تقریب تهذیب الأصول المجلد 3

هوية الکتاب

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء الثالث

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

الجزء الثالث

ص: 1

اشارة

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء الثالث

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

© جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 2

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأُصُول

الجزء الثالث

آية الله السيد

علي الموسوي السبزواري

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

(لا يَخْفى أنَّ الأُصولَ مُقدمَّةٌ وَآلةٌ لِلْتَعرُّفِ على الفِقهِ؛ وَلَيسَ هُوَ مَطلُوباً بالذّاتِ, فَلا بُدَّ أَنْ يَكونَ البَحْثُ فِيهِ بِقَدَرِ الإحْتياجِ إِلَيهِ فِي ذِي المُقدِّمَة؛ لا زائِدَاً عَلَيهِ, وَأَنْ تَكُونَ كَيْفيَّة الإِسْتِدلالِ فِيهِ مِثلها فِي الفِقه فِي مُراعاةِ السُّهُولةِ, وَما هُوَ أَقْرَبُ إلى الأَذْهانِ العُرفيَّةِ, لابْتِناءِ الكِتابِ وَالسُنَّةِ اللَّذَينِ هُما أَساس الفِقْهِ عَلى ذلِك, فَالأُصُولُ مِنْ شُؤُونِ الفِقْهِ؛ لا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ خُصُوصيّاته مِنْ كُلِّ جِهَةٍ)(1).

فَقِيهُ عَصْرِهِ وَفَرِيدُ دَهْرِهِ

آيَةُ الله العُظْمى

السَّيِّد عَبْدُ الأَعْلى المُوسَويُّ السَّبْزَوارِيُّ قدس سره

ص: 5


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص6.

ص: 6

الفصل الثالث: المفاهيم

اشارة

الفصل الثالث(1)

المفاهيم

تمهيد

تمهيد فيه أمور:

الأمر الأول: يطلق المفهوم تارة؛ ويراد به مدلول اللفظ ومعناه وهي ألفاظ مترادفة تشير إلى شيء واحد, فيكون المعنى مدلولَ اللفظ من حيث أنَّه قد عُني من اللفظ وكان مدلولاً له من حيث دلالته عليه, ومفهوماً من حيث أنَّه يفهم من اللفظ, فالحقيقة واحدة وإنْ إختلف التعبير بتعدد الحيثية.

وقد يطلق أخرى؛ ويراد به مقابل المصداق في علم المنطق.

وثالثة؛ يطلق ويراد به ما يلازم الكلام عرفاً ولم يكن مذكوراً في اللفظ بحدوده وقيوده بحيث يصحّ الإعتماد عليه في المحاورات والإحتجاجات سواء كان الكلام إنشائياً مثل (أكرم زيداً إنْ جاءك), أو إخبارياً مثل (إنْ أكرمتني أُكرمك) وهذا الإطلاق هو مراد الأصوليين في بحث المفاهيم.

الأمر الثاني: لم يرد لفظ المفهوم في الكتاب والسنة حتى يكون من الموضوعات المستنبطة التي تحتاج إلى النظر والبحث, بل هو من الأمور المحاورية عند العرف, فلا بُدَّ من الرجوع إليه في تعيين المراد منه. وقد عرفت أنَّ المفهوم عند العرف هو الذي يطلق على ما يلازم الكلام وهو غير مذكور فيه بحدوده وقيوده فهو من الدلالات السياقية الإطلاقية عندهم وليس من الدلالات الوضعية, فإنَّه ربَّما لم يلتفت الواضع إليه, فإذا ترتب الجزاء على الشرط على نحو ترتب المعلول على العلة المنحصرة فإنَّه وإنْ لم يلتفت الواضع إلى هذا اللزوم حين الوضع ولكنه من لوازم الكلام عرفاً, ولأجل ذلك يصحُّ الإعتماد على المفهوم في المحاورات والإحتجاجات.

ص: 7


1- .من أقسام مباحث الألفاظ.

والأصوليون في تعاريفهم للمفهوم يريدون هذا المعنى العرفي, فلا وجه للردِّ عليها بالنقض والإبرام لأنه من مجرد شرح الإسم وتقريب هذا المعنى العرفي إلى الذهن.

فيصحُّ أنْ يقال بأنَّ المفهوم حكم لغير مذكور, والإيراد عليه بأنَّه غير صحيح؛ إذ قد يكون الموضوع مذكوراً كما في مفهوم جملة (إنْ جاءك زيد يجب إكرامه), ولذا عدل المحقق الخراساني قدس سره (1) عنه إلى تعريفه بأنَّه حكم غير مذكور, فإنَّه نقاش لفظي؛ فإنَّ المراد منهما واحد كما عرفت.

الأمر الثالث: عرفت أنَّ المفهوم من المداليل الإطلاقية السياقية للكلام, وهو من الأمور المحاورية عند العرف الملازمة للكلام مقابل المدلول المطابقي له, وبذلك تميز عن سائر المداليل الإلتزامية, إذ ليس كلُّ مدلول إلتزامي هو مفهوم, فإنَّ حرمة ضدّ الواجب تثبت بالدلالة الإلتزامية لدليل الوجوب بناءً على أنَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده مع أنَّه ليس من المفهوم جزماً, كما أنَّ بطلان العبادة وفساد المعاملة يكون مدلولاً إلتزامياً للنهي عنها بناءً على القول به ولكن لا يسمى مفهوماً, وكذا وجوب المقدمة يكون مدلولاً إلتزامياً لدليل وجوب ذي المقدمة بناءً على القول بالملازمة بين الوجوبين مع أنَّه ليس من المفهوم وغير ذلك, والعمدة في التمييز بين المفهوم والمدلول الإلتزامي العرفي عن غيره من المداليل الإلتزامية هو ما ذكرناه.

ومع ذلك إختلفت أنظار الأصوليين في وجه التمييز بينهما فذكروا وجوهاً لذلك نذكرها على سبيل الإيجاز؛ إذ الأمر واضح بعدما عرفت:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أنَّ المفهوم عبارة عن حكم إنشائي إخباري لازم لخصوصية في المدلول المطابقي لا لأصل المدلول المطابقي سواء كانت هذه

ص: 8


1- . كفاية الأصول؛ ص193.

الخصوصية ثابتة بالوضع أو بمقدمات الحكمة, وهذا المعنى لا ينطبق على كلِّ مدلول إلتزامي فلا يسمى مفهوماً.

وأورد عليه:

1- إنَّ هذا التعريف لا ينطبق على مفهوم الموافقة ولا يقبل إدخاله في المفاهيم, فإنَّه لازم للمدلول المطابقي لا لخصوصية فيه.

وفيه: إنَّه يمكن إنتزاع الخصوصية أيضاً من مفهوم الموافقة ليكون لازماً للمدلول المطابقي, وذلك بأنْ يقال بأنَّ لازم حرمة قول أفٍّ للوالدين هو مطلق الأذية والإهانة لهما فيشمل الدرجة العليا منها المتمثل في الضرب ونحوه.

إنَّه ليس مانعاً, فإنَّه قد ينطبق على ما ليس مفهوماً كوجوب المقدمة الذي هو لازم لوجوب ذي المقدمة بناءً على أنَّ المدلول المطابقي لصيغة الأمر

2- ليس هو الوجوب وإنَّما هو الطلب, والوجوب مستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة, فيصبح وجوب المقدمة لازماً لخصوصية في المدلول المطابقي مع أنَّه ليس من المفاهيم.

وفيه: إنَّ دخول فرد في التعريف بحسب الآراء المختلفة لا يستلزم الإختلال بالنسبة إلى التعريف؛ فإنَّه يجري في كلِّ تعريف.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ المفهوم عبارة عن المدلول الإلتزامي فيما إذا كان اللازم بيّناً بالمعنى الأخص, ومن هنا لا يكون وجوب المقدمة المستفاد من دليل ذي المقدمة من المفاهيم, إذ مجرد تصور وجوب ذي المقدمة لا يستدعي تصور وجوب المقدمة.

ص: 9


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص477.

وأورد عليه بأنَّ هذا الوجه لا ينطبق على واقع البحث الذي يبحثه الأصوليون في باب المفاهيم, فإنَّهم طرحوا وجوهاً لإثبات المفهوم على تقدير تماميتها يثبت اللازم ولكن لا يكون بيناً بالمعنى الأخص بل قد يكون لازماً غير بين, فإنَّهم أثبتوا المفهوم في الجملة الشرعية

بقانون فلسفي لا يدركه إلا الفلاسفة ومثل ذلك لا يكون لازماً بيناً بالمعنى الأخص.

وفيه: إنَّ الإستدلال بالقانون الفلسفي في مفهوم الشرط لأجل إثبات العليّة التامة المنحصرة, والمحقق النائيني قدس سره إنَّما ذكر ذلك لأجل التمييز بين المدلول الإلتزامي في المفهوم عن غيره من سائر المداليل الإلتزامية التي لا تكون من المفاهيم.

ولكن الذي يمكن الإيراد عليه بأنْه لا حاجة إلى ذلك بعد كون المفاهيم من لوازم المدلول المطابقي عرفاً واعتمادهم عليها في المحاورات والإحتجاجات فهو من المداليل الإطلاقية السياقية عرفاً فيرجع إلى الظهور وهو حجة عند العقلاء.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ المفهوم عبارة عن التابع في الإنفهام مع فرض كون حيثية الإنفهام مأخوذة في المنطوق, فإنَّ هذه الحيثية تارةً يدلُّ عليها المنطوق, وأخرى لا يدلُّ عليها المنطوق, كما في دلالة الأمر بشيء على وجوب مقدمته, فإنَّ هذه الحيثية الملازمة تستفاد من المنطوق, بل لا بُدَّ من البرهنة عليها ببرهان خارجي, فالأول هو المفهوم والثاني ليس المفهوم.

وفيه: إنَّ هذه الحيثية الملازمة للمنطوق لا بُدَّ أنْ تستند إلى سبب, وهو إمّا اللزوم البيِّن بالمعنى الأخص أو الخصوصية التي تلازم المنطوق أو المحاورة والفهمالعرفي الذي هو الحقُّ كما عرفت, وإلا فإنَّ مجرد التبعية غير كافية إذا لم يكن لها سبب.

ص: 10


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص319-320.

الوجه الرابع: ما ذكره بعض الأعلام(1) من أنَّ القضية التي فيها ربط بين جزئين لا محالة يكون اللازم لهما إمّا لازماً لنفس الجزئين بحيث لو بدلناهما أو بدلنا أحدهما لا يثبت اللازم, وإمّا أنْ يكون لازماً للربط بين الجزئين بنحو يكون اللازم ثابتاً ما دام الربط الخاص ثابت وإنْ تغير طرفاه, فالثاني من اللازم هو المفهوم دون الأول.

وفيه: ما أورد على سابقه من أنَّ كون اللازم لازماً للربط بين الجزئين يحتاج إلى سبب وتميز عن القسم الأول, وهو إمّا أنْ يكون اللزوم البيِّن بالمعنى الخاص أو الخصوصية أو المحاورة والدلالة السياقية؛ فيرجع إلى أحد الوجوه المذكورة السابقة.

والحاصل: إنَّ هذه الوجوه لا تخلو من نقاش, ولكن بعد التسليم بإنَّها من مجرد تقريب معنى المفهوم إلى الذهن وشرح الإسم فلا وجه للإشكال عليها, والخروج عن جميع ما يرد عليها هو الرجوع إلى المحاورة وجعل العرف المفهومَ مثل المنطوق وكونه من مصاديق الظهور كما عرفت.

الأمر الرابع: إنَّ النزاع عند الأصوليين إنَّما يرجع إلى الصغرى وتعيين المفهوم للكلام وليس في الكبرى, فإنَّ المفهوم حجة عند الجميع ولم يستشكل أحد فيها؛ إمّا لأجل أنَّ المفهوم من مصاديق الظهور, أو لأنَّ الأمارة حجة في لوازم مؤداها العقلية فلا حاجة لإتعاب النفس من أنَّ المفهوم من الدلالة الإلتزامية كما عليه المحقق النائيني قدس سره , أو لأنَّه لازم تابع للربط إلا أنْ يراد منه ما ذكرناه.

الأمر الخامس: المفاهيم متعددة, وقد أنهاها الشيخ الكبير في كشف الغطاء إلى عشرين مفهوماً, ولكن المعروف بين الأصوليين هي ستة؛ مفهوم الشرط, مفهوم الوصف, مفهوم الحصر, مفهوم الغاية, مفهوم العدد, ومفهوم اللقب, ولعلَّ ذكر البقية يرجع إمّا إلى عدم كونها من المفاهيم أو عدم ثبوت المفهوم لها كما ستعرف.

ص: 11


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص140.

الأمرالسادس: بناءً على ماذكرناه من أنَّ المفهوم هو من المداليل الإطلاقية السياقية للكلام واللازم للمنطوق في أول المحاورة فيكون قسمٌ من الظهور الكلامي داخلاً في مباحث الألفاظ, وهو ظاهر كلمات المحققين؛ حيث جعلوه من اللزوم البيِّن أو لازم خصوصية للكلام أو التابع في الإنفهام, ولكن يمكن أنْ يتحقق فيه مناط البحث العقلي, حيث أنَّ الحاكم بثبوت المفهوم بعد الإستظهار إنَّما هو العقل فإنَّه يستظهر كون القيد علّة تامة منحصرة فيثبت المفهوم, أو لا يستظهر ذلك فلا يثبت, فإنَّ الجامع والمعيار في ثبوت المفاهيم هذا المناط, فيصحُّ إدراجمبحث المفهوم في المباحث العقلية غير المستقلة وإنْ كان الأنسب ما ذكرناه بحسب الأنظار العرفية فيكون من سنخ الدلالات اللفظية كما صنعه القوم.

الأمر السابع: ذكر بعض الأعلام بأنَّ الملاك في ثبوت المفهوم أمرين, فإذا تحققا في الكلام ثبت المفهوم وإلا فلا يثبت, وهذان الأمران هما:

أولاً: أنْ يكون الشرط أو الوصف أو غيرهما علة تامة منحصرة في ثبوت الحكم للجزاء والموصوف بحيث ينتفي بانتفاء الوصف والشرط.

ثانياً: أنْ تكون القضية المتكلفة للحكم ظاهرة في تعليق سنخ الحكم على الشرط والوصف لا أنْ يكون شخص الحكم فيثبت المفهوم على الأول دون الثاني.

وقد ذهب المحقق العراقي(1) إلى أنَّ مدار البحث في ثبوت المفهوم هو الثاني دون الأول, وقال في وجه ذلك بأنَّ عليّة الحكم بنحو الإنحصار أمرٌ غير مسلّم غير قابل للإنكار, فإنَّه قد إلتزم الجميع بأنَّ انتفاء موضوع الحكم إمّا بذاته أو لأجل انتفاء بعض قيوده من شرط أو وصف أو غيرهما يلازم انتفاء شخص الحكم المعلق عليه, وهذا يكشف عن كون موضوع الحكم بخصوصياته المأخوذة فيه علة لشخص الحكم, إذ لولا ذلك لم يكن وجه

ص: 12


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص138، ونهاية الأفكار؛ ج2 ص469-470.

لانتفاء شخص الحكم بانتفائه لإمكان ثبوته عن الخالي من الخصوصية مثلاً. ويشهد لذلك إلتزامهم بتقييد المطلق بالمقيد إذا كانا مثبتين مع إحراز وحدة المطلوب فيهما فإنَّه لا يتمُّ إلا إذا إلتزم بظهور المقيد في كون موضوعه علّة منحصرة للحكم فلا يثبت في غير مورده, وإلا فإنَّ مجرد وحدة المطلوب لا تلازم التقييد, إذ يمكن كون الحكم الواحد ثابتاً للمطلق.

وبالجملة؛ إنَّ إلتزام الجميع بجعل الموضوع بخصوصياته علّة منحصرة لشخص الحكم, وذلك لظهور الكلام في إناطة الحكم بالموضوع بخصوصية وتعليق الحكم عليه بعنوانه, ولولا ذلك لما إقتضى إنتفاء الموضوع إنتفاء شخص الحكم, ولأجل ذلك يمكن دعوى ظهور أخذ الموضوع في دخالته بخصوصه وبنحو الإنحصار في مضمون الخطاب.

وعليه؛ سوف ينحصر البحث في المفهوم وعدمه في أنَّ مضمون الخطاب وما عُلِّق على الموضوع من الحكم هل هو شخص الحكم فلا يدلُّ الكلام على المفهوم لأنَّ إنتفاء الشرط يقتضي إنتفاء شخص الحاكم, وهو لا ينافي ثبوت فرد آخر للحكم في غير مورد الشرط.

أو إَّنه سنخ الحكم فيدلُّ الكلام على المفهوم, إذ إنتفاء الشرط يقتضي إنتفاء سنخ الحكم عن غير مورده فيتنافى مع ثبوته في غير مورده فيكون مدار البحث في إستفادة العليّة المنحصرة, فإنَّها من المسلمات بحسب الإرتكاز والشواهد.

ويرد عليه بأنَّ الكلّ لم يلتزم بظهور تعليق الحكم على الموضوع في العليّة المنحصرة, بل إلتزموا بما يلازم الإنحصار في خصوص كون المعلّق شخص الحكم لا سنخه, وهو أصل العليّة لا أكثر, مضافاً إلى أنَّ المقصود من الملاكالأول في باب المفاهيم أنْ يكون الشرط -مثلاً- علّة منحصرة للحكم في الجزاء حتى لو فرض أنَّ الحكم في الجزاء سنخ الحكم لا شخصه, وأمّا إذا كان الحكم في الجزاء شخصه فلا ريب في ثبوت العليّة المنحصرة وتعليق الجزاء على الشرط, وهذا أمرٌ مسلّم ولكنه لا يفيد في إقتناص المفهوم, فإنَّ المحتاج فيه كون الحكم في الجزاء معلقاً على الشرط حتى على فرض كون الحكم هو سنخ الحكم لا شخصه.

ص: 13

وأمّا ما ذكره من أنَّ حمل المطلق على المقيد مع إحراز وحدة حكمهما فهو يختَّص بما إذا كان القيد علّة منحصرة لشخص هذا الحكم, وهو مستفاد من حمل المطلق على المقيد على تقدير وحدة الحكم, ولا تلازم بين ذلك وبين القول بأنَّ كلّ قيدٍ ووصفٍ علّة منحصرة لسنخ الحكم, لأنَّ البرهان قائم في طرف شخص الحكم دون سنخ الحكم, وذلك لأنَّ شخص الحكم لا بُدَّ أنْ يكون له علّة واحدة وموضوع واحد, ولا يتأتى ذلك في سنخ الحكم, فإنَّ الحكم إنَّما يتشخص بالجعل مهما كانت له مجعولات متعددة, ومن الواضح إنَّه لا يمكن أنْ يكون لجعلٍ واحد موضوعات, بينما يعقل أنْ يكون لجعلين مستقلين موضوعان مستقلان.

والحاصل: إنَّ الملاك الثاني مفاده أنْ يكون مدلول الجزاء في الجملة الشرطية طبيعي الحكم وسنخه لا شخصه حتى يمكن الإكتشاف من إنتفاء الشرط إنتفاء الحكم, بخلاف إنتفاء شخص الحكم في قضية معينة فإنَّه ليس من المفهوم لاحتمال وجود شخص آخر من نفس الحكم, إذ الحكم الثابت لزيد بالقيد الخاص يمكن أنْ يكون ثبوته له بعنوان أنَّه إنسان فلا ينتفي بانتفاء زيد ويثبت لغيره, أو يمكن أنْ يكون ثبوته له بعنوانه لا على التعيين بل على نحو البدلية؛ بأنْ يكون ثابتاً لزيد بعنوانه أو لعمرو بعنوانه بنحو البدلية, وهذا الإنحصار لا يلازم سنخ الحكم.

ثم إنَّ إعتبار هذا الملاك إنَّما يتعين فيما إذا تبين المقصود منه ببيان أمرين:

الأمر الأول: إنَّ لطبيعي الحكم وسنخه إطلاقات لا ينسجم بعضها مع ما يذكرونه من بعض الأنظار وهي:

1- إنَّ مطلق الوجود يشمل تمام الأفراد, فيكون المراد من المعلق على الشرط تمام أفراد الحكم أي أنَّ تمام أفراد وجوب إكرام زيد يثبت عند مجيئه, وعلى هذا فلا حاجة إلى إثبات أنَّ الربط بين الجزاء والشرط لا بُدَّ أنْ يكون تعليقياً والنسبة إلتصاقية كما في

ص: 14

بعض التعابير(1) حتى لو لم يمكن أن يستفاد المفهوم من ذلك، فلو كانت الجملة الشرطية تدلُّ على مجرد الترتيب واللزوم أو نسبة إيجادية. وعلى فرض عدم تمامية قاعدة (إنَّ الواحد لا يصدر منه إلا واحد) التي تمسّك بها بعضهم لإثبات كون الربط في الجملة تعليقياً إلتصاقياً, فإنَّه يثبت المفهوم إذا كان المراد من طبيعي الحكم وسنخه مطلق الوجود وتمام أفراده, فكأنَّه بمثابة أنْ يقال (إنَّ مجئ زيد موجد لتمام أفراد وجوب الإكرام), ويستفاد إنتفاء الحكم وعدم وجوب إكرامه عند عدم مجيئه, إذ لو وجب إكرامه حتى مع عدم مجيئه فإنَّه يكون فرداً من أفراد الحكم ووجوبُ الإكرام لا يكون مجئُ زيد موجداً له وهو خلف الفرض.

2- أنْ يكون المراد منه صرف وجود الطبيعة من الحكم, فهذا يعني أنَّ الوجود الأول منه يكون معلقاً على الشرط, فإنَّ صرف الوجود يتحقق دائماً في الوجود الأول, فيكون مفاد جملة (إذا جاء زيد فأكرمه)؛ أنَّ أول أفراد وجوب الإكرام معلّق على مجئ زيد.

وهذا صحيح؛ ولكنه يثبت بعض المفهوم لا تمامه, فإنَّه لو لم يجئ زيد أصلاً فلا وجوب للإكرام, ولكن لو فرض أنَّه جاء مرة فوجب إكرامه فأكرمناه ثم بعد ذلك حدث سبب للإكرام كالمرض فشككنا في وجوب الإكرام لذلك السبب لا يمكن نفي إحتمال وجوب الإكرام بمفهوم الجملة, لأنَّه ينفي الوجود الأول لذلك الحكم والمفروض أنَّه تحقق خارجاً.

والحاصل: إنَّه لو كان المراد من طبيعي الحكم تمام الأفراد فإنَّه يغني ذلك في إثبات المفهوم, ولا نحتاج إلى الملاك الآخر لإثبات المفهوم وإنْ كان المراد به صرف

ص: 15


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج 3 ص149.

الوجود وتعليق الوجود الأول للحكم على الشرط, فلا يكفي لإثبات تمام المفهوم حتى لو ضمَّ إليه الملاك الآخر. فلا بُدَّ أنْ يكون المراد من الطبيعي معنى آخر في المقام غير ما ذُكر.

3- أنْ يكون المراد منه طبيعي الحكم من حيث هو لا بقيد تمام الأفراد ولا بقيد الصرافة من دون لحاظ شيء زائد عليه, فإنَّ الإطلاق والشمول أو الوجود الأول شيء زائد على الطبيعة, وهذا المعنى هو المراد من الطبيعي في بحث الأمر والنهي فإنَّ الطبيعة التي تعلق بها الأمر إيجاداً أو تركاً عند تعلق النهي بها إنَّما يراد بها هذا المعنى, فإنَّ الطبيعة إنَّما توجد بوجود فرد منها وفي الترك إعدامها بجميع أفرادها, وبناءً على هذا يتَّضح أنَّنا بحاجة إلى الملاك الثاني في إثبات المفهوم، فإذا ثبت أنَّ طبيعي الحكم بما هو هو أنه هو المراد من السنخ في هذا الملاك فلا بُدَّ من إثبات كون الرابط بين الجزاء والشرط وأنَّه علّة تامة منحصرة في ثبوت الحكم فيكون طبيعي الحكم بما هو هو معلق على الشرط وملتصق به ومحصور فيه, وأمّا إذا لم يثبت الإنحصار فإنَّه يحتمل أنْ يكون الحكم الثابت لزيد بالقيد الخاص لأجل ثبوته له بعنوان أنَّه إنسان, فلا ينتفي بانتفاء زيد بل هو ثابت لغيره, كما يمكن أنْ يكون ثبوته له بعنوانه بنحو البدلية لا على نحو التعيين, بل يكون ثابتاً لزيد بعنوانه أو عمرو بعنوانه بنحو البدلية.

الأمر الثاني: إنَّ هذا الملاك أي إشتراط كون مدلول الجزاء سنخ الحكم لا شخصه إنَّما يحتاج إليه فيما إذا إستفدنا الملاك الآخر وهو كون الربط تعليقياً وإلتصاقياً من المدلول التصوري للجملة, فإنَّه لو كان شخص الحكم هو المعلق دون سنخ الحكم فلا يمكن أنْ يستفاد إنتفاء مطلق الحكم عند إنتفاء الشرط كما هو واضح, وأمّا إذا إستفدنا ذلك من

ص: 16

المدلول التصديقي بواسطة قانون (إنَّ الواحد لا يصدر إلا من واحد) فلا نحتاج حينئذٍ إلى إثبات كون المطلوب في ثبوت المفهوم سنخ الحكم وطبيعته, فإنَّه يثبت حتى مع فرض كون الحكم شخصه لا سنخه, وذلك لأنَّه لو كان المقصود من الواحد في هذه القاعدة هو الواحد بالنوع فيكون المراد من القاعدة إنَّ الواحد بالنوع لا يمكن أنْ يصدر من إثنين بالنوع. فلو كان هناك شخص اخر من نفس نوع الحكم مترتب على شيء أخر غير الشرط لزم صدور الواحد بالنوع من إثنين, فلا بُدَّ من إنتفاء تمام أفراد النوع عند إنتفاء الشرط حتى لا يلزم صدور الواحد بالنوع من إثنين.

وإنْ كان المقصود من تلك القاعدة أنَّ الواحد بالشخص لا يصدر إلا من واحد فإنَّه يستفاد منها المفهوم أيضاً, إذ لو كان هناك علّة أخرى غير الشرط فإنَّه إمّا أنْ تكون علة لنفس هذا الشخص من الحكم فيستلزم منه صدور الواحد من إثنين وهو خلف, وإمّا أنْ تكون علّة لشخص آخر من الحكم فيستلزم منه إجتماع المثلين فيثبت وجوبين على إكرام زيد عند تحقق كلتا العلتين. ولكن مِمّا يهوِّن الخطب عدم صحة التمسك بهذه القاعدة في إثبات الملاك الثاني, فإنَّ الجملة الشرطية بظاهرها يكفي في إثباته كما سيأتي.

والحاصل: إنَّ الضابط في إثبات المفهوم بناءً على هذا الملاك هو أنْ تدلَّ القضية على كون المعلّق على الشرط أو الوصف هو طبيعيّ الحكم بمعنى مطلق وجوده، نظير العموم الإستغراقي، وأمّا إذا كان المعلّق عليها هو طبيعيّ الحكم بما هو هو؛ فإنَّ ثبوت المفهوم على هذه الحالة منوط بدلالة الجملة على النسبة التعليقية؛ أي العليّة التامة المنحصرة، أو بإثبات ذلك بالإطلاق؛ أي بالدلالة التصديقية. وبناءً على هذا الأخير لا فرق بين أنْ يكون الحكم في الجزاء سنخه أو شخصه كالذي في الشرط، وهذا ما سيأتي بيانه.

ص: 17

أما الملاك الأول؛ وهو كون الرابط بين الجزاء والشرط ربطاً لزومياً عليّاً بنحو العلّة التامة المنحصرة بأنْ تدلّ الجملة الشرطية على ربط الجزاء بالشرط, والجملة الوصفية على ربط حكم الموصوف بالوصف ربطاً لزومياً لا إتّفاقياً, وعلياً بأنْ يكون الشرط علّة تامة للجزاء لا أنْ يكونا معلولين لعلّة ثانية, وأنْ تكون العلّة تامة لا ناقصة.

ويثبت هذا النوع من الربط إمّا بالدلالة الوضعية التصورية أو بالدلالة التصديقية كالإطلاق وغيره, فإذا دلَّ الدليل كون الحكم في الجزاء معلق على الشرط بنحو لاينفكّ عنه فإنَّه حينئذٍ إذا إنتفى الشرط سيكشف لا محالة إنتفاء الجزاء؛ سواء ثبت ذلك على مستوى المدلول التصوري أو المدلول التصديقي.

وإنْ دلَّت الجملة بهيئتها أو بأداتها على أنَّ النسبة تعليقية توقفية فإنَّه يثبت المفهوم لا محالة, لأنَّه يدلُّ على الإنتفاء عند الإنتفاء, فاذا قيل (إذا جاءك زيد فأكرمه) فإنَّ معناه أنَّ وجوب إكرام زيد معلق على مجيئه وموقوف عليه فيتمُّ عليه هذا الملاك وتدلُّ الجملة على المفهوم.

وأمّا إذا دلَّت الجملة على النسبة الإيجادية ومجرد الترتيب دون التعليق والتوقف؛ كأنْ يكون المثال السابق يدلُّ على أنَّ مجئ زيد موجب وسبب لوجوب الإكرام فإنَّ مجرد ذلك لا يكفي في إثبات المفهوم لانتفاء التعليق, إذ لا يدلُّ على توقف الحكم في الجزاء على الشرط, كما إذا فرض أنَّ هناك موجدين أو سببين وعلتين في الجزاء, فإنَّه يثبت الحكم في الجزاء من دون أنْ يثبت الشرط, فإذا إفترضنا أنَّ الجملة بهيئتها أو أداتها تدلُّ على هذه النسبة الإيجادية فلا يمكن إثبات هذا الملاك.

نعم؛ إنْ أمكن إثبات النسبة التعليقية والحال هذه من مدلول آخر مثل قاعدة (إنَّ الواحد لا يصدر إلا من واحد) بتقريب أنَّه لو كان للحكم علّة أخرى غير الشرط لزم صدور الواحد عن إثنين وهو مستحيل؛ فلا بُدَّ أنْ لا يصدر الجزاء إلا من الشرط, فإذا إنعدم الأخير

ص: 18

ينعدم الجزاء, ولكن الكلام في ثبوت هذه القاعدة وصحة التمسك بها في أمثال المقام. فإذا تمَّ هذا الملاك سواء بالدلالة التصورية للجملة أو بدلالة تصديقية يثبت المفهوم لا محالة.

هذا كلُّ ما يتعلق بأصل ثبوت المفهوم مطلقاً. والكلام يقع في كلِّ واحد من المفاهيم التي وقعت مورد البحث والأهمية في عملية الإستنباط.

ص: 19

المفهوم الأول: مفهوم الشرط

اشارة

إنَّ الجملة الشرطية إنَّما تدلُّ على المفهوم إذا تمّت نتائج البحث بما يرتبط بها في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: في تحقيق مفاد الجملة الشرطية.

الجهة الثانية: في البحث عن دلالة الجملة على العليّة التامة المنحصرة على مستوى المدلول التصوري والمدلول التصديقي.

الجهة الثالثة: في البحث عن كون الحكم في الجزاء هو سنخه أو شخصه.

أمّا الجهة الأولى؛ فالبحث عن مفاد الجلمة الشرطية يتوقف على تمامية أمور ثلاثة:

الأمر الأول: في مفاد أداة الشرط؛ فإنَّ المشهور بين علماء العربية والمرتكز في أذهان العرف وأصل المحاورة كونها موضوعة للربط بين جملة الشرط وجملة الجزاء الذي إذا تمَّ البحث في الجهة الثالثة والثانية يكون الربط ربطاً تعليقياً عليّاً تاماً, وإلا كان من مجرد اللزوم والترتيب، أي كونه من مجرد النسبة الإيجادية.

ولكن المحقق الإصفهاني قدس سره (1) ذهب إلى أنَّ أداة الشرط ليست موضوعة للربط بين الشرط والجزاء, وإنَّما الدالُّ على ذلك هيئة ترتيب الجزاء على الشرط التي تحصل من فاء الجزاء. وأمّا الأداة فهي موضوعة للفرض والتقدير، أي أنَّ مدخولها -وهو الشرط- يقع في مورد الفرض والتقدير. واستدلَّ له بالوجدان وملاحظة مرادفها بالفارسية(2), فإنَّه شاهد على أنَّ أداة الشرط لا تتكفل سوى هذا المعنى, فإنَّ القائل إذا قال: إنْ جاءك زيد فاكرمه؛ يريد على فرض مجئ زيد إكرامه.

ص: 20


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص320-321.
2- . أي لفظ (اگر).

وأمّا التعليق والترتّب فهو مستفاد من تفريع الجزاء على الشرط والهيئة كما تدل عليها الفاء التي هي للترتُّب.

وأُورد عليه بأنَّه لو كانت الأداة تفيد جعل مدخولها موقع الفرض والتقدير لم يكن هناك حاجة للإتيان بالفاء, كما يشهد لذلك عدم حاجة ذكر الفاء لو عبر عن الفرض والتقدير بالإسم فيقال: على فرض مجئ زيد يجئ عمرو.

وربما يُناقش هذا الرد بأنَّ الهيئة التركيبية لجملة الشرط بدخول الأداة على الشرط والفاء على الجزاء تفيد الفرض والترتيب فلا يرد عليه هذا الإشكال.كما استُدل لما ذهب إليه المحقق الإصفهاني قدس سره بأنَّ كثيراً ما تدخل أداة الإستفهام على الجزاء، فيقال: إنْ جاءك زيد فهل تكرمه أو لا؟. والإستفهام هنا فعليٌ ويترقب السائل أنْ يجيبه المخاطب بالفعل، وفعلية الإستفهام لا يمكن أنْ تُفسر على مبنى المشهور؛ إذ بناءً عليه يكون الإستفهام معلقاً على مجيء زيد, لأنَّ الجملة الإستفهامية هي بنفسها جُعلت جزاءاً في الجملة الشرطية, فلا بُدَّ أنْ لا يكون الإستفهام فعلياً ما دام مجيء زيد ليس بفعليّ وهذا خلاف البديهة. وهذا بخلاف ما ذهب اليه المحقق الإصفهاني قدس سره , فإنَّه يمكن أنْ تفسر فعلية الإستفهام بأنَّه وإنْ كان معلّقاً على الشرط لكنه ليس بواقعٍ مجيء زيد حتى لا يكون فعلياً، وإنَّما الشرط فرض مجيئه، والفرض ثابت وفعليّ ببركة أداة الشرط, فالمعلّق على الشرط الذي هو الإستفهام يكون فعلياً أيضاً, حيث لا إشكال في فعليته فيتعين مبنى المحقق الإصفهاني قدس سره .

والظاهر؛ إنَّ ذلك غير صحيح, لأنَّ الإستفهام وإنْ كان ظاهراً متأخراً في الكلام لكنه في الواقع داخل على الجملة الشرطية، فكأنه قال: هل إذا جاءك زيد فتكرمه. وإنَّ المقصود الجدّي للمتكلم هو الإستفهام الفعلي عن التعليق أو المعلّق وإنْ كان في ظاهر الخطاب

ص: 21

والمدلول التصوري داخل على الجزاء وجزء منه، مضافاً إلى أنَّه يمكن أنْ يقال بأنَّ دخول الإستفهام على الجزاء يكون من تعدد الدال والمدلول؛ فإنَّ (هل) تكون للإستفهام، و(الفاء) تدلُّ على الترتب، فالتعليق والترتب كانا من ناحية الأخير فلا ربط له بفعلية الإستفهام وعدمها.

وكيف كان؛ فإنَّه يمكن أنْ يُستدلّ للمشهور بما يلي:

أولاً: تصريح علماء العربية بأنَّ الأداة في الشرط تدلُّ على الربط والترتّب.

ثانياً: ما ذكره بعض الأعلام(1) من أنّه لا إشكال في أنَّ جملة الشرط قبل دخول أداة الشرط عليها تكون مِمّا يصحُّ السكوت عليها, وبعد دخول الأداة عليها لا يصحُّ السكوت عليها، وهذا الخروج من صحة السكوت إلى عدم صحة السكوت بمجرد دخول أداة الشرط على الجملة إنَّما يصح تفسيره على مبنى المشهور دون مبنى المحقق الإصفهاني قدس سره ، والوجوه التي يمكن بها تفسير هذه الظاهرة إثنان:

الوجه الأول: إنَّ أداة الشرط تبدل النسبة التامة في الجملة المركبة من الفعل والفاعل إلى النسبة الناقصة, فتكون النسبة بعد دخول أداة الشرط مغايرة لما قبل دخولها؛ كالتغاير الحاصل بين النسبة في (جاء زيد) والنسبة في مجيء زيد, وبهذا الإعتبار لا يصحُّ السكوت على الجملة بعد دخول الأداة عليها, لأنَّ النسبةفيها ناقصة, وهذا الوجه يناسب كِلا المبنيين في المقام؛ فإنّ كلاً من المشهور والمحقق الإصفهاني قدس سره يمكن أنْ يدّعي تغيير النسبة وتبدلها إلى الناقصة بدخول أداة الشرط عليها، فلا إشكال من هذه الناحية.

الوجه الثاني: إنَّ أداة الشرط لها سنخ معنى يُنتظر معه شيء زائد على الشرط وإنْ لم تتغير النسبة في الجملة الشرطية بدخولها عليها فتكون جملة الشرط بدون الجزاء كاملة, لكنّ

ص: 22


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص152.

معنى الأداة لا يتمُّ إلا مع الجزاء، ومن هنا لا يصحُّ الإكتفاء بجملة الشرط إذا دخلت عليها الأداة.

و هذا المعنى يناسب قول المشهور دون قول المحقق الإصفهاني قدس سره , لأنَّ مبنى المشهور أنَّ الأداة وضعت للربط بين الشرط والجزاء، ومن الواضح أنَّ الإرتباط لا يكتمل إلا بثبوت طرفيه, بينما إذا كانت النسبة تامة من ناحية الشرط فلماذا لا يكتفي بجملة الشرط بمجرد افتراض هذه النسبة وجعلها مقدَّرة الوجود، وليس الإفتراض مثل الربط حتى يحتاج إلى طرف آخر.

وفيه: إنَّ ما ذهب إليه المحقق الإصفهاني قدس سره أيضاً مِمّا يستلزم الطرفين, فإنَّه ليس مجرد افتراض, بل افتراض على تقديرٍ؛ فيحتاج إلى طرفين، وهذا الوجه مثل سابقه يناسب كِلا المبنيين, فلا حاجة إلى إقامة الدليل على صحة الوجه الثاني دون الأول فإنَّه من التطويل بلا طائل تحته، مع ما فيه من المناقشة؛ فراجع.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ أداة الشرط -كما صرّح علماء العربية- إنَّما تدلُّ على الربط واللزوم بين الشرط والجزاء وهو الظاهر منها، ولكن يلازم هذا المعنى الفرض والتقدير؛ فإنَّ قولنا (إذا جاءك زيد فأكرمه) له مدلولان: أحدهما: مطابقي؛ وهو الربط واللزوم فيحتاج إلى طرفين وهما الشرط والجزاء، والآخر: إلتزامي؛ وهو الفرض والتقدير, بحيث يكون الإكرام على فرض مجيء زيد. والمحقق الإصفهاني قدس سره إنَّما أخذ هذا المدلول الإلتزامي وجعله مدلولاً مطابقياً، وليس الأمر كذلك, واستشهد باللغة الفارسية التي يستعمل فيها لفظ الإحتمال مثل (أگر) ونحوه، فكان مدلولاً مطابقياً عندها، بينما في اللغة العربية تدلُّ الأداة على الربط وهو المدلول المطابقي، فاختلف المدلولان في اللغتين. وقد يترتب أثر على المدلول المطابقي ولا يترتب على المدلول الإلتزامي كما هو واضح.

ص: 23

الأمر الثاني: إنَّ الأداة التي ثبت أنَّها تدلُّ على الربط بين الشرط والجزاء؛ هل تدلُّ على الربط بين المدلولين التصوريين للشرط والجزاء, أو تدلُّ على الربط بين المدلولين التصديقيين؟ ولكن لمّا لم يترتب على ذلك ثمرة مهمة لا نحتاج إلى إطالة الكلام فيه كما صنعه بعض الأعلام، فلو قلنا بأنَّ الربط إنَّما يكون بين المدلولين التصوريين للشرط والجزاء ويتبعه المدلول التصديقي لهما؛ وذلكلمكان الترابط بين المدلولين في المقام في مورد يثبت المدلول التصديقي للجملة الشرطية.

الأمر الثالث: إنّ التعليق إذا كان في المدلولين التصوريين -ولاسيما المدلول التصوري للجزاء- فإنَّه يقع البحث في أنَّ المعلّق هل هو المدلول التصوري للهيئة في الجزاء أو المدلول التصوري للمادة فيه؟ لأنَّ الجزاء مركب من الهيئة والمادة؛ والأولى هي النسبة الإرسالية الطلبية. والمادة تدلُّ على مفهوم إسمي خاص وهو الإكرام -مثلاً-؛ فهل المعلّق هو النسبة الإرسالية أو الإكرام؟.

والكلّ في دائرة الإحتمال؛ فإنْ قلنا بأنَّه الإكرام -كما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس سره (1)- يستلزم منه أنْ يكون قيد الواجب عدم الفرق بين قيود الواجب وقيود الوجوب فلا يجب تحصيلها، فلو قيل (إنْ جاء زيد فأكرمه) فإنَّه لا يجب أنْ نأتي بزيد كي نكرمه, فكيف يقال في امتثال الجملة الشرطية بأنَّ المجيء قيد للإكرام الواجب، وإنْ قلنا بأنَّ المعلّق هو الهيئة والنسبة الإرسالية؛ فيردُّ عليه أنَّ المعنى الحرفي الجزئي لا يقبل التقييد, مع أنَّ تعليقه وتقييده فرعُ ملاحظته إستقلالاً؛ والمعنى الحرفي لا يكون ملحوظاً بالإستقلال.

ولأجل ذلك اختلف العلماء في التغلب على هذا الإشكال؛ فذهب المحقق الإصفهاني قدس سره إلى إنكار التعليق رأساً, فلا تكون نسبة إرسالية في عالم الذهن في المرتبة السابقة

ص: 24


1- . نقل ذلك في بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص160.

على الشرط؛ فإنَّ في الذهن نسبةً واحدة يكون الشرط داخلاً من أول الأمر في بنائها الذهني، وتكون ذات أطراف ثلاثة؛ الأول والثاني هما الطرفان في الجزاء، والطرف الثالث هو الشرط. وهذه الأطراف عرضية لهذه النسبة، وهذا هو معنى الجزئية في المعاني الحرفية لا الجزئية المصداقية, فتنعقد النسبة بأطرافٍ ثلاثة وبذلك تنحلّ المشكلة التي ذكرناها.

وذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى أنَّ مفاد المادة هو المعلّق دون مفاد الهيئة, أي أنَّ المادة المنتسبة بمعنى كونها طرفاً لنسبتين؛ النسبة الإرسالية والنسبة التعليقية، وهذا الوجه يمكن تصويره إمّا على نحو تقييد المادة أولاً بالشرط ثمّ هي بما أنَّها مقيدة تُجعل طرفاً للنسبة الإرسالية.

وأُورد عليه بأنَّه بناءً على ذلك يكون المجيء قيداً للواجب لا للوجوب, وهو خلاف المقصود، أو أنْ تطرأ النسبتان؛ الإرسالية والتعليقية على مفاد المادة في عرض واحد.

ويمكن الإشكال عليه بأنَّه بناءً على هذا سوف لا يثبت التقييد لا في الوجوب ولا في الواجب ولازمه وجوب الإكرام على المكلف فعلاً وإنْ لم يجيء زيد.والصحيح أنْ يقال: إنَّ مراد المحقق النائيني قدس سره وغيره هو أنَّ المادة بما هي معروضةٌ للوجوب، والنسبة الإرسالية طرفٌ للنسبة التعليقية فيكون الإكرام بما هو واجب معلقاً على الشرط وليس الشرط قيداً لنسبة الإكرام إلى الوجوب، بل المقصود أنَّ الشرط قيد لحصة خاصة من الإكرام وهي الإكرام الذي يكون معروضاً للنسبة الإرسالية وللوجوب.

ولعلَّ هذا هو مراد الأعلام الذين ذهبوا إلى تعليق المادة مع اختلاف تعبيراتهم وما يطرأ عليها من مناقشات.

ص: 25


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص479.

كما أنَّه يمكن توجيه تعليق الهيئة والنسبة الإرسالية ولكن بواسطة المفهوم الإسمي, كمفهوم هذه النسبة وتعليقه على الشرط؛ فإنَّ الهيئة وإنْ كانت من المعاني الحرفية ولكن يمكن تصويرها بأحد طرفيها أو بهما, فيمكن تصويرها بوجوه؛ إمّا بواسطة مادتها, أو بواسطة مفهوم معنىً إسمي ونحو ذلك، وهذا هو روح من يقول بأنَّ المادة بما هي معروضة للنسبة؛ فلا إختلاف.

ومن جميع ذلك يظهر مفاد الجملة الشرطية, وهو تعليق مفاد الهيئة على الشرط والربط بين المدلولين في الشرط والجزاء, فيكون مفادها مطلق الربط واللزوم؛ الأعم من العِلِّي الإنحصاري.

الجهة الثانية:

اشارة

الجهة الثانية: في إثبات أنَّ الربط بين الشرط والجزاء في الجملة الشرطية ربط عِلِّيٌ إنحصاري؛ فتدلُّ الجملة الشرطية على الوجوب العِلِّي الإنحصاري. وعليه؛ يثبت المفهوم.

وقد إستدلَّ الأصوليون على ثبوت المفهوم للجملة الشرطية بأمور؛ بعضها يرجع إلى الوضع والدلالة التصورية، وآخر يرجع إلى الإطلاق والبرهان وهو يرجع إلى الدلالة التصديقية، وهي:

الأمر الأول: التبادر؛ بدعوى أنَّ التبادر من هيئة الشرط أو أداته؛ كونها موضوعة للربط بنحو اللزوم العِلّي الإنحصاري.

وأُورد عليه بأنَّ لازم ذلك أنْ يكون استعمال الجملة الشرطية في موارد عدم إرادة المفهوم بنحو المجاز والعناية؛ مع أنَّ الوجدان يقضي بخلافه, فإنَّ المتبادر منها ليس إلا ترتب الجزاء على الشرط لا أكثر, فلا يكون استعمالها في غير موارد الإنحصار مجازياً وبنحو العناية.

الأمر الثاني: دعوى انصراف العليّة الإنحصارية في الجملة الشرطية باعتبارها أكمل أفراد اللزوم وأجلاها، والمطلق ينصرف إلى أكمل الأفراد.

ص: 26

ومنعه المحقق الخراساني قدس سره (1) كبرى وصغرى؛ أمّا الكبرى فإنَّ الإنصراف إنَّما ينشأ من أنس اللفظ بالمعنى من جهة كثرة استعماله فيه, فلا يكون على أساس الأكملية أو أشدية بعض حصص المعنى ثبوتاً، ولذلك لا تنصرف كلمة الإنسان إلى أكمل أفراده, وإذا حصل مثل ذلك فإنَّما ينشأ لعوامل وأسباب خارج الوضع تجعل علاقة اللفظ ببعض الحصص من المعنى الموضوع له أكثر وآكد من علاقته بالبعض الآخر، ولا ربط لهذا بالإنصراف الذي يكون علامة على الحقيقة.

وأمّا الصغرى فإنَّ اللزوم الإنحصاري ليس بأكمل أو أشدّ إستحكاماً من اللزوم غير الإنحصاري بعد اشتراكهما في أصل الإيجاد والإستلزام الموجود بين العلّة والمعلول.

نعم؛ تختلف درجة حاجة المعلول إلى العلّة بوجود علّة أخرى أو عدمها وتوقفه عليها.

الأمر الثالث: التمسك بالإطلاق في الشرط وفي الجزاء، أو في الترتب لإثبات المفهوم في الجملة الشرطية.

وقد تبيّن من مجموع البحوث السابقة أنَّ إثبات المفهوم للجملة الشرطية يتوقف على تحديد أمور معينة, وهي:

1- الإستلزام بين الشرط والجزاء؛

وقد عرفت سابقاً ثبوته بالوضع, فهو مدلول الهيئة الشرطية أو أداتها.

2- كون الإستلزام على سبيل العليّة.

3- كون العليّة إنحصارية.

وكِلا هذين الأمرين يثبتان بالإطلاق؛ أمّا الأمر الثاني فإنَّه يمكن إثباته إمّا لأجل أنَّه مقتضى التطابق بين مقام الإثبات والثبوت للكلام؛ فإنَّه كما يكون الجزاء بحسب مقام

ص: 27


1- . كفاية الأصول؛ ص196.

الإثبات متأخراً ومترتباً على الشرط كذلك يكون الأمر بينهما ثبوتاً، وإلا لم تكن مرحلة الإثبات متطابقة مع عالم الثبوت, وهو خلاف الإطلاق.

ورُدَّ بأنَّ غاية ما يقتضيه مقام الإثبات ترتّب الجزاء على الشرط من دون تعيين ذلك في الترتب العلّي الرتبي, فربما يكون الترتب زمانياً من دون عليّة ومعلولية.

وقد ذكر بعض الأعلام في توجيه هذا الأصل بأنَّ أصل التطابق بين مقام الثبوت والإثبات مردّد بين معنيين؛ أحدهما باطل والآخر صحيح, ولكنه لا يفيدنا في المقام.

أمّا المعنى الصحيح فهو: إنَّ الأصل في كلِّ ما ورد على لسان المتكلم في مرحلة المدلول الوضعي التصوري للكلام أنْ يكون قاصداً له واقعاً، وهذا المعنى وإنْكان صحيحاً لكنه لا يجري في المقام, لأنَّه يستلزم منه التجوّز إذا استعملت الجملة الشرطية من دون علّية، مع أنَّه واضح البطلان.

وأمّا المعنى الباطل؛ فإذا أُريد بأنْ يكون في مقام الإثبات, وهو عالم نفس الألفاظ بما هي دوالّ لا عالم المدلول؛ فيقال: إنَّ تركيب الكلام وبنائه اللفظي والترتيب المقرّر بين مفرداته نحوياً ولغوياً يكون الأصل فيه التطابق مع مقام الثبوت، والمراد التصديقي من وراءه. فالشرط -مثلاً- باعتباره مقدماً على الجزاء بحسب الرتبة في عالم اللفظ ينبغي أنْ يكون كذلك بحسب عالم الثبوت أيضاً بمقتضى أصالة التطابق؛ ولكنه باطل؛ لعدم وجود أصل عقلائي يدلُّ على هذه المطابقة، وأصالة التطابق المعروفة إنَّما هي ظهور حالي للمتكلم يراد به المعنى الأول, فما يذكره المتكلم من مداليل تصورية في كلامه ينبغي أنْ يكون قاصداً لها وليس هازلاً.

ولكن يمكن أنْ يقال بأنَّ ظاهر حال المتكلم أنْ يكون كلامه مطابقاً لما يقصده من مدلولات الألفاظ، ولأجل ذلك يستفيد السامع من كلامه مقصود المتكلم بحيث لو إدّعى خلاف

ص: 28

المدلول لا يقبل منه دعواه، وقد إتَّفق العقلاء على اعتبار إقراره وعقوده وإيقاعاته ونحو ذلك.

نعم؛ إنَّ بنية الكلمات وهيئات الجمل لها دخل في استفادة المعاني المدلول عليها ولا يمكن الإستغناء عنها في مرحلة الدلالة، وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات بأنْ يقال أنَّ المستفاد من ظاهر بناء الجملة الشرطية الذي فيه تقديم الشرط على الجزاء هو العليّة في الترتب، ولكن ذلك غير تام ما لم ينضمّ إليه دليل آخر, وهو الرجوع إلى إطلاق الترتب الذي سيأتي الكلام فيه، فلا بُدَّ من إثبات كون الإستلزام بين الشرط والجزاء علّياً إنحصارياً -وهو الأمر الثاني من الأمور السابقة- بالتمسك بالإطلاق، وهو على أنحاء ثلاثة:

النحو الأول: التمسك بإطلاق الهيئة وإرادة الشرط وإطلاق ترتب الجزاء عليه؛ فإنَّه يقتضي العليّة التامة المنحصرة, كما إذا دار الأمر في الوجوب بين كونه نفسياً وغيرياً، فإنَّه يُتمسك بالإطلاق لإثبات النفسية، وكذلك مقامنا؛ فإنَّه يُتمسك بإطلاق الأداة أو هيئة الشرط على كون الترتب المدلول لها بنحو الإنحصار.

وقد قرَّبه المحقق الإصفهاني(1) ببيان: كما أنَّ خصوصية الوجوب النفسي خصوصية عدمية لأنَّه الوجوب لا للغير؛ لا تحتاج إلى بيان زائد فيتمسك بالإطلاق لإثباتها ونفي الوجوب الغيري, لأنَّ خصوصيته وجودية، لأنَّه الوجوب للغير, فكذلك الترتب المنحصر فإنَّه ترتب على هذا الشرط لا غير, في قبال الترتب غير المنحصر فإنَّه الترتب عليه وعلى الغير، فالإطلاق يثبت به الترتبالمنحصر لأنَّه لا يحتاج إلى مؤونة زائدة على بيان نفس الترتب بقول مطلق لأنَّ قيده عدمي.

ص: 29


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص321.

وأورد عليه جمعٌ من الأصوليين منهم المحقق الخراساني قدس سره (1) بإيرادين:

الأول: إنَّ معنى الهيئة أو الأداة حرفيٌ وهو لا يقبل الإطلاق والتقييد لأنَّه لا بُدَّ من لحاظ المطلق أو المقيد باللحاظ الإستقلالي، ومعنى الحرف لا يقبل اللحاظ الإستقلالي لأنَّه ملحوظ آلياً وإلا لما كان معنىً حرفياً.

الثاني: إنَّ تنظير المقام بمقام دوران الوجوب بين النفسي والغيري قياس مع الفارق، وذلك لأنَّ الوجوب النفسي يلازم الإطلاق, فهو وجوب على كلِّ حالٍ؛ سواء وجب غيره أم لم يجب، بخلاف الوجوب الغيري فإنَّه ثابت في حالٍ دون آخر, فإذا كان الكلام مطلقاً صحّ التمسك بإطلاقه لإثبات الوجوب النفسي, بخلاف غيره الذي يحتاج إلى مؤونة التقييد.

وليس الأمر كذلك في الترتب في الجملة الشرطية, فإنَّ كلَّ نحوٍ من أنحاء الترتب يحتاج إلى مؤونة وقرينة في بيانه، فلا وجه للتمسك بالإطلاق لإثبات الترتب المنحصر؛ إذ ترتب الجزاء على هذا الشرط ثابت سواء ثبت الترتب على الغير أم لم يثبت، فإنَّ عدم الإنحصار لا يوجب تقييد الترتب بحالٍ دون آخر حتى يُنفى بإطلاق ما يدلُّ على الترتب.

وبعبارة أخرى: إنَّ الإطلاق لا يساوق الترتب المنحصر, فلا بُدَّ من تقييد أحدهما بقرينة خاصة.

وأورد عليه المحقق الإصفهاني قدس سره (2) بإيرادين:

أمّا الأول؛ فبالنقض في غير هذا المقام أيضاً كالتمسك بإطلاق هيئة الوجوب لإثبات عدم تقييده بقيد وكونه مطلقاً، والتمسك بإطلاق صيغة الأمر لإثبات الوجوب دون الندب

ص: 30


1- . كفاية الأصول؛ ص195.
2- . نهاية الدراية؛ ج1 ص322.

بناءً على عدم الإلتزام بوضعها للوجوب فقط أو الطلب المطلق, مع أنَّ معنى الهيئة حرفي لا يقبل اللحاظ الإستقلالي فلا يقبل الإطلاق.

وأمّا الثاني؛ فإنَّ الوجوب النفسي والغيري يختلفان سنخاً؛ فكان مقتضى الإطلاق تعيين النفسي وليس كذلك الترتب المنحصر وغيره فإنَّهما متَّحدان سنخاً فلا يتعين إطلاق أحدهما.

والصحيح أنْ يقال: إنَّ جميع ما ذكر قابل للمناقشة, بل بعضها بعيد كما ذكره المحقق الخراساني في بحث الوجوب والندب، كما أنَّها بعيدة عن الفهم العرفي وبنائهم, فإنَّ مقتضى ظاهر حال المتكلم حين التكلم كونه في مقام بيان كلّ ما له دخل في مراده مطلقاً إلا مع القرينة على الخلاف، فيكون حكم صورة الشك حكمصورة إحراز كونه في مقام البيان لأصالة كونه في مقام البيان التي هي من الأصول المحاورية المعتبرة في المحاورات والإحتجاجات. وقد تفطّن السيد الوالد قدس سره لذلك, وسيأتي تفصيل الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

النحو الثاني: التمسك بإطلاق الشرط؛ وذلك لأنَّ مقتضى إطلاقه كونه شرطاً مطلقاً؛ سبقه شيء أو قارنه أو لا، وهو يساوق العليّة المنحصرة, فإنَّه إذا لم يكن شرطاً منحصراً لكان التأثير للسابق فيما إذا سبقه غيره، والجامع بينهما أو كليهما عند المقارنة ينافي الإطلاق.

وبالجملة: الشرطيةُ بقولٍ مطلق تساوق الإنحصار فتثبت بالإطلاق لاحتياج غيرها إلى مؤونة زائدة.

وأشكل عليه بأنَّه يحتاج إلى إحراز كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة، وهو غير معلوم إلا نادراً, فلا يمكن الإلتزام بالمفهوم حينئذٍ.

ص: 31

وقد اختلف شرّاح الكفاية من تلامذة الآخوند الخراساني في تفسير كلام أستاذهم من باب عدم كون المتعلم في مقام البيان من هذه الجهة؛ فقال المحقق الإصفهاني(1) وبعض المحشين على الكفاية(2) في مقام الإيراد عليه من أنَّ القضايا الشرطية الشرعية ليست في مقام بيان فعلية تأثير هذا الشرط وعليّته فعلاً، بل هي في مقام بيان اقتضاء هذا الشرط لتحقق الجزاء، وهو لا ينافي عدم ترتب الجزاء عليه لاحتفافه بالمانع أو عدم الشرط، كما لا ينافي كون غيره مقتضياً إلا إذا كان في مقام بيان أنَّه شرط مؤثر فعلاً، فحينئذٍ يكون مقتضى الإطلاق إنحصار الشرط فيه.

ولكن ذلك غير تام لما عرفت آنفاً من أنَّ ظاهر حال المتكلم كونه في مقام بيان كلّ ما له دخل في مراده مطلقاً إلا مع القرينة على الخلاف، واعتبره السيد الوالد قدس سره (3) من الأصول المحاورية مضافاً إلى أنَّنا لو قلنا بما ذكره العَلَمان والتزمنا به يستلزم تأسيس فقه جديد, لأنَّ مقتضاه عدم إستفادة فعليّة الوجوب عند تحقق الشرط في القضايا الشرطية الواردة في لسان الشارح؛ ولا يقول به أحد من العلماء.

ولكن يمكن أنْ نقول بأنَّ الأصل المحاوري وإنْ إقتضى أنْ تكون الجملة الشرطية في مقام إفادة الشرطية الفعلية إلا أنَّه لا يلازم القول بأنَّ مقتضى الإطلاق بهذا النحو ثبوتَ المفهوم, لأنَّه يتوقف على إثبات إنحصار العلة لسنخ الحكم، وإنْ أفاد هذا الوجه إنحصار الشرط في شخص الحكم المعلّق.

ص: 32


1- . نهاية الدراية؛ ج1ص322.
2- . وهو المشكيني كما ذكره المحقق النائيني في أجود التقريرات؛ ج 1ص417.
3- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص110.

ويمكن الرد عليه بأنَّ الأصل الذي اقتضى أنْ يكون المتكلم في مقام بيان كلّ ما له دخل في مراده مطلقاً يثبت الإنحصار أيضاً، ولعله من أجل ذلك ذهب الأعلام إلى اقتضاء الإطلاق للمفهوم.

وسيأتي تتمة البحث في تداخل المسببات مع تعدد السبب إنْ شاء الله تعالى.

ثم إنَّه قد ذكر بعض المعاصرين(1) في إفادة المحقق الخراساني قدس سره من أنَّ الجملة الشرطية إنَّما تدلُّ على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط لا أكثر، أمّا إستناده إليه فهي لا تدلُّ عليه، وذلك لأنَّ الجملة وضعاً لا تدلُّ إلا على الحدوث عند الحدوث، أمّا دلالتها على استناده إلى الشرط فهو يتوقف على إجراء مقدمات الحكمة وهي غير تامة؛ لعدم كون المتكلم في مقام البيان من جهة، ولأنَّ الجملة بحسب الوضع الأولي موضوعة للأعم أو لإفادة كلتا الجهتين, ولكنها بحسب الإستعمال الكثير يلحظ فيها الدلالة على الحدوث عند الحدوث, أمّا إستناده الفعلي إليه فليس المتكلم في مقام بيانه, فلا يمكن التمسك بإطلاق الكلام لإثبات الإنحصار.

ويرد عليه ما أسلفنا ذكره من ثبوت الأصل المحاوري المعتبر إلا مع القرينة على الخلاف.

النحو الثالث: التمسك بإطلاق الشرط في نفي البدل والعِدل؛ كالتمسك بإطلاق الوجوب لإثبات كونه تعيينياً في قبال كونه تخييرياً، فكما أنَّ الوجوب التخييري يحتاج إلى مؤونة زائدة, بخلاف الوجوب التعييني فإنَّه لا يحتاج إلى ذلك؛ فيُنفى الوجوب التخييري بالإطلاق ويثبت به التعييني، كذلك العليّة غير المنحصرة التي تحتاج إلى بيان كأنْ يقول: (إنْ جاءك زيد وأكرمك فأكرمه)، وهذا البيان لا تحتاجه العليّة المنحصرة, فمع الشكِّ يُتمسك بإطلاق الكلام ويُنفى البديل للشرط.

ص: 33


1- . منتقى الأصول؛ ج3 ص230.

والفرق بين هذا النحو وسابقه واضح؛ فإنَّه في السابق يحاول إثبات الإنحصار عن طريق إثبات ترتب الجزاء على الشرط وعدم تأثير غيره فيه لو انعدم هذا الشرط وجاء غيره.

وقد ناقش صاحب الكفاية(1) في هذا الوجه بأنَّه لا وجه لقياس المقام بمقام الوجوب التعييني والتخييري, لأنَّ الوجوب التعييني يختلف سنخاً عن الوجوب التخييري، فإنَّ نحو تعلّق الوجوب التعييني يختلف عن نحو تعلق الوجوب التخييري, لأنَّه يحتاج إلى بيان وجود العِدل والبدل فيتمسك في نفيه بالإطلاق.

أمّا الشرط فهو لا يختلف سنخاً في صورة التعدد والإنحصار, فإنَّ شرطية الشرط وترتب الأثر عليه وتأثيره في الجزاء بنحو واحد سواءً إتَّحد الشرط أو تعدد.والحقُّ أنَّ ما ذكره قدس سره لا يرجع إلى محصّل, فإنَّ الإختلاف في الصورة لا يوجب رفع اليد عن الأصل المحاوري القائم في المحاورات الذي دلَّ على العليّة والإنحصار، ولأجل ذلك ذهب المحقق النائيني(2) وغيره إلى ثبوت مفهوم الشرط إستناداً إلى هذا النحو من الإطلاق, وإنْ أطال الكلام في تقسيم الشرط في الجملة الشرطية إلى أنَّه إمّا أنْ يكون مِمّا يتوقف عليه متعلق الحكم في الجزاء عقلاً نظير قولهم (إنْ رُزقت ولداً فاختنه). وفي مثله لا يكون مفهوم للقضية الشرطية بل يكون حالها حال اللقب في عدم الدلالة على المفهوم.

وإمّا أنْ لا يكون مِمّا يتوقف عليه متعلق الحكم في الجزاء عقلاً نظير (إذا جاءك زيد فأكرمه). وفي مثله يكون الحكم مقيداً به؛ إذ الإحتمال ممتنع, والإطلاق ينافي ترتب الحكم عليه, فيتعين أنْ يكون مقيداً به.

وهو أيضاً تطويل لا طائل تحته إذا كان الأصل المحاوري يقتضي ذلك.

ص: 34


1- . ص196.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص418.

وقد أطالوا الكلام بما فيه النقض والإبرام. وبالأثناء قد تم الكلام عن الجهة الثالثة(1).

ومن كلِّ ما تقدّم تبيّن عدم تمامية الأدلَّة المتقدمة لإثبات المفهوم في الجملة الشرطية؛ إمّا لأجل ثبوت الدليل الوضعي في الدلالة التصورية أو لأجل عدم تمامية الإطلاقات الثلاثة في الترتب والشرط والجزاء في مرحلة الدلالة التصديقية، وقد أنكرها السيد الوالد قدس سره (2) لوجهين:

أحدهما؛ ثبوت كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة, أي: العليّة التامة المنحصرة, فلا يتم الإطلاق لعدم تمامية مقدمات الحكمة.

والآخر؛ إنَّها ترجع إلى الإنصراف الذي عرفت عدم ثبوته صغرىً وكبرىً في المقام، ثم قال بأنَّ تلك الأدلَّة وإنْ كانت قابلة للمناقشة ولكن من مجموعها يمكن إستظهار المفهوم للجملة الشرطية.

وتفصيل ذلك أنْ نقول بأنَّ الإستدلال على وجود وظهور دلالة في كلام إنَّما يثبت بأحد طرق ثلاثة، وهي مفقودة في المقام، وهي:

الأول: الإستدلال بتطبيق كبرى من كبريات الدلالة وقرينة عامة تنطبق على محلِّ الكلام؛ كما هو الحال في تطبيق قرينة الحكمة العامة لإثبات معنى معين.

الثاني: الإستدلال بالملازمة بين معنى مفروغ عنه وكونه للفظ مع معنى آخر فيثبت تبعاً لذلك المعنى الثاني.

الثالث: إبراز حيثية تعليلية للإستظهار بنحو يكون قابلاً للإدراك المباشر؛ كما في موارد يكون الإستظهار فيها ناشئاً من قرينة إمّا لفظية غفل عنها أو معنوية قائمة على أساس

ص: 35


1- . وهي كون الحكم في الجزاء هو سنخه أو شخصه.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص110.

مناسبات الحكم والموضوع، وجامع القسمين هو إثبات الدلالة والظهور على أساس إبراز القرينة الشخصية القابلة للإدراك المباشر.

وإذا لم يمكننا إثبات ظهور أو دلالة بأحد الوجوه الثلاثة فلا يبقى طريق آخر سوى الوجدان القائم على الطريق الساذج الإعتيادي لإثبات الظهور والدلالة مطلقاً.

ومفهوم الجملة الشرطية لا يمكن إثباته بأحد الطرق الثلاثة؛ لا بقرينة الحكمة التي عرفت المناقشة فيها، ولا ببرهان الملازمة بين ما هو المدلول الوضعي للجملة أو الأداة مع المفهوم, وأمّا الطريق الثالث فلا يتمُّ إلا في موارد معينة تقوم فيها القرينة؛ فلا يمكن استفادة قاعدة كلية.

وعلى هذا لم يبق إلا طريق الوجدان الذي يبتني عليه الإنسباق الذي لا نشكُّ فيه، وبعد بطلان الصياغة البرهانية والعقلية في المقام نرجع إلى هذا الطريق المبني على الفهم العرفي للإستدلال به لإثبات المفهوم للجملة الشرطية, وإذا راجع كل إنسان وجدانه العرفي يحسّ بثبوت عدة وجدانيات عرفية عنده، وهي:

1- ثبوت المفهوم للجملة الشرطية التي يكون الجزاء فيها إنشائياً.

وهذا هو المحسوس وجداناً, وعليه طريقة الفقهاء في مباحث ومسائل الفقه.

2- إنَّ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ليست بنحوٍ لو لم يكن لهذا المفهوم كما إذا كان استعمال أداة الشرط في ذلك المورد مجازاً وبعناية.

وقد اعترف بذلك الأصوليون بأجمعهم.

3- إنَّ دلالة الجملة الشرطية على المفهوم قابلة للتبعيض والتجزئة؛ بمعنى: إنَّه إذا كان هناك شرط واحد كان المفهوم واحداً حول ذلك الشرط, وإذا كان متعدداً فلا يلغى المفهوم بذلك رأساً بل يتبعّض، ولكن يثبت المفهوم بلحاظ ما عدا العلّتين ولو كان الإنحصار في ذلك الشرط قد انتقض على كلِّ حال.

ص: 36

4- إنَّ الوجدان يقضي بعدم ثبوت المفهوم للجمل الشرطية التي يكون الجزاء فيها جملة خبرية, كما إذا قيل: (إذا شرب زيد السمّ فسوف يموت)؛ فإنَّه لا يدلُّ على الموت إذا لم يأكل السم.

وهذه الأمور الوجدانية لا يمكن إنكارها وإنْ كان يعرض التنافي بين بعضها، ولأجل عدم إستطاعة الأصوليين التوفيق بينها شكَّكوا في أصل ثبوت المفهوم للجملة الشرطية. ومن هنا يمكن تقسيم الجملة الشرطية إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما إذا كان الشرط فيها مسوقاً لبيان الموضوع ولمجرد فرضه فقط من دون إرادة الإنتفاء عند الإنتفاء قطعاً.نظير قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (إنَّ الله إذا حَرَّمَ شَيْئاً حَرَّمَ ثَمَنَهُ)(1)؛ فإنَّه لا يدلُّ على أنَّه إذا حلّل شيئاً حلّل ثمنه, لأنَّها سيقت لمجرد فرض الموضوع لا أكثر.

القسم الثاني: ما يذكر الشرط بلسان الحكومة.

كما لو قال: أكرم العلماء، ثم قال: إذا كانوا عدولاً؛ فإنَّ الشرط مسوق لبيان وشرح الجملة الأولى وموضح لصفة العلماء. وفي مثل ذلك يدلُّ على الإنتفاء عند الإنتفاء, لكن لا من باب المفهوم بل من باب الشرح والتحديد، فمن ينكر المفهوم للجلمة الشرطية لا ينكر المفهوم في مثل هذه القضية الشرطية.

القسم الثالث: ما إذا استعملت القضية الشرطية في المفهوم.

ومثل هذا القسم كثير في القضايا الشرعية والعرفية, وهو محل البحث, فالظاهر أنَّ الإستعمال فيها لا يكون مجازياً عنائياً, فلا بُدَّ من إلتماس الخصوصية التي تقتضي الدلالة على المفهوم، وقد عرفت عدم تمامية الطرق الثلاثة لإثبات المفهوم في مرحلة الدلالة

ص: 37


1- . السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي (والمستطرفات)؛ ج 2 ص44.

التصورية الوضعية لا في مرحلة الدلالة التصديقية, فلا بُدَّ أنْ يكون الدليل على ضوء تلك الوجدانات الأربعة.

وقد أطال البحث بعض الأعلام في رفع التنافي والتهافت بين بعضها البعض، وكذا في مرحلة الدلالات الثلاث للجملة الشرطية بما لا يحتاج إلى الإطالة فراجع كلامه(1), مع إنَّه لم يثبت السر الكامن في هذه الوجدانات المسلمة التي يثبت بها المفهوم. وفي آخر الأمر أرجع البحث إلى ما ذكره في بحث الوضع من الفرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة والجملة الإنشائية والجملة الخبرية التي هي موضع نقاش.

ولا نحتاج إلى ذلك التطويل, فالعمدة هو الرجوع إلى الوجدان أيضاً في إثبات المفهوم للجملة الشرطية الذي يقضي بثبوته في الجملة الشرطية ولاسيما الشرعية فيها، ولعل السرّ يرجع إلى أنَّ المتكلم في الشرطية في مقام بيان ما هو الشرط فيكون مقتضى الإطلاق المقامي إنحصار المذكور.

وهذا هو الذي يوافق النظر العرفي في القضايا الشرطية, فإنَّ الإطلاق المقامي يقتضي التمسك بعدم بيان المتكلم وسكوته في مورد يكون عليه البيان لو كان مريداً للقيد. وما نحن فيه يكون مقتضى الإطلاق المقامي عدم وجود شرط غير ما ذكر في الجملة فيكون لازمه الإنتفاء عند الإنتفاء.

والنتيجة هي دلالة الجملة على التعليق، ومنه تظهر ثمرة البحث بعد بيان الوجه في ثبوت المفهوم الذي يرجع إلى الوجدان والإطلاق المقامي للمتكلم، والثمرة تتلخص فيما يلي:أولاً: إنَّ تلك الوجدانات المتعددة ترجع إلى ارادة المتكلم في الجملة الشرطية وكونه في مقام بيان ما هو الشرط, وبذلك يرتفع التهافت المزعوم في تلك الوجدانات الأربعة.

ص: 38


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص175.

ثانياً: إنَّ فيه إكتشاف جوهر الدلالة ومرتبتها وقيمتها الدلالية.

ثالثاً: إنَّه يمكن تأسيس قاعدة كلية في مفهوم الجملة الشرطية بحيث يرجع المشكوك إليها فإنَّه إمّا لأجل الظهور الحالي للمتكلم أو لأنَّ الغالب في الإستعمالات العرفية إستعمال القضية الشرطية في ذلك, ففي مورد يشكّ فيه يلحق بالغالب فإنَّ الغلبة إذا بلغت إلى حدٍّ تكون من الأمارات العرفية الموجبة لظهور الكلام في ذلك, ولعله لأجل جميع ذلك لم يختلف الفقهاء في ثبوت المفهوم للجملة الشرطية الشرعية وإنْ إختلف الأصوليون لأجل إلتماسهم الدليل والبرهان له, وعرفت عدم تماميته, هذا كلّه في ثبوت المفهوم للجملة الشرطية.

تنبيهات مفهوم الشرط
التنبيه الأول: الصور التي يمكن تصويرها في الشرط والجزاء

التنبيه الأول: الصور التي يمكن تصويرها في الشرط والجزاء من حيث الوحدة والتعدد من حيث الشرط والجزاء هي:

1- أنْ يكونا متَّحدين في الشرط والجزاء. كما إذا قيل: (إنْ جاءك زيد فأكرمه).

2- أنْ يكون الشرط متعدداً والجزاء متَّحداً. نظير ما ورد: (إذا خفي الجدران فقصر) و(إذا خفي الأذان فقصر)(1).

3- أنْ يكون الشرط متَّحداً والجزاء متعدداً. كما إذا قيل: (إنْ جاءك زيد فأكرمه وسلِّم عليه).

4- أنْ يكون كلّ واحد منهما متعدداً. كما إذا قيل: (إنْ جاءك زيدٌ فأكرمه, وإنْ سلَّم عليك فسلِّم عليه).

ص: 39


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 8 ص461 – 470.

ولا ريب في صحة الجميع ثبوتاً وإثباتاً في المحاورات وإنْ كان هناك بحث في الصورة الثانية؛ مثل قولهم: (إذا خفي الجدران فقصر) و(إذا خفي الأذان فقصر)؛ وهو تارة يقع في جملة واحدة كما إذا قيل: (إنْ جاءك زيد وسلَّم عليك فأكرمه)، أو يقع في جملتين كالمثال الذي ذكرناه في خفاء الأذان والجدران.

ويقع الكلام في هذا القسم وسياق الكلام في الأول، والوجوه المحتملة فيه هي:

الأول: أن يكونا متلازمين في التحقق الخارجي، فلا ريب أنّ الشرط حينئذٍ يكون واحداً وهو الجامع بينهما.

الثاني: أن يقع التعارض بين إطلاق المنطوق في كل منهما مع إطلاق المفهوم في الآخر، ولأجل رفع اللغويةفي الكلام نرفع اليد عن إطلاق منطوق الشرط فيكل منهما في التمامية أي الإطلاق في كل منهما المقابل للعطف بالواو فيثبت لمجموعهما علّة واحدة لوجوب التقصير.

الثالث: أنْ نرفع التعارض برفع اليد عن إطلاق المفهوم في كلٍّ منهما، أي تقييد إطلاق الشرط في كلٍّ منهما من حيث الإنحصار وهو الإطلاق المقابَل بأو فنلتزم بوجود علتين مستقلتين لوجوب التقصير ويتحقق الحكم عند أحد الشرطين فيكون الثاني كاشفاً عن السابق.

وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ الإحتمال الأول هو الذي يطابق المتفاهم العرفي, فيكون الشرط في كلٍّ منهما كاشفاً عن جامع عرفي, وهو في المقام طيّ مسافة معينة عن المدينة التي خرج منها المكلف حتى يجب عليه التقصير, فيكون المؤثر هو الجامع بين الشرطين لا كلٍّ منهما بعنوانه بل بما هو فرد للجامع.

ص: 40


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص112.

وقد استدل عليه المحقق الخراساني بخمسة وجوه:

الوجه الأول: الإلتزام بتقييد مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الأخرى، إذ النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، بل النسبة هي العموم من وجه، لأنَّ المنطوق يشمل صورة المفهوم للآخر وعدمه.

الوجه الثاني: الإلتزام بعدم المفهوم في كلٍّ منهما، فلا تدلُّ كلّ جملة إلا على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، وهو لا ينافي ثبوته عند ثبوت الآخر.

الوجه الثالث: الإلتزام بتقييد إطلاق الشرط المقابل للعطف بالواو في كلٍّ منهما بالآخر، فيكون الشرط هو المركب منهما، لا كلٍّ منهما مستقلاً.

الوجه الرابع: الإلتزام بأنَّ المؤثر هو الجامع بين الشرطين لا كلّ منهما بعنوانه، بل كلّ منهما بما هو فرد الجامع.

الوجه الخامس: رفع اليد عن المفهوم في أحدهما(1).

وقد رجّح صاحب الكفاية الوجه الثاني بلحاظ النظر العرفي، فذهب إلى أنَّ العرف يساعد عليه. ورجَّح الرابع بحسب النظر الدقي العقلي، فذهب إلى أنَّ العقل يعينه لاستحالة تأثير المتعدد بما هو متعدد في واحد، فوحدة الجزاء تكشف عن وحدة المؤثر، وهو يقتضي أنْ يكون المؤثر هو الجامع بين الشرطين لا كلاً منهما بنفسه؛ لامتناعه عقلاً بمقتضى قانون السنخية بين العلة والمعلول.

ثم إنَّ المحقق النائيني قدس سره (2) ذكر في المقام إنّه يقع التعارض والتساقط بين الدليلين لأنَّه من التعارض بين إطلاقين, ثم أشكل على نفسه بأنَّه قد يقال بسقوط الإطلاق المقابل

ص: 41


1- . كفاية الأصول؛ ص201.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص424.

للتقييد, لأنَّه متفرع على الإطلاق المقابل للعطف بالواو, إذ الإنحصار في العلة في طول إثبات أصل العليّة.

وقد ذكر في الجواب عنه بأنَّ التعارض في المقام إنَّما هو بملاك العلم الإجمالي وهو يكذب أحد الإطلاقين، ونسبته إلى كلٍّ منهما على حدٍّ سواء وإنْ فرض وجود طولية بينهما في الرتبة فيسقطان معاً عن الحجية, ويرجع بعد ذلك إلى الأصل العملي الذي يقتضي رفع اليد عن الإطلاق المقابل للعطف بالواو إذ نشكُّ في وجوب القصر عند تحقق أحد الشرطين منفرداً عن الآخر الذي هو مفاد الإطلاق المقابَل بأو فتجري البراءة عنه.

وكلامه قدس سره يبتني على دعائم ثلاث:

الأولى: ثبوت التعارض بين الإطلاقين، ويتعين حينئذٍ سقوط الإطلاق المقابل لأو لثبوت الطولية بين الإطلاقين.

الثانية: التكافؤ بين الظهورين المتعارضين, لأنَّ كلاً منهما يكون بالإطلاق ومقدمات الحكمة فيحكم بالتساقط.

الثالثة: إنَّ مقتضى الأصل العملي بعد التساقط هو التقييد بالواو, أي: رفع اليد عن إطلاق المنطوق.

وكل هذه الدعائم قابلة للمناقشة؛

أمّا الدعامة الأولى؛ فقد يقال في دفعها بأنَّ أصل شبهة سقوط الإطلاق المقابَل لأو إنَّما نشأت من إثبات الطولية ومن الإطلاقين وهو غير صحيح؛ لأنَّ الإطلاق المقابَل لأو في كلٍّ منهما يعارض الإطلاق المقابل للواو في الآخر لا في نفس الطرف فلا طولية بين المتعارضين.

ص: 42

وفيه: إنَّ تقييد منطوق أحدهما بالواو الذي يعني إفتراض الشرط جزءً لعلة الجزاء يستلزم لا محالة تقييد منطوق الآخر بالواو وإلا كانت الشرطية الأولى لغواً، فالشرطان متلازمان في الجزئية والتمامية ثبوتاً, لأنَّه من غير المعقول جعل الشارع أحدهما جزءَ الموضوع مع كون الآخر موضوعاً مستقلاً فيكون المفهوم لأحدهما بعد فرض ثبوت أصل الترتب. وهذا معنى سريان التعارض إلى منطوق نفس المفهوم.

ولكن الميرزا النائيني قدس سره (1) أفاد في الجواب بما ورد في كلامه المتقدم من أنَّه بعد تسليم الطولية بعد الإطلاقين؛ بمعنى إنه إذا كانت الدلالة الإطلاقية المثبِتة للإنحصار تُثبت انحصارها في العلة التامة؛ فالعلم الإجمالي يكذب هذا الإطلاق أو الإطلاق المقابل بالعطف بالواو وينحلُّ إلى العلم التفصيلي بكذب الإطلاق المقابَل بأو بهذا المعنى إذ نعلم وجداناً بعدم كون الشرط علّة تامة منحصرة إمّالعدم كونه علّة تامة أو لكونه غير منحصرة للشك البدوي في كذب الإطلاق المقابَل بالواو.

والحقُّ أنَّه لا طولية بين الإطلاقين لا بلحاظ الدالّ ولا بلحاظ المدلول، فإنًّ السكوت عن الواو يثبت كون الشرط علّة تامة، والسكوت عن أو يثبت الإنحصار, وإنَّ الشرط لا عِدل له بحيث إذا انتفى ينتفي الجزاء سواء كان علة تامة أم لا, ويُعلم إجمالاً بكذب أحدهما في المقام فيتعارضان فلا طولية بينهما أبداً.

وأمّا الدعامة الثانية والتي تقتضي تكافؤ الظهورين المتعارضين؛ وحيث كان مقتضى العلم الإجمالي سقوط كل من الإطلاقين عن الحجية والرجوع إلى الأصل العملي, فقد أورد عليه بأنَّ قواعد المعارضة والجمع الدلالي بين المتعارضين هو التصرف في مركز المعارضة ومحطها من الظهور. ومن الواضح أنَّ التعارض بين مفهوم كلٍّ منهما ومنطوق الآخر.

ص: 43


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص484-489.

وأمّا ظهور كلٍّ منهما في الإستقلال فليس محطّ المعارضة وإنْ كان رفع اليد عنه موجباً لارتفاع المعارضة, ولكن لا تصل النوبة إليه ما دام يمكن الجمع والتصرف في مورد التعارض ومحطّه, ولذا لا يتوهم أحد مع إمكان الجمع الدلالي الرجوع إلى أحد المتعارضين إلى الترجيح من حيث الجهة أو السند مع أنَّه يرفع التعارض، فلا يمكن الرجوع في المقام إلى الإلتزام بتقييد إطلاق الشرط المقابل للعطف بالواو في كلٍّ منهما.

وبعبارة أوضح: إنَّ الموجب لوقوع المعارضة بين الدليلين في المقام إنَّما هو ظهور كلٍّ من القضيتين في المفهوم وظهور القضية الأخرى في ثبوت الجزاء عند تحقق الشرط المذكور فيها مع قطع النظر عن دلالتها على المفهوم وعدم دلالتها عليه؛ ففي المثال الذي ذكرناه يكون محور المعارضة فيه بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الدالّ على ثبوت الجزاء عند ثبوت شرطه، وبما أنَّ نسبة كلّ من المنطوقين بالإضافة إلى مفهوم القضية الأخرى نسبة الخاص إلى العام فلا بُدَّ من رفع اليد عن عموم المفهوم في مورد المعارضة، وبما أنَّه يستحيل التصرف في المفهوم نفسه فلا بُدَّ من رفع اليد عن ملزوم المفهوم بمقدار يرتفع به التعارض, ولا يكون ذلك إلا بتقييد المنطوق ورفع اليد عن إطلاقه المقابل للتقييد بكلمة أو من دون رفع اليد عن الإطلاق المقابل للتقييد بالواو لتكون نتيجة ذلك إشتراط الجزاء بمجموع الأمرين المذكورين في الشرطين، فهو وإنْ كان موجباً لارتفاع المعارضة بين الدليلين إلا أنَّه بلا موجب؛ حيث لا مقتضى لرفع اليد عن ظهور دليل لم يكن مورد المعارضة وإنْ ارتفع بذلك التعارض بين الدليلين إتّفاقاً.

والظاهر أنَّه لا يمكن المساعدة على ذلك كبرىً وصغرى؛ فإنَّ التعارض إذا وقع بين مفهوم كلٍّ منهما ومنطوق الآخر, فإنَّه يسري إلى منطوق الأول لأنَّ حملأحد الشرطين على أنَّه جزء العلة يستلزم حمل الشرط في المنطوق الآخر على ذلك أيضاً للتلازم بينهما في

ص: 44

الجزئية والتمامية على ما تقدم، فليس الظهور الثالث خارجاً عن المعارضة, ولا يعقل أنْ يكون رفع اليد عنه برفع المعارضة موجباً لأنْ لا يكون طرفاً لها.

والحاصل: إنَّه يمكن القول بسقوط كِلا المفهومين في الجملتين الشرطيتين إذا لم يمكن الجمع بينهما وإنْ كان طريق الجمع بين الدليلين يختلف بحسب إختلاف طريق إثبات المفهوم ومسالكه التي حكيناها سابقاً.

فإنْ إلتزمنا بالمفهوم عن طريق كون الجملة الشرطية ظاهرة في تعليق الجزاء على الشرط الملازم للإنحصار فإنَّ تعدد الشرط يكشف عن عدم استعمال الأداة أو الهيئة في التعليق لمنافاته لتعدد الشرط.

وإنْ إلتزمنا بالمفهوم عن طريق الإطلاق اللفظي بأحد الوجوه الثلاثة المتقدمة يتعين حينئذٍ رفع اليد عن إطلاق المفهوم لا نفسه؛ لأنَّ تعدد الشرط لا يخلّ بانعقاد الإطلاق لفظاً وإنَّما يكشف عن أنَّه غير مطابق للمراد الجدّي فيقيد إطلاق كلٍّ منهما المقتضي للمفهوم بالشرط الآخر.

وإنْ إلتزمنا بالمفهوم بالطريق الذي اخترناه وهو الإطلاق المقامي وكون المتكلم في مقام بيان ما هو الشرط تعيّن رفع اليد عن المفهوم في كلٍّ منهما؛ لأنَّ ذكر الشرط الآخر يكشف عن عدم كونه في مقام بيان ما هو الشرط فينتفي الإطلاق الذي هو مستند المفهوم.

والظاهر أنَّه على كلِّ التقادير يسقط كِلا المفهومين عند التعارض، وتردد التقييد بين أحد الوجهين للعلم الإجمالي باختلال شرط تحقق المفهوم؛ بلا فرق في ذلك بين الطرق التي يثبت بها المفهوم.

وأمّا الدعامة الثالثة؛ فيمكن الإيراد عليها:

أولاً: إنَّ مقتضى القاعدة بعد التساقط هو الرجوع إلى العموم الدالّ على وجوب القصر في السفر الصادق قبل خفاء الجدران أو الأذان؛ لأنَّ دليل التقييد المتمثل في هذين

ص: 45

الشرطين مجمل بالتعارض فيقتصر على قدرة المتيقن وهو ما إذا خفي الجدران والأذان. ولو فرض الشكّ في صدق مفهوم السفر في خفاء أحدهما كان المرجع عمومات (أقيموا الصلاة) التي تدلُّ على التمام إذا فرض لهما إطلاق، ولكن يمكن رفعه بعد تمامية العمومين في القصر للشك في مفهوم السفر والآخر لعدم تماميته.

ثانياً: لو فرض عدم العموم فلا مجرى لأصالة البراءة أيضاً, فإنَّه لو أُريد أصالة البراءة عن وجوب القصر فهو طرف للعلم الإجمالي ولا تجري البراءة في أطرافه، وإنْ أُريد به استصحاب بقاء وجوب التمام فهو أصل تعليقي في كثير من الأحيان, حيث لا يكون الوجوب فعلياً قبل بلوغ حدّ الترخص.هذا إذا كان مراده من الأصل العملي هو جريانه في خصوص المثال الذي ذكرناه, وأمّا إذا أُريد منه تطبيقه على نحو القاعدة في كلِّ مورد وبشكل كلي في تمام موارد التعارض بين شرطيتين فإنَّه يرد عليه بأنَّه لا ضابط عام للأصل العملي الجاري بعد التساقط بل يختلف الحال من مسألة إلى أخرى فلا بُدَّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه.

التنبيه الثاني: في تعدد الجزاء بتعدد الشرط

التنبيه الثاني: في تعدد الجزاء إذا تعدد الشرط في ظاهر الخطاب, كما إذا قال: (إذا نِمْتَ فتوضأ)، فنام مكرراً؛ فهل يجب تكرار الوضوء أيضاً؟ وبعبارة أخرى: إنَّه إذا فرض إجتماع الشرطين فهل يقتضي تداخل الأسباب وعدمه أوتداخل المسببات وعدمه؟.

وقبل ذكر الوجوه والمحتملات في هذا الموضوع لا بُدَّ من تحرير محل البحث؛ وفي بيان التحرير نقول:

ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّه بناءً على كون الشرط علّة تامة منحصرة في الجزاء فإذا تعدد الشرط واتَّحد الجزاء في ظاهر الخطاب فهل يتكرر الجزاء تبعاً لتعدد الشرط الذي هو

ص: 46


1- . تهذيب الأصول؛ ج 1 ص113.

مقتضى ظاهر العليّة التامة المنحصرة بينهما أو لايتعدد لبعض الوجوه الآتية، فيكون محور النزاع هو ثبوت العليّة التامة المنحصرة بين الشرط والجزاء. فلا حاجة إلى إلتماس تقديم أحد الظهورين في الشرط أو الجزاء.

ذهب المحقق الخراساني قدس سره (1) إلى أنَّه في مثل الشرطيتين المتحدتين جزاءً والمختلفتين شرطاً يشمل الأمر على ظهورين:

أحدهما: ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، وهو يقتضي تعدد الجزاء عند تعدد الشرط.

والآخر: الظهور الإطلاقي في المتعلق وسرايته لأيِّ فرد حتى لو كان الفرد الآخر. وهذا الثاني معلّق على عدم البيان، ولكن ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث صالح لأنْ يكون بياناً لما هو المراد من المطلق فلم ينعقد له ظهور في الإطلاق بسبب الظهور الآخر الوضعي, فيكون ظهوره في الحدوث عند الحدوث كاشفاً عن كون الحكم متعلقاً بفرد آخر غير المطلوب بالحكم الآخر فيكون حاكماً على الظهور الإطلاقي ورافعاً لموضوعه. ومن أجل ذلك قال بأنَّ الإلتزام بعدم التداخل لا يستلزم تصرفاً في الظاهر بل هو إلتزام بالظاهر، ومقتضاه عدم التداخل.

ووافقه المحقق النائيني قدس سره (2) في النتيجة وهي عدم التداخل, ولكن خالفه في الدليل عليه؛ فذكر في وجهه بأنَّ القضية الشرطية ترجع إلى قضية حمليةموضوعها الشرط ومحمولها الجزاء، كما أنَّ القضية الحملية الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدمها الموضوع وتاليها المحمول, فهما في الواقع قضية واحدة.

ص: 47


1- . كفاية الأصول؛ ص202.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص428.

وعليه؛ فكما أنَّ الحكم في القضية الحملية الحقيقية ينحلّ بانحلال موضوعه؛ كذلك يكون الإنحلال في القضية الشرطية فيتعدد الحكم بتعدد أفراد الشرط ووجوداته، وأمّا تعدده بتعدد الشرط وماهيته فهو يستفاد من ظهور إطلاق القضية في الإستقلال.

ثم ذكر قدس سره بأنَّ الطلب المتعلق بالماهية لا يقتضي إلا إيجاد متعلقه خارجاً ونقض العدم المطلق، وبما أنَّ نقض العدم المطلق يصدق على أول وجود من الطبيعة فهو مجزٍ عقلاً، وليس متعلقُ الطلب صرفَ الوجود لأنَّه ليس مدلولاً لفظياً لصيغة الأمر لا مادةً ولا هيئةً؛ فإذا كان مقتضى الطلب هو إيجاد الطبيعة ونقض عدمها, فإنْ تعلّق طلبان بماهيةٍ وكان مقتضى كلٍّ منهما إيجاد الطبيعة ونقض عدمها فمقتضى الطلبين هو إيجاد ناقضين للعدم، نظير ما إذا تعلقت الإرادة التكوينية بشيءٍ واحد مرتين، وأمّا وحدة الطلب وتعدده فهو ما لا يتكلفه الطلب المتعلق بالمادة بل هو ينتج عن عدم ما يقتضي التعدد لا عن ظهور اللفظ في الوحدة، فإذا فرض ظهور الجملة في الإنحلال وتعدد الطلب كان هذا الظهور مقتضياً للتعدد فيرتفع موضوع وحدة الطلب وهو عدم المقتضي للتعدد, ولو سلم ظهور الجزاء في وحدة الطلب فهو ناتج عن عدم المقتضى للتعدد, ويكون ظهور الجملة الشرطية في التعدد حاكماً على ظهور الجزاء في الوحدة لرفعه موضوعه وهو عدم المقتضى للتعدد وسيأتي ما يتعلق بما ذكره العلمان قدس سره قريباً.

هذا وإنّ لمحلِّ البحث أقساماً مرتبطة بالشرط المتعدد في الشرطيتين المتحدتين في الجزاء وهي:

أقسام البحث

القسم الأول: إتّحاد الشرطين أو الشرط في الصنف؛ كالبول المتعدد بالنسبة إلى الحدث الأصغر والجنابة المتعددة بالنسبة إلى الحدث الأكبر.

ص: 48

القسم الثاني: إختلافهما في الصنف؛ كالبول والنوم بالنسبة إلى الحدث الأصغر والجنابة والحيض بالنسبة إلى الحدث الأكبر.

وعلى كلِّ واحدٍ منهما؛ فإمّا أنْ يكون قابلاً للتعدد ولو بالشدة والضعف أو لا يكون كذلك، وهذا الأخير خارج عن محلِّ البحث تخصصاً فتدخل الأقسام الأخرى في البحث.

وعلى الجميع؛ إمّا أنْ يكون التداخل رخصةً أو عزيمة. والوجوه المحتملة في المقام هي:الأول: عدم التداخل مطلقاً.

الثاني: التفصيل بين اختلاف الشرطين في الصنف فلا تداخل، واتّحادهما فيه فيجوز التداخل.

الثالث: إحتمال اتّحاد الأسباب في سبب واحد ويسمى بتداخل الأسباب أو الإتّحاد في الجعل.

الرابع: إحتمال اتّحاد المسببات في واحد وكفايته ويسمى بتداخل المسببات أو الإتّحاد في الإمتثال.

تأسيس الأصل

ذكرنا أنَّ ظهور الشرطية هو تعدد الجزاء بحسب تعدد الشرط؛ إمّا لثبوت العليّة المنحصرة بين الشرط والجزاء، وهو يقتضي تعدد المعلول بتعدد العلّة عقلاً. وإمّا لظهور الشرطية في تعدد الجزاء بتعدد الشرط وضعاً. وإمّا لأنَّ القضية الشرطية ترجع إلى القضية الحقيقية الحملية وهو يقتضي الإستقلال وتعدد الحكم بتعدد أفراد الجزاء بتعدد الشرط ووجوداته.

وبناءً على جميع الوجوه فإنَّ الشرطية تقتضي عدم التداخل واستقلال الجزاء في كلِّ شرط, وهو مقتضى الأصل العملي أيضاً, وهو أصالة عدم التداخل عند الشك فيه فيتطابق الأصل مع الظاهر بلا فرق في ذلك بين كون التداخل على نحو العزيمة أو الرخصة, فلا يمكن رفع اليد عنهما إلا إذا دلَّت عليه قرينة على عكس مفادهما، وهي على قسمين: قرينة خاصة أوقرينة عامة.

والكلام يقع في كلٍّ منهما:

ص: 49

القرينة الخاصة

قد دلَّ الإجماع على أنَّه إذا تعددت موجبات الحدث الأصغر فتكفي طهارة واحدة لها، كما دلّ الإجماع على وحدة الجزاء وكفاية الغسل الوارد في الحدث الأكبر فيما إذا اجتمعت أسباب متعددة، ويدل على ما ذُكر في الحدث الأكبر قول الإمام الصادق علیه السلام : (وإِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْكَ حُقُوقٌ أَجْزَأَهَا عَنْكَ غُسْلٌ وَاحِدٌ)(1)، والإطلاق يشمل ما إذا كانت الأسباب من صنف واحد كالجنابة في الحدث الأكبر والنوم في الحدث الأصغر، أو إختلفت في الصنف؛ كالجنابة والحيض بالنسبة إلى الحدث الأكبر، والنوم والبول في الحدث الأصغر؛ وهذا لا إشكال فيه.

القرينة العامة

إستُدلَّ على التداخل بوجوه:الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (2) من أنَّ تعدد الجزاء حسب تعدد الشرط يستلزم إجتماع المثلين, لأنَّ الجزاء طبيعة واحدة, فيتعدد الوجوب بالنسبة إليها فيلزم إجتماع المثلين.

وفيه:

1- إنَّ إجتماع المثلين الممتنع عقلاً إنَّما يكون في الأعراض الخارجية لا الأحكام التي هي إعتبارات عقلائية, مع أنَّ اجتماع المثلين الممتنع في الأحكام على فرضه فهو لأجل إستلزامه اللغوية وإلا فلا امتناع كما في المقام.

2- إنَّ ذلك يتحقق إذا لوحظت الطبيعة بقيد الوحدة, وأمّا إذا لوحظت على نحو السريان في الأفراد فلا إجتماع للمثلين لتعدد الفرد كما هو واضح.

ص: 50


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص41.
2- . كفاية الأصول؛ ص202-204.

الوجه الثاني: إنَّ مقتضى الإطلاق في متعلق الجزاء مطلوبية صرف الوجود حتى مع تعدد الشرط وهو يحصل بإتيانه مرة واحدة.

وفيه: إنَّه كذلك لو لم تكن قرينة على الخلاف, وظهور الشرطية في الإستقلال وتعدد الجزاء بتعدد الشرط من القرينة على الخلاف, مع إنَّه يقتضي الإكتفاء بصرف الوجود بالنسبة إلى طلبه فقط، ولا نظر له بالنسبة إلى طلب آخر وقضية أخرى.

الوجه الثالث: إنَّ الجملة الشرطية عند تعدد الشرط لا تدلُّ على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بل على مجرد الثبوت؛ الأعم من الحدوث الحاصل بالشرط الأول والبقاء الكاشف عنه الشرط الثاني, فأصل الحدوث حاصل بالشرط الأول وباقي الشروط تكشف عن البقاء.

وفيه:

1- إنَّه من مجرد دعوى ولا شاهد عليها من عقل أو نقل, بل إنَّ ظاهر الشرطية الإستقلال والحدوث عند الحدوث.

2- إنَّه يلزم إختلاف الجملة الشرطية بالنسبة إلى الأفراد فتكون دالة على الحدوث عند فرد وعلى البقاء بالنسبة إلى فرد آخر, بل ربَّما تختلف بحسب حالات شخص واحد أيضاً.

وفيه من الغرابة ما لا يخفى.

الوجه الرابع: إنَّ الجزاء وإنْ تعدد واقعاً ولكنه يجري من باب تداخل المسببات؛ مثل ما إذا قيل: (أكرم عالماً وأكرم هاشمياً وأكرم عادلاً)؛ أي: أكرم من كان جامعاً لهذه الصفات.وفيه: إنَّه أول الكلام وهو يحتاج إلى دليل, والمثال أجنبي عن المقام لأنَّ في العناوين المنطبقة على الواحد نسبة العموم من وجه فتصادقت عليه, وأمّا المقام فلا يكون الجزاء إلا طبيعة واحدة قابلة للتكرار. وربَّما يتمسك للتداخل في المسببات بأنَّ الجزاء يحدث عند كلِّ شرط تأكيداً لا تأسيساً، ولكنه خلاف الظاهر, مع أنَّ مقتضى الأصل في المحاورات التأسيس لا التأكيد.

ص: 51

الوجه الخامس: إنَّ العلل والأسباب الشرعية ليست حقيقة حتى يمتنع إجتماعهما على واحد, بل هي معرفات وكواشف؛ فالعلّة في الواقع واحدة والجزاء يكون حينئذٍ واحداً؛ ذكر ذلك المحقق فخر الدين قدس سره (1).

ويرد عليه: إنَّ ظاهر العلماء معاملة الشروط الشرعية على أنَّها علل حقيقية إلا مع الدليل على الخلاف, فلا فرق بين العلل الشرعية والتكوينية في أنَّهما حقيقة تارةً وكواشف عن العلل الحقيقية أخرى، وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

والحاصل: إنَّه لم يتمّ دليل على التداخل مطلقاً, وإنَّ مقتضى الظاهر تعدد الجزاء بتعدد الشرط, سواء كان من صنف واحد أو من أصناف متعددة فيكون القول بالتداخل محتاجاً إلى دليل خاص. إلا أنَّه يمكن أنْ يقال بأنَّه إذا تعاقبت الشروط المتعددة من صنف واحد على محلٍّ واحد ولم يتخلل الجزاء بينها كانت تلك الشروط بمنزلة الشرط الواحد عرفاً, لأنَّ المنساق عند المتعارف أنَّ الجنس شرط وليس خصوص الأفراد، والأدلَّة الشرعية منزلة على العرفيات, ولعلَّه لأجل ذلك إستقرت سيرة العلماء في الفقه على ذلك.

وعليه؛ يمكن تنزيل الموارد التي دلَّ الدليل على كفاية جزاء واحد عن شروط متعددة التي منها كفاية وضوء واحد عن أحداث صغرى سواء كانت من صنف واحد أم من أصناف متعددة للإجماع؛

ومنها: كفاية غسل واحد من موجبات كثيرة للغسل للإجماع، قول الإمام الصادق علیه السلام : (وإِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْكَ حُقُوقٌ أَجْزَأَهَا عَنْكَ غُسْلٌ وَاحِدٌ)(2).

ص: 52


1- . بنى فخر المحقّقين (أبو طالب محمد بن حسن بن يوسف الحلي) وبعض المتأخرين -وهو العلامة النراقي- المسألة على أنَّ الأسباب الشرعية هل هي معرفات وكواشف، أو مؤثرات؟ وعلى الأوّل یکون الأصل التداخل، وبخلافه على الثاني، وحكاه الشيخ الأنصاريّ عن المحقّق النراقي في عوائده. [مطارح الأنظار؛ ص180].
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص41.

وقيل: إنَّ منها وجوب كفارة واحدة لمن أفطر متعمداً في نهار شهر رمضان سواء كان الإفطار من صنف واحد أم من أصناف متعددة، وسواء تخلل التكفير أم لا. ولكن جعل ذلك من التداخل فيه مسامحة واضحة, فإنَّ الإفطار الأول يبطل الصوم فلا يبقى موضوع للكفارة بعد ذلك، ووجوبها في شهر رمضان تأدبي لاربط له بالكفارة, فيخرج هذا المورد عن المقام تخصصاً. وهناك موارد أخرى مذكورة في الفقه؛ فراجع.

ثم إنَّه لو فرض الإجمال وعدم استظهار تعدد الجزاء مع تعدد الشرط فيحصل الشك حينئذٍ وهو على أنحاء:

الأول: كون الشكّ في أنَّ التكليف في الواقع واحد ومتعدد، فهو من موارد الأقل والأكثر فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر فيتَّحد بالنتيجة مع تداخل الأسباب.

الثاني: الشكُّ في كفاية الجزاء الواحد بعد إحراز التكليف وتعدده, فيكون مقتضى قاعدة الإشتغال عدم الإجزاء فيجب التعدد.

الثالث: الشكُّ في التكليف والتعدد بهما معاً, فتجري البراءة عن الزائد فيكون مثل القسم الأول.

تتمة فيها أمور

الأمر الأول: ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) في المقام كلاماً لا يخلو من نقاش, حيث ذهب مثل غيره من الأعلام إلى عدم التداخل وتعدد الجزاء بتعدد الشرط، لكن كلامه يبتني على مقدمات وهي:

المقدمة الأولى: إنَّ القضية الشرطية ترجع في الواقع إلى قضية حملية والعكس أيضاً صحيح، ولا ريب أنَّ القضية الحملية يتعدد الحكم فيها بتعدد الموضوع, فالشرطية أيضاً كذلك.

ص: 53


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص428.

ويرد عليه: إنَّ إرجاع الحملية إلى الشرطية وهي إلى الحملية محلُّ بحث يأتي في الموضوع المناسب إنْ شاء الله تعالى؛ وبناءً عليه يُرجع إلى تحرير محلّ النزاع في أنَّ تعدد الشرط يقتضي تعدد الجزاء أو لا, وليست من مقدمات البحث كما لا يخفى.

المقدمة الثانية: إنَّ متعلق الطلب هو إيجاد الطبيعة ونقض عدمه المطلق.

وأورد عليه بأنَّ الإطلاق الوارد في تعبيره إمّا أنْ يكون قيد العدم فيكون مقتضى الطلب نقض العدم المطلق؛ فإنْ كان متعلق النقض العدم المطلق والمقصود منه جميع الأعدام فالوجود المطلوب لا ينقضها, لأنَّ كلَّ وجود نقيض عدمه البديل له لا غير.

وفيه: إنَّه لا تمايز بين الأعدام كما هو المعروف في محلِّه, فالعدم البديل هو الأعدام كلها.

وإذا كان المقصود من العدم المطلق إستمرار العدم فهو يرجع إلى صرف الوجود الذي نُفي إقتضاء الطلب له.وفيه: إنَّ نقض العدم الإستمراري عنوانٌ وصرفُ الوجود عنوانٌ آخر؛ فإنَّ الأول ينتقض بإيجاد الطبيعة من دون قيد الوجود أو التعدد أو صرافة الوجود، وإنْ كان الإطلاق قيد الوجود بمعنى أنَّ مقتضى الطلب وجود الطبيعة المطلقة غير المقيدة بالوحدة والتعدد, فلازمه عدم تحقق الإمتثال بواحد, إذ كل ما يتصور من الأفراد يكون محققاً للمأمور به ومصداقاً له ويصدق عليه أنَّه وجود الطبيعة فيكون مطلوباً ولا يتحقق الإمتثال بدونه.

وفيه: إنَّ الطبيعة المطلقة تنطبق على الفرد الواحد في مقام تعلق الطلب بها وليس المراد منها الطبيعة بقيد الإطلاق ليرجع إلى التعدد وإيجاد ما تنطبق عليه الطبيعة كما هو واضح.

المقدمة الثالثة: إنَّ تعدد الطلب يقتضي إيجاد ناقضَين للعدم.

ويرد عليه: إنَّه يحتاج إلى دليل من أنَّ ظاهر الجملة وحدة المتعلق, بل ربَّما يكون المحتمل إيجاد ناقضَين لا على نحو التعدد بل على تأكيد الطلب.

ص: 54

المقدمة الرابعة: ما يظهر من كلامه من تشكيل المعارضة بين ظهور الجملة في تعدد الطلب وظهوره في الجزاء في الوحدة وترجيحه الظهور الأول لارتفاع موضوع الثاني به.

وأورد عليه بأنَّ منشأ توهم التداخل في الأسباب هو ظهور الكلام في وحدة متعلق الحكمين المانع من تعددهما لاستحالة إجتماع المثلين؛ فالمعارضة بين ظهور الجملتين في تعدد الطلب وظهور الكلام في وحدة المتعلق المنافي لتعدد الطلب. ولم يتوهم أحد بأنَّ طرف المعارضة هو ظهور الجزاء من وحدة الطلب حتى يُدفع بأنَّه ناتج عن عدم المقتضي للتعدد, والمفروض وجود المقتضي في المقام لظهور الجملة في الإنحلال وتعدد الطلب.

والحقُّ أنَّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره وما استشكل عليه من التطويل بلا طائل تحته, فإنَّ ظهور الشرطية في التعدد عرفاً يكفي في عدم التداخل كما عرفت آنفاً، ولكن شأن الأصوليين هو التمسك بوجوه واحتمالات متعددة الأطراف فتقبل النقض والإبرام ويبعدهم من الفهم العرفي الذي هو مناط الحكم الشرعي.

