنظرية أرسطو في تجريد الماهيات من الحسّ حتى استقرارها في الخيال إلا أنه جعل هذا الأمر كله مجرد إعداد وتهيئة للنفس ولكنها تتقبل فيض الماهيات من أعلاها أو من خارجها, والقوة التي تتقبل هذا الفيض هي العقل المنفعل, أما القوة التي تفيض عنها المعقولات والماهيات فهي العقل الفعال الذي اعتبره ابن سينا عقلاً مفارقاً للإنسان، وهو آخر العقول العشرة التي صدرت عن الألوهة، ووصفه بأنه (واهب الصور) ومفيضها. ومن أجل ذلك يظهر أنّ الماهيات الكلية التي لا يمكن إلا أن تكون معقولات للعقل لأنها كليات لم تعُد مستقاة من التجربة الحسية كما قد يفهم من نظرية أرسطو، بل عادت إلى موقف قريب من أفلاطون.

ويعتبر الفيلسوف (أوغسطين) ملهم العصور الوسطى المسيحية أكثر الأفلاطونية حماساً فإنّ أفلاطون جعل النفس قد شاهدت المثل قبل سقوطها في البدن، ولكن أوغسطين جعل الماهيات قائمة في الذات الإلهية، وجعل النفس في حالة المعرفة تشاهد بضوء يشرق به الله تعالى على نفوسنا تلك الماهيات، وسمى اتجاهه بالإشراق الإلهي.

وأما القديس (توماس) الأكويني فقد رفض العقل المفارق والإشراق الإلهي كأصل للماهيات واعتبرها وليدة التجريد من المحسوسات كما قال أرسطو.

ص: 310

أما الفلسفة الحديثة التي بدأت بديكارت في القرن السابع عشر فهي فلسفة عقلية واستمرار لنفس مسائل الماهيات، أو بالتعبير الحديث أنها تجعل الأفكار هيالحقائق بطريق عقلي لا حدود لها. وهذه هي التي انقلب عليها (كانت) واعتبرها غير نقدية.

والحق؛ أنّ المذهب الإعتقادي وقف إلى ما قبل ديكارت لأنه كان بصدد مشكلة إمكان المعرفة أو عدم إمكانها؛ فكان لا بُدَّ من معارضة الشك باليقين أو بالقطع أو بالإعتقاد كما عرفت، ولكن في الفلسفة الحديثة أصبحت المسألة الملحة في نظرية المعرفة ليست إمكان الوصول إلى الحقيقة ومنبعها أ هو العقل أم الحس؟ وما طبيعتها أ هي افكار أم إحساسات أم إنها غيرها، وإنما هي أحكام، بل خرج النزاع من بين شاكين ومعتقدين إلى طور آخر وهو النزاع بين عقليين وتجريبيين؛ فقد تقدمت نظرية المعرفة خطوة إلى الأمام عندما يتسائل الإنسان ما هي أصل الحقيقة وما طبيعة المعرفة؟ وهما سؤالان مرتبطان، والفلسفات الحديثة التي بدأت بديكارت كانت على صراع حول هذا السؤال، فانقسم الفلاسفة إلى عقليين وتجريبيين، فإنّ أنصار المذهب العقلي بزعامة (ديكارت) متفقون جميعاً على أنّ معرفة الحقيقة إنما يستقل بها العقل لوحده، والحقيقة في طبيعتها أفكار أو تصورات.

ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في أنه هل أنّ تلك الأفكار فطرية في العقل أم هي من مستوى أعلى منه؟ لقد ترك ديكارت ما ورثه المدرسيين من أرسطو قوله المعروف (إنّ المعاني العامة أو الماهية إنما هي تجريد عقلي من الأفراد والجزئيات) فاعتنق نظرة عقلية تذكرنا بأفلاطون، بل كان عقلائياً أكثر من أفلاطون الذي قال كما أخبر به ديكارت بأنّ العالم الحسي هو عالم الأشباح والظلال لا ينفذ إليه العقل، فقد أصبح عند ديكارت عالم تام المعقولية لا تسكنه أشباح، وانما هي فقط كائنات رياضية وميكانيكية غاية في الوضوح كالإمتداد والأشكال الهندسية والحركة، كما أنّ الأفكار أو المعاني لم تعد مفارقة، وإنما هي

ص: 311

في نطاق العقل وحده فهو بعد أن ميّز بين الجسم والنفس واعتبر كلاً منهما جوهراً مبايناً تماماً للآخر؛ إذ النفس جوهرها الفكر، والجسم جوهره الإمتداد وإن كان بينهما نوع اتحاد واختلاف في بيانه.، كما أنه يرى بأنه لا تأثير للجسم ولا انطباعاته الحسية على النفس بحيث تجرد منها المعاني أو الأفكار كما ذهب إليه أرسطو، بل اعتقد أنّ هذه أصلها فطري في النفس، وهذه هي الفطرية الديكارتية التي تقول بأنّ الأفكار ليست مكتسبة من تجربة وإنما نحن نولدها كاستعدادات فطرية في النفس، وأنّ الله تعالى هو الذي أودعها فينا كعلامة للصانع في صنعه.

نعم؛ ليست كل أفكارنا عنده فطرية، فهناك أفكار غامضة تنبئ عن تغيرات جسمانية فقط سمّاها ديكارت بالأفكار المحدثة كالحار والبارد والحلو والمر والأحمر والأبيض مِمّا يصحّ أن يتألف منه نوع آخر من الأفكار ويسميها (الأفكار المصطنعة) كفكرة الحصان المجنح، ولكن الأفكار (الواضحة المتمايزة)هي التي وحدها تكون حدسية لدى العقل فيقبل صدقها من غير تردد ولا برهان، وأنّ وضوحها وتمايزها يشيران إلى أنها حقائق فطرية مقصودة عند العقل.

إلا أنّ الكلام في تفسير تلك المعاني الفطرية ومعنى الفطري، فقد كان له أجوبة متعددة متفاوتة بعد اعترافه بأنّ الأفكار الفطرية قليلة العدد تشبه المقولات الأرسطية؛ فيقول تارةً؛ بأنها التي نصوغ فيها معارفنا كالوجود والعدد والزمن والإمتداد والحركة والأشكال والفكر والإرادات والعواطف، بل ربما يمتد عنده إلى أنْ تشمل كلّ ماهيات الأشياء وكلّ الأفكار؛ عدا المصطنعة.

كما يفسر الفطرية بأنَّها مجرد استعدادات للفكر لا أكثر كالإستعداد للأمراض الوراثية؛ وتارةً أخرى؛ يقول بأنَّه لا يكون تعلماً جديداً بل هو تذكر فقط كما قال أفلاطون بمعنى أنَّنا ندرك أشياء سبق وجودها في الفكر رغم أنَّنا لم نكن قد صوبنا فكرنا نحوها من قبل.

ص: 312

وثالثة؛ يذهب إلى أبعد من ذلك؛ عندما يعتنق وجهة نظر ربما كانت دينية, فيقول: إنَّ الأفكار أو الحقائق أو قوانين الطبيعة متوقفة على إرادة الله تعالى تماماً, كالقوانين التي يصدرها ملك, بمعنى أنَّه يستطيع أنْ يقرر غيرها, وبذلك فهي ليست حقيقية وضرورية في ذاتها وإنَّما فقط بإرادة الله تعالى الذي أرادها أنْ تكون كذلك.

ورابعة؛ يذكر وجهاً آخراً لنظرية المعرفة يجعلها معبرة عن وجهة عقلانية تختلف عن كلِّ تصور سابق, وهو تصوره للمعرفة نظير الرياضة, فيقول: إنَّه بتحليل أفكارنا وعلومنا يمكن أنْ نصل إلى الأفكار وهي الطبايع البسيطة أو مطلقات المعرفة التي هي كالأعداد الأولية أو كحروف الهجاء, وربما يكون هذا النوع من الأفكار البسيطة معدود من الأفكار الفطرية والتي بتركيبها معاً نصل إلى تأليف كلّ العلوم كما يتألف الكلام من الحروف والحساب من الأعداد الأولية, وهذه النظرة مترابطة بما أسماه ديكارت وليتيز من بعده بالرياضة الكلية من جهة أو بالأبجدية العامة من جهة أخرى.

هذه هي قيمة الفطرية الديكارتية.

والكلام في تقييم هذه النظرية؛ حيث يمكن مناقشتها من جهات:

الأولى: إنَّها لا تكون حلاً ولا تفسيراً لأصل الأفكار إنْ لم نقل بأنَّه الذي يشتغل بالفطرة لدى الإنسان ويعقل وقد رزقه الله تعالى له وسماه بالعقل الثالث قبال العقلين الأول والثاني؛ غير تامّ, فإنَّه إنْ كان من مجرد الإصطلاح فلا مشاحة فيه, وأمّا في غير هذه الصورة؛ فإنَّه لا دليل على ما ذكره, لأنَّ العقل إنَّما يحكم على القضايا بكونها أولية أو غير أولية بشروط خاصة منها سرعة الإستجابة وقوة تلك القضية في الإقناع ونحو ذلك وليس قائماً على حساب الإحتمال الذيموطنه الخيال دون العقل, فإنَّ ما يثبت في العقل غير ما يثبت في الوهم والخيال كما هو واضح.

ص: 313

نعم؛ إذا تعاقب الإحتمال وتعددت الإحتمالات على موضوع معين فإنَّه قد يتَّصف حينئذٍ بالقوة والرصانة فيتلقاه العقل بالقبول, فإنْ توفر فيه صفات القضايا الأولية يحكم عليها بالأوليات وإلا فلا.

الثانية: إنَّ ما ذكره في الفرق بين الإحساس في عالم الرؤية مع الإحساس في عالم اليقظة بأنَّ الأول لا واقع موضوعي له؛ بخلاف الثاني, مع أنَّه لا فرق بينهما من ناحية وجدانية الإحساس عند النفس. وهذا دليل عدم بداهة المعرفة في الحسيات؛ فإنَّه يورد عليه بأنَّه لا ريب في وقوع الفرق في الحسيات وعدم تساوي المعرفة فيها, لأنَّ العلم فيها إنَّما يكون جزئياً وليس من الكليات, والمعرفة في الأولى وإنْ كانت وجدانية إلا أنَّ المعرفة المبحوث عنها في علم المعرفة الحاصلة منها تابعة لتعبيرها وواقعيتها في الخارج, وأمّا هو فإنَّ موطنها عالم الخيال دون العقل.

الثالثة: إنَّ أصل التقسيم في العقل إلى العقل الأول والعقل الثاني غير صحيح بناءً على ما ذكرناه من أنَّ المعارف العقلية إنَّما تصير وجدانية أو أولية أو يقينية سواء كانت مضمونة الحقانية أم لا بعد استجابة العقل لتلك المعارف التي ترد عليه من الروافد المختلفة وتوفر الشروط المعينة, كتمييز العقل لها وتصنيفها, فإذا كان أساس المنطق الصوري في تمييز القضايا الست المعروفة وجعلها مواد الأقيسة والمعارف النظرية من مجرد الإصطلاح فلا بأس, لأنَّ المعارف العقلية ليست كلها مضمونة الحقانية, كما أنَّها ليست كلها أولية, بل إنَّ كلَّ واحدة منها تابعة للشروط الخاصة, فإنْ توفرت ابتعدت عن الوهم والخيال وإنْ كان ذلك من الخطأ, نعم؛ قد يقع الإنسان في اشتباه عظيم بين القضايا فيعتبر قضيته وهمية من اعتراف بعدم وجود حل أو تفسير لها؛ إذا قلنا بأنَّ الأفكار الفطرية بمعنى أنَّها سابقة على التجربة فقط سواء كانت الفطرة مجرد إستعدادات أم ذكريات؛ فقد وقف التجريبيون ضد

ص: 314

هذه النظرية بزعامة (جون لوك) الذي اتخذ موقفاً متناقضاً تماماً مع هذه النظرية, وبيَّن أنَّ العقل لوحة بيضاء خالية تماماً من كل فكرة منقوشة عليها حتى من قوانين العقل نفسه.

والتجربة وحدها هي التي تنقش فوق تلك اللوحة كل الأفكار وما يسمى مبادئ الفكر أو قوانينه كما سيأتي بيانه.

وأمّا (مالبرانش) رجل الدين المعجب بديكارت؛ فإنَّه وإنْ وافق أستاذه في التمييز بين النفس والبدن لكنه لم يقبل الأصل الفطري للأفكار كما لم يقبل الأصل التجريبي لها, ولكنه تأثر بفكر القديس (أوغسطين), أي: فكرة الإشراق الإلهي وإنْ عبّر عنها ب-(الرؤية في الله), وقال بأنَّ الحقائق أو المعاني بكونها أزلية ثابتةضرورية وهي لا تليق إلا بالمقام الإلهي وحده ولا تقوم إلا فيه, والله تعالى من جهة أخرى مرتبط بنفوسنا أو عقولنا بنوع من الحضور أو المشاركة في فعل المعرفة بتلك الحقائق, ومادام الأمر كذلك فإنَّ عقولنا ترى الله تعالى في معاني الأشياء وحقائقها في نقائها التام ومعقوليتها الخالصة.

وهذه النظرية لا تقول بأنَّنا نرى الأشياء في الله وإنَّما فقط الأفكار الأزلية الضرورية التي تمثل الأشياء, أمّا الأفراد والأشياء فإنَّما نعرفها بواسطة التغيرات والإنفعالات الحسية التي تقابلها عندنا, وعليه؛ فما قاله ديكارت بأنَّ الحقائق متوقفة على الإرادة الإلهية كالقوانين التي يشرعها ملك غير تامّ؛ لأنَّ الحقائق كلية أزلية ضرورية في العقل الإلهي بحسب تعبيره.

ولعل السبب في جعل الرؤية في الله تعالى كون الحقائق كلية أزلية ضرورية؛ فلا تليق إلا به تعالى. لكن يمكن القول بأنَّ المشكلة إنَّما تنحل إذا حصرناها في نطاق العقل الإنساني وحده الذي هو الأساس في قوانينه كما فعل (كانت) من بعده, فلا حاجة إلى الخروج من نطاق هذا العقل.

ص: 315

وكيف كان؛ فقد تطورت العقلانية إلى عقلانية منطقية عند بعض الفلاسفة الغربيين فقالوا: إنَّ العيب المشترك عند الديكارتيين أنَّهم أجمعوا على أنَّ طبيعة المعرفة كامنة في الأفكار, فالمعروف عندهم أنَّها تتمثل في أفكار ثم اختلفوا بعد ذلك في نسبة الحقيقة إليها؛ فقال ديكارت أنَّها الأفكار الواضحة المتمايزة, وقال مالبرانش أنَّها الماهيات الأزلية التي يراها العقل في الله سبحانه بينما يرفض أنْ تتمثل المعرفة في أفكار, لأنَّ الأفكار لا تثبت شيئاً ولا تنفي, إنَّما المعرفة تبدأ وتنتهي ب-(القضايا), لأنَّها هي التي تتَّصف بأنَّها صادقة أو كاذبة لا الافكار. ولكن كيف نعرف أنَّ القضية حقيقية أو صادقة؟.

فقد درج التجريبيون على القول بأنَّ تكرار التداعي في الموضوع والمحمول يوجب عادة التلازم بين الموضوع والمحمول, وعندئذٍ تكون القضية صادقة أو حقيقية, وهناك تفصيل عندهم في القضايا الذاتية وغير الذاتية التي تتعلمها من التجربة؛ فقال التجريبيون: إنَّ التجربة حسيّة أو باطنة هي أساس الحقيقة وبذلك رفضوا العقلانية في كلِّ صورها.

وقد ظهر المذهب التجريبي قديماً عند الكثير، ولكنه ظهر كنظرية متكاملة على مراحل:

أولاً: عند (جون لوك) ثم عند خلفائه من فلاسفة الإنجليز, ويعتبر (لوك) الخصم العنيد لنظرية ديكارت, فقد بيّن كيف تتكون الأفكار بقوله بأنَّ النفس في بدء الحياة لوحة بيضاء خالية من أيِّ نقش عليها, أي: من كلِّ فكرة, وإنَّما الأفكار التي تحصل عليها النفس فيما بعد تأتي إمّا من الحواس الظاهرة أو تأتي مِمّا يسميه (التأمل)؛ وهو إدراك النفس لأحوالها الباطنية؛ وهذه كلّها هي الأفكار البسيطة,وإمّا أنْ يأتي بطريق غير مباشر وذلك بتأليف تلك الأفكار البسيطة؛ وهي الأفكار المركبة.

وقد عرفت أنَّ الفلسفة الحديثة التي بدأت بديكارت (1596-1650) إنَّما كانت تدور حول بيان أصل الحقيقة وكيفية معرفتها, فانقسموا إلى عقليين وتجريبيين.

ص: 316

وقد تزعم العقليين ديكارت واتَّفقوا على أنَّ معرفة الحقيقة إنَّما يستقل بها العقل وحده, وهي في طبيعتها أفكار أو تصورات وإنْ اختلفوا في أنَّها فطرية في العقل أم هي أعلى مستوى منه.

بينما كانت تعاليم المدرسيين منذ أرسطو على أنَّ المعاني العامة أو الماهيات إنَّما هي تجريد عقلي من الأفراد والجزئيات.

وأمّا أفلاطون فقد عُرفت نظريته في تلك المعاني بأنَّها عقلية صرفة.

ومن هنا إعتبروا أنَّ نظرية ديكارت عقلانية -كما يدعيه بعض الفلاسفة- إذ على رأي أفلاطون يكون العالم الحسي يشبه عالم الأشباح والظلال, لا ينفذ إليه العقل ولكنه أصبح عند ديكارت عالماً تام المعقولية لا تسكنه الأشباح بل هي كائنات رياضية وميكانيكية في غاية الوضوح, كالإمتداد والإشكال الهندسية والحركة ونحو ذلك, وإنَّ المعاني العقلية أو الأفكار لم تكن من المفارقات وإنَّما في نطاق العقل وحده.

وإنْ كان الصحيح أنَّ أفلاطون أسمى من أنْ يقول بأنَّ الجزئيات الموجودة في العالم الحسي إنَّما هي ظلال لتلك المعاني الكلية أو اشباح لها, بل إنَّ نظريته تقتصر في الأنواع وأربابها, أمّا الجزئيات فهي شواغل عن درك تلك المعاني الكلية المسماة عنده ب-(أرباب الأنواع), وقد توهم كثير من الفلاسفة -لا سيما المحدثين منهم- في فهم كلام أفلاطون الذي يعتبر بحقّ قدوة الفلاسفة في هذا المجال, وتوضيح كلامه يأتي في محله إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا نظريته المعروفة في الإسلام فإنَّها تختلف عن غيرها؛ في أنَّها نظرية متكاملة ومتوازنة وعميقة عمق النفس الإنساني, فلم تقتصر على جانب معين أو جهة خاصة من جهات المعرفة, كما أَّن كلَّ واحدة منها تكمل الأخرى ويتوازن فيها كلُّ موارد المعرفة ومجالاتها, وهناك توازن بين جميع قوى النفس؛ فلا تكون سطحية بل تشمل الفطرة والعقل والنفس والعواطف.

ص: 317

وقبل بيان ذلك لا بُدَّ من تقديم أمور:

الأمر الأول: لو رجعنا إلى طبيعة الإنسان التي تختلف عن غيره من سائر الكائنات؛ فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ خلقه وجعل فيه محطات للمعرفة بينها غاية الإرتباط والصلة وإنْ اختلفت في طبيعة المعرفة المكتسبة؛

وأول المحطات هي الفطرة والمعرفة المودعة بها؛ ترتبط بحقيقة واحدة وهي معرفة الله الخالق الرب وما يرتبط به, وهي محطة الفطرة التي أودع خالقها فيها معرفته والإقرار به وصفاته الخاصة.أمّا المحطة الثانية هي العقل؛ الذي يدعو إلى معرفة ما هو صلاح الإنسان في الحال والمآل ويرتبط بالأولى إرتباطاً وثيقاً, فإنَّ غاية صلاح الإنسان أنْ يعرف خالقهُ ويعرف المبدأ والمعاد وما هو صلاح حاله فيهما, وقد ورد في الحديث أنَّ العقل ما عبد به الرحمن.

والمحطة الثالثة هي الخيال أو الوهم؛ الذي يقوم عليها نظام هذا العالم, وإنَّ المعرفة فيهما هي التي تدعو إلى ما يرتبط بحياة الإنسان في هذه الحياة, ولا ريب أنَّ تنظيم هذه الحياة الدنيا يستدعي الرجوع إلى ثوابت العقل عند التحير وقياس الأمر إلى الفطرة التي تدعو دائماً إلى الخير المحض, ومن هنا كان ارتباط عالم الخيال والوهم بهما كبير, وليس من الخرافة أنْ نقول بأنَّ الإنسان يعيش في عالم الخيال والوهم في الدنيا إلا من عصمهُ الله عَزَّ وَجَلَّ وهم الأنبياء والمعصومون علیهم السلام من الناس. وفي القرآن الكريم آيات عديدة تدلُّ على ذلك؛ إذ عبّر عن الحياة الدنيا باللعب واللهو والزينة وغير ذلك, ولا ريب أنَّ جميع ذلك من مجالات الوهم والخيال: قال تعالى: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(1).

وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ)(2).

ص: 318


1- . سورة محمد صلی الله علیه و آله و سلم ؛ الآية 36.
2- . سورة الكهف؛ الآية 7.

والمحطة الرابعة هي الحواس الظاهرة للإنسان؛ التي يدرك بها العلم الخاص لتنظيم شؤونه ومعارفه الكلية وهي التي تزود الخيال والوهم بالمعلومات والعقل بالعلوم الجزئية ليدرك بها الإفكار الكلية والقواعد العامة التي ترجع بالآخرة إلى ما ودع الله عَزَّ وَجَلَّ في الفطرة والعقل من الثوابت.

والمحطة الخامسة هي النفس؛ ولكنها ليست بوقّادة في جميع أفراد الإنسان, بل تختص ببعضهم, كالوحي والإلهام والاشراقات الإلهية, ولا ريب في أنَّه لا يمكن فصلها عن سائر المحطات في سائر أفراد الإنسان, إذ قد يسري هذا النوع من المعرفة في الإنسان.

هذه هي المحطات التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم؛ فإنَّ قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ )(1), وقوله تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(2) يشيران إلى المحطة الأولى.

الأمر الثاني: إنَّ الفلسفة الحديثة وإنْ اعتبرت نظرية المعرفة من أهم موضوعاتها بل ذهب (كانت) إلى أنَّ أهم وظيفة للفلسفة هي تقييم المعرفة وبيان أصل الحقيقة وإمكان معرفتها كما عرفت, ولكنهم إختلفوا في كيفية المعرفة ونوعها على مذاهب متفرقة, مِمّا أوجب الإضرار والتشويش في هذا القسم من العلم فإنَّه بعد مضيّ قرون عديدة على قيام الفلسفة الحديثة لم تقدر على إيجاد قاعدة أو أصل يعتمد عليه في تقويم هذه النظرية, وإنَّ كلَّ ما قيل في هذا المجال أصبح موردالنقاش والنقد مِمّا أوجب القول بأنَّ الفلسفة الإسلامية هي التي يمكن أنْ يعتمد عليها في تقويم علم المعرفة, فإنَّها تتمتع بقوة البرهان واستحكام الأدلة وبعدها عن النقد الذي وجه إلى غيرها, وقد ابتعدت عن الإضطراب والتشويش الذي ابتليت به الفلسفة الحديثة, ولكن العلماء المسلمون اختلفوا في الإعتماد

ص: 319


1- . سورة الأعراف؛ الآية 172.
2- . سورة الروم؛ الآية 30.

على الفلسفة في حل المشاكل وكفايتها في الجواب عن الأسئلة ما لم ينظم إليها الدين فانقسموا إلى طائفتين احتدم النزاع بينهما: إحداهما؛ تعتمد على الفلسفة فقط، والأخرى؛ التي اعتمدها علماء الدين والتي تبتني على الثقافة الإسلامية.

والحقُّ؛ إنَّ الفلسفة الإسلامية لوحدها لم تكن كافية في تحديد علم المعرفة, إذ أنَّها لم تخرج كثيراً عن الفلسفة اليونانية ما لم يضمّ إليها النصّ الشرعي الذي يعتبر من أهم المنابع في تحديد المعرفة وتقويمها, فإنَّ من أهم مميزات الفلسفة الإسلامية إعتمادها على العقل في صياغتها, ودافع علماء المسلمين على اعتماد العقل في جميع المسائل -لا سيما مسائل الميتافيزيقيا- من دون أنْ يقلّلوا من قيمة التجارب الحسية, كما لم ينكروا استخدام الأسلوب التجريبي في العلوم التطبيقية, كما كانوا يؤكدون على الإستفادة من الأسلوب العقلي في حلِّ المسائل الفلسفية -لا سيما تلك التي ترجع إلى الصراع مع الإتّجاهات الأخرى- سواء كانت قديمة أو حديثة, وبذلك إزدادت فلسفة الإسلام قوة ونشاطاً ومعرفة, وازدهرت إزدهاراً باهراً بحيث صارت أشدّ صلابة ومقاومة في الصدِّ عن هجوم الأعداء, واعترف العلماء والمفكرون بقوة الفلسفة الإسلامية وعمقها وقدرتها على مقاومة كلّ هجوم من الأعداء.

الأمرالثالث: إنَّ الفلسفة الحديثة وإنْ اهتمت بمسائل المعرفة وجعلتها فرعاً مستقلاً من الفلسفة ولكن علماء الإسلام -لا سيما الفلاسفة- لم يهتموا بها ذلك الإهتمام, وإنَّما اكتفوا بطرح بعض مسائلها في أبواب متفرقة في المنطق والفلسفة وسائر العلوم عند التعرض لأقوال الفلاسفة الآخرين ومذاهبهم في هذا المجال, فلم يدرس جميع جوانب هذا القسم من العلم بشكل جامع ومتقن إلا بعض الفلاسفة المحدثين من المسلمين تابعين بذلك الفلسفة الحديثة الغربية, ولكن الحقَّ مع هذا الإتجاه, فإنَّ الفكر الغربي لم يدع سبيلاً في

ص: 320

تضعيف الثقافة الإسلامية وإهمال دور الدين وتشويش الأفكار على المسلمين, واتخذوا هذا القسم من علوم الفلسفة وسيلة في هدم كيان الفكر الإنساني وإبطال دور العقل في حياة الإنسان كما هو معلوم, فكان لا بُدَّ من التصدي لآرائهم ومذاهبهم ونظرياتهم وإبطالها؛ ليبقى دور العقل في حياة الإنسان العملية والعلمية قائماً وتقويم الفكر الإنساني في سبيل الرقي والكمال.

الأمر الرابع: المعرفة لها إستعمالات متعددة في الثقافة الإسلامية, نذكر منها:

1- ما يرادف مطلق العلم والإطلاع, وهو الشايع في سائر العلوم.1- مايختص بالإدراكات الجزئية.

2- ما يراد به التذكر.

3- ما يستعمل بمعنى العلم المطابق للواقع واليقين.

4- ما هو الأعم الشامل لجميع ذلك.

ولكن المقصود في علم المعرفة هو المعنى الأول, ويراد منها العلم بالحقيقة ودركها, ولذا وقع الكلام في مصادرها وأصل الحقيقة ومفهومها وأنواع المعرفة وأقسامها كما عرفت.

وعليه؛ يكون مفهوم المعرفة واسعاً يشمل كلّ أنواع الوعي والإدراك, ويبحث في هذا القسم من العلم جميع ما يتعلق بهذا الموضوع والجواب عن كلِّ ما طرح من البحوث وما أثير من الأسئلة الكثيرة, ولا ريب في أهمية هذا القسم من العلم؛ فإنَّه أساس كل العلوم وجميع الإدراكات والوصول إلى المقامات العالية.

وكيف كان؛ فقد انتهج الإسلام في المعرفة منهجاً متكاملاً ودقيقاً بعد أنْ أعطى أهمية خاصة للعلم وجعله من أهمّ الكمالات التي لا بُدَّ من ابتغائها بل هو أساسها, وبدونها لا يمكن الوصول إلى السعادة, فإنَّه النور الذي يُهتدى ويستضاء به في سير الإنسان في سرادق

ص: 321

الكمالات والعروة الوثقى التي يتمسك بها في إزالة الحجب والعقبات وحث الإنسان على التعلم والتفكر كما تدل عليه النصوص الكثيرة.

ولا ريب أنَّ العلوم والمعارف التي نوَّه بها الإسلام ودعا إلى دركها والتمسك بها وإذكائها على أقسام:

القسم الأول: ما كان بديهياً أولياً؛ أودعها الله تعالى في الإنسان في أصل خلقته وجعلها في أصل فطرته, وهو الذي يتوسل به إلى معرفة الخالق العظيم أو ما يرجع إلى المبدأ أو المعاد, وهي مبادئ أولية نظرية تتَّصف بالبساطة والسذاجة, وتخلو من التعقيد وبعيدة عن التشويش والإضطراب, يرجع إليها كلُّ فرد عندما يريد إدراك هذا الموضوع المهم.

ومن أهم مميزاتها أنَّها لا تزول عن المخلوقات جميعاً وإنَّما يطرأ عليها الغفلة عندما يتهاوى الإنسان في الملذات فتتراكم عليه الحجب الظلمانية, ولكنها لا تطمس نور الفطرة فتظهر بين حين وآخر, وهذا النوع من المعرفة الفطرية قابلة للزيادة والإشراق كلما ابتعد الفرد عن الظلمات المادية واقترب من النور الحقيقي فهي وقّادة في الأنبياء والأوصياء والأولياء والكمل من المؤمنين, وقد ضرب الله تعالى بهم أمثلة متعددة في القرآن الكريم؛ فقد اعتبر سبحانه خليله إبراهيم علیه السلام رائد الدين الفطري وإمام التوحيد, وحقق حججه وبراهينه في إقامة صرح التوحيد وقمع الشرك, وأمر سائر الأنبياء باتّباع سبيله في هذا الطريق وإقامة الحجج في إقامة صرح التوحيد وإزالة الشرك.

وهي الطريق التي يمكن أنْ يُتوسل بها في سبيل إذكاء هذا النور الإلهي وزيادة إشعاعه ليستوعب جميع جوارح الإنسان المتعددة؛ فمنها؛ ما يرجع إلى الإعتقاد, أي: الإعتقاد بالتوحيد؛ فإنَّه اعتقادٌ كاملٌ وجازمٌ وكلما استقر التوحيد في القلب وثبت ظهر أثره على جوارح الإنسان وجميع قواه, وكلما ابتعد الفرد عن الشرك الذي يعدُّ من أهم الظلمات

ص: 322

إزداد شعاع هذا النور واستغرق الفرد فيه واقترب من النور الحقيقي؛ وهذا هو العرفان الحقيقي الذي يدعو إليه العرفاء في سيرهم وسلوكهم, ولا حاجة إلى استعمال إصطلاحات الصوفية وغيرهم, فإنَّه قد تكون من الشطحات التي تكون هي من المبعدات عن معدن الجمال والجلال فانَّ الأمر دقيق جداً.

ومنها؛ ما يرجع إلى الصفات النفسية؛ بأنْ يكون طاهراً من الرذائل الخلقية ومتخلياً عنها ومتحلياً بالمكارم وجمال الصفات.

ومنها؛ ما يرجع إلى العمل أنْ يكون صالحاً يقرب العبد إلى الله تعالى.

وعليه؛ فإنَّه كلما كان الفرد مستقيماً في العقيدة ومتَّصفاً بالمكارم في الأخلاق وصالحاً في الأعمال كلما ازداد قربه إلى النور الحقيقي فيعيش في نور دائم أزلي أبدي, وهذا هو ما يشير إليه الحديث القدسي الشريف: (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لَا يَسَعُنِي أَرْضِي ولَا سَمَائِي ولَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ)(1), والروايات والنصوص التي تدلُّ على ما ذكرناه مستفيضة.

وكيف كان؛ فإنَّ نور الفطرة يزداد تألقاً وبهاءً في الفرد عندما تشتد إستقامته وصلاحه وقربه إلى الله تعالى وهو النور الذي يمشي في ظلمات المادة.

القسم الثاني: العقل وما أودع الله عَزَّ وَجَلَّ فيه من العلوم التي ترتبط بصلاح الإنسان وسعادته في الدارين وكل ما يرجع اليهما مِمّا أودع خالقه فيه من العلم والمعرفة, ولا ريب أنَّ المعارف والعلوم المودعة فيه تكون بديهية ومن المسلمات التي لا تقبل الجدال والنقاش ومقبولة عند جمع الناس, وهذا القسم من العلوم المودعة في العقل إمّا أنْ تكون من علم الله تعالى وأودعها في عقل الإنسان -على خلاف في كيفية ذلك عند العلماء-, وإمّا أنْ تكون كسبية إكتسبها الإنسان على مرِّ الدهور وتقبلها جميع الأفراد فأودعت في العقل

ص: 323


1- . عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية؛ ج4 ص7.

لتزداد رسوخاً وتتناقلها الأجيال فتصير من المسلمات المقبولة التي لا يصحُّ الرجوع عنها وإلا عُدّ عند العقلاء خرقاً واستهجاناً؛ وبهذه العلوم إستقام نظام الإنسان في دار الدنيا.

ولا ريب أنَّ دور العقل لم يقتصر على مثل هذه العلوم الملهمة والمكتسبة بل له مهمات أخرى لها الدخل العظيم في النظام الداخلي النفسي لكلِّ فرد, فإنَّ تنظيم قوى الإنسان لا يكون إلا عن طريق العقل, فإنَّه القوة التي لها ترجع كل القوى والمشاعر في أمورها, فإذا اختلَّ هذا التنظيم خرج الإنسان عن طوره وتخبط فيأموره فلم يصل إلى الكمال المنشود له, كما قال تعالى: ( إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(1), كما له الدور الكبير في النظام الإجتماعي للإنسان وتنظيم أموره في الخارج بين الأفراد وبين المجتمعات مع غيره من سائر الموجودات, وبه تميّز الإنسان عن سائر المخلوقات.

كما أنَّ للعقل مهمة أخرى عظيمة وهي: إنه يتلقى المعلومات الجزئية التي تدركها سائر المدارك الإنسانية من الحواس والخيال والوهم وضم بعضها إلى بعض واستخراج القوانين الكلية منها, وبذلك ينتظم نظام العلم مطلقاً وبدونه لا يمكن تأسيس العلوم, حتى السوفسطائي -الذي يشكك في كلِّ الأمور- لا يمكن أنْ ينطلق في دعواه إلا بعد الرجوع إلى تلك الكليات التي ينظمها عقله الخاص.

والحاصل: إنَّ المعارف التي يدركها العقل إمّا أنَّها إلهامية مودعة من قبل خالقه العظيم, وإمّا أنْ تكون إكتسابية تحصل من سائر قوى ومدارك ومشاعر الإنسان.

القسم الثالث: الخيال الذ له دور بارز وكبير في الحياة الدنيوية للإنسان, وقد دلَّت عليه النصوص وأثبته العلم أيضاً, ولا ريب أنَّ المعرفة التي يكتسبها الخيال إنَّما تكون من سائر الحواس الظاهرية.

ص: 324


1- . سورة البقرة؛ الآية 275.

ومن مميزات هذا النوع من المعرفة أنَّها تقتصر على ظواهر الأشياء, فهي معرفة ظاهرية دون أنْ يكون لها واقع مؤثر, كما في معرفة العقل والفطرة, وهذا النوع من المعرفة هي التي تحرك الإنسان للعيش والكدح وبها يحيى في الدنيا, ولا ريب أنَّ هذه المعرفة إنْ نظمها العقل تكون في صلاح الإنسان ويصل إلى السعادة المرجوة, وإنْ بعدت عن معارف العقل ودوره التنظيمي فانه لا محالة توصل الإنسان إلى البؤس والشقاء ولا ينال من كدحه وتعبه إلا الملذات الدنيوية دون الملذات العقلية وما أعدّه الله عَزَّ وَجَلَّ للإنسان من السعادة في الدارين.

ومن ذلك يظهر نوع الصلة بين هذا النوع من المعرفة مع سائر المعارف عند الإنسان, وباجتماعها ينتظم علم المعرفة عنده, والدين لا يعارض تلك الأنواع بل يشذبها ويهذبها وينظم بينها, فكان دور الدين عظيماً في بيان مواضع الفساد ومواقع الصلاح فيها؛ إذ قد يحصل إلتباس بينها لأجل أمور متعددة ليس المقام محل ذكرها, فربما يحسب الإنسان أمراً موهوماً من واقع الحكم العقلي والمعرفة الفطرية, وربَّما يكون بالعكس فيحدث التباس عظيم فيختل بذلك نظام حياته المعنوية وإنْ لم تؤثر كثيراً في حياته المادية كما هو المحسوس في عالمنا المعاصر, والخلاف الحاصل بين الفلاسفة وغيرهم من العلماء أنَّ كلَّ طائفة تقتصر على نوع واحد من تلك الأنواع ويغضّ النظر عن البقية, فحصل الصراعالكبير بين الطوائف والتنافس الشديد واضطرابات عديدة, ومنه يظهر السر في بطلان كثير منها.

هذه خلاصة ما ورد في منهج الإسلام في المعرفة.

ص: 325

مواقع النظر في كلام السيد الصدر قدس سره ومناقشته

عود إلى صلب الموضوع؛ مواقع النظر في كلام السيد الصدر قدس سره ومناقشته

ومن جميع ذلك يظهر مواقع النظر فيما ذكره السيد الصدر قدس سره في المقام وغيره نذكر بعضها وسيأتي التفصيل:

الأول: إنّ التقسيم الذي ذكره في القضايا الحسية لا يجدي نفعاً؛ فإنّ الإحساس من منابع المعرفة، والعلم الذي يحصل عن طريقه يكون من العلم الجزئي الذي يرفد العقل بالعلوم الجزئية ويستنبط منها القواعد والكليات؛ بلا فرق بين أن يكون واقع المحسوس أمراً وجدانياً كالإحساس بالجوع والألم، أو أن يكون واقعاً موضوعياً خارج عالم النفس كالإحساس بالماء والتراب والسرير والصديق ونحو ذلك. فإنّ العلم الحاصل في كلا الموردين واحد وهو علم جزئي، وتقسيمه من حيث كون الأول من الأوليات دون الثاني لا يفيد شيئاً لأنّ كون علم معين من الأوليات دون غيره إنما يرجع إلى تمييز العقل له وهو تابع إلى كيفية استجابته؛ فإن كانت سريعة ومؤكدة يكون العلم من الأوليات وإلا فلا يكون كذلك. ولهذا ترى وقوع الخطأ في كثير منها لأنها لم تكن متصفة بتلك الصفات التي توجب سرعة استجابة العقل لها، ولا حاجة لنا إلى التماس الوجه في كون بعض الحسيات من الأوليات دون غيرها كما ذكرنا سابقاً.

الثاني: إنّ ما ذكره قدس سره في توحيد المدركات الحسية وهو كونها قائمة على حساب الإحتمال من القضايا العقلية التي لا تقبل الخطأ، فانه ليس الأمر كذلك فإن كثيراً منها ليست من القضايا العقلية فينشأ من ذلك الإلتباس في الإستدلال، والإشتباه في المعارف والعلوم.

الثالث: إن حساب الإحتمال لا يجري في الأمور التعبدية التي تتوقف على تعبّد خاص من الشارع المقدس.

هذا ما نريد إثباته في المقام، وسيأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام إن شاء الله تعالى.

ص: 326

هذا كله بالنسبة إلى مدركات العقل النظري.

المقام الثاني: في مدركات العقل العملي

المقام الثاني(1): في مدركات العقل العملي

عرفت فيما سبق التمييز بين مدكات كلا العقلين؛ وأنّ العقل العملي يدرك ما يعتمد عليه الإنسان في مقام العمل. وقد وقع الخلاف أيضاً بين العلماء في إمكان الإعتماد عليها؛ فذهب المحدثون إلى عدم إمكان التعويل عليها في كشف الحكم الشرعي وإثباته لقصوره في مقام الكشف كما هو كذلك في العقل البشري.

وعمدة ما استدلوا به في ذلك هو الإختلاف العظيم في الأعراف والمجتمعات في مثل هذه المدركات؛ فكم من شئ يراه عرفٌ حسناً وصحيحاً، ويراه عرف آخر قبيحاً وفاسداً.

ومن هذا التشكيك الإثباتي استنتج الأشاعرة التشكيك الثبوتي، فأنكروا ثبوت الحسن والقبح الذاتي بقطع النظر عما حسّنه الشارع أو قبّحه.

وقد نوقش كلا التشكيكين الثبوتي والإثباتي بوجوه عديدة:

الوجه الأول: تارةً؛ بالنقض بأنّ التشكيك في قضايا العقل العملي يوجب عدم إمكان إثبات وجوب إطاعة الشارع وحرمة عصيانه, إذ أنّ هذا الحكم إنما يكون عقلياً كما هو المعروف.

وأجيب عنه بأنه إذا كان التشكيك في العقل العملي إثباتاً كما عليه المحدثون فإنه يمكن أن نقول باستكشاف إصابة العقل بخصوص هذا الحكم من الأدلة الشرعية الكثيرة كتاباً وسنةً الواردة في هذا الموضوع.

وأما إذا كان التشكيك ثبوتاً كما عليه الأشاعرة فيمكن أن نقول بأنّ فرض وجود العقاب في المعصية والثواب في الطاعة كافياً في تحريك العبد نحو الطاعة، ولا حاجة إلى إثبات قبح المعصية في هذا المقام.

ص: 327


1- . من مقامات الدليل الثالث من أدلة عدم ججية الدليل العقلي.

وأخرى؛ إنه يستلزم من إنكار هذا الحكم العقلي انسداد باب إثبات نبوة خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم ، بل سائر النبوات لأنّ ذلك يبتني على مقدمة علمية عقلية وهي قبح إجراء المعجزة على يد الكاذب، لأنه تغرير بالناس على الباطل أو الكذب وهو قبيح على الله تعالى، فإذا أنكر القبح فكيف يمكن إثبات صدق مدعي النبوة بمجرد جريان المعجزة على يديه.

ويرد على هذا النقض:

1- إنّ دلالة المعجزة على النبوة لم تقم على هذه المقدمة العقلية؛ أعني قبح الكذب والتغرير لأنّ المعجزة إن كانت كافية في إثبات نبوة مدعيها فلا حاجة حينئذٍ إلى هذه المقدمة العقلية في إثبات النبوة، وإن لم تكن كافية في إثبات ذلك إلا بضميمة هذه المقدمة العقلية؛ أي أنها لا تدل على نبوة مدعيها مع قطع النظر عن كبرى قبح الكذب فهي لا تدل على ثبوت مدعيها حتى مع الإعتراف بهذه المقدمة العقلية الكبرى؛ لأنّ كبرى قبح الكذب لا تحقِّق صغراها إذ لا بُدَّ من كذب وكشف عن النبوة ليقال بقبحه، والمفروض أنه لا دلالة ولا كشف لمجرد ظهور إعجاز على يد النبي صلی الله علیه و آله و سلم .وبعبارة أخرى: إنّ توقف دلالة المعجزة على نبوة مدعيها على كبرى عقلية وهي قبح وإظهار خلاف الواقع تغريراً بالناس إنما هو دوري، لأنّ فعلية الكبرى المذكورة فرع فعلية الدلالة والكشف ليكون كذباً، فيستحيل أن تكون فعلية الدلالة متوقفة على فعلية الكبرى.

ولكن لا يمكن أن يناقش ذلك بأنه يتم على حساب الدقة العقلية، وأما إذا اكتفينا بالدلالة العرفية كما يراه المحدثون فإنّ ظهور المعجزة عند العوام له دلالة على النبوة في نفسه، وأنّ هذه الدلالة لم تكن عقلية وبرهانية ولكن بضمها إلى الكبرى العقلية يتشكل دليل فني على النبوة عرفاً. وهذا المقدار يكفي في الإثبات ولا حاجة إلى غيرها.

ص: 328

2- إنه يمكن تبديل هذه القضية العملية بقضية عقلية نظرية وهي منقصة الكذب، وهي منفية عن الواجب سبحانه على حدّ نفي العجز عنه، فلا حاجة إلى العقل العملي.

نعم؛ يبقى السؤال في كيفية تبديل القضية العملية إلى قضية نظرية، وفيه بحث له محلّ آخر.

3- إنّ إثبات نبوة الأنبياء لا سيما نبوة خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم لا تتوقف على ظهور المعاجز كما هو مذكور في غير المقام حتى تحتاج إلى هذه المقدمة العلمية العقلية.

الوجه الثاني: الجواب بالحلّ، وهو أنّ المستفاد من كلمات العلماء في المقام هو إنكار أنّ يكون الإختلاف بين العقلاء بما هم عقلاء في كبرى العقل العملي، بل يرجع خلافهم إلى الإختلاف في الصغريات والتطبيقات؛ فإنّ العقلاء يرون رجوع الكبريات العملية إلى قضيتين رئيسيتين هما حسن العدل وقبح الظلم، فلا يوجد من يقرّ بخلاف ذلك ويقول بحسن الظلم وقبح العدل مع الإعتراف بالظلم والعدل، وإنما يكون التشكيك في صغرى كل واحد منهما؛ فيحكم بأنّ هذا الفعل ليس بظلم أو ليس بعدل.

والنتيجة: إنه لا مناقشة في حقانية مدركات العقل العملي كبروياً.

وقد ناقش السيد الصدر قدس سره (1) في ذلك بأنّ قضيتي قبح الظلم وحسن العدل ليستا هما المدرَكين للعقلين العمليين الأولين لأنهما قضيتان بشرط المحمول؛ إذ الظلم والعدوان هو الخروج عن الحدّ وليس المراد به الحدّ التكويني، إذ لا خروج عنه، بل الحدّ الذي يضبطه العقل ويحدده بنفسه بأنه ينبغي أو لا ينبغي أن يتعداه الإنسان وهو عبارةأخرى عن القبيح، بل هذه القضية إن كانت مفيدة فهي تفيد كإشارة إلى مدركات العقل العملي إختصاراً وإجمالاً لا أكثر، فعنوان الظلم أخذمشيراً ومعرِّفاً إلى واقع ما لا ينبغي فعله في نظر العقل من الكذب والخيانة ومخالفة الوعد وغير ذلك.

ص: 329


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص137.

وكذلك عنوان العدل الذي هو عنوان مشير إلى واقع ما ينبغي في نظر العقل فعله من الإحسان والشكر والصدق والمروءة.

وخلاصة ما ذكره أنّ قضية حسن العدل وقبح الظلم تكون في طول القضايا العقلية العملية، لا أنها الأساس لها كما أفيد. وعليه؛ يكون الإختلاف فيه من الإختلاف في إدراك العقل، لا الإختلاف في المصاديق والجزئيات.

ولكن يمكن الإشكال عليه بأنه لا ريب في أنّ العقل أخذ كل واحد من الظلم والعدل عنواناً مشيراً إلى المصاديق كما هو الحال في كل القواعد الكلية والعناوين العامة التي يؤسسها العقل مِمّا يستفيد من المصاديق والجزئيات التي ترد عليه، فلا حكم في العقل إلا أن يكون كلياً منضبطاً لا يدخل فيه التردد والشك؛ فإنه بعدما يرد على العقل من الصغريات والجزئيات يستنبط منها القاعدة الكلية وهي حكم حسن العدل وقبح الظلم بأي معنى كان؛ كلّ واحد منهما مِمّا يرجع إلى نظر العرف في تشخيصهما فإنّ الإنسان يطبق ذلك الحكم العقلي الكلي على ذلك الفرد. فالإختلاف لا بُدَّ أن يرجع إلى التطبيق والمصداق لا أن يكون راجعاً إلى إدراك العقل فإنه لا شكّ ولا تردد فيه بعد تنقيح الموضوع وتشخيصه عنده بمدركاته الخاصة. فليس في البين إلا عقل واحد؛ وهو الذي يدرك ويحكم وهو الذي يوعز الإنسان للعمل على طبقه، والفرد هو الذي يخطأ في التطبيق. ومن هنا جاء اصطلاح العقل العملي، وإلا فكلّ عمل مسبوق بحكم نظري يلزم الإنسان على الإذعان به وعليه التطبيق على أعماله، فالإختلاف لا بُدَّ أن يكون في التطبيق والجزئيات لا في الكليات. ولا يضرّ ذلك في إرجاع هذه الكليات إلى قواعد العقل النظري أو قواعد العقل العملي فإنهما يرجعان إلى مبدأ واحد وإن كان التفاوت يرجع إلى الإنسان في التطبيق ولكن في مجال العمل تحدث التصادمات والتزاحم..

ص: 330

وإلى ما ذكرنا يرجع ما ذكره في الجواب الصحيح الذي اختاره من أنّ مدركات العقل العملي لا خلاف فيها في نفسها ولكن قد يقع التزاحم بين المقتضيات؛ كما إذا لزم من عدم الكذب الخيانة مثلاً فيزاحم اقتضاء الصدق للحسن مع اقتضاء الخيانة للقبح، وفي هذه المرحلة قد يقع اختلاف بين العقلاء في الترجيح وتقييم أحد الإقتضائيين في قبال الآخر. وعليه فالإختلاف بين العقلاء في بعض مدركات العقل العملي لا يوجب تشكيكاً في أصل إدراكات هذا العقل.