الأمر الثاني: ذكر المحقق الخراساني قدس سره (1) أنَّ بحث التداخل وعدمه إنَّما يجري في المورد القابل للتعدد؛ نظير الوضوء والغسل والصلاة ونحوها.

أمّا المورد غير القابل للتعدد فلا يجري فيه هذا البحث بل لا إشكال في التداخل فيه نظير القتل؛ فإنَّه إذا اجتمع سببان للقتل لا يتعدد الحكم لعدم قابلية متعلقه للتعدد.

وذهب المحقق النائيني قدس سره (2) إلى دخول صورة منه في محلِّ الكلام, حيث ذكر أنَّ ما لا يقبل التعدد تارةً؛ يكون الحكم فيه قابلاً للتقييد نظير القتل المسبب وجوبه عن حقِّ الناس كالواجب من أجل القصاص؛ فإنَّه وإنْ لم يكن متعدداً خارجاً لكن وجوبه مقيد بكلِّ واحد

ص: 55


1- . كفاية الأصول؛ ص206.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص428.

من السببين, فلو ارتفع أحد السببين كما لو عفا أولياء أحد المقتولين فإنَّ الوجوب يبقى على حاله لثبوت السبب الآخر, نظير الخيار المسبب عن أمرين؛ فلو سقط أحدهما عن السببية بقي الآخر مؤثراً.

وأخرى؛ لا يكون الحكم فيه قابلاً للتعدد كوجوب القتل الناشئ عن الإرتداد, فإنَّ حقَّ الله تعالى لا يمكن العفو عنه بخلاف حقّ الناس، فالتزم بدخول الأول في محلِّ الكلام دون الثاني بناءً على عدم التداخل بتقيد الجزاء بكلِّ واحد من السببين فيؤثر أحدهما عند ارتفاع الآخر.

ورُدَّ بأنَّ الأحكام التكليفية تختلف عن الخيار وأسبابه؛ فإنَّ حقَّ الخيار يتعدد بتعدد أسبابه كما هو واضح, فيكون تنظير المقام بالخيار قياساً مع الفارق.

وأمّا الأحكام التكليفية فإنَّ محذور تعدد الحكمين هو اجتماع المثلين، وهذا المحذور لا يرتفع بالتقييد.

ويرد عليه بأنَّه لا محذور في اجتماع الحكمين في الأحكام التكليفية التي هي إعتبارات عقلائية, كالخيار؛ فلا فرق بينهما من هذه الجهة، وعلى فرض عدم اجتماع الحكمين لأنَّه من اجتماع المثلين؛ فإنَّ هذا المحذور يرتفع بالتقييد.

ولكن أصل ما ذكره المحقق النائيني قدس سره قابل للخدش من جهة أخرى؛ فإنَّ المقصود هو أنَّ المحل غير قابل للتعدد فلا يتعدد السبب فيه كالقتل؛ فإذا تحقق في مورد لا يقبل القتل مرة أخرى فلا بُدَّ من القول بالتداخل. وأمّا الحكم فهو قابل للتعدد بتعدد موجبه؛ فإذا تحقق في الخارج القصاصُ من المقتول فإنَّ الحكم الآخر ينتقل إلى البدل وهو الدية؛ فما ذكره المحقق الخراساني قدس سره هو المتّجه.

ص: 56

الأمر الثالث: عرفت أنَّ القاعدة تقتضي عدم التداخل، وما وقع فيه التداخل من وجه كالوضوء لإخراجه من القاعدة مع قطع النظر عن الإجماع له احتمالات ثلاثة:

الإحتمال الأول: كون نفس هذه الأمور من البول والنوم وغيرها سبباً لوجوب الوضوء, فليس هناك إلا الوضوء الذي هو شرط فيما يشترط فيه الوضوء.

الإحتمال الثاني: كون هذه الأمور سبباً لتحقق الحدث، وهو يرتفع بالوضوء وليس المجعول فيها سوى الحدث, أمّا الطهارة فهي عبارة عن أمر عدمي وهو عدمالحدث، والحدث غير قابل للتعدد وإنْ كانت أسبابه ومحققاته كثيرة ولكنه لا يستلزم تعدد الحدث؛ إذ لا معنى للحدث بعد الحدث فيكون المؤثر في تحقق الحدث من أسبابه هو أول وجود منها, فالتداخل في باب الوضوء منشؤه وحدة الشرط؛ لعدم قابليته للتعدد وإنْ تعددت أسبابه. وقد اختار هذا الوجه الفقيه الهمداني(1) والمحقق النائيني (قدس سرّاهما).

وأُورد عليه بعدم قابلية الحدث للتعدد؛ لأنَّه مقتضى العقل كما يظهر من عبارتهما, فهو يندفع بأنَّ الحدث من الأمور الإعتبارية فلا محذور فيه كما قيل في الحدث الأكبر.

وإنْ كان من أجل إستفادته من النصوص والأدلَّة فهو غير مقبول, إذ لا ظهور للروايات في نفي قابلية الحدث للتعدد.

وفيه: إنَّ الروايات الواردة في الوضوء تختلف ألسنتها من هذه الجهة؛ فإنَّه يمكن دعوى انسباق الفهم العرفي من مجموعها إلى التداخل في الأسباب لعدم قابلية الحدث للتعدد عند الفهم العرفي.

ص: 57


1- . حاج آقا رضا الهمداني في كتابه مصباح الفقيه؛ كتاب الطهارة؛ ص125.

الإحتمال الثالث: إنَّ المجعول في الروايات هي الطهارة, وإنَّ الوضوء محقِّق لها؛ إمّا لكونهما من قبيل الأسباب والمسببات, أو العنوان والمعنون، وكون هذه الأمور نواقض للطهارة وروافع لها.

وقال بعض الأعلام(1): إنَّ هذا الوجه هو الذي يظهر من الروايات, فإنَّ الأمر المجعول فيها هو الأمر المستمر، وهو لا يمكن أنْ يكون الوضوء؛ لأنَّه فعل متصرّم, فلا بُدَّ أنْ تكون الطهارة، وتكونُ هذه الأمور نواقض لها، والإنتقاض غير قابل للتعدد. وأمّا الأمثلة التي وردت على لسان العلماء مثل (إذا بلت فتوضأ) ونحوه فلم ترد على لسان الشارع.

ومنه يظهر وجه التداخل؛ فإنَّه إذا حصل أول سبب كالنوم إنتقضت الطهارة, فيكون السبب الآخر بلا أثر لامتناع نقض المنقوض.

ويرد عليه بأنَّ ألسنة الروايات مختلفة كما ذكرنا فلا يمكن دعوى ظهورها من هذا الوجه، مع أنَّ ما ذكره يختص فيما إذا كانت طهارة وانتقضت.

والكلام يجري في مطلق الحدث الناقض والرافع في أنَّه هل تعدد بتعدد الحكم أو لا؟ مع أنَّ الإنتقاض قابل للتعدد بتعدد أسبابه ولا مانع منه عقلاً.

فالحقُّ ما ذكرناه من أنَّ التداخل يستفاد بمعونة الفهم العرفي الذي ينسبق إليه عند تعدد الشرط واتّحاد الحكم هو جنس الحدث الرافع والناقض للطهارة.الأمر الرابع: ذكر المحقق النائيني قدس سره (2) في بيان وجه عدم التداخل في تعدد الشرط إذا كان من جنس واحد بأنَّ القضية الشرطية ترجع إلى قضية حقيقية حملية، والحكم في الأخيرة ينحلُّ بتعدد أفراد الموضوع بلا ريب.

ص: 58


1- . منتقى الأصول؛ ج3 ص259-260.
2- . كما تقدم.

والقضية الشرطية أيضاً كذلك؛ فكلُّ فرد من أفراد الشرط المأخوذ في الكلام يكون موضوعاً للحكم.

ولم يذكر السيد الوالد قدس سره هذا الدليل لعدم تماميته كبرىً وصغرى؛ فإنَّه لو سلم ما ذكره من رجوع القضية الشرطية إلى الحملية الحقيقية فإنَّه لا يلزم ما ذكره, لأنَّ ظهور القضية الحملية في الإنحلال لم يكن لأجل قرينة عامة ملازمة للإنحلال مطلقاً حتى يكون الإنحلال من شؤونها، بل الإستغراق وغيره يستفاد من قرائن خاصة في كلِّ مقام, وإنَّ مقتضى الإطلاق فيها ليس إلا كون المراد هو الطبيعة غير المقيدة بشيء، فلا بُدَّ من إستفادة الإستغراق لجميع الأفراد وصرف الوجود من دليل آخر, وهو يختلف بحسب المقامات.

نعم؛ يحتاج إستفادة الإنحلال وعدم التداخل في الشرطية التي يتعدد فيها الشرط ويتَّحد الجزاء إلى دليل خاص، وقد تقدم ما يرتبط بهذا فراجع.

الأمر الخامس: ذكر السيد الوالد قدس سره (1) في وجه التداخل كون الأسباب الشرعية معرفات وكواشف وإلا إذا كانت حقيقية ومؤشرات فلا وجه للتداخل.

ورَدَّه بأنَّ العلل التكوينية أيضاً كذلك, مع أنَّه لا دليل على الكلية في أنَّ الأسباب الشرعية معرفات.

وفي توضيح ذلك نقول: إنَّ المعرِّف إمّا أنْ يراد به معرف الحكم كما صرَّح به المحقق النائيني قدس سره ، وإمّا أنْ يراد به معرف الشرط الحقيقي؛

ص: 59


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص115.

أمّا الأول(1) فهو يتصور على إحتمالين:

الإحتمال الأول: أنْ يكون الحكم المُنشأ في القضية الشرطية حكماً طريقياً أو ظاهرياً موضوعُه الشرط المذكور في الكلام، ويكون المجموع سبباً للعلم وكاشفاً عن حكم واقعي مجعول على موضوع.

وهو باطل لوجهين:

1- إنَّه يستلزم القول بعدم واقعية الأحكام في القضايا الشرطية، وهذا لا يلتزم به أحد بل هو أكثر من أنْ يحصر.1- إنَّ فيه مصادرة؛ فإنَّ الشرط لا يخرج أيضاً عن كونه مؤثراً في الحكم الطريقي فيعود المحذور، ولازمه عدم التداخل عند تعدد الشرط, إذ فيه الإلتزام بتعدد الحكم الطريقي الملازم لتعدد الحكم الواقعي.

الإحتمال الثاني: أنْ يكون الإنشاء في القضية الشرطية في الحقيقة إخباراً عن الحكم الواقعي الثابت لموضوع واقعي.

وهو كسابقه في البطلان؛ إذ لازمه أنْ لا يكون إنشاء في القضايا الشرطية الشرعية مع أنَّ ظهور الكلام في الإنشاء مِمّا لا إشكال فيه.

وأمّا الثاني(2)؛ فإمّا أنْ يراد به كون الشرط المذكور في الكلام موضوعاً للحكم الُمنشأ والمجموعُ طريق وكاشف عن حكم واقعي ثابت لموضوع واقعي؛ وقد عرفت آنفاً بطلانه لأنَّه يستلزم عدم واقعية الأحكام المُنشأة في القضايا الشرعية، مع إنَّ لازمه أنْ يكون هناك جعل ومجعول واقعي وراء المجعول المُنشأ، فللحكم واقعان ومقامان وهذا مِمّا لا يلتزم به أحد.

ص: 60


1- . أي أنَّ الأسباب الشرعية معرفات الحكم.
2- . وهو إحتمال كون الأسباب في القضايا الشرطية الشرعية معرفات للشرط الحقيقي الواقعي.

وإمّا أنْ يراد به أنَّ الشروط الشرعية عناوين للشروط الواقعية بأنْ تؤخذ مرآةً وحاكياً عن الشرط الواقعي فيكون ملازماً للشرط الشرعي.

وهذا المعنى معقول في حدِّ نفسه ولا يستلزم منه البطلان بل هو واقع من العرضيات، كما لو ورد الحكم على الموضوع الواقعي ولكن صعب إلقاؤه للمكلفين المخاطبين لجهة من الجهات فيُعلَّق الحكم على ما يلازمه من العناوين قاصداً الحكاية به عن الموضوع المجهول للوصول به إلى ثبوت الحكم لموضوعه الواقعي.

ومن الممكن أنْ يتعدد العنوان للواقع فيكون للشيء الواحد عنوانان, فلا طريق لإثبات تعدد الشرط حقيقةً، واحتمالُ وحدته يكفي في الحكم بالتداخل فلا نحتاج إلى إحرازها, فإنَّ الأصل العملي مع الشكّ ينفي تعدد الحكم ولكن ذلك ينافي الدليل الدالّ على تعدد الشرط حقيقة -وقد ذكرناه سابقاً- بوجوه هي:

1- ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من دلالة الجملة على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط, وهو يقتضي تعدد الجزاء بتعدد الشرط.

2- ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) من أنَّ ظاهر القضية الشرطية ترتب الجزاء على كلِّ واحد من الشروط، ومجرد إحتمال كون الشرط معرفاً وإمكان تعدده مع وحدة المعرف لا يكفي في رفع اليد عن هذا الظهور.

وقد عرفت النقاش في هذين الوجهين بما تقدم.

3- ما ذكره الفقيه الهمداني قدس سره (3) من أنَّ ظاهر كون الشرط معرفاً هو المعرفة الفعلية.

ص: 61


1- . كفاية الأصول؛ ص203.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص428.
3- . مصباح الفقيه؛ ص127؛ كتاب الطهارة.

وعليه؛ فيمتنع أنْ يكون كلاً من الشرطين مع التعاقب معرفاً للحكم الواحد, إذ لا معنى للعلم بالحكم ثانياً بعد تحقق العلم به أولاً. فلا بُدَّ من تعدد الحكم المعرِّف؛ فتعدد المعرِّف يستدعي تعدد المعرَّف.

وأُورد عليه بأنَّه يتّجه لو كان الجزاء هو العلم بالحكم لا نفسه، وهو مِمّا لا يلتزم به أحد لوضوح أنَّ المعلق على الشرط نفس الوجوب لا العلم به.

وفيه: إنَّه لم يكن قصد الفقيه الهمداني قدس سره ذلك, بل إنَّ قصده إذا تحقق المعرف الفعلي الأول تحقق الحكم واقعاً جزماً, فلا وجه لتحقق حكم آخر جزمي بعد الجزم الأول بالحكم فلا بُدَّ من تعدد الحكم.

والحقُّ في الجواب عن الجميع بأنَّ كون الأسباب الشرعية معرفات بأيِّ نحوٍ كان يحتاج إلى دليل وهو مفقود بلا وجه, لصرف الكلام عن ظاهره من كون الشرط له دخلٌ في ترتب الحكم كغيره من القضايا غير الشرعية.

الأمر السادس: ذكر السيد الوالد قدس سره (1) في وجه تداخل المسببات وجهين ثم ناقشهما؛

الوجه الأول: إنَّ الجزاء كان متعدداً واقعاً ولكنه يجري الواحد من باب المسببات كما إذا ورد (أكرم عالماً وأكرم هاشمياً وأكرم عادلاً)، أي: أكرم من كان جامعاً لهذه الصفات.

وردَّه بأنَّه يحتاج إلى دليل, والمثال أجنبي عن المقام لا يكون الجزاء فيه إلا طبيعة واحدة قابلة للتكرار، وأمّا المثال فهو من العناوين المنطبقة على الواحد عموماً من وجه وتصادقت عليه.

الوجه الثاني: إنَّ الجزاء يحدث عند كلِّ شرط تأكيداً لا تأسيساً فيلزم منه تداخل المسببات.

وردَّه بأنَّه خلاف الظاهر مع أنَّ مقتضى الأصل في المحاورات هو التأسيس لا التأكيد.

ص: 62


1- . كما تقدم.

وتفصيل ما ذكره قدس سره ؛ إنَّ تداخل المسببات يقع في صورتين:

الأولى: ما إذا كان متعلق الحكمين طبيعة واحدة.

الثانية: ما إذا كان متعلقهما طبيعتين متغايرين؛ إمّا ذاتاً كوجوب إكرام العالم ووجوب ضيافة الهاشمي، أو يكون الإختلاف من ناحية القيد وإنْ إتّحدا ذاتاً ك-(أكرم العالم وأكرم العادل)، وإمّا أنْ يكون الإختلاف من ناحية الجزء كصلاةالغفيلة وصلاة نافلة المغرب؛ فإنَّهما وإنْ إتَّحدتا ذاتاً ولكنهما مختلفتان من ناحية الجزء والقيد, فإنَّ صلاة الغفيلة قراءة خاصة لا تكون من النافلة.

وفي مقام الإيضاح نقول:

أمّا الصورة الأولى فإنَّ ما ذكره السيد الوالد قدس سره من عدم الدليل على التداخل صحيحٌ بعدما كان ظاهر الكلام في تعدد الحكم، فإنَّ كل حكم يطلب فرداً غير ما يطلب بالحكم الآخر فيمتنع الإكتفاء بفرد واحد، وهذا واضح فإذا أريد رفع اليد عن هذا الظاهر فلا بُدَّ أنْ يكون بدليل.

واستدلَّ المحقق النائيني قدس سره (1) بأصالة عدم التداخل, وهو يوهم قيام الدليل في بعض الموارد على الإكتفاء بفرد واحد في مقام إمتثال الأمر المتعدد, كما ورد في الإكتفاء بغسل واحد عن حدوث الجنابة والحيض وغيرها، وكذا في مسألة الوضوء فيما إذا لو تعدد الحدث.

ولكن يمكن أنْ يكون قيام الدليل في تلك الموارد كاشفاً عن وحدة الحكم لا أنْ يكون الحكم متعدداً وتتحقق إرادة فردين, ومع ذلك يقال بالإكتفاء بواحد فإنَّه خلف.

أو نقول بأنَّ نفي تلك الموارد المستثناة يكون من تداخل الأسباب فيخرج عن محلِّ الكلام.

ص: 63


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص431.

وكيف كان؛ فإنَّ قيام الدليل مثل الإجماع أو الروايات المعتبرة التي تدلُّ على الإكتفاء بغسل واحد يكفي في رفع اليد عن ظاهر الكلام إنْ كان المراد منها التداخل في المسببات.

وأمّا الصورة الثانية بجميع أنحائها الثلاثة فلا ريب في تحقق الإمتثال بالجمع، لأنَّه مورد انطباق الطبيعتين ومصداقاً لهما, فيمكن أنْ يُمتثل به كِلا الحكمين. وتسمية ذلك بتداخل المسببات مسامحة. ومنه يظهر الوجه فيما ذكره بعضهم من الموارد من تأكُّد الحكمين؛ فإنَّه يرد عليه:

1- إنَّه في الحقيقة يرجع إلى تداخل الأسباب لوحدة الأمر، لا تداخل المسببات.

2- إنَّه على خلاف الدليل الذي يدلُّ على أنَّ مقتضى الأصل في المحاورات هو التأسيس لا التأكيد.

وعلى أي حالٍ؛ فإنَّ هذه الصور لا تكون من موارد وحدة الحكم وتأكده مطلقاً.

وقد يُدّعى عدم صحة التداخل ولزوم الإتيان بعملين إستناداً إلى ما يراه العرف من أنَّ تعدد الحكم يستلزم تعدد الإطاعة.

وفيه: ما ذكره المحقق الهمداني قدس سره بأنَّ العرف على خلاف ذلك, فإنَّه لو أتى شخص بعملٍ واحد ينطبق عليه عناوين متعددة حسنة يرى أنَّ ثوابه أكثر مِمّا إذاإنطبق عليه أحد هذه العناوين, وليس ذلك إلا بتعدد الأمر ووقوع العمل إمتثالاً للأوامر المتعددة.

وفي ختام هذا البحث ينبغي الكلام في أمرين لهما علاقة بموضوعنا:

الأمر الأول: إنَّه بناء على التداخل في جميع الصور المتقدمة هل يعتبر في تحقق إمتثال الأمرين قصدهما معاً أو يكفي قصد أحدهما؟.

لا بُدَّ من تفصيل يتطلبه طبيعة الواجبين؛

فإمّا أنْ يكون كلٌّ منهما قصدياً وذهبنا إلى التداخل بوجهٍ من الوجوه فلا بُدَّ من قصد كِلا الأمرين, إذ مع قصد أحدهما لا يتحقق متعلق الآخر لتقوّمه بالقصد، وإنْ لم يكونا قصديين

ص: 64

فهناك إحتمالات ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية في كيفية إمتثال الأمر العبادي وهي:

1- الإتيان بالعمل المأمور به متقرباً به إلى الله تعالى ومرتبطاً بالمولى ولو كان ربطاً غير واقعي؛ نظير ما لو أتى بالعمل بداعي إمتثال أمر خاص لم يكن له وجود، وكان الثابت أمراً آخراً فإنَّه يتحقق إمتثاله؛ إذ لا يعتبر في العبادية سوى ربطه بالمولى وإسناده إليه وإنْ لم يكن له واقع.

2- الإتيان بالعمل المأمور به مرتبطاً بالمولى إرتباطاً واقعياً ولو كان بغير الأمر الذي يتحقق إمتثاله؛ نظير أنْ يكون للعمل جهةً إضافة إلى المولى, فيأتي به العبد مرتبطاً من إحدى الجهتين فيقع إمتثالاً لكليهما.

3- الإتيان بالعمل المأمور به من جهة نفس الذي يقع إمتثالاً به، ويكون مرتبطاً بالمولى من هذه الجهة فقط, فلو كان للعمل جهةً إضافية وقصد إحداهما لم يقع إمتثالاً عن الأخرى.

وعلى الإحتمال الأول والثاني لا يعتبر في تحقق الإمتثال قصد كِلا الأمرين بل يكفي قصد أحدهما في تحقق الملاك وهو الإرتباط بالمولى وإضافة العمل اليه, بخلاف الإحتمال الثالث فإنَّه لا بُدَّ من قصد كليهما ليتحقق الإمتثال فقط.

ولكن سيأتي في الفقه أنَّه حتى بناءً على الإحتمال الثالث فإنْ قصد إحداهما وتحقق ربط العمل بالمولى يكفي في إمتثال كِلا الأمرين وإنْ كان ذلك خلاف الإحتياط.

الأمر الثاني: ذكرنا أنَّه يصحُّ الإتيان بالمجمع إذا التقت فيه العناوين أو الطبائع المختلفة سواء كان اختلافهما بالذات أم بالقيد أم بالأجزاء؛ كمثال صلاة الغفيلة وصلاة نافلة المغرب, فإنَّه يتحقق إمتثال كِلا الأمرين بإتيان ركعتين فيما إذا قصد الأمرين معاً.

ص: 65

وقد يُستشكل في تحقق الإمتثال بركعتي الغفيلة من جهة ما ذكروه في اعتبار أمر واقعي قصدي في الصلوات المتشابهة صورة موجباً لتباينهما حقيقة فيكون أحدهما غير الآخر, ولا طريق إلى قصده إلا بالإتيان بالعمل بقصد عنوانه الخاص كعنوانالظهر والعصر, ولولا ذلك لما كان هناك فارق بين نافلة الصبح وصلاتها وبين الظهر والعصر وكذا الغفيلة ونافلة المغرب.

وعليه؛ فإذا ثبت إعتبار العنوان القصدي في نافلة المغرب ليتحقق إمتياز عمّا يشاكلها كالصلاة القضائية وكذلك ثبت اعتباره في الغفيلة أيضاً، فإذا فرض أنْ يكون العنوانان القصديان متباينين واقعاً بحيث لا يمكن قصدها بعمل واحد؛ نظير عدم إمكان الإتيان بأربع ركعات بقصد الظهر والعصر، ونظير قصد التعظيم والإهانة بقيام واحد.

ومع هذا الإحتمال لا مجال للقول بالتداخل لعدم العلم بالفراغ مع الإتيان بعمل واحد بقصدهما لقاعدة الإشتغال.

نعم؛ يمكن الإتيان بعمل واحد بداعي امتثال كِلا الأمرين رجاءً.

ثم إنّ السيد الوالد قدس سره لم يذكر من التنبيهات سوى ما ذكرهما، ولكن ذكر الأصوليون غيرهما, فلا بأس بذكرها ولو على سبيل الإجمال.

التنبيه الثالث(1): ذكر السيد الوالد قدس سره (2) أنَّ مورد البحث في المفهوم مطلقاً إنتفاء سنخ الحكم بانتفاء الموضوع لا إنتفاء شخصه, ثم ذكر:

إنْ قلت بأنَّ ما حدث في المنطوق إنَّما هو شخص الحكم وهو منتفٍ بانتفاء موضوعه قهراً، والسنخُ لم يحدث أصلاً حتى يبحث عن انتفائه أو عدمه.

ص: 66


1- . من تنبيهات مفهوم الشرط.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص107.

وذكر في الجواب أنَّ المنشأ في المنطوق إنَّما هو طبيعي الحكم وهو غير مقيد بخصوص الموضوع وإنْ تقيد حصة منه بذلك، وإنْ شئت قلت: إنَّه إنْ كان القيد قيداً لطبيعي الحكم المُنشأ فلا ريب في المفهوم, لأنَّ زوال حصة من الطبيعي بزوال الموضوع لا يوجب زوال أصله, وإنْ كان للحصة فلا ريب في عدم ثبوته لانعدام أصل الحكم المُنشأ حينئذٍ.

وهذا أحد الوجوه التي ذكروها في طريق معرفة كون السنخ مدلولاً للكلام, وبيان ذلك يتوقف على الكلام في نواحٍ ثلاث:

الأولى: في بيان المراد من السنخ وضرورة كونه مدلولاً للكلام في ثبوت المفهوم.

الثانية: في طريق معرفته.

الثالثة: في بيان بعض المصاديق التي إتَّفقوا على عدم ثبوت المفهوم فيها؛ كالأوقاف والوصايا والنذور, وإنَّ إنتفاء الحكم فيها عند إنتفاء الشرط ليس من المفهوم في شيء.أما الأولى؛ فقد تقدم الكلام في معنى السنخ وقلنا بأنَّ المراد هو طبيعة الحكم من حيث هي خلافاً لما أفاده المحقق الإصفهاني قدس سره من عدم تصور معنى مجمع للمفهوم، وذكر بأنَّ مدلول الجزاء في القضية الشرطية هو شخص الحكم لكن لا بما هو شخص بل بما هو وجوب مثلاً وهو يلازم المفهوم، فلا يتوقف على تعليق سنخ الحكم بل يثبت عند تعليق شخصه لهذا المعنى, وسيأتي الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا الثانية؛ فقد ذكروا وجوهاً لإثبات تعليق السنخ دون الشخص:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّ مدلول الهيئة مفهوم الوجوب, لأنَّ الحروف موضوعة للمفاهيم كالأسماء، وإنَّما الفارق بينهما في اللحاظ الآلي والإستقلالي وهو من شؤون الإستعمال لا من شؤون الموضوع له أو المستعمل فيه, وقد عرفت الوجوه

ص: 67


1- . كفاية الأصول؛ ص199.

في مبناه عند البحث في وضع الأسماء والحروف فراجع، مع أنَّ مدلول الهيئة غير ذلك كما عرفت.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ الحكم إذا كان مؤدى الحرف كهيئة (إفعل)، والمعنى الحرفي معنى جزئي فلا يستفاد منه تعليق سنخ الحكم, إلا أنَّ المعلق على الشرط ليس مدلول الهيئة وإنَّما هو المادة المنتسبة إلى الوجوب.

وعليه؛ يكون المعلق في الحقيقة هو الوجوب العارض للمادة، وعند إنتفاء الشرط ينتفي هذا الوجوب فيكون المعلق هو حقيقة الوجوب.

وإمّا أنَّ الحكم مؤدى الإسم مثل كلمة (يجب) ونحوها فلا إشكال في أنَّ مدلول الإسم مفهوم الوجوب باعتبار فنائه في الحقيقة.

وفيه: إنَّه قد سبق الكلام فيما قرر من المادة المنتسبة مع أنَّه لا يفي بالغرض, لأنَّه لا يؤدي إلى تعليق سنخ الوجوب بالخصوص.

الوجه الثالث: ما أفاده بعض الأعلام(2) من أنَّ حقيقة إنشاء الوجوب عبارة عن إظهار اعتبار كون فعل ما على ذمة المكلف, فإذا كان المعتبر بالإعتبار المزبور معلقاً على وجود شيء مثلاً إستلزم ذلك انتفاؤه بانتفائه من دون فرق بين أنْ يكون هذا الإعتبار مستفاداً من الهيئة أو من المادة المستعملة في المفهوم الإسمي باعتبار فنائه في معنونه.

وبعبارة أخرى: قد فكك بين الإعتبار والمعتبر والقيد يرجع إلى الأخير دون الأول، والمفروض أنَّ المعتبر هو مفهوم الحكم لا حقيقته؛ إذ الإعتبار يرد على المفاهيم لا على الوجودات.

ص: 68


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص420.
2- . السيد الخوئي في هوامشه على أجود التقريرات؛ ج1 ص420 الهامش1.

وهذا الذي ذكره قد التزم به المحقق الإيرواني قدس سره في حاشيته على مكاسب الشيخ الأنصاري قدس سره (1) في بيع الفضولي؛ حيث قال بأنَّ اعتبار الملكية من حين الإجازة ولكن المعتبر هو المكلية من حين العقد وهو المعبّر عنه بالكشف الحكمي.

وفيه: إنَّه لا يعقل أنْ يكون الإعتبار فعلياً والمعتبر معلقاً على قيد غير فعلي أو يقيد به، لأنَّ المعتبر إمّا مفهوم الحكم أو وجوده؛ أمّا الأول؛ فمع غض النظر عن أنَّ التعليق يكون بلحاظ وجود الشيء لا بلحاظ ذات الشيء؛ إنَّه لا يفيد أنْ يكون سنخ الحكم معلقاً لا شخصه كما هو واضح.

وأمّا التعليق بلحاظ وجود الحكم؛ ففيه: إنَّ الأمور الإعتبارية -التي منها الأحكام- لا وجود لها إلا بالإعتبار، فلا يتصور أنْ يكون الإعتبار الفعلي للحكم المعلوم وجوده على الشرط؛ لأنَّ اعتبار الحكم فعلاً يعني وجوده كذلك وهو يناقض تعليق وجوده على وجود الشرط.

وهناك وجوه أخرى قابلة للمناقشة والإشكال.

والصحيح أنْ يقال: إنَّه بعد إثبات العليّة بين الشرط والجزاء ودلالة الجملة الشرطية على هذا النوع من التوقف فإنَّ الشرط مغايراً مع موضوع الحكم وتحققه غير مساوق لتحققه؛ كما في (إذا جاءك زيد فأكرمه)، كان مقتضى إطلاق هذا التوقف إنتفاء وجوب إكرام زيد عند انتفاء الشرط الذي هو المجيء فيدلُّ على المفهوم لا محالة, فيكون المراد من الحكم سنخه. وأمّا إذا كان الشرط مساوقاً مع الموضوع بحيث كان انتفاؤه مستلزماً لانتفاء الموضوع أيضاً كما في مثال (إنْ رزقت ولداً فاختنه) فلا تدلُّ على كون الحكم سنخه بل هو شخصه فلا يدلُّ على المفهوم.

وهذا المقدار كافٍ في الدلالة على سنخ الحكم.

ص: 69


1- . ص126-127.

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام(1) من التفصيل بين تقييد الحكم بموضوعه وتقييد الجزاء بالشرط، والتقييد الأول نستنبطه من جملة الجزاء والثاني تدلُّ عليه أداة الشرط, والتقييدان طوليان بحسب الفهم العرفي والتخريج الصناعي فهو من التطويل بلا طائل تحته.ويكفي التقييد الثاني في إثبات المفهوم وإرادة سنخ الحكم وإنْ كان التقييد الأول لازماً لكن لا نحتاج إلى ملاحظته في إثبات المفهوم فتدبر.

وأمّا الثالثة(2)؛ فقد إتَّفق الفقهاء على عدم ثبوت المفهوم في الأوقاف والنذور والوصايا خلافاً لما ذكره الشهيد في تمهيد القواعد(3) حيث ذهب إلى دلالة القضية في هذه الموارد على المفهوم أيضاً. ولعل دليل من ذهب إلى عدم المفهوم إلى أنَّ إنتفاء الحكم فيها من جهة أنَّ الشيء إذا صار وقفاً على أحد فلا يقبل أنْ يصير وقفاً على غيره, فيكون انتفاء الوقف عن غير مورد المتعلق عقلياً.

وربما يكون نظر الشهيد قدس سره في إثبات المفهوم إلى أنَّ عدم ثبوت الجزاء على غير الشرط عند وجود الشرط أمر عقلي لامتناع ضرورة الوقف على أحدٍ وقفاً على غيره في فرض وجوده.

وأمّا عدم ثبوت الجزاء على غير الشرط عند انعدامه, فلا إمتناع فيه لعدم امتناع وقف الموقوف على أحد على غيره؛ على فرض عدمه وبنحو الطولية. ولكن ذلك يستفاد من فهم الأصحاب لعدم المفهوم في تلك الموارد, وعند عدم الشرط فلا بُدَّ من إمتناع دليل الوقف.

وليست لنا قاعدة كلية على جواز الوقف على غير الموقوف عليه عند عدمه.

ص: 70


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص176.
2- . من النواحي المتقدمة.
3- . ص14؛ القاعدة الخامسة والعشرون من الطبعة الحجرية.

التنبيه الرابع: لا ريب في أنَّه إذا تعدد الشرط وتكثّر يوجب ضيق دائرة المنطوق واتّساع دائرة المفهوم كما إذا قيل: (إنْ رزقت ولداً ذكراً فتصدق), وهذا لا إشكال فيه لأنَّ انتفاء أحد القيود يكفي في انتفاء الجزاء، وإنَّما الكلام في الصورة العكس كما إذا قيل: (إنْ رزقت داراً فتصدق وصلِّ ركعتين), فهل تدلُّ الشرطية على انتفاء جميع الأحكام المذكورة في الجزاء عند انتفاء الشرط أو انتفاء المجموع فلا ينافي ثبوت بعضها.

والمحتملات في مرحلة الثبوت هي:

1- أنْ يكون العطف في طول التعليق، أي: علق الحكم الأول على الشرط ثم عطف عليه الحكم الثاني, فيرجع إلى تشريكه مع الأول في التعليق فيكون مقتضاه انتفاء الجميع بانتفاء الشرط.

2- أنْ يكون التعليق في طول العطف بأنْ يجمع بين الحكمين في مرتبة سابقة ويوحد بينهما ثم يطلق المجموع بما هو مجموع على الشرط, ومقتضاه إنتفاء المجموع.

3- أنْ يكون التعليق في طول العطف ولكن من دون إفتراض الوحدة والتركيب بين الحكمين في مقام التعليق, ومقتضاه إنتفاء الجميع مثل الأول.

وأمّا بحسب الإثبات؛ فالظاهر هو الإحتمال الأول, فإنَّ العطف في قوة التشريك بين الحكمين، فكأنّ المتكلم كرر الشرط مرتين, فقال (إنْ رزقت ولداً فتصدق, وإنْ رزقت ولداً فصلِّ ركعتين) وإلى هذا ترجع المقولة المعروفة؛ العطف في قوة التكرار, وإليه يرجع الإحتمال الثالث, فإنَّ العطف إنَّما يرجع إلى تشريك الحكمين في التعليق, سواء جعلنا العطف نسبة تامة ذهنية أم لا.

التنبيه الخامس: لا إشكال في أنَّ جملة الجزاء في الشرطية مطلقة؛ ففي قولنا (إنْ جاءك زيد فأكرمه) إنَّه يدلُّ على وجوب مطلق الإكرام لزيد إذا جاء، وحينئذٍ يأتي الكلام في أنَّ

ص: 71

الجزاء المعلق على الشرط إنْ كان وجوب مطلق الإكرام فغاية ما يقتضيه دلالة الشرطية على الإنتفاء عند الإنتفاء هو انتفاء هذا الوجوب, فلا ينافي ثبوت وجوب إكرام مقيد كالإكرام بنحو الضيافة مثلاً, وإنَّما ينافيه مطلق وجوب الإكرام.

ولكن الجواب عنه بأنَّ في الجمل الشرطية إطلاقان:

أحدهما: الإطلاق في نفس الوجوب المأخوذ بالمعنى الحرفي موضوعاً للحكم بالتعليق، فإنَّ الوجوب له حصتان؛ وجوب مطلق الإكرام ووجوب الإكرام الخاص.

وهذا الإطلاق هو المأخوذ في التعليق وعلى أساسه يكون للجملة الشرطية مفهوم لأنَّ تعليق مطلق الوجوب على شيء يستلزم إنتفاء الوجوب بكلِّ حصصه عند انتفاء المعلق عليه. وإنْ كان هذا الإطلاق الذي مصاديقه من الموجودات في الذهن لا الخارج فإنَّه لا يضر, لأنَّ لكلِّ مفهوم إطلاق بلحاظ مصاديقه في العالم المناسب لها؛ سواء كان عالم النفس أو الخارج.

والآخر: الإطلاق في متعلق الوجوب وهو الإكرام, فإنَّه لا إشكال في أنَّ المستفاد من منطوق الجملة الشرطية ثبوت وجوب مطلق الإكرام على تقدير المجيء، وهذا الإطلاق لا يكون مأخوذاً في موضوع التعليق ولا التعليق طارئاً عليه، بل هو في طول التعليق وطارئ على الحكم المعلق ولو كان مأخوذاً في موضوعه, فإذا دلَّت الجملة الشرطية على المفهوم فإنَّ معناه المعلق ليس مطلق الوجوب بل وجوب مطلق الإكرام الذي هو إحدى حصتي الوجوب, ومنه يظهر أنَّ إطلاق متعلق الوجوب يساوق التقييد في نفس الوجوب.

والوجدان قاضٍ بأنَّ ثبوت المفهوم للجمل الشرطية لا يكون إلا أنْ يكون الإطلاق الأول مأخوذاً في موضوع التعليق لا الإطلاق الثاني, كما أنَّ البرهان يقتضيه أيضاً, لأنَّ الجمل الشرطية هي التي تتكفل لإثبات التعليق بين الشرط والجزاء فيطرف المنطوق، والإطلاق ومقدمات الحكمة لا تجري في المرتبة السابقة على التعليق وإنَّما تجري في المرتبة

ص: 72

اللاحقة، فلا تجري في متعلق الوجوب وهو الإكرام لإثبات أنَّ الوجوب قد تعلق بمطلقه فإنَّه فرعُ أنْ يكون الوجوب مدلولاً تصديقياً وإلا كما هو الحال في المقام حيث يكون المأخوذ فيه مدلوله التصوري وهو الماهية مع قطع النظر عن الإطلاق إذا لم يؤخذ كمفهوم تصوري.

ولكن كما يمكن الإشكال عليه بأنَّ الأمر مبني على العرف أكثر من كونه مبنياً على التعملات العقلية, ففي المقام يرى العرف أنَّ الإكرام هو متعلق الوجوب, قد أخذ على نحو الإطلاق وعلق مع وجوبه على الشرط فلا بُدَّ من الرجوع إلى القرائن في تعيين المأخوذ؛ هل هو إطلاق الوجوب فقط أو لوحظ إطلاق المادة معه؟.

والظاهر هو الأخير, فيستفاد من الجمل الشرطية انتفاء مطلق وجوب الإكرام الأعم من وجوب مطلق الإكرام والإكرام الخاص, فإنَّه قد أخذ في التعليق وجوب الإكرام بنحو المدلول التصوري الحرفي فهو الموضوع للحكم بالتعليق.

وقد ذكرنا مراراً معقولية الإطلاق والتقييد في المعاني الحرفية، وعليه؛ يصحّ رجوع الشرط إلى مدلول الهيئة لا المادة.

وبعد ثبوت ذلك نرجع إلى إطلاق المادة ببركة إجراء مقدمات الحكمة, فيستفاد منه وجوب مطلق الإكرام.

التنبيه السادس: إذا كان الحكم في الجزاء عاماً بلحاظ موضوع الحكم فهل يثبت في طرف المفهوم إنتفاء العموم أو عموم الإنتفاء؟.

فنقول: إنَّ العموم في موضوع الحكم تارةً يكون مجموعياً, وأخرى يكون إستغراقياً؛

أمّا الأول؛ فلا إشكال في أنَّ المفهوم فيه يكون بانتفاء العموم المجموعي، لأنَّه بحسب الحقيقة ليس إلا حكماً واحداً متعلقاً بمجموع الأفراد كموضوع واحد، والمفهوم ينفي ما ثبت في طرف المنطوق.

ص: 73

وأمّا الثاني؛ فإنَّ المفروض أنَّ فيه أحكام عديدة بعدد الأفراد، فالبحث يكون إمّا بحسب عالم الثبوت أو بحسب عالم الإثبات.

ففي عالم الثبوت؛ تكون المحتملات ثلاثة:

1- أنْ يكون المعلق صفة العموم.

2- أنْ يكون المعلق ذات العام, أي أنَّ الأفراد المستوعبة مع إفتراض أنَّها ملحوظة بنحو الإستغراق.

3- أنْ يكون المعلق ذات العام مع ملاحظة الأفراد بنحو المجموعية والوحدة.

أمّا الأول؛ فهو وإنْ كان يُثبت إنتفاء العموم ولكن لا تثبت السالبة الكلية بلحاظ موضوع الحكم, فمثلاً إذا قيل (إنْ رزقت ولداً فأكرم كلَّ فقير), فإنَّه على هذا لايثبت أكثر من عدم وجوب إكرام جميع الفقراء فيما إذا لم يرزق ولداً، ولكن يحتمل وجوب إكرام فقير هاشمي منهم خاصة.

وأمّا الثاني؛ فيكون مقتضى المفهوم هو عموم الإنتفاء, أي السالبة الكلية؛ إمّا من جهة أنَّ النقيض العرفي للموجبة الكلية هو السالبة، خلافاً للنقيض المنطقي الذي يكون نقيض الموجبة الكلية هو السالبة الجزئية كما ذهب اليه المحقق النائيني قدس سره (1).

وأورد عليه بأنَّ العرف أيضاً يفهم التناقض بمجرد ثبوت السلب الجزئي بلا حاجة إلى أنْ يكون كلياً.

وفيه: إنَّ المحقق النائيني قدس سره لم يذكر ذلك على سبيل الكلية كما هو الحال في المنطق، فربَّما يكون العرف يرى في بعض الموارد أنْ يكون نقيض السلب الكلي الموجبة الجزئية،

ص: 74


1- . ص126-127.

فهذا ردٌّ عليه بما لم يلتزم به. وأمّا من جهة كون المعلق في هذا لغرض ذات العام؛ أي: الأحكام الملحوظة بنحو الإستغراق والكثرة تنتفي جميعاً إذا إنتفى الشرط.

وأمّا الثالث؛ فإنَّ ملاحظة مجموع الأحكام كمركب واحد لا يُثبت المفهوم؛ فإنَّه لا يفيد أكثر من انتفاء هذا المجموع وهو لا ينافي ثبوت البعض. ولكن يمكن أنْ يثبت المفهوم على ما اخترناه في ثبوت العليّة المنحصرة إذا كان المتكلم في مقام بيان ما هو الشرط؛ فإنَّ الإطلاق الأحوالي يدلُّ على هذه النسبة التامة للمجموع وهو ينفي وجود علّة أخرى للبعض، إذ لو كان هناك علّة أخرى لكان الشرط في حال الإقتران بها غير مستقل فلم تكن لذات العالم.

هذا كلُّه بحسب الثبوت. أما في عالم الإثبات؛ فتارةً يكون الدالّ على عموم معنىً إسمي مثل (كل) و(جميع) ونحو ذلك مثل ( إذا جاءك زيد فأكرم كلَّ الفقراء).

والظاهر أنَّ المعلق على الشرط هو العموم وإنْ كان الحكم في طرف المنطوق منحلاً إلى عدة أحكام ولكن على نحو الطريقية؛ لتكون مرآةً للأفراد بنحو الإنحلال.

وأخرى يكون الدالّ معنىً حرفياً كالجمع المحلّى باللام أو النكرة في سياق النفي وغير ذلك، فإنَّ المستفاد من الإطلاق تعليق الأحكام العديدة بنحو الإستغراق, فيكون المعلق ذات العام؛ أي: الأفراد المستوعبة إلا إذا دلَّت قرينة على التركيب والمجموعية لتثبت الفرض الثالث.

ولعل إختلاف الأصوليين في بعض الموارد يرجع إلى إدّعاء تواجد القرينة.التنبيه السابع: ذكرنا في التنبيه الرابع ما يتعلق بتعدد الشرط ووحدة الجزاء, وقلنا أنَّه لا ريب في أنَّ تعدد الشرط في الجملة الشرطية يوجب ضيق دائرة المنطوق واتّساع دائرة المفهوم.

ص: 75

وبعبارة أخرى: إنَّ الشرط كلما تعددت قيوده إتَّسعت دائرة المفهوم, لأنَّ انتفاء أحد القيود يكفي في انتفاء الجزاء. فلو قال: (إذا جاءك زيد وأكرمك فأكرمه) كان مقتضاه إنتفاء وجوب الإكرام بانتفاء مجيء زيد وبانتفاء إكرامه مع تحقق مجيئه. وهذا لا إشكال فيه. وإنَّما الكلام فيما إذا انعكس الأمر وتعدد الجزاء, كما إذا قيل: (إذا رزقت ولداً فصلِّ ركعتين وتصدّق على الفقير) فهل يقتضي انتفاءُ الشرط انتفاءَ جميع الأحكام المذكورة في الجزاء أو يقتضي انتفاء المجموع فلا ينافي ثبوت بعضها؟ .

وبعبارة أخرى: إنَّ إنتفاء الشرط يوجب إنتفاء الجزاء بنحو الإستغراق أو بنحو المجموع؟.

قد يقال: إنَّ المفهوم في مثل ذلك يكون على نحو الموجبة الجزئية, لأنَّ نقيض السالبة الكلية موجبةٌ جزئية، والمفهوم عبارة عن ارتفاع الجزاء وارتفاعُه يكون بنقيضه.

ورُدّ بأنَّ نقيض السالبة الكلية موجبةٌ جزئية هي قاعدة منطقية لا ربط لها بعلم الأصول وعلم الفقه الذي يكون البناء فيهما على ظواهر الكلام ودلالة الألفاظ.

وكيف كان؛ فالمسألة تبحث من مقامين؛ الثبوت والإثبات؛

أمّا مقام الثبوت؛ ففيه إحتمالات ثلاثة:

الإحتمال الأول: إنتفاء الجميع بانتفاء الشرط فيما إذا كان العطف طولياً في مقام التعليق؛ بأنْ عُلِّق الحكم الأول على الشرط ثم عطف عليه الحكم الثاني فيرجع إلى تشريكه مع الأول في التعليق.

الإحتمال الثاني: إنتفاء المجموع؛ وذلك بأنْ يكون التعليق طولياً في مقام العطف بأنْ يجمع بين الحكمين في مرتبة سابقة على التعليق ويوحّد بينهما ثم يعلق المجموع على الشرط.

الإحتمال الثالث: كما في الإحتمال الثاني ولكن من دون إفتراض الوحدة والتركيب بين الحكمين في مقام التعليق؛ فيكون مقتضاه إنتفاء المجموع كالأول.

ص: 76

وأمّا مقام الإثبات؛ فقد يقال فيه بتعيين الإحتمال الثالث, لأنَّ الثاني فيه مؤونة المجموعية فلا بُدَّ من قرينةٍ زيادةً على العطف الذي لا يقتضيه؛ فإنَّه لا يدلُّ إلا على الأعم من المعيّة والإقتران الخارجي فلا يكون ذلك مدلولاً للفظ.

وأمّا الأول فلأنَّ العطف معنى حرفي تكون النسبة فيه ناقصة، ومعه يستحيل أنْ تكون في طول التعليق الذي هو النسبة التامة في الجملة.والكلام في أنَّ العطف وإنْ كان معنى حرفياً لكن يمكن فرض النسبة التامة بطرفيها كما في سائر موارد النسب والمعنى الحرفي على العموم مع أنَّه لا تكون النسبة في العطف ناقصة.

وعليه؛ يكون مرجع العطف إلى تشريك الحكم الثاني مع الحكم الأول في التعليق, فكأنّ الشرط يكون متكرراً فيقال في المثال المزبور: (إنْ رزقت ولداً فتصدّق وإنْ رزقت ولداً فصلِّ ركعتين), ولعلَّ هذا هو الملاك في المقولة المعروفة من أنَّ العطف في قوة التكرار.

ومن ذلك يظهر أنَّ الإحتمالين الأول والثالث يرجعان إلى واحد, وهو كون العطف يرجع إلى تشريك الحكمين وكأنه قد كرر فيكون مقتضاه إنتفا ءالجميع؛ فافهم.

التنبيه الثامن: إذا ورد قيد على مفاد الأمر بغير سياق الشرط, كما إذا قال (أكرم زيداً عند مجيئه) فلا إشكال في عدم المفهوم, ولم يدَّعِه أحد، إلا أنَّ الكلام في إثبات الفرق بينه وبين نفس القيد في سياق الشرط؛ فلو قيل: (إذا جاءك زيد فأكرمه) فلا بُدَّ أنْ يجري فيه جميع ما قيل في تخريج المفهوم، ولكن يمكن أنْ يقال أنَّ الفرق بينهما متحقق في أنَّ الحكم في الجملة الشرطية إنَّما هو سنخ الحكم بعد جريان الإطلاق كما عرفت سابقاً، ولأجله يثبت المفهوم، بخلاف ما إذا ورد القيد في غير سياق الشرط فإنَّ الحكم فيه شخصُه لا سنخه، مضافاً إلى أنَّ التقييد ب- (عند) لا يدلُّ إلا على أكثر من التخصيص والتقييد, فلا يدلُّ على التعليق الذي هو شرط آخر في اقتناص المفهوم.

ص: 77

التنبيه التاسع: إذا كانت أداة الشرط إسماً يقع موضوعاً للحكم كقولنا (من أكرمك أكرمه)؛ قيل بعدم دلالته على المفهوم لأنَّ الشرط مسوق لتحقق الموضوع فيكون إنتفاء الشرط فيه يساوق إنتفاء موضوع الحكم في الجزاء, لأنَّ المعلق على الشرط هو الحكم المقيد بموضوعه لا طبيعي الحكم فهو قضية حملية، وانتفاء الحكم فيها بانتفاء الموضوع عقليٌ كما عرفت سابقاً.

ويرد عليه بأنَّ استفادة المفهوم للجمل الشرطية إذا كان من جهة الإطلاق الأحوالي للمتكلم الذي يكون في مقام بيان ما هو الشرط فإنَّه يدلُّ على كون الحكم المذكور سنخه لا شخصه، فإذا تحقق هذا المناط في مثل المقام تحقق المفهوم لا محالة كما في الجملة الشرطية المبتدأة بأداة الشرط.

ص: 78

المفهوم الثاني: مفهوم الوصف

اشارة

ويقع الكلام في ثبوت المفهوم للوصف، ولا بُدَّ من تقديم أمور:

الأمر الأول: إنَّ الوصف إمّا مذكور في الكلام أو إنَّه يستفاد من سياق الجملة فيكون كالمذكور فيه, وعلى كِلا التقديرين؛ إمّا أنْ يكون الموصوف مذكوراً في الكلام أو لا.

ومورد بحث الأصوليين هو ما إذا كان الموصوف مذكوراً، وأمّا إذا لم يكن مذكوراً فإنَّه يكون أشبه بمفهوم اللقب الذي سيأتي بحثه إنْ شاء الله تعالى.

ومن أجل ذلك ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ الأليَق بعنوان البحث في المقام هو أنْ يقال: إنَّ الحكم الثابت للمنعوت بنعت ظاهري أو سياقي؛ هل يدور مدار وجود النعت؟.

الأمر الثاني: إنَّ الحالات المتصورة في الوصف والموصوف؛ إمّا أنْ يكون بينهما التساوي، أو العموم المطلق، أو العموم من وجه. وأمّا التباين فلا سبيل إليه لأنَّه لا بُدَّ من الإتّحاد بين الصفة والموصوف في الجملة، ولا إتّحاد بين المتباينين.

والظاهر خروج الأول عن مورد البحث, لأنَّ مقتضى التساوي بين الموصوف والوصف هو انتفاء الموصوف بانتفاء الوصف قهراً, فتكون القضية من السالبة بانتفاء الموضوع، ولأنَّ مورد البحث هو إنتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف فلا بُدَّ من فرض بقاء الموضوع، وهو غير ثابت.

أمّا العموم من وجه؛ فتارةً يكون الإفتراق من جهة الموصوف؛ بأنْ يوجد الموصوف دون الوصف كالعالم العادل، وأخرى يكون الإفتراق من ناحية الوصف؛ بأنْ يوجد الوصف دون الموصوف.

ص: 79


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص117.

والثاني يخرج عن مورد الكلام, إذ لا إعتماد فيه للوصف على الموصوف في ظاهر الخطاب, فما نُسب إلى بعض الشافعية من نفي الزكاة في غير السائمة من سائر الأنعام التي فيها الزكاة لمفهوم قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (فِي الغَنَمِ السّائِمِزَكَاةٌ)(1) لا وجه له إلا إذا استفدنا العليّة التامة المنحصرة من السائمة الواردة في الغنم في غير الغنم, فيدخل في مورد البحث العمومِ المطلق كالنحوي بالنسبة إلى العالِم، والعمومِ من وجه الإفتراق من ناحية الموصوف دون الوصف كما عرفت، فإنَّ غيرهما يكون من مفهوم اللقب الذي سيأتي أنَّه لا مفهوم له.

ومن جميع ذلك يظهر وجه الإشكال في تعميم البحث ليشمل الجميع كما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره (2).

الأمر الثالث: ذهب جمع من الأصوليين(3) إلى أنَّ محلَّ البحث ما إذا كان الوصف معتمداً على الموصوف, فلا يشمل ما إذا لم يكن كذلك. والوجه فيه يظهر مِمّا ذكرناه آنفاً من اعتبار وجود الموضوع في ظاهر الخطاب فلا يشمل غير المذكور, لأنَّ انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف يستدعي بقاء الموضوع.

والإشكال الذي ذكره بعض الأعلام(4) في بيان عدم اعتبار هذا الشرط؛ بأنَّ وجوه المفهوم للوصف متعددة وأنَّ بعضها يتأتى في غير المعتمد على الموصوف غيرُ سديدٍ؛ إذ ليس الوجه في اعتباره ما ذكره فافهم.

ص: 80


1- . لا یوجد نصٌّ صریح في أي من كتب الفريقين بهذا اللفظ وإنْ اشتُهر، ولكن يوجد ما يشابهه ویدلُّ علیه فی کتبنا, فلاحظ وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج9 ص118 وما بعدها؛ الباب 7 من أبواب زكاة الأنعام.
2- . كفاية الأصول؛ ص207.
3- . ومنهم المحقق النائيني في أجود التقريرات؛ ج1 ص433.
4- . منتقى الأصول؛ ج3 ص278.

الأمر الرابع: سبق وأنْ عُلِمَ بأنَّ اقتناص المفهوم من الجملة مطلقاً سواء كانت شرطية أم وصفية أم غيرهما؛ إمّا أنْ يكون عن طريق الدلالة على الإنتفاء عند الإنتفاء، وهو يتوقف على إثبات العليّة الإنحصارية بين الحكم والوصف وكون الحكم المعلَّق هو طبيعي الحكم لا شخصه كما عرفت من مفهوم الشرط.

وإمّا أنْ يكون من قيام دليل في الكلام على كِلا الأمرين بنحو يستلزم عقلاً إنتفاء نوع الحكم من إنتفاء الوصف، فهل يمكن إثبات المفهوم للجملة الوصفية بأحد الطريقين المزبورين؟ وهذا ما سيأتي البحث عنه إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الخامس: لا إشكال في دلالة الجملة الوصفية على انتفاء شخص الحكم بانتفاء الوصف لما يقتضيه التطابق بين مرحلة الخطاب والجعل، لأنَّ ظاهر الجملة تقييد الحكم فيها بالوصف؛ فإنَّه كما إنَّ ظاهر الجملة هو تقييد وجوب إكرام العالم بالفقيه في عالم الإثبات فلا إطلاق يشمل غيره؛ كذلك الجعل يكون مقيداً به ثبوتاً.وهذا وإنْ لم يفدنا في إثبات المفهوم الكلي الذي هو المناط في إثبات المفهوم ولكنه يُثبت المفهوم الجزئي الذي هو إنتفاء شخص الحكم والذي لا ينافي ثبوت حكم آخر مماثل له في حصة أخرى من العالم, اللهم إلا أنْ يدلَّ الدليل على وحدة الحكم كما في المطلق والمقيد؛ حيث يُحمل الأول على الثاني حتى عند المنكرين لمفهوم الوصف، ولكن لو لم نحرز وحدة الحكم كان الحمل على المقيد موقوفاً على ثبوت المفهوم للوصف.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ الوصف إذا كان علّة تامة منحصرة لثبوت طبيعي الحكم للموضوع فإنَّه يثبت المفهوم لا محالة, وإلا؛ فإنْ كان مقتضياً له أو لا اقتضاء له فلا يثبت المفهوم أبداً.

ص: 81

وأمّا إذا ثبت المفهوم للوصف لقرائن خارجية أو داخلية فإنَّه لا إشكال حينئذٍ، ولكن لا يمكن إثباته على سبيل القاعدة الكلية بحيث يصحّ الإسناد إليها في كلِّ مقام, إلا ما قد يقال في ذلك مِمّا يلي:

1- الدلالة على المفهوم وصفاً.

وفيه: إنَّه لا شاهد عليه أصلاً, ولو كان كذلك لما كان حاجة إلى الإستدلال على المفهوم بوجوه إعتبارية خارجية.

2- إنَّه لو لم يدلّ على المفهوم لكان ذكر الوصف لغواً, إذ لا فائدة فيه غير ذلك.

وفيه: وضوح عدم إنحصار الفائدة فيه, كالإهتمام به ونحو ذلك مِمّا لا يخفى على من تأمّل في المحاورات وراجع علم المعاني والبيان.

3- ما اشتهر من أنَّ الأصل في القيد أنْ يكون إحترازياً, وأُيِّدَ ذلك بالمقولة المعروفة من أنَّ تعليق الحكم على الوصف مُشعر بالعليّة فيثبُت المفهوم لا محالة.

وفيه: إنَّه لا أصل لهذا الأصل إلا في الحدود الحقيقية والتعريفات الواقعية، مع أنَّه يمكن أنْ يكون المراد من الإحتراز في المورد الذي يكون قيداً له؛ فإذا كان قيداً في الموضوع فإنَّه يوجب تضييق دائرته.

وبعبارة أخرى: إنَّ القيد إحتراز عن دخالة غيره في شخص الحكم لا سنخه.

وأمّا قضية أنَّ تعليق الحكم على الوصف مُشعر بالعليّة فهي ليست من القواعد المعتبرة, مع أنَّ الإشعار بالعليّة أعمّ من العليّة التامة المنحصرة التي هي مناط ثبوت المفهوم كما تقدم.

4- إنَّ من لزوم حمل المطلق على المقيد في المحاورات العرفية ما إذا كانا مثبتين بثبوت المفهوم للوصف.

ص: 82

وفيه: ما عرفت آنفاً من أنَّ مناط حمل المطلق على المقيد هو إحراز وحدة الحكم وتقديم النص -وهو المقيد- على الظاهر الذي هو المطلق، بينما مناط المفهوم هو إحراز العليّة التامة المنحصرة للوصف، فلا ربط لأحدهما بالآخر.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّه لا يوجد في المقام قاعدة كلية تدلُّ على ثبوت المفهوم للوصف, فلا بُدَّ من التماس دليل خاص على ثبوته.

الإستدلال علی عدم المفهوم للوصف

وقد يستدلُّ على عدم المفهوم للوصف بقوله تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِ)(1), فإنَّه لو ثبت المفهوم لدلَّت الآية على حليّة الربيبة إذا لم تكن في الحجور مع أنَّها محرمة أيضاً.

وفيه: إنَّ ذلك لأجل الأدلَّة الخاصة التي تدلُّ على حرمة الربيبة مطلقاً ولو لم تكن في الحجر، وقد عرفت الوجه من عدم ثبوت المفهوم للجملة الوصفية في أول البحث سابقاً.

ثم إنّ مشارب الأعلام وآراءهم قد إختلفت في نفي مفهوم الوصف، ولا بأس باستعراض كلماتهم ولو على نحو الإيجاز:

الرأي الأول: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (2) من أنَّ إقتناص المفهوم للجملتين الشرطية والوصفية يتوقف على العليّة الإنحصارية للشرط والوصف، وهو مِمّا تسالم عليه الجميع حتى في الجملة الوصفية. والدليل على تسالمهم في حمل المطلق على المقيد فيما إذا أُحرزت وحدة الحكم فيهما حتى من المنكرين للمفهوم فيها، وحينئذٍ يتوقف البحث في ثبوت المفهوم لها على ملاحظة الركن الآخر وهو كون المترتب على الشرط أو الوصف سنخ الحكم دون شخصه.

ص: 83


1- . سورة النساء؛ الآية 23.
2- . مقالات الأصول؛ ج1 ص142-143.

ثم ذكر قدس سره بأنَّه لا إشكال في أنَّ مقتضى مقدمات الحكمة والإطلاق الثابت بها إثبات كون المعلّق هو طبيعي الحكم وسنخه لا شخصه، ولكن القرينة قامت على أنَّ الحكم بلحاظ موضوعه يكون مهملاً بحسب البناء العرفي اللغوي؛ لا أنْ يكون مطلقاً ولا مقيداً، ولهذا يجري الإطلاق فيه بلحاظه.

ومن أجل ذلك لم يثبت المفهوم للجملة اللقبية كقولنا (أكرم زيداً)، فلو كانت مقدمات الحكمة تجري فيها كان لها مفهوم بلا إشكال كما إذا قلنا (إكرام زيد كلّ الواجب) وهذا بخلاف غير الموضوع كالشرط مثلاً، فإنَّه لا مانع من إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة, فيكون سنخ الحكم معلّق على الشرط, فإنَّ البناء النوعي المزبور لا يقتضي إهمال المحمول في نسبة الحكم إلى شرطه وإنْ كان يجري بالنسبة إلى موضوعه كما ذكرنا فيحكم بأنَّ مطلق وجوب إكرام زيد معلّق على الشرط.وبما أنَّ الجملة الوصفية وإنْ كانت متضمنة بحسب الدقة على نسبتين؛ نسبة الحكم إلى الموضوع (وهو الموصوف)، ونسبته إلى الوصف باعتبار أنَّ ما هو طرف الإضافة هو الموصوف بما هو موصوف، وهو ينحلُّ عقلاً ودقةً إلى ذاتٍ ووصف؛ ولكنه بحسب النظر العرفي ليس هناك إلا نسبة واحدة بين الحكم وموضوعه المقيد, فلا يمكن إجراء الإطلاق في الحكم بلحاظ موضوعه لكونه مهملاً من ناحيته كما ذكرنا. وهذا هو السرّ في عدم ثبوت المفهوم للوصف.

أقول: لا تخفى المناقشة في كثير مِمّا ذكره قدس سره , وهي تظهر مِمّا بيّناه في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم حيث ذكرنا هناك أنَّ الإطلاق الذي يمكن التمسك به في إثبات المفهوم هو الإطلاق الأحوالي للمتكلم الذي هو في مقام بيان ما هو الوصف، ولا نحتاج إلى مقدمات الحكمة.

ص: 84

وأمّا ما ذكره من إتّحاد النسبة في الجملة الوصفية لحكومة العرف باتّحادها فيها فهو صحيح، ولكنه لا يضرّ في اقتناص المفهوم منها إذا تمت دلالتها على العليّة الإنحصارية بين الوصف وطبيعة الحكم.

وما ذكره بعض الأعلام(1) من المناقشة عليه غير سديد؛ فراجع.

الرأي الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2), فهو قدس سره وإنْ اختلفت كلماته لكنه يذهب إلى أنَّ الوصف إنْ أخذ قيداً للموضوع أو المتعلق فلا مفهوم للجملة الوصفية؛ لأنَّ معناه وجود حصة خاصة قد وقعت موضوعاً للحكم وهي مفهوم أفرادي، فيكون نظير اللقب الذي لا يدلُّ على أكثر من ثبوت الحكم فيه.

وأما إذا أخذ قيداً للحكم -بناءً على ما ذهب إليه من إمكان تقييد الحكم الذي يدلُّ على الهئية على نحو المادة المنتسبة- فإنَّه يثبت المفهوم لا محالة, لأنَّ الحكم إذا كان مقيداً فإنَّ المقيدَ عدمٌ عند عدمِ قيدِه وهو المفهوم، ولكن الظاهر عرفاً من القضايا الوصفية رجوع القيد فيها إلى الموضوع أو المتعلق، فلا مجال لتوهم المفهوم فيها.

وفيه: ما قد عرفت سابقاً في وجه اقتناص المفهوم وأنَّه لا يكفي رجوع القيد إلى الحكم ما لم يكن طبيعياً, فإنَّ مجرد تقييد شخص الحكم لا يُثبت المفهوم, فلا بُدَّ من توفّر الشروط الأخرى ليتم المفهوم.

الرأي الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (3) من أنَّ ثبوت المفهوم للوصف يتوقف على عليّة الوصف للحكم ولو بقرينة, وذلك لأنَّه لو فرض وجود علة أخرى للحكم لزم

ص: 85


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص204 وما بعدها.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص433-435.
3- . نهاية الدراية؛ ج1 ص330-331.

منه إمّا أنْ يكون الجامع بينهما علّة؛ وهو خلاف ظهور الجملةالوصفية في دخل الوصف بخصوصه في الحكم. وإمّا أنْ يكون كلٌّ منهما بخصوصه علة؛ فيلزم منه صدور الواحد بالنوع من الكثير وهو مستحيل. وقد نبّه قدس سره على عدم موافقته على تعميم قاعدة الواحد للواحدِ بالنوع، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في مفهوم الشرط؛ فراجع.

ولكنه قدس سره رجع عن الإستدلال على العليّة المنحصرة بالقاعدة الفلسفية المزبورة إلى الظهور العرفي الذي يقضي بأنَّ الأصل في القيود أنْ تكون إحترازية, وإنَّ الوصف مأخوذ في موضوع الحكم ثبوتاً, كما إنَّه مأخوذ إثباتاً.

ولا يراد بالعليّة هنا أكثر من هذا المعنى، وحينئذٍ يُضمّ إلى ذلك ظهور الخطاب في كون الوصف بخصوصه علة, وظهور المعلول في كونه طبيعي الحكم لا سنخه.

وبذلك تتم الدلالة على المفهوم لأنَّ ثبوت علتين وموضوعين عرضيين للجعل الواحد مستحيل لعدم تحمّل كلّ جعل لأكثر من موضوع واحد، وثبوتُ موضوعين كذلك لطبيعي الحكم بلحاظ حصتين منه خلافُ ظهور المعلول في كونه طبيعي الحكم، وثبوتُ موضوع واحد (وهو الجامع بين العلتين) لطبيعي الحكم خلافُ ظهور الخطاب في كون الوصف بخصوصه علّة, وهذا يعني أنَّ أي حصة تفترض للحكم لا بُدَّ أنْ تكون علته منحصرة في الوصف المأخوذ في الجملة؛ وهو المطلوب.

وفيه: ما عرفت آنفاً من كون القيود إحترازية وعدم تمامية ذلك, مع إنَّه على فرض القبول إنَّما يثبت كون الحكم مأخوذاً على نحو الإطلاق بمعنى تمام الحصص لا الطبيعة بما هي, وهذا يحتاج إلى مؤونة زائدة لا تثبتها مقدمات الحكمة.

ومن جميع ذلك نستفيد أنَّه لا يمكن لنا إثبات قاعدة تدلّ على ثبوت المفهوم للجملة الوصفية إلا إذا دلّ دليل خاص عليه.

ص: 86

المفهوم الثالث: مفهوم الغاية

ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ البحث في الغاية من جهتين:

الجهة الأولى: في دخول الغاية في المُغيّى(2).

ذهب المحقق الخراساني قدس سره (3) إلى عدم دخولها فيه لأنَّ الغاية من حدود المغيىّ, وحدّ الشيء يكون خارجاً عنه, والمفروض أنَّ موضوع الحكم هو المغيّى فلا يثبت الحكم للغاية.وأَورد عليه المحقق الإصفهاني قدس سره (4) من أنَّ كون الحدّ المصطلح خارجاً عن حقيقة الشيء لا يقتضي أنْ يكون مدخول إلى وحتى حدّاً إصطلاحاً. ثم ذكر أنَّ مبدأ الشيء ومنتهاه إمّا أنْ يكون بمعنى الأول والآخر، وإمّا أنْ يكون بمعنى ما يُبتدأ من عنده وما يُنتهى عنده الشيء، ودخول الأوليين كخروج الآخريين من الشيء واضح.

وإنَّما الكلام في أنَّ مدخول (حتى) و(إلى) هو المنتهى بالمعنى الأول أو المعنى الثاني.

والحقُّ ما ذكره السيد الوالد قدس سره , فإنَّه مع إيجازه وافٍ بالمقصود من أنَّ للغاية معنيين؛ فتارةً يراد بها آخر الشيء باعتبار الموضوع ووجود المختص به؛ كقولك (مساحة هذا الشيء ذراع) وهو داخل في المغيّى، لأنَّ كلَّ شيء إنَّما هو عبارة عن المحدود بحدٍّ خاص وشكل مخصوص. وأخرى يراد بها ما ينتهي عنده الشيء باعتبار الحكم لا باعتبار الموضوع كقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)(5).

ص: 87


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص120.
2- . وردت هذه الكلمة بالألف الممدودة أيضاً، وكِلاهما صحيح.
3- . كفاية الأصول؛ ص209.
4- . نهاية الدراية؛ ج1 ص332.
5- . سورة البقرة؛ الآية 187.

وفي هذه الصورة؛ فإمّا أنْ يكون إنتزاع الغاية من أول جزء من الليل فتدخل الغاية في المغيّى, وإمّا أنْ يكون من آخر جزء من النهار فتكون خارجة عنه لا محالة فيختلف باختلاف الموارد.

والمتبَّع هوالقرائن المعتبرة، ومع عدمها فالمرجع هو الإستصحاب فتكون النتيجة هي دخول الغاية في المغيّى.

وكيف كان؛ فإنّ المراد من الحدّ في كلمات المحققين هوالمعنى العرفي منه وهو نهاية الشيء، دون المعنى المنطقي الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء وذاته. والمعروف بين أهل الأدب أنَّ (حتى) و(إلى) تدلان على دخول الغاية في المغيّى ما لم تكن قرينة على الخلاف, إلا أنَّ الإعتماد على كلامهم يحتاج إلى دليل وهو مفقود، ولذا ترى أنَّ موارد الإستعمالات مختلفة؛ فبعضها ظاهر في دخول الغاية وبعضها ظاهر في عدم الدخول, فلا بُدَّ من ثبوت الدخول في المحاورات المعتبرة.

الجهة الثانية: في ثبوت المفهوم للغاية بأنْ تدلّ على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية.

والغاية تارةً ترجع إلى موضوع الحكم كما في قوله تعالى: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)(1)، وأخرى إلى متعلق الحكم كما في قولنا (صم إلى الليل)، وثالثةً ترجع إلى الحكمسواء استفيد من الهيئة أم من مفهوم إسمي كما في قولنا (الصوم واجب إلى الليل) ولا يضرّ ذلك في أصل المطلب.

وذهب أغلب المحققين إلى التفصيل بين غاية الحكم وغاية الموضوع أو المتعلق؛ إذ في الأول يثبت المفهوم كما عن الإمام الباقر علیه السلام : (كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ حَلَالٌ وحَرَامٌ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَه)(2).

ص: 88


1- . سورة المائدة؛ الآية 6.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج 6 ص339.

وما عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي حَدِيثٍ قَالَ: (كُلُّ شَيْ ءٍ نَظِيفٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَذِر)(1)، فإنَّ حصول الغاية موجب لارتفاع الحكم عمّا بعد الغاية قهراً.

واستُدلَّ عليه بأنَّه لو لم تثبت الغاية فلا تكون غاية وهو خلف، فلا وجه للحلية والطهارة بعد العلم بالحرمة والقذارة، بل إنّ السيد الوالد قدس سره إعتبرها من دلالة المنطوق لا من المفهوم، وهذا بخلاف ما إذا كانت غايةً للموضوع أو المتعلق فإنَّها لا تدلُّ على أكثر من تحديد ما هو موضوع الحكم في المرتبة السابقة فيكون حاله حال الوصف وقيود الموضوع الأخرى.

والحاصل: إنَّ الغاية إمّا أنْ لا تدلُّ على المفهوم أبداً كما إذا كانت غاية للموضوع، وإمّا أنَّها تدلُّ على انتفاء الحكم عمّا بعد الغاية منطوقاً؛ وإنْ سمَّيناه مفهوماً جزئياً فهو من المسامحة.

ومن ذلك يظهر وجه الإشكال فيما ذكره المحقق النائيني قدس سره ومن تبعه، كما إنَّ ما ذكره بعض الأعلام(2) في مقام ردهّ عليه من التفصيل لا يرجع إلى محصّل؛ فراجع.

نعم؛ إذا استفدنا من القرائن أنَّ المتكلم إذا كان في مقام بيان غاية الحكم وحدّه كان مقتضى الإطلاق المقامي ثبوت المفهوم وارتفاع الحكم بحصول الغاية كما عرفت، وإلا فلا يثبت المفهوم إذ أقصى ما يستفاد من الغاية هو أنَّ الحكم مقيد بقيدٍ وهو لا يتنافى مع اعتباره مقيداً بقيدٍ آخر أو غير مقيد بقيد.

ص: 89


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج 3 ص467.
2- . منتقى الأصول؛ ج3 ص284-285.

المفهوم الرابع: مفهوم الإستثناء

ذهب السيد الوالد قدس سره (1) تبعاً لجمع من الأصوليين إلى جعل العنوان هو مفهوم الإستثناء، ثم خصّه بعضُهم بعنوان آخر وهو مفهوم الحصر، والظاهر أنَّه تطويل بلا طائل تحته.والصحيح؛ هو تخصيص العنوان بالأخير، ثم البحث عن أدوات الحصر وأساليبه فإنَّ البحث إنَّما يتعلق بأنَّ الحصر هل يثبت له مفهوم؟.

وأمّا الكلام في أسلوب الحصر وأدواته فهو بحث لغوي أدبي ويرتبط كذلك بمباحث علم البلاغة, ولكن الأصوليين ذكروها لأجل وقوع الخلاف في بعضها.

وكيف كان؛ فإنّ البحث يقع في مقامات:

المقام الأول: في مفهوم الحصر

لا ريب أنَّ أسلوب الحصر من الأساليب المعروفة في الكلام والخطابات، ولا يختَّص بلغةٍ دون أخرى كغيره من فنون الكلام ويعتبر من الأساليب البلاغية ونوعاً من أنواع البديع.

ولا إشكال في ثبوت المفهوم للحصر إذا اشتمل على أركان المفهوم التي ذكرناها سابقاً في مفهوم الشرط؛ أوّلها الدلالة على العليّة المنحصرة، ويمكن إستفادة ذلك من أدوات الحصر في الجملة على خلاف يأتي في بعض الأدوات.

وأمّا ثانيها(2)؛ فالظاهر أنَّه ثابت في أسلوب الحصر في الجملة، وقد ذكرنا سابقاً أنَّ إثبات ذلك إمّا عن طريق مقدمات الحكمة أو الظهور الإطلاقي على تفصيل عرفته آنفاً. إلا أنَّ الثابت في المقام هو إثبات سنخ الحكم عرفاً في المقام، ولذلك كان مفهوم الحصر -ولا سيما الإستثناء- من أظهر المفاهيم ولعل السرّ يرجع في المقام إلى أنَّ حصر شخص الحكم

ص: 90


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص121.
2- . وهو كون المحصور سنخ الحكم لا شخصه.

ثابت مع قطع النظر عن الحصر، فلا بُدَّ من استفادة الحصر وأدواته شيئاً زائداً على المدلول المطابقي؛ وحينئذٍ تثبت الأداة مطلباً جديداً لا أنْ تكون تأكيداً لما كان, وإنَّ نفي السنخ في الحصر يستلزم لغوية الحصر لأنَّ قرينيته تكون على سنخ الحكم عرفاً؛ فإذا تحقق شرط المفهوم فسوف يثبت في الحصر بلا إشكال.

ولأجل ذلك ذهب بعض العلماء(1) إلى أقوائية مفهوم الحصر عن غيره من سائر المفاهيم لتوفر شروط المفهوم وأركانه في أسلوب الحصر عرفاً دون غيره مِمّا اختلفت أنظار العرف فيها، ولكن ذلك يتم في حصر الحكم فإنَّه لا شك في أنَّه يفيد المفهوم كما إذا قال (جاءني القوم إلا زيداً)؛ فإنَّ ركنَي المفهوم ثابتان بلا نزاع، والجملة إنَّما تدل على نفي المجيء عن زيدٍ عرفاً، ولا يعني من المفهوم إلا ذلك وهو انتفاء سنخ الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى. وأمّا إذا كان الحصر في الموضوع كما إذا قال (يجب إكرام العلماء إلا الفسّاق) فإذا تمَّت شروط المفهوم فيثبت، وإلا ففيه النزاع كما ستعرف.

المقام الثاني: في أدوات الحصر وأساليبهوهي كثيرة؛ وقد وقع الخلاف في عددها وخصوصياتها والمذكور في كتب الأصوليين هي:

الأول: الإستثناء

وهو من أكثر أساليب الحصر إستعمالاً, لا سيما في أخبار الأحكام؛ فقد وردت أدوات الإستثناء كثيراً في الكتاب الكريم والسنة الشريفة ولها آثار عملية كثيرة.

والمعروف من أدوات الإستثناء كلمة (إلا), وهي تارةً تستعمل بمعنى الحصر, وأخرى بمعنى الوصف مثل كلمة (غير).

ص: 91


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص216.

وعلى الأولى؛ إمّا أنْ يكون الإستثناء فيه راجعاً إلى الحكم وهو الغالب من موارد إستعمالات (إلا) مثل (أكرم العلماء إلا الفسّاق)، وإمّا أنْ يكون الإستثناء راجعاً إلى موضوع الحكم مثل (العلماء غير الفساق يجب إكرامهم).

وعلى الأول (إذا كان الإستثناء راجعاً إلى الحكم)؛ فلا ريب أنَّه يفيد المفهوم, فإنَّ مقتضى المحاورات المتعارفة في كلِّ لغة أنَّه يدلُّ على ارتفاع الحكم عن المستثنى وحصر الحكم على المستثنى منه بلا فرق بين أنْ تكون الجملة سالبة كقولنا (لا يجب تصديق المخبر إلا الثقة) أو تكون موجبة كالمثال المتقدم، ولذا قالوا بأنَّ الإستثناءَ من السلب إيجابٌ ومن الإيجاب سلبٌ؛ لأنَّ العرف يرى بأنَّ الحكم المذكور في القضية محصور على المستثنى منه ويختص به فلا يشمل الحكم المستثنى, فلا إشكال من هذه الجهة.

وعليه؛ فلا حاجة إلى إلتماس وجه عقلي وإطالة الكلام في بيانه كما صنعه السيد الصدر قدس سره (1). والمشهور ذهبوا إلى أنَّ ذلك يكون لأجل ثبوت المفهوم لتوفر أركان المفهوم فيه كما عرفت آنفاً.

والحقُّ أنّ ثبوت هذا المعنى للإستثناء لأجل شدة وضوحه كان أشبه بالمنطوق كما بالنسبة إلى كلمة (ليس) و(لا يكون)؛ فلا بأس أنْ يقال باختصاص الحكم بالمستثنى منه بأنَّه يستفاد من المنطوق. وادَعى السيد الوالد قدس سره (2) التبادر على ذلك.

واعتبر بعضُ الأصوليين(3) أنَّ هذا البحث له أثر عملي كبير وجعله المهم في مبحث الإستثناء؛ فلو كان هذا الحكم من باب المفهوم فإنَّه مع الشك في سعة الحكم في المستثنى

ص: 92


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج6 ص735.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص121.
3- . منتقى الأصول؛ ج3 ص289.

وضيقه لا طريق لنا لإثبات سعته؛ إذ لا معنى للإطلاق فيه بعد أنْ كان مدلولاً إلتزامياً، والإطلاق في المنطوق الملازم له لا ينفع لاحتمال أنْ تكون الخصوصية ملازمة لنفي الإطلاق عن المستثنى لا لنفي كلّ فرد من أفرادالمطلق، بخلاف ما لو كان هذا الحكم مدلولاً للمنطوق؛ فإنَّه يمكن التمسك بإطلاقه في إثبات سعة الحكم.

ومنه يُعلم وضوح هذا المدلول الإلتزامي واعتباره بمنزلة المنطوق مِمّا جعله في مصافّ الدلالات المنطوقية التي يمكن التمسك بالإطلاق فيها، وقد تقدم بعض الكلام بما يرتبط بهذا الموضوع في ابتداء بحث المفهوم فراجعه.

ولا فائدة مترتبة على ذلك بعد إتّفاق الجميع على انتفاء الحكم عن المستثنى واختصاصه بالمستثنى منه واعتبار هذا الحكم في الإستثناء من أظهر أحكامه عند العرف. ومع ذلك كلِّه يكون إنكار هذا المعنى في الإستثناء في الحكم مكابرة واضحة كما هو المعروف عن أبي حنيفة(1)؛ حيث أنكر ثبوت المفهوم بالإستثناء وعدم دلالته على الحصر، وحاول الإستدلال على ذلك بأدلة واهية لا حاجة إلى ذكرها ونقدها.

نعم؛ إنّ ثبوت هذا المعنى للإستثناء ودلالته على حصر الحكم بالمستثنى منه وخروج المستثنى عن الحكم إنَّما يكون بالنظر إلى طبيعي الحكم الثابت للمستثنى منه وانتفائه منه وانتفائه في المستثنى فلا ينافي ثبوت حكم مماثل له بعنوان آخر غير عنوان المستثنى منه، كما لو ورد وجوب التصدق على الفقير الفاسق فإنَّه لا يعارض مفهوم (أكرم العلماء إلا الفساق منهم)؛ فإنَّ موضوع الإكرام في الإستثناء هو العلماء, وأمّا الفقير فإنَّه موضوع أمر لوجوب الإكرام فلم يُستثنَ منه شيء إلا إذا تصادق العنوانان في مورد واحد, فلا بُدَّ من إعمال أحكام التعارض.

ص: 93


1- . شرح مختصر الأصول للعضدي, ص265؛ كما نقله في منتقى الأصول؛ ج3 ص287.

وعلى الثاني (الإستثناء راجعاً إلى موضوع الحكم)؛ فلا إشكال في عدم المفهوم له، وذلك لأنَّه يرجع إلى الوصف في الحقيقة فكان موضوع الإكرام مضيّق ومقيَّد وهو غير المفهوم فيكون إنتفاء الحكم بانتفاء موضوعه وهو أمر عقلي وليس من المداليل اللفظية كما تقدم مكرراً.

هذا كلُّه في مقام الثبوت، وأمّا في مقام الإثبات فالظاهر أنّ كلمة (إلا) الإستثنائية إنَّما تفيد حصر الحكم في المستثنى منه وإخراج المستثنى عن ذلك الحكم المذكور في الجملة.

وكلُّ ما ذكرناه إنَّما يجري فيما إذا كانت (إلا) الإستثنائية تدلُّ على الحصر.

وأمّا على الثانية وهي فيما إذا كانت (إلا) توصيفية بمعنى (غير)؛ فلا مفهوم لها حينئذٍ فتكون من قيود الموضوع وتوجب تضييقاً فيه مثل قولنا (يجب إكرام العلماء إلا الفساق منهم).

ثم إنَّ الأصوليين تعرضوا في المقام إلى الإشكال المعروف في كلمة التوحيد بأنَّ الخبر المقدر في جانب السلب إمّا أنْ يكون لفظ الإمكان أي (لا إله ممكن إلا الله)فهو ممكن؛ وهو لا يفيد الوجود الفعلي إذ الإمكان أعم من الوجود، وإنْ كان الخبر الوجود أي ( لا إله موجود إلا الله) فهو موجود، وهذا وإنْ أفاد التحقق والثبوت له سبحانه وتعالى ولكنه لا ينفي الشريك له جلّ وعلا وامتناعه، لأنَّ نفي الوجود أعمّ من الإمتناع؛ إذ ليس كلّ معدوم ممتنعاً، وكلا التقديرين فإنَّه على خلاف المقصود من كلمة التوحيد التي تفيد الأفراد بالألوهية المطلقة لله سبحانه وتحقق فعليته من كل جهة.

وقد أجابوا عن الإشكال بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ كلمة (لا) تامة لا تحتاج إلى الخبر مثل ليس التامة, والمعنى أنَّه لا تحقق للمعبود بالذات إلا الله, وهو ظاهر في وجوده وامتناع معبود آخر غيره عَزَّ وَجَلَّ.

ص: 94

الوجه الثاني: يقع تقدير الخبر لفظ الممكن من دون محذور كما ثبت من أنَّ كلّ ممكن من المعاني الكمالية يكون واجباً بالنسبة إليه عَزَّ وَجَلَّ إذا لم يستلزم النقص من نسبتها إليه سبحانه، والمعنى: لا إله ممكن إلا الله فهو ممكن، أي: واجب, وقد أثبتوا ذلك في الحكمة المتعالية.

الوجه الثالث: يصحُّ تقدير الخبر لفظ الموجود ويكون نفي الوجود عن جنس الواجب بالذات أو المستحق للعبادة ذاتاً ملازماً لامتناعه.

والحقُّ أنّ هذه الكلمة المباركة بطرفيها؛ السلب والإيجاب له من الظهور العرفي في تحقق الإله المستحق للعبادة ذاتاً ونفي الشريك وامتناعه ما لا يخفى، وقد فهم المشركون المعاندون هذا المعنى وعارضوه أشدّ المعارضة واستكبروا على الحق فلم ينطقوا بها عناداً ولجاجاً، فلو إنقدح في أذهانهم تلك الشبهات لاعترفوا بها.

وعلى هذا؛ فالجواب الأول هو الأقرب إلى الأذهان، ولكن مجموع الجملة المباركة بطرفيها تدلُّ على التوحيد.

ولعله لأجل وضوح ذلك كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقبل إسلام من ينطق بها من دون توقف، فالجملة ليست مركبة بل هي جملة واحدة فيها السلب والإيجاب.

الثاني(1): كلمة (إنَّما)

وهي تدلُّ على الحصر والإختصاص لتبادر ذلك منها عند عرف أهل المحاورة، إلا أنْ تكون قرينة على الخلاف.

والظاهر أنَّه لا ريب في ذلك فيكون مفاد الجملة التي تشتمل على هذه الكلمة هو حصر محمول تلك الجملة لموضوعها ونفي سنخ ذلك المحمول عن غير ذلك الموضوع.

ص: 95


1- . من أدوات الحصر.

وبعبارة أخرى: إنَّ مفادها يظهر في جملتين مختلفتين في السلب والإيجاب كما هو الشأن في كلِّ مفهوم؛ إحداهما؛ المنطوق, وهي نفس الجملة التي دخلت عليها (إنَّما).

والأخرى: المفهوم, وهي المدلول الإلتزامي لما هو المنطوق بعد دخول (إنَّما) عليها.

وعليه؛ يكون مفاد قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(1) هو إثبات الولاية لهؤلاء دون غيرهم مِمَّن ليسوا كذلك من كونهم أولياء لله عَزَّ وَجَلَّ.

الثالث: كلمة (بل)

وتأتي على معانٍ متعددة، وما يدلُّ منها على الحصر هي (بل) الإضرابية المستعملة في الجملة السالبة مشروطةً بكون الإضراب حقيقياً إلتفاتياً؛ فتدلُّ على الحصر لتبادر ذلك منها. وأمّا المعاني الأخرى لهذه الكلمة فلا تدلُّ على المفهوم إلا مع قرينة تدلُّ عليه.

الرابع: تعريف المسند إليه باللام

كقولهم (الكرم من العرب)، وتقديم ما حقّه التأخير؛ وهذه لا بُدَّ أنْ تدلُّ على المفهوم وضعاً لعدم وجود ما يدلُّ عليه مثل التبادر وغيره.

نعم؛ قد تدلُّ عليه القرينة الخاصة، ولأجل ذلك يختلف باختلاف القرائن والمقامات.

ص: 96


1- . سورة المائدة؛ الآية 55.

المفهوم الخامس والسادس: مفهوم اللقب والعدد

والمراد من اللقب في علم الأصول ما كان طرفاً للنسبة الكلامية في الجملة مسنداً أو مسنداً إليه ومتعلقاتهما، ولا مفهوم له لعدم وجود نكتةٍ لذلك.

وقد تقدم تفصيل الكلام في مثل هذا المجال عند ذكر مفهوم الوصف؛ فإذا قيل (زيدٌ قائم) فهو لا يدلُّ على نفي القعود عنه.

نعم؛ في حال القيام لا يصدق عليه القعود من جهة إمتناع الضدَّين, وهو لا ربط له بالمفهوم كما لا يدلُّ نفي القيام عن غير زيد لما هو المعروف من أنَّ إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه -عنه وعن غيره- عمّا عداه.

وبالجلمة؛ إنَّه لا يدلُّ على المفهوم بشيء من الدلالات.وأمّا العدد فيظهر حاله من اللقب؛ فإنَّه لا يدلُّ على المفهوم إلا مع القرينة، أو في حال كان المنساق عرفاً من العدد التحديد بالنسبة إلى الأقل فيكون العددُ المحدّد في طرفي القلة والكثرة كأعداد الصلوات اليومية, وتحديد المسافة ظاهراً في المفهوم عرفاً فيكون ذلك من القرينة الخاصة على المفهوم كالقرائن الشخصية الأخرى. ومنه يظهر حال ذكر الأعداد في الكلام وحالاتها من طرف القلة أو الكثرة أو هما معاً أو عدم لحاظهما.

ص: 97

ص: 98

الفصل الرابع: العام والخاص

اشارة

الفصل الرابع(1) العام والخاص

والبحث فيهما يقع ضمن أمور:

الأمر الأول: في تعريف العام والخاص

عرّف الأصوليون العامَّ بتعاريف متعددة لا تخلو عن الإشكال والنقض والإبرام، وعلّق المحقق الخراساني قدس سره (2) عليها بأنّ التعاريف المذكورة هي تعاريف لفظية يقصد بها شرح الإسم وتقريب المعنى إلى الذهن فلا وجه للإيراد عليها.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ لفظَي العام والخاص لم يقعا مورداً لحكم من الأحكام حتى يحتاج إلى التعريف وتحديد معناهما وتعيين مفهومهما وإنْ كان الأمر مترتباً على ما هو العام بالحمل الشايع وما يكون مصداقاً له، ولكنهما من المعاني المرتكزة في الأذهان إجمالاً في كلِّ لغة ومحاورة, ومعنى العام واضح عرفاً؛ فالتعاريفالمذكورة إنْ رجعت إلى ماهو المركوز فلا بأس بها وإلا فلا حاجة لذكرها وبيان زيفها.

والعموم عند العرف متقوم بالشمول والسريان والإستيعاب بخلاف الخصوص الذي هو في مقابله؛ أي: عدم الشمول والسريان والإستيعاب.

ولزيادة في توضيح ذلك لا بُدَّ من بيان قضايا:

الأولى: إنَّ الشمول والسريان إمّا أنْ يستفاد من الدليل اللفظي وضعاً كما في (أكرم كل عالم) بناءً على أنَّ لفظ (كلّ) موضوع للإستيعاب والسريان.

ص: 99


1- . من مباحث الألفاظ.
2- . كفاية الأصول؛ ص215.

أو يستفاد من التحليل العقلي؛ أي: في مرحلة تطبيق العنوان على معنونه خارجاً, كما في قولنا (أكرم العالم)، فإنَّ اللفظ لا يدلُّ عليه وضعاً, حيث لا يدلُّ اللفظ إلا على جعل الحكم على طبيعي العالم، ولكنه بحسب الخارج ومرحلة التطبيق ينطبق الحكم على كلّ ما يصدق عليه العالم خارجاً. ومورد البحث هو النوع الأول من الشمول والسريان لا الثاني.

الثانية: إنَّ الشمول والإستيعاب المدلول عليه باللفظ وضعاً تارةً يكون مفاد المعنى الإسمي كما في (كلّ, وجميع, وكافة, وعموم) ونحو ذلك من الألفاظ الموضوعة لغةً لمعنى الشمول والسريان والإستيعاب، وأخرى يكون مفاداً بنحو المعنى الحرفي كما في هيئة الجمع المحلّى باللام بناءً على دلالتها على العموم كما في الهيئات والأدوات التي وضعت لمعان غير مستقلة.

الثالثة: ذكر بعض الأصوليين(1) أنَّ المقصود من الإستيعاب والشمول في المفهوم لأفراده يلحظ على نحوين:

أحدهما: أنْ يلحظ المفهوم الواحد مرآة لتمام أفراده؛ كأن يلحظ مفهوم العالم فانياً في تمام أفراده بنحو الشمولية أو البدلية. فالعام هو الذي يدلُّ وضعاً على أنَّ المفهوم قد لوحظ بهذا المعنى.

ثم أورد على هذا الوجه بأنَّه غير معقول.

والآخر: أنْ تكون من استيعاب المفهوم لأفراد نفس افتراض نسبةٌ إستيعابية في مرحلة المدلول اللفظي قائمة بين المفهوم وأفراده، وهذا يستدعي وجو أطراف ثلاثة في مرحلة اللفظ كما هو واضح. واختار بعض هذا الوجه كما في كلِّ معنى إسمي، وذكر بأنَّ العموم

ص: 100


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص220.

هو إستيعاب مفهومٍ وضعاً لأفراد مفهوم آخر, سواء كان الإستيعاب ذاتياً للمفهوم المستوعب أو بدالٍّ ثالث.

وفيه: إنَّ ما ذكره بعيد عن الفهم العرفي الذي هو الأصل في الإستفادة عند فقد المعنى الشرعي للألفاظ، والعرف يحكم بأنَّ معنى العموم هو الشمول والإستيعاب على النحو الأول من دون أنْ تكون نسبته في البين عين المستوعب واللفظ. وقد تقدم منا في بحث الوضع ما يتعلق بذلك؛ فراجع.

الرابعة: بناءً على ما عرفت من معنى العام والخاص فإنَّهما يكونان من الأمور الإضافية؛ فقد يكون هناك عامٌّ من جهة ويكون خاصّاً من جهة أخرى، كما يمكن أنْ يكون خاصّاً من جهة ويكون عامّاً من جهة أخرى. وقد تستعمل ألفاظ كلّ منهما في الآخر بالعناية إذا استحسنه الذوق السليم.

الخامسة: قد عرفت أنَّ الشمول والسريان في العموم مستند إلى الوضع سواء كان بنحو المعنى الإسمي أو المعنى الحرفي بخلاف ما إذا استفيد الشمول والسريان من مقدمات الحكمة فإنَّه يسمى الإطلاق، وهذا هو المراد من الفرق بينالعام والمطلق من أنَّ دلالة الأول على الشمول لفظية ودلالة الثاني بالقرينة العامة, وقد أرسلوا ذلك إرسال المسلّمات. وقد رتَّبوا على ذلك آثاراً مهمة في بحث التعارض من تقديم العموم على الإطلاق في مورد التعارض بينهما، وذكروا في وجه ذلك بأنَّ جريان مقدمات الحكمة متوقف على عدم ما يصلح بياناً للتقييد, والعام يصلح للبيانية, ولا يجري ذلك في العكس لأنَّ ظهور العام وضعي ليس موقوفاً على شيء.

وبعبارة أخرى: ظهور العام في العموم تنجيزي لأنَّه بالوضع, وظهور المطلق في الإطلاق تعليقي على مقدمات الحكمة، والمقتضى التنجيزي لا يعارضه المقتضى التعليقي.

ص: 101

ولكن سيأتي في باب التعارض البحث في هذا الأمر مفصلاً, فإنَّه لا يمكن قبول ذلك على نحو الكلية وفي جميع الموارد؛ حيث أنَّ كِليهما يستندان إلى الظهور اللفظي, فلا بُدَّ من التماس مرجح لأحدهما على الآخر.

الأمر الثاني: أقسام العموم

قد عرفت أنَّ المفهوم العام قد لوحظ فيه الشمول والإستيعاب, فهو المفهوم المنطبق على جميع الأفراد ولكنه ينقسم بلحاظ مقام تعلّق الحكم إلى أقسام يكون العموم في جميعها بمعنى واحد وهو الشمول, وعلى هذا ينقسم العموم إلى ثلاثة أقسام:

1- العموم الإستغراقي؛ ويسمى بالعام الأصولي أحياناً، وهو الذي يشمل كلّ ما يصلح أنْ يكون فرداً له، فيلحظ كلّ فرد موضوعاً للحكم في عرض واحد. وهو كثير في الكتاب والسنة كقوله تعالى: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1)، وقوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ)(2), ومثل قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (لا تَشْرَب الخمْرَ)(3).

ولازم هذا القسم إنحلال القضية الواحدة إلى قضايا متعددة حسب تعدد الأفراد فتحقق الإطاعة بامتثال كل فرد والعصيان بترك فرد آخر، فلكلّ واحد إمتثال مستقل وعصيان مستقل. ثم إنَّه كما يحصل العصيان بترك جميع الأفراد كذلك يحصل بترك أي واحد منها.

2- العموم البدلي؛ وهو ما كان الملحوظ فيه فرد واحد ولكن على نحو البدل، فإنَّ العموم في هذا القسم يشمل كلّ فرد يصلح أنْ يكون بدلاً لا الفرد من حيث هو كما في القسم الأول, وهذا القسم ورد في كثير من النصوص الشرعية أيضاً.

ص: 102


1- . سورة المائدة؛ الآية 1.
2- . سورة الإسراء؛ الآية 32.
3- . الخصال؛ ج2 ص543.

ولازم ذلك تحقق الإطاعة بإتيان فرد ما مِمّا هو مأمور به ولا يتحقق العصيان إلا بترك الجميع.

3- العموم المجموعي؛ وهو يلحظ جميع الأفراد عنواناً واحداً للعام بحيث لا يكون له إلا فرد واحد وهو المجموع من حيث المجموع كغسل الجنابة؛ فإنَّ جميع البدن بتمام أعضائه يكون شيئاً واحداً فإذا لم يغسل موضع ولو بمقدار رأس إبرة يكون الغسل باطلاً.

ولازم ذلك عدم تحقق الإطاعة إلا بإتيان الجميع كما يتحقق العصيان بترك فردٍ ما على العكس من القسم الثاني.

وهذا المقدار من التمييز بين الأقسام يكفي في التفرقة بينها، إلا أنَّ هناك عدة آراء في تفسيرها من حيث كونها أقسام لكيفية العموم ثبوتاً مع قطع النظر عن مرحلة الوضع وما يدلّ عليه كلُّ قسم، ونذكر أهمّها:

الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره (1) من وحدة العموم في الأقسام الثلاثة؛ وهو الشمول والإستيعاب وخصوصية الإستغراقية أو البدلية أو المجموعية فهي خارجة عن العموم بما هو عموم وتابعة لكيفية تعلق الحكم بموضوعه من كونه في عرض واحد وعلى سبيل البدل أو كونه حكماً واحداً لا أكثر.

وبعبارة أخرى: إنَّ هذا التقسيم إنَّما هو بلحاظ كيفية تعلق الحكم وهي مرتبة متأخرة عن تعلق الحكم.

وفيه: إنَّه يتنافى مع الوجدان القاضي بالفرق بين العموم في الأقسام مع قطع النظر عن تعلق الحكم فإنَّ اللحاظ المحقق لكلِّ واحد من هذه الأقسام في رتبة متقدمة على الحكم.

ص: 103


1- . كفاية الأصول؛ ص216.

الثاني: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) بالفرق بين العموم الإستغراقي والعموم البدلي؛ بأنَّه ثابت, مع قطع النظر عن الحكم وتعلّقه وخارج عن أداة العموم. ولكنه راجع إلى كيفية ملاحظة مدخول الأداة, فإذا كان المدخول هو الجنس دلَّت أداة العموم على الإستغراق، بخلاف ما إذا كان مدخول الأداة هو النكرة فلا يكون العموم إلا بدلياً لأنَّ التنكير قد أخذ فيه الوحدة وهو ناشئٌ عنها، فلو كان العموم إستغراقياً كان خلف أخذ الوحدة.

وعليه؛ تكون الإستغراقية والبدلية خارجتين عن العموم بما هو عموم وراجعتين إلى شؤون مدخول العام.

نعم؛ المجموعية من شؤون كيفية تعلق الحكم عنده كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره .وفيه: إنَّه بعد فرض أنَّ العموم حقيقته الشمول والسريان والإستيعاب فلا فرق في مدخوله بين أنْ يكون نكرة أو يكون قد أخذ فيه قيد الوحدة؛ فإنَّه لا ينافي إستيعاب الأداة ليشمل جميع الأفراد وعلى سبيل البدل، وأمّا ما ذكره في العموم المجموعي فهو مردود أيضاً بما عرفت في ردّ المحقق الخراساني قدس سره ؛ فإنَّ اللحاظ المحقق لكلِّ واحد من هذه الأقسام في رتبة متقدمة على الحكم.

الثالث: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2) من أنَّ في العموم جهتين؛ جهة وحدة وجهة كثرة، فالعموم مفهوم واحد ولكنه متكثّر ذاتاً نظير الدار فإنَّه مفهوم واحد ولكنه متكثر ذاتاً لاشتمال الدار على أجزاء عديدة. وهاتان الجهتان متحققتان في العام. والمولى في مقام الحكم على العام تارةً يلحظ جهة الوحدة من دون ملاحظة جهة الكثرة فيكون الموضوع هو المجموعي، وأخرى يلحظ جهة الكثرة فيكون الموضوع هو الإستغراقي.

ص: 104


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص146.
2- . نهاية الدراية؛ ج1 ص631-632.

وفيه: ما عرفت من أنَّ الشمولية والإستغراق هو حقيقة العموم في جميع الأقسام وهوأمر وجداني؛ والأمرُ سهلٌ.

تنبيهان

إنَّه بعد كلِّ ما عرفته من أقسام العام والضابطة فيه لا بُدَّ من التنبيه على أمرين:

أحدهما: إنَّ المحقق النائيني قدس سره (1) أنكر العموم البدلي وألحقه بالمطلق لكونه غالباً يستفاد من إطلاق المتعلق.

وقد عرفت مِمّا تقدم فساده مع أنَّ في بعض الكلام مِمّا يدلُّ عليه اللفظ كما في دلالة كلمة (أي)، وهو كافٍ في ثبوته ولا يمكن إنكاره.

والآخر: قد عرفت تحقق الأقسام الثلاثة المتقدمة ثبوتاً، وأمّا إثباتاً؛ فإنْ كانت هناك قرينة معتبرة لفظية أو حالية تدل على كلِّ واحد منها فالمدار على تلك القرينة التي تعدّ دليلاً لا محالة، وأمّا إذا فُقد الدليل ودار الأمر بين كون العموم إستغراقياً أو مجموعياً فالإطلاق يقتضي الإستغراق لاحتياج العموم المجموعي إلى مؤونة زائدة؛ إذ الشمول والسريان إلى جميع وجودات العام هو المعنى المشترك بينهما, والمجموعي يختَّص بعناية زائدة وهي لحاظ جميع تلك الوجودات مجتمعة موضوعاً للحكم الشرعي, والإطلاق ينفي هذه العناية ويكون مقتضاه العموم الإستغراقي.

وأما إذا شُكّ في العموم من كونه بدلياً أو عموماً إستغراقياً فالظاهر أنَّه لا يمكن تعيين أحدهما بالإطلاق؛ لأنَّ كلَّ واحد منهما يحتاج إلى عناية زائدة، فإنَّ البدلية تحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم من كونه صرف الوجود من الطبيعة، أو كون المدخول لأداة

ص: 105


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص443.

العموم نكرة. والعموم الإستغراقي يحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم للطبيعة السارية، وهما لحاظان مختلفان خلاف مقتضى الإطلاق فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأصول العملية.

ولكن يمكن المناقشة فيه بما يلي:

1- إنَّ كلاً من المجموعية والإستغراقية تحتاج إلى مؤونة, فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

2- إنَّ المناط هو ظهور الكلام وليس المدار هو احتياج أحد القسمين إلى مؤونة زائدة أو عدم إحتياجه, فاللفظ إنْ كان ظاهراً في أحدهما كان على طبق ما ظهر، وإلا كان الكلام مجملاً يُرجع فيه إلى الأصل العملي.

فالحقَُ أنَّ ما يدلّ على العموم إمّا الأدوات أو مدخولها في بعض الموارد؛ كما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره .

3- قد يُتوهم بأنَّ أسماء الأعداد -كعشرة- من حيث إستيعابها لما تحتها من الوحدات تكون أدواتاً للعموم.

وقد حاول بعض المحققين رفع هذا التوهم بالقول بأنَّ العموم هو إستيعاب الأفراد لا الأجزاء، والوحداتُ من أسماء العدد هي أجزاءٌ وليست أفراد، فليس شمول لفظ العشرة لآحادها المندرجة تحتها من باب العموم ولا يصلح للإنطباق على كلِّ واحد مِمّا يعمّه.

ويرد عليه بأنَّ العموم هو الإستيعاب كما عرفت وهو كما يعمّ الأفراد فإنَّه يعمّ الأجزاء كما في قولك (إقرأ كلَّ الكتاب، وتجول في كلِّ البستان).

والحقُّ في الجواب هو: إنَّ أسماء الأعداد ليست من العموم لعدم دلالتها على الإستيعاب، بل تدلُّ على مفهوم مركب هو العدد، نظير سائر المركبات التي لا يتوهم كونها من العموم فيكون شمول كل عدد لما يحتوي عليه من الآحاد والوحدات شمولاً واقعياً في ذلك المفهوم المركب لا على نحو الإستيعاب والإحتواء كما تدلُّ عليه أدوات العموم وألفاظه،

ص: 106

إلا إذا كانت قرينة تدل على كون العدد المعيّن قد استُعمل على نحو العموم والإستيعاب والإحتواء كما لو قيل (أكرم كلَّ عشرة).

والحاصل؛ إنَّ أسماء الأعداد ليست من العموم، ومجرد إستيعابها لما تحتها من الآحاد والوحدات لا يدلُّ على كونها منه فإنَّه يكون من إستيعاب الأجزاء لا الأفراد الذي هو مناط العموم. ولكن ربما تدلُّ قرينةٌ على كون المراد منها استيعاب وحدات متعددة كأن يقال (رأيت العشرات من الأشخاص).

الأمر الثالث: ألفاظ العموم

اشارة

لا إشكال في أنَّ لكلٍّ من العموم والخصوص ألفاظاً معينة يختص به، وقد شاع في كلِّ لغة ألفاظ تدلُّ على العموم وألفاظ أخرى تدلُّ على الخصوص وألفاظمشتركة؛ تستعمل تارةً في العموم, وأخرى في الخصوص لقرائن خارجية أو داخلية. ولا وجه لما يقال من عدم وجود لفظ أو صيغة تشخص العموم، ولم يترتب على هذا النزاع أثر عملي حتى نورد أدلة الطرفين، فلا وجه للإطالة في الكلام.

وإنَّما الذي يستَّحق البحث هو ما ذكروه من ألفاظ العموم وصيغة إحتياج ثبوت العموم بالوضع أو بجريان مقدمات الحكمة في مدخولها, والمعروف منها خمسة:

الأولى: لفظ (كلّ) وأمثاله من ألفاظ العموم؛ وهي من الأسماء كلفظة الجميع ونحوها، ولا إشكال في دلالته على العموم ولكنه قد يدل على إستيعاب الأجزاء تارةً، وعلى إستيعاب الأفراد أخرى. ولكنه في كِلا الحالتين يدلُّ على الشمول والإستيعاب.

والكلام في أنَّ دلالتها على الإستيعاب والشمول هل يكون من مدلول مدخولها أو أنَّه يدلُّ على سعة مدخوله أو استيعابه.

وبعبارة أخرى: إنَّ دلالةَ لفظ (كلّ) عليه إطلاقيةٌ تستفاد من إطلاق المدخول أو وضعية باعتبار دلالة (كلّ) على سعة مدخوله؟.

ص: 107

وقد ذهب جمعٌ من المحققين إلى الأول لأنَّ لفظ (كلّ) لا يدلُّ على عموم المدخول, بل على عموم ما يراد من المدخول, فلا بُدَّ من تعيين المراد حينئذٍ من دليل يدلُّ على عمومه؛ هو الإطلاق ومقدمات الحكمة.

ولا إشكال في أنَّ هذا النزاع إنَّما يظهر أثره في ما لو تعارض العام والمطلق في مقام الإستنباط, فإنَّه لو كانت دلالة العام تابعة لعموم مدخوله وكان المراد منه مستفاد من مقدمات الحكمة لم يتقدم العام على المطلق لصلاحية كلٍّ منهما لأنْ يكون بياناً للآخر؛ بخلاف ما لو كان لفظ (كلّ) دالاً بنفسه على عموم المدخول، فإنَّ العام يتقدم على المطلق لصلاحيته لأنْ يكون بياناً على المطلق كما عرفت من المطلق إنَّما يثبت بعد فقد البيان، والعامُّ بيانٌ فيكون متقدماً على المطلق دون العكس فإنْ تمّ ذلك فالأثر المترتب عليه واضح، وإلا فلا وجه له وسيأتي الكلام فيه مفصّلاً في بحث التعارض إنْ شاء الله تعالى.

وقد أُورد عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ ذلك يستلزم لغوية لفظ (كلّ)؛ لأنَّه إذا أُحرز عموم مدخوله بمقدمات الحكمة فلا فائدة تترتب على لفظ (كلّ) حتى التأكيد؛ لأنَّه يكون في دالّين عرضيين لا طوليين(1).

ويمكن الجواب عنه بأنَّ جريان مقدمات الحكمة في المدخول لا يلزم لغوية (كلّ) لأنّ الإطلاق ومقدمات الحكمة لا تقتضي أكثر من إثبات أنَّ ما أخذ موضوعاً إنَّما هو ذات

ص: 108


1- . ذهب المحقق النائيني -وهو ظاهر الكفاية- إلى أنّ لفظ (كلّ) لا يدلُّ على عموم المدخول، بل على عموم ما يراد من المدخول، فلا بُدَّ في تعيين المراد من المدخول من دليل، وما يدلُّ على عمومه هو الإطلاق ومقدمات الحكمة. وأورد عليه السيد الخوئي بأنَّ ذلك يستلزم لغوية (كلّ)، لأنَّه إذا أُحرز عموم مدخولها بمقدمات الحكمة فلا يبقى للفظ (كلّ) أي أثر. [أجود التقريرات؛ ج 1ص440؛ هامش رقم 1].

الطبيعة فقط، وأمّا الشمولية والإستغراقية أو البدلية فتستفاد من المدلول اللفظي، لأنَّ في العموم مرحلتين:

مرحلة لحاظ الطبيعة منطبقةً على جميع أفرادها على نحو الشمول والسريان.

ومرحلة لحاظ تعلّق الحكم بجميع الأفراد بنحو الإستغراق أو المجموعية في مقابل البدلية.

ومقدماتُ الحكمة تعيّن الأولى، ولفظ (كلّ) يعيّن الثانية.

وقد ذكر بعض المحققين قدس سره (1) وجوهاً أخرى في الجواب عن هذا الإشكال ولكنها لا تخلو من نقاش، وذكرها ومناقشتها تطويل بلا طائل تحته.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2) من إستلزامه دخول الإستيعاب على المستوعب وهو مستحيل، لأنَّه من قبول المماثل لمماثله، وهو غير مقبول لأنَّه من اجتماع المثلين.

وفيه: ما عرفت آنفاً من أنَّ المستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة الشمول بمعنى ذات الطبيعة، بخلاف الإستيعاب المستفاد من الأداة, فيكون الإستيعاب الأول مركزه المدخول، والإستيعاب الثاني مركزه نفس أداة العموم الإسمي. فيكون الإستيعاب مدلولاً لدالين؛ أحدهما الأداة، والآخر الإطلاق ولا مانع منه حينئذٍ. بل حتى مع فرض الطولية؛ إذ الطولية هنا بين الدالّين لا المدلولين فلا يلزم دخول الإستيعاب حتى يكون من اجتماع المثلين.

ص: 109


1- . وهذا المحقق قدس سره جعل المراحل ثلاث, وهي: الأولى: الطبيعة الصالحة للإنطباق على جميع أفرادها. الثانية: الطبيعة المنطبقة فعلاً على جميع الأفراد. الثالثة: أخذ جميع الأفراد في موضوع الحكم في قبال الفرد على سبيل البدل. والظاهر أنَّ الوجوه التي ذكرها مترتبة على ذلك. [منتقى الأصول؛ ج 3 ص303 وما بعدها].
2- . نهاية الدراية؛ ج1 ص335.

الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأعلام(1) من ترتّب اللازم الباطل على هذا القول، وهو عدم إمكان التصريح بالعموم أصلاً لكونه دائماً في طول الإطلاق ومقدمات الحكمة، وهو خلاف الوجدان العرفي.

وفيه: إنَّه مع كونه تقريراً للدليل بوجهٍ آخر؛ فإنْ أراد عدم إمكان التصريح بالإستيعاب والشمول أبداً وبأيّ وجهٍ؛ فهو باطل لإمكان التصريح عن طريقموضوع الحكم فيقال مثلاً: إنَّ موضوع حكمي هو العالم على الإطلاق وبلا قيد، فتكون الدلالة لفظية.

الوجه الرابع: ما ذكره السيد الصدر قدس سره وجعله الإعتراض الصحيح، وقد أطال الكلام فيه بذكر الإحتمالات؛ أصلاً وردّاً، وافترض فروضاً عقلية بعيدة عن موضوع البحث لغوياً، ونحن نذكر كلامه على سبيل الإيجاز، ومن شاء التفصيل يرجع إلى تقرير بحثه(2) فقد ذكر قدس سره فيه أحتمالات أربعة, وهي:

1- إنَّ العموم في طول الإطلاق لأنَّ الإستيعاب هو تمام المراد الجدي من مدخول الأداة, وهو لا يتحدد بالإطلاق ومقدمات الحكمة فيكون العموم في طوله.

وأورد عليه بجملة من التوالي الفاسدة.

2- أنْ يكون المراد هو دلالة الأداة على استيعاب تمام أفراد المراد الإستعمالي للمدخول.

وأورد عليه بأنَّ المراد الإستعمالي يتحدد بأصالة الحقيقة؛ ومقتضاها عدم استعمال اللفظ في المقيد وإلا كان مجازاً، وهو منتفٍ فيتعين أنْ يكون قد استعمله في ذات الطبيعة التي هي المدلول الوضعي لإسم الجنس، وتكون مطلقة بالحمل الشايع فتكون الأداة دالة على استيعاب تمام الأفراد بلا حاجة إلى الإطلاق ومقدمات الحكمة.

ص: 110


1- . السيد الخوئي في هامش أجود التقريرات؛ ج1ص441.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص230 وما بعدها.

3- إنَّ إيرادَ دلالة الأداة على إستيعاب ما يتصوره المتكلم من المدخول في مقام الإستعمال وإسم الجنس موضوعٌ للطبيعة المهملة، والمتكلم لا يمكن له أنْ يتصورها إلا مطلقاً أو مقيداً فيحتاج إلى مقدمات الحكمة لإحراز أنه تصور القيد مع الطبيعة أم لا.

وأورد عليه بأنَّه لا يوجد أصل عقلائي يقضي بتحديد المتكلم في اللفظ في مقام الإستعمال، والموجود هو أصالة الحقيقة التي يُحدد على ضوئها أنَّ المتكلم يقصد المعنى الموضوع له اللفظ، وأصالة الإطلاق هي التي يُحدد على ضوئها المدلول التصديقي.

4- إنَّ الأداة موضوعة بإزاء الإستيعاب المضاف إلى مدلول مدخوله فيكون المعنى محدداً ومتعيناً بحسب لحاظ المدلول الإستعمالي, فلا حاجة إلى مقدمات الحكمة إلا في تحديد المدلول التصديقي.

وأورد عليه أيضاً بما ذكره قدس سره . وجميع ذلك تطويل بلا طائل تحته؛ لأنَّ هذا البحث لُغوي وقد عرفت أنَّ المناط هو ظهور اللفظ في العموم والإستيعاب، والظهور حجة معتبرة عند العقلاء وضعياً كان أم إطلاقياً؛ إلا أنْ يقال بأنَّالظهور الوضعي أقوى من الظهور الإطلاقي فيقدَّم عليه في حال وجود تعارض، ولكن ذلك دعوى بلا شاهد؛ اللهم إلا أنْ يصير ذلك موجباً لأظهرية ما يستند إلى الوضع دون غيره، ولا ريب في تقديمه عليه حينئذٍ لأنَّ تقديم الأظهر على الظاهر كتقديم النص عليهما في المحاورات من المسلّمات عند العقلاء مع إنَّنا ذكرنا أنَّ الثمرة المترتبة على هذا البحث هو تقديم العموم عند التعارض بينه وبين الإطلاق وقد عرفت عدم تماميته وأنَّ المناط في المحاورات هو ظهور الكلام في العموم والإستيعاب؛ سواء كان وضعياً أم إطلاقياً.

والحقُّ أنَّه لا حاجة إلى إجراء الإطلاق ومقدمات الحكمة في مدخول الأداة، وإنَّ الظاهر هو دلالة لفظ (كلّ) على عموم مدخوله وكونه الطبيعة المنطبقة على جميع الأفراد من دون

ص: 111

حاجة إلى مقدمات الحكمة. وتوضيح ذلك يقتضي بيان المقصود من الطبيعة التي تلحظ من مدخول أداة العموم وإنْ كنا قد ذكرنا في إبتداء بحث المفاهيم بعضَ ما يتعلق بذلك.

وهنا نقول: إنَّ الطبيعة تارةً تلحظ مطلقةً، وأخرى مقيدة، وثالثةً مهملة بالنسبة إليهما.

أمّا الطبيعة المطلقة؛ فهي عبارة عن لحاظ ذات الطبيعة مع قطع النظر عن لحاظ القيد والخصوصية معها. وغير خفي أنّ خصوصية عدم لحاظ الخصوصية لم تكن قيداً, بل هي صفة اللحاظ والرؤية لا الملحوظ والمرئي، فإنَّ المقصود هو عدم اللحاظ لا تصور عدم اللحاظ. وعليه؛ يكون معنى الإطلاق هو وجود خصوصية في اللحاظ والرؤية الذهنية تؤدي إلى أنْ يكون الملحوظ بذلك اللحاظ منطبقاً على الأفراد.

وأمّا الطبيعة المقيدة؛ فهي عبارة عن لحاظ الطبيعة المقيدة، أي: مع لحاظ القيد. وعليه؛ ينطبق الملحوظ بهذا اللحاظ بمورد وجود القيد والطبيعة المقيدة وإنْ كان واقعها رؤيةً ذهنية متباينة مع الرؤية الإطلاقية ولكن بلحاظ مرئيها تكون نسبته هي الأقل والأكثر.

وأمّا الطبيعة المهملة؛ فهي عبارة عن ذات الطبيعة معرّاة عن خصوصية الإطلاق فضلاً عن القيود، وهذه الطبيعة مهملة لم تخالف الطبيعة المطلقة والمقيدة لا أنْ تكون جامعة بينهما نظير جامعية الحيوان للإنسان والفرس، وإنَّما لا تنطبق على الأفراد، مع إنَّها عين المطلقة المنطبقة عليها من أجل فقدانها لخصوصية النظرة الإطلاقية, فإنَّها حيثية تعليلية توجب سعة الطبيعة وانطباقها على كلِّ الأفراد.

ومن هنا لم تكن جامعية الطبيعة المهملة بمعنى الكلي والفرد.

وهذه المعاني وإنْ كانت عقلية, ولكن في النظر العرفي المسامحي يكون مدلول أداة العموم هو توحيد المتكثرات في معنى وجداني؛ يكون موضوع النسبة أوالحكم في الكلام ويدل عليه الأداة والإستعمال؛ يكون قد نشأ من وضعها لهذا المعنى. وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 112

الثانية(1): الجمع المحلّى باللام

ولا إشكال في دلالته على العموم؛ إذ لم يستشكل على العموم فيه أحد من العلماء وإنْ كان هناك خلاف في كيفية الدلالة وبعض خصوصياته والتبادر وصحة الإستثناء مِمّا يدلُّ على ذلك. وإنَّما الكلام في هل أنَّه بالوضع فيدلُّ على عموم مدخوله، أو على عموم ما يراد من المدخول بأنْ يكون اللام معرفاً إلى أقصى المراتب؛ إذ المرتبة الدنيا منها مستفادة من نفس الجمع والمراتب الأخرى غيرها لا تعيّن لها. والكلام في ذلك سيأتي في بحث المطلق والمقيد إنْ شاء الله تعالى. وقد أطالوا الكلام في ذلك أيضاً، وهو لا يستحق الإطالة كما عرفت آنفاً من أنَّ البحث لُغوي لا يتحمل الإحتمالات العقلية كما ذكرها السيد الصدر قدس سره (2).

وكيف كان؛ فقد وقع البحث في أنَّ المقيِّد للعموم أي من الدوال الثلاثة التي يشملها الجمع المحلّى باللام؛ وهي: مادة الجمع، وهيئته، واللام.

أمّا المادة؛ فلا كلام في مدلولها, وإنَّما البحث في مدلول الدالَّين الآخرين، والظاهر أنَّه في مرحلة الثبوت يحتمل دلالة الجمع المحلّى باللام على إستيعاب الجمع لأفراد نفسه لعدة وجوه سواء قلنا أنَّ مدلول هيئة الجمع معنى إسمي؛ أي المتعدد من الأفراد أم قلنا بأنَّ مدلولها معنى حرفي كما هو شأن جميع الهيئات.

وجميع تلك الوجوه قابلة للنقاش سوى ما ذكرناه من كون العموم هو إستيعاب جميع ما يمكن أنْ تنطبق عليه المادة من الأفراد ضمن المراتب المتعددة، ودعوى أنَّ المفهوم الواحد لا يمكنه أنْ يستوعب أفراد نفسه غيرُ تامة فإنَّ التصور سهل المؤونة ولا يستلزم منه ما ذكروه من الإشكالات ولا نحتاج إلى ما ذكره السيد الصدر قدس سره من كون العموم إستيعاب مفهوم لمفهوم آخر.

ص: 113


1- . من ألفاظ العموم.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص238-257.

وقد استدلوا على ثبوت المفهوم في الجمع المحلّى بأمور أهمها؛ ما اعتبره بعضُ الأصوليين(1) مسلكين هما:

الأول: دلالة اللام الداخلة على الجمع على العموم واستيعاب تمام الأفراد.

وأورد عليه بأنَّه يقتضي وجود وضعين للّام؛ حيث يقتضي أنْ تكون اللام الداخلة على الجمع موضوعة للعموم بخلاف الداخلة على المفرد، ولكنه ليس بشيء كما هو واضح.

الثاني: دعوى دلالة اللام في الموردين على معنى واحد وهو التعيين، لكنه في الجمع لا يكون إلا في المرتبة العليا وهي التي تستوعب جميع الأفراد والمراتب إذ أنَّ غير تلك المرتبة تكون مرددة. وهناك فرقان بين المسلكين:1- إنَّه بناءً على الأول؛ يكون إستفادة العموم وضعياً ثابتاً بمقتضى أصالة الحقيقة في استعمال اللام. وأمّا على الثاني؛ فلا تقتضي أصالة الحقيقة إلا كون مدخول اللام متعيناً، وهو أعم من إرادة العموم إذ ربما يكون المعهود جماعة معينة منهم.

وأورد عليه بأنَّ التعيين أيضاً مراد في الوجه الأول ويكون ضمن معاني اللام فيكون مشتركاً لفظياً بين التعيين والعموم, وربما يكون دخولها على الجمع قرينة على التعيين فلا يمكن إثبات العموم بأصالة الحقيقة ليكون المرجع في موارد الإجمال واحتمال التعيين فإنَّ الإستعمال حقيقيٌ على كلِّ حال.

وفيه: إنَّ التعيين أيضاً من أفراد الحقيقة، بل هو من لوازم العموم فيه عرفاً كماثصهو المفروض، كما أنَّه يمكن إثباته بالقرينة وتكون القرينة العامة هي إضافة اللام إلى الجمع.

2- إنَّه على الثاني لا يقتضي تحديد نوعية العموم من حيث كونه إستغرقياً أو مجموعياً؛ لأنَّها لا تدلُّ على العموم وإنَّما تدلُّ على التعيين الملازم للعموم؛ أي أنَّ المراد من الجمع هو المرتبة المتعينة التي تمثلت في الجميع.

ص: 114


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص240 وما بعدها.

وفيه: إنَّه يمكن إستفادته من إضافتها إلى الجمع وإرادة ما هو المتعين من الجمع في الصدق الخارجي وهو جميع الأفراد الخارجية وواقعها، ويستفاد الإستغراقية والمجموعية بلحاظ الصدق الخارجي كما عرفت.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ اللام الداخلة على الجمع موضوع لمطلق التعيين والعموم؛ للتلازم بينهما من دون حاجة إلى القول بالإشتراك.

ونوقش في الوجه الأول؛ بأنَّه يستلزم مجازية إستعمال لام الجماعة في موارد العهد الذكري منه والخارجي.

وفيه: إنَّه منع للملازم, إذ يمكن الإشتراك, مع أنَّه وارد فيما إذا قلنا باختصاص اللام الداخلة على الجمع للعموم بوضع واحد، وأمّا على القول بوضعه للتعيين وللعهد وغيره بوضع آخر فلا يرد عليه الإشكال ولا يلزم المجاز في استعماله في العهد.

كما ناقش المحقق الخراساني قدس سره (1) في صحة المسلك الثاني بأنه كما تكون المرتبة العليا التي تتمثل في جميع الأفراد متعينة كذلك المرتبة الدنيا وهي الثلاثة متعينة فلا وجه لاستفادة العموم بالملازمة من مجرد الدلالة على التعيين.

وردّه المحقق النائيني قدس سره (2) من أنَّ المراد من التعيين هو التعيين في الصدق الخارجي لا التعيين الماهوي, وهو يحدد الثلاثة وإنْ كان متعيناً ماهوياً ولكنه ليسبمتعين بحسب الصدق في الخارج لإمكان إنطباقه على هذه الثلاثة أو تلك وهكذا سائر المراتب.

ص: 115


1- . كفاية الأصول؛ ص217.
2- . الرد في هامش أجود التقريرات؛ ج1 ص445، والظاهر أنَّه لمدرسه الميرزا النائيني؛ إذ لم يذكر قدس سره الرد بنفسه بل تلميذه في الهامش.

هذا وقد قرر السيد الصدر قدس سره (1) دعوى المحقق الخراساني قدس سره بوجه آخر لكي يسلم من إيراد المحقق النائيني قدس سره ، وخلاصة ما ذكره: إنَّ اللام موضوع لجامع التعيين وهو كما قد يكون خارجياً -كما في موارد العهد- كذلك قد يكون ذهنياً، وقد يكون ماهوياً؛ أي تعييناً للجنس والطبيعة في وعائها النفس أمري كما في دخول اللام على الجنس في قولنا (الرجل خير من المرأة)؛ فإنَّه كما يمكن أنْ يكون المراد من لام الجماعة التعيين الخارجي بحسب الصدق الملازم مع إرادة العموم كذلك يمكن أنْ يكون المراد منه التعيين الجنسي فيكون المقصود جنس الجمع والكثرة.

وبذلك يندفع جواب المحقق النائيني قدس سره ، ولكن يرد عليه أنَّه إذا كان هناك قرينة تدلُّ على إرادة التعيين الجنسي كما في قولنا (العلماء خير من عالم واحد)؛ حيث يقصد بذلك الجنس ولكن مع فقد القرينة فإنَّ المراد من التعيين هو التعيين الخارجي دون التعيين الماهوي.

هذا؛ وقد نوقش في أصل دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم على كلِّ واحد من المسلكين بأنَّه لا إشكال في دخول أدوات العموم الإسمية على الجمع المحلّى باللام كما في قولنا (كل العلماء وجميعهم) فلو كان الجمع دالاً على العموم بنفسه لزم منه إمّا إستفادة العموم بنحو التأكيد أوالتكرار؛ وهو محذور إثباتي، أو قبول المماثل للماثل؛ أي إجتماع المثلين؛ وهو محذور ثبوتي؛ وكلاهما فاسدان. ولكن عرفت الجواب عن ذلك فيما سبق من تعدد الوجه والإعتبار؛ فإنَّ الجمع يدلُّ على أصل الإستيعاب والعموم، والأداةَ تدلُّ على العموم الإستغراقي أو المجموعي.

وهذا الذي ذكرناه أولى مِمّا ذكره السيد الصدر قدس سره من أنَّ الأداة تدلُّ على الإستيعاب الأجزائي، والجمع يدلُّ على الإستيعاب الأفرادي.

ص: 116


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص245.

وهناك أمور أخرى تتعلق بدلالة الجمع المحلّى باللام على العموم سيأتي الكلام عنها في بحث المطلق والمقيد.

والحاصل؛ إنَّه لا إشكال في دلالة الجمع باللام على العموم وضعاً، ولكن لا بُدَّ من ملاحظة المدخول وخصوصياته لمعرفة ما هو المتعين من أنواع الجمع فلا تغفل.

الثالثة(1): المفرد المحلّى باللاموالكلام فيه ما ذكرناه في الجمع المحلّى, إلا أنَّ المفرد قد جُعل مرآة للطبيعة، وهذا يكفي في الدلالة على العموم لأنَّ الطبيعةَ ساريةٌ، واللامُ إشارة إليها فتدلُّ على العموم. ولعله لأجل ذلك لا نحتاج إلى مقدمات الحكمة كما ذكرنا في لفظ (كلّ) والجمع المحلّى. هذا هو الظاهر فيه، والظهور حجة.

فما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2) من القول بعدم دلالة اللام على الإستغراق فلا دلالة على العموم إلا بمقدمات الحكمة؛ فإنَّ فيه ما عرفت من وجود الدلالة. وسيأتي الكلام في ذلك في بحث المطلق والمقيد إنْ شاء الله تعالى.

الرابعة والخامسة: النكرة في سياق النفي والنهي

إدّعى جمع من الأصوليين دلالتها على العموم، بل قال بعضهم بأنَّه ظاهر فيه، ويكفي ظهورها في ذلك ولا نحتاج إلى الوجه العقلي وهو: إنَّ انتفاء الطبيعة لا يكون إلا بانتفاء جميع أفرادها بخلاف إيجادها في مورد الإثبات؛ فإنَّ ذلك قرينة عقلية يستفاد منها العموم لوقوع النكرة في سياق النفي والنهي، ولكن ذهب جمع آخرين إلى إنكار دلالتها على العموم، وفصّل ثالث بين النهي فيدلُّ على العموم والنفي فلا.

ص: 117


1- . من ألفاظ العموم.
2- . نهاية الدراية؛ ج2 ص448.

وتفصيل الكلام يقع في ضمن أمور:

الأول: ذكرنا في بحث النواهي أنَّ النهي إذا تعلق بصرف الوجود فإنَّه يستدعي عدم الإتيان بأيِّ فرد من أفراد الطبيعة, بخلاف الأمر إذا تعلق بصرف الوجود المنطبق على أول وجود, وهو يقتضي امتثاله بإتيان فرد واحد من الطبيعة؛ إذ بها يتحقق صرف الوجود. ومن هنا اختلف الأمر والنهي إذا تعلقا بصرف الوجود، هذا إذا قلنا بأنَّ متعلق الأمر والنهي صرف الوجود, وأمّا إذا قلنا بأنَّ متعلقهما هو الطبيعة كما عليه المشهور فالأمر أوضح؛ فإنَّ انتفاء الطبيعة لا يكون إلا بانتفاء جميع أفرادها بخلاف إيجادها في مورد الأمر والإثبات فإنَّه يتحقق بإيجاد فرد، وعليه؛ تكون النكرة الواقعة في سياق النهي تفيد العموم وكذلك النفي.

وقد ناقش المحقق الإصفهاني وتبعه السيد الخوئي (قدس سرّاهما)(1) في صحَّة ما نسب إلى المشهور من أنَّ وقوع الطبيعة في سياق النفي أو النهي يختلف عقلاً في سياق الأمر والإيجاد؛ بدعوى أنَّ الطبيعة نسبتها إلى الوجود والعدم على حدٍّ سواء, فإنَّ الطبيعي نسبته إلى الأفراد الخارجية نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة الأب الواحد إلى أبنائه.

وعليه؛ يكون الأمر الواحد يتعلق بوجود واحد، وكذلك النهي الواحد لا يتعلق إلا بعدم واحد من تلك الأعدام.وقد عرفت أنَّ هذا النزاع مختصّ بعلم الفلسفة ولا يجري في المسائل الأصولية التي يلحظ متعلق الأمر والنهي بحسب عالم الذهن والتصور؛ فراجع.

فلا إشكال في ثبوت العموم للنكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي ويكفينا ظهور اللفظ في ذلك مضافاً إلى القرينة العقلية كما عرفت.

ص: 118


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص336.

الثاني: إنَّ العموم يثبت النكرة في كل من النهي أو النفي على حدٍّ سواء بمقتضى الظهور والقرينة العقلية المزبورة وعليه المحقق الخراساني قدس سره (1) وبعض تلامذته، وخالف بعض الأصوليين(2) في ذلك فلم يثبت العموم في النكرة الواقعة في سياق النفي مدَّعياً بإنه لا وجه للقول بتعلق النفي بصرف الوجود في مثل قوله (لا رجل في الدار)، وقال: إنَّه إذا قلنا بدلالة مثل (لا رجل في الدار) على العموم فما هو الفرق بينه وبين (في الدار رجل)؟.

والصحيح: إنَّ دلالة النكرة في سياق النفي له من الظهور في العموم من دون حاجة إلى القرينة العقلية المزبورة, مع أنَّ الإشكال يجري على مبناه من كون متعلق الأمر والنهي صرف الوجود، وأمّا إذا قلنا بأنَّه الطبيعة فلا إشكال.

الثالث: إنَّ الإستغراق المستفاد من النكرة في سياق النفي أو النهي لا يختلف عن سائر موارد إستفادة العموم من أدواته, ولكن إذا استفدنا الإستغراقية من القرينة العقلية فلا بُدَّ أنْ نقول بأنَّها في مرحلة الإمتثال لا أنْ يكون الإستغراق في مرحلة الحكم, فإنَّ القرينة المزبورة لا تقتضي تعدد الحكم وانحلاله إلى أحكام عديدة بعدد الأفراد, فلا بُدَّ من إثبات الإستغراق في الحكم بدالٍّ آخر من قرينة ونحوها.

ولكن بناءً على ظهور الكلام في العموم فالإستغراق يكون في الحكم والإمتثال كليهما.

الرابع: إنَّ العموم المزبور إذا ثبت بالظهور فلا فرق بينه وبين موارد ثبوت العموم، ولكن إذا قلنا بأنَّه يثبت بالقرينة العقلية فقد ذكر بعضهم بأنَّ الإستغراقية ليست عموماً وإنَّما هي عبارة عن الشمولية المقابلة للبدلية؛ فإنَّ الطبيعة في متعلق النهي أو الأمر قد تكون شمولية وقد تكون بدلية، وهذا ليس عموماً لأنَّه عبارة عن السعة واستيعاب أفراد الطبيعة

ص: 119


1- . كفاية الأصول؛ ص217.
2- . منتقى الأصول؛ ج3 ص301.

وضعاً لا مجرد كون الطبيعة ملحوظة بنحو الشمولية كما هو الحال في موارد وقوع الطبيعة موضوعاً مثل قولنا (أكرم العالم)، فيمكن لنا القول بأنَّ العموم الثابت في هذين الموردين يختلف عن سائر موارد العموم فلا تترتب عليه آثاره؛ ومن جملتها التخصيص، فإنَّ ما يدلُّ على وجود زيد في الدار أو وجود العالم فيها يعارض قوله (لا رجل في الدار), بخلاف (لا تكرم الفسّاق) فإنَّه مخصص لدليل (أكرم العلماء) ولا يعارضه، بل يُقدَّم عليه بلا كلام.الخامس: ذكر المحقق الخراساني قدس سره (1) وتبعه غيره أنَّ إفادة النكرة في سياق النهي أو النفي الشمولية والإستغراقية موقوفة على تمامية الإطلاق ومقدمات الحكمة، فيتبع في السعة والضيق سعة المدخول وضيقه وإحرازها إنَّما يكون بمقدمات الحكمة؛ لأنَّ القرينة العقلية المذكورة غاية ما تقتضيه كون متعلق النهي أو النفي هو الطبيعة، وأمّا كون هذه الطبيعة هي مطلقة أو مقيدة فهذا خارج عن عهدتها وإنَّما تتكفلها مقدمات الحكمة والإطلاق. وهذا لابأس به لو لم نقل بأنَّ العموم والإرسال المستفاد من النكرة في سياقهما ثابت بالظهور, فلا حاجة إلى مقدمات الحكمة.

نعم؛ كون الطبيعة المنفية مطلقة أو لا يكون من شأن مقدمات الحكمة.

هذا تفصيل ما ذكره السيد الوالد قدس سره في أدوات العموم وموجز ما ذكره الأعلام من التفصيل.

ص: 120


1- . كفاية الأصول؛ ص217.

التخصيص

والكلام فيه يقع في جهات:

الجهة الأولى: إستعمال العام في المخصص

اشارة

إذا خُصِّصَ العام وأردنا استعماله في غير مورد التخصيص فقد وقع الخلاف بين الأعلام فيه، وقبل الدخول في ذلك لا بُدَّ من بيان ما اتَّفقوا عليه ولم يشكل فيه أحد:

1- لا ريب في ظهور العام في عمومه, وإنَّ الظاهر حجة ما لم توجد قرينة على الخلاف.

وقد عرفت سابقاً أنَّ متعلق العموم هوالشمول والإستيعاب والسريان, وهذا هو المعنى الموضوع له.

2- لا ريب في ظهور الخاص في مصداقه الخاص ويكون قرينةً على الخلاف.

3- لا إشكال في عدم حجية العام في مصداق الخاص المعلوم.

وإنَّما الكلام في أنَّ العام بعد التخصيص حجةٌ في تمام الباقي؛ فقد ذهب مشهور الأعلام أنَّه ظاهر في العموم أو الحجة في غير مورد التخصيص بلا فرق بين المخصص المتَّصل والمنفصل، فإذا قال المولى (أكرم العلماء)، ثم قال( لا تكرمالنحويين), فإنَّه حجة في العالم غير النحوي وهو الباقي فيجب الإكرام. وذهب آخرون إلى عدم الحجية فيه فلا يجب إكرامه في المثال المذكور. وقد فصل الأصوليون البحث في المقام وأطالوا الكلام، وهو لا يستحق ذلك كما ستعرف.

وتحقيق الكلام يقتضي البحث عن أمرين:

الأمر الأول: في وجه تقديم الخاص على العام مع أنَّ لكلِّ واحدٍ ظهورين مشمولين لدليل حجية الظهور، فإنَّه كما يمكن التصرف في العام بإرادة الخصوص منه, كذلك يمكن العكس والتصرف في ظهور الخاص بحيث يحمل الأمر فيه على الإستحباب كما إذا قال

ص: 121

المولى (لا يجب إكرام أي عالم وأكرم الفقيه), مع إنه لا إشكال في التخصيص وتقديم ظهور الخاص على العموم. وسيأتي الكلام عنه في بحث التعارض, فإنَّ العلماء يلتمسون النكتة في وجه تقديم الخاص على العام؛ إمّا بالورود أو بالحكومة أو القرينية أو نحو ذلك.

الأمر الثاني: في البحث عن وجه حجية العام في تمام الباقي؛ لأنَّه بعد تخصيص العام لم يبقَ العموم على المعنى الموضوع له في العام فيكون مجازاً، لأنَّ مراتب المجاز متعددة ولم يكن في البين ما يعيّن أحدها لأنَّ نسبة تمام الباقي إلى المعنى الحقيقي له كنسبة أي مرتبة أخرى من مراتب الباقي, فلا وجه للإلتزام بحجية العام بعد التخصيص في تمام الباقي بعد فقد المرجّح.

ولا بُدَّ من القول بأنَّ الأمرين إنَّما يتَّجه البحث فيهما فيما إذا كان المخصص منفصلاً, وأمّا إذا كان متَّصلاً فلا إشكال في أنَّ العام قد إنعقد ظهوره في الخاص بحيث انصبَّ فيه العموم والإستيعاب على الخاص؛ فقد وُجد العموم مخصصاً نظير ما إذا أورد التخصيص تقييداً لمدخول الأداة (مثل أكرم من العلماء العدول، أو أكرم كلَّ عالم عادل)، ففي الواقع إنَّه لا تخصيص؛ لأنَّ تضييق المدخول لا ينافي استعمال أداة العموم في العموم, فلا فرق بين قولنا (كلُّ رجل) و(كلُّ رجل عالم) في كون لفظ (كلّ) قد إستعمل في العموم, وإنَّما الإختلاف في المدخول.

وعلى هذا فليس في البين ظهوران حتى يقع التعارض بينهما ليلتمس وجهاً لتقديم أحدهما على الآخر، كما إنَّه لا عموم بعد التخصيص, بل إنَّ الخاص هو تمام العام المستوعب بأداة العموم, لأنَّها موضوعة لاستيعاب تمام ما ينطبق عليه مدخولها. فلا إشكال في الأمرين في المخصص المتَّصل، وإنَّما الإشكال في ما إذا كان المخصص منفصلاً, فإنَّ التخصيص لا ينافي ظهور العام في العموم.

ص: 122

والبحث تارةً يقع في وجه حجية العام في الباقي والدليل عليها من سيرة عقلائية والبناء العملي للعقلاء في التقديم، وأخرى في بيان وجه هذه السيرة العقلائية باعتبار أنَّ العقلاء لم يكن لهم وجه تعبديّ في البين وإنَّما لأجل الكاشفية والطريقية عن الدلالة والظهور، ويحتاج إلى إلتماس وجه فني عن تخريج هذه الحجية.البحث الأول (حجية العام في الباقي):

وقد ذكروا لذلك وجوهاً متعددة:

الوجه الأول: إنَّ وضع أدوات العموم لاستيعاب المراد الجدي من المدخول واقعاً, فتكون مقدمات الحكمة كاشفة ومحدده للمراد الجدي الواقعي لا أنْ تكون قيداً في مدلول الأداة, فلا تحتاج إلى القول بأنَّ من مقدمات الحكمة عدم البيان المنفصل, كما سيأتي في الوجه اللاحق, فإنَّه لا إشكال في أنَّ المخصص أو المقيد ولو كان منفصلاً فإنَّه يكشف عن أنَّ المراد الجدي مقيد وليس بمطلق, وأمّا الأداة فهي موضوعة لاستيعاب ما هو المراد الجدي واقعاً فيكون كلّ ما يحدد المراد الجدي يكون تحديداً وتضييقاً في مرحلة مدخول العام لا نفس العام.

الوجه الثاني: إنَّ أدوات العموم موضوعة للدلالة على إستيعاب المدخول، وهذا الظهور إنَّما يتحصل من إجراء مقدمات الحكمة في المدخول لا كلُّ ما ينطبق عليه المدخول وضعاً، وعند انضمام ذلك مع القول بأنَّ من جملة مقدمات الحكمة هو عدم بيان القيد؛ متَّصلاً كان أم منفصلاً -كما عليه المحقق النائيني قدس سره (1) في باب الإطلاق- فالناتج من ذلك يكون هو أنَّ أدوات العموم في موارد التخصيص تدلُ إبتداءً على إستيعاب تمام الباقي, فيكون على حدِّ المدخول بالمتصل.

ص: 123


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص319 وما بعدها.

ولا إشكال في ورود العموم فيها على المقيد, كما عرفت سابقاً.

الوجه الثالث: كون الأداة موضوعة لاستيعاب ما ينطبق عليه المدخول عدا ما یستثنیه المتكلم -ولو كان بدليل منفصل- فيكون هذا قيداً ثابتاً في مقام الوضع بحيث يكون الواضع قد إستثنى عن دلالة أداة العموم على الإستيعاب ما يخرج بالمخصص.

وهذه الوجوه الثلاثة تشترك في البطلان, لا سيما الأخير منها؛ فإنَّ الوضع لم يكن في أدوات العموم كذلك أصلاً.

وأمّا الوجهان الأوليان فلأنَّهما مبنيان على كون العموم في طول جريان مقدمات الحكمة إلا أنَّه يرجع إلى ما سيأتي ذكره من الفهم العرفي في العام المخصص كما سيأتي.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّ الكلام يحتوي على دلالات ثلاث:الدلالة الأولى: الدلالة التصورية للفظ على المعنى؛ وهي الموجودة حتى في موارد صدور اللفظ من غير شعور وقصد.

ص: 124


1- . عبارة صاحب الكفاية لا توحي بالتقسيم الثلاثي لدلالة ألفاظ المتكلم, فهو قدس سره قال: (أمّا ما حكي عن العلمين؛ الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي من مصيرهما إلى أنَّ الدلالة تتبع الإرادة فليس ناظراً إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة كما توهمه بعض الأفاضل (وهو صاحب الفصول), بل ناظر إلى أنَّ دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية, أي: دلالتها على كونها مرادة اللافظ تتبع إرادتها منها ويتفرع عليها تبعية مقام الإثبات للثبوت وتفرع الكشف على الواقع المكشوف, فإنَّه لو لا الثبوت في الواقع لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال. ولذا لا بُدَّ من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة، وإلا لما كانت لكلامه هذه الدلالة وإنْ كانت له الدلالة التصورية, أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له ولو كان من وراء الجدار أو من لافظ بلا شعور ولا إختيار). [كفاية الأصول؛ ص16-17]. والذي جعل الأقسام ثلاثة هو فهم السيد الصدر قدس سره لعبارة الكفاية، ومصدر الكفاية الذي أُشير إليه في حاشية تقريره (بحوث في علم الأصول؛ ج 3 ص265) هو (کفاية الأصول؛ ج 1ص335-336), ولا نعلم أي طبعة اعتمد قدس سره .

الدلالة الثانية: الدلالة التصديقية في مرحلة المراد الإستعمالي؛ وهو الظهور الكاشف عن أنَّ المتكلم يقصد إخطار المعنى وإفهامه للسامع.

وهذه الدلالة تكشف عن ثبوت القصد والإرادة التي هي أمر حقيقي تصديقي وليس تصوراً بحتاً.

الدلالة الثالثة: الدلالة التصديقية في مرحلة المراد الجدي؛ وهو الظهور الكاشف عن أنَّ المتكلم جادّ في كلامه وليس بهازل، بمعنى إنَّ ما قصد إفهامه للمخاطب مراد له حقيقة. ومن أجل ذلك ربما تنثلم هذه الدلالة مع بقاء الأولى كما في موارد الهزل, إذ يقصد المتكلم فيه إخطار المعنى إلى الذهن حتى مع قصد الهزل ولكن من دون جدّ.

وهذه الدلالات الثلاث تختلف في الملاك؛ ففي الأولى يكون الملاك هو الوضع والعلاقة الحاصلة بين اللفظ ومعناه، وفي الثانية ظهور كاشف عن أنّ المتكلم يقصد باللفظ إخطار المعنى في ذهن المخاطب, وإنَّما تتحدد هذه الدلالة بأصالة الحقيقة التي تدلُّ على أنَّ المتكلم يقصد المعنى الحقيقي من اللفظ، وملاك الدلالة الثالثة هو أصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت بحيث يكون كلُّ ما يذكره المستعمل إثباتاً يكون مراداً ثبوتاً.

وفي مقام التخصيص إنَّما تنثلم الدلالة الثالثة من هذه الدلالات الثلاث؛ ولكنها تنثلم ذاتاً في المخصص المتَّصل، وحجيةً في المخصص المنفصل. وأمّا الدلالة الثانية والدلالة الأولى فلا يصيبهما الوهن كما عرفت من أنَّ المراد الإستعمالي يمكن الإحتفاظ به حتى مع الهزل وعدم الجد, فلا يوجب رفع اليد عن أصالة الحقيقة التي هي ملاك هذه الدلالة. وعلى هذا الوجه يمكن حلّ المشكلة بكلا وجهيها وطرفيها, وبه ينتفي القول بالمجاز في العام المخصص لأصالة الحقيقة. وأمّا المنفي فهو المراد الجدي فقط فلا يبقى الظهور الجدي؛ لأنَّ ملاكه لم يكن أصالة الحقيقة بل الملاك فيه هو أصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات،

ص: 125

ومن الواضح أنَّ ما ذكره إثباتاً متعدد بمقتضى العموم والإستيعاب فينحلّ هذا الظهورموضوعاً إلى الظهور بلحاظ مورد التخصيص والظهور بلحاظ غير مورد التخصيص, والساقط من هذين الظهورين ذاتاً أو حجية هو الأول ويبقى الثاني على حجيته. كما إنَّه إذا أردنا أنْ نرفع الشك في حجية العام في تمام الباقي أمكن رفعه بهذا الوجه أيضاً باعتبار أنَّ كبرى حجية الظهور مِمّا لا إشكال فيها ولا نزاع عند أحد, فيكون المراد الإستعمالي والجدي بلحاظ تمام الباقي محفوظاً لا محالة فيكون حجة فيه.

والحاصل: إنَّ مناط الحقيقة والمجاز هو الإرادة الإستعمالية لا الإرادة الجدية, فعند استعمال كلمة في معناها الحقيقي يكون هذا الإستعمال حقيقة ولو لم يكن مراداً جدياً له. والعالم في المقام لم يستعمل إلا في العموم بل في التخصيص بلحاظ الإرادة الجدية, فلا يضرّ أنْ يكون اللفظ مستعملاً في معناه الحقيقي الذي هو الملاك في كون الإستعمال حقيقياً.

وأشكل بعض الأعلام عليه لوجوه عديدة، وقد أطال السيد الصدر قدس سره (1) الكلام في مقام الردّ عليه, ولا حاجة إليه؛ إذ الأمر عرفي أكثر من كونه بحثاً عقلياً لكي تذكر فيه الإحتمالات والتشكيكات والنقوض كما صنعه قدس سره .

إنَّ حقيقة الإستعمال هي إرادة الإستعمال وإلقاء اللفظ وجعله فانياً فيه، وإنَّ الإرادة في مقام الإستعمال هي الإرادة الواقعية, وإلا كان الكلام مجرد صوت ولقلقة لسان من دون أنْ يكون قاصداً لمعناه.

هذا وإنَّه ليس في مقام التخاطب إرادتان إحداهما الإرادة الإستعمالية والأخرى الجدية، فالأصل الذي يُعتمد عليه في الخطابات هو التطابق بين الإرادتين.

وهناك ردود أخرى لا تخلو عن مناقشة وإشكال لمن أمعن فيها وأعطاها حق النظر.

ص: 126


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص262 وما بعدها.

الوجه الخامس: إنَّ العام وإن كان مجازاً بعد التخصيص إلا أنْ يعيّن الباقي بين مراتب المجاز بمرجّح وهو أقربيته للعام من سائر مراتب المجاز.

وفيه: إنَّ الأقربية بنفسها لا توجب الظهور فيه، فإنَّه يحصل من إنصراف اللفظ إلى المعنى الحاصل من كثرة الإستعمال الموجبة لحصول الأُنس بين اللفظ والمعنى كما عرفت مكرراً, بحيث إذا أُطلق اللفظ إنسبق المعنى إلى الذهن.

الوجه السادس: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره (1) من أنَّ الخاص يكون قرينة على عدم إستعمال العام في العموم فيوجب سقوط الظهور الذي يكشف عن إرادة العموم؛ إمّا ذاتاً أو حجيةً، وأمّا حجية العام في الباقي فلأنَّها مدلولاً ومراداً ضمناًفلا موجب لرفع اليد عن حجية هذه الدلالة، إذ المخصص يقتضي عدم شمول الحكم لمورد التخصيص لا أكثر.

واستشكل عليه المحقق الخراساني قدس سره (2) بأنَّ دلالة العام على كلِّ فرد كانت ناشئة عن دلالته على العموم، فإذا لم يستعمل فيه -كما هو المفروض- فسيكون مجازاً، إذ لم يكن هناك ما يعين أحد المراتب عند تعددها.

وبعبارة أخرى: إنَّ المقتضي هو الدلالة على تمام الأفراد، ومع التخصيص لا وجه لثبوت المقتضي.

وفيه: إنَّه غير صحيح، لأنَّ لمقتضي إنَّما هو ذات الدلالة على نحو الإنبساط المنطبقة على التمام وعلى ما في ضمنه.

وقد وجّه المحقق النائيني قدس سره (3) كلام الشيخ الأنصاري بما يستلزم منه بطلان إشكال صاحب الكفاية, ولكنه لا يخلو عن إشكال؛ فالحقُّ ما ذكرناه من أنَّ المقتضي إنَّما هو ذات

ص: 127


1- . مطارح الأنظار؛ ص192.
2- . كفاية الأصول؛ ص220.
3- . أجود التقريرات؛ ج1 ص453.

الدلالة على نحو الإنبساط المنطبقة على التمام وما في ضمنه, ولعل الشيخ والمحقق النائيني (قدس سرّاهما) أرادا ما ذكرناه.

وقد ذكر بعض الأعلام توجيه اخر لكلام الشيخ قدس سره , فإنْ كان مراده ما ذكرناه فهو, وإلا فالإشكال فيه واضح.

وحقُّ الكلام في المقام بما يرفع الغموض والإبهام على ضوء ما ذكرناه في ابتداء البحث من الأمور الثلاثة المسلّمة التي لم يستشكل فيها أحد؛ إنَّه لا إشكال عند الجميع في أنَّ العام إمّا ظاهر في العموم أو كونه حجة في غير مورد التخصيص سواء كان المخصص متصلاً أم منفصلاً؛ بلا فرق بين أنْ يكون العام المخصص حقيقة في العموم بعد التخصيص أو يكون مجازاً باعتبار كونه موضوعاً للكلِّ المستعمل في الجزء.

والدليل على ذلك؛ ما عرفت سابقاً من تقوّم العموم بالإرسال والسريان بعد عدم تحديده بمرتبة خاصة وحدٍّ معين عرفاً، فمهما تحقق هذا المناط فإنَّ العموم يتحقق لا محالة إلا في دائرة الإرسال والسريان؛ فإنَّها إمّا أنْ تكون واسعة فيما إذا لم يكن هناك تخصيصاً، أو تكون ضيقة بعد التخصيص. والسعةُ والضيق إنَّما يتحددان بكثرة الأفراد وقلتها، نظير إسم الجنس الصادق على القليل والكثير صدقاً حقيقياً مع استفادة القلة والكثرة من القرائن الخارجية وإنْ كانا يفترقان من ناحية أخرى، لأنَّ القلة والكثرة في العموم إنَّما تلحظان من جهة السريان والشمول وفي إسم الجنس من جهة الذات المبهمة والمهملة. ولكن العموم قد إستعمل في السريان والشمول على كلِّ حال ولم يخرج عن هذا المعنى بالتخصيص إلا في قلة الأفرادوكثرتها بوجود المخصص وعدمه, فهو ظاهر فيه ويكون حجة ما لم تكن قرينة أقوى على الخلاف فتصرف العموم عن معناه الموضوع له.

ص: 128

هذا هو الذي يفهمه العرف من العموم مطلقاً سواء كان مخصصاً أم لا, ومنه يظهر بطلان ما قيل من أنَّ العام بعد التخصيص يكون مجازاً, لأنَّه من قبيل اللفظ الموضوع للكلِّ المستعمل في الجزء، فإنَّ الكلَّ والسريان يختلفان ذاتاً, فإنَّ الكل محدود بحدٍّ خاص بخلاف السريان، فإنَّه غير محدود بحدّ خاص كما تقدم, إلا أنْ يخرج عن هذا المعنى كما إذا خصص العام مرات عديدة بحيث لم يبق تحته إلا فرد واحد. ولعله لأجل ما ذكرناه إستهجن العرف كثرة التخصيص, لأنَّها تخرج العموم عن معناه الحقيقي، فليس استعماله في الباقي مجازاً، ولا دليل لإثبات المجاز من أنَّ الأصل يقتضي الحمل على الحقيقة، مع إنَّه على فرض مجازيته في الباقي ولكنه حجة فيه بعد التخصيص بعد وجود المقتضي لها وهو الظهور اللفظي, فإنَّ الظهور حجة سواء كان مستنداً إلى الحقيقة أم إلى سياق اللفظ الحاصل من المجاز، ولا مانع من العمل بهذا المقتضي إذا فُقد المانع وذلك لأصالة عدم ورود تخصيص آخر. ويشهد لذلك صحة استعمال العام المخصص في تمام الأفراد فيما إذا كان في البين غرض صحيح؛ كأن يكون المتكلم في مقام تشريع القانون الكلي ونحو ذلك, فيكون العام مستعملاً في تمام الأفراد بالإرادة الإستعمالية, وقد تعلقت الإرادة الجدية ببعض الأفراد لغرض التشريع. فما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أنَّ المفقود في العام المخصص هي الإرادة الجدية غيرُ صحيح، وقد عرفت بطلانه فيما سبق.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ استعمال العام في الباقي صحيح على كلِّ حال سواء كان على نحو الحقيقة -كما عليه التحقيق- أم على نحو المجاز, فلا ثمرة عملية في هذا البحث بل ولا علمية لأنَّ المسألة عرفية والرجوع إلى العرف يعيّن صحة ما ذكرناه ولا نحتاج إلى الوجوه العقلية التي تبعّد الموضوع عن مساره الصحيح.

ص: 129

تنبیهات

وينبغي التنبيه على أمور:

الأمر الأول: لا فرق فيما ذكرناه بين المخصص المتصل والمنفصل, فإنَّ العام لم يخرج عن معناه الحقيقي بالتخصيص مطلقاً وإنَّما التخصيص يوجب تضيق دائرة المدخول فقط من دون حاجة إلى التفاصيل التي ذكروها في هذا البحث. وقد ذكر بعضهم(1) في الإستدلال على عدم المجازية في موارد التخصيص المتصل أنَّ أداة العموم تدلُّ على استيعاب تمام أفراد المدخول, ويراد بالمدخول المعنى الأوسع ليشمل جميع ما يمكن أنْ يضيفه المتكلم من القيود والمخصصات في مجموعكلامه ما لم يخرجه بالتخصيص, فيكون التخصيص بالمتصل موجباً لعدم انعقاد العموم من أول الأمر إلا في الباقي.

والظاهر إنَّه لا حاجة إلى ذلك بعدما ذكرناه, ولعله لذلك ذكروا في الدليل على عدم المجازية في هذا القسم بعدم الشعور بالعناية في موارد التخصيص المتصل، ولا فرق بين أنْ يكون الخاص متَّصلاً بالعام في جملة واحدة؛ سواء كان على تقييد مدخول الأداة مباشرة أو بالإستثناء أو في جملة مستقلة يؤتى بها عقيب العام؛ فإنَّ الجملة لا ينعقد لها ظهور إلا بعد ملاحظة جميع أطرافها، والظهور حجة بلا إشكال.

وقد يقال بمنافاة التقييد بالمتصل لمدلول أداة العام بناءً على كونها تتكفل بنفسها الدلالة على شمول المدخول وتقتضي تعميمه لجميع ما يصلح للإنطباق عليه من الأفراد والتقييد بالمتصل يقتضي عدم إرادة جميع الأفراد فيكون منافياً لمدلول أداة العام. ولكن هذا القول مجرد وهمٍ بعدما عرفت من أنَّ مدخول الأداة هو المقيد بما هو مقيد بناءً على هذا القول, ولا تزاحم بين القيد ومدلول الأداة وإنَّ القيد يرتبط بموضوع دلالة الأداة.

ص: 130


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص283.

الأمر الثاني: عرفت فيما سبق خروج العدد وأشباهه عن بحث العموم والخصوص, فلا تترتب آثار العموم والخصوص على لفظ (عشرة) مثلاً، لأنَّ الدلالة على مندرجاته ليست بالعموم. فلو قال المولى (أكرم هؤلاء الأربعة) الذين من جملتهم زيد مثلاً، ثم ورد بعد ذلك ما يدلُّ على عدم وجوب إكرام زيد منهم فلا إشكال في التنافي بين الدليلين وجداناً فيتحقق التعارض بينهما لا أنْ يكون بينهما التخصيص والتقييد. ولكن بناءً على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّ المنثلم من الدلالات الثلاث هي الدلالة التصديقية في الإرادة الجدية فقط، والدلالة التصديقية تبقى في مرحلة الإستعمال مع أنَّه ليس له القول ببقاء المدلول الإستعمالي على حاله.

وبعبارة أخرى: إنَّ معاملة المعرف في مثل هذين الدليلين في العدد معاملة المتعارضين دليل على عدم تمامية ما ذكره.

الأمر الثالث: لا فرق في أنَّ جميع ما تقدم من البحث بين العام المخصص في الجمل الإنشائية؛ أي التي تستعمل في مقام الإنشاء والجمل الخبرية المخصصة، كما إذا قال (زرت العلماء إلا زيداً) لوحدة الملاك فيهما وهو وجود التنافي بين العام الخبري ومخصصه بلحاظ ظهور حالي في كون حكاية المتكلم إختيارية وصادرة عنه بحرية لا بالإضطرار؛ فإذا فرضنا كون المتكلم صادقاً كالمعصوم الذي يستحيل صدور الكذب منه فلا محالة كان المخصص منافياً مع ظهور العامالخبري. ومنه يظهر فساد ما قد يقال بأنَّه لا تنافي بينهما في الجملة الخبرية؛ لأنَّ المدلول الجدي فيها هو قصد الحكاية والإخبار لا الجعل والإنشاء، والمخصص في الجملة الخبرية إنَّما يدل على عدم ثبوت مدلول العام في مورد التخصيص ولا يكشف عن مصدر الحكاية عن العموم في الجملة الخبرية المخصصة.

ص: 131


1- . كفاية الأصول؛ ص17.

الجهة الثانية: إجمال المخصص وأقسامه وأحكامه

اشارة

الجهة الثانية(1): إجمال المخصص وأقسامه وأحكامه

هذه الجهة تتبع الجهة الأولى التي تقدم البحث عنها؛ حيث ذكرنا بأنَّه لا إشكال في كون العام حجة في تمام الباقي بعد التخصيص، وبعد ذلك يأتي البحث في حدود ما يشمله العام ليكون حجة فيه؛ فهل هو مالم يعلم دخوله في المخصص أو خصوص عالم عدم دخوله فيه؟.

والبحث في هذه الجهة يستدعي ذكر جميع الصور المحتملة، وهي: إنَّ العام والخاص؛ إمّا أنْ يكون كلُّ واحد منهما مبيّناً من كلِّ جهة، أو يكون كلٌّ منهما مجملاً كذلك، أو يكون العام مجملاً والخاص مبيّناً، أو بالعكس.

ولا ريب في ثبوت الحجية وتماميتها في الأول؛ فيجب العمل بكلٍّ من العام والخاص, لأنَّهما مبيّنان، والمبيّن ظاهر في دلالته والظاهر حجة بلا كلام.

كما إنَّه لا ريب في عدم الحجية في الثاني لإجمالهما، ولا حجية للمجمل.

وأمّا الثالث فالمعروف عدم الحجية فيه أيضاً لأنَّ الخاص بمنزلة القرينة للعام والمتمّم لفائدته، ومع إجمال ذي القرينة لا أثر لوضع القرينة وكونها مبيّنة.

وأمّا الرابع (وهو المبحوث عنه في هذه الجهة) فالصور التي تُحتمل فيه هي: إنَّ الخاص؛ إمّا أنْ يكون متصلاً بالعام، أو يكون منفصلاً عنه. وإجمال المخصص؛ إمّا أنْ يكون مفهومياً أو يكون مصداقياً، وإمّا أنْ يكون الإجمال مردداً بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين.

وقد فصّل بعض الأعلام الكلام في المقام فذكر الشقوق العقلية أيضاً.

والظاهر إنَّه تفصيل لا طائل تحته كما ستعرف.

وقبل ذكر الصور لا بُدَّ من بيان أمر قد أشرنا إليه سابقاً وهو: إنّ المخصص المتصل يوجب انعقاد ظهور العام مع الخاص فيكون للمجموع ظهور واحد، بخلاف المخصص

ص: 132


1- . من جهات مبحث التخصيص.

المنفصل ففيه ينعقد للعام ظهور ولكن الخاص سيوجب سقوط حجيته في مورد خاص. وهذا هو معنى المقالة المعروفة (المخصص المنفصل يوجب هدم ظهوره)، بلا فرق بين أقسام المخصص المتصل من كونه على نحو التقييد والإستثناء أو للإستدراك أو على نحو الجملة المتصلة بالعام.

أمّا الدعوى الأولى؛ فلا إشكال فيها، لأنَّه بعد انعقاد ظهور العام في العموم وتمامية دلالته عليه فإنَّه لا ينقلب عما وقعت عليه, باعتبار أنَّ دلالته تنجيزية غير معلقة على عدم التخصيص المنفصل، والمحتمل منه منفي بالأصل، بل يمكندعوى انعقاد ظهور آخر منه ينفي به كل مخصص محتمل وإلا كان الظهور مبتلى دائماً بالإحتمال فلا ينعقد للكلام ظهور أصلاً كلما احتملنا وجود مخصص منفصل واقعاً.

وعليه؛ سوف ينعقد للعام ظهور ودلالة على العموم حتى مع وجود المخصص المنفصل، وإنَّما ترتفع حجيته إمّا بملاك الأظهرية أو الأقوائية كما عليه المحقق الخراساني قدس سره ، أو بملاك القرينة كما هو رأي المحقق النائيني قدس سره كما ستعرف ذلك في بحث التعارض.

وأمّا الدعوى الثانية والتي تفيد بأنَّ المخصص المتصل يرفع الظهور؛ فهي أيضاً صحيحة ثابتة كما عرفت, فلا ينعقد للعام ظهور ذاتاً لعدم انعقاد دلالته عليه سواء كان في الدلالة التصورية كما في المتصل بنحو التقييد أو الإستثناء أو الإستدراك، أم كان في الدلالة الإستعمالية كما عرفت سابقاً من أنَّه ليس في الكلام إلا إرادة واحدة وهي الإرادة الإستعمالية؛ فلو كان المتكلم جادّاً في كلامه فسوف تحدث إرادة إستعمالية وهي الإرادة الواقعية، وإنَّ الإرادتين متطابقتان في مقام التخاطب وهو الأصل الذي يعتمد عليه؛ خلافاً للسيد الصدر قدس سره (1)؛ حيث ذهب في المتصل المستقل إلى أنَّ المدلول الإستعمالي

ص: 133


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص288.

وإنْ كان ظاهراً في العموم ولكنه بحسب المدلول الجدي لا ظهور في إرادته، بل الظهور بإرادة الخاص جدّاً, وأصالة الجدّ إنَّما تجري في مجموع الكلام لا بلحاظ كل جزءٍ جزء من الكلام الواحد لإثبات الجد التحليلي والحيثي.

ولكن يرد عليه ما ذكرنا آنفاً؛ فراجع.

وعلى ضوء ذلك ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ إجمال الخاص المتصل يسري إلى العام سواء كان مفهومياً أو مصداقياً كان بين الأقل والأكثر، أم بين المتباينين لسريان الإجمال من القرينة إلى ذيها.

وقد استدل على ذلك بأمور:

1- إنَّ الخاص بمنزلة القرينة المحفوفة بالكلام, وإجمال القرينة يسري إلى ذي القرينة في المحاورات العرفية.

2- جريان بناء العقلاء على عدم التمسك بالعام في محاوراتهم واحتجاجاتهم في الموارد المشكوك دخولها تحت العام.

3- إنَّ عروض الإجمال يوجب سلب ظهور العام في محتملات التخصيص، بل يوجب سلب حجيته فيها.

وعليه؛ فلا يكون العام ولا الخاص حجة في الفرد المشكوك بسبب الإجمال. وأمّا الأخذ بالمتيقن بما هو داخل العام فهو ليس من باب ظهور العام بل من جهة اليقين. وحينئذٍ لا بُدَّ من الرجوع إلى دليل آخر, ومع عدمه فإلى الأصول العملية؛ موضوعية كانت أم حكمية.

ص: 134


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص130.

وكذا الكلام فيما يأتي في بعض أقسام المخصص المنفصل, فإنَّه لا يجوز التمسك بالعام فيرجع فيها إلى دليل أو أصل وكذلك الأمر في الشبهات المصداقية حيث لا يصحّ التمسك به فيها.

وقد فصّل جمع من الأصوليين الكلام في الأقسام، ونحن نذكرها على سبيل الإيجاز في ضمن فروع:

الفرع الأول: إذا كان المخصص متصلاً مجملاً مفهومياً، ومنشأ الإجمال فيه هو التردد بين الأقل والأكثر كما إذا ورد: (أكرم العلماء إلا الفساق منهم), وتردد مفهوم الفاسق بين مرتكب الكبيرة فقط وهو الأقل، وبين مرتكب كل ذنب ولو كان صغيراً وهو الأكثر. والإشكال في سريان الإجمال من المخصص إلى العام بحيث لا يمكن التمسك به في إثبات حكمه لمورد الإجمال كما عرفت آنفاً من أنَّ المخصص المتصل يوجب هدم ظهور العام، فيكون متعلق الحكم هو العالم غير الفاسق، وهو مشكوك الإنطباق على مرتكب الصغيرة فلا يكون ظاهراً فيه.

وقد ذكرنا أنه لا فرق في الخاص المتصل بين كونه على نحو التقييد أو الإستثناء أو الإستدراك أو الجملة المستقلة؛ لأن الجملة لا ينعقد لها ظهور في مرحلة الإرادة الإستعمالية إلا بعد معرفة جميع ما يرتبط بها، وما ذكره السيد الصدر قدس سره في الفرق بينهما غير صحيح كما تقدم وإنْ أطال الكلام فيه.

إنْ قلتَ: سلَّمنا الإجمال وعدم إحراز صغرى الظهور في العالم بالنسبة لمورد إجمال المخصص، ولكن هذا الشك إنَّما يكون مسبباً عن الشك في القرينة المتمثلة في المخصص فيمكن نفيه بأصالة عدم القرينة، وبه يرتفع الشك المسببي ويحرز الظهور في العام.

ص: 135

قلتُ: إنَّ أصالة عدم القرينة إنْ كان المراد فيها إستصحاب عدم القرينة فهو من الأصل المثبِت، لأنَّ الظهور ليس أثراً شرعياً مترتباً على عدم القرينة بل لازم تكويني وإنْ ترتبت عليه الحجية التي هي حكم شرعي كما هو شأن كل أصل مثبت وإنْ أريد بها الأصل العقلائي، ولكنه لا يجري أيضاً كما عرفت من أنَّ بناء العقلاء في محاوراتهم واحتجاجاتهم على عدم التمسك بها في الموارد المشكوك دخولها تحت العام. فهذا الأصل محكوم بهذا البناء العقلائي حيث لا يعتنون بإجراء أصالة عدم القرينة.

الفرع الثاني: ما إذا كان المخصص متصلاً ومجملاً مردداً بين المتباينين, كما إذا قال: (أكرم العلماء إلا زيداً), وتردد زيد بين شخصين. والحكم فيه نفس الحكم فيالسابق بالبيان السابق كما عرفت من أنَّ المخصص المتَّصل يهدم ظهور العام فيه، فلا يوجد ظهور بلحاظ الفردين معاً حتى يتمسك به، مع إنَّه على فرض وجود الظهور ولكنه ليس بحجة كما في المخصص المنفصل لغرض انعقاد الظهورين ذاتاً إلا أنَّ أحدهما ساقط عن الحجية بحسب الفرض لثبوت المخصص لأحدهما على كلِّ حال، ومعه لا يمكن التمسك بالظهور فيهما معاً لأنَّه خلف التخصيص.

وأمّا التمسك بالعام في أحد الفردين بالخصوص فإنَّه لا يجوز أيضاً لأنَّهدام الظهور أولاً, ولأنَّه لو أريد التمسك به في الفرد الآخر فإنَّه يكون خلف التخصيص كما عرفت, وإنْ أريد التمسك به بدلاً عن الآخر فهو ترجيح بلا مرجح.

وبعبارة أخرى: إنَّ ظهور العام في كل فرد معارض بالظهور في الفرد الآخر فيسقطان عن الحجية بالمعارضة.

نعم؛ قد وقع الكلام في التمسك بالعام لإثبات الحكم في الفرد غير الخارج بالتخصيص واقعاً, والإشكال يحدث باعتبار أنَّ إجمال الخاص يسري إلى العام فيهدم ظهوره أو يسلب

ص: 136

حجيته، والظاهر إنَّه لا مانع من التمسك به لإثبات الحكم فيه؛ لأنَّ ما هو غير المخصص واقعاً يشمله ظهور العام على إجماله ولا موجب لرفع اليد عن حجيته، فالمقتضي -وهو أصل الظهور- موجودٌ وإنْ كان على نحو الإشارة الإجمالية لوقوعه في مورد العلم الإجمالي بالحجية، والمانعُ مفقودٌ حيث لم يثبت تخصيص آخر زائد عن التخصيص المجمل؛ إمّا بالعلم الوجداني أو لم يكن يعلم بعدم التخصيص الزائد ثبوتاً. اللهم إلا أنْ يقال: إنَّ غير ما هو المخصص واقعاً ربما لا تعيُّن له واقعاً فيما إذا كان المخصص عقلياً فيكون بمثابة المتصل يقتضي عدم اجتماع الحكم على الفردين المتباينين معاً بحيث لا بُدَّ من خروج أحدهما عقلاً, فإذا لم يتعين المخصص فلا محالة يكون غير المخصص أيضاً غير متعيّن. لأنَّ نقيض اللامعيَّن لا متعيِّن لا محالة، ومعه لا يمكن التمسك بالعام حتى في مورد غير المخصص واقعاً, ولا يثبت حكمه في ذلك المورد أيضاً إذ لا يعقل جعل الحكم على موضوع غير متعين واقعاً.

وأُجيب عن ذلك بوجه لا يخلو عن الإشكال، ولكن ذلك يهون لأنَّ المسألة في مرحلة الإثبات موضع وفاق ولا خلاف فيه؛ فإنَّ السيرة العقلائية قائمة، وهي لا تفرّق على كلِّ حال بين حجية العام لنفي التخصيص الزائد على إجماله سواء كان له تعيّن واقعي أم لا. والمشكلة فنية قد عولجت بوجوه لا ثمرة علمية في نقلها بعد نفي الثمرة العملية فيها كما عرفت.

الفرع الثالث: ما إذا كان الخاص المجمل منفصلاً مردداً بين الأقل والأكثر, كما لو قال: (يجب إكرام العلماء)، ثم قال: (لا تكرم الفسّاق)، مع تردد الفسق بين مطلق مرتكب الذنب وبين خصوص من ارتكب الكبيرة. وقد اختلف الأصوليونفيه؛ فذهب جمع إلى جواز التمسك بالعام في مورد الشك واستدلوا عليه بأنَّ العام قبل ورود المخصص يكون

ص: 137

قد انعقد له ظهور في العموم، ومقتضاه حجية العام في جميع أفراده ما لم يزاحمه ما هو أقوى منه. والخاص إنَّما يزاحمه فيما هو حجة فيه وهو القدر المتيقن، وأمّا غيره فلا يكون الخاص حجةً فيه؛ فلا يزاحم العام فيصحّ التمسك به في مورد إجمال المخصص وعدم سريانه إلى العام.

وبعبارة أخرى: إنَّ المقتضي للحجية موجود والمانع عنها مفقود ولو بالأصل, فيصحّ التمسك بالعام في نفي التخصيص المحتمل.

وأورد عليه السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ الظهور وإنْ كان مسلّماً ولكن فقد المانع -وهو أصالة عدم التخصيص- هو أول الكلام، لأنَّ أصالة عدم التخصيص وإنْ كانت من الأصول المحاورية العقلائية ولكن لم يحرز بناؤهم على جريانها في المقام، وإلا لما وقع الخلاف.

وقد عرفت سابقاً أنَّ بناء العقلاء يكون على عدم التمسك بالعام في محاوراتهم في الموارد المشكوكة؛ لأنَّ بنائهم على معاملة الأدلَّة والقرائن المنفصلة معاملةَ المتصلة في مقام استكشاف المراد النهائي من مجموع كلمات المتكلم الواحد، وعليه؛ يوجب سريان الإجمال إلى العام ويكفي الشك في الجريان بعد أنْ كان المدرك هو السيرة ومنه يقتضي الإقتصار على المتيقن.

وبعبارة أخرى: قد عرفت آنفاً الإشكال في جريان الأصل، فإنْ كان المراد به الأصل التعبدي فهو مثبِتٌ لا حجية فيه، وإنْ كان عقلائياً فقد عرفت مصادمته مع البناء العقلائي.

وأشكل عليه بأنَّ مفاد هذا البناء العقلائي ونحوه هو أنَّ الدليل الذي يكون على تقدير اتصاله قرينةً مفسرة ومحددة لمراد المتكلم يكون على تقدير انفصاله كذلك حكماً، فالدليل المنفصل بما هو منفصل وما ينجم عن ذلك من إستقرار ظهورات ودلالات يفرض كأنه

ص: 138


1- . المصدر السابق.

متصل، ولكن إذا كان هناك ظهور يتولد من نفس حيثية الإنفصال وانتهاء الكلام الأول فلا بُدَّ أنْ يحافظ عليه في مقام التعامل، فلا يراد بهذا البناء إلغاء الظهورات الكلامية المتولدة نتيجة انتهاء الكلام الأول كالظهور في العموم في المقام.

ويرد عليه: إنَّ هذا البناء العقلائي ملاكه الظهورات الكلامية لا إلغاؤها, فإنَّ المتكلم إذا كان في مقام الخطاب وإلقاء محاضرة حول موضوع معين لا يمكن لإستفادة مراده إلا بعد الإنتهاء من كلامه، ولا يصحّ الحكم سلباً أو إيجاباً إلا بعد ضم جميع الظهورات والدلالات التي استعملها في خطابه، فلا يقوم هذا البناء إلا على الظهورات المستعملة في ضمن الكلام واستقرارها، فيعتبر العقلاء الكلام وإنْ طالزمانه كلاماً واحداً حكماً، فإذا نصب المتكلم قرينة في آخر خطابه يكون لها التأثير في الظهور الحاصل في أول كلامه مع انحفاظ جميع ما هنالك من ظهورات ودلالات.

نعم؛ إذا كان قصد المتكلم هو تقطيع كلامه وجعله في موضوعات متعددة لا ربط بينها سوى اتّحادها في كلام واحد لأمكن القول بالإنفصال في الظهورات، لأنَّ الظهور قد تولد من نفس حيثية الإنفصال.

ويرشد إلى ذلك ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) من الفرضيتين لتصحيح هذا الوجه؛ وهما كون الدليل المنفصل متصلاً بحسب عالم اقتناص المراد وفهمه من الكلام وإنْ كان منفصلاً عنه في الزمان، وأنْ يكون هناك تعهّد من المتكلم على إعطاء حكم الإتصال للمخصصات المنفصلة. ويكون مقتضى هذا التنزيل عدم حجية العام في موارد إجمال الخاص المنفصل.

ص: 139


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص300-301.

والحقُّ الذي ينبغي أنْ يقال: إنَّ النزاع صغرويٌ بين الأعلام؛ فمن ذهب إلى عدم حجية العام في الفرض المذكور يقول بالوحدة التنزيلية بين أطراف الكلام وإنْ كانت منفصلة، ومن يذهب إلى عدم الحجية فهو يرفض ذلك ويقول بأنَّ الظهور قد تولّد من نفس حيثية الإنفصال فلا بُدَّ أنْ يحافظ عليه. والجميع يتفقون على أنَّ البناء العقلائي قائم على معاملة الأدلَّة والقرائن المنفصلة معاملة المتصلات بتنزيلها منزلة المتصلة ولا يمكن إنكاره إلا في المورد الذي ذكرناه.

ثم إنَّ بعضهم أشكل على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره بوجهين:

الوجه الأول(1): إنَّ التمسك بالعام في مورد الإجمال يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية الذي سيأتي عدم صحته؛ لأنَّ المخصص بعد إخراج الفاسق من العلماء عن العام يوجب إنقسام ظهور العام إلى ما يكون حجة فيه؛ وهو العالم الذي لا يكون فاسقاً، وما لا يكون حجة فيه؛ وهو العالم المشمول لمدلول الفاسق. وفاعل الصغيرة يُشكُّ في كونه مشمولاً لمدلول الفاسق أم لا، فيكون بالنسبة إلى ظهور الباقي على حجيته من العام الشبهة المصداقية ولا يجوز التمسك فيها بالظهور.

وأورد عليه: إنَّ الشك إذا كان في مصداق الفاسق وأنَّه من مدلول كلمة الفاسق بحيث يكون التخصيص بعنوان مسمى الفاسق، فإنَّه حينئذٍ من الشبهة المصداقية لا المفهومية, لأنَّ مفهوم مسمى الفاسق لا إجمال فيه. وأمّا إذا كان التخصيص بعنوان من يكون فاسقاً واقعاً بحيث يكون مفهوم الفاسق ملحوظاً بما هو طريق إلى الواقع كما هو الحال في كل مفهوم فيكون التخصيص بمقدار هذا العنوانالمردد فرضاً بين الأقل والأكثر ويكون المتيقن منه هو الأقل, وأمّا الأكثر فيحتمل التخصيص دون أنْ يكون شبهة مصداقية.

ص: 140


1- . المصدر السابق؛ ص299.

وفيه: إنَّ التردد والشبهة تارةً يكون في نفس الموضوع الخارجي ويلزمه التردد في صدق المفهوم عليه أيضاً من حيث الصدق لا من جهة نفس المفهوم من حيث هو.

وأخرى تكون الشبهة والتردد في نفس المفهوم من حيث هو مع قطع النظر عن المصداق الخارجي، ويلزمه التردد في الموضوع الخارجي أيضاً.

وبعبارة أخرى: إنَّ الشبهة تارةً تسري من الموضوع المردد إلى صدق المفهوم عليه، وأخرى تسري من المفهوم المردد إلى ما هو الخارج، وفي كِلتا الشبهتين يحصل التردد في الموضوع الخارجي ومصداقه. وما ذكره المستشكل لأنَّه لاحظ القسم الثاني دون الأول، فإنَّ الشبهة قد حصلت في انطباق عنوان الفسق على الموضوع الخارجي واستلزم منه التردد في صدق المفهوم عليه أيضاً, فيكون المقام من الشبهة المصداقية والتمسك بالعام فيها غير صحيح كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) بناءً على مسلكه من أنَّ العموم في طول الإطلاق وإجراء مقدمات الحكمة، وحيث إنَّ الإطلاق موقوف على عدم البيان المنفصل وإلا فسوف يسري إجمال المخصص المنفصل إلى العام لا محالة, لأنَّه صالح للتقييد ورافع للإطلاق ذاتاً كالمتصل تماماً، ومعه لا يمكن التمسك بالعام في مورد الإجمال لأنَّه في طول الإطلاق ومقدمات الحكمة وهي لا تجري لكون المورد شبهة مصداقية لها.

ولكن قد عرفت فساد ما ذهب إليه سابقاً، ويأتي في بحث المطلق والمقيد تتمة الكلام عنه.

والحاصل من جميع ذلك: إنَّ ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره وإنْ كان صحيحاً ولكنه ينصدم مع البناء العقلائي الذي يقوم على عدم التمسك بالعام إذا كان الخاص مجملاً ولو كان منفصلاً في محاوراتهم واحتجاجاتهم، إلا أنَّه قابل للمناقشة ولذلك اختار جمع من

ص: 141


1- . فوائد الأصول؛ ج1و2؛ ص518، وأجود التقريرات؛ ج1 ص450.

المحققين ما ذهب إليه المشهور في هذا القسم أيضاً من عدم سريان إجمال الخاص إلى العام وصحة التمسك به في مورد إجمال المخصص لتمامية المقتضي وفقد المانع.

فالحقُّ أنْ يقال: إنَّ العقلاء وإنْ جعلوا العام والخاص من القرينة وذيها إلا أنَّ لهم بناءات جانبية يعتمدون عليها في المحاورات؛ منها: إنَّ المخصص المنفصل إذا كان مردداً من حيث المفهوم ومجملاً من هذه الناحية, فإنَّهم يرجعون إلى التمسكبالعام في مورد الشبهة لانعقاد ظهوره وعدم وجود ظهور أقوى منه مِمّا يوجب رفع اليد عنه.

نعم؛ ربما تكون شدة الشبهة واستحكامها في بعض الموارد مِمّا يوجب سريانها إلى العام فيصير مجملاً، وهنا لا بُدَّ من الرجوع إلى أطراف الكلام وتعيين هذا القسم. فالحقُّ هو جواز التمسك بالعام في الشبهة المفهومية إذا كان منشؤها هو التردد بين الأقل والأكثر وكان المخصص منفصلاً وينتفي احتمال التخصيص في الأكثر بالأصل.

الفرع الرابع: ما إذا كان الخاص مجملاً منفصلاً ومردداً بين المتباينين؛ ولا إشكال في عدم جواز التمسك بالعام فيه لعدم حجيته في كِلا المتباينين كما عرفت في المخصص المتصل المردد بين المتباينين، فلا يصحّ التمسك بالعام في الفردين معاً لأنَّه خلف الفرض, ولا في أحد الفردين بالخصوص منه لأنَّه ترجيح بغير مرجح، ولا في تخصيص الزائد المحتمل في الفرد الأخير غير الخارج.

تنبیهات

ثم ينبغي التنبيه على أمور:

الأمر الأول: عرفت أنَّ عروض الإجمال على الخاص يوجب سقوط حجية العام فلا يصح التمسك به في مورد الشك سواء كان الخاص متصلاً أو منفصلاً، وسواء كان منشأ التردد والشك الأقل والأكثر أو التباين على التفصيل الذي ذكرناه، فلا فرق حينئذٍ بين العلم بانفصال الخاص عن العام واتصاله أو الشك فيه؛ فإنَّه بعروض الإجمال على الخاص

ص: 142

مطلقاً قد أوجب إجمال العام ووهن التمسك به في المورد المشكوك, فلا يضرّ الشك في اتصال المخصص بالعام.

نعم؛ بناءً على وجود فارق نظري وعملي في موارد إجمال المخصص المردد بين الأقل والأكثر بين ما إذا كان متصلاً أو منفصلاً وهو إجمال العام, وعليه؛ لو فرض الشك في صدور المخصص متصلاً بالعام أو منفصلاً فقد يقال بأنَّ المورد يكون حينئذٍ من صغريات إحتمال وجود القرينة المتصلة, فإذا قلنا بمقالة المشهور هناك من التفصيل بين احتمال وجود القرينة واحتمال قرينية الموجود أمكن التمسك بالعام في مورد الإجمال، لأنَّه يمكن إحراز العموم بأصالة عدم وجود المخصص المتصل بعد إحراز أصل المخصص، ولكن اتّصاله لم يكن محرزاً فيرجع الشك إلى أصل وجود القرينة المتصلة فتجري أصالة عدم القرينة, ولا تعارض بأصالة عدم القرينة المنفصلة لأنَّه لا أثر لها بعد إحراز أصل المخصص.

ويرد عليه:

إنَّه غير صحيح في حدّ نفسه، فإنَّه لا يمكن رفع إجمال العام بأصالة عدم القرينة بعد إحراز أصل المخصص المجمل, وإنَّ الإعتماد على الأصل

1- ينفع فيما إذا انعقد أصل الظهور كما في موارد احتمال وجود القرينة، فإنَّه يمكن الإعتماد على أصالة عدمها.

2- ما عرفت آنفاً من بناء العقلاء على عدم التمسك بالعام مع وجود الخاص المجمل فلا يضر الشك باتصال الخاص بالعام.

الأمر الثاني: ذكرنا أنَّه لا فرق في موارد دوران المخصص المجمل بين المتباينين بين المخصص المتصل والمخصص المنفصل بأنَّ الإجمال يسري إلى العام فلا يصح التمسك به في مورد

ص: 143

الإجمال وليس هناك فارق عملي ونظري بينهما, ولكن ذكر بعضٌ الفرقَ النظري من حيث كون المتصل موجباً لإجمال نفس الظهور، وأمّا المنفصل فإنَّه يوجب إجمال حجيته, وعلى كِلا الفرضين لا يمكن التمسك بالعام في الموردين معاً أو في أحدهما كما عرفت ذلك مفصلاً فلا ثمرة عملية بينهما. وذكر بعضٌ أنَّ هناك ثمرة عملية بينهما وذلك؛ إمّا بفرض ثبوت مخصص تعييني لأحد الفردين بالخصوص زائداً على المخصص المجمل، أو بفرض وجود معارض لظهور العام في أحد الفردين المتباينين تعييناً.

والصحيح؛ إنَّه لا ثمرة عملية، وإنَّ الفرضين إنَّما يُرجع فيهما إلى الأصول الموضوعة الجارية والقواعد بعد عدم جواز التمسك بالعام في مورد الإجمال.

الأمر الثالث: ذكر بعضهم بأنَّ تشخيص ميزان كون المخصص المجمل دائراً بين المتباينين أو الأقل والأكثر؛ هو ملاحظة النسبة بين طرفي الإجمال في مرحلة المفهوم فقط أو في مرحلة المصداق.

وتفصيل ذلك يقتضي بيان الصور التي يمكن تصويرها في المقام:

الصورة الأولى: أنْ يكون المخصص مردداً بين المطلق والمقيد؛ كما إذا تردد مدلول كلمة الفاسق بين مطلق مرتكب الذنب أو خصوص فاعل الكبيرة، وفي هذه الصورة يكون الدوران بين الأقل والأكثر.

الصورة الثانية: أنْ يكون المخصص مردداً بين مفهومين متباينين بحسب المفهوم وبحسب المصداق معاً؛ كما إذا تردد لفظ المولى بين القريب والعبد ولم يكن أحد من الأقرباء عبداً, وهذا من الدوران بين المتباينين.

الصورة الثالثة: أنْ يكون المخصص مردداً بين مفهومين متباينين بحسب المفهوم وبينهما العموم من وجه من حيث المصداق؛ كما في الفرض السابق مع فرض أنَّ أحد الأقرباء

ص: 144

عبدٌ، وهذا أيضاً من المردد بين المتباينين وإن كانْ في مورد الإجتماع بالخصوص يقطع بالتخصيص على كلِّ حال.

الصورة الرابعة: أنْ يكون الدوران بين مفهومين متباينين بحسب المفهوم ولكن النسبة من حيث المصداق هي العموم المطلق؛ أي الأقل والأكثر, كما إذا دار مدلول المخصص بين إخراج عنوان الكافر أو غير المختون مثلاً، والمفروض أنَّ الأول أعم مصداقاً من الثاني فقد يقال بأنَّه من الدوران بين المتباينين ولايصح التمسك فيه بالعام بالنسبة إلى غير ذلك المتيقن خروجه من الأفراد الخارجية، لأنَّ عنوان العام الحجة مردد بين الفقير المختون أو غير الكافر مثلاً فلا يحرز صدق ما هو الحجة من العام على الكافر المختون ليتمسك به. ولا يخفى إنَّه لا ثمرة لهذا النزاع بعد عدم الفرق في المخصص المجمل من كونه دائراً بين المتباينين أو الأقل والأكثر، فإنَّ العام مجمل في جميع الصور سواء أحرز أحدهما أم لا.

هذا ما يتعلق بالمخصص المجمل مفهوماً بجميع أقسامه.

الجهة الثالثة: في المخصص المجمل مصداقاً

اشارة

وفي هذا البحث تأتي الأقسام الأربعة المتقدمة التي ذكرناها في الشبهة المفهومية أيضاً، لأنَّ المخصص؛ إمّا أنْ يكون متصلاً أو يكون منفصلاً، وعلى كلٍّ منهما؛ إمّا أنْ يكون منشأ الشبهة والإجمال هو دوران الأمر في المخصص بين الأقل والأكثر أو يكون منشؤه التردد بين المتباينين. وأهم هذه الأقسام هو الذي عُقد هذا البحث لأجله؛ وهو ما إذا كان المخصص منفصلاً وكان دائراً بين الأقل والأكثر من حيث المصداق. وأمّا غيره من سائر الأقسام فيجري فيها ما ذكرناه في البحث السابق الذي عقد لأجل المخصص المجمل مفهوماً، واشتهر هذا البحث بالشبهة المصداقية ووقع الخلاف بين المحققين.

ص: 145

وأهم الأقوال فيه ثلاثة:

عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية

الأول: عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية(1).

الثاني: جواز التمسك به في المورد المشكوك(2).

الثالث: التفصيل بين المخصص اللفظي؛ فيمنع التمسك بالعام فيه، والمخصص اللبي فيجوز. وقد اختاره المحقق الخراساني قدس سره (3).

وقبل بيان الأقوال واستطراد أدلتهم ينبغي تقديم أمور:

الأمر الأول: لا يخفى أنَّ هذه المسألة من مهمات المسائل الأصولية وتترتب عليها ثمرات عملية كثيرة وفروع فقهية متعددة؛ منها: مسألة تنجيس الماء المشكوك كونه كرّاً بالملاقاة؛ فإنْ قلنا بجواز التمسك بالعام وهو عموم ما دلَّ على نجاسة الملاقي للنجس في المورد المشكوك كونه كرّاً فيحكم بالنجاسة, وإنْ قلنا بعدم جواز التمسك به فيه فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأدلَّة الأخرى.

الأمر الثاني: إنَّ ما ذكرناه في الشبهة المفهومية يجري في الأقسام الثلاثة الأخرى في الشبهة المصداقية؛ فلا يجوز التمسك بالعام في مورد الشك في الأقسام الثلاثة.

أمّا في المخصص المتصل المردد بين الأقل والأكثر فلأنَّه يوجب تضييق ظهور العام ذاتاً لا حجيةً فينعقد ظهور العام ابتداءً من غير مقدار التخصيص وكان متصلاً في المخصص المردد بين المتباينين كما إذا علمنا بأنَّ أحد الفقيرين فاسق والآخر عادل، أو منفصلاً فلا يصحّ التمسك بالعام في الفردين معاً، لأنَّه خُلف ثبوت التخصيص, ولا في أحدهما المعيَّن، لأنَّه ترجيح بلا مرجح.

ص: 146


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص458.
2- . مطارح الأنظار؛ ص192.
3- . كفاية الأصول؛ ص221.

نعم؛ يصحّ التمسك به في أحدهما إجمالاً لأنَّ غير الخارج بالتخصيص يكون متعيناً في موارد الدوران بين المتباينين وإلا لم يكن من الدوران بين المتباينين.

وأمّا الشبهة المصداقية في المخصص المنفصل الدائر بين الأقل والأكثر كما إذا ورد (أكرم العلماء)، ثم ورد (لا تكرم النحويين) وشككنا في فرد أنَّه نحوي من جهة الإشتباه الخارجي كالشك في درسه للنحو ونحو ذلك؛ فإنَّه يكون الفرع الرئيسي في المقام كما عرفت.

الأمر الثالث: إنَّ الكلام في الشبهة المصداقية تارةً يكون في ما إذا كان المخصص لفظياً، وأخرى فيما إذا كان لبياً كما عرفت من القول بالتفصيل بينهما. فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: إذا كان المخصص لفظياً

المقام الأول: فيما إذا كان المخصص لفظياً، وقد استدلَّ على جواز التمسك بالعام فيه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ المقتضي للتمسك تام والمانع عنه مفقود، وذلك لأنَّ العام تام في مدلوله بعد انفصال المخصص عنه؛ فلم ينثلم ظهوره في كلِّ فرد من أفراد العالم حتى الفرد المشكوك في نحويته فهو حجة فيه، إلا إذا قام حجة أقوى منه تزاحمه وتنافيه. والخاص الذي يمكن أنْ يتوهم أن يكون مانعاً لا يكون حجة في الفرد المشكوك فلا يمكنه معارضة ما هو حجة فعلاً وهو العام فيتعين حجيته لا محالة. ففي المثال المزبور يكون العام حجة في العالم غير النحوي، وقد دفع ذلك بأنَّ الحجة وإنْ كانت تامة من حيث المقتضي لأنَّ الظهور مسلّم، ولكن عدم وجود المانع أول الكلام، وذلك لأنَّ العام بعد ورود التخصيص عليه يوجب تضييق حجيته وتصنيفه إلى صنفين؛ أحدهما يكون حجة فيه وهو ظهوره في العلماء غير النحويين، والآخر لا يكون حجة فيه وهو ظهوره في العلماء النحويين.

ومورد الشك المصداقي لا يحرز إنطباق ما هو حجة عليه، ومجرد انطباق عنوان تام لا ينفع ما لم يكن حجة فيما ينطبق عليه، وعليه؛ فلا يجوز التمسك بالعام بعدم إحراز انطباقه بما هو حجة فلا يكون العام حجة في الشبهة المصداقية.

ص: 147

ونوقش ذلك؛ بأنَّ العام ظاهر في شموله لكل فردٍ فرد من مصاديقه بحيث يكون كل فرد موضوعاً للحكم كما تقدم في بحث أدوات العموم؛ فالمقتضي وهو الظهور الإنبساطي الجزئي لكل فرد موجود حتى في الفرد المشكوك، وإنَّما الشك في وجود المانع وهو شمول المخصص، وهو لا يمكن أنْ يكون مانعاً للشك في صدق المخصص عليه.

وأمّا تصنيف العام إلى صنفين فهو مجرد إنتزاع عقلي عن واقع ظهور العام ودلالته فلا عبرة فيه.

وأورد عليه السيد الوالد قدس سره (1) بعدم إحراز بناء العقلاء على الرجوع إلى الأصل في نفي التخصيص في موارد الشبهات المصداقية، مع أنَّه بعد العلم بورود المخصص المبيَّن مفهوماً وتمامية الحجة بالنسبة إلى التخصيص من طرف المولى فلا وجه لجريان الأصل. مضافاً إلى ما عرفت من الإشكال في هذا الأصل من أنَّه لا يجري مع وجود الحجة, ولأجل هذا تحقق الفرق بين الشبهة المصداقية والشبهة المفهومية بين الأقل والأكثر؛ حيث يمكن الرجوع فيها إلى الأصل في نفي التخصيص في الاكثر لعدم تمامية الحجة الأقوى على خلاف العام من الأكثر لفرض إجمال المفهوم فيرجع لا محالة إلى الأصل بخلاف المقام فإنَّ الحجة قد تمت على خلاف العام من طرف المولى فلا يبقى وجهاً للرجوع إلى الأصل.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2) من أنَّ فعلية الحكم إنَّما تتحقق بوصول الحكم إلى المكلف والعلم به وجداناً وتعبداً, لأنَّه إلتزم في حقيقة البعث والزجر اللذين هما قوام فعلية الحكم جعل ما يمكن أنْ يكون داعياً وزجراً, فإذا لم يصل الحكم إلى المكلف ولم يعلم به فلا يمكن أنْ يكون داعياً له أو زاجراً عنه، وبناءً على ما التزم به لا

ص: 148


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص130-131.
2- . نهاية الدراية؛ ج1 ص339.

يكون الخاص حجة في الفرد المشكوك بعدم العلم بانطباقه عليه، فلا يكون الحكم فيه فعلياً على تقدير كونه من أفراده واقعاً، فلا تحصل منافاة من الخاص للعام ليلزم منه تقديمه عليه لأنَّ المنافاة بين الأحكام تكون في مرحلة فعليتها فيصبح التمسك بالعام في المورد المشكوك.

ويرد عليه:

1-ما ذكرناه في أحد مباحثنا السابقة من عدم تقوّم الفعلية بالوصول، فربما يكون الحكم فعلياً مع الجهل به, وعليه؛ فإنَّ الخاص بعنوانه الواقعي ينافي العام لأنَّه يتكفل إثبات حكم فعلي لعنوانه الواقعي مضاد لحكم العام فيكون التنافي بلحاظ المصداق الواقعي للخاص لا بلحاظ المصداق مطلقاً فيكون1- موجباً لتضييق دائرة حجية العام بغير الخاص الواقعي, فلا يصحّ التمسك به في المصداق المشكوك.

2- إنَّ القضايا المتكفلة للأحكام على نحوين:

أحدهما: أنْ تتكفل جعل الحكم على الموضوع المقدّر الموجود، وعلى فرض التحقق ويكون مفادها ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع نظير( أكرم كلَّ عالم).

والآخر: أنْ تتكفل جعل الحكم فعلاً على موضوع خارجي ثابت نظير (أكرم من في الدار).

وقد يصطلح على الأول بالقضايا الحقيقية، وعلى الثاني بالقضايا الخارجية وإنْ كان لهم خلاف في تفسير كلٍّ من القضية الحقيقية والخارجية. والأحكام الشرعية من قبيل القضايا الحقيقة، ومفاد القضايا الشرعية إثبات الأحكام على الموضوع المقدر الوجود, ولا ريب أنَّ المولى في مثل هذا النوع من القضايا لا نظر له إلى انطباق الموضوع على مصاديقه ولم يتدخل, ولأجله يصحُّ له جعل الحكم على

ص: 149

موضوع لا وجود له فيكون مفاد كلُّ دليل هو ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع, أمّا إنَّ الموضوع ثابت أو لم يثبت فلا يرتبط بمدلول الدليل, وعليه؛ كان مقتضى حجية الظهور إنَّه مراد المولى واقعاً, فيكون الدليل بمقتضى أصالة الظهور متكفلاً لتعلق الإرادة الواقعية بثبوت الحكم على الموضوع المفروض الوجود، ويكون الدليل حجة بهذا المقدار.

والحاصل: إنَّ العام يتكفل ثبوت الحكم على الموضوع العام المقدّر الوجود، والخاصُّ يزاحمه في هذا المقام فقط فلا يجتمع الحكمان، ويتقدم الخاص لأقوائيته ويوجب تضييق دائرة المراد الواقعي للعام وقصرها على غير عنوان. وأمّا المصداق الخارجي للخاص فلا يرتبط كل واحد منهما به. وعليه؛ فعدم حجية الخاص في المصداق المشتبه لا يصحّح التمسك بالعام لأنَّه حجة بلا مزاحم. وبذلك يظهر الفرق أيضاً بين الشبهة المصداقية والشبهة المفهومية بين الأقل والأكثر؛ فإنَّ الخاص في الأخير مجملٌ ولم يكن مزاحماً للعام إلا بمقدار كشفه عن المراد الجدي وهو القدر المتيقن, فيكون العام حجة في غيره بلا مزاحم. ومن جميع ذلك يظهر أنَّ ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره في صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية غير تام.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ الخاص يوجب تضييق حكم العام وقصر دائرته ولكنه لا يوجب تغيير موضوع الحكم العام عمّا كانعليه؛ فإنَّه يبقى بعنوانه على موضوعيته للحكم من دون تقييد له بشيء. وهذا هو الذي أوجب اختلاف العام والخاص عن المطلق والمقيد الذي يكون فيه المقيد قد أوجب تضييق دائرة موضوع الحكم وجعله مقيداً فلا يبقى على إطلاقه.

ص: 150


1- . نهاية الأفكار؛ ج2ص519، ومقالات الأصول؛ ج1ص149.

ومِمّا يشهد باختلاف البابين من هذه الجهة هو وقوع التسالم على عدم التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية للمقيد، ووقوع الخلاف في الشبهة المصداقية للمخصص، فلا يتوهم أحد بجواز التمسك بإطلاق الرقبة في إثبات الحكم لمشكوك الإيمان وذلك لأنَّ التقييد يوجب قلب عنوان الموضوع عمّا كان عليه، بخلاف التخصيص فإنَّه لا يوجب قلب الموضوع وتغييره.

وحينئذٍ فإنَّ الشبهة الحكمية وهي الشك في منافاة عنوان الحكم العام كعنوان النحوي لقول المولى (أكرم كل عالم) والشبهة الموضوعية وهي الشك في ثبوت المنافي المفروض منافاته في فرد من أفراد العام؛ كلتاهما تشتركان في الرجوع فيها إلى أصالة العموم في ثبوت الحكم لجميع الأفراد، فإذا ورد الخاص كان مزاحماً للعام في حجيته بالنسبة إلى الشبهة الحكمية دون الموضوعية فإنَّه يبقى العام على حجيته بالنسبة إليها بعد ورود المخصص.

وربَّما يتوهم أنَّ العام لا يكون حجة في الشبهة الموضوعية أيضاً لأنَّ رفع الجهل فيها ليس من شؤون المولى، فإنَّ الجهل فيها لا يختص بالعبد بل يشترك المولى معه, فلا معنى لتصدّيه لرفع الجهل من جهة هذه الشبهة. ولكنه مدفوع بأنَّه وإنْ لم يتصدَّ المولى لرفع الجهل في الشبهة الموضوعية ولكن له نصب طرق وامارات تتكفل رفع الجهل فيها ولو كان هو جاهلاً فيها كما لا يخفى.

ثم إنَّه قدس سره رجع عن ذلك وفصّل بين الشبهة الموضوعية التي تنشأ عن اشتباه الأمور الخارجية؛ فإنَّه لا يكون العام حجة فيه لجهل المولى بها وعدم تصديه لتفهمه باللفظ. وبيّن الشبهة الموضوعية التي يكون منشؤها الشبهة الحكمية؛ فإنَّه يكون العام حجة فيها لكون مرجع رفع الجهل على المولى فله أنْ يتصدى لتفهيم ثبوت الحكم فيه, نظير ما ورد من

ص: 151

عدم صحة الصلاة في النجس؛ فإنَّه خصص عموم الأمر بالصلاة فإذا شك في نجاسة شيء لأجل الشك في جعل النجاسة له كالحيوان المتولد من طاهر ونجس صحّ التمسك بعموم الأمر بالصلاة في إثبات صحتها في جلده.

وعلى هذا يقال بعدم حجية العام في الشبهة الموضوعية في الجملة؛ لأنَّ موضوع الحجية هو الظهور التصديقي للكلام، وهو يتوقف على كون المتكلم بصدد الإفادة والإستفادة وفي مقام إبراز مراده باللفظ وهو يتفرع على التفاته لمراده، ومع جهله كيف يتعلق قصده بتفهيمه.

والمتحصّل من جميع ذلك:

أولاً: وجود الفرق بين التخصيص والتقييد.ثانياً: حجية العام في الشبهة المصداقية التي تنشأ عن اشتباه الحكم؛ دون الناشئة عن الإشتباه الخارجي.

هذا خلاصة ما ذكره قدس سره في المقام على ما نقله بعض مقرري بحثه.

ويرد عليه:

1- إنَّ الفرق بين التخصيص والتقييد -على ما ذكره- مبنائيٌ؛ فإنَّه على مبنى المحقق النائيني قدس سره من التخصيص فإنَّه يرجع إلى إطلاق المدخول, وإنَّ شأن أداة العموم ليس إلا إفادة الإستغراق لا إفادة عموم المدخول، لأنَّه يثبت بالإطلاق ومقدمات الحكمة, ولذا ذكر بأنّ العموم في طول الإطلاق؛ فلا يختلف التخصيص عن التقييد مع أنَّ ما ذكره من التسالم على عدم التمسك بالمطلق في مورد الشبهة المصداقية للتقييد ممنوع.

ص: 152

2- إنَّ ما ذكره لا يتم بالنسبة إلى المخصص الأحوالي الراجع إلى تقييد إطلاق المدخول بلحاظ أحوال الفرد كقولهم (لا تكرم فسّاق العلماء) بالنسبة إلى إكرام كل عالم؛ فإنَّ التعميم إنَّما يكون بلحاظ أحوال الفرد كالفسق وغيره فهو مفاد الإطلاق لا الأداة، فيصادم المخصصُ المزبور إطلاق المدخول فيرجع واقعه إلى التقييد وإنْ سُمّي بالمخصص.

3- إنَّ الموضوع ثبوتاً؛ إمّا أنْ يكون مطلقاً أو مقيداً بغير الخاص أو مهملاً. والثالث ممتنع لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. والأول يجتمع مع التخصيص فيتعين أنْ يكون مقيداً. وعليه؛ كيف يتصور ضيق الحكم مع عموم الموضوع وسعته, فإنَّ الحكم يتبع موضوعه في السعة والضيق.

الوجه الرابع: ما ذكره بعضهم من أنَّ مقتضى إطلاق العام بإطلاقه الأحوالي شموله للفرد المردد أيضاً فيكون العام مبيناً للحكم الواقعي بالنسبة إلى أفراده الواقعية, وللحكم الظاهري بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة(1).

ويورد عليه بأنَّه خلاف المنساق من العمومات التي تتكفل الأحكام الواقعية فقط, إلا إذا دلَّ دليل من الخارج على أنَّها متكفلة للحكمين أو للحكم الظاهري فقط.

الوجه الخامس: إنَّ حجية العام أقوى وأظهر من الخاص(2).

وفيه: إنَّه عين المدَّعى، بل إنَّ فساده غني عن البيان.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ ما قيل في وجه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية غير تامّ.

ص: 153


1- . نقله السيد الوالد قدس سره في تهذيب الأصول ج1 ص131.
2- . المصدر السابق.

والحقُّ مع ما ذهب إليه المشهور من عدم صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وإنْ اختلفوا في بيان البرهان على ذلك..

أدلة عدم صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية

وفيما يلي نذكر أدلة القول على عدم صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية, وهي:

الدليل الأول: ما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) من أنَّ الفرد المردد مشكوك دخوله تحت كلٍّ من العام والخاص فيشك في حجية كلّ واحد منهما بالنسبة إليه, والشك في الحجية يكفي في عدم الحجية. ودعوى أنَّه داخل تحت ظهور العام -كما عرفت سابقاً- مردودٌ بعدم الملازمة بين الظهور والحجية؛ وقد تقدم بيانه.

الدليل الثاني: إنَّ العام بعد التخصيص يكون كالموصوف والوصف، فكما لا يصحّ التمسك بدليل الموصوف مع عدم إحراز الوصف فالمقام كذلك.

وهو حسنٌ ثبوتاً ولكن لا كلية فيه إثباتاً.

الدليل الثالث: إنَّ فعلية الأحكام متوقفة على إحراز موضوعاتها، ومع التردد فيها لا وجه لفعليتها.

ويمكن المناقشة فيه بما ذكرناه سابقاً من أنَّ فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه الواقعي وهو حاصل، وأمّا الحكم الفعلي الخارجي فهو خارج عن مدلول الخطاب.

الدليل الرابع: إنَّ التمسك بالعام في المورد المشكوك يتوقف على دلالة العام على الحكم في الشبهة الموضوعية ولا يكفي ملاحظة دلالته في الشبهة الحكمية, فإنَّ مجرد ملاحظتها فقط لا يمكن من خلاله إثبات حكم الفرد المشكوك، لأنَّ الحكم المطلق يُعلم بخلافه بعد ثبوت التخصيص، والحكم المقيد لا يجدي مع الشك في شرطه. فلا محيص من التمسك

ص: 154


1- . المصدر السابق؛ ص132.

بدلالة العام بلحاظ الفرد المشكوك بنحو الشبهة الموضوعية لإثبات وجوب إكرامه بالفعل؛ الدال بالدلالة الإلتزامية على أنَّه عادل، وهذه الدلالة لا بُدَّ من إثباتها بدليل.

وقد عرفت الوجوه التي يمكن التمسك بها ومناقشتها.

المقام الثانة: إِذا کان المخصص لبیاً
اشارة

والصحيح: إنَّ هذه الوجوه وإنْ أمكن مناقشتها إلا أنَّ المستفاد من مجموعها ذلك، ويعضدها الوجدان العرفي من أهل المحاورة حيث لا يبادرون إلى الحكم بدخول الفرد المردد تحت العام إلا مع قرينة خارجية تدلُّ عليه، وهو مفقود. ولا فرق فيما إذا كان الإجمال في المخصص من حيث المصداق بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي بعد وحدة المناط فيهما وهو التردد في الدخول في العام أو في المخصص, وفي مثله لا يبادر أهل المحاورة بالجزم بالدخول في أحدهما؛ خلافاً لما نسب إلى الشيخ الأعظم قدس سره والمحقق الخراساني قدس سره (1) وغيرهما منالتفصيل؛ حيث ذهب إلى حجية العام في الفرد المردد إذا كان المخصص لبياً وعدم جواز التمسك بالعام في المخصص اللفظي.

وحاصل ما ذكروه في الفرق؛ إنَّ المخصص اللفظي قد ورد فيه ظهوران؛ ظهور العام وظهور الخاص, وتردد الفرد بين الدخول في كلِّ واحد منهما والخروج عنه فلا يكون كلُّ

ص: 155


1- . نسب إليه في فوائد الأصول؛ ج2 ص536، والمحاضرات؛ ج5 ص196. هذا ولكن المحقّق البروجردي قال: (فقد ظهر لك أنَّ الشيخ رحمه اللّه لم يفرق بين اللفظي واللبي بما هما كذلك). راجع نهاية الأصول؛ ص333. والظاهر إنَّ الحقّ معه، فإنَّ الشيخ الأنصاريّ ذکر بأنَّ التخصيص تارةً يوجب تعدّد الموضوعين، وأخرى لا يوجب ذلك، فعلى الأوّل لا وجه لتحكيم العامّ وأغلب ما يكون ذلك إنَّما هو في التخصيصات اللفظيّة، وعلى الثاني يجب تحكيم العامّ وأغلب ما يكون إنَّما هو في التخصيصات اللبّيّة. وتبعه في ذلك المحقّق الخراسانيّ لا مطلقاً؛ بل بالقياس إلى خصوص المخصّص اللبّي الذي لا يصحّ أنْ يتّكل عليه المتكلّم في بيان مراده. [كفاية الأصول؛ ص259- 260].

واحدٍ منهما حجة، وهذا بخلاف المخصص اللبي فإنَّه ليس فيه ظهور واحد وهو ظهور العام والمخصص فيه، وإنَّما هو القطع واليقين, فيكون ظهور العام متبعاً ما لم يقطع بخروج فرد عنه, وحيث لا قطع في الفرد المتيقن دون المردد فيكون ظهور العام فيه متبعاً لا محالة.

ويرد عليه:

1- إنَّه لا فرق بين المخصص اللبي واللفظي في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بعد معقولية الشك في كليهما فيما إذا كان ثبوت التخصص بعنوان كلي كبروي فيهما؛ فلو فرض أنَّ العقل قد حكم بعدم جواز لعن المؤمن، وحصل الشكّ في مصداق ذلك العنوان الخارج بالتخصيص فلا فرق فيه بين القسمين، والتفرقة بينهما غير سديدة. وقد ذكرنا أنَّ المناط في عدم صحة التمسك بالعام هو التردد بين الدخول والخروج, ولا ريب في وجود هذا المناط في الدليلين معاً.

2- إنَّ بناء العقلاء على عدم الرجوع إلى العام في الفرد المردد متحقق في كليهما، وادّعاءُ المحقق الخراساني قدس سره بوجود البناء العقلائي على التمسك بالعام في المخصص اللبي غيرُ صحيح، بل البناء العقلائي على خلافه.

نعم؛ يمكن أنْ يكون الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية صحيحاً في موارد:

المورد الأول: فيما إذا كان للتردد مراتب متفاوته, ويرتفع التردد في بعضها إذا رجعنا إلى العام؛ فيصح الرجوع إليه، ولا فرق حينئذٍ بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي.

وقد ذكر السيد الوالد قدس سره أنَّه بذلك يمكن جعل النزاع لفظياً(1).

المورد الثاني: إذا كانت القضية المجعولة خارجية؛ أي كان موضوعها أفراداً محققةَ الوجود متعينةً بالفعل من الخارج بحيث يعقل أنْ يتصدى المولى لضمان وجود القيد فيها, ولا

ص: 156


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص133.

يستفاد من دليل التخصيص عدم تعهّد المولى بإحراز القيد وإيكاله إلى المكلف؛ كما إذا كان الدليل في مقام التعارض بنحو العموم من وجه لا التخصيص، ولكن قُدِّم العام لصراحته في العموم بحيث لا يمكن رفع اليد عنه، وإنَّه لم يثبت من الخارج فقدان القيد في بعض أفراد العام؛ فإنْ تمَّت هذه الشروط صحّ التمسك بالعام في الشبهة المصداقية, والمثال المعروف هو قول الإمام الباقر علیه السلام في زيارة عاشوراء: (لَعَنَ اللَّهُ بَنِي أُمَيَّةَ قَاطِبَةً) المخصص بالمؤمن منهم، فإنَّ ظاهر القضية كونها خارجية ولم يثبت التخصيص بدليل لفظي، فيمكن التمسك بالعام في المورد المشكوك إيمانه ويقال: إنَّ كلَّ من جاز لعنه فهو ليس بمؤمن، فينتج أنَّ فلان المشكوك إيمانه ليس مؤمناً وإن كان لنا كلام في ثبوت هذه الملازمة تقدمت الإشارة إليه.

ولعلَّ الوجه في صحة التمسك بالعام هو كون مجرد العلم بشرطية الإيمان في الملاك لا يوجب إنثلام ظهور خطاب العام عن عمومه.

وبناءً عليه؛ لا يختص ذلك بالشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبياً, بل يشمل حتى لو كان المخصص لفظياً ولكن لا بُدَّ من توفر الشروط، فإذا انتفى أحدها فلا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

المورد الثالث: أنْ تكون الشبهة المصداقية بنفسها شبهةً حكمية بحيث كان القيد من الأمور التشريعية التي ترجع إلى الشارع, كما إذا ورد الدليل على أنَّ الماء مطهر ثم ورد الدليل المخصص المنفصل الذي يدلُّ على عدم مطهرية الماء النجس, ثم شك في نجاسة ماء معين وعدمها, فإنَّه يجوز التمسك بالعام والحكم بأنَّ كلَّ ماء مطهِّر.