وما ذكره قدس سره متين جداً ولكن التزاحم بين المقتضيات له أحكام أخرى عقلية أو شرعية يرجع إليها في رفعه، وذلك لا يضرّ بأصل الموضوع وهو ثبوت الأحكام العملية. وللكلام تتمة تأتي في محلها.إلا إنّ الكلام في إمكان استكشاف الحكم الشرعي فيه؛ فإنّ العقل العملي لوحده لا يكفي في ذلك ما لم تضمّ إليه مقدمة عقلية نظرية دائمة وهي قاعدة الملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع.

وقيل: إنّ هذه المقدمة بديهية واضحة باعتبار أنّ الشارع سيد العقلاء؛ فإذا حكم العقلاء بحكم بما هم عقلاء كان الشارع أول الحاكمين به. ومن أجل ذلك كان في التعبير بالتلازم مسامحة؛ فذهب بعض الأصوليين(1) إلى التعبير بالتضمّن لاندراج الشارع في العقلاء فيكون حكمه ضمن حكمهم.

ص: 331


1- . نهاية الدراية؛ ج2 ص8 و124.

وقد أشكل بعضٌ(1) في ذلك بما يلي:

1- إنّ الحسن والقبح أمران واقعيان ثابتان في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود، وليسا أمرين تشريعيين، فحكم العقلاء في المقام يراد به إدراكهم، لا تشريعهم أو بناؤهم.

2- وعلى فرض القبول فإنه لا يوجب دعوى الملازمة بين حكم العقلاء وحكم الشرع الذي هو سيدهم، لأنّ حكمهم إنما يصدر عنهم باعتبار وقوعه في طريق مصالحهم وحفظ أنظمتهم، والشارع سبحانه خارج عن دائرة تلك المصالح والنظام، فأيّ ملزم لأن يحكم بأحكامهم وتشريعاتهم.

وكِلا الوجهين قابل للمناقشة؛ أما الأول فلأنّ اعتبار كون الحسن والقبح أمرين واقعيين لا يغيّر من الموضوع شيئاً، لأن الأمر الواقعي قد يتعلق به التشريع وهو كثير في الشرائع الإلهية، فإذا أدرك العقلاء أمراً واقعياً فإنه يدخل في صلاح حالهم وتنظيم نظامهم يتعلق به التشريع كما هو واضح. وأما الثاني فلأنّ تشريع الشرائع الإلهية فيه مصالح شتى لا تقتصر على خصوص ما يرجع إلى مصالح العباد وحفظ أنظمتهم. والشارع على كل حال لا يكون خارجاً عنها، بل يكون داخلاً فيهم؛ إما تشريفاً لهم وإرفاقاً بهم كما هو المشاهد في بعض التكاليف الصادرة عن الموالي العرفية بالنسبة إلى العبيد مع جعل نفسه معهم إشفاقاً عليهم، أو لأغراض أخرى ترجع إليهم فقط دونه.

وقيل: باستحالة جعل حكم شرعي مقابل دعوى الملازمة فيستحيل استكشافه على طبق حكم عقلي؛ لأنّ الحكم الشرعي إنما يكون بداعي التحريك بتوسيط حكم عقلي في النهاية بقبح المعصية ولزوم الإطاعة للمولى، والمفروض في المقام أنّ الحكم العقلي بالقبح أو

ص: 332


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص138.

الحسن ثابت منذ البداية؛ فإذا كان محركاً للعبد كفى وحصل المقصود بلا حاجة إلى توسيط جعل شرعي وإلا فلا فائدة في جعله لأنه وحده لا يكون محركاً من دون محركية الحكم العقلي بقبح معصيته.ولكن عرفت مكرراً أنّ جعل الأحكام الشرعية لم يكن الداعي فيها مجرد التحريك فإنّ هناك دواعي أخرى نحو ذلك، وعلى فرض التنزّل فإنه لا مانع من تعدد الملاك في تحريك العبد، ويكون من التأكيد في الملاك، ويكون الملاك العقلي محركاً آخر مع المحرك الشرعي. ومن جميع ذلك يظهر بطلان ما ذكره بعض الأصوليين في بطلان دعوى الملازمة، فراجع. وعليه؛ يمكن التمسك بدعوى الملازمة بعد ثبوت الحكم العقلي العملي فيستكشف منه الحكم الشرعي.

المبحث الثالث: دعوى أن يكون القصور المدّعى في الدليل العقلي من ناحية المنجزية والمعذرية بمعناها الأصولي

المبحث الثالث(1): دعوى أن يكون القصور المدّعى في الدليل العقلي من ناحية المنجزية والمعذرية بمعناها الأصولي

بعد إثبات إمكان استكشاف الحكم الشرعي من الأحكام العقلية العملية فقد ذهب بعضٌ إلى دعوى قصور الدليل العقلي من حيث المنجزية والمعذرية، وذلك لأجل نهي الشارع عن اتباعه. وهذا النهي كما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره (2) يفترض تارةً؛ نهياً عن الدليل العقلي بعد حصول اليقين به، وأخرى نهياً عن التوجه إلى الإستدلالات العقلية وصرف الذهن عن هذا المجال إلى الأدلة النقلية.

وذكر أنّ الأول غير معقول على ما تقدم، وقد عرفت أنّ ما ذكروه غير تام على مبنى السيد الوالد قدس سره .

ص: 333


1- . من مباحث الجهة السادسة في حجية الدليل العقلي.
2- . فرائد الأصول؛ ج1 ص21.

وأما الثاني فقد ذكر إنه معقول لأنه يرجع إلى تنجيز الواقع من أول الأمر من ناحية ما يؤدي إليه التوجه إلى المطالب العقلية من الوقوع في المخالفة.

فالمكلف بعد أن حصل له القطع يضطر إلى العمل على وفق قطعه لحجته الذاتية إلا أنّ إضطراره هذا مسبوق بسوء اختياره، فلا ينافي تنجّز الواقع في مورد قطعه عليه أيضاً إذا صادف مخالفته للواقع؛ نظير من توسط الدار المغصوبة فاضطر إلى الغصب في حال الخروج بسوء اختياره.

والفرق بين النحوين من النهي الذي ذكره الشيخ قدس سره يظهر فيما إذا صادف القطع الحاصل من الدليل العقلي للواقع لا بتسبيب من المكلف حيث توجه إلى الأدلة والإستدلالات العقلية فإذا كان النهي على النحو الأول كان مشمولاً له، وإذا كان بالنحو الثاني فإنه لم يكن مشمولاً له كما هو واضح.

ولكن الكلام في الدليل على مثل هذا النهي؛ فإنه لا دليل عليه سوى ما يتوهم من إمكان استفادته من الروايات الناهية من العمل بالرأي بدعوى صدقها على العمل بالأدلة العقلية.

ولكن عرفت من مطاوي أبحاثنا أنّ مقصود الروايات المتضمنة للنهي عن العمل بالرأي هو ما كان معروفاً عند العامة المعاصرين للأئمة علیهم السلام هو الإعتماد علىالأقيسة والإستحسانات الظنية والمصالح المرسلة والإستقلال التام في مقام الإستنباط بعيداً عن عدل القرآن الكريم وهم الأئمة المعصومين علیهم السلام بالرجوع إلى الكتاب والسنة، أو الرأي من دون مراجعتهم في الوقوف على شرحهم وتفسيرهم، أو على المخصص، أو المقيد والمبين كما كان عادة جمهور علمائهم وفقهائهم، فلا إطلاق لها ليشمل القطع الحاصل من الدليل العقلي.

ص: 334

ولو فرض إطلاق الرأي على ذلك فإنه يمكن الجواب عنه بأنّ المعارضة تقع بين إطلاق هذه الأخبار وبين ما دلّ من الروايات على لزوم اتباع العلم وجواز القضاء أو العمل به وبراءة ذمة العامل به من دون تقييده بالعلم الحاصل من الدليل الشرعي. والنسبة بينهما هي العموم من وجه، وبعد التعارض والتساقط لا يبقى دليل على النهي المزبور.

وهذه المعارضة أولى من إيقاع المعارضة بين إطلاق روايات النهي عن العمل بالرأي وبين إطلاق الروايات التي تحثّ على الرجوع إلى العقل؛ فقد نوقش في دلالة الأخيرة وسندها. ولكن الحق أنّ دلالتها تامة ويمكن الإعتماد عليها أيضاً من حيث صحة صدورها والوثوق به. ويمكن أن نقول أنّ المراد من الحجة التي يجب الرجوع إليها كما نطقت به الأخبار هي مطلق الحجة؛ الأعم من الحجة الظاهرة والباطنة، مضافاً إلى أنه يكفي التقرير في مثل هذا الأمر العقلائي العام البلوى في كل عصر وزمان وإلا لردع عنها بالخصوص.

والحق أنّ الإعتماد على العقل في إثبات أعظم الأمور المتعلقة بالإنسان في النشأتين كعقيدة التوحيد والمعاد وما يرتبط بهما من الرسالات السماوية والشرائع الإلهية مِمّا لا يسع لأحد إنكاره، بل هو من البديهيات، فلا بُدَّ من توجيه كلام من أنكر الإعتماد على القطع الحاصل من الأمور العقلية فهو ينسجم مع أهم ركيزة في حياة الأفراد ويمكن أن نذكر له وجوهاً:

الوجه الأول: أن يكون اعتبار القطع في الأحكام الشرعية تعليقي على عدم ثبوت الردع من الشارع؛ فقد ورد الردع بمثل ما قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الباقر علیه السلام لرجلين من أصحابه: (شَرِّقَا وغَرِّبَا؛ فَلَا تَجِدَانِ عِلْماً صَحِيحاً إلا شَيْئاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ)(1). فكما يكون نفس الحكم تحت اختيار الشارع وضعاً ورفعاً فما يحصل منه القطع يكون أيضاً كذلك.

ص: 335


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص399.

الوجه الثاني: إنّ الأحكام الشرعية مفيدة ولو بنتيجة التقييد بما إذا حصل القطع بها من مبادئ خاصة دون مطلق ما يوجب حصوله. وهذا الوجه يرجع إلى سابقه في الواقع.

الوجه الثالث: أن يكون المراد من القطع في كلماتهم مطلق الإطمئنان.وهذه الوجوه الثلاثة خلاف ظاهر كلمات القوم.

الوجه الرابع: إنّ المراد من عدم اعتبار القطع الحاصل من العقليات عدم اعتبار قاعدة الملازمة لا أن يكون المراد عدم ترتب الأثر على القطع المستند إلى المقدمات العقلية مطلقاً. وقد استظهر بعض الأصوليين هذا الوجه من مجموع الكلمات بعد ردّ بعضها إلى بعض.

ولكن عرفت أنّ القاعدة تامة، وما أثير حولها من النقاش غير تام، بل إنّ اعتبار العقل في درك الأحكام العملية التي تنتظم بها حياة الإنسان من أهم مقاصد الشرائع الإلهية ودعوة الناس للرجوع إلى مرتكزاتهم العقلائية الصحيحة، بل إنّ الرسالات السماوية ليست إلا من إثارة دفائن عقولهم كما قال أمير المؤمنين علي علیه السلام (1).

ولكن لا بُدَّ من بيان أنّ كبريات قاعدة الملازمة محصورة في الأمور الثلاثة المعروفة؛ وهي حسن العدل، وقبح الظلم، وشكر المنعم. ولكن صغرياتها غير منحصرة، وقد تقدم ما يتعلق بذلك فيما سبق.

الوجه الخامس: إرجاع النزاع في هذا الأمر؛ وهو قاعدة الملازمة إلى النزاع اللفظي، فمن يقول بالملازمة في الأحكام العقلية العملية التي تطابقت عليها آراء العقلاء، ومن قال بعدمها في العقول الجزئية التي لا تحيط بشئ ولا يصدقها سائر العقلاء.

ص: 336


1- . نهج البلاغة؛ الخطبة1؛ إختيار الأنبياء.
المبحث الرابع: في توجيه كلمات بعض المحدثين

المبحث الرابع(1): في توجيه كلمات بعض المحدثين المتشددين كالمحدث الأسترآبادي قدس سره وشدة تعاليهم على الأصوليين في استكشاف الحكم الشرعي من الدليل العقلي من جهة قاعدة الملازمة من أنّ إنكارهم هذا يرجع إلى الفكر الفلسفي المادي الذي استولى على العلماء في القرون الأخيرة التي بدأت من القرن الحادي عشر. وقد عمّ هذا الفكر المادي الغرب ودخل الشرق وتأثر به علماء الإسلام؛ فتأثر هؤلاء الأعلام بذلك مِمّا حدا بهم إلى إنكار هذا الأمر الوجداني. ولكن الحق أنّ علماء الإمامية بمنأى عن هذا الفكر المادي، وأنّ كلتا الطائفتين من المحدثين والأصوليين لأجل شدة احتياطهم وحرصهم على الشرع وتراث الفكر الشيعي من التأثر بهذا الفكر الغربي الملحد الذي تأثر به أغلب المفكرين المسلمين؛ كان خوفهم الشديد على هذا التراث المستند إلى منابع الوحي؛ فكان المحدثون يذهبون إلى سدّ أبواب الذرايع التي انتشرت عند الفكر السنّي باستعمالهم الرأي واعتمادهم الكبير عليه واستنادهم على القياس والإستحسانات وغيرها، فخافوا على الفقه الإمامي منالتأثر بالفكر السنّي وتشتت أمره؛ فذهبوا إلى نبذ الأحكام العقلية والإقتصار على ما ورد من المعصومين علیهم السلام . كما أنّ الأصوليين كان همّهم الكبير نبذ الجمود والتقليد المطلق كما عليه الجمهور، فقد أغلقوا على أنفسهم باب الإجتهاد واقتصروا على ما قاله سلفهم فأصبحوا من المقلدة وعطّلوا أعظم نعمة آلهية وهو الإعتماد على العقل في فهم النص، فكان حرص كلتا الطائفتين على حفظ هذا المذهب من التأثر بالمذاهب الباطلة والفكر الذي لم يرضَ به الشارع المقدس؛ فأحداهما طرح العقل في استكشاف الحكم الشرعي ولكنه وقع من حيث لا يدري في متاهة أخرى وهي غلق باب الإجتهاد، كما أنّ الثانية فتح باب الإجتهاد واستعمل العقل ونبذ التقليد المحض ولكنه وقع في متاهة أخرى وهي

ص: 337


1- . من مباحث الجهة السادسة في حجية الدليل العقلي.

فتح باب الإجتهاد على مصراعيه، فدخل فيه من لم يكن جامعاً للشروط المطلوبة وكثرت الآراء الفقهية وتعددت حتى كاد أن يضيع الواقع الذي أراده الأئمة علیهم السلام لولا ظهور طائفة ثالثة خففت من تأثير سلبيات الطرفين المزبورين؛ فاعتمد على ركيزة خاصة تجتمع عليها أفكار كلتا الطائفتين وهو الفكر الأصولي الجامع للفكر الإخباري، فلم يتعدوا عن النص ولكن بآلية المشهور وفهمهم له، واستعملوا العقل في حدود الكبريات الثلاثة التي ذكرناها آنفاً، لا استعمال الرأي الخاص في فهم النص والإعتماد على القياس والإستحسان والمصالح المرسلة ونحو ذلك، من دون أن يغلقوا باب الإجتهاد كما عليه المحدثون، ولا أن يفتحوه على مصراعيه ليتفكك الفقة الإمامي وتكون فيه مدارس مختلفة كما هو الحال عند الجمهور.

هذا ما أردنا إثباته والإشارة إليه في المقام، والتفصيل يطلب في محله.

المبحث الخامس: فروع في مخالفة العلم التفصيلي

ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره (1) في ختام هذا البحث فروعاً قد يتوهم فيها وقوع الردع فقهياً عن العمل بالعلم، فيوهم ذلك إمكان ردع الشارع عن العمل بالقطع وأمره بترك العلم التفصيلي الحاصل للمكلف. واختار بعض الأصوليين(2) خمسة منها، ونحن نتبعهم ونذكرها في المقام وإن كان موضعها علم الفقه ولكن لا تخلو من نكات وفوائد:

الفرع الأول: ما إذا علم بجنابته أو جناية شخص آخر، وهذا المورد من موارد العلم الإجمالي غير المنجز لأنّ جناية الآخر تكليف شخص آخر لا يرتبط به فلا يكون له علم تفصيلي بالتكليف عليه، فتجري الأصول المؤمّنة في حق كل واحد منهما في حدّ نفسه ولكن

ص: 338


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص24 وما بعدها.
2- . ذكرها السيد الخوئي في أجود التقريرات؛ ج2 ص57-62، وتبعه السيد الصدر في بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص141 وما بعدها.

ذلك يستلزم المخالفة التفصيلية فيما إذا اقتدى أحدهمابالآخر من دون غسل؛ حيث يعلم المأموم ببطلان صلاته تفصيلاً إما من جهة بطلان صلاة الإمام أو صلاته. وقيل في جوابه وجوه متعددة نذكر منها:

1- القول بأنّ صحة الإئتمام مبني على صحة صلاة الإمام ظاهراً أو اعتقاداً، وهذا ثابت في المقام فلا علم تفصيلي ببطلان صلاة المأموم واقعاً.

وأشكل عليه بأنه منافٍ لإطلاق ما دلّ على صحة صلاة الإمام واقعاً.

2- عدم جريان الأصول المؤمّنة في المقام في نفسها حتى يستلزم منه مخالفة علم تفصيلي؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي بجنابة أحد الشخصين علم إجمالي يتنجز فيما لو فرض أنّ جناية الآخر كانت موضوعاً للأثر بالنسبة إلى الأول كما إذا كان الإمام عادلاً يجوز الإئتمام به أو كان ممن يحقّ إدخاله في المسجد وقلنا بحرمة إدخال الجنب إليه أيضاً، فإنه في مثل ذلك يتشكل علم إجمالي بالتكليف على كل حال.

أما أنه يجب عليه الغسل فلا يمكنه الإجتزاء بصلاة من لم يغتسل، أو يحرم عليه الإئتمام بالآخر، أو إدخاله في المسجد ولو بعد أن يغتسل فهو علم إجمالي منجّز موجب لتساقط الأصول في الأطراف.

وقد نوقش ذلك مفصلاً في الفقه، ولكنه غير تام .

3- إنه لو قلنا بجريان الأصول الموضوعية في حق الشخصين معاً فلا إشكال في أنّ الأصل الموضوعي إنما يؤمّن بلحاظ التكليف الذي لا علم تفصيلي بثبوته؛ كما في صورة اقتداء أحدهما بالآخر من دون غسل من أحدهما لأنّ الأصل المصحّح إنما يصحّح محتمل البطلان لا معلوم البطلان، فيلتزم بالتبعيض في الآثار المترتبة على الأصلين بين ما لا يقطع بعدم ترتبه وما يقطع بذلك.

ص: 339

الفرع الثاني: ما إذا اختلف شخصان في البيع والهبة بعد اعترافهما على انتقال المال؛ فالمالك الأول يدّعي البيع فعلى الثاني دفع الثمن وهو يدعي الهبة بلا عوض وبراءة ذمته من الثمن؛ فقد قيل بعدم ثبوت الهبة ولا البيع مع عدم البيّنة، ويحكم برجوع المال إلى الأول مع أنه يعلم تفصيلاً بانتقاله إلى الثاني. وهذا حكم ظاهري مخالف للعلم التفصيلي.

وأجيب عنه بأنّ الهبة إذا كانت جائزة فيمكن للواهب الرجوع فيها؛ فإنه بادّعائه البيع ولزوم المنتقل إليه المال دفع الثمن هو رجوع منه في الهبة لو كانت في الواقع. وأما إذا كانت الهبة لازمة كما إذا كانت إلى ذي رحم فإنّ النزاع في المقام يرجع إلى التداعي؛ فإنّ المالك الأول يدّعي البيع وينفي الهبة، فيجب على الثاني إبراء ذمته من الثمن. والمالك الثاني يدّعي الهبة وينفي البيع، فلا يجب عليه دفع العوض فينفسخ كل واحد منهما ويرجع المال إلى المالك الأول.

وأشكل عليه بأنّ ليس المقام من التداعي، بل يرجع النزاع بينهما إلى أنّ الأول يدعي ثبوت حق في ذمة الثاني واشتغال ذمته بالعوض وهو ينكر.والحق؛ أنّ هذا النزاع يرجع إلى تعيين مصبّ الدعوى عند كل واحد من الطرفين، وهو يتعين بنظر العرف، وإلا فإنّ كل نزاع يمكن إرجاعه إلى التداعي. والصحيح في المقام هو الإحتمال الثاني كما هو ظاهر.

الفرع الثالث: إذا أقرّ بمالٍ لشخص ثم أقرّ به لشخص آخر فيجب على المقرّ دفع العين المقر بها إلى الأول ودفع عوضها مثلياً أو قيمياً إلى الثاني. وهذا لا إشكال فيه، وإنما الكلام فيما إذا انتقل المعوض والعوض إلى شخص ثالث فإنه يعلم إجمالاً بالبطلان وعدم انتقال أحدهما إليه وعدم تملكه له إما العوض أو المعوض، كما أنه لو اشترى بهما معاً شيئاً ثالثاً علم تفصيلاً بعدم إستحقاقه له.

ص: 340

وأجيب عنه بأنّ دليل حجية الإقرار يشمل كل واحد من الإقرارين؛ فبعد دفع العين للأول يؤخذ بإقراره الثاني فيجب عليه دفع عوض العين المُقَرّ بها التالفة عليه لأنه أتلفها عليه.

وكيف كان؛ فانه يلتزم بتمام آثار حجية الإقرارين إلا ما يعلم تفصيلاً.

وربما يقال بأنّ الإقرار الثاني لا يشمله دليل الإقرار ونفوذه لأنّ العين قد خرجت بالإقرار الأول عن ملكه فيكون الإقرار الثاني إقراراً في حق مال الغير فلا ينفذ كما هو معلوم.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ الإقرار الثاني صحيح باعتبار مدلوله الإلتزامي لكلام المقرّ دون المطابقي، وهو أنه إذا أُتلفت العين المُقَر بها فيجب على المقر ضمان بدلها فيكون نافذاً لشمول دليل الإقرار له.

الفرع الرابع: لو اختلف المتبايعان في تعيين الثمن أو المثمن؛ كما إذا قال البايع (بعتك الكتاب)، والمشتري يقول (بعتني الحصان)، فإنه يكون من موارد التحالف حيث يدّعي واحد منهما على الآخر حقاً وينكر ما يلزم الآخر، وبعد التحالف يحكم ظاهراً بعدم كليهما مع أنه يعلم إجمالاً بعدم ملكية البايع لأحد المبيعين ويعلم تفصيلاً بعدم ملكية المشتري للثمن إذا كان شخصياً.

وقد ذكر بعض الفقهاء(1) أنّ ذلك مبني على أن يكون التحالف غير موجب للإنفساخ واقعاً وإلا فلا مخالفة لعلم إجمالي فضلاً عن تفصيلي، فإنه يعلم بمالكية كل منهما بما في يده بعد التحالف، وكذا إذا قلنا بالإنفساخ الظاهري في موارد التحالف لا أن يكون واقعياً فإنه يلتزم به إذا لم يؤدِ إلى مخالفة علم منجز.

ص: 341


1- . وهو السيد الخوئي قدس سره على ما نقل السيد الصدر قدس سره في بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص145.

ويمكن تصحيح الإنفساخ الواقعي بعد التحالف بأن يرجع إلى أحد المتبايعين الذي له الحق في فسخ المعاملة فيما يرى أنّ طرفه الثاني لا يريد دفع ما بيده وغير متصدّ له, فبالتحالف يحصل الفسخ واقعاً.الفرع الخامس: ما إذا أودع شخصان عند ثالث أحدهما درهماً والآخر درهمين ثم ضاع أحدهما من دون تمييز للضايع، فقد ذهب المشهور إلى أنه يجب عليه دفع درهم ونصف إلى صاحب الدرهمين ونصف درهم إلى صاحب الدرهمين مع أنه يعلم بأنّ كله لأحدهما؛ لرواية السكوني(1).

وذهب الشهيد الثاني(2) ناسباً له إلى الشهيد الأول في الدروس إلى أنّ أحد أقوال العلامة أنه يقسّم الدرهمين الباقيين بينهما أثلاثاً؛ فيعطي لصاحب الدرهمين درهم وثلث، ولصاحب الدرهم ثلثا درهم. بدعوى ضعف رواية السكوني سنداً، وتطبيقاً لقاعدة الشركة القهرية على المال فتقع الخسارة بينهما بحسب النسبة تبعاً للقاعدة.

وأشكل عليه بأنّ الشركة فرع الإمتزاج لا مجرد الإشتباه، مع أنّ المشهور حكموا بالشركة القهرية في الإمتزاج.

وكيف كان؛ فإنه يمكن الاعتماد على دليل المشهور، ولكن الحكم بالتنصيف حكم ظاهري فيمكن أن يقال بأنه لا إطلاق له ليشمل ما إذا خالف علم منجز.

ص: 342


1- . مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنِ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ علیهم السلام فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا دِينَارَيْنِ فَاسْتَوْدَعَهُ آخَرُ دِينَاراً, فَضَاعَ دِينَارٌ مِنْهَا قَالَ: (يُعْطَى صَاحِبُ الدِّينَارَيْنِ دِينَاراً ويُقْسَمُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ). وَرَوَاهُ فِي الْمُقْنِعِ مُرْسَلًا, وَرَوَاهُ الشَّيْخُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ السَّكُونِيِ مِثْلَهُ إلا أَنَّهُ قَالَ: (ويَقْسِمَانِ الدِّينَارَ الْبَاقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ). [وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج18 ص452].
2- . مسالك الأفهام؛ ج4 ص266.

ولكن يمكن أن يقال بأنه لا موجب لحمل الرواية على الحكم الظاهري، بل يؤخذ بالحكم فيه حتى مع العلم بعدم مطابقة التنصيف للواقع، فلعله يرجع إلى الصلح القهري بينهما من قبل الشرع فيكون الإنقلاب واقعياً فلا موضوع للنقض.

ص: 343

الجهة السابعة: العلم الإجمالي وما يتعلق به

اشارة

الجهة السابعة(1): العلم الإجمالي وما يتعلق به

تمهيدٌ

البحث في العلم الإجمالي من أهم المباحث في الأصول حيث تترتب عليه فروع فقهية كثيرة ذكرت في مواضع مختلفة في الفقه، وقد وقع هذا البحث في موضعين: أحدهما هذا المقام، وهو من مباحث القطع. والآخر يقع في مباحث الأصول العلمية، والتداخل في البحثين ظاهر ولكن يختلف كل واحد منهما حسب المنهجية؛ فإنّ البحث في المقام يكون من جهة منجزية العلم الإجمالي بلحاظ وجوب الموافقة القطعية أو حرمة المخالفة القطعية، وفي كل منهما؛ إما أن تكون منجزية العلم الإجمالي بنحو العلّية التامة بحيث يستحيل الترخيص، أو بنحو الإقتضاء والتعليق على عدم ورود ترخيص شرعي بخلافه.

فإذا اثبت كون العلم الإجمالي على نحو العلّية التامة للتنجيز فتحرم المخالفة وتجب الموافقة معاً، فلا تصل النوبة إلى بحث آخر إلا من باب التطبيقات والتنبيهات.

وأما إذا اخترنا كون العلم الإجمالي بنحو الإقتضاء في منجزيته فيأتي البحث عن جريان الأصول العملية باعتبار شمول أدلتها لموارد الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

وكيف كان يكون البحث في المقام عن كون العلم الإجمالي علّة تامة للتنجز فيستحيل الترخيص بخلافه، أو أنه مقتضٍ له فقط بحيث يتوقف على عدم ورود ترخيص شرعي بخلافه، وعلى الأخير فهل يوجد المانع عن الإقتضاء أو لا يوجد؟

ولا فرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي في نفس العلم من حيث هو علم، بل ولا في متعلقه من حيث هو طرف إضافة العلم بالذات؛ وإنما الفرق بينهما يكون في المعلوم بالعرض المتحقق من الخارج من جهة سراية الجهل والتردد إليه في العلم الإجمالي دون

ص: 344


1- . من جهات البحث في القطع.

العلم التفصيلي، فيكون محور البحث هو أنّ الجهل الساري إلى الأطراف هل يصلح للمانعية؟ فإذا قلنا بالسراية يبقى العلم الإجمالي على مجرد الإقتضاء فقط، وأما إذا قلنا بعدم السراية فيكون العلم الإجمالي علّة تامة للتنجز كالتفصيلي من غير فرق بينهما، فيقع البحث في مقامات:

المقام الأول: في حرمة المخالفة القطعية

والكلام عنه يقع في موضعين:الموضع الأول: في أصل منجزية العلم الإجمالي.

الموضع الثاني: في كون هذه المنجزية على نحو العلّية التامة أو الإقتضاء بها.

أما الموضع الأول؛ فقد ذهب جميع العلماء إلى منجزية العلم الإجمالي وأنه كالعلم التفصيلي. واستدلوا عليه بأمور:

الأمر الأول: إنّ ارتكاب أطراف العلم الإجمالي أو بعضه يستلزم الترخيص في المعصية الحقيقية، وهو قبيح عقلاً، فتحرم المخالفة القطعية.

وأشكل عليه بأنه قد لا تتحقق المعصية الحقيقية في موارد العلم التفصيلي؛ لأنّ ليس كل علم تفصيلي يكون مطابقاً للواقع فكيف بموارد العلم الإجمالي فيقع الشك في تحقق المعصية الحقيقية. وسيأتي مزيد بيان في موارد الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي.

الأمر الثاني: ما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) وغيره من أنّ مخالفة العلم الإجمالي إنما هو هتك للمولى وعدم المبالاة بالزاماته وهما قبيحان عقلاً.

وبناءً على هذا لا تختص المخالفة بارتكاب جميع الأطراف بل تجري أيضاً بارتكاب بعض الأطراف.

ص: 345


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص44.

وأورد عليه بأنّ الهتك وعدم المبالاة لهما مراتب تختلف شدةً وضعفاً، وربما تكون مختصة بالمرتبة الشديدة فقط، فتختص حرمة المخالفة بالعلم التفصيلي فقط.

ويمكن الجواب عنه بأنّ هتك المولى وعدم المبالاة بالزاماته والتهاون بها والاستخفاف بها قبيح بجميع المراتب لا سيما بالنسبة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.

الأمر الثالث: ما ذكره السيد الصدر قدس سره من الإحتياط العقلي على أساس حق الطاعة، فيكون احتمال التكليف منجزاً عليه حينئذٍ، فتحرم عليه المخالفة مطلقاً.

وعليه؛ فلا تختص بارتكاب جميع الأطراف بل تشمل حتى بعض الأطراف.

وهو صحيح في الجملة، ولكن تقدم ما يتعلق بذلك وسيأتي مزيد بيان.

الأمر الرابع: إنّ العلم الإجمالي يصلح أن يكون بياناً فلا يصحّ الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيتنجز العلم الإجمالي وتحرم المخالفة مطلقاً.

والكلام في ذلك هو أنه هل يوجب التنجيز على نحو العلّية التامة، أو يبقى على نحو الإقتضاء والتعليق فلا إشكال في منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة حتى على ما ذهب إليه الأصوليون من قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ البيان تام بالنسبة إلى المخالفة القطعية إما لمعلومية الجامع أو الواقع المعلوم بالإجمال أو الفرد المردد حسب المسالك المختلفة في تفسير ماهية العلم الإجمالي وما يتعلق به.

وأما الموضع الثاني؛ في كونه على سبيل العلية أو بنحو الإقتضاء والتعليق.والكلام تارةً؛ يقع في مقام الثبوت، وأخرى في مقام الإثبات:

أما في مقام الثبوت؛ فالأقوال فيه متعددة والعمدة فيها هو الأول وهي تباعاً:

القول الأول: قد يقال بأنّ منجزيته على نحو الإقتضاء والتعليق باعتبار أنّ ما ذكر في وجه التنجيز من أنّ الهتك وعدم المبالاة مشروطة بعدم ورود الترخيص عقلاً أو شرعاً وقد

ص: 346

أحرز؛ فإنّ الأول منحصر في قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والثاني عبارة عن العمومات المثبتة للأحكام الظاهرية مثل ما ورد الصَّادِقُ علیه السلام : (كُلُّ شَيْ ءٍ مُطْلَقٌ حَتَّى يَرِدَ فِيهِ نَهْيٌ)(1).

وما روي عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (كُلُّ شَيْ ءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِه)(2).

ومثل ما جاء عن أبي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي حَدِيثٍ قَالَ: (كُلُّ شَيْ ءٍ نَظِيفٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَذِرٌ)(3). وسيأتي الإشكال في صحة التمسك بهما.

وأُشكل على كل واحد منهما:

أما الأول؛ فقيل بأنه لا ريب في عدم إنطباقها على موارد العلم لتمامية البيان ووصوله من طرف المولى وعدم خللٍ فيه من جهته، وترددُ الأطراف خارج عما هو وظيفته مع أنّ ارتكاب بعض الأطراف تساهل وتسامح في الدين وعدم مبالاة بأحكام المولى وإلزاماته، وهو قبيح وليس للعقل والعقلاء تجويز ذلك.

وأما الثاني؛ فإنه يرد عليه:

1- بالشك في شمول تلك العمومات لمورد العلم الإجمالي وهو يكفي في عدم جواز التمسك بها، لأنَّه من التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية.

2- إنّ ارتكاب أطراف العلم الإجمالي مطلقاً مع العلم بكونه طرفاً للنهي الإلزامي أو ترك بعض أطرافه مع العلم بكونه طرفاً للأمر الإلزامي من موارد عدم المبالاة بشأن المولى لدى المتشرعة بل العقلاء، ولا ريب في قبح ذلك في الجملة وليس للشارع الحكيم الترخيص في ذلك، وسيأتي مزيد بيان.

ص: 347


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 27 ص 174.
2- . المصدر السابق؛ ج17 ص89.
3- . المصدر السابق؛ ج3 ص467.

القول الثاني: ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى علّية العلم الإجمالي للتنجيز وامتناع جعل الترخيص الشرعي الظاهري في تمام أطرافه لأنّ في المخالفة القطعية عصياناً قطعياً للمولى وهو قبيح، فيكون الترخيص قبيحاً ممتنعاً على الشارع.ويستفاد من ذلك أنّ حكم العقل بحرمة المخالفة القطعية تنجيزي لا أن يكون تعليقياً وإلا كان الترخيص الشرعي رافعاً لموضوع العصيان القبيح. وما ذكره قدس سره من حكم العقل في إثبات التنجيزية لا بُدَّ أن يكون أساس افتراض خصوصية فيه تمنع عن إمكان رفعه من قبل الشارع بالترخيص، وهذا يكون تصويره ضمن وجوه:

1- ملاك مولوية المولى التي لم تكن مجعولة من قبل جاعل، وإنما هي مولوية ذاتية يدركها العقل لكونه سيداً على الإطلاق وله حق الطاعة على عباده، وهذه الخصوصية لا إشكال في كونها ذاتية فيمتنع ارتفاعها على حدّ امتناع ارتفاع سائر صفاته عَزَّ وَجَلَّ الذاتية؛ كوجوب الوجود عنه سبحانه، ولكن ذلك لا ينافي الترخيص الشرعي الذي هو حق له عَزَّ وَجَلَّ أيضاً باعتبار مولويته فلا يكون الترخيص الشرعي رافعاً لمولويته عَزَّ وَجَلَّ بل يكون رافعاً لموردها بإعمال المولوية وتقديم الأهم من الملاكات.

2- أن تكون الخصوصية هي قبح ظلم المولى وهتكه والخروج عن طاعته بالعصيان, وهذه الخصوصية ذاتية أيضاً كسابقتها.

ولكن هذه الخصوصية غير حاصلة إذا كان هناك ترخيص شرعي من قبل المولى نفسه فلا يكون خروجاً عن طاعته، بل هو طاعة له وتنفيذ قراره وتشريعه الذي اتخذه في مقام الحفظ على الملاكات المتزاحمة.

ص: 348


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص242 وما بعدها.

3- القول بأنّ العقل يمنع المولى نفسه من أن يُعمل مولويته في مقام حفظ الملاكات وتقديم جانب الترخيص ومصلحته.

والظاهر عدم قبول هذه الخصوصية لأنها ترجع إلى تضييق دائرة مولوية المولى وتحديدها مع أنّ حرمة المخالفة إنما هي احترام مولويته كما هو غيرخفي.

ومن ذلك يظهر أنّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره لا يمكن أن يكون له استثناء، فلا بُدَّ أن يكون الحكم بحرمة المخالفة القطعية بل حرمة المخالفة مطلقاً حكماً تعلقياً منوطاً بعدم ورود ترخيص الشارع فيرتفع بترخيصه. نعم؛ هذا الترخيص لم يعقل في العلم التفصيلي لعدم معقولية التزاحم الحفظي للمصالح والملاكات بحسب نظر القاطع, وأما في موارد الشك والإشتباه حتى الموارد المقرونة بالعلم الإجمالي فهو معقول؛ فإذا ثبت الترخيص يكون رافعاً لموضوع الحكم العقلي بحرمة المخالفة القطعية.

القول الثالث: ما اختاره المحقق الخراساني قدس سره (1) في المقام من أنّ التكليف الواقعي سواءً كان مشكوكاً أو معلوماً بالإجمال؛ إن كان فعلياً من جميع الجهات فيستحيل الترخيص على خلافه لأنه يستلزم التضاد المحال، ومحذور التضاد لايفرق فيه بين القطع باجتماع الضدين أو احتماله أو كلاهما. وإن لم يكن فعلياً من جميع الجهات فلا بأس بالترخيص بخلافه حتى في موارد العلم لأنه مجرد حكم إنشائي لا أن يكون فعلياً، ولا تضاد بين الأحكام إلا بلحاظ مرحلة فعليتها.

وسيأتي مفصلاً في المباحث الآتية مناقشة ما ذهب إليه عند الكلام في كيفية الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية.

ص: 349


1- . كفاية الأصول؛ ص358.

وخلاصة ما يمكن إيراده عليه هو: إنه ما المراد من التكليف الواقعي الفعلي؟ فإن أراد به الحب والإرادة والبغض والكراهة أو المصلحة والمفسدة فلا إشكال في كون الحكم الواقعي فعلياً في موارد الشك والإشتباه، ومع ذلك من المعقول جعل الحكم الظاهري على خلافه من دون لزوم التضاد لا قطعاً ولا احتمالاً لأنّ ملاك الحكم الظاهري يختلف عن ملاك الحكم الواقعي فلا يكون الحكم الواقعي فعلياً في موارد الحكم الظاهري. نعم، لا يكون ذلك في العلم التفصيلي لعدم تصور التزاحم بين الملاكين فيه، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

القول الرابع: ما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره (1) من عدم معقولية الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في المنجزية؛ لأنّ الإجمال إنما يكون في خصوصيات لا دخل لها في موضوع حكم العقل بوجوب الإمتثال، وذلك لأنّ ما هو موضوعه إنما هو الأمر والنهي الصادرين من المولى، وأما خصوصية كونه متعلقاً بصلاة الجمعة أو بصلاة الظهر فلا دخل له في المنجزية وإلا كان وجوب صلاة الجمعة مثلاً منجزاً لكونه وجوباً لصلاة الجمعة بالخصوص، وهو واضح البطلان.

وعليه؛ فالمنجز هو أصل الإلتزام، وهو معلوم تفصيلاً ولا إجمال فيه.

ولعل هذا الوجه هو أسلم الوجوه باعتبار كونه لا يفرَّق فيه بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي في المنجزية؛ بمعنى أصل الإلزام، والعقل يجزم في كل منهما بحرمة المخالفة القطعية، ولكن ذلك لا ينافي حال ما إذا ورد دليل يدل على الترخيص فإنه يجوّز الإقتحام حينئذٍ، فيكون هذا الحكم الفعلي معلقاً على عدم ورود الترخيص فيه، وعدم وروده في العلم التفصيلي ضروري لاستحالة الترخيص فيه؛ إذ لو كان نفسياً لزم التضاد، وإن كان

ص: 350


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص18-19.

طريقياً فهو غير معقول لعدم معقولية التزاحم الحفظي، ولكن هذا لا يجري في العلم الإجمالي. وسيأتي مزيد بيان في صحة ذلك إن شاء الله تعالى.

والحاصل من جميع ما تقدم؛ أنّ العلم الإجمالي بنفسه منجّز كالعلم التفصيلي فتحرم المخالفة القطعية، إلا أنهم قالوا أنّ ذلك لا يكون على نحو العلّية التامة، وإنما على نحو الإقتضاء بحيث يتوقف على عدم ورود الترخيص. ولكن الحق إنه يمكن لنا القول بأنّ ما ذكره السيد الوالد والمحقق النائيني (قدس سراهما) تاميصحّ الإعتماد عليه في إثبات المنجزية على نحو العلّية التامة، فلا يمكن تصوير الترخيص في عالم الثبوت.

وما أثير من الإشكال عليهما يمكن دفعه كما هو واضح، فتكون المخالفة في أطراف الإجمالي محرمة مطلقاً.

ثم إنه يظهر مِمّا ذكرناه المناقشة فيما ذكره السيد الخوئي قدس سره من أنّ العلم الإجمالي ليس بنفسه منجزاً وإنما يكون لأجل جريان الأصول العملية في أطرافه وتساقطها.

هذا كله في مرحلة الثبوت.

وأما في مقام الإثبات؛ فالكلام فيه وإن كان موكولاً إلى بحوث الأصول العملية إلا إننا نذكر ما استدل به على الترخيص على نحو الإجمال، ويأتي التفصيل.

فقد استدل بالدليل العقلي؛ وهو الرجوع إلى الأصول العملية كالبراءة والإستصحاب لإطلاق أدلتها الشامل لتمام أطراف العلم الإجمالي.

والحق؛ أنه لا مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ العلم الإجمالي بالتكليف والإلزام بيانٌ صادر من المولى وهو تام، وقد وصل إلى المكلف. والإجمال خارج عن دائرة أصل التشريع ووظيفة الشارع، فلا إشكال فيه، فيكون ارتكاب بعض الأطراف تساهلاً وليس تسامحاً بالدين وعدم مبالاة بأحكام المولى وإلزاماته، وهو قبيح وليس للعقل والعقلاء تجويز ذلك.

ص: 351

مع أنه لا إطلاق لأدلة الأصول لتشمل أطراف العلم الإجمالي؛ فإنه ليس بعقلائي، إذ بحسب أنظارهم يعتبر مناقضاً ومتنافياً مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

وكذلك استدل بالأدلة الشرعية؛ وهي عمومات الأدلة الثانوية المتقدمة.

وأشكل على الإستدلال بها بالإضافة إلى ما تقدم، بوجوه عديدة:

الوجه الأول: إنّ التمسك بها في أطراف العلم الإجمالي من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه.

الوجه الثاني: إنَّ ارتكاب أطراف العلم الإجمالي مطلقاً مع العلم بكونه طرفاً للنهي الإلزامي أو تركها مع العلم بكونها مورد الإلزام الشرعي يكون من موارد عدم المبالاة بالدين وعدم الإهتمام بالشرع وإلزامات المولى عند المتشرعة بل العقلاء، فيكون قبيحاً في الجملة للشارع الحكيم الترخيص في ذلك، فإنّ ما يمكن أن يحتمل في مثل هذه الأخبار هو:

1- إنّ الشارع الأقدس رفع اليد عن الحكم الواقعي في موارد العلم الإجمالي رأساً، وهو خلف الفرض كما هو واضح.

2- إنه أذِن في الترخيص في جميع الأطراف، وهو ترخيص في المعصية فيكون قبيحاً بالنسبة إليه.

3- الترخيص في بعض الأطراف دون بعض هو ترخيص في عدم المبالاة بالدين، وإذْنٌ بالتجري في الجملة، وهو قبيح أيضاً لا يصدر من الشارع مع اهتمامه بأحكامه وتشريعاته والمحافظة عليها مهما أمكنه ذلك.

قد يقال بأنه لو ثبت الترخيص فإما أن يكون رفعاً للحكم في موارد العلم الإجمالي فيجوز ارتكاب الجميع، وإما أن يجعل بعض الأطراف بدلاً عن الحكم الواقعي، وإما أن يثبُت التخيير شرعاً أو عقلاً ففي هذين الإحتمالين يجوز ارتكاب بعض الأطراف.

ص: 352

ويمكن مناقشته بأنّ الإحتمالات الثلاثة باطلة؛ أما الإحتمال الأول فهو خلف الفرض كما عرفت مكرراً، ولا دليل على الإحتمال الثاني، وأما الإحتمال الثالث فإنّ إثبات البدلية أو التخيير الشرعي يحتاج إلى دليل وهو مفقود، وأما التخيير العقلي فلا وجه له لأنه يتحقق فيما إذا كان المناط في الطرفين أو الأطراف واحداً, وليس المقام كذلك.

الوجه الثالث: إنّ الإعتماد على مثل تلك الإطلاقات ينافي قاعدة المقدمية المرتكزة في النفوس؛ والتي هي موضع القبول عند الجميع. وقد ذكر صاحب الجواهر(1) أنّ أصحابنا يضربون عن هذه العمومات في الطهارة والحل والحرمة بل عن بعضهم الإلتجاء إلى أخبار القرعة دون تلك العمومات مع كونها بمرأى منهم ومسمع.

الوجه الرابع: إنّ الإمام علیه السلام طبّق تلك الأخبار على الشبهة غير المحصورة، فيعلم من ذلك عدم انطباقها على الشبهة المحصورة، فراجع.

الوجه الخامس: ذكر العلماء عدة احتمالات في تفسير قوله علیه السلام : (حتى تعرف أنه حرام بعينه) وهي:

الإحتمال الأول: إنّ الضمير في (بعينه) يرجع إلى نفس الحرام من حيث هو حرام، فيكون المراد من قوله علیه السلام : (كل شئ حلال حتى تعلم عين الحرمة). ولا ريب في تحقق العلم بالحرمة في موارد العلم الإجمالي.

وعلى هذا الإحتمال لا تجري هذه العمومات والإطلاقات في أطراف الشبهة غير المحصورة فضلاً عن المحصورة، مع أنه يظهر من بعض الأخبار أنه علیه السلام أجراها في الشبهات غير المحصورة, فيعلم منه سقوط هذا الإحتمال فيها أيضاً.

ص: 353


1- . جواهر الكلام؛ ج1 ص298.

الإحتمال الثاني: أن يكون المرجع في ضمير (بعينه) هو ما كان مورد الإبتلاء للمكلف فيكون المراد (كل شئ حلال حتى تعلم الحرام بعينه تكون مورد الإبتلاء). ولا ريب في تحققه في مورد العلم الإجمالي أيضاً لفرض أنّ الأطراف مورد الإبتلاء.الإحتمال الثالث: أن يكون المراد من العين الشخص الموجود في الخارج من حيث كونه قابلاً للإشارة الحسية، وبهذا المعنى لا تنطبق على أطراف المعلوم بالإجمال لفرض عدم إمكان الإشارة الحسية إلى شخص الحرام فيها، فلا تجري هذه العمومات في أطراف العلم الإجمالي.

واختار السيد الوالد قدس سره (1) الثاني من المحتملات، وإلا لقال علیه السلام : (شخص الحرام) لأنّ التشخص ينافي في التردد بخلاف العينية فإنها تشمل كل ما تحقق في الخارج ويكون مورد ابتلاء المكلف, فإنّ التحقق الخارجي لا ينافي التردد عند المكلف، مع أنه يوهن الإحتمال الثالث لأنّ تشخيص الموضوع خارجاً ليس من وظيفة الشارع حتى يلزم عليه بيانه، وعلى فرض كون المراد به هو المعنى الثالث فقد مرّ قبح ترخيص الشارع فيه، وإن كان ما ذكره قدس سره موضع تأمل سيأتي بيانه.

والحاصل؛ إنّ الجهل الذي هو مورد تشريع الأحكام الظاهرية مطلقاً ليس مطلق الجهل، بل خصوص الجهل الذي لا يكون مورداً لاحتمال تكليف فعليّ يكون منجزاً بالإحتمال العقلائي؛ فإنّ الجهل الذي يكون كذلك أي الجهل في أطراف العلم الإجمالي يكون خارجاً عن مورد الأخبار المزبورة تخصصاً كالشك الذي يكون مورد جريان الأصول العملية مطلقاً فهو الشك الثابت المستقر الذي لا يكون مورداً لاحتمال تكليف فعلي منجز بالإحتمال العقلائي, وإلا فهو خارج عنه تخصصاً.

هذا موجز الكلام في المقام وسيأتي التفصيل في بحث الأصول العملية إن شاء الله تعالى.

ص: 354


1- . تهذيب الاصول؛ ج2 ص47.
المقام الثاني: في وجوب الموافقة القطعية

والكلام عنه يقع في نقطتين أيضاً:

الأولى: في أصل تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إليها.

الثانية: في كونه على نحو الإقتضاء أو العلّية، والمشهور فيها التنجز مع الإقتضاء.