ولعلَّ الوجه فيه يرجع إلى كون القيد من سنخ التشريع الذي يرجع أمره إلى الشارع الذي أمكن للمولى أنْ يتعهد بإحرازه؛ وذلك يجعله كذلك على تمام الأفراد, ومعه لا موجب لرفع اليد عن ظاهر العام في ثبوت حكمه على تمام الأفراد من دون قيد في مقام الجعل.

ص: 157

ولكن ذلك صحيح فيما إذا لم يعلم من دليل التخصيص تقييد الجعل وعدم تعهد المولى بإحراز القيد وعدم العلم بفقدان القيد في بعض أفراد العام إذ في هذه الموارد يصحّ التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ولعل مراد السيد الوالد قدس سره من كون التردد له مراتب متفاوتة هو الموردان الأخيران.

وكيف كان؛ فإنَّ المستفاد من مجموع ما ذكرناه هو أنَّه لا يصحّ التمسك بالعام في الأقسام الثمانية التي ذكرناها في ابتداء البحث إلا في قسم واحد وهو ما إذا كان المخصص منفصلاً وكان مجملاً من حيث المفهوم لتردده بين الأقل والأكثر، فيرجع في المشكوك إلى العام وفي غير هذا القسم لا يصحّ الرجوع إلى العامفيها. كما لا يصح التمسك بالخاص في جميع الأقسام الثمانية لسقوط اعتباره في الفرد المردد عند أهل المحاورة.

ختام فيه أمور:

الأمر الأول: عرفت أنَّ العام يشمل جميع ما يمكن أن يكون فرداً له، وصلاحية الفرد له؛ إمّا أنْ تكون وجدانية، أو تثبت بالأمارة أو بالقرينة المعتبرة؛ داخلية كانت أم خارجية، أو تثبت بالأصل؛ موضوعياً كان أم حكمياً، فمثلاً لو قال المولى: (أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق)، وتردد في العالم بين كونه فاسقاً أو غير فاسق؛ فإذا ثبتت عدالته بالبينة أو جرت قاعدة الصحة فيما صدر منه مِمّا أوجب الشك، أو جرى استصحاب العدالة في حقه فإنَّه في جميع هذه الموارد يجب إكرامه. وسيأتي إنَّه يمكن نفي الفسق عنه بالأصل الأزلي أيضاً.

وبعبارة أوجز: إنَّه كلما أمكن سلب عنوان الخاص عن الفرد المردد بأمارة أو قاعدة أو أصل فإنَّه يشمله العام لوجود المقتضي -وهو ظهور العام في الشمول- وفقد المانع.

الأمر الثاني: لو علم بخروج فرد عن حكم العام ولم يعلم أنَّه لأجل التخصيص أو التخصّص فقد يقال: إنَّ أصالة عدم التخصيص تُثبت كون خروجه عن العام على نحو التخصّص.

ص: 158

وذكر المحقق الخراساني قدس سره (1) أنَّه إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص فإنَّ التمسك بأصالة العموم يُثبت كون الخارج بالتخصص لا بالتخصّيص، لأنَّ العام كما له دلالة على ثبوت الحكم لجميع أفراده بالدلالة المطابقية كذلك له دلالة إلتزامية على أنَّ من لا يثبت له الحكم فليس من أفراده، وهو ما يعبّر عنه في علم المنطق بعكس النقيض؛ فإذا قال (يجب إكرام كل عالم) فإنَّه يكون كقول (من لا يجب إكرامه فليس بعالم)، فإذا علم بعدم وجوب إكرام زيد وشككنا في أنَّه عالم أو غير عالم فإنَّ أصالة العموم تتكفل إثبات عكس النقيض بالدلالة الإلتزامية، فيدلُّ على عدم كونه عالماً, وإنَّه قد خرج بالتخصّص لا بالتخصيص.

ولأجل ذلك ثبت كون الفرد المشكوك ليس من أفراد الخاص, ومثل ذلك قول الإمام الباقر علیه السلام في زيارة عاشوراء: (لَعَنَ اللَّهُ بَنِي أُمَيَّةَ قَاطِبَةً)؛ الذي هو عامٌّ ورد عليه خاص بلسان (يحرم لعن المؤمن منهم)، فإنَّ هذا الخاص يدلُّ بعكس النقيض على أنَّ من لا يحرم لعنه فليس بمؤمن، فإذا تكفّل العام إثبات جواز اللعن فبها، وإلا فبضميمة عكس نقيض الخاص على عدم كون الفرد مؤمناً سيكون خارجاً عن الخاص تخصّصاً لا تخصيصاً.والخلاصة: إنّ دليل العام في المقام لا يتكفّل سوى نفي حكم الخاص عنه وإثبات ضده. وأمّا إثبات أنَّه ليس من أفراد الخارج عنه في حكمه فببركة عكس النقيض في الخاص ينفي التخصيص ويثبت التخصّص.

والصحيح: هو عدم ثبوت ذلك؛ أمّا أصالة عدم التخصّص فلأنَّ الأصل إنَّما يكون معتبراً في مفاده المطابقي دون الملزومات لعدم الدليل على اعتباره بالنسبة إليها إلا إذا كان بينهما تلازم عرفي.

ص: 159


1- . كفاية الأصول؛ ص225.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية فهو قابل للمناقشة؛ لأنَّ العام قد يكون حجة في المدلول الإلتزامي إذا كان هناك تلازم بينه وبين المدلول المطابقي عرفاً، وليس هو حجة في اللوازم، وليس في عكس النقيض مثل هذا النوع من التلازم.

وقد يدّعى بأنّ عكس النقيض لازم بيّن للحكم العام, فإنَّ ثبوت الحكم واقعاً لجميع أفراد العام يلازم نفي العام عما لا ثبوت للحكم فيه.

هذا وقد ذكر بعض الأصوليين إنَّ دلالة العام على عكس النقيض لا تقبل الإنكار. ولكنّ ذلك غير صحيح؛ فإنَّ الأمر ليس بهذه الدرجة من الوضوح في عكس النقيض.

نعم؛ قد يكون ذلك في بعض الموارد لأجل قرائن مقالية أو حالية.

والحاصل: إنَّه لا دليل على اعتبار هذه الملازمة, لاسيما مع عدم مساعدة العرف عليها، فلا بُدَّ من الرجوع إلى العرف أو السيرة أو قرينة تدلُّ على اعتبارها.

الأمر الثالث: ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) بأنَّه إذا ورد عام ثم ورد ما يدلُّ على خلاف حكمه بالنسبة إلى فرد قد تردد بين فردين؛ أحدهما من أفراد العام، والآخر من غير أفراده كما إذا قال (أكرم كلَّ عالم)، ثم قال (لا تكرم زيداً)، وكان هناك زيدان؛ أحدهما عالم، والآخر غير عالم ولم يعرف المراد منه هل هو غير العالم فيكون من باب التخصّص، أو العالم فيكون من باب التخصيص, ففي مثل هذا المورد تمسك بأصالة العموم في إثبات وجوب إكرام زيد العالم, وبها يثبت أنَّ المحكوم بحرمة إكرامه هو غير العالم، وحينئذٍ ينحلّ العلم الإجمالي ببركة أصالة العموم ويتعين الإجمال في أحد طرفيه.

ويظهر وجه الإشكال فيه مِمّا ذكرناه آنفاً؛ فإنَّ أصالة العموم سواء كانت أمارة أم لم تكن فهي ليست حجة في مطلق اللوازم العقلية إلا إذا كانت الملازمة عرفية، لا أنْ تكون إتّفاقية ولم تقم سيرة على اعتبارها، وإلا فلا تكون موجبة للظهور الذي هو مناط الحجية.

ص: 160


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص457.

الأمر الرابع(1): ذكرنا أنَّ العام يشمل جميع ما يمكن أنْ يكون فرداً له, سواء كانت هذه الصلاحية وجدانية أم ثبتت بالأمارة أو بالأصل موضوعياً كان أو حكمياً.

إستصحاب العدم الأزلي

وقد ذكر جمعٌ من الأصوليين بأنَّه يمكن الرجوع إلى الأصل الأزلي في نفي عنوان الخاص في الفرد المشكوك إذا كان مسبوقاً بعدمه, فيقال في العالم المشكوك فسقه أنَّه لم يكن فاسقاً باستصحاب عدم فسقه فيثبت حكم العام فيه.

وقبل الدخول في تفصيل الكلام فيه نقول:

إنَّ الأوصاف إمّا أنْ تكون أعراضاً متأخرة عن وجود الذات وواردة عليه بحيث تكون الذات غير متَّصفة بها في بعض الأحيان كالفسق والعدالة والعلم والجمال ونحو ذلك، وإمّا أنْ تكون من الأوصاف المقارنة لوجود الذات والملازمة لها فتستمر باستمرارها.

ولا ريب في شمول البحث للقسم الأول من الأوصاف والأعراض فكلُّ وصف مسبوق بالعدم يمكن إجراء استصحاب عدمه؛ إمّا بالعدم النعتي أو بالعدم الأزلي فيكون موجباً لتنقيح عنوان الخاص.

وأمّا القسم الثاني فقد وقع الخلاف فيه باعتبار أنَّ الأوصاف الأزلية المقارنة لوجود الذات التي تستمر باستمرارها؛ إنَّه يشكل الأمر فيها، إذ ليس للذات حالة سابقة يُتيقن فيها بعدم الوصف حتى يُستصحب عدمه. وقد وقع الكلام بين الأعلام في إمكان جريان أصالة عدم الوصف الأزلي لإثبات حكم العام للفرد المردد المشكوك. وهذا هو بحث استصحاب العدم الأزلي؛ ومثاله المعروف: إنَّه قد ورد أنَّ المرأة ترى الدم إلى خمسين سنة إلا القرشية فإنَّها ترى الدم إلى الستين, فإذا ترددت امرأة بين كونها قرشية فالدم عندها إلى الستين يكون حيضاً، وبين كونها غير قرشية حيث يكون الحيض عندها إلى الخمسين.

ص: 161


1- . هذا الأمر معقود لبيان مسألة استصحاب العدم الأزلي.

فهذا المرجح لنفي إنتسابها إلى قريش بلحاظ عدم الموضوع هو الأصل الأزلي عندما لم تكن مخلوقة ولم يكن هناك إنتساب أزلاً؛ فإنّ العام يشملها قهراً، إذ إستصحاب عدم عنوان الخاص ينقّح موضوع العام.

وقد وقع النزاع بين الأصوليين في جريان إستصحاب العدم الأزلي، وهذا الإستصحاب تارةً يراد من تطبيقه إثبات حكم العام بتنقيح موضوعه، وأخرى يراد به نفي حكم الخاص في نفسه لو فرض عدم إمكان إحراز موضوع العام به، وثالثةً يكون المراد منه نفي العنوان المسبوق بالعدم بنحو العدم الأزلي لنفي حكمه ولو لم يكن ذلك الحكم تخصيصاً لحكم آخر. ولأجل ذلك لم تكن كلمات المحققين منصبّة على مركز واحد. وللمحقق النائيني قدس سره رأيان في هذه المسألة؛ أحدهما الكلام المنقول عنه في الأصول(1) وهو يقتضي البرهنة على عدم جريان هذا الإستصحاب فيما إذا أُريد تنقيح موضوع العام المخصص به، والآخر ذکره بنفسه في الفقه(2) والذي يقضی بجریان الأصل في الموردين الآخرين.والأقوال في هذا الأصل (إستصحاب العدم الأزلي) مختلفة؛ فقد ذهب جمع من المحققين إلى جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقاً منهم المحقق الخراساني والسيد الوالد (قدس سرّاهما)، وذهب المحقق النائيني قدس سره إلى عدم جريانه مطلقاً، وذهب المحقق العراقي قدس سره إلى التفصيل كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

وقبل ذكر الآراء والأدلَّة لا بُدَّ من بيان أمر وهو: إنَّ المخصص على قسمين:

القسم الأول: ما كان مؤداه هو بيان منافاة بعض الأوصاف لحكم العام فيتكفل الخاص بإخراجه؛ مثل الإستثناء من قولنا (أكرم كلَّ عالم إلا الفاسق)، وكالشرط في مثل (أكرم العلماء إذا لم يكونوا فسّاقاً).

ص: 162


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص465-472.
2- . رسالة في اللباس المشكوك.

القسم الثاني: ما يكون مؤداه دخالة وصف آخر في الحكم؛ مثل (أكرم كلَّ عالم عادل، أو إذا كان عادلاً). وقد ذكر بعضٌ أنَّ محل البحث هو القسم الأول, لأنَّ القسم الثاني يوجب تضييق موضوع الحكم وتعنونه بعنوان زائد على عنوان العام. ولكن الحقَّ جريانه في القسمين سواء كان جريانه لتنقيح موضوع حكم العام أم لنفي حكم الخاص.

وكيف كان؛ فإنَّ الأقوال في هذا المجال ثلاثة وهي -كما تقدم-: القول بالجريان، والقول بالمنع، والتفصيل. والعمدةُ هو ذكر أدلة المانعين، وهي:

أدلة عدم القول بإستصحاب العدم الأزلي

الدليل الأول: إنَّ جريان الأصل في الأعدام الأزلية خلاف العرف المبني عليه الدلالة.

وفيه: إنَّ ذلك لا يضرّ بالإطلاق الثابت في أدلة الإستصحاب إذا لم يكن هناك انصراف لها.

نعم؛ إنَّ استصحاب العدم الأزلي قليل ونادر، وقد ثبت في موضعه أنَّ كثرة الأفراد وقلتها لا توجب الإنصراف.

الدليل الثاني: إنَّ استصحاب العدم الأزلي معارَض دائماً باستصحاب العدم في الطرف الآخر، ففي المثال المتقدم تكون أصالة عدم الإنتساب إلى قريش معارضة باستصحاب عدم الإنتساب إلى غير قريش فيسقطان بالمعارضة.

وفيه: ما ذكرناه في الأمر الأول من أنَّ العام يشمل كلَّ فرد يصلح أنْ يدخل تحته ولو بإجراء الأصل في نفي عنوان الخاص عنه، فالعام يشمل غير القرشي بلا حاجة إلى جريان الإستصحاب في الطرف الآخر لأنَّ مورد العلم هو كلُّ امرأة لم تكن منسوبة إلى قريش، ولو كان عدم هذا الإنتساب حاصلاً من إجراء الأصل فيشمل العام كلّ امرأة صحّ نفي القرشية عنها بأيِّ وجه أمكن إلا أنْ يصير العام مجملاً لجهة من الجهات فلا يصحّ التمسك به حينئذٍ فيجري الأصل في الخاص فيسقطان بالمعارضة.

وبعبارة أخرى: إنَّ الأصل في الطرف الآخر لا أثر له فلا يجري.

ص: 163

الدليل الثالث: إنَّ العدم من حيث هو لا أثر له, وما له الأثر هو عدم انتساب هذه المرأة بالخصوص, فما هو المعلوم سابقاً لا أثر له وما له الأثر غير معلوم سابقاً؛ فلا يجري الأصل.

وفيه: إنَّ المستصحَب ليس ذات العدم المطلق، بل الحصة الخاصة منه المقترنة مع هذه المرأة واقعاً.

وهذه الأدلَّة ذكرها السيد الوالد قدس سره (1) وهي على إيجازها تفي بالمطلوب إلا أنَّ الأصحاب ذكروا كلام المحقق النائيني قدس سره (2) في المقام على تفصيله، ونحن نذكره على سبيل الإيجاز فنقول: إنَّ عدم الخاص تارةً يؤخذ بنحو العدم المحمولي بحيث يرجع إلى فرض موضوع الحكم مركباً من جزئين أحدهما عنوان العام, والآخر عدم عنوان الخاص من دون فرض اتّصاف العام بعدم الخاص, بل يكون عدم الخاص على نحو ليس التامة لا الناقصة. وأخرى يؤخذ عدم الخاص في الموضوع على نحو العدم النعتي الذي يرجع إلى فرض الموضوع وهو العام المتصف بعدم الخاص بحيث يكون عدم الخاص مأخوذاً بمفاد ليس الناقصة. وفي هذا الفرض لا يصحّ استصحاب العدم النعتي لعدم سبق اتصاف الذات بعدم الخاص لأنَّها حين توجد إمّا متَّصفة به أو بعدمه, وأمّا العدم الأزلي المحمولي فهو وإنْ كان في نفسه مجرى الأصل ولكنه لا ينفع في إثبات العدم النعتي إلا بناءً على القول بالأصل المثبت فيبتني البحث على أخذ عدم عنوان الخاص بنحو التركيب أو بنحو التوصيف.

وكلام المحقق الخراساني قدس سره (3) يعتمد على الأول بخلاف المحقق النائيني قدس سره الذي اختار الثاني فحكم بعدم استصحاب العدم الأزلي.

ص: 164


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص134-135.
2- . أجود التقريرات؛ ج 1ص465.
3- . كفاية الأصول؛ ص223.

وقد ذكر في توجيه مبتناه كلاماً طويلاً يبتني على مقدمات أهمها:

المقدمة الأولى: إنَّ التخصيص مطلقاً يوجب تقييد موضوع الحكم العام بنقيض عنوان الخاص؛ فإذا كان وجودياً فيتعنون العام بعنوان عدمي، وإذا كان عنوان الخاص عدمياً تقيّد الموضوع بعنوان وجودي لأنَّ موضوع الحكم أو متعلقه بالنسبة إلى الإنقسامات الأولية الطارئة عليه؛ إمّا أنْ يلحظ مطلقاً بالنسبة إليها، أو مقيداً بوجودها، أو بعدمها. ولا يصحُّ أنْ يكون مهملاً لامتناع الإهمال في مقام الثبوت.

وعليه؛ إذا خصِّص العام فإنَّ الباقي تحت العام إمّا أنْ يكون مقيداً بنقيض الخارج عنه وإمّا أنْ يكون مطلقاً، والثاني ممتنع للزوم التهافت بين دليل العام ودليلالخاص، فلو حكم المولى بحرمة إكرام النحوي مثلاً مع وجوب إكرام العالم سواء كان نحوياً أم غيره؛ فيتعين أنْ يكون موضوع الحكم فيه مقيداً بغير عنوان الخاص؛ وهو المطلوب. ولا فرق في ذلك بين المخصص المتَّصل والمخصص المنفصل وإنْ كان هناك فرق بينهما من جهة أخرى كما عرفت في ابتداء البحث عن العام والخاص؛ وهو أنَّ المخصص المتصل يهدم ظهور العام، والمخصص المنفصل يهدم حجيته.

المقدمة الثانية: إنَّ العنوان الخاص إذا كان من قبيل الأوصاف القائمة بعنوان العام بلا فرق بين العناوين المتأصلة أو الإنتزاعية, فإنَّه لا محالة يكون موضوع الحكم بعد التخصيص مركباً من المعروض وعرضه القائم به، أي: يكون مفاد ليس الناقصة وهو العدم النعتي, لأنَّ انقسام العام باعتبار أوصافه ونعوته القائمة به يكون في مرتبة سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته, فإذا كان المخصص كاشفاً عن تقييد ما؛ فلا بُدَّ أنْ يكون هذا التقييد بلحاظ الإنقسام الأولي؛ أي الإنقسام باعتبار أوصافه فيرجع التقييد إلى مفاد ليس الناقصة, إذ لو كان راجعاً إلى التقييد على نحو مفاد ليس التامة لكان الموضوع في الواقع مركباً من عنوان

ص: 165

العام وعدم عرضه المحمولي؛ فإمّا أنْ يكون ذلك مع بقاء الإطلاق بالإضافة إلى جهة كون العدم نعتاً بأنْ لا يكون مع العام ذلك الخاص سواء كان في الواقع متَّصفاً به أو لا، ففي مثال (أكرم العلماء إلا الفسّاق منهم) يرجع الخاص إلى تقييد العلماء بأنْ لا يكون معهم فاسق سواء كانوا فاسقين أم لا. وإمّا أنْ يكون ذلك مع التقييد من جهة كون العدم نعتاً.

وكِلا الوجهين باطلان؛ أمّا الأول فلكونه محالاً، للتدافع بين الإطلاق من جهة العدم النعتي والتقييد بعدم المحمول. وأمّا الثاني فلاستلزامه اللغوية في التقييد بالعدم المحمولي بعد التقييد بالعدم النعتي لكفاية الأخير عن الأول.

ومن أجل هذا وغيره ذهب قدس سره إلى عدم صحة الرجوع إلى استصحاب العدم الأزلي. وقد عرفت أنَّ عمدة الخلاف بين الفريقين يرجع إلى كون عدم عنوان الخاص مأخوذاً في العام على نحو التركيب أو على نحو التوصيف، وإنْ كان بينهما نقاط اتفاق ونقاط أخرى كانت سبباً لاختلافهم في صحة هذا الأصل، ولا بأس الإشارة إليها:

النقطة الأولى: إنَّ الموضوع في الحكم الشرعي المركب من جزئين؛ إمّا أنْ يلحظ كلّ جزء منهما مستقلاً وبما هو هو موضوعاً للحكم، وإمّا أنْ يلحظ أحدهما بما هو مضاف إلى الآخر ونعت له موضوعاً للحكم؛ فإنَّه على الأول يمكن إحراز ذلك الجزء إثباتاً أو نفياً فيما إذا كانت له حالة سابقة لذلك بما هو هو. وعلى الثاني لا يمكن ذلك إلا إذا فرض أنَّ حيثية الإضافة والنعتية إلى ذلك الجزء كانت ثابتة في الحالة السابقة، وملاحظة الحالة السابقة لنفس الجزء بما هو هوكما في الأول لا تكفي لإثبات الموضوع, فإنَّه وإنْ أمكن إثباته بالأصل وكذا تحقُّق الإضافة ولكن ذلك إنَّما يكون بالملازمة العقلية التي لا تثبت بالأصل الشرعي. وهذه النقطة لا خلاف فيها عند الجميع.

ص: 166

النقطة الثانية: إنَّ الجزئين الذَين أُخذا في المركب إذا فرض أنَّهما جوهران أو عرضان أو جوهراً وعرض لجوهرٍ آخر إنَّما يكونان من القسم الأول الذي ذكرناه في النقطة الأولى, ولا تُعقل النعتية بينهما إلا بعناية زائدة كما إذا أخذ عنوان التقارن بينهما فيكون خارجاً عن هذا البحث, إذ يستحيل أنْ يكون الجوهر نعتاً لجوهر أو العرض نعتاً لعرض آخر أو عرض جوهرٍ نعتاً لغير جوهره.

نعم؛ إذا كان الجزءان جوهراً وعرضه؛ أي المحل وعرضه فإنَّه يمكن فرض تحقق النعتية بينهما وفي غير ذلك يكون كلّ جزء مأخوذاً بما هو هو.

وفي الواقع إنَّ هذه النقطة بمنزلة الصغرى للكبرى التي ذكرت في النقطة الأولى, وهي أيضاً لا خلاف فيها بين الطرفين.

النقطة الثالثة: إنَّ الجزئين إذا كانا جوهراً وعرضه، أي المحل وعرضه بأنْ كان العرض بوجوده جزءاً كالفقير والعدالة فلا بُدَّ أنْ يكون على نحو النعتية لا بما هو هو. وهذه النقطة أيضاً محل وفاق وإنْ كان هناك اختلاف في البرهان عليه وطريق إثباته.

النقطة الرابعة: في الفرض السابق إذا كان الجزءان عرض ومحله فإذا فرض أخذ عدم العرض جزءاً للموضوع المركب فلا بُدَّ أنْ يكون مأخوذاً بنحو التوصيف والنعتية، أي يؤخذ اتصاف المحل بعدم ذلك العرض في موضوع الحكم لما ذكرناه آنفاً. ولأجل ذلك لم يجوّز المحقق النائيني قدس سره إجراء استصحاب عدم القرشية، لأنَّ قرشية المرأة وعدم قرشيتها على حدٍّ سواء بمقتضى البرهان المتقدم، حيث يكون كلُّ واحد منهما جزءاً من الموضوع لا بما هو هو؛ المسمى بالعدم المحمولي حتى يثبت باستصحاب العدم الأزلي الذي هو ثابت قبل تحقق الموضوع, بل قد أخذ بما هو وصف ونعت للمرأة, وقد عرفت أنَّه لا حالة سابقة له, وإنَّما الحالة السابقة هي عدم الإتّصاف، واستصحابُه لا يثبت

ص: 167

الإتصاف بالعدم بخلاف المحقق الخراساني قدس سره ومن تبعه؛ حيث أنكر كون عدم العرض قد أخذ بنحو التوصيف والناعتية لمحله لعدم تمامية ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من البرهان، فيصحّ إجراء استصحاب العدم الأزلي لإثبات حكم العام؛ إذ ظهر أنَّ عدم عنوان الخاص قد أخذ جزءاً من موضوعه على نحو العدم المحمولي, فيكون الخلاف بينهما صغروياً لا كبروياً، فهما يتفقان على إمكان إجراء استصحاب ذلك الجزء بما هو هو إذا كان مأخوذاً كذلك, وعدم إمكانه إذا كان مأخوذاً على نحو التوصيف والنعتية, ولكنهما يختلفان في خصوص الجزء العدمي للموضوع المركب، فإنَّ المحقق النائيني قدس سره أقام البرهان على عدمإمكان أخذه على نحو العدم المحمولي حيث أخذ على نحو النعتية، ولذا لا يصحُّ الإستصحاب العدمي فيه.

وفيما استدل به قدس سره على كون عدم العرض المأخوذ في الموضوع نعتياً أو محمولياً؛ يمكن الإشكال بما يلي على وجه الإجمال:

الإشكال الأول: إنَّ المراد بالنعتية التي ادّعاها بين العرض ومحلِّه تكون على أنحاء:

1- أنْ يكون المراد بها أخذ الوجود الرابط وهو الموجود في غيره الذي هو أخسّ أنحاء الوجود الأربعة في الموضوع.

وأورد عليه: إنَّ الوجود الرابط يكون تحققه في الأعراض المقولية الحقيقية كالبياض مع محله مع أنَّ الأعراض الناعتية لمحلها لا تنحصر بذلك؛ فقد تكون أعراضاً إنتزاعية أو أعراضاً إعتبارية كالزوجية والطهارة ونحوها والتي لا وجود لها خارجاً للعرض مع أنَّها بحسب الفرض تكون أعراضاً ناعتة على حدّ غيرها, فلا يمكن أنْ يكون المراد بها الوجود الرابط الخارجي.

وأورد عليه: إنَّ القصد من الوجود الرابط أعم من المقولية الحقيقية ومن الأعراض الإنتزاعية والأعراض الإعتبارية كما ستعرف.

ص: 168

2- أنْ يكون المراد بها ملاحظة العرض بما هو وجود رابطي لموضوعه، بمعنى ملاحظة تحقّق العرض في الخارجي ليكون موجوداً لغيره ومَظهراً من مظاهره.

وأورد عليه بما أورد على الوجه السابق من إختصاصه بالأعراض المقولية الحقيقية في الخارج ولا تحقق له في الأعراض الإنتزاعية أو الإعتبارية؛ فإنَّه ليس فيهما وجود رابط ولا رابطي في الخارج.

وفيه: نفس ما ذكرناه سابقاً.

3- أنْ يكون المراد بها النسبة التخصيصية القائمة في عالم المفاهيم بين العرض ومحله؛ فإنّ كلَّ وصف ينتزع من المتصف به إنَّما يكون بلحاظ الإتصاف والربط الواقعي الثابت بينهما في لوح الواقع قبل الوجود، وإنَّما يعرض على المتصف به فيكون مفهوم النعتية والوصفية من المفاهيم الإسمية المنتزعة عن النسب الخارجية كمفهوم الظرفية والإبتدائية ونحو ذلك؛ فإنَّ اتّخاذ أحد جزئي الموضوع نعتاً للآخر يعني أخذ هذه النسبة بينهما في موضوع الحكم لا أخذ كلٍّ منهما مستقلاً. وهذا المعنى يشمل جميع الأعراض الإنتزاعية والإعتبارية والحقيقية؛ فإنَّ جميعها أمور واقعية وإن كانت الثانية تختلف عن الأولى في منشأ الإعتبار. ويختص هذا المعنى من النعتية بالعرض ومحله فلا يُتعقل في غيرهما.

نعم؛ يُتعقل بينهما أنواع أخرى من النسب والإضافات.ولعلَّ هذا المعنى للنعتية هو مراد القائلين بالوجود الرابط أو الوجود الرابطي كما في المعنيين الأولين بعد إمكان أنَّ المراد فيهما هو الواقع الرابط أو الرابطي. ولا يتصور هذا المعنى إلا بين العرض ومحله دون غيره من الأنواع التي ذكرناها في النقطة الثانية.

وفيه: إنَّه وإنْ كان صحيحاً ولكنه لا وجه لاختصاص إستصحاب العدم الأزلي بالجزئين

ص: 169

لموضوع مركب إذا أخذ أحدهما نعتاً لمحله كما فرضه المحقق النائيني قدس سره ، بل يجري في كلِّ موضوع مركب أخذ بينهما رابطاً معيناً سواء كان ربطاً نعتياً أم غيره.

وحينئذٍ يأتي البحث في أنَّ الإستصحاب هل هو مفاد كان التامة أو أنَّه مفاد ليس التامة في أحد الجزئين من الموضوع المركب, وحينئذٍ؛ هل يجري أو لا يجري لأنَّه لا يثبت الربط الخاص بينهما كما إنَّه ليست القيود المأخوذة في موضوعات الأحكام الشرعية بأدلة التخصيص أو غيرها تكون دائماً من العرض ومحله بل قد تكون من الأنواع الأخرى التي ذكرناها آنفاً والتي تؤخذ بينهما إحدى النسب التخصيصية الممكنة.

الإشكال الثاني: إنَّ الربط النعتي بالمعنى الأخير غير معقول في العرض ومحله. بل قيل أنَّ مطلق الربط بينهما غير معقول.

والوجه في ذلك يرجع إلى ما قيل من أنَّ العدم لا يكون إلا محمولياً, ولا يعقل أنْ يكون نعتاً للموضوع لأنَّ التخصيص بالمعنى المزبور بين أحد الأمرين لا يأتي بين عدم العرض والموضوع، لأنَّه لا يمكن أنْ يخصص بالموضوع وإنَّما التحصيص يكون دائماً في طرف المعدوم الذي هو صفة للموضوع ومنتسباً إليه في الواقع لا العدم نفسه فيكون العدم على الدوام للحصص لا عدماً محصصاً, فيكون العدم محمولياً دائماً، والربط والتقييد في الطرف المعدوم. والبرهان عليه مذكور في المنطق والفلسفة؛ فراجع.

وأمّا الأوصاف الوجودية الملازمة مع عدم العرض أو مساوقةً له فيمكن أنْ تكون نعتاً للموضوع، وإلى ذلك يرجع كلُّ ما ثبت من النسب التقييدية بين موضوع وعدم عرضه كقوله تعالى: (بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ)(1), وقول سلمان رحمه الله: (وَفَدتُ على الكريمِ بغيرِ زادٍ), وهكذا.

ص: 170


1- . سورة البقرة؛ الآية 68.

ثم إنَّه قدس سره ذكر في الإستدلال على دعواه ثبوتاً أموراً(1):

الأمر الأول: إنَّ إنقسام الموضوع بلحاظ صفاته ونعوته يكون متقدماً رتبة على انقسامه بلحاظ مقارناته الخارجية فلا بُدَّ وأنْ تلحظ أوصاف الموضوع في مقام الجعل في مرتبة أسبق, ومن الواضح أنَّ العدم النعتي وكذا الوجود النعتي يكون من الإنقسامات الأولية المتقدمة في الرتبة على الإنقسام بلحاظ العدم المحمولي الملازم والمقارن خارجاً مع العدم النعتي, فلا محالة يكون موضوع الحكم في الرتبة السابقة مقيداً بالعدم النعتي كما عرفت من أنَّ الإهمال بالنسبة إليه ثبوتاً مستحيل والإطلاق خلف الفرض ويستلزم التهافت مع التقييد بالعدم المحمولي فلا بُدَّ أنْ يكون العدم نعتياً.

الأمر الثاني: إنَّ تقييد الموضوع بالعدم النعتي يغني عن تقييد الحكم بالعدم المحمولي, لأنَّه يرجع بالواسطة إلى تقييد الحكم به لسريان قيود الموضوع إلى الحكم, وأمّا تقييد الحكم بالعدم المحمولي فلا يغني عن تقييد الموضوع بالعدم النعتي, لأنَّ قيود الحكم تسري إلى الموضوع, كما عرفت من أنَّ الاهمال في الواقع محال, وهو إمّا أنْ يكون مطلقاً وهو خلف الفرض ومستلزم للتهافت, وإمّا أنْ يكون مقيداً كان القيد بالعدم المحمولي لغواً فلا بُدَّ من ملاحظة موضوع الحكم مقيداً بالعدم النعتي.

وجميع ذلك قابل للمناقشة بما يلي:

1- إنَّه لا ضرورة -كما يدَّعيها المحقق النائيني قدس سره - في نعتية عدم العرض المأخوذ جزءً للموضوع, لأنَّ العرض إذا كان وجوده جزءً من الموضوع فلا بُدَّ من افتراض أخذه على النحو النعتي الذي يرتبط بالموضوع الذي هو الجزء الآخر, وعليه؛ تكون قرشية المرأة موضوعاً لا ذات القرشية مع ذات المرأة, لأنَّه يستلزم

ص: 171


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص465-472.

منع فعلية الحكم حتى إذا كانت المرأة غير قرشية فيما إذا وجدت قرشية ما في الخارج ولو في موضوع آخر وهو خلف التقييد المقصود للمولى, وهذا إنَّما يصح في جانب الوجود لا العدم, لأنَّ فيه كما يمكن تقييد بالموضوع يمكن تقييد المعدوم به وأخذ نفس العدم محمولياً غير مرتبط بالموضوع, فلا ضرورة بالنسبة إلى العدم كما يراه المحقق النائيني قدس سره .

2- إنَّ افتراض كون الإنقسامات الأولية للموضوع متقدمة في مقام جعل الحكم من الإنقسامات بلحاظ المقارنات والملازمات غير صحيح؛ إذ لا برهان عليه ولا بداهة فيه كما يدَّعيه المحقق النائيني قدس سره , فإنَّ مقام الجعل أوسع من ذلك فإنَّه كما يمكن للمولى أنْ يأخذ العدم النعتي الذي هو من الإنقسامات الأولية, كذلك يمكنه أنْ يأخذ العدم المحمولي المساوق من حيث الصدق مع العدم النعتي, فإنَّ التقييد بأيٍّ منهما يغني عن الآخر؛ نظير تقييد إستقبال القبلة أو إستدبار الجدي لأهل العراق.

3- بطلان ما ذكره من أنَّ تقييد الموضوع بالعدم النعتي يغني عن تقييد الحكم بالعدم المحمولي, لأنَّ الموضوع في الواقع قد يكون مطلقاً من دون استلزامه التهافت, فإنَّ الإطلاق فيه بمعنى ذات الطبيعة بلا قيد وسريان الحكم لا أنْ يكون لحاظ الإطلاق بمعنى ثبوت الحكم مع كلِّ قيد من قيود الموضوع بل هو بمعنى رفض القيود, ومن الواضح أنَّ إطلاق الطبيعة في الرتبة السابقة إنَّما يوجب السراية إلى تمام الأفراد إذا لم يقيد الحكم في الرتبة المتأخرة بما ينافي ذلك, كما في التقييد بالعدم المحمولي.

ومن جميع ذلك وغيره مِمّا هو مذكور في الكتب المفصلة يظهر فساد ما ذهب اليه المحقق النائيني قدس سره في دعواه من الضرورة ثبوتاً في النعتية فلا دليل على مدَّعاه ثبوتاً.

ص: 172

الاستدلال على كون العدم محمولياً إثباتاً

ما ذكره قدس سره في الاستدلال على كون العدم محمولياً في مقام الإثبات وجوه:

الوجه الأول: التمسك بأصالة العموم؛ باعتبار أنَّ المقام من موارد الدوران بين الأقل والأكثر بحسب المفهوم, حيث أنَّ العدم المحمولي والنعتي وإنْ كانا متلازمين بحسب الصدق الخارجي ولكنهما أقل وأكثر من حيث المفهوم, لأنَّ العدم النعتي عبارة عن العدم المحمولي زائداً النعتية التي تعني إضافة إلى الموضوع, فإذا دار الأمر بينهما كان اعتبار أصل العدم معلوماً وإنَّما الشكّ في اعتبار النعتية زائداً على ذلك فينفي بأصالة العموم.

ولكن أشكل عليه بوجوه؛ منها: إنَّ العنوانين متباينان على كلِّ حالٍ, لكون كلُّ من المحمولية والنعتية حدَّين وجوديين للعدم.

وأجيب بأنَّهما كذلك في عالم اللحاظ والتصور لا بالقياس إلى الملحوظين, فإنَّ النسبة بين ما هو الملحوظ في العدم المحمولي مع ما هو الملحوظ في العدم النعتي الأقل والاكثر, فالتباين بين اللحاظين لا الملحوظين, كما هو الحال بين المطلق والمقيد.

وفيه: إنَّ ذلك صحيح فيما إذا كان الملحوظ له الإستقلالية. كما بين الإطلاق والمقيد دون ما إذا كان اللحاظ طريقاً إلى الملحوظ فإنَّه يسري إليه فيكون بين الملحوظين التباين.

وأورد عليه أيضاً بامور أخرى مذكورة في الكتب المفصلة.

الوجه الثاني: إنَّ المخصص سواء كان متَّصلاً أو منفصلاً لا إجمال فيه لكونه ظاهراً عرفاً في العدم المحمولي إذا لم يكن بنفسه دالاً على أخذ العدم النعتي في موضوع العام كقولنا (أكرم كلَّ فقير ولا تكرم الفسّاق منهم), لأنَّ النعتية أمر زائد يحتاج إلى مؤونة بيان فيكون منفياً بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وهذا الوجه لا يفرق فيه بين المخصص المتَّصل والمخصص المنفصل لعدم إجمال المخصص.

ص: 173

الوجه الثالث: إنَّ أصالة الإطلاق التي تنفي التقييد بنحو العدم النعتي تجري من دون معارض, لأنَّ أصل الإطلاق لنفي التقييد بالعدم المحمولي لم يترتب عليه أثر عملي فإنَّه لو أريد به إثبات الحكم للمرأة القرشية فهذا معلوم العدم على كلِّ حال. ولكن هذا الوجه يختص بما إذا كان المخصص متصلاً وأمّا المنفصل فإنَّه يسري الإجمال إلى نفس الإطلاقين. كما إنَّه لا بُدَّ أنْ يكون الأثر العملي المذكور أثراً عرفياً واضحاً حتى يصلح أنْ يكون إطلاق الخطاب مسوقاً من أجله.

الوجه الرابع: إنَّ ظهور التطابق بين جعل الأحكام والغرض والملاك قرينة على أنَّ القيد هو العدم المحمولي لا العدم النعتي.

وهذه الوجوه وإنْ كانت قابلة للمناقشة إلا أنَّ المحقق النائيني قدس سره إستدلَّ بها على عدم إمكان التمسك بالإستصحاب الأزلي فيما إذا أريد به إحراز موضوع حكم العام بالإستصحاب, وذلك لأنَّ مجرد كون العدم نعتياً ثبوتاً يكون مانعاً في عدم الإعتماد على الإستصحاب الأزلي لأنَّه لا يمكن أنْ يحرز به موضوع الحكم المحتمل كونه نعتياً.

وأمّا إذا أريد بالإستصحاب نفي حكم الخاص في نفسه لو كان إلزامياً, أو نفي العنوان المسبوق بالعدم بنحو العدم الأزلي لنفي حكمه كما ذكرنا من موارد تطبيق الإستصحاب الأزلي فإنَّه غير تام, وعليه؛ يصح التمسك به إذا لم يؤخذ العدم قيداً في الموردين لموضوع حكم يراد اثباته بل المراد نفي الحكم المترتب على الموضوع الوجودي بنفي جزء ذلك الموضوع ولو باستصحاب العدم الأزلي.

واستدلَّ على ذلك بأنَّ الناعتية والربطية وغيرها من الموارد وجود ماهية العرض وليس من شؤون نفس الماهية, بل العرض -كالبياض مثلاً- من حيث هي لا ربط ولا ناعتية لها فهي ماهية مستقلة في نفسها, إلا أنَّ طراز وجودها في الخارج وجود ربطي بخلاف

ص: 174

الجوهر الذي يكون وجوده في الخارج وجوداً مستقلاً وفي نفسه, ثم إنَّه إذا كان الوجود والعدم متقابلين والمتقابلان يعرضان على موضوع ومحل -وهو الماهية- على التعاقب؛ فتارةً تتَّصف بالوجود وأخرى بالعدم, وأمّا نفس الوجود فلا يعرض عليه العدم, كما لا يعرض العدم على الوجود فينتج من مجموع ذلك في إستصحاب العدم الأزلي لوصف القرشية مثلاً إنْ أريد به استصحاب عدم الوجود الرابط والناعتية التي هي من طراز الوجود الخارجي للعرض فهو غير معقول كما عرفت آنفاً من أنَّ العدم لا يعرض على الوجود بل يضاف إلى الماهية, وإنْ أريد باستصحاب عدم الماهية القرشية فإنْ كان المراد عدمها الناعت المقابل لوجودها كذلك في الخارج فهذا لا حالة سابقة له, وإنْ كان المراد عدمها المحمولي فهو ليس نقيضاً ومقابلاً للوجود الناعتالمأخوذ في موضوع الحكم بحسب الفرض حتى يكون إستصحابه مجدياً في نفي حكمه بل يكون مقابلاً للوجود المحمولي للقرشية.

ويرد عليه:

1- إنَّ الناعتية ليس بالمعنى الذي ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من الوجود الرابطي, بل كان المراد منها النسبة التحصيصية؛ وهي من المفاهيم الإسمية مع قطع النظر عن الوجود كما عرفت آنفاً فهذا المفهوم هو المأخوذ في موضوع الجعل الشرعي بما هو مرأة عن معنونه الخارجي, والإستصحاب إنَّما يجري بلحاظ هذا المركز نفياً أو إثباتاً ومن الواضح إنَّ العدم يضاف إلى النعتية بهذا المعنى فيقال إنَّ قرشية المرأة كانت معدومة في الأزل فيكون مجرى الإستصحاب.

2- إنَّ على فرض التسليم من أنَّ العدم المحمولي لا يصطلح عليه بنقيض الموجود الناعت للقرشية لكنه رافع لموضوع الحكم, ولانحتاج إلى ما ذكره الفلاسفة من الإصطلاحات في النقيضين.

ص: 175

وبالأخره؛ إنَّ المرجع في رفع موضوع الحكم هو العرف, وهو لا نظر له إلى مصطلحات المناطقة والفلاسفة بعد تمامية أركان الإستصحاب عندهم.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره بعيد عن العرف الذي هو المناط في الموضوع الشرعي ولا يخلو من إشكالات.

فالحقُّ هو جريان إستصحاب العدم الأزلي إذا لم يمنعه مانع شرعي أو عرفي كما هو مفصل في الفقه والأصول.

القول الثالث:التفصيل في جريان إستصحاب العدم الأزلي

القول الثالث(1): التفصيل في جريان إستصحاب العدم الأزلي؛ بين ما إذا كان العرض مأخوذاً من رتبة متأخرة عن وجود الذات وبين ما كان مأخوذاً في مرحلة نفس الذات في وجودها, فيجري في الثاني دون الأول, لأنَّ نقيض الوصف الذي عرض على الوجود هو العدم في تلك المرتبة لاتّحاد النقيضين في الرتبة فلا يصحُّ أنْ يكون أحدها في رتبة والآخر في رتبة أخرى.

وعليه؛ فالعدم الأزلي الثابت في ظرف عدم الوجود لا يكون نقيضاً للوصف العارض على الوجود حتى يكون إستصحابه مجدياً في نفي الأثر الثابت للوصف.

وأمّا إذا كان الوصف الملحوظ في مرحلة الذات فالعدم الأزلي يكون نقيضاً له, لأنَّ نقيض المقيد أعم من نفي القيد والذات والنسبة فيترتب على استصحابه نفي أثر الوصف, ولا فرق في جميع ذلك بين أنْ يكون أخذ الوصف على نحو النعتية أو على نحو التركيب والمقارنة.

ص: 176


1- . وهو الذي ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره ؛ رسالة في إستصحاب العدم الأزلي, ونهاية الأفكار؛ ج4 ص200- 203.

وبعبارة أخرى: إنَّ الوصف إنْ أخذ بما هو شيء في حيال ذاته فإنَّه يجري فيه إستصحاب العدم الأزلي لأنَّه نقيض نفس وجود الوصف فينتفي به أثر الوجود, وإنْ أخذ بما هو قائم في الغير فلا يجري الإستصحاب, لأنَّ العدم الأزلي وفي ظرف عدم الموصوف لا يكون نقيضاً للوصف القائم بالذات؛ لتأخر الوجود القائم بالذات عن وجود الذات فلا يكون نقيضه إلا العدم في ظرف وجود الذات.

واستشكل قدس سره على ما ذكره المحقق النائيني قدس سره بعد حمل كلامه على التفصيل الذي ذكره.

والحقُّ أنَّ ما ذكره قدس سره بعيد من جهاتٍ, أهمها:

الجهة الأولى: إنَّ ما ذكره من التفصيل مختَّص بالبحوث المنطقية والفلسفية التي هي بعيدة عن لسان الروايات؛ لا سيما الواردة في خصوص الإستصحاب التي تبتني على العرف والفهم العرفي كما تقدم منا مكرراً.

الجهة الثانية: إنَّ العرف يرى عدم الفرق بين القسمين من تلك الأعراض بعد الإتّحاد العرفي بين ما يعرض على الذات أو ما يعرض على وجود الذات, كما عرفت سابقاً في ابتداء هذا البحث.

الجهة الثالثة: إنَّ ما ذكره أجنبي عن محط النظر في الإستصحاب الأزلي, فإنَّ محلَّ الكلام عند العلمين الخراساني والنائيني (قدس سرّاهما) كون العدم الذي أخذ في موضوع الحكم هل هو مأخوذ على نحو العدم النعتي أو على نحو العدم المحمولي, فلا بُدَّ أنْ يكون على كِلا الفرضين كون عدم الوصف مأخوذاً من نفس الموضوع وإنَّما يكون الحاجة إلى الإستصحاب الأزلي لإثبات الحكم لا لنفي الحكم الثابت لوجود الوصف على ما عرفت من التفصيل.

ص: 177

وبعد ذلك لا حاجة إلى تطويل الكلام في مناقشة كلامه قدس سره والرد عليه.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ البحث في إستصحاب العدم الأزلي إنَّما يكون صغروياً بعد الإتّفاق على أصل الإستصحاب وكبرى نفي الأصل المثبت, وإنَّما الكلام في أنَّ الأصل الأزلي مثبت أو لا.

هذا ما يتعلق بأصل إستصحاب العدم الأزلي في غير المقام.

وأمّا بالنسبة إلى مبحث العموم فقد عرفت من كلماتهم أنَّه كبروي, لأنَّ الكلام في أنَّ المأخوذ في موضوع الحكم العدم النعتي فلا يجري الأصل, أو العدم المحمولي فيجري الأصل ويثبت الحكم العام للمشكوك, ولأجل ذلك ذكروه في بحث العموم دون مبحث الإستصحاب.

ولكن عرفت الكلام فيه في ابتداء البحث من أنَّه صغروي أيضاً؛ فراجع.الأمر الخامس(1): ما ذكره السيد الوالد قدس سره من أنَّه إذا ما ترددت اليد بين كونها أمانية أو ضمانية, والمسألة مذكورة في الفقه على نحو التفصيل, وإنَّما ذكرها الأصوليون في الأصول باعتبار أنَّ المشهور يذهبون فيها إلى الضمان, فيتوهم ذلك بأنَّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية الذي عرفت عدم جوازه ولذلك نظائرٌ في الفقه.

والجواب عن ذلك يظهر في مطاوي بحوثنا السابقة؛ وهو أنَّ الضمان إنَّما يكون لأجل أصالة احترام ملك الغير التي هي من الأصول النظامية العقلائية المعتبرة, وليس ذلك لأجل العموم حتى يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

الأمر السادس: في العمل بالعام قبل الفحص؛ المعروف أنَّ كلَّ عام أو مطلق إذا كان في معرض التخصيص أو التقييد لايصحُّ العمل به قبل الفحص.

ص: 178


1- . من الأمور الختامية.

وتمام الكلام في هذا الموضوع يقع في مقامات:

المقام الأول: قد إستدلَّ على وجوب الفحص عن التخصيص والتقييد إذا كان العام أو المطلق في معرض كلِّ واحد منهما بوجوه:

1- ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1)؛ وهو بناء العقلاء, لأنَّ أصالة العموم إنَّما كانت بلحاظ هذا البناء, ولم يثبت بناء العقلاء على العمل بها قبل الفحص عن المخصص لو لم يقطع بعدمه.

2- ما ذكره السيد الوالد قدس سره (2) من أنَّ المعتبر الحجية المستقرة دون الشأنية المحضة, فإنَّ الشكَّ في الحجية قبل الفحص يكفي في عدم الحجية, فلا يصح العمل بالعام والمطلق قبل الفحص لعدم استقرار حجيته.

3- الرجوع إلى الشكل الأول الذي هو بديهي الإنتاج وهو: إنَّ ظاهر العام والمطلق قبل الفحص في معرض الزوال, وكلُّ ظاهر يكون كذلك لا اعتبار به, فينتج أنَّ ظاهر العام والمطلق قبل الفحص عن المخصص والمقيد لا إعتبار به, ولا بُدَّ أنْ يقال إنَّ الدليل على الكبرى بناء العقلاء, ويمكن إرجاع كلُّ واحد من هذه الوجوه الثلاثة إلى وجه واحد أيضاً وهو عمدة الوجوه في هذا الموضوع كما لا يخفى وسليمة عن كثير من المناقشات.

4- الإستدلال بأخبار وجوب التعلم والتفقه في الدين, كما فعل المحقق العراقي قدس سره (3) وغيره, وبها استدلُّوا على وجوب الفحص قبل الرجوع إلى الأصول العملية المؤمنة.

ص: 179


1- . كفاية الأصول؛ ص226.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص136.
3- . مقالات الأصول؛ ج1 ص154.

ونوقش بأنَّ الاخبار تدلُّ على لزوم التفقه في الدين وتعلم أحكام الشرع, ومن الواضح أنَّ ذلك لا يدلُّ على وجوب الفحص بمعنى عدم حجية العام قبله, بل إنَّما يدلُّ على وجوب الفحص بعد الفراغ من عدم حجية العام قبل الفحص وإلا كان الأخذ بالعام بنفسه تعلماً للدين وتفقهاً.

وفيه: إنَّ الأخبار إنَّما تدلُّ على وجوب التفقه والتعلم بتعلم الأحكام وخصوصياتها التي من أهمها الفحص عن المخصصات والمقيدات, بلا فرق بين أنْ تدلّ على وجوب الفحص بمعنى عدم حجية العام قبله أو وجوب الفحص بعد الفراغ عن عدم حجية العام قباله الذي هو مدلول بناء العقلاء كما عرفت آنفاً, ولا يضرُّ بأصل المطلوب إختلاف الدلالة, ويشهد إلى ما ذكرنا جملة من الأخبار التي تدلُّ على اللوم والذمّ على ترك السؤال, كما ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام حِينَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَاناً أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ وَهُوَ مَجْدُورٌ فَغَسَّلُوهُ فَمَاتَ؛ فَقَالَ: (قَتَلُوهُ؛ أَلَّا سَأَلُوا أَلَّا يَمَّمُوهُ؟!)(1)؛ فإنَّها تدلُّ على السؤال عن خصوصيات الأحكام, ويشهد أيضاً على ذلك تلك الطائفة التي ورد فيها من أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (عَبْدِي؛ أَ كُنْتَ عَالِماً؟ فَإِنْ قَالَ نعم؛ قَالَ لَهُ: أَ فَلَا عَمِلْتَ بِمَا عَلِمْتَ, وإِنْ قَالَ كُنْتُ جَاهِلًا؛ قَالَ لَهُ: أَ فَلَا تَعَلَّمْتَ حَتَّى تَعْمَلَ )(2)؛ فإنَّ هذه الطائفة تدلُّ على تحصيل العلم على الحكم الشرعي بخصوصياته, والعام قبل الفحص لم يكن دليلاً على الحكم, فهذه الأخبار بجميع طوائفها تدلُّ على المطلوب لو لم نقل إنَّها إرشاد إلى ما ذكرناه من بناء العقلاء في المقام وغيره من إشتراط الفحص في العمل بالأصول العملية؛ فما ذكره السيد الصدر قدس سره من المناقشة غير سديد.

ص: 180


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص68.
2- . الأمالي (للمفيد)؛ ص228.

5- التمسك بالعلم الإجمالي بوجود المخصصات والمقيدات للعمومات والمطلقات, ومعه لا يصحُّ التمسك بشيء منهما لوقوع الإجمال والتعارض فيما بينها, وهذا الوجه تمسك به المحقق النائيني قدس سره (1) وأطال الكلام فيه؛ حيث تعرض إلى بيان وجود العلم الإجمالي وكيفية إنحلاله, ولا حاجة إلى التعرض إليه, إذ سيأتي البحث عنه في محله إنْ شاء الله تعالى.

وفيما ذكرناه من الأدلَّة كفاية في عدم صحة التمسك بالعام والمطلق قبل الفحص عن المخصص والمقيد, ومن جميع ذلك يظهر أنَّ الفحص إنَّما يجب فيما يكون العام أو المطلق معرضاً للتخصيص والتقييد كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة.وأمّا إذا لم يكن العام في معرض التخصيص كالعمومات الواقعة في المحاورات العرفية فيما إذا كان إحتمال التخصيص والتقييد ما لا يعتني به العقلاء فيجب العمل بظاهر العام والمطلق حينئذٍ؛ لثبوت السيرة على العمل به قبل الفحص, ولكن هذا النحو من العام والمطلق قليل جداً.

المقام الثاني: الحقُّ إنَّه ليس للفحص حدّ معين, والمناط كلّه فيه هو إنقلاب الحجية الشأنية بسببه إلى الحجية الفعلية المستقرة, وخروج العام أو المطلق عن المعرضية فيكون الفحص بمقدار تنتفي به المعرضية للتخصيص,و تحقق الملاك في وجوب الفحص به وهو معرضية العام للتخصيص, ومن ذلك يظهر إنَّه يختلف باختلاف العمومات والإطلاقات؛ فكلَّما كثرت التخصيصات والتقييدات وكان العام أكثر تعرضاً يكون الفحص أكثر وأشدّ.

المقام الثالث: إنَّه لا تعتبر المباشرة في الفحص, فتصح الإستنابة أيضاً فيما إذا كان النائب من العارفين بالخطابات الشرعية وعموماتها وإطلاقاتها ومخصصاتها ومقيداتها, ولأجله

ص: 181


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص481 وما بعدها.

صح عمل المقلد الجاهل بتلك الخصوصيات, لأنَّ المجتهد يكون نائباً عنه في هذا الأمر. كما إنَّه يصحُّ الإعتماد على قول الخبير الأمين, وقد دأب الفقهاء عليه وسيرتهم قائمة على ذلك إذا توفر ما يوجب الإعتماد على قوله ويورث الإطمئنان.

المقام الرابع: إنَّه لا فرق فيما ذكرناه بين الأصول اللفظية كأصالة العموم وأصالة الإطلاق وبين الأصول العملية, كأصالة البراءة والتخيير والإستصحاب؛ فيجب الفحص عن الأدلَّة, وعند فقدها يتم الرجوع إلى الأصل العملي الذي يقتضيه المورد؛ ففي أصل الفحص تتَّفق الأصول اللفظية والعملية, إلاّ أنَّه يفترق الفحص في الأصول اللفظية عنه في الأصول العملية من جهة أنَّ الأصول العملية إنَّما يكون اعتبارها يعتمد عليها بعد فقد الأدلَّة فتأخر رتبة إعتبارها يقتضي عدم إعتبارها إلا بعد الفحص واليأس عن الأدلَّة وإلا فلا إعتبار لها حينئذٍ. وهذا بخلاف الأصول اللفظية كأصالة العموم وأصالة الإطلاق؛ فإنَّ حجيتها لأجل الظهور متحققة وإنَّما يتفحص عن المانع عنها.

وبعبارة أخرى: إنَّ الفحص في الأصول اللفظية لدفع المانع بعد وجود المقتضي وهو الظهور وإنَّما الفحص عن دفع احتمال المانع, أمّا الفحص في الأصول العملية إنَّما هو لأجل إثبات أصل المقتضي للحجية, إذ لا مقتضى لها في الأصول العملية إلا بعد فقد الأدلَّة بلا فرق بين الأصول العقلية والنقلية فيكون الفحص فيها عمّا تتم الحجية إذ بدونه لا حجة.

وقد ناقش ذلك المحقق الإصفهاني قدس سره ولا حاجة إلى ذكر مناقشته؛ إذ لا ثمرة في ذلك بعد الإتّفاق على أصل الفحص في كِلا الموردين.المقام الخامس: إذا كان الكلام مجملاً فالرجوع إلى الأصول اللفظية أو الأصول العملية قبل الفحص؛ فإمّا أنْ يتبين بعد العمل إنَّه مطابق للواقع وجامع للشرائط, فالمعروف المشهور هو صحة العمل ولا حاجة إلى الإعادة والقضاء, وإذا كان العمل عبادياً لا بُدَّ من توفر نية القربة. وإمّا أنْ يتبين مخالفته للواقع فتجب الإعادة أو القضاء, والوجه في كلٍّ منهما معلوم.

ص: 182

وهناك فروع متعلقة بكِلا الوجهين مذكورة في الفقه. ثم إنَّ هنا بحوث ذكرها بعض الأصوليين, ولّما لم تكن فيها ثمرة مهمة تُذكر أعرضنا عن ذكرها.

الجهة الرابعة: الخطابات الشفاهية

اشارة

الجهة الرابعة(1): الخطابات الشفاهية

وقع الكلام في تلك الخطابات الشفاهية الواردة في الشرع, مثل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا) الذي ورد في القرآن الكريم في أكثر من ثمانين مورداً؛ في أنَّها تشمل غير المشافهين من الغائبين بل المعدومين أو إنَّها تختَّص بالحاضر في مجلس الخطاب.

والأصوليون قد إختلفوا في بيان محور البحث في هذا الموضوع؛ فقد ذهب المحقق الخراساني قدس سره (2) إلى أنَّ البحث يقع في جهات ثلاث؛ في صحَّة تعلق الخطاب بالمعروض, وفي صحة مخاطبة غير الحاضرين من الغائبين والمعدومين, وفي عموم الألفاظ الواقعة في الخطاب ليشمل غير الحاضرين أو إنَّ الخطاب الواقع بعد أداته مختصة بالحاضرين.

وذهب المحقق النائيني قدس سره (3) إلى أنَّ البحث ينحلُّ إلى نزاعين؛ عقلي وآخر لفظي.

وجعل السيد الوالد قدس سره (4) محور البحث من ناحية أصل جعل القانون, ومن ناحية الخطاب من حيث هو, ومن ناحية البعث والزجر.

ولكن يمكن إرجاع جميع ذلك إلى أمرين؛ وهما العقلي واللفظي اللغوي.

وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّه مِمّا لا شكَّ فيه إنَّ أحكام الشريعة الإسلامية التي هي خاتمة الشرائع الإلهية ثابتة على جميع الناس ودائمة إلى يوم القيامة بإجماع المسلمين قاطبة, بل لضرورة

ص: 183


1- . من الجهات المبحوثة في باب التخصيص.
2- . كفاية الأصول؛ 228-229.
3- . أجود التقريرات؛ ج1 ص480.
4- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص137-140.

الدين, وإنَّما البحث علمي فقط, وقد ذكرنا في ابتداء البحوث التمهيدية في الفقه إنَّ قاعدة الإشتراك من القواعد المهمة وقد تسالم عليها جميع الفقهاء, وذكرنا إنَّ موارد تطبيق الإشتراك إمّا أنْ يكون في الصنف أي الرجال والنساء, أو بين الحاضرين والغائبين في مجلس الخطاب, أو بين الحاضرينوالمعدومين, وذكرنا إنَّ هذه القاعدة بمحاورها الثلاثة هي أساس التشريع وعليهما تعتمد ديمومة الشريعة وتعميمها.

وكيف كان؛ فالبحث يقع في شمول الخطابات الشفاهية لغير المشافهين من الناحيتين المزبورتين. أمّا العقلي فإنَّ عمدة الإشكال فيه من ناحيتين:

الأولى: عدم إمكان مخاطبة الغائب والمعدوم حقيقةً, لأنَّ الخطاب الحقيقي متقوم بالتفات المخاطب وهو مفقود في الغائب والمعدوم.

الثانية: عدم صحة تعليق التكليف الفعلي بالمعدوم عقلاً بمعنى بعثه أو زجره, لعدم قابلية المعدوم للإنبعاث أو الإنزجار فعلاً.

وأمّا اللغوي فإنَّ وجه الإشكال فيه باعتبار أنَّ أدوات الخطاب إنَّما وضعت للخطاب الحقيقي أو الإنشائي كذلك, فيختَّص الخطاب بالمشافهين.

وجميع ذلك غير صحيح؛ وقبل بيان الوجه في ذلك لا بُدَّ من بيان أمر مهم ذي صلة بهذا الموضوع وهو, إنَّ جعل القانون مطلقاً؛ إلهياً كان أو وضعياً بمعزل عن هذا النزاع, فإنَّ مرتبة أصل جعل القانون ثبوتاً إنَّما جعله من حيث هو, فإنَّ إنشائه إنَّما هو مطلوب في حدّ نفسه عقلاً وعادة لا يعتبر فيه وجود مخاطب حين الجعل ويظهر ذلك للوضوح في القوانين الأبدية كما في الشريعة الخاتمة, فإنَّ جعل القانون يصدق فيها حتى في مرحلة اللوح المحفوظ وفي مرحلة إنزالها على قلب نبينا صلی الله علیه و آله و سلم ولو لم يطَّلع عليه أحد, وكذا في مرحلة إثباته ومقام إظهاره فإنَّه يكفي في إظهاره الدواعي المتعددة كداعي إتمام الحجة أو

ص: 184

تمامية البيان على المكلف سواء كان موجوداً أم غير موجود وسواء كان الإظهار على نحو الجملة الخبرية أو الإنشائية على نحو الكتابة أو غيرها من الوسائل مِمّا يمكن به الإعلان والإظهار, حتى إنَّه لو كان الخطاب متوجهاً إلى شخص معين أو جمع خاص فإنَّه إنَّما يكون على نحو المرآتية لكلِّ من يصلح توجيه الخطاب إليه -معدوماً كان أو غائباً- ويمكن لأجل ذلك تأسيس قاعدة في هذا الموضوع وهي: إنَّ الغرض عند الواضعين هو جعل القانون وهو من أهم الاغراض, وأمّا الكيفية الخاصة من البيان فإنَّما تتبع الدواعي الخاصة وجهات أخرى مخصوصة.

فقد يكون البيان على نحو التوصية لشخص معين مثل قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(1), وقد يكون على نحو الإعلان العام لجمع خاص كقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2).

ويدلُّ على ما ذكرناه بناء العقلاء والعرف وأصالة عدم اعتبار شيء في جعل القانون من حيث هو وبيانه وإظهاره من طرف الجاعل فلا يعتبره في جعلالقانون البعث والإنزجار, وغير ذلك؛ فإنَّ القانون إنَّما يجعل بمعنى أعلى من ذلك. وعلى أساس ذلك يمكن تخريج تعدد نزول القرآن مع إنَّه يشتمل على القوانين الدنيوية والأخروية؛ فإنَّه تارةً نزل على اللوح المحفوظ وأخرى على البيت المعمور وثالثةً نزل في مكة أو المدينة متفرقاً ونجوماً حسب الوقائع والمناسبات, وفي جميع أطوار نزوله إنَّما هو قانون أبدي فلا يتَّجه ما استشكلوه في الخطابات الشرعية ولا أساس لتلك المناقشات حينئذٍ.

ص: 185


1- . سورة لقمان؛ الآية 17.
2- . سورة المائدة؛ الآية 1.

إذا عرفت ذلك فإنَّه يمكن الجواب عن الإشكالات المزبورة.

وأمّا من الناحية الأولى؛ فإنَّ الإشكال مبني على كون الخطاب متقوماً بالتفات المخاطبين وهو لا يتحقق في غير الحاضرين ولكنه غير سديد, لأنَّ الخطاب هو إبراز المراد في الخارج بما اشتمل على أدوات الخطاب سواء كان ذلك بداعي التفهيم والتفهم كما هو الغالب, أو بداعٍ آخر كجعل القانون أو التحسر أو التحزن أو التعشق وغير ذلك من الدواعي الصحيحة في العبارات الفصيحة, والنظم البليغ يشهد لتلك الخطابات الصحيحة الفصيحة مع الحيوانات والجمادات, وأعلاها خطابات الله تعالى مع الجمادات مثل قوله تعالى: ( يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي)(1), وقوله تعالى ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)(2), وفي التشريعات إنَّما يكون بداعي جعل القانون للجميع مطلقاً الغائبين والمعدومين وعلى فرض التنزل نقول: إنَّ الحضور المعتبر في الخطاب على أنحاء؛ فمنه الحضور الواقعي الإحاطي من كلِّ جهة كحضور الأشياء لديه عَزَّ وَجَلَّ, ومنه الحضور الإعتقادي كحضور المعبود لدى العابد فيكون للمعبود الواقعي حضوراً واقعياً, ومنه الحضور الخارجي الشخصي كما في المخاصمات, ومنه الخارجي المرئي كما في غالب الوصايا الأخلاقية الدينية, ومنه الفرضي الإعتباري كما في تكلم العاشق مع معشوقته في غيبته, وكلُّ هذه الأنحاءات صحيحة ومعتبرة لدى العقلاء, ويكفي في صحة التخاطب مطلق الحضور وأي وجه صحيح معتبر, والخطابات الشرعية لا تخرج عن الخطابات العرفية الصحيحة فتكون الخطابات الشرعية بلحاظ حضور الأمة حضوراً إعتبارياً لدى الصادع بالشريعة.

ص: 186


1- . سورة هود؛ الآية 44.
2- . سورة سبأ؛ الآية 10.

أمّا الإشكال العقلي من الناحية الثانية فإنَّه مبني على الإنبعاث والإنزجار الفعلي منهما فإنَّه حينئذٍ لا يصحُّ بالنسبة إلى الغائب والمعدوم.

وأمّا إذا كان المبنى هو إمكان الإنبعاث والإنزجار فهذا المقدار يكفي في إتمام الحجة والبيان من طرف المولى, فلا فرق فيه بين الحاضر والغائب والمعدوم؛ لصحة إمكان الإنبعاث والإنزجار بالنسبة إليها أيضاً, مع إنَّه لو أريد من الإنبعاثوالإنزجار الفعلي منهما من كلِّ جهة فلا أثر له حينئذٍ حتى بالنسبة إلى الحاضرين ما لم تتحقق جميع شرائط الفعلية؛ وهو نادر.

وأمّا الإشكال اللغوي المبني على كون أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي فيقتصر على الحاضرين, فإذا استعملت في غيرهم من الغائبين والمعدومين كان في غير الخطاب الحقيقي, ولكن الحقَّ ما عرفت من أنَّ الخطاب الإنشائي لا يختَّص بالحقيقي, فإنَّ الدواعي مختلفة ومن أهمها جعل القانون الذي يعمّ الحضور الإعتباري أيضاً.

ومن الجميع تظهر وجوه المناقشة فيما ذكره الأعلام في المقام؛ فإنَّه لم يقم دليل على اعتبارها مع إنَّها تطويل بلا طائل تحته.

ثمرات البحث المذکورة في المقام

وعليه؛ فلا ثمرة في هذا البحث مطلقاً سوى ما يقال:

أولاً: من حجية الظواهر بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين وصحة التمسك بالإطلاقات بناءً على الشمول واختصاصها بمن قصد إفهامه بناءً على اختصاص الخطاب بالحاضرين الذين قصد إفهامهم فلا يعلم دخولنا فيمن قصد إفهامه كما اختاره المحقق القمي قدس سره (1).

ولكنه مخدوش كبرى وصغرى؛ فإنَّ الظهور حجة مطلقاً وبطلان إختصاصه بمن قصد إفهامه, مع إنَّه يمكن القول بأنَّ من قصد إفهامه جميع الأمة كما سيأتي البحث عنه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 187


1- . قوانين الأصول؛ ج1 ص398-403.

وقد عرفت مِمّا سبق بطلان إختصاص الخطاب بالحاضرين ومن قُصد إفهامه فقط.

ثانياً: إنَّ الخطاب إذا فرض الشكّ فيه بحيث لم يعلم كونه عاماً يشمل المعدومين والغائبين كما إذا كان الحكم وارداً بلسان المخاطبة مثل (يا أيُّها الناس تجب عليكم الصدقة) بحيث يكون موضوع الحكم من يشمله الخطاب فيتحدد الموضوع بحدود من قصد بالخطاب.

وحينئذٍ؛ إنْ قلنا باختصاص الخطاب بالحاضرين لا يثبت الحكم للمعدومين والغائبين لاختصاص موضوعه بالمخاطبين, بخلاف ما إذا قلنا بالتعميم؛ فإنَّهم يدرجون في موضوع الحكم ويصحُّ التمسك به لإثبات حكمهم. واحتمال كون الحاضر مأخوذاً على نحو المرآتية يحتاج إلى دليل.

ولكن عرفت مِمّا سبق بطلان هذه الثمرة؛ فإنَّ التشريعات إنَّما تكون على سبيل جعل القانون الشامل لجميع أفراد الناس كما عرفت بما لا يزيد عليه, إلا إذا قامت قرينة على اختصاص الحكم بشخص أو طائفة خاصة, فلا بُدَّ من إتّباع القرينة واختصاص الحكم بذلك الموضوع الخاص, مع إنَّه لو فرض الشك في اختصاص الحكم بمن قصد إفهامه فمقتضى الأصل عدمه, فلا موجب لتقييد الإطلاقاتوالعمومات بخصوص المشافهين, والصحيح؛ إنَّه لا ثمرة عملية بل لا علمية لهذا البحث.

تنبيه:

ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) في المقام إنَّ الخطاب إذا كان مجعولاً على نهج القضية الخارجية فيختص بالمشافهين, وإذا كان مجعولاً على نهج القضية الحقيقية فيعمّ الغائبين والمعدومين؛ لأنَّ القضية الحقيقية تستبطن بنفسها تقدير وجود الغائبين والمعدومين وتنزيلهم منزلة الموجودين فيشملهم الخطاب.

ص: 188


1- . أجود التقريرات؛ ج2 ص489-490.

وأورد عليه بأنَّ ذلك لا يحلُّ المشكلة, لأنَّه على فرض تنزيل المعدومين والغائبين منزلة الموجودين في مقام المخاطبة فإنَّه لا يجدي في شمول الخطاب لهم, لأنَّ التنزيل إنَّما يفيد في الآثار الشرعية أو الإعتبارية دون الأمور التكوينية التي منها المخاطبة؛ فإنَّها لا تقبل التنزيل.

وفيه: إنَّه قدس سره لم يُرِد من ذلك التنزيل المذكور, بل جعل موضوع القضية الحقيقية هو كلُّ من يبلغه الخطاب ونحوه كما عرفت, مضافاً إلى أنَّ القضية الحقيقية ليس في موضوعها التنزيل بل الموضوع الفرض والتقدير كما هو المفصل, فلا يرد عليه الإشكال المزبور وغيره مِمّا لم نذكره, هذا وإنَّ جعل الأحكام الشرعية قضايا حقيقية خلاف التحقيق.

الجهة الخامسة: تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ومدلوله

اشارة

إذا ورد عام وتعقبه ضمير فلا يخلو من حالات:

1- أنْ يرجع إلى جميع أفراد العام.

2- أنْ يرجع إلى بعض أفراده.

3- أنْ نشكَّ في الرجوع إلى بعض أفراده أو إلى الجميع.

أمّا الحالة الأولى؛ فلا إشكال في حجية العام في جميع أفراده؛ لأصالة التطابق بين الضمير والمرجع أو أصالة عدم الإستخدام التي هي عبارة أخرى عن أصالة التطابق وهما من الأصول المحاورية المعتبرة.

وأمّا الحالة الثانية؛ فلا إشكال أيضاً في اختصاص الحكم بذلك البعض وسقوطه بالنسبة إلى غيره كما إذا قال: (أكرم العلماء بإعطائهم الخمس), وعلم من الخارج أنَّ المراد من الضمير هو خصوص علماء الدين فيعطي لهم الخمس فقط فلا حجية للعام بالنسبة إلى غير علماء الدين للعلم من الدليل الخارجي على التخصيص, بلا فرق بين أنْ يكون كلّ منهما في كلام واحد أو يكون في كلامين لاحتفاف العام بالقرينة الصارفة عرفاً.

ص: 189

ولا بُدَّ من تحرير العنوان في كلِّ الحالات؛ لا سيما الثانية والثالثة, فيقال إذا كان هناك عام قد علق عليه حكمان وكان الموضوع في أحد الحكمين ضميراً يرجع إلى بعض ذلك العام فهل يستوجب ذلك تخصيص العام بخصوص ذلك البعض في كِلا الحكمين أم لا؟.

والأصوليون -ومنهم المحقق الخراساني قدس سره (1)- فرضوا الكلام تارةً فيما إذا وقعا في كلام واحد, وأخرى فيما إذا وقعا في كلامين؛ ففي الأول قالوا بأنَّ الضمير يرجع إلى العام بتمام أفراده لأصالة التطابق بين الضمير ومرجعه الذي عرفت أنَّهما من الأصول المحاورية المعتبرة ومثلها أصالة عدم الإستخدام, وأما إذا كانا في كلامين أو كانا من كلام واحد مع إستقلال العام بما حكم عليه من الكلام كقوله تعالى:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)(2)؛ حيث أنَّ المراد من العام الأعم من البائنات والرجعيات, فالحكم فيه تامّ وبالضمير خصوص الرجعيات. فإنَّ الأمر حينئذٍ يدور بين التصرف في العام بإرادة المخصوص الذي هو المراد من الضمير الراجع اليه, وبين التصرف من ناحية الضمير إمّا بإرجاعه إلى بعض ما يراد من مرجعه أو بإرجاعه إلى تمامه بنحو المجاز في الإسناد كما عرفت.

فهنا أصلان متعارضان وهما أصالة العموم وأصالة التطابق بين المرجع والضمير التي هي عبارة أخرى عن أصالة عدم الإستخدام كما تقدم آنفاً, والعمل لكلِّ واحد منهما يستلزم سقوط الآخر.

والحقُّ أنْ يجعل محور النزاع بين ما إذا كان هناك علم بالمراد الإستعمالي من الضمير وهو البعض فيكون التصرف في المراد الإستعمالي للعام فقط, وبين أنْ يكون هناك علم بالمراد الجدي من الضمير وهو الخصوص مع احتمال كون المراد الإستعمالي منه العموم.

ص: 190


1- . كفاية الأصول؛ ص271.
2- . سورة البقرة؛ الآية 228.

فيرجع النزاع إلى احتمال تمامية العموم لأجل أصالة عدم الإستخدام, وأصالة التطابق بين المرجع وضميره, وأيَّاً ما كان فإنَّ البحث يقع في مقامين:

الأول: فيما إذا علم بأنَّ المراد الإستعمالي للضمير هو الخصوص دون العموم, وفي هذه الحالة يكون مقتضى التطابق بين المراد الإستعمالي للضمير ومرجعه هو إستعمال العام في الخاص, وإلا يلزم الإستخدام, نظير قولنا: (رأيت أسداً وضربته), وعلمنا بالمراد من الضمير خصوص الرجل الشجاع, فإذا أردنا من الأسد الحيوان المفترس يكون خلاف الأصل, فيبتلى أصالة العموم في المقام بالمعارض في مرحلة المدلول الإستعمالي للكلام.

وقد وقع الكلام إمّا في منع إجراء أصالة عدم الإستخدام في الضمير أو في منع أصالة العموم في العام في نفسه, ولكلِّ واحدٍ من الإحتمالين وجه توسلوا به.أمّا الأول؛ فلأجل ما قيل على سبيل القاعدة العامة من أنَّ الأصول اللفظية لا تكون حجة إلا في مقام الكشف عن المراد عند الشكِّ فيه مع العلم بالإستناد دون العكس؛ أي: كان الشكُّ في الإستناد مع العلم بالمراد, وقد طبق المحققون من العلماء هذه القاعدة في موارد كثيرة؛ منها: إستدلالات السيد المرتضى قدس سره على الوضع بالإستعمالات الواردة في كتب اللغة والأدب, ولا بُدَّ أنَّ يكون المخرج لها هو التمسك بأصالة الحقيقة في مورد يعلم فيه بالمراد الإستعمالي للمتكلم, ولكن الشك حصل من أنَّه أراده على وجه الحقيقة أو المجاز.

وبعبارة أخرى: هل استند في إرادته الوضع لكونه معنىً حقيقياً أو إلى القرينة والمناسبة لكونه مجازاً.

ومنها: موارد الدوران بين التخصيص والتخصص بناءً على أنَّ التخصيص يكون في المدلول الإستعمالي دون المدلول الجدي.

وغير ذلك من الموراد.

ص: 191

والمقام من صغريات هذه القاعدة؛ حيث أنَّ المراد الإستعمالي من الضمير معلوم بحسب الفرض, لكن الشك في إنَّه هل يكون وجه الإستخدام الذي هو كالمجاز لكونه خلاف أصالة الظهور التي منها تشعبت الأصول اللفظية أم لا؟. ولذا ذهبوا إلى عدم حجية أصالة الظهور في مثل ذلك.

وقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره في توجيه هذه القاعدة العامة بأنَّ مدرك حجية الظهور إنَّما هو السيرة والبناء العقلائي اللذين هما من الأدلَّة اللبية, فيقتصر فيه على القدر المتيقن منه وهو ما إذا أريد بالظهور إثبات المراد الإستعمالي.

وردّ بأنَّ الأدلَّة اللبية ليست على وتيرة واحدة في الأخذ بالقدر المتيقن عند الشك في إطلاقها فإنَّه يتم في الإجماع, وأمّا السيرة العقلائية فليس الأمر كذلك؛ فلا بُدَّ من قيام نكتة عقلائية في التفصيل, فإنَّ العقلاء ليس لهم أحكاماً تعبدية خاصة كما هو واضح, فإذا كان حكماً عقلائياً فلا بُدَّ أنْ يدركه كلّ العقلاء من دون اختصاص بعصر, فإنَّ الأحكام العقلائية يشترك فيها جميع العقلاء.

وذكر السيد الصدر قدس سره (1) في بيان وجه النكتة بأنَّها إمّا راجعة إلى الضعف في درجة الكاشفية والأمارية التي هي ملاك الحجية عند العقلاء فتكون نكتة طريقية, وإمّا أنْ تكون نكتة نفسية في موضوع الحجية العقلائية, كما هو الحال في حجية الظهور؛ فإنَّها قد تكون على أساس حسابات الإحتمال والمنطق الإستقرائي فلا تخرج النكتة عن أحد هذين الوجهين, فالحجج العقلائية في غير الإطمئنان تبتنيعلى مجموع أمرين؛ الكاشفية والأمارية الثابتة على حسابات الإحتمال والمنطق الإستقرائي.

ص: 192


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص373.

ثم إنَّه على ضوء ما ذكره في المقام فقد إلتمس التوجيه لتلك القاعدة العامة وإثبات صحة الكبرى, فقال: إمّا أنْ يكون من النوع الأول أو النوع الثاني, وهذا ما يوجب عدم إمكان التمسك بأصالة الحقيقة أو غيرها مِمّا هو من صغريات الظهور لإثبات الإستناد, فذكر في بيان طويل في وجه النكتة وهي إمّا الإعتماد على الطريقية أو الإعتماد على النفسية, وهما مِمّا يقتضي إختصاص الأصل بغير موارد الشكّ في الإستناد, وخلاصة ما ذكره: أمّا النكتة الأولى -وهي النكتة الطريقية- فإنَّ أمارية الظهور في مقام الكشف عن المراد أكثر وأقوى إحتمالية من أماريته في مقام الكشف عن الإستناد, وذلك لأنَّ هذه الأمارية قائمة على أساس الغلبة النوعية في أنَّ المتكلم لا يستعمل اللفظ خصوصاً مع عدم القرينة إلا في معناه الحقيقي, فلو فرضنا أنَّ هذه الغلبة تكون بنسبة 2\3 -أي في كلِّ ثلاث إستعمالات كذلك يكون إثنان منها في المعنى الحقيقي-, ولذا لا معارض لهذه الأمارة الناشئة من الغلبة لا معارض نوعي لها في المجال الأول, أي الكشف عن المراد, ولكنها معارضة بأمارة نوعية مخالفة في المجال الثاني, أي إثبات القضية اللغوية, لأنَّ إحتمال أنْ يكون اللفظ حقيقة في المعنى المخصوص أضعف من إحتمال العكس لكثرة المعاني وقلة الألفاظ بالنسبة إليها, فليس إحتمال وضع شخص هذا اللفظ لا يكون إلا ضعيفاً جداً.

وقال: إنَّ هذه النكتة لا تتمُّ في المقام؛ حيث أنَّه بأصالة عدم الإستخدام لا يراد إثبات قضية لغوية بل يراد إثبات المراد الإستعمالي من العام هو الخصوص لا العموم, كما إنَّها لا تجري في موارد الدوران بين التخصيص والتخصص.

وأمّا النكتة الثانية, وهي النكتة النفسية في موضوع ظهور الحجة عند العقلاء بأنْ يكون موضوع الحجية مقيداً بقيد موضوعي مفقود في موارد الشكّ في الإستناد, فيكون عدم الحجية من باب عدم ثبوت ذات الحجية لا أنْ يكون الظهور محفوظاً ولكنه ليس بحجة

ص: 193

كما أفاده المحقق الخراساني قدس سره , ثم ذكر في تقريبه وجهين يرجعان إلى روح واحدة بأنْ يقال في الأول إنَّ العقلاء إنَّما يبنون على حجية الظهورات التصديقية الكاشفية عن المرادات لا إحراز صغرى ما أخبر به المتكلم وتشخيصها, فيكون محققاً لعنوان الاخبار الذي يكون حجة؛ إمّا لأجل كونه من إنسان معصوم, أو من يقطع صدقه, أو من إنسان قوله حجة لكونه ثقة أو لكونه إقراراً؛ فينفذ فيما عليه. وغير ذلك من الوجوه.

والمقام ليس من هذا القبيل, لأنَّ ما أخبر به المتكلم معلوم بحسب الفرض, وإنَّما يراد التمسك بالظهور لإثبات أمر وراء ذلك وهو القضية اللغوية, وعليه؛ لا يوجد في موراد إستدلالات السيد المرتضى قدس سره موضوع الحجة العقلائية, بخلافموارد الدوران بين التخصيص والتخصص أو موارد الشك في الإستخدام, فإنَّ الغلبة منها تشخيص المراد من العام وإحراز قصده منه وحدود إختياره.

ويقال في الوجه الثاني بأنَّ الحجة عند العقلاء إنَّما هو ظهور التطابق بين ما هو المدلول التصوري للكلام وما هو المدلول الإستعمالي أو الجدي ولوازمه, فلا بُدَّ من الإنتقال من المدلول التصوري للكلام دائماً في مقام الإستكشاف, وهذا لا يكون إلا في موارد الشك في المراد مع وجود مدلول تصوري للكلام لا يشك في الإستناد, واستنتج من جميع ذلك أنَّ تلك القاعدة على إطلاقها ليست صحيحة وإنَّما تصح في موارد إستدلالات السيد المرتضى قدس سره لا من أجل تخصيص دليل حجية الظهور فيها بل لأجل التخصص وعدم ثبوت موضوع ما هو الحجة العقلائية في باب الظهورات. وأمّا في محل الكلام فالظهور المذكور -أعني أصالة عدم الإستخدام- تامّ, فيكون حجة ومعارضاً مع أصالة عموم العام.

ولا يخلو ما ذكره من المناقشة من وجوه:

1- إنَّ المناط في الأصول اللفظية ليس ما ذكره من النكتتين, بل هو الظنُّ النوعي عند العقلاء لا خصوص الظنون الشخصية حتى يحسب فيها الإحتمالات ومنطق الإستقراء,

ص: 194

وذلك الظن النوعي له دواعي عقلائية؛ منها: إحتمالات الإصابة للواقع, ومنها: تنظيم النظام النوعي للإجتماع الإنساني, فاعتبر العقلاء تلك الأصول لتنظيم العلاقات الإجتماعية التي بقيامها على الوجه الصحيح يسعد الإنسان؛ فرداً واجتماعاً, ولا دليل على كون حساب الإحتمالات هو السبب في الإعتماد على الأصول اللفظية.

2- إنَّ الحجية إنَّما هي إعتبار خاص يجعلها الجاعل سواء كان المولى عَزَّ وَجَلَّ أم غيره لأمور واقعية كتنظيم النظام أو جلب السعادة والخير للإنسان فرداً أو إجتماعاً أو غير ذلك, ولا تبتني الحجية على حسابات الإحتمالات والمنطق الإستقرائي, فإنَّ موضوع هذا المنهج الإستقرائي هو الأمور المادية العامة والحجية بمعزل عن ذلك كلِّه على ما سيأتي بيانه في بحث الحجية إنْ شاء الله تعالى.

3- إنَّ ما ذكره من أنَّ موضوع الحجة عند العقلاء مقيد بقيد موضوعي مفقود في موارد الشكّ في الإستناد, فيكون عدم الحجية من باب عدم ثبوت ذات الحجية يحتاج إلى دليل يدلُّ على التقييد المذكور, فإنَّ العقلاء إنَّما يحكمون بحكم بعد مراجعة ما يرتبط بالموضوع المحكوم عليه وما يترتب على حكمهم من الأغراض والدواعي الملحوظة في أصل جعل الحكم, وفي الظهورات إنَّما يبنون حجيتها على تحقق تلك الملاحظات, ولا بُدَّ أنْ يكون جعلها نوعياً للكشف عن المرادات لا أنْ يكون شخصياً لتعيين ما أخبر به المتكلم.

4- إنَّ الحجة عند العقلاء لا تكون حجة إلا بعد استيفاء جميع الإحتمالات الصحيحة, فلم تستقر الحجة عندهم إلا بعد تمامية المقتضي ورفع الموانع, ولذا يتَّفق عليها العقلاء بما هم عقلاء وتكون حجة لا إختلاف بينهم في جميع الأعصار والأمصار.

ص: 195

نعم؛ ربما تختلف الدواعي من جيل إلى جيل أخر كما هو واضح, ومن ذلك يظهر أنَّه لا وجه لما ذكره قدس سره من ضعف درجة الكاشفية والأمارية أو جعل النكتة نفسية, ولو كان الأمر كما ذكره لاختلفت الحجج بحسب الأفهام العرفية, وتباينت من عصر إلى عصر آخر, أو من قوم إلى قوم آخرين وغيرها, والآثار السلبية المترتبة على ذلك واضحة.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ ما ذكره قدس سره لا يمكن الإعتماد عليه, كما إنَّ القاعدة المزبورة التي ذكرها المحقق الخراساني قدس سره تبين على أنَّ العام المخصص يكون مجازاً, وقد عرفت بطلان ذلك, وإنَّ العام يبقى على عمومه بعد التخصيص, فإنَّه لا ريب في جريان أصالة العموم وعدم محذور فيه بالإرادة الإستعمالية ولا الإرادة الجدية كما ستعرف.

فالصحيح أنْ يقال: إنَّه إذا تحقق بناء العقلاء على أمر له الكشف والأمارية فلا بُدَّ أنْ يكون ما يرتبط بذلك تاماً عندهم كما عرفت, فيثبت له العموم والإطلاق ليشمل جميع موارد تطبيقه, ففي المقام لا بُدَّ أنَّ بناء العقلاء في الأصول اللفظية والظهورات يشمل المراد الإستعمالي والمراد الإستنادي, وعند عدم جريان تلك الأصول في بعض الموارد -كالمراد الإستنادي- إنَّما يكون لأجل بناء آخر منهم على ذلك, فإنَّ الأغراض تتفاوت وليس لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من الأخذ بالقدر المتيقن, لأنَّ بناء العقلاء وسيرة العرف من الأدلَّة اللبية, ولعله قدس سره يريد بذلك ما ذكرناه من تحقق بناء عقلائي آخر على عدم جريان الأصول اللفظية في الكشف عن المراد الإستنادي في مورد العلم بالمراد الإستعمالي, ففي المقام يكون الظهور المستند على عدم الإستخدام تاماً ويكون حجة ويكون معارضاً مع أصالة العموم, سواء كان الضمير منفصلاً أو متَّصلاً ولكن العلم بالتخصيص أوجب الإجمال في الظهور العام.

ص: 196

ثم إنَّه قد يقال بأنَّه على فرض عدم الإستخدام في المقام يمكن التمسك بأصل آخر يكون معارضاً لأصالة العموم وهو أصالة تطابق الضمير مع مرجعه, ولكن الحقَّ أنَّه لا فرق بين أصالة عدم الإستخدام وأصالة التطابق بين المرجع والضمير فإنَّه يرجع كلُّ واحد منهما إلى الآخر في المقام, فإذا علمنا بالمراد من الضمير وهو التخصيص فلا بُدَّ أنْ يكون المرجع هو الخاص بعد عدم جريانأصالة العموم الذي يرجع إلى أصالة الحقيقة بعد تحقق بناء العقلاء على عدم جريان الأصل في الإستناد عند جريان الأصل في المراد.

نعم؛ لو قلنا ببقاء المرجع على عمومه وتمّ ظهوره فلا بُدَّ من صرف الضمير إلى ما يوافق المرجع لئلا يستلزم الإستخدام فيكون هذا الأصل وهو التطابق بين المرجع وضميره من الأصول اللفظية الذي له طرفان؛ فتارةً نرجع إليه في صرف العموم إلى التخصيص إذا علمنا بالمراد الإستعمالي للضمير, ويرجع إلى أصالة عدم الإستخدام, وأخرى نرجع إليه في صرف الضمير عند الشك في المراد منه إلى عموم المرجع وإلا إستلزم الإستخدام, ولكن عرفت تقديم الأول, ويكون مفاده حينئذٍ مفاد أصالة عدم الإستخدام.

ومن جميع ذلك يظهر ما في كلام المحقق الخراساني قدس سره من أنَّه بعد إبطاله أصالة عدم الإستخدام لكونه من الشك في الإستناد حاول إبطال التمسك بأصالة العموم أيضاً لأنَّ مجرد إبتلاء العام بذات الظهور في عدم الإستخدام يكون كافياً في إجماله وعدم إنعقاد عمومه لاحتفافه بما يصلح للقرينة على إرادة الخصوص, ولكن عرفت أنَّه بعد جريان الأصل في الضمير وظهور التطابق بين الضمير ومرجعه يكفي في منع إنعقاد العموم هذا في المخصص المتَّصل أو يكون بمثابة المتَّصل الذي يثبت المدلول الإستعمالي للضمير إذا كان الضمير منفصلاً ولم يكن بمثابة المتَّصل, كذلك فإنَّه لا يوجب سقوط ظهور العام بعد ثبوته وانعقاده كما عرفت مكرراً من أنَّ المخصص المنفصل لا يرفع أصل الظهور.

ص: 197

المقام الثاني: فيما إذا علم بالمراد الجدي للضمير في الخصوص ولكن لم يعلم المراد الإستعمالي منه؛ فقيل -بل هو المشهور- ببقاء العام على عمومه وعدم معارضته بشيء آخر إلا ما يتوهم من معارضته لأصالة عدم الإستخدام وأصالة المطابقة بين الضمير والمرجع. ولكنهما لا يصلحان أنْ يكونا معارضين, فإنَّ غاية ما يستفاد من هذين الأصلين هو استعمال الضمير في العموم بعدم إرادته جداً, وهو لا يوجب تخصيص حكم عام.

وأشكل عليه بوجهين؛ الأول: إنَّ الضمير يصلح أنْ يكون قرينة على المراد من العام ببركة التطابق بين المرجع والضمير, وأصالة عدم الإستخدام. ففي المقام؛ إنَّ الضمير وإنْ لم يعلم المراد الإستعمالي منه إلا أنَّ خلافه أيضاً غير معلوم, إذ من المحتمل أنْ يكون المراد الإستعمالي هو الخصوص, ولأجل ذلك يمكن أنْ يكون قرينة محتملة, وهذا يوجب الإجمال. ودعوى إمكان نفي هذا الإحتمال بأصالة الحقيقة في العام وأصالة عدم الإستخدام في الضمير وإثبات كون المراد الإستعمالي من الضمير هو العموم يترتب عليه عموم العام فقط باطلة؛ لمعارضة هذا الظهور بالظهور الآخر الذي يدلُّ عليه التطابق بين المراد الإستعمالي والمراد الجدي الذي هو ظهور سياقي قائم على أساس الغلبة, ومعه لا يمكنإحراز عدم إستعمال الضمير في الخصوص, فيكون المقام من موارد إحتمال قرينية المتَّصل الواجب للإجمال.

وفيه: أولاً: إنَّ أصالة العموم جارية بلا محذور فيه بالنسبة إلى الإرادة الإستعمالية كما عرفت آنفاً.

ثانياً: إنَّه لا دليل على التطابق بين المراد الإستعمالي والمراد الجدي من كلِّ جهة, بل مقتضى الأصل عدم اعتبارها, وحينئذٍ يرجع الضمير إلى تمام العام بالإرادة الإستعمالية دون الجدية الواقعية, فلا محذور من العمل بأصالة العموم.

ص: 198

ثالثاً: إنَّ العلم بالمراد الجدي الواقعي من الخارج وإنْ كان يوجب إرجاع الضمير إلى بعض العام وهو الخاص لكنه لا يستلزم منه صرف العام عن عمومه, إذ قد يقصد التفنن في الكلام من الإختلاف لأغراض صحيحة وهو من وجوه البلاغة.

رابعاً: إنَّ ثبوت الإجمال في الكلام عند إحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية سيأتي الكلام فيه.

الثاني: إنَّ أصالة التطابق تثبت بين المراد الإستعمالي من الضمير والمراد الإستعمالي لمرجعه كذلك تثبت بلحاظ المراد الجدي منهما أيضاً, فأصالة التطابق تثبت في مرحلة الإستعمال والجد معاً, فإذا ثبت عدم جدية إرادة العموم من الضمير تثبت بمقتضى عدم جديته في المرجع أيضاً بمقتضى ذلك.

وفيه: ما عرفت من أنَّه قد يقصد من الإختلاف في المرجع والضمير التفنن في الكلام. والحاصل: إنَّه يمكن العمل بكِلا الأصلين؛ أصالة العموم وأصالة عدم الإستخدام في الإرادة الإستعمالية من دون معارضة في البين حتى مع وضوح المراد من الإرادة الجدية.

وهذا المقدار يكفي في المطلوب, ولا ثمرة عملية في البين بعد تعيين المراد الواقعي بالقرينة, ومع عدمها فالمرجع هو الأصول العملية بعد سقوط العام عن الحجية, وسيأتي مزيد بيان في بحث الحجج إنْ شاء الله تعالى.

ختام فيه أمران:

الأمر الأول: ذكرنا أنَّ المحقق الخراساني قدس سره منع الرجوع إلى العام بعد العلم برجوع الضمير إلى بعضه لابتلائه بالإجمال لاحتفافه بما يصلح للقرينة كما تقدم.

وأورد عليه المحقق النائيني قدس سره بأنَّه غير تامّ, لأنَّ سقوط عموم العام إنَّما يكون بأحد سببين؛ إمّا وجود معارض له, أو وجود ما يكون قرينة على التخصيص بحسب مقام

ص: 199

الإثبات, وكِلا الأمرين غير موجود في المقام؛ أمّا الأول؛ فلعدم حجية أصالة عدم الإستخدام على الفرض, وأمّا الثاني؛ فلأنَّ الضمير بحسب الفرض يتكفل حكماً آخراً غير الحكم المترتب على العام أولاً, فتخصيصه لا ربط له بتخصيص العام.وأورد عليه السيد الصدر قدس سره بأنَّ ما ذكره غير تامّ, لأنَّ المنع عن ظهور العام في العموم أو أي ظهور آخر يكون بأحد ملاكين:

1- ملاك القرينة؛ بأنْ ينصب المتكلم في مقام التخاطب ما يكون موضحاً ومحدداً لمرامه من اللفظ المتقدم عليه. وحينئذٍ لا يبقى ظهور في إرادة المعنى المخالف للقرينة ذاتاً, وذلك لأنَّ الظهور إنَّما يكون بملاك أصالة التطابق بين ما هو ظاهر كلام المتكلم إثباتاً ومراده ثبوتاً, وهو لايثبت أكثر من كون مراد المتكلم ثبوتاً لا يختلف مع ما يستفاد من مجموع كلامه إثباتاً لا المطابقة مع كلِّ كلمة منه, وهذا الظهور يكون محفوظاً في القرينة المتصلة, ولذا يكون ظهورها وارداً على ظهور ذيها ورافعاً لموضوعه.

كما إنَّ في حال الإجمال وعدم علم المخاطب بمعنى القرينة لا ينعقد الظهور أيضاً باعتبار إجمالها نوعاً في نظر المتكلم, فلا محالة يكون ذيها مجملاً نوعاً في نظره أيضاً.

والمحقق النائيني قدس سره يرى إنحصار ملاك إرتفاع الظهور بالقرينة المتصلة يقيناً أو إحتمالاً بهذا الملاك, وعلى أساسه إعترض على المحقق الخراساني قدس سره بعدم مقتضى الإفتراض إجمال العام بعد أنْ يتكفل حكماً مستقلاً وليس بنفسه قرينة على تخصيص العام إثباتاً.

وفيه: إنَّ مرام المتكلم إنَّما يتضح من مجموع الكلمات الواردة في كلامه, فينعقد التطابق بين ظاهر كلامه إثباتاً ومراده ثبوتاً, فكلُّ كلمة لها الدخل في تعيين مرام المتكلم, فلو كان

ص: 200

الكلام مجملاً يوجب الإجمال في المجموع كما هو الظاهر, لأنَّ كلَّ كلمة بمنزلة القرينة, والمحقق النائيني قدس سره لاحظ هذه الجهة من الكلام؛ مضافاً إلى أنَّ فرض المحقق النائيني قدس سره غير ذلك.

2- ملاك وجود مزاحم للظهور يتمثل في ظهور سياقي آخر ولو لم يكن ذلك الظهور بحجة؛ بمعنى: إنَّ ذلك الظهور لو لوحظ بمفرده فليس بحجة في إثبات المرام ولا قرينة بحسب النظام العام للمحاورة لتحديد المراد من لفظ متقدم, ولكنه كاشف ظني عن المراد إثباتاً أو نفياً وفي هذه الحالة هذه المزاحمة تمنع من بناء العقلاء على حجية ذلك الظهور المزاحم لكونه مزاحماً بظهور آخر, وبالأخره؛ فإنَّ هذا يرجع بحسب الحقيقة إلى دعوى زائدة في دليل حجية الظهور, وهي إختصاصها بغير موارد المزاحمة بظهور آخر.وفيه: إنَّ وجود مزاحم للظهور في المدلولين التصديقيين لجملة العام وجملة الظهور لا يوجب الإجمال إذا كان المدلول التصوري تاماً, ولا إجمال فيه بعد أنْ كان كلّ منهما حكماً مستقلاً عن الآخر.

والحاصل: إنَّ مسألة حجية الظهورات إنَّما تبتني على بناءات عقلائية تامة. والرجوع إلى العرف المحاوري في إثبات الإجمال, ولا وجه لجعل ملاكه منحصراً في وجهين كما ذهب إليه المحققين المزبورين, وقد تقدم ما يدلُّ على ذلك ويأتي ما يرتبط به في بحث الحجج.

الأمر الثاني: ما ذكرناه من رجوع الضمير إلى العام أو بعضه, ولكن لو فرضنا رجوعه إلى المطلق وأريد منه المقيد فقد وقع الكلام في أنَّه يجري فيه ما يجري في العام فنرجع إلى الأصول اللفظية التي منها أصالة عدم الإستخدام أو إنَّه لا يجري فيه باعتبار انَّه لا يلزم من ذلك إنثلام الإطلاق في المطلق لعدم استلزام الإستخدام من إرادة المقيد من الضمير,

ص: 201

لأنَّ الإطلاق ليس مدلولاً وضعياً للمطلق حتى يلزم إرجاع الضمير إلى غير معنى مرجعه, بل المرجع في الإطلاق يستعمل في الطبيعة المهملة والضمير راجع إليها؛ غاية الأمر كان المراد الجدي من الضمير الطبيعة مع القيد فلا يختلّ ظهور التطابق بين الضمير ومرجعه أو العكس في ذلك, وعلى هذا يلزم أنْ يكون الظهور الإطلاقي أقوى من العموم, وهو محال لا يقول به أحد وغريب في حدِّ نفسه لأنَّ رجوع الضمير الذي يراد منه الخصوص إلى العام يوجب إجماله وعدم إنعقاد عمومه بخلاف رجوعه إلى المطلق فلا ينثلم إطلاقه. وكذا يلزم منه عدم عناية واستخدام في أنْ يراد من المطلق حصة من أفراده وبالضمير حصة اخرى, مع وضوح العناية في ذلك لو تحقق مثل ذلك.

وكِلاهما مِمّا يوجب الإختلال ولذا ذهب جمع من الأعلام إلى حلِّ هذه المشكلة, فقيل في ذلك وجوهاً لا تخلو من مناقشة.

والصحيح أنْ يقال:

إنَّ رجوع الضمير إلى مرجعه ليس بمعنى تكرار معنى المرجع بالضمير مرة أخرى, بل إنَّ الضمير وضع لمفهوم مبهم وهو الإشارة إلى نفس المعنى التصوري للمرجع بحيث يوصل ما بعده من النسبة إلى نفس ما تقدم من المعنى المنسبق إلى الذهن من المرجع, فإذا قيل (قلد العالِم وأكرمه) ومدلوله الذهني نفس مدلول قولنا (قلد وأكرم العالِم) مع الفرق بين التعبيرين في الصياغة الظاهرية؛ ففي الأول كان إيصال الفعل الثاني من جهة الضمير, وفي الثاني من جهة هيئة تقدم الفعل على المفعول, ولكن كِلا المثالين إنَّما يكون في الذهن صورة واحدة لا صورتان متكررتان, وحينئذٍ يكون للصورة الواحدة إطلاق واحد أو تقييد كذلك لا إطلاقان أو تقييدان, فلو فرض وجودان بعد الضمير إنَّما يدلُّ على تقييد تلك الصورة الواحدة في الذهن من الطبيعة فيكون الحكم الأول مقيداً لا محالة. وهكذا

ص: 202

إذا تكرر الضمير كما إذا قال (العالِم أكرمه وقلده) فإنَّه لا يراد منهما إلا معنىً واحداً لا أنْ يراد من أحد الضميرين حصة ومن الضمير الآخر حصة أخرى.

ومن ذلك يظهر أنَّ حقيقة الإستخدام واحدة, وفي المقام هو سلخ الضمير عن كونه لمجرد الإشارة والوصول إلى المعنى المتقدم وذلك بتضمينه معنىً آخر وإنْ كان مثل الأول ولكنه مكرر وذلك بأنْ تكون صورة للطبيعة المهملة أيضاً فينشأ الإستخدام إذا أريد من الضمير الحصة الخاصة من الطبيعة ولو بدالٍّ آخر, فإنَّه يستلزم وجود صورة الطبيعة لكي ينضم إليها القيد.

الجهة السادسة: تخصيص العام بالمفهوم

اشارة

لعلَّ الغرض من تعرض الأصوليون لهذا البحث إمّا لدفع شبهة عدم إمكان تخصيص العام بالمفهوم ووجوب تقديم العام عليه لكونه منطوقاً والمنطوق أقوى من المفهوم, أو ما قيل بالعكس من أنَّ العام لا بُدَّ أنْ يخصص بالمفهوم, إذ لو لم يخصص لزم إلغاء منطوقه أيضاً بحكم التلازم بينهما وهو إلغاء الدليل بلا موجب.

وكيف كان؛ فلا ريب أنَّ مناط التخصيص إنَّما هو تقديم القرينة على ذي القرينة والأظهر على الظاهر فإذا تحقق هذا المناط يصح التقديم بلا كلام وهذه الكبرى مسلّمة عند الجميع واتَّفق عليها أهل اللسان من جميع الملل والأزمان. وليس المناط كون الدلالة منطوقية أو مفهومية.

وعلى ذلك؛ لا فرق بين أنْ يكون الكلام من المنطوقين أو من المفهومين أو من مفهوم, وسواء كان المفهوم موافقاً أم مخالفاً كما ستعرف.

ومن ذلك يظهر الجواب عن الشبهتين؛ أمّا الأولى؛ فلما عرفت من أنَّ الميزان والملاك في التخصيص هو الأقوائية في الدلالة كالقرينة وذي القرينة والظاهر والأظهر وليس الميزان المنطوقية والمفهومية كما سيأتي تفصيل ذلك في بحث التعارض.

ص: 203

وأمّا الشبهة الثانية؛ فلأنَّ التعارض كما يكون بين العام والمفهوم كذلك يسري إلى العام والمنطوق للتلازم بين الطرفين كما هو المفروض, فيكون النافي للازم ينفي الملزوم أيضاً. فإذا كان ملاك تقديم العام على المنطوق فلا يكون إسقاطه بلا موجب كما هو واضح.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في مفهوم الموافقة مع العام

عرفت سابقاً في بحث المفاهيم أنَّ المراد بمفهوم الموافقة مشاركته مع المنطوق في الحكم المذكور في الدليل؛ إمّا لكون ثبوته أولى فيه من ثبوته في ملزومه المنطوق, أو لكونه مساوياً له لاشتراكهما في علة الحكم وملاكه كذلك, كلُّ ذلك بشرط أنْ تكون الملازمة عرفية بين المنطوق والمفهوم لا أنْ تثبت بأمور عقليةأو عنايات فائقة فيكون كالحكم القطعي ويوافق المنطوق سلباً وإيجاباً, ولذا يعدّه جمع من دلالة الدليل فيما إذا كان الإنتقال اليه سريعاً لا أنْ يكون من دلالة المدلول على المدلول, وإنَّه ليس من دلالة اللفظ إبتداءً, فإنَّه وإنْ لم يكن مذكوراً في اللفظ ولكنه بحكم المذكور لكون الدلالة قطعية كما هو, لأنَّ ملاك هذه الملازمة عرفية يستفاد من مقام الإثبات من نفس الخطاب المفروض.

نعم؛ قد يختلف منشأ الدلالة المفهومية فقد يكون صريحة قطعية, وقد يكون ظنية كما لو كان مستفاداً من الإطلاق والعموم ولكن الدلالة المفهومية فهي قطعية دائماً.

ومن جميع ذلك يتَّضح:

أولاً: إنَّ مفهوم الموافقة بحكم المدلول المنطوق, لأنَّه يستفاد من نفس الخطاب؛ فهو من لوازمه.

ثانياً: إنَّ المعارضة تسري من العام والمنطوق إلى العام والمفهوم لكونه من توابع الدليل ونفس الخطاب, وهذا بخلاف مفهوم المخالفة فإنَّ المعارضة فيه لا تسري إلى الحكم المنطوقي لعدم كونه من توابع نفس الخطاب بل لأجل خصوصية في الكلام يدلُّ على الحكم المفهومي في عرض دلالته على الحكم المنطوقي كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

ص: 204

ثالثاً: إنَّ تقديم الخاص المنطوقي على العام كذلك إنَّما هو لأجل كونه قرينة والعام ذي القرينة, فإنْ قلنا بأنَّ المفهوم من توابع نفس الخطاب ومدلول الدليل فيكون تقديم المفهوم الخاص من هذه الجهة لكون قرينة والعام ذو القرينة.

وأمّا إذا لم نقل بذلك وإنَّ المفهوم ليس مدلولاً ومفاداً للكلام مباشرة بل هو مدلول للمدلول فيكون مفهوم الموافقة الأخص لازماً لإطلاق الحكم المنطوقي لا لأصله فلا يجوز تخصيص العام به, لأنَّ هذا المدلول لم يثبت بدلالة كلامية أخص بل ثبت بدلالة كلامية إطلاقية.

ولكن ذلك ليس بسديد؛ لما عرفت آنفاً من أنَّ مفهوم الموافقة بمنزلة الدلالة الكلامية فيجوز تخصيص العام به, ولعله لأجل ذلك إدَّعى المحقق الخراساني قدس سره (1) الإتّفاق على جواز تخصيص العام بمفهوم الموافقة.