أما النقطة الأولى؛ فقد قالوا بأنّ العلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى الموافقة القطعية كما هو كذلك بالنسبة إلى المخالفة مطلقاً كما عرفت.

وقد اختلفوا في ذلك على مسالك ثلاثة:

المسلك الأول: إنّ العلم الإجمالي بنفسه لم يكن منجزاً، بل إن منجزيته بالنسبة إلى وجوب الموافقة إنما تكون بعد تساقط الأصول, وذلك لأنّ العلم الإجمالي يوجب تساقط الأصول أولاً، وهو يوجب المنجزية.وقد ذهب إلى وجوب الموافقة القطعية جمعٌ منهم السيد الخوئي قدس سره (1).

المسلك الثاني: ما ذهب إليه السيد الصدر قدس سره (2) من إنكاره لقاعدة قبح العقاب بلا بيان والرجوع إلى قاعدة حق الطاعة في محتمل التكليف, فيكون إحتمال التكليف منجزاً فضلاً عن العلم به.

المسلك الثالث: ما ذهب إليه المشهور من منجزية العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية بالتقريب الذي ذكرناه في المقام الأول.

ص: 355


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص245. وهو أحد قولي المحقق النائيني حسب تقرير السيد الخوئي، أمّا في تقرير الشيخ محمد علي الكاظمي في فوائد الأصول؛ ج2 ص9 فهو يذهب إلى أنّ العلم الإجمالي منجز لوجوب الموافقة القطعية مباشرة بلا واسطة.
2- . بحوث في علم الأصول (تقريرات حسن عبد الساتر)؛ ج8 ص403.

وذكر بعض الأصوليين أنّ منشأ الخلاف يرجع إلى الإختلاف في حقيقة العلم الإجمالي وماهيته، والإتجاهات فيه هي:

1- أن يكون متعلقاً بالفرد المردد؛ وهو المستفاد من كلمات المحقق الخراساني قدس سره (1) في بحث الواجب التخييري. فإنه في مقام دفع إشكال كيفية تعلق صفة الوجوب بالفرد المردد حاول تطويره بالقول بأنّ الوجوب أمر إعتباري لا بأس بتعلقه بالمردد, ووصفه بالعلم يكون حقيقة قد يتعلق بالفرد المردد كما في موارد العلم الإجمالي.

وأُشكل عليه بأنه مستحيل؛ لأنّ الفرد المردد لا وجود له خارجاً ولا ذهناً لما عرفت من أنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي من حيث نفس الصفة, ومن حيث المعلوم بالذات الذي هو الصورة الذهنية المقوّمة للعلم، فهي وجود ذهني، والوجود ذهنياً كان أم خارجياً يساوق التشخص والتعيّن فإذا كان الوجود متعيناً كانت ماهيته كذلك لأنها من حدّ الوجود، وإلا كان الوجود متردداً فلا يكون مشخصاً وهو خلف. فلا بُدَّ من تعيّن المعلوم بالذات وجوداً وماهيةً؛ أي بالحمل الشايع والأولي معاً.

2- أن يكون متعلقاً بالجامع؛ فيكون العلم الإجمالي علماً تفصيلياً بالجامع مع الشك في الخصوصيات. وقد اختاره المحقق النائيني ووضحه المحقق الإصفهاني(2) بأنّ الأمر في متعلق العلم الإجمالي لا يخلو من تصورات؛ فإما أن لا يكون متعلقاً بشئ أصلاً أو يكون متعلقاً بالفرد بعنوانه التفصيلي أو بالفرد المردد أو بالجامع، والشقوق الثلاثة الأولى كلها باطلة؛ لأنّ الأول خلاف كون العلم من الصفات ذات الإضافة فلا بد له من متعلق، والثاني ينقلب إلى العلم التفصيلي كما هو واضح، والثالث عرفت بطلانه بالبرهان المتقدم؛ فيتعين الرابع.

ص: 356


1- . كفاية الأصول؛ ص141.
2- . نهاية الدراية؛ ج3 ص87-90.

وعليه؛ يكون العلم الإجمالي علماً بالجامع وعلماً بكونه غير خارج عن أحد الفردين أو الأفراد, وقد فسّر السيد الصدر قدس سره (1) هذا الرأي إلى أنّ العلم بالجامع المقيد في ضمن إحدى الخصوصيتين يمكن تحليله إلى علمين كذلك.

1- ما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره (2) من تعلّق العلم الإجمالي بالواقع؛ لأنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي من حيث أنّ المعلوم فيهما معاً هو الواقع، أي الفرد المعين، والعلم الإجمالي مشوب بالإجمال كالمرآة غير الصافية بخلاف العلم التفصيلي، فيكون الفرق بينهما من ناحية نفس العلم نظير الفرق بين الإحساس الواضح والإحساس المشوب. وقد أبطل الأتجاه الثاني بقوله بأنّ العنوان القائم في أفق العلم؛ أعني المعلوم بالذات ينطبق على الواقع بتمامه لأنّ العلم إذا كان متعلقاً بالجامع فلا ينطبق إلا على الحيثية الجامعة بين الأفراد التي هي جزء تحليلي من الفرد، لأنّ الجامع إنما يُنتزع بطرح الخصوصيات الفردية ومعه يستحيل أن ينطبق على الفرد بتمامه، أي بما هو فرد مع إننا نجد أنّ المعلوم الإجمالي كذلك.

واعتُرض عليه بعدة اعتراضات لا تخلو من مناقشة، بل إنها تبعيد للمسافة وخروج عن الموضوع المبحوث عنه في المقام، مع أنه لا تترتب عليه ثمرة عملية كما لا يخفى على من راجع كلمات القوم وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

وقد حاول السيد الصدر قدس سره (3) الجمع بين الإتجاهات الثلاثة المزبورة ودفع الإشكالات عنها جميعاً باعتبار أنها لاحظت جانباً معيناً من العلم الإجمالي؛ وذلك لأنّ المفاهيم كما هو

ص: 357


1- . بحوث في علم الأصول (تقريرات حسن عبد الساتر)؛ ج8 ص407 وما بعدها.
2- . مقالات الأصول؛ ج2 ص18-19.
3- . بحوث في علم الأصول (تقريرات حسن عبد الساتر)؛ ج8 ص410.

المعروف في المنطق؛ إما كلية أو جزئية، وليس المقصود هو أنّ المفهوم الجزئي يختلف عن المفهوم الكلي في أخذ الخصوصية الزائدة مع الجامع, بل من هذه الناحية لا يكون المفهوم إلا كلياً, لأنّ أي قيد وخصوصية لو لاحظناها فهي خصوصية كلية في نفسها قابلة للصدق على كثيرين وإن فرض انحصار مصداقها خارجاً. والجزئية إنما تكون بالإشارة بالمفهوم إلى واقع الحصة والوجود الخارجي المتشخص به ذلك المفهوم، حيث إنّ التشخص الحقيقي يكون بالوجود لا بالماهيات مهما جمعناها بنحو التركيب والتلفيق، والوجود إنما يمكن إدراكه بطريق الإشارة التي هي عبارة عن استخدام المفهوم من قبل الذهن، وبعد ذلك يتضح أنّ متعلق العلم الإجمالي بكونه متعلقاً بمفهوم كلي. إلا أنّ هذا المفهوم الذي تعلق به ملحوظٌ بنحو الإشارة إلى الخارج، وبهذا يختلف عن الجامعالذي يتعلق به الوجوب في مرحلة الجعل مثلاً لأنه غير ملحوظ كذلك, وإن كان ملحوظاً بما هو فانٍ في الخارج.

ومن هنا صحّ الإتجاه الثاني من افتراض تعلق العلم بالجامع, وبما أنه علم به بنحو الإشارة إلى الخارج، وبهذا النظر يكون جزئياً فيكون ذلك مصححاً للإتجاه الثالث القائل بتعلق العلم الإجمالي بالفرد الجامع, لأنّ الكلي مستخدم بنحو الإشارة إلى الخارج، كما أنه مع الإتجاه الأول القائل بتعلق العلم الإجمالي بالفرد المردد لأن الإشارة في موارد العلم الإجمالي لا تعيِّن المشار إليه فيها من ناحية الإشارة نفسها لأنها إشارة إلى واقع الوجود، وهو وجود مردد بين الوجودين الخارجيين لا محالة.

والصحيح أنّ ما ذكره قدس سره غير تام وقابل للمناقشة كما هو مفصّل في علم المنطق، مع أنه لا يرفع الغموض عن حقيقة العلم الإجمالي؛ فإنّ أصحاب كل واحد من تلك الإتجاهات الثلاثة يريد بيان حقيقة هذا العلم من ناحيته وينفي الآخر فلا يجتمع مع الآخر أيضاً.

ص: 358

وما ذكره قدس سره في باب المفاهيم غير ما هو المعتبر في حقيقة العلم الذي هو الوضوح والصفاء، فلا يمكن أن يشوبه التردد.

فلا بُدَّ من الرجوع إلى العرف في فهم حقيقته, ولا ريب أنّ العلم من الصفات ذات الإضافة؛ إذ أنّ له طرفان أحدهما ذهني والآخر خارجي ينطبق عليه ما هو الموجود في الذهن، فمن ناحية كونه صفة نفسية لا اختلاف بين العلم الإجمالي والتفصيلي من حيث هو علم، كما إنه لا اختلاف بينهما من ناحية متعلقه من حيث كونه طرفاً لإضافة العلم بالذات.

وهاتان الجهتان هما المصححتان للإتجاه الثالث والإتجاه الثاني كما هو معلوم، والفرق بينهما في المعلوم بالعرض المتحقق في الخارج من جهة وجود الجهل والتردد في العلم الإجمالي دون التفصيلي، وهو المصحح للإتجاه الأول.

ومن ذلك كله يظهر أنّ منشأ النزاع في منجزية العلم الإجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية لم يكن هو الإختلاف في حقيقة العلم الإجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية بل لعلّه من أجل سراية الجهل والتردد إلى المعلوم بالذات أو عدم السراية.

وكيف كان؛ فبعد وضوح الحال في حقيقة العلم الإجمالي لا بُدَّ من بيان الوجه في كل واحد من المسالك الثلاثة في منجزية العلم الإجمالي بالنسب إلى وجوب الموافقة.أما المسلك الأول؛ وهو الذي اختاره بعضهم من أنّ العلم الإجمالي إنما يؤثر في التخيير ووجوب الموافقة بتوسط تساقط الأصول بالمباشرة فهذه الدعوى تنحلّ إلى أمرين:

أحدهما: عدم تأثير العلم الإجمالي مباشرة في ذلك.

واستدل عليه بأنّ العلم الإجمالي إنما يتعلق بالجامع، فالإشتغال اليقيني يكون بمقداره لا أكثر.

ص: 359

والآخر: إنّ المنجزية إنما تكون بعد تساقط الأصول، لأنّ العلم الإجمالي إذا كان علّة تامة لحرمة المخالفة فلا يمكن الترخيص في تمام الأطراف كما لا يمكن للبعض دون البعض لأنه من الترجيح بلا مرجح فتتساقط الأصول بالمعارضة، وبعد ذلك يكون كل طرف شبهة من دون أصل مؤمّن عليه، وهو كافٍ في التنجيز وإن كانت هذه المنجزية هي منجزية الإحتمال ولكن سقوط المؤمّن كان ببركة العلم الإجمالي. ومن هنا صحّ أن يقال بأنّ العلم الإجمالي منجز لوجوب الموافقة.

ويمكن الإشكال على كلا الأمرين:

أما الأول؛ فهو مبني على اختيار الجامع في متعلق العلم الإجمالي، وإثباتُه مشكلٌ كما عرفت سابقاً إذ لا حاجة إلى ذلك بعد إمكان تصوير حقيقة العلم الإجمالي بوجه آخر.

يضاف إلى ذلك أنّ ما ذكر على إطلاقه غير صحيح، فهو صحيح في الشبهات الحكمية وبعض الشبهات الموضوعية دون مطلق الشبهات كما سيأتي بيانه.

وأما الثاني؛ فقد ذكر السيد الصدر قدس سره (1) في ردّه أنّ سقوط الأصول المؤمّنة إن كان المراد منها جميع الأصول حتى العلية؛ فيرد عليه أنّ التعارض والتساقط في البراءة العقلية غير معقول، إذ لا تعارض في الأحكام العقلية لأنّ التعارض إنما يكون في عالم الإثبات لا الثبوت، وأحكام العقل أحكام ثبوتية تابعة لملاكاتها الواضحة لدى العقل الحاكم بها دائماً, فلا بُدَّ من ملاحظة الملاك. وأما الخصوصيتان بما هما خصوصيتان لم يتم عليهما البيان فلا بأس بالمخالفة، ولا يلزم منه الترخيص في المخالة القطعية لأنّ التأمين في الخصوصية لا يلزم منه التأمين في الجامع المعلوم.

ص: 360


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص165.

ومثل هذا التحليل لا يجري في الأصول الشرعية لأنه لا يمكن تحليل الوجوب الواحد إلى وجوب الذات ووجوب الخصوصية عرفاً؛ فإن كان المقصود تساقط البراءة الشرعية فقط فإنّ سقوطها غير مضرّ بعد فرض جريان قاعدة قبح العقاببلا بيان بلحاظ الخصوصية. وإن كان المقصود عدم المقتضي لجريان القاعدة لكفاية هذا المقدار من البيان فهذا من رفع اليد عن تطبيق حرفية القاعدة.

وما ذكره السيد الصدر قدس سره قابل للمناقشة فهو تطويل للمسافة وتام على مبناه من إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والصحيح أن يقال: إنّ المنجزية للعلم الإجمالي إنما تكون لأجل أن الترخيص بترك أطرافه يوجب الوقوع في المعصية الحقيقية, كما أنه يستلزم الترخيص في عدم المبالاة بالدين وهتك المولى وعدم الإحترام لإلزاماته كما عرفت، فلا تصل النوبة إلى تعارض الأصول في أطرافه وتساقطها مع أنه يكون عرضياً.

وأما المسلك الثاني؛ وهو الذي ذهب إليه السيد الصدر قدس سره الذي ذكر فيه أنه؛ بناءً على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا إشكال في منجزية الإحتمال فضلاً عن العلم، وأما بناء على عدم إنكارها فلا بُدَّ من التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية؛ فإنه في الأول لا يكون العلم منجزاً بخلاف الثانية؛ فإنَّه يكون منجزاً بنفسه للموافقة القطعية.

وذكر قدس سره في توجيه ذلك من أنه لا إشكال كبروياً في وجوب الموافقة القطعية في موارد الشك في تفريغ الذمة عن تكليف ثبت تنجُّزه واشتغال الذمة به فيكون البحث في المقام صغروياً من حيث أنّ المقدار المنجز من التكليف المعلوم بالإجمال بما يحصل الفراغ اليقيني عنه, فإنه بناءً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان يكون المقدار المنجز من التكليف هو المقدار المبيّن منه.

ص: 361

وأما المقدار غير المبيّن فهو باقٍ تحت القاعدة؛ فله قدس سره على هذا المنهج دعويان:

أحدهما؛ عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهات الحكمية في مورد العلم الإجمالي.

والأخرى؛ وجوبها في الشبهات الموضوعية منها.

واستدل على صحة الدعوى الأولى بأمرين:

1- إنّ العلم الإجمالي ينجز المقدار الذي تمّ عليه العلم لأنّ به يخرج عن اللا بيان إلى البيان فيتحقق التنجز، فلا مؤمّن في تركه حينئذٍ. ومن المعلوم أنّ العلم الإجمالي لم يجعلنا عالمين بأكثر من الجامع على جميع المباني التي تقدم شرحها.

ويمكن الإشكال عليه: بأنه بعد تحقق البيان في الجملة، والإجمال في العلم الإجمالي فلا مجال للرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ فبالعلم خرج اللا بيان إلى البيان, وحينئذٍ؛ فقد ثبت عدم التردد في الخارج والعلم بتحقق التنجز بالنسبة إلى أصل الحكم، ومهما فسّرنا حقيقة العلم الإجمالي فإنّ الملاحظ فيه نفس العلموتلك الصفة التي في النفس التي حقيقتها الصورة الذهنية، فليس في البين إلا مقدار ما دلّ عليه العلم الذي هو البيان. وعليه؛ فمن الواضح أنّ العلم الإجمالي جعلنا عالمين بأصل الحكم فتشتغل الذمة به، ويجب الخروج عنه، فلا مؤمّن إذا تركنا الأطراف جميعها.

2- إنّ الجامع الذي اشتغلت به الذمة عقلاً إنما تحصل الموافقة القطعية بالإتيان به، وهو يتحقق بإتيان أحد الفردين أو الأفراد لأنّ الجامع يوجد بوجود فرده فيكون إتيانه موافقة قطعية للمقدار المنجز المعلوم. وبالجملة؛ إنّ الجامع بين الوجودين ليس له إلا الجامع بين الإقتضائين لا مجموعهما.

ويرد عليه: إنه لم يثبت أنّ الجامع هو محور اشتغال الذمة في العلم الإجمالي، وعلى فرضه فإنّ الجامع في العلم الإجمالي الذي صوّره علماء الأصول يختلف عن الجامع في المفاهيم كما

ص: 362

اعترف به في مباحثه؛ فإنّ العلم له حقيقة في الذهن تتمثل في تلك الصورة الذهنية المسماة بالمعلوم بالذات، والمفروض انطباقها على ما في الخارج المردد؛ ففي كل واحد من الفردين أو الأفراد يحتمل فيه انطباق ذلك المعلوم بالذات، وبعد العلم به لا بُدَّ من الخروج عن عهدته.

وعلى ما ذكرنا فإنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الحكمية.

أما الدعوى الثانية وهي المنجزية في الشبهة الموضوعية؛ فلأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ولا يكون إلا بالإحتياط، وهذا بخلاف الشبهة الحكمية فإنّ المقدار المعلوم فيه ليس بأكثر من أحدهما الذي يتحقق بإتيان أي واحد منهما كما عرفت آنفاً.

فالجواب عنها واضح فإنه لا فرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية في موارد العلم الإجمالي بعد وضوح الحكم عند العالم وإن كان انطباقه على الخارج مردداً كالشبهة الموضوعية، والدليل على ذلك الوجدان العرفي الذي يفرق بين الشبهات البدوية والشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، وأنّ التجري فيها أشد من التجري في غيرها، ويشهد لما ذكرناه ما ذكره قدس سره في المقام فإنه يرشد أيضاً إلى ذلك فراجع كلامه قدس سره (1).

وأما المسلك الثالث؛ وهو الذي ذهب إليه المشهور، وهو اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة مطلقاً، وذهب المحقق العراقي قدس سره إلى أنّ الإقتضاء يكون على نحو العلّية، وذهب غيره إلى أنه مجرد الإقتضاء؛ فإنهم ذكروا في بيان ذلك وجهين:الوجه الأول: وهو مركب من أمور:

1- إنّ التنجّز يفترق عن العلم في أنّ الأول صفة للحكم الشرعي ومن شؤونه وهو أمر واقعي ثابت في لوح التشريع، بينما العلم يعرض على صورة في الذهن ويستحيل أن يتعلق بالواقع الخارجي.

ص: 363


1- . بحوث في علم الأصول (تقريرات حسن عبد الساتر)؛ ج8 ص115.

2- إنّ الواقع الخارجي الموضوع للحكم إنما يتنجز بشرط العلم به؛ بمعنى تعلقه بالصورة الذهنية المنطبقة عليه والحاكية عنه، دون الواقع الخارجي لما عرفت من أنه غير معقول.

3- إنّ الصورة العلمية المنطبقة على الواقع الخارجي قد تكون تفصيلية وقد تكون إجمالية، والتفصيل والإجمال بحسب الحقيقة حدّان للصورة الحاكية لا الواقع المحكي بها الذي لا يكون إلا تفصيلياً.

وإذا تمت هذه الأمور الثلاثة فيمكن لنا استنتاج منجزية العلم الإجمالي لواقع التكليف المعلوم بالإجمال لا للمقدار الجامع لأنّ العلم وإن تعلق بجامع إنتزاعي إلا أنّ الإشتغال والتنجز بواقع الحكم المعلوم على واقعيته بعد العلم بصورته المنطبقة عليه، وهذا لا يحرز الفراغ عنه إلا بالإحتياط.

ولكن يظهر مِمّا تقدم بيانه في حقيقة العلم الإجمالي أنه لا فرق بينه وبين العلم التفصيلي إلا في المعلوم بالعرض الذي يتعدد في الإجمال دون التفصيل وعدم رجوعه إلى نفس العلم والمعلوم بالذات فيكون مؤثراً في تنجز التكليف كالتفصيل، وهو واضح جداً.

مع أنه يمكن القول بأنّ التنجز من صفات الوجود العلمي للحكم ومن شؤونه، لا الخارجي, ولذا قلنا بقبح التجري واستحقاق فاعله العقاب على حدّ الفعل، فلو كان التنجز من صفات الواقع الخارجي للحكم لما كان لذلك وجه. وعلى ذلك فلو لم يكن العلم سارياً إلى الواقع فكذلك لا يكون التنجز سارياً إليه، بل هو تابع للعلم سعة وضيقاً فلا يثبت التنجز بأكثر من الجامع لو فرض تعلق العلم به.

كما أنه على فرض القبول يمكن القول بأنّ تنجز الحكم بوجوده الواقعي مشروط بالعلم به حتى يكون مبيناً، ولكن الحدّ الشخصي للحكم الواقعي غير مبين في موارد العلم الإجمالي فلا معنى لأن يكون منجزاً لأكثر من الجامع.

ص: 364

هذا وإنّ الإيرادين مبنيان على كون متعلق العلم الإجمالي هو الجامع وإلّا فإنّ التنجز إنما يكون للحكم المعلوم ولو كان إجمالياً كما دلّ عليه الوجدان العرفي. فما ذكروه في أصل هذا الوجه وما أورد عليه غير تام إلا على ما ذكر فراجع.

الوجه الثاني: إنّ العلم وإن تعلّق بالجامع إلا أنه تعلق بجامع قد فرغ عن انطباقه وتخصصه بخصوصية لا بجامع بالحدّ الجامعي كما في موارد الوجوب التخييري.

ويرد عليه: إنه تام على فرض كون متعلق العلم الإجمالي هو الجامع وقد عرفت بطلانه. وعلى فرض التنزّل فإنّ الجامع في مرحلة تعلق العلم به لم يكن مفروغاًعن تخصصه؛ فإنه في هذه المرحلة لا يعلم بالخصوصية فيكون التنجز بمقداره المنطبق على كل من الطرفين.

ومن جميع ذلك يظهر الوجه في أصل منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة, وأما كونه بنحو الإقتضاء بحيث يمكن ورود ترخيص شرعي في بعض أطرافه أو بنحو العلّية بحيث يستحيل الترخيص في شئ من أطرافه فقد عرفت الحال في ذلك مِمّا ذكرناه في حرمة المخالفة حيث قلنا إنه على نحو العلّية؛ لأنّ الإذن في ترك جميع الأطراف يستلزم إما الوقوع في المعصية الحقيقية؛ وما يكون كذلك يستحيل صدوره من الحكيم تعالى، أو الأذن بترك بعض الأطراف؛ وهو يستلزم الترجيح بغير مرجح مع كونه إذن في هتك أحكام الله تعالى والإستهانة بتشريعاته، وهو قبيح أيضاً. فلا إشكال في أصل الإقتضاء وأنه على سبيل العلّية وإن اختلف القوم في كونه على سبيل العلّية أو مجرد الإقتضاء؛ فذهب المحقق العراقي قدس سره (1) إلى العلّية بينما اقتصر المحقق النائيني قدس سره (2) على أصل الإقتضاء.

ص: 365


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص11-12.
2- . فوائد الأصول؛ ج4 ص9.

وحاول كل منهما إثبات مدّعاه تارةً؛ بالحلّ، وأخرى؛ بالنقض على الآخر فيقع الكلام في موردين:

المورد الأول: ذكر المحقق النائيني قدس سره أنّ العلم الإجمالي إنما كان علّة لحرمة المخالفة القطعية لكونها عصياناً قبيحاً فلا يمكن الترخيص فيها, وأما الترخيص الجزئي في بعض الأطراف فلا يكون ترخيصاً في مخالفة قطعية بل إحتمالية كما في الشبهات اليدوية فإنّ ورود الترخيص فيه معقول. ومنه يستفاد أنه يقول بالإقتضاء في وجوب الموافقة.

وفيه: ما عرفت من أنّ الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف في مورد المخالفة أو ترك بعض أطراف العلم الإجمالي في مورد الموافقة إنما هو ترخيص في هتك الأحكام الشرعية والإستهانة بتشريعات المولى، وهو قبيح أيضاً.

وذكر السيد الصدر قدس سره (1) في مقام الرد عليه بأنه لا وجه لتعليل كون العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة ومقتضياً لوجوب الموافقة؛ لأنّ الترخيص في المخالفة يكون ترخيصاً في المعصية، وفي الموافقة ليس كذلك لأنّ المعصية إنما تكون بحكم العقل منافية لحق طاعة المولى، وهذا الحكم العقلي فرع بحث العلّية والإقتضاء فلا معنى للبرهنة على العلّية وعدمها بذلك.ويرد عليه: إنه بناءً على رأيه قدس سره من أنّ حق الطاعة أسبق من كل حق وأنه حكم عقلي ومخالفته قبيح عقلاً لأنه يثبت بمقتضى العبودية لله تعالى؛ فإذا ثبت حكم إجمالي لا يمكن مخالفته ولا بُدَّ من الرجوع إلى حق الطاعة فيه؛ فلا يمكن أن يكون الحكم العقلي بالمعصية فرع العلّية والإقتضاء إذ لا دخل لهما في أصل ثبوت قبح المخالفة، وهو كافٍ في إثبات المطلوب.

ص: 366


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص168.

وذكر المحقق العراقي قدس سره في هذا المقام بأنّ منجزية العلم الإجمالي لوجوب موافقة معلومه أمر مفروغ عنه، والكل متفق على أصل التنجيز، وإنما الإختلاف في أنه قد تعلق بالجامع حتى يجوز الترخيص في بعض الأطراف أو بالواقع حتى لا يجوز ذلك.

وعليه؛ فمن يقول بالأول فإنه يقبل العلّية أيضاً في منجزيته للجامع، فلم يجوِّز الترخيص في مخالفته بالترخيص في تمام الأطراف فيكون اقتضاء العلّية أمراً مفروغاً عنه عند الجميع.

وقد أورد عليه السيد الصدر قدس سره بأنّ المنجزية بلحاظ الجامع على نحو العلية ولكنه بلحاظ الخصوصية الواقعية إقتضائي.

وهو صحيح إن أمكن التفرقة بين الجامع والخصوصية، وإلا فلا وجه له لا سيما في المقام.

المورد الثاني: حاول كل واحد من المحققَين (قدس سراهما) النقض على الآخر؛ فالمحقق النائيني قدس سره يذهب إلى أنّ حال العلم الإجمالي لا يكون بأشد وأفضل من التفصيلي، مع أنه لا إشكال في إمكان إجراء الأصل فيه في موارد الشك في إمتثاله؛ كما في القواعد الظاهرية كالفراغ والتجاوز. بينما حاول المحقق العراقي قدس سره الإجابة عن هذا النقض بأنه خلط بين الأصل في مرحلة امتثال التكليف والأصل في مرحلة ثبوت التكليف؛ فإنّ قاعدة الفراغ تجعل العمل المأتي به امتثالاً وموافقة للأمر تعبداً، وبذلك قد أحرزنا الموافقة القطعية للتكليف المعلوم تعبداً، وهو عبارة عن الإحراز الوجداني لها. وهذا غير جريان الأصل النافي للتكليف في أحد أطراف العلم الإجمالي، نعم؛ لو قامت أمارة على أحد الطرفين فإنها تدل بالإلتزام على أنّ الواقع في الطرف الآخر.

والمحقق الكاظمي في تقريرات أستاذه المحقق النائيني تارةً؛ يوافق رأي أستاذه في أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز أكثر من الجامع فيجوز الترخيص في بعض الأطراف، وأخرى يقرر ما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره من أنّ العلم الإجمالي باعتباره ينجز التكليف فلا

ص: 367

بُدَّ من موافقته القطعية إما وجداناً أو تعبداً، وجريان الأصل حتى النافي في أحد الطرفين يدلّ بالإلتزام على جعل الطرفالآخر بدلاً عن الواقع المعلوم بالإجمال. وهذا الكلام يجري على مسلك العلّية في تنجيز العلم الإجمالي.

والحق؛ أنّ جميع ذلك إنما يبتني على دقائق الفكر الأصولي المسيطر على أفهام المحققين (قدست أسرارهم)، ولكن الرجوع إلى الوجدان العرفي يحقق التمييز بين الأصل الجاري في أطراف العلم الإجمالي والأصل الذي يجري في الشبهة البدوية؛ فإنهم لا يجرون الأصل في الأول مع وجود علم إجمالي كما ذكرنا سابقاً فراجع. وعلى فرض التنزّل فإنّ ما ذكره المحقق العراقي قدس سره في نقضه على المحقق النائيني هو الصحيح، وأنّ ما اختاره هو الصواب.

وقد ذكر السيد الصدر قدس سره في المقام أنّ الصحيح هو ما اختاره المحقق النائيني قدس سره من عدم علّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بعد كلام طويل نقل فيه نقوض كل واحد من العلمين المزبورين ومناقشة ما ذكره العراقي من النقض. ولا يخلو كلامه من التشويش والمناقشة وسيظهر مِمّا يأتي بيانه.

والصحيح ما ذكرناه وهو الموافق للوجدان العرفي, كما عرفت مفصلاً.

وكيف كان؛ فإنّ الثمرة تظهر بين المسلكين فيما إذا كان أحد أطراف العلم الإجمالي مجرى الأصل المؤمن ولم يكن في الطرف الآخر دليل أو أصل شرعي منجز للتكليف؛ فإنه بناءً على العلّية لا يجري الأصل المؤمّن في الطرف الواحد، وبناءً على الإقتضاء يجري الأصل فيه من دون محذور.

ولكن عرفت إنه لا يتوهم جريان الأصل مطلقاً في أطراف العلم الإجمالي عند العرف فلا تصل النوبة إلى هذه الثمرة.

والأَولى صرف النظر إلى بيان شروط تنجز التكليف.

ص: 368

المقام الثالث: شروط تنجّز العلم الإجمالي
اشارة

عرفت مِمّا سبق إنه على جميع الإتجاهات والمسالك أنّ العلم الإجمالي منجز للتكليف، وإن اختلفوا في كيفية كونه على سبيل العلّية أو الإقتضاء, ولكن تنجز العلم الإجمالي يتوقف على شروط إن توفرت فسوف يتحقق التنجز وإلا فلا يكون منجزاً. وهي شروط عقلائية توافقت مرتكزاتهم عليها، بل إنّ هذه الشروط تعتبر المناط في تنجز التكاليف مطلقاً ما لم يرد فيها تحديد شرعي، وهي شروط ثلاثة:

الشرط الأول:

أن يُحدث العلمُ الإجمالي تكليفاً فعلياً غير مسبوق بالوجود على كل تقدير؛ بأن يكون كل طرف من أطرافه من حيث الطرفية للعلم الإجمالي مورداً للتكليف المعلوم في البين ويصحّ انطباقه عليه، فإنه يحدث تكليفاً مسبوقاً بالعدم. وأما إذا كان بعض أطرافه محكوماً بحكم تفصيلي يشابه حكم المعلوم بالإجمال الحادث بعد العلم التفصيلي فإنه لا أثر لمثل هذا العلم الإجمالي في التنجز, كما إذا كان هناك إناءان أحدهما المعيّن نجسٌ، ثم وقعت قطرة بول فيأحدهما المردد فإنه لا يحدث بالنسبة إلى الإناء المعلوم نجاسته تفصيلاً تكليفٌ زائد فيكون الشك في نجاسة الطرف الآخر من الشك البدوي فيرجع فيه إلى البراءة، لأنّ تنجز التكليف سابقاً في الطرف المعلوم بالتفصيل يجعل الطرف الآخر من الشك البدوي المحض بلا فرق بين أن يكون العلم الإجمالي علّة تامة للتنجز أو مقتضياً له، لسقوط العلّية والإقتضاء عن التأثير لفقد الشرط. فلا شك في شمول دليل البراءة العقلية والنقلية له. وفي المقام صور:

الأولى: إذا كان العلم التفصيلي بالتكليف سابقاً على حدوث العلم الإجمالي كما عرفت.

الثانية: ما إذا كان متأخراً عن حدوث العلم الإجمالي.

الثالثة: ما إذا كانا متقارنين.

ص: 369

وهذه صور ثلاثة في نفس العلم، والكلام نفسه يأتي في المعلوم؛ فإنه قد يكون المعلوم بالتفصيل متقدماً على المعلوم بالعلم الإجمالي، وقد يكون متأخراً عنه، وقد يكونا متقارنين. والمحصل من ضرب الثلاثة في مثلها يكون تسعة، فيكون العلم الإجمالي منجزاً في ثلاثة منها وهي:

1- ما إذا تقدم المعلوم بالإجمال وعلمه على المعلوم التفصيلي.

2- ما إذا تقدم المعلوم بالإجمال فقط على العلم التفصيلي ومعلومه، وتأخر نفس العلم الإجمالي عنه.

3- ما إذا تقدم المعلوم بالإجمال مع تقارن العلمين. فإنّ في هذه الصور الثلاثة يكون العلم الإجمالي منجزاً لما ذكر من التفصيل المتقدم فيها.

ولا يتنجز العلم الإجمالي في ستة منها وهي:

1- تقدم العلم والمعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي فقط.

2- تقدم المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي مع تقارن العلمين.

3- تقدم المعلوم التفصيلي على المعلوم الإجمالي فقط.

4- تقارن المعلومين مع تقدم العلم التفصيلي.

5- تقارن المعلومين مع العلم الإجمالي.

6- تقارن المعلومين مع تقارن العلمين.

ففي هذه الصور الست لا يتنجز العلم الإجمالي، ويكون غير المعلوم بالتفصيل من مجاري البراءة لكونه من الشبهات البدوية، وإن كان هناك نزاع في بعض الفروع ذُكر في غير المقام.

وأمثلة الكل متحققة في الخارج، وهي ليست مجرد فروض ذهنية، وتكون واضحة بعد التأمل. فلو رجعنا إلى المثال الذي ذكرناه آنفاً والمعروف على الألسنة وهو العلم بنجاسة إناء معين من الإنائين؛ فتارةً؛ نعلم بنجاسته في أول النهار ثم وقعت قطرة بول في أحد

ص: 370

الإنائين عند الزوال فإنّ هذه الصورة يكونالعلم التفصيلي متقدماً كالمعلوم التفصيلي وهو النجاسة, والعلم الإجمالي والمعلوم بالإجمال كلاهما متأخران. وقد ينعكس فيتقدم العلم الإجمالي ومعلومه على العلم التفصيلي ومعلومه. وربما يتقدم المعلوم وهو النجاسة في أول النهار ويتأخر العلم بها في منتصف النهار فيعلم في الزوال أنّ الإناء متنجس في أول النهار، وكذلك إذا علم إجمالاً من الزوال أنّ أحد الإنائين تنجس في أول النهار فيكون المعلوم الإجمالي أو التفصيلي متقدماً والعلم الإجمالي أو التفصيلي متأخراً. وهكذا بالنسبة إلى المتأخر منهما. وقد يتقارنان في كون المعلوم متقدماً كما إذا عُلم عند الزوال أنّ أحد الإنائين متنجس يقيناً في أول النهار وفي نفس الحال حصل علم إجمالي في نجاسة أحد الإنائين في أوله أيضاً، وهكذا إذا كان المعلوم فيهما متأخراً.

وكيف كان ففي الصور التي يتنجز فيها العلم الإجمالي لا يجوز ترك أطرافه إن كان المعلوم بالإجمال هو الوجوب والإلتزام، ويحرم ارتكابه إن كان حراماً، ولا يصحّ لنا إجراء الأصول في أطرافه لنفي التكليف، سواء قلنا بالتخصص أو التخصيص كما سيأتي بيانه في مبحث الإستصحاب إن شاء الله تعالى.

ولكن الأصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي تارةً؛ تكون مثبِتة للتكليف فلا ريب في تنجز العلم فيه، وأخرى؛ تكون نافية له فلا إشكال أيضاً في تنجز العلم كما عرفت ذلك، وثالثةً؛ ما إذا كان بعضها مثبتاً للتكليف وبعضها نافياً له، وهنا اختلف الأصوليون فقد ذهب بعضٌ إلى سقوط العلم الإجمالي عن التنجز كما إذا علم إجمالاً بأنه إما زاد في صلاته ركوعاً أو نقص سجدة واحدة فتجري أصالة عدم زيادة الركوع وأصالة عدم الإتيان بالسجدة فتصحّ صلاته ويجب عليه قضاء سجدة واحدة.

ص: 371

ولكن ذهب آخرون إلى تنجز العلم الإجمالي ببطلان صلاته إما بزيادة الركوع أو نقصان السجدة فتجب عليه الإعادة. والتفصيل مذكور في الفقه.

الشرط الثاني: أن يكون العلم صالحاً للداعوية والبعث نحو التكليف

الشرط الثاني: أن يكون العلم صالحاً للداعوية والبعث نحو التكليف عند العقلاء وعرفهم. ومع عدم صلاحيته لذلك لا تنجُّز له؛ فإنه لا معنى للمنجزية عندهم إلا الصلوح لذلك وهو يختلف اختلافاً كبيراً بحسب الموارد والأشخاص؛ فقد يكون صالحاً للداعوية لبعض وغير صالح لها لبعض آخر في زمان واحد ومحل واحد. ويترتب على هذا الشرط خروج موارد ثلاثة عن تنجز العلم الإجمالي وهي:

المورد الأول: ما إذا لم يكن بعض الأطراف مورد الإبتلاء؛ ولا ريب في اعتبار ذلك في تنجز التكليف مطلقاً. هذا ولكن القدرة لها مراتب ثلاثة:

الأولى: القدرة العقلية المحضة؛ بمعنى إمكان المقدور بالنسبة إلى القادر بالإمكان الذاتي. ولا إشكال في عدم كون هذه المرتبة شرط في التكليف الشرعي مطلقاً لانصراف الدليل عنها.الثانية: القدرة العرفية العقلائية؛ وهي أخص من الأولى وتدخل فيها القدرة الشرعية أيضاً.

الثالثة: القدرة الخاصة؛ والتي هي أخص من السابقتين؛ وهي كون المقدور مورد عمل القادر عرفاً مع وجود المقتضى وفقدان المانع بحيث تكون القدرة بالنسبة إلى تمام الأطراف على حدٍ سواء؛ فلو كان في أحد الأطراف مانع من إعمال القدرة فهو خارج عن مورد الإبتلاء فلا تنجز للعلم الإجمالي المتعلق به وبغيره.

وهذا المانع تارةً؛ يكون عقلياً كما إذا علم احتمالاً إما بنجاسة هذا الإناء الموجود أو الإناء الذي صار معدوماً, فلا أثر لهذا العلم الإجمالي أبداً، وأخرى يكون شرعياً كما إذا كان هناك إناءان أحدهما للغير والآخر للمكلف نفسه وعلم بنجاسة أحدهما وحيث إنه لا يجوز له التصرف في إناء الغير فهو خارج عن مورد ابتلائه؛ فلا يكون هذا العلم الإجمالي

ص: 372

منجزاً لوجود هذا المانع الشرعي، وثالثة يكون المانع عرفياً كما إذا عُلم إجمالاً بنجاسة إناءه أو إناء جاره الذي ليس بينهما تردد فإنّ العرف يرى بمرتكزاته عدم منجزية هذا العلم؛ إذ المفروض عدم كون إناء الجار مورد الحاجة والعلم عرفاً، ورابعة يكون عادياً شخصياً كما إذا كان شخص لا يشرب الدخان مثلاً مطلقاً ثم علم إجمالاً بأنّ المحل الذي يشتري منه حوائجه إما دهنه مغصوب أو سجائره فيصحّ له شراء الدهن لخروج طرف العلم الإجمالي بالنسبة إلى هذا الشخص عن مورد الإبتلاء فلا تنجز له. ولهذا القسم أمثلة كثيرة كما لا يخفى لا سيما في هذه الأعصار.

والمتحصل من جميع ذلك أنه لا ريب في كون الإبتلاء شرطٌ في تنجز العلم مطلقاً، والإبتلاء وعدمه يكون من الوجدانيات لمن يلتفت إليه في الجملة, فلا وجه للشك فيه. ولكن سيأتي في مباحث الإشتغال حكم ما لو شك في الإبتلاء وعدمه إن شاء الله تعالى.

وهناك ثمرات تترتب على ما ذكرنا وهي:

الأولى: لو اعتقد شخص بأنّ بعض الأطراف خارج عن مورد الإبتلاء فارتكب الآخر، ثم تبين الخلاف فالظاهر تنجز العلم بالنسبة إلى ما بقي لظهور الخلاف وكشف عدم سقوط العلم عن التنجيز, غاية الأمر أنه كان معذوراً في الارتكاب إن لم يكن عن تقصير, لأنّ الإبتلاء من الشروط الواقعية لا الإحرازية.

الثانية: إذا كانت الأطراف مورد الإبتلاء وتنجز العلم وأثّر أثره ثم خرج بعض الأطراف عن مورد الإبتلاء فإنه لا يضرّ ذلك بتنجز العلم الإجمالي، لأنّ ما يوجب سقوط الإجمالي عن التأثير هو فيما إذا كان الخروج عن مورد الإبتلاء قبل تنجز العلم الإجمالي، واما بعده فلا اعتبار به للأصل.

ص: 373

الثالثة: لو علم إجمالاً بغصبية إناء مردد بين إناءين ونجاسة إناء مردد بين إنائين؛ أحدهما المعيّن ما كان طرفاً للغصبية أيضاً؛ فإن كان المجمع خارجاً عنمورد الإبتلاء فلا أثر للعلمين الإجماليين, وإن كان الطرف المختص بكل واحد من العلمين خارجاً عنه فلا أثر له بالخصوص. وهذا مبني إما على عروض العلمين الإجماليين دفعة واحدة معاً أو مترتباً. ولكن بناءً على أنّ مجرد وجوب الإجتناب ولو مقدمة في أحد الأطراف لا يوجب سقوط العلم الإجمالي اللاحق عن التنجز، وإلا فلا أثر للعلم الإجمالي اللاحق. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

المورد الثاني: موارد دوران الأمر بين المحذورين مع وحدة القضية من كل جهة زماناً ومكاناً ومن سائر الجهات؛ كما إذا علم إما بوجوب الحركة عليه في الآن الخاص أو بوجوب السكون في نفس ذلك الزمان.

ومثل هذا العلم لا يصلح للداعوية لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما. إذ لا يخلو الفرد عن أحدهما تكويناً فلا يقدر على الموافقة القطعية ولا على المخالفة كذلك, وما كان كذلك لا يصلح عن الداعوية.

ثم إنه يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين الذي يسقط العلم فيه عن التنجز ولا يصلح للداعوية فيه أمور ثلاثة:

الأول: أن يكون الأمران توصليين؛ إذ لو كان كلاهما أو أحدهما تعبدياً فيمكن المخالفة القطعية بترك قصد التعبد فيهما أو في المعين منهما.

الثاني: وحدة القضية من كل جهة؛ فإنه مع التعدد يمكن المخالفة القطعية كما إذا علم إما بوجوب القيام عليه في ساعة خاصة أو بوجوب القعود عليه فيها أيضاً, فانه لو قام في نصف ساعة وقعد في نصفها الآخر تحققت المخالة القطعية.

ص: 374

الثالث: عدم وجوب الإلتزام بالأحكام الواقعية على ما هي عليها؛ إذ لو وجب ذلك ولم يلتزم تحققت المخالفة القطعية بالنسبة إلى وجوب الإلتزام.

وسيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

المورد الثالث: الشبهة غير المحصورة فإنّ العلم الإجمالي فيها يسقط عن التأثير ولا يصلح للداعوية, وقد اعتبره بعض الأصوليين(1) من مصاديق خروج بعض الأطراف عن مورد الإبتلاء, باعتبار أنه لا موضوعية لعدم الحصر من حيث هو, بل لا بُدَّ من انطباق عنوان عدم الإبتلاء أو الحرج أو نحو ذلك عليها حتى يسقط العلم عن التنجز، ويكون التعبير بغير المحصور لأجل أنه ملازم غالباً لعدم الإبتلاء أو للحرج فعبّر به اختصاراً. وسيأتي ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

الشرط الثالث: أن لا يكون في البين ما يدل على رفع الحكم الواقعي

الشرط الثالث(2): أن لا يكون في البين ما يدل على رفع الحكم الواقعي وتبدله في تمام أطراف العلم الإجمالي أو بعضها من أضطرار أو أكراه أو تقية، أو حكمالحاكم الجامع للشرائط، أو إقرار جامع للشروط؛ فإنه مع وجود واحد منها يسقط الواقع ويتبدل الحكم.

ثم إنه قد يشترط في تنجز العلم الإجمالي أن تكون أطراف العلم الإجمالي متعلقة بشخص العالم لا بشخصين, ولكن هذا في لحقيقة يرجع إلى شرطية الإبتلاء، فلا وجه لذكره مستقلاً.

فإذا تحققت تلك الشروط الثلاثة يتنجز العلم الإجمالي.

وغير خفي أنه لا اختصاص بها للعلم إجمالاً، بل هي شروط للتنجز مطلقاً سواءً كان في العلم التفصيلي أم في سائر الحجج والأمارات.

نعم؛ لا يجري الشرط الثالث في العلم التفصيلي, كما لا يخفى.

ص: 375


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص52.
2- . من شروط تنجز العلم الإجمالي.

الجهة الثامنة: في الإمتثال الإجمالي

اشارة

الجهة الثامنة(1): في الإمتثال الإجمالي

وهذا البحث له ارتباط بعلم الفقه أكثر منه في علم الأصول، ولكن الأصوليين ذكروه في ختام بحث القطع لأدنى مناسبة وارتباط. وكيف كان فإنه لا ريب في كفاية الإمتثال الإجمالي مع تعذر الإمتثال التفصيلي مطلقاً.

كما إنه لا إشكال في صحة الإمتثال الإجمالي وإجزاءه إذا كان توصلياً لعدم تصور محذور فيه مِمّا سيأتي ذكره.

ولأنّ المطلوب في التوصل هو الإتيان به كيفما اتفق، وإنما الكلام في كفاية الإمتثال الإجمالي إذا كان تعبدياً مع إمكان الإمتثال التفصيلي. وقد ذهب الأكثر إلى عدم الإجزاء، وعمدة ما استدلوا به وجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) من أنّ مرتبة الإمتثال التفصيلي تتقدم على مرتبة الإمتثال الإجمالي بحكم العقل لأنّ الأول مستند إلى نفس الأمر والثاني إلى محتمله، والإندفاع والإنبعاث إذا أمكن تحققهما من نفس الأمر فهو مقدم على الإنبعاث عن احتمال الأمر، لأنّ مرتبة العين أسبق من مرتبة الأثر.

وقد أطال قدس سره الكلام في تعداد مراتب الإمتثال وتقديم إحداها على الأخرى.

وفي تقريرات الكاظمي قدس سره (3) إنّ العقل لا يحكم بحسن الإمتثال الإجمالي مع التمكن من التفصيلي لأنّ العبادة لا بُدَّ من أن تتعنون بعنوان حسن عقلاً ليكون مقرباً للمولى.

ص: 376


1- . من جهات مباحث القطع.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص44.
3- . فوائد الأصول؛ ج3 ص72-73.

ولكن يمكن الجواب عنه:

أولاً: إنّ كلا الإنبعاثين لم يكونا عن شخص الأمر بوجوده الواقعي بل يكونان بوجوده العلمي والإحتمالي وهما المحركان للعبد، فإنّ الأمر إنما يحرك بوجوده الواصل لا مجرد وجوده الواقعي، فالإنبعاثان من هذه الناحية في مرتبة واحدة لا طولية بينهما.

ثانياً: وعلى فرض القبول وثبوت الطولية بينهما في الوجود، ولكن ذلك لا ربط له بانتساب العمل إلى المولى سواءً كان بتوسط احتمال الأمر أم بشخصه ابتداءً.

ثالثاً: إنّ ما ذكره قدس سره من أنّ مرتبة العين متقدمة على مرتبة الأثر غير تام في عالم التشريع؛ إذ لا ربط للتأخر الرتبي والتقدم في العارض والمعروض بالنسبة إلى الإكتفاء في مقام الإمتثال الذي ملاكه المقربية والتعبد، فإنه لا مانع من ترتب الأثر الواحد على العارض والمعروض؛ فإنّ تأخُّر الإحتمال عن نفس الأمر رتبة لا يلازم بتاتاً تأخر الإنبعاث عن احتمال الأمر عن الإنبعاث عن نفس الأمر رتبة وفي مقام الإمتثال، فهو خلط بين التقدم والتأخر التشريعي في نظر العقل والتقدم والتأخر التكويني في عالم الخارج.