رابعاً: إنَّ النسبة كما تلاحظ بين العام والمنطوق كذلك تلاحظ بين العام والمفهوم, لأنَّ الدلالة المفهومية كما عرفت لها إرتباط وثيق بالدلالة الكلامية, وعليه؛ يقدم المفهوم على العام بملاك القرينة وذي القرينة أو الأظهر والظاهر, وإلا وقع التعارض بينهما فلا بُدَّ من علاجه بوجه آخر كما ستعرف.

أقسام مفهوم الموافقة:1- مفهوم الموافقة الحاصل من الأولوية.

2- مفهوم الموافقة بالمساواة كما في موارد العلة المنصوصة.

والأول؛ تارةً لا تكون معارضته مستقلة بين العام وبين المنطوق, وأخرى يكون كذلك.

ص: 205


1- . كفاية الأصول؛ ص272-273.

ويقع الكلام في موردين:

المورد الأول: أنْ تكون معارضة المنطوق مع العلم بلحاظ إستلزامه للمفهوم فقط, ففي هذه الحالة يتقدم المنطوق على العام, لأنَّ المعارضة بحسب الحقيقة بين عموم العام وبين المنطوق فيكون بحكم الأخص, فلا فرق في ذلك بين أنْ تكون النسبة بين العام والمفهوم لو لوحظ مستقلاً العموم والخصوص المطلق بأنْ كان المفهوم أخص أو من وجه, والسر في ذلك يرجع إلى أنَّ المفهوم لا يقابل المنطوق مباشرة حتى يعارضه.

وفيه: إنَّ ذلك مبني على كون المفهوم ليس من دلالة الألفاظ بل هو من مدلول للمدلول وأمّا على ما ذكرنا فلا يحتاج إلى ذلك؛ فالمعارضة حاصلة سواء كانت بين العام والمنطوق أو بين العام والمفهوم.

وعليه؛ لا فرق بين كون المفهوم لازماً لأصل المنطوق أو يكون لازماً لإطلاقه.

المورد الثاني: ما إذا كان المنطوق معارضاً أيضاً مع العام, وقد فرَّق بعض الأصوليين بين أنْ يكون المنطوق أخص مطلقاً من العموم أو يكون بينهما عموم من وجه.

والأول؛ مثل (لا تكرم الفسّاق). وورد (أكرم فسّاق خدّام العلماء) الذي يدلُّ بالأولوية على وجوب إكرام العلماء؛ ففي هذا القسم كان المفهوم مقدماً على العام لعدم إمكان رفع اليد عن المفهوم بنفسه كما لا يمكن رفع اليد عن المنطوق أيضاً لأنَّه أخصّ مطلقاً من العموم فيقدم عليه.

والثاني؛ مثل (لا تكرم الفسّاق), وورد: (أكرم خدّام العلماء) الدالّ بالأولوية على وجوب إكرام العلماء؛ ففي هذه الحالة إنْ قدم المنطوق على العموم في مورد التعارض كان المفهوم مقدماً على العموم أيضاً, وإنْ قدم العموم على المنطوق خرج الخادم الفاسق عن المنطوق, فلا يثبت بالأولوية إلا وجوب إكرام العلماء العدول؛ فلا تعارض بينهما حينئذٍ.

ص: 206

والثاني (أي مفهوم الموافقة بالمساواة)؛ فقد قال المحقق النائيني قدس سره إنَّه مثل سابقه فيجري فيه ما جرى هناك, وذكر بعض الأصوليين أنَّ الدليل الذي يتكفل لحكم المنطوق فهو يتكفل بيان التعليل أيضاً, فهو يتكفل حكمين؛ أحدهما على الموضوع الخاص والآخر على الحكم العام.

وعليه؛ فلا بُدَّ من ملاحظة نسبة الحكم المُنشأ بالعلّة المنافي لعموم آخر لذلك العام وإجراء القواعد اللازمة المعروفة, فلا يلاحظ حينئذٍ التعارض بين المنطوقوالعام, كما لو قال: (يحرم الفقاع لأنَّه مسكر), ثم قال: (يجوز شرب كلّ ما يُتَّخذ من العنب)؛ فإنَّ النسبة بين الأخير وبين الحكم بحرمة كلّ مسكر العموم من وجه, ولا ينافي المنطوق بوجه.

ويرد عليه: إنَّه في هذا المورد إذا لوحظت النسبة بين الحكم المنشأ بالعلّة وعموم آخر من دون ملاحظة التعارض بين المنطوق والعام لا ينافي جريان الأقسام السابقة التي ذكرناها في المفهوم بالأولوية في بقية الموارد.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ النسبة تارةً تلاحظ بين العام والمنطوق, وأخرى بين العام والمفهوم, فإنَّ ذلك يرجع إلى قوة الدلالة والظهور, فما ذكره بعض الأصوليين من التفصيل لا وجه له؛ فراجع.

والظاهر؛ إنَّ هذا المقدار من البحث يكفي في إيصال فكرة تخصيص العام بمفهوم الموافقة بعد كونه مما اتَّفق عليه العلماء من دون حاجة إلى التفصيل والنقض والإبرام كما صنعه السيد الصدر قدس سره , وإنَّ كثيراً من تفصيلاته وتقسيماته لا يترتب عليه ثمرة عملية بل ولا علمية فلا وجه هنا لذكرها.

ص: 207

المقام الثاني: مفهوم المخالفة

والمراد به ما كان الحكم في المفهوم مخالفاً لما في المنطوق, كمفهوم الشرط المستفاد من العليّة التامة المنحصرة في المنطوق. وقد وقع الخلاف بين الأعلام في إمكان تخصيص العام به, فذهب جمعٌ (ومنهم المحقق الأنصاري قدس سره (1)) إلى التفصيل بين ما إذا كان العموم آبياً عن التخصص فلا يخصصه المفهوم, وبين ما إذا لم يكن آبياً عنه فيخصصه, وجعل من ثمراته تقدم عموم العلة في مفهوم آية النبأ على المفهوم فلا يخصص العموم به, لأنَّ إصابة القوم بجهالة غير قابل للتخصيص فلم يختص بمورد دون آخر, وأمّا سائر العمومات الدالة على عدم جواز العمل بالظن فإنَّه قدس سره بنى على تقدم المفهوم لحكومته عليها, لأنَّ خبر الواحد بدليل حجيته يخرج موضوعاً عن العمل بالظن.

وناقشه المحقق النائيني قدس سره (2) وقال بأنَّ الحكومة تجري في كِلا الموردين وإلا لامتنع تقديم المفهوم على غير عموم العلّة من سائر العمومات.

وذهب بعض الأصوليين إلى تفصيل آخر بين صورة إتّصال العام بما له المفهوم فيقدم العام عليه ويمنع عن انعقاد ظهور الكلام في المفهوم, وبين انفصاله عنه فيقدم المفهوم لأحقيَّته.وأورد المحقق النائيني قدس سره عليه بأنَّه يمتنع تقدم العام على المفهوم في صورة الإتّصال, وإنَّه يستحيل أنْ يكون العام مانعاً عن انعقاد الظهور في المفهوم, واستدلَّ عليه تارةً بظهور الكلام في المفهوم وإنْ كان بالإطلاق كظهوره في العموم, إلا أنَّ جريان مقدمات الحكمة في إثبات المفهوم أسبق رتبة من جريانها في العموم فيكون ما له المفهوم حاكماً على العموم, والقرينة إنَّما تنفع في غير موارد الحكومة.

ص: 208


1- . فرائد الأصول؛ ص72-74 (ط. الحجرية), ومطارح الأنظار؛ ص210 (ط. الأولى).
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص501.

وأخرى؛ فإنَّ المفهوم حيث يثبت إنَّما من جهة ظهور الكلام الوضعي في رجوع القيد إلى الحكم وظهوره الإطلاقي في نفي البدل والشريك, فتقديم العموم عليه لا بُدَّ أنْ يكون منشأه إمّا تصرفه في الظهور الأول أو الثاني؛ وكِلاهما منتفيان؛ لأنَّ الأول ظهور وضعي لا يقاومه العموم لأنَّه إطلاقي لا تعرض للعام لنفيه, لأنَّه يتكفل جعل الحكم على موضوعه المقدر الوجود من دون تعرض لإثبات البدل.

وثالثة؛ بأنَّ الإحتياج إلى مقدمات الحكمة في إثبات المفهوم لأجل نفي البدل والشريك, أمّا رجوع القيد إلى الحكم لا إلى الموضوع الذي هو المناط في ظهور الكلام في المفهوم فهو يستفاد من ظهور وضعي وهو مقدم على الظهور الإطلاقي في جانب العموم, ولا يصلح هذا المنع الظهور الوضعي فيقدم على العموم لا محالة.

والصحيح أنْ يقال: إنَّ منشأ الشبهة في تقدم المفهوم الخاص على العام, وأفراده بالبحث ما ذكرناه آنفاً من أنَّ المفهوم إنَّما هو مدلول لمدلوله وإنَّه يستفاد من دلالة المنطوق على خصوصيته ملازمة للمفهوم كخصوصية العليّة المنحصرة في الشرط, وبما أنَّ الدلالة على هذه الخصوصية بالإطلاق فلا يناهض العموم, لأنَّ الدالّ على المفهوم هو الإطلاق وهو لا يتقدم على ظهور العام, وتقديم الخاص على العام لأجل الأظهرية وهي منتفية في مورد كون الخاص مدلولاً للإطلاق, فيكون شأنهما شأن العامَّين من وجه.

ولكن الحقّ هو الرجوع إلى العرف في تعيين الأظهر من العام والمفهوم سواء كان الأول مستفاداً من الوضع والثاني من الإطلاق أو بالعكس, فإنَّه قد سبق منّا مكرراً أنَّه ليس المناط في التقديم والتأخير الوضع والإطلاق بل الأظهرية والظاهرية؛ سواء كانا مستفادين من الوضع أو الإطلاق, ولا السبق والتأخير كما قيل في العام بأنَّه إنَّما يصادم دليل المفهوم في دلالته على أصل دخالة الشرط في الحكم, وهذه الدلالة أسبق رتبة من دلالته على العموم

ص: 209

ودليل المفهوم بلحاظ هذه الدلالة أقوى من دلالة العام على العموم. فلا بُدَّ من إحراز كون المفهوم أقوى من العام وله طرق مختلفة منها ما إذا كانت دلالة المفهوم وضعية ودلالة العام بمقدمات الحكمة أو تثبت بالتقدم أو جهات أخرى داخلية أو خارجية, ولا يمكن ضبطها تحت ضابطة كلية.ومن جميع ذلك يظهر أنَّه لا حاجة إلى مسلك المحقق الأنصاري والخراساني (قدس سرّاهما) في اتّصال المفهوم بالعام وعدمه, أو مسلك المحقق النائيني قدس سره , أو غيرهما؛ وإنْ كان كلامه قدس سره قابل للمناقشة, مع إنَّه ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ النزاع صغروي بين الأعلام؛ فمن أثبت التخصيص بالمفهوم إنَّما يثبته في مورد الأقوائية ومن ينفيه إنَّما في فرض عدمها, فالمناط تحقق الكبرى التي هي غير قابلة للمناقشة ولا بأس بالنزاع في الصغريات.

الجهة السابعة: تعقيب الإستثناء لجمل متعددة

إذا تعقب الإستثناء جملاً متعددة كقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا )(2), ومثل قول المولى: (أكرم العلماء وأكرم السادة وأكرم الأدباء؛ إلا الفسّاق منهم).

ففي هذا الموضوع إختلف العلماء؛

فقيل: إنَّ الظاهر هو رجوعه إلى الجميع.

وقيل: رجوعه إلى الأخير بالخصوص.

وقيل: لا ظهور له في أحد الامرين فيتبع فيه القرائن المعتبرة الداخلية أو الخارجية.

ص: 210


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص108.
2- . سورة النور؛ الآيات 4-5.

ولكن الجمل المتعددة التي يتعقبها الإستثناء على أقسام:

1- ما إذا تعددت الجمل موضوعاً ومحمولاً؛ كما في المثال السابق.

2- ما إذا تعدد المحمول فقط؛ كما إذا قال: (أكرم العلماء وقلّدهم إلا الفسّاق).

3- ما إذا تعدد الموضوع فقط؛ كما إذا قال: (أكرم العلماء والشيوخ والهاشميين إلا الفسّاق).

والمعروف بين المحققين في تلك الأقسام الثلاثة رجوع الإستثناء في الأول إلى الأخيرة فقط وإنْ لم تكن عناية تفرض العكس, وفي القسمين الأخيرين رجوعه إلى الجميع.

وقال المحقق الخراساني قدس سره إنَّه لا إشكال ولا خلاف في تخصيص الأخيرة بالإستثناء على كلِّ حال, كما لا إشكال في رجوعه إلى الجميع ثبوتاً إنَّما الإشكال في مقام الإثبات. وكيف كان؛ فلا بُدَّ من عرض تلك الآراء على البرهان وتخريجها فنياً؛

أمّا القسم الأول؛ فإنَّ الإحتمالات المتصورة فيه هي: إمّا أنْ يرجع الإستثناء إلى كلِّ واحدة من الجمل مستقلاً؛ وهو صحيح, إلا أنَّه يستلزم منه محذور استعمالأداة الإستثناء الموضوعة للنسبة الإستثنائية الإخراجية في أكثر من معنى, إذ أنَّ كلَّ واحدة من تلك الجمل يشكل معنىً مستقلاً.

ويمكن مناقشته بأنَّ هذا الإستعمال ليس في أكثر من معنى؛ إذ الظاهر أنَّه إستعمال للأداة في معنى واحد وهو ينطبق على الصغريات ولا يوجد في ذلك عناية زائدة, وذكر المحقق الخراساني قدس سره (1) إنَّ تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى؛ لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الأداة بحسب المعنى, وتعدد كلّ واحد منهما لا يوجب تعدد ما استعمل فيه الأداة مفهوماً.

وإمّا أنْ يكون استعمال الأداة في جامع الإستثناء؛ وهو غير معقول على ضوء ما تقدم من جزئيته معاني الحروف وأدواتها التي هي منها أداة الإستثناء بمعنى جزئية طرفيها, وهي

ص: 211


1- . كفاية الأصول؛ ص234-235.

النسبة المتقومة والمتشخصة بأطرافها ولا جامع ذاتي لها, وذكر المحقق الإصفهاني قدس سره (1) في تقريب الإشكال بأنَّ الأداة موضوعة للإخراجات الخاصة.

وفيه: إنَّ ما ذكر من المناقشة:

أولاً: يتنافى مع القول بأنَّ الموضوع له في الحروف والأدوات جزئي, وأمّا بناءً على غير ذلك فلا بأس به كما عرفت في مباحث الوضع.

ثانياً: إنَّه يمكن أنْ يكون الإستثناء بنحو العموم المجموعي بأنْ يكون الإستناد من المجموع لا من كلِّ واحدةٍ واحدة, فيكون طرف الربط واحداً لا متعدداً, وإمّا أنْ يكون على أساس إستعماله في نسبة إخراجية واحدة عن مجموع ما تقدم من الموضوعات في الجمل المتعددة بعد توحيدها اعتباراً.

وهذا الإحتمال معقول ثبوتاً, إلا أنَّه خلاف الظاهر, لأنَّه بحاجة إلى عناية التوحيد الإعتباري بين موضوعات تلك الجمل, ومقتضى الإطلاق عدمها.

وفيه: إنَّه يمكن حمل الإستثناء على الربط بين المستثنى والفاعل المستثنى لا المستثنى والمستثنى منه, ولأجل تلك الوجوه ذهب بعض الأصوليين إلى أنَّه لا يبقى وجه معقول ثبوتاً وغير منفي إثباتاً لرجوع الإستثناء إلى الجميع.

ولكن عرفت الجواب عن كلِّ واحد من تلك الوجوه؛ ويضاف إليها أنَّ تلك تعتمد على كون أداة الإستثناء موضوعة للربط بين المستثنى والمستثنى منه, ولكن لو قلنا بأنَّها موضوعة للربط بين المستثنى والمستثني بحيث لو استبدلنا الأداة بكلمة (أخرج) ونحوها التي تدلُّ على الإخراج فلا ترد تلك المحاذير, ولأجل ذلك خصَّ بعضهم تلك الوجوه بخصوص الإستثناء الحرفي, وأمّا غيره كالإستثناء الإسمي أو بالفعل كما لو قال: (وأستثني

ص: 212


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص348.

الفسّاق)؛ فإنَّه يعقل فيه تلك الوجوه, لاسيما الوجهالثاني لأنَّه مقتضى الإطلاق, ومن ذلك يظهر أنَّه لا محذور ثبوتاً في إرجاع الإستثناء إلى الجميع, ولكن يبقى استظهاره في مرحلة الإثبات مِمّا يدلُّ عليه, وسيأتي معرفة ذلك.

أمّا القسم الثاني؛ فقد قيل بأنَّ رجوع الإستثناء فيه إلى الأخير يستلزم أنْ يكون الضمير قد إستعمل في تكرار الموضوع وإعطاء صورة مستقلة جديدة له, وهو خلاف وضع الضمير كما عرفت سابقاً من أنَّه موضوع لمجرد الإشارة إلى الصورة الذهنية الأولى التي يدلُّ عليها المرجع فلا محالة يرجع الإستثناء إليه, وبذلك يتخصص الجميع.

وفيه: إنَّ ذلك لا ينافي أنْ يكون مرجع الضمير هو الأخير لوجود نكتة فنية وعناية خاصة جاءت من كثرة استعمال الضمير في ذلك فصارت كالقرينة العامة, فيكون الرجوع إلى الأخير ثبوتاً لا بأس به ولكن في مرحلة الإثبات يحتاج إلى قرينة.

وأمّا القسم الثالث -فيما إذا تعدد الموضوع واتَّحد المحمول-؛ فإنَّ إحتمال رجوع الضمير إلى الجميع باعتبار ما ذكرناه في القسم الأول من أنَّ تعدد الموضوعات مع وحدة المحمل لا يكون إلا لأجل التوحيد الإعتباري فيما بينها ليكن ذلك الأمر الواحد هو طرف النسبة في الجملة فيرجع الإستثناء إليه, وإلا لزم إلغاء تلك الوحدة الإعتبارية الملحوظة, وهذا يحتاج إلى قرينة وعناية زائدة.

ولكن يمكن المناقشة في ذلك بأنَّ الإستثناء يرجع إلى نسبة الحكم إلى موضوعه, أي الإكرام إلى موضوعه, والمفروض أنَّه إستعمل مرة واحدة ونسب إلى كلٍّ من الموضوعات بنسبة واحدة إليها معاً.

ويمكن أنْ يكون هذا هو الفارق بين هذا القسم والقسم الأول.

ص: 213

هذا ما يتعلق بمرحلة الثبوت؛ وأمّا في مرحلة الإثبات فإنَّه ربما يستفاد من القرائن الداخلية أو الخارجية أحد الإحتمالين, وهي أمور:

الأمر الأول: ما قيل من إن واو العطف في قوة التكرار, ومعه لامانع من رجوع الإستثناء إلى الجميع في الأقسام الثلاثة المتقدمة.

وفيه: إنَّ ذلك معقول إذا فرض ثبوت الحكم على المعطوف عليه, مثل مجيء حرف العطف حتى يدلُّ على إلغاء الحاجة إلى تكرار الدالّ على الحكم, وهذا لا يتم إلا في القسم الأول الذي تم فيه موضوعاً ومحمولاً, ويمكن أنْ يتم في القسم الثالث أيضاً؛ وحينئذٍ يمكن القول بعدم الفرق بين القسمين الأول والثالث, لأنَّ العطف في قوة تكرار حكم المعطوف عليه, فكأنه قال: (أكرم العلماء وأكرم السادة وأكرم الأدباء؛ إلا الفسّاق منهم), وقد يقال إنَّه يكون حكم القسم الأخير هو عدم الرجوع إلى الجميع كما في القسم الأول حيث لا نكتة للرجوع إلى الجميع كما عرفت.وفيه:

1- إنَّه يمكن الرجوع إلى الجميع لأنَّ العطف وإنْ كان في قوة التكرار لكن لا بمعنى التكرار صريحاً بل تقديراً, فيكون رجوع الإستثناء إلى الأخير تقديرياً أيضاً, فاختصاص الإستثناء بالأخير يكون خلاف التقدير.

2- إنَّ القول بأنَّ العطف في قوة تكرار المعطوف عليه إنَّما هو تخريج نحوي لا أنْ يكون أمراً حقيقياً، ولذلك يختلف حسب الموارد, فلا بُدَّ من الرجوع إلى القرائن.

الأمر الثاني: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ الإستثناء يرجع إلى الجميع حتى لو كان بالإرادة, لأنَّ المعاني الحرفية كلية عنده.

ص: 214


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص159.

وعليه؛ يكون الإستثناء من الجميع غير منافٍ لجزئية المعنى الحرفي, لأنَّ الإستثناء من الجميع فرد من أفراد الإستثناء كالإستثناء من الأخيرة فقط.

وأورد عليه: إنَّ الإستثناء من الجميع إنْ أريد به الإستثناء كذلك بعد التوحيد الإعتباري بينها؛ فهو؛ وإنْ كان فرداً جزئياً من الإستثناء كالإستثناء من الأخيرة, لكنه خلاف مقام الإثبات كما عرفت آنفاً.

وإنْ اريد به الإستثناء بلا توحيد اعتباري بينها؛ فلا يكون جزئياً لأنَّ المراد من الجزئية هي الجزئية الطرفية, ومع تعدد الطرف يتعدد المعنى لا محالة.

وأمّا كون المعاني الحرفية كلية فقد تقدم البحث عنه في مباحث الوضع, ويمكن الدفاع عنه قدس سره بأنَّ المراد من كلية المعاني الحرفية التي منها الإستثناء هو كون الأداة موضوعة لمعنى كلي في الذهن وهو كلي الإستثناء وإنْ كان في الخارج لا يستعمل إلا جزئياً إلا أنَّه لا يأتي إلى الذهن إلا بعد تشخيص أطرافها بدوالٍّ أخرى, وحتى يكون إفادة المعنى الخاص من باب تعدد الدالّ والمدلول لا بدالٍّ واحد, وقد فصلنا الكلام في ذلك؛ فراجع.

وكيف كان؛ إنَّ ما ذكره قدس سره معقول في حد نفسه, وربما يمكن أنْ تقام عليه الشواهد ويمكن إرجاع الإستثناء إلى الجميع ولكنه خلاف مقام الإثبات.

الأمر الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره أيضاً من أنَّ مقتضى الإطلاق في عقد المستثنى -وهو الفسّاق- الرجوع إلى الجميع, وهناك إطلاق آخر فيما عدا الجملة الأخيرة, ويتعارضان بنحو العموم من وجه بعد فرض الرجوع إلى الأخيرة على كلِّ حال, فإذا كان في الإطلاق فيما عدا الجملة الأخيرة ترجيح بالعموم والوضع قدم على إطلاق الإستثناء, وإلا وقع بينهما التعارض ثم التساقط.

ص: 215

وفيه: إنَّ إثبات الإطلاق في المستثنى أو المستثنى منه فرع تمامية البيان في كلِّ واحد منهما, والمفروض إنتفاء ما يمكن أنْ يكون مستنداً للبيان كما عرفت في الوجوه السابقة.

وهذا الوجه أحسن مِمّا ذكره السيد الصدر قدس سره في الرد عليه.

الأمر الرابع: الإستفادة من المستثنى وجعله قرينة لرجوع الإستثناء إلى الجميع أو الأخير فقط, ولا ريب أنَّ المستثنى يكون على أنحاء:

1- أنْ يكون قابلاً للرجوع إلى الجميع كما لو قال: (أكرم العلماء والتجار إلا الفسّاق) فإنَّه قابل للرجوع إلى الجميع فيخصص عموم العلماء وعموم التجار به, فمن هذه الناحية لا بأس به, لكن لا بُدَّ من ملاحظة حال الإستثناء.

2- أنْ لا يكون قابلاً للرجوع إلى الجميع, كما لو استثنى من المثال المزبور الجهّال بمعنى ليس بعالم, وفي هذه الحالة لا بُدَّ من اختصاصه بالأخيرة لأنَّه كالقرينة الخاصة فترفع اليد عمّا يقتضيه عالم الثبوت من الرجوع إلى الجميع.

3- أنْ يكون مشتركاً لفظياً بين معنيين على تقدير أحدهما يختص بالأخيرة, وعلى تقدير الأخير يرجع إلى الجميع, كما إذا أريد من الجهّال الإشتراك اللفظي بين المعنى المقابل للعلم والمعنى المقابل للرشيد والمفروض إنتفاء القرينة لأحدهما فإنْ قلنا بالرجوع إلى الجملة الأخيرة إمّا على سبيل القدر المتيقن أو بناءً على ما تقدم ذكره في القسم الثالث على رأي بعضهم؛ لا بُدَّ من تخصيصها بالإستثناء, ولكن يبقى غيرها باقياً على إطلاقه سواء أريد المعنى الأول أم الثاني.

وأمّا إذا قيل برجوع الإستناد إلى الجميع ثبوتاً كما استظهرناه في جميع الأقسام الثلاثة فإنَّه ربما يقال بأنَّ ظهور السياق هو الرجوع إلى الجميع بعين إرادة المعنى الصالح للرجوع إلى الجميع وإلا كان مخالفاً لمقتضى الظهور وهو حسن إنْ كان ذلك بمنزلة القرينة له فيكون الكلام من موارد الإحتفاف بما يصلح للقرينة.

ص: 216

وأمّا إذا لم يكن الظهور السياقي في المزبور بمنزلة القرينة فإنْ كان المستثنى مِمّا يمكن إرجاعه إلى الجميع فيكون هو بمنزلة القرينة, وإلا كان الكلام مجملاً في غير الجملة الأخيرة.

نفس الصورة السابقة مع فرض أحد المعنيين مجازاً والآخر حقيقة؛ فإنْ كان الأخير يصلح للرجوع إلى الجميع والمعنى المجازي يختَّص بالأخيرة فيكون حكمه مثل الأول, وإنْ فرض العكس وإنَّ المعنى الحقيقي لا يصلح للرجوع إلى الجميع فإنَّ أصالة الحقيقة وإنْ كانت تقتضي الرجوع إلى

4- الأخيرة فقط ولكن مع وجود القرينة على المجاز وكون الكلام ظاهراً في كليهما فلا بُدَّ من التفصيل المذكور في المورد الثالث.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّه ليست لنا قاعدة كلية يحكم بها الرجوع إلى الجميع أو البعض أو الإجمال, فلا بُدَّ من إتّباع القرائن التي تدلُّ على كلِّ واحدٍ منهما كما عرفت.

الجهة الثامنة: تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد

لا ريب في كون الخاص قرينة والعام ذو القرينة, وتقدم القرينة على ذي القرينة مِمّا لا إشكال فيه وهو كبرى مسلّمة عند الجميع بل هي من صغريات كبرى الظهور.

ولا فرق في ذلك بين أنْ يكون كل منهما قطعيين سنداً, أو ظنيين, أو يكون أحدهما ظنياً والآخر قطعياً لوجود المناط وهو تقديم القرينة أو الأظهر على الظاهر, والخبر المعتبر الذي يصلح للتقييد والتخصيص قرينة على بيان المراد من عمومات الكتاب وإطلاقاته وأظهر بالنسبة إليهما, فلا بُدَّ من تقديمه عليهما.

ومع ذلك فقد وقع الكلام فيما إذا كان الخاص ظنياً والعام قطعياً, كتخصيص العام الكتابي بخبر الواحد غير المحفوف بالقرينة القطعية مع الإتّفاق على تخصيصه بالخبر المتواتر والمحفوف بالقرينة القطعية.

ص: 217

وقد استدلَّ على ذلك تارةً بقيام سيرة الأصحاب على العمل بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب حتى عصر الأئمة علیهم السلام , وأخرى إنَّه لولا ذلك لزم طرح جملة من الأخبار لندرة خبر لا ينافي عموم الكتاب, ولانسدَّ باب الإجتهاد فلا إشكال في ذلك، وربما يظهر من بعضهم الإيراد عليه, وعمدة ما ذكروه:

الإيراد الأول: دعوى قصور المقتضي في السند في مورد معارضته الخاص الظني مع الكتاب الكريم بل مع أي دليل قطعي آخر, لأنَّ دليل حجية الخبر إنَّما هو دليل لبي متحقق في الإجماع والسيرة والقدر المتيقن منه غير مورد التعارض مع الدليل القطعي. أو لأنَّ الخاص يخالف الكتاب فلا بُدَّ من طرحه للأخبار المستفيضة الواردة في أنَّ ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف أو يضرب عرض الجدار, وهي تقيّد كبرى حجية الخبر بما إذا لم يكن مخالفاً مع الدليل القطعي حتى لو كان التعارض بينهما من التعارض غير المستقر.

وفيه: أمّا الأول؛ فلأنَّ التعارض بينهما في الظهور فلا بُدَّ من تقديم الأظهر في الدلالة على الظاهر فيها, ولا ربط له من جهة الصدور حتى يكون من تقديم الظني على القطعي, مع إنَّ نسبة السنَّة إلى الكتاب نسبة الشرح والتفسير والبيان.

كما إنَّ دليل حجية الخبر لا ينحصر في الإجماع وسيرة المتشرعة, وعلى فرضه؛ فإنَّهما معارضان لسيرة المتشرعة التي تدلُّ على العمل بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب. وسيأتي تفصيل الكلام في مبحث حجية الخبر.وأمّا الثاني؛ فلأنَّ مورد الأخبار المستفيضة المخالفة بين الخبر والكتاب المطلقة والتباين الكلي من كلِّ جهة والتخصيص والتقييد ليس منهما قطعاً. وسيأتي مزيد بيان في بحث التعارض إنْ شاء الله تعالى .

ص: 218

الإيراد الثاني: إنَّ مركز التعارض لا يكون بين مفاد الخبر ومفاد العام الكتابي حتى يرجع إلى دليل حجية الظهور ويقدم القرينة على ذي القرينة بل هو بين كبرى حجية السند الشامل لسند الخاص وكبرى حجية الظهور الشامل للعموم, ولا قرينية لدليل إحدى الكبريين على الآخر؛ وبعبارة أخرى: بين أصالة العموم ودليل حجية الخبر.

وفيه: إنَّ الخبر بدلاليته وسنده صالح للتصرف في أصالة العموم لحكومته أو وروده عليها لأنَّه رافع لموضوعها تعبداً, ولذا قدم الخبر على العام, وأصالة العموم لا تصلح للتصرف في أصالة الحجية لأنَّها لا ترفع موضوعها كما لا يخفى, وسيأتي مزيد بيان في بحوث تعارض الأدلَّة.

الإيراد الثالث: إنَّه إذا جاز التخصيص جاز النسخ بخبر الواحد لأنَّهما من وادٍ واحد, لأنَّ النسخ تخصيص زماني, وقد قام الإجماع على عدم جواز النسخ به فيدلُّ على عدم جواز التخصيص به.

ويرد عليه إنَّه لا ملازمة بين التخصيص والنسخ لا شرعاً ولا عقلاً ولا عرفاً, مع الفرق الواضح بين النسخ والتخصيص, فإنَّ الأخير خروج بعض الأفراد عن حكم العام مع بقائه على حجيته وظهوره.

وأمّا النسخ فهو: إزالة حكم واستبداله بآخر كما سيأتي تعريفه.

فلا إشكال في تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد.

الجهة التاسعة: دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

ذكر هذا البحث بعض الأصوليين؛ وهو وإنْ كان قليل الفائدة لأنَّ النسخ نادر جداً ومحدود في الشرع الحنيف ولم يوجد مورد قد اشتبه فيه الأمر بينهما.

وكيف كان؛ فإنَّ العام والخاص المتخالفين من حيث التخصيص والنسخ؛ فإمّا أنْ يكون الخاص مخصصاً, وإمّا أنْ يكون ناسخاً, وإمّا أنْ يكون منسوخاً بالعام.

ص: 219

وقالوا إنَّ التخصيص يمتنع بعد وقت العمل بالعام لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة, وإنَّ النسخ يمتنع قبل حضور وقت العمل.

وعلى ضوء ذلك تترتب صورٌ:

الأولى: إذا كان الخاص مقارناً مع العام قبل حضور وقت العمل به؛ فإنَّه يكون مخصصاً.

الثانية: ما إذا كان الخاص بعد العام قبل حضور وقت العمل به؛ فإنَّه أيضاً يكون مخصصاً.

الثالثة: ما إذا كان الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام؛ يكون ناسخاً, إذ التخصيص يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.ويستثنى من هذه الصورة ما إذا لم يكن وارداً لبيان الحكم الواقعي؛ كما هو الحال في أغلب العمومات الواردة في لسان الشرع؛ فإنَّه يكون الخاص مخصصاً.

الرابعة: ما إذا كان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص؛ فإنَّه يدور الأمر بين كون الخاص مخصصاً وكونه منسوخاً لوقوع التعارض بين ظهور العام في العموم, وظهور الخاص في الدوام والإستمرار, والترجيح للثاني؛ لشيوع التخصيص في المحاورات حتى قيل: {ما من عام إلا وقد خُصِّص}, وندرة النسخ جداً, فيقدم ظهور الخاص الإطلاقي على ظهور العام ولو كان وضعياً لأنَّه أضعف.

هذا كله فيما إذا كان تاريخ كلُّ واحد من العام والخاص معلوماً من حيث العمل.

الخامسة: ما إذا كان تاريخ صدور العام معلوماً والخاص مجهولاً؛ فقد حكم المحقق الخراساني قدس سره (1) في هذه الصورة بالرجوع إلى الأصول العملية ولا تنفع كثرة التخصيص لأنَّ ذلك إنَّما يورث الظن ولا اعتبار بمثل هذا الظن, بخلاف صورة العلم بالتاريخ؛ فإنَّ التصادم فيها كان بين الظهورين فيقدم الأقوى وإنْ كان حاصلاً من الغلبة.

ص: 220


1- . كفاية الأصول؛ ص237.

السادسة: ما إذا كان تاريخ صدور كلّ من العام والخاص مجهولاً.

السابعة: ما إذا كان تاريخ صدور الخاص معلوماً والعام مجهولاً.

وقد حكموا في الصورتين الأخيرتين بالتخصيص؛ لشيوعه وندرة النسخ كما ستعرف.

والحقُّ أنَّ ما ذكر لا يمكن المساعدة عليه وذلك لوجوه:

الوجه الأول: إنَّ كبرى قبح تأخير البيان عن وقت العمل والحاجة تحتاج إلى توضيح المراد منها فإنَّه ليس على إطلاقها؛ فإمّا أنْ يراد من تأخير البيان عن وقت العمل والإمتثال أي الإنشاء اللاحق لحكم سابق مثل إنشاء وجوب الجلوس في يوم أمس.

وهذا قبيح لأنَّه لم يترتب عليه شيء من الداعوية فيكون عبثاً ولغواً.

وإمّا أنْ يراد به تأخير البيان عن الوقت الذي يكون المتكلم في مقام البيان.

وهو أيضاً قبيح لأنَّه خلف.

وإمّا أنْ يراد به تأخير البيان المفوت للمصلحة واستيفاء الغرض.

وهو قبيح فيما إذا علم بوجود المقتضي له وفقد المانع من كل جهة, وهذا غير مرتبط بالعام والخاص بل يجري في كلِّ مورد من موارد عدم البيان المستلزم لذلك فيختص بصورة العلم بالمقتضي وخصوصياته.وأمّا مع عدم العلم فلا محذور فيه, بل قد يجب فضلاً عمّا إذا علم بالعدم, ولعل المراد من هذه القاعدة هو الإحتمال الأول, فإنَّه بعد مضي الوقت لا يبقى مجال لإنشاء الإلزام أو الترخيص فيه لعدم ترتب الأثر عليه وإنْ اختار بعضهم الإحتمال الثاني.

وأمّا الإحتمال الثالث فهو السائد في سائر التشريعات وقد جرت سيرة العقلاء في القوانين العامة على جعل القانون ثم يسنّون التخصيصات والتقييدات تباعاً, فإذا كان الأمر كذلك في القوانين الوضعية فكيف بالقوانين التشريعية الأبدية التي يختلف الحكم فيها

ص: 221

باختلاف الموضوعات وأحوالها, مع إنَّ موجبات تأخير البيان كثيرة ومتعددة كقصور الإفهام والظروف ووجود التقية ونحو ذلك, وقد اختار المحققان الخراساني والنائيني (قدس سرّاهما) الوجه الثاني.

الوجه الثاني: إنَّ ما ذكر من امتناع النسخ قبل حضور وقت العمل غير صحيح, فإنَّ ذلك مبنيٌّ على الغالب وليس من مقومات النسخ بحيث يقبح بدونه, فإنَّ المناط كله وجود مصلحة فيه سواء كان قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ أو في أثنائه أو بعده. فإذا لم يتم المبنى يكون البناء فاسداً فلا وجه لتلك الصور السبعة على ما ستعرف.

الوجه الثالث: ذكره المحقق الخراساني قدس سره في موارد دوران الأمر بين كونه مخصصاً وناسخاً أو مخصصاً ومنسوخاً وعيّن الخاص فيهما معللاً باقوائية الظهور في الدوام على الظهور في العموم لشهرة التخصيص وندرة النسخ.

وأورد عليه المحقق النائيني قدس سره (1) بأنَّ أصالة العموم من الأصول اللفظية, وأصالة عدم النسخ من الأصول العملية, لأنَّها مفاد إستصحاب عدم النسخ لا أنْ تكون مفاد الإطلاق, لأنَّ الدليل المتكفل لأصل الحكم لا يمكن أنْ يتكفل إثبات استمراره لتأخير رتبة الإستمرار عن الحكم, وعند التعارض يتقدم الأصل اللفظي على العمل لحكومته عليه, فلا بُدَّ من الحكم بالنسخ لا التخصيص, ولكنه اختار التخصيص بوجه آخر.

وفي الجميع نظر؛ أمّا ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره فإنَّ التخصيص وندرة النسخ متأخرة عن زمان ورود الخاص.

بمعنى: إنَّه لم تكن ثابته قبل ورود الخصوصيات بالنحو المزبور, بل هي ناشئة عن الإلتزام بالتخصيص دون النسخ في الخصوصيات المزبورة, فلو التزم بالنسخ كان الأمر بالعكس.

ص: 222


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص510.

وحينئذٍ فلا بُدَّ من إلتماس العلّة في الإلتزام بالتخصيص دون النسخ من أول الأمر, ولم يثبت في وجهه ما يستلزم أقوائية أحد الظهورين على الآخر كما قالهالمحقق العراقي قدس سره , إذ لعل الإلتزام بالتخصيص لأجل الإلتزام بانقطاع النسخ بارتحال الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وعدم معقوليته من الأئمة الهداة علیهم السلام أو من جهة لزوم تذبذب الشريعة والإستهانة بالأحكام لو التزم بالنسخ, وغير ذلك مِمّا يوجب انتفاء قوة الظهور.

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنَّ النسخ مفاد الإستصحاب لا الإطلاق فهو مردود بأنَّ الدليل كما يتكفل بإطلاقه ثبوت الحكم لجميع أفراده الدفعية, كذلك له إطلاق يتكفل ثبوته لأفراده التدريجية الذي هو بمعنى استمراره.

وقد اختار المحقق الإصفهاني قدس سره (1) عدم النسخ, لأنَّ كلام الأئمة علیهم السلام بمنزلة كلام واحد, لأنَّه بيان لحكم الله الواقعي الثابت من أول الأمر لا أنَّه تشريع فعلي للحكم, وعليه؛ فلا تأخر ولا تقدم بل الكلُّ بمنزلة المقارن فيتعين الخاص للتخصيص ولا يحتمل النسخ.

وهو وإنْ أجاد في أصل المطلب فإنَّ بياناتهم علیهم السلام يكشف عن سبق جعل الحكم.

وأمّا كون ذلك يستلزم سبق المجعول فلا دليل عليه, إذ من المحتمل أنْ يكون ابتداء الحكم من حين بيان المعصوم علیه السلام وإنْ كان جعله سابقاً, فإثبات كونه في السابق إنَّما من جهة الإطلاق, وعليه؛ يدور الأمر بين رفع اليد عن أصالة العموم أو رفع اليد عن الإطلاق بعد التعارض بينهما فيثبت احتمال النسخ.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّه بناءً على امتناع النسخ في عصر الأئمة علیهم السلام لأنَّه يختص بالرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن لاحتمال النسخ مجال حينئذٍ فيتعين التخصيص للخاص, فلا وجه للتفصيل الذي ذكروه.

ص: 223


1- . نهاية الدراية؛ ج3 ص294.

وأمّا بناءً على إمكان تحقق النسخ بمعنى بيانهم علیهم السلام النسخ الثابت سابقاً كان احتمال النسخ في كلِّ خاص ثابتاً. ولكن الإلتزام به في المخصصات ممتنع عادة لملازمته تذبذب الشريعة وعدم استقرارها والإستهانة بالأحكام, وعليه؛ فلا يدور الأمر بين النسخ والتخصيص في الخاص؛ فلا موضوع لهذا البحث ولا ثمرة له؛ إلا ما قد يقال بأنَّ أثر التخصيص خروج الخاص عن حكم العام رأساً, والنسخ ارتفاع الحكم عن المنسوخ من حين ظهور النسخ, ولكن إثبات الكلية لهذه الثمرة تحتاج إلى دليل وهو مفقود.

ثم إنَّ المحقق الخراساني قدس سره (1) ذكر بعد ذلك بحث النسخ والبداء وتبعه غيره ولكن الأول من مباحث التفسير, والثاني من مباحث علم الكلام, وقد أفاض السيدالوالد قدس سره البحث في كلِّ واحد منهما بما لا مزيد ولا حاجة إلى ذكره, ومن أراد الإطّلاع عليه فليراجع تهذيب الأصول(2).

ص: 224


1- . كفاية الأصول؛ ص238.
2- . ج1 ص146-151.

الفصل الخامس: المطلق والمقيد

اشارة

الفصل الخامس(1)

المطلق والمقيد

تمهيد

المطلق والمقيد من الأمور الشايعة في المحاورات من دون اختصاص بلغة ولسان ويتقوم بهما الإفادة والإستفادة, وعليه؛ فيكون البحث عند الأصوليين فيهما لبيان ما هو المتفاهم العرفي لهما, وليس الأمر خاص بهما دون غيرهم؛ فكلُّ ما هو مطلق عند العرف يكون مطلقاً عند الأصولي, وكذا المقيد؛ فليس له حدٌّ خاص فيه.

ومع ذلك فقد عرّف الأصوليون كلٌّ منهما بتعاريف؛ منها: إنَّ المطلق ما دلَّ على شايع في جنسه وفسّر الشيوع في الجنس شموله جميع ما يصلح أنْ ينطبق عليه شمولاً إستغراقياً أو بدلياً أو مجموعياً كما تقدم في باب العام والخاص.

وأورد عليه بعدم الإطّراد وعدم الإنعكاس.

وردّ بأنَّ المقصود منه شرح الإسم لا بياناً لحدٍّ أو لرسم.

ومنها غير ذلك, ولا حاجة إلى ذكرها فإنَّها تشير إلى معنى واحد عند الجميع, وهو: مالم يحدّ ولم يقيَّد بقيد, والمقيد خلاف ذلك؛ فإذا أريد تفسير ذلك بالتعبير الإيجابي كان نفس الذي ذكروه آنفاً, ومثاله الماء والفرد والرجل.

وأمّا الشمولية والبدلية والمجموعية إنَّما تستفاد من القرائن؛ خارجية كانت أو داخلية.

وقد ذكرنا في بحث العام والخاص أنَّ تلك العناوين الثلاثة إنَّما تأتي من ناحية تعلق الأحكام بالطبايع والماهيات, وإلا فالإطلاق في الجميع شيء واحد وهو الشمول لجميع

ص: 225


1- . من مباحث الألفاظ.

ما يصلح أنْ ينطبق عليه؛ فإذا كان الإنطباق والشمول عرضياً بحيث يكون كل فرد من أفراد الطبيعة المطلقة موضوعاً مستقلاً للحكم في عرض سائر الأفراد سُمِّيَ ذلك بالإطلاق

الشمولي, ويكون نظير العموم الشمولي.

نعم؛ الفرق بينهما من ناحية أنَّ العموم بالوضع والإطلاق بمقدمات الحكمة وبحكم العقل, وقيل تقدم العام على المطلق الشمولي كما يتقدم المطلق الشمولي على البدلي وسيأتي بيانه. وإنْ كان الإنطباق على الطبيعة المهملة المجردة عن كلِّ خصوصية وقيد بحيث لو أتى المكلف بأيِّ فرد من أفرادها كان ممتثلاً سمي هذا بالإطلاق البدلي, نظير العموم البدلي, وإنْ كان الشمول لمجموع الأفراد من حيث المجموع بحيث كان موضوعاً واحداً يعدُّ ذلك إطلاقاً مجموعياً نظير العام المجموعي, والفرق بينهما في القسمين الأخيرين كما ذكرناه في القسم الأول.

وبالجملة؛ إنَّه لا فرق بين العام الشمولي والبدلي والمطلق لذلك في مقام الثبوت وإنَّما الفرق بينهما في مقام الإثبات؛ إذ لكلٍّ منها لفظ يختص به وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

تنبیهات

وينبغي التنبيه على أمور:

الأمر الأول: الإطلاق والتقييد من شؤون المعاني أولاً وبالذات, ويتَّصف بها الألفاظ ثانياً وبالعرض لمكان الإتّحاد بين الألفاظ والمعاني, ولأجل ذلك يتَّصف كلّ منهما بصفات الآخر في الجملة, ولا ثمرة علمية في جعلهما من صفات المعنى أو من صفات اللفظ بعد ظهور كلٍّ منهما في المعنى وفي اللفظ أيضاً كظهور حسن المعنى وقبحة في اللفظ كما هو واضح.

الأمر الثاني: إنَّ الإطلاق والتقييد من صفات ذات الإضافة, كالعام والخاص, فربَّ مقيد يكون مطلقاً من جهة.

ص: 226

نعم؛ المطلق الحقيقي المجرد عن كلِّ قيد هو اللابشرط المقسمي المهمل حتى عن عنوان اللابشرطية كما سيأتي.

الأمر الثالث: ذكروا أنَّ الإطلاق والتقييد لا يتطرقان إلى المعاني الحرفية؛ إمّا لأجل أنَّهما معاني جزئية وإنَّ المعنى الجزئي لا يقبل الإطلاق والتقييد, أو لأجل كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة, ولو قلنا بأنَّ معاني الحروف معاني كلية لأنَّ الوضع والموضوع له كِلاهما عامان فيها لأنَّ كل مورد لا يتطرق فيه التقييد لاستحالته, فلا يتطرق الإطلاق أيضاً ويكون محالاً, ولا شكَّ في أنَّ المعاني الحرفية غير قابلة للتقييد لعدم إستقلالها كما عرفت في بحث الوضع, لذلك لايقع الحرف مسنداً أو مسنداً إليه لاحتياجهما إلى اللحاظ الإستقلالي. وسيأتي مزيد بيان في هذه المقالة وإنَّه لا كلية في ذلك.الأمر الرابع: المعروف إنَّه كما تتَّصف المعاني الأفرادية بالإطلاق والتقييد كذلك تتَّصف الجمل التركيبية لهما, وذلك كتقييد جملة الجزاء بالشرط وتقييد العقود بالقيود الخاصة. ولكن وقع الكلام في المقصود من الإطلاق والتقييد فيها.

فقد ذكر بعض الأصوليين أنَّ الإطلاق في المعاني الأفرادية يوجب التوسعة دائماً وأمّا الإطلاق في الجمل التركيبية فيعنى به ما يوجبه طبع نفس القضية الموجب للتوسعة مرة وللتضييق أخرى, وهذا المعنى لم يقع تحت ضابطة كلية حتى يتكلم في خصوص موردها, بل البحث إنَّما وقع فيها باعتبار أنواعها في الموارد المناسبة كمباحث الأوامر؛ حيث يتكلم فيها عن اقتضاء إطلاق القضية للوجوب التعييني العيني النفسي, وكمباحث المفاهيم التي يتكلم فيها عن اقتضاء إطلاق القضية الشرطية للمفهوم.

وأورد عليه بأنَّه لم يثبت للجملة التركيبية معنىً ثالث غير معانيها الأفرادية حتى يقتضيه طبعها, فليس للقضية طبع خاص بها يقتضي شيئاً جديداً خلاف المفردات.

ص: 227

ويمكن الجواب عنه بأنَّ الجملة التركيبية وإنْ تحققت من الأفراد بما لها من المعاني الأفرادية إلا أنَّ باجتماعها يحصل منها إشارة أو رمز إلى معنى ثالث, فإنَّ مفردات جملة {إنَّ الله وتر ويحب الوتر} -مثلاً- معلومة ومعانيها واضحة, إلا أنَّ باجتماعها يتحقق معنىً آخر غير ما في المفردات؛ وهذا واضح.

ولكن ذلك لا يوجب خروج الإطلاق والتقييد عن معنيهما المعروف إلا أنَّ مصداقهما في الجملة التركيبية قد تختلف عن المعاني الأفرادية, وربَّما يحصل خلط في بعض المصاديق فيحتاج إلى إنعام نظر وتفطن, فما ذكره في الأوامر ليس التمسك فيها بإطلاق الجملة بل هو من موارد التمسك بإطلاق المعاني الأفرادية؛ إمّا مدلول الهيئة كما يظهر من كلمات المحقق الخراساني قدس سره (1), أو المادة كما يظهر من بعضٍ(2), أو المادة المنتسبة كما حققه المحقق النائيني قدس سره (3), والجميع من المعاني الأفرادية لا معاني الجمل.

وهكذا بالنسبة في الشرط؛ فإنَّه إمّا أداة الشرط أو نفس الشرط فتجري فيها مقدمات الحكمة, كما تجري في سائر موارد الإطلاق.

الأمر الخامس: ذهب جمعٌ من الأصوليين إلى أنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لا الإيجاب والسلب, لأنَّ الوجود والعدم تارةً يلحظان بالنسبة إلى نفس الطبيعة والماهية فيكونان متناقضين فلا يمكن إجتماعهما كما لا يمكن إرتفاعهما, وأخرى بلحاظ العدم بالإضافة إلى ما يقبل الإتّصاف بالوجود فيكونالملحوظ هو العدم الخاص وهو العدم الناعتي, ففي مثل ذلك يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة, فعدم الملكة هو

ص: 228


1- . كفاية الأصول؛ ص108.
2- . منتقى الأصول, ج3 ص419.
3- . أجود التقريرات؛ ج1 ص169.

العدم فيما يقابل الإتّصاف بالوجود, كالتقابل بين البصر والعمى؛ فإنَّ الأخير هو عدم البصر فيما يمكن البصر, ولذا لا يقال للجدار أعمى, والمتقابلان تقابل العدم والملكة يرتفعان عن المورد غير القابل للإتّصاف.

وعليه؛ قالوا إنَّ الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في مورد يقبل التقييد فيكونان من موارد العدم والملكة, لأنَّ الإطلاق عبارة عن تسرية الحكم لمورد القيد وغيره مقابل التقييد الذي هو عبارة عن إختصاص الحكم بمورد القيد, فيجب أنْ يكون المطلق مقسماً للمقيد وغيره, فإذا لم يكن مقسماً لها امتنع الإطلاق, ولذا لا يصحُّ الإلتزام بإطلاق متعلق الوجوب في إثبات أنَّه توصلي لامتناع تقييده بقصد القربة.

وذهب آخرون إلى أنَّ التقابل بينهما تقابل التضادّ, لأنَّ الإطلاق عنوان وجودي وهو الشيوع والإرسال والتقييد هو المتضيق فيكون التقابل بينهما تقابل التضاد, لكن كلٌّ منهما وجودياً؛ فلا يصحُّ اجتماعهما في محلٍّ واحد من جهة واحدة, ويمكن إرتفاعهما.

وأمّا تقابل السلب والإيجاب بينهما بناءً على تفسير المطلق بالتعبير السلبي فقد ذكر جمع عدم صحته بين المطلق والمقيد, لأنَّه لا يمكن ارتفاع النقيضين وفي المقام يجوز ذلك كما في أخذ قصد الأمر في متعلقه؛ حيث لا يصح تقييد الأمر به ولا إطلاقه بالنسبة إليه فيرتفع الإطلاق والتقييد في هذا المورد والجميع مورد نظر ونقاش سيأتي ذكره.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في الإطلاق والتقييد في ضمن بحوث:

ص: 229

البحث الأول: ألفاظ المطلق

اشارة

وهي متعددة:

اللفظ الأول: أسماء الأجناس

اشارة

عرفت إسم الجنس بأنَّه اللفظ الموضوع للذات المهملة عن كلِّ قيد حتى قيد الإطلاق؛ سواءً كان جوهراً كانسان ورجل وحيوان وفرس, أم عرضاً كالأبيض والأسود, أم عرضياً كالسواد والبياض, أم إعتبارياً كالزوجية, أم إنتزاعياً كالملك ونحوه.

وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي بيان أمور:الأمر الأول: إنَّ كلَّ شيء إمّا أنْ يلحظ بذاته؛ ولا يتَّصف في هذا اللحاظ بالإطلاق والتقييد لفرض قصر اللحاظ على الذات من حيث هي, ولا ريب أنَّهما ليسا في مرتبة الذات وهي المعبر عنها بالماهية بما هي هي التي لا يحمل عليها الوجود والعدم ونحو ذلك فهي ليست إلا هي.

وإمّا أنْ يلحظ بالنسبة إلى ماهو خارج عن الذات ومن هذا اللحاظ تتحقق الإعتبارات الثلاثة المعروفة.

الأمر الثاني: إختلفوا في الموضوع له في إسم الجنس؛ فذهب المشهور إلى أنَّه الطبيعة الملحوظ معها عدم لحاظ الشرط؛ المعبر عنها بالماهية لابشرط القسمي, واختار المحقق الخراساني قدس سره أنَّ إسم الجنس موضوع للماهية المهملة بلا شرط أصلاً حتى لحاظ أنَّها كذلك فقال: (إنَّ الموضوع له إسم الجنس هو نفس المعنى وصرف المفهوم غير الملحوظ معه شيء أصلاً, الذي هو المعنى بشرط شيء, ولو كان ذاك الشيء هو الإرسال والعموم البدلي, ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شيء معه الذي هو الماهية اللابشرط القسمي)(1).

ص: 230


1- . كفاية الأصول؛ ص243-244.

وفي تعريف السيد الوالد قدس سره الآنف الذكر هو اللفظ الموضوع للذات المهملة عن كلِّ قيد حتى قيد الإطلاق.

وعلى كِلا المذهبين يكون إسم الجنس موضوعاً بإزاء الماهية المطلقة بنحو يكون الإطلاق مستفاداً من نفس المعنى الموضوع له.

وقيل إنَّه موضوع للجامع بين الماهية المطلقة والماهية المقيدة, بحيث نحتاج في استفادة الإطلاق إلى تأسيس قرينة عامة تسمى مقدمات الحكمة.

الأمر الثالث: الماهية؛ إمّا لها وجود خارجي أو وجود ذهني بوجودها الخارجي, وتنقسم إلى قسمين؛ إمّا أنْ تكون متَّصفة بوصف وإمّا أنْ لا تكون متَّصفة به؛ فالإنسان الخارجي إمّا أنْ يكون عالما ً أو ليس بعالم, ولا يمكن أنْ يكون إنسان لا هو عالم ولا غير عالم؛ لأنَّ ارتفاع النقيضين محال, والإنسان الجامع بين العالم واللا عالم موجود ضمن أحد الفردين لا إنَّه موجود مستقل وإلا لَما كان جامعاً, فالماهية بوجودها الخارجي تنقسم إلى قسمين وليس لهما ثالث, وهي بوجودها الذهني المنتزع من الخارج مباشرة؛ فهي تكون على ثلاثة أقسام؛ فإمّا أنْ تلحظ بما هي متَّصفة بوصف كالعلم في الإنسان, وإمّا أنْ تلحظ متَّصفه بعدمه, وثالثة تلحظ من دون أنْ تتَّصف بشيء وأنْ تكون بما هي هي.

والأول يسمى (الماهية بشرط شيء), والثاني (الماهية بشرط لا), والثالث (الماهية لابشرط القسمي), وهذا الأخير ليس جامعاً بين القسمين الأوليين في عالم الذهن وإنْ كان جامعاً بلحاظ الوجودات الخارجية, بل هو موجود بوجودذهني مستقل في عرض وجود القسمين الآخرين, أي: الماهية بشرط شيء والماهية بشرط لا.

وهذه الأقسام الثلاثة تسمى بالمعقولات الأولية, لأنَّها منتزعة من الخارج إبتداءً ومباشرةً, كما أنَّ الذهن عند تصوره هذه المفاهيم الثلاثة إنتزع مفهوماً آخراً وهو الذي يسمى باللاشرط المقسمي. فإذا أردنا تطبيق ما ذكرناه على مثالنا السابق وهو الإنسان فإنَّه ينتزع

ص: 231

من مفهوم الإنسان العالم مفهوم الإنسان المقيد بمفهوم العالمية, ومن مفهوم الإنسان اللا عالم مفهوم الإنسان المقيد بعدم العالمية, وينتزع من مفهوم الإنسان مفهوم الإنسان الخالي من القيدين؛ الوجودي والعدمي, وهناك قسم رابع وهو مفهوم الإنسان الجامع بين العالم واللا عالم والإنسان, فالجامع بين كلًّ ذلك هو الإنسان, وله وجود ذهني مستقل في قبال كلِّ واحد من الأقسام الثلاثة وإنْ لم يكن له وجود آخر غير وجود تلك الأقسام غير وجودها في المعقول الأول.

نعم؛ له وجود مستقل التعقل وهذا هو المسمى بالماهية اللابشرط المقسمي.

هذا ما يرتبط باعتبارات الماهية وإنْ كان لهم ملاحظات حول بعض تلك التقسيمات كالقسم الثالث -أي اللابشرط القسمي- والقسم الرابع -وهو اللابشرط المقسمي-, ولا يخفى أنَّ هذه التقسيمات وبيان المصطلحات فيها والإيراد والنقض عليها؛ كلُّ ذلك لا ربط له بما نحن فيه, إلا أنَّ المهم التكلم حول قضايا ترتبط بهذا التقسيم:

القضية الأولى: إنَّ انطباق الكلي الطبيعي على أيِّ واحد من هذه اللحاظات، وفيه رأيان:

أحد الرأيين: إنَّه ينطبق على اللابشرط القسمي, وقيل إنَّه ينطبق على اللابشرط المقسمي,

واحتمل إنَّه ينطبق على الماهية المبهمة المهملة. فذهب المحقق السبزواري قدس سره على أنَّ الكلي الطبيعي عبارة عن الماهية اللابشرط المقسمي.

وأورد عليه بأنَّ الكلي الطبيعي من المعقولات الأولية, بينما يكون اللابشرط المقسمي من المعقولات الثانية.

وفيه: إنَّ تلك الإعتبارات الثلاثة من المعقول الأول والقسم الرابع من المعقول الثاني أول الكلام؛ فإنَّ للذهن أنْ ينتزع من الماهية الخارجية الإعتبارات الأربعة مرة واحدة, ثم إنَّ انطباق الكلي الطبيعي على مصاديقه يكون حقيقياً ذاتياً, وهو الجامع بين الأفراد وبين انطباق أحد العنوانين عليه, فلا يضر بعد كونه من المفاهيم العقلية كما ستعرف.

ص: 232

وأمّا ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) من أنَّ اللابشرط المقسمي إنَّما هو من المعقول الثاني, واللابشرط القسمي من المعقول الأول, والكلي الطبيعي من الثاني دون الأول؛ فإنَّه وإنْ كان صحيحاً فهو من البحوث العقلية الدقيقة التي تبتني على دقائق الأمور, وأمّا الكلي الطبيعي إنَّما ينتزع من الأفراد الخارجية, ولذا قيل أنَّ الكلي الطبيعي إنَّما هو عين أفراده فيكون من المعقولات الأولية, واللابشرط المقسمي إنَّما هو الجامع بين أفراد تلك الماهية المعقولة, فهو أقرب إلى اللابشرط القسمي.

ولعلَّ الخلط حصل من ناحية المصداق الخارجي والمصداق الذهني؛ ففي الأول يكون من اللابشرط القسمي, وفي الثاني يكون من اللابشرط المقسمي, والكلي الطبيعي أقرب إلى المصداق الخارجي من المصاديق الذهنية.

وأمّا السيد الخوئي قدس سره (2) فقد جعل الكلي الطبيعي مخالفاً للابشرط القسمي بأنَّ اللابشرط

القسمي عبارة عن المفهوم المقيد بعدم القيد بنحوٍ يكون التقييد مأخوذاً في الملحوظ باللابشرط

القسمي؛ فالكلي الطبيعي مغاير مع الملحوظ من اللابشرط القسمي.

وفيه: إنَّ التقييد إنَّما في اللحاظ دون الملحوظ, وعليه؛ لا يبقى فرق بين الكلي الطبيعي وبين الملحوظ في اللابشرط القسمي.

والرأي الآخر؛ إنَّ الكلي الطبيعي يكون صالحاً للإنطباق على كلِّ أفراده. وأمّا اللابشرط القسمي يكون منطبقاً وفانياً بالفعل في تمام الأفراد فلا يمكن أنْ يكون أحدهما عين الآخر.

وفيه: إنَّ فعلية الفناء موجودة في كلِّ واحد منها باعتبار الحكم المعلق عليه الذي يسري إلى تمام الأفراد, وهذا موجود في اللابشرط القسمي والكلي الطبيعي على حدٍّ سواء.

ص: 233


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص407.
2- . ذكره السيد الصدر قدس سره في بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص407.

نعم؛ إنْ كان المراد من الفعلية غير ما ذكرناه فهو خلط بين المطلق والعام الذي يكون تمام الأفراد فيه بالنظر التصوري والمطلق, وإنَّما يكون اللحاظ فيه كون الطبيعة مشتركة بين الأفراد.

وكيف كان؛ فإنَّه لا ثمرة عملية تترتب على النزاع في كون الكلي الطبيعي هو اللابشرط القسمي أو اللابشرط المقسمي.

القضية الثانية: في أنَّ الماهية المهملة عبارة عن اللابشرط المقسمي أو غير ذلك.عرفت آنفاً أنَّ الماهية المهملة عبارة عمّا ينتزع من الخارج من دون أضافة إلى قيد حتى قيد عدم القيد, وهذا هو معنى إن النظر في الماهية المهملة مقصور على ذاتها وذاتياتها, وعلى ما ذكر وقع الكلام في كون الماهية المهملة من اللابشرط القسمي أو اللابشرط المقسمي أو شيء ثالث؛ فذهب المحقق الخراساني قدس سره (1) إلى كونها من اللابشرط المقسمي.

وذهب المحقق الإصفهاني قدس سره (2) إلى أنَّها شيء ثالث؛ لا من اللابشرط القسمي ولا من اللابشرط المقسمي.

وكأنهم إتَّفقوا على عدم كونهما من اللابشرط القسمي.

وقد إستدلَّ من قال بأنَّها ليس من اللابشرط المقسمي, لأنَّ الماهية المهملة من التعقل الأول بينما اللابشرط المقسمي من المعقول الثاني, فلا يمكن أنْ يكون أحدهما عين الآخر كما إنَّها ليست من اللابشرط القسمي؛ إمّا لأجل أنَّ الماهية اللابشرط القسمي فيها حدّ وقيد, وهو حدّ الإطلاق وعدم التقييد, وبهذا صار في قبال المقيد والماهية المهملة عارية عن القيود حتى قيد التعرية عن القيد, ولهذا كان جامعاً بين المطلق والمقيد أو لأجل أنَّ

ص: 234


1- . كفاية الأصول؛ ص243-244.
2- . نهاية الدراية؛ ج1 ص351-352.

الماهية المهملة قد اقتصر النظر فيها على ذاتها وذاتياتها فلا يمكن أنْ يحكم عليها بشيء خارج عن ذاتها وذاتياتها, بينما في اللابشرط القسمي تحكم على الماهية بأشياء كثيرة خارجة عن ذاتها وذاتياتها.

وجميع ذلك مورد نظر ونقاش:

1- إنَّ جعل الماهية المهملة من التعقل الأول واللابشرط المقسمي من المعقول الثاني غير صحيح؛ فإنَّ العقل إنَّما تعقل الماهية الخارجية وانتزع منها تلك الإعتبارات دفعة واحدة كما عرفت, فالماهية المهملة كاللابشرط المقسمي من المعقولات مطلقاً.

2- إنَّ الماهية المهملة هي نفس ما هو المفهوم المتعقل من اللابشرط القسمي؛ فإنَّه بهذا المنظور يكون مقصوراً على الماهية وعارياً عن كلِّ قيد وحدّ.

وأمّا ما ذكره السيد الخوئي قدس سره (1) من أنَّ اللابشرط القسمي عبارة عن لحاظ الماهية ولحاظ عدم القيد فيها, فإنَّه بناءً عليه يتحقق التغاير بينه وبين الماهية المهملة لأنَّ عدم دخل القيد صار قيداً في الملحوظ في مفهوم اللابشرط القسمي.ولكنه ليس بشيء لأنَّه لا يوجد في البين لحاظان؛ لحاظ الماهية ولحاظ عدم القيد, فإنَّ الملحوظ هو شيء واحد؛ هو لحاظ الماهية مجردة عن عدم القيد. وهذا كما يتحقق في اللابشرط القسمي يتحقق في الماهية المهملة من دون تغاير بينهما.

3- إنَّ قصر النظر على الذات والذاتيات لا يعني عدم الحكم على الماهية بشيء أبداً حتى الحكم بأنَّها ماهية مهملة, فالحكم إذا لوحظ في مرتبة الذات والذاتيات لا يضر من حمله على الماهية.

ص: 235


1- . ذكره السيد الصدر قدس سره في بحوث في علم الأصول؛ ج3 ص407.

نعم؛ إذا كان أجنبياً عن تلك المرتبة فلا يمكن حمله. وفي ذلك لا يفرق بين الماهية المهملة واللابشرط القسمي, ومن ذلك يظهر أنَّ الماهية المهملة نفس اللابشرط القسمي لا أنْ يكون شيئاً ثالثاً.

القضية الثالثة: في أنَّ المطلق من اللابشرط المقسمي أو اللابشرط القسمي؛ فإذا كان من الثاني فإنَّه لا يحتاج في إثبات الإطلاق إلى مقدمات الحكمة لفرض لحاظ الإرسال فيه, بخلاف الأول؛ فإنَّه يحتاج إليها لفرض إهماله حتى عن قيد الإرسال.

ذهب جمعٌ إلى كونه من الأول -ومنهم السيد الوالد قدس سره - لأنَّه المطلق الحقيقي المجرد عن جميع القيود حتى لحاظ الإطلاق والإرسال.

وفيه: إنَّ هذا اللحاظ موجود في اللابشرط القسمي كما عرفت آنفاً.

واحتمل بعضهم أنْ يكون المطلق هو الذات من حيث هو.

وردَّه السيد الوالد قدس سره (1) بوجهين:

أولاً: إنَّ لحاظه من حيث هو نحو قيد يخرج به عن الإطلاق الصرف.

وفيه: ما عرفت آنفاً من إشتراك الماهية المهملة من حيث هي لا تختلف مع اللابشرط القسمي في إمكان حمل الحكم عليهما فهي لا تختلف عنه.

ثانياً: إنَّ المطلق في المحاورات ما لوحظ فيه الذات المهملة بالنسبة إلى عوارض الذات لا بالنسبة إلى نفس الذات من حيث هي.

وفيه: ما تقدم من أنَّ الماهية المهملة ليست مهملة بالنسبة إلى الذات والذاتيات, نعم؛ تكون مهملة بالنسبة إلى خارج الذات.

ص: 236


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص152-153.

وأخيراً إختار السيد الوالد قدس سره تبعاً للمحقق الخراساني قدس سره وغيره أنَّ المطلق هو اللابشرط المقسمي المهمل عن كلِّ قيد حتى عن الإطلاق فيحتاج في ثبوته له إلى مقدمات الحكمة.والحقُّ أنْ يقال: إنَّ المطلق إذا أردنا تطببيق ما ذكره الأصوليون في المقام وغيره من إعتبارات الماهية عليه, فإنَّه أقرب إلى اللابشرط المقسمي كما ذكروه من أنَّه مهمل عن كلِّ قيد حتى عن الإطلاق. ولكن إذا لاحظنا المطلق بالنظر العرفي الذي هو المناط في أمثال المقام هو المفهوم الشايع المرسل في ذاته بحيث يشمل جميع ما يمكن تطبيقه عليه مقابل المقيد, ولذا احتاج إلى مقدمات الحكمة سواءً كان ذلك الشمول والتطبيق على نحو اللابشرط المقسمي أو القسمي أو الماهية المهملة؛ فإنَّه لا يضرُّ التسميات بالنسبة إلى أصل المطلوب.

إذا عرفت ذلك فقد وقع الكلام في أنَّ إسم الجنس الذي عرفت أنَّه الإسم الموضوع للماهية المهملة عن كلِّ قيد من وضعه لخصوص المطلقة أو للجامع بين المطلقة أو المقيدة, وتظهر الثمرة في أنَّه إذا جعل إسم الجنس موضوعاً للحكم يستفاد منه عموم الحكم لجميع الأفراد من الوضع لا بالقرينة إذا كان موضوعاً للمطلق دونما إذا كان موضوعاً للجامع؛ فإنَّه يحتاج إلى القرينة.

فقد يقال إنَّ الموضوع له في إسم الجنس ذات الماهية والتي تصلح أنْ تقع مورد جميع التقسيمات بلا تقيد لها باعتبار دون آخر, وهو الشيء الثابت في جميع الأقسام.

واستدلَّ عليه بأنَّه يصحُّ إستعمال اللفظ في جميع هذه الأقسام بلا مسامحة وعناية, فلو كان موضوعاً لغير ذلك لكان إستعماله في جميع الأقسام مع العناية. ومن ذلك يظهر أنَّه موضوع للماهية بنحو اللابشرط القسمي, أي المهملة.

ص: 237

تحقيق الكلام في كون إسم الجنس في مقام الثبوت أو في مقام الإثبات

وتحقيق الكلام في كون إسم الجنس مطلق يقع تارةً في مقام الثبوت وأخرى في مقام الإثبات؛

أمّا الأول (في مقام الثبوت)؛ فقد ذكر فيه وجهان لعدم إمكان وضعه للمطلق أو للجامع بينه وبين المقيد؛ أحدهما: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّ الوضع لا يمكن أنْ يكون للماهية المطلقة, لأنَّ الإطلاق قيد ثانوي ومن شؤون اللحاظ والصورة الذهنية لا الملحوظ وذي الصورة, فلو كان الإطلاق قيداً في وضع إسم الجنس ومعناه لامتنع انطباقه على الخارج إلا بالتجريد.

وأورد عليه بأنَّ الوضع وإنْ كان عبارة عن علقة تصورية بين اللفظ والمفهوم وإنَّ الألفاظ إنَّما وضعت بإزاء الصور والمفاهيم لا الوجود الخارجي ولا الذهني, لكن الألفاظ تثير المفاهيم في الذهن وهو لحاظ لا يكون معه قيد, وهذا هو معنى الإطلاق فيكون المقصود من إسم الجنس إثارة صورة المفهوم ليس معها قيد لا إنَّه يثير مفهوم الماهية التي لم يلحظ معها قيد بحيث يكون الإطلاق بمفهومهالإسمي ملحوظاً في المعنى الموضوع له حتى يكون أمراً ذهنياً لا ينطبق على الخارجيات كما إدَّعاه المحقق الخراساني قدس سره .

وبتعبير آخر: إنَّ وضع اللفظ إنَّما يكون إلى الذات بما تعلق به اللحاظ, فيكون التعبير باللحاظ إشارة إلى تلك الذات.

والآخر: إنَّه لا يمكن وضع إسم الجنس للجامع, لأنَّ الماهية المقيدة هي التي لوحظ فيها القيد, والماهية المطلقة هي التي لم يلحظ معها قيد, والجامع بين المطلق والمقيد ذات الماهية من حيث هي هي سواء لوحظ معها قيد أم لا, ومثل هذا الجامع لا يمكن أنْ يلحظ بحدِّ ذاته, فإنَّ الماهية إذا لوحظت فإمّا أنْ تلحظ مع القيد فتكون مقيدة, أو لا يلحظ معها القيد فتكون مطلقة, فكيف يمكن وضع اللفظ للجامع.

ص: 238


1- . كفاية الأصول؛ ص244.

وفيه: إنَّه مغالطة واضحة, فإنَّه يمكن لحاظ الماهية مجردة عن الفرضين السابقين فإنَّه قد يلحظ الذهن الماهية ولم يلحظ معها أيَّ واحد منهما وهي الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلق والمقيد فيوضع إسم الجنس بأزائها, وعلى فرض التنزل وعدم إمكان لحاظ الجامع لكن يمكن للذهن أنْ يتصور عنواناً مشيراً لذلك الجامع؛ كما في موارد الوضع العام والموضوع له الخاص, فإنَّ التصورات الذهنية لا تحدَّها الحدود الخارجية ومن ذلك يظهر أنَّه يمكن ثبوتاً وضع إسم الجنس للمطلق أو الجامع بين المطلق والمقيد ولكن الكلام في مرحلة الإثبات.

أمّا الثاني (وهو مقام الإثبات)؛ فالظاهر إنَّ أسماء الأجناس موضوعة بإزاء الماهية المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة كما اختاره جمعٌ منهم السيد الوالد قدس سره , ويدلُّ عليه الوجدان الذي يقضي بعدم عناية في موارد استعمال إسم الجنس مع القيد. مع إنَّه لو كان موضوعاً للمطلق لكان استعماله في موارد القيد مجازاً فالحاصل إنَّ اسم الجنس وضع لذات المعنى.

اللفظ الثاني: علم الجنس

اللفظ الثاني(1): علم الجنس

كأسامة للأسد, وثعالة للثعلب ونحوها, وهو إسم الجنس في الواقع ولكن علم الجنس حالة من حالاته وهو مقصور على السماع فقط؛ إذ ليس لكلِّ جنسٍ علم.

و لذا قال ابن مالك:

ووضعوا لبعض الأجناس علم *** كعلم الأشخاص لفظاً وهو علم(2)

وكيف كان؛ فهما يتَّفقان في الإبهام والإجمال ولكن الوجدان العرفي يحسّ بالفرق بينهما.

ص: 239


1- . من ألفاظ المطلق.
2- . شرح ابن عقيل؛ ج1 ص111.

وكذلك إختلف العلماء في بيان الفرق على وجوه:

الأول: إنَّ إسم الجنس نكرة بخلاف علم الجنس؛ فإنَّه معرف لفظي يجري عليه أحكام المعرفة في الجملة لصحَّة الإبتداء به ونحو ذلك لكن معرفته في اللفظ لا تسري إلى المعنى, كما إنَّ التأنيث اللفظي لا يسري إلى المعنى والذات وإنْ كان هذا النحو من التعريف نادراً في الإستعمالات المحاورية لا سيما في الفقه.

الثاني: إنَّ إسم الجنس وضع لذات المعنى بخلاف علم الجنس الذي وضع لذات المعنى في حال تميزه عن غيره من دون أنْ يكون اللحاظ قيداً حتى يكون مقيداً ويمتنع صدقه على الخارجيات كما عرفت آنفاً, ولأجل هذه العناية صار علم الجنس من المعرف اللفظي كما تقدم, وبالأحرى يرجع هذا الأمر إلى السابق في الواقع, وكِلاهما يشيران إلى التعين الذهني الجنسي المستبطن في مدلول علم الجنس.

الثالث: إنَّ علم الجنس قد أخذ فيه الإطلاق وتجرد الطبيعة عن القيد, وهذا نحو تعين في الماهية, وتقليل في إهمالها.

وفيه: إنَّ مجرد أخذ الإطلاق فيه لا يجعله معرفة, ولذا لم يقل أحد من القائلين بأنَّ إسم الجنس موضوع للمطلق بأنَّه معرفة, ولم يستشكل عليهم بذلك أحد أيضاً. اللهم إلا أنْ يراد من ذلك إنَّه يستلزم التعيين الذهني كما ذكرناه آنفاً, ولكنه بعيد أيضاً.

الرابع: ما ذكره بعض الأعلام من أنَّ أعلام الأجناس في بداية نشوءها في اللغة كانت أعلاماً لحيوانات مشخصة معينة كانت مقدسة لدى قبيلة أو قوم, وبعد أنْ إنقضى زمان التقديس صار الإسم مشيراً إلى ماهية ذلك الحيوان محتفظاً بعلميته لغةً؛ لما هو المعروف من أنَّ الخصائص اللغوية لا تزول بسرعة.

وفيه: مضافاً إلى أنَّه مجرد دعوى لا دليل عليها؛ إنَّ أعلام الأجناس لا تختَّص بلغة العرب, كما لا تختَّص بالحيوانات المقدسة عندهم بل تجري في حيوانات تافهة غير مقدسة.

ص: 240

اللفظ الثالث: النكرة، وهو المفرد المبهم في الجملة

وهو مثل رجل في قولهم: (رأيت رجلاً), أو (جئني برجلٍ) ونحو ذلك, فالمعروف إنَّه موضوع للفرد على البدل أو المفرد المردد.

وقد استشكل المحقق الخراساني قدس سره (1) عليه بأنَّ النكرة لها وجود في الخارج والفرد المردد لا وجود له, فإنَّ كلَّ فرد في الخارج هو هو لا هو أو غيره, فذهب إلى أنَّ المفهوم منها في مورد الخبر هو الفرد المعين في الواقع المجهول عند السامع, وفي مورد الإنشاء هو الطبيعة المقيدة بالوحدة فتكون كلياً صالحاًللإنطباق على كثيرين, فالنكرة إمّا فرد معين في الواقع أو حصة كلية, وما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في الفرد المردد هو موضع البحث عند الأعلام في قابليته لتعلق الأحكام والصفات في عدة موارد في الفقه والأصول:

1- بيع الصاع من الصبرة, ويعبر عنه بالكلي في المعين, فقد إختلفوا في حقيقته هل هو المفرد المردد أو غيره.

2- موارد العلم الإجمالي, فإنَّهم إختلفوا في المراد منه في أنَّ متعلقه الفرد المردد, أو إنَّه عبارة عن العلم التفصيلي بالجامع والشك في الطرفين.

3- الواجب التخييري؛ في أنَّ متعلقه الفرد المردد أو غير ذلك. وسيأتي البحث عنه في الأصول في أبحاث العلم الإجمالي, وفي الفقه في بيع الصاع من الصبرة

و الحقُّ أنْ يقال: إن التردد والإبهام فيه على أنحاء:

الأول: التردد ثبوتاً وإثباتاً.

وفيه: إنَّه خلاف المعهود في النكرات في المحاورات, إذ ليس لمثل هذا المتردد واقع إلا في الفرض والتقدير ولا تحقق للمبهم كذلك حتى في الذهن, لأن كلَّما له حظ من التحقق كان

ص: 241


1- . كفاية الأصول؛ ص246.

له نحو من الوجود, ولا يتعلق بمثل هذا النحو من المتردد حكم أو وصف.

الثاني: المتردد من الظاهر المعلوم في الواقع؛ وهو إختيار صاحب الكفاية في النكرة إذا وقعت موقع الأخبار كما عرفت.

وفيه: إنَّه خلاف الظاهر من موارد إستعمالات النكرة في المحاورات إخباراً وإنشاء كما هو ظاهر.

الثالث: إنَّها الطبيعة من حيث البدلية السارية إلى كلِّ ما يصلح أنْ يكون فرداً لها وهذا هو الظاهر من موارد إستعمالات النكرة والمتبادر منها, وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في الفرد المردد إنْ شاء الله تعالى.

ومن ذلك يظهر أنَّ موضوع النكرة الطبيعة من حيث البدلية السارية لكلِّ فرد يصلح أنْ يدخل تحتها.

والحاصل؛ إنَّ المطلق في إسم الجنس وعلم الجنس والنكرة شيء واحد؛ وهو الطبيعة المهملة, فإنْ كانت متوغلة في الإبهام من كلِّ جهة نوعاً وصنفاً وفرداً فهو إسم الجنس, وإنْ كان إهمالها في خصوص الفردية البدلية السارية فقط فهي نكرة وإنْ إتَّصفت بالتعريف اللفظي مع الإهمال المعنوي فهو علم جنس, فليس المطلق إلا الذات المتطورة بهذه الأطوار التي بسببها إختلف إسمه؛ فيسمى تارةً بإسم الجنس وبعلم الجنس وبالنكرة, وإنْ لوحظت من حيث التحقيق الخارجي فهو الفرد ويخرج بذلك عن الإطلاق, وهذا هو الموافق للعرف والعقل.

اللفظ الرابع: المفرد المعرّف باللام

واللام على أقسام ثلاثة وهي: الجنس, الإستغراق, والعهد؛ سواء كان عهداً ذهنياً أو ذكرياً, ولا إشكال في خروج إسم الجنس عن الإبهام والإهمال إلى التعيين بدخول اللام

ص: 242

عليه, واختلفوا في تفسير ذلك؛ فذهب المشهور إلى أنَّ اللام موضوعة للتعيين, ومن أجل ذلك أفاد التعريف والتعيين محفوظ حتى في موارد إسم الجنس, إذ للجنس تعين ذهني أيضاً, وخالف المحقق الخراساني قدس سره في ذلك.

وتفصيل الكلام فيه يقع من جهتين:

الجهة الأولى: في أنَّ دلالة اللام على الأقسام المزبورة وضعي أو لأجل القرائن -خارجية كانت أو داخلية-؛ وعلى الأول؛ إما أنْ يكون على سبيل الإشتراك اللفظي أو الإشتراك المعنوي.

وأشكل المحقق الخراساني قدس سره (1) على ذلك بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ خصوصيات اللام من الإستغراق والجنس والعهد ليس بالوضع وإنَّما تستفاد من القرائن, ومعها لا نحتاج إلى الإشارة الذهنية وتكون لغواً كما سيأتي.

ويرد عليه بأنَّه يجري في جميع موارد الإشتراك اللفظي لعدم إستفادة أحد المعاني بعينه إلا بالقرينة.

الوجه الثاني: إنَّ دخول اللام يستعمل فيما يستعمل فيه المجرد عن اللام, والخصوصية تستفاد من اللام أو من قرائن المقام بنحو تعدد الدالّ والمدلول.

الوجه الثالث: إنَّ اللام إذا كان موضوعاً للتعيين على ما هو المعروف؛ فإمّا أنْ يراد به التعيين الخارجي منه, فمن الواضح عدمه في موارد لام الجنس, أو يراد به التعيين الذهني أي تعين الطبيعة في الذهن, فمن الواضح أيضاً إنَّه إنْ أخذ هذا التعيين في اللفظ صار ذهنياً, وبذلك يخرج عن الصلاحية للإنطباق على الخارجيات إلا بالمجاز والعناية؛ وبطلانه واضح.

ص: 243


1- . المصدر السابق؛ ص245.

ومن أجل ذلك التزم بأنَّ اللام موضوعة للتزيين كما هو كذلك في موارد دخولها على الأعلام, ومعاملة اللغة مع المزين به معاملة التعريف لكونه معرفة باللفظ نظير التأنيث اللفظي الذي أعطى حكم التأنيث الحقيقي من دون غرابة.

وأمّا التعيين فيستفاد من القرائن, وهناك محاولات للجواب عن تلك الإشكالات نذكر بعضاً منها:

1- ما عرفت سابقاً من أنَّ أخذ القيد إنَّما هو على نحو المعنى الحرفي؛ بأنْ يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً, ومعه لا يتنافى مع صدق المعنى على الخارجيات.

2- ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ الإشكال المذكور مبني على تخيل إرادة التعيين الذهني للجنس, بينما المقصود التعيين الجنسي؛ فإنَّ كلَّ ماهية لها تشخيصها الماهوي ولها شؤونها وحدودها فهي متميزة عن غيرها ومتعينة واقعاً, والمراد إفادة هذا النوع من التعين من دون أنْ يلزم منه التعين الذهني.

وأشكل عليه بأنَّه إنْ أريد منه مفهوم التعين الماهوي فهو كسائر مفاهيم أسماء الأجناس مفهوم غير معين وانضمامه إلى مفهوم غير معين لا يفيد تعريفاً وإنْ أريد منشأ التعين إلى ما به التعين للماهية فهي في الماهيات حدودها وهي داخلة في مدلول إسم الجنس الذي دخلت عليه اللام فلم تزد اللام شيئاً على مدخولها, ومنها: ما ذكره السيد الوالد قدس سره (2) من أنَّ كلَّ ذلك مبنيٌّ على أنَّ اللام وضع للمعاني المذكورة, ولكن اللام لم يوضع في لغة العرب إلا لغرض تزيين الكلام والربط بين جزئيه, وجميع هذه الأقسام لا تستفاد إلا من القرائن والمناسبات؛ داخلية أو خارجية, لفظية كانت أو غيرها, لأنَّ التزيين والربط

ص: 244


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص354.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص155.

الحاصل باللام معلوم, وصحة انتساب الأقسام إلى القرائن مع وجودها كذلك معلوم أيضاً, والباقي مشكوك فيدفع بالأصل, وتقدم في بحث العام والخاص أنَّ المفرد المعّرف باللام من ألفاظ العموم أيضاً, وإنَّ استفادة العموم منه ليست مستندة إلى الوضع بل تكون من مقدمات الحكمة ويكون استفادة الإطلاق مثل استفادة العموم من المفرد المعرف باللام؛ لا بُدَّ أنْ تكون من مقدمات الحكمة.

وفيه: إنَّه فرق بين العام والمطلق كما تقدم الكلام في البحث العام؛ فراجع.

والصحيح أنْ يقال: إنَّ اللام كما تفيد التزيين تفيد معنىً آخراً وهو الذي يقتضيه حال المدخول وموقعه, فإذا كان مدلول المدخول الطبيعة السارية والماهية المهملة فإنَّ اللام الداخل عليه تفيد هذا المدلول لا أنْ يثبت مدلولاً آخر غير ما يقتضيه حال المدخول ومقامه الذهني أو الخارجي, فلا بُدَّ من إثبات الجنسية الطبيعية المهملة بدالٍّ آخر, وهذا معنى كون اللام تفيد التعين, وبذلك يمكن الجمع بين الكلمات؛ فراجع.

الجهة الثانية: في دلالتها على الإطلاق, وقد ظهر مِمّا ذكرناه آنفاً أنَّ دلالة اللام على الإطلاق إنَّما تكون من ناحية المدخول, وأمّا اللام فهي تشير إلى ما يدلُّ عليه مدخولها فلا بُدَّ من إثبات هذا المدلول له بطريق آخر؛ إمّا من جهة الإنطباعات الذهنية الحاصلة في الذهن من تكرار اللفظ, أو من جهة أخرى كمقدمات الحكمة أو غير ذلك, فتدلُّ اللام على التعريف والتعين معاً, فتكونالمعهودية بأقسامها نحو أفق التعين ولكنه التعين الإستغراقي والجنسي وينافي ذلك ما هو المشهور بين الأدباء من أنَّ الألف واللام إذا كانت أداة التعريف والتعيين فإنَّ الإطلاق ينافي ذلك, وكيف يكون المعّرف باللام من أقسام المطلق, فإنَّ التعريف اللفظي الظاهري لا يعارض الإبهام المعنوي, مثل ما ذكرناه في عَلم الجنس؛ فإنَّ الإطلاق ليس مقيداً به حتى ينافيه بل هو إنطباق المطلق عليه وصدقه

ص: 245

عليه قهراً. ولا ريب أنَّه فرق واضح بين صدق المطلق على شيء خاص وتقييده به, وهذا ينافي الإطلاق دون الأول, وهذا هو معنى أنَّ العهدية والإطلاق من باب تعدد الدالّ والمدلول لا وحدتها حتى ينافي الإطلاق.

ثم إنَّ بعض الأصوليين تطرق إلى دخول اللام على الجمع فإنَّه لا ريب ولا إشكال في دلالة الجمع المعرف على العموم وتقدم في بحث العام والخاص الكلام فيه مفصلاً.

اللفظ الخامس: دخول التنوين على إسم الجنس

وهي حالة أخرى من حالات إسم الجنس؛ فقد ذكروا إنَّه لا إشكال في انسلاخ إسم الجنس حينئذٍ عن الصلاحية للتعين الإستغراقي وللتعين في فرد خاص, فيدلُّ التنوين الداخل على نكرة على العموم فيتعذر في حقِّه التعيين مطلقاً فينقلب الإطلاق فيه من الشمولية إلى البدلية.

وأمّا وجه إنسلاخه عن التعين الإستغراقي فقالوا بأنَّ التنوين الدالّ على التنكير يلحقه بالوحدة, فإذا قيل: (أكرم عالماً) فكأنَّه قال: (أكرم واحداً من العلماء), ومثله يستحيل فيه الشمولية التي هي إستيعاب جميع الآحاد وهو ينافي الوحدة.

وأمّا وجه إنسلاخه عن التعين الفردي فإنَّه مقتضى الإبهام والتنكير المستفاد من التنوين, ولأجله لا يكون معيناً في فرد معين وإنْ فرض تعينه في الواقع كما في قوله تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ) (1).

ومن هنا يمكن تقسيم التنوين إلى قسمين:

أحدهما؛ ما إذا كان التنوين في إسم الجنس متعين من ناحية نفس الكلام إستغراقياً أو شخصياً ويسمى تنوين تمكين وليس تنوين تنكير مثل: (أكرم كلَّ رجلٍ), فإنَّ التعين قد

ص: 246


1- . سورة يس؛ الآية 20.

استفيد من كلّ المضافة إلى النكرة الدالة على فرد معين من الطبيعة لا بعينه, فتدلُّ على إستيعاب كلّ فرد والتنوين يكون تنوين تمكين. ومثل (أكرم رجلاً زارك بالأمس)؛ فإنَّه يدلُّ على التعين من الرجل المعهود.

والآخر؛ ما يكون التنوين فيه تنوين تنكير؛ الدال على الإبهام في فرد على سبيل البدلية.

وقد أشكل على ما ذكر بإشكالين؛ حَلِّي ونقضي؛ أمّا الحَلِّي فقد ذكر فيه بأنَّ الوحدة والواحد من أسماء الأجناس أيضاً وصالح للإستغراقية ويمكن أنْ يدخلعليه أداة العموم, مثل قولنا: (أكرم كلَّ واحد من العلماء). ومعه لا يستحيل في حقه الشمولية لأنَّه يستوجب إستيعاب تمام الأفراد والآحاد, فلا يضره انضمام الجنس إليه ويرفع إبهامه.

أمّا النقضي فإنَّه بالنكرة الواقعة في سياق النهي والنفي كقولك: (لا تشتم مؤمناً)؛ فإنَّها تدلُّ على الإستغراق مع وجود التنوين.

وأجيب عنهما؛ أمّا عن الحَلّي؛ فإنَّ المراد من الواحد في مرحلة الإثبات هو أنَّ إسم الجنس مهَّد لدخول التنوين عليه فلا يصدق من ناحية نفسه إلا على الواحد فقط من دون أنْ ينفي ثبوت الأكثر في الواقع ونفس الأمر, ولذا لو أكرم أكثر من عالم عُدَّ ممتثلاً.

وأمّا عن النقض؛ فلأنَّ الإستغراقية إنَّما تستفاد من النفي والنهي إذا أريد بها الإستغراقية بلحاظ مرحلة الإمتثال من قانون عقلي يقضي بأنَّ الطبيعة لا تنتفي إلا بانتفاء تمام أفراداها, وإذا أريد بها الإستغراقية في نفس الحكم فهو بدلالة سياقية خارجية وهي دلالة تصديقية على أنَّ المفسدة إنحلالية.

والحقُّ أنْ يُقال: إنَّ ذلك خروج عن المدلول العرفي للتنوين فإنَّ العرف يرى بأنَّ التنوين إشارة إلى الطبيعة التي تنفى في فرد معين وهذا هو معنى البدلية, فحينئذٍ يكون إيجاد ذلك في فرد معين, وانتفاء ذلك يكون في انتفاء الطبيعة وهي تساوق الشمولية, ولعلَّ ما ذكروه يرجع إلى ما ذكرناه.

ص: 247

البحث الثاني: الإطلاق

عرفت فيما سبق الألفاظ التي تدلُّ على الإطلاق

والموضوعة للطبيعة المهملة, وإنَّ دلالتها على الإطلاق إنَّما تكون على أساس قرينة إمّا خاصة أو عامة تقتضي الإطلاق, وإنَّ الموضوع هو مطلق الأفراد, وهذه القرينة العامة تسمى في عرف الأصوليين بمقدمات الحكمة, وقد جرت سيرة أهل المحاورة على استفادة الإطلاق منها بعد تحققها, وتمام الكلام في المراد من الإطلاق وشؤونه يقع في ضمن أمور:

الأمر الأول: إختلف الأصوليون في دلالة الكلام على الإطلاق على مسلكين:

المسلك الأول: إنَّ الإطلاق لم يكن مدلولاً وضعياً لإسم الجنس مثلاً, بل هو مدلول التزامي لظهور حالي سياقي ينعقد في كلام المتكلم, وهذا الظهور الحالي عبارة عن حال المتكلم في أنَّه بصدد بيان تمام أفراده بكلامه, وهذا الظهور الحالي يدلُّ بالإلتزام على أنَّ المتكلم قصد المطلق لا المقيد, فإنَّه لو قصد المقيد لم يكن في المقام تمام بيان مرامه بكلامه لأنَّه أتى بلفظ يدلُّ على الماهية ولم يأتِ بلفظ يدلُّ على التقييد فيكون قد بيَّن بعض مرامه لا تمام مرامه, وهو خلف الظهور الحالي السياقي, فيكون مقتضى الدلالة الإلتزامية لهذا الظهور الحالي أنَّه أراد المطلق.واعترض عليه بأنَّ هذا الخلف لازم على التقديرين؛ سواء كان مراده المطلق أو كان مراده المقيد, لأنَّ خصوصية الإطلاق غير داخلة في المعنى الموضوع له إسم الجنس, فكما إنَّه إذا أراد المقيد فهو لم يبين تمام مرامه بكلامه؛ كذلك لو أراد المطلق لم يبين تمام مرامه بكلامه أيضاً, لأنَّ إسم الجنس لا يدلُّ إلا على الذات دون خصوصية الإطلاق والتقييد.

وقد أجيب عن هذا الإعتراض بوجوه؛ وقبل بيانها لا بُدَّ من بيان أمر وهو: إنَّ خصوصية الإطلاق في المطلقات هي داخلة في اللحاظ, بمعنى: إنَّ المطلق ما لوحظ فيه عدم القيد

ص: 248

بحيث تكون خصوصية الإطلاق داخلة تحت اللحاظ, وقد ذهب إلى هذا الرأي جمع من الأصوليين منهم السيد الخوئي قدس سره (1), وعليه؛ فإنْ أراد المتكلم فلا بُدَّ أنْ يكون ذلك تحت لحاظ المتكلم أمر زائد على ذات الماهية لم يبينه المتكلم, وهذا هو خلف الظهور الحالي المذكور. أو إنَّ خصوصية الإطلاق غير داخلة تحت اللحاظ, بل هي من شؤون اللحاظ ذاته, والظهور الحالي السياقي المذكور, إنَّما يقتضي كون المتكلم بصدد بيان كل ما يدخل تحت لحاظه لا كلّ ما في ذهنه حتى ما يرتبط بذات اللحاظ. والظاهر: إنَّ النزاع لفظي؛ لمكان الإتّحادين للّحاظ والملاحظ كاتّحاد العاقل والمعقول؛ فلا إثنينية بينهما حتى يجعل خصوصيته الإطلاق من شؤون اللحاظ أو داخله في اللحاظ مع أنَّ البحث عن الإطلاق والتقييد إنَّما هو لأجل كون كلّ واحد منهما حجة يعتمد عليها في المحاورات ويترتب عليه الآثار التي يؤخذ بها العقلاء في محاوراتهم واعتمد عليها الشرع الحنيف, ولا ريب أنَّ خصوصية الإطلاق لا بُدَّ أنْ تكون مورد لحاظ؛ فيتَّصف اللحاظ نفسه بالإطلاق تبعاً كما يتَّصف الحمل ببعض أوصاف الحال, فإنَّ المتكلم إنَّما يؤخذ بما يترتب على كلامه من إطلاق أو تقييد إذا كان كلّ واحد منهما مورد لحاظه, ومجرد اللحاظ مع قطع النظر عن الملاحظ لا أثر له.

إذا عرفت ذلك فإنَّه يمكن الجواب عن الإعتراض المزبور بأنَّه إذا دخل تحت لحاظ المتكلم الإطلاق الذي هو ذات الماهية بدون قيد -وهذا هو مقتضى ظهور الكلام وهو تمام مراده- يكفي ذلك في الإجتناب عن مخالفة هذا الظهور, وأمّا إذا كان مراده المقيد من الماهية لا ذات الماهية فلا بُدَّ عليه أنْ يأتي بما يدلُّ على التقييد وإلا خالف الظهور المذكور فلا يلزم الخلف المذكور على التقديرين وإنْ كان يلزم الخلف على فرض إرادة القيد فقط.

ص: 249


1- . ذكره السيد الصدر قدس سره في بحوث علم الأصول؛ ج3 ص412.

مع إنَّه يمكن الجواب عن الإعتراض المذكور بالرجوع إلى الأصل في نفي إرادة المقيّد, وهو أصالة عدم العناية الزائدة الموجودة في المقيد, لأنَّ المطلق عبارة عن لحاظ عدم القيد, ولحاظ المقيد عبارة عنلحاظ الوجود, فإرادة المطلق تصبح أقل عناية وأقل مخالفة للظهور الحالي المذكور في إرادة المقيد بحسب هذا النظر فيتعين الأول بالأظهرية, فلا مخالفة من الطرفين.

المسلك الثاني: وهو عدم الحاجة إلى ذلك الظهور الحالي السياقي الذي ذكرناه في المسلك السابق, فإنَّ إسم الجنس –مثلاً- الموضوع لذات الماهية والطبيعة المهملة يكفي في استفادة الإطلاق منهما عدم ذكر القيد من دون حاجة إلى شيء آخر.

وقد ذكر في توجيه ذلك وجهان:

الوجه الأول: إنَّ إسم الجنس موضوع في حدِّ ذاته للطبيعة المهملة, وعدم ذكر القيد موضوع لوضع آخر لخصوصية الإطلاق, بلا فرق بين القول بأنَّ الوضع الثاني منصبٌّ على مجرد (عدم ذكر القيد) أو يكون منصبَّاً على إسم الجنس ذاته مع خصوصية عدم القيد.

وعلى الإحتمال الثاني يكون إسم الجنس قد وضع لوضعين؛ أحدهما لذات إسم الجنس لابشرط بالنسبة إلى ذكر القيد وعدمه, والثاني مشروط بعدم ذكر القيد؛ ففي الأول يكون الموضوع له هو الذات الطبيعة المهملة, وفي الثاني هو خصوص الطبيعة المطلقة.

وعلى كلِّ حال؛ فإنَّه يستفاد الإطلاق من استعمال إسم الجنس من دون القيد لأجل الوضع الثاني, بخلاف ما إذا استعمل مع القيد فإنَّه يستفاد منه القيد من دون لزوم المجاز على كلِّ حال, لأنَّ دلالته حينئذٍ على المقيد يكون من باب تعدد الدالّ والمدلول, فيستفيد الإطلاق في موارد عدم القيد والمقيد في موارد التقييد مجتنبين عن المجازية.

وقد يقال بأنَّه على ما ذكر يستلزم كون إسم الجنس مشتركاً لفظياً عند استعماله مجرداً عن القيد, فلا بُدَّ من قرينة تعين الوضع الثاني في مقابل الوضع الأول حتى يصحّ استفادة الإطلاق منه.

ص: 250

وأجيب عنه بأنَّه لا حاجة إلى القرينة, لأنَّ الطبيعة المهملة متحققة في الطبيعة المطلقة من دون تفاوت, فما دلَّ عليه الوضع الأول هو الطبيعة المهملة, وفي الوضع الثاني الطبيعة المطلقة, فلا تخرج المهملة عند لحاظ المتكلم المطلقة فيكون استعمال اللفظ في كلاهما بلحاظٍ واحد, فالنتيجة هو الحمل على الإطلاق التي تنطبق على المهملة أيضاً.

ولكن هذ الجواب وإنْ كان صحيحاً في حدِّ نفسه ولكنه مبنيٌّ على تعدد الوضع بناءً على هذا التقريب وهو خلاف الظهور العرفي, فإنَّه لا دليل على تعدد الوضع بل الدليل على خلافه, إذ أنَّه لا يستفيد العرف من مجرد عدم ذكر القيد الإطلاق, فإنَّه لا بُدَّ من انضمامه إلى الظهور الحالي السياقي كما هو واضح.الوجه الثاني: إنَّ العقلاء قد تعهدوا على أنَّه حتى ما لم يذكروا القيد فهم يريدون الإطلاق, وهذا التعهد يوجب إنصراف الذهن إلى ذلك حتى لو كان إسم الجنس موضوعاً لذات الماهية المهملة, ولأجل ذلك لو ذكر القيد وأريد به المقيد لم يكن مجازاً.

وهذا الوجه يرجع إلى الأول إنْ قلنا بأنَّ تعهد العقلاء هو معنى الوضع.

وأمّا إذا لم يكن كذلك فهو مستقل يقابل الوجه الأول.

وكيف كان؛ فإنَّه يرد عليه ما أوردنا على سابقه. فالصحيح أنْ يقال: إنَّ استفادة الإطلاق إنَّما تكون بدلالة التزامية لظهور حالي سياقي يقتضي أنْ يكون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بكلامه.

الأمر الثاني: في مجرى مقدمات الحكمة؛ فهل هي تجري بلحاظ المراد الإستعمالي أو المراد الجدي الواقعي, بمعنى: إنَّها تجري في تنقيح المراد الإستعمالي بمعنى ما قصده المتكلم تفهيمه للمخاطب وإحضاره للمعنى في ذهن السامع لا يراد من نفس اللفظ فلا يشكل عليه بأنَّه لا معنى لأنْ يكون المراد الإستعمالي هو المطلق لعدم استعمال اللفظ فيه قطعاً بل

ص: 251

هو مستعمل في معناه وهو الطبيعة. أو إنَّها تجري في تنقيح المراد الواقعي ليكون المطلق هو المراد الجدي, وقد ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره (1) إلى الثاني وتبعه المحقق النائيني قدس سره (2), وذهب المحقق الخراساني قدس سره (3) إلى الأول, والثمرة المترتبة على هذا الخلاف تظهر في موارد البحث عن انقلاب النسبة في المقيد المنفصل, فإنَّه لا يخل بظهور المطلق في الإطلاق على رأي صاحب الكفاية بل يزاحمه في مقام الحجية, ولكنه يخل به على رأي الشيخ بكشفه عن تقييد المراد الجدي وعدم إطلاقه.

وقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره في تقريب ما اختاره بأنَّ ما ذهب اليه الشيخ قدس سره يستلزم منه عدم إمكان التمسك بالمطلقات إذا قيدّت بقيد منفصل, لأنَّه يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان في كلامه, وهو إبطال لإحدى مقدمات الحكمة, وهذا ما لم يلتزم به أحد.

وأشكل عليه بوجهين:

1- إنَّ مقتضى ما يستفاد من ذلك أنَّ المتكلم لم يكن في مقام البيان من جهة هذا القيد المنفصل, وأمّا بالنسبة إلى سائر جهات المطلق وغيره من القيود فهو في مقام البيان؛ فيمكن التمسك بالإطلاق بالنسبة إليها.

ولم يشترط أنْ يكون المتكلم في مقام البيان من كلِّ جهة بنحو العموم المجموعي من جهة جميع القيود والخصوصيات بل بنحو العموم الإستغراقي, فإذا انكشف أنَّه لم يكن في مقام البيان من جهة لا يلزم أنَّه لم يكن كذلك من سائر الجهات.

ص: 252


1- . مطارح الأنظار؛ ص218.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص529.
3- . كفاية الأصول؛ ص247.

وأورد على ما ذكر بأنَّه يستلزم منع التمسك بالإطلاق إذا كان المتكلم في مقام البيان من جهة دون أخرى, وذلك لاحتمال أنْ يكون مراده الواقعي من الجهة الخاصة فيكون الإطلاق من الجهة الأخرى في طولها, ومع هذا الإحتمال يمتنع التمسك بالإطلاق, ولأنَّه لم يحرز إنَّه في مقام بيان أنَّ الموضوع هو الطبيعة حتى يتمسك بإطلاقها لاحتمال كونه في مقام بيانها واحتمال كونه في مقام بيان الحصة الخاصة فيكون مهملاً من هذه الجهة.

وبعبارة أخرى: إنَّه إذا فرض انكشاف كون المراد الواقعي هو الحصة الخاصة, أي المقيد مانعاً عن التمسك بالإطلاق من سائر الجهات لأنَّه لم يكن في مقام بيان المقيد؛ فإنَّ إحتمال ذلك يكفي في المنع من التمسك بالإطلاق, فمثلاً لو قال: (أكرم العالم) ولم يكن في مقام البيان من جهة العدالة أو الفسق لم يصحّ التمسك بإطلاق العام بالنسبة إلى السيادة وغيرها, لعدم إحراز أنَّه تمام الموضوع لاحتمال أنَّه العالم العادل وهو ليس في مقام بيانه.

ولكن الحقَّ أنَّ الإشكال مردود مع الإلتفات إلى أنَّ المتكلم في مقام البيان من جهة دون أخرى كما لو صرح بذلك, فمرجع ذلك إلى أنَّه في مقام البيان من تلك الجهة -كجهة السيادة مثلاً- بالنسبة إلى الموضوع الواقعي على واقعه المردد بين المطلق من الجهة الأخرى والمقيد -كالمردد بين العادل ومطلق العام- من دون تعرض لبيان ما هو الموضوع الواقعي, فإنَّه لو انكشف أنَّ المقيد لم يضر بالإطلاق لأنَّه كان في مقام البيان من الجهة الأخرى ففي مرحلة البقاء لا يضر ذلك, ولكن هذا لا يتمّ إذا كان في مقام الحدوث والإبتداء كذلك فإنَّه لا ينعقد له ظهور ليدلّ على أنَّه في مقام بيان الموضوع الواقعي على واقعه, إذ لم يكن للكلام ظهور في

ص: 253

الإجمال حدوثاً بل كان ظاهراً في الإطلاق, فإذا ورد القيد كشف عن كون الموضوع هو الحصة ولم يكن في مقام البيان بالنسبة اليها, بل كان في مقام الذات لا غير؛ فيكشف عن عدم كونه في مقام البيان بالنسبة إلى الموضوع الواقعي وإلا لنبَّه عليه بعد أنْ لم يكن للكلام ظهور فيه,فالإشكال المزبور على المحقق الخراساني قدس سره من هذه الناحية غير وارد.

1- إنَّه لا إشكال في الفرق بين الإخبار والإنشاء, فإنَّ الإخبار لها واقع يطابقه الخبر أو لا يطابقه بخلاف الإنشاء فإنَّ واقعها هو إنشائها والأحكام منها, وبناءً على ذلك يقع الكلام في المراد من المراد الواقعي في باب الأحكام مقابل المراد الإستعمالي بناءً على أنَّ واقع الأحكام ليس إلا الإنشاء وهو إيجاد المعنى بوجود إنشائي واعتباري, فإنَّه يكون المراد الواقعي متَّحداً مع المراد الإستعمالي فالإثنينية بينهما في مقام الإنشاء, فإنَّ اتّفاقهما هو صدور الإنشاء بداعي البعث مثلاً, واختلافهما معناه هو صدور الإنشاء بداعي غير البعث كالتهديد, وحينئذٍ فاذا كان المراد الإستعمالي هو المطلق بأنْ يكون الحكم قد أنشئ على جميع الأفراد, وكان المراد الجدي هو المقيد بأنْ يكون الحكم منشأً على بعض الأفراد, فقد ذكر صاحب الكفاية في هذه الصورة أنَّ الغرض المترتب على تفهيم المطلق الذي هو خلاف المراد الجدي هو بيان كون الحكم قاعدة وقانوناً.

وأشكل عليه تارةً بما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1)؛ بأنَّ الإنشاء بداعي البعث بالنسبة إلى الجميع ممتنع لفرض إرادة المقيد لا المطلق, والإنشاء بداعي البعث إلى البعض, وبداعي إلى البعض الآخر يستلزم صدور الفعل الواحد -وهو الإنشاء- عن داعيين وهو محال.

ص: 254


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص337.

وفيه: إنَّه مردود كبرى وصغرى؛ إذ لا تعدد في الداعي, فلا ينحصر في البعث كما ذكرنا مكرراً. وفي المقام إمّا جعل الحكم في ذمة الغير أو غير ذلك وهو لا يتفاوت في المطلق والمقيد, مع أنَّه لا يضر تعدد الدواعي في صدور الفعل الواحد كما فصّلناه في محله.