رابعاً: إنّ الإمتثال بداعي الموافقة الإحتمالية إنقيادٌ، وهو من العناوين المقتضية للحسن فإنها لو خلّتي وطبعها لازمت الحسن، وهو عنوان حسن إلا أن يناقش بأنّ الإتيان بداعي الموافقة مع التمكن من العلم التفصيلي لا يكون مقرباً وانقياداً. فالإشكال في أصل المطلب وسيأتي بيانه.

وذكر السيد الصدر قدس سره (1) في توجيه كلام المحقق النائيني قدس سره من أنّ الأمر وإن كان معلوماً إلا أنه لا يكفي للتحرك والبعث نحو كل من الطرفين إلا بعد حكم احتمال انطباق المعلوم بالإجمال فيه، فيكون التحرك من مجموع الأمرين؛ العلم بأصل الأمر،

ص: 377


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص276.

واحتمال انطباقه على هذا الطرف إلى التحرك عن احتمال إنطباق الأمر المعلوم وهو متأخر عن التحرك عن نفس الأمر المعلوم لأنّ احتمال الأمر المعلوم في طول الأمر المعلوم نفسه.

ولكنه غير تام لأنّ محركية العبد نحو الطاعة وامتثال تشريعات المولى سبحانه غريزية فطرية يكفي في إثارتها بشئ أدنى كمجرد احتمال الأمر أو وجوده الواقعي من دون أن تتصور الطولية بين أصل الأمر واحتماله كما هو واضح.

الوجه الثاني: إنّ الإمتثال التفصيلي واجب شرعي بعنوان كونه كذلك إما ملاكاً فقط أو خطاباً أيضاً.

وقد استدلوا عليه تارةً؛ بالإجماع على بطلان تارك طريقي الإجتهاد والتقليد.

ولكن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة مشكل جداً لا سيما أنّ أكثرهم يريد من ذلك الإشتراط العقلي دون الشرعي.وأخرى بأنّ احتمال الإعتبار كافٍ في اللزوم؛ لأنّ التفصيلية في الإمتثال مِمّا لا يمكن أخذه قيداً في متعلق الأمر لما عرفت من أنه لا يمكن أخذ قصد الإمتثال في متعلق الأمر فكذلك لا يمكن أخذ حصة منه، وبعد انضمام كبرى لزوم الإحتياط في القيود الثانوية التي يحتمل اعتبارها ودخلها في غرض المولى مِمّا لا يمكن نفيها؛ لا بالإطلاق اللفظي لأنه فرع إمكان التقييد فمع استحالته لا يكشف عدمه عن إطلاق ملاكه، كما إنه لا يمكن نفيه بالأصل العملي لأنّ أدلته إنما تكون ناظرة إلى ما يكون معتبراً شرعاً في الواجب لا عقلاً، وحينئذٍ يثبت وجوب الإمتثال التفصيلي في المقام.

ويرد عليه:

أولاً: إمكان التمسك بالإطلاق اللفظي لنفي قيدية التفصيلية في الإمتثال كما تقدم بحثه في بحث الأوامر؛ حيث ذكرنا أنه يمكن التمسك بالإطلاق لنفي القيود الثانوية مطلقاً.

ص: 378

ثانياً: إنه على فرض عدم إمكان ذلك فإنّ التفصيلية ليست مثل قصد القربة والإمتثال ونحو ذلك، بل هي ترجع إلى معلومية الواجب.

ثالثاً: على فرض التنزل فإنه يمكن التمسك بالإطلاق المقامي لنفي دخالة القيود الثانوية المحتملة كما تقدم ذلك تفصيلاً.

وأما الأصل العملي فيمكن الرجوع إليه في نفس التفصيلية وذلك لأنّ هذا القيد مِمّا لا يمكن اعتباره شرعاً كالقيود الأخرى المحتملة فيصحّ الرجوع إلى البراءة الشرعية لنفي اعتبارها ظاهراً؛ على أنه يمكن الرجوع إلى البراءة العقلية وقاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنه بالإمكان للمولى أن يبين ذلك ولو بجملة خبرية، فإذا لم يبين فيقبح العقاب عليه. وما قيل من أنّ الشك من ناحية التكليف شك في السقوط فيجب الإحتياط بلحاظ موهونٌ بما عرفت في بحث التعبدي والتوصلي من أنّ اشتغال الذمة يكون بالمقدار المعلوم من التكليف وملاكاته لا أكثر.

الوجه الثالث: إنّ الإمتثال التفصيلي إنما يثبت من باب حكم العقل بقبح الإمتثال الإجمالي لانه لهو ولعب، وهما ينافيان التقرب والإجزاء.

ويرد عليه:

أولاً: النقض بالواجبات التوصلية؛ فلو كان الإمتثال الإجمالي لهواً ولعباً وكان محرماً فإنه لا يقع مصداقاً للواجب ولا يكون مجزياً عن أمره حتى لو كان توصلياً، لأنّ الواجب يتقيد بغير الحرام لا محالة, وإجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل خاص، فلا بُدَّ من الإلتزام ببطلان الإمتثال الإجمالي حتى في التوصليات وهو مِمّا لا يلتزم به أحد مِمّا يكشف عن وجود خلل في هذا الوجه إجمالاً.

ثانياً: إنتفاء عنوان اللعب واللغوية عن تكرار الفعل كذلك وجداناً.

ص: 379

ثالثاً: يضاف إلى ذلك ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنّ التكرار قد يكون لداعٍ عقلائي؛ كما إذا كان تحصيل العلم التفصيلي أصعب وأشقّ فلا يكون لعباً ولا لهواً.

وقد يناقش ذلك بأنه لا بُدَّ في صحة العبادة من عنوان حسن ولا يكفي مجرد عدم اللعب.

وفيه: إنّ العمل معنون بعنوان التقرب على كل حال لولا حيثية اللهو واللعب، فلو حصل داعٍ عقلائي يخرج العمل عن عنوان اللهو أو اللعب كان حسناً عبادياً.

وأفاد المحقق الخراساني قدس سره في الجواب أيضاً بأنّ هذا اللهو أو اللعب لو سلم فهو في تطبيق المأمور به خارجاً لا في أمر المولى ابتداءً، فلا يضرّ بقصد التقرب والإمتثال في الإتيان بأصل المأمور به خارجاً في ضمن أحد الإمتثالين.

وهذا الجواب صحيح فيما إذا لم يكن عنوان اللعب واللهو متحداً مع المأمور به ومنطبقاً عليه، بل كان من مجرد الإقتران وإلا أثر في ذلك العمل.

وكيف كان؛ إنه لم يتم دليل على بطلان الإمتثال الإجمالي مع التمكن من الإمتثال التفصيلي، هذا مع قطع النظر عن انطباق أحد العناوين الموجبة لبطلانه وإلا فالحكم واضح.

تنبيهات

التنبيه الأول: لا فرق فيما ذكرنا على القولين من صحة الإمتثال الإجمالي وعدمها؛ إما لتقدم الإمتثال التفصيلي أو لغيره مِمّا عرفت بين الإمتثال التفصيلي الوجداني والتفصيلي التعبدي، كما لو أمكن تحصيل الحجة على تعيين العبادة من اجتهاد أو تقليد لما ذكرناه من صحة الإمتثال الإجمالي وعدم الدليل على بطلانه حتى مع التمكن من التفصيلي مطلقاً بلا فرق بين الإتجاهات التي تمسكوا بها على بطلان الإمتثال الإجمالي، فبعد توفر الداعي في الإمتثال الإجمالي يصحّ ولو كان متمكناً من الإمتثال التفصيلي الوجداني أو التفصيلي

ص: 380


1- . كفاية الأصول؛ ص274.

التعبدي الحاصل من دلالتها أو التقليد حتى بناءً على ما سلكه المحقق النائيني قدس سره في إبطال الإمتثال الإجمالي على أساس الطولية في الإنبعاثين الذي عرفت فساده.

التنبيه الثاني: بناءً على صحة الإمتثال الإجمالي لعدم ثبوت الطولية بين الإمتثالين؛ لا فرق بين أقسام الإمتثال الإجمالي وأقسام الإمتثال التفصيلي والتي هي:

الأول: الإمتثال التفصيلي التعبدي والإمتثال الإجمالي كذلك.

الثاني: الإمتثال التفصيلي الوجداني والإمتثال الإجمالي التعبدي.

الثالث: الإمتثال التفصيلي التعبدي والإجمالي الوجداني.الرابع: الإمتثال التفصيلي الوجداني والإجمالي كذلك.

وأمثلة كل واحد منها واضحة؛ فإنّ جميعها صحيحة تتضح على ضوء ما تقدم من صحة العبادة إذا توفرت الشروط فيها من قصد القربة والإنبعاث عن احتمال الأمر إذا لم يحصل ما يمنع من الصحة كما هو المفروض. نعم، قد يستشكل من ناحيتين:

الأولى: ربما يقال إنه مع التمكن من الإمتثال الوجداني لا حجية للحجة الإجمالية، لما سيأتي من اشتراط حجية الحجة الإجمالية إنسداد باب العلم، وعليه؛ فلا حجية حتى يصحّ الإجتزاء بالإجمالي التعبدي.

ولا يخفى أنه مع هذا الشرط يدفع موضوع الحجة فتخرج عن موضوع البحث، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الثانية: قد يقال في موارد الإمتثال الإجمالي التعبدي من ناحية أنه قد يفرض عدم تعين مجرى الحجة الإجمالية حتى في الواقع؛ وذلك فيما إذا كان مجراه عنوان إجمالي لا تعين له حتى واقعاً، كعنوان غير المعلوم بالإجمال مع فرض تعلق العلم الإجمالي بعنوان أحدهما بلا أي ميزة، فإنه لا يكون متعيناً في نفس الأمر والواقع ولا يمكن الرجوع إلى الأصل أيضاً فلا يصحّ التعبد بالإمتثال حتى بنحو الإحتياط.

ص: 381

ولكن هذا الإشكال يرتبط -بحسب الحقيقة- بكيفية تخريج جريان التعبد الإجمالي، وسيأتي تفصيل ذلك في مباحث الأصول العملية.

التنبيه الثالث: بناءً على عدم الإجتزاء بالإمتثال الإجمالي؛ فقد استثنى من ذلك عدة موارد:

1- ما إذا كان الإمتثال التفصيلي غير ممكن, فإنّ الوجوه التي تمسكوا بها في إبطال الإجمالي تكون غير تامة كما هو واضح.

2- ما إذا كان الحكم غير منجز على المكلف بحيث يمكنه تركه رأساً؛ وهذا يتم في باب المستحبات، وأما إذا كان الواجب العبادي محتملاً باحتمال مؤمّن عنه غير منجز وهو مردد عنده بين عملين بنحو يمكنه رفع التردد المذكور فإنّ العبادة الإجمالية تصحّ.

والظاهر عدم الفرق بين الوجوه الثلاثة التي تمسكوا بها في بطلان الإمتثال الاجمالي.

3- ما إذا لم يلزم من الإمتثال الإجمالي تكرار العمل؛ كما في موارد الدوران بين الأقل والأكثر قبل الفحص مثلاً الذي يكون منجزاً.

والظاهر أنه لا فرق بين الإتجاهات الثلاثة في وجه بطلان الإمتثال الإجمالي أيضاً.

ص: 382

المبحث الثاني ما يصح الإعتذار به من جهة الكشف
اشارة

وفيه مباحث, وقبل بيانها لا بُدَّ من تقديم أمور:

أولاً: إنّ الإطمئنان يعدّ من الحالات العرفية التي تعرض على كل فرد، وله مراتب متفاوتة شدةً وضعفاً، وأعلى مراتبه القطع الذي تقدم الكلام فيه، وأدناها ما لم يصل إلى الشك، وبينهما مراتب متفاوتة. وهو بجميع مراتبه سواء كان شخصياً أم نوعياً مِمّا يصحّ الإعتذار به لدى العقلاء كافة فيكون معتبراً ما لم يردع عنه شرعاً فيكفي ذلك في اعتباره وصحة الإعتذار به لأنه من أهم الأمور النظامية التي يقوم عليها نظام العقلاء، فلا نحتاج إلى التقرير بل يكفي عدم ثبوت الردع فيه.

واللازم فيه هو البحث عن ورود الردع من الشارع ولا نحتاج إلى تكلف الإستدلال على الإعتبار وصحة الإعتذار لأنهما من المرتكزات العقلائية بعد عدم ثبوت الردع.

ومن ذلك يظهر أنّ الظن والأمارة لا يحتاج إلى جعل الحجية من قبل الشارع كما يظهر من كلمات بعض الأصوليين. وسيأتي تفصيل ذلك.

ثانياً: ذكر الأصوليون أنّ الحجية للظن ليست ذاتية له كما بالنسبة إلى القطع فإن ثبتت له فلا بُدَّ أن تكون بعناية زائدة أو طرو حالة إستثنائية كالإنسداد مثلاً.

ولكن عرفت سابقاً أنه لا حاجة إلى ذلك؛ فإنّ الحجية للقطع وغيره إنما تثبت باعتبارٍ من العقلاء، وذلك لضوابط خاصة.

نعم؛ يختلف القطع عن غيره في أنّ اعتباره إنما يكون من جهة كشفه التام عن الواقع من جهة ذاته، وأما الظن فحجيته من جهة الكشف الناقص فيه.

ص: 383

ولكن ذلك لا يضر بالمقصود وهو اعتبارهما من جهة صحة الإعتذار بهما عند العقلاء وأن ينظّم شؤونهم عليهما كما عرفت ذلك مفصلاً.

وتظهر الثمرة بين المنهجين في أمور متعددة كما ستعرف.

ثالثاً: يتبين من ذلك أنّ الظن ليس بممتنع الحجية خلافاً لابن قبة ومن تبعه ممن إدعى لزوم المحال أو القبح من جعل الحجية للظن كما سيأتي البحث فيه، فيكون جعل الحجية للظن ممكناً بالإمكان الخاص لا الإمكان الوقوعي، فإنه لا نزاع في ذلك بعد ثبوته عند العقلاء واعتمادهم عليه في أمورهم.

رابعاً: إنه بعد إمكان جعل الحجية والإعتبار فهل يكون من باب جعل الحجية، ومن باب جعل وجوب العمل على طبق ما اعتبر، أو جعل المؤدى منزلة الواقع، أو جعل الطريقية فقط، أو جعل تتميم الكشف كما قد يقال، أو أنّ هناك ملازمة عرفية بينها؟ فإذا ثبت واحد منها ثبت الباقي بالملازمة العرفية وإن اختلفت العبادات وتعددت المفاهيم، ولكنها في الواقع متلازمة عرفاً.

خامساً: قالوا إنّ البحث عن التعبد بغير العلم تارةً؛ يكون من ناحية إمكان التعبدية لأنّ الظن ليس بذاته حجة في تنجيز الحكم، وأخرى؛ في تأسيس الأصل في الحجة وعدمها، وثالثةً؛ عن الأمارات الخاصة، ورابعةً؛ عن مطلق الظن.

فإذا تبين ذلك يقع الكلام في أمرين يرتبطان بالمقام:

الأمر الأول: في إمكان التعبد بغير العلم

والكلام يقع فيه من جهات:

الجهة الأولى: ذكر الأصوليون أنّ الظن ليس بذاته حجة من جهة نقصان كشفه وعدم كونه بياناً للتكليف، فلا يكون بذاته منجزاً للحكم المظنون ما لم يجعل له ذلك.

ص: 384

والظاهر أنّ هذا الكلام إنما يتم من جهة تصوراتهم في تحليل حجية القطع الذي تقدم شرحه، حيث ذكروا أنّ حجيته ذاتية لأنها من لوازم انكشاف الواقع والوصول إليه الذي يعتبر من مقومات القطع. والظن في مقابل ذلك فلا يكون منجزاً ما لم يتم بيانه.

ولكن عرفت المناقشة في ذلك في بحث القطع، وهنا نقول: إنّ منجزية الظن كمنجزية القطع فإذا كانت فإنما تكون من جهة ذاتهما وكونهما حججاً عقلائية بتحقق اقتضاء الكشف فيهما، وإنما الفرق بينهما هو أنّ الظن باعتبار نقص الكشف فيه ينحفظ مرتبة الحكم الظاهري فيه بخلاف العلم، ولذا يقع التزاحم بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي وهذا لا يحصل في العلم. ومن هنا نقول بعدم منجزية الحكم في موارد الظن غير المعتبر من جهة ثبوت البراءة الشرعية وعدم وجوب الإحتياط، وهو حكم ظاهري شرعي. ومن أجل ذلك فإنّ إقامة الدليل على حجية الظن انما هو لبيان الحكم الظاهري ودفع البراءة الشرعية لا لبيان اختلافه عن القطع من جهة الذات فإنه لا ثمرة فيه من هذه الناحية بعد حجتهما عند العقلاء وتنجيز الحكم لهما.

وقد خالف السيد الصدر قدس سره (1) منهج الأصوليين واعتبر أنّ منجزية الظن بالنسبة إلى الحكم ذاتية له أيضاً كالقطع، وإنما يفترق الظن عن العلم في انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري فيه بخلاف العلم كما ذكرنا.

وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية: إن الظن ليس بذاته حجة في التأمين عن التكليف الذي علم باشتغال الذمة به في مقام الفراغ عنه, فقد ذكر بعض الأصوليين(2) أنّ الظن لا يكون حجةفي تفريغ الذمة

ص: 385


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص186-187.
2- . كفاية الأصول؛ ص275.

بذاته خلافاً لآخرين(1) حيث ذهبوا إلى الإكتفاء بالإمتثال الظني على القاعدة، وذلك لعدم وجوب دفع الضرر المحتمل, لأنّ الاقتصار على الإمتثال الظني يوجب احتمال عدم تحقق الإمتثال، وبالتالي احتمال الضرر، فلو قيل بعدم وجوب دفعه أمكن الاكتفاء بالإمتثال الظني، بل يكفي الإمتثال الإحتمالي أيضاً.

وكيف كان؛ فقد ربط كلا الفريقين التنجيز في المقام بمسألة دفع الضرر المحتمل؛ فمن قال بوجوب دفعه لا يكتفي بالإمتثال الظني، ومن قال بعدم الوجوب اكتفى به. وقد ذكر السيد الخوئي قدس سره (2) في الإشكال على هذا البناء بأنّ وجوب دفع الضرر في المقام متفق عليه لأنّ الضرر المحتمل هو العقاب الأخروي ولا خلاف في لزوم دفعه، وإنما النزاع في لزوم دفع الضرر الدنيوي.

وهذا لا يحل المشكلة بالإضافة إلى ما ذكرناه مراراً من أنّ الضرر المحتمل يلزم دفعه عند العقلاء، فلا فرق فيه بين الدنيوي والأخروي.

وذهب السيد الصدر قدس سره (3) إلى عدم الربط بينهما, لأنّ قانون دفع الضرر المحتمل إنما يتم بعد فرض احتمال الضرر والعقوبة، وهو فرع تنجز التكليف في الرتبة السابقة دائماً فإذا لم ينتجز التكليف يقطع بعدم العقاب فيستحيل أن يكون التنجز ناشئاً ببركة هذا القانون.

والحق أنّ ذلك مغالطة واضحة؛ إذ الكلام في الضرر المحتمل في مورد الظن بالتكليف فإذا كان موجباً للتنجز قطعنا بموجب الدفع ولزوم دفع المقطوع، ولكن الكلام في عدم حصول مثل هذا القطع ومجرد احتمال التنجز واحتمال الضرر فيرجع إلى النزاع المزبور.

ص: 386


1- . لعلّه المحقق الخوانساري قدس سره كما قد يستظهر من بعض كلماته في مسألة ما لو تعدد الوضوء ولم يعلم محل المتروك (الخلل). [مشارق الشموس؛ ص147].
2- . أجود التقريرات؛ ج2 هامش ص124.
3- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص188.

والصحيح إن كان المراد بالحجية هو منجزية الحكم فلا ريب في ثبوتها في مرحلة الإقتضاء بوجدان كل عاقل لوجود جهة الكشف في الظن أيضاً، وأما إذا كان في مرحلة التقرير من قبل الشارع فلا بُدَّ من دليل على إثباته، وإلا فالأصل يقتضي عدم الحجية.

وإن كان في مرحلة الإنتساب إلى الشارع ولو بعدم ورود الردع فلا بُدَّ من تثبيت هذا الإنتساب؛ فقبل استقرار عدم الردع لا تثبت الحجية، وبعد ثبوته واستقراره لا حاجة إلى الجعل ولا إلى المجعول حتى نحتاج إلى إبداء الإحتمالات فيما هو المجعول لأنّ كلها مبنية على ثبوت أمر وجودي من قبل الشارع، والمفروض عدم ذلك. وإنما الثابت هو الأمر العدمي؛ أي الردع من قبل الشارع.فما ذكره الأصوليين في المقام مجرد فروض وتطويل بلا طائل تحته.

فإذا أردنا إثبات منهجية جديدة في حجية الظن فلا بُدَّ من الرجوع إلى طريقة العقلاء في جعل الحجية لما فيه جهة الكشف، وأنّ المقصود منه منجزية الحكم وتثبيت حق الطاعة والمولوية في موارد قيام الظن, وأنهم يحكمون بثبوت ذلك بمجرد قيام الظن واحتمال التكليف ولا حاجة إلى ابتناء ذلك على مسألة دفع الضرر المحتمل أو قاعدة قبح العقاب بلا بيان فإنه لا تصل النوبة إلى ذلك كما هو واضح.

الجهة الثالثة: إمكان التعبد بغير العلم؛ وقد عبّر بعضهم بالجعل، وستعرف أنّ التعبير به إنما أوقعهم في إشكالات.

وكيف كان؛ فإنّ الإمكان له إطلاقات ثلاثة؛ فهو تارةً؛ يطلق ويراد به الإمكان الذاتي، ولا ريب أنه لم يكن مقصوداً إذ ليس البحث عنه من شأن الأصولي وإنَّما هو من مباحث علم الفلسفة والحكمة مع أنه لم يدّع أحد أنّ التعبّد بغير العلم عين اجتماع المثلين أو الضدين حتى يكون ممتنعاً ذاتياً في مقابل الإمكان الذاتي.

ص: 387

وأخرى؛ يطلق ويراد به الإمكان الإحتمالي، وهو أيضاً غير مراد لأنَّه بمعنى احتمال إمكان الشئ في مقابل احتمال امتناعه ووجوبه، وهو يجتمع مع الإمتناع الذاتي أيضاً.

وثالثة؛ يطلق ويراد به الإمكان الوقوعي أي؛ ما لا يلزم من وقوعه في الخارج محذور عقلي، كما يقال المعراج والمعاد الجسمانيان ممكنان؛ فيكون نفس الوقوع في الخارج من أدلة وقوعه وإثباته من دون حاجة إلى التماس دليل آخر.

ومن أجل ذلك حاول الشيخ الأنصاري قدس سره (1) إثبات هذا النوع من الإمكان بعد الفراغ من بطلان الشبهات التي أوردها في المقام بأحد وجهين:

1- الرجوع إلى الوجدان؛ فلا نجد فيه ما يدل على الإمتناع.

2- إنّ عدم الوجدان وإن كان لا يدل على عدم الوجود كما هو المعروف ولكن يكفي في المقام إحتمال الإمكان لإثباته استناداً إلى أصالة الإمكان التي انعقد بناء العقلاء عليها عند الشك في الإمكان.

وأشكل المحقق الخراساني قدس سره (2) على الثاني بأمور ثلاثة:

الأول: إنه بعد فرض قيام الدليل القطعي على جعل الحجية واعتبار الظن فهو نفسه دليل قطعي على الإمكان لأنّ الوقوع أخص من الإمكان فلا موضوع لأصالة الإمكان عند الشك فيه، وإن فرض عدم وجود دليل قطعي على جعل الحجية والإعتبار فلا فائدة في إثبات الإمكان بأصالة الإمكان وبغيره لأنّ مجرد الإمكان لا أثر له كما هو واضح.الثاني: إنّا لا نسلّم انعقاد بناء العقلاء على الإمكان عند الشك فيه ليكون هناك أصل عقلائي بعنوان أصالة الإمكان، نعم؛ قد يحصل غالباً للعقلاء العلم بالإمكان بحسب قريحتهم إذا بحثوا ولم يجدوا ما يدل على الإمتناع.

ص: 388


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص40 وما بعدها.
2- . كفاية الأصول؛ ص276.

الثالث: إنه لو سُلِّم انعقاد هذا البناء العقلائي وجريهم على الإمكان إلا أنه لا علم لنا بموافقة الشرع لذلك وإمضاءه لهم, والسيرة العقلائية بما هي عقلائية لا تكون مجدية إذا لم يكن إمضاء الشرع لها.

وأجيب عن هذه الإعتراضات الثلاثة من قبل الأعلام؛ فقد ذكر السيد الخوئي قدس سره (1) في الجواب أنّ مقصود الشيخ الأنصاري قدس سره من أصالة الإمكان هو أصالة حجية ظاهر كلام المولى وتشريعه مادام لم يقطع بامتناع مدلوله.

ولا إشكال في ذلك؛ فلو قال المولى (أكرم كلَّ فقير) واحتملنا استحالة إيجاب إكرام الفقير الفاسق فلا نرفع اليد عن الإطلاق أو العموم بمجرد هذا الإحتمال، وكذلك في المقام فإنه يبني على صحة ما دلّ بظاهره من الأدلة المعتبرة على جعل الحجية والحكم الظاهري في مورد ما لم يثبت الإمتناع فيه, فليس المقصود هو التمسك بالسيرة العقلائية بذلك المعنى فلا يرد شئ من ذكر الإعتراضات.

ويرد عليه بالفرق بين المقام وبين قول المولى (أكرم كل فقير) والذي يكون متعلق الإحتمال فيه هو امتناع مدلول الظهور لثبوت مدلول الظهور لا حجيته، فإنه ممكن بحسب الفرض ولا إشكال في أنه لا يرفع اليد عن الحجية والظهور إلا حيث يثبت بطلانه بالقطع أو بحجة أخرى.

وأما المقام فإنّ المفروض أنّ المبحوث عنه هو إمكان نفس الحجية والحكم الظاهري وامتناعه، ومعه سوف يسري الشك والإحتمال إلى حجية نفس الظهور الذي يراد افتراض التمسك في إثبات الحكم الظاهري.

ص: 389


1- . مصباح الأصول؛ ج2 ص91.

وذكر السيد الصدر قدس سره (1) في الجواب عنها:

أما بالنسبة إلى الإعتراض الأول؛ فإنه يمكن أن نفرض تارةً؛ من جهة قيام دليل قطعي على التعبد بالحكم الظاهري مثلاً من غير ناحية الإمكان، أي أنه تام الدليلية لو كان الإمكان تاماً في الواقع، فدلالته منوطة بثبوت الإمكان وذلك لأنّ الدليل القطعي إما أن يكون متمثلاً في ما هو قطعي السند والدلالة ففي هذه الحالة يؤدي إلى القطع بالوقوع وهو أخص من الإمكان، وإما أن يكون متمثلاً في السيرة العقلائية كما هو الغالب في أدلة الحجية، ومن المعلوم أنّ السيرة تتحقق إذا ثبت إمضاء الشارع لها ويستكشف ذلك من عدم ردعه عنها، وعدم الردع إنما يمكن الجزم به على تقدير عدم استحالة جعل الحجية وإلا فمع احتمال الإستحالةوكونها عرفية فربما يكون عدم الردع من ناحية الإكتفاء بهذا الاحتمال والإعتماد عليه فلا يمكن تحصيل الجزم بالإمضاء من سكوت المولى فتكون دلالة مثل هذا الدليل حينئذٍ فرع ثبوت الإمكان؛ فإذا بُني على أصل عقلائي يثبت الإمكان على حدّ الأصول العقلائية التي تكون لوازمها حجة فإنه سوف يدل مثل هذا بالإلتزام على إمضاء الشارع لحجية الظن التي انعقدت السيرة عليها أيضاً.

ويرد عليه: إن ما ذكره قدس سره تطويل لا طائل تحته، وذلك لأنّ عدم الردع من قبل المولى للسيرة إنما يكون من جهة كون المولى من العقلاء بل رئيسهم فإذا ثبت لهم سيرة؛ فإن منع عنها المولى لأجل خلل فيها لم يدركوه فسوف تكون مردودة وإلا فإنّ السكوت عنها وعدم ردعه لها يكون كاشفاً عن الإمضاء كما هو واضح.

وأما احتمال كون عدم الردع عن السيرة من قبل المولى من ناحية الإكتفاء بالإستحالة العرفية كما ذكره قدس سره ، فهو بعيد جداً في مثل جعل الحجية إذ المستفاد من ذلك أنّ

ص: 390


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص190 وما بعدها.

العقلاء إذا احتملوا الإمكان لم يثبت عندهم امتناع الحجية، وتثبت السيرة عندهم على الحجية ويكشف عدم الردع من قبل المولى من إمضاءه لها باعتباره منهم بل كونه رأس العقلاء بل رئيسهم، فما اعترضه المحقق الخراساني قدس سره على الشيخ واعتراض السيد الصدر عليه غير تامّين وسيأتي مزيد بيان.

ثم أفاد قدس سره أنّ هذا كله إذا لم نفترض قيام دليل قطعي على جعل الحكم الظاهري الذي هو الحكم المجعول في مورد الشك أو الظن، وأما إذا افترضنا قيام مثل هذا الدليل القطعي عليه فإنّ مجرد هذا لا يوجب ارتفاع موضوع أصالة الإمكان كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره لأنّ محذور الإمتناع والإمكان ليس في جعل هذا الحكم بحسب الحقيقة بل في الجمع بينه وبين الحكم الواقعي؛ فإنّ غاية ما يلزم من قطعية دليل هذا الحكم المجعول هو القطع بثبوت أحد الحكمين وهو الحكم الثابت بعنوان الظن أو الشك، وأما كونه واقعياً أو ظاهرياً فلا يثبت في هذا الدليل حتى يقال بأنه قد ثبت الإمكان بلا حاجة إلى أصالة الإمكان, وإنما يثبت ذلك ببركة أصالة الإمكان بمعنى إطلاقات أدلة الأحكام الواقعية.

ويرد عليه: إنّ مرحلة الجمع بين الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي يكون بعد مرحلة جعل الحجية للظن والتعبدية، فإذا كان ممكناً وثبت وقوعه سوف يأتي دور الجمع بين الحكمين، وأما إذا لم يكن ممكناً وثبت امتناعه فلا تصل النوبة إلى ذلك.

وليس المراد من الإمكان إطلاقات أدلة الأحكام الواقعية حتى يصحّ كلام السيد الخوئي الذي تقدم نقله كما ذكره السيد الصدر.

وأما بالنسبة للإعتراض الثاني؛ فقد ناقشه السيد الصدر بأنه لو أريد بأصالة الإمكان هو التعبد بالإمكان ابتداءً فالإعتراض الذي ذكره المحقق الخراساني قدس سره غریب جداً؛ فإنّ

ص: 391

العقلاء ليس لهم تعبدات كذلك، نعم قد يحصل لهم القطع بالإمكان بحسب قريحتهم من مجرد عدم وجدان وجه للإستحالة.

بل لا يعقل بناؤهم على الإمكان لو كان عندهم الشك في إمكان جعل الحكم الظاهري لأنّ هذا البناء بنفسه حكم ظاهري، فإثبات إمكانه به مصادرة واضحة.

ويرد عليه: ليس المراد بأصالة الإمكان التعبدية ابتداءً بل المقصود منها تعيين موضوع التعبد فإنّ العقلاء ليس لهم تعبدات كما ذكره بل إنهم يثبتون موضوع التعبد الذي هو من وظائف المولى، وهذا الموضوع ربما يثبته العقلاء على نحو القطع بحسب قريحتهم, وربما يثبت من عدم وجدان دليل على الإمتناع، فلا إشكال في ثبوت أصالة الإمكان. والقول بمعقولية بناءهم على الإمكان بعيد جداً، ثم بعد ذلك يأتي دور جعل الظاهري فلا تكون مصادرة فضلاً عن أن تكون واضحة.

وأما بالنسبة للإعتراض الثالث؛ وهو أنّ هذه السيرة العقلائية بالخصوص لا يعقل القطع بإمضاء الشارع لها؛ فقد ناقشه بإننا نفترض القطع بالإمضاء، وغاية ما يلزم منه القطع لجعل أصالة الإمكان كحكم شرعي، ولكن هذا لا يعني القطع بالجمع وإنما يثبت بإجراء أصالة الإمكان بالمعنى الآخر، أي التمسك بإطلاقات أدلة الأحكام الواقعيةز

والحق؛ أنّ ذلك مغالطة واضحة فإنّ أصالة الإمكان لم تكن أمراً تعبدياً ولم يجعلها الشارع حكماً ظاهرياً, بل إنّ أصالة الإمكان تثبت موضوع التعبد وليس هو التعبد، والعقلاء بمعزل عن ذلك، وليس هو بمعنى التمسك بإطلاقات أدلة الأحكام الواقعية.

والحاصل؛ إنّ أصالة الإمكان إنما تثبت موضوع الحجية والتعبد وجعل الحكم الظاهري، ومن ثم مرحلة الجمع بينه وبين الحكم الواقعي. وليس هذا الأصل فيه أي نوع من التعبد حتى يقال بأنّ العقلاء ليس لهم تعبدات، ولا هي بنفسها الحجة والجعل والإعتبار حتى

ص: 392

يفسد الإمكان به، بل إنّ أصالة الإمكان تعبّد الطريق لجعل الإعتبار والحجية والجعل وتنفي امتناعها، كما أنه ليس بمعنى الإطلاق كما زعمه السيد الصدر بل هو من آثار الجعل.

فالحق ما ذكره الشيخ قدس سره من الإعتماد على أصل الإمكان الذي هو أصل عقلائي لدفع الإمتناع، واعتراض المحقق الخراساني قدس سره مبني على المراحلالمتأخرة عن أصل الإمكان. هذا ولكن الصحيح ما صنعه السيد الوالد قدس سره (1) حيث ذكر بأنه لا حاجة إلى أن يكون الأصل في الأشياء هو الإمكان, لأنه لا أصل لهذا الأصل أصلاً إذا كان المراد به الإمكان الذاتي أو الوقوعي، نعم، إحتمال الإمكان يجري في كل شئ ولكنه من مجرد الإحتمال العقلي ولا ينفع لشئ أبداً، وهذا معنى ما اشتهر من أنّ (كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يردك عنه قائم البرهان)، فإنّ معناه كل ما سمعت من الغرائب والعجائب لا تبادر إلى الحكم بامتناعه بل احتمل إمكانه أيضاً في مقابل احتمال امتناعه واحتمال وقوعه خارجاً، فالمراد من الإمكان أي ما لا يلزم من وقوعه في الخارج محذور عقلي، ولا إشكال فيه حينئذٍ . وإنما الكلام يقع في بيان ما استدل به على امتناعه الوقوعي لأنّ التعبد بغير العلم يستلزم محاذير متعددة بعضها من الشبهات المشهورة في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي, وقد صنف بعضهم(2) تلك المحاذير إلى صنفين:

الأول: ما يرجع إلى أنّ جعل الحكم الظاهري مخالف لحكم العقل بقطع النظر عن التشريع الإلهي.

الثاني: ما يرجع إلى أنّ هذا الجعل مخالف مع الأحكام الشرعية الواقعية.

ص: 393


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص61.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص188.

والحق؛ إنّ هذه الشبهات من قبيل الشبهة في مقابل البديهة لأن إمكان التعبد بغير العلم واعتبار الظن وجعل الحجية مِمّا يعترف به ذوو الفطرة السليمة والعقول المستقيمة، وهو من الأمور النظامية الواقعية في المجتمع الإنساني، والشرع قد ورد عليها وقرارهم عليها في كثير من تلك الأمور النظامية الإجتماعية. والأصوليون قد ابتعدوا عن الواقع حيث اخترعوا لهم مصطلحات خاصة بهم وطبقوها على هذا الموضوع المهم مِمّا أوجب بعده عن الفهم العرفي المبين عندهم كما سيظهر ذلك إن شاء الله تعالى.

وكيف كان؛ فقد ذكر الأصوليون وجوهاً عديدة لإثبات امتناع التعبد بغير العلم وهي الإشكالات المعروفة في المقام:

الإشكال الأول: وهو ما يختص بالصنف الأول، حيث ذكروا بأنّ حجية غير العلم تنافي حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لأنّ غير العلم لا يخرج عن كونه غير العلم مهما جعلت له الحجية شرعاً أو عقلاً, فيكون العقاب في مورده عقوبة بلا بيان، والأحكام العقلية لا تقبل التخصيص.

وقد تصدى جمعٌ للجواب عنه تارةً؛ بأنّ العقاب في مورد الحكم الظاهري على مخالفة نفس هذا الحكم الظاهري لا الواقع، وأخرى؛ ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره (1) ومن تبعه إلى أنّ المجعول في الحجج هو العلمية والطريقية وبذلك يتحقق البيان والعلم.

وثالثة؛ ما ذهب إليه الصدر قدس سره إلى إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية, أو الإلتزام بأنّ موضوع حكم العقل إنما هو عدم بيان الحكم الواقعي وعدم اهتمام المولى به على تقدير ثبوته، ودليل الحجية كاشف عن الإهتمام المذكور فيرتفع موضوع القاعدة العقلية.

ص: 394


1- . فوائد الأصول؛ ج2 ص56.

والحق؛ إنّ نفس جعل الحجية والإعتبار من قبل العقل أو الشرع بيانٌ؛ بلا نظر إلى خصوصيات المجعول فيرتفع موضوع هذه القاعدة. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الإشكال الثاني: ما يرجع إلى الصنف الثاني وهو أنّ جعل الحجية للظن يؤدي إلى محذور اجتماع الضدين أو المثلين قطعاً أو احتمالاً، وكلاهما محال؛ أما وجه الإستحالة فواضح، وأما وجه اللزوم فلأنّ الحكم الظاهري يكون في معرض الخطأ والإصابة فيكون في مورده حكم واقعي مضاد أو مماثل بعد البناء على عدم التصويب.

وقد أجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: ما ذهب إليه جمع كبير من الأصولين من أنّ الحكم الظاهري في بعض الموارد على الأقل الأمارات مثلاً ليس حكماً تكليفياً، بل هو من سنخ الأحكام الوضعية لأنّ المجعول فيه هو الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية كما أفاده صاحب الكفاية قدس سره ، أو العلمية والطريقية كما أفاده المحقق النائيني قدس سره ، بينما الأحكام الواقعية هي أحكام تكليفية كالأمر والنهي والتنافي إنما يكون بين حكمين تكليفيين مختلفين أو متماثلين، لا بين حكم وضعي وآخر تكليفي.

وأشكل عليه بأنّ جعل المنجزية أو المعذرية أو العلمية أو أي اعتبار آخر؛ إما أن لا يستلزم لموقف عملي من قِبل المكلف فعلاً أو تركاً فلا أثر لجعل مثل هذا الحكم الوضعي فلا يكون موضوعاً لحكم العقل بلزوم الطاعة. وأما إذا كان جعل ذلك مستلزماً لموقف عملي من قبل المكلف؛ فإن كان لم ينشأ من مبادئ الحكم التكليفي من إرادة وشوق نحو الفعل أو كراهة وبغض، فهذا وحده كافٍ لدفع المحاذير المتوهمة في المقام سواء كان الظاهري من سنخ الأحكام التكليفية أو الوضعية لأنّ التنافي والمحاذير الناشئة منه إنما تنشأ بلحاظ تلك المبادئ لا بين نفس الإنشاء وصفته للحكمين.

ص: 395

وإن كان ناشئاً من ملاكات واقعية فإنّ محذور التنافي يبقى على حاله سواءً كانت صيغة الحكم الظاهري المجعول من سنخ الأحكام التكليفية أو الوضعية.

والحق؛ إنّ هذا الإشكال متوجه على كيفية الحكم الظاهري، والمجيب يريد رفع التنافي باختلاف حقيقة الحكمين، وأما صحة ذلك وعدمها فسيأتي بيانه.

الوجه الثاني: إنّ مبادئ الحكم الظاهري ومصلحته في نفس الجعل لا في متعلق الحكم ليلزم المنافاة بينهما وبين مبادئ الحكم الواقعي الثابت في متعلقه.

وأورد عليه بأنّ إنشاء الحكم عن مصلحة في نفس الجعل نفسه غير معقول، فلا بُدَّ للحكم أن ينشأ من مصلحة في متعلقه سواء كانت ثابتة فيه بقطع النظر عن جعل ذلك، أو في طول الجعل وبلحاظه كما في الأوامر التي يراد منها تطويع العبد على الإطاعة والإمتثال لأنّ جعل الحكم لمصلحة في نفس الجعل الذي هو فعل المولى مع خلوّ المتعلق عن كل مصلحة مطلقاً؛ فإنّ مثل هذا الحكم لا يكون موضوعاً لحق الطاعة فعلاً، لأنّ تمام الغرض منه قد تحقق بنفس جعله الذي هو فعل المولى من دون حاجة إلى امتثال أصلاً.

وفيه: إنّ خلوّ الجعل والمتعلق من المصلحة مِمّا لا يعقل ولا يصحّ صدوره من المولى الحليم لأنه من العبث المحض, ولكن المصلحة في الأحكام لها جهتان متلازمتان:

أحداهما؛ ترجع إلى المولى، ويكفي فيها كونها في نفس الجعل.

والأخرى؛ ترجع إلى المكلف، وقد صوّر الأصوليون تلك المصلحة في النفع ونحوه، وليس الأمر كذلك فإنّ المصلحة العظيمة من التكاليف مطلقاً هو تكميل النفس الإنسانية وإيصالها إلى كمالها المنشود. وعلى هذا يكون كل حكم سواء كان واقعياً أو ظاهرياً فيه مصلحة التكميل ويكون موضوعاً لحق الطاعة الذي هو قمة الكمالات.

ص: 396

ولم يتحقق الغرض من التكليف إلا بهاتين الجهتين، ولم يحصل بنفس الجعل الذي هو فعل المولى فإنه حينئذٍ تنتفي الفائدة من تشريع الأحكام، فلا بُدَّ من تحقق الإمتثال من العبد لتتمّ المصلحة. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من إثبات مراتب أربع للحكم:

1- مرتبة الإقتضاء والشأنية، فإنّ كل حكم له ثبوت إقتضائي في رتبة مقتضية ويعتبر ذلك نحواً من الثبوت التكويني للحكم.

2- مرتبة الإنشاء، سواء كانت بمعنى الوجود الإنشائي للحكم بناءً على المسلك القائل بإيجادية بعض المعاني، أو بمعنى الإعتبار والجعل القانوني المبرَز باللفظ.1- مرتبة الفعلية، والتي تعني وجود إرادة أو كراهة بالفعل وعلى طبقه التحريك.

2- مرتبة التنجز، والتي هي تعبير عن حكم العقل بلزوم الإمتثال واستحقاق العقاب على المخالفة.

فيكون التنجز نوع بلوغ الحكم مرتبة الفعلية ووصولها خارجاً، فلا يكفي فيه العلم بالمرتبة الأولى أو الثانية من الحكم, كما أنّ التنافي بين الأحكام إنما يكون في مرتبة الفعلية؛ لا الإنشاء والإقتضاء.

وفي موارد الحكم الظاهري إذا فرض انحفاظ الحكم الواقعي بمراتبه الثلاثة لزم محذور التضاد ونقض الغرض، وأما إذا فرض عدم إنحفاظها كذلك بل كانت إنشائية مثلاً فلا يلزم محذور التضاد ولا نقض الغرض.

ولكن إذا افترض کون الأحكام الواقعية إنشائية بحتة مطلقاً يؤدي إلى عدم تنجزها حتى بعد العلم بها لأنّ العلم بالحكم الإنشائي لا يكون منجزاً.

ص: 397


1- . كفاية الأصول؛ ص258.

ومن هذا التزم صاحب الكفاية بفرضيته وهي أنّ الأحكام الواقعية هي أحكام فعلية ولكن تكون معلقة على عدم فعلية الحكم الظاهري، أي فعلي من سائر الجهات، وفعليتها قد استوفت تمام شروطها ماعدا شرط واحد وهو أن لا يكون على خلاف حكم ظاهري.

وقد اعترض عليه أعلام الأصوليين من بعده بجملة اعتراضات:

منها: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أننا لا نعقل التفكيك بين الإنشاء والفعلية لأنّ قيد العلم؛ إما أن يؤخذ في موضوع الجعل والإنشاء وعليه، فإنّ في موارد عدم العلم لا جعل ولا مجعول، وإما أن لا يؤخذ فكلٌّ من الجعل والمجعول ثابت في موارد الحكم الظاهري لتحقق موضوعه وهو يستلزم الفعلية لا محالة.

ولكن الإشكال المتوجه على ما ذكره قدس سره أنّ إيراده مبني على تفسيره للإنشاء والفعلية بحمل الأول عل الجعل والقضية الحقيقية الشرطية، وحمل الثاني على المجعول والقضية الفعلية، بينما عند المحقق الخراساني قدس سره إنّ المقصود من الفعلية هو الإرادة أو الكراهة بوجوديهما الفعليين في نفس المولى، والمقصود من الإنشاء الوجود الإنشائي للحكم أو الإعتبار المبرز على الخلاف في تفسير الإنشاء.

والتضاد إنما يكون بين الأحكام بلحاظ مرحلة فعلية مبادئها من الإرادة والكراهة الفعلية, وأما الوجود الإنشائي لها فلا تضاد فيما بينها كما واضح لأنّ الإنشاء سهل المؤونة.وحينئذٍ يتم ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ؛ فإنه بناءً على بطلان التصويب يصحّ الإلتزام بأنّ الأحكام الواقعية في مرتبة فعليتها معلقة على عدم جريان الحكم الظاهري فلا تضاد ولا نقض للغرض لأنّ الغرض هو الملاك الذي يريده المولى بالفعل.

ص: 398


1- . فوائد الأصول؛ ج2 ص36.

ومنها: ما عن المحقق العراقي قدس سره في بعض افاداته(1) من أنّ كلام صاحب الكفاية يؤدي إلى سلخ الخطاب الواقعي عن الفعلية رأساً، وكونه إنشائياً بحتاً باطل وذلك لأنّ تقييد الإرادة الجديّة الفعلية بالعلم به وعدم الشك الذي هو موضوع الحكم الظاهري لا يمكن استفادته من دليل الحكم الواقعي، لأنّ الفعلية المقيدة بالعلم بالخطاب متأخرة عن نفس الخطاب برتبتين لأنها متأخرة عن العلم بالخطاب تأخُّر المشروط عن شرطه، والعلم بالخطاب متأخر عن الخطاب أيضاً تأخر العلم عن معلومه، ومعه يستحيل أن يكون مدلولاً للخطاب لأنّ مدلول الخطاب متقدم على الخطاب الدالّ عليه.

والصحيح؛ أنّ ما ذكره التزام بالإشكال وليس جواباً عليه؛ لأنّ الإشكال إنما نشأ من التزام العدلية ببطلان التصويب واشتراك العالم والجاهل في الحكم الواقعي، وليس المراد من ذلك كونه قضية مهملة ليقال بكفاية اشتراكهما في الحكم الإنشائي بل المراد هو الإشتراك في الأحكام الواقعية بمبادئها الحقيقية إلا من ناحية عدم تنجزها عليه.

والحق في الجواب عن ما ذكرناه مكرراً من أنه ليس للحكم إلا مرتبة واحدة وهي الفعلية سواء أضيف إلى الحكم أو إلى المحكوم؛ فلا وجه للتقسيم إلى مرتبة الإقتضاء والإنشاء والتنجز, فإنّ الحكم خالقياً كان أو خلقياً إنما هو جعل القانون بداعي صيرورته فعلياً بالنسبة إلى واجدي الشرائط سواء كانوا كذلك حين صدوره أو بعد ذلك، فهو فعلي أبداً من طرف الجاعل. وكذلك بالنسبة إلى واجدي الشرائط مطلقاً.

وبالنسبة إلى غيرهم لا حكم أبداً حتى يبحث عن أنه إنشائي أو لا، لأنّ الإنشاء إن كان بلا داعٍ فهو محال عليه تعالى وقبيح بالنسبة إلى غيره، وإن كان بداع آخر غير الفعلية فلا وجه لصيرورته فعلياً حين تحقق الشرائط، وحينئذٍ تبقى شبهة التضاد على حالها فلا بُدَّ من الجواب عنها بوجه آخر كما ستعرف.

ص: 399


1- . مقالات الأصول؛ ج2 ص47.

الوجه الرابع: ما ذكره الشيخ الانصاري وتلميذه السيد الشيرازي (قدس سراهما)(1) من ارتفاع التضاد بتعدد المرتبة فإنّ مرتبة الحكم الظاهري الشك في الواقعي وهو متأخر عنه وفي طوله، فلم يجتمع الحكمان في مرتبة واحدة.

وهذا الوجه بهذا البيان قد اعترض عليه في الكفاية بأنّ الحكم الظاهري وإن كان متأخراً عن الواقعي فيستحيل أن يجمع معه في مرتبته إلا أنّ الحكم الواقعيباعتباره مطلقاً شاملاً للعالم والجاهل فيكون محفوظاً مع الحكم الظاهري، فإنّ المعلول وإن لم يكن ثابتاً في مرتبة العلّة إلا أنّ العلّة ثابتة في مرتبة المعلول فيلزم محذور التضاد والتنافي.