وأخرى ما ذكره بعض الأعلام من أنَّه خروج عن طريقة المحاورة؛ إذ لا معنى لإنشاء الحكم على الكلّ وإرادة البعض فإنَّه إذا كان معنى الإطلاق ثبوت الحكم للطبيعة من دون أيَّة خصوصية وهو ينافي التصريح بدخول الخصوصية بعد ذلك, هذا إذا كان المراد من كلامه مقتضى القاعدة والكشف عن الحكم الخاص بعد التقييد بما أنَّه عام. وأمّا إذا أريد منه كونه كاشفاً عن حكم خاص بما أنَّه بعض مدلوله على حجيته الدلالة التضمنية لو سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية, مع إنَّه ما هو الملزم في الإستعمال في العموم مع إمكان إنشاء الحكم المقيد رأساً؟.وفيه: إنَّ استعمال الكلام في العموم وإرادة الخصوص أو الطبيعة وإرادة المقيد صحيح وواقع في المحاورة وهو يتبع أغراضاً صحيحة عقلائية ويعتبر من المحسنات البلاغية ومن فصاحة الكلام.

فالإشكالات المذكورة خارجة عن المحاورات العرفية ومردود بالذوق المستقيم. ولا يحتاج

إلى ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في تصحيح كلامه بالإلتزام بكون الإنشاء بداعي البعث جداً بالنسبة إلى الجميع فيثبت الحكم الحقيقي للجميع ولكنه يرتفع عن البعض بورود المقيد لانتهاء مصلحة فالتزم بتعدد الحكم وبالنسخ.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ الإطلاق ومقدمات الحكمة إنَّما تجري بلحاظ المدلول التصديقي, أي بالنسبة التامة الحكمية وأطرافها ولا تشخيص المدلول التصوري للمتكلم في مقام الإستعمال, فإنَّ اللغة والعلاقات اللغوية إنَّما تتكفلها وتبين مداليلها, وأمّا الإشكال في

ص: 255

إمكان إجراء الإطلاق في مدلول النسبة التامة فقد أجبنا عنه في بحث الواجب المطلق والمشروط مفصلاً؛ فراجع.

الأمر الثالث: في بعض ما يستفاد من الأمرين السابقين وغيرهما مِمّا سيأتي، وهي أمور:

1- إنَّ الإطلاق مدلول تصديقي لا تصوري لأنَّ ملاك الإطلاق -على ما عرفت- هو ظهور حال المتكلم في أنَّه بصدد بيان جميع ما له دخل في مراده التصديقي, وهو الحكم والجعل وحدوده.

2- يمكن أنْ يكون للكلام جهات عديدة قابلة للإطلاق والتقييد, فإنْ تمَّت مقدمات الحكمة بالنسبة إلى الجميع يثبت الإطلاق كذلك, وإلا فبالنسبة إلى ما تمَّت به فقط ولا يثبت الإطلاق بالنسبة إلى غيرها ولا دليل على اشتراط كون المتكلم في مقام بيان جميع الجهات وتمام القيود كما عرفت.

نعم؛ إذا ثبتت أنَّ هناك ملازمة إمّا عقلية أو عرفية أو شرعية بين الجهات فإنَّه يثبت الإطلاق حينئذٍ بالنسبة إلى الجميع حتى لو كانت المقدمات تامة بالنسبة إلى بعضه فقط لغرض تحقق الملازمة بين الجهات جميعاً.

3- إنَّ الإحتياج إلى مقدمات إنَّما هو لنفي القيد والبشرط شيئية لأنَّهما من الإحتمالات التي يعتني بها العقلاء فيحتاج في نفيه إلى مقدمات الحكمة. ولأنَّ الإطلاق رفض القيود لا جمع لها لأنَّه يعني إستكشاف عدم دخل القيد في المرام ثبوتاً لعدم ذكره في موضوع الحكم إثباتاً, فينتقل من عدم القيد إثباتاً إلى عدم دخوله ثبوتاً, وأمّا دخل القيود جميعاً في الحكم فهو أمر زائد لا تقتضيه مقدمات الحكمة.

ومن ذلك يظهر أنَّ احتمال بشرط لائية من الإحتمالات التي لا يعتني به العقلاء فلا تنفيه مقدمات الحكمة.

ص: 256

نعم؛ إنْ كان في مورد يعتني به العقلاء -كما في بعض الأمور التي تبتني على الدقة من كلِّ جهة- لاحتاج في نفيه إلى مقدمات الحكمة أيضاً.

4- إنَّ الإطلاق لا يثبت الحكم على الأفراد بل على ذات الطبيعة خلافاً للعام كما عرفت سابقاً من أنَّ الإطلاق عبارة عن إحراز عدم دخل القيد في موضوع الحكم زائداً على الطبيعة, وإنَّ سراية الحكم من الطبيعة إلى الأفراد التي تنطبق عليها الطبيعة فإنَّما هو بحكم العقل بانحلال الطبيعة وأحكامها بعدد الأفراد في مرحلة التطبيق, وهذا بخلاف العام؛ فإنَّه يكون من مداليل اللفظ كما سيأتي مفصلاً في بحث التعارض.

الأمر الرابع: الإطلاق إمّا حكمي حالي أو مقامي أو لفظي, وهي معتبرة في المحاورات العرفية, والجميع يحتاج في إثباته إلى مقدمات الحكمة ويختلف الإطلاق الحكمي والإطلاق المقامي في أنَّ الأول ينفي التقييد المحتمل دخله في المراد من اللفظ مِمّا يوجب تضييق دائرة مدلوله, فإذا قال: (أكرم الفقير)؛ فإذا أراد الفقير العادل كان ذلك تضييقاً في مدلول (أكرم الفقير) اللفظي بخلاف الإطلاق المقامي, فإنَّ التقييد المحتمل في مورد لا يكون قيداً في الكلام, بل هو مراد آخر علاوة على ما يستفاد من المدلول اللفظي, فإذا قال (ألا أعلمكم وضوء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ) فذكر غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والقدمين فإنَّه يستفاد من الإطلاق المقامي عدم جزئية المضمضة والإستنشاق مثلاً, ولأجل ذلك كان الإطلاق الحكمي الحالي ظهوراً عاماً لا يحتاج إلى عناية خاصة, لأنَّ مقتضى ظهور حال كلّ متكلم أنَّه في مقام بيان ما له دخل في موضوع الحكم المدلول بكلامه.

وأمّا الإطلاق المقامي فإنَّه مرتبط بامر آخر علاوة على مدلول اللفظ, فالإستفادة منه تبتني على عناية زائدة أكثر مِمّا قد أبرزه الكلام الذي يلقيه المتكلم, ولذلك لم يكن للإطلاق

ص: 257

المقامي ظهورٌ عامٌ وفق القاعدة بل بحاجة إلى قرينة خاصة؛ إمّا لفظية صريحة أو ظاهرة كما في المثال المتقدم, وأمّا دلالة الإقتضاء التي تناسب شأن الشارع الأقدس بحيث لولا تعرضه إلى بيانه لكان احتماله بعيداً, ومِمّا يغفل عنه عامة الناس فإنَّه في مثل ذلك ينفي بسكوت المولى احتمال دخله وقيديته كما يقال بالنسبة إلى دخل القيود الثانوية في التكليف كقصد الوجه والتمييز. ويقابله الإطلاق اللفظي الذي لا يكفي في إثباته السكوت, بل لا بُدَّ من إثباته بالكلام كما عرفت.

البحث الثالث: مقدمات الحكمة

اشارة

تقدم أنَّ ألفاظ المطلق -لا سيما إسم الجنس- موضوعة للطبيعة المهملة من دون أنْ يكون لها دلالة بالوضع على الإطلاق, فلا بُدَّ من استفادته من قرينة خاصة أو عامة تفيد الإطلاق والقرينة العامة هي التي تسمى بمقدمات الحكمة. وقد ادَّعىأنَّه جرت سيرة أهل المحاورة على استفادة الإطلاق فيها بنحو عام بعد تحققها, وهذه المقدمات على ما هو المعروف بين المتأخرين ثلاث:

الأولى: كون المتكلم في مقام بيان مراده لا في مقام الإهمال والإجمال.

الثانية: عدم ما يصلح لتقييد الكلام, بحيث يصحُّ الإعتماد عليه عند العرف.

الثالثة: عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب في البين.

فإذا تمَّت هذه المقدمات الثلاث يثبت الإطلاق وأنَّ المتكلم قد أراده, وإلا حصل النقض, وهو أمر لا يصدر من الحكيم, وإذا انتفت إحداها لم يثبت الإطلاق؛ فلو لم يكن في مقام البيان بل كان في مقام الإهمال والإجمال, كما أنَّه لو كان في مقامه ولكن كان هناك ما يوجب التعيين والتقييد أو كان في البين قدر متيقن لا يثبت الإطلاق.

ص: 258

وتفصيل الكلام منها يقتضي بيان ما يتعلق بكلِّ واحدٍ منها:

المقدمة الأولى؛ وقد قيل في ثبوتها وجهان:

الوجه الأول: الأصل الذي يجري في حقِّ كلِّ متكلم أنْ يكون في مقام البيان لا في مقام الإهمال والإجمال.

وأورد عليه بأنَّ هذا الأصل إنْ كان المراد به أنَّ العقلاء قد تبانوا على حمل الكلام من كلِّ متكلم على أنَّه صادر في مقام البيان, فيكون كلُّ كلام حجة تعبداً على أنَّ صاحبه في مقام البيان, فهذا الأصل لهذا المعنى مردود, إذ لم يثبت مثل ذلك سوى أصالة الظهور؛ فإنْ رجع إليها وكان من صغرياتها فلا إشكال حينئذٍ.

الوجه الثاني: الظهور الحالي الذي تقدم ذكره فإنَّ ظهور حال المتكلم في أنَّه بصدد بيان تمام مراده بكلامه, ويمكن رفع الإختلاف في المقام بأنَّ الأصل المذكور يرجع إلى هذا الظهور الحالي الذي اعتمد عليه العرف فيكون دليلاً على ذلك الأصل, وليس المراد من الأصل الحجة العقلائية حتى يرد عليه ما ذكرناه.

وإلى ذلك يرجع ما ذكره السيد الوالد قدس سره (1) من أنَّ ظاهر حال كلّ متكلم أنَّه في مقام بيان مراده إلا إذا كان هناك مانع, ويصحُّ التمسك بالأصل المقبول في المحاورات أيضاً, فيقال: الأصل كون المتكلم في مقام البيان إلا مع الدليل على الخلاف.

ثم إنَّ المستفاد من هذا الظهور أنَّ المتكلم في مقام بيان ما يريد, لا إنَّه يدلُّ على أنَّه في مقام بيان كلّ شيء وجميع الخصوصيات بعد معلومية معنى ما ذكره في كلامه من المفردات بالظهورات اللفظية, ثم يأتي دور ظهور حال المتكلم في أنَّه في مقام بيان تمام مراده الذي يرتبط بذلك المعنى, فمثلاً لو ورد الدليل على أنَّهيجوز أكل ما افترسه الكلب فإنَّه بعد

ص: 259


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص157.

تعيين ما تدلُّ عليه المفردات اللفظية, وإنَّه إرشاد إلى تذكيته أو طهارته, ثم نقول إنَّه يدلُّ على شمول كلّ ما يطلق عليه الكلب من دون إختصاصه بنوع معين لظهور حال المتكلم أنَّه في مقام البيان؛ فلو كان يريد نوعاً معيناً لوجب عليه بيانه وإلا كان خلف الظهور وحصل النقض كما عرفت.

والحاصل: إنَّ هذه المقدمة إنَّما يأتي دورها بعد تعيين المراد وإلى هذا يرجع ما يذكره الفقهاء في استدلالاتهم الفقهية من المنع أحياناً عن التمسك بالدلالة الإطلاقية للكلام, أي عدم كون المتكلم الذي أطلق كلامه مسوقاً لبيان هذه الجهة لا إنَّه لم يكن في مقام البيان. مع إعترافهم بأنَّ مقتضى الأصل كون المتكلم في مقام البيان.

المقدمة الثانية؛ وقد نقلت بوجوه مختلفة:

1- ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1)؛ وهو عدم نصب قرينة متَّصلة على التقييد.

2- ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2)؛ وهو عدم نصب قرينة متَّصلة أو منفصلة على التقييد.

3- ما ذكره السيد الوالد قدس سره (3)؛ وهو عدم ما يصلح لتقييد الكلام بحيث يصحُّ الإعتماد عليه عند العرف.

وجميع تلك الوجوه تشترك في اشتراط عدم نصب قرينة متَّصلة على التقييد, وهذه الجهة المشتركة بينهم إختلف في تفسيرها؛ قيل في تفسيرها تارةً أنْ يكون المقصود منها خصوص ما يصلح للقرينة, كأن يصرح بالقيد على نحو التوصيف أو على نحو الشرط في جملة

ص: 260


1- . كفاية الأصول؛ ص247-248.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص529.
3- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص156.

واحدة, كما إذا قال: (أكرم العالم العادل, أو إذا كان عادلاً), أو يصرح بالقيد في جملة أخرى متَّصلة بالأولى, كما إذا قال: (أكرم العالم ولا تكرم الفسّاق من العلماء), أو يكون في الكلام ما يعتمد عليه العرف في التقييد, كما إذا قال: (أكرم العالم وليكن العالم عادلاً)؛ فإنَّ في جميع هذه الموارد يرى العرف أنَّ القرينة صالحة للإعتماد عليها في التقييد, ولعله لذلك لو أبدلنا الإطلاق بالعموم الوضعي كما إذا قال (أكرم كلَّ عالم) وقيَّدناه بتلك القرائن لكان موجباً للتخصيص عرفاً أيضاً.

وعلى ضوء هذا التفسير فإنَّ هذه القرينة التي تكون صالحة للإعتماد عليها عرفاً تنافي الدلالة الإطلاقية.وأمّا لو لم تكن كذلك بل كان المتكلم في مقام نصب القرينة بإبراز نفي الحكم عن الحصة الخاصة ضمن مطلق آخر أو ضمن عام فلا ينافي الدلالة الإطلاقية فيقع التزاحم بين الإطلاقين أو بين المطلق والعام كما إذا قال: (أكرم العالم ولا تكرم الفاسق) أو (أكرم العالم ولا تكرم كلَّ فاسق)؛ فإنَّ الثانية لم تكن منافية للإطلاق في إكرام العالم بل هي مزاحمة له, فلا بُدَّ من ملاحظة النسبة بين المطلق والعام أو العامين وهي نسبة العموم من وجه, ثم علاج ذلك.

وتارةً أخرى: أنْ يكون المقصود منها ما يشمل نفي الحكم عن الحصة غير الواجدة للقيد ولو كان ضمن عام وضعي نسبته إلى المطلق نسبة العام من وجه, كما في قوله: (أكرم العالم ولا تكرم كلَّ فاسق) من دون أنْ يكون مطلقاً آخر, مثل: (لا تكرم الفاسق)؛ فإنَّ الأول ينافي الدلالة الإطلاقية, وأمّا الثاني فإنَّه يزاحمها, فإنَّ الإطلاق في كلِّ واحدة من الجملتين تام ولكن يتحقق التزاحم.

ص: 261

وتارةً ثالثة: أنْ يكون المقصود بالقرينة ما يكون بياناً في نفسه لولا المطلق, فيشمل نفي الحكم عن الحصة غير الواجدة للقيد ضمن مطلق آخر أيضاً بحيث لا يتم الإطلاق في الجملتين, كما في قوله: (أكرم العالم ولا تكرم الفاسق) فلم يثبت الإطلاق في (العالم) ولا في (الفاسق).

وجميع هذه الوجوه وإنْ كانت محتملة إلا أنَّ المعتبر منها ما إذا كانت القرينة مِمّا يصلح الإعتماد عليها عرفاً من نفي الدلالة الإطلاقية, سواءً كانت القرينة في صورة الإطلاق أو كان في ضمن العام, ولا ريب إنَّه بذلك يتحقق الشرط المذكور في انعقاد الإطلاق, وهو عدم ذكر ما يصلح للقرينة, فيكون الإحتمال الأول هو الأقرب منها, فيكون نفيه موجباً لانعقاد الإطلاق وتتم الدلالة الإطلاقية.

ومن ذلك يظهر أنَّ الإحتمالات الثلاثة إنْ رجعت إلى ما ذكرناه فتكون متَّحدة وترجع إلى أمر واحد, وإلا فلا تكون معارضة لانعقاد الإطلاق.

نعم؛ قد يكون بيان آخر مخالفاً للمطلق ويوجب إنقلاب النسبة أو الإجمال في بعض الموارد ولا بُدَّ من ملاحظة الوارد حسب ما يفهم منه العرف, ولا حاجة إلى تفصيل الكلام بأكثر من ذلك كما فعله بعض الأعلام؛ فراجع.

هذا كلُّه ما يرجع إلى الجهة المشتركة بين الوجوه التي ذكرناها في بيان هذه المقدمة.

وأمّا ما يمتاز به كلُّ واحد منها فقد ذكر بعضٌ في امتياز ما ذكره المحقق النائيني قدس سره ؛ وهو عدم نصب قرينة ولو منفصلة على التقييد لاحتمالين:

الإحتمال الأول: أنْ تكون القرينة المنفصلة على نحو الشرط المتأخر.

بمعنى: إنَّ الدلالة الإطلاقية لكلام المتكلم من أول الأمر مشروطة بعدم نصب القرينة المنفصلة بعد ذلك, فلو جاءت كشفت عن عدم وجود الدلالة الإطلاقية لكلامه المتقدم.

ص: 262

وأورد عليه:

أولاً: إنَّ الظهور الحالي السياقي الذي اعتمدنا عليه في إثبات كون المتكلم في مقام البيان يدلُّ بالإلتزام على ثبوت الإطلاق لكلامه من إبتداء الأمر, والعقلاء يعتمدون على هذا الظهور ويطرحون احتمال نصب القرينة المنفصلة في المستقبل فيكون هذا الإحتمال خلاف الوجدان.

ثانياً: إنَّه بناءً على على هذا الإحتمال يستلزم عدم إمكان التمسك بالإطلاق إذا احتملنا حدوث القرينة المنفصلة, ولا يفيدنا أصالة عدم القرينة, لأنَّها تجري مع وجود ظهور إطلاقي فعلي منجز؛ هذا إذا كانت أصلاً عقلائياً, وأمّا إذا كانت أصلاً شرعياً, بمعنى إستصحاب عدم القرينة فهو مثبت لا اعتبار به.

الإحتمال الثاني: أنْ يكون على نحو الشرط المقارن لا على نحو الشرط المتأخر.

بمعنى: إنَّ الدلالة الإطلاقية لكلام المتكلم في كلِّ آنٍ متوقفة على عدم نصب القرينة المنفصلة من المتكلم إلى ذلك الآن, ولو تحققت القرينة المنفصلة لم تكشف عن عدم ثبوت الدلالة الإطلاقية من أول الأمر كما في الإحتمال الأول بل تسقط الدلالة من حين حدوث القرينة المنفصلة, وقد اختار المحقق النائيني قدس سره هذا الإحتمال.

وأورد عليه أيضاً:

أولاً: إنَّه وإنْ سلم من الإشكال السابق في الإحتمال الأول, فيمكن التمسك بالإطلاق قبل مجيء القيد المنفصل حتى مع احتمال ثبوته في المستقبل, لكنه لا يصحُّ التمسك به عند احتمال كون القيد المنفصل قد صدر فعلاً ولم يصل إلينا, لإنَّنا حينئذٍ لم نتأكد من انعقاد الظهور الإطلاقي.

ص: 263

ثانياً: لأنَّه وإنْ لم يكن منافياً للوجدان الذي إدَّعاه المستشكل في الإحتمال الأول ولكنه غير معقول ثبوتاً, لأنَّ ظاهر حال المتكلم إمّا أنْ يقتضي كونه بصدد بيان تمام مرامه بشخص هذا الكلام الذي هو متلبس به فعلاً, أو يقتضي كونه بصدد بيان تمام مرامه بمجموع ما يصدر منه في المستقبل.

أمّا على الأول؛ فالإطلاق يثبت عند انتفاء القرينة المتصلة, سواء كانت القرينة المنفصلة موجودة أو منتفية, فإنَّها لا تنافي مقتضى الظهور الحالي حتى على فرض إرادة التقييد؛ فيتعين إرادة الإطلاق, وحينئذٍ لا يشترط في الدلالة الإطلاقية عدم نصب قرينة منفصلة على التقييد.

وأمّا على الثاني؛ فالظهور الحالي إنَّما يستلزم إرادة الإطلاق عند انتفاء القرينة المتَّصلة والمنفصلة معاً, فإذا لم نتأكد من انتفائها مطلقاً لا يمكن التمسك بالإطلاق فتكون الدلالة الإطلاقية مشروطة بالشرط المتأخر وهو الذي تقدم الإشكال عليه بأنَّه خلاف الوجدان, ومن أجل ذلك ذهب بعض الأعلام إلى أنَّ الدلالة الإطلاقية غير مشروطة بعدم نصب قرينة منفصلة على التقييد؛ لا على نحو الشرطالمتأخر ولا على نحو الشرط المقارن, فإذا صدرت القرينة المنفصلة فإنَّما هي ترفع حجية الدلالة الإطلاقية في المطلق ولا ترفع أصل دلالته على الإطلاق, فاختار ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من عدم نصب قرينة متصلة على التقييد.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ القرينة مطلقاً سواء كانت متَّصلة أو نفصلة تنافي الدلالة الإطلاقية فيما إذا كان احتمال التقيد المنفصل معتنى به عند العرف, فإنَّه لا ينعقد الإطلاق لكلام المتكلم بلا أنْ تكون دلالته على التقييد, وأمّا إذا لم يكن احتمال التقييد كذلك فالأصل يقتضي نفيه وينعقد للكلام ظهور إطلاقي, فإذا نصب قرينة بعد ذلك يوجب سقوط حجيته في الإطلاق,

ص: 264

والمحقق النائيني قدس سره إنْ أراد من عدم القرينة المنفصلة ما ذكرناه فهو صحيح وإلا فهو مخدوش كما هو واضح.

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام في مقام ردهِ على المحقق النائيني فيرد عليه بأنَّ العرف إذا احتمل وجود القرينة المنفصلة وكان هذا الإحتمال مِمّا يعتنى به عندهم يوجب عدم إنعقاد الإطلاق من دون نظر إلى كونه على نحو الشرط المتأخر أو المقارن, فما ذكره السيد الوالد قدس سره في بيان هذه المقدمة هو الصحيح الذي يوافق الوجدان العرفي.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ هذه المقدمة من مقدمات الحكمة توجب عدم إنعقاد الإطلاق للكلام وانتفاء ما يقتضيه لا إنَّها تمنع من تأثير المقتضي.

المقدمة الثالثة؛ وهي عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب مِمّا يوجب تخصيص المطلق, فيكون بعض حصصه أولى بالحكم من غيره بحيث لا يحتمل ثبوته في غيره, والقدر المتيقن إمّا خارجي أو في مقام التخاطب؛ والثاني هو الذي يضرُّ بالإطلاق عند من يرى ذلك دون الأول.

وقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره -وهو الأصل- أنَّه لو كان في البين قدر متيقن في مقام التخاطب فلا يثبت الإطلاق, فلو كان مراده هو القدر المتيقن لم يكن عدم التنصيص عليه نقيضاً للغرض وخلفاً لذلك الظهور الحالي للمتكلم الذي سبق شرحه؛ لاستفادته من الكلام, ولأنَّ ثبوت الحكم فيه يكون معلوماً ومبيناً للمخاطب؛ فلو كان الأمر كذلك؛ فإذا كان المتكلم بصدد بيان أنَّه التمام كان مخلاً, فمثلاً لو كان القدر المتيقن من قوله (أكرم العالم) هو الفقيه كان وجوب إكرام الفقيه هو المستفاد من مقام المحاورة, فلو كان هو تمام مرامه لم يكن مخلاً ببيانه, ثم إنَّه استدرك مِمّا ذكره الصورة التي لا يكون القدر المتيقن من حصص المطلق منافياً للإطلاق.

ص: 265

وتوضيح ذلك: إنَّ المتكلم تارةً يكون في مقام بيان ذات المراد وواقعه ولو لم يعلم المخاطب إنَّه تمام المراد, وأخرى يكون في مقام بيان تمام المراد بما هو كذلك, يعني إنَّه تمام المراد وإعلام المخاطب بذلك.

وعلى الثاني؛ لا يضرُّ القدر المتيقن بالإطلاق, إذ غاية ما يقتضيه المتيقن هو اليقين بإرادة هذا المتيقن ولكنه لا يفيد في أنَّه تمام المراد فيبقى مجهولاً لدى المخاطب فلا يعلم إلا أنَّ المتيقن مرادٌ, أمّا غيره فلا يحرز عدم إرادته, فيصح التمسك بالإطلاق باعتبار أنَّه المراد.

وعلى الأول؛ يكون القدر المتيقن مخلاً بالإطلاق, لأنَّ تمام المراد لو كان هو المتيقن لم يكن عدم التنصيص عليه خلف الغرض لفرض إنَّه مفهوم في مقام الكلام, كما إنَّ جهل المكلف المخاطب بعدم كونه التمام لا يضر لأنَّه لم يكن على المولى رفع جهله من هذه الناحية, إذ ليس عليه إلا بيان تمام مراده بواقعه لا بوصف التمامية.

وقد أشكل عليه بوجوه:

أولاً: إنَّ المقصود من بيان تمام المراد هو تمام ما هو مأخوذ في موضوع الحكم من القيود في مرحلة الجعل, لأنَّ هذا هو مدلول الخطاب, وليس المراد بيان تمام ما هو المصداق لموضوع الحكم في الخارج, فإنَّه بلحاظ مرحلة التطبيق تكون الحصة هي الأقل والإطلاق هو الأكثر, ومن الواضح إنَّه في موارد وجود القدر المتقن وإنْ كان المقيد مبيناً إلا أنَّ المبين هو ثبوت الحكم عليه واندراجه تحته على كلِّ حالٍ, وأمّا موضوع الجعل وتقييده بالقيد فغير مبين.

وأمّا لحاظ مرحلة الجعل يكون التقييد هو الأكثر والزائد على الإطلاق والطبيعة المهملة.

ثانياً: وعلى فرض التسليم بأنَّ تمام المراد إنَّما هو بلحاظ المصاديق الخارجية لا بالقياس إلى مرحلة الجعل فلا فرق حينئذٍ بين أنْ يكون القدر المتيقن ثابتاً من الخطاب أو من الخارج؛

ص: 266

فإنَّه على كل تقدير لا يلزم الخلف لو كان مقصود المتكلم هو المقيد المتيقن لأنَّه تمام المراد ومبين ولو في ضمن المطلق.

ثالثاً: إنَّه لا فرق على ذلك أيضاً بين أنْ يكون المتكلم في مقام بيان تمام المراد واقعاً أو إنَّه زائداً على ذلك في مقام بيان أنَّه التمام, فإنَّ غاية ما يلزم من ذلك أنَّ هناك ظهوران حاليان للمتكلم؛ أحدهما: إنَّه في مقام بيان تمام المراد, والآخر: إنَّه في مقام بيان أنَّ ما ذكره هو تمام المراد أيضاً, أي إنَّه ليس غير مراد وهذا الظهور لا يجدي نفعاً في إثبات الإطلاق, والذي يثبت بمقتضى الظهور الأول إنَّ القدر المتيقن هو التمام بعدم العلم بثبوت الحكم على جميع الأفراد فلا يكون مبنياً بتمامه لو كان هو المراد وبمقتضى كونه في مقام بيان تمام المراد يستكشف أنَّه ليس مراداً وأنَّ تمام المراد هو القدر المتيقن.

ونتيجة ذلك كله هو إنَّه لا يضرُّ وجود القدر المتيقن بالإطلاق الثابت في الكلام بعد كون المتكلم في مقام بيان مراده وعدم وجود قرينة تدلُّ على التقييد فلا وجه لأخذ عدم وجود القدر المتيقن في عداد مقدمات الحكمة؛ بلا فرق بين كون القدر في الخارج أو في مقام التخاطب.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ النزاع يرجع إلى أنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب إنْ بلغ من الظهور بحيث يوجب ظهور اللفظ في المتيقن فلا ينبغي الإشكال في كونه موجباً لصرف الإطلاق وعدم انعقاده إلا في المتيقن ولعل مراد المحقق الخراساني قدس سره هذه الصورة, وإلا فإنَّ كلامه لا يخلو من إشكال كما عرفت.

ثم إنَّه بناءً على ما ذكرناه يمكن إرجاع هذه المقدمة إلى المقدمة الثانية ونقول بأنَّ القدر المتيقن إنْ كان له من الظهور بحيث يوجب تقييد المطلق به فهو بمنزلة القرينة, كما إنَّه يمكن جعلها مقدمة بحيالها باعتبار أنَّ القدر المتيقن ليس من قبيل القرائن المعهودة سواء

ص: 267

كانت متَّصلة أو منفصلة فلا ضرر في جعل المقدمات ثلاثية أو جعلها ثنائية ولكلِّ واحد من الرأيين وجهة نظر. وقد إلتزم المحقق النائيني قدس سره بثلاثية المقدمات بنحو آخر؛ وذلك لأنَّه ينكر كون عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من المقدمات ولكنه التزم بأنْ يكون اللفظ بمعناه مقسماً للمقيد وغيره وإلا فمع عدم كونه كذلك لا يصحُّ التمسك بعدم بيان القيد في نفي التقييد فلا تجري في المعاني الربطية والحرفية وأمثال قصد القربة ونحو ذلك. ولكن الظاهر أنَّه من لزوم ما لا يلزم, فإنْ كان مراده من كون المعنى مقسماً هو اللابشرط المقسمي وهو الطبيعة بالنظر إلى ماهو خارج عن ذاتها وذاتياتها مقابل الماهية من حيث هي؛ فإنَّه لا ريب في اشتراطه لتوقف الإطلاق والتقييد على لحاظ الماهية كذلك فإنَّه مع امتناعه يمتنع الإطلاق, ولكن ذلك يرجع إلى مقدمات الإطلاق وحدوده وماهيته ويغني ذلك عن إشتراطه ولا وجه لعدّه من لواحقه كما عرفت سابقاً وإنْ كان مراده اشتراط كون مجيء الإطلاق مقسماً فعلياً للمقيد وغيره بمعنى إنَّه ينقسم فعلاً إليها, ففي مورد يمتنع الإنقسام الفعلي يمتنع الإطلاق, كمورد أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بناءً على امتناعه.

ولكن يرد عليه بأنَّه لم يقم دليل على اشتراطه, مع إنَّه ليس في الألفاظ ما لا يتَّصف بالإطلاق والتقييد؛ إمّا إستقلالاً أو تبعاً, وقد تقدم الكلام فيه مِمّا ذكرناه في تقابل الإطلاق والتقييد وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

تنبیهات

وينبغي التنبيه على أمور:

التنبيه الأول: لا فرق في جريان مقدمات الحكمة وثبوت الإطلاق بها بين المعاني الأفرادية والمعاني التركيبية والإنشائية مطلقاً؛ فيتَّصف الجميع بالإطلاق مع جريانها, ومع انتفائها لا تتَّصف به, ومن أجل ذلك جرت السيرة في العقد علىالتمسك بإطلاق العقود والجمل

ص: 268

الشرطية والأوامر والجمل الطلبية وغير ذلك, وأمّا المعاني الربطية والتبعية كالحروف وما يلحق بها فقد إختلف الأصوليون في إتّصافها بالإطلاق وعدمه, وقد تقدم منّا مكرراً أنَّه يصحّ اتّصافها بالإطلاق والتقييد تبعاً لمتعلقاتها لمكان الوحدة الإعتبارية بينهما, فتسري عوارض المعاني الإستقلالية إلى المعاني التبعية المتقومة بها أيضاً.

نعم؛ من يقول بعدم السراية لأنَّ تلك المعاني التبعية لوحظت منسلخة عن المعاني الإستقلالية فلا وجه لعروض الإطلاق والتقييد عليها إذ لا ذات لها إلا بالغير وفي الغير, وما كان كذلك لا معنى لاتّصافها ذاتاً بأيِّ صفة كانت. ولأجل ذلك يمكن الجمع بين الاقوال؛ فمنهم من يقول بامتناع اتّصاف المعاني الربطية بهما؛ أيْ الذات, ومن يقول باتصافها بهما؛ أي بالتبع. وقد تمَّ تفصيل ذلك كله فراجع.

التنبيه الثاني: لا تتَّصف الأعلام الشخصية من حيث التشخص بالإطلاق, لأنَّ التشخص ينافي الإرسال والسريان فلا تتَّصف بالتقييد من هذه الحيثية كما عرفت من أنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة, فكلُّ ما لا يتَّصف بالإطلاق لا يتَّصف بالتقييد أيضاً.

نعم؛ يصح اتصافها بهما من حيث عوارضهما, كالزمان والمكان والطول والقصر والسواد والبياض وغيرها من صفاتها المحفوفة بها, فإنَّ كلَّ شيء محفوف بعوارض لا تعدُّ ولا تحصى, لأنَّ ذلك من شؤون الممكن الذي يحتفّ بالعوارض الإمكانية, كما إنَّ الواجب يتَّصف بالأوصاف الإضافية الكثيرة كالخالقية والرازقية والرأفة والقهارية وغير ذلك مِمّا لا يحصى. وكلُّ ذلك واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

التنبيه الثالث: إحراز الإطلاق من كلام المتكلم امّا أنْ يكون قطعياً وإمّا أنْ يكون بحسب الظاهر والأصل على نحو ما تقدم من أنَّ الظاهر من حال المتكلم إنَّه في مقام بيان تمام

ص: 269

مراده, وعلى كلٍّ منهما؛ إمّا أنْ يكون في البين ما يشك في كونه قيداً أو لا يكون؛ فهذه أقسام أربعة:

الأول: ما إذا أحرز الإطلاق بالقطع؛ فإنَّه يثبت الإطلاق حتى لو كان في البين ما يشكّ في كونه قيداً.

الثاني: ما إذا أحرز الإطلاق بالقطع ولم يكن في البين ما يشكّ كونه قيداً؛ فإنَّه يثبت الإطلاق أيضاً بالأولى.

الثالث: ما إذا احرز الإطلاق بالأصل والظاهر ولم يكن في البين ما يشكّ في كونه قيداً؛ فإنَّه يثبت الإطلاق في هذه الصورة أيضاً, كما في الصورتين السابقتين.

الرابع: مثل الصورة السابقة وكان في البين ما يصحُّ للتقييد؛ فلا ريب في عدم ثبوت الإطلاق لعدم صحة الإعتماد على الظاهر والأصل حينئذٍ.نعم؛ لو كان مجرد الشكّ في التقييد فلا ريب في ثبوت الإطلاق لأصالة الإطلاق في كلِّ مورد يشكّ في أصل التقييد كما يجري في قيدية الموجود, إلا إذا كانت أمارة معتبرة على التقييد, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

التنبيه الرابع: إنَّ المستفاد من الإطلاق هو رفض القيود لا أنَّه جمع لها، لأنَّه إنَّما يراد من الإطلاق إستكشاف عدم دخل القيد في المرام ثبوتاً لعدم ذكره في موضوع الحكم إثباتاً, فهو إنتقال من عدم القيد إثباتاً إلى عدم دخله ثبوتاً لا إلى دخل القيود جميعاً في الحكم فإنَّه أمر زائد لا تقتضيه مقدمات الحكمة, ومن أجل ذلك كان الإحتياج إليها إنَّما هو لنفي القيد والبشرط شيئية, وأمّا إحتمال بشرط لا شيئية فليس من الإحتمالات التي يعتدُّ بها العقلاء حتى يحتاج في نفيه إلى مقدمات الحكمة.

ص: 270

التنبيه الخامس: ذكرنا أنَّ مقدمات الحكمة عدم نصب القرينة على القيد؛ فإذا تحقق هذا الشرط مع غيره ينتج الإطلاق, ولا بُدَّ وأنْ يعلم أنَّ عدم نصب القرينة إنَّما يكون شرطاً في استفادة الإطلاق فيما إذا كان المتكلم قادراً على ذكر القيد بأنْ لا يكون ممنوعاً عنه لتقية أو عجز أو ضيق وقت أو إكراه أو غير ذلك, وإلا فلا يستفاد من عدم ذكره الإطلاق لعدم ثبوت الدلالة الإلتزامية من مجرد عدم ذكر القيد على إرادة الإطلاق.

إنْ قلتَ: إنَّ الأصوليين إنَّما يختلفون في ثبوت الإطلاق وعدمه بلحاظ القيود الثانوية والتقسيمات الثانوية للحكم في بحث التوصلي والتعبدي مع العلم بأنَّ الحكيم لا يمكنه أخذها في نفس الحكم.

قلتُ: إنَّ البحث في ذلك الموضع إنَّما هو بلحاظ أنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد إنَّما هو في مرحلة الثبوت لا الإثبات والمقام من الأخير, مع إنَّه ذكرنا في محلِّه إمكان أخذ التقسيمات الثانوية للحكم في نفس الحكم بلا إشكال.

التنبيه السادس: ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّه لا وجه لاحتمال ورود التقييد المعصومي لإطلاقات الكتاب والسنة بعد الغيبة الكبرى لانقطاع طريق الوصول إليه عج الله تعالی فرجه الشریف ؛ فينحصر إحتماله بتحقق الإجماع ودليل العقل المعتبر شرعاً. وسيأتي بيانه مفصلاً إنْ شاء الله تعالى.

خاتمةٌ فيها مسألتان:

المسألة الأولى: في شمولية الإطلاق وبدليته

إنَّ الإطلاق قد يكون شمولياً كما في: ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(2), وقد يكون بدلياً كما في: (أعتق رقبة), وربَّما يكون الإطلاق في حكم واحد بلحاظ موضوعه شمولياً وبلحاظ متعلقه

ص: 271


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص159.
2- . سورة البقرة؛ الآية 275.

بدلياً كما في: (أكرم العالم)؛ فإنَّه بلحاظ أفراد العالم يكون شمولياً وبلحاظ أقسام الإكرام لا يجب إلا تحقيق مسمّاه دون أنواعه, كما إنَّه ربَّما يكون بلحاظ متعلقه شمولياً أيضاً, كما في (لا تكذب)؛ وهذا ظاهر لا نزاع فيه، وإنَّما الكلام في منشأ الشمولية والبدلية مع كون الدالّ على الإطلاق من جميع الموارد شيئاً واحداً وهو مقدمات الحكمة, فما هو الوجه في اختلاف النتيجة مع الإتّفاق في المنشأ؟ وقد عالج الأصوليون ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما أفاده المحقق العراقي قدس سره (1) من أنَّ مقتضى الأصل أنْ يكون بدلياً, وأمّا الشمولية فإنَّها بحاجة إلى مؤونة زائدة تثبتها, لأنَّ مقتضى مقدمات الحكمة كون موضوع الحكم هو الطبيعة الجامعة بين القليل والكثير, والفرد والأفراد, والجامع بتحقق ولو ضمن فرد فيكون بدلياً. ولكن الشمولية فإنَّه لا بُدَّ في استفادتها من عناية إضافية, وهي ملاحظة جميع الأفراد وسريان الحكم فيها.

وأورد عليه: إنَّه لا فرق في الشمولية والبدلية ثبوتاً فليس في الأولى عناية زائدة على البدلية وما ذكره قدس سره إنَّما هو بلحاظ الفرق بين العموم والإطلاق فإنَّ العموم يلحظ فيه جميع الأفراد لا الإطلاق وإنْ كان شمولياً, مع إنَّه لا نجد عناية زائدة في استفادة الإطلاق الشمولي إثباتاً, فإذا قال: (أكرم العالم) فإنَّ إسم الجنس (عالم) الذي دخل عليه اللام وشيء منها لا يتضمن عناية زائدة تقتضي الشمولية, ولو قيل بأنَّ اللام إنَّما هو العناية الزائدة؛ نقول: لو حذفناه وقلنا: (أكرم عالِم البلد) الذي فيه الإضافة ولم تكن فيه عناية زائدة.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقق الإصفهاني قدس سره (2) -وهو عكس ما ذكره المحقق العراقي قدس سره -؛ بأنَّ مقتضى الأصل في المطلق أنْ يكون شمولياً, لأنَّ الإطلاق يثبت أنَّ الطبيعة

ص: 272


1- . نهاية الأفكار؛ ج1 ص569.
2- . ذكره السيد الصدر قدس سره في بحوث علم الأصول؛ ج3 ص429.

هي المأخوذة في الواقع, وبما أنَّها فانية في الأفراد خارجاً وهو الموضوع لا بما هي هي والمناط هو الوجود الخارجي للطبيعة, والطبيعة نسبتها إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء فلا محالة أنْ يكون مقتضى الأصل هو ثبوت حكمها على كلِّ فرد تثبت فيه الطبيعة؛ وهو معنى الشمولية. وأمّا البدلية فهي بحاجة إلى قيد الوحدة أو الوجود الأول من الطبيعة معها لكي لا يصدق على الوجود الثاني والثالث مثلاً.

ويرد عليه: إنَّه غير صحيح ثبوتاً وإثباتاً كما ذكرناه آنفاً.

هذا وإنَّ ما ذكره جمعٌ وكذا السيد الوالد قدس سره من أنَّ مقدمات الحكمة في جميع الموارد لا تثبت إلا مطلباً واحداً وهو: إنَّ موضوع الحكم أو متعلقه هو ذات الطبيعة، وأمّا الشمولية والبدلية فتثبت بلحاظ قرينة عقلية أو عرفية تعين البدلية تارةً والشمولية أخرى؛ فإذا قال المولى (لا تكذب) فإن النهي قد أصبح بلحاظمتعلقه -وهو الكذب- شمولياً, لأنَّ البدلية غير معقولة, لأنَّ النهي عن كذب ما لغو محض, فإنَّ الكذاب مهما يكن كذاباً فهو لا يكذب بجميع الأكاذيب حتى يطلب منه ترك كذب ما, وهذا بخلاف المتعلق في الأمر ك-(صلِّ) مثلاً؛ فإنَّه لا يحتمل فيه الشمولية, إذ لا يعقل أنْ يجب على المكلف الإتيان بجميع أفراد الصلاة فإنَّه غير مقدور له فيتعين أنْ يكون الإطلاق فيه بدلياً.

وبالجملة؛ إنَّ البدلية والشمولية إنَّما تستفاد من القرائن؛ خارجية كانت أو داخلية, فإنَّ لكلِّ واحدٍ منها لفظ يختَّص به.

وأورد عليه: إنَّه لا خلاف في أنَّه إذا كانت قرينة على أحدهما لا بُدَّ من اتّباعها, ولكن الكلام فيما إذا لم تكن قرينة وكان كِلا الامرين معقولاً, كما في: (أكرم العالم)؛ فإنَّه كما يمكن جعل الإكرام على طبيعي العالم على نحو الشمول كذلك يمكن جعله على فرد منهم كما في: (أكرم عالماً) مثلاً؛ فما ذكروه لا يعالج الموضوع.

ص: 273

وفيه: إنَّه خلف الفرض, إذ لا يوجد مورد يخلو من قرينة؛ إمّا عقلية أو عرفية.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1)؛ وخلاصته: إنَّ الشمولية والبدلية إمّا أنْ يراد بهما لحاظ الحكم بمعنى كون الحكم منحلاً إلى أحكام عديدة بعدد أفراد الموضوع خارجاً, فيكون لكلٍّ منها إمتثاله وعصيانه الخاص, فيكون شمولياً أو يكون للحكم وجود واحد له إمتثال واحد وعصيان واحد فيكون بدلياً.

وإمّا أنْ يراد بهما مرحلة الإمتثال بعد فرض وحدة الحكم؛ فهل يكون إمتثاله ضمن فرد واحد أو أفراد متعددة فيقال: إنَّه في الأوامر يكون الإطلاق في المتعلق بدلياً, وفي النواهي يكون شمولياً.

أمّا المعنى الثاني فهو ليس من شؤون الإطلاق ومقدمات الحكمة بحسب الحقيقة الجارية في مدلول الكلام, بل هو ثابت بنكتة عقلية وهي: إنَّ الطبيعة توجد بوجود فرد منها ولا تنعدم إلا بانعدام أفرادها, وبما إنَّ الأمر طلب الإيجاد, والنهي طلب الترك, ومن أجله كان امتثال الأمر بإتيان فرد وامتثال النهي ترك تمام الأفراد.

وأمّا المعنى الأول من الشمولية والبدلية ففيه تفصيل بين موضوع الحكم ومتعلقه؛ فإنَّ الحكم بلحاظ موضوعه يكون الأصل فيه شمولياً ما لم تكن عناية على الخلاف, وبلحاظ متعلقه يكون بدلياً, أي لا ينحلّ إلى أحكام ما لم تكن عناية على الخلاف أيضاً.

واستدلَّ على ذلك بالقاعدة المعروفة من: إنَّ موضوع الحكم لا بُدَّ فيه من فرض مقدر الوجود؛ مثل الحكم, لا بُدَّ من تحقيقه بالحكم, فلو كان مفروضَ الوجود فيكون طلب الموضوع لغواً.

ص: 274


1- . بحوث علم الأصول؛ ج3 ص430.

ونتيجة ذلك: إنَّ الطبيعة المفروغ عنها في المرتبة السابقة على الحكم تستتبع لا محالة إنطباقها على جميع ما يصلح أنْ يكون مصداقاً لها, لأنَّ كلَّ فرد من تلك الأفراد نسبته إليها حدٌّ واحد, وهو معنى الشمولية وانحلال الحكم بلحاظ الموضوع, وأمّا بلحاظ المتعلق فالقاعدة تقتضي العكس, لأنَّ المتعلق لم يفرض وجوده مفروغاً عنه كي يتعدد الحكم من مرحلة الإمتثال والتطبيق.

وقد إستثنى من تلك القاعدة موردان في الموضوع؛ الأول: المنون الذي يكون الإطلاق فيه بدلياً لدلالة التنوين على قيد الوحدة. والثاني: في المتعلق الذي يكون الأصل فيه أنْ يكون بدلياً بخلاف الموضوع الذي يكون فيه الحكم شمولياً, فإنَّه في النهي يكون شمولياً, حيث إنَّ كلَّ فرد من المتعلق يكون موضوعاً مستقلاً للحرمة فيتعدد الحكم بعدد الأفراد, وذلك للمناسبة العرفية, وهي غلبة إنحلالية المفسدة بحيث يكون كلُّ واحد من الأفراد واجداً للمفسدة مستقلاً عن الفرد الآخر.

والحقُّ أنْ يُقال: إنَّ ما ذكره قدس سره لا يخرج عمّا ذكره جمعٌ كبير من الأصوليين من أنَّ الإطلاق بحد نفسه ومن حيث منشئه لا يدلُّ إلا على الطبيعة من حيث هي, وأمّا الشمولية والبدلية فإنَّهما من مقتضيات الدلالة العقلية والعرفية, وما ذكره لا يخرج عن أحد هاتين الدلالتين فلم يأتِ بشيء جديد, فإنَّه لم توجد قضية من قضايا الأحكام الشرعية إلا وفيها إحدى هذه الدلالات, فإنَّ موضوع الحكم ومتعلقه إمّا أنْ يكون من قبيل إسم الجنس أو النكرة؛ وكلٌّ منهما يستدعي النفي أو الإثبات؛ أمّا الأول فإنَّه يدلُّ على الشمول والإستيعاب, وأمّا إذا كان في مورد الإثبات فإنَّه يكون الحكم إستيعابياً إلا إذا كان هناك ما يقتضي البدلية كالتنوين أو يستفاد من طرف المادة كالنكرة. أو من طرف الهيئة كما في أسماء الأجناس المتعلقة للأمر وغير ذلك من القرائن.

ص: 275

المسألة الثانية: في الإنصراف؛

وهو عبارة عن أنس الذهن بمعنى معين مِمّا ينطبق عليه اللفظ؛ فقد وقع الكلام في مانعيته عن التمسك بالإطلاق.

والمعروف إنَّه على أقسام ثلاثة:

القسم الأول: الإنصراف الناشئ من غلبة الوجود؛ كما إذا كان بعض أفراد المطلق وحصصه أغلب وجوداً من الأخرى, فإنَّ هذه الغلبة قد توجب أنس الذهن مع تلك الحصة الغالبة, ولكن هذا النحو من الإنصراف لا أثر له ولا يضرُّ بالإطلاق, فإنَّه لم يستند إلى اللفظ ليشمله دليل حجية الظهور, بل هو حاصل من غلبة خارجية ولا دليل على حجيته, وربما يسمى هذا النوع من الإنصراف بالبدوي أيضاً.

نعم؛ ربَّما تبلغ الندرة درجة لا يكون اللفظ مقسماً له عرفاً ليشمله وغيره فإنَّه قد يوجب ضيقاً في الإطلاق, ولكن ذلك خارج مفروض الكلام, فإنَّه في الحقيقة ناشئ من ضيق وتحديد في مدلول اللفظ.القسم الثاني: الإنصراف الناشئ من كثرة إستعمال اللفظ في حصة معينة مجازاً أو نحوه بحيث يوجب ظهور اللفظ فيها أنس الذهن بين اللفظ وذلك المعنى وشدة العلاقة بينهما, ومثل هذا الإنصراف يهدم الإطلاق ويوجب تقييده بتلك الحصة الخاصة, لأنَّه أنس حاصل من اللفظ واستعماله في المعنى وإفادته باللفظ بحيث يبلغ الوضع التعيّني كما في المنقول والمشترك, وأمّا إذا لم يبلغ الإنصراف هذه المرتبة فلا يتحقق وضع؛ بل مجرد أنس وعلاقة شديدة, وهو وإنْ امكن أنْ يكون صالحاً للإعتماد عليه في مقام البيان لكن مثل هذا الإنصراف يوجب الإجمال وعدم تمامية الإطلاق.

القسم الثالث: الإنصراف الناشئ من مناسبات عرفية أو عقلائية, كما في أغلب التشريعات التي تبتني على العرف وعلى بناء العقلاء, فإنَّ هذا الإنصراف يوجب التقييد أيضاً؛ كانصراف

ص: 276

لفظ الماء إلى غير ماء الزجاج والكبريت والثلج, ومثل القول (الماء مطَهِّر) فإنَّه ينصرف إلى الماء الطاهر لمركوزية عدم مطهرية النجس.

وهذه هي أقسام الإنصراف؛ وما يوجب التقييد منها إثنان, وللأصوليين خلاف في بعض الأمثلة, ولا يضرُّ ذلك بعد معرفة أصولها.

هذا كلُّه ما يتعلق بالإطلاق.

البحث الرابع: التقييد

اشارة

إنَّ الكلام عن التقييد إنَّما يكون من جهة بيان التعارض بين المقيد والإطلاق, ولكن تعرض السيد الوالد قدس سره (1) إلى أمور قد تقدم البحث عنها؛ منها: حكم التقابل بينه وبين الإطلاق, وقد ذكرنا ما يتعلق به فيما سبق. وخلاصة ما ذكره في المقام: إنَّ الإطلاق إنْ فسَّرْناه بالعنوان السلبي وقلنا بأنَّه عدم التقييد عمّا يصلح أنْ يكون مقيداً به يكون التقابل بينه وبين التقييد من تقابل العدم والملكة كما هو المشهور.

وإنْ فسَّرْناه بالعنوان الإيجابي كالإرسال والسريان فيكون التقابل بينهما تقابل التضادّ, لأنَّ كُلاً منهما يكون وجودياً لا يصحُّ إجتماعهما في محلٍّ واحد من جهة واحدة, وهو حكم المتضادين, مع إنَّه لا بأس باجتماع بعض أقسام التقابل مع بعضها الآخر مع إختلاف العنوان والجهة.

وقد أشكل على ما ذهب إليه المشهور من أنَّ من أحكام النقيضين عدم إرتفاعهما, وفي المقام يجوز ذلك كما في قصد القربة, فإنَّه لا يمكن أخذه في متعلقه حيث لا يصحُّ تقييد الأمر به فلا يصحُّ إطلاقه بالنسبة إليه فيرتفع الإطلاق والتقييد في هذا المورد.

ص: 277


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص159-160.

ولكن يجاب عنه:

أولاً: إنَّ قصد الأمر يمكن أخذه في متعلقه كما تقدم الكلام فيه في بحث التعبدي والتوصلي.

ثانياً: إنَّ الممتنع من إرتفاع النقيضين إنَّما هو بحسب الواقع, لأنَّ الأمر بالنسبة إلى متعلقه

إمّا مطلق في علم الله تعالى والواقع, أو مقيد, وأمّا الإطلاق والتقييد بحسب الظاهر والإعتبار الصناعي فلا محذور فيه؛ فيمكن إرتفاع الإطلاق والتقييد بهذا الإعتبار, ولا تعتبر الموافقة بين الإعتبار الصناعي وبين الواقع, لأنَّ الأول إعتباريات محضة, ولأجل ذلك قالوا يجوز إرتفاع الضدَّين واجتماعهما في الإعتباريات. ثم قال بأنَّه لا ثمرة عملية معتدٌّ بها في تحقيق أنَّ التقابل بينهما من أيِّ الأقسام, بل لا ثمرة علمية أيضاً, وتقدم التفصيل فراجع.

ومنها: إنَّ صدق المطلق على المقيد كصدقه على نفسه حقيقي؛ بناءً على كونه اللابشرط المنقسم إلى أقسام فإنَّه لا ريب في تحقق المقسم في جميع أقسامه, وصدقه عليها إنَّما يكون صدقاً حقيقياً.

وأمّا بناءً على كونه اللابشرط القسمي فإنَّ صدقه يكون على المقيد أيضاً حقيقياً من باب تعدد الدالّ والمدلول, فيكون لفظ المطلق قد استعمل في ذات المعنى ويستفاد التقييد من دالٍّ آخر, فلا يكون اللفظ قد استعمل في غير الموضوع له حتى يكون مجازاً, لأنَّ الإرادة الإستعمالية قد تحققت في كلٍّ منهما وهذا القدر يكفي في الصدق الحقيقي, ومقتضى الأصل عدم إعتبار شيء آخر.

نعم؛ لو اعتبرت الإرادة الجدية الواقعية في الصدق الحقيقي يكون مجازاً حينئذٍ لانتفائها بالنسبة إلى القيد.

ص: 278

ثم إنَّ المقيد على نحوين:

النحو الأول: ما يكون متكفلاً لحكم إرشادي من أمر أو نهي, فيكون الأمر إرشاداً إلى جزئية المقيد أو شرطيته تتعلق بموضوع الحكم نظير الأوامر الواردة في باب المركبات الإعتبارية, فإنَّ ظهورها في الإرشاد إلى أخذ متعلقها في المركب على نحو الجزء أو الشرط مِمّا لا ينكر, وكذلك ما ورد النهي في ذلك الباب فإنَّه إرشاد إلى المانعية.

النحو الثاني: ما يكون متكفلاً لحكم مولوي يتعلق بالمقيد.

ولا إشكال في تقديم المقيد على المطلق إذا كان على النحو الأول, فإذا ورد دليل يأمر بالصلاة بقول مطلق وورد دليل آخر يأمر بالركوع واستفدنا من ظهوره إنَّه إرشاد إلى جزئيته قدم المقيد بلا كلام على ما سيأتي في وجه تقديمه.وقد ذكر السيد الوالد قدس سره إنَّ كلَّ ما ورد لبيان الجزئية أو الشرطية أو المانعية أو القاطعية لا ريب في تحقق موضوع التقييد بالنسبة إليها وإلا لبطل وجوبه وتشريعه بلا فرق فيه بين الإلزاميات وغيرها, وكذا ما كان واجباً نفسياً في شيء آخر بحيث لو لم يكن الآخر لكان وجوبه لغواً كبعض واجبات الحج, واستفادة ما ذكر إمّا من القرائن الداخلية أو الخارجية, ومع الشكِّ في شيء مِمّا ذكر فمقتضى الأصل اللفظي والعملي عدم وجوبه فلا موضوع للتقييد, كما إنَّه مع تحقق موضوعه لا وجه لحمل القيد على الندب والأخذ بالإطلاق لأنَّه خلاف طبع القيدية ويحتاج إلى قرينة دالَّة على ذلك.

وأمّا النحو الثاني كما إذا قال: (أكرم العالم), ثم قال: (يحرم إكرام العالم الفاسق), أو (يجب إكرام العالم العادل)؛ فقد وقع الكلام واختلف الأعلام في تقديم المقيد على المطلق وفي وجه تقديمه.

إذا عرفت ذلك فإنَّ الكلام فيما عقد هذا البحث من أجله يقع تارةً في المقيد المتَّصل بالمطلق, وأخرى في المقيد المنفصل عنه.

ص: 279

وموجز الكلام فيه يقع في مقامين -وإنْ كان التفصيل يأتي في باب التعارض-:

المقام الأول: في المقيد المتَّصل بالمطلق؛

وهو إمّا أنْ يكون انحلالياً ك-(أكرم العالم ولا تكرم العالم الفاسق) فقد عرفت إنَّه لا إشكال في تقييد المطلق لكونه قرينة على التقييد على كلِّ حالٍ.

وأمّا إذا كان بدلياً ك-(أعتق رقبة) فإنَّ فيه أقسام:

القسم الأول: أنْ يكون جزءً لنفس جملة المطلق ك- (أعتق رقبة مؤمنة)؛ وقد عرفت آنفاً أنَّه لا إشكال في هذا القسم من حيث عدم إنعقاد الإطلاق ذاتاً لوروده مقيداً من أول الأمر.

القسم الثاني: أنْ يكون جملة مستقلة عن جملة المطلق, ولكنه بلسان التقييد بحيث إنصبَّ الحكم فيه على التقييد لا المقيد ومن الإرشاد إلى جزئية المقيد أو المانعية إذا كان تركاً كما إذا قال: (أعتق رقبة, ولتكن تلك الرقبة مؤمنة) أو (إياك أنْ تعتقها كافرة) ولا إشكال في عدم ثبوت الإطلاق, لأنَّ ظاهر الدليل المقيد هو الإرشاد إلى الشرطية أو المانعية.

القسم الثالث: أنْ يكون المقيد جملة مستقلة والنهي قد إنصبَّ فيها على المقيد لا التقييد, كما إذا قال: (أعتق رقبة, ولا تعتق رقبة كافرة)؛ فإنْ إستفدنا من الدليل إنَّه إرشاد إلى المانعية فلا إشكال في تقديمه وعدم انعقاد الإطلاق, وأمّا إذا احتملنا ذلك ولم يظهر أنّ النهي إرشادي، فأيضا لا ينعقد الإطلاق للإجمال واحتمال قرينه موجودة.

نعم؛ إنَّ أصالة الإطلاق محكمة ولا يضرُّه احتمال القرينة بعد الشكِّ في قرينية الموجود, إذا كان دليل المقيد منصبَّاً على التقييد فيكون من الشكِّ في التقييد وإنْلم يحتمل ذلك بأنْ إستظهر أنَّه حكم نفسي؛ فالظاهر إنَّه يمكن إدراجه في مسألة إجتماع الأمر والنهي, فإنْ قلنا بإمكانه فلا إشكال في عدم التنافي بين المطلق والمقيد, وإنْ قلنا بالإمتناع فإنَّ الظاهر أنَّه يثبت التنافي بينهما فيحكم بالتقييد وإنْ اختلف في وجهه بناءً على الإحتمالات المختلفة في وجه الإمتناع.

ص: 280

القسم الرابع: أنْ تكون جملة المقيد مستقلة آمرة من قبيل: (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة), وقد ذكر بعض الأصوليين إحتمالات عديدة؛ منها: إفتراض إستظهار وحدة الحكم في الجملتين باعتبار مناسبات الحكم والموضوع, ومنها: إفتراض إستظهار تعدد الحكم فيها, ومنها: يفترض عدم وجود ما يدلُّ على ذلك بحيث يحتمل فيه كِلا الأمرين.

ففي الصورة الأولى يلزم التقييد لأنَّ الحكم الواحد إمّا مطلق أو المقيد, وفي الصورة الثانية فلا تعارض حينئذٍ, وفي الصورة الثالثة فقد يقال بأنَّ مقتضى القاعدة العمل بهما معاً ما دام لم يحرز الوحدة الموجبة للتعارض فيثبت تعدد الحكم الذي هو في طول الوحدة.

وأورد عليه بأنَّه على فرض إجمال الجملة الثالثة من ناحية وحدة الحكم أو تعدده مِمّا يحتمل قرينيته ومعه لا يحرز أصل الظهور الإطلاقي لكونه متَّصلاً به.

والحاصل: إنَّه يجب في جميع هذه الأقسام الأربعة التقييد ورفع اليد عن الظهور الإطلاقي بل لا ينعقد الإطلاق أصلاً لا إنَّه ينعقد ثم يسقط المانع؛ لاتّصال المقيد بالإطلاق بلا فرق بين أنْ يكون طرز القرينية إمّا بنحو الحكومة أو بنحو القرينية, فإنَّ العرف يرى إنَّه مع اتّصال القرينة في الكلام لا ينعقد للجملة ظهور في الإطلاق كما تنثلم مقدمات الحكمة على كلِّ حالٍ بالنظر العرفي.

ثم إنَّه لا بُدَّ من إثبات كون المقيد منافياً لمفاد الإطلاق وموجباً لتقييده إذا كان دليله يدلُّ على الوجوب بظهور صيغة (إفعل) فيه. وأمّا لو حمل المقيد على الإستحباب فلا تنافي، أو قلنا بدلالة الأمر على الوجوب بالإطلاق ومقدمات الحكمة لا بالوضع وقع التنافي بين الإطلاقين حينئذٍ فنحتاج إلى تقديم أحدهما على الآخر إلى ملاحظة وجه التقديم بين الإطلاقين.

ص: 281

المقام الثاني: في المقيد المنفصل؛

وقبل الخوض في تفصيل الكلام فيه نقول إنَّه يعتبر في حمل المطلق على المقيد وسقوط الإطلاق عن الإعتبار وحدة التكليف وثبوت التنافي بينهما, وإلا فيصحُّ الأخذ بمفاد كلّ واحد من الدليلين ولا يبقى موضوع للتقييد حينئذٍ, ولذا إشتهر بين الفقهاء إنَّه لا موضوع للتقييد من غير الإلزاميات لعدم إحراز وحدة التكليف فيها, فإنَّ القيود الواردة فيها إنَّما هي من باب تعدد المطلوب غالباً إلا إذا دلَّ دليل من الخارج على وحدته, ولو شكَّ في موردٍ إنَّه من باب وحدة المطلوب أو تعدده فلا موضوع للتقييد أيضاً لعدم إحرازوحدة المطلوب وتجري أصالة الإطلاق بلا معارض ومحذور. والحاصل؛ إنَّ الأقسام ثلاثة؛ فإمّا أنْ يحرز وحدة المطلوب, أو يحرز عدمها, أو يشكُّ فيها.

ويتعين التقييد في الأول دون الأخيرين, فيصحُّ الإطلاق والأخذ به فيهما أيضاً. كما إنَّ جميع ما تقدم من أقسام إجمال العام والتخصيص وأحكامها تجري في إجمال المطلق والمقيد أيضاً, وإنَّ كلَّ مورد لا يصحُّ التمسك فيه بالعام في الشبهة المصداقية لا يصحُّ فيه التمسك بالمطلق أيضاً, وكلُّ مورد يجوز ذلك هناك يجوز هنا أيضاً, وكذا ما ورد في الدوران بين النسخ والتخصيص يجري هنا أيضاً؛ إذ المطلق ملحق بالعام والتقييد ملحق بالتخصيص, فهما متَّحدان حكماً من هذه الجهة.

إذا عرفت ذلك نقول: إنَّ تفسير تلك المقولة المعروفة في بحث المطلق والمقيد إنَّه يشترط وحدة التكليف فيهما وتحقق التنافي بينهما, وإلا؛ فإنَّ لكلِّ واحد من المطلق حكمه والمقيد حكمه الخاص به إنَّما يكون في بيان أمور:

الأول: معرفة خصوصيات وحدة التكليف.

الثاني: معرفة خصوصيات التنافي المشروط بين المطلق والمقيد.

الثالث: السبب في التصرف في ظهور المطلق بالتقييد دون العكس.

ص: 282

أمّا الأول؛ فقد ذكرنا آنفاً إنَّه لا بُدَّ من إحراز وحدة التكليف والمطلوب فيهما بدليل, وإلا فلا موضوع للتقييد فتجري أصالة الإطلاق فيهما, وذكرنا إنَّ المشهور عند الفقهاء (قُدِّست أسرارهم) عدم التقييد في غير الإلزاميات لعدم إحراز وحدة التكليف فيهما, ومن هنا كانت الوجوه المحتملة هي إحراز وحدة التكليف, فلا بُدَّ من التقييد وإحراز عدمها أو الشك فإنَّه لا يجري التقييد فيهما فيتمسك بالإطلاق ويتعين الأخذ به, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا الثاني؛ ففيه صور متعددة:

الصورة الأولى: أنْ يكون دليل المقيد ناظراً إلى دليل المطلق وشارحاً له, ولا إشكال في التقييد كما هو الحال في الأدلَّة التي تدلُّ على الشرطية والجزئية بالنسبة إلى الموضوع الذي يدلُّ الإطلاق عليه لتحقق التنافي بين دليل المقيد ودليل الإطلاق وحصول التعارض بينهما, ولا يعقل ثبوت وجوب الإطلاق من دون شرطه أو جزئه.

الصورة الثانية: أنْ يكون بين الدليلين السلب والإيجاب من دون نظر الشرح والتفسير بينهما, كما في قوله: (أكرم العالم) و(لا تكرم الفاسق), ولا إشكال في تحقق التنافي بينهما والتعارض كما عرفت في المطلق والمقيد المتَّصل.

الصورة الثالثة: أنْ يكون كلاهما موجباً أو كلاهما سالباً؛ وفيها إحتمالات عديدة:

الأول: أنْ يكون كلّ واحد منهما شمولياً مع تحقق السلب فيهما, كما إذا قال: (لا يجب إكرام العالم), و(لا يجب إكرام الفقيه), ولا إشكال في عدم التعارض بينهما.الثاني: أنْ يكون كلّ واحد منهما شمولياً مع تحقق الإيجاب فيهما, كما إذا قال: (أكرم العالم) و(أكرم العادل), فإذا ثبت مفهوم الوصف مطلقاً على نحو الموجبة الجزئية أو الكلية يتحقق التعارض والتنافي بينهما وإلا فلا يثبت, ويلحق به ما إذا كانا نهيين؛ أحدهما عن المطلق والآخر عن المقيد.

ص: 283

الثالث: أنْ يكونا مثبتين ولم يكونا شموليين؛ بأنْ يكون أحدهما بدلياً أو كلاهما, كما إذا قال: (أعتق رقبة), و(أعتق رقبة مؤمنة)؛ فإنْ أحرز وحدة الحكم فيهما فلا إشكال في التنافي والتعارض بينهما, لأنَّ الحكم الواحد إمّا مطلق أو مقيد, وإنْ لم يحرز وحدة الحكم فلا تعارض ولا إجمال لكون المقيد منفصلاً فنتمسك بأصالة الإطلاق في المطلق ولا كلام في ذلك وإنَّما الكلام في كيفية إحراز وحدة الحكم, فالمشهور -وعليه السيد الوالد قدس سره - ينكرون استفادتها من نفس دليل الخطاب في كلِّ واحد منهما, وإنَّما يعلم من الخارج, ولكن المحقق النائيني قدس سره ذهب إلى أنَّه يمكن أنْ نستفيدها من نفس دليل الخطاب في كلِّ واحد منهما, واستدلَّ على ذلك بأنَّه لو كانا حكمين؛ أحدهما وجوب المطلق والآخر المقيد, فإنَّ النتيجة التخيير بين الأقل والأكثر, لأنَّ المكلف يدور أمره بين عتق رقبة مؤمنة أو عتق رقبة كافرة إبتداءً ثم عتق رقبة مؤمنة, وهذا تخيير بين الأقل والأكثر, فإذا لم تكن عناية يكون باطلاً, لكونه غير معقول ثبوتاً كما هو ثابت في محله. وأمّا إذا كانت عناية وأخذ المكلف بالأقل بحدِّه وهو وإنْ كان معقولاً ثبوتاً فيما إذا لم يكن الأقل والأكثر كالضدين اللذين لا ثالث لهما, ولكنه خلاف الظاهر إثباتاً.

وأورد عليه بأنَّ معقولية جعل الحكمين في المقام مِمّا لا يكاد يخفى, فالتشكيك في إمكانهما مِمّا لا ينبغي, فإنَّ لزوم التمييز بناءً على أنَّه إذا كان هناك تكليفان أحدهما متعلقاً بالأقل والآخر متعلق بالأكثر؛ إمّا أنْ يكون بحسب عالم الإمتثال فإنَّه غير صحيح لأنَّ الجعل الواحد بالجامع بين الأقل والأكثر لا يحفظ الإتيان بالأكثر, وهو خلاف الفرض في المقام حيث إنَّ الأمر بالأكثر إنَّما يكون تعييناً، وإنْ اريد والحال هذه إنَّ الأمر بالجامع يكون لغواً بلحاظ مرحلة الإمتثال فهو خلف, لأنَّ المكلف قد يتحرك نحو الجامع دون الحصة فلماذا يفوت عليه ذلك بعد فرض وجود مصلحة في البين فتحفظ بمثل هذا الجعل.

ص: 284

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ إستفادة وحدة الحكمين من نفس الدليلين ليس بالأمر الصعب حتى يحتاج إلى تلك التوجيهات المعقدة, فإنَّه في أغلب الموارد يكون معلوماً ويعرفها العرف بأدنى نظر, كما في مورد الدليل الذي يدلُّ على الشرط والجزء, ولا يحتمل تعدد الجزء أو الشرط, فيمكن إستفادة وحدة التكليف من نفس دليلي الخطاب, ولذا لا يرى العرف -وعليه الفقهاء- وحدة الحكم في غير الإلزاميات إلا إذا دلَّ دليل خاص علىالوحدة, فما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) -وعليه المشهور- من أنَّ وحدة التكليف إنَّما تستفاد من دليل خارجي من إجماع ونحوه إنَّما يكون من إحدى الطرق لا إنَّه ينحصر الطريق به.

وأمّا الثالث؛ وهو معرفة السبب في تقييد المطلق والتصرف في ظهوره دون العكس فهو يرجع إلى أحكام التعارض الذي هو من بحوث تعارض الأدلَّة الشرعية وقوانين الجمع العرفي, وسيأتي الكلام في ذلك مفصلاً إنْ شاء الله تعالى.

ومحصَّل الكلام في المقام؛ إنْ قلنا بأنَّ المقيد المنفصل كالمقيد المتَّصل لا يختلفان في تقديم المقيد على المطلق وعدم الحاجة إلى مؤونة زائدة في المنفصل كون القيد مطلقاً بياناً, فإذا ثبت دليل القيد وتحققت شروط التقييد من وحدة التكليف وتحقق المنافاة بينهما، فلا بُدَّ من حمل المطلق على المقيد، ويسقط الإطلاق تخصصاً وإقتضاءً لا تخصيصاً وكذا للمزاحم, ولا نحتاج إلى مؤونة زائدة في القيد المنفصل.

وأمّا بناءً على ما ذهب إليه المشهور من أنَّ الظهور الإطلاقي يبقى محفوظاً بعد ورود المقيد المنفصل فالتعارض بحسب الحقيقة والواقع إنَّما يكون بين ظهورين حاليين فعليين للمتكلم؛ أحدهما ظهور حاله في أنَّه في مقام بيان تمام مرامه ويريده بقوله, والآخر ظهور حاله في أنَّ تمام ما يقوله هو المراد جداً, فحينئذٍ إمّا أنْ يرفع اليد عن الظهور الأول وهو

ص: 285


1- . كفاية الأصول؛ ص256.

يلازم تقييد المطلق, وإمّا أنْ يرفع اليد عن الظهور الثاني, وهو يلازم حمل القيد في المقيد على أنَّه غير جدي, وإنَّه من باب المثال أو نحو ذلك, فيحتاج إلى أمور أخرى زيادة على مقدمات الحكمة لترجيح الظهور الثاني على الأول وهو مِمّا يختلف بحسب الحالات:

الحالة الأولى: أنْ يكون المقيد ناظراً إلى المطلق مبيناً وشارحاً له فيكون لسانه لسان الشرط والجزء, وفي هذه الحالة إنْ أردنا رفع اليد عن الظهور الثاني فلا بُدَّ من رفع اليد عن نظرية الحكومة التي تفيد بأنَّ لكلِّ متكلم أنْ يشرح كلامه ويبين مراده ويجعل قرينة شخصية على تعيين مراده وتجديده ولو بكلام؛ وهو غير تام.

الحالة الثانية: أنْ لا يكون المقيد ناظراً إلى المطلق بل كلّ منهما بيان مستقل, وفي هذه الحالة تكون الإحتمالات ثلاثة:

1- حمل المقيد على الإستحباب, وهو يتنافى مع ظهور الصيغة في الوجوب.

2- حمله على إنَّه واجب في واجب, وهو يتنافى مع ظهور كون الموضوع هو المجموع لا خصوص المقيد, مع إنَّ ذلك نادر جداً.

3- حمله على إنَّه واجب مستقل, وهو يتنافى مع ظهور الدليلين في وحدة التكليف فيتعين التقييد للقرينة.

وقد أطالوا الكلام في بيان ذلك واختلفت آراؤهم في وجه حمل المطلق على المقيد؛ فمنهم من جعل إبتناء التقديم وعدمه على كيفية المقيد؛ فإنْ كان ظاهراً في الإرشاد إلى الجزئية والشرطية والمانعية فإنَّه يقدم, وإنْ كان ظاهراً في المولوية فلا يقدم. وهذا الوجه خروج عن محلِّ الكلام, إذ أنَّ الكلام في حمل المطلق على المقيد ما إذا كان المقيد وارداً على النحو الثاني, وأمّا النحو الأول فلا ريب في تقديم الشرط والجزء, وليس الكلام في المقام في التقديم وعدمه.

ص: 286

ومنهم من جعل الملاك هو تقديم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة من دون ملاحظة أيّهما الأقوى, ولذا يقدم ظهور (يرمي) في رمي النبل على ظهور (الأسد) في الحيوان المفترس في قول القائل: (رأيت أسداً يرمي)؛ من أنَّ ظهور يرمي إنصرافي وظهور أسد وضعي, وهو أقوى من الإنصرافي.

ومنهم من جعل الملاك في تقديم المقيد ليس عنوان القرينية بل الحكومة إذا كان أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر, كأن يكون دليل المقيد يتكفل أمراً إرشادياً, لأنَّه ناظر إلى المطلق ومبين له فيكون حاكماً عليه.

ومنهم من جعل الملاك هو الجمع بين الدليلين, لأنَّ الأمر يدور بين ظهور الصيغة في الوجوب التعييني وظهور المطلق في الإطلاق, وهو يتنافى مع تعيين وجوب المقيد بل يتلائم مع التخيير بينه وبين غيره. ومع إنَّ ظهور الصيغة في الوجوب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق فيقدم عليه.

ومنهم من جعل المناط غير ذلك بعد التشكيك في قاعدة تقديم أقوى الظهورين في الدليلين.

وجميع هذه الوجوه وغيرها قابلة للمناقشة, وسيأتي تفصيل الكلام في بحث التعارض إنْ شاء الله تعالى.

ولكن الذي لا بُدَّ أنْ يقال في المقام: إنَّ حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة -أي الحالة الثانية- من تلك الحالتين المزبورتين يبتني على مصادرة بعض القواعد, ولأجلها يمكن توجيهها بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أنْ يقال إنَّ حجية الظهور على نحو الكبرى مشروطة بعدم معارضة ظهور أقوى والإدّعاء بأنَّ ظهور الثاني أقوى من الأول, لأنَّ ظهور المتكلم في إرادة ما يقول أشدّ وآكد من ظهور عدم إرادة ما لا يقوله.

ص: 287

وعلى هذا الوجه فلا يكون الإطلاق حجة في معارضته مع القيد.

الوجه الثاني: الإدّعاء بتقييد حجية الظهور كبروياً بعدم القرينة على الخلاف, ويكون المقصود من القرينة ما يجعله العرف والعقلاء بحسب الموازين النوعية تفسيراً للمرام من الخطاب الآخر ولو كان منفصلاً عنه ويدعي بأنَّ موازينالقرينة هو الأظهرية المحفوظة في جانب ظهور المقيد بالنسبة للمطلق فتكون النتيجة مثل السابق وإنْ افترق في الصيغة.

الوجه الثالث: الإبتعاد عن الأظهرية مع الإحتفاظ على القول بأنَّ حجية الظهور منوطة بعدم القرينة على الخلاف, ولكن نقول: إنَّ المقيد باعتباره أخصّ موضوعاً يعدُّ قرينةً عرفاً, ولا يخفى إختلاف صياغة هذا الوجه عن سابقيه, وعليه؛ نلتزم بالتقييد حتى إذا لم يكن المقيد أظهر أو كان بحاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة وإثبات الإطلاق فيه من جهة أخرى, كما إذا كان المقيد أمراً وقلنا بأنَّ دلالته على الوجوب إنَّما هو بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وهذا الوجه الأخير هو مختار المحقق النائيني قدس سره , ولكن مختار المحقق الخراساني قدس سره أحد الوجهين السابقين على ما ستعرف إنْ شاء الله تعالى.

خاتمة

لا ريب في وقوع الإطلاق والتقييد في كلمات المعصومين علیهم السلام , وإنَّما الكلام في كيفية وقوعهما؛ وفيه صور؛ فإنَّه إمّا أنْ يقع التقييد في نفس كلام الإمام علیه السلام في مجلس واحد, وإمّا أنْ يقع في مجالس متعددة من نفس الإمام, وإمّا أنْ يقع من إمام لاحق؛ فإنَّه قد يقال بأنَّه يستلزم تأخير البيان والوجه في تقديمه المطلقات, فنقول: إنَّه بناءً على ماهو المعروف بين علماء هذه الطائفة الحقَّة من أنَّ المقيدات وارده على لسان النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة علیهم السلام ؛ إنَّما ينقلونها عنه صلی الله علیه و آله و سلم , وعليه؛ فلا إشكال في حمل المطلقات على المقيدات, ولا يكون ورود المقيد متأخراً عن وقت البيان لصدوره من الأول.

ص: 288

نعم؛ الإطّلاع على المقيد قد يكون متأخراً عن وقت الحاجة, وهو لا يضر في تقديمه على الإطلاق وتقديمه به بعد صدوره من السابق؛ إذ لا يلزم بيانه لخصوص السائل, لأنَّه ليس المقام مقام العمل بل هو مقام معرفة الحكم وبيانه, والمفروض تحققه بقيده.

نعم؛ إذا كان المكلف في مقام العمل فإنَّه لا يصحُّ التمسك بالإطلاق ما لم يتفحص ويسأل عن كلِّ من يحتمل صدور القيد إليه, فلا يتصور في حقه تأخير البيان.

وأمّا بناءً على إنَّ الأئمة علیهم السلام يحقُّ لهم بيان القيد بعنوان الإستنباط من الكتاب والسنة والإطّلاع على حكم الله تعالى وإنْ كانوا يختلفون عن سائر المجتهدين باعتبار أنَّ إستنباطهم يطابق الواقع ولا يحتمل في حقهم الخطأ؛ فإنَّه حينئذٍ قد يقع التصادم بين المطلق باعتبار كونه هو الحكم الإلهي وحكم المقيد الذي يدلُّ الدليل عليه أيضاً, فيقع التعارض والتصادم بينهما.

ولا يمكن رفع التعارض إلابالإلتزام بأنَّ المطلق لم يرد لبيان المراد الواقعي للمولى ولم يكن قصده هو الكشف عن الواقع لمصالح شتّى, ومِمّا يهوِّن الخطبإنَّ علماؤنا (قُدِّست أسرارهم) لم يتطرق عندهم الشكّ في كيفية تقييد المطلقات الواردة على لسانهم علیهم السلام ؛ باعتبار أنَّهم بمنزلة إمام واحد, ولم يشكلوا في أنَّه يلزم منه تأخير البيان؛ إذ أنَّ عادتهم علیهم السلام جارية على بيان الحكم الواقعي في مجالس متعددة وفي فقرات مختلفة, فلم يتوقف أحد في الجمع بين المطلقات والمقيدات من دون تأمل هذا في عصر الحضور, وأمّا في عصر الغيبة فقد عرفت سابقاً من أنَّه لا تقييد لمطلقات الكتاب والسنة لانقطاع طرائق الوصول إلى صاحب الأمر عج الله تعالی فرجه الشریف وينحصر التقييد بالإجماع ودليل العقل.

ص: 289

ص: 290

الفصل السادس: المجمل والمبين

اشارة

الفصل السادس(1)

والبحث فيهما من نقاط:

النقطة الأولى: إنَّهما بحسب المفهوم من المفاهيم المعروفة في المحاورات وليس للعلماء فيهما إصطلاح خاص, فالمجمل ما لم يتَّضح المراد منه, والمبين خلافه, ولا خلاف في ذلك عند الجميع حتى عند الأصوليين.

النقطة الثانية: إنَّهما واقعان في الكتاب والسنة وكلمات الفصحاء إذا تعلق بكلِّ واحدٍ منهما غرض صحيح لمصالح شتّى, ولا ريب إنَّه ليس وظيفة الأصولي هي البحث في المصاديق, وإنَّ اللفظ الفلاني مجمل أو مبين, فإنَّه يرجع فيها إلى الأذواق السليمة والأذهان المستقيمة ولو بالرجوع إلى اللغة في ذلك, وتتَّصف المفردات بهما كما تتَّصف الجمل والمركبات بهما أيضاً. والظاهر إنَّه من الأمور الإضافية؛ فربَّ مجمل عند بعض هو مبين عند البعض الآخر وبالعكس, ولكن؛ إنْ ثبت بالدليل وقوع الإجمال فلا وجه للمناقشة فيه إذا كان موافقاً للذوق المستقيم.

النقطة الثالثة: إنَّ للإجمال مناشئ كثيرة؛ كتشابه اللفظ واختلاف نقل اللفظ واختلاف القراءة وغير ذلك. ولكن المجمل إمّا أنْ يكون بالذات؛ أي ما لم يكن له معنىً ظاهر في نفسه بالنسبة إلينا, وإمّا أنْ يكون مجملاً بالعرض؛ وهو ما كان له معنىً ظاهر في نفسه لغةً وعرفاً, ولكنه ثبت عدم إرادته؛ فيتعذر العمل بظاهره فيكون المراد مجملاً.

النقطة الرابعة: في حكمه إنْ كان مِمّا يتعلق بالأحكام؛ فلا بُدَّ من التفحص التام ليزول به الإجمال والإبهام, ومع عدم الزوال فإنَّه يرجع إلى أدلة أخرى, ومع عدمها فإلى الأصول العملية وهي مختلفة باختلاف الموارد.

ص: 291


1- . من مباحث الألفاظ.

وبعد معرفة تلك النقاط يكون المهم هو البحث في موازين رفع الإجمال في الدليل المجمل بالدليل المبين, وهو يقع في مقامين:

المقام الأول: في المجمل بالذات

لا إشكال في إنَّه إذا كان مجملاً وفي قباله مبين بالذات يرفع إجماله فإنَّه يجب العمل بالدليل المبين الذي يهدم إجمال الدليل الآخر ويرفعه, بل إعتباره من المجمل حينئذٍ مسامحة واضحة, فإنَّه بحسب الحقيقة لا إجمال, وإنَّ المجمل الذي يبحث عنه في علم الأصول ما استقرَّ إجماله دون ما لم يستقر, والحاصل من النظر الأول بالرجوع إلى الأدلَّة المبينة, ولا فرق في ذلك بين أنْ يكون إجمال المجمل نشأ من كونه مفاد الجامع بين أمرين من دون تعيين الخصوصية, والدليل المبين يعين تلك الخصوصية, كما إذا دلَّ دليل على إنَّ صلاة الليل مطلوبة, ودلَّدليل آخر على كونها مستحبة؛ فلا ريب في ارتفاع المجمل بالمبين, وبينما إذا ورد دليل يشتمل على لفظ مشترك مردد بين أمرين, وورد دليل آخر يكون مبيناً يرفع إجمال الدليل الأول ويعين أحد المعنيين, كما إذا ورد: (الكرُّ ستمائة رطل) وهو مردد بين العراقي والمكي الذي هو ضعفه, ورد: (الكرُّ ألف ومائتان رطل بالعراقي), وفي كلا الموردين يرفع إجمال الأول بالثاني؛ فلم يستقر إجمال المجمل لأنَّه كان قبل البحث عن الدليل المبين وهذا لا كلام فيه, وإنَّما الكلام فيما إذا كان المجمل مردداً بين أمرين وخصوصيتين يكون أحدهما هو المطلوب, وحصل التردد عندنا كما في مثال الكرّ, وإنَّ الدليل الآخر مبيناً؛ فلا يمكن رفع التردد والإجمال.

وأما إذا كان الدليل الآخر مجملاً بالذات, فكان كِلا الدليلين مجملين بالذات.

وأمّا النوع الأول فإنْ لم يحتمل صدوره تقية, كما إذا صدر في عصر النبي صلی الله علیه و آله و سلم فتكون أصالة الجد قطعية, فإنَّه يحمل المجمل على المبين فيكون المراد من (ستمائة رطل) هو المكي

ص: 292

منه؛ لأنَّ احتمال العراقي منه ينفيه الدليل المبين بعد تمامية جهة الصدور فيه كأصل صدوره. وأمّا إذا احتمل صدوره تقية بحيث يحتاج إلى نفيها بالأصل العقلائي وهو أصالة الجد فقد يقال بأنَّ أصالة الجد أريد بها تعيين المدلول الإستعمالي؛ ومنه؛ إنَّه في المقام مردد بين معنيين يقطع بعدم جدية أحدهما وإنْ أريد بها إثبات ما يحتمل جديته.

ولكن يرد عليه أنه لا محرز لكونه مفاد الكلام. وإنْ اريد من أجزائها في الجامع لإثبات جديته.

وفيه: إنَّ الجامع ليس مدلولاً وإنْ أريد بها أجزائها في الواقع بأنْ نشير بهذا العنوان الإجمالي إلى الواقع ما هو مفاد الدليل في علم الله تعالى, ونقول إنَّه الجد والعنوان الإجمالي مجرد إشارة لا إنَّه المفاد.

وفيه: إنَّ المشار إليه مردد بين ما هو مقطوع البطلان وعدم الجدية على تقدير وغير محرز الوجود على تقدير آخر فيكون من الأصل في الفرد المردد.

ويرد عليه: إنَّ جميع تلك الإحتمالات مبنية على كون الجدية صفة مضافة إلى الكلام.

ولكن الحقَّ إنَّ الجدية وعدم التقية صفة تابعة لظهور حال المتكلم في أنَّه لم يتكلم خلاف الواقع وإنَّه تقية, ويمكن أنْ يتَّصف به الكلام أيضاً, فلا إشكال حينئذٍ؛ فإنَّ أصالة الجد تقتضي كون المدلول للكلام هو مراد المتكلم وإنَّه ليس بهازل وإنَّه لا يذكر خلاف الواقع, فلا بُدَّ من حمل الكلام على ظاهره, فالدليل المبين يبين عدم جدية جعل الكر ستمائة رطل عراقي, فيحرز أنَّ مفاد المجمل هو ستمائة رطل بالمكي.

وأمّا النوع الثاني؛ ما إذا كان كلُّ واحد من الدليلين مجملاً بالذات, ولا إشكال إنَّه في كلِّ واحد منهما محتملات؛ فإذا أمكن انسجامهما في بعض المحتملات ورد بعضها إلى بعض بنحو يصلح رفع إجماله وإبهامه بما يرتضيه الذوق المستقيم كما في مثال الكرّ المزبور, حيث

ص: 293

ورد تحديده بستمائة رطل تارةً وبألف ومائتي رطل أخرى؛ فإذا قلنا بأنَّ المراد من الأول هو المكي, ومن الثاني هو العراقي يرتفع الإجمال ويتحقق التطابق بينهما.

وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا طريق لرفع الإجمال حينئذٍ ولا بُدَّ من الرجوع إلى الأدلَّة الأخرى أو الأصول العملية.

ومن جميع ذلك يظهر إنَّه لا ينحصر رفع الإجمال في طريق معين كما ذكر بل يرجع إلى ما تقبله الأذهان المستقيمة والأذواق السليمة وإنْ كان عن طريق الرجوع إلى اللغة والإعتماد على الأصول المحاورية التي يعتمد عليها العقلاء في محاوراتهم كأصالة الجد, أو الرجوع إلى القواعد في رفع التعارض بين الدليلين والجمع بينهما وترتيب الأثر على كلِّ واحد منهما حتى لو كانا مجملين.

هذا ما يتعلق بالمجمل بالذات.

المقام الثاني: في المجمل بالعرض

اشارة

عرفت سابقاً ما إذا كان الدليل ظاهر في معناه في نفسه وإنْ تعّذر العمل به لوجود دليل آخر يدلُّ على خلافه, وللأصوليين في رفع الإجمال حينئذٍ طرقٌ وجميعها تشترك فيما ذكرناه من الملاك, وهو ما يقبله الذوق السليم والذهن المستقيم باعتبارات عقلائية:

1- تعيين مفاد الدليل بالظهور الأولي, كما في موارد التخصيص والتقييد حيث يرجع إلى العام والمطلق في تمام الباقي على تفصيل تقدم في مباحث العام والمطلق.

2- تعيين مفاد الدليل بالظهور الثانوي إذا كان للدليل هذا الظهور, كما إذا قلنا بأنَّ للأثر ظهور ثانوي في الندب بعد تعذر الظهور الأولي, وهو الوجوب إذا ورد دليل يدلُّ على نفي الوجوب.

3- تعيين مفاده بظهور الدليل الهادم فيما إذا كان مبيناً وشارحاً للمراد من الدليل الأول في الوقت الذي يكون هادماً لظهوره فيكون حاكماً عليه.

ص: 294

4- تعيين مفاده بالدليل الهادم إذا كان قرينة يبين مراد الدليل الأول من ناحية ويهدم ظهوره من ناحية أخرى, وقد عرفت أنَّ تقديم القرينة على ذيها إنَّما يكون بقرار نوعي عقلائي أو عرفي, وهذا النوع ظاهر في المخصصات والمقيدات بناءً على رأي من يقول بأنَّ تقديمها على العام والمطلق من باب القرينية.

5- أنْ يكون رفع الإجمال في الدليل الأول بالدلالة الإلتزامية للدليل الهادم بعد تمامية الجهات المصححة للدليل الأول من الصدور وجهته, ففي المثال المتقدم إنَّ لازم الدليل الهادم بوجوب صلاة الليل هو الندب إذا كان غير الوجوب منحصراً فيه, وإلا ثبت الجامع غير الوجوب فيثبت الأثر المشترك.

6- كلُّ ما يكون من القرينة العرفية التي يقبلها الذوق العام في رفع الإجمال والجمع بين الدليلين.

هذا ما أردنا إثباته في المجمل والمبين, وللفقهاء طرق مختلفة في رفع الإبهام والإجمال يظهر للمتتبع ربما يختلف مع ما ذكره الأصوليون, لكن جميعها تندرج في الأمور العرفية العقلائية التي يقبلها الذوق السليم كما عرفت.

تنبيه في محل بحث التعارض

إنَّ السيد الوالد قدس سره جعل بحث التعارض من مباحث الألفاظ, باعتبار إنَّ التعارض إنَّما يحصل من ناحية الدلالة في كلِّ واحد من الدليلين, وهي من شؤون الألفاظ وله وجه وجيه. وأمّا الأصوليون فقد ذكروه في آخر المباحث الأصولية لتشعب الكلام وتعدد الجهات المبحوثة فيه, ومن أجل ذلك نذكره في موضع آخر إنْ شاء الله تعالى.

هذا كلُّه في المقصد الأول الذي عقد كتابه قدس سره على مقاصد وهو مباحث الألفاظ, ويقع الكلام في المقصد الثاني.

ص: 295

ص: 296

المقصد الثاني الملازمات العقلية

ص: 297

ص: 298

المقصد الثاني: الملازمات العقلية

وهي على قسمين؛ المستقلة وغير المستقلة, وذكر تمهيداً قبل الدخول في مباحثهما بيَّن فيه أهمية العقل وجلالة قدره وكونه من أعلى الكمالات الإمكانية وأغلى الجواهر الروحانية, وعليه يدور نظام المعاش والمعاد على ما اتفق عليه جميع الشرايع الإلهية وبيان ما ذكره يكون في ضمن نقاط:

النقطة الأولى: العَقْل –بفتح العين وسكون القاف-؛ معناه معروف وحقيقته غامضة, وله إطلاقات:

الأول: العقل هو إدراك شيء كلي أو جزئي مجرد عن اللواحق الخارجية وبهذا. المعنى يكون العقل بمعنى التعقل. والشيء المدرك المعقول إنْ كان من المجردات؛ كلية كانت أو جزئية فلا إحتياج إلى الإنتزاع والتجريد, وإنْ كان من الماديات فإنْ كانت من الكليات فهي معقولة لكنها تحتاج إلى التجريد والإنتزاع عن العوارض الخارجية التي تمنع من التعقل, وإنْ كانت من الجزئيات فهي لا تتعقل, وحينئذٍ إنْ كانت صوراً فتدرك بالحواس وإنْ كانت معاني فبالوهم التابع للحس الظاهر.

الثاني: مطلق المدرك؛ نفساً كان أو عقلاً أو غيرهما.

الثالث: الموجود الممكن الذي لم يكن جسماً ولا جسمانياً, أي الجوهر المجرد في ذاته وفعله غير متعلق بالجسم تعلق التدبير والتصرف, وإنْ كان متعلقاً بالجسم على سبيل التأثير, ويراد من التعبير بأنَّه مجرد من ذاته وفعله إنَّه ليس بمادي ولا يحتاج إلى المادة في فعله, والفعل بهذا المعنى أثبته الحكماء وإنْ أنكره المتكلمون لأنَّهم لم يذعنوا بالمجرد بهذا المعنى لعدم ثبوته بدليل ولكن الغزالي الذي يعد من أكابر المتكلمين والراغب الإصفهاني قالا في النفس إنَّه الجوهر المجرد.

ص: 299

وكيف كان ولأجل اختلاف الحكماء والمتكلمين في ذلك إختلفوا في التعبير عنه؛ فقال المتكلمون إنَّه ملك.

الرابع: هو قوة في الإنسان يدرك بها حسن الأشياء وقبحها.

و هناك إطلاقات أخرى له ولكنها ترجع إلى المراتب لا أنْ تكون بياناً لحقيقته.

النقطة الثانية: قال الحكماء إنَّ للعقول سبعة أحكام:

الأول: إنَّها ليست حادثة, لأنَّ الحدوث يستدعي مادة.

الثاني: إنَّها ليست كائنة ولا فاسدة, لأنَّهما من لوازم المركب المشتمل على جهتي قبول وفعل.

الثالث: نوع كلُّ عقل منحصر في شخصه لا تشخيصه بماهيته, وإلا كان من المادة؛ وهذا خلف.

الرابع: ذاتها جامعة لكمالاتها, أي يمكن أنْ يحصل لها, فهو حاصل بالفعل دائماً وما ليس حاصلاً لها فهو غير ممكن.الخامس: إنَّها عاقلة لذواتها.

السادس: إنَّها تعقل الكليات, وكذا كلُّ مجرد فإنَّه يعقل الكليات.

السابع: إنَّها لا تعقل الجزئيات من حيث هي جزئية, لأنَّ تعقل الجزئيات يحتاج إلى آلات جسمانية.

وهذه الأحكام ليست كلها قابلة للجزم, إذ بعضها قابلة للنقاش, ولذا وقعوا في الخلط والخبط, وأمّا المتكلمون فقد زادوا عليها:

1- العقل مدار التكليف.

2- إنَّه مدار الجزاء وإنَّ الثواب والعقاب على قدر العقل.

3- إنَّه الحجة فيما بين العباد وبين الله عَزَّ وَجَلَّ.

ص: 300

النقطة الثالثة: ورد في الحديث المعتبر إنَّ أول ما خلق الله تعالى هو العقل وقد إختلف العلماء في تفسيره, وعلى ما ذكرناه آنفاً يعرف المراد منه, وبإزاء هذا الحديث وردت أخبار أخرى تبين أول ما خلق الله, منها: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله الْقَلَم)(1).

ومنها: (أوَّلُ ما خَلَقَ الله نُورِي)(2).

ومنها ما عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم أَوَّلُ شَيْ ءٍ خَلَقَ الله تَعَالَى مَا هُوَ؟ فَقَالَ صلی الله علیه و آله و سلم : (نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ؛ خَلَقَهُ الله ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ كُلَّ خَيْرٍ )(3).

وقد تصدى جمع كثير من العلماء للجمع بين تلك الأخبار؛ فقيل: إنَّ المعلول الأول من حيث إنَّه مجرد يعقل ذاته ومبدأه يُسمى عقلاً.

ومن حيث أنَّه واسطة في صدور سائر الموجودات ونقوش العلوم يسمى قلماً.

ومن حيث أنَّه واسطة في إفاضة أنوار النبوة كان نور سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم .

وجعل بعضهم إنَّ العقل هو النور المحمدي صلی الله علیه و آله و سلم ؛ باعتباره الإنسان الكامل, وهو محلُّ تشكيل العلم الإلهي في الوجود, لأنَّه العلم الأعلى ثم منه ينزل العلم إلى اللوح المحفوظ.

وكيف كان؛ فإنَّ العقل من الأسرار الإلهية, وقد تباهى خالقه تعالى به, وأودع فيه جميع الكمالات؛ راجع كتاب الكافي؛ باب فضل العقل وذمّ الجهل, وفيه مباحث.

النقطة الرابعة: ذكر الحكماء عقولاً عشرة وقالوا في تفسير ذلك: إنَّ الصادر الأول من البارئ تعالى هو العقل الكلي؛ وله ثلاث إعتبارات؛ وجود في نفسه, ووجوبه بالغير, وإمكانه لذاته؛ فباعتبار وجوده يصدر عنه عقل ثانٍ وباعتبار وجوبه بالغير يصدر نفس

ص: 301


1- . بحار الأنوار (ط. بيروت)؛ ج54 ص313.
2- . المصدر السابق؛ ج1 ص97.
3- . المصدر السابق؛ ج15 ص24.

وباعتبار امكانه يصدر جسم وهو فلك الأفلاك, وقدذكروا في وجه ذلك إنَّه إستناد للأشرف إلى الجهة الأشرف, والأخسّ إلى الأخسّ, وكذا يصدر من العقل الثاني عقل ثالث ونفس ثانية وفلك ثاني, وهكذا إلى العقل العاشر الذي هو مرتبة التاسع من الأفلاك؛ أعني بذلك القمر, ويسمى هذا العقل بالعقل الفعّال.

وهذا التقسيم ردَّهُ جمع كبير من العلماء لأنَّه لم يرد فيه دليل خاص, وإنَّما هو مبني على أساس غير متين؛ وهي قاعدة السنخية بين الخالق والمخلوق, فأثبتوا تلك العقول العشرة على هذا الأساس, وهي قاعدة لو تمت فإنَّها تامة في العلة الموجبة لا الفاعل بالإرادة, كما إنَّه يقوم على الصادر منه عَزَّ وَجَلَّ على نحو الترشيح والتمكن والتطور, وإنَّه من مراتب وجوده, وهو ينافي تلك الأدلَّة الدالَّة على أنَّه سبحانه أبدع الأشياء وأوجد العالم من العدم, وإنَّ الخلق إبداع وإيجاد بالبداهة.

النقطة الخامسة: مراتب العقول متعددة وهي:

1- العقل الهيولائي؛ وهذه المرتبة خالية من الصور كلها.

2- العقل بالملكة؛ وهذه المرتبة باعتبار الإستعداد.

3- العقل بالفعل؛ وهذه المرتبة ما كانت لها المعقولات النظرية.

4- العقل المكتسب؛ ويسمى بالعقل المطلق أيضاً.

5- العقل المستفاد؛ وباعتبار وهذه المرتبة كانت النفوس أيضاً.

النقطة السادسة: يعتبر العقلاء وجميع الأديان الإلهية إنَّ العقل حجة بين العباد ويعتبرون إتّباعه من الأمور الحسنة المرغوبة.

ص: 302

وقد أخبر عَزَّ وَجَلَّ في القرآن الكريم أنَّه أوجد العالم وسخَّر ما فيه من أجل العقلاء, قال سبحانه وتعالى: (كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(1), وجعل الرجس على الذين لا يدركون الأمور بعقولهم ولا يتبعون العقل ولا يهتدون به, فقال تعالى: (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)(2).

وقد ورد في الأحاديث المروية عن المعصومين علیهم السلام ما يدلُّ على العقل, وإنَّ العنصر المهم في حياة الإنسان المادية والمعنوية والمستفاد منها أمور:

1- إنَّه مدار التكليف؛ فمَّن لا عقل له لا تكليف عليه, قال أمير المؤمنين علیه السلام : (..... أَنَّ الْقَلَمَ يُرْفَعُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ ..... وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ .....)(3).

2- إنَّ العقل هو الحجة بين العباد. قال الإمام الصادق علیه السلام : (... وَالْحُجَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَبَيْنَ اللَّهِ الْعَقْلُ)(4).

3- بسبب العقل يعرف الله عَزَّ وَجَلَّ.

4- إنَّه كمال وسبب لكسب الكمالات كلّها كالعلم والحلم وغيرها, قال الإمام الصادق علیه السلام : (والتَّعَلُّمُ بِالْعَقْلِ ..... ومَعْرِفَةُ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ)(5).

5- إنَّ الجزاء يكون على قدر العقل, قال أبو جعفر الباقر علیه السلام : (إِنَّمَا يُدَاقُّ اللَّهُ الْعِبَادَ فِي الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ فِي الدُّنْيَا)(6).

ص: 303


1- . سورة الروم؛ الآية 28.
2- . سورة يونس؛ الآية 100.
3- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص45.
4- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص25.
5- . المصدر السابق؛ ص17.
6- . المصدر السابق؛ ص11.

6- إنَّ لله حجتان؛ العقل والشرع. وإنَّ العقل شرع داخلي, والشرع عقل خارجي.

7- إنَّ العقل إمام الحواس الباطنية والظاهرة في الإنسان, فإنْ إتَّبعت العقل تهتدي إلى الخير وإلا ضلَّت.

8- إنَّ العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها وغير ذلك مِمّا يستفيدها المراجع إلى تلك الأخبار التي رواها ثقة الإسلام الكليني قدس سره في الكافي وغيره؛ فراجع.

النقطة السابعة: إذا كان العقل هو الحجة بين العباد وبين الله عَزَّ وَجَلَّ ولا إشكال في أنَّ كلَّ فرد من أفراد الإنسان له عقل مستقل يكون حجة لنفسه؛ فهل ترتبط حجيته بعقول الأفراد الآخرين؟ فإذا رفض العقلاء أمراً ارتضاه فرد من أفرادهم بحسب عقله فهل له العمل به مع قطع النظر عن الآخرين؟.

لا بُدَّ أنْ يعرف أنَّ كون العقل حجة يختلف من حيث المتعلق؛ فإذا كان متعلقه التكليف فلا بُدَّ من ملاحظة عقل كلّ فرد من أفراد الإنسان؛ فإذا كان مجنوناً فلا تكليف عليه, وكذلك إنْ كان متعلقه الجزاء فإنَّه يكون على عقل الفرد, فكلُّ من كان عقله تام كان جزاؤه أتم وأكمل.

وأمّا إنْ كان متعلقه الحجية والتمييز بين الحق والباطل فإنَّه لا إشكال في كونه حجة على الفرد فلو كان شخصاً يعيش في الصحراء ولم يبلغه الشرع فإنَّه يكون حجة عليه, فلو أعرض عن أحكامه يكون مؤاخذاً وإذا اعتذر بأنَّه لم يعرف أحكام عقول الآخرين لا يقبل عذره.

وهذا هو معنى العقل حجة على العباد فيما بينهم وبين الله تعالى.

وقد أودع الله عَزَّ وَجَلَّ فيه جميع سبل الهداية لئلا يضلّ من يتبعه.

كما إنَّه لا يقبل اعتذار شخص بأنَّه اتَّبع سائر الأفراد في إتّباع الهوى وارتكاب الفحشاء والمنكر.

ص: 304

وأمّا إذا كان متعلقه حسن الأشياء وقبحها فلا ريب أنَّ العقل النوعي هو الذي يدرك حسنها وقبحها, ولا يتبع فيه إدّعاء شخص أو قوم في حسن شيء أو قبحه وإلا استلزم الهرج والمرج كما هو معلوم.

ثم إنَّ السيد الوالد قدس سره ذكر أنَّ ما يتعلق بمباحث العقل كثير جداً؛ قد أشرنا إلى بعضها فيما سبق, ولكن الذي يهم العلماء في الفقه والأصول هو مباحث أربعة:

المبحث الأول: ما أشرنا إليه آنفاً من أنَّ العقل مناط التكليف؛ فلا تكليف بدونه, ويدلُّ عليه الأدلَّة الأربعة, ويكفينا قول أمير المؤمنين علیه السلام : (..... أَنَّ الْقَلَمَ يُرْفَعُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ ..... وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ .....)(1).

كما إنَّ على العقل يدور الثواب والعقاب؛ وقد ذكرنا قول الإمام الباقر علیه السلام : (إِنَّمَا يُدَاقُّ اللَّهُ الْعِبَادَ فِي الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ فِي الدُّنْيَا)(2).

وقد فصَّلوا الكلام في كلِّ واحد من هذين الأمرين في الفقه والحكمة والكلام وفي كتب الأحاديث كالكافي وغيره عند استعراض أخبار العقل والجهل؛ فراجع.

مباحث المستقلات العقلية

المبحث الثاني: الملازمة بين حكم العقل المستقل وحكم الشرع الذي يعرف ب-(قاعدة الملازمة)؛ التي هي من القواعد الهامة, وقد تعرضوا لها في الكلام والحكمة والأصول؛ وهي تعني: إنَّ كلَّ ما حكم به العقل يحكم به الشرع.

وهي من القواعد القديمة جداً, فقد كانت معتقد بعض أعاظم حكماء اليونان, وتظهر من كلمات بعض أهل العرفان؛ حيث أنَّهم يقولون باتّحاد العقل والشرع.

ص: 305


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص45.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص11.

وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين علیه السلام : (الْعَقْلُ شَرْعٌ مِنْ دَاخِلٍ، وَالشَّرْعُ عَقْلٌ مِنْ خَارِجٍ)(1).

وفي حديث الإمام موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام لهشام بن الحكم: (يَا هِشَامُ إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ؛ حُجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً. فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والْأَنْبِيَاءُ والْأَئِمَّةُ علیهم السلام , وأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ)(2).

وهذا صحيح في الجملة؛ وسيأتي تفصيل الكلام في هذه القاعدة في مباحث حجية الحجج, وليس المقام مناسباً لذكرها, لأنَّ في المقام يبحث عن صغريات الحجج وفي ذلك الموضع يبحث عن كبرى الحجية, وإنَّ قاعدة الملازمة تكون من كبراها, إلا أنَّ الذي ينبغي أنْ يقال هنا: إنَّ قاعدة الملازمة هي من القواعد التي تعتمد على التحسين والتقبيح العقليين, فمن ينكر ذلك لا يسعه القول بالملازمةأبداً, فإنَّه ينكر حكم العقل أصلاً, فلا حسن إلا ما حسَّنه الشارع كما لا قبح إلا ما قبَّحه الشارع, فلا تصل النوبة إلى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

ثم إنَّ القائلين بالتحسين والتقبيح إختلفوا في ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وعدمه, وهذه القاعدة على فرض ثبوتها لها شقّان:

الأول: ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع؛ فكلَّما حكم به العقل حكم به الشرع, بحيث إذا أدرك العقل حسن فعل بحيث يمدح فاعله هل يلازمه حكم الشرع بأنَّه مطلوب وجوباً أو ندباً, أي كلَّما ثبت الأول كشف عن الثاني, كما إنَّه لو أدرك قبح فعل يكشف عن حرمته شرعاً.

ص: 306


1- . مجمع البحرين؛ ج5 ص425.
2- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج1 ص16.

فقال جمع من العلماء بالملازمة, وإنَّه بعد اتّحاد العقل والشرع كما عرفت لا يعقل تخالفهما في الحكم.

وذهب آخرون إلى عدمها, لأنَّ وجود الحسن والقبيح في الفعل لا يستلزم جعل الحكم من الشرع, لأنَّ الملاكات مقتضيات وليست هي علل تامة, إذ ربَّما يكون الملاك مقارناً لفقد شرط من شروط جعل التكليف أو وجود مانع لمنعه, والعقل يدرك الملاك دون غيره والشارع لا يحكم لعلمه بوجود الموانع وقد ذكروا لذلك شواهد متعددة؛ يأتي تفصيل الكلام في ذلك إنْ شاء الله تعالى.