وأشكل عليه بأنّ الإجتماع في العلّة والمعلول إن لوحظ في عالم الرتب فإنه كما لا يجتمع المعلول مع العلّة في رتبتها كذلك لا تجتمع العلّة مع المعلول في رتبته، وإن لوحظ الإجتماع والتعاصر في الزمان لا في الرتبة فكلٌّ منهما يجتمع مع الآخر في الزمان؛ فالجواب المزبور غير صحيح.

وقيل في الجواب أنّ الطولية في الرتبة لا ترفع غائلة التضاد لأنّ المستحيل في زمان واحد في لوح الواقع، لا اجتماعهما في رتبة واحدة بشهادة أننا لو فرضنا علّية أحد الضدّين للآخر إستحال اجتماعهما فنستنتج من نفس التضاد عدم العلّية لا أنّ التضاد موقوف على عدم العلّية، وهو واضح.

والحق ما سيأتي ذكره في الجواب عن أصل الإشكال.

ثم إنّ المحقق النائيني قدس سره فسّر ما ذكره الشيخ والشيرازي (قدس سراهما) ببيان آخر؛ وهو أنّ الأحكام الظاهرية في طول الأحكام الواقعية إذ لولاها لم يكن جعل الحكم الظاهري معقولاً فيستحيل أن تكون الأحكام الظاهرية مانعة عن الأحكام الواقعية، إذ يلزم من مانعيتها نفيُها لنفسها ومن وجودها عدمُها وهو محال.

ص: 400


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص40- 41 ، وتقريرات المجدّد الشيرازي؛ ج3 ص353- 355.

وأشكل السيد الصدر قدس سره (1) على هذا البيان أيضاً؛ بأنّ الأحكام الظاهرية وإن استحال أن تكون مانعة عن الأحكام الواقعية لأنها مترتبة عليها إلا أنه لا محذور في مانعية الأحكام الواقعية عن الظاهرية ولا يلزم من ذلك نفيها لنفسها.

وبعبارة أخرى: إنّ من يدعي التضاد بين الحكمين لا يفهم الحكم الظاهري إلا كحكم واقعي، ومعه لا تكون طولية بينه وبين الحكم الواقعي بل يكون في عرضه. فافتراض الطولية بالنحو الذي ذكره المحقق النائيني إنما يكون بعد تعقّل الحكم الظاهري وإمكانه.

ولكن يمكن المناقشة فيما ذكره هذا المستشكل من أنه لا ريب في اختلاف الحكم الواقعي عن الحكم الظاهري وترتب الثاني على الأول وإلا لما كان لفرضه وجه أبداً، إلا أنّ الكلام في إثبات الطولية بينهما، وأما فهم بعضهم بأنّ الحكم الظاهري كحكم واقعي؛ فإن كان من مجرد الإصطلاح فهو أمرٌ يخصّه، وأما إذا لم يكن كذلك فإنّ الإختلاف بينهما واضح ويعود ما ذكره المحقق المزبور. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.الوجه الخامس: ما نسب إلى المحقق العراقي قدس سره من أنّ الوجود الواحد تكون له حيثيات متعددة؛ فبلحاظ بعضها يكون مطلوباً، وباعتبار بعضها الآخر لا يكون كذلك. ولذلك تطبيقات، ومن أوضحها المركبات الحقيقية.

ومن ذلك ما ذكره قدس سره (2) في الوجود الواحد من ناحية مقدماته ومبادئه فيكون مطلوباً بلحاظ بعض مبادئه دون بعضها الآخر.

ومنه استنتج قدس سره أنّ التكليف والمرام الواقعي للمولى لأجل تحققه خارجاً وانبعاث المكلف نحوه له مقدمات عديدة: منها؛ جعل الخطاب الواقعي، ومنها؛ جعل الخطاب الظاهري بالإحتياط حين جهله بالخطاب الأول الواقعي.

ص: 401


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص197-198.
2- . مقالات الأصول؛ ج2 ص47.

وحينئذٍ ربما يفترض أنّ ذلك المرام من ناحية المقدمة الأولى الراجعة إلى الخطاب الواقعي بنفسه مراد ومطلوب، ولكن من ناحية المقدمة الثانية الراجعة إلى جعل خطاب ظاهري بإيجاب الإحتياط غير مطلوب، بل مرخّص في تركه. ولا يلزم من ذلك التضاد لتعدد الحيثيات.

وأجيب عنه بوجوه: منها؛ أنّ الوجود البسيط مهما تكثرت مقدماته فليس له إلا باب واحد منه تتحقق جميع تلك المقدمات. نعم؛ إنّ ما له التكثر والتخصيص بلحاظ أبواب عدم ذلك الشئ قد يعدم من ناحية عدم هذه المقدمة وقد يعدم من ناحية عدم مقدمته الأخرى، فلا بُدَّ من تصحيح كلامه قدس سره بما يرجع إلى هذا المعنى.

وعليه؛ إنّ لصدور المرام خارجاً باباً واحداً دائماً يسدّه المولى لأنّ المكلف إما أن يعلم بالخطاب الواقعي أو لا؛ فالمكلف العالم ليس له إلا باب عدم جعل الخطاب الواقعي، وأما جعل الخطاب الظاهري فلا أثر له بالنسبة إليه. والمكلف الشاك ليس له أيضاً إلا باب عدم جعل الخطاب الظاهري بالإحتياط، وأما جعل الخطاب الواقعي فعدمه لا يوجب عدم المرام. فليس هناك بابان للعدم ليقال ان أحدهما سدّه تحت الطلب دون الآخر.

الوجه السادس: ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) وهو يتوقف على رسم مقدمات:

المقدمة الأولى: إنّ غرض المولى إذا تعلق بشيئ وكان بدرجة بالغة من الأهمية بحيث لا يرضى صاحبه بتفويته، وكان مورده معرضاً للإشتباه والتردد فسوف تتوسع دائرة محركيته فتكون أوسع من متعلق الغرض الواقعي؛ فلو تعلق غرض تكويني بإكرام زيد مثلاً وتردد بين عشرة، وكان الغرض بمرتبة لا يرضى صاحبه بفواته فلا محالة سوف يتحرك في دائرة أوسع فيكرم العشرة جميعاً حتى يحرز بلوغ غرضه.

ص: 402


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص201 وما بعدها.

وهذا أمر وجداني لا نزاع فيه فإنه توسعة في المحركية وفاعلية الغرض والإرادة، لا في نفسهما بل الغرض والإرادة باقية على موضوعها الواقعي وهو إكرام زيد لا غيره، إذ لا غرض نفسي في إكرام غيره ليتعلق به شوق أو إرادة، ولا هو مقدمة لوجود المرام؛ وهو إكرام زيد لتتعلق الإرادة الغيرية به. ومرجع ذلك إلى أنّ نفس إحتمال الإنطباق منشأٌ لمحركية الإرادة المتعلقة بالمطلوب الواقعي كالقطع به لشدة أهميته، وهذا الأمر صادق في الغرض التشريعي أيضاً لكن مع الفرق بينه وبين الغرض التكويني في أنّ توسعة دائرة المحركية فيه تكون جعل الخطابات التي تحفظ الغرض الواقعي بأي لسان وتعبير كان فإنه لا يغيّر من جوهر ذلك شيئاً, وهذا يعني أنّ الخطاب الموسع الذي هو الخطاب الظاهري ليس على طبقه غرض في متعلقه، ولكنه مع هذا ليس بمعنى أنّ المصلحة في نفس جعله كما ذكر في بعض الوجوه السابقة, بل إنّ هذه الخطابات خطابات جدية وتحركات مولوية حقيقية يراد بها التحفظ على الغرض الواقعي المهم في نظر المولى، ولهذا تكون رافعة لقاعدة البراءة العقلية.

وما ذكره قدس سره في هذه المقدمة صحيح في حدّ نفسه في الأمر التكويني، ولكن ما ذكره في الخطاب الظاهري من أنه ليس على طبقه غرض في متعلقه فهو غير تام لأنّ المولى مع علمه بعروض الإشتباه والخطأ على المكلف وابتلاءه بالتردد فتحفّظه على الغرض الواقعي إيقاع للمكلف في الحيرة والإضطراب، بل قد يمتنع طلبه منه لعدم قدرته عليه فلا بُدَّ أن يكون هناك جعل ثانوي فيه غرض يقوم مقام ذلك الغرض الواقعي يكون بمنزلة المتمم للجعل، وهذا الجعل يتقوم بالغرض المختص به ويكون التحفظ على الغرض الواقعي داعياً له؛ فقد يكون هذا الغرض هو رفع حيرة المكلف وتردده وإثبات القدرة له حتى يصحّ الخطاب.

ص: 403

فلا بُدَّ من أن يكون في هذا الجعل الظاهري غرض، وغير ملزم أن يكون هو الغرض الواقعي بل هو غرض يتناسب مع الحكم الظاهري، وليس هذا الغرض في نفس الجعل كما صرح به قدس سره بل يكون في متعلقه أيضاً كما عرفت.

المقدمة الثانية: إنّ التزاحم بين حكمين على أقسام:

التزاحم الملاكي؛ وهو يفرض في وجود ملاكين في موضوع واحد؛ أحدهما يقتضي محبوبيته، والآخر يقتضي ما ينافيها ويضدها كالمبغوضية، فيقع التزاحم بين الملاكين فيستحيل أن يؤثر كل منهما في مقتضاهما لمكان التضاد بينهما. ومن خصائص هذا القسم من التزاحم أنه لا يكون إلا في موضوع واحد، وإلا لم يكن هناك اجتماع للضدين لانتفاء المحذور في تأثيرهما معاً في إيجاد الحب والبغض. ومن خصائصه أيضاً1- تأثير أقوى المقتضيين بعد الكسر والإنكسار في إيجاد مقتضاه، وحينئذٍ يكون مقتضاه فعلياً ويسقط مقتضى الآخر مطلقاً.

2- التزاحم الإمتثالي؛ ويفرض هذا القسم فيما إذا كان الملاكان في موضوعين إلا أنه لأجل التضاد بينهما لا يمكن الجمع بينهما في مقام الإمتثال، وهذا التزاحم يكون في مرحلة الإمتثال الذي ينشأ من ضيق القدرة على الجمع. وغير خفي أنّ القدرة تكون دخيلة في التحريك والأمر, ولا يشترط توفرهما في المحبوب أو المبغوض.

3- التزاحم الحفظي؛ وهو فيما إذا فرض عدم التزاحم الملاكي لتعدد الموضوع وعدم التزاحم الإمتثالي لإمكان الجمع بين مصبّ الغرضين والفعلين المطلوبين، وانما التزاحم في مقام الحفظ التشريعي من قبل المولى عند الإشتباه واختلاط موارد أغراضه الإلزامية والترخيصية أو الوجوبية والتحريمية، فإنّ الغرض المولوي يقتضي الحفظ المولوي له في موارد التردد والإشتباه بتوسيع دائرة المحركية على

ص: 404

نحو يحفظ فيه تحقق ذلك الغرض؛ فإذا فرض وجود غرض آخر في تلك الموارد فلا محالة يقع التزاحم بين الغرضين والمطلوبين الواقعيين في مقام الحفظ حيث لا يمكن توسعة دائرة المحركية بلحاظهما معاً فلا محالة يختار المولى أهمهما فيكون هذا التزاحم بلحاظ تأثيرهما في توسيع دائرة المحركية من قبل المولى وحفظه التشريعي لكل منهما بالنحو المناسب له.

ولكن غير خفي أنّ هذا التزاحم الحفظي؛ إن كان من أجل حفظ الغرض الحقيقي الواقعي ليكون هو السبب في جعل الحكم الظاهري فيرجع إلى المقدمة الأولى التي تقدمت؛ فهو تكرار لها بعبارة ثانية، وإن كان لأجل وجود غرض ثانوي ليُثبت فعلاً ثانوياً كما ذكرنا فلا بُدَّ من ملاحظة هذا الغرض ومدى تأثيره وإن كان الداعي هو الحفظ على الغرض الواقعي كما عرفت.

المقدمة الثالثة: الترخيص على قسمين؛ فإنه تارةً؛ يكون ناشئاً من عدم المقتضي في الإلزام وأخرى يكون ناشئاً من المقتضي في الإباحة.

بمعنى أنّ هناك مصلحة في أن يكون العبد مطلق العنان من قبل مولاه وإن كان كلٌّ من الفعل والترك خالياً عن مصلحة؛ وحينئذٍ يقع السؤال عن معقولية التزاحم بين الأخير وبين مقتضي الإلزام, وكونه بأيّ قسم من أقسامه؟.

ثم ذكر السيد الصدر قدس سره إنه يعقل التزاحم الملاكي والحفظي بينه وبين مقتضي الإلزام دون التزاحم الإمتثالي؛ إذ لا امتثال للترخيص ليقع التزاحم بينه وبين الإلزام، وهذا أيضاً مورد النقاش إذ لو كانت الإباحة ناشئة عن مقتضٍ في الإباحة فهي حكم شرعي.

ومن جميع هذه المقدمات إستنتج قدس سره أنه إما أن يكون الحكم الظاهري إلزامياً والواقعيُ ترخيصاً؛ كما لو أوجب المولى الإحتياط في قسم من الشبهات، وإما أن يفرض العكس.

ص: 405

وفي كليهما لا محذور:

أما القسم الأول؛ فهو يرجع إلى أنّ المولى حين اشتباه العبد وتردده في الأحكام الإلزامية بحيث لا يوجد طريق لرفع هذا الاشتباه له أو لا مصلحة في ذلك فلا محالة يحفظ أغراضه الإلزامية الواقعية بالتوسيع في دائرة محركية العبد فيجعل حكماً ظاهرياً إلزامياً يرجع إلى الإحتياط لشدة اهتمامه بأغراضه الواقعية الإلزامية وعدم رضاه بفواته حتى في حالات الشك والإشتباه بالمباحات الواقعية من دون أن يلزم منه اجتماع الضدين في مورد المباح الواقعي، ولا المثلين في مورد الحرمة الواقعية كما تقدم في المقدمة الأولى من عدم التوسعة في الغرض الواقعي، بل متعلقه هو الأمر الواقعي، وليست هذه الخطابات إلا توسعة في المحركية لذلك الغرض.

وأما القسم الثاني؛ فلنفس ما تقدم في القسم الأول مع إضافة نكتة أنّ الأحكام الترخيصية الواقعية في هذا القسم لا بُدَّ وأن تكون عن مقتضٍ للترخيص ليكون العبد مطلق العنان من قبل مولاه، ولا يكفي مجرد عدم المقتضي للإلزام فإنّ مثل هذا الحكم الترخيصي الناشئ عن عدم المقتضي للإلزام لا يمكنه أن يزاحم مقتضى الإلزام، فدليل جعل الحكم الظاهري الترخيصي بنفسه يدل على وجود أغراض ترخيصية إقتضائية من هذا القبيل وكذلك الحال فيما إذا جعل حكم ظاهري إلزامي في مورد حكم واقعي إلزامي مخالف.

والحق؛ أنّ ما ذكره قدس سره لا يخرج عما ذكره القوم في توجيه الحكم الظاهري؛ فهو يقر أخيراً بأنه لا بُدَّ من وجود غرض في تشريع الأحكام مطلقاً سواء كانت واقعية أم ظاهرية، ولا بُدَّ للمولى من حفظ أغراضه مهما بلغت من الأهمية. نعم؛ هي تختلف في الأهمية؛ فبعضها تكون أكثر أهمية من غيره، كما يكون حفظ الغرض الواقعي هو الداعي في جعلٍ ظاهري فيه غرض وليس مجرد توسيع دائرة محركية الغرض الواقعي. فحينئذٍ يرفع الإشكال عند تعارض الأغراض والملاكات في أي قسم من أقسام التزاحم التي ذكرها.

ص: 406

الوجه السابع: ما ذكره السيد الوالد قدس سره من نفي الإشكال رأساً بناءً على جعل الطريقية المحضة، إذ لا حكم في مورد الأمارات، بل هو منحصر بالواقع فقط. فمع الإصابة يكون الحكم واحداً وهو الحكم الواقعي فلا موضوع لاجتماع المثلين لانتفاء الإثنينية التي هي موضوع إجتماع المثلين، وكذا مع الخطأ إذ لم يجعل الحكم في موردالأمارة. وما يستفاد من موردها في صورة الخطأ إنما هو توهم الحكم لا حقيقته، ولا مضادة بين حقيقة شيئ وتوهم الخلاف فيه مع الجهل بواقعهفلا يتحقق موضوع اجتماع الضدين، هذا إذا لم يصدر حكم الضد عن المعصوم علیه السلام ، وأما إذا صدر فإما أن يكون لأجل التقية أو لأجل مصلحة أخرى، فلا ضدية في البين لاختلاف الموضوع لأنّ موضوع الحكم الواقعي هو الواقع بما هو واقع، وموضوع ما قاله المعصوم علیه السلام هو ملاحظة المصالح الظاهرية، وهما موضوعان متغايران فينتفي موضوع التضاد بانتفاء شرطه وهو وحدة الموضوع، وقد يحتمل سقوط الواقع بتبدل الموضوع في هذه الموارد فلا إثنينية في البين حتى يتحقق اجتماع المثلين أو الضدين.

وأما على القول بجعل الحكم في مورد الأمارات فلا ريب في تغاير الحكم الواقعي والظاهري مطلقاً تغايراً يكفي في رفع المحذور؛ لأنّ الأول هو فعل الشارع وقائم بذاته الأقدس وهو البعث بداعي الإنبعاث والزجر بداعي الإنزجار وإتمام الحجة من قبل الشارع، والثاني هو التسهيل على الناس والتيسير عليهم، وهما موضوعان متغايران يكفي تغايرهما في رفع المحذور على فرض جعل الحكم في مورد الأمارات.

وأما على القول بأنّ الأحكام إعتبارات عقلائية وليست من الموجودات الخارجية فلا وجه لاجتماع المثلين أو الضدين بالنسبة إليها أصلاً فتكون مثليتها إعتبارية بضمّ اعتبار خاص إلى آخر فيفيد التأكيد لا محالة، كما لا وجه لاجتماع الضدين لأنّ موردهما الموجودات

ص: 407

لا الأمور الإعتبارية التي لا وجود لها. نعم؛ إن رجعا إلى الإرادة والكراهة فسوف يكونان من الضدين حينئذٍ ويجاب باختلاف الجهة كما تقدم.

والحق؛ أنّ ما ذكره قدس سره إنما هو مورد الإختلاف بين الأعلام؛ فمن يقول بأنّ الأحكام هي وجودات إنشائية وأنها تنشأ عن مصالح وأغراض واقعية وليست جعل الأحكام الظاهرية لمجرد الطريقية فيعود الإشكال.

والصحيح في الجواب عن هذه الشبهة وأمثالها كنقض الغرض في المقام وغيره هو أن يقال: إنّ وضع القوانين مطلقاً سواء كانت خالقية أم خلقية يتميز بأنّ الواضع لها لا بُدَّ له من ملاحظة جميع خصوصيات ذلك القانون وما يطرأ عليه من العوارض من اضطرار وإكراه، وهو يعلم أنّ من يكلفه تطرأ عليه حالات متعددة من العلم والنسيان والجهل ونحو ذلك، فلا بُدَّ من علاجها حين التشريع ولا يعقل تغافله عنها لا سيما إذا كان الجاعل هو المولى الحكيم العالم بحقائق الأمور وأحوال عباده؛ فالتشريع ليس كسائر الموضوعات التي تختص ببعض الحالات؛ فهو يسنّ القانون على نحو التأييد والشمول والإستيعاب ويلاحظ فيه جميع الحالات الطارئة على المكلفين من دون فرق بين أن يكون ملاحظة تلك الحالات الطارئة ووضع الحلول لها حين تشريع الحكم أو تأجيله إلى حين ما يطرأ من تلكالحالات، ولكن في كلتا الحالتين يكون المشرع قد لاحظ حين جعل الحكم والتشريع تلك الحالات وحلولها, وحينئذٍ يكون جعلاً واحداً في كل تشريع، ولكنه ينحلّ في الحقيقة إلى حكم أولي واقعي وحكم علاجي ثانوي، وهو أيضاً واقعي؛ والتعبير عنه بالحكم الظاهري لمجرد التمييز بين الحكمين، وإلا فليس هناك جعل ثانوي حتى يختلف في حقيقته وخصوصياته، فالحكم والتشريع واحد غايته لوحظ فيه أصل القانون وعلاج الحالات الطارئة عليه. وحينئذٍ ما يشرع في تلك الحالات الطارئة من

ص: 408

الجهل والشك والإشتباه والتردد ونحوها يكون من أجزاء الجعل الأولي ومن متمماته، ولا ريب أنه لوحظ فيه كونه علاجاً كحالة طارئة؛ فالحكم معلق على عدم فعلية الحكم الأولي وموضوعه هو الحالة الطارئة، فهو متأخر عن الحكم الأولي. ولعل من قال بأنه متأخر عن الحكم الواقعي برتبةٍ فقد نظر إلى هذه الجهة، فهو وإن كان صحيحاً في حدّ نفسه ولكن لا حاجة إلى ذلك بعد كون الحكم الثانوي علاجاً لحالة طارئة، ولا يتصور أن يقع التنافي والتضاد أو التماثل بين الحكمين. ولعل من قال بأنه صوري فقد نظر إلى ما ذكرناه. فالإشكال إنما نشأ من قولهم بتعدد الجعل وكونه منصباً على موضوع واحد، وهو غير صحيح فلا تصل النوبة إلى افتراض التزاحم الحفظي. والوجوه التي ذكروها في الجواب عن شبهة التضاد والتماثل؛ فإنها إن رجعت إلى ما ذكرناه فهو، وإلا فلا تخلو من تشويش، مضافاً إلى كونها من التطويل بلا طائل تحته. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

تلخيص وفوائد

ومما تقدم يمكن استخلاص الفوائد التالية:

أولاً: إنه لم يكن إلا غرض واحد في ذلك التشريع، أما الحكم من قبل المولى فهو لتحقيق هذا الغرض. فلا يوجد في البين أغراض متعددة بتعدد الأحكام في ذلك الموضوع، فلا منافاة بين الأغراض لانتفاء موضوعه.

ثانياً: إنّ الملاك واحد أيضاً، وهو الذي يتحقق في الحكم الأولي، لا أن يكون هناك ملاك آخر في الحكم العلاجي حتى يتحقق التزاحم الملاكي.

ثالثاً: إنّ الأحكام الواقعية ثابتة على كل حال وفي جميع الأزمنة ولا تختص بحال دون حال، وإنّ الأحكام العلاجية مقرونة بها دائماً فهي جزء من ذلك الحكم الواقعي.

ص: 409

رابعاً: إنّ الخطابات التي تشتمل على الأحكام بشقيها هي المحركة للمكلف وتتصف بالباعثية، لا أن تكون الباعثية جزءً منها فتصدر بداعي الباعثية والمحركية كما قد يظهر من بعض كلمات القوم.خامساً: إنّ الأحكام العلاجية أو ما يسمى بالأحكام الظاهرية ليست على نحو الطريقة كما يذهب إليه جمع كبير من الأصوليين، بل هي مجعولة على نحو السببية والموضوعية كما سيأتي بيانه.

ومن جميع ذلك يظهر الجواب عن جملة من الإشكالات التي تبتني على أنّ هناك جعل واقعي وجعل ظاهري، وما ذكر من تفصيلات القوم في حلّ مشاكل الحكم الظاهري.

وعلى ضوء ما ذكرناه لا بُدَّ من البحث في أمور تستفاد من كلمات الأصوليين في المقام وهي كثيرة نذكر المهم منها:

الأمر الأول: ذُكر بأنّ الخطابات الواقعية إنما تصدر بداعي المحركية والباعثية وليس كونها مجرد ملاكات وأغراض أو حبٌّ وبغض؛ فالعلّة الغائية من الأحكام هي الإنبعاث والتحرك من المكلفين، وبناء على هذا ذكروا بأنّ جعل الحكم الظاهري المخالف يكون نقضاً لهذا الغرض من هذه الناحية وإن لم يكن نقضاً للغرض من ناحية مبادئ الحكم.

وأجيب عن ذلك بأنّ داعي المحركية والباعثية له معانٍ أربعة كما ذكرها السيد الصدر(1).

والحق؛ إنّ جميع ذلك تطويل بلا طائل تحته.

والصحيح في الجواب أن يقال: إنّ الخطاب الذي اشتمل على الحكم الواقعي مع الحكم العلاجي هو الداعي للمحركية والباعثية مع قطع النظر عن العوارض الطارئة؛ هذا إذا قلنا بأنّ الخطاب هو المؤثر في ذلك، وأما إذا قلنا بأنّ المحركية والباعثية تنشأ من استشعار

ص: 410


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص206-207.

العبد بالعبودية نحو المولى فهو يتحرك نحو التقرب إلى المولى من جميع تجلياته، ومنها تجليه بالخطاب.

نعم؛ الخطاب يرسم الطريق فلا حاجة إلى تلك التفاصيل. وهذا هو الموافق لذوق الحكماء المتألهين.

الأمر الثاني: إنه بناءً على تعدد الأحكام وتقسيمها إلى الواقعية والظاهرية، وثبوت الأولى في موارد الأحكام الظاهرية فلا بُدَّ أن يكون تصوير ذلك بنحو تكون صالحة للدخول في العهدة بحيث تكون متنجزة بنفسها بحكم العقل، ولا يكفي مجرد وجود الملاك والمصلحة من دون صلاحية الدخول في العهدة عقلاً في نفسه، ولا يكون ذلك حكماً مولوياً. ولكن السؤال هو كيفية تصوير انخفاظ ذات الأغراض الواقعية باعتبار كونها مزاحمة بالأغراض الترخيصية الأهم أوالمساوية معها بحسب الغرض؛ فيكون من موارد الكسر والإنكسار بين الأغراض الواقعية المتزاحمة.

وبعد ترجيح جانب الغرض الترخيصي لا يكون الغرض الإلزامي حكماً، بل مجرد ملاك ومصلحة غير قابلة للتنجز والدخول في العهدة عقلاً. وعليه، فلم يثبت اشتراك العالم والجاهل في الحكم حقيقة، بل من مجرد الغرض والمصلحة.

ولكن الحق أنّ الغرض الذي شُرِّع الحكم لأجله إنما هو واحد وليس متعدداً بتعدد القسمين من الحكم حتى تصل النوبة إلى التزاحم بين الأغراض في الأحكام الواقعية والأغراض في الحكم الظاهري، وهذا الغرض غير المصلحة والمفسدة كما هو معلوم. نعم، إختلفوا في تحديد الأغراض في الأحكام؛ فقيل: إنه إتمام الحجة على العباد، وقيل غير ذلك. ولكن تحديده بإيصال العباد إلى الكمالات اللائقة بهم هو الأصح والأجدر بالقبول.

ص: 411

وكيف كان؛ فإنّ الغرض بناءً على ما ذكرنا من توجيه أنّ الحكم الواقعي والحكم العلاجي واحد لا تعدد فيه، وإنّ الحكم يتوجه للعالم والجاهل على حدٍ سواء، وإنّ العالم يعرف أنه قد يطرأ عليه النسيان والتردد، والجاهل كذلك يعرف قد يطرأ عليه العلم فيصير عالماً، والحكم واحد والغرض كذلك، وإنّ كل الأحكام نشأت عن مبادئ واقعية. ومن جميع ذلك يظهر الإشكال في جملة مِمّا ذكروه في المقام فراجع.

الأمر الثالث: ذكروا إنّ تلك الوجوه في الجواب عن شبهة التضاد والتماثل واضحة بناءً على الطريقية في حقيقة الأحكام الظاهرية بحيث يفترض خلوها عن مبادئ واقعية غير الأغراض الواقعية، وأما بناءً على السببية والموضوعية التي يفترض فيها وجود مبادئ لنفس الأحكام الظاهرية فلا مخلص عن شبهة وقوع التضاد بين مبادئها ومبادئ الأحكام الواقعية.

وقد حاول بعضهم تخريج الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية حتى على السببية والموضوعية مِمّا هو المستفاد من بعض ملاكات القول بجواز اجتماع الأمر والنهي، وهو المسلك القائل بكفاية تعدد العنوان لرفع غائلة الإجتماع لكون مصبّ الأحكام هو العناوين في عالم الذهن بما هي حاكية عن الخارج لا المعنونات؛ فإنّ معروض المصلحة والغرض وإن كان هو المعنون إلا أنّ معروض الحكم هو العنوان بالجعل الأولي الذي يكون كأنه الخارج وهو متعدد, وأما اتصاف المعنون الخارجي بالمطلوبية أو المحبوبية والمبغوضية فهو بالعرض والعناية لا بالحقيقة. وعلى هذا يجوز اجتماع الأمر والنهي على موجود واحد خارجي بعنوانين كما إذا تعلق الأمر بالجنس والنهي بالفصل رغم أنّ التركيب بينهما في الخارج اتحادي، وعلى هذا الوجه في اجتماع الأمر والنهيتبنوا توجيه الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري بناءً على السببية والموضوعية.

ص: 412

وقد وجّهوا ذلك بتوجيهين:

التوجيه الأول: ومفاده؛ أنّ المصلحة والملاك في الحكم الظاهري بناءً على السببية ليست قائمة في نفس الفعل بعنوانه الأولي المتعلق للحكم الواقعي ومادته كصلاة الجمعة مثلاً، بل قائمة بعنوان آخر كعنوان اتباع الأمارة وسلوكها فلا يلزم اجتماع الحكمين الضدين في عنوان واحد فيكون التزاحم بين التكليفين الواصلين، لا بينهما بوجوديهما الواقعيين.

التوجيه الثاني: تصوير الحكم الظاهري بمبادئه الحقيقية في نفس العنوان الأولي المتعلق به الحكم الواقعي، ومع ذلك لا يلزم محذور التضاد. وقد فسرّ المحقق العراقي قدس سره (1) ذلك، ولعله يرجع إلى ما ذكرناه.

والصحيح؛ إنه لا حاجة إلى ذلك كله بعدما عرفت من أنه لا وجه للطريقية في الحكم الظاهري أبداً، وأنه موضوع على نحو السببية والموضوعية، ولا تعدد في الملاك ولا مبادئ في هذا الحكم الظاهري سوى الحفظ على الحكم الواقعي وعلاج ما يطرأ عليه، فالمبادئ واحدة وهي مبادئ الحكم الواقعي كما عرفت، فلا وجه لهذا التفصيل مضافاً إلى الثبوت في أصل البناء والمبنى. وقد تقدم الكلام في ما ذكروه في توجيه اجتماع الأمر والنهي من تعدد العنوان فراجع.

الأمر الرابع: ذكر السيد الصدر قدس سره (2) أنّ هناك إشكالاً آخر على الأحكام الظاهرية؛ وهو إنه بناءً على معقولية انحفاظ نفس الأحكام الواقعية في موارد الجهل مع قطع النظر عن جعل الحكم الظاهري المضاد أو المماثل فيها ينشأ الإشكال في نفس الحكم الواقعي لا في كيفية الجمع بينه وبين الظاهري.

ص: 413


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص126-127.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص212.

ثم قرّبه بأحدى صيغتين:

الأولى: إنّ انحفاظ الحكم الواقعي واشتراك العالم والجاهل فيه غير معقول بالمحركية والباعثية فانها لو كانت معقولة في موارد إحتمال الحكم الواقعي حيث يحسن الاحتياط فهي غير معقولة في موارد القطع بعدمه فثبوته واقعاً لا يكون قابلاً للمحركية حتى الاحتمالية الناقصة.

الثانية: من جهة كونه بغير المقدور كما إذا فرض القطع وجداناً أو تعبداً بحرمة صلاة الجمعة مثلاً فإنه لا يعقل ثبوته في الواقع لا من جهة محذور اللغوية وعدم المحركية، بل لكونه تكليفاً بغير مقدور لأنّ هذا الخطاب إن كان أمراً بإتيانالجمعة مع التحفظ على الوظيفة المنجزة على العبد كان من الأمر بالنقيضين وهو مستحيل لأنه يعتقد حرمتها بحسب الفرض.

ثم إنه قدس سره أجاب عن ذلك الإشكال بصيغتيه بتصوير وجوهاً في تفسيرهما، وكلّها مبنية على قواعدهم في تفسير الأحكام مطلقاً وتوجيه الحكم الواقعي والحكم الظاهري وكيفية الجمع بينهما ونسبة أحدهما إلى الآخر، فنشأ الإشكال ويتوهم الجواب.

ولكن الحق ما ذكرناه من أنّ الحكم الظاهري ليس حكماً مقابلاً للحكم الواقعي، بل هو تتمة للأخير وكونه مشروعاً لأجل الحفظ على الحكم الواقعي في موارد الحالات الطارئة. ولذا اخترنا كونه على السببية والموضوعية لا الطريقية المحضة، فإنه بناءً على ذلك يعقل تصوير كلا الحكمين ولا يستلزم منه المضادة أو المماثلة؛ فلو فرض القطع وجداناً أو تعبداً بحرمة صلاة الجمعة فلا ينثلم الحكم الواقعي ويبقى على حاله على المحركية والباعثية في الحكم العلاجي والحفظي وهو الجزء الآخر لكونه منجزاً في هذا الجزء، ويكفي ذلك في الباعثية ولا يكون من الأمر بالنقيضين فافهم. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

هذا كله ما يتعلق بأصل الإشكال في الجمع بين الحكم الظاهري ودفع المضادة أو المماثلة بينهما.

ص: 414

الإشكال الثالث(1): وهو إشكال لزوم الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة الملزمة، وهما قبيحان عقلاً.

وقد تصدى المحققون للجواب عنه أيضاً، وأهم ما ذكروه جوابان:

الجواب الأول(2): ما يستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري قدس سره وهو البناء على السببية في الأحكام مطلقاً، بدعوى أنّ التفويت المذكور أو الإلقاء في المفسدة متدارك، ومعه لا تفويت فينتفي موضوع القبح.

وهو وإن خلص من الإشكال على هذا الوجه، ولكنه اعترف بعدم الخلاص منه بناءً على الطريقية في جعل الأحكام الظاهرية.

الثاني: الإلتزام بالتصويب كما هو على الطريقية إلا أنَّه لا قبح في التصويب إذا كانت مصلحة تقتضي التعبد بذلك الحكم الظاهري بأن تكون هناك مصلحة في نفس الجعل.

والفرق بين الوجهين؛ أنّ الأول يرفع موضوع القبح العقلي وهو التصويب، وذلك بجعل المصلحة التي يتدارك بها مصلحة الواقع.وأما الثاني؛ فيعترف بأصل التصويب ولكنه لا قبح فيه إذا كانت المصلحة في نفس الجعل.

ولذا أشكل على الأول بأنه غير تام بناءً على الطريقية وأنه يستلزم التصويب وانقلاب الوظيفة الواقعية من الفعل الواقعي إلى ما تعلق به الحكم الظاهري من فعل المكلف، ولكن ذلك لا يرد على الثاني إذ أنّ فعل المكلف خالٍ من المصلحة في موارد خطأ الحكم الظاهري فلا انقلاب في متعلق الحكم الواقعي ومصلحته.

ص: 415


1- . من وجوه الإشكال على التعبد بغير العلم.
2- . فرائد الأصول ج1 ص71.

والحق؛ أنّ الإشكال لم يرد بناءً على ما اخترناه في حقيقة الحكم الظاهري؛ فإنّ المصلحة باقية في الحكم الواقعي الذي يشمل كلا الحكمين، فلا تصويب لها ولا انقلاب، فإنّ المصلحة في الحكم الواقعي تكون مع الحكم الحفظي له لا مجرداً عنه، ولا تصويب حتى بناءً على القول بالسببية والموضوعية في الأحكام مطلقاً، بل التصويب من مجرد الفرض، فبعد تطور علم الأصول وثبوت نظريات جديدة فيها تبيّنت حقيقة التشريع وجعل الأحكام واستقرار رأيهم على السببية بمعنى مقبول حتى عند أهل الخلاف من الأشعرية والمعتزلة، وحاصل ما ذكروه في المقام أنهم قسموا السببية إلى أشعرية ومعتزلية وإمامية.

أقسام السببية

السببية الأشعرية: وقيل بأنّ المراد منها أن يكون قيام الأمارة على الحكم موجباً لثبوت الحكم نفياً وإثباتاً. وهذا يكون له أحد نحوين:

النحو الأول: عدم وجود حكم واقعي، بل إنّ كل ما أدّت إليه الأمارة فهو حكم الله تعالى.

ولا ريب في بطلانه، وأغلب الظن أنّ قدماء المخالفين الذين يُنسب إليهم هذا القول قد رجعوا عنه لعدم معقوليته؛ فإنّ فرض الأمارية والكاشفية عن الحكم معناه وجود حكم واقعي لأنّ تمام الجعل بحسب الفرض ليس إلا أن كل ما أدت إليه الأمارة فهو حكم الله وهذا ينسب إلى وجوب الجمعة والظهر مثلاً على حدّ سواء فلا يعقل أن تكون الأمارة أمارة على أحدهما دون الآخر، فلا بُدَّ أن يكون حكم سابق حتى تكون الأمارة أمارة على حكم من الأحكام.

وأما إذا كان تمام ما هو ثابت واقعاً هو هذا الجعل فيستحيل أمارية أمارة حينئذٍ، فهذا النحو من السببية والتصويب يتهافت مع أصل فرض الأمارية.

ولكن يمكن القول بأنه لا حاجة إلى ذلك؛ فإنّ الأمارة على هذا القول إنما تثبت حكماً لم يكن سابقاً وتكون أمارة على هذا الحكم المجعول فلا حكم في لوح الواقع.

ص: 416

النحو الثاني: أن تكون هناك أحكام واقعية لها متعلقات معينة ثابتةً واقعاً ولكن يكون قيام الأمارة قيداً في ثبوتها. وإنما يفترق عن الأول في أنّ الأول لو لم تؤدّ الأمارة إلى الحكم الواقعي المفيد للعلم به فلا حكم حينئذٍ، أما الواقعي المجعول فلعدم حصول قيده، وأما ما أدّته الأمارة فلعدم جعله.وأما الوجه الثاني؛ فلا استحالة فيه بعد فرض معقولية أخذ العلم بالحكم بمعنى الجعل في موضوع شخصه.

وهذه السببية في كلا وجهيه باطل للزوم خلو الواقعة من الحكم الواقعي رأساً.

السببية المعتزلية: والمراد بها ثبوت الأحكام الواقعية على موضوعاتها وملاكاتها إلا أنها مقيدة بعدم وصول خلافها فينقلب الحكم الواقعي إلى ما أدت إليه الأمارة.

والفرق بين هذه السببية والأشعرية أنها واضحة على النحو الأول، وأما على النحو الثاني فيظهر فيما لو فرض إمكان أخذ عدم العلم بالخلاف في موضوع شخص ذلك الحكم.

وكيف كان؛ فهذه السببية باطلة أيضاً للزومها خلو الواقعة عن الحكم كما تقدم، وإن كان الخلو على هذه السببية أضيق منه على السببية الأشعرية، ولكن كلتاهما باطلة.

السببية الإمامية: وقد اختلف الأصوليون في بيانها على أقوال:

القول الأول: إنّ المراد بالسببية وجود مصلحة في سلوك الأمارة والجري على طبقها، وهو عنوان ثانوي ينطبق على فعل المكلف وينتزع عنه، ومن أجله تتقدر هذه المصلحة بقدر هذا العنوان، أي يتدارك بها المقدار الباقي من مصلحة الواقع بعد انكشاف الخلاف كالإعادة في الوقت والقضاء في خارجه لأنّ الفائت بالسلوك هو مصلحة الفضيلة مثلاً أو مصلحة أول الوقت، وأما الزائد فيبقى على حاله فيجب تحصيله، وهذه هي نظرية المصلحة السلوكية المستفادة من تضاعيف كلماتهم.

ص: 417

وقد ذكر الشيخ الأعظم قدس سره (1) أنّ هذا الوجه يجمع بين ميزتين؛ حلّ إشكال قبح التفويت حيث يضمن للمكلف تدارك الفائت منه، وعدم لزوم التصويب وما يترتب عليه من المفاسد.

وقد اعترض عليه جملة من الأصوليين، نذكر البعض منها:

1- ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (2) بأنّ التصويب الباطل كما يفرق فيه بين أنحاءه فإنّ عدم انحفاظ الواقع هو تصويب على كل حال.

فالتصويب حاصل فيما إذا انقلب الواقع من الوجوب التعييني بالجمعة مثلاً إلى الوجوب التعييني بالظهر، أو انقلابه من التعييني إلى التخييري؛ فإنّ عدم انخفاظ الواقع بحدّه تصويب على كل حال.وفي المقام مع استمرار الحجة إلى آخر الوقت يكون الحكم الواقعي الأدائي متعلقاً بالجامع بين الجمعة أو الظهر حيث سلوك الأمارة عدلاً للواجب الواقعي.

2- إنّ التصويب يشتد فيما إذا فرضنا قيام أمارة على إباحة ما هو حرام واقعاً, كالعصير العنبي المغلي؛ فإنّ فوات المفسدة الواقعية وتداركها بمصلحة سلوك الأمارة يوجب زوال الحرمة واقعاً وانقلابها إلى الإباحة، وهذا من أشد مراتب التصويب ولا يفرق في هذا الإيراد بوجهيه بين افتراض كون المصلحة السلوكية إستيفائية أو تداركية، أي أنها من سنخ مصلحة الواقع أو غيرها ولكن يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة، وانما لم يؤمر بها مع الواقع لعدم إمكان الجمع بينهما.

ص: 418


1- . المصدر السابق.
2- . دراسات في علم الأصول؛ ج3 ص111-112.

ولكن على كلا التقديرين يقال إنه بعد الكسر والإنكسار تكون المصلحة المطلوبة للمولى القابلة للتحصيل هو الجامع بين الأمرين.

وقد يستفاد من كلمات القائلين بهذه النظرية الجواب عن الإيراد المذكور بافتراض الطولية بين المصلحة والحكم الواقعي، والمراد به كون استيفاء المصلحة السلوكية مشروطاً ببقاء الواقع وانخفاظه بحدّه، فيكون انخفاظ الوجوب التعييني لصلاة الجمعة مثلاً شرطاً في تحقيق المصلحة المطلوبة للمولى في الجامع بين الفعلين بنحو شرط التحقق والترتب، لا الإتصاف.

وعليه؛ فلو فرض أنّ المولى رفع يده عن حكمه الواقعي بحدّه، والأمارة لم تكن في معرض الإصابة والخطأ فلا مصلحة في سلوكها أيضاً، وترتب المصلحة على السلوك بمقدار الواقع إستيفاءً أو تداركاً لا يؤدي إلى صيرورته عدلاً للواجب الواقعي لأنّ عدلية مثل هذا العدل في طول انحفاظ ذلك الواقع فيستحيل أن يكون رافعاً له إذ يلزم من وجوده عدمه. ومن هنا يأتي ما أفاده الشيخ قدس سره ؛ فإنّ هذا من وجوه الردّ على المصوبة، ولكن أصحاب هذه المدرسة اكتفتوا في مقام الردّ بنفي التصويب بلحاظ الجعل، وأما إذا كان التصويب المتفق على بطلانه شاملاً للتصويب بلحاظ مبادئ الحكم فهذا لازم لا محالة .

القول الثاني: إنّ المراد بالسببية هو وجود مصلحة في المؤدى وهو العنوان الأولي، لا السلوك الذي هو عنوان ثانوي ينطبق على فعل المكلف وينتزع عنه؛ وذلك باشتمال المؤدى على مصلحة الواقع أو ما يتدارك به حتى مع خطأ الأمارة.

وأورد عليه بأنه لو افترضنا الطولية بين هذه المصلحة وانحفاظ الحكم الواقعي فلا تصويب على كل حال بلحاظ الجعل، وإلا فالتصويب لازم. فلا يكون هناك فرق بين المدرستين أي؛ المصلحة السلوكية والمصلحة في المؤدى.

ص: 419

القول الثالث: إنّ المراد بها هو حدوث المصلحة في مورد الأمارة في طول الواقع مصلحة تفضلية تداركية للواقع مع اتفاق فوته. وادّعي أنه حسن وواقع عند العرف والعقلاء وتقتضيه سماحة الشرع الأقدس ورأفته بأمته.

وحينئذٍ؛ فإن وافقت الأمارة الواقعَ فلا إشكال، وإن خالفت وكان الواقع واجباً مثلاً وكان مؤدى الأمارة خلافه فإنّ مصلحة الواقع وإن فاتت عن المكلف لكن الشارع تداركها تفضلاً منه، وبهذا يكون المكلف قد ظفر بالمصلحة التفضلية

هذا ولكن أصحاب هذا القول يذهبون إلى أنّ غاية الإلتزام به من حدوث المصلحة إنما هو في ما لم ينكشف الخلاف، وأما معه فمقتضى الإرتكازات عدمه.

القول الرابع: إنّ المراد بالسببية هو إسقاط الشارع للواقع خطاباً وملاكاً لمصالح شتى كما في موارد التقية على ما احتمله جمع، وموارد الضرر والإضطرار التي يعبّر عنها بالواقعية الثانوية حيث لا يجزي الإتيان بالواقع في هذه الموارد فتكون موارد الإضطرار والإختيار -كالسفر والحضر بالنسبة إلى صوم شهر رمضان- من تبدل الموضوع الموجب لتبدل الحكم.

ولكن لا يخفى أنه بناءً على الموضوعية والسببية ووجود المصلحة في موارد الأمارة فإنه يستلزم التخيير بين موارد الأمارات والواقع ولا ريب في بطلانه.

وقد يجاب عنه بأنّ التخيير إنما هو في ما إذا كانت المصلحة في كل واحد من الطرفين أو الأطراف واقعية دائمية، وأما إذا لم تكن كذلك كما في المقام فلا تخيير، مع أن التخيير إنما يتصور فيما إذا كان الواقع والمصلحة في الأمارة عرضياً, وأما إذا كان طولياً فلا تخيير.

وقد أُشكل على ذلك بإشكالات عديدة أيضاً.

ص: 420

والصحيح أنْ يقال بأنّ تصويب الأشعري والمعتزلي بالمعنى الذي تقدم بيانه فاسد لا يمكن الإلتزام به لكونه مخالفاً للعقل والنقل والإجماع كما هو مفصل في كتب الأصوليين، وأما التصويب الإمامي فلا ملزم له مع أنه لم يسلم من الإشكالات العديدة، والذي ألجأهم إلى القول بالسببية هو التزامهم بإثبات حكم ظاهري مقابل الحكم الواقعي واختلافهم في حقيقته وملاحظة النسبة بينهما فصار الحكم الظاهري أهم مشكلة أصولية طرحت على بحوث وآراء عديدة وقعت مورد النقض والإبرام. والذي أوقعهم في ذلك هو الفكر الأصولي المتشبع بالفكر الفلسفي، ولو تُجُرِّد عنه لأمكن حلّ تلك المعضلة فلا بُدَّ من الرجوع إلى طبيعة جعل القانون عند المشرعين حيث نستفيد أنّ الواضع بعدما يلاحظ كل ما يرجع إلى تشريع الحكم والقانون من المبادئ والمصالح والأغراض والطوارئ والعوائق التي ربما تقع في طريق التشريع؛ فإنه بعد ملاحظتها جميعاً ودراستها يشرّع القانون، فهو يلاحظ الحكم وما يطرأ عليه، والعلاج الذي به ترفع العوائقوالطوارئ لئلا يكون المكلف متحيراً عند وقوعها فلا يصل إلى الغرض التشريعي وتفوت على المكلف المصالح الواقعية، فهو يشرع الحكم وما يحفظ به فإذا سمّى الأول بالحكم الواقعي، والثاني بالحكم الظاهري كما فعله الأصوليون فليس المراد منه أنّ هناك تشريعان وحكمان منفصلان حتى يلاحظ كيفية النسبة بينهما؛ فإنّ كلا الحكمين يرجعان إلى حكم واحد؛ أحدهما يكون الأصل والثاني مهمته حفظ الأصل وكونه علاجاً لما يطرأ عليه من الطوارئ، غايته أنهما موضوعان بجعل واحد وقد لاحظهما الجاعل بلحاظ واحد، فكلاهما حكم واقعي. وتسميته بالظاهري بحسب الإصطلاح الأصولي، ولعل الغرض منه التمييز بينه وبين الحكم الواقعي الاصلي، ولا مشاحة في الإصطلاح، من دون أن يكون سبباً في التفريق بينهما وإيقاع النسبة بينهما.

ص: 421

ويتحصل من ذلك أنّ الحكم الإنحفاظي العلاجي المسمى بالحكم الظاهري عند الأصوليين يكون من أجزاء تشريع أصل الحكم، فيكون واقعياً، والمصلحة واحدة منهما والغرض متحد، والمبادئ اتحادية فتكون منزلته بعد منزلة الحكم الواقعي الأصلي لأنّ العمل به يكون عند عروض الطوارئ على الحكم الأصلي فهو مرتبط به ارتباطاً تشريعياً جعلياً ومنظوراً له بنظرة واحدة، ويعمل به بعد عدم إمكان العمل بالواقع. ولكن كل منهما فعلي وله منجزیة للحكم الظاهري حين عروض الطارئ من دون سقوط الحكم الواقعي عند التنجيز. فإذا كان المراد من التصويب والسببية هذا المعنى فلا إشكال، وإلا فهو مردود.