الثاني: ثبوت الملازمة في عكس ذلك, بمعنى كلما حكم به الشرع يحكم به العقل. والظاهر من كلمات الأصحاب إنَّها تامة لا جدال فيها, فإنَّ الشارع أعقل العقلاء ورئيسهم؛ بل هو العقل كله وخالقه, فإذا حكم الشارع بوجوب فعل لاشتماله على المصلحة الملزمة أو حكم بحرمته لاشتماله على المفسدة الملزمة أو أدرك العقل ذلك الملاك لا بُدَّ أنْ يحكم بحسن الأول وقبح الثاني؛ وهو ظاهر, ويأتي التفصيل إنْ شاء الله تعالى.

وهنا بحث آخر وهو: إنَّه بناءً على الملازمة فهل إنَّ العقل يحكم في كلِّ فرع فقهي؛ سواء كان من العباديات أو المعاملات, أو إنَّ حكمه يقتصر على الكليات, وهي وجوب شكر المنعم والتحسين والتقبيح العقليين.

ذكر بعض الأصوليين إنَّ حكمه عام يشمل كلّ الفروع وجميع الأحكام الشرعية, وقد نقل سيدنا الوالد قدس سره عن أستاذه المحقق الإصفهاني قدس سره إنَّه لو ثنيت له الوسادة وطال به العمر لأقام على كلِّ فرع فقهي دليل عقلي وله به وجه بعد اتّحاد العقل والشرع, ولكن الكلام في إمكانه بعد القصور الذي طرأ على العقل نتيجة إقتصاره على الماديات واقترانه بالشبهات والتشكيكات, ولذا كان شأن الأنبياء علیهم السلام إثارة دفائن العقول.

ص: 307

المبحث الثالث: الملازمات العقلية غير المستقلة, أي حكم العقل المتوقف على شيء له خارج عن حكمه فيكون أحد طرفي الملازمة من غير العقل بخلاف الملازماتالمستقلة مثل الملازمة بين وجوب المقدمة وذيها؛ فإنَّه لولا وجوب ذي المقدمة في الخارج لما حكم العقل بهذه الملازمة.

والإجزاء؛ فإنَّه لولا وجود المأمور به في الخارج لما تحقق موضوع حكم العقل به.

وكذلك الضدّ والملازمات العقلية غير المستقلة كثيرة؛ لا سيما في الفقه الذي يبتني على الإستظهارات الصحيحة والإستنباطات الحسنة, وهما يتوقفان على الذوق السليم والذهن المستقيم, ولا ريب أنَّهما من أهم أجنحة العقل الذي يطير بهما في العلوم مطلقاً, ولا اختصاص لها بصناعة الأصول, فإنَّ في كلِّ علم وفنّ وصنعة جهات خارجية تجري فيها هذا النوع من الملازمات, وإنَّما في المقام نذكر المهم منها وهي: الإجزاء والمقدمة والضدّ؛ كما سيأتي التفصيل إنْ شاء الله تعالى.

المبحث الرابع: بناء العقلاء وسيرتهم؛ فقد إتَّفق العلماء على التمسك بها وجرت سيرتهم عليه, وهما من أهم الأمور النظامية ولكن حجيتهما تأتي من ناحية تقرير الشارع لهما ولو كان على نحو عدم الردع والسكوت, فلا حجية لهما إذا ورد الردع عنهما في الشرع المبين, وقد إستدلَّ بعض الأصوليين على حجيتهما بوجوه لا تخلو عن بعض المناقشات.

نعم؛ يقع الكلام في بعض السير العقلائية فيكون النزاع صغروياً, وذكرنا بعض ما يتعلق بهما في مقدمة الفقه فراجع.

ثم إنَّ الكلام يقع في الملازمات العقلية غير المستقلة وهي كثيرة, وعمدتها في علم الأصول أمور:

ص: 308

الأمر الأول الإجزاء

اشارة

وهو من المباحث الجليلة علماً وعملاً, كثير الفائدة في الفروع الفقهية, وقد إختلف الأصوليين في بيانه؛ فمنهم من حرَّره, كما في الكفاية؛ إنَّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا؟ حيث أسندوا الإقتضاء إلى الإتيان, ومنهم من حرَّره بأنَّ الأمر هل يقتضي الإجزاء عند إتيان المأمور به على وجهه أم لا؟ حيث أسندوا الإقتضاء إلى الأمر. ويترتب على الثاني إنَّه يكون من مباحث الألفاظ وعلى الأول يكون من الأحكام العقلية, وإنَّ العقل يحكم بالملازمة بين إمتثال المأمور به على ما قرره الاَّمر وبين سقوط الأمر, وجعل السيد الوالد قدس سره (1) هذا البحث من صغريات المسألة المعروفة المبرهن عليها في العلوم العقلية, وهي إستحالة تخلف المعلول عن العلة التامة المنحصرة من جهة حصول الغرض وسقوط الأمر, فلا حاجة إلى الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه, ولما لم يفرد الأصوليون مبحثاً خاصاً للملازمات العقلية غير المستقلة فأدرجوه في مباحث الأوامر, وأمّا الأصوليون المتأخرون فقد أدرجوه في هذا المبحث بعد إفرادهم ببحث مستقل.

كما إنَّه يترتب على اختلاف العنوانين والتحريرين إنَّه بناءً على الأول يكون الإقتضاء بمعنى العلّة في مقام الثبوت, لأنَّ الإتيان بالمأمور به علة لحصول الغرض بعدما كان علة وجود الأمر حدوثاً وبقاءً هو تحصيل الغرض, وبعد حصوله لا يبقى الأمر.

وأمّا بناءً على الثاني يكون الإقتضاء بمعنى الدلالة في مقام الإثبات, إذ لا تكون صيغة الأمر علة للإجزاء في مقام الثبوت كما هو واضح.

ص: 309


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص198.

وكيف كان؛ فإنَّه لا بُدَّ من بيان الملاك في الإجزاء. والظاهر من كلماتهم إنَّ هناك ملاكين:

الملاك الأول: ملاك العليّة؛ وهو كون الإتيان بغرض المولى علة في الخروج عن عهدة التكليف, وإنَّ العقل يحكم بذلك في مقام الإمتثال والخروج عن حقِّ المولى في باب الإطاعة والعصيان.

الملاك الثاني: إنَّ الإتيان بمتعلق أمر كافٍ في الخروج عن عهدة شخص ذلك الأمر باعتبار إنَّ التحريك بعد العمل نحو الجامع القابل للإنطباق على ما عمل تحصيل للحاصل. والتحريك نحو فردٍ آخر منه يكون أمراً جديداً؛ فلا بُدَّ من البحث عن هاتين الجهتين, وتطبيق هذين الملاكين على موارد العمل بالأوامرالتي هي على أقسام, فيقع البحث من جهات في إجزاء الأمر الإضطراري أو في إجزاء الأمر الظاهري.

وقبل بيان ذلك لا بُدَّ من تمهيد أمور:

تمهيد أمور

الأمر الأول: ليس للأصوليين إصطلاح خاص في كلمة (الإجزاء), بل المراد عندهم هو المعنى اللغوي العرفي أي الكفاية.

نعم؛ إنَّ المكفى عنه تارةً يكون إسقاط القضاء, وأخرى يكون إسقاط الإعادة, وهذا لا يوجب جعل المعنى خاص له ليكون إصطلاحاً عند الأصوليين بعد إمكان حمله عندهم على المعنى اللغوي العرفي.

الأمر الثاني: قد ذكر الأصوليون في عنوان البحث كلمة (على وجهه) واختلفوا في المراد فيه, فقيل إنَّه قصد الوجه.

وأورد عليه بأنَّه لا ملزم لاعتبار قصد الوجه في الواجبات مطلقاً مع إنَّه على فرض اعتباره لا وجه لاختصاصه بالذكر من بين القيود المعتبرة في الواجبات.

ص: 310

وقيل: إنَّه قصد القربة.

وأورد عليه بأنَّه يختَّص بالعبادات, والنزاع عام يشمل التوصليات أيضاً, مع إنَّه كسائر الشروط والقيود في الواجبات؛ فلا وجه لاختصاصه بالذكر بعد إمكان أخذه في الواجبات كما عرفت.

وقيل: كل ما يعتبر في المأمور به عقلاً أو شرعاً فيكون المراد به اتيان المأمور به على النهج الذي يلزم اتيان الواجب به عليه عقلاً أو شرعاً.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّه لا يلزم لأنْ تؤخذ هذه الكلمة في عنوان البحث إذ لم ترد في أية رواية حتى نكون ملزمين بمراعاتها؛ فلا فائدة في ذكرها ثم البحث عن معناها, فلو أبدلت هذه الكلمة بما يفي بالمقصود كان أولى كما ذكر السيد الوالد قدس سره (1) في العنوان بقوله: (كما قرره وجعله الآمر)؛ بالمعنى الاعم من التقرير والجعل حتى يشمل المجعولات الثانوية التسهيلية المتممة للجعل الأولى, وقد أبدلها بعضهم بما ذكرناه أخيراً ولا مشاحة في ذلك بعد وضوح المقصود.

الأمر الثالث: المراد بالإمتثال ما له من المعنى العريض, لا سيما في الصلاة والحج لكثرة ما ورد فيها من التسهيلات الإمتنانية, ولا ريب في أنَّ سقوط الأمر به أعم من القبول لأنَّ له موانع كثيرة, كما إنَّ له مراتب متعددة وبعض مراتبه ملازم لسقوط الأمر, وإنْ كان بعض مراتبه الأخرى ملازماً للتقوى فلا يختلط القبول بسقوط الأمر بالإمتثال.

الأمر الرابع: لا ريب إنَّ مسألة الإجزاء بما فيه من البحوث والمساجلات يكفي معرفتها والإلمام بها تميزها عن سائر المسائل الأصولية؛ كما هو الشأن في العلوم نفسها, فلا حاجة إلى إطالة الكلام في بيان الوجه في تمايزها كما ذكرنا في أول مباحث الأصول؛ وقلنا بأنَّه لا

ص: 311


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص198.

دليل على الإقتصار على ما ذكره العلماء الأوائل في وجه التمييز بين العلوم, فإنَّ المعايير مختلفة في هذا المجال فراجع.

والأصوليون لم يخرجوا عن الطريقة المألوفة عند الفلاسفة فوقعوا في نفس الإشكالات والنقض والإبرام, وأطالوا الكلام في ذلك مع إنَّهم كانوا في غنىً عن ذلك, ومن فروع ذلك النزاع القديم الجديد؛ بيان التمييز بين المباحث الأصولية التي منها هذا المبحث ومبحث المرة والتكرار, ومبحث تبعية القضاء للأداء, مع إنَّه يكفي الإلمام بكلِّ واحد من البحوث الثلاثة ومعرفة أطرافها في التمييز بينها؛ فإنَّ البحث في المرة والتكرار وتبعية القضاءوللأداء إنَّما هو في مقام بيان أصل المأمور به وتعيين حدوده وقيوده شرعاً بحسب الثبوت ومقام التشريع. وأمّا البحث في المقام في أنَّه بعد ثبوته بحدوده وقيوده شرعاً هل يكون إمتثاله موجباً لسقوط الأمر به أو لا فلا ربط له بهما.

الأمر الخامس: الأمر إمّا واقعي أو إضطراري, ويعبر عنه بالواقعي الثانوي أيضاً أو ظاهري يكون مفاد الأمارات والأصول والقواعد المعتبرة, أو إعتقادي. ومورد البحث يشمل جميع هذه الأقسام الأربعة.

إذا عرفت ذلك يكون البحث في مسألة الإجزاء من جهات:

الجهة الأولى: في سقوط كل أمر بالنسبة إلى إمتثاله؛

سواء كان الأمر واقعياً أولياً أو واقعياً ثانوياً أو ظاهرياً أو إعتقادياً, كسقوط الأمر الواقعي عند امتثاله, وكذا سقوط الأمر الظاهري عند امتثال المأمور به وهكذا بالنسبة إلى الأمر الإضطراري, والأمر الإعتقادي عند امتثال كلّ واحد من أمره.

والظاهر؛ إنَّه لا شكَّ في الإجزاء, بل إنَّ السقوط واضح لا ريب فيه, وذلك لتحقق كل ملاك لأنَّ الإمتثال مطلقاً للوظيفة المقررة فيه علّة تامة لحصول الغرض وهو يستلزم

ص: 312

سقوط الأمر قهراً وهو كافٍ في الخروج عن العهدة أيضاً, والغرض المتصور في الأوامر هو داعويتها للإمتثال, وبما إنَّ تحقق طرفي المعادلة وجدانية وهما الداعوية ومطابقة المأتي به للمأمور به؛ فلا بُدَّ من كون سقوط الأمر وجدانياً, والمحتملات في فرض عدم سقوطه؛ إمّا لأجل عدم تحقق الداعوية, أو لأجل عدم مطابقة المأتي للمأمور به, أو لأجل دخل شيء آخر في السقوط, وجميعها خلاف الفرض. أو لأجل الشك في القبول, وقد تقدم أنَّه أعمّ من الإمتثال وسقوط الأمر, فلا بُدَّ أنْ يكون امتثال كلّ أمر موجباً لسقوطه, فلا يبقى موضوع للإمتثال بداعي الأمر بعد سقوط الأمر.

وأمّا تبديل الإمتثال لأجل دواعٍ أخرى فقد ذهب جمعٌ إلى جوازه عقلاً وثبوتاً بل إثباتاً, مثل إعادة المنفرد صلاته جماعة, أو ما إذا لم يكن المأمور به علّة تامة لحصول الغرض كما إدّعاه المحقق الخراساني قدس سره (1), وذلك فيما إذا أمر المولى عبده بإتيان الماء وإهراقه في فمه لأجل رفع العطش عنده, ولكن العبد إنَّما أحضر الماء فقط لرفع العطش من دون شرابه؛ فإنَّه لا يحصل الغرض إلا بانضمام إهراقه في فم المولى. واستدلّوا عليه أولاً بالأصل, وثانياً بأنَّه قد يكون راجحاً إذا انطبق عنوان حسن عليه شرعاً, وثالثاً بأنَّه قد ورد في الحديث في الصلاة المعادة جماعة لمن كان قد صلى منفرداً معلِّلاً بأنَّ الله يختار أحبّهما إليه. ورابعاً دلالة قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)(2)؛ فإذا إنطبق عنوان المجاهدة على الإتيان ثانياً يصير راجحاً قهراً؛ ما لم يستلزم الإعادة الوسواس, ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين أقسام الأوامر الواقعية والإضطرارية والظاهرية والإعتقادية.

وذهب آخرون إلى عدم جواز تبديل الإمتثال ولا يصحّ الإتيان بالمأمور به ثانياً والموضوع مهم مذكور في الفقه أيضاً.

ص: 313


1- . كفاية الأصول؛ ص83.
2- . سورة الحجّ؛ الآية 78.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ البحث في هذا الموضوع تارةً يقع من حيث الدلالة اللفظية لتبديل الإمتثال في أنَّه هل يصدق الإمتثال على التبديل بحيث يمكن تطبيقه على فعل أمر وجعله هو الإمتثال دون الفعل الأول. وأخرى: في جواز الإتيان بفرد آخر بعد الإتيان بما انطبق عليه الإمتثال مرة أخرى, لا سيما إذا كان الفعل قربيّاً بقصد تحصيل ملاك الغرض الأقصى ليكون إمتثالاً واقعياً.

أمّا الكلام في الأولى؛ فقد يقال بعدم صدق الإمتثال على المأتي به ثانياً, لأنَّ المراد بالإمتثال كما هو كذلك إنبعاث المكلف إلى إتيان المأمور به على أمر المولى, وقد عرفت سقوط الأمر بمجرد إتيان المأمور به مطابقاً للوظيفة المقررة, فلا أمر حينئذٍ حتى ينبعث عنه ثانياً.

وقالوا: إنَّ مسألة إعادة المنفرد صلاته جماعة أو إعادة الإمام صلاته إماماً مرة أخرى فليس من قبيل تبديل الإمتثال بل من جهة تحصيل الغرض الأقصى بعد عدم تحصيله في المرة الأولى, وحينئذٍ؛ إذا علم بسقوط الأمر الأول فلا ريب في انتفاء صدق الإمتثال على الفرد المأتي به ثانياً, أمّا إذا لم يعلم بسقوط الأمر الأول لأجل عدم العلم يكون ما أتى به هو الإمتثال؛ أمكن الإتيان بفرد آخر برجاء الأمر وتحصيل غرض المولى, فيكون إمتثالاً وواجباً؛ لو حصَّل به غرض المولى, فلا بأس بالإتيان بفرد آخر يدرك الإمتثال وبرجاء الأمر, وهذا لا إشكال فيه.

أمّا الكلام في الثانية فيقع في وجوه:الوجه الأول: ما ذكرناه آنفاً من إمكان الإتيان بفرد آخر برجاء الأمر وتحصيل غرض المولى فيه بل قد يكون واجباً, لا سيما إذا لم يعلم بكونه هو الإمتثال كما عرفت من أنَّ له عرض عريض.

وهذا تام أيضاً بناءً على الإلتزام بالمقدمة الموصلة باعتبار أنَّ الوجوب المترشح عن تحصيل الغرض والناشئ منه إنَّما يثبت للفعل الموصل للغرض وغيرها لا يتَّصف بالوجوب المقدمي للغرض فيمكن الإتيان بفعل آخر إذا لم يتحقق الغرض الأقصى في الفعل الأول.

ص: 314

الوجه الثاني: إنَّه على فرض حصول العلم بتحصيل الغرض في الفعل الأول وحصول الإمتثال فيه جزماً, لكن يمكن الإتيان بفعل آخر بداعي تحصيل ما هو محبوب للمولى والوصول إلى ماهو ملاك الأمر, وقد ذكرنا آنفاً إنَّه قد يكون الفعل راجحاً إذا انطبق عنوان حسن عليه شرعاً, كعنوان المجاهدة وتحصيل الغرض الأقصى ونحو ذلك.

الوجه الثالث: إنَّ العرف يرى إنَّه إذا كان للمولى مراتب من الغرض أعلاها الغرض الأقصى ولا يحصل بمجرد الإتيان بالفعل مرة يكون المكلف مخيراً بين إبقاء الفرد الأول تحت عنوان الإمتثال أو الإعراض عنه والإتيان بفرد آخر جديد, ولا يختَّص بما إذا كان الإبقاء إختيارياً للمكلف, كما في الإتيان بإناء فيه ماء, فإنَّه يمكن إعدامه بإهراقه والإتيان بفرد آخر, أو لم يمكن ذلك كما في الصلاة, فإنَّ إعدام الصلاة بعد إتيانها ليس إختيارياً له, إذ المراد هو تحصيل الغرض الأقصى بعد أنْ كان للغرض مراتب متفاوتة, فللمكلف الإعراض من الفعل الأول وعدم الإكتفاء به والإتيان بفرد آخر بعد إمكان تصوير تحقق الغرض فيه أيضاً.

ومن جميع ذلك يظهر إنَّ ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) من عدم معقولية تبديل الإمتثال إلا إذا التزمنا بالمقدمة الموصلة, فيصحُّ الإتيان بالفرد الآخر برجاء الإمتثال وتحصيل غرضه, فإذا اختاره المولى كان هو الإمتثال دون الأول فلا يكون من تبديل الإمتثال, وأمّا إذا لم نلتزم بالمقدمة الموصلة كان الفرد الأول مسقطاً للأمر لكونه إمتثالاً, فلا مجال للإتيان بفرد آخر ثانياً لعدم الأمر حتى يكون إمتثالاً, ولكن عرفت مِمّا تقدم إنَّه بعد إثبات المراتب للغرض وتطبيق عنوان حسن على الإعادة وعدم العلم بترتب الغرض في الفرد الأول يمكن إتيان الفرد الثاني ويصح إطلاق الإمتثال عليه أيضاً.

ص: 315


1- . بدائع الأفكار؛ ج1 ص263.

والظاهر أنَّ النقاش لفظي؛ فإنَّ الإمتثال لا يصدق لو حصل العلم بالإمتثال وتحقق الغرض جزماً, بخلاف الإمتثال الذي تقدم بيانه؛ فإنَّه صادق وهو معقول.والحاصل؛ إنَّه يمكن تبديل الإمتثال عقلاً وثبوتاً, ودلالة الدليل عليه إثباتاً, كما ورد في الصلاة المعادة جماعة, وإنَّ التعليل الوارد فيه يدلُّ على إنَّ تعدد مراتب الغرض ودرجات حب المولى للأفعال التي يأتي بها العبد.

وما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّه لا دليل عليه إثباتاً بناءً على مسلكه من أنَّ هذه العبادات معِدّات بالنسبة إلى آثارها, وليست من قبيل العلّة التامة التي لا يختلف ولا يتأخر وجود المعلول عنها بل يمكن أنْ توجد. ومع ذلك قبولها وترتب الأثر عليها يحتاج إلى أشياء أخرى لا ربط لها بفعل العبد, فلو أتى بفرد آخر يمكن أنْ يتحقق فيه جميع ما يرتبط بالقبول غير سديد؛ لما عرفت من أنَّ القبول له مراتب كثيرة وإنَّه لا ربط له بسقوط الأمر وتحقق الإمتثال.

وأمّا ما ذكر بعض الأعلام من أنَّه بعد سقوط الأمر بالإتيان الأول لا بعث بعده حتى يكون الإنبعاث عنه موهون أيضاً, لما تقدم من عدم العلم بسقوط الأمر بعد أنْ كان للغرض مراتب متفاوتة, فيمكن أنْ يكون القصد درك الغرض الأقصى في الفعل الآخر, ثم إنَّه بناءً على امتناع تبديل الإمتثال بأيِّ معنىً كان عقلاً يشكل الأمر في النصوص التي ورد فيها أنَّ الله يختار أحبَّهما.

وذكروا في وجه الإشكال في أنَّ الصلاة المعادة إمّا أنْ تكون متعلقة للأمر الوجوبي أو الندبي أو لا تكون كذلك؛ فعلى الأول؛ يكون إمتثالاً آخر لأمر آخر, فلا معنى لإختيار إحداهما لأنَّ كِلاهما مأموران ووقعتا مورد الإمتثال لأمرهما, فيستحقُّ على كلِّ واحد

ص: 316


1- . نقله في منتهى الأصول (ط.جديدة)؛ ج1 ص354.

منهما الثواب, وعلى الثاني؛ لم يوجد أمر آخر يتعلق بها فيشكل الإتيان بها مع عدم الأمر بها بعد سقوط الأمر الأول فلا يجوز تبديل الإمتثال, وللتخلص من هذا الإشكال ذهب بعضهم إلى أنَّ المراد من إختيار أحبهما إليه إنَّما هو بالنسبة إلى الثواب الذي هو تفضل منه سبحانه, وقيل إنَّ التعليل الوارد في حديث الصلاة المعادة جماعة إنَّ الله يختار أحبهما إشارة إلى أنَّ للصلاة غرضاً أقصى يمكن أنْ يحصل بكِلا الفردين, فما هو الأفضل عند الله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي يكون محصلاً للغرض بإختياره فيقع إمتثالاً دون غيره.

وقيل: إنَّه إشارة إلى إختيار أحبّهما إليه عَزَّ وَجَلَّ في مقام إستحقاق الثواب باعتبار تحصيل الغرض الأقصى به, وذهب المحقق الإصفهاني قدس سره (1) إلى تعدد الأمر ووجَّه وحدة الثواب بإختيار أحبّهما بأحد وجهين:

الأول: إنَّ الثواب إنَّما يكون من توابع القرب, فإذا إجتمع مؤثران في القرب وكان تأثير أحدهما أكثر من الآخر كانا مشتركين في القدر المشترك ويضاف إليه الزائد الذي يؤثر فيه أحدهما خاصة, وهو معنى إختيار أحبهما.الثاني: إنَّ اجتماع المثلين في شيء واحد ممتنع, كاجتماع الضدَّين؛ فإذا كان هناك مؤثران في القرب لم يؤثر كلُّ واحدٍ منهما على حِدة لاستلزام إجتماع فردين من القرب, وهو من اجتماع المثلين, فلا بُدَّ أنْ يكون المؤثر أحدهما, فيمكن أنْ يكون المراد أنْ يختار الله في مقام التأثير ما هو الأكثر مؤثراً.

وما ذكره قدس سره غير تامّ؛ أمّا الوجه الأول؛ فلأنَّ العقل يحكم باستحقاق الثواب بفعل ما يوجبه, فإذا تعدد الموجب تعدد الثواب أيضاً بحكم العقل, فلا وجه للقدر المشترك كما لاوجه لاتّحاد التأثير بعد كون كلٍّ منهما قابلاً في نفسه للمؤثرية

ص: 317


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص148.

وأمّا الوجه الثاني؛ فلاختلاف المقام عن إجتماع المثلين الذي يكون في الموجودات الخارجية لا مثل القرب والبعد أو الحب والكراهة ونحو ذلك؛ فلا امتناع من إتيان ما يتقرب العبد إليه سبحانه ولو كان بفعلين مقربين يكون كلٌّ منهما موجباً للقرب ومستلزماً للثواب, مع إنَّ ما ذكره قدس سره يجري في جميع الواجبات والمستحبات وهو لا يلزم به.

والحقُّ إنَّ ظاهر النص الوارد في أنَّ الله يختار أحبهما إليه يدلُّ على أنَّ الأفعال التي يأتي بها العبد تتفاوت في درجات القرب والحب الذي له مراتب متفاوته جداً سواء كان الموجب في هذا التفاوت الإختلاف في تحصيل الغرض أو صفاء النفس أو الخلوص في النية أو الإختلاف في درجات الثواب وغير ذلك, ولا حاجة إلى تعدد الأمر بعد كون الأمر الأول كافياً في الداعوية وحصول الإنبعاث في العبد, وله الإختيار في جعل الفعل الذي يأتي به مورداً للإمتثال, فلا امتناع في تبديله.

والحديث يرشد إلى هذا المرتكز العرفي بعد إثباته تفاوت مراتب الحب والقبول, فلا امتناع ثبوتاً كما يدلُّ عليه الدليل إثباتاً, فيجوز تبديل الإمتثال إذا ترتب عليه عنوان حسن كعنوان المجاهدة وتحصيل الغرض الأقصى؛ ما لم يستلزم الوسواس أو يترتب عليه عنوان السخرية أو الإستهزاء بالحكم الإلهي أو إستلزم الحرج والضرر, وإلا كان التكرار والتبديل مرجوحاً, بل قد يكون محرماً.

الجهة الثانية: في إجزاء الإتيان بالمأمور به الإضطراري عن التكليف الواقعي

عند رفع الإضطرار, كما لو كان مأموراً بالصلاة مع التيمم لأجل وجود عذر مسوغ له ثم إرتفع العذر؛ فهل يجب على المكلف الإتيان بالصلاة مع الوضوء, أم يكون ما أتى به مع التيمم مجزياً؟.

ص: 318

والبحث في ذلك يكون في مواقع:

الموقع الأول: في محتملات الواجب الإضطراري التي تترتب عليها النتائج والآثار الخاصة المبحوث عنها في الفقه والأصول, وهي بحسب التصور العقلي أربعة:

الأول: أنْ يكون الواجب الإضطراري وافياً بتمام الغرض.

الثاني: أنْ يكون وافياً ببعض الغرض منه ولكن المتبقي لم يكن ملزماً تحصيله.

الثالث: أنْ يكون كذلك مع إلزام تحصيل المتبقي, ولكن لم يمكن تداركه بعد حصول المقدار الإضطراري.

الرابع: أنْ يكون كذلك مع فرض إمكان تحصيل المقدار المتبقي ثابتاً.

وتختلف النتائج والآثار المترتبة على تلك الفروض الأربعة من جهة الإجزاء عن الواقع وهي مذكورة في الفقه, ولكلِّ واحد من هذه الفروض العقلية فروع. وجواز البدار وضعاً, وجوازه تكليفاً, وجواز إيقاع المكلف نفسه في الإضطرار.

والكلام يقع في كلِّ واحد من تلك الآثار على كِلا الفرضين؛ الثبوت والإثبات.

أمّا في مرحلة الثبوت؛ فالآثار هي:

الأثر الأول: لا إشكال في الإجزاء في الفروض الثلاثة الأولى لملاك الوفاء بالغرض فيها أو ملاك العليّة كما في الفرض الأول والثاني, وأمّا في الفرض الأخير؛ فالظاهر عدم الإجزاء لعدم الوفاء بتمام الغرض مع إلزام تحصيل المتبقي وإمكان تداركه؛ إمّا بالإعادة أو القضاء.

الأثر الثاني: في جواز البدار وضعاً, أي إجزاء العمل الإضطراري حتى في صورة البدار وصحته وهو في الفروض الثلاثة الأولى صحيح إنْ لم يكن مشروطاً بعدم البدار وإلا فلا يجوز البدار وضعاً, وأمّا في الفرض الرابع فالأمر فيه واضح فإنَّه يجب تحصيل المتبقي.

ص: 319

الأثر الثالث: جواز البدار تكليفاً, وهو يختلف بحسب تلك الفروض الأربعة؛

أمّا في الفرض الأول والثاني؛ فإنْ قلنا بجواز البدار فيهما وضعاً جاز ذلك تكليفاً أيضاً وإنْ لم يجز ذلك وضعاً, أي لا يصحُّ العمل مع البدار فقد يقال بحرمة العمل تكليفاً, ولكن الظاهر إنَّه بعيد؛ لأنَّ أقصى ما يستفاد من عدم جواز البدار وضعاً لغوية العمل لا حرمته, إلا أنْ يكون الإتيان للعمل يستلزم عنوان محرم كالتشريع فيحرم لأجل ذلك ولكنه خلاف المفروض.

وأمّا في الفرض الرابع؛ فقد عرفت إنَّه بعد فرض تدارك المتبقي وإمكان تحصيله فلا ينبغي الإشكال في جواز البدار, إذ لا يلزم منه فوت شيء من الغرض لايمكن تداركه حتى يتوهم عدم الجواز.

وأما في الفرض الثالث؛ فقد يقال بتعاكس جواز البدار وضعاً وشرعاً فيه, وذلك إنَّه لو كان العمل الإضطراري في أول الوقت جائزاً وضعاً, أي صحيحاً ووافياًبمقدار من الغرض, ولكنه يؤدي إلى فوات مقدار المتبقي الذي يلزم تحصيله فلا يجوز البدار تكليفاً إذا احتمل رفع العذر في آخر الوقت, فإنَّه لو قلنا بالجواز تكليفاً يوجب عدم تدارك الباقي اللازم تحصيله, وأمّا إذا لم يكن البدار جائزاً وضعاً, أي لم يكن وافياً بشيء من الغرض على تقدير إرتفاع العذر في آخر الوقت فيجوز البدار تكليفاً, لذا لا يترتب عليه تفويت شيء من الغرض الذي يلزم تدارك المتبقي منه.

وقد يقال بأنَّه متى لم يجز البدار تكليفاً لم يجز البدار وضعاً, لأنَّ النهي في العبادات يوجب الفساد فلا يكون الجواز الوضعي والتكليفي متعاكس في العبادات.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ المبغوضية في المقام لا توجب بطلان العمل لأنَّها في طول صحة العمل وجوازه وضعاً, إذ لو كان العمل المأتي به في أول الوقت فاسداً لأنَّه لم يستوفِ الغرض به

ص: 320

فلا يكون مانعاً عن المصلحة الكبرى, وهذا يعني إنَّ ثبوت المبغوضية والحرمة يلزم منه عدم ثبوتها, وكلُّ شيء يلزم من ثبوته عدمه يكون محالاً, وهذا غير الصلاة في الأرض المغصوبة على فرض الصحة والبطلان معاً.

وأجيب عنه بأنَّ هذه المبغوضية يكون معروضها الوجود الذهني في ذهن المولى, فإنَّ معروض المبغوضية كذلك يكون هو العمل الصحيح وإنْ كانت هذه المبغوضية تستلزم عدم إمكان تقريب العبد بالعمل الصحيح, فإنَّ قصد القربة لا يتمكن منه مع الإلتفات إلى المبغضية, وهذا لا يعني أنَّ مبغوضية العمل الصحيح أوجبت عدم نفسها وإنْ أوجبت عدم تحقق المصداق الخارجي لعدم إمكان التقرب بالمبغوض بالخارج.

وفيه: إنَّ المقصود من البدار وضعاً وتكليفاً هو صحة العمل, ومع عدم صحة التقرب بالمبغوض كما هو المفروض لا تبقى ثمرة عملية في البين, فلعلَّ مراد المجيب عن الإشكال هذا المعنى وإلاّ فما ذكره واضح البطلان كما ستعرف.

الوجه الثاني: إنَّ هذه المبغوضية لو إقتضت البطلان في المقام لزم تعلقها بغير المقدور لأنَّها إنَّما تتعلق بالعمل الصحيح وهو غير مقدور بعد النهي, وهو كالأمر؛ يتعلقان بالأمر المقدور.

وأجيب عنه بأنَّ النهي وإنْ كان يشترط فيه أنْ يكون متعلقاً بالمقدور لكن المبغوضية يمكن أنْ تتعلق بغير المقدور.

وفيه: ما أوردناه على سابقه من أنَّ المبغوضية إذا أمكن تعلقها بغير المقدور فيما إذا ترتب على الفعل المبغوض ثمرة بخلاف المقام؛ فإنَّه لم يترتب عليه ثمرة؛ لعدم إمكان التقرب بالمبغوض سواء كان مقدوراً أم غير مقدور.الوجه الثالث: إنَّ الإشكال لا يجري في المقام, لأنَّه إمّا أنْ يكون على أساس التضاد بين الملاك المستوفي بالعمل الإضطراري والملاك المتبقي, فلا مجال له؛ لأنَّ الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن ضده.

ص: 321

وإمّا أنْ يكون البدار على أساس إرشاد العقل إلى عدم البدار حفاظاً على المصلحة الأوفر في موارد ترك الواجب الأهم والإتيان بالواجب المهم؛ فلا يكون نهياً مولوياً.

وإمّا أنْ يكون على أساس كون الملاك في المبغوضية والمحبوبية المقدمية لأجل مانعية الملاك الأصغر عن الملاك الأكبر فإنْ أنكرنا المبغوضية والمحبوبية المقدمية فالأمر واضح, وإنْ لم ننكرها ولكن المبغوضية المقدمية غيريةٌ؛ وهي لا توجب البطلان فيكون الإشكال المزبور مبنياً على كون المبغوضية الغيرية توجب البطلان.

وفيه: إنَّ المبغوضية الغيرية لا توجب بطلان العمل لأنَّها في طول صحة العمل وجوازه، وأمّا إذا لم يمكن التقرب بالعمل حينئذٍ لكونه مبغوضاً للمولى حتى لو كانت المبغوضية غيرية فلا أثر لصحة العمل.

وكيف كان؛ فالظاهر إنَّ الإشكال المزبور تام, فإذا لم يجز البدار وضعاً فلا يجوز تكليفاً, فإذا كان العمل عبادياً أوجب النهي عنه الفساد لعدم إمكان التقرب بالمنهي عنه المبغوض لدى المولى.

الأثر الرابع: في جواز إيقاع المكلف نفسه في الإضطرار إختياراً؛ وهو يختلف بحسب الفروض الأربعة المتقدمة؛

ففي الفرض الأول والثاني يجوز للمكلف إيقاع نفسه في الإضطرار إختياراً لفرض الوفاء بالغرض, لكن إذا لم يكن الإضطرار مشروعاً بما إذا لم يكن حاصلاً بالإختيار, وإلا فلا يجوز له إيقاع نفسه بالإضطرار لأنَّه يستوجب فوات كل الغرض لعجزه عن العمل الإختياري, أو بحسب الفرض أنْ لا يكون الإضطرار بسوء الإختيار.

وأمّا الفرض الثالث؛ فلا يجوز ذلك لأنَّه يوجب تفويت تمام الملاك ويحرم نفسه الغرض المولوي؛ إمّا جميعاً أو بعضه بلا فرق في ذلك بين ما إذا اشترط عدم إيقاع نفسه في الإضطرار أو لم يشترط.

ص: 322

وكذلك الحال في الفرض الرابع؛ فلا يجوز إيقاع المكلف نفسه في الإضطرار إختياراً, سواء كان الجواز الوضعي مشروطاً بكون الإضطرار لا بسوء الإختيار أو لا لفرض إنَّه بالإضطرار مطلقاً يوجب تفويت تمام الملاك لفرض عجزه في تمام الوقت.

والحاصل: إنَّ أهم تلك الآثار المترتبة على الفروض الأربعة العقلية هو تعين الإجزاء في الفروض الثلاثة الأولى دون الفرض الرابع؛ فإنَّه لا يجزي فيه الأمر الإضطراري إذا ارتفع العذر في الوقت.هذا كله بحسب مرحلة الثبوت.

وأمّا في مرحلة الإثبات؛ فإنَّ البحث في الإجزاء بحسب الظاهر دليل الأمر الإضطراري تارةً يقع في الإعادة إذا إرتفع العذر في أثناء الوقت, وأخرى يقع في القضاء إذا إرتفع العذر بعد الوقت. وقبل الدخول في التفصيل لا بُدَّ من بيان أمرين لهما الإرتباط الوثيق بالموضوع الذي نحن فيه.

الأمر الأول: يستفاد من بعض الأدلَّة أنَّ الأوامر الثانوية مطلقاً من الإضطراري والظاهري تكون طوراً من أطوار الأمر الواقعي الأولي الذي له من البروز والشؤون وماله من العرض العريض, فلا إشكال في الإجزاء عن الواقع ويكون من أفراد الأمر الواقعي الذي تقدم الكلام فيه في الجهة الأولى لفرض كون الأمر الإضطراري والأمر الظاهري من أطوار الواقع, لا أنْ يكون مقابله وإنْ اختلف الأمر الإضطراري والأمر الظاهري في تعدد جهات البحث حينئذٍ, ويعضد هذا الإحتمال العقل والإعتبار كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 323

الأمر الثاني: إنَّ الإحتمالات التي يمكن أنْ نستفيدها من الأدلَّة في الأوامر الإضطرارية بالنسبة إلى الواقع الملحوظ فيها هي:

الإحتمال الأول: سقوط الواقع بالمرة؛ خطاباً وملاكاً وفعلاً في مورد الإضطرار, فلا واقع إلا ما استفيد من أدلة التكليف العذرية, لأنَّ الشارع مسلّط على مجعولاته وضعاً ورفعاً وإتماماً وتنقيضاً ولا محذور فيه من عقل أو نقل, ولكن مع بقاء الواقع على الشأنية والإقتضاء في الجملة.

الإحتمال الثاني: وجود الواقع الأولي ولكن مع تطابق مصلحته مع الواقع الثانوي من كلِّ حيثية وجهة لكن طولاً لا عرضاً حتى يلزم التخيير, وعلى نحو الإقتضاء لا الفعلية حتى يلزم تحصيلها.

وبناءً على هذين الوجهين يتمُّ القول بالإجزاء في الأوامر الإضطرارية مطلقاً ولا حاجة إلى إطالة البحث.

إذا عرفت ذلك يقع البحث في الإعادة إذا إرتفع العذر في أثناء الوقت, فإمّا أنْ يؤخذ في موضوع دليل الأمر الإضطراري إستمرار العذر إلى آخر الوقت. ولا ريب إنَّه خارج عن موضوع البحث لأنَّه بعد ارتفاع العذر في أثناء الوقت وعدم إستمراره ينكشف إنَّه لا أمر إضطراري واقعاً حتى يبحث في إجزائه أو عدمه, فينحصر البحث عنه حينئذٍ في إسقاط القضاء لا غير.

نعم؛ قد يثبت الإضطرار وأمره ظاهراً بدليل أو أصل يقتضي بقاء العذر واستمراره إلى آخر الوقت, فيدخل في بحث إجزاء الأمر الظاهري حينئذٍ الذي سيأتي البحث عنه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 324

وإمّا أنْ يفترض إنَّه لم يشترط في دليل الإضطراري إستمرار العذر ودوامه إلى آخر الوقت, وعمدة الكلام فيه يقع في إثبات تقييد دليل الأمر الإضطراري لإطلاق دليل الأمر الإختياري الشامل للفعل الإضطراري الذي زال عذره في الوقت, فإنْ لم يثبت التقييد يكون مقتضى الإطلاق عدم الإجزاء, وإنْ ثبت التقييد يكون الفعل الإضطراري مجزياً.

أدلة إثبات التقیید

وقد إستدلَّ الأصوليون على إثبات التقييد بوجوهٍ تختلف حسب المناهج الأصولية المتَّبعة في علم الأصول.

الوجه الأول: دعوى الدلالة الإلتزامية العقلية لدليل الأمر الإضطراري على الإجزاء في دفع الفرض الرابع وإبطاله الذي لم يثبت الإجزاء فيه فقط لما عرفت سابقاً من الخصائص والمحتملات في الدليل الإضطراري في الفروض الأربعة المتقدمة التي تدلُّ على الإجزاء إلا الرابع, فلو أقيم البرهان الفعلي على بطلان هذا الفرض تعين الإجزاء لكون الأمر الإضطراري لا ينسجم مع الفرض الرابع الذي عرفت إنَّه كان فيما إذا بقي من الملاك الواقعي مقداراً منه قابل للتدارك, فلا يعقل الأمر الإضطراري بمجرد العذر في وقت العمل, فإنَّ المتصور في هذا الأمر الإضطراري المتحقق في الفرض الرابع ثلاثة:

1- وجوب العمل الإضطراري تعييناً.

وهذا باطل؛ لأنَّه لا شكَّ في أنَّ المكلف يجوز له الصبر إلى أنْ يزول العذر في الوقت ويأتي بأفراد الإختياري.

2- أنْ يكون المكلف مخيراً بين الفعل الإضطراري حين العذر والفعل الإختياري بعد زوال العذر على نحو التخيير بين المتباينين.

ص: 325

وهذا غير معقول أيضاً؛ لأنَّه خلاف المفروض في الإحتمال الرابع من بقاء مقدار من الملاك الذي يلزم تداركه بعد قابليته له.

نعم؛ هو منسجم مع الفرض الأول والثاني.

3- التخيير بين الأقل والأكثر, أي يأتي بالفعل الإختياري بعد زوال العذر فقط ويجمع بين الفعل الإضطراري عند العذر والفعل الإختياري بعد زواله؛ حفاظاً على المصلحة المتبقية.

وهذا أيضاً غير معقول؛ لعدم معقولية التخيير بين الأقل والأكثر.

فإذا ثبت بطلان جميع الأشكال المتصورة في هذا النوع من الأمر الإضطراري فيكون الفعل الإضطراري بلا أمر, فلو فرض ثبوت الأمر الإضطراري في مورد يكون منافياً للفرض الرابع لعدم معقوليته, فإذا إنتفى الفرض الرابع يثبت الإجزاء مطلقاً.

وأورد عليه:

أولاً: إنَّ غاية ما يلزم مِمّا ذكر في هذا المنهج لو تمَّ وقوع التعارض بين إطلاق دليل الأمر الإضطراري لمن يزول عذره في آخر الوقت وإطلاق دليل الأمر الإختياري لمن صدر منه الفعل الإضطراري في أول الوقت؛ فإنَّ كلَّ واحد من الإطلاقين يدفع الآخر فيقع التعارض بينهما, فلا بُدَّ من الرجوع إلى المرجحات, ومع فقدها يكون المرجح هو الأصل العملي الذي سيأتي البحث عنه.

ثانياً: إنَّه بالإمكان الأخذ بالتخيير بين الأقل والأكثر, ونقول بالتخيير بين العمل الإختياري بشرط لا عن العمل الإضطراري قبله وبين العمل الإختياري بشرط سبق الإضطراري كما ذكر هذا الإحتمال في بحث المطلق والمقيد فيما إذا ورد (أعتق رقبة) وورد أيضاً (أعتق رقبة مؤمنة), حيث أنَّ الجمع بينهما يمكن ثبوتاً؛ إمّا بحمل المطلق على المقيد ليكون المراد

ص: 326

عتق رقبة مؤمنة, أو الحمل على التخيير؛ بأنْ يكون المكلف مخيراً بين عتق رقبة مؤمنة بشرط عدم عتق الكافرة وبين عتق رقبة كافرة ثم رقبة مؤمنة, أي بشرط شيء, لأنَّه يصبح من المتباينين فيتصور التخيير بينهما, ولكنه خلاف الدليل في المطلق والمقيد بخلاف المقام.

ويورد عليه بأنَّ هذا التخيير لم يثبت في كِلا الموضعين كما هو المفصل في هذا النوع من هذا التخيير, فإنَّ أحد الطرفين ضروري الوجود والتحقق على تقدير ذات الأقل فيكون الأمر به لغواً صرفاً.

ثالثاً: إنَّ تلك الإحتمالات الثلاثة كلها تبتني على ثبوت المغايرة بين الحكم الواقعي الأولي والحكم الإضطراري, وهو الواقعي الثانوي, وأمّا إذا جعلناه من شؤون الحكم الواقعي وطوراً من أطواره، فلا واقع إلا ما استفيد من أدلة التكاليف العذرية, فحينئذٍ يكون الفعل الإضطراري من الواقع المفروض على المكلف الذي إبتُلي بالعذر المسوغ لإتيانه.

نعم؛ لا بُدَّ من ملاحظة الدليل الدالّ على الأمر الإضطراري في الإكتفاء به عند إرتفاع العذر في أثناء الوقت, وهذا أمر آخر. ولا حاجة مع ذلك إلى إثبات شقٍّ رابع ثبوتاً لتصوير الأمر بالفعل الإضطراري بافتراض وجود أمرين؛ أحدهما يتعلق بالجامع بين الفعل الإختياري والإضطراري والآخر يتعلق بخصوص الحصة الإختيارية. فإنَّه خلاف المفروض مع إنَّه لا حاجة إليه بعد كفاية الأمر الإختياري بتحقيق الجامع والحصة.

الوجه الثاني: التمسك بالإطلاق المقامي في دليل الأمر الإضطراري في نفي الإعادة إذا ارتفع العذر فإنَّ ظاهره هو بيان تمام وظيفة المكلف, فإذا لم يكن الفعل الإضطراري كافياً في هذا المقام وكان عليه أنْ يعيد الفعل إذا ارتفع العذر لكان على المولى أنْ يبنيه.

وهذا الوجه صحيح؛ ولكن يحتاج إلى إثبات كون المولى في مقام بيان كلّ ما هو وظيفة المكلف, وإلا فإنَّ الطبع الأولي لدليل الأمر الإضطراري إنَّه في مقام بيان وظيفة المكلف حين الإضطرار لا كلّ الوظائف الفعلية عليه.

ص: 327

ويمكن رفع هذا الإشكال بأنْ يقال بأنَّ مقام جعل التكليف من قبل المولى في حالة من حالات المكلف يقتضي كونه في مقام بيان الوظائف الفعلية عليه, والإطلاق المقامي أقوى من الإطلاق الحكمي الثابت لدليل الفعل الإختياري, ولذا يصلح أنْ يكون قرينة يعتمد عليه؛ إلا أنْ يقال بأنَّ الإطلاق المقامي إذا كان في طول الإطلاق الحكمي فإنَّه حينئذٍ تتحقق المعارضة بين الإطلاقين ويقدم الحكمي؛ لأنَّ النتيجة تتبع أخسَّ المقدمتين.

الوجه الثالث: بدلية الفعل الإضطراري عن الواقع إنْ استفيد من الدليل اللفظي للأمر الإضطراري أو من مجموعة القرائن المقامية واللفظية تنزيل الوظيفة الإضطرارية منزلة الوظيفة الإختيارية, وإنَّ مقتضى إطلاق البدلية كونها على الإطلاق, وهو يقتضي الإجزاء؛ لفرض كون الأمر الإضطراري ناظر إلى كون الوظيفة هي الواقعية, ولا ريب أنَّ إطلاق دليل الحاكم مقدم على إطلاق دليل المحكوم, وهو إطلاق دليل الفعل الإختياري.

وهذا التقريب هو الذي ذكرناه في إبتداء هذا البحث وإثبات ذلك يحتاج إلى الرجوع إلى أدلة التكاليف الإضطرارية, ولا ريب في ثبوته في بعضها, مثل قولهم علیهم السلام : (التراب أحد الطهورين).

وقد أشكل المحقق العراقي قدس سره (1) عليه بأمرين:

1- إنَّ إطلاق البدلية لتمام مراتب الوظيفة الإختيارية معارض لظهور دليل الحكم الإختياري في دخل ذلك القيد أو الجزء المضطر إلى تركه في المصلحة ولو ببعض مراتبها.

ويرد عليه: حكومة دليل الأمر الإضطراري على دليل الأمر الإختياري بملاك النظر إلى كون الوظيفة هي الواقعية.

ص: 328


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص90.

2- تقديم إطلاق دليل الأمر الإختياري على إطلاق البدلية في دليل الأمر الإضطراري بملاك الأظهرية أو الحكومة؛ أمّا الأظهرية؛ فلأنَّ ظهور دليل الأمر الإختياري في دخل القيد في المصحلة الواقعية وضعي, لكونه ناشئاً من أخذه قيداً, والظهور الوضعي مقدم على الظهور الإطلاقي.

وأمّا الحكومة؛ فلظهور دليل الوظيفة الإختيارية في دخل القيود والأجزاء في المصلحة الواقعية, وهو يقتضي لزوم حفظ القدرة عليها والمنع عن تفويتها بإيقاع النفس في الإضطرار الذي هو موضوع الحكم الإضطراري, وهو يعني حكومة دليل الحكم الإختياري على دليل الحكم الإضطراري لأنَّه ناظر إلى موضوعه.وكِلا الوجهين يمكن مناقشتهما؛ أمّا الأول؛ فلأنَّ المعارضة إنَّما هو بين إطلاق البدلية وإطلاق الدليل الإختياري لحال ما إذا أتى المكلف بالفعل الإضطراري في أول الوقت ثم ارتفع عذره في الأثناء, وليس التعارض بينه وبين أصل الظهور كما هو واضح.

وأمّا الحكومة؛ فلأنَّ دليل الأمر الإختياري وإنْ كان ظاهراً في دخل القيد في المصلحة الواقعية لكنه لا يدلُّ على النهي عن إيقاع النفس في الإضطرار, وعلى فرض الدلالة فهو لا ينفي تحقق الإضطرار فيما لو وقع المكلف نفسه فعلاً في الإضطرار إختياراً أو وقع فيه قهراً ليكون حاكماً على دليل الوظيفة الإضطرارية.

وبعبارة أخرى: إنَّ الحكومة والورود إنَّما يتحققان فيما إذا كان أحد الدليلين ناظراً إلى موضوع الدليل الآخر؛ نفياً أو إثباتاً, تعبداً أو إرشاداً إلى نفي حكمه أو إثباته, وهذا ملاك الحكومة, وأمّا نظر دليل إلى موضوع دليل آخر للنهي عنه وتحريمه لا يكون حكومة, فليس مجرد نظر دليل إلى موضوع دليل آخر يكون حكومة أو وروداً.

ص: 329

والحاصل: إنَّ هذا الوجه وإنْ كان لا بأس به إذا استفيد من دليل الإضطرار تنزيل الوظيفة الإضطرارية منزلة الواقع وكونها وظيفة واقعية ولكنه يختلف باختلاف أدلَّة الأوامر الإضطرارية ودلالتها على ذلك, وليست لنا قاعدة كلية في الأوامر الإضطرارية تدلُّ على هذا التنزيل.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) في مقالاته أيضاً؛ وهو كون ظاهر دليل الأمر الإضطراري تعلقه بخصوص الفعل الإضطراري وتعيينه, وهذا ظهور ناشئ من تعلق الأمر بعنوان واحد فيه كظهور الدليل الإختياري.

وعليه؛ تكون المحتملات في حق الفعل الإضطراري في المقام ثلاثة: إمّا عدم الإجزاء, أو الإجزاء بملاك الوفاء بتمام الغرض, أو الإجزاء بملاك التفويت.

وعلى الإحتمالين الأول والثاني لا بُدَّ أنْ يكون الأمر الإضطراري متعلقاً بالجامع بيه وبين الإختياري لا خصوص الوظيفة الإضطرارية بل على الإحتمال الثاني يكون الأمر الإختياري أيضاً متعلقاً بالجامع, لأنَّ الملاك إنَّما يكون في الجامع ولا فائدة لتعلقه بالحصة الخاصة حتى مع الترخيص من فعله لأنَّه ثابت بحكم العقل في موارد تعلق الأمر بالجامع كما هو ثابت في محله.

وأمّا على الإحتمال الثالث فلا بُدَّ من تعلق الأمر الإضطراري بالوظيفة الإضطرارية فقط, لأنَّه بناءً على هذا الإحتمال وإنْ كان الغرض ناقص في الجامع أيضاً ولكن تحقيقه ضمن الوظيفة الإضطرارية يوجب فوات الغرضالكامل, والعقل لا يرخّص في الإتيان به لولا الأمر الشرعي وترخيصه في الإتيان به بخصوصه.

ص: 330


1- . المصدر السابق؛ ص87.

وعلى هذا الإحتمال نحتاج إلى أمر من الشارع متعلق بالخصوصية, وهو يعني إنَّ مقتضى الحفاظ على ظهور الأمر الإضطراري في التعلق بالخصوصية الإجزاء بملاك التفويت, أي لئلا يفوت الأمر الإضطراري؛ لا الوفاء بتمام الغرض ولا عدم الإجزاء, وهذا الظهور أقوى من إطلاق الأمر الإضطراري في البدلية والتبديل أو إطلاق الأمر الإختياري المقتضي لعدم الإجزاء.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّ الأمر التعييني بالإضطراري لا يخلو إمّا أنْ يكون حقيقياً وبداعي البعث نحو فعله؛ فهذا لا يعقل أنْ ينشأ إلا من ملاك تعييني في المتعلق, وهو الحصة لا الجامع, ولازمه العصيان لو ترك الفعل الإضطراري وأتى بالفعل الإختياري, كما إنَّه لو لم يأت بهما فإنَّه يتحقق عقابان عليه, وكِلاهما لا يلزم بهما المحقق العراقي قدس سره .

وإمّا أنْ يكون أمراً صورياً من أجل الترخيص في الفعل, فهذا أيضاً مخالفة لظاهر الدليل الذي ليس بأقل من حمل الأمر على التخيير.

ثانياً: إنَّه إذا إستفدنا من دليل الأمر الإضطراري البدلية أو التنزيل يكون ظهوره أقوى من الظهور الذي يبتني على وجود أمرين أو جامع بين الفعلين ونحو ذلك, فإنَّ البدلية أو التنزيل الذين يدلان على إنَّ هناك واقع واحد ووظيفة واقعية فعلية وإنَّه لا يخرج عن الظهور الذي يدلُّ عليه الأمر الإضطراري والأمر الإختياري في تعلقهما بخصوص الفعل وتعيينه, بخلاف ما ذكره قدس سره ؛ الذي يبتني على فروض وإحتمالات في المقام.

ثالثاً: إنَّ ما ذكره المحقق العراقي قدس سره يعتمد على إنَّ الملاكات منجزة وداخلة في عهدة المكلفين, وبما أنَّ الملاك الإضطراري الناقص يفوت الملاك التام في الإختياري, وهذا لا يجوز عقلاً؛ فلا بُدَّ للمولى أنْ يأمر بالإضطراري حتى يجوز للمكلفين فعله.

ص: 331

وهذا غير تامّ, لأنَّ الذي يدخل في عهده ولا يرخّص العقل في تفويته هو أمر المولى بعد فعليتهما لا الأغراض الواقعية, فلو فرض وجود أمر إختياري تعلق بالصلاة الإختيارية المقيدة بعدم سبق الإضطرارية فهو بنفسه يمنع عن سبق الإضطرارية فلا يعقل الترخيص فيها, وإنْ كان متعلقاً بالصلاة الإختيارية بدون الشرط المزبور فلا يكون فعل الإضطراري قبلها تفويتاً لما دخل في عهدة المكلف, وإنْ فرض أنَّه يفوت لملاكه الواقعي, فلا حكم عقلي بعدم الترخيص ليحتاج إلى ترخيص مولوي.الوجه الخامس: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1)؛ وحاصله: إنَّ دليل الأمر الإختياري لا يدلُّ على الإجزاء ولا عدم الإجزاء, وذلك لأنَّّ ظاهر دليل الأمر بالصلاة الإختيارية هي الصلاة المشتملة على الخصوصية كالقيام مثلاً, لا الأمر بالخصوصية وهي القيام في الصلاة, وهذا يعني إنَّ ظاهر الدليل غير محتمل, وما هو الذي يحتمل من عدم الإجزاء -وهو الأمر بالخصوصية- لا يستفاد من دليل الأمر, ومنه يظهر عدم دلالة دليل الأمر الإختياري على عدم الإجزاء ولا على الإجزاء.

وعليه؛ فلا بُدَّ من الرجوع في مقام الإثبات إلى إطلاق أو أصل أولي ليثبت الإجزاء.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّه يحتمل أنْ يكون للواجب ملاكان مستقلان؛ أحدهما يتعلق بالجامع, والآخر في الجامع المتخصص, فيكون منسجماً مع الأمر بذي الخصوصية, وقد تنبَّه قدس سره إلى ذلك في طيِّ كلامه.

ثانياً: إنَّ ما ذكره لا ينسجم مع المنهج الإستظهاري من الأدلَّة, فهو يتناسب مع المداقة العقلية, فمن راجع كلامه قدس سره في المقام يرى إنَّه لا يخلو من فروض بعيدة عن الصياغة

ص: 332


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص383.

العرفية والنهج الإستظهاري من الأدلَّة, فإنَّه ربَّما نستفيد من الأمر أنْ يكون أمراً بذي الخصوصية من جهة قيام مرتبة من الملاك في الخصوصية, والصحيح هو الرجوع إلى الإستظهار العرفي من الأدلَّة الواردة في الأوامر الإضطرارية وأدلة التكاليف العذرية, والظاهر منها هو سقوط الواقع بالمرة؛ خطاباً وملاكاً فعلاً في موارد الإضطرار والعذر, فلا واقع إلا ما يستفاد من أدلة التكاليف العذرية, وإنَّ الفعل المضطر إليه يكون هو الوظيفة الفعلية واقعاً وإنْ بقي الواقع على الشأنية والإقتضاء في الجملة, ولا محذور فيه من عقل أو شرع, ويدلُّ على ما ذكرناه تسالم الفقهاء على حكومة أدلة التكاليف العذرية على الواقعيات الأولية, فإنَّه لا معنى لهذه الحكومة المتسالمة بينهم عليها إلا تنزيل التكاليف الإضطرارية منزلة الواقعيات الأولية وسقوطها عن الفعلية وبقاؤها على الشأنية الصرفة في الجملة إلا أنْ يدلَّ دليل على الخلاف كما هو مذكور في الفقه وتقتضيه سهولة الشريعة المقدسة.

وعليه؛ لا يبقى مجال للقول بإطلاق دليل الأمر الإختياري والتفصيل في إثبات الإطلاقات المتعددة من إطلاق على أصل الواجب, وإطلاق دليل الإضطرار أو إطلاق الدليل الذي يدلُّ على ثبوت القيد, وغير ذلك مِمّا عرفت.ويظهر من جميع ما ذكرناه إنَّ القول بالإجزاء هو الأقوى, إلا إذا قام دليل خاص على عدمه من نصّ أو إجماع معتبرين, وعلى فرض التنزيل وعدم إستفادة هذا التنزيل من أدلَّة التكاليف العذرية.

إمّا فرض إجمال دليل الإختيار أو لم يثبت إطلاق للأمر الإضطراري, فإنَّه تصل النوبة إلى الأصل العملي وما يقتضيه.

ص: 333

مقتضى الأصل العملي

بناءً على ما اخترناه من الأدلَّة الواردة في التكاليف العذرية وظهورها في تنزيل الوظيفة الإضطرارية منزلة الواقع لوجود الخطاب والملاك فلا بُدَّ من الإجزاء وسقوط التكاليف الواقعية عن الفعلية وإنْ بقيت على الشأنية والإقتضاء كما عرفت فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي, ولعله لأجل ذلك لم يتطرق إليه السيد الوالد قدس سره في المقام كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

ولكن المحقق الخراساني قدس سره (1) ذكر أنَّ مقتضى الأصل العملي هو الإجزاء, لأصالة البراءة عن الإعادة عند ارتفاع العذر في أثناء الوقت.

واعترض عليه بوجهين:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (2) من أنَّ إحتمال الإجزاء إمّا أنْ ينشأ من إحتمال وفاء الفعل الإضطراري بتمام الملاك, أو ينشأ من احتمال عدم إمكان التدارك للمتبقي من الملاك. وعلى كِلا التقديرين لا تجري البراءة, بل يجب الإحتياط؛ أمّا الفرض الأول فلأنَّه يدور الأمر فيه بين التعيين والتخيير, فإنَّه لو كان الفعل الإضطراري وافياً بالملاك فالحكم هو التخيير, وإلا فالحكم هو تعيين الفعل الإختياري, والأصل في موارد التعيين والتخيير هو الإحتياط حتى عند المحقق الخراساني قدس سره نفسه.

وأمّا الفرض الثاني فلأنَّ الشكَّ في التكليف يرجع إلى الشكّ في القدرة على تحصيل الملاك التامّ وعدمه وهو مجرى الإحتياط أيضاً.

ص: 334


1- . كفاية الأصول؛ ص85.
2- . مقالات الأصول؛ ج1 ص94.

وأشكل عليه:

أولاً: إنَّه على الفرض الأول -وهو كون الشكّ في الإجزاء وعدمه- فإنة يرجع إلى إحتمال الوفاء بالملاك, فإنَّه يختلف حسب المسالك التي ذكرناها سابقاً بما يلي:

1- المسلك الذي اختار تصوير الأمرين الإضطراري والإختياري بأنْ يكون أحدهما أمراً بالجامع والآخر بالحصة الإختيارية.

وعليه؛ يكون الشكّ في الإجزاء وعدمه يرجع إلى القطع بوجود أمر بالجامع بين الإضطراري والإختياري على كلِّ حال, والشك في وجود أمرٍ ثانٍ, وهو من الشك في تكليف زائد فلا يرجع إلى التعيين والتخيير.

2- المسلك الذي اختار معقولية الأمر لكلٍّ من الإضطراري والإختياري على نحو التخيير بين الأقل والأكثر فإنَّه يدور الأمر في أمرين؛ إمّا الإجزاء؛ وهو يعني الأمر التخييري بهما على نحو التخيير بين المتباينين, أو عدم الإجزاء؛ وهو يعني الأمر التخييري على نحو التخيير بين الأقل والاكثر. وعلى كلٍّ منهما نقطع بوجود أمر تخييري في المقام كما نقطع بكون الفعل الإختياري في آخر الوقت أحد طرفي هذا الأمر التخييري, وإنَّما الشكّ حاصل في الطرف الآخر؛ فهل هو الفعل الإضطراري وحده على تقدير الإجزاء, أو هو الفعل الإختياري على تقدير عدم الإجزاء؟ فيكون من الدوران بين الأقل والأكثر في عدل الواجب التخييري, وهو كالدوران في الأقل والأكثر في أصل الواجب من حيث الرجوع إلى البراءة.

3- المسلك الذي اختار إستحالة التخيير بين الأقل والأكثر في المقام بين الفعل الإضطراري والإختياري, فإنَّ الشكَّ في الإجزاء وعدمه يرجع إلى الشكّ في التعيين والتخيير, فإنَّه على تقدير الوفاء والإجزاء فالأمر تخييري, وعلى تقدير

ص: 335

عدم الإجزاء فالأمر يتعلق بالإختياري تعييناً لا أنْ تكون البراءة والإحتياط كما ذكره المحقق الخراساني والمحقق العراقي (قُدِّسَ سِرّاهما).

ومن ذلك يظهر أنَّ الأصل الذي يرجع إليه يختلف حسب المسالك التي اختاروها في المقام.

ثانياً: إنَّه على الفرض الثاني فإنَّه بناءً على ما اختاره المحقق العراقي قدس سره من إمكان الأمر التعييني بالفعل الإضطراري لرفع حكم العقل بقبح التفويت, وهذا يعني إنَّ المولى لا يريد التحفظ على الملاك التام الموجود في الإختياري إذا أتى المكلف بالإضطراري, فيكون عدم الإتيان بالإضطراري قيداً في وجوب الإختياري حينئذٍ, وهو يعني رجوع الشكّ إلى القطع بوجوب الإختياري على تقدير عدم الإتيان بالإضطراري والشك في رجوعه على تقدير الإتيان به وهو من الشك في أصل التكليف وهو مجرى البراءة لا الشك في القدرة التي هي مجرى الإحتياط عقلاً.

والصحيح أنْ يُقال: إنَّ ذلك كلّه مبنيٌّ على تعدد الأمر الواقعي؛ أحدهما واقعي أولي والآخر واقعي ثانوي, وأمّا بناءً على ما اخترناه من وحدة الأمر وتنزيل الفعلالإضطراري منزلة الواقع فلا نشكُّ حينئذٍ في فراغ الذمة بإتيان المكلف الفعل الإضطراري وبراءته من التكليف, ولا تصل النوبة إلى تلك الإحتمالات والمسالك التي عرفت أنَّها خلاف ظواهر أدلة التكاليف العذرية, وعلى فرض عدم تمامية ما اخترناه لا تصل النوبة إلى إحتمال الدوران بين الأقل والأكثر كما عرفت.

كما إنَّ ما ذكره المستشكل لا يرد على المحقق الخراساني قدس سره , لأنَّه إنَّما جعل محور الأصل هو الإعادة عند ارتفاع العذر في الوقت دون منشأها حتى تختلف المسالك في إتيانه.

الوجه الثاني: إنَّ أصل البراءة محكوم بالإستصحاب لوجوب الفعل الإختياري لو حصل زوال العذر قبل الإتيان بالفعل الإضطراري, وقد اختار صحة الإستصحاب التعليقي

ص: 336

جمعٌ من المحققين منهم صاحب الكفاية قدس سره (1).

وفيه: إنَّه لا يقين سابق بوجوب الفعل الإختياري تعييناً, إذ على فرض الإجزاء بملاك الإستيفاء يكون الواجب من أول الأمر إمّا وجوب الفعل الإضطراري أو الجامع بين الفعلين, وحينئذٍ؛ إنْ كان المراد من الإستصحاب التعليقي إستصحاب وجوب الفعل الإختياري تعليقاً.

وفيه: إنَّه لا علم لنا بمثل هذا الوجوب التعليقي وإنْ كان المراد به إستصحاب الإنحصار في تطبيق الجامع على الفعل الإختياري على تقدير إرتفاع العذر.

وفيه: إنَّ هذا الإنحصار لم يكن حكماً شرعياً حتى يجري فيه الإستصحاب بلحاظه, بل هو لازم عقلي لتعذر أحد فردَي الجامع. هذا وإنَّ الأصل الذي يعتمد عليه هو أصل الشغل في المقام كما ستعرف لا البراءة.

ثم إنَّ السيد الوالد قدس سره (2) أشار إلى مباحث في التكاليف الإضطرارية قد تطرقوا إليها في الفقه؛ منها: ما عرفت سابقاً من أنَّ القاعدة تقتضي الإجزاء؛ إمّا لأجل تنزيل الفعل الإضطراري منزلة الواقع وكونه وظيفة فعلية واقعية, أو لأجل البدلية, فإذا زال العذر في أثناء الوقت لا تجب الإعادة, لكن ذكرنا إنَّ ذلك تامّ فيما إذا لم يعمّ دليل على خلاف بأنَّ الإضطرار والعذر الذي هو موضوع هذه التكاليف هل المناط فيه هو صرف وجود الإضطرار في الموقتات أو هو العذر المستوعب للوقت, فلا يجوز البدار في امتثالها في أول الوقت؟ وقد اختار جمعٌ الثاني واستدلوا عليه بأنَّه مقتضى المرتكزات في الإضطراريات, وعليها تنزل إطلاقات أدلَّة تلك التكاليف إلا مع الدليل على الخلاف كما ورد في التيمم

ص: 337


1- . كفاية الأصول؛ ص411.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص201.

والتقية,وحينئذٍ يرجع في غير المستوعب إلى قاعدة الإشتغال وإطلاقات أدلَّة التكاليف الأولية إلا مع وجود دليل خاص يدلُّ على الإجزاء في البين.

ومنها: إذا ترك المكلف في مورد التكاليف الإضطرارية تكليفه الإضطراري وأتى بالتكليف الواقعي فهل يكون مجزياً وتبرء ذمته أو إنَّه لا يجزي؟.

والظاهر إنَّ المسألة مبنية على بقاء الملاك في التكاليف الواقعية في مورد الإضطرار؛ فإنْ قلنا ببقاء ملاكها يصحُّ العمل بداعي الملاك وإنْ لم يكن خطاب, ومع عدمه لا وجه للصحة لانتفاء الملاك والخطاب.

وقد اختلفت كلمات الأصحاب؛ ففي بعض الموراد يحكمون بالصحة وفي بعضها يحكمون بالبطلان وفي مورد ثالث يترددون في الفتوى مع عدم دليل خاص لهم أصلاً.

وإنْ كان القول بأنَّ كشف الملاك إنَّما يكون عن طريق إطلاق الخطاب من باب كشف المعلول عن العلة هو المتّجه فلا وجه للصحة إلا إذا استفيد من الأدلَّة ما ينافي ذلك.

ومنها: إنَّ الملاك في موضوع الإضطرار هو ملاحظته بالنسبة إلى شخص المكلف دون النوع فلو كان تكليف اضطرارياً بالنسبة إلى شخص دون النوع فيكون هو تكليفه الفعلي وينقلب الواقع اليه, وفي مورد العكس يبقى على تكليفه الواقعي.

هذا ما أردنا إثباته في المقام والتفصيل مذكور في الفقه, فإنَّ كلَّ واحد من تلك الأمور الثلاثة موضع اختلاف بين الأعلام.

الجهة الثالثة:

في إجزاء الأمر الظاهري عن الواقع عند إنكشاف الخلاف كما عنونه أكثر الأصوليين؛ والصحيح ما عنونه السيد الوالد قدس سره ؛ إجزاء الإتيان بما يصحُّ الإعتذار به سواء كان أمارة أو أصلاً أو قاعدة معتبرة عن الواقع عند إنكشاف الخلاف, فإنَّه يشمل جميع الأطراف, فلا حاجة إلى إطالة الكلام في كلِّ واحد منها, وأنسب إلى الفهم العرفي

ص: 338

من كلمة الظاهري كما سيأتي بيانه, فإذا قامت أمارة على عدم وجوب السورة في الصلاة أو أصل أو قاعدة معتبرة على عدمه فصلى بدونها ثم انكشف وجوبها في الصلاة؛ فهل تكون الصلاة بدونها مجزية؟ وصار الموضوع مورد الإبتلاء للمجتهد والمقلد على حدِّ سواء, والإنكشاف تارةً يكون بالجزم واليقين, وأخرى في فرض تبدل الحكم الظاهري؛ أمّا في الأول؛ فقد يقال بأنَّ مقتضى الأصل والقاعدة هو عدم الإجزاء, لأنَّ الحكم الظاهري لا يرفع الحكم الواقعي, فمع إنكشاف الخلاف يتبين عدم إمتثال الواقع مع فعليته حسب الفرض فيجب الإعادة أو القضاء.

ولكن الظاهر هو الإجزاء لوجوه, أهمها:الوجه الأول: ما ذهب اليه المحقق الخراساني قدس سره (1) من التفصيل بين حكم ظاهري ثبت بلسان جعل الحكم المماثل للواقع كأصل الحلّ والطهارة -حسب رأيه- وبين أنْ يكون حكماً ظاهرياً ثبت بلسان إحراز الواقع ودركه فكأنه في الحقيقة حكماً ظاهرياً وراء الواقع؛ ففي الأول يكون مقتضى القاعدة الإجزاء بخلاف الثاني.

وعليه؛ لو صلى مع أصالة الطهارة ثم انكشف الخلاف؛ فإنَّ القاعدة في مثل ذلك تقتضي الإجزاء, لأنَّ دليل الأصل في الطهارة والحلّ إنَّما يوسع موضوع دليل إشتراط الطهارة أو الحلّ في الصلاة ليشمل ما إذا ثبت بأصالة الطهارة أو الحلّ في مورد الشك.

وقد أورد على ما ذكر عدة إشكالات نقضاً وحلاً بما يلي:

1- ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2), وتبعه السيد الخوئي قدس سره (3) من أنَّ حكومة أدلَّة الأحكام الظاهرية على الواقع حكومة ظاهرية ليست واقعية, لأنَّ الحكم الظاهري

ص: 339


1- . كفاية الأصول؛ ص86.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص199.
3- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج2 ص257, وهامش أجود التقريرات؛ ص199-200,.

في طول الحكم الواقعي ومتأخر عنه رتبةً, فلا يعقل توسعته للحكم الواقعي إلا ظاهراً في مقام الوظيفة العملية والتي ترتفع بانكشاف الخلاف.

ويرد عليه بأنَّ أصالة الطهارة لم تكن في طول شرطية الطهور في الصلاة وإنْ كانت في طول النجاسة الواقعية المشكوكة, فلا مانع من أنْ تكون حكومته على دليل شرطية الطهارة واقعية.

2- ما ذكراه أيضاً من أنَّ الحكومة في نظر المحقق الخراساني قدس سره على ما نذكره في بحوث التعارض مختَّصة في التفسير اللفظي بمثل (أعني أو أي), ولسان دليل الطهارة أو الحلّ ليس كذلك.

ويرد عليه بأنَّه غير ضائر, فإنَّه قد يكون مراد المحقق الخراساني قدس سره من ذلك الورود لا الحكومة والتنزيل, ومثل ذلك في عباراتهم كثير؛ فقد يطلق الورود على الحكومة وبالعكس, فلتكن القرينة على ذلك نفس تفسيره للحكومة بذلك على أنْ يكون المراد منها الورود دون الحكومة, نظير ما يقول في ورود الأمارات على الأصول.

3- ما ذكره المحقق النائيني قدس سره أيضاً من أنَّ تصحيح الصلاة التي وقعت مع الطهارة الظاهرية بحيث لا تحتاج إلى الإعادة بعد إنكشاف الخلاف إنَّما يتحقق إذا اجتمع أمران؛ أحدهما: الحكم بالطهارة ظاهراً, والثاني: توسعة دائرة الشرطية لتشمل الطهارة الظاهرية أيضاً.

ومن المعلوم إنَّ هذان الأمران طوليان يفترض الثاني بعد الفراغ عن الأول, إذ لا بُدَّ من فرض الطهارة الظاهرية إبتداءً, ثم القول بأنَّ هذا الفرد من أفراد الشرط أيضاً, ودليل أصالة الطهارة لا يمكنه أنْ يفي بكِلا المطلبين في إنشاء واحد كما عرفت في الطولية بينهما.

ص: 340

وبعبارة اخرى: إنَّ دليل (كلُّ شيء نظيف حتى تعلم إنَّه قذر) إمّا أنْ يتكفل إنشاء الطهارة للمورد المشكوك فيها فيكون المجعول الحكم الظاهري لا التوسعة, وإمّا أنْ يكون مفاده التوسعة في الشرط بعد الفراغ من ثبوت الحكم الظاهري, فلا يمكن إستفادة الحكم الظاهري منه.

وأورد عليه بما لا يخلو عن إشكال.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّه لا حاجة إلى فرض الطولية بين الأمرين, فإنَّ أحدهما ملازم للآخر في هذا المورد, فإنَّ الدليل إذا تكفل إنشاء الحكم الظاهري تلازمه التوسعة في الشرطية لذلك الحكم, وكذلك العكس للتلازم بينهما عرفاً في مورد الشرطية والجزئية.

4- ما ذكره السيد الصدر قدس سره (1) من أنَّ قاعدة الطهارة تقابل دليلين واقعيين؛ أحدهما دليل نجاسة الشيء وطهارته, والآخر دليل إشتراط الصلاة بالطهارة, فعند مقايستها إلى الأول فلا حكومة لها عليه, فإنَّه ليست فيه توسعة أو تضييق له, فيدور الأمر بين أنْ تكون مخصصة له كما هو ظاهر كلام صاحب الحدائق قدس سره , أو تكون حكماً ظاهرياً مؤمناً عنه.

أمّا الأول فقد ثبت في الفقه عدم ثبوته, فلا تخصيص لدليل النجاسة, فيكون حكماً ظاهرياً موضوعه الشكّ في النجاسة والطهارة, فلا إشكال في ثبوت إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي, لأنَّه لم يثبت إلا الحكم الظاهري, وأمّا مقايستها إلى الحكم الثاني ففيه احتمالان؛

فإمّا أنْ يكون تنزيلاً لمشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي في مقام الأحكام المجعولة من قبل الشارع التي منها الشرطية, وحينئذٍ يكون مفاده الحكومة الواقعية والتوسعة الحقيقية للشرطية.

ص: 341


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص161.

وإمّا تنزيلاً للمشكوك منزلة الطاهر بلحاظ الجري العملي والوظيفة العملية في حالة الشكّ والتخير, وعلى هذا الإحتمال لا يثبت الإجزاء, لأنَّها لا تفيد أكثر من بيان الوظيفة العملية, أي التأمين في حال الشكّ من دون سقوط الواقع.والإحتمال الأول في مرحلة الإثبات وإنْ كان راجحاً باعتبار أنَّ ألسنة التنزيل -كما هو المتداول على ألسنة الأصوليين أنَّ: (الطواف بالبيت صلاة)(1)- تثبت الحكومة والتوسعة الواقعية للأحكام بل لا يعقل في أكثر الموارد إلا هذا المعنى, ولكن إذا أخذ الشك في موضوع التنزيل يتساوق الإحتمالان؛ فيمكن تعقل المعنى الثاني ولو كان بمناسبات الحكم والموضوع العرفية الإرتكازية, فلا أقل من الإجمال المنافي لإمكان إثبات الإجزاء بملاك التوسعة الواقعية.

ثم إنَّه أيَّد ذلك بذيل موثقة عمار؛ (فَإِذَا عَلِمْتَ فَقَدْ قَذِرَ)(2), فإنَّ إطلاقه يثبت جميع آثار القذارة حتى الثابتة قبل العلم بها التي منها بطلان العمل السابق ولزوم الإعادة, ومن ذلك يظهر بطلان ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره .

ويرد عليه: إنَّ ما ذكره خلاف المتفاهم من الأدلَّة الإمتنانية التي وردت في موارد الأمارات والأصول والقواعد المعتبرة كما اعترف به قدس سره , فإنَّها حين تثبت الحكم الظاهري المؤمَّن يثبت التنزيل في الواقع والظاهر, وإلا لم يكن في تشريعها أثر كبير فيثبت الإجزاء, إلا إذا دلَّ في البين على عدم الإجزاء بعد إنكشاف الخلاف حفظاً للواقع, وما ورد في ذيل موثقة عمار قرينة على ذلك, فإنَّه علیه السلام أثبت القذارة الواقعية عند وجود العلم بالنجاسة, فهو على خلاف مطلوبه؛ أدلّ؛ بلا فرق بين أنْ يسمى ذلك التنزيل حكومة أو

ص: 342


1- . معروف على ألسنة الفقهاء.
2- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج3 ص467.

وروداً أو غير ذلك, فإنَّ من لوازم اعتبارها تقدمها على الواقعيات وهي الموافقة لطريقة العقلاء.

هذا كلُّه فيما إذا قلنا بأنَّ تلك الأدلَّة إنَّما تثبت حكماً في الواقعة وتنزيلاً في مورد الشكّ.

وأمّا إذا قلنا بأنَّ الثابت في موردها المعذرية فما دام العذر متحققاً يكون العمل مجزياً عن الواقع مطلقاً حتى بعد رفع العذر لإطلاق أدلة إعتبارها, ثم بعد إنكشاف الخلاف يكون العمل على الواقع فقط لسقوطها عن الإعتبار حينئذٍ, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثاني(1): القول بالسببية في حجية الأمارات والأصول؛ بحيث تكون مصلحة الواقع متداركه بالأمارة فلا تجب الإعادة ولا القضاء, وقد إختلف الأصوليون في كيفية حجية الأمارات والأصول ومعنى السببية والطريقية وذكروالها إحتمالات متعددة نذكرها على وجه الإيجاز ويأتي التفصيل في بحث الحجج والأمارات, وهي:

1- السببية الأشعرية -كما يقال-؛ والمقصود منه إنَّه لا حكم في الواقعة لا واقعاً ولا ظاهراً إلا ما أدّى اليه الأمارة والأصل, فيكون الحكم متولداً من نفس أداء الأمارة أو الأصل.

وعلى هذا الإحتمال لا إشكال في التصويب والإجزاء معاً, إذ لا أمر وراء المؤدى ولا معنى لانكشاف الخلاف وعدم الإجزاء.

2- السببية عند المعتزلة -كما يقال أيضاً-؛ والمقصود منه إنَّ الواقع يتغير بأداء الأمارة أو الأصل, فهناك أحكام في المرتبة السابقة على قيام الأمارة أو الأصل, ولكنها تتغير حسب مؤداها على خلافها فتنقلب إلى مؤدى الأمارة أو الأصل.

وهذا أيضاً يستلزم التصويب والإجزاء, لأنَّه لا واقع حتى ينكشف خلافه.

ص: 343


1- . من الوجوه لإثبات الإجزاء للحكم الظاهري.

وبطلان هذين الإحتمالين معروف عند الإمامية.

3- الطريقيّة الصرفة؛ أي أنَّ الحكم الظاهري إنَّما جعل لأجل الحفاظ على الملاكات الواقعية المتزاحمة, وهذا يساوق عدم الإجزاء, لأنَّ الحكم الواقعي حسب الفرض باقٍ في موارد الأحكام الظاهرية على فعليتها وإطلاقها فتجب الإعادة والقضاء. وسيأتي في محله إنَّ هذا الإحتمال غير تامّ على إطلاقه.

4- وجود المصلحة في مؤدى الأمارة أو الأصل مقابل المصلحة الواقعية؛ لأنَّ ظهور الأمر بسلوك الأمارة أو الأصل إنَّما يقتضي كونه ناشئاً من مصلحة حقيقية في مؤداهما, وهذا الإحتمال إنَّما يكون في مقابل إحتمال الطريقية ولكنه لا يقتضي التصويب, وأمّا الإجزاء فقد يقال إنَّ المصلحة الظاهرية المفروضة فيه لا تكون من سنخ المصلحة الواقعية بحيث تستوفي بها, فيكون مقتضى إطلاق الحكم الواقعي عدم التصويب وعدم الإجزاء.

ولكن يمكن مناقشته بأنَّ مقتضى إطلاق دليل الحكم الظاهري هو الإجزاء وعدم الإعادة أو القضاء بعد تدارك تلك المصلحة الواقعية بالمصلحة الظاهرية.

5- السببية بمعنى وجود مصلحة في جعل الحكم الظاهري دفع شبهة إبن قبه من قبح تفويت مصلحة الواقع؛ فإنَّ هذا القبح يرتفع بوجود المصلحة في نفس التفويت. وعليه؛ لا تصويب ولا إجزاء أيضاً, إذ لم يفرض فيه تدارك المصلحة الواقعية المحفوظة.

6- السببية بمعنى المصلحة السلوكية التي نادى بها المحقق النائيني قدس سره في مقام دفع شبهة إبن قبه أيضاً؛ والفرق بينه وبين سابقه إنَّه في الإحتمال السابق تكون المصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري, بينما تكون المصلحة في هذا الإحتمال في

ص: 344

السلوك, أي عمل المكلف بالأمارة. وعليه؛ إنَّ المصلحة الموجودة في السلوك لا تفي بمصلحة الواقع أيضاً, فعند انكشاف الخلاف وارتفاع الجهل في الأثناء وجبت الإعادة فلا إجزاء.

وبعبارة أخرى: إنَّ سلوك الأمارة لم يفوت عليه أكثر من فضيلة أول الوقت لا أصل الفريضة, فإنَّ التدارك لا يقتضي أكثر من ذلك, فيكون مقتضى إطلاق دليل الواقع وجوب الإعادة, كما إنَّه إذا إرتفع الجهل خارج الوقت إنْ قلنا بأنَّ القضاء بالأمر الأول فيجب القضاء, لأنَّ التدارك إنَّما هو بمقدار ما فات وهو مصلحة الوقت لا أصل الفعل الواجب. وإنْ كان القضاء بأمر جديد فقيل بعدم وجوب القضاء لأنَّه فرع الفوت وخسارة المصلحة في الفريضة والمفروض إنَّها متداركة جميعاً بسلوك الأمارة داخل الوقت فيثبت الإجزاء.

وفيه: إنَّ جميع ذلك يبتني على مقدار المصلحة الفائتة والمتداركة وهو مجهول لم يرد دليل في تحديدها وخصوصيتها, ومقتضى الإطلاق في دليل الحكم الظاهري هو الإجزاء حتى بعد الإنكشاف, ولا دليل على إنَّ الشارع يريد المصلحة الفائتة بعد تداركها في تشريع الأحكام الظاهرية, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

وكيف كان؛ فإنَّ مفاد هذه الوجوه الستة أنَّ الإجزاء والتصويب متلازمين ثبوتاً وارتفاعاً؛ فعلى الأولين يثبت الإجزاء ولكنه يثبت التصويب أيضاً, وعلى الإحتمالات الأخرى لا تصويب فيها, كما ينتفي الإجزاء أيضاً.

7- ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1), وذلك بافتراض مصلحة في مؤدى الأمارات والأصول المخالفة للواقع بما هو مؤدى أمارة مخالفة للواقع, فتكون المصلحة فيها

ص: 345


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص157-158.

كذلك في عرض مصلحة الواقع, بمعنى إنَّ مؤدى الأمارة يشتمل على الملاك المطلوب لكنه في هذا العنوان الثانوي لا في المؤدى بعنوانه الأولي, وبذلك إرتفع التصويب وتحقق الإجزاء عنده, فقد حصل الغرض فتحقق الإجزاء, ولا يرتفع الأمر الواقعي التعيني ولم يتبدل إلى الأمر بالجامع بينه وبين مؤدى الأمارة المخالفة بما هو كذلك لاستحالة ذلك فارتفع محذور التصويب أيضاً, ثم ذكر في وجه الإستحالة وجوهاً كلُّها قابلة للمناقشة يأتي ذكرها في الموضع المناسب إنْ شاء الله تعالى.والإشكال فيه كالإشكال في سابقه.

الوجه الثالث(1): لا ريب إنَّ هذا الأمر من الأمور التي يعمّ البلوى بها المجتهدون والعوام على حدِّ سواء ولم يرد من الأئمة الهداة علیهم السلام فيه حديث يمكن إستفادة العلاج في الأمارات المنصوبة من قبلهم والأصول الموضوعة منهم علیهم السلام ؛ التي قد تخالف مؤداها الحكم الواقعي مع إنَّ الإجتهاد عند الإمامية مفتوح, وما ذكره العلماء -لا سيما الأصوليون- في ذلك أمور عقلية قابلة للنقاش والردّ مع شدَّة الخلاف بينهم في الردِّ والنقض, فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأدلة ومصادر تشريعها وما ورد في الموضوعات التي ترتبط بهذا الموضوع المهم, فإذا رجعنا إلى الروايات التي تدلُّ على عدم إجزاء الرأي والإجتهاد -وهي مستفيضة نقلها صاحب الوسائل في كتاب القضاء- يظهر إنَّها لا ربط لها بالمقام؛ فإنَّها تدلُّ على بطلان الآراء الفاسدة التي تقابل قول الإمام المعصوم وتعارضهم.

والحاصل من الظنون الفاسدة كالقياس والإستحسان فلا تشمل الرأي الحاصل من الجدّ والإجتهاد في أحاديثهم والإعتماد على أقوالهم علیهم السلام , بل هي تدلُّ على حجية تلك الآراء

ص: 346


1- . من أدلة الإجزاء.

التي تستفاد من الأمارات والأصول المجعولة, فليس فيها إشارة إلى ما هو مفروض المقام فيما لو أخطأت الواقع, فلا بُدَّ من تنقيح الكلام فيها من الرجوع إلى ما ورد في تشريع نصب الطرق والأمارات, فإنَّ الظاهر من لسان الأدلَّة التي وردت مورد الإمتنان على الأمة في هذا الأمر العام البلوى, وكونها تدلُّ على حكومة أدلة إعتبارها على الواقعيات إنَّ الأثر يترتب على الأدلَّة الواقعية من حين تبين الخلاف ورفع الجهل من دون استئناف العمل من الأول, سواء في الإعادة أو في القضاء كما يقتضيه أيضاً عموم أدلة اعتبار تلك الطرق والأصول, وإنَّ ذلك من لوازم اعتبارها وصحة الإعتذار بها, فإنَّها إنْ طابقت الواقع فلا ريب في الإجزاء وإنْ خالفته فالمكلف معذور في ترك الواقع, ويؤيد ذلك بما يلي:

1- إنَّه تعالى كما يسقط العمل المأتي به عن الإعتبار لأجل بعض الجهات كذلك ينزل العمل الموافق للأدلة الثانوية غير المطابق للواقع منزلة الواقع, ويسقط الإعادة والقضاء.

2- ما ورد في شأن المخالفين إذا إستبصروا, ففي الصحيح عن أبي عبد الله علیه السلام : (إِنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَمِلَهُ النَّاصِبُ فِي حَالِ ضَلَالِهِ أَوْ حَالِ نَصْبِهِ ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وعَرَّفَهُ هَذَا الْأَمْرَ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ)(1)؛ فإنَّ شموله للمقام يكون بالأولى.

3- الطريقة العقلائية في الطرق المعتبرة لديهم؛ فإنَّهم عند تبين الخلاف فيها يرتبون الأثر من حين الخلاف لا الحكم باستئناف العمل من الأول.

4- إنَّ ذلك مطابق لسعة فضل الله تعالى وسهولة الشريعة المقدسة.

ومن ذلك يظهر إنَّه لا تصويب أبداً ولا إنقلاب للواقع, فهو تنزيلي تسهيلي لغير الواقع منزلة الواقع وإسقاطه عن الفعلية لمصالح كثيرة. فما ذكره السيد الصدر قدس سره وغيره من

ص: 347


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص546.

إنَّ بين نفي التصويب وعدم الإجزاء ملازمة غير صحيح, فإنَّه بناءً على ما تقدم بيانه يكون بين المقام والتصويب بوناً بعيداً, فلا ملازمة بين الأمرين أبداً.

نعم؛ قد يستشكل بأنَّ العذرية والإعتذار في تلك الأمارات والأصول قد تكون موقتة بعدم إنكشاف الخلاف فلا تكون مطلقة لتكون دائمية, وعند الشكِّ يكون المرجع قاعدة الإشتغال.

ويرد عليه إنَّه لا شاهد عليه, بل الشواهد على خلافه كما تقدم, مع إنَّه مخالف لإطلاق أدلة إعتبارها الذي يدلُّ على الإجزاء مطلقاً, كما يدلُّ عليه الإجماع على الإجزاء عند تبدل رأي المجتهد إلا إذا دلَّ دليل على الخلاف فلا مجرى لقاعدة الإشتغال في المقام وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

هذا كلُّه فيما إذا انكشف خلاف الحكم باليقين.

أمّا إذا انكشف خلاف الحكم الظاهري بحكم آخر مثله تعبداً فقد ظهر مِمّا ذكرناه إنَّه لا فرق بينه وبين العلم بانكشاف الخلاف, فإنَّ المستفاد من ظواهر أدلَّة جعل الأمارات والأصول ترتب الأثر على الواقع من حين انكشاف الخلاف ورفع الجهل, فلا حاجة إلى إستئناف العمل لا في الإعادة ولا في القضاء, وعرفت أنَّ ذلك من لوازم إعتبارها وصحة الإعتذار بها, لكن الأجدر القول بأنَّ الأعلام قد فصلوا في المقام أيضاً كما هو رأيهم في ذلك إبتعاداً منهم عن ظواهر الأدلَّة وتبعيداً للأدلة الشرعية عن المفاهيم العرفية وإدراجاً للمباحث العقلية الصرفة فيها واعتماداً منهم على الإحتمالات البعيدة التي تبعد المسافة بين المطلوب من جعل الشارع وبين ما يذكروه, ونحن تبعاً لهم نذكر خلاصة ما حررّوه في المقام؛ فقد ذهب جمعٌ كثير إلى أنَّ انكشاف الخلاف تارةً يكون بأمارة مثبتة لجميع اللوازم, وأخرى يكون بأصل عملي؛ أمّا الأول؛ كما إذا أفتى بوجوب صلاة الجمعة بأصل

ص: 348

عملي كالإستصحاب ثم عثر على رواية تدلُّ على وجوب الظهر, فقد قيل بعدم الإجزاء ولزوم الإعادة أو القضاء, لأنَّه مدلول إلتزامي للأمارة نفسها على كلِّ تقدير, ولكن عرفت أنَّ المدلول الإلتزامي لجعل الأصل والمعذرية هو الإجزاء كما هو ظاهر وله إعتباره فيترتب الأثر من حيث الإنكشاف, كما إنَّ الإجزاء يوافق سهولة الشريعة المقدسة وسماحتها إلا أنْ يدلَّ دليل على الخلاف, فما ذكروه من أنَّ عدم الإجزاء هو المدلول الإلتزامي للأمارة مخالف للمدلولالإلتزامي لجعل الأصل والطرق الشرعية والترجيح للثاني لإطلاق أدلَّتها الشامل كما بعد الإنكشاف أيضاً؛ فلا تجب الإعادة.

وأمّا فيما إذا كان إنكشاف الخلاف بالأصل فقد ذكر وجوهاً فيه, أهمها:

الوجه الأول: إنكشاف الخلاف بالإستصحاب في الشبهات الموضوعية؛ فإمّا أنْ يكون الإنكشاف داخل الوقت كما إذا توضأ فشكَّ في أثناء وضوئه وبنى على قاعدة التجاوز, ثم ظهر له بعد ذلك إجتهاداً أو تقليداً عدم جريانها في أثناء الوضوء؛ فإنَّه يرجع إلى إستصحاب عدم الإتيان بالجزء المشكوك من وضوئه فتجب عليه الإعادة, بل يصح الإعتماد على قاعدة الإشتغال بعد الشكِّ في الفراغ من التكليف.

وإمّا أنْ يكون الإنكشاف خارج الوقت؛ فقد يقال بأنَّه لا إشكال في وجوب القضاء فيما إذا قيل بأنَّ القضاء بالأمر الأول, أو يكون موضوعه عدم الإتيان الثابت بالإستصحاب, وأمّا إذا كان موضوعه الفوت فقد ذهب صاحب الكفاية إنَّه لا يمكن إثباته باستصحاب عدم الإتيان لأنَّه مثبت, فيكون المرجع هو أصالة البراءة عن وجوب القضاء.

وأورد عليه بأنَّه يلزم منه عدم وجوب القضاء حتى إذا انكشف الخلاف داخل الوقت ولكنه ترك الإعادة فيه حتى خرج الوقت, فإنَّه يشكّ أيضاً في توجه أمر جديد إليه ولا يمكن إثبات موضوعه بالإستصحاب فتجري البراءة أيضاً.

ص: 349

ورد بأنَّ المكلف في هذا الفرض يصدق عليه أنَّه قد فاتت عليه الفريضة الواجبة ظاهراً بالإستصحاب فيجب عليه القضاء إلا إذا لم يصل اليه الإستصحاب فلا يصدق عليه الفوت كما هو معلوم, لأنَّ الحكم الظاهري متقوم بالوصول والتنجز.

وأجيب عنه بأنَّ ظاهر دليل وجوب القضاء المفروض إنَّه أمر جديد هو الوجوب الواقعي كما هو الحال في سائر الأوامر, وحينئذٍ إنْ كان موضوع هذا الوجوب الواقعي هو فوت الواقع فلا يمكن إحرازه, وإنْ كان الأعم من الواقع والظاهر فيلزم منه في حقِّ الشخص الذي فرضنا إنَّه ترك الإعادة في الوقت يجب عليه القضاء في خارج الوقت كوجوب واقعي, بمعنى إنَّه يجب عليه القضاء حتى لو إنكشف بعد الوقت صحة صلاته وكونها مطابقة للمأمور به. وهذا لم يلتزم به فقيه.

ولكن قيل في حلِّ الإشكال أصلاً إنَّ دليل القضاء ليس مثل الأوامر الإبتدائية الصرفة, فإنَّ الظاهر كون القضاء تبع للشيء المتدارك كقاعدة الميسور,فإنْ كان المتدارك واجباً فهذا واجب, وإنْ كان ظاهرياً فهو ظاهري ويرتفع بانكشاف صحة الفريضة الواقعية, وبهذا يتم التفصيل بين من انكشف له الخلاف في داخل الوقت ولكنه قصّر ولم يعد حتى خرج الوقت فيجب عليه القضاء لما فاته منالفريضة المنجزة عليه في الوقت إذا لم ينكشف له صحة عمله الواقعي وبين من انكشف له الخلاف في خارج الوقت.

ويظهر الجواب عن جميع ذلك مِمّا ذكرناه آنفاً.

وأمّا في خصوص الفرض الذي ذكروه فيمن قصّر في الإعادة في الأثناء حتى إنقضى الوقت فإنَّ إشتغال الذمة يقتضي القضاء بعد الوقت بعد الشكِّ في إبراء ذمته بعد تحقق موضوعه وهو تحقق عدم الإتيان ولا حاجة إلى ما ذكروه من الإستصحاب حتى يورد عليه بما ذكروه؛ هذا إذا قلنا بالإعادة في أثناء الوقت وإلا فلا تجب مطلقاً, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 350

الوجه الثاني: نفس الوجه السابق ولكن مع فرض الشبهة حكمية لا موضوعية. كما إذا أفتى بوجوب صلاة الظهر بدليل إجتهادي ثم عدل عن ذلك فأفتى بوجوب الجمعة لاستصحاب بقاء وجوبها الثابت في عصر الحضور مثلاً؛ ففي الوقت يجب الإتيان بها, وفي خارج الوقت يجب القضاء, بمعنى قضاء الجمعة بالظهر كما تقدم آنفاً من تفصيل إنَّه إمّا بالأمر الأول أو إنَّ موضوعه عدم الإتيان لا الفوت وإنْ قيل بالقضاء حتى على الأخير, لأنَّ الموضوع مركب من أمرين؛ فوت شيء وأنْ يكون واجباً, وفي المقام تحقق الفوت بعدم إتيان الجمعة وجداناً, وهو واجب بالإستصحاب, فيثبت وجوب القضاء بخلاف الصورة السابقة.

ويظهر الجواب مِمّا ذكرناه سابقاً مع إنَّه يمكن أنْ يقال بأنَّ إنتزاع التركيب في عنوان الفوت غير صحيح, فإنَّ الفوت لم يكن منتزعاً من عدم الإتيان بشيء مطلقاً بل هو منتزع من ترك الواجب كما هو واجب فلا يمكن إثباته باستصحاب وجوب الشيء.

الوجه الثالث: إذا كان الأصل الجاري هو أصالة الإشتغال بملاك منجزية العلم الإجمالي كما إذا عدل عن رأيه بوجوب صلاة الظهر تعييناً -مثلاً- فحصل له علم إجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة, وفي المقام لا إشكال في وجوب الإحتياط قبل العمل وأمّا بعد العمل ففيه فرضان:

الأول: أنْ لا يصلي أحدهما داخل الوقت حتى يخرج الوقت؛ فهل يجب عليه القضاء؟.

الثاني: أنْ يحصل له الإنكشاف بعد أنْ صلى الجمعة مثلاً؛ فهل يجب عليه الظهر إحتياطاً أداءً في داخل الوقت أو قضاءً خارجه؟.

أمّا في الفرض الأول؛ فقيل في تقريب القضاء وجوهٌ:

منها: دليل تبعية القضاء للأداء في الأمر, فكلما ثبت أمر أدائي ولو ظاهراً وتنجيزاً على المكلف فلم يأتِ به وجب قضاؤه كذلك. ولكن تطبيقه في المقام مشكل, لأنَّه يتوقف على

ص: 351

افتراض أنَّ دليل القضاء يشمل الوظائف التي يقررها حكم العقل, ولا ينظر إلى فوت الأحكام الشرعية بالخصوص.ومنها: التمسك باستصحاب عدم الإتيان بالواجب الواقعي بناءً على إنَّ موضوعه عدم الإتيان.

وأورد عليه بانتفاء أحد أركان الإستصحاب فلا يجري, لأنَّه لا شكَّ هنا في ما أتى به وفيما لم يؤت به ولم يكن عنوان الواجب بما هو واجب موضوعاً للقضاء بل هو واقع الواجب مِمّا لاشك فيه.

الثالث: العلم الإجمالي الجاري في التدريجات؛ بأنْ يعلم إجمالاً ومن أول الأمر بوجوب الجمعة عليه أداءً أو الظهر خارج الوقت قضاءً؛ لو لم يأت به داخل الوقت.

وردَّ بأنَّه ليس في المقام علماً إجمالياً بالتكليف إلا إذا كان عازماً وجازماً من أول الأمر إنَّه لا يأتي بالظهر داخل الوقت على كلِّ حالٍ.

الرابع: إنَ القضاء بالأمر الأول وقد تنجَّز على المكلف بالعلم الإجمالي, فيجب الإحتياط وإفراغ الذمة عنه من غير فرق بين داخل الوقت أو خارجه.

وفيه: إنَّه مبنيٌّ على أنَّ القضاء بالأمر الأول. وهو غير تامّ كما عرفت.

الخامس: إنَّ المكلف يعلم إجمالاً بوجوب صلاة الظهر عليه خارج الوقت أو وجوب الجمعة عليه في الجمعة القادمة, وهو علم إجمالي في التدريجيات أيضاً ولكنه علم فعلي في ظرفه على كلِّ حالٍ؛ وهو أنْ يكون في الواجبات التكرارية كالظهر والجمعة, وأمّا غيرهما كالقصر والتمام الذي لا يعلم المكلف الإبتلاء بالسفر وتكرره عليه فلا يجري فيه هذا الوجه فينحصر الحكم فيه على الإحتياط.

هذ كله في الفرض الأول, وهي تبتني على مجرد الإحتمالات والفروض من دون النظر إلى ظواهر الأدلَّة الثانوية الإمتنانية.

ص: 352

وأمّا الفرض الثاني؛ وهو ما إذا حصل له العلم الإجمالي بعد أداء أحد طرفيه, كما إذا حصل له العلم الإجمالي بعد أداء صلاة الجمعة في داخل الوقت أو خارجه؛ قيل إنَّه لا يجري فيه الوجوه؛ الأول والثالث والرابع حتى لو تمت في الفرض السابق لعدم تنجيز العلم الإجمالي فيها, لأنَّ أحد طرفيه خارج عن مورد الإبتلاء فلا يجب على المكلف إعادة طرفه الآخر في الوقت أداءً أو خارجه قضاءً.

وأمّا الوجهان الآخران -وهما الثاني والخامس- فلا يجريان في الفرض السابق كما لا يجريان في هذا الفرض كما عرفت.

والإشكال فيه كما ذكرناه في الفرض السابق؛ فإنَّه إبتعاد عن مفاد الأدلَّة الثانوية الإمتنانية.

الوجه الرابع: إذا كان الأصل العملي أصالة الإشتغال التي تبتني على أساس الدوران بين الأقل والأكثر لا على أساس منجزية العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر, وإلا كان مثل الوجه الثالث, باعتبار إنَّه في الأقل يحصل الغرض ويسقط الوجوب, وتجري الوجوه المتقدمة لإثبات الإعادة أو القضاء باستثناء الوجهالخامس منها لأنَّه لا يمكن أنْ يقال بالعلم الإجمالي بوجوب الأكثر عليه الآن أو الأقل في الزمان القادم, لأنَّ الأقل معلوم الوجوب في الزمان القادم على كلِّ حالٍ.

وبالجملة؛ إنَّه لا بُدَّ من الرجوع إلى إطلاق كلِّ واحدٍ من الدليلين؛ دليل الأمر الواقعي ودليل الأمر الظاهري, فإذا ثبت إطلاق الأمر الواقعي فلا بُدَّ من الإعادة أداءً أو قضاءً عند انكشاف الخلاف وهو مقتضى القاعدة أيضاً.

وأما إذا انعكس الأمر فكان لدليل الأمر الظاهري إطلاق, وإذا ثبت إنه لا إطلاق لدليل الأمر الواقعي كما في الأدلَّة اللبية, أو ورد تخصيص لإطلاقه كما بالنسبة إلى حديث لا تعاد في الصلاة, أو ورد إجماع على التخصيص كما في تبدل رأي المجتهد؛ فإنَّه في جميع ذلك مقتضى القاعدة منها هو الإجزاء من دون الحاجة إلى الإعادة أو القضاء.

ص: 353

وأمّا إذا إشتبه الأمر ولم يكن ترجيح أحد الإطلاقين على الآخر فإنَّ الأصل يقتضي الإحتياط ولا بُدَّ من الرجوع إلى الأدلَّة, وهو من شؤون الفقيه, ولا يصحُّ إفتراض الوجوه العقلية بل لا تزيد المسألة إلا تعقيداً.

الجهة الرابعة:

العمل بما حصل من الإعتقاد وتخيّل الأمر وتوهّمه؛ كما إذا تصور حكماً ظاهرياً أو واقعياً ثم إنكشف الخلاف.

والمعروف عدم الإجزاء بطريق أولي إنْ قلنا بعدمه في الموارد السابقة, فإنَّه لا يتم في المقام ما ذكروه في السابق مِمّا يدلُّ على الإجزاء, فلا حكومة لهذا الأمر الظاهري على الأمر الواقعي كما عرفت, فالقاعدة تقتضي عدم الإجزاء.

نعم؛ يخرج مورد واحد فيما إذا كان الإعتقاد مستنداً إلى الإجتهاد الصحيح, فيكون من تبدل الرأي الذي أجمعوا على الإجزاء فيه والله أعلم.

ص: 354

الأمر الثاني مقدمة الواجب

اشارة

الأمر الثاني(1) مقدمة الواجب

قبل الخوض في البحث ينبغي تقديم ما يلي:

أولاً: إنَّ البحث في الوجوب المقدمي يكون في الوجوب المولوي الترشحي عن وجوب ذي المقدمة, وليس المراد به اللا بُدّية التكوينية؛ فإنَّها عين المقدمية, كما أنَّه ليس المراد به اللا بُدّية العقلية بمعنى عدم صحة الإعتذار عن ترك ذي المقدمة بتركها؛ فإنَّه لا نقاش فيه ومسلَّم عند الجميع, ولا الوجوب المولوي المجعول بالجعل المستقل على عنوان المقدمة؛ لوضوح أنَّ ذلك يتوقف على الإلتفات التفصيلي من المولى إلى المقدمة مع أنَّه ربَّما لا يكون مطلقاً أو لا يكون ملتفتاً إليها.

فالمقصود هو الوجوب المولوي الترشحي, وهو الجعل الإرتكازي الشأن؛ بحيث لو إلتفت إليها لطلبها.

ثانياً: المراد بالمقدمة؛ مقدمات وجود الواجب, أي ما يتوقف إيجاد الواجب على إيجاده, لا مقدمات الوجوب, لأنَّ الوجوب فيه يكون مقيداً أو مشروطاً بالمقدمات الوجوبية بخلاف المقدمات الوجودية, كما أنَّ الفرق بينهما يكون بلحاظ الملاك, فإنَّ مقدمات وجود الواجب لا تكون دخيلة في اتّصاف الفعل بكونه ذا ملاك ومصلحة, بخلاف مقدمات الوجوب؛ فإنَّها إذا كانت إختيارية وداخلة تحت قدرة المكلف فلا محالة يكون وجودها دخيلاً في الإتّصاف, ولأجل ذلك أخذ قيداً وشرطاً للوجوب, ومن هنا لا يتوهم ترشح الوجوب عليها.

وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 355


1- . من أمور الملازمات العقلية غير المستقلة.

ثالثاً: إنَّ البحث ليس في الدلالة الإلتزامية اللفظية حتى تكون المسألة لفظية كما قد يظهر من صاحب المعالم قدس سره (1) ليكون الأمر بشيء يدلُّ على وجوب مقدماته بالدلالة الإلتزامية اللفظية, بل البحث إنَّما يكون في مطلق الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته, فإنَّ أصل هذه الملازمة محلُّ نزاع, فيقع البحث في نفس الملازمة الواقعية بين طلب الشيء وطلب مقدماته, ولا وجه لقصر البحث على خصوص الدلالة اللفظية الإلتزامية البيّنة؛ فإنَّ نتائج هذا البحث لا تقتصر عليها أيضاً.

وبعبارة أخرى: إنَّ البحث يكون في مقام الثبوت, ولا معنى لإيقاعه في مقام الإثبات ليكون البحث عن مدلول اللفظ بأيِّ واحد من الدلالات أو عدمه.

ومن هنا كان هذا البحث من الملازمات العقلية غير المستقلة؛ لأنَّ الكلام في أنَّ العقل يحكم بوجوب الملازمة بين تعلق الإرادة بوجوب شيء لوجود ملاكمصلحة فيه وبين تعلق إرادة أخرى ترشحية بالنسبة إلى مقدماته الوجودية, فالبحث عقلي صرف ولا ربط له بمقام الألفاظ.