هذا بالنسبة إلى أصل تصوير الحكم الظاهري، وأما بالنسبة إلى نسبته إلى الحكم الواقعي؛ فإن كانا متوافقين فلا إشكال، وأما إذا كانا متخالفين فلا مشكلة في وجود المصلحة في كلا الحكمين فلم يكن آنذاك تفويت لها أو إلقاء في المفسدة كما عرفت، وأما المصلحة فلا حاجة لأن نلتمس من مصلحة جديدة غير المصلحة في أصل تشريع الحكم بكلا جزئيه، ولو فرضنا المصلحة الخاصة للحكم الظاهري فتكفي مصلحة الإنقياد للمولى حفظاً لتشريعاته المقدسة وما يترتب على ذلك من التفضل والإنعام.

ومن ذلك كله يظهر الجواب عن شبهة التضاد أو المماثلة، ومما ذكرناه ينتفي أصل إشكال تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة وتفويت الغرض، ولا حاجة إلى الأجوبة التي ذكروها في دفع الإشكال.

الإشكال الرابع: إنّ تشريع الأحكام الظاهرية يستلزم منه نقض الغرض لأنّ الغرض من جعل التكاليف الواقعية كونها داعياً للإمتثال وباعثاً لإتيانها، والتعبد بغير العلم ليس بدائم الإصابة فإنه قابل للخطأ والإصابة، وحينئذٍ يتحقق نقض الغرض.

ص: 422

وأجيب عنه:أولاً: بالنقض؛ لأنّ العلم أيضاً ليس بدائم الإصابة فكل ما يقال في العلم يقال في غيره أيضاً.

ثانياً: إنّ المناط في داعوية الإمتثال هو الداعوية على نحو الإقتضاء والشأنية لا الإصابة الفعلية من كل جهة كما هو الشأن في داعوية العلم فضلاً عن غيره من سائر الطرق غير العلمية، وإلا وجب على الشارع إيجاب الإحتياط مطلقاً وهو خلاف سهولة الشرعية وطريقة العقلاء المنزلة عليها الطريقة الشرعية.

ثالثاً: إننا ذكرنا أنّ الداعوية والمحركية لا تنحصر بتشريع الأحكام بل هو جزء المقتضي, فإنّ مقتضى العبودية هو التحرك نحو المولى والتقرب إليه بامتثال الأحكام التي شرعها كما تقدم بيانه، ولعل المراد من الشأنية والإقتضاء هذا المعنى. وتقدم أيضاً الجواب عن أصل الإشكال فراجع.

ختام في حقيقة الحكم

قد عرفت من تضاعيف كلماتنا حقيقة الحكم الظاهري وأنه حكم حفظي علاجي، ولكن القوم إختلفوا في ذلك على أقوال وعمدتها:

القول الأول: إنّ المجعول في الواقعيات نفس الأحكام الواقعية، وفي الأمارات الحجية فتتعدد موارد الجعلين.

وأشكل عليه بأنّ المحتملات في بيان ذلك هي:

أولاً: أن يكون المراد هو جعل الحجية نفسها من حيث هي، وهذا لغو لكفاية اعتبارها لدى العقلاء فلا حاجة إلى جعل من الشارع إلا أن يراد من الجعل الأعم من التأسيسي وعدم الردع.

ص: 423

ثانياً: أن يكون المراد به جعل العقاب, وهذا مستلزم للدور لأنّ تحقق العقاب متوقف على الحجية, ولو توقفت عليه لدار, إلا أن يراد أنّ جعل العقاب على المخالفة عين جعل الحجية لا أن يكونا متغايرين وهو دعوى بلا دليل.

ثالثاً: أن يكون المراد جعل المؤدى، ولكنه في مقابل جعل الحجية لا عينَها، ولا يقول به أحد.

القول الثاني: إنّ الواقعيات إنشائيات محضة، ومفاد الأمارات فعليات صرفة.

وفيه: إنّ الانشاء المحض لا بُدَّ أن يكون له داعٍ بالنسبة إلى الشارع، وإلا كان قبيحاً، وإن كان بداعٍ آخر غير الفعلية فلا يصير فعلياً وإن وافقه مفاد الأمارات، وإن كان بداعي الفعلية فهو عين الفعلية فلا يتصور معنى معقول للإنشائية فلا يكون الحكم إلا فعلياً من طرف الشارع إلا أن يكون المراد بالإنشائية الفعلية من طرف الشارع، وبالفعلية الفعليةَ من طرف المكلف، ولكن ذلك مخالف لظاهر كلمات الأصوليين.

القول الثالث: تنزيل المؤدى -وهو الحكم الظاهري- منزلة الواقع وتنزيل العلم بالواقع التنزيلي منزلة العلم بالواقع الحقيقي.القول الرابع: إنّ المجعول في موارد الأمارات عنوان الحكم المجعول بداعي الطريقية المحضة إلى الواقع، لا أن يكون حكماً حقيقياً في عرض الواقع حتى يكون له موافقة ومخالفة مستقلة في مقابل الواقع. وهو يقرب مِمّا اخترناه، ولكن هذا من مجرد الإحتمال؛ إذ لم يقم دليل عليه إثباتاً وقد عرفت مِمّا سبق أنه لا حاجة إلى تلك الأقوال بعد إمكان تصوير الحكم الظاهري بوجه حسن.

أما الأصول العملية فالأمر يختلف فيها عن الحكم الظاهري بناءً على تصوراتهم؛ لأنّ الإستصحاب لا استقلال فيه بوجه، بل هو متمم لدلالة الدليل وإسراء حكم اليقين إلى

ص: 424

ظرف الشك، فمع الموافقة يكون المتيقن السابق منجزاً ومع المخالفة وعدم انكشاف الخلاف يكون عذراً، ومع انكشافه لا وجه للإجزاء أصلاً إلا أن يدل دليل تعبدي عليه.

وأما الإحتياط عقلياً كان أم شرعياً فليس هو إلا من آثار منجزية نفس الواقع، ولا جعل فيه غير الواقع المجعول، ولو ثبت وجوب شرعي للإحتياط فهو وجوب طريقي إلى الواقع لا أن يكون وجوباً مستقلاً في غرضه.

وأما البراءة عقلية كانت أم شرعية فليست هي إلا سقوط العقاب عن الواقع المجهول، ويستلزم ذلك الترخيص والإباحة الظاهرية، وهو غير جعل الحكم في عرض الواقع المجهول. وكذلك التخيير؛ فإنّ مفاده المعذورية في ما لو كان المختار غير الواقع، فلا إثنينية مع الواقع المجعول في التخيير. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: أصالة عدم الإعتبار وعدم صحة الإعتذار

اشارة

لا إشكال في أنّ مقتضى الأصل عدم الحجية وعدم صحة الإعتذار فيما إذا شك في الحجية والإعتذار، ولا بُدَّ أن يكون مورد هذا الأصل هو مقام الإنتساب إلى الشرع لأنه في مرحلة الإقتضاء لما عرفت سابقاً من تحققه في غير العلم، ولا معنى لجريان الأصل في ما فيه الإقتضاء.

وكيف كان؛ فإنّ الكلام في وجه ذلك وإقامة البرهان عليه، وقد أقاموا على ذلك جملة من الأدلة وهي:

الدليل الأول: ما دلّ على حرمة الإسناد إلى الدين والإفتاء بغير علم؛

فمن الكتاب قوله تعالى: (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)(1).

ص: 425


1- . سورة يونس؛ الآية 59.

ومن السنة مرفوعة محمد بن خالد عن أبي عبد الله علیه السلام : (الْقُضَاةُ أَرْبَعَةٌ؛ ثَلَاثَةٌ فِي النَّارِ ووَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ؛ رَجُلٌ قَضَى بِجَوْرٍ وهُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ, ورَجُلٌقَضَى بِجَوْرٍ وهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ, ورَجُلٌ قَضَى بِالْحَقِّ وهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ, ورَجُلٌ قَضَى بِالْحَقِّ وهُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ)(1).

وأما الإجماع فقد ادعاه الوحيد البهبهاني قدس سره (2) وذكر بأنّ حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات بين العوام فضلاً عن الخواص.

وأما العقل فقد استدل له بما ارتكز في أذهان العقلاء من أنّ الإحتجاج شيئ، واعتباره وصحة الإعتذار به وانتسابه إلى شخص لا بُدَّ أن يكون له حجية معتبرة إذ أنّ الشك في الحجية والإعتذار يكفي في عدمهما، كما أنّ الشك في صحة الإنتساب يكفي في عدمهما لدى العقلاء فتكون أصالة عدم الحجية وأصالة عدم الإنتساب والإعتذار من الأصول العقلائية مطلقاً. ويكفي في هذا الأصل عدم الردع فكيف بما ورد في التقرير.

وأشكل على هذا الدليل بوجوه:

الإشكال الأول: إنّ مفاد الآية الشريفة هو إسناد الإفتراء إلى الله تعالى وهو الكذب العظيم أو العجيب، وأما مجرد ما لم يعلم أنه صدق أو كذب فلا يكون افتراءً.

الإشكال الثاني: وهو على الحديث؛ بأنه مضافاً إلى قصور سنده لا دلالة له على المطلوب؛ فإنّ التأمل في سياق الأخبار الواردة في القضاء يستفاد منها أنّ الأئمة علیهم السلام في مقام التفصيل بين قضاة الجور وقضاة العدل، فإن ظاهر قوله علیه السلام : (ورَجُلٌ قَضَى بِالْحَقِّ وهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ) أي؛ لا يعتقد الحق، وأنّ قوله علیه السلام : (وهُوَ يَعْلَمُ), أي يعتقد بالحق؛ فلا ربط لها بالمقام.

ص: 426


1- . وسائل الشيعة(ط. آل البيت)؛ ج27 ص22.
2- . حاشية مجمع الفائدة والبرهان؛ ص458-459.

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّ قصور السند منجبر بعمل الأصحاب كما عليه أساطين الفقهاء وهو المشهور بينهم.

ويمكن أن يكون انطباقه على قضاة الجور من باب أحد المصاديق لا الخصوصية, فلا قصور فيه دلالة وسنداً.

الإشكال الثالث: إنّ الإجماع -على فرض تحققه- لم يكن تعبدياً، بل هو حاصل من مرتكزاتهم العقلائية الدائرة فيما بينهم.

وأما الدليل العقلي فسيأتي الكلام فيه.

والحق؛ أنّ الكلام حول هذا الدليل يقتضي البحث في أمور ثلاثة:

الأمر الأول: إثبات الملازمة بين حرمة الإسناد وعدم الحجية؛ فإنه لو كان حجة لجاز الإسناد أيضاً. والمستفاد من هذا الدليل الحرمة الذاتية النفسية أي إسناد ما لم يعلم إلى الله تعالى، ولا يكون ناظراً إلى العمل والاتباع حتى يكون إرشاداً إلى عدم الحجية. ومن هنا قيل بعدم ثبوت الملازمة وعدم دلالة هذا الصنف من الأدلة عليها؛ لأنّ مجرد حرمة الإسناد في مورد الأمارات المشكوكة لا تكفي لإثباتعدم الحجية ما لم تكن عناية زائدة، ولو كانت عرفية لدلت الآية الكريمة على أنّ حرمة الإسناد إنما تكون بلحاظ عدم الحجية كما في موارد قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي فيكون جواز الإسناد من شؤون الحجية فيكونا متلازمين.

الأمر الثاني: إن جواز الإسناد؛ إما أن يكون من لوازم الحجية بوجودها الواقعي، أو يكون بوجودها العلمي.

وقيل إنه على الأول يتم الإستدلال وإلا فلا يتم لأننا نعلم بحرمة الإسناد على كل حال سواءً قلنا بأنّ المشكوكة حجة أم لا.

ص: 427

والظاهر من الدليل المزبور حرمة الإسناد مطلقاً فيشمل حتى ما إذا كان معذوراً بمقتضى علمه، وأنّ هذه الحرمة الثابتة بمقتضى الإطلاق يقتضي عدم حجية الأمارة المشكوكة واقعاً.

الأمر الثالث: استشكل المحقق النائيني قدس سره (1) في دلالة هذا الدليل وغيره مِمّا سيأتي أنّ التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وسيأتي الجواب عنه في الوجه الآتي.

فالصحيح؛ هو دلالة الآية الكريمة على أنّ إسناد شئ إلى الشارع لا بُدَّ أن يكون مع التصديق بالصدور، ومع عدمه يكون افتراءً على الله تعالى فتتم الدلالة على حرمة العمل بغير علم.

الدليل الثاني: التمسك بما دلّ على النهي عن اتباع الظن وغير العلم, وقد خصص عمومه بموارد متعددة كخبر الواحد والبينة ونحو ذلك على التفضيل الآتي, ومع الشك في الحجية يكون الشك في تخصيص زائد لعمومه، وعليه؛ يصح التمسك بعمومه لنفي الحجية المشكوكة.

وأشكل عليه المحقق النائيني قدس سره بأنّ الشك في الحجية يوجب تعذر التمسك بالإطلاق في هذه الأدلة لكونه من الشبهة المصداقية لها إذ الحجية المشكوكة على فرض ثبوتها تكون بلسان جعل الطريقية والعلمية, فتكون رافعة لموضوع عدم العلم بملاك الورود الذي اعتبره المحقق المزبور من الحكومة.

ودفع هذا الإشكال بوجوه:

أولاً: إنّ الحجية بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عقلاً من المنجزية والمعذرية. ومن هنا قيل بأنّ الشك فيها يساوق عدمها, ومع ذلك كيف يمكن أن تكون رافعة لموضوع

ص: 428


1- . ذكره في دراسات في الأصول؛ ج 3 ص130.

أدلة عدم العمل بالظن، فإنّ هذا يعني أنّ حكومتها موقوفة على فرض وصولها، فمع عدمه يصح التمسك بالعمومات.ثانياً: بالنقض بأدلة الأصول العملية التي قد أخذ في موضوعها عدم العلم؛ فإنه بناءً على هذا لا يصحّ التمسك بها عند الشك في حجية شئ لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بنفس البيان.

ثالثاً: إنه بناءً على هذا المنهج تكون الأدلة المذكورة لغواً، ومع القطع بعدم الحجية لا حاجة إليها، ومع الشك فيها لا فائدة لها لعدم إمكان التمسك بها.

والحق؛ أنّ جميع هذه الوجوه قابلة للخدشة وتظهر لمن أمعن النظر فيها ولا حاجة لتطويل الكلام في ذكرها.

كما اعترض السيد الصدر قدس سره (1) على المحقق النائيني قدس سره بوجهين:

الوجه الأول: إنّ الحكومة التي يدّعيها المحقق المزبور انما ترفع الموضوع تعبداً لا حقيقة.

وحقيقة الحكومة هي التخصيص ولكن بلسان رفع الموضوع, ومع الشك في الحكم يكون المرجع هو إطلاق المحكوم لانه من الشك في التخصيص بحسب روحه. نعم، إذا قلنا بالورود في وجه تقديم الأمارات على بيان تبرع به سمّاه بالحكومة الميرزائية التي ترجع إلى الورود فإنّ هذا البيان غير تام، ولكن أصل ذلك الوجه لم يكن صحيحاً.

وفيه: إنّ الحكومة غير التخصيص، وقد جعل الأصوليون لها آثاراً لم تكن ثابتة على التخصيص، فليكن المقام منها كما ذكر المحقق النائيني قدس سره . وأما تفسير الحكومة بما لا يرضاه قدس سره فهذا أمرٌ آخر لا يحتاج إلى دليل. وسيأتي مزيد بيان في محله إن شاء الله تعالى.

ص: 429


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص226-227.

الوجه الثاني: إنّ النواهي المذكورة ليست تكليفية، بل هي إرشاد إلى عدم حجية الظن فتكون في عرض دليل الحجية فتنفي الحجية والعلمية والطريقية عن الظن بحيث لو ثبتت الحجية في مورد كان دليلها مخصصاً لإطلاق النفي المذكور، فإنّ المستفاد من الأدلة المذكورة هو الإخبار عن عدم اعتبار الظن علماً بذلك المعنى، فلا موجب لحمل الحجية المنفية في هذه الآيات على مطلق الحجية والمنجزية والمعذرية لا خصوص العلمية والطريقية، مع أنّ الموضوع فيها الظن الذي هو موضوع الحجية في أدلتها.

والحق؛ أنّ ما ذكره أخيراً هو الصحيح كما هو ظاهر الآيات الشريفة فيدل على النهي عن اتباع الظن وغير العلم هو الذي يكفي في إثبات عدم حجية مشكوك الحجية فإنه يصدق عليه عرفاً أنه من الظن وغير العلم الذي لم يقم دليل على اعتباره، فلا يغني عن الحق شيئاً. وثبوت حجيته يكون من الحق فيقيد به إطلاقتلك الأدلة الناهية، ولذا تمسكوا بها في الرد على القائلين بحجية القياس والإستحسان ونحوهما.

وأما القول بأنّ هذه الآيات مخصوصة بأصول الدين إما لظهور سياقها في ذلك أو لكونه القدر المتيقن منها؛ فهو مردود بأنّ السياق لا يوجب تخصيص مفاد النهي العام الذي تدل عليه الآية إلا أن يثبت الظهور به وهو غير ثابت، والقدر المتيقن لا يمنع من انعقاد الإطلاق بعد تمامية مقدمات الحكمة.

الدليل الثالث: إنّ مقتضى الأصل عدم الحجية لأنّ الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها.

بيان ذلك: إنّ الحجية تارةً؛ يراد بها الحكم الشرعي الظاهري الذي هو بيد المولى، وأخرى يراد بها الأثر المترتب على الحجية من المنجزية والمعذرية، وهو الموقف العملي للمكلف.

وهذه المقولة تارةً؛ تفرض في مرحلة جعل الحجية كحكم شرعي ظاهري الذي هو بيد المولى، فيكون الشك في جعل الحجية شرعاً مساوقاً مع القطع بعدم الحجية بالمعنى الثاني

ص: 430

أي عدم استتباع التنجيز والتعذیر عقلاً. وأخرى تفرض أكثر من ذلك بحيث يساوق الشك في جعل الحجية القطع بعدمها حتى بلحاظ الحكم الشرعي، والذي يرجع إلى أخذ العلم بالحجية في موضوعه، والثاني وإن وقع الخلاف في إمكانه كما تقدم بيانه في بحث القطع؛ فقيل بأنه لا دليل على تقييد أدلة الحجية بالعلم بها إلا ما يقال بأنّ إطلاق أدلة الحجية ليشمل غير العالم به غير معقول إذ لا أثر له فيكون لغواً فيمتنع على الحكيم تعالى.

فيستفاد منه تقييد الجعل بصورة العلم بها، وهذا بخلاف إطلاق الأحكام الواقعية التي تشمل الجاهل لمعقولية الأثر في هذه الصورة وهو المحركية في موارد الأحكام الواقعية حتى في مورد الجهل بها حيث يمكن الإحتياط الذي يعدّ مرتبة من المحركية، وهذا غير معقول في موارد الشك في الحكم الظاهري لأنه بما هو حكم ظاهري لا امتثال ولا تنجيز فلا يكون بلحاظ إحتياط أيضاً.

وأجيب عن ذلك بوجوه، والحق أنّ جميعها لا تخلو عن مناقشة؛ فإنا ذكرنا أنّ الحكم الظاهري جزء من الحكم الواقعي وأنّ الأثر لم ينحصر في المحركية التي ذكرنا أنها من مقتضى العبودية، بل الأثر المهم هو إيصال العبد إلى الكمال اللائق به، وهو حاصل في الأحكام مطلقاً فلا يأتي ما ذكروه من الوجوه والإحتمالات في مناقشاتهم وكلها تطويل بلا طائل تحته.

وكيف كان؛ فإنّ الصيغة التي يمكن أن تُذكر في توجيه هذا الدليل هي إنّ الشك في الحجية يساوق القطع بعدم الحجية بلحاظ التأثير من المنجزية والمعذرية عقلاً مع أنّ تمام ما كان يجري من أصول وقواعد عقلية أو شرعية على تقدير عدمالحجية تبقى جارية مع الشك فيها أيضاً؛ فالبراءة العقلية مثلاً جارية في حالة الشك في الحجية لأنّ المفروض عدم تحقق البيان.

ص: 431

وهكذا البراءة الشرعية فإنّ إطلاق دليلها يشمل مورد الشك، ومجرد الإحتمال لا يكفي لأنه من الشك في التخصيص الزائد بالنسبة إليه. وكذا بالنسبة إلى الإستصحاب في مورد احتمال الحجة من أمارة على خلافه، كما أنّ الأمر كذلك بالنسبة إلى التمسك بإطلاق دليل الحكم الواقعي فيما إذا شك في حجية ما يدل على تخصيصه؛ فإنه حجة حتى يثبت المخصص ويحرز، ومجرد احتمال حجية المخصص لا يكون إحرازاً له.

الدليل الرابع: التمسك بالأصل في عدم الحجية.

وقد قرّر هذا الأصل بوجوه:

الأول: إستصحاب عدم الجعل الثابت قبل الشرع أو بإجراءه بلحاظ أصل الجعل وتشريعه.

الثاني: إستصحاب عدم فعلية الحجية الثابتة, فيكون بلحاظ المجعول.

الثالث: إستصحاب عدم الحجية بنحو الإستصحاب من الأعدام الأزلية، فإنّ الحجية أمر حادث ويترتب الأثر عليه كذلك ويستصحب عدمها.

الرابع: أصالة إباحة العمل بغير العلم.

الخامس: أصالة التخيير باعتبار كون المقام من صغريات دوران الأمر بين المحذورين لدوران الأثر في غير العلم بين وجوب العمل به وحرمته, والحكم هو التخيير.

السادس: إنه من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير, لاحتمال تعين العمل بخصوص العلم أو التخيير بينه وبين العمل بغيره.

وقد أشكل على جميع ذلك:

أما الأول؛ فقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره (1) في بيانه أنّ المستفاد من هذا الإستصحاب حرمة الإسناد، ولكن حرمة الإسناد لا تكون مترتبة على عدم الحجية واقعاً بل على الشك

ص: 432


1- . كفاية الأصول؛ ص280.

في الواقع, وعدم الحجة وجداني بقطع النظر عن الإستصحاب فلا أثر يكون مشكوكاً حتى يجري الإستصحاب بلحاظه.

وأورد عليه المحقق المزبور بأنّ جريان الإستصحاب وإن كان مشروطاً بوجود الأثر الشرعي في مورده ولكنه يشترط في الإستصحاب الجاري في الموضوع، لا الإستصحاب الجاري في الحكم الشرعي نفياً وإثباتاً؛ فإنه بنفسه أثر مجعول أمره بيد الشارع رفعاً ووضعاً فيعقل التعبدية.وأشكل عليه المحقق النائيني قدس سره (1) تارةً؛ بأنه لا إشكال في أنّ الأصل العملي لا بُدَّ في جريانه من الأثر العملي، ولا يكفي لتصحيحه مجرد كون مؤداه -أي: المستصحب- مجعولاً شرعياً من دون أن يترتب عليه تنجيزاً أو تعذيراً.

وأخرى؛ بأنّ حرمة الإسناد كما يترتب على نفس الشك كذلك يترتب على عدم الحجية واقعاً، وبالإستصحاب يحرز الأثر بلحاظ الفرد الآخر من الموضوع.

وثالثةً؛ بأنّ موضوع الحرمة هو الجامع بين الشك وبين عدم الحجية واقعاً وهو موجود في ضمن أحد فرديه, وهو الشك بقطع النظر عن الإستصحاب. فإثبات فرده الآخر بالاستصحاب لإثبات أثره تحصيل للحاصل لأنه تحصيل تعبدي لما هو حاصل وجداناً.

والحق أن يقال: إنّ ما هو المعتبر في الأصول العملية من الأثر هو إمكانه، لا فعليته من كل حيثية وجهة.

ومن أجل ذلك يجري استصحاب إشتغال الذمة في موارد جريان قاعدة الإشتغال أيضاً، فما ذكره المحققان (قدس سراهما) تام في كفاية الأثر, فيمكن التمسك باستصحاب عدم الجعل لإثبات عدم الحجية، أو استصحاب عدم فعلية الحجية الثابتة واستصحاب عدم ترتب الأثر على الحجة المشكوكة.

ص: 433


1- . فوائد الأصول؛ ج3 ص 128-129، وأجود التقريرات؛ ج2 ص87.

وبذلك يمكن الجواب عما ذكره السيد الصدر قدس سره أيضاً في بيان الأصل الجاري في المقام لإثبات ترتب حرمة الإسناد على عدم الحجية والشك فيها؛ فقد ذكر صوراً ثلاثة بعضها خارجة عن موضوع البحث؛

الصورة الأولى: فرض وجود حرمتين مجعولتين؛ أحداهما حرمة إسناد ما لا حجة له واقعاً، والأخرى حرمة إسناد ما لم يعلم حجيته سواء كان حجة في الواقع أم لا. وفي هذه الحالة لا يتجه محذور تحصيل الحاصل لأنّ الأصل ينقح حرمة أخرى غير محرزة بالوجدان فيتعدد التكليف، والعقاب حسب تعدد موضوعه.

الصور الثانية: إفتراض حرمة واحدة موضوعها الجامع بين عدم الحجية واقعاً وعدم العلم بالحجة، ويراد بعدم العلم الأعم من الشك والعلم بالعدم، وفي هذه الحالة يستلزم تحصيل الحاصل إذ ليست إلا حرمة واحدة موضوعها محفوظ على كل حال.

الصورة الثالثة: نفس الثانية في وحدة الجعل ولكن بافتراض أن المراد بعدم العلم خصوص الشك دون العلم بالعدم. وفي هذه الصورة يمكن دفع محذور تحصيل الحاصل، وذكر ذلك في بيان طويل لا طائل تحته.

والحق ما ذكرناه من عدم اعتبار كون الأثر فعلياً من كلّ حيثية وجهة حتى يلزم تحصيل الحاصل، بل يكفي إمكان الأثر في صحة جريان الأصل العملي، وهومتحقق في المقام. ولعل ما ذكره الأعلام الخراساني والنائيني والصدر (قدست أسرارهم) يرجع إلى ما ذكرناه.

كما أنَّ الإشكال المتقدم إنَّما تحقق في جعل موضوع استصحاب عدم الحجية لإثبات حرمة الإسناد, وأمّا إذا كان الأثر هو التنجيز والتعذير فالإشكال عليه بأنَّ التأمين حاصل وجداناً بقاعدة قبح العقاب بلا بيان غير تام كما عرفت.

ص: 434

والصحيح جريان استصحاب عدم الحجية كسائر الإستصحابات الجارية في الأحكام الفرعية, ولكننا في غنى عنه إذا كانت هناك أدلة إجتهادية كما تقدم بيانها، أو أصالة عدم الحجية التي هي من الأصول المستقلة العقلائية إلا أن يرجع الإستصحاب إلى هذا الأصل العقلائي فلا إشكال.

أما الأصول الأخرى فهي مردودة؛ أما أصالة إباحة العمل بغير العلم فلا وجه لها إن أريد من هذا الأصل تفريغ الذمة, لأنّ الشك في فراغ الذمة عما علم بالإشتغال به، فكيف تجري أصالة إباحة العمل، وإن أريد به إباحة العمل بكل رطب ويابس وغثّ وسمين فهو معلوم البطلان لدى جميع العوام فضلاً عن الخواص.

وأما أصالة التخيير فهي مردودة أيضاً بما هو المرتكز في النفوس من التثبت والتأمل في العمل بغير العلم والحكم ببطلانه إلا مع دليل يدل على خروجه عن ذلك كما لا يخفى. وأما اصالة التعيين عند الدوران بينه وبين التخيير فهو غير صحيح لما عرفت من بطلان العمل بغير العلم مطلقاً إلا مع دليل يدل عليه, مع أنّ هذا الأصل في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير محل إشكال وخلاف حيث ذهب بعضهم إلى التخيير كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

البدعة

اشارة

ذكر بعض الأصوليين في المقام ما يتعلق بالتشريع الذي هو نسبة ما لم يعلم كونه من الدين إلى الدین، وهو بهذا المعنى يساوق البدعة. ويقع الكلام عنها في مقامات:

المقام الأول: البدعة بالمعنى العام؛ وتطلق على كل محدث جديد على غير مثال سابق وتشريع ما ينسب إلى الدين من دون دليل يدل عليه.

وأما في الاصطلاح فالبدعة ما حدث بعد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ولم يرد فيه نص بالخصوص ولا يكون داخلاً في بعض العمومات، أو ورد فيه نهي عموماً وخصوصاً.

ص: 435

فيكون التشريع مساوقاً مع البدعة في أنهما يشتركان في النسبة إلى الدين من دون حجة شرعية. وعلى هذا لا يكون كل شئ جديد بدعة فإنّ بناء المدارس والمعاهد والحسينيات والمكاتب وإنشاء بعض الكتب العلمية والألبسة والأطعمة المحدثة وغير ذلك لا يدخل في البدعة لدخولها تحت عموم الحلية.

ولكن إذا فعل شئ من ذلك مِمّا هو داخل في العموم إذا قصد كونها مطلوباً على الخصوص فإنه يكون بدعة وتشريعاً؛ فمن عيّن وقتاً لعدد معين من التهليل مثلاًعلى أنها مطلوبة للشرع في خصوص هذا الوقت العدد المعين بلا نص ورد فيه كانت بدعة وتشريعاً.

وبالجملة؛ إنّ إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيها نص يكون بدعةً وتشريعاً سواء كانت أصلاً مبتدعاً أو أنّ خصوصياتها مبتدعة.

ومن ذلك يظهر أنه لا تكون البدعة والتشريع إلا محرماً.

وهذا هو الذي عليه علماؤنا رحمهم الله تعالى, بخلاف ما ذهب إليه المخالفون من تقسيم البدعة بانقسام الأحكام الخمسة التكليفية تصحيحاً لقول الثاني في التراويح (نَعمت البدعة)(1)؛ فإنهم قسموا البدعة إلى نوعين: بدعة حسنة؛ وهي ما وافقت مقاصد الشريعة، وبدعة ضلالة؛ وهي ما ناقضت مقاصد الشريعة.

ص: 436


1- . عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ، إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، ويُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، والنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، والَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ، يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَه. [صحیح البخاري؛ ج3 ص355].

فإنّ هذا التقسيم باطل مخالف لحقيقة البدعة والتشريع إذ لا تطلق إلا على ما كان محرماً كما عرفت، فهي مخالفة للنصوص الكثيرة, مثل قول رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وكُلُّ ضَلَالَةٍ سَبِيلُهَا إِلَى النَّارِ)(1).

قال الشهيد الأول: (محدثات الأمور بعد عهد النبي صلی الله علیه و آله و سلم تنقسم أقساماً؛ لا يطلق إسم البدعة عندنا إلا على ما هو محرّم منها)(2).

المقام الثاني: في حكم البدعة والتشريع؛ ولا ريب في حرمته، وقد استدل عليه بالأدلة الأربعة:

فمن الكتاب:

1- قوله تعالى:(لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّ)(3)؛ فإنّ أعلى مصاديقه التشريع لأنّ الإرادة التشريعية تابعة لإرادة الله عَزَّ وَجَلَّ كتبعية الإرادة التكوينية لها.

2- قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)(4).

وغيرهما من الآيات.

ومن السنة:

1- قول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم الذي تقدم ذكره: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وكُلُّ ضَلَالَةٍ سَبِيلُهَا إِلَى النَّارِ)(5)؛ حيث يستفاد منه أنّ البدعة من الكبائر.

2- قوله صلی الله علیه و آله و سلم : (مَنْ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِ مُبْتَدِعٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ دِينِه)(6).

ص: 437


1- . وسائل الشيعة(ط. آل البيت)؛ ج16 ص270.
2- . القواعد والفوائد؛ ج2 ص144-145.
3- . سورة الحجرات؛ الآية 1.
4- . سورة الحاقة؛ الآيات 44-46.
5- . وسائل الشيعة(ط. آل البيت)؛ ج16 ص270.
6- . مناقب آل أبي طالب عليهم السلام (لابن شهرآشوب)؛ ج4 ص251.

3- قَول رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : (إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ)(1).

وفي رواية يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُلِبَ نُورَ الْإِيمَانِ)(2).

4- ما جاء عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام مَا أَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ الْعَبْدُ كَافِراً؟ قَالَ: (أَنْ يَبْتَدِعَ بِهِ شَيْئاً فَيَتَوَلَّى عَلَيْهِ ويَتَبَرَّأَ مِمَّنْ خَالَفَهُ)(3).

5- عن رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : (إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ والْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ والْقَوْلَ فِيهِمْ والْوَقِيعَةَ وبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الإسلام ويَحْذَرَهُمُ النَّاسُ ولَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ ويَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ)(4).

والمراد بأهل الريب؛ الذين يشكون ويلقون الشبهات في نفوس الناس ليدفعونهم عن الدين الحق إلى غير ذلك من الاخبار والمستفاد كونهما من الكبائر بناءً على المقياس الذي ذكره الفقهاء في التمييز بينها وبين الصغائر.

وأما الإجماع؛ فواضح على حرمتهما بل عُدّ ذلك من الضروريات الدينية.

وأما العقل؛ فالمعروف أنهما من المقبحات العقلائية لكونه من التصرف في سلطان المولى بانتساب ما لم يعلم صدوره منه إليه فيكون نحو ظلم عليه، فلا ريب في حرمة التشريع والبدعة حينئذٍ.

ص: 438


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج16 ص269.
2- . المصدر السابق؛ ص271.
3- . معاني الأخبار؛ ص 393.
4- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج2 ص375.

المقام الثالث: إنّ ما يضاف إلى الشارع على أقسام:

الأول: ما يعلم صدوره منه فينسب إليه وقد صدر منه واقعاً. ولا ريب في انتفاء التشريع حينئذٍ.

الثاني: ما يعلم بصدوره منه ولم يصدر واقعاً. وهنا لا يتحقق التشريع أيضاً لأنّ موضوع التشريع هو عدم وجود الحجة المعتبرة، والمفروض أنّ العلم بالصدور حجة معتبرة.

الثالث: العلم بعدم صدوره، ولم يصدر منه واقعاً. ولا ريب في تحقق التشريع للعلم بعدم الصدور فلا يجوز نسبته إلى الشارع.الرابع: العلم بعدم الصدور وقد صدر في الواقع.

الخامس: عدم العلم بالصدور وعدمه وقد صدر في الواقع.

السادس: عدم العلم بالصدور وعدمه ولم يصدر في الواقع.

والظاهر تحقّق التشريع في هذه الأقسام الثلاثة لأنّ موضوعه عند الفقهاء (قدست أسرارهم) ما إذا لم يكن الإسناد إلى الشارع عن حجة معتبرة في مقام الإثبات كما لا يخفى.

المقام الرابع: التشريع قد يتحقق بمجرد القول بأن ينسب إلى الشارع قولاً لم يقله، وقد يتحقق بالعمل. والمحرم منه هو الإتيان بما ليس من الدين بعنوان أنه دين عند قصد جزمي بذلك؛ فما يؤتى به برجاء المطلوبية عند الشارع ليس من التشريع، وكذا يتحقق بالترك وهو محرم أيضاً، وأما إذا ترك شيئاً برجاء المبغوضية لدى الشارع فإنه ليس من التشريع في شئ.

هذا بالنسبة إلى نفس التشريع؛ وأما الفعل المشرع فيه فالظاهر حرمته أيضاً لكونه مظهر التشريع فالصلاة المعينة في وقت مخصوص بكيفية خاصة بعنوان أنه دين بقصد جزمي تكون محرمة أيضاً، بل لا معنى للتشريع عند العرف والعقلاء إلا ذلك كما لا يخفى.

ص: 439

المقام الخامس: إنّ حجية شئ في الدين مساوقة لصحة إنتسابها إلى الشارع، وكذا العكس كما عرفت.

فما عن صاحب الكفاية في الظن الإنسدادي وبناءً على الحكومة من أنه حجة مع عدم صحة انتسابه إلى الشارع مردود بما يلي:

أولاً: إن المراد من الحجة هو الأعم من التأسيس والإمضاء الذي يكفي فيه عدم الردع.

ثانياً: إنّ البحث في حجة شيء تقع في طريق إثبات الحكم لا إسقاطه، والظن الإنسدادي من الثاني دون الأول.

وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

ثم إنه قد خرج عن هذا الأصل موارد عديدة وقع التعبد فيها بالظن, وقد عبَّر المحقق الخراساني قدس سره (1) عن ذلك بالخروج موضوعاً ولعله يقصد بذلك أنّ الخروج عن الأصل السابق لا بُدَّ أن يكون راجعاً إلى الخروج الموضوعي, إذ الخروج الحكمي مع بقاء الموضوع يرجع إلى التخصيص وهو ممتنع بالنسبة إلى الحكم العقلي بخلاف رفع موضوع حكم العقل فإنه لا بأس به.

وكيف كان؛ فإنّ الكلام يقع في ضمن فصول:

ص: 440


1- . كفاية الأصول؛ ص280.

الفصل الأول الظواهر

يبدأ الأصوليون بذكر حجية الظواهر لكثرة إبتلاءهم بها، وإنّ الظواهر هي الجزء الأهم من الإستدلالات في كل العلوم. ومن أجل ذلك قدّموها على غيرها من الأمارات والظنون المعتبرة شرعاً، وإن قدم السيد الصدر قدس سره (1) السيرة عليها باعتبار كونها الدليل على حجية غيرها من الأمارات كالظواهر.

وقد استدلوا على حجيتها تارةً؛ بالسيرة المتشرعية وأخرى؛ بالسيرة العقلائية.

أما الأولى؛ فهي إنما تكون حجة إذا ثبت كونها متصلة بزمان المعصوم علیه السلام وتقريره لها ولو بعدم الردع, ولا ريب في ثبوت ذلك فإنّ أصحاب الأئمة علیهم السلام وغيرهم كانوا يعملون بالظواهر يقيناً، وعليه جرت سيرتهم وكانوا يستفيدون الأحكام الشرعية من كلمات الأئمة الطاهرين علیهم السلام وسائر الأدلة الشرعية بالعمل بالظاهر, ولو كان ذلك بغير هذا الوجه ولو من جهة قاعدة اليقين أو الإطمئنان أو الإحتياط أو أي قاعدة أخرى لظهر ذلك، وكان حدثاً فريداً في الفقه، ولا يحتمل أنّ ذلك يقع من العلماء والفقهاء ولا يشار إليه ولم يصل إلينا.

وقد يتوهم بأنه ربما كان يحصل لهم الإطمئنان غالباً من الظهورات ولم يكن شيئاً جديداً حتى يكون ملفتاً للنظر.

ولكنه باطل، لأنّ الظواهر لم تكن بمرتبة واحدة؛ فقد يحصل من بعضها الإطمئنان ولا يحصل مثل ذلك من غيرها لأسباب عديدة غير التجوز أو التقدير ونحوها, فلا إشكال في انعقاد مثل هذه السيرة المتشرعية في حجية الظواهر ولزوم اتباعها في الجملة.

ص: 441


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص223.

وقد حصل التقرير من المعصومين علیهم السلام ؛ إذ لم يرد ردع عنها، ولو كان لظهر وبان فيكشف كشفاً إنّياً عن تقرير الشارع لها.

وأما الأخرى(1)؛ فبالإعتماد على الظواهر في المحاورات والمخاصمات والإحتجاجات فصار ذلك سلوكهم العام حيث لا يتقيدون في مقام الإفادة والمحاورة بالتعبير بالصراحة أو التنصيص في تعبيراتهم فلا ينبغي الإشكال فيها, وإنما الكلام في أنّ الأصوليين قد اختلفوا في كيفية الإستدلال بهذه السيرة العقلائية؛ فمنهم من قال بقيام سيرة العقلاء في معاشهم وأوضاعهم الخارجية اليومية، فإنها انعقدت على الأخذ بالظهورات. وهذا بناء عقلائي في أغراضهم التكوينية.

ومنهم من قال بالتمسك بالسيرة العقلائية في عالم المولويات العرفية والأغراض التشريعية لهم حيث إنّ بناء العقلاء على إلزام كل من الآمر والمأمور بالظهور وكونه حجة عليهم.

وقد اعترض على التقرير الأول بأنه غير تام صغرى وغير مقيد كبرى لأنّ العقلاء وإن كانوا لا يطالبون بالألفاظ الصريحة في بيان أغراضهم التكوينية إلا أنّ ذلك ليس من باب التعبد بالظهور، بل على أساس نكات أخرى تكوينية والمحرك فيها إنما هو الإحتمالات التكوينية إذ لا يعقل التعبد في مجال الأغراض التكوينية ولا معنى للمنجزية والمعذرية والحجية فيها, إذ ربما يكون ملاك العمل من جهة حصول الإطمئنان من الظهور باعتبار أنّ المتكلم لم يكن بناؤه على التأويل والألغاز أو الإجمال أو حصول الغفلة العرفية عن احتمالات خلاف الظاهر أو عدم الأهمال بالغرض التكويني بحيث يكون احتمال الخلاف موجباً للإحتياط أو كونه على وفق الإحتياط.أو إيقاع باب التزاحم مثلًا بين أطراف القضية ونحو ذلك.

ص: 442


1- . السيرة العقلائية.

هذا من حيث الصغرى، وأما بحسب الكبرى فلو سلمت الصغرى تعقّلاً ووقوعاً فأيّ فائدة في مثل هذه السيرة العقلائية في مجال الأغراض التكوينية، وأيّ فائدة في عدم ردع الشارع عنها لأنّ غايته إمضاؤه لها في الغرض التكويني دون الأغراض التشريعية وعالم الحجية والتعذير والتنجيز الذي هو المهم في هذا البحث.

والحق أن يقال: إنّ الحجية الشرعية في المعذرية والمنجزية وإن كانت غير دخيلة في الأغراض التكوينية فإنّ المحرك فيها هو الإحتمالات التكوينية ومحتملاتها على اختلاف درجاتها وأهميتها.

لكن ذلك لا يمنع من الإستدلال بالسيرة العقلائية في المقام؛ فإنّ هذه السيرة بقطع النظر من مناشئها ودوافعها أصبحت سلوكاً عملياً عاماً نوعياً في حياة كل عاقل حتى صارت فطرة ثانوية عرفية للإنسان، ولذا قد يتغافل عنها ولم يتعقلها ومع ذلك يعاب فرد إذا خالفها ويوبّخ على تركها. وقد صارت هذه السيرة دخيلة في الأغراض التشريعية باعتبار أنّ الشارع إذا لم يكن راضياً عنه، لزم عليه التنبيه على ذلك وردعهم عن استخدامها في التشريعات.

وبذلك يظهر الجواب عن الإشكال بشقيه للصغرى والكبرى؛ فإنّ سكوت الشارع عنها يثبت موافقة على امتدادها في الأدلة الشرعية وحجية الظواهر فيها.هذا ولو قلنا بما ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره (1) في السيرة العقلائية وأن استكشاف رضا الشارع لها باعتبار كونه أحد من العقلاء بل سيدهم على الإطلاق لكان الأمر أسهل لأنه يستكشف موافقته لهم في الأغراض التكوينية.

هذا ما يتعلق بالتقرير الأول للسيرة العقلائية.

ص: 443


1- . على ما تقدم.

وأما التقرير الثاني وهو دعوى أنّ العقلاء يلزمون كل من الآمر والمأمور بالجري على الظهور في أغراضهم التشريعية, فالظاهر أنه سالم من الإعتراضين السابقين لأنّ التعبد والحجية على هذا التقرير معقول؛ فإنّ كل فرد من أفراد الإنسان إذا جلس على كرسي الأمر لجعل الظهور حجة فيما بينه وبين مأموريه على نحو القضية الشرطية يبنى عليها كل عاقل ولو إرتكازاً، وهذا هو معنى السيرة العقلائية.

وأما إمضاء الشارع لها؛ فإما أن نقول بما ذكرناه آنفاً من أنه يستكشف من عدم ردعه عنها. وإما من أجل أنّ عدم إمضاءه لها يستلزم نقض الغرض.

وإما من أجل انعقاد ظهور حالي في إمضاءه وتقريره. والظاهر تلازم جميع ذلك فلا إشكال في ذلك.

وأما إثبات عدم ردع الشارع عنها فإنه يثبُت بعدم وصوله إلينا، وهو كافٍ في حجية السيرة.

والإشكال عليه في المقام هو أنه يكفي في الردع عمومات النهي عن العمل بالظن أو إطلاق أدلة الأصول والقواعد الشرعية المقررة لموارد عدم العلم الشامل للظن أيضاً كحديث الرفع مثلاً.

وهذا الإشكال يرد على الإستدلال بالسيرة على حجية خبر الواحد أيضاً؛ فإنّ الموضوعين من باب واحد وبينهما جهات مشتركة ويمكن رفعه في المقام بما يلي:

أولاً: إنّ هذه العمومات لا تصلح للردع لأنّ السيرة بمكان من الثبوت عند المتشرعة والعقلاء بحيث لا يمكن القول بشمول تلك العمومات لها وإلا لتوقف عالم الإستدلال الفقهي وغيره، وهذا مِمّا لا يرتضيه الشارع.

ثانياً: إنّ الرادعية مستحيلة في المقام لأنّ نفس الرادعية متوقفة على الظهور فيلزم من حجيته عدم حجيته، وكل ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال، إلا أن يقال بخروج هذا

ص: 444

الظهور الخاص بالرادعية عن عموم الظهور بالسيرة العقلائية في شخصه إذ لا يشمل شخصه، ولكن ذلك يحتاج إلى دليل.

فالحق ما ذكرناه من عدم شمول أدلة النهي عن مطلق الظن لمثل هذه السيرة المتشرعية والعقلائية كما هو واضح. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

شبهات حول السيرتين

ثم إنه قد أثيرت شبهات حول كلتا السيرتين الشرعية والعقلائية، وهي شبهات واهية لا ترتقي إلى تضعيف كل واحدة منهما فلا تستحق الذكر ولكن نذكرها تبعاً لهم وهي:

الشبهة الأولى: انَّ السيرة المتشرعية لما كانت دليلاً لبّياً فلا بُدَّ أن يقتصر فيها على القدر المتيقن من مدلوله فيؤخذ بما أحرز يقيناً من المتشرعة به من الظهورات، فلا يمكن التمسك بها لإثبات حجية الظواهر الحالية البحتة غير المكتنفة بالكلام؛ إذ لا يمكن القطع بأنّ أصحاب الأئمة علیهم السلام كانوا على الأخذ بها لعدم شيوع الإستدلال بمثلها في مجال الإستنباط بخلاف الظواهر اللفظية، كما أنه يشك في عملهم في بعض مراتب الظهورات اللفظية فلا يمكن التمسك بهذه السيرة فيها أيضاً لأنّ مضمون السيرة المتشرعية قضية مهملة؛ وهي في قوة الجزئية، فلا يمكن الرجوع إليها كلما شك في حجية ظهور كان فيه نكتة تستوجب مثل هذا التشكيك، وهذا بخلاف السيرة العقلائية فإنها إنما تكون على نحو القضية العقلائية فيثبت فيها العموم فتشمل مطلق الظواهر اللفظية بمراتبها المتعارفة عقلائياً والظواهر الحالية.

والجواب هذه الشبهة التي حصلت من التفكيك بين السيرتين في أنّ اعتبار السيرة العقلائية غير ما هو في السيرة المتشرعية، ولكن هذه السيرة هي من صغريات السيرة العقلائية وأن اعتبارهما شئ واحد والتفكيك بينهما إنما هو لبيان أنّ عدم الردع إنما يحتاج إليه في السيرة

ص: 445

العقلائية دون السيرة المتشرعية، ولا أن يكون الفرق بينهما لأجل بيان أنّ عدم الردع يحتاج إليه في السيرة العقلائية دون السيرة المتشرعية، ولا أن يكون الفرق بينهما جوهرياً بحيث تمتاز كل واحدة عن الأخرى فتنفرد في الدلالة، بل إنّ العقلاء لو لم يكن لهم عمل بالظهورات لما تحققت سيرة للمتشرعة لوحدهم، ولما أمكن استكشاف سيرة متشرعية في زمان المعصومين علیهم السلام إذ لم يكن لهم حالة فريدة على خلاف طريقة العقلاء. كما إنه ليس للعقلاء طريقة أخرى غير الظهور ليكون على خلاف طباعهم, فتكون طريقة العقلاء مقوّمة لطريقة المتشرعة. ولما كانت طريقة العقلاء طبيعية لها من العموم ما يشمل جميع مراتب الظهور اللفظي وكل أنواع الظهور فلو كانت طريقة المتشرعة على خلاف طريقة العقلاء الطبيعية تتحقق بياناً شرعياً له وهو غير حاصل، ولذلك كان للسيرة المتشرعية عموم يشمل كل أنواع الظهور ومراتبه.

الشبهة الثانية: ما تقدم من أنّ السيرة العقلائية بمجرد ثبوتها لا يكفي للإستدلال بها على الحكم الشرعي ما لم يثبت عدم الردع عنها الكاشف عن إمضاءها؛ وهذا يتوقف أحياناً على إثبات حجية ظهورٍ حاليٍّ أو مقالي للشارع في الإمضاء، وهولا يحصل إلا بالتمسك بدليل آخر على حجيته لا بنفس هذه السيرة، ومن أجل ذلك كانت هذه السيرة بحاجة إلى ضمّ السيرة المتشرعية إليها في إثبات حجية شخص هذا الظهور على ما تقدم بيانه ولا إشكال عليه.

الشبهة الثالثة: إنّ السيرة العقلائية بحاجة إلى ضمّ السيرة المتشرعية في إثباتها في الظهورات التي تكون في الأدلة الشرعية لأنّ هذه الظهورات تختلف عن سائر الظهورات العرفية في مقام المحاورة؛ حيث إنّ المتكلم فيها واحد والزمان متحد وهي القدر المتيقن من شمول السيرة العقلائية لها، بخلاف ظهورات الأدلة الشرعية التي صدرت في مجالس متعددة

ص: 446

مفصولة بعضها عن بعض زماناً ومكاناً حتى من حيث المتكلم نفسه؛ فإنّ طريقة الأئمة الهداة علیهم السلام في المحاورة تختلف عن الطرائق العرفية بكثرة اعتمادهم على القرائن المنفصلة المتعددة الصادرة في مجالس مختلفة وأزمنة متعددة في عصور مختلفة ومن أئمة متعددين، والسيرة العقلائية في العمل بالظهورات العرفية المتعارفة لا تكفي لإثبات حجية مثل هذه الظهورات الشرعية.

والجواب عن هذه الشبهة يظهر من أنّ نفس عمل أصحاب الأئمة علیهم السلام بهذه الظهورات مع اطلاعهم على اعتمادهم على القرائن المنفصلة وتأجيلها يكون شاهداً على عموم السيرة العقلائية لأنهم كانوا يعملون ذلك بعقلانيتهم لا لخصوصية في نصوص المعصومين علیهم السلام ، مع أنّ إثبات طريقة خاصة بالأئمة تخالف الطرق المتعارفة في المحاورة بعيداً جداً، فلا اختلاف بين طرقهم وطرق غيرهم من سائر الناس في المحاورات.

ويتضح الجواب العام عن الشبهات الثلاثة المتقدمة أيضاً من أنّ السيرة العقلائية

قد انعقدت على حجية الظهور عند العقلاء، فهذه كبرى إذا ثبتت ولو على سبيل القضية المهملة تكفي في ثبوت سيرة المتشرعة, ولذا لا يكون اتباع سيرة المتشرعة مخالفاً لاتباع طريقة العقلاء لوجود التجانس بينهما، بل يمكن القول بأنّ السيرة العقلائية قد انعقدت في باب الأغراض التشريعية على أنّ نفس صدور الكلام من المولى والظهور الحاصل من كلماته؛ لها الموضوعية في باب الحجية والإمارة.

والصحيح أن يقال: إنّ تقسيم السيرة إلى قسمين عقلائية ومتشرعية غير مبرَّر له، بل زاد الموضوع تعقيداً وأوجب الإشكالات والشبهات المتعددة التي ذكرنا جملة منها، فإنّ السيرة التي أثبتت حجية الظهور ليست إلا هي السيرة العقلائية التي منها المتشرعية، ولكن الآثار المترتبة على الظهور مختلفة؛ ففي الأغراض التكوينية تثبت الآثار المتعارفة،

ص: 447

وفي الأغراض التشريعية تثبت الحجية والمنجزية والمعذرية وغيرها. ومن أجل ذلك تختلف الأحكام تبعاً لتلك الأغراض؛ ففي باب المولويات لا يمكن الحكم بمجرد ثبوت الظهور إلا بعدالفحص عن المخصص والمقيد والقرينة المنفصلة، ولكن ذلك لا يوجب التعدد في السيرة وانقسامها، ولذلك نحكم بأنه لم توجد طريقة غير متعارضة للشارع في مقام اعتماده على القرائن المنفصلة فإنّ هذا العمل صحيح وواضح في جميع المحاورات ولكنه عند الأئمة الهداة عليهم السلا أكثر رواجاً من غير أن يصل إلى اختلاف طريقتهم عن الطريق المألوف نظراً لظروفهم الخاصة المحيطة بهم وتعددهم واطلاعهم على أحوال الناس أكثر من غيرهم, وبذلك نتخلص من الشبهات الثلاثة الواردة في المقام وغيرها مِمّا سنذكره.

الشبهة الرابعة: إنّ السيرة العقلائية تبتني على استكشاف عدم الردع ولو من جهة عدم وصوله، وهذا بالنسبة إلى المراتب القوية من الظهور، وبالنسبة إلى ظهور الروايات والأحاديث متحقق بلا إشكال، ولكن بالنسبة إلى بعض الظهورات غير متحقق إذ يحتمل وجود الردع عنه، وذلك لعدة روايات التي تبلغ حد الإستفاضة وهي على طائفتين:

الأولى: تلك التي تدل على الردع عن تفسير الكتاب بالرأي، حيث استدل بها بعض المحدثين لإسقاط حجية الظهورات القرآنية، فإنّ ما لا يكون فيه صريحاً وواضحاً قد يصدق عليه أنه تفسير بالرأي.

الثانية: ما دلّ على الردع عن العمل بالقياس، فإنه يستفاد من هذه أنّ بعض مراتب الإستظهارات التي تبتني على إعمال تحليلات أو إبراز مناسبات ونكات للظهور أو إلغاء الخصوصيات المأخوذة في ظاهر الدليل ونحو ذلك مِمّا يدخل كل ذلك في عنوان القياس والإستحسان وينطبق عليها إعمال الرأي والقياس؛ فتشملها هذه الروايات الرادعة لها، فلا يثبت الجزم بعدم الردع.

ص: 448

وقد أجيب عن ذلك بوجوه:

الوجه الأول: معارضة الطائفة الأولى بروايات أخرى تدل على أخذ الأئمة علیهم السلام بظواهر القرآن وأمرهم لأصحابهم أن يأخذوا بظواهر القرآن، وإن كان التمسك بها يحتاج إلى إعمال بعض النكات أو إلغاء خصوصيات حيث يستفاد منها صحة التمسك بها ولم تكن

داخلة في التفسير بالرأي الذي هو أمر آخر خارج مدلولات الكلام، نذكر بعضاً منها:

1- معتبرة مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ طَائِرٍ أَهْلِيٍّ أُدْخِلَ الْحَرَمَ حَيّاً؟. فَقَالَ علیه السلام : ( لَا يُمَسُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)(1))(2).والإستشهاد بالآية الكريمة على الحكم يعمّ الطائر مع أنّ الظاهر اختصاصها بذوي العقول لمكان (من) الموصولة مِمّا يدل على ما ذكرناه، ومثل هذه المعتبرة روايات أخرى بهذا المضمون.

2- معتبرة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَحَدَهُمَا علیهما السلام عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ؛ فَأُعْتِقَتْ فَتَزَوَّجَتْ فَوَلَدَتْ؛ أَ يَصْلُحُ لِمَوْلَاهَا الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا؟. قَالَ: (لَا هِيَ حَرَامٌ وهِيَ ابْنَتُهُ والْحُرَّةُ والْمَمْلُوكَةُ فِي هَذَا سَوَاء؛ ثُمَّ قَرَأ هذِهِ الآية: (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)(3))(4).

ولا ريب أنّ التمسك بالآية الشريفة إنما يتم بإلغاء الخصوصية، وهي كون الربيبة في حجر الإنسان، فالتعميم إلى مطلق بنت المرأة المنكوحة بنكاح صحيح، ولذا حكم الفقهاء بتعميم التحريم للبنت قبل النكاح والبنت بعده.

ص: 449


1- . سورة آل عمران؛ الآية 97.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج13 ص33.
3- . سورة النساء؛ الآية 23.
4- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج20 ص458.

3- معتبرة عبد الأعلى مولى آل سام في من انقطع ظفره ووضع عليها المرارة وأمره بالمسح عليها مستخرجاً ذلك من قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(1), فقال علیه السلام : (يُعْرَفُ هَذَا وأَشْبَاهُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ)(2).

والمستفاد منها كفاية المسح على الجبيرة باعتبار كونه هو الميسور من المسح, ثم تنبيه أصحابه إلى استخراج ذلك من كتاب الله تعالى.

4- صحيحة زُرَارَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام : أَ لَا تُخْبِرُنِي مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ وقُلْتَ أَنَّ الْمَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ وبَعْضِ الرِّجْلَيْنِ؟. فَضَحِكَ فَقَالَ: (يَا زُرَارَةُ؛ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم ونَزَلَ بِهِ الْكِتَابُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَالَ: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(3)؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَجْهَ كُلَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُغْسَلَ, ثُمَّ قَالَ: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)(4), فَوَصَلَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِالْوَجْهِ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمَا أَنْ يُغْسَلَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ, ثُمَّ فَصَلَ بَيْنَ الْكَلَامِ فَقَالَ: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)(5)؛ فَعَرَفْنَا حِينَ قَالَ بِرُءُوسِكُمْ أَنَّ الْمَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ؛ لِمَكَانِ الْبَاءِ, ثُمَّ وَصَلَ الرِّجْلَيْنِ بِالرَّأْسِ كَمَا وَصَلَ الْيَدَيْنِ بِالْوَجْهِ فَقَالَ: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْ)(6)؛ فَعَرَفْنَا حِينَ وَصَلَهُمَا بِالرَّأْسِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى بَعْضِهِمَا؛ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم لِلنَّاسِ فَضَيَّعُوهُ )(7).

ص: 450


1- . سورة الحج؛ الآية 78.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص464.
3- . سورة المائدة؛ الآية 6.
4- . سورة المائدة؛ الآية 6.
5- . سورة المائدة؛ الآية 6.
6- . سورة المائدة؛ الآية 6.
7- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص412-413.

فإنّ الإستدلال بالآية الشريفة وتعليم ذلك لأصحابهم دليل على إمكان الإعتماد على ظواهر القرآن وإنْ كان مستلزماً لإعمال النظر.

5- رواية الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ؛ فَرِيضَةٌ أَمْ سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: (فَرِيضَةٌ. قُلْتُ: أَ ولَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)(1)؟ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ؛ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْفَعُوا الْأَصْنَامَ مِنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, فَتَشَاغَلَ رَجُلٌ تَرَكَ السَّعْيَ حَتَّى انْقَضَتِ الْأَيَّامُ وأُعِيدَتِ الْأَصْنَامُ, فَجَاءُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ فُلَاناً لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ, وقَدْ أُعِيدَتِ الْأَصْنَامُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَ: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا)؛ أَيْ وعَلَيْهِمَا الْأَصْنَامُ )(2).

فإنّ فهم السائل الترخيص من قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) ورفع الإبهام من قبل الإمام علیه السلام دليل على جواز الإعتماد على الظواهر القرآنية ولو استلزم من استعمال الفكر في استخراجها.

6- رواية عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُسْمِعَ مَنْ خَلْفَهُ وإِنْ كَثُرُوا؟ فَقَالَ: (لِيَقْرَأْ قِرَاءَةً وَسَطاً؛ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا)(3))(4).

فإنّ نفي الجهر والإخفات لا يدل على تعيّن القراءة الوسط إلا بإعمال العناية العرفية.

ص: 451


1- . سورة البقرة؛ الآية 158.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج13 ص468-469.
3- . سورة الإسراء؛ الآية 110.
4- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج6 ص97.

3- رواية حَكَمِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام يَقُولُ؛ وسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْبِيَعِ والْكَنَائِسِ فَقَالَ: (صَلِّ فِيهَا؛ قَدْ رَأَيْتُهَا مَا أَنْظَفَهَا. قُلْتُ: أَ يُصَلَّى فِيهَا؛ وَإِنْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ؛ أَ مَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا)(1)؛ صَلِّ إِلَى الْقِبْلَةِ وغَرِّبْهُمْ )(2).

فإنّ تنبيه الإمام علیه السلام السائل أنّ ذلك مِمّا يستفاد من الآية الكريمة ولو كانت بإعمال عناية فهو الدليل على حجية الظواهر.

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يصحّ استفادة ما ذكرناه منها؛ فإعمال الرأي من استفادة موضوع من القرآن الكريم يعتبر من الظاهر القرآني، فتكون الروايات التي تدل على النهي من التفسير بالرأي خارجة عن ما نحن فيه.وقد يقال بأنّ هذه الأخبار تدل على أنّ استفادة الإمام المعصوم من الآيات الكريمة إنما كان بفهمه الثاقب واستنباطهم الصحيح فيكون تفسيراً منهم لها فلا تدل على حجية ظاهر القرآن إذا لم يكن صريحاً أو ظاهراً ظهوراً بيِّناً فيكون الأخذ بها من تفسير القرآن بالرأي المنهي عنه.

وفيه: إنّ الإستدلال بهذه الأخبار لبيان كيفية الإستشهاد بالآيات في فهم الحكم وإرشاد الأصحاب إلى ذلك ليس هو من تفسيرالإمام علیه السلام وشرحه للآيات.

الوجه الثاني: إنّ حجية هذه المراتب من الظواهر إنما تكون بأدلة لفظية لا بالسيرة العقلائية ابتداءً, وهي روايات كثيرة تكون على طائفتين أيضاً:

الطائفة الأولى: تلك الروايات التي تأمر بالتمسك بالكتاب والسنة والرجوع إليهما, ولا إشكال في أنّ المراد بالرجوع هو الرجوع إلى الدلالة بما هي من مقولات الألفاظ والمعاني

ص: 452


1- . سورة الإسراء؛ الآية 84.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج5 ص138-139.

وتبين المراد عن طريقها. فيؤخذ إما بالإطلاق اللفظي ليشمل جميع مراتب الظهور، أو يؤخذ بالإطلاق المقامي على حجيتها بالرجوع إلى العرض والطريقة المتعارفة في تشخيص المراد فيهما فيكون ذلك إمضاءً لها.

الطائفة الثانية: وهي التي تدل على تحكيم دلالات القرآن الكريم ابتداءً كمعتبرة عبد الأعلى(1)، وتلك الروايات التي تأمر بالعرض على الكتاب الكريم.

ويثبت إطلاق وعموم هاتين الطائفتين من الأخبار بالسيرة العقلائية بلا إشكال، ومن يثبت حجية تلك المراتب التي يقتنص منها الظهور على أساس إعمال نكات وإلغاء الخصوصيات بهذه الروايات.

الوجه الثالث: إنّ الردع المحتمل متأخر زماناً عن صدور الإسلام لتأخر روايات الردع عن الرأي والقياس ونحو ذلك، مع أنّ السيرة العقلائية على حجية الظهور كانت أسبق منها؛ إذ انعقدت منذ صدر الإسلام من دون ردع عنها في ذلك الوقت، بل إمضاؤها كسائر السير التي كانت في صدر الإسلام ثم نسخت من باب التدريج في التشريع، فيرجع احتمال الردع إلى احتمال النسخ فيستصحب بقاء الحجية.

وهذا عمل بإطلاق دليل الإستصحاب الداخل في القدر المتيقن من السيرة وهو إطلاق لفظي لا يقوم على أساس إعمال النكتة وإلغاء الخصوصية. ولكن قد يشكل على هذا الوجه بأنّ روايات الردع ربما تكشف عن بطلان القياس في أول الأمر لا أن يكون نسخاً، فحينئذٍ لا يقين سابق حتى يستصحب؛ شأنه شأن العادات السيئة التي كانت في صدر الإسلام ولم تكن الظروف مهيئة للردع عنها ثم بين بطلانها بعد فترة.

وكيف كان؛ فإنه يمكن التمسك بالسيرة العقلائية في إثبات حجية جميع مراتب الظهور في الكتاب والسنة وأخبار الردع لا تشملها لاختلاف موضوعهما.

ص: 453


1- . هذا وأشباهه يعرف من كتاب الله.

الشبهة الخامسة: قد يقال بأنّ ثبوت الردع عن قسم خاص من الظواهر الذي تكثر التعويل عليه في الفقه، وهي تلك الظهورات التي ترجع إلى دلالات إلتزامية،فربما تكون تلك الدلالة الإلتزامية قائمة على أساس عدم الإنفكاك بين مدلولين عقلاً، وهذا خارج عما نحن فيه. وقد يكون على أساس عدم تعقل العرف للإنفكاك, وإن كان ممكناً عقلاً, فإنّ هذا القسم من الظواهر قد يقال بالردع عنه شرعاً بمثل رواية أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ الواردة في دية أصابع المرأة قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَطَعَ إِصْبَعاً مِنْ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ؛ كَمْ فِيهَا؟ قَالَ: (عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ. قُلْتُ: قَطَعَ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ. قُلْتُ: قَطَعَ ثَلَاثاً؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ. قُلْتُ: قَطَعَ أَرْبَعاً: قَالَ عِشْرُونَ. قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَقْطَعُ ثَلَاثاً فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ, ويَقْطَعُ أَرْبَعاً فَيَكُونُ عَلَيْهِ عِشْرُونَ؟! إِنَّ هَذَا كَانَ يَبْلُغُنَا ونَحْنُ بِالْعِرَاقِ فَنَبْرَأُ مِمَّنْ قَالَهُ, ونَقُولُ الَّذِي جَاءَ بِهِ شَيْطَانٌ. فَقَالَ: مَهْلًا يَا أَبَانُ؛ هَذَا حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم ؛ إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقابِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ, فَإِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ رَجَعَتْ إِلَى النِّصْفِ؛ يَا أَبَانُ؛ إِنَّكَ أَخَذْتَنِي بِالْقِيَاسِ, والسُّنَّةُ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ الدِّينُ )(1).

وهذه الرواية الصحيحة تارةً؛ يستدل بها على الردع عن حجية القطع الناشئ من مقدمات عقلية؛ وقد عرفت الجواب عنه فيما سبق وأنه لا يستفاد منها الردع عن حجية القطع العقلي بعد حصوله وإنما العتاب كان لأجل تسرع أبان في الجزم بالحكم الشرعي من دون التفات إلى القواعد الشرعية والبيانات الصادرة من الشارع، والفرق بين الأمرين واضح.

وأخرى؛ يستدل بها لإثبات الردع عن الظهورات العرفية القائمة على ملازمات عرفية الذي هو موضوع بحثنا.

ص: 454


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج29 ص352.

وقد أجيب عنه بأجوبة متعددة منها؛ أنّ ظاهر ردع ابان وتأنيبه إنما هو بلحاظ تحكيمه لهذه الدلالة والملازمة على النص الشرعي، ومثل ذلك فاسد عقلاً ومما ردع عنه شرعاً لأنه تحكيم للأذواق والمناسبات على الدين، ولهذا قال علیه السلام : (إِنَّكَ أَخَذْتَنِي بِالْقِيَاسِ), وهذا المطلب لا ربط له بما نحن فيه من الأخذ بالظهور العرفي للسنة تحكيماً للملازمة العرفية لها لا عليها.

ومن جميع ما ذكرناه يظهر أنّ أصالة الظهور من أهم الأصول النظامية المحاورية بحيث يستدل بها لا عليها. وقد جرت عادة الشرائع الإلهية عليها أيضاً, فإنّ بها يتحقق تبليغ الأحكام كما أنّ عليها يدور نظام المعاش والمعاد ولو اختلّ ذلك لأوجب اختلال النظامين.

ومن أجل ذلك ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنّ حق عنوان البحث أن يكون هكذا: يمتنع عادة عدم اعتبار الظواهر كما هو الحال في حجية الخبر الموثوق به الذي هو من الأصول العقلائية أيضاً، فلا وجه لتطويل البحث وإن تابعناهم في ذلك.إنّ تتمة الكلام بعد ما ذُكر يقع في ضمن بحوث:

البحث الأول: في تشخيص موضوع حجية الظواهر.

لا إشكال عند الجميع في أنّ المقصود من أصالة الظهور إنما هو التوصل إلى إثبات المراد الجدي للمتكلم إلا أنّ الكلام في كيفية جعل هذا الأصل وموضوعه، وقد ذكر في ذلك وجوه ثلاثة في تصوير هذا الأصل:

الوجه الأول: ما ذهب إليه الشيخ النائيني(2) تبعاً للشيخ الأعظم من أنّ أصالة الظهور مركبة من جزئين؛ أحدهما الظهور التصديقي، والآخر عدم القرينة المنفصلة؛ فإذا أحرز

ص: 455


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص75.
2- . أجود التقريرات؛ ج2 ص91-93.

انعقاد الظهور كان حجة، فإذا شككنا في الأول من جهة احتمال القرينة المتصلة فإنّ الظهور التصديقي ينثلم, وإذا شككنا في الثاني من احتمال القرينة المنفصلة فلا تجري أصالة الظهور فتحتاج في المرتبة السابقة إلى تنقيح موضوع أصالة الظهور بإجراء أصالة عدم القرينة المتصلة أو المنفصلة, فإنه بجريانه يحرز الجزء الثاني، وحينئذٍ نحتاج إلى إجراء أصلين طوليين إلا إذا قطع وجداناً بعدم القرينة المتصلة أو المنفصلة.

الوجه الثاني: ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنّ موضوع حجية أصالة الظهور هو الظهور التصوري وعدم العلم بالقرينة على الخلاف؛ ففي موارد الشك في القرينة سواء كانت متصلة أم منفصلة ترجع إلى أصالة الظهور ابتداءً بلا حاجة إلى أصل عدم القرينة الطولي لانحفاظ المدلول التصوري على كل حال.

الوجه الثالث: ما اختاره السيد الصدر قدس سره (2) من أنّ حجية الظهور موضوعها عبارة عن الظهور التصديقي لا التصوري كما أفاده المحقق الإصفهاني قدس سره ، إلا أنّ الجزء الثاني وهو عدم العلم بالقرينة المنفصلة لا عدم واقع القرينة المنفصلة كما أفاده المحقق النائيني قدس سره ، وهو بذلك يختلف عن منهج العلمين السابقين (قدس سراهما) على هذا الإحتمال وتظهر الثمرة فيما إذا احتملنا القرينة المتصلة؛ فإننا نحتاج إلى إحراز موضوع أصالة الظهور في المرتبة السابقة بأصل أو غيره, وإذا احتملنا القرينة المنفصلة رجعنا إلى أصالة الظهور ابتداءً من دون حاجة إلى أصل آخر طولي لانحفاظ كلا الجزئين المذكورين.

ولكن الصحيح ما اختاره المحقق الإصفهاني قدس سره ، وبطلان ما أورد عليه من أنّ هذا الظهور مجرد أمر تكويني إيجادي والحجة العقلائية إنما تكون بملاك الكاشفية؛ فجعل

ص: 456


1- . نهاية الدراية؛ ج2 ص65-67.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص268.

هذا الظهور موضوعاً للحجة خلافاً لما ذكر من أن الأصول والقواعد العقلائية قائمة على أساس الطريقية والكاشفية.

ويظهر بطلانه من أنّ الحجة العقلائية لم تخرج عن طورها؛ فهي حجة بملاك الكاشفية إلا أنه لم يشترط فيها أن لا يكون ما يوجبها أمراً تكوينياً يثير في ذهن السامع معنى يلزم عليه تطبيقه أصالة الظهور.

وأما الوجه المختار عند المحقق النائيني الذي موضوعه الظهور التصديقي لا التصوري المتوقف على عدم واقع القرينة المنفصلة بحيث يحتاج إلى تنقيحه إلى أصل سابق وهو أصالة عدم القرينة؛ فإنه غير تام، لأنّ هذا الأصل لم يكن أصلاً تعبدياً شرعياً على حدّ الأصول العملية الشرعية، وإنما هو أصل عقلائي يبتني على أساس الكاشفية والطريقية، فهو وإن كان صحيحاً إلا أنه لا حاجة إليه لأنّ الظهور التصديقي بنفسه المنعقد بالخطاب يكفي في عدم القرينة باعتبار استبعاد أنّ المتكلم يتكلم بكلام ظاهر في إرادته لمعنى ولا ينصب قرينة متصلة على مرامه، فيكون سبب استبعاد القرينة المنفصلة هو ظهور الكلام في المرام التصديقي نفسه. وهذا معناه الرجوع إلى أصالة الظهور ابتداءً؛ فهو موضوع الحجية عند عدم وصول القرينة المنفصلة فلا حاجة إلى أصل آخر طولي سابق.

وأما الوجه الثالث الذي اختاره السيد الصدر قدس سره والذي يبتني على أن موضوع الحجية مركب من جزئين: الظهور التصديقي الكاشف عن المراد، وعدم العلم بالقرينة المنفصلة وأما القرينة المتصلة فإنّ عدمها مأخوذ في الجزء الأول لأنها تهدم الظهور التصديقي كما هو واضح؛ فقد عرفت أنّ حجية الظهور يكفي فيها الظهور التصديقي من دون حاجة إلى شئ آخر. نعم؛ يكون قيام القرينة سواء كانت متصلة أم منفصلة مانعاً عن انعقاده.

ص: 457

ولكن الحق الذي ينبغي أن يقال: إنه لا حاجة إلى ما ذكروه أبداً بعدما عرفت من أنّ أصالة الظهور من الأصول النظامية العقلائية فلا حاجة إلى قيام أصل آخر طولي أسبق، أو الكلام في أنّ موضوعه الظهور التصديقي أو التصوري. نعم؛ قيام القرينة مطلقاً يكون مانعاً من انعقاده إلا مع تلك القرينة؛ فإنه تارةً؛ يحصل الظهور من نفس الكلام الصادر من المتكلم، وأخرى؛ من مجموع القرينة وذيها، فإنّ الظهور ينعقد بسماع الكلام وإلقائه إلى المخاطب، ولكنه إذا احتمل القرينة يحتاج إلى فحص، وعند عدمه يكون حجة ومع العثور يتم الظهور بجزئي الكلام، ويكفي في نفي القرينة الرجوع إلى أصالة عدمها الذي هو أصل نظامي محاوري يميز كيفية الأصول المحاورية بين أصالة الحقيقية وهي أصول محاورية لا موضوعية لها، بل هي طرق لإثبات الظهور. وما ذكروه تطويل لا طائل تحته.

ثم إنّ الحالات بالنسبة إلى القرينة هي:

1- أن يعلم بعدم القرينة مطلقاً، وفي هذه الحالة لا إشكال في الرجوع إلى أصالة الظهور ابتداءً.

2- الشك في وجود القرينة المنفصلة مع العلم بعدم المتصلة، وفيها يرجع إلى أصالة الظهور ابتداءً لتحقق موضعها وجداناً.

3- الشك في وجود القرينة المتصلة، وفي هذه الحالة إن كان منشأ الشك عند المخاطبين غفلة المتكلم عن نصب القرينة؛ وفي هذه الصورة يرجع إلى أصالة عدم القرينة التي من صغريات أصالة عدم الغفلة فيتم الظهور حينئذٍ.

4- نفس الحالة السابقة ولكن احتمال القرينة كان ناشئاً من غير ناحية الغفلة كما إذا لم يكن الخطاب بالمشافهة، بل وصل الخطاب ضمن رسالة أو كتاب قد قطع قسماً منه واحتملنا وجود قرينة في المقدار المقطوع منها. وفي مثل هذه الحالة قيل أنه لا

ص: 458

تجري أصالة الظهور ولا أصالة عدم القرينة بلا فرق في ذلك بين أن يكون الإحتمال المزبور من قرينة الموجود أو يكون من أصل وجود القرينة.

ولكن بناءً على قول المحقق الإصفهاني قدس سره من أنّ موضوع أصالة الظهور هو الدلالة التصورية، وعلى ما اخترناه من كون أصالة الظهور من الأصول المحاورية المهمة فإنه في هذه الحالة تجري أصالة الظهور أيضاً ببركة أصالة عدم القرينة، لا يجري الأصل فيما اذا علم بوجود القرينة فقط. ولعلّ من أجل ذلك عمل الأصحاب بالظهورات في الفقه مع إحتمال وجود قرائن متصلة مع الروايات الصادرة عن المعصومين علیهم السلام ، ولا نحتاج إلى جواب آخر كما ذكره السيد الصدر قدس سره مع أنه لا يخلو عن مناقشة فراجع.

البحث الثاني: في النسبة بين أصالة الظهور وسائر الأصول اللفظية.

من المعلوم إنّ الأصول المحاورية اللفظية كثيرة كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق وعدم القرينة وأصالة عدم التقدير وأصالة عدم الإستخدام وأصالة عدم الحذف ونحو ذلك. ولا ريب في أنّ غير أصالة عدم القرينة من مصاديق أصالة الظهور وإن اختلف الأصوليون فيها من ناحيتين:

الأولى: في أنّ هذه الأصول اللفظية هل تكون عدمية أو أنها وجودية، وهذا النزاع يرتفع إذا قلنا بأنها ترجع إلى أصالة الظهور ومن مصاديقها. وقد تقدم الكلام عنها في مباحث الألفاظ.

الثانية: في أنّ أصالة عدم القرينة هل هي بمثابة الأصل الموضوعي لأصالة الظهور كما تقدم بيانه في البحث السابق أو أنها من مصاديق أصالة الظهور أيضاً كسائر الأصول اللفظية المحاورية؟.

ص: 459

فقد يستفاد من كلمات المحقق الأنصاري والمحقق الخراساني(1) (قدس سراهما) القول بالتوحيد بين هذين الأصلين؛ بين أصالة الظهور والعموم والإطلاق وأصالة عدم القرينة واصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد وإن كان أحد الأصلين سلبياً والآخر إيجابياً, وقد استدل المحقق الخراساني عليه بأنّ العقلاء يعلمون بالظهور سواء قطعوا بعدم القرينة المتصلة أم احتملوها ولو من باب الغفلة، كما أنّ الوجدان العقلائي شاهد على أنّ المرجع لهم في الحالتين أمر واحد لا أن يكون لكل واحد منهما نكتة تختلف عن النكتة في الأخرى، فيستفاد من ذلك أنّ أصالة عدم القرينة في حالة الشك هو الظهور أيضاً لا غير.

وأشكل عليه بأنّ ما ذكره في إثبات وحدة الأصلين غير تام؛ لأنّ وجدانية وحدة النكتة في الموردين لا يقتضي أكثر من الإحتياج إلى أصالة الظهور في الحالتين, وهذا لا ينافي أن نحتاج في حالة الشك إلى أصالة عدم القرينة في الرتبة السابقة كما ذكرنا سابقاً، وإلا فيكون التمسك بالظهور تمسكاً بالأصل في الشبهة المصداقية وفي موضوعه، وهو خلاف طريقة العقلاء.

نعم، إن كان مراده من ذلك عدم كفاية أصالة عدم القرينة وحدها، بل لا بُدَّ من أصالة الظهور فهذا لا يحتاج إلى الوجدان المذكور، بل لا بُدَّ من الإستدلال عليه بأمر آخر غير الوجدان.

وذكر المحقق العراقي قدس سره (2) في توجيه كلام الشيخ الأنصاري قدس سره الذي ذهب إلى الإتحاد بين الأصلين وإرجاع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة مع الإختلاف بينهما في

ص: 460


1- . درر الفوائد في الحاشية على الفرائد؛ ص42-43.
2- . مقالات الأصول؛ ج2 ص20.

الإيجاب والسلب من دون أن يذكر برهاناً عليه؛ ذكر المحقق العراقي في البرهان عليه بمسألة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من أنه بناءً على قبحه فإنه لا محالة يستكشف في كل مورد ثبت فيه عدم إرادة الظهور، فإنه كان لأجل قرينة كي لا يلزم القبح المذكور، وعليه يكون احتمال إرادة خلاف الظاهر مساوقاً دائماً لاحتمال القرينة؛ فإذا نفينا هذا الإحتمال بأصالة عدم القرينة ثبتت إرادة الظهور، وإلا لزم القبح وهو محال بلا حاجة إلى أصالة الظهور.

وأورد عليه بان ربط المقام بقاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة غير صحيح؛ لأنّ تطبيق هذه القاعدة فرع تحقق الظهور في الدليل وحجيته وإلا فلو كان الخطاب مجملاً وليس بحجة فأي قبح في تأخير البيان، وحينئذٍ يكون شأنه شأن عدم الخطاب.ومن أجل ذلك ذهب جملة من الأصوليين إلى أنّ إثبات إرادة الظهور بأصالة عدم القرينة فرعُ حجية الظهور في المرتبة السابقة حتى بناءً على مسلك قبح تأخير البيان.

ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الكبرى مسلّمة، وإنما الكلام في الصغريات وفي مورد أمثال القرينة.

والصحيح أن يقال: إنّ الظاهر من كلماتهم أنّ كل واحد من الأصلين المزبورين أو الأصول اللفظية هو أصل مستقل برأسه وفي مقابل الآخر, ويتمسك به في المحاورات مع الغفلة عن غيره، فلا وجه لإرجاع أحدهما إلى الآخر, كما عن الشيخ قدس سره وغيره. ولكن ليس لهذه الأصول المحاورية موضوعية بوجهٍ، وإنما هي طريق لإثبات الظهور فلا وجه للنزاع حينئذٍ، مع أنه لا ثمرة عملية فيه لأنّ المدار كله على الظهور فقط سواء رجع أحدهما إلى الآخر أم لا.

ص: 461

ويصحّ أن يكون كل واحد منها مِمّا يعتمد عليه العقلاء في الإستناد الظهوري إذا كانت لظهور لفظ في معنى قرائن متعددة فيعتمد على الجميع، وإن كان البعض كافياً فالظاهر حجة ولو لم يكن حقيقة, وما ليس بظاهر لا اعتبار به ولو كان حقيقة.

البحث الثالث: التفصيلات في حجية الظهور.

اشارة

قد ذكر الأصوليون تفصيلات في الحجية وهي على أقوال:

القول الأول: التفصيل بين المقصودين بالإفهام، فيكون الظهور حجة لهم دون غيرهم. واستدلوا عليه تارةً؛ بأنّ السيرة العقلائية قاصرة عن شمول من لم يكن مقصوداً بالإفهام فإنه لم يعلم انعقادها على العمل بالظواهر ولو لم يكونوا مقصودين بالإفهام. وأخرى بأنّ من قصد إفهامه لا منشأ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إليه إلا إخفاء القرينة عليه، وهو منفي بأصالة عدم القرينة كما عرفت؛ فإنه لو لم تكن قرينة ومع ذلك أراد خلاف الظاهر في حقه كان خلف كونه مقصوداً بالإفهام، وأما غير المقصود بالإفهام فيحتمل إرادة خلاف الظاهر من غير ناحية الإخفاء عليه لوجود أسباب عديدة للإخفاء كالتواطؤ بين المتكلم وبين من قصد إفهامه، أو هناك إشارة معينة بينه وبينهم وغير ذلك، فتكون قرينة لا يفهمها غيرهم لعدم كونهم مقصودين بالإفهام. وعليه فمثل الأخبار الصادرة عن أهل البيت علیهم السلام لا يكون ظاهرها حجة بالنسبة إلينا من باب الظن الخاص.

وقد أجيب عن ذلك بأجوبة متعددة منها:

1- إنّ أصالة عدم الغفلة من الأصول العقلائية النظامية، وهو غير مخصوص بالمقصود بالإفهام، بل هو مطلق بحسب مقتضى الحجية.

2- إنّ التفصيل المزبور إن كان يرجع إلى الفرق بين كون منشأ احتمال خلاف الظاهر هو احتمال الغفلة أو احتمال خفاء القرينة التي نصبها المتكلم فإنّ هذا التفصيل لا يكون

ص: 462

صالحاً للتفصيل بين من قصد إفهامه وغيره، بل لو تمّ فإنه يمكن أن يكون تفصيلاً بين المشافهين وغيره، وإلا فإنّ جميع من حضر مجلس الخطاب وغيرهم حتى المعدومين يكونون مقصودين بالإفهام بنفس قول الإمام علیه السلام بنقل السائل من الإمام علیه السلام ، وتناقل رواة الأحاديث إلينا أقوال الأئمة الهداة علیهم السلام .

3- ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنّ بناء العقلاء على حجية الظاهر مطلقاً حتى بالنسبة إلى من قصد عدم إفهامه فضلاً عمن لم يقصد إفهامه. ويشهد لذلك صحة التمسك بظاهر الإعتراف والإقرار لمن قصد عدم إفهامه لو فرض أنه فهمه بطريق من الطرق وصحة ترتب الآثار عليه.

وأشكل عليه بالفرق بين مقام الإقرار وغيره، فلا يكون التمسك بالظواهر في موارد الإقرار والإعتراف منافياً لعدم حجية الظواهر في سائر الموارد التي يحتمل فيها احتمال وجود القرينة الخفية بين المتكلم ومن قصد إفهامه، وهذا الإحتمال لا يمكن دفعه.

ولكن هذا الإشكال غير سديد؛ إذ أنّ هذا الإحتمال الذي يكون في غير مورد الإقرار يجري فيه، بل الدواعي فيه أكثر كما هو واضح.

4- ما ذكره السيد الصدر قدس سره (2) في كلام طويل وملخصه: إنّ احتمال إرادة خلاف الظاهر يكون له مناشئ متعددة:

الأول: إحتمال أن لا يكون المتكلم في مقام البيان أصلاً، بل في مقام الإهمال والإجمال، فهو فلم ينصب قرينة، فيحتمل إرادته لخلاف الظاهر لكونه في مقام التمويه على سامعيه، وهذا الإحتمال وارد في حق المخاطبين وغيره إلا أنّ المقصودين بالإفهام لا يرد في حقهم

ص: 463


1- . كفاية الأصول؛ ص281.
2- . بحوث في عم الأصول؛ ج4 ص274 وما بعدها.

ذلك لأنه خلاف كونه المقصود، والنافي لهذا الإحتمال في حق غير المقصود بالإفهام أصالةً كون المتكلم في مقام البيان، وهو أصل عقلائي منشؤه الظهور الحالي السياقي ونسبته إلى المخاطب وغيره على حدّ سواء.

الثاني: إحتمال أن يكون مريداً خلاف الظاهر وقد نصب قرينة منفصلة عليه، وهذا الإحتمال أيضاً غير وارد على من قصد إفهامه بشخص ذلك الكلام لأنه خلف كما عرفت. ولكنه ينفى في حق غيره أيضاً بظهور حالي سياقي للمتكلم في أنه في مقام بيان تمام شخص كلامه، وهذا هو الظهور الذي يجعل الإعتماد على القرائن المنفصلة أمراً على الطبع العقلائي.

وهذا أيضاً لا يختلف الحال فيه بين المخاطب وغيره.الثالث: أن يكون قد أراد خلاف الظاهر ونصب عليه قرينة متصلة غفل عنها، وهذا الإحتمال وارد حتى بالنسبة إلى من قصد إفهامه، والنافي له هو أصالة عدم الغفلة لكل الحاضرين في مجلس الخطاب.

الرابع: أن يكون قد أراد خلاف الظاهر بالإعتماد على طريقة مخصوصة في المحاورة بينه وبين مخاطبيه أو المقصود بالإفهام, وهذا الإحتمال أيضاً منفي بظهور حالي سيأقي وهو ظهور حال المتكلم على أنه يجري وفق الطرق المحاورية العرفية عندما يتكلم بتلك اللغة ما لم يكن هناك قرينة تدل على خلاف تلك الطرق العرفية.

الخامس: إحتمال وجود قرينة متصلة لم تصل إلينا من جهة ضياعها، وهذا الإحتمال لا يمكن نفيه بالتمسك بالظهور سواءً في ذلك المقصود بالإفهام أو غيره.

وكيف كان؛ فإنّ هذا القول باطل فلا فرق بين المقصود بالإفهام وغيره لتمامية حجية الظهور في حق الجميع كبرى وصغرى.

ص: 464

القول الثاني: التفصيل بين ظواهر الكتاب العزيز وغيره من النصوص الشرعية، وهو المنسوب إلى بعض الإخباريين وقد اختلفوا في بيان ذلك؛ فبعضهم ذكر إنّ الخروج عن حجية الظهور تخصيصي بعد الإعتراف بانعقاد الظهور في الآيات القرآنية، بينما ادعى آخرون أنّ الخروج عنها تخصصي من جهة إنكار انعقاد الظهور في تلك الآيات لنكات خاصة. ولا ريب أنّ الإحتمال الثاني ليس تفصيلاً في حجية الظهور، فالكلام يقع في الإحتمال الأول، وقد ذكروا له وجوهاً عديدة:

الوجه الأول: ما ورد من اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به وهم المعصومون علیهم السلام فلا يفهمه غيرهم.

وأورد عليه بعدة إيرادات:

الإيراد الأول: إنّ هذه الأخبار معارضة بالآيات الكريمة التي تدل على الترغيب في التدبر في القرآن والتفكر فيه، وبالأخبار الكثيرة المتواترة بمضامين مختلفة التي تحكي قول المعصوم علیه السلام وفعله وتقريره، وتدل على التمسك بالقرآن والإحتجاج به على الخصماء ومعرفة الأحكام وعرض الأخبار المتعارضة عليه وغير ذلك مِمّا يستفاد من هذه الطائفة على مرجعية القرآن للمسلمين وإحالتهم إليه والإعتماد عليه في اقتناص المعاني، فهي تدل دلالة قطعية على أنّ حجية ظواهره كانت من المسلمات لدى الشرع الأقدس فنستفيد منها القطع ببطلان مفاد تلك الطائفة إذا لم تقبل التأويل.

الإيراد الثاني: إنّ هذه الطائفة على فرض صحة صدورها يكون المراد بمن خوطب به أهل الحق ومطلق من يريد اتباعه، في مقابل من اتبع الهوى فتكون هذه الأخبار نظير قوله تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)(1).

ص: 465


1- . سورة البقرة؛ الآية 2.

الإيراد الثالث: أن يكون المراد بها ما يختص بالمعصومين علیهم السلام من القرآن كالبطون السبعة أو السبعون التي تقصر العقول عن دركها مِمّا لا بُدَّ فيه من تأييد إلهي وإفاضة ربانية, لأنّ القرآن كمظهر للوح المحفوظ وأم الكتاب والكتاب المبين الذي قال تعالى فيه: ( وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(1), ولا ريب أنّ الإحاطة بالقرآن من حيث كونه مظهراً لأم الكتاب يختص بالنفوس القدسية التي ترتبط بالمبدأ الغيبي، وليس ذلك من شأن كل أحد مهما بلغ من العلم، فلا يكون المراد بها الظواهر التي يشترك في فهمها العالم وغيره مثل قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(2).

وغيرها من الآيات الكريمة.

الإيراد الرابع: أن يكون المراد بها التمسك بها بعد المراجعة إلى السنن المعصومية الواردة في بيانه وتفسيره, فحينئذٍ أخذنا بالظاهر عمن خوطب به.

الإيراد الخامس: الإشكال عليها بضعف أسانيدها، ولعلها دُسَّت من تلك الطائفة من الناس المعاصرين للأئمة علیهم السلام الذين حاولوا صرف الأنظار عن القرآن الكريم وتحويل النظر من ظاهر الشريعة إلى باطنها. وإن كان الإتجاه السائد عند أصحاب الأئمة علیهم السلام هو ظاهر الشريعة والذي ينتقل منه إلى باطنها عكس الاتجاه الآخر.

الوجه الثاني: التمسك بالروايات التي تدل على عدم جواز الإستقلال بتفسير القرآن والإستغناء عن الأئمة الأطهار علیهم السلام في التوصل إلى واقع المراد من الآيات القرآنية كما كان عليه المخالفون.

ص: 466


1- . سورة الأنعام؛ الآية 59.
2- . سورة البقرة؛ الآية 183.

ولا إشكال في ثبوت مفاد هذه الطائفة؛ فإنّ القرآن أحد الثقلين، وظهوراته لا تكون حجة إلا بعد الرجوع إلى الثقل الآخر والفحص عن المخصص والمفسر، ولكن هذا المطلب أجنبي عما نحن فيه وهو حجية ظواهر القرآن بعد الفحص عن تفسيره والمخصص.

الوجه الثالث: الأخبار التي تنهى عن التفسير بالرأي وأنّ الأخذ بظواهر القرآن من التفسير المنهي عنه الذي من فعله كفر أو هوى.ولكن التمسك بهذه الطائفة يتوقف على أن يكون الأخذ بظاهر القرآن من التفسير بالرأي، والثابت أنه ليس كذلك إذ التفسير شئ وهو كشف القناع وإزالة الستر، والظاهر ليس مستوراً, ولو فرض إنه من التفسير ولكنه ليس من التفسير بالرأي لأنه مِمّا يفهمه الناس نوعاً بحسب القواعد المعتبرة المرعية.

الوجه الرابع: إنّ الظواهر القرآنية من المتشابه التي نهت الآيات القرآنية والروايات عن اتباعه؛ باعتبار أنّ المتشابه هو ما يحتمل معينين متشابهين من حيث صلاحية اللفظ لإرادة كل واحد منهما، فيشمل الظاهر والمجمل وإن كان أحدهما أقرب والآخر أبعد.

وفيه: إنّ إطلاق المتشابه على الظاهر والأظهر والنص غير صحيح؛ لا عرفاً ولا لغة ولا شرعاً؛ فإنّ جميع تلك العناوين من الأمور العرفية الدائرة في المحاورات فلا يطلق أحدها على الآخر، ومجرد احتمال وجهين متشابهين في لفظ لا يصدق عليه عند العرف إنه متشابه ما لم يتساويا على الإطلاق بحيث لا يكون أحدهما أقرب وإلا خرج عن عنوان المتشابه، مع أنّ حجية الظاهر من المسلمات لدى المتشرعين في جميع الطبقات وليس المتشابه كذلك.

هذا إذا كان في القرآن متشابه، ولكن المفروض أنه لم يبق متشابه فيه بعد ورود البيان من الشرع ورفع الغموض عن متشابهات القرآن، إلا أن يكون مراد الإخباريين هو عدم حجية ظواهر القرآن قبل الفحص عن المعارض والمنافي وهذا مسلّم عند الجميع، وأما بعد الفحص واليأس عن الظفر عنهما فلا يبقى تشابه حينئذٍ فيكون حجة.

ص: 467

وقد أجيب عن هذا الإشكال بوجوه أخرى أيضاً أهمها ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) وأطال الكلام في ذلك ولا بأس بإيراده لعدم خلوّه عن الفائدة؛ قال قدس سره : إنّ هذا الوجه مِمّا يستلزم من وجوده عدمه، وهو محال؛ فإنّ شمول النهي في الآية الشريفة عن المتشابه للظواهر القرآنية مستحيل، لأنه مبني على ظهور حكمة المتشابه في شمول الظاهر والمجمل معاً من دون أن يكون صريحاً في ذلك، فتكون هذه الآية بنفسها من الظواهر القرآنية؛ فلو دلت على النهي عن العمل بها فإنه يتساوق مع عدم حجيتها ويلزم من ذلك عدم حجية نفسها فتكون حجيتها مستلزمة لعدم حجية نفسها، وهو محال.

وقد يقال في الجواب عن ذلك بأنّ الآية لا تشمل نفسها لقرينتين؛ إما من أجل القرينة الفعلية وهي لزوم المحال المزبور فلا تشمل نفسها، وإما من أجل القرينة العرفية لأنّ الآية قضية خارجية وليست حقيقية لأنها ناظرة إلى القرآن الكريم وما فيه من المتشابهات والمحكمات، وهي قضايا خارجية، فيكون نظر الآية الناهية إلى غيرها من الآيات النازلة خارجاً فلا إطلاق لها في نفسها حتى يلزم من حجيته عدم حجيتها، فإنه يقال في رده بأنّ الآية وإن كانت لا تشمل إحدىالقرينتين إلا أننا نعلم بعدم الفرق في ملاك عدم الحجية بين سائر الظهورات القرآنية وشخص هذا الظهور؛ فإذا أثبت عدم حجية غيرها يلزم عدم حجية نفسها فيعود الإشكال.

ولكن هذا الجواب والإشكال مبني على الوقوع الخارجي حتى يلزم من وجوده عدمه، ولذلك يحاول في الإشكال المنع عن وقوعه مع أن المحذور في نفس استلزام الشئ لعدم نفسه كقضية واقعية ثابتة في لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الوجود، وليس المحذور بلحاظ عالم الوجود والوقوع الخارجي فإنّ عالم الإستلزامات والملازمات عالم واقعي وليس خيالياً، وثبوت الإستلزام المذكور في نفسه محال.

ص: 468


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص276 وما بعدها.

وحينئذٍ؛ إذا أردنا الجواب عن المحذور لا بُدَّ من إبطال نفس الإستلزام حتى يكون سيالاً في جميع الموارد التي يرد فيها هذا المحذور فيها، وسيأتي في بحث حجية خبر الواحد من جريان هذا الإشكال على دعوى الإجماع على عدم حجية الخبر الواحد، فإنهم استشكلوا عليه بهذا الإشكال، وأجيب عنه بمثل الجواب في المقام من عدم شموله لنفسه، وكذا في المثال المعروف على الألسنة من أنه لو قال أحد: أنّ كل ما أقوله هذا اليوم هو كذب، فهل يشمل ذلك القول نفسه؛ فإن كان كاذباً لزم منه صدقه، وإن كان صادقاً لزم منه كذبه. وهذه الشبهة قد أثيرت في المنطق لنقض مبدأ عدم التناقض، وفي مثله لا معنى لقبول الإستلزام ونفي الوقوع.