رابعاً: النزاع في كون هذا البحث من المسائل الأصولية أو الفقهية أو غيرها أو كونها مسألة إستطرادية؛ فقد ذكر جمع من الأصوليين أنَّه يمكن أنْ يكون فيها ملاك المسألة الفقهية والمسألة الكلامية والمسألة الأصولية؛ لأجل وقوعها في طريق الإعتذار لدى المولى, كما هو الحال كذلك في كثير من المسائل الأصولية, ولا تكون من المسائل الإستطرادية في هذا العلم جزماً؛ كما عرفت من الأثر المترتب عليه؛ وهو الصحيح.

ولكن ذهب آخرون إلى أنَّ هذه المسألة لا يمكن أنْ تكون من المسائل الفقهية, وذكروا لذلك وجوهاً؛ منها: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) من أنَّ المسألة الفقهية إنَّما يكون

ص: 356


1- . معالم الدين؛ ص61.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص213.

موضوعها أمراً خاصاً كوجوب الصلاة أو الصوم ونحو ذلك, بخلاف ما إذا كان موضوعها عنواناً عاماً ينطبق على عناوين خاصة كما في المقام؛ فلا تكون مسألة فقهية.

وأورد عليه المحقق العراقي قدس سره (1) بالنقض ببعض المسائل الفقهية التي يكون موضوعها عاماً لا يختص بباب معين, كمسألة وجوب الوفاء بالنذر, فإنَّه عام يشمل منذور صلاة أو صومة أو حجة أو غيرها, ومسألة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده, فإنَّ الموصول يعمُّ جميع العقود, وغير ذلك.

ومنها: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (2) من أنَّ المسألة الفقهية ما كان الحكم المبحوث عنه فيها ناشئاً عن ملاك واحد, ووجوب المقدمة لا يكون كذلك, لأنَّ وجوب كلّ مقدمة بوجوب ذيها, فملاكه يكون بملاك وجوب ذيها, وغير خفي إختلاف ملاكات الأحكام, فلا تكون هذه المسألة من الفقهية.

وأورد عليه بأنَّه يمكن تصوير الملاك الواحد, وهو كون وجوب المقدمة بعنوان أنَّها مقدمة, فيكون ملاك المقدمية في الجميع واحد, فإنَّه الذي يوجب ترشح الوجوب عليها, هذا وإنَّ تعيين الضابط لمسائل العلم لا يكون إختيارياً لكل أحد من العلماء, وإلا لا وجه للإشكال عليه طرداً أو عكساً, بل لا بُدَّ من أنْ يكون تحت الملاك الجامع الذي يجمع جميع المسائل تحت عنوان خاص ينتزع إمّا من الذات أو الهدف أو الغرض أو ما يصطلح عليه بإسم خاص, وقد تقدم في أول هذا الكتاب مايتعلق بذلك؛ فراجع.

ومنها: إنَّ البحث في المقدمة إنَّما يكون عن مطلوبية مقدمة المطلوب بقول مطلق من دون الخصوصية للوجوب والإستحباب, وإنَّما يذكر الوجوب في عنوان البحث لأجل أهميته بالنسبة إلى الإستحباب, وعليه؛ لا تكون من المسائل الفقهية.

ص: 357


1- . بدائع الأفكار؛ ج1 ص313.
2- . المصدر السابق؛ ص312.

والظاهر: إنَّ جميع ذلك أدّى إلى إختلافهم في تعيين موضوع الفقه؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

وقيل: إنَّها من المبادئ؛ لا أنْ تكون أصولية ولا فقهية, لعدم توفر ضابط كلٍّ منهما في المقدمة, لأنَّ المسألة الأصولية ما كانت نتيجتها رافعة لتخيير المكلف في مقام العمل؛ إما تكويناً أو تعبداً, وهذا الملاك لا يوجد في مسألة وجوب المقدمة أو لا تخيير للمكلف في مقام العمل.

والمسألة الفقهية ما يبحث فيها عن عوارض الفعل الشرعية لا مطلق العوارض الشرعية, ولا أثر عملي في المقدمة, ولذا تكون من المبادئ, لأنَّ ثمرتها العملية تحقيق صغرى مسألة التعارض بناءً على الوجوب, أو صغرى مسألة التزاحم بناءً على عدم الوجوب, ومسألة التعارض والتزاحم من المسائل الأصولية.

وفيه: ما عرفت في بدء بحث الأصول من أنَّ المسألة الأصولية ما إذا وقعت في مقام إعتذار المكلف لدى المولى, والمسألة الفقهية ما يبحث فيها عن ثبوت الحكم الشرعي؛ مولوياً كان أو تخييرياً, نفسياً أو ترشيحاً, وكِلا الملاكين موجودان في المقدمة, ولا وجه لعدِّها من المبادئ, فالصحيح وجود ملاك كلٍّ من المسألة الفقهية والمسألة الأصولية والمسألة الكلامية.

خامساً: ذكر صاحب الكفاية(1) بعد البحث الطويل في المقدمة الذي ذكر فيه أموراً نظرية دقيقة أنَّه لا ثمرة عملية لهذا البحث, ولم يكن بِدعاً في ذلك, فإنَّ كثيراً من علماء الأصول يعترفون بانتفاء الثمرة العملية بل العلمية في أبحاثهم بعد الكلام الطويل فيها؛ فقد ذكروا في توجيه ذلك وجوهاً لا تخلو من المناقشة, وليس من مجرد أنَّ العلم بها خير من الجهل,

ص: 358


1- . ذكر ذلك بعد بيان كلام الوحيد البهباني رحمه الله في الكفاية؛ ص124.

بل العلة من أجل وجود مباحث علمية دقيقة نظرية لها آثار عملية في الفقه ومقام الفتوى, فمن تلك الأبحاث التي ذكرت في بحث المقدمة هو البحث عن إمكان الشرط المتأخر ومعقوليته؛ فإنَّه وإنْ لم يكن له علاقة بمسألة وجوب المقدمة الذي قد حظي باهتمام العلماء ولكن له آثار عملية فقهية مهمة قبل إمكان الإلتزام بالكشف للإجازة في العقد الفضولي, وفي النماء المتجدد الحاصل بين زمان العقد والإجازة, ومثل البحث في المقدمات الموصلة في أنَّ المشروع من المقدمات العبادية هي المقدمات الموصلة أو الأعم منها, ومثل البحث في إمكان الواجب المعلق وعدمه؛ الذي له الأثر الفقهي المهم, كلزوم الإتيان بها بعد دخول وقت الواجب.

وغير ذلك من المباحث التي ذكرت في المقام وغيره, فإنَّه وإنْ لم يترتب عليها الأثر في الأصول, فلعلَّ الأصوليين إنَّما تطرقوا إليها في علم الأصول مع علمهمبأنَّه لا ثمرة عملية فيها, بل ربَّما لا تكون فيها ثمرة علمية ملحوظة تذكر لأجل ظهور آثارها في علم الفقه, لشدَّة الإرتباط بين العلمين.

ثمَّ إنَّ الكلام يقع في جهات:

الجهة الأولى: في تقسيمات المقدمة

قسَّم الأصولين المقدمة إلى تقسيمات عديدة؛ منها: المقدمة الوجوبية والوجودية, كما تقدم وإلى المقدمة العقلية والشرعية والعادية, وإلى داخلية وخارجية, وإلى الشرط المقارن والمتقدم والمتأخر.

والظاهر: إنَّه لا أثر كبير يترتب على هذه التقسيمات المذكورة في كتبهم سوى الأثر المهم الذي عقد بحث المقدمية لأجله, وهو ما إذا تحققت المقدمية, فيأتي النزاع المعروف في وجوبها؛ سواء كانت المقدمة ذاتية, أي المقدمات العقلية أو الشرعية نشأت من تقييد الواجب

ص: 359

بفعل معين كالوضوء, فيصير واجب المقيد به معلقاً عليه ومتوقفاً به إلا أنَّ المهم من تلك التقسيمات هو التقسيم الأخير, وهو الشرط المقارن والشرط المتقدم, فقد عقد الكلام في أصل معقوليتها وما يترتب عليه من الآثار الفقهية, ولكن الأصوليين ذكروا تلك التقسيمات؛ فلا بأس بذكرها تبعاً لهم:

التقسيم الأول: ذكر السيد الوالد قدس سره (1) أنَّ المقدمة إمّا داخلية محضة كالأجزاء بالنسبة إلى الكلّ, وإمّا خارجية محضة كالفاعل والغاية, وإمّا برزخ بينهما كالشرط والمعدّ؛ فإنَّ فيها جهتين؛ التقيد ونفس القيد, فمن الجهة الأولى تكون داخلية ومن الجهة الأخرى تكون خارجية كما قيل تقيّد جزء وقيد خارجي, وهو يشبه بعض الأمور التي تكون برزخاً بين الشرطية المحضة والجزئية الصرفة كالنية في العبادات.

وبتعبير آخر: إنَّ الأجزاء المأخوذة في المأمور به تسمى بالداخلية, وأمّا إذا كانت أمور خارجة عن الماهية التي يتوقف وجود المأمور به عليها تسمى بالخارجية.

كما يصحّ القول بأنَّ المقدمة إمّا داخلية بالمعنى الأخص وهي الأجزاء, أو بالمعنى الأعم وهي الأجزاء والشرط والمعدّ.

والكلُّ صحيح وإنْ إختلفت تعبيراتهم, ولا ثمرة تترتب عليها, وإنَّما الكلام يقع في جهتين:

الأولى: في صحَّة إطلاق المقدمة على الأجزاء الداخلة؛ باعتبار أنَّ المقدمة المبحوث عنها متقدمة بالتغاير الوجودي مع ذيها.

وعليه؛ تخرج المقدمات الداخلية عن مفروض البحث لاتّحاد الكلّ مع الأجزاء وجوداً, فلا إثنينية في البين.

ص: 360


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص204.

وقد حاول المحقق الخراساني قدس سره (1) الجواب عن الإشكال المزبور بأنَّ الأجزاء بأسرها فيها جهتان واقعيتان يترتب أحداهما على الأخرى, إذ أنَّ لكلِّ جزء جهة ذاته, وجهة اجتماعه مع الآخر؛ وهي عارضة على الأولى, فتكون متقدمة على الثانية تقدم المعروض على العارض, وعليه؛ إذا لوحظت الأجزاء من جهة ذاتها كانت المقدمة, وإذا لوحظت من جهة الإجتماع كانت الكلّ, فتكون المقدمة سابقة على الكلّ وذي المقدمة سبق المعروض على العارض.

فيكون الفرق بين الأجزاء والكلّ هو أنَّ الأجزاء ما إذا لوحظت لابشرط, والكلّ ما لوحظ بشرط شيء, وهو ناشئ من الفرق بين المادة والصورة في الأجزاء الخارجية, والجنس والفصل في الأجزاء التحليلية, فإنَّه لا يصحُّ حمل المادة على الصورة, بينما يصحُّ الجنس والفصل, وقيل في الفرق بينهما بأنَّ الأجزاء الخارجية مأخوذة بشرط لا فلا يصحُّ حملها, وأمّا الأجزاء التحليلية فإنَّها مأخوذة لابشرط في الحمل.

ولكن الحق إنَّ الإتّحاد بين الجزء والكل متحقق عقلاً وعرفاً, فلا إثنينية في البين حتى تتحقق المقدمية, وأمّا التغاير الإعتباري وإنْ أمكن تصوره عقلاً كما ذكر ولكنه لا يفيد بعد إتّحاد الجزء والكلّ خارجاً, وإنَّ الكلّ عين الأجزاء باعتبار الإجتماع, والأجزاء الفعلية وإنْ كانت غير الكلّ, مع قطع النظر عن هذا الإعتبار ولكنه ليس مناط المقدمية, فيكون وجوب الأجزاء عين وجوب الكلّ كالعكس, فليس إلا وجوب واحد منسوب إلى كلِّ واحد من الكلّ والأجزاء بنحو الإنبساط, كما هو الشأن في التوليدات كالإحراق والإلقاء في النار؛ فليس فيها إلا وجوب واحد منسوب إلى السبب المولِّد (بالكسر) والمسبب المولد عنه, فلا إثنينية فيها عرفاً وإنْ كانت متحققة واقعاً ولكنها خارجة عن مورد الكلام في المقام.

ص: 361


1- . كفاية الأصول؛ ص90.

الثانية: في دخولها في محلِّ النزاع بناءً على التغيير.

وقد قرر بعض الأعلام دخول المقدمات الداخلية في محل النزاع لوجهين:

الوجه الأول: عدم وجود المقتضي للوجوب الغيري, لقصور الدليل عن إثبات وجوب المقدمة الترشحي وذلك لعدم ذيها, لأنَّ ما يدلُّ على وجوب المقدمة وترشح الوجوب عليها إنَّما هو الإرتكاز العقلائي العرفي, وهو يختصّ بما إذا كان هناك مغايرة بين وجود المقدمة ووجود ذيها, لا ما إذا كان بينهما الإتّحاد كما في المقام, وإنَّما يصحُّ تصوير المقدمية بينهما وبحسب الفرض العقلي فقط, فالدليل قاصر عن إثبات وجوبها.

الوجه الثاني: وجود المانع من تعلق الوجوب الغيري بها, لأنة عين الكل في الوجود, فكان الأمر النفسي المتعلق بالكلِّ متعلق بالأجزاء حقيقةً, فهي واجبة بالوجوب النفسي, فإذا تعلق بها الوجوب الغيري يستلزم منه إجتماع حكمين علىموضوع واحد وهو محال, فلو فرض وجود المقتضي فيها فإنَّ المانع يمنع عن تعلق الوجوب الغيري بها.

وقد أورد على ما ذكر بوجوه عديدة, أهمهما:

أولاً: إنَّه يكفي في رفع المانع القول بتعدد الوجه والعنوان كما ذكرنا في مبحث اجتماع الأمر والنهي, فكما إنَّه يرفع غائلة إجتماع الحكمين المتضادين, فهو يكفي في رفع إجتماع الحكمين المتماثلين, لأنَّه يوجب تعدد المعنون.

ثانياً: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّه لا مانع في اجتماع الحكمين في المقدمة إذا كان أحدهما مؤكداً للآخر, فيكون وجوب المقدمة وجوباً مؤكداً وليس هو بعادم النظير, فإنَّ صلاة الظهر واجبة بالوجوب النفسي وهي مقدمة لصلاة العصر, فيكون فيها ملاك الوجوب المقدمي مع الوجوب النفسي فيها.

ص: 362


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص218.

والحقُّ؛ إنَّ شيئاً مِمّا ذكر لا يصلح للمنع إذا كان هناك إثنينية وتغاير بين المقدمة وذيها في الأجزاء الداخلية, فإنَّه مبنيّ على كون الوجوب من أقسام العرض, وقد ذكرنا أنَّ الوجوب -بل مطلق الحكم- إعتبار خاص, فلو وجد ما يوجب الإعتبار فلا مانع من اجتماع المثلين فيها, كما لا مانع في اجتماع المتضادين فيها, وتقدم في بحث اجتماع الأمر والنهي ما يتعلق بذلك؛ فراجع.

ومِمّا يهوِّن الخطب ما عرفت من أنَّه لا تغاير بين الاجزاء والكلّ, فلا مقدمية بينهما, فيخرج عن موضوع بحث المقدمة موضوعاً.

التقسيم الثاني: إنقسامها إلى المقدمة العقلية والشرعية والعادية

أمّا العقلية فهي التي يتوقف عليها وجود الشيء عقلاً.

وأمّا الشرعية فهي التي يتوقف عليها وجود الشيء شرعاً.

وأمّا العادية فهي ما يتوقف وجود الشيء عليها عادة.

وأشكل على هذا التقسيم؛ لأنَّه إذا كانت بلحاظ أصل التوقف الداخلي فالجميع عقلية؛ إمّا لأجل القاعدة العقلية المعروفة (إنتفاء المشروط بانتفاء شرطه والمركب بانتفاء جزئه, سواء كان المشروط أو المركب عقلياً أو شرعياً أو عادياً), وذلك لأنَّ ما يتوقف على وجوده شرعاً لا يكون إلا بأخذه شرطاً وجزءاً من الواجب والمأمور به.

وأمّا العادية؛ فإنَّ تسميتها بالمقدمة محلّ كلام, إذ المقدمية قوامها التوقف العادي وهي لا تكون كذلك, فإطلاق المقدمة عليها مبني على المسامحة.

أو لأجل أنَّ الحكم في الشرعية والعادية إذا كان عقلياً فلا حكم فيها إلا ما حكم به العقل, فلو حكمنا بشيء لكان إرشاداً إلى حكم العقل, اللهم إنَّ للشرع والعرف أنْ ينزّل الفاقد للشرط أو الجزء منزلة الواجد في مجعولاتها لغرض استيلائها عليها موضوعاً وحكماً,

ص: 363

ولكن لا ربط لذلك بالمقدمية الذي مورد البحث, ولأجل ذلك أنكر جمعٌ من الأصوليين هذا التقسيم.

التقسيم الثالث: إنقسامها إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجوب ومقدمة الوجود ومقدمة الإمتثال ومقدمة العلم, ولا وجه لهذا التقسيم أيضاً؛

أمّا مقدمة الصحة؛ فلأنَّها ترجع إلى المقدمة الوجودية الداخلية أو الخارجية منها, فإنَّ صحة العمل ترجع إلى إحدى المذكورات.

وأمّا مقدمة الوجوب؛ فلأنَّه لا واجب قبل حصول المقدمة حتى يترشح منه الوجوب إلى مقدمته, وبعد الحصول لا معنى للترشيح لأنَّه من تحصيل الحاصل.

وأمّا مقدمة الوجود؛ فهي أيضاً ترجع إلى مقدمة الصحة إذا كان المراد الوجود الصحيح كما هو الحقّ, وإلا إذا كان المراد منه مطلق الوجود فهو خارج عن مورد البحث جزماً, لأنَّ البحث في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمى.

وأمّا مقدمة الإمتثال؛ فلأنَّ المتحقق فيها اللابُدِّية العقلية وليس فيها الوجوب المولوي الترشحي, وقد ذكرنا في بداية البحث خروج اللابُدِّية العقلية عن بحث المقدمة.

وأمّا مقدمة العلم؛ فإنَّها لا يتوقف عليها وجود الواجب واقعاً فإنَّ الصلاة إلى أربع جهات محتملة لا تكون دخيلة في حصول نفس الواجب الواقعي.

نعم؛ لها الدخل في حصول ما هو واجب عقلاً وهو حصول العلم بالإمتثال, فتكون واجبة بالوجوب العقلي الإرشادي لا الوجوب الشرعي المولوي الترشحي, وقد عرفت في بداية البحث خروج الوجوب العقلي عن مورد البحث أيضاً.

والحقُّ؛ خروج هذه التقسيمات عن مورد البحث سوى ما ذكرناه في المقدمة الخارجية أو الداخلية بالمعنى الأعم.

ص: 364

التقسيم الرابع: إنقسامها بلحاظ الزمان

حيث تنقسم بلحاظ الزمان إلى المقارنة, كالإستقبال في الصلاة والعربية في الإيجاب والقبول في العقود. والمتقدم, كتقدم الوصية على حصول الملكية للموصى له بعد موت الموصي في الوصايا التمليكية. والمتأخر, كالإجازة في العقد الفضولي في حصول الملكية من حين العقد بناءً على الكشف, أو شرطية الأغسال الليلية في صحة صوم المستحاضة في اليوم السابق -كما ذكره البعض-.

وهذا التقسيم من أهم البحوث التي ذكرت في بحث المقدمية؛ لما يترتب عليه من الآثار في الفقه ومقام الفتوى كما عرفت.

ولا يخلوا هذا التقسيم من الإشكال أيضاً, فقد وقع الكلام في معقولية الشرط المتأخر كما يأتي مفصلاً إنْ شاء الله تعالى.

الجهة الثانية:
اشارة

في الشرط المتأخرمقتضى القاعدة العقلية المتَّفق عليها عند الجميع الثابتة بالدليل والبرهان (إستحالة تخلف المعلول عن العلة)؛ فإنَّه بناءً على تأخر الشرط عن المشروط يستلزم تقدم المعلول على علَّته؛ وهو ممتنع, لأنَّ تقدم العلة بجميع أجزائها وجزئياتها على المعلول بالرتبة؛ كتأخر المعلول عن علته كذلك لا أنْ يكون زمانياً, ومنه يعلم إلحاق تقدم الشرط على المشروط في الإمتناع أيضاً؛ لاستلزامه تخلّل الزمان بين العلة والمعلول.

وقيل في وجه الإشكال أيضاً بأنَّ للمقدمة والشرط دخل في وجود المشروط وتحققه, بحيث يكون من أجزاء علته, فإذا تحلل الزمان بين الشرط والمشروط وفرض وجود المشروط في زمان سابق على وجود الشرط الذي هو دخيل في التأثير؛ لزم أنْ يؤثر المعدوم, وهو الشرط في الموجود, وهو المشروط، وتأثير المعدوم في الموجود محال.

ص: 365

وبعبارة أخرى: إنَّ الشرط المتأخر إمّا أنْ يؤثر في مشروط أو لا.

والثاني خلف معنى الشرطية.

والأول يستلزم منه تأثير المعدوم في الموجود إذا أريد منه كون الشرط مؤثر في المشروط حين تحقق الشرط في الزمان المتقدم أو إلى تغيير الواقع عمّا وقع عليه إذا أريد منه التأثير حين تحقق الشرط في الزمان المتأخر؛ وكِلاهما محال عقلاً, وقد إختلفوا في حلِّ الإشكال.

وتحقيق الكلام فيه يقع في أمور ثلاثة:

1- في الشرط المتأخر في الحكم, أي الوجوب.

2- في الشرط المتأخر في المأمور به, أي الواجب.

3- في الشرط المتقدم؛ حيث ألحقهُ جمعٌ بالشرط المتأخر.

المقام الأول: كما في شرطية غسل المستحاضة في الليلة القادمة في صحة صومها لليوم السابق, أو شرطية الإجازة في صحة العقد وترتب الأثر عليه بناءً على الكشف, فقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره (1) الإشكال المزبور فألزم نفسه وغيره حلَّه, وقد ذكروا في حلِّه وجوهاً:

الوجه الأول: ما ذهب اليه بالتصرف في المراد من الشرط, حيث أفاد بأنَّ الشرط والمؤثر في الحقيقة ليس ما هو المصطلح عليه في الشرط في المعقول, بل هو أمر مقارن للمشروط, وهذا الأمر ثابت في الشرط المقارن أيضاً, وهو الوجود العلمي اللحاظي المتأخر لا الخارجي, والوجود الذهني اللحاظي مقارن للحكم مطلقاً, لأنَّ الحكم والوجوب أثر قائم في نفس المولى لا في الخارج, فمقتضى قانون السنخية بين العلة والمعلول أنَّه إذا كان الأخير -وهو الحكم- من الأمورالذهنية فلا بُدَّ أنْ تكون العلة -وهي الشرط أيضاً-

ص: 366


1- . كفاية الأصول؛ ص93.

كذلك, ويمتنع أنْ تكون من الأمور الخارجية, فالحكم الشرعي؛ تكليفاً أو وضعاً من أفعال المولى الإختيارية, فهي صادرة عن إرادته ومنبعثة عنها, فلا وجه لتأثير الشرط الخارجي فيه, فيكون تصور الشرط في مرتبة الحكم وليس متأخراً عنه ليرد المحذور. واعترض عليه المحقق النائيني قدس سره (1) بأنَّه نقلُ الكلام إلى غير موضعه, وقد نشأ من الخلط بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية, فقد خلط بين الوجوب بمعنى الجعل والوجوب بمعنى المجعول, فإنَّ الجعل قضية حقيقية شرطية لا يتوقف على وجود الشرط خارجاً, وإنَّما يكفي لحاظه وتصوره من قبل الجاعل, وأمّا المجعول -وهو الحكم الفعلي- فإنَّه لا محالة يتوقف على فعلية الشرط وتحققه خارجاً.

وعليه؛ إذا كان متأخراً لزم منه محذور تأثر المتأخر في المتقدم.

وبذلك تفترق القضايا الحقيقية عن القضايا الخارجية من هذه الجهة, أي إنفكاك الحكم المجعول عن الجعل والإنشاء زماناً, كما إنَّه تفترقان من جهة أخرى أيضاً وهي: إنَّ المؤثر في ثبوت الحكم في القضايا الخارجية هو علم المولى بتحقق الموضوع وتشخيصه لذلك, فينشأ الحكم فعلاً على الموضوع الخارجي, بخلاف القضايا الحقيقية؛ فإنَّه ليس الأمر كذلك, فإنَّ الحكم إنَّما ينشأ على تقدير الموضوع, فيدور مدار ثبوته الواقعي لا مدار علم المولى, وقد تقدم بيانه.

وعلى ضوء ما ذكرناه يكون نظر المحقق النائيني قدس سره هو: إنَّ الأحكام المنشأة بنحو القضية الحقيقية هي التي يمكن أنْ يتصور دخل الأمور الخارجية فيها, فيقع البحث في إمكان أنْ يفرض أمراً متأخراً عن الحكم وجوداً له الدخل في وجود الحكم وتحققه, دون ما ينشأ بنحو القضية الخارجية التي لا تأثير للأمور الخارجية فيها, فإنْ علم المولى هو المؤثر فيها وهو مقارن وإنْ كان المعلوم متأخراً أو متقدماً لعدم تأثيره.

ص: 367


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص122.

والمحقق النائيني قدس سره يوافق صاحب الكفاية في إستحالة المتأخر, لكن فيما إذا كان الحكم منشأ على نحو القضية الحقيقية, لأنَّ ثبوت الحكم متفرع على ثبوت الشرط, فلا بُدَّ أنْ يفرض وجوده في مرحلة ثبوت الحكم, وهذا هو معنى فرض وجود الموضوع الذي يتوقف فعلية الحكم عليه. فيمتنع أنْ يعلق الحكم على أمر متأخر عنه ويكون شرطاً له, إذاً الحكم -على هذا- يوجد قبل وجود الأمر المتأخر, وهو خلف كما عرفت.

وبهذا التقريب ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى إمتناع الشرط المتأخر.

وكيف كان؛ فإنَّ تحقيق الكلام فيما ذكره قدس سره يستدعي بيان حقيقة الحكم؛ الذي هو الإنشاء والجعل وارتباطه بالأمور الخارجية, فهل يكون المجعول أو المعتبرغير عالم الجعل والإعتبار, فيكون مرتبطاً بالأمور الخارجية؟ وقد اختلفوا فيها على مسالك:

المسلك الأول: القول باختلاف المجعول عن الجعل, فإنَّ للإعتبار عالم غير عالم المعتبر, وقد إختاره المحقق النائيني قدس سره (1) فيحقق الجعل دون المجعول؛ لأنَّ الأخير يرتبط بأمور خارجية تتحقق فيما بعد نظير الوصية التمليكية, فإنَّ الموصي ينشئ التمليك حال الحياة مع عدم حصول الملكية إلا بعد الوفاة, فيكون الإعتبار منفكَّاً عن المعتبر.

وعليه؛ فإنَّ فعلية الجعل لا تلازم فعلية المجعول, بل يرتبط الأخير بأمور خارجية تدور مدارها وجوداً وعدماً, ومن هذه الجهة يقع البحث في الشرط المتأخر, وعلى هذا الأساس بنى كثير من آرائه الأصولية كامتناع الشرط المتأخر, والواجب المطلق وغير ذلك.

وقد أشكل عليه بوجوه أهمها: إنَّ نسبة الإعتبار إلى المعتبر كنسبة الإيجاد إلى الوجود؛ لا إنفكاك بينهما, فهما متَّحدان زماناً وإنْ كان بينهما تغايراً إعتبارياً نظير الماهية المتصورة في الذهن, فإنَّه لا تنفكّ عن التصور, فلا يوجد التصور بدون الماهية المتصورة, لأنَّ واقعها هو التصور, كذلك لا ينفكّ المعتبر عن الإعتبار والمجعول عن الجعل.

ص: 368


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص127 وص145.

المسلك الثاني: القول بأنَّ الإعتبار بحسب ذاته وواقعه يرجع إلى الفرض, نظير التخيل والإدّعاء, كأنياب الغول.

نعم؛ إذا كان الإعتبار متعنوناً بعنوان حسن؛ كما إذا كان ذا مصلحة سمّي إعتباراً وخرج عن مجرد الفرض والتخيل, وهذا التعنون بالعنوان الحسن المقوم لتحقق الإعتبار والمعتبر ربما يكون مرتبطاً بأمور خارجية تكون دخيلة في ذلك الإعتبار, فيتَّحد الإعتبار والمعتبر, ولا ينفكّان, إلا أنَّهما قد يتأخران في التحقق بتأخر التعنون بالحسن باعتبار إرتباطه بالأمور الخارجية, وعلى هذا الأساس يقع البحث عن الشرط المتأخر, فيقال: هل يمكن أنْ يكون من الأمور الخارجية التي تؤثر في حصول العنوان الحسن وتحقق الإعتبار والمعتبر ما يكون متأخراً عن ترتب الأثر أولا؟.

ويرد عليه بأنَّ الإعتبار عبارة عن الإنشاء والجعل بداعٍ عقلائي لا أنْ يكون من مجرد الفرض والبناء حتى يكون مثل أنياب الأغوال. وعليه؛ لا يمكن تأخير الإعتبار عن الجعل الذي لا ينفكّ عنه المجعول والمعتبر, ولا يتوقف ثبوته على ترتب الأثر.المسلك الثالث: ما يظهر من المحقق العراقي قدس سره (1)؛ وهو عدم إنفكاك الجعل والمجعول, فلا يكون للجعل عالم خاص يختلف عن عالم المجعول فهما في عالم واحد, فتكون فعلية المجعول نفس فعلية الجعل, إلا أنَّ فعلية المجعول وإنْ ثبتت بالجعل لكن فاعليته قد تنفصل عنها فيحصل الإنفكاك بين الفاعلية والفعلية لتوقف الأولى على بعض الأمور الخارجة, ومن هذه الجهة يقع البحث في الشرط المتأخر؛ فيقال: هل يمكن أنْ يكون تأثير أمر في الفاعلية متأخراً عنه أو لا.

ص: 369


1- . نهاية الأفكار؛ ج1 ص275.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّه بعد تمامية الحكم بجميع جهاته لا وجه لعدم ترتب الأثر عليه حتى يتوقف على أمر لا يرتبط بالحكم.

ثانياً: إنَّه بناءً على ذلك يخرج عن موضع البحث الذي هو تقييد نفس الحكم وتعليقه على شرط متأخر, لا تقييد ترتب الأثر عليه بشرط متأخر, مع كون نفس الحكم ثابتاً بقول مطلق.

المسلك الرابع: إنَّ الحكم هو اعتبار عقلائي, فلا يكون جعلاً أو عرضاً يحتاج إلى محلٍّ معروض.

وغير ذلك مِمّا قيل في الوجوه السابقة, فتكون تسميته بالجعل على نحو المسامحة باعتبار كونه مِمّا يسبب جعل العقلاء, وهذا الإعتبار العقلائي قد يكون مطلقاً وقد يكون مقيداً مرتبطاً بأمر خارجي تبعاً لقصد المعتبر والمنشئ, فلا يتحقق الإعتبار إلا مع ذلك الأمر وفي ظرفه على النحو الذي قصده.

وعليه؛ لا ينفكُّ المجعول عن الجعل العقلائي وارتباطه بالقيود أيضاً مِمّا يعتبره العقلاء, سواء كانت القيود ذهنية أو خارجية, ولا وجه للتشكيك في كيفية ارتباطه بالأمر الخارجي كما سيظهر أيضاً.

ومن جميع ذلك يظهر وجه المناقشة فيما ذكره المحقق النائيني قدس سره ؛

أمّا أولاً: فلأنَّه لا تفكيك بين الجعل والمجعول, بل الحكم إعتبار محض يعتبره العقلاء مطلقاً أو على حدٍّ مخصوص.

وثانياً: إنَّه إذا أُخذ الحكم مرتبطاً بأمر متأخر فإنَّما يكون كيفية هذا الإرتباط بيد المولى الجاعل, فلا بُدَّ من إتّباع كيفية جعله, فإذا أخذه مفروض الوجود في زمان متأخر ويكون تأثيره في ثبوت الحكم بهذا النحو, كما لا يمتنع أنْ يوجد الحكم قبله.

ووفق ذلك يظهر الجواب عن إشكال المحقق الخراساني قدس سره .

ص: 370

الوجه الثاني(1): ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2) من أنَّ البعث له إعتبارين؛ إعتبار أنَّه فعل من أفعال المولى, واعتبار أنَّه موجود حقيقي وأنَّه بالإعتبار الأخير يتأثر بالخارجيات, فنفس الفعل وإنْ كان من أفعال المولى؛ إلا أنَّ وجود الإعتبار والمعتبر يرتبط بالعنوان الحسن الذي يتأثر بالأمور الخارجية.

وقد عرفت الجواب عنه بأنَّ الإعتبار هو القرار والبناء بداعٍ عقلائي وليس من مجرد الفرض والتقدير مع أنَّ الإعتبار إذا تعنون بالعنوان الحسن لا يخرجه عن حقيقته إذا كان بمعنى الفرض والتقدير الذي هو فعل من أفعال المولى المستلزم لامتناع تأثرّه بالخارجيات, فاختلاف الإعتبار واللحاظ في البحث لا يستلزم تغير حقيقته.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (3) في وجه تصحيح الشرط المتأخر مطلقاً في الشرعيات والتكوينيات, وذلك بإرجاع الشرط إلى كون المشروط في جميع تلك الموارد إنَّما هو الحصة التوأمة مع الشرط؛ فالشرط حينئذ قرين المشروط, لا أنْ يكون متقدماً أو متأخراً, لأنَّ حقيقة الشرط ليست هي بالمعنى المعروف؛ وهو المتمم لتأثير المقتضي أو قابلية القابل؛ حتى يمتنع تأخره كما عرفت استحالته, بل معناه كونه ظرفاً لإضافة المقتضي إليه فيتحدد بها ويتحصص بواسطتها, فيكون بهذه الإضافة مؤثراً من دون أنْ يكون لنفس الشرط تأثير في وجود المعلول, فالمؤثر ليس إلا المقتضي؛ لكنه بنحو الحصة الخاصة منه أو يكون طرفاً لإضافة المعلول إليه, فيكون بهذه الإضافة قابلاً للتأثير.

وعليه؛ فلا يمتنع أنْ يكون طرف الإضافة من الأمور المتأخرة بعد أنْ كانت مقارنة, ولم يكن للأمر المتأخر أي تأثير.

ص: 371


1- . من وجوه الجواب عن إشكال المحقق الخراساني قدس سره .
2- . في حاشيته في مقام الإيراد على صاحب الكفاية.
3- . نهاية الأفكار؛ ج1 ص275.

وبعبارة أخرى: إنَّ الشرط بهذا المعنى يرجع إلى العنوان الإنتزاعي.

وفيه: إعتبار الشرط بهذا المعنى خلاف ظاهر لفظه الذي هو نفس الأمر المتأخر لا العنوان الإنتزاعي, فإنَّ الحصة من الإعتبارات المحضة, فليس الشرط المتأخر بمعنى أنْ يكون ممتنعاً, وبمعنى آخر: يكون معقولاً, والحال بهذا المعنى المعقول يكون خلاف ظاهر لفظه, مع إنَّه يرجع إلى اللحاظ فيرجع إلى ما ذكره صاحب الكفاية.

الوجه الرابع: ما ذكره بعض المعاصرين(1) من التفصيل بين عالم الجعل وعالم المجعول وعالم الملاك فقال: إنَّه بلحاظ عالم الجعل إمّا أنْ يمكن تقريب المحذور باستحالة تأثير المتأخر من المتقدم.وجوابه ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره .

وإمّا أنْ يكون ما ذكره المحقق النائيني قدس سره , وهو لزوم التهافت في عالم اللحاظ لدى الجاعل فيما إذا افترض أنَّ الشرط هو اللحاظ للشرط, لأنَّ المولى عند إرادته لإيجابٍ على العبد؛ الصوم مثلاً في يوم السبت على تقدير الغسل ليلة الأحد فلا بُدَّ من تقدير ولحاظ صدور الغسل منه في ليلة الأحد.

وهذا الفرض والتقدير إنَّما يكون عند انتهاء الصوم يوم السبت والفراغ منه, فكيف يمكنه أنْ يوجب على هذا التقدير صوم يوم السبت.

وجوابه: إنَّ التقدير والفرض سهل المؤونة, فإنَّه يكون بيد الملاحظ وله التقدير كيفما شاء وأراد من دون لزوم التهافت في اللحاظ.

وأمّا بلحاظ المجعول؛ فإنَّه تقدم وجه الإشكال فيه عن المحقق النائيني قدس سره , وهو مبني على وجود عالم آخر يسمى المجعول؛ مقابل عالم الجعل, وقد عرفت أنَّ الجعل والمجعول

ص: 372


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص180.

كالإيجاد والوجود؛ لا إثنينية فيهما؛ فهما شيء واحد.

وأمّا بلحاظ عالم الملاك؛ فإنَّه ذكر أنَّه يصعب الجواب عن الإشكال, لأنَّ شرط الوجوب يكون مؤثر في إتّصاف الفعل بأنَّه ذو ملاك ومصلحة, الذي هو أمر تكويني, فيكون المؤثر فيه الشرط بوجوده الخارجي لا اللحاظي, فيلزم محذور تأثير المتأخر في المتقدم.

وأجاب عنه بوجهين:

الأول: إمّا أنْ يكون دخل الشرط المتأخر في الواجب المتقدم في زمن الشرط لا في الزمن المتقدم, لكون المحتاج إليه إمّا هو جامع الفعل, كالصوم الأعمّ من الواقع في اليوم المتقدم والمتأخر. وإمّا خصوص الفعل المتقدم مع خصوصية فيه تفوت على المكلف إذا لم يفعله في اليوم المتقدم.

الثاني: أنْ يكون الإحتياج حاصلاً في زمان الواجب المتقدم, فلا يكون الشرط المتأخر هو الذي يولد الإحتياج, لكنه يكون عدم تحققه فيما بعد موجباً لمفسدة أشدّ, ومثل ذلك كثير عند العرف. ولكن الحق إنَّ ذلك تطويل بلا طائل تحته بعدما عرفت أنَّ الحكم أمر إعتباري يعتبره المولى بما يشاء وكيفما يريد.

أمّا ما ذكره أخيراً في الملاك من أنَّ شرط الوجوب يكون مؤثراً في إتّصاف الفعل بأنَّه ذو ملاك ومصلحة, وهو أمر تكويني يصعب تعلقه بالشرط المتأخر, لأنَّه يكون من تأثير المتأخر في المتقدم, ثم وجَّه ذلك بأحد التوجيهين السابقين؛ فإنَّه أمر لا يمكن قبوله وجداناً, فإنَّ الفعل قد صدر من المكلف ملحوقاً بالشرط المتأخر ولم يكن متوقفاً عليه من الوجود, إلا أنَّ التأثير المترتب على الفعل, وهو ترتب المصلحة عليه هو مجموع الفعل الصادر من المكلف والشرط المتأخر, فمع تحقق الشرط المتأخر على القضايا التكوينية, وهو الذي وقع الأعلام فيه فذكرواما ذكروه من الإشكالات والمناقشات مع إنَّه يمكن

ص: 373

لنا القول بأنَّ المصلحة والملاك لا تقتصر على وجودهما في الفعل, بل ربَّما تكون في نفس الحكم والتشريع, فإنَّ أهم المصالح المترتبة عليه هو داعوية العبد إلى الطاعة وتهيئة إلى نيل الكمالات الواقعية والدرجات الرفيعة, فإنَّها من أهم المصالح, قال تبارك وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1).

الوجه الخامس: ما ذكره السيد الوالد قدس سره (2) بعدما ذكر كلام المحقق الخراساني في تقسيمه الشرط إلى شروط الوضع, كشرطية عقد الوصية للملكية بعد الموت, والإجازة في العقود الفضولية لحصول الأثر قبلها, وشروط التكليف كالعقد والإجازة لوجوب الوفاء, وشروط المكلف به كغسل المستحاضة قبل الفجر لصحَّة صومها, ثم قال: إنَّ مرجع الأولين إلى أنَّ لحاظ الشرع عند الشارع دخيل في حكمه وضعاً أو تكليفاً, فيكون اللحاظ هو المؤثر لا أنْ يكون الأثر للوجود الخارجي حتى يلزم المحذور, فما هو الشرط وهو اللحاظ مقارن وما هو متقدم أو متأخر لا ربط له بالشرطية فلا يستلزم المحذور الذي ذكروه.

وقد أشكل عليه:

أولاً: إنَّه تصرف في ظواهر الألفاظ والأدلَّة بلا شاهد, بل على خلافه الشواهد.

ثانياً: إنَّ اللحاظ إنَّما هو طريق إلى ما في الخارج لا أنْ يكون له موضوعية خاصة, والمحذور باقٍ على حاله, ومرجع الأخير -أي ما كان شرط للمكلف به- إلى أنَّ المتقدم أو المتأخر له الدخل في صيرورة المكلف به معنوناً بعنوان حسن, وهو يوجب بذلك صلاحيته للتقرب به فيرجع إلى الشرط المقارن.

ص: 374


1- . سورة الذاريات؛ الآية 56.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص208.

وفيه: إنَّه إنْ كان الشرط من حيث الوجود الخارجي فهو عين الإشكال مع التقدير بوجه آخر, وإنْ رجع إلى شرطية اللحاظ فهو نفس ما ذكره في الجواب عن الشرط والتكليف وتقدم بطلانه, ثم ذكر كلام المحقق العراقي في إرجاع الشرط إلى الحصة التوأمة مع المشروط, وما ذكره المحقق النائيني قدس سره من إرجاع الشرط إلى العنوان الإنتزاعي المقارن مع المشروط, وقد ردَّهما بأنَّه خلاف المتفاهم من ظواهر الأدلَّة والمنساق من لفظ الشرط.

ثم قال: إنَّ أصل الإشكال يختَّص بالعلل التكوينية والموجودات المتأصلة في الوجود التي تدور عليها المباحث العقلية والبراهين الحكمية المتقنة, وهي تتم في العلل البسيطة لا العلل المركبة من الأجزاء المتدرجة في الوجود, ففي هذه الحالة المفروض تقدم بعض أجزاء المؤثر على بعض وإلا لزم الخلف, فكان الإشكالمن الأصوليين في الشرط المتأخر مخالطة بين العلل البسيطة مع المعلول لا إعتبار التقارن الزماني بين كلِّ جزء من أجزاء العلة.

وأمّا الإعتبارات التي تختلف من التكوينيات من حيث حقيقتها فإنَّ جعلها يدور مدار الإعتبار بالعكس, ولا ريب أنَّ جميع القوانين الوضعية بجميع حدودها وقيودها من الإعتبارات الحسنة العقلائية, فهذه الشبهة وأمثالها إنَّما جعلت من الخلط بين الأمور التكوينية والأمور الإعتبارية.

هذا كلُّه في المقام الأول؛ وهو الشرط المتأخر للوجوب.

وأمّا المقام الثاني؛ وهو الشرط المتأخر للواجب؛ كما في شرطية غسل المستحاضة ليلة الأحد في تأثير المتأخر في المتقدم كما ذكرنا آنفاً؛ فأجيب عنه بأنَّه ليس من باب الشرط حتى يستشكل بما ذكر, بل الشرط فيه يرجع بحسب الحقيقة إلى تحصيص الواجب

ص: 375

بخصوص الحصة التي يتعقبها الشرط, فهو في الواقع من باب تحصيص المفهوم المأخوذ في متعلق الأمر, والمفهوم كما يمكن تحصيصه بقيد متقدم أو مقارن كذلك يمكن تحصيصه بالقيد المتأخر.

وقد عرفت أنَّ ذلك يرجع إلى اللحاظ, وتقدم أنَّ اللحاظ لم يكن له موضوعية بل هو طريق إلى الخارج فيعود الإشكال, مضافاً إلى أنَّ إرجاع الشرط إلى هذا المعنى يحتاج إلى دليل بعد مخالفته لظاهر الدليل.

وأخرى بحسب الملاك والمصلحة, فإنَّ الشرط يكون حينئذٍ بالمعنى الحقيقي, أي: ما كان مؤثراً في تحصيل الملاك كما تقدم, فيجري فيه ما ذكر في وجه إستحالة الشرط المتأخر.

وقد حاول المحقق الخراساني قدس سره الجواب عنه بأنَّ الملاك إنْ كان عبارة عن المصلحة استحكم الإشكال, لأنَّ المصلحة أمر واقعي ووجود تكويني في الخارج, فيستحيل أنْ يؤثر فيه أمر متأخر عنه.

وأمّا إذا كان الملاك عبارة عن الحسن والقبح اللذان هما من المقولات الإعتبارية الواقعية عند الأصوليين.

وعليه؛ يمكن استناده إلى شرط من سنخه كعنوان تعقب الغسل بالشرط أو مسبوقية الفعل به وتقدمه عليه, ولأجله يمكن انتزاع الفعل الحسن.

والقبلية إنَّما تنشأ من مقايسة العقل بين الصوم والغسل, وهي حاضرة دائماً لدى العقل فيكون من الشرط المقارن في الحقيقة.

والحقُّ إنَّ ذلك يرجع إلى شرطية اللحاظ, وقد عرفت الجواب عنه, مضافاً إلى أنَّه مخالف لما هو الثابت من المصالح والمفاسد أيضاً ومعقول في حدِّ نفسه ولا يختَّص بأحكام المولى تعالى بل يجري عند العرف أيضاً.

ص: 376

وذكر السيد الصدر في الجواب(1) بأنَّ الإشكال نشأ من فرض كون المأمور به هو المقتضي للمصلحة المطلوبة, وإنَّ الأمر المتأخر -وهو الشرط في تحقيق تلك المصلحة المطلوبة- لا يكون بالمباشرة, بل إنَّما يوجد أثراً معيناً يكون الحلقة المفقودة بين المأمور به والمصلحة المطلوبة, وهذا الأثر يبقى إلى زمان الشرط المتأخر, فبمجموعها تكتمل أجزاء علة المصلحة المتوخاة فتحصل المصلحة, فيكون المقتضي مجرد موجد لتلك الحلقة المفقودة, ويظهر أنَّ ما هو الشرط المتأخر ليس متأخراً في الحقيقة, وهذا يجري في الأمور التكوينية, وتلحق بها الأوامر التعبدية المولوية, والأمور الإعتبارية التي يرجع أمرها إلى إعتبار المعتبر كما عرفت سابقاً, مع إنَّه على فرض أنَّ الأحكام يجري فيها ما يجري في الأمور التكوينية.

إنَّ الإشكال إنَّما يتمّ في العلل البسيطة لا الأمور المركبة من الأجزاء المتدرجة في الوجود, فإنَّ التقارن الزماني إنَّما يكون بين تلك الأجزاء والمعلول لا زمان الأجزاء, ولعلَّ السيد الصدر أراد هذا ولكنه حاول أنْ يأتي بصيغة فنية, ومع ذلك لا نحتاج إلى إفتراض الحلقة المفقودة.

المقام الثالث: المتأخر من الشرط المتقدم الذي ألحقه المحقق الخراساني قدس سره بالشرط من الإشكال, وقد عرفت أنَّ العلة بتمام أجزائها لا بُدَّ أنْ تقترن مع المعلول زماناً, وإنَّ التقدم بينهما رتبي فقط؛ فلو تقدم الشرط يستلزم منه تأثير المعدوم في الموجود وهو محال.

وقد انفرد قدس سره بهذا الإشكال(2), وإنَّ أغلب المحققين على خلافه, حيث لم يستشكلوا فيه فلم يلحقوه بالشرط المتأخر, ولعلهم إعتمدوا على الوجدان, إلا أنَّ برهان المحقق

ص: 377


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص183.
2- . كفاية الأصول؛ ص93.

الخراساني قدس سره لا يمكن إهماله بناءً على رأيهم في الشرط, ولأجل ذلك تصدى بعض الأصوليين للجواب عنه والجمع بين الوجدان والبرهان, فقد ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره أنَّ الشرط قد يكون إعدادياً, فلا يكون تقدمها على المعلول زماناً محال.

وتوضيح ذلك: إنَّ الشرط إمّا أنْ يكون متمّماً لفاعلية الفاعل, أو قابلية القابل, ولا بُدَّ فيها من التقارن مع المعلول.

وإمّا أنْ يكون معدَّاً بمعنى كونه مقرباً للشيء من الإمتناع نحو الإمكان, بحيث إذا تحققت علته صار موجوداً, نظير من يريد الجلوس على الكرسي فيتقدم بخطوات نحوه لكي يتمكن من الجلوس عليه؛ فإنَّ هذه الخطوات يمكن أنْ تكون متقدمةعلى الجلوس الذي هو المعلول, ولكنها غير دخيلة في قابلية القابل ولا فاعلية الفاعل, فقال: إنَّ الشرط المتقدم ربَّما يكون من هذا القبيل.

إلا أنَّ الصحيح إنَّ ما ذكره قدس سره لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنَّ قوله الشرط هو المقدمة الإعدادية لتقريب الشيء من الإمتناع إلى الإمكان يحتمل معانٍ؛ فإمّا أنْ يراد به تقريب الممتنع بالذات -كاجتماع النقيضين- إلى الإمكان فهذا خلف فرض كونه ممتنعاً بالذات.

وإمّا أنْ يراد به التقريب من الممتنع بالغير, أي: الممتنع بعدم علته؛ فهو غير معقول إلا بتقريبه إلى عليته بأنْ يكون شرطاً دخيلا في وجوده, وحينئذٍ فبوجوده يقترب الشيء إلى الإمكان مقابل الإمتناع بعدم العلة, وفي هذه الحالة يأتي السؤال أنْ كيف يكون دخيلاً في وجوده, وهو متقدم أو متأخر عنه في الوجود؟.

وإمّا أنْ يراد به بالإمكان الإستعدادي؛ كاستعداد الحبَّة بأنْ تصير زرعاً, فإنَّه لو لم يكن فيها الإستعداد الخاص لما بلغت إلى مرحلة النضوج والزرع, وهذا النوع يحتاج إلى أمور لها الدخل في النمو؛ كالماء والتربة الخاصة والحرارة المعينة ونحو ذلك.

ص: 378

وعليه؛ يفترض أنْ يكون الشرط المتقدم يعطي للشيء الإمكان الإستعدادي لإيجاد المصلحة خارجاً, وهذا المعنى من الإستعداد والتهيؤ إنْ فرض كونه أمراً إعتبارياً فلا ريب أنَّ الأمر الإعتباري لا يكون دخيلاً في وجود شيء خارجاً, وإنَّ فرض كونه أمراً حقيقاً وحالة خارجية تنشأ في الحبة ونحوها, وهي تبقى إلى أنْ تلحق سائر أجزاء العلة, فهذا في الحقيقة شرط مقارن, فإنْ سمي ذلك بالإمكان الإستعدادي فهو من مجرد الإصطلاح ولا مشاحة فيه.

والحقُّ؛ إنَّ أصل الإشكال نشأ من الخلط بين الأمور الإعتبارية كالأحكام والأمور التكوينية, فإنَّ الإعتبار يتحمل ما لا يتحمله الأمر التكويني, فلا فرق بين الشرط المتقدم والمتأخر وبين الشرط المقارن في الأمر الإعتباري ولا محذور فيه.

ختام ينبغي التنبيه على الأمور التي لها التعلق بالبحث السابق:

الأمر الأول: الإرتباط بين شيء وآخر تارةً يكون تكوينياً كالحاصل بين أجزاء العلة التي لها الدخل في وجود المعلول, والبحث عن خصوصيات هذا النوع من الإرتباط لقانون العلية, ويكون من مباحث العلوم الفعلية.

وأخرى: تكون بين الأمور الإعتبارية, وقد ذكرنا أنَّه يكون تحت إرادة المعتبر ومشيته, وهو يتحمل من المسامحة ما لا يتحملها الإرتباط التكويني كما عرفت سابقاً.

وثالثة: يكون بين الجعل والإنشاء والأمور الخارجية, ويكون مرجع هذا الإرتباط هو كيفية الإنشاء والجعل, فإنَّ الإعتبار العقلائي تابع لقصد الجاعل والمنشئ, فقد يكون قصده تحقق المعنى المجعول في ظرف معين, فلا يتحقق الإعتبار إلا فيذلك الظرف, وهذا المعنى من الإرتباط ليس مثل ارتباط العلة بالمعلول حتى يكون الأمر الخارجي

ص: 379

دخيلاً في تحقق الإعتبار ومؤثراً فيه حتى يناقش بأنَّ الإرتباط فعل من أفعال العقلاء تابع للإرادة, ولا يعقل تأثره بما هو خارج عن أفق النفس من الخارجيات, بل الإرتباط بينهما ناشئ عن كيفية الإنشاء والجعل وتابع لقصد المنشئ, فإذا أنشأ المعنى وقصد تحققه في فرض وتقدير خاص كان الإعتبار في ذلك الظرف الخاص, وعند ذلك التقدير بلا تأثير له للخارجيات فيها أصلاً, ومن ذلك كلّه يظهر فساد جملة من الإشكالات والمساجلات التي ذكرها الأصوليون في المقام.

الأمر الثاني: في تحقيق الفرض والتقدير الذي ورد في كلمات المحققين في المقام ومنهم المحقق النائيني قدس سره ؛ حيث قال(1): الموضوع إنَّ القضية الحقيقية مأخوذ فيها على نحو الفرض والتقدير في الوجود, وحينئذٍ يأتي الكلام في الأمر المتأخر أو القيود المأخوذة في القضية الحقيقية مطلقاً هي على نحو فرض الوجود, وهل هي تكون مِمّا يكون من متعلق التكليف أو تكون من قسم آخر, فإنَّ المعروف أنَّ بعض القيود ترجع إلى متعلق التكليف فلا يجب تحصيله, كالأمور غير الإختيارية التي ترجع إلى متعلق التكليف مثل الوقت, أو كالأمور الإختيارية التي أخذت قيداً بوجودهِ كالمسجد في مثل صلِّ في المسجد, لا أنْ تكون مأخوذة بذاتها حتى يجب تحصيله, نظير أخذ الطهارة في الصلاة, فإنَّ كلاً من المسجد والوقت مِمّا لا يلزم تحصيله مع كونها راجعة إلى المتعلق, لأنَّ متعلق التكليف هو الحصة الخاصة كالصلاة في الوقت أو في المسجد, وبعض القيود ترجع إلى المتعلق لكنها قيداً للحكم فيتقيد الحكم بها, كظرف الحكم فإنَّه إذا تحقق في زمان خاص كان مقيداً به واقعاً, مع إنَّ ذلك الزمان لم يؤخذ قيداً في المتعلق, بل هو مطلق في حيِّز الحكم من جهة وإنْ كان لا ينفكُّ عنه حقيقة.

ص: 380


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص127 وص145.

وحينئذٍ يقع الكلام في أنَّ قيود الحكم في القضية الحقيقية المفروضة الوجود, وخصوص الأمور غير الإختيارية منها؛ هل هي راجعة إلى المتعلق حتى تكون من قيوده, فيكون المتعلق هو الحصة المتقيدة بها وإنْ لم يلزم تحصيلها, أو إنَّها لا ترجع إلى المتعلق, والثمرة تظهر أنَّه إذا كانت راجعة إلى المتعلق, ومن قيوده كان فرض الشرط المتأخر ممكناً, لأنَّ مرجعه إلى تقييد متعلق الحكم وإضافته إليه يجعله الحصة المضافة إليه بنحو من إتّخاذ الإضافة, ولا ريب أنَّ كيفية الإضافة والتقييد بيد الجاعل, فيصحّ أنْ يقيد المتعلق بالمتأخر بجعله الحصة المتقيدة بذلك الأمر كتقيده بالمقارن وجعله الحصة المقارنة له, وهذا بخلاف ماإذا لم تكن راجعة إلى المتعلق, فإنَّه لا يمكن أنْ يؤخذ ما هو متأخر من الحكم قيداً له.

والحقُّ؛ إنَّ هذا النزاع لا يرجع إلى محصل بعد جعل الأحكام من الأمور الإعتبارية التي يكون زمام أمرها بيد المعتبر, وقد ذكرنا أنَّ كيفية إرتباطها بالأمور الخارجية تحت مشيئة الجاعل والمنشئ, مع إنَّ الوجدان يقضي على عدم رجوع بعض تلك القيود إلى متعلق الحكم, فليس لنا قاعدة كلية على أنْ يكون قيد غير الإختيارية راجع إلى المتعلق, لا سيما إذا قلنا بأنَّ تحقق الحكم إنَّما يكون تابعاً لتحقق ملاكه والمصلحة التي تثبت في متعلقة.

وهذه القيود إمّا أنْ ترجع إلى إتّصاف الفعل بالمصلحة وهي التي تكون دخيلة في تحقق الإرادة التي ينبعث عنها الحكم وهذه القيود لا يجب تحصيلها.

وإمّا أنْ ترجع إلى فعلية مصلحة الفعل وترتبها عليه, وهذا يوجب التحصيل, والشروط المأخوذة على نحو فرض الوجود كلها تكون دخيلة في إتّصاف الفعل بالمصلحة, فتكون سابقة على الإرادة والحكم, فلا يتَّجه أخذها في متعلق الحكم, فلا وجه لما ذكره المحقق النائيني قدس سره .

ص: 381

الأمر الثالث: إنَّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنَّ القضايا التي تستعمل في تشريع الأحكام تارةً تكون حقيقية. وأخرى: تكون خارجية. ورتب على كلِّ واحدٍ منها ما عرفت سابقاً.

والظاهر أنَّه لا وجه لهذا التقسيم؛ فإنَّ القضايا المستعملة في تشريع الأحكام تقنين القوانين كلها من القضايا الحقيقية, وهذا مِمّا لا يخفى على كلِّ من له حظٌّ من العلم.

ثمَّ إنَّ جمعاً من الأصوليين ذكروا في هذا المقام من مبحث المقدمة أقسام الواجب, ولكن نحن ذكرناها في تقسيمات الواجب من مباحث الأمر تبعاً للسيد الولد قدس سره في كتابه؛ فراجع.

الجهة الثالثة: الأقوال في وجوب المقدمة
اشارة

إختلف الأصوليون في صياغة الوجوب الغيري إطلاقاً وتقييداً من حيث الوجوب أو الواجب بعد الإتّفاق على أنَّ وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والإشتراط, إذ لا معنى للتبعية إلا هذا المعنى, ولكنهم إختلفوا في معروض الوجوب لعنوان المقدمة على أقوال, وهذه الأقوال تجري في الوجوب الشرعي الترشحي واللا بُدّية العقلية أيضاً دون غيرهما, وهي:

القول الأول: ما نسب إلى المشهور

ما نسب إلى المشهور(1)؛ من أن معروض الوجود ذات المقدمة بلا قيد ولا شرط, لأنَّ المناط في المقدمة والتمكن من إتيان ذيها, وهذا ينطبق على الذات بلا قيد ولا شرط.

وبعبارة أخرى: إنَّما هو الإطلاق بالوجوب والواجب وعدم تقييدهما بقيد زائد على شرائط الوجوب النفسي السارية إلى الوجوب الغيري أيضاً.

ص: 382


1- . ذكره في تهذيب الأصول؛ ج1 ص210.
القول الثاني: ما يظهر من صاحب المعالم

القول الثاني: ما يظهر من صاحب المعالم قدس سره (1)؛ من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم والإرادة على إتيان ذيها, فيكون ذات المقدمة عند إرادة ذيها, لأنَّ عنوان المقدمة متقوم بالغير فلا بُدَّ من إرادته.

وقد اعترض عليه بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (2) بأنَّه يشبه طلب الحاصل وهو محال, لأنَّ ارادة ذي المقدمة مستلزمة لإرادة المقدمة لا محال, فتقييد وجوبها شبيه من طلب الحاصل.

وفيه: إنَّ اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذيها؛ إمّا أنْ يراد به إرادة ذي المقدمة من غير هذه المقدمة -بمعنى سدّ باب عدمه من ناحية غيرها- فهذا ليس من طلب الحاصل, كما هو واضح.

وإمّا أنْ يراد به كون الشرط يرجع إلى صدق قضية شرطية قوامها أنَّه لو أتى بالمقدمة لأتى بذي المقدمة, ومن المعلوم أنَّ صدق الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها, وهذا المعنى صحيح ولا محذور فيه, لكن لا ربط له بالمعنى الذي يريده صاحب المعالم.

وإمّا أنْ يراد بالشرط إرادة ذي المقدمة بالفعل ومن جميع الجهات, ولعل مراد المحقق العراقي في مناقشته المزبورة هذا الوجه, ومع ذلك لا يلزم المحذور, لأنَّ تحصيل الأصل إمّا أنْ يكون من جهة التهافت في عالم الجعل لأنَّ طلب شيء يستلزم لحاظ المطلوب مفقوداً في الخارج حين الطلب, فيكون فرض حصوله مستلزماً للتهافت. أو من جهة اللغوية, لأنَّ الأمر من أجل قدح الداعي نحو المطلوب لتحصيله, فلو أخذ فيه حصوله كان طلبه لغواً.

ص: 383


1- . معالم الدين؛ ص71.
2- . مقالات الأصول؛ ج1 ص323.

وكِلا الأمرين باطلان؛ أمّا الأمر الأول فلأن الشرط ليس هو حصول المقدمة, بل إرادة ذيها, وأمّا الثاني فلأنَّ وجوب المقدمة وجوب غيري تبعي ليس له جعل مستقلّ فلا داعوية له مستقبلاً فلا يلزم اللغوية.الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ الوجوب الغيري لو كان مشروطاً بإرادة الواجب النفسي فمع عدم ذلك لا يكون الوجوب ثابتاً, وحينئذٍ؛ لو قلنا بأنَّ الوجوب النفسي باقٍ على حاله لزم التفكيك بين الوجوب النفسي والغيري وهو خلف الملازمة والتبعية فيها.

وإنْ قلنا بارتفاع الوجوب النفسي كان معنى ذلك إشتراطه بإرادته والعزم عليه وهو خلاف الواقع؛ إذ ليست الواجبات النفسية مشروطة بسدِّ باب عدمها من غير ناحية المقدمة, بل سدُّ كلِّ أبواب عدمها.

وفيه: إنَّ ذلك كلُّه تكلف واضح لا حاجة في صرف الوقت.

الوجه الثالث: إنَّه لا وجه لتعليق الوجوب على الإرادة مطلقاً, وإلا ينسلخ الوجوب عن وجوبه, ولعل مراد المحقق النائيني قدس سره وغيره مِمَّن أشكل على القول المزبور هذا المعنى؛ مع أنَّه لا يتمُّ في المقدمات التوصلية غير المتقومة على القصد والإرادة فضلاً عن قصد ذيها.

وأمّا المقدمات العبادية فإنَّه يعني أمرها النفسي في عبادتها, فينطلق عليها عنوان المقدمية قهراً؛ قصد ذيها أو لم يقصد.

ولعلَّ مراد صاحب المعالم هو المتعارف من أنَّ إتيان المقدمة إنَّما هو عند إرادة ذيها, ولكنه مخالف عمّا تسالموا عليه من أنَّ وجوب المقدمة في الإطلاق والإشتراط تابع لوجوب ذيها.

ص: 384


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص233.
القول الثالث: ما نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس سره

القول الثالث: ما نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس سره (1)؛ من أنَّ معروض الوجوب الغيري هو ذات المقدمة مع قصد التوصل بها إلى ذيها, لأنَّ حيثية المقدمة التوصل بها إلى ذيها, فلا بُدَّ من قصد ذلك في ثبوتها وتحققها.

وعليه؛ يكون عدم ترتبه كاشفاً عن عدم وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

والفرق بينه وبين ما ذهب إليه صاحب المعالم قدس سره بعد اتّفاقهما على أنَّ قصد التوصل بها واجب على كِلا القولين؛ إنَّ قصد التوصل قصدٌ إجماليٌ لإرادة ذي المقدمة, بخلاف ما إذا لم يقصد بها التوصل, فإنْ إقترنت بإرادة ذي المقدمة كانت واجبة عند صاحب المعالم دون الشيخ قدس سره , فيتحقق الأخصية حينئذٍ, وإنْ لم يقترن بالإرادة فلا وجوب على كِلا القولين, بلا فرق في ذلك بين أنْ يكون قصد التوصل من قيود الوجوب أو من قيود الواجب, فإنَّه لا ثمرة مهمة تترتب عليه, ومنه يظهر فساد ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من أنَّ هذا القيد هو نفس القيد الذي أفاده صاحب المعالم قدس سره ؛ غاية الأمر أنَّه جعله قيداً للوجوب الغيري, والشيخقدس سره جعله قيداً للواجب, إذ مضافاً إلى ما ذكرناه فإنَّ هناك فرقاً آخر بين قصد التوصل بالمقدمة وقصد ذي المقدمة وإرادته, لأنَّه ربَّما يريد المكلف فعل ذي المقدمة ولكنه يأتي بالمقدمة لا بقصد التوصل بل بقصد آخر.

والحاصل: إنَّ جعل الفرق بين القولين راجعاً إلى كون قصد التوصل قيداً للواجب على رأي الشيخ قدس سره , بينما يكون قصد التوصل بناءً على رأي صاحب المعالم قيداً للوجوب ليس بشيء, ولذا ذهب بعضهم إلى أخذه قيداً للواجب, فيكون وجوب المقدمة فعلياً لوجوب ذيها بدون قصد التوصل.

ص: 385


1- . مطارح الأنظار؛ ج1 ص357.

وكيف كان؛ فقد وقع الكلام في مراد الشيخ قدس سره , وذكروا فيه بعض الإحتمالات لتفسيره:

الإحتمال الأول: إشتراط وجوب المقدمة بقصد التوصل, بحيث يكون وجوبها مشروطاً ووجوب ذي المقدمة مطلقاً.

وفيه: إنَّه خلاف الوجدان من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والتقييد, والشيخ يعترف به في فقهه وأصوله, ولذا ذهب جمعٌ أنَّه قدس سره أخذ قصد التوصل قيداً في الواجب الغيري, وسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

الإحتمال الثاني: إنَّ ذلك من باب غلبة الوقوع في الخارج, حيث أنَّ المقدمة إنَّما يؤتى بها غالباً بقصد التوصل بها إلى ذيها, لا أنْ يكون ذلك من باب الإشتراط والتقييد المصطلح عليه, وهذا وإنْ كان حسناً ووجدانياً لكلِّ واحد, ولكنه إذا لم يكن من باب التقوم؛ بحيث لو أتى بها غفلة أو بقصد عدم التوصل لا يتحقق الوجوب, وهو خلاف ظاهر كلام الشيخ قدس سره الذي يعتبر الإتّصاف بالوجوب مشروطاً بقصد التوصل.

نعم؛ هو صحيح بناءً على قول المشهور الذين يقولون بتحقق الوجوب ولو صدرت المقدمة كذلك.

الإحتمال الثالث: إنَّ قصد التوصل دخيل في ترتب الثواب أو العبادة أو الإمتثال فقط, لا في الإتّصاف بالوجوب, وهو بالنسبة إلى الثواب صحيح وكذا بالنسبة إلى العبادة, كما عرفت وما سيأتي من أنَّ الوجوب الغيري ليس بنفسه قريبّاً ولا عادياً, ولكنه ليس من محل الكلام.

وأمّا بالنسبة إلى الإمتثال فهو غير صحيح؛ لأنَّ المقدمة لغةً وعرفاً وشرعاً ما يتمكن المكلف بها من إثبات ذيها, وهذا هو موضوع الوجوب -سواء كان شرعياً أو عقلياً-,

ص: 386

وهو لا ينفكُّ عن قصد التوصل من لزوم ما لا يلزم. وعليه؛ فإذا كان مراد الشيخ قدس سره هذا المعنى الإجمالي الإرتكازي؛ فلا بأس به.الإحتمال الرابع: إنَّ قصد التوصل قيد في الواجب الغيري في خصوص الواجبات المتوقفة على مقدمة محرمة, فإنَّها تكون محرمة إلا إذا أتى بها بقصد التوصل؛ فتكون واجبة. بخلاف المقدمة المباحة؛ فإنَّها واجبة على الإطلاق.

ولكن هذا الوجه من الثمرات التي سيأتي التعرض لها إنْ شاء الله تعالى.

الإحتمال الخامس: إشتراط الواجب الغيري بقصد التوصل.

وبعبارة أخرى: كون ذات مقدمية المقدمة مشروطة به.

واعترض عليه بأنَّه لا وجه لأخذ قصد التوصل في الواجب الغيري, لأنَّه لو كان ملاك الوجوب الغيري هو التوقف, فهو يقتضي الوجوب لمطلق المقدمة؛ كما عليه المشهور, وإنْ كان الملاك هو التوصل وحصول الواجب النفسي بها فهو يقتضي وجوب المقدمة الموصلة فقط, فيكون إعتبار قصد التوصل بلا مأخذ.

وحاول المحقق الإصفهاني قدس سره (1) إيجاد مأخذ لهذا القول بتخريج عقلي صرف, وهو: إنَّ الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية دائماً تكون تقييدية, فيكون الموصول من المقدمة هو الواجب بحكم العقل بالملازمة, وبما أنَّ الوجوب يتعلق بالحصة الإختيارية ككلِّ التكاليف, أي الصادر عن قصد واختيار؛ فلا تقع المقدمة مصداقاً للواجب الغيري إلا إذا جيء بها بقصد التوصل.

واعترض عليه السيد الخوئي قدس سره بعد موافقته مع المحقق الإصفهاني قدس سره على أصل الكبرى من رجوع الحيثيات التعليلية إلى تقييدية في أحكام العقل مطلقاً؛ العلمية منها

ص: 387


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص204-205.

والنظرية, ولكنه ناقشه في الصغرى وتطبيق الكبرى على المقام, لأنَّ الوجوب المبحوث عنه في المقدمة هو الوجوب الشرعي لا العقلي وإنَّما العقل كاشف عنه.

وأشكل عليه بأنَّ ما ذكره السيد الخوئي قدس سره تهافت؛ فإنَّه بعد الموافقة على الكبرى فلا وجه لخروج المقام عن تلك القاعدة, لأنَّ دور العقل في الأحكام -خصوصاً النظرية منها- ليس إلا الكشف والإحراز, فالتسليم على القاعدة مناقض مع الإعتراض عليه.

ولكن الحقُّ أنْ يقال: إنَّ تلك القاعدة مختَّصة بالأحكام الفعلية العلمية دون النظرية, فلو قيل بأنَّ الضرب للتأديب حسنٌ مثلاً إنَّما يكون التأديب هو الحسن لا جعل الضرب بعنوانه حسناً, لأنَّ هذه الأحكام العملية إنَّما يدركها العقل لموضوعاتها بالذات, وهذا بخلاف المجعولات الشرعية؛ فإنَّها قد تؤخذ من لسان جعلها حيثيات هي وسائط لثبوت الحكم على موضوع, وكذلك مدركات العقل النظري؛ فإنَّه قد يكون للحيثية سبباً لإدراك العقل لا أنْ تكون مأخوذة في الموضوع على نحو القيدية.وكيف كان؛ فإنَّ هذا الوجه أيضاً غير مفيد في إثبات قول الشيخ الأعظم قدس سره , فإنَّه لا ينتج إلا مع انضمام قيد الموصلية, فيكون جمعاً بين مقالة الشيخ ومقالة صاحب الفصول التي سيأتي بيانها إنْ شاء الله تعالى.

والصحيح: إنْ كان مراد الشيخ قدس سره من مقالته غلبة الوقوع في الخارج, حيث أنَّ المقدمة لا يؤتى بها إلا مع قصد التوصل إلى ذيها غالباً, فلا يكون من الإشتراط والتقييد الإصطلاحي, وهذا المعنى وإنْ كان يخالف ظاهر كلامه في التقوم ولكنه لا بُدَّ منه, إذ لم تتم الوجوه التي ذكروها في تفسير مرامه, وأمّا الوجه الأخير فلأنَّه خلاف الوجدان في التوصليات, وخلاف الأصل والإطلاق في التعبديات, بل خلاف مبنى الشيخ في فقهه, وما ذكره المحقق الإصفهاني في توجيهه غير تام.

ص: 388

القول الرابع: ما ذهب إليه صاحب الفصول قدس سره

القول الرابع: ما ذهب إليه صاحب الفصول قدس سره (1) من أنَّ الواجب الغيري خصوص الحصة الموصلة من المقدمة, فاعتبر أنَّ ترتب ذي المقدمة خارجاً على المقدمة شرطاً في الوجوب الغيري, لأنَّ لا فعلية للمقدمة إلا بذلك, وهذا هو الذي اصطلح عليه بالمقدمة الموصلة.

والكلام في هذه المقالة يقع بين مقامين:

المقام الأول: في الإشكالات والمناقشات التي أثيرت حولها.

المقام الثاني: بيان ما يرتبط بإثبات هذه المقالة.

أمّا المقام الأول: فقد أشكل عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّه إذا كان قيداً للوجوب فهو من تحصيل الحاصل, وإنْ كان قيداً للواجب فهو من الدور الباطل, فقد يقرب الدور في عالم الوجود لتوقف ذي المقدمة على المقدمة وتوقف المقدمة عليه, لأنَّ المقدمة الموصلة متوقفة على الإيصال إلى ذي المقدمة فتكون متوقفة عليه؛ وهو دور واقع, وقد يقرب الدور بلحاظ عالم الوجوب, فإنَّه يلزمه من وجوب الحصة الموصلة وجوب ذي المقدمة, لكونه قيداً لهما, مع أنَّ وجوب المقدمة ناشئ من وجوب ذي المقدمة, وهو دور أيضاً.

وقد أجيب عنه بأنَّ الوجوب الذي يتولد منه وجوب المقدمة هو الوجوب النفسي لذي المقدمة, والوجوب الذي يتولد من وجوب المقدمة هو الواجب الغيري لذي المقدمة, فلا دور لاختلاف المتوقف والمتوقف عليه في هذه الناحية.

وأشكل عليه بأنَّ المستشكل إنْ أراد عدم التأكد في الوجوبين فهو واضح.

ص: 389


1- . الفصول الغروية؛ ص81 وص86.

وأمّا لو كان يريد التأكد بين الوجوبين إتَّجه المحذور؛ لأنَّ الوجوب النفسي لذي المقدمة يترشح منه وجوب غيري للمقدمة الموصلة, ويترشح منه وجوب غيري للصلاة, فإنْ بقي الأول والثالث على حدَّيهما من دون تأكد لزم اجتماع المثلين, وإنْ إتَّحدا لزم تقديم المتأخر وتأخير المتقدم, لأنَّهما في مرتبتين مترتبتين؛ وهو روح الدور.

وفي الجميع نظر؛ أمّا أصل الدور فلأنَّه لا يلزم من هذا القول, لأنَّ قيد التوصل لا يكون قيداً لا في الوجوب ولا في الواجب, بل إنَّ مراده قدس سره أنَّ فعلية وجوب المقدمة تدور مدار فعلية وجوب ذيها, لأنَّهما من المتلازمين المتكافئين قوةً وفعلاً, فلا حاجة إلى فرض إختلاف وجه الوجوب فيهما.

وأمّا ما ذكر أخيراً فلأنَّ ترشح الوجوب الغيري على ذي المقدمة وكون الوجوب الغيري في طول الوجوب النفسي ولزوم التأكد؛ كلُّها فرض وتقدير, وتحتاج إلى إجراء الأصول الموضوعية, وهي لا تجري؛ بل باطلة.

الوجه الثاني: لزوم إجتماع المثلين في ذي المقدمة, لأنَّ ذي المقدمة واجب نفسي بذاته, وبناءً على المقدمة الموصلة يكون ذي المقدمة قيداً ويصير واجباً غيرياً.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّ ترتب ذي المقدمة على المقدمة ليس من القيد الإصطلاحي حتى يلزم المحذور -كما عرفت آنفاً-, بل المراد أنَّ فعلية المقدمة وفعلية وجوبها تنتزع من فعلية ذي المقدمة خارجاً على نحو القضية الحقيقية لا الشرعية.

ثانياً: إنَّه لا محذور من إجتماع وجوبين في موردٍ واحد فيكون نفسياً وغيرياً من جهتين, كصلاة الظهر؛ فإنَّها واجبة نفساً بذاتها من حيث كونها شرطاً لصلاة العصر تتَّصف بالوجوب الغيري فليكن المقام كذلك.

ص: 390

ثالثاً: إنَّ القول بالمقدمة الموصلة لا يعني أخذ الإيصال قيداً بالواجب الغيري زائداً على ذات المقدمة, فيكون مبدأ الإيصال في الوجوب الغيري غير مبدأ الوجوب النفسي.

وقد ذكر السيد الخوئي قدس سره (1) في الجواب عن هذا الإشكال بالإلتزام بالتعدد ثم التأكد والإشتداد في الوجوب والشوق؛ نظير تعلق النذر بالواجب.

ولكن ما ذكره غير تامّ؛ إلا أنْ يريد تعدد الجهة كما ذكرناه آنفاً, لأنَّ تعدد الشوق وتأكد الواجب إنْ كان على أساس تعدد الملاك ويقتضيان الشوق فيستحيل تأثير كلُّ واحد منهما في آنٍ واحد على موضوع واحد, إلا أنْ نقول بالكسر والإنكسار؛ فيؤثران تأثيراً واحداً في إيجاد شوق شديد ووجوب أكيد. ولكن هذا في المقام غيرمعقول, لأنَّ ملاك الشوقين هو الملاك النفسي, فلا يعقل تأكد الوجوب, ولا يقاس على النذر بالواجب كما واضح.

الوجه الثالث: إنَّه يستلزم الخلف, لأنَّ ذات المقدمة لها مدخلية في ترتب ذيها عليها, فيلزم كون الذات مورداً للوجوب الترشحي أيضاً, والشيخ قدس سره لا يقول ذلك.

ويرد عليه: إنَّه لا ضير في ذلك؛ فإنَّه وإنْ كان الذات له الدخل في الترتب في الجملة لكن مدخلية الذات إمكانيته لا فعليته من كلِّ جهة, ولعلَّ مراد صاحب الفصول المدخلية الأخيرة دون الأولى.

الوجه الرابع: إنَّه بناءً على المقدمة الموصلة ينحصر وجوبها بالعلة التامة المنحصرة ولا يشمل غيرها, وهو خلاف الإطلاقات والكلمات.

وفيه: إنَّ الوجوب إنْ كان فعلياً فهو ينحصر فيها عند الجميع, وإنْ كان شأنياً إستعدادياً فهو يشمل غيرها بلا إشكال, ولا ينكره صاحب الفصول وغيره.

ص: 391


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج2 ص414.

الوجه الخامس: إنَّه بناءً على المقدمة الموصلة يوجب تعلق الوجوب بأمر غير إختياري, وهو الإرادة؛ وهي غير إختيارية, وإلا فإنْ كانت إختيارية يلزم التسلسل.

ويمكن الجواب عنه:

أولاً: إنَّ هذا الإشكال لا يختَّص بالمقدمة الموصلة لتوقف كلّ واجب على الإرادة؛ نفسياً كان أو غيرياً, موصلاً أو غير موصل.

ثانياً: إنَّه يكفي في الأمر الإختياري كون الإرادة بذاتها ونفسها مراداً ومختاراً في صحَّة التكليف بها.

ثالثاً: لو كانت مرادةٌ بإرادةٍ زائدة على ذاتها تكون جميع تلك الإرادات مندمجة في ذاتها لكمال سعة النفس, وهذا النحو من التسلسل لا إمتناع فيه كما ثبت في محله, ويعبَّر عنه بالتسلسل اللا يقفي, أي: لا يمكن فرض العلية في مرتبةٍ إلا ويمكن فرض علية أخرى فوقها, وهذا لا يستلزم الوجود الفعلي لسلسةٍ غير متناهية حتى يمتنع.

الوجه السادس: لزوم التسلسل من تخصيص الوجوب الغيري بالحصة الموصلة, وقد قرَّبوا التسلسل بوجوه متعددة أهمها: إنَّ المقدمة الموصلة مركبة من ذات المقدمة وتقييدها بالإيصال إلى ذي المقدمة, والمفروض أنَّ مقدمة المقدمة أيضاً كذلك؛ فحينئذ يلزم التسلسل.

ويظهر الجواب عنه بما ذكرناه آنفاً من أنَّ مثل هذا التسلسل ليس محالاً, لأنَّه ينقطع بانقطاع الإعتبار واللحاظ, فإنَّه ليس تسلسلا وجودياً ولا محذور في أنْ تكون هناك أشواق نفسية غيرية متسلسلة وممتدة كلما امتدَّ اللحاظ والإعتبار في نفس الأمر, وهو الذي يسمى بالتسلسل اللا يقفي.

ص: 392

الوجه السابع: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّ إتيان المقدمة الموصلة, فإمّا أنْ يوجب سقوط طلبها من غير انتظار ترتب ذيها عليها, لأنَّ سقوط الأمر لا يكون إلا بالإمتثال

أو العصيان أو إرتفاع الموضوع أو تحقق الغرض بحصة منه, والمتيقن منها هو الأول لا محالة.

وإنْ لم يوجب السقوط يلزم منه كونه من طلب الحاصل, وهذا يعني تعلق الأمر الغيري بذات المقدمة دون المقدمة الموصلة.

والجواب عنه: إنَّ السقوط جهتيٌّ لا من جميع الجهات, والسقوط المطلق أنْ يكون بإتيان ذي المقدمة, وللمكلف تبديل المقدمة بأخرى مالم يأتِ بذي المقدمة.

والحقُّ؛ إنَّ في المقدمة جهات وحيثيات متعددة؛ إحداها: ترجع إلى التمكن بها من ذيها. وأخرى: قصد ذيها إجمالاً؛ المندرج في قصد ذات المقدمة. وثالثة: التوصل بها إلى ذيها, وهي أيضاً مندرجة في قصد المقدمة إجمالاً, ورابعة: ترتب ذيها عليها خارجاً.

وهذه الحيثيات والجهات تعليلية؛ فيكون معروض الوجوب بالآخرة ذات المقدمة بنحو الإقتضاء, وليست هي جهات دقية عقلية حتى ترد عليها تلك المناقشات, بل هي عرفية يعتبرها العرف كما في كثير من الموارد التي تتعدد فيها الجهات, فيصير النزاع بين الأصوليين جهتياً لفظياً؛ حيث لاحظ كلُّ واحد من الأعلام جهة معنية من تلك الجهات,

فلا وجه للنزاع في حاقِّ الواقع.

وأما الثمرة التي تترتب على هذا القول فسوف يأتي بيانها إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا المقام الثاني: في البرهان على كون الوجوب يختَّص بالحصة الموصلة من المقدمة, وقد تبين ذلك مِمّا ذكرناه في نفي المناقشات التي أوردها على هذا القول؛ إنَّه لا ريب أنَّ الملاك

ص: 393


1- . كفاية الأصول؛ ج1 ص186.

في حاقِّ الواقع في ذلك هو أنَّه لا فعلية للمقدمة إلا بالإيصال إلى ذيها, مع أنَّ ما قيل في بيان الملاك أمور أخرى كالملاك النفسي, مثل التهيؤ والقدرة وغيرها, أو الملاك الغيري من أجل غرض آخر, فقد عرفت وجوه الإشكال منها من لزوم الخلف من الملاك النفسي, أو التسلسل في الغيري كما عرفت, ولكن تقدم أنَّ جميع ما قيل يكن توجيهها بما يرجع إلى الفهم العرفي كما عرفت, وهو كافٍ في المطلوب, ومع ذلك فقد ذكروا في بيان كيفية صياغة وجوب المقدمة الموصلة بالدقة العقلية وجوهاً:

الوجه الأول: إنَّ الواجب الغيري هو المقدمة بقيد ترتب ذي المقدمة عليها, وهذا القيد إنَّما ينتزع في مرتبة متأخرة عن وجود الواجب النفسي.وهذا الوجه الذي كان سبباً لا يراد إشكال الدور والتسلسل المتقدم, وعرفت الجواب عنه. ومع ذلك فإنَّ هذا الوجه غير صحيح في حدِّ نفسه, لأنَّ أخذ حيثية ترتب الواجب النفسي من متعلق الواجب الغيري معناه إنبساط الوجوب الغيري على هذه الحيثية, وهي لا ربط لها به كما هو واضح.

الوجه الثاني: أخذ قيد الموصلية في الواجب الغيري باعتبار أنَّها معلولة لذات المقدمة لا أنْ تكون المقدمة متقومة بتحقق ذيها, فيكون كلٌّ من الموصلية وذي المقدمة معلولان عرضيان للمقدمة. وقد ذكر هذا الوجه المحقق الإصفهاني قدس سره (1) لدفع الإشكالات السابقة.

وأورد عليه بما ذكرناه آنفاً على الوجه السابق؛ من أنَّه لا يعقل تعلق الوجوب الغيري بالحيثية المذكورة, لعدم دخلها في إيجاد ذي المقدمة حتى لو كانت ملازمة مع المقدمة الموصلة في إيجاده, لأنَّ الوجوب لا يسري إلى الملازمات كما هو واضح أيضاً.

ص: 394


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص207.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقق العراقي قدس سره (1) من تعلق الوجوب الغيري بالحصة التوأم مع سائر المقدمات وذي المقدمة, وهذا الذي أفاده يمكن بيانه في أحد وجهين يرجع أحدهما إلى الآخر؛ إمّا بالقول بتعلق الأمر بموضوع الحكم الذي هو ذات الحصة التوأمة مع القيد, فإنَّ الأمر بشيء؛ قد يكون على نحو الإطلاق, وأخرى: يكون بنحو التقيد بقيد مع خروج القيد وبقاء التقيد في موضوع الحكم, وثالثة: يكون بنحو خروج القيد والتقيد وبقاء ذات الحصة التوأمة.

كقولنا: (خاصف النعل هو الإمام)؛ فإنَّه لا دخل لخصوصية خصف النعل فيه في تلك الذات المقدسة, وإنَّما موضوع الحكم هو الذات الشريفة المشار إليه بها.

وإمّا أنْ يتعلق الأمر بالمقدمة بنحو الإطلاق, وهو خلف المقدمة الموصلة التي هي مفروض كلامنا. أو يتعلق بها مقيدة بانضمام سائر المقدمات المستلزمة للوصول إلى ذي المقدمة, ويكون معناه تقييد كل جزء من المقدمة بالأجزاء الأخرى, وهو يعني توقف كلُّ جزء على الآخر وبالعكس, وهذا دور مستحيل؛ كما هو كذلك في أجزاء الواجب النفسي المركب من الأجزاء, فيتعين أنْ يكون الوجوب الغيري متعلقاً بالحصة التوأم من المقدمة التي تنتج نتيجة التقييد.

ويورد عليه بأنَّ الحصة التوأمة من مجرد اللحاظ والإعتبار الذهني ولا دخل لها بالمقدمة الموصلة التي يكون المناط فيها الوجود الخارجي, مع أنَّ في تصوير ذلك إشكال بل منعٌ, ولا دور في التوجيه الثاني؛ لأنَّ الموقوف هو الجزء المقيد بما هو مقيد, والموقوف عليه ذات الجزء الآخر؛ فيختلفان فلا دور.

ص: 395


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص116.

الوجه الرابع: إنَّ الوجوب الغيري يتعلق بمجموع المقدمات المساوق مع العلة التامة وحصول ذي المقدمة, لكن لا بعنوان المقدمية والعلّية, لأنَّها عناوين إنتزاعية لا دخل لها في وجود ذي المقدمة, بل يتعلق بواقعها وعنوانها الذاتي دون أخذ حيثية الإيصال تحت الوجوب والشوق الغيري.

وهذا الوجه وإنْ كان أصحُّ الوجوه المتقدمة ولكنه لم يسلم من الإشكالات, وأهم ما ذكروه من الإشكالات هو:

الأول: إنَّه يختَّص بالمقدمات التوليدية التي تعادل العلّة التامة دون غيرها التي يتوسط بينها وبين ذيها الإرادة والإختيار.

وفيه: إنَّ الإرادة والإختيار من أجزاء المقدمات, فإذا أخذناها في المجموع كانت تعادل العلّة التامة وتساوقها.

الثاني: عدم معقولية أخذ الإرادة والإختيار مع المقدمة لأنَّها ليست إختيارية وإلا تسلسلَ, والتكليف سواء كان نفسياً أو غيرياً لا بُدَّ أنْ يتعلق بالفعل الإختياري.

وفيه: ما عرفت سابقاً من إختيارية الإراداة والإختيار, إذ يكفي في الإختيار كون الإرادة بذاتها ونفسها مختارة, ويكفي ذلك في صحة التكليف بها, كما أنَّه على فرض عدم الإختياية لا يلزم التسلسل الذي هو محال, لأنَّه في اللحاظ والتصور لا في الوجود, وأمّا كون الواجب الغيري لا يشترط فيه الإختيار فسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى؛ على أنَّه وقع الخلاف بين الأعلام في تفسير الإختيار والقدرة الذي هو شرط في التكليف؛ فالمشهور إنَّهما بمعنى الإرادة.

وعند المحقق النائيني قدس سره أنَّهما بمعنى إعمال القدرة وهجمة النفس, فإنَّه بناءً على المشهور يتعقل إختيارية الإختيار, وذلك لوجود إختيار وإرادة قبله تتعلق بالمقدمات.

ص: 396

وبناءً على رأي المحقق النائيني قدس سره تكون إختياريتها بإختيارية نفسها, حيث يرى أنَّ إختيارية الأشياء غير الإختيار تكون بالإختيار, وإختيارية الإختيار تكون بنفسها, لرجوع كلُّ ما بالعرض إلى ما بالذات, وعليه؛ يتعلق الأمر الغيري بمجموع المقدمات التي فيها إختيار الفعل المساوق مع العلَّة التامة.

وكيف كان؛ فإنَّه يمكن إفتراض إختيارية الإختيار, سواء فسر بما ذهب إليه المشهور ومنهم المحقق الخراساني قدس سره , أو فسر بما أفاده المحقق النائيني قدس سره , وهذا الجواب إختاره المحقق الإصفهاني قدس سره .

وأشكل على هذا الجواب باستحالة تعلق الإرادة بالإرادة, لأنَّ الإرادة بحسب إعتبارها العرفي الإعتيادي لا تكون إلا عن مصلحة في المراد, فإذا كان الفعل المراد كامل المصلحة فهو يقتضي تحقق إرادة الفعل إبتداءً, وإلا فكما لا تتحققإرادة الفعل لا تتحقق إرادة أنْ يريد؛ لعدم ملاك ذيها, غير الملاك الطريقي الثابت في الفعل نفسه.

والحقُّ؛ إنَّ الإشكال غير وارد, لأنَّ الإرادة لا تحدث في الإنسان إعتباطاً إلا بعد تمامية مقتضياتها من العقود والملاك والإنبعاث, ثم التحريك نحو الفعل ونسبته إلى الإرادة ليكون فعلاً إختيارياً. فإذا تحققت تلك المقتضيات تحققت الإرادة, وإلا فلا تحصل الإرادة إلا بعد مقدماتها, وتسميتها بالإرادة على نحو المسامحة فهي فعل نفساني يحصل في النفس وله أسباب, وبعد حصوله يؤدي إلى الإنبعاث والحركة؛ فلا تسلسل أبداً في الإرادة بأيِّ معنىً فسرت؛ فما ذكروه تطويل لا طائل تحته.

الثالث: إنَّ جعل الإرادة في عداد سائر المقدمات لا ينفع في صيرورة المقدمة موصلة, لأنَّ مجموعها مع الإرادة لا تكون علة تامة حتى يساوي الإيصال, كما عرفت من أنَّ حصول

ص: 397

الإرادة نحو الفعل لا يستلزم كون الفعل واجباً بالغير, بل لا يزال ممكن الوجود وللمكلف أنْ يتركه.

ويمكن الجواب عنه بأنَّه خلط بين الأفعال الطبيعية القسرية؛ التي هي محور عالم الوجوب والإمتناع, وبين الأفعال الإختيارية التي هي محطُّ عالم التكاليف؛ فإنَّه من الواضح أنَّ مجموع المقدمات -ومنها الإرادة والإختيار- بعد تمامية مقتضياتها وفقد موانعها تقتضي ضمان حصول ذي المقدمة, ولا ضمان لحصوله بدونها, فيكون ذلك هو الطريق المنحصر الذي لا ينفكُّ عن ذي المقدمة الذي يناسب عالم الإختيار, فإنَّ العاقل المختار إذا تمَّ عنده كلُّ ذلك حصل مراده وحققه لا محالة.

الرابع: إنَّ الأمر بالإرادة غير معقول, فإنَّه من تحصيل الحاصل إذا جعل الإرادة هي المقتضى المباشر لإيجاب ذي المقدمة, لأنَّ الأمر بشيء يقتضي قدح الداعي والإرادة في نفس المكلف نحو الفعل, والمفروض حصول الإرادة فيكون الأمر بها من تحصيل الحاصل من قبيل الطلب التشريعي لما هو المقتضى التكويني.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّ الأمر الغيري الذي هو مفروض الكلام لا يكون بداعي الحركية والتحصيل حتى يشكل عليه بهذا الإشكال, وإنَّما هو أمر تبعي قهري, وعلى فرض كونه للحركية فإنَّ الإشكال أيضاً وارد لأنَّ الإردة من أجزاء المقدمة, فهي منضمّاً إلى سائر الأجزاء تقتضي الوصول إلى الوجوب النفسي.

ثانياً: إنَّه لا يضرُّ أنْ يكون مورداً واحداً يتعلق بها أكثر من طلب ولا إستحالة فيه, مع إنَّنا ذكرنا مكرراً أنَّ الأحكام الشرعية إعتبارات عقلائية تتبع إعتبار المعتبر وصحته.

ص: 398

ومن ذلك يظهر الجواب عن الإعتراض الخامس وهو: إنَّ الأمر بشيء إنَّما هو لقدح الإرادة في نفس المكلف نحوه, فيكون الأمر بالمقدمة الموصلة لأجل قدحالإرادة, فإذا كان من مقدمات الإرادة لزم أنْ يكون الأمر الغيري لقدح إرادة الإرادة, مع إنَّ إرادة الإرادة ليست من المقدمات, لحصول الواجب خارجاً؛ فكيف تكون مطلوباً, ولو كان الطلب غيرياً فإنَّ ذلك خلط بين المطلوب التشريعي والمطلوب التكويني, مع إنَّنا ذكرنا مكرراً أنَّ الأمر والطلب ليس من أجل إيجاد الداعي في نفس المكلف, بل تابع لأغراض عديدة.

هذا ما إستدلَّ به الأصوليون لإثبات إختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة, وقد استدلَّ صاحب الفصول قدس سره الذي تبنى هذا القول ونسب إليه تاريخياً على ذلك بوجوه عديدة, أهمها هي:

الوجه الأول: التمسك بالوجدان القاضي باختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة, وإنَّ الحصة غير الموصلة لا محبوبة ولا يوجد شوق نحوها, وهذا الوجدان يعاضده الوجدان الذي ادَّعاه من ذهب إلى الإطلاق.

الوجه الثاني: إمكان تصريح الأمر بعدم مطلوبية الحصة غير الموصلة مع مطلوبية ذي المقدمة, مع إنَّه لو كانت واجبة على الإطلاق لما صحَّ ذلك, كما لا يصحُّ التصريح بعدم مطلوبية المقدمة مطلقاً أو عدم مطلوبية الحصة الموصلة منها.

ويرد عليه: إنَّه استدلال بالوجدان أيضاً لكنه في عالم الإثبات, والأول في عالم الثبوت, فلذلك لا ينفع المنكِر الذي يدَّعى الوجدان أيضاً.

الوجه الثالث: إنَّ الغرض من الطلب الغيري للمقدمة ليس إلا حصول ذي المقدمة, وهو لا يتحقق إلا في المقدمة الموصلة.

ص: 399

وهذا الوجه هو أوجَه تلك الوجوه وروحها, ولكنه يرجع إلى الملاك الواقعي في المقدمة الذي ذكرناه في إبتداء هذا البحث؛ وهو: إنَّه لا فعلية للمقدمة إلا بالإيصال إلى ذيها.

الوجه الرابع: ما نسب إلى السيد اليزدي قدس سره (1) من صحة منع المولى عن المقدمة غير الموصلة وتشريع حرمتها, فلو كانت المقدمة واجبة على الإطلاق لامتنع ذلك.

ويرد عليه: إنَّه لا يكون دليلاً على الإختصاص بالموصلة, وإنَّما هو دليل الإختصاص بغير المحرم منها, ولذا لا تكون المحرمة منها واجبة مع وجود المباحة حتى لو كانت غير موصلة, هذا ولكن صاحب الكفاية قدس سره أنكر شهادة الوجدان على إمكان تحريم الحصة غير الموصلة, وذكر أنَّه يستحيل تحريم غير الموصلة والمنع عنها لاستلزامه تحصيل الحاصل من طرف الأمر بذي المقدمة, لأنَّ الأمر به موقوف على مقدورية مقدماته عقلاً وشرعاً بأنْ تكون مباحة, فإذاكانت الحصة غير الموصلة محرمة توقفت إباحة المقدمة؛ على أنْ تكون موصلة المساوقة مع تحقيق ذي المقدمة, فينتج توقف إيجاب ذي المقدمة على إباحة مقدماته الموقوفة على الوصول المساوق لحصوله, فيكون إيجابه موقوفاً على حصوله؛ وهو تحصيل الحاصل.

وحاول المحقق النائيني قدس سره الجواب عنه فأفاد بأنَّ الموصلية قيد في المباح لا في الإباحة, فالمقدمة الموصلة مباحة قبل فعلها والتوصل بها, فيصبح إيجاب ذيها.

كما إنَّه أفاد بعض الأعلام في الجواب عنه بأنَّه لا محذور في ذلك حتى لو كان الوصول شرطاً في الإباحة لا في المباح؛ باعتبار أنَّ الأمر بذي المقدمة موقوف على مقدورية مقدماته شرعاً, بمعنى عدم حرمتها المطلقة وليس موقوفاً على حرمتها المشروطة بعدم الوصول, وعدم حرمتها المطلقة ليس موقوفاً على عدم حرمتها المشروطة بعدم الوصول.

ص: 400


1- . نقله في بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص254.

والحقُّ أنْ يقال: إنَّ ما ذكره صاحب العروة قدس سره صحيح ولا يرد عليه ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره , لأنَّ المقدمة إنْ كانت منحصرة في فرد واحد فلا ريب في أنَّه ليس للآمر المنع عنها وتحريمها لاستلزامه الخلف في إيجاب ذي المقدمة, وأمّا إذا كانت متعددة فإنَّه يحق للآمر المنع عن بعضها وحصرها في الفرد المباح؛ التي هي المقدمة الموصلة, فلا إشكال من هذه الجهة, فما ذكروه في إيجاب المقدمة الموصلة بالوجوب الغيري لا بأس بها من حيث مجموعها, ولكن ذلك يعالج جهة معينة من الجهات العديدة والحيثيات المتعددة التي تتَّصف بها المقدمة عرفاً.

التنبيه علی أمور
اشارة

وهنا ينبغي التنبيه على أمور:

التنبيه الأول:

إنَّ المقدمة لو كانت محرمه في نفسها فإمّا أنْ لا تكون في الواجب أهمية؛ فلا إشكال في سقوطه على تفصيل مذكور في محله.

وإمّا أنْ تكون في الواجب أهمية ورجحان ملاكه من ملاكها؛ فقد وقع الكلام في مقدار ارتفاع الحرمة عن المقدمة وثبوتها؛ فهل ترتفع عن مطلقها أو عن خصوص الموصلة منها؟ وعلى الثاني؛ فهل ترتفع الحرمة عن مطلق الحصة الموصلة أو التي قصد بها التوصل بها إلى ذيها؛ فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأول: في ثبوت الحرمة في الحصة غير الموصلة وعدمه

ذكر العلماء فيه ملاكين للتنافي بين الحرمة والوجوب:

الملاك الأول: ملاك التزاحم لثبوت التنافي بين الحرمة وبين وجوب الواجب النفسي؛ إذ كيف يعقل الأمر بشيء والنهي عن مقدماته, فيكون التنافي بملاك التزاحم في مقام الإمتثال لا بملاك التعارض؛ لعدم وحدة موضوع الحكمين.

ص: 401

الملاك الثاني: ملاك التعارض للتنافي فيما بينهما وبين الوجوب الغيري للمقدمة؛ وهو تنافٍ بملاك التعارض في مرتبة الجعل, مع قطع النظر عن الإمتثال لوحدة موضوع الحكمين.

أمّا الملاك الأول(1)؛ فقد يقال بأنَّ المزاحم للواجب وهو حرمة المقدمة الموصلة فقط, فلا تزاحم بين حرمة غير الموصلة للواجب النفسي إذ يمكن الجمع بينهما في مقام الإمتثال, وعليه؛ فلا وجه لارتفاع الحرمة بعد ثبوت مقتضاها.

ولكن يمكن أنْ يقال بأنَّ ما ذكره يستلزم خلف الفرض, لأنَّ المقدمة غير الموصلة إنْ ترتب عليها ذي المقدمة أصبحت موصلة فتحقق التنافي بين الحرمة والواجب النفسي, وإلا مجرد كون شيء في الواقع مقدمة من دون التحقق الخارجي لا يكون مزاحماً, إذ المفروض كونه في مقام الإمتثال.

وأمّا الملاك الثاني للتنافي؛ فلأنَّ التعارض بين الحرمة والوجوب الغيري للمقدمة على القول به إمّا أنْ يكون الوجوب الغيري مختَّصاً بالمقدمة الموصلة, وإمّا أنْ يكون الوجوب يتعلق بالجامع.

وعلى الأول؛ فقد يقال بالتعارض بين حرمة المقدمة الموصلة ووجوبها إذا كانت الحرمة أهم, حيث تكون مطلق حصص المقدمة محرمة حينئذٍ.

وقيل بعدم المعارضة بين الجعلين, بل هو من التزاحم بين المجعولين, لإشتراط الوجوب مطلقاً؛ غيرياً كان أو نفسياً بالقدرة على الواجب النفسي, وهي ترتفع عند صرف المكلف قدرته في ترك الحرام. وهو يعني: إنَّ فعل المقدمة يكون شرطاً للوجوب فلا يترشح عليها الوجوب الغيري, فلا تعارض بين الوجوب الغيري للمقدمة الموصلة مع الحرمة.

ص: 402


1- . أي: التنافي بين الحرمة ووجوب الواجب النفسي.

وعلى الثاني؛ فالظاهر حرمة المقدمة مطلقاً؛ الموصلة وغير الموصلة, لأنَّ وجوب الجامع سواءً كان لعدم المقتضي للتخصيص بالموصلة أو إستحالة التخصيص بها؛ كما هو الحال كذلك في تمام موارد حرمة بعض أفراد الجامع الواجب, فيتخصص وجوب الجامع بالأفراد غير المحرمة.

وقد يقال بأنَّ التخصيص بالموصلة إذا كان مستحيلاً دونما إذا كان من جهة عدم المقتضي يقع التنافي بين حرمة غير الموصلة ووجوب المقدمة؛ إذ يستحيل الإطلاق للتناقض والتقييد بالموصلة للإستحالة, ويسري التعارض والتنافي بالتبع إلى وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة غير الموصلة لاستحالة إجتماعهما, ومع أهمية الواجب لا بُدَّ من إرتفاع الحرمة من مطلق المقدمة -حتى غير الموصلة-, فلو فعلها المكلف لم يكن عاصياً.والحقُّ؛ إنَّ ذلك غير تامّ, فإنَّ المفروض أرجحيَّة الواجب, فلا بُدَّ من رفع اليد عن الحرمة حينئذ وسقوطها عن الفعلية, ولا تعارض بينهما إلا بملاك التزاحم؛ وقد عرفت الأثر فيه.

قد يقال بالترتب في المقام؛ بأنْ يكون تعقل حرمة غير الموصلة مشروطاً بترك الواجب.

وردَّ بأنَّ الترتب إنَّما يعقل في موارد تزاحم الإمتثالين لا في موارد التنافي بين الجعلين كما في المقام. ولكن يمكن الإشكال عليه بأنَّ مفروض الكلام أنَّ التنافي بين الجعلين إنَّما نشأ من ناحية الإمتثال لا مجرد الجعل فقط, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

هذا كله في المقام الأول.

ص: 403

أمّا المقام الثاني: وهو في ثبوت الحرمة للمقدمة الموصلة التي لم يقصدها التوصل إلى الواجب النفسي حين الإتيان بها

فالمتصور في هذا المقام كِلا الوجهين اللذين ذكرناهما في المقام الأول لملاك التزاحم، للتنافي بين الحرمة ووجوب الواجب النفسي, وملاك التعارض للتنافي بين الحرمة والوجوب الغيري.

وقد يقال بارتفاع الحرمة عن المقدمة الموصلة التي قصد بها التوصل إلى ذي المقدمة؛ باعتبار تنافي وجوب ذيها المقتضي لقصد التوصل والإمتثال, وأمّا غيرها, وهي المقدمة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل إلى ذيها فلا ترتفع الحرمة؛ لتمامية المقتضى وارتفاع المانع, فإنَّ المزاحمة بين الواجب والحرام إنَّما ترتفع بارتفاع الحرمة عن الحصة التي قصد بها التوصل.

وأشكل عليه:

أولاً: إنَّه إذا قلنا بأنَّ الوجوب الغيري يختَّص بالحصة الموصلة التي قصد بها التوصل إلى ذيها, فيكون ثبوت الحرمة للموصلة التي لم يقصد بها التوصل من اللغو المحض, إذ لا يترتب عليه شيئاً؛ لا الجمع بين الغرضين المولويين, أي مصلحة الواجب النفسي, ولا المفسدة في المقدمة المحرمة؛ لاستحالته على كلِّ حال بعد افتراض المزاحمة بين مصلحة الواجب كالإنقاذ ومفسدة المقدمة كالغضب, كما لا يترتب المنع من خسارة كِلا الغرضين, لأنَّه حاصل على كلِّ حال؛ سواء حرمت المقدمة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل أم لا.

ثانياً: إنَّ ثبوت الحرمة على ما لم يقصد بها التوصل يستلزم الجمع بين الغرضين, لأنَّ المكلف يضطر إلى قصد التوصل بالمقدمة وهو أمر راجح عقلاً, فيوجب إنجبار مفسدة حرمة المقدمة, بل إرتفاعها بعد الكسر والإنكسار, فيكون بذلك قد حفظ كِلا الغرضين؛ مصلحة الواجب النفسي وعدم الوقوع في المفسدة.

ص: 404

وأورد عليه بأنَّه غير تامّ, لأنَّه فرع أنْ يكون للمولى غرض لزومي في قصد التوصل حتى يكون هذا التقييد مقرباً للمولى نحو هذا الغرض وهو خلف الفرض الذي هو عدم لزوم قصد التوصل لو كانت المقدمة مباحة. ويأتي مزيد بيان لهذا إنْ شاء الله تعالى.

فالصحيح؛ إنَّ ثبوت الحرمة على الحصة الموصلة التي لم يقصد بها التوصل لا وجه له, وعليه؛ لا حرمة في مطلق المقدمة الموصلة, وبذلك يرتفع موضوع التنافي الثاني بين الحرمة والوجوب الغيري للمقدمة الموصلة, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

التنبيه الثاني:

ذكرنا أنَّ وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والإشتراط, وهذا يختَّص بالوجوب المقدمي بنفسه مع قطع النظر عن دليل آخر.

وأمّا بحسب الأدلَّة الخاصة فيمكن أنْ يكون وجوب المقدمة أنحاء من الوجوب, وهذا واضح لا إشكال فيه.

التنبيه الثالث:

ذكر المحقق الخراساني قدس سره (1) أنَّ القول بالمقدمة الموصلة يترتب عليه القول بالبعد العبادي؛ كالصلاة لو وقعت مزاحمة مع واجب أهم -كإزالة النجاسة عن المسجد-؛ لأنَّه بناءً على القول بأنَّ أحد الضدَّين يتوقف على ترك الآخر, وكون الأمر بشيء يقتضي النهي عن الضد العام, وكون النهي لو كان غيرياً يقتضي الفساد, فإنَّه بناءً على جميع ذلك سوف تقع الصلاة فاسدة على القول بوجوب مطلق المقدمة لكونها الضدّ العام للواجب الغيري وهو ترك الصلاة الواقع مقدمة للإزالة الواجبة, ولكن على القول بوجوب الحصة الموصلة من المقدمة خاصة, فالواجب هو الترك الموصل للإزالة لا مطلق الترك, والضدّ العام للترك الموصل ليس هو فعل الصلاة فقط بل رفعه الذي هو أعمّ من

ص: 405


1- . ذكره في بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص258 وما بعدها.

فعل الصلاة أو تركها تركاً غير موصل, وهذا عنوان نسبته إلى الصلاة نسبة الملازم الى اللازم لا نسبة الجامع إلى الفرد, فلا تسري الحرمة إلى فعل الصلاة حتى تفسد.

ثم ناقشه قدس سره صاحب تقريرات الشيخ الأنصاري في إثبات أنَّ نسبة هذا الأمر الأهم إلى الصلاة نسبة الجامع إلى مصداقه, وكلام المحقق الخراساني قدس سره وإنْ فسر بتفسيرات متعددة ولكن أحسنها ما ذكرناه عن بعض الأعلام