ويظهر من العلماء التحيّر في الجواب عنه؛ ففي موردٍ يجيبون عنه بما ذكرناه، وفي مورد آخر يقرّون به.

ولكن الصحيح في الجواب هو إبطال أصل الإستلزام المذكور، وهو يقع في أحد وجهين:

الوجه الأول: إنّ شبهة التناقض في القضية المعروفة في الكتب المنطقية من أنه لو قال إغريقي أنّ كل خبر إغريقي كاذب فإنه لو كان كاذباً لزم منه صدقه بعد فرض كذب سائر أخبار الإغريق، وإن كان صادقاً لزم منه كذبه لأنه بنفسه خبر إغريقي وهو صادق فلم يكن كل خبر إغريقي كذباً؛ فإنّ السالبة الجزئية نقيض الموجبة الكلية فيلزم من صدقه كذبه، ومن كذبه صدقه، وذلك أنّ هذه القضية الخبرية تنحلّ إلى قضايا لا نهاية لها وأنّ كل قضية تقع بنفسها مصداقاً وموضوعاً لقضية أخرى تنطبق عليها. ولا إشكال في كون هذا الموضوع من التسلسل لأنه إنما يكون محالاً في جانب العلل لا المعلولات في عالم الوجود فضلاً عن عالم الواقع وصدق النسب والقضايا التصديقية. وعليه؛ فإنّ كلَّ واحدة من تلك القضايا هي قضية خبرية تقع بنفسها مصداقاً وموضوعاً لقضية أخرى

ص: 469

تنطبق عليها، ولو دققنا في هذه السلسلة اللانهائية من القضايا نجد أنّ صدق كل واحد منها يلزم منه كذب طرفيها؛ ما قبلها، وما بعدها لأنّ المحمول في كل قضية هو الكذب؛ فإذا كانت صادقة كان محكيها كذباً لا محالة، وكذا الحاكي عنها تكونكذباً أيضاً لأنها تحكي كذبها، والمفروض صدقها، ويلزم من كذب كل واحدة صدق طرفيها لأنها تحكي كذب القضية السابقة عليها؛ فإذا كانت كاذبة في هذه الحكاية كان ما قبلها صادقة، وإلا لم تكن بكاذبة. وهكذا فالخبر الإغريقي الأول إذا كان كاذباً كان نفس هذا الإخبار عن كذبه صادقاً لا محالة، فإذا كان هذا الإخبار بنفسه موضوعاً لقضية أخرى تحليلية مستفادة من كون القضية حقيقية لا خارجية فهناك إخبار آخر عن كذبها ويكون بنفسه مصداقاً أيضاً لقضية أخرى تحليلية، فهناك إخبار آخر عن كذبها وهو إخبار صادق. وهكذا تكون هذه القضايا التحليلية متسلسلة في الكذب والصدق من دون اجتماعهما على مركز واحد وقضية واحدة فلا يستلزم اجتماع النقيضين.

وهناك شبهة تناقض آخر أثارها الفيلسوف الإنگليزي المادي (رسل)، وعلى أساسه بنى منطقاً جديداً وهو المنطق الرمزي الرياضي، وهي: إنّ قضية الكلي الذي لا يصدق على نفسه هل يصدق على نفسه أو لا؟.

فإن قلنا بالصدق يلزم منه أن لا يصدق على نفسه لأنّ المحمول فيه ذلك، وإن قلنا بالصدق يلزم منه أن لا يصدق على نفسه لأنّ المحمول فيه ذلك، وإن قلنا لا يصدق على نفسه لزم أن يكون صادقاً على نفسه لأنّ انطباق عدم الصدق على واقعه ضروري فيكون واجداً لمحمول نفسه وهو معنى الصدق.

والجواب عنه: إنّ قيد (لا يصدق على نفسه) من القيود الثانوية وليست من الأولية، بمعنى أنه لا بُدَّ من افتراض عنوان كلي في المرتبة السابقة على نفس عنوان الصدق وعدمه حتى يلحظ فيه الصدق وعدمه. والتفصيل محرّر في الكتب الفلسفية.

ص: 470

الوجه الثاني: وهو هل إنّ الإشكال المزبور وهو حجية الآية التي تدل على النهي عن اتباع المتشابه يستلزم عدم حجيتها؟ والصحيح عدم الإستلزام؛ لأنّ ما يلزم من حجية هذه الدلالة هو التعبد بمفادها لا ثبوت مفادها حقيقة، فإنّ الحجة قد تخطئ وقد تصيب، وهذا يعني أنّ لازم حجيتها هو ثبوت عدم حجية الدلالة التي قبلها، وبالملازمة عدم حجية نفسها تعبداً لا حقيقة، فاختلف المتوقف والمتوقف عليه فلا يلزم من حجيتها عدم حجيتها، بل من حجيتها واقعاً التعبد بعدم حجيتها ظاهراً. وهذا ليس بمحال وإن كان لغواً إذ لا معنى لجعل حجية تستلزم نفيها ظاهراً فإنه يستحيل أن تصل مثل هذه الحجية.

والحق؛ أنّ هذه المباحث فروض علمية بعيدة عن الذوق العرفي الأصولي الذي يبتني عليه هذا العلم, وإنما أقحمها العلماء في الأصول فجردوها عن واقعها التطبيقي في الفقه. والصحيح؛ ما ذكرناه في الجواب من عدم صدق المتشابه على الظاهر لا لغةً ولا عرفاً ولا شرعاً.

ثم إنهم تطّرقوا في المقام إلى معنى المتشابه والمحكم والتأويل، ولكن موضوعها التفسير فراجع كتاب مواهب الرحمن.وذكر السيد الصدر قدس سره جواباً عن هذا الدليل سماه الجواب الجدلي وافترض فيه بأنّ الداعي عند الإخباريين على إلغائهم حجية الظواهر القرآنية هو فتح الباب لمصراعيه لتقبّل الروايات المنقولة عنهم علیهم السلام في تفسيرها وتأويلها بقطع النظر عن أسانيدها وعن تحكيم القرآن عليها, واستشهد برواية ضعيفة في تفسير الآية الكريمة في المتشابه، واعتبرها مخالفة للكتاب وضعيفة السند ولا يكفي مجرد نقلها في الكتب الأربعة في قبولها. وذكر أنه لا يمكن قبول كل ما ورد في الكتب الأربعة.

ص: 471

ويرد عليه:

أولاً: إنّ مجرد احتمال أن يكون الداعي عند الإخباريين في إلغاء حجية ظواهر القرآن هو فتح الباب لتقبل الروايات المنقولة عن الأئمة الهداة علیهم السلام مطلقاً غير صحيح، فإنّ استدلالاتهم تدل على خلاف ذلك، فإنّ كان بإمكانهم الإفصاح عن ذلك ليجعلوه دليلاً على ما يريدونه، والمفروض عدم صدوره منهم في المقام.

ثانياً: أنّ الإخباريين لم يكونوا على وتيرة واحدة في قبول الروايات مطلقاً فإنهم أيضاً يرفضون الرواية الضعيفة ويثبتون في كتبهم أسماء الرواة الضعاف ويرفضون رواياتهم كسائر الأصوليين والعلماء. نعم؛ توجد عندهم أسباب عديدة لتوثيق الروايات ربما لا تكون مقبولة عند غيرهم، وهي مسألة إجتهادية كما هو واضح.

ثالثاً: إنّ مسألة قبول روايات الكتب الأربعة مورد الخلاف بين الأعلام فإنّ بعض الأصوليين يذهب إلى قبول روايات الكافي مطلقاً، وآخر يذهب إلى قبول روايات الكتب الأربعة، وثالث إلى القبول بعد توفر شروطه. فلم يكن ذلك مقتصراً على الإخباريين ولكل واحد من هؤلاء الدليل والبرهان في إثبات ما يذهب إليه, كما هو مفصل في الكتب المعدّة لذلك.

رابعاً: لا ريب أنّ الروايات الواردة في الكافي وغيره من الكتب المعدّة لنقل الأخبار مختلفة من حيث العنوان والدلالة؛ فإنّ بعضها تكون واضحة فيهما، وبعضها لم تكن بذلك الوضوح، وبعضها مجمل، وبعضها مبّين؛ فإنّ ما يجري في القرآن الكريم من وجوه الدلالة وأقسامها يجري في الروايات كما نطقت به الأخبار، كما إنه قد ورد عن الأئمة الهداة علیهم السلام كيفية العمل بأخبارهم الواصلة إلى شيعتهم وطريقة تعاملهم معها، فيجب العمل بها إذا توفرت شروط القبول من صحة السند ووضوح الدلالة وعدم مخالفتها مع

ص: 472

القرآن والثوابت عند الأمامية, وتُردُّ إذا لم تكن فيها تلك الشروط ويُتوقف فيها إذا صعب فهمها، ولم تكن مخالفة للقرآن الكريم والثوابت. وأن لا ترد الرواية بمجرد عدم فهمها فإنه يكون من الردّ عليهم, والردّ عليهم كالردّ على الله ورسوله.

هذا إذا لم يمكن تأويلها على الوجه الصحيح المقبول وإلا فالتوقف، كما أنّ جميع ذلك في غير روايات الأحكام، وإلا فإنّ لها شأناً خاصاً بها.

ختام فيه أمور
الأمر الأول:

قد عرفت أنّ التفسير بالرأي لا يصدق على العمل بالظاهر القرآني، وذكرنا أنّ المراد من الأول هو الإجتهاد الشخصي غير المستند إلى القواعد المرعية المتعارفة في استخراج المقصود والمراد، فلا يصدق على الظاهر كما هو واضح.

وقد ذكروا في التفسير بالرأي مضافاً إلى ذلك وجهين آخرين:

أحدهما: إعمال الجانب الذاتي في التفسير مقابل الجانب الموضوعي، أي تحكيم موقف مسبق على النص القرآني وتأويله بما ينسجم مع ما هو المرغوب للمفسر والموافق مع رأيه, كما هو المشاهد في بعض المذاهب والإتجاهات حيث يحاول أصحابها الإستدلال بالآيات القرآنية على مذهبه ورأيه, فيكون استغلالاً للقرآن في الواقع ولكن بصورة الإستدلال، فيكون المراد التفسير بما يرغبه الإنسان وما يوافق مصلحته لا ما يقتضيه الموضوع في نفسه.

ولا ريب أنه من أشنع الأعمال، وهو المعبّر عنه بالكفر والهوى فإنه من تحريف الحقائق والدلائل ويرجع إلى عدم الإيمان بالقرآن الكريم من حيث كونه مرجعاً، وهذا يختلف عن الإجتهاد الشخصي الذي يستند إلى القواعد المتعارضة، ويرجع إلى التفسير الموضوعي على أساس البرهان والدلائل اللفظية. وهذا النوع من التفسير بالرأي هو

ص: 473

الظاهر من أصحاب الجدل والأهواء والفرق المختلفة التي ظهرت في الإسلام بعد عصر الرسول صلی الله علیه و آله و سلم .

والآخر: أن يكون المراد بالرأي تلك المدرسة الفقهية التي عاصرت الإمامين الهمامين الصادقين علیهما السلام , وهو العمل بالتخمينات والظنون الناشئة منها كالقياس والإستحسان والإستصلاح ونحو ذلك المسمى بمدرسة الرأي مقابل مدرسة الحديث.

والظاهر أنّ التفسير بالرأي يشمل جميع ذلك مقابل التفسير المستند إلى القواعد العرفية المرعية في المحاورات، وما ورد في تفسير الآيات من نصوص المعصومين علیهم السلام الذين هم عدل القرآن كما هو محقق في محله.

الأمر الثاني:

عرفت أنّ هناك طائفة من الروايات التي تنهي عن تفسير القرآن بالرأي، وأنّ من فعله فقد كفر أو هوى، وقد تقدم أنها لا تشمل العمل بظاهر القرآن لأنّ التفسير بالرأي لا يشمل الظواهر، وذكرنا المراد من التفسير بالرأي.يضاف إلى ذلك أنّ هذه الطائفة من الروايات يعارضها جملة أخرى من الأخبار، نذكر منها:

1- ما دل على وجوب التمسك بالقرآن الكريم لا سيما خبر الثقلين المعروف عند الفريقين فهي تدل إما بالإطلاق اللفظي إذا أريد من الكتاب اللفظ الدال على المعنى أو الإطلاق المقامي إذا أريد به المعنى على حجية دلالاته فتكون معارضة مع تلك السابقة لو تمت. والترجيح مع هذه الأخبار كما هو واضح، وعلى فرض التعارض والتساقط يكون المرجع هو استصحاب حجية الظواهر الثابتة يقيناً قبل نزول القرآن.

ص: 474

2- ما دلّ على عرض الشرط مطلقاً في المعاملات وغيرها على كتاب الله تعالى؛ فما وافقه فإنه يؤخذ به الشامل بالإطلاق المزبور للظواهر القرآنية بالبيان الذي ذكرناه آنفاً.

3- ما دلّ على عرض نفس الروايات الصادرة عنهم علیهم السلام على الكتاب العزيز، ولا ريب في دلالته على مرجعيته مستقلاً فتكون ظهوراته حجة مستقلة، ولا اختصاص له بالنصوص الصريحة القرآنية.

4- ما دلّ على استشهاد الإمام علیه السلام بالآيات الكريمة، ولا ريب أنه أخص من عمومات النهي عن التفسير بالرأي فتخصص بها لو تمت دلالتها.

وقد تقدم الجواب عن الإشكال على هذا القسم من أنّ نفس الإستشهاد من الإمام يخرجه عن الظهورات القرآنية.

الأمر الثالث: قد يقال بأنّ الظهور القرآني لا ينعقد للآيات الشريفة لإجمالها؛ إما ذاتاً أو عرضاً من جهة علم إجمالي بالخلاف، وهذا يختلف عن القول بأنه لا حجية للظاهر القرآني بعد فرض تحققه كما عرفت آنفاً. وقد ذكر في توجيه هذا القول بأنّ الآيات الكريمة قد قصد منها أن تكون مجملة لا يتيسر للإنسان العادي فهمها إلا بالرجوع إلى الأئمة المعصومين علیهم السلام ، وهذا هو مناط الإجمال الذاتي لها.

أو أنّ الإجمال نتج من عظمة الكتاب العزيز ودقة مضامينه وعلّو مرتبة صاحبه مِمّا يفوق مستوى أذهان الناس فلا يصل فهم كل فرد إعتيادي إلى ذلك فيتعذر فهمه على غير المعصومين علیه السلام .

ويرد عليه بأنّ ما ذكر خلاف حكمة نزول القرآن الكريم الذي يُعدّ من أعظم الكتب الإلهية في هداية الناس أجمعين وأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور، فإنه لا يتصور أن

ص: 475

يكون هذا الكتاب بهذه المثابة مجملاً لا يفهمه أحد. وكيف يمكن أن يكون معجزة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم إذا لم يكن مفهوماً لأحد, ولا ريب أن من أهم مقاصد القرآن الكريم ربط الأمة بالحجج الإلهية التي منها الكتاب وعدله الأئمةالمعصومين علیهم السلام ، فلا بُدَّ أن يكون حجة، وحجيته لا تكون إلا أن يفهمهما الناس فلا يمكن أن يتصور الإجمال الذاتي فيها فانه خلاف الحكمة والتشريع.

وأما الإجمال العرضي الناشئ من وجود علم إجمالي بعدم إرادة بعض الظواهر القرآنية لمخصص أو قرينة فيقع التعارض والإجمال فيما بينها.

فهو وإن كان صحيحاً في الجملة ولكنه لا يثبت مطلوب الخصم؛ فإنّ هذا النوع من الإجمال موجود في السنة أيضاً ومع ذلك لم تسقط عن الحجية والعلاج، فلا بُدَّ من الفحص التام عن المخصصات والقرائن ومع عدم العثور على شئ منهما يكون الظاهر حجة كما تقدم بيانه في بحث العام والخاص.

وينتج من جميع ذلك حجية الظواهر القرآنية فلا تخرج عن سائر الظواهر في السنة الشريفة وغيرها من المحاورات وإن كان القرآن مِمّا يحتمل فيه البطون ولكنه في غير آيات الأحكام.

القول الثالث(1): حجية قول اللغوي في إثبات المعنى. وقد نسب ذلك إلى المشهور بين المتقدمين من علمائنا، بل نسب دعوى الإجماع عليه إلى السيد المرتضى قدس سره وذهب مشهور المتأخرين من علماء الأصول إلى عدم الحجية والبحث في ذلك يقع في موردين:

الأول: قول اللغوي في إثبات موارد الإستعمال.

الثاني: قوله في تعيين المعنى الحقيقي والمجازي.

ص: 476


1- . من الأقوال في تفصيلات حجية الظهور.

أما المورد الأول؛ فقد استدل على عدم حجيته بما يلي:

أولاً: عدم وجود الثمرة والفائدة العلمية في تعيين موارد الإستعمالات إن لم يثبت بذلك المعنى الحقيقي للفظ, ولا ريب أنّ الحجية فرع وجود الأثر العملي في الشئ.

وفيه: إنّ الأثر العملي موجود لا يمكن إنكاره كما هو واضح، منها إنه إذا شهد اللغويون على تعيين موارد الإستعمال بنحو الحصر بأن شهد على أنه لا يستعمل إلا في هذا المعنى كان دليلاً على المعنى الحقيقي، ومنها رفع الإجمال لو احتمل في اللفظ معان عديدة، ومنها غير ذلك من الثمرات.

ثانياً: إنّ قول اللغوي إنما يكون حجة من باب الشهادة في الموضوعات فلا بُدَّ حينئذٍ من توفر شروط حجية الشهادة من التعدد والعدالة وإلا فلا اعتبار بقوله.

وفيه: إنّا لا نسلّم كون اعتبار أقوال اللغويين من باب الشهادة، بل لأجل كونهم من أجل الخبرة فلا يعتبر فيه التعدد والعدالة، مع أنه لو فرض كونه من باب الشهادة في الموضوعات فإنه يكفي فيه خبر الثقة الواحد.ثالثاً: إنّ الرجوع إلى قول اللغوي من باب كونه أهل الخبرة ويعتبر من الرجوع إلى أهل الخبرة وحجية كلامه عند العقلاء حصول الوثوق والإطمئنان من قوله، وإلا فلا اعتبار به.

وأورد عليه بأنه لا يشترط في أهل الخبرة ذلك فإنّ سيرة العلماء على عدم اشتراط حصول الوثوق والإطمئنان.

ولكن لو كان المراد من أهل الخبرة أهل الحدس والإجتهاد فهو لا يصدق على اللغوي لأنّ عمله لا يكون إلا في المحسوسات فلا يكون مشمولاً لدليل حجية قول أهل الخبرة.

وأشكل على ذلك بأنّ الأمر في اللغوي ليس كذلك؛ إذ قد تكون خبرة اللغوي مبنية على أساس الحدس وإعمال النظر أيضاً فانه وإن كان مصدره اللغة ولكن انتقاله منها إلى كثير من الدقائق اللغوية إنما يكون بالحدس وإعمال النظر فيشمله دليل حجية أهل الخبرة.

ص: 477

ويمكن القول كما سيأتي بيانه في بحث حجية خبر الواحد أنّ الحدس المبني على الحس يمكن قبوله من هذه الجهة وقول اللغوي من هذا القبيل.

والحق؛ إنّ النزاع صغروي بين الأعلام فإنه قد يحصل الإطمئنان العقلائي من كلمات اللغويين فيصح الإعتماد عليه من هذه الجهة.

أو من جهة أنّ قول أهل الخبرة يلحق حجية أخبار الثقة في الحسيات إن رجع إليهم فإنه مثل قولهم، وقول اللغوي يكون كذلك فيمكن قبول قوله ويكون حجة من هاتين الجهتين وإلا فلا يقبل قوله وبذلك يمكن الجمع بين كلمات الأعلام .

وأما المورد الثاني؛ وهو حجية قول اللغوي في تعيين الأوضاع اللغوية من الحقيقة والمجاز فإنه يظهر مِمّا سبق أنّ القول بها صحيح لا سيما إذا قلنا بأنّ تعيين الأوضاع إنما يكون عن طريق الحس وهو السماع، وهو وإن كان نادراً كما عند اللغويين القدماء وهو وارد وليس بممتنع عادة، أو يكون من اجتهاده في تتبع موارد الإستعمال، ولكن هذا الإجتهاد يبتني على الحس أيضاً أو من باب حصول الإطمئنان من قول اللغوي. وأما الإستدلال على حجية قول اللغوي مطلقاً بالإجماع المنسوب إلى السيد المرتضى قدس سره فإن كان المراد من الإجماع هو الإجماع العملي من العلماء بالرجوع إلى أقوال اللغويين ويكون من السيرة العملية وهو عندهم، فهو وإن كان صحيحاً ولكنه ليس من الإجماع التعبدي، فلعل رجوعهم إلى قول اللغوي من جهة حصول الإطمئنان ونحوه كما ذكرنا. وأما الإجماع القولي فهو على فرض وجوده لا اعتبار به لكون الموضوع قد وقع الخلاف فيه قديماً وحديثاً.

وقد يستدل على الحجية أيضاً بأنّ ما دلّ على حجية خبر الواحد يدل على حجية ما يتعلق بالملازمة كقول اللغوي والرجالي والمفسّر والهيوي ونحوهم مِمّا له دخل في الأحكام في الجملة.

ص: 478

وأورد عليه بأنّ أدلة الخبر تدل على التصديق في الحس ولا تدل على التصديق في الحدس، وقول اللغوي وأمثاله مِمّا له دخل في الأحكام من الثاني لا الأول. وفيه ما عرفت سابقاً.

وقد يستدل على حجية قول اللغوي مطلقاً بدليل الإنسداد باعتبار أنه لا سبيل إلى تحصيل العلم في هذا الموضوع فيؤخذ بقول اللغوي لكونه يفيد الظن بالظهور فيكون من الإنسداد الصغير، وهو غير تام أيضاً لعدم توفر شروط الإنسداد فيه والتي منها وجود علم إجمالي منجز بالتكليف وهو مفقود في أقوال اللغويين، بل غايته وجود تكليف بالأعم من الإلزامي والترخيص.

ومنها إمكان الإحتياط في تمام الأطراف ولا يلزم منه الحرج لعدم كثرة أطرافه.

وقد أجيب عن هذا الدليل بأجوبة أخرى ولكنها ترجع إلى ما ذكرناه فلا اعتبار بها.

ومن جميع ذلك يظهر حجية قول غير اللغوي كالمفسّر والمؤرخ والهيوي وغيرهم إذا أوجب الوثوق والإطمئنان فيترتب على قولهم الحكم المراد إثباته.

البحث الرابع: في أنّ حجية الظهور من باب الظن الشخصي أو النوعي

البحث الرابع(1): في أنّ حجية الظهور من باب الظن الشخصي أو النوعي

وقد عبّر السيد الصدر قدس سره (2) عن ذلك بالظهور الذاتي والظهور الموضوعي؛ والمراد من الأول هو الظهور الشخصي الذي ينسبق إلى ذهن كل شخص وبالظهور الموضوعي هو الظهور النوعي الذي يشترك في فهمه أبناء العرف والمحاورة، وهما قد يتفقان وقد يختلفان فإنّ الشخص قد يتأثر ببعض الأمور فيحصل في ذهنه أنس بمعنى مخصوص لا يفهمه العرف العام عن اللفظ. ومن أجل ذلك يكون الظهور الشخصي الذاتي نسبياً مقام ثبوته عين مقام إثباته، ويختلف من شخص إلى آخر.

ص: 479


1- . من بحوث الظواهر.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص291.

وأما الظهور النوعي فهو حقيقة مطلقة ثابتة مقام ثبوته غير مقام إثباته لأنه عبارة عن ظهور اللفظ المشترك عند أهل العرف وأبناء اللغة بموجب القواعد المرعية عند أهل المحاورة، وهي قوانين ثابتة، ولذلك قد يعتريه الشك إذا لم يحرزه الإنسان.

ولا إشكال فيما إذا تطابق الظهوران كما في الإنسان العرفي غير المتأثر بظروف خاصة، وقد يختلفان فيحصل ظهور شخصي ذاتي وذلك لأسباب عديدة بعضها يرجع إلى تأثر الشخص بشؤونه الشخصية في مقام انسباق الذهن إلى المعنى من اللفظ، وبعضها يرجع إلى استيعابه لتمام نكات اللغة وقوانين المحاورة، وبعضها يرجع إلى تراكم المظنونات الكثيرة في ذهنه فترجح أحد المعاني عنده وينسبقمن اللفظ كما هو المشاهد عند كثير من العلماء، وغير ذلك من الأسباب. وقد اختلف العلماء في تعيين أحد الظهورين وجعله المناط في أصالة حجيته.

فقد ذهب أكثرهم إلى أنّ موضوع أصالة الظهور هو الظهور الموضوعي النوعي دون الظهور الشخصي الذاتي مستدلين عليه بأنّ حجية الظهور إنما تكون بملاك الطريقية وكاشفية ظهور حال المتكلم في متابعة قوانين لغته وعرفه، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله متابعة العرف المشترك العام لا العرف الخاص عند السامع القائم على أساس اعتبار شخصي ذاتي يختص به من دون علم المتكلم عادة.

بينما ذهب آخرون إلى أنّ الموضوع هو الظهور الشخصي الذاتي لا النوعي لأنّ ما يبدو لكل فرد وجداناً هو الظهور الشخصي؛ فإذا فرض عدم اعتباره في موضوع أصالة الظهور فلا يبقى لها موضوع.

وذكر السيد الوالد قدس سره (1) بأنه مقتضى المرتكزات العرفية دوران الظهور مدار الظن الشخصي، بل هو حجة وإن كان الظن الشخصي على خلافه.

ص: 480


1- . تهذيب الأصول؛ ج2 ص78.

نعم؛ لا يبعد أن يكون تحقق الإطمئنان النوعي في مورده حكمة الإعتبار لا أن يكون علّة له يدور مداره وجوداً وعدماً.

وقد أجيب عن ذلك بأنه يمكن إحراز الظهور الموضوعي عن طريق الظهور الذاتي بأحد وجهين:

الأول: أن يجعل الظهور الذاتي أمارة عقلائية على الظهور الموضوعي تعبداً بأنّ السيرة العقلائية قائمة على جعل ما يتبادره كل شخص من كلام هو الميزان في تشخيص الظهور الموضوعي المشترك عند العرف.

ويورد عليه بأنّ انعقاد مثل هذه السيرة مشكل جداً بعدما يرى الفرد أنّ ما عنده هو العرف العام إلا أن يراد به التبادر الذي يجعل علاقة للحقيقة، وليس هناك معنى آخر للتبادر لإثبات التطابق بين ما يفهمه الشخص مع ما يفهمه العرف العام.

الثاني: عن طريق الإحراز الوجداني والتحليل، وذلك بأن ينسبق من اللفظ إلى الذهن من قبل أشخاص متعددين مختلفين في ظروفهم الشخصية بنحو يطمئن بحساب الإحتمالات بأنّ انسباق ذلك المعنى الواحد من اللفظ عند جميعهم بنكتة مشتركة وهي قوانين المحاورة العامة لا لقرائن شخصية.

وفيه: إنه رجوع من الظهور الذاتي إلى الظهور الموضوعي فإنه إذا انسبق من اللفظ إلى الذهن من قبل أشخاص متعددين طبق القوانين المحاورية فهو خروج من الظهور الذاتي إلى الظهور الموضوعي العام وإن كانت الدوائر تختلف سعة وضيقاً عند العرف، وهو لا يضرّ بأصل المقصود.

وكيف كان؛ فالحق كون الموضوع من حجية أصالة الظهور هو الظهور النوعي الموضوعي لا الذاتي لأنّ جعل الموضوع هو الظهور الذاتي يستلزم منه الإرباك والتخبّط في كثير من

ص: 481

مجالات الحياة العملية وتكثر الدعاوي والدعاوى المضادة عند أهل المحاورة، فربما يدعي المتكلم أنّ مقصوده الظهور النوعي والسامع يدعي الفهم الخاص، وربما يكون على العكس فيختلّ النظام فلا يبقى مورداً لجريان قوانين المحاورة والإستدلال بالمرتكز العرفي عليه هو الأصحّ؛ فإنه قائم على كون الموضوع هو الظهور النوعي، ويشهد له أيضاً ما تقدم آنفاً.

ثم إنه إذا كان الموضوع في حجية أصالة الظهور هو الظهور النوعي الموضوعي فهل يكون المناط هو الظهور المعاصر لزمن صدور الكلام أو لزمان وصوله إلينا فيما إذا اختلف الزمانان وتغاير الظهوران، وإلا فإذا اتحدا فلا للإشكال ولا للسؤال. وأمثلة ذلك كثيرة منها النصوص الشرعية بالنسبة إلينا؛ فإنّ الأوضاع اللغوية بل حتى الظهورات السياقية قد تتغير وتتطور بمرور الزمن، وقد تقدم في بحث الوضع أنّ اللغة ظاهرة إجتماعية تتأثر بما يطرأ على الحياة الإجتماعية من التغيير والتطوير المستمرين وإن كنا لم نحسّ بذلك لكونه بطيئاً.

والصحيح هو الظهور الموضوعي في زمن صدور الكلام والنص، لا وصوله. وذلك إما من أجل أن الإعتماد على الظهور حين الوصول مِمّا يوجب تفويت غرض المتكلم ولا سيما الشارع في النص الشرعي، أو لانعقاد السيرة العقلائية على ذلك فإنها كما تدل على حجية أصالة الظهور تدل أيضاً على أن ظاهر حال المتكلم هو التكلم وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمان الصدور، لا زمان الوصول في المستقبل. وحينئذٍ؛ إذا أحرزنا ذلك فالمعتمد عليه، وأما إذا لم يحرز الظهور الموضوعي حال صدور النص فقد ذكر المحققون من أنه يمكن الإعتماد على أصالة عدم النقل لإثبات ذلك. وقد يعبّر عنه بالإستصحاب القهقرائي، ولكنهم اختلفوا في حجيته باعتبار عدم استفادته من دليل الإستصحاب وسيأتي الكلام فيه.

ص: 482

وكيف كان؛ فلا إشكال في أصالة عدم النقل الثابت بالسيرة العقلائية فإنها أصلٌ قائم برأسه.

نعم؛ قد يقتصر في مورد إجرائها في الأوضاع اللغوية كما عليه أكثرهم، ولكن الصحيح هو التعميم ليشمل الظهورات السياقية التركيبية أيضاً.

فلا إشكال في انعقاد السيرة العقلائية على هذا الأصل، وقد طُبّق من قبل العقلاء على موارد متعددة منها النصوص والوثائق القديمة في الأوقاف والوصايا فإنها تثبت وفق ما يفهمه المتولي في عصره ولو كان بعيداً عن عصر الوقف، كما طبق من قبل أصحاب الأئمة الهداة علیهم السلام حيث كانوا يتعاملون مع النصوص الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وفق زمان صدورها مع العلم بالتفاوت الزمني الكبير بين الصدور والعمل، وقد كانت هذه الفترة مليئة بالحوادث والمتغيرات.وقد حاول بعض الأصوليين إثبات نكتة وملاك خاص في اعتبار هذا الأصل وهو ندرة وقوع النقل والتغيير وبطؤه بحيث لا يرى الفرد تغييراً محسوساً في اللغة، ولكن ذلك لا يخلو عن تأمّل؛ فقد يكون الملاك هو احتفاظ العقلاء بلغتهم التي يتكلمون بها حتى لا يوجب الإنسيابية في هذا الموضوع المهم؛ لا سيما اللغة العربية التي هي لغة القرآن والنصوص الشرعية والأدب والدعاء.

وكيف كان؛ فإنّ هذا الأصل كما ينفي احتمال النقل والتغيير في الوضع كذلك ينفي احتمال تغيير وتبديل الظهور الموضوعي والإعتماد عليه حين صدورالنص، وكذلك ينفي احتمال اعتماد الأصحاب على ما وصل إلیهم من النص لكونهم غفلوا عن الظهور حين صدوره.

ص: 483

نعم؛ خرج عن هذا الأصل موردان:

الأول: ما إذا علم بالنقل وشك في التقدم والتأخر فلا تجري أصالة عدم النقل لعدم انعقاد السيرة التي كان الدليل في ثبوته لتشمل مثل هذا الغرض.

الثاني: الشك في مؤثرية الموجود في النقل, كما إذا شاع استعمال لفظ معين -كالصلاة- في المعنى الشرعي كثيراً لشدة ابتلاء المتشرعة بها في حياتهم مطلقاً، فاحتمل أنّ هذا الشيوع بلغ مرتبةً نُقل بسببها اللفظ عن معناه اللغوي وتعينه في المعنى الشرعي, وفي مثل هذا لا تجري أصالة عدم النقل لقصور السيرة عن شموله.

قد يقال بإمكان الإعتماد على استصحاب عدم النقل في مثل ذلك بعد عدم جريان أصالة عدم النقل، ولكنه غير صحيح فإنه إن أريد منه استصحاب نفس العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى فهو لا يثبت ظهور اللفظ الصادر في ذلك المعنى إلا على نحو الأصل المثبت, وإنْ أريد به إستصحاب ظهور الكلام على نحو القضية التعليقية فهو من الإستصحاب التعليقي في الموضوعات. وسيأتي نقل الخلاف فيه.

البحث الخامس: أمور لها دخل في هذا البحث

اشارة

إختلف الأصوليون في كثير منها وهي:

الأمر الأول:

النص والظاهر والأظهر من أوصاف اللفظ فكما أنّ تحقق الظهور يتبع لدى العقلاء مطلقاً.

كما أنّ ما تحقق فيه الفصاحة والبلاغة يمتدح الكلام بذلك من غير فرق في ذلك بين أقسام المخاطبين ومن قصد إفهامه وغيرهم كما عرفت.

مع أنّ الألفاظ الظاهرة في الأحكام الكلية إنما توجهت إلى جميع من يمكن أن ينطبق عليه الحكم فيكون الجميع ممن قصد بالإفهام فيكون الموجود حين الخطاب مرآة وطريقاً إلى

ص: 484

الجميع، لا أن يكون ملحوظاً على نحو الموضوعية، وهذا صحيح في الأحكام الكلية فكيف بالأحكام الأبدية في الشريعة الختمية.

وقد عرفت عدم وجود قرينة أو دليل على جهة اختصاص يقوم دون آخر، مع أنه مرفوع بالأصل العقلائي, وتقدم في المقام وفي بحث العام والخاص ما يتعلق بذلك فراجع.

الأمر الثاني:

للظهور مراتب متفاوتة في المحاورات العرفية, فإنّ كل ما لا يصدق عليه المجمل يكون ظاهراً إلى أن يبلغ مرتبة النصوصية، وجميع تلك المراتب حجة عند العقلاء مادام يصدق عليه الظاهر عرفاً.

نعم؛ قد يقع النزاع في بعض الصغريات في تحقق الظهور فيها من أجل شبهات تتردد في الأذهان فلا بُدَّ في الرجوع فيها إلى الذوق العرفي ولكن خاض الأصوليون فيها بحوثاً إستدلالية برهانية مع أنّ الظهور من الأمور العرفية، ويكفي في إثباته الوجدان العرفي، ولا نحتاج إلى الإستدلال والبرهان.

وقد صحّح السيد الصدر قدس سره (1) استعمال منهج البرهان في أربعة مواضع:

أولها: إثبات أصل الظهور، وهو تارةً؛ يراد به إثبات نفي الظهور بالبرهان وهو الجانب السلبي، فإنّ استعمال البرهان على نفيه صحيح كما صنعه الأصوليون في بحث الصحيح والأعم أو المشتق من البرهنة على استحالة تعقّل الجامع بين الأفراد الصحيحة، والجامع بين المتلبس والمنقضي عنه المبدأ لنفي وضع الأسماء للصحيح أو في المشتق للجامع بين المتلبس والمنقتضي، فإذا برهن على عدم جامع مفهومي كان برهاناً على عدم إمكان الوضع له. وأخرى؛ يراد به إثبات الظهور بالبرهان وهو الجانب الإيجابي، فإنه يمكن القول بالصحة أيضاً كما لو قلنا بأنّ الظهور الموضوعي أمر واقعي وليس وجدانياً، فإنه

ص: 485


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج4 ص300.

يمكن إثباته بالإستدلال بالإستقراء على أنّ إطلاق اللفظ عند جماعة مختلفين في ظروفهم وملابساتهم وثقافاتهم للتأكد على عدم التأثر بعامل ذاتي غير موضوعي في تشخيص الظهور، فهذا الإستقراء؛ إما أن يكون من الظهور الذاتي إلى الظهور الموضوعي، أو يكون دليلاً على نفس الظهور الموضوعي مباشرة كما فعله بعضٌ من ملاحظة صيغ (فعيل) للدلالة على أنّ الذات هي الحاملة للمبدأ دائماً، بخلاف صيغة (فاعل) فاستنتج من ذلك أنّ كل مبدأ لا يكون قائماً بالذات لا تجري عليه صيغة (فعيل) كخطيب وسميع وبصير وخبير وهكذا. وهذا الدليل وإن كان قابلاً للمناقشة ولكن يمكن الإستفادة منه لإثبات الأوضاع اللغوية.

ثانيها: إثبات الصغرى بعد الفراغ من الكبرى، فإنه يمكن الإثبات عليه كما في مقدمات الحكمة فإنّ كبراها التي هي عبارة عن ظهور حال كل متكلم من بيانتمام مرامه بمقدار بيانه من المسلمات، لكن الكلام في الصغرى ومقام تطبيق تلك الكبرى كما قيل في باب الشرط من أنّ اللزوم له حصتان؛ إنحصاري وغير إنحصاري، محدود ومقيد بشرط، فيكون مقتضى الإطلاق عدم التحديد، فيراد منه الحصة الإنحصارية، وهذا برهان على صغرى الإطلاق لا أصل الظهور الإطلاقي أو ملاكه.

وهذا أيضاً من البرهان الصحيح، لكن لا يمكن التعميم لجميع الموارد بدون الرجوع إلى العرف.

ثالثها: إثبات خصوصية في الظهور وتشخيصها كما في دلالة الأمر على الوجوب في أنها بالوضع أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة؛ فإنّ مثل هذا التشكيك ربما يكون معقولاً كما عرفت في أبحاث الوضع من أنّ هذا الظهور فرع نفس الوضع والقرن بين اللفظ والمعنى أو فرع العلم بالوضع فيصحّ الإستدلال بالبرهان على إثبات أحدهما كما تقدم بيانه.

ص: 486

رابعها: التنسيق بين ظهورين في كلام واحد بحيث نستنتج على دلالة ثالثة كما ذكرنا في مفهوم الجملة الشرطية من أنّ التعليق يطرأ على إجراء إطلاق في الجزاء أو يجري الإطلاق في الحكم المطلق، فإنه على الأول يدل الكلام على نسخ الحكم وينتج المفهوم، بخلاف الثاني.

والصحيح أن يقال: إنّ القاعدة في الظهور وخصوصياته هي الرجوع إلى العرف والوجدان العرفي في تشخيصه وسائر خصوصياته، وأما إذا حدثت شبهة في بعض الأمور الراجعة إليه فيمكن الإستدلال بالبرهان واتباع المنهج الإستدلالي في رفع تلك الشبهة، ولكن مع ذلك لا نحيد عن المنهج العرفي في ذلك كما هو واضح، فما ذكره السيد الصدر قدس سره لا يخلو من التأمل.

الأمر الثالث:

ذكر الشيخ الانصاري قدس سره (1) وتبعه المحقق الخراساني(2) وغيره أن اختلاف القراءة في الكتاب العزيز مِمّا يوجب إجمال الآية إذا ورد فيها معنيان متنافيان مثل قوله تعالى: (حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ)(3)؛ بالتخفيف والتشديد؛ حيث إنّ الظاهر على قراءة التشديد إرادة الإغتسال من حيث الحيض، وعلى قراءة التخفيف إرادة النقاء من الدم وانقطاعه، فيختلف المعنيين باختلاف القرائتين فيوجب إجمالها وسقوط طهورها وعدم الإستدلال بها.

وحينئذٍ؛ فإن قلنا بتواتر القراءات السبع كما هو المشهور فتكون بمنزلة آيتين متعارضتين, فلا بُدَّ من الجمع بينهما إن أمكن، وإلا فيجب التوقف والرجوع إلىما تقتضيه القواعد. وأما إذا قلنا بعدم تواتر القراءات فلو جاز الإستدلال بكل قراءة كان الحكم مثل ما لو قلنا بعدم تواترها من الجمع بينهما، وإلا فالتوقف والرجوع إلى مقتضى القواعد، وأما إذا

ص: 487


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص65.
2- . كفاية الأصول؛ ص285.
3- . سورة البقرة؛ الآية 222.

لم يثبت جواز الإستدلال بكل قراءة كان الحكم هو التوقف لعدم ثبوت كون واحدة من القرائتين من القرآن، فيكون المراد مجهولاً.

وكيف كان؛ فإنه سواء ثبت تواتر القراءات السبع أو لم يثبت فإنّ الآية تكون مجملة ويسقط ظهورها لأنّ المنساق من ذلك على فرض ثبوت التواتر هو مجرد جواز القراءة لا الإستدلال بها على أحكام متضادة متناقضة، وحينئذٍ لا بُدَّ من الرجوع إلى أدلة أخرى.

وفي مورد الآية الكريمة يدور الأمر بين الرجوع إلى استصحاب الحرمة الثابتة قبل النقاء وبين الرجوع إلى عموم قوله تعالى ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُ)(1)؛ بناءً على عمومه الزماني إذ المتيقن منه خروج زمان الحيض عنه فيكون المورد من موارد مسألة دوران الأمر بين استصحاب حكم المخصص أو العمل بعموم العام الزماني.

وسيأتي الكلام عنه مفصلاً في مبحث الإستصحاب إن شاء الله تعالى.

نعم لو كان الترجيح عند التعارض موافقاً للمرتكزات العقلائية وسيرتهم يصحّ إعمال المرجحات حينئذٍ لأن القراءات؛ إما أن تكون من قراءة النبي صلی الله علیه و آله و سلم إن ثبت تواترها أو تكون من أهل الخبرة إن لم تثبت. وسيأتي في بحث التعارض ما ينفع المقام.

تم بعون الله تعالى الجزء الرابع ... ويليه الجزء الخامس؛ في الإجماع

ص: 488


1- . سورة البقرة؛ الآية 223.

الفهرست

الأمر الثالث: مبحث الضد ................................................... 7

تمهيدٌ فيه أمور ................................................................ 7

الفصل الأول: الضد الخاص ................................................. 9

تنبيهات ...................................................................... 14

شبهة الكعبي ................................................................. 16

الفصل الثاني: الضد العام .................................................... 29

الفروض المتصورة في تفسير الحب والبغض ................................... 30

الفصل الثالث: في بيان الثمرة التي تترتب على مسألة الضد .................... 33

الفصل الرابع: في الترتُّب ..................................................... 41

شروط الترتب ............................................................... 43

أدلة القول بامتناع الترتب ..................................................... 51

الإيرادات على طريقة المحقق النائيني .......................................... 67

تطبيقات الترتب ............................................................. 81

الموسع والمضيق .............................................................. 87

الأمر الرابع: دلالة النهي على الفساد .......................................... 91

المسألة الأولى: في النهي عن العبادة ............................................ 96

ص: 489

تحرير الأصل عند الشك ...................................................... 101

خاتمة فيها أمور ............................................................... 105

المسألة الثانية: النهي عن المعاملة .............................................. 112

المسألة الثانية: النهي عن المعاملة .............................................. 112

المقام الأول: النهي في المعاملات .............................................. 112

المقام الثاني: في بيان القاعدة التي تقتضي الفساد في تلك الأقسام ................ 113

النهي المولوي التحريمي ...................................................... 113

المقام الثالث: في استفادة البطلان من الدليل الخاص ........................... 122

ختام فيه أمران ............................................................... 124

مباحث الحجة ................................................................ 127

الكلام في ما يصحّ الإعتذار به عند العقلاء ولم يردع عنه الشارع ................ 129

مقدمة ........................................................................ 129

الأمر الأول: في الأقوال في أقسام مباحث الحجج ............................. 130

الأمر الثاني: في أنّ المدار في الحجية هو المجتهد ................................. 137

الأمر الثالث: في تخصيص المقسم بالمكلف ..................................... 154

المبحث الأول: ما يكون معتبراً في نفسه ....................................... 159

القطع ........................................................................ 159

تمهيد فيه مباحث ............................................................. 159

جهات البحث ............................................................... 161

الجهة الأولى: في طريقية القطع؛ ذاتية أو جعلية ................................ 161

إطلاقات الحجة .............................................................. 179

ص: 490

الإطمئان ..................................................................... 182

الجهة الثانية: التجري وما يتعلق به ............................................ 187

النقطة الأولى: في قبح التجري ................................................ 190

الناحية الأولى: في صيغة التجري .............................................. 190

الحسن والقبح ................................................................ 195

رأي السيد الصدر قدس سره في قبح التجري ...................................... 205

الناحية الثانية: في حكم الفعل المتجرى فيه .................................... 207

النقطة الثانية: في استحقاق العقاب على التجري ............................... 212

النقطة الثالثة: في حرمة التجري شرعاً ......................................... 217

التمسك بقاعدة الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل ........................ 219

تنبيهات ...................................................................... 229

الجهة الثالثة: في أقسام القطع .................................................. 235

قيام الأمارة مقام القطع ....................................................... 241

المقام الأول: في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض ...................... 241

المقام الثاني: قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي ............................. 244

أقسام القطع وقيام الأمارة مقامه .............................................. 245

تلخيص ونتيجة .............................................................. 253

الجهة الرابعة: أخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده ............. 257

الصورة الأولى: ما إذا كان الحكمان متحدين ................................... 257

الصورة الثانية: ما إذا أخذ العلم بالحكم موضوعاً نحو حكم مماثل ............. 265

ص: 491

الصورة الثالثة: ما إذا اخذ العلم بالحكم من حكم مضاد له .................... 267

الصورة الرابعة: ما إذا أخذ العلم بالحكم في حكم معاند ومخالف له ............ 267

الصورة الرابعة: ما إذا أخذ العلم بالحكم في حكم معاند ومخالف له ............ 267

تنبيهان ....................................................................... 267

الجهة الخامسة: الموافقة الإلتزامية وما يتعلق بها ................................ 268

تنبيهان ....................................................................... 274

الجهة السادسة: حجة الدليل العقلي ........................................... 276

المبحث الأول: في صور العلم ................................................ 279

المبحث الثاني: في الأدلة على عدم حجية الدليل العقلي ......................... 283

المقام الأول: مدركات العقل النظري ......................................... 285

نظرية المعرفة ................................................................. 297

مواقع النظر في كلام السيد الصدر قدس سره ومناقشته ............................ 326

المقام الثاني: مدركات العقل العملي ........................................... 327

المبحث الثالث: دعوى أن يكون القصور المدّعى في الدليل العقلي من ناحية المنجزية والمعذرية بمعناها الأصولي ................................. 333

المبحث الرابع: في توجيه كلمات بعض المحدثين ............................... 337

المبحث الخامس: فروع في مخالفة العلم التفصيلي ............................... 338

الجهة السابعة: العلم الإجمالي وما يتعلق به ..................................... 344

المقام الأول: في حرمة المخالفة القطعية ........................................ 345

المقام الثاني: في وجوب الموافقة القطعية ....................................... 355

المقام الثالث: شروط تنجّز العلم الإجمالي ...................................... 369

المقام الثالث: شروط تنجّز العلم الإجمالي ...................................... 369

ص: 492

الشرط الأول: أن يُحدث العلمُ الإجمالي تكليفاً فعلياً غير مسبوق بالوجود ...... 369

الشرط الثاني: أن يكون العلم صالحاً للداعوية والبعث نحو التكليف .......... 372

الشرط الثالث: أن لا يكون في البين ما يدل على رفع الحكم الواقعي ............ 375

الجهة الثامنة: في الإمتثال الإجمالي ............................................. 376

تنبيهات ...................................................................... 380

المبحث الثاني: ما يصح الإعتذار به من جهة الكشف .......................... 383

الأمر الأول: في إمكان التعبد بغير العلم ....................................... 384

تلخيص وفوائد .............................................................. 409

أقسام السببية ................................................................. 416

ختام في حقيقة الحكم ......................................................... 423

الأمر الثاني: أصالة عدم الإعتبار وعدم صحة الإعتذار ........................ 425

البدعة ....................................................................... 435

الفصل الأول: الظواهر ....................................................... 441

شبهات حول السيرتين ....................................................... 445

البحث الأول: في تشخيص موضوع حجية الظواهر ........................... 455

البحث الثاني: في النسبة بين أصالة الظهور وسائر الأصول اللفظية ............. 459

البحث الثالث: التفصيلات في حجية الظهور ................................. 462

ختام فيه أمور ................................................................ 473

الأمر الأول .................................................................. 473

الأمر الثاني ................................................................... 474

ص: 493

الأمر الثالث ................................................................. 475

البحث الرابع: في إنّ حجية الظهور من باب الظن الشخصي أو النوعي ........ 479

البحث الخامس: ذكر أمور لها دخل في هذا البحث ............................ 484

الأمر الأول .................................................................. 484

الأمر الثاني ................................................................... 485

الأمر الثالث ................................................................. 487

الفهرست .................................................................... 489

ص: 494

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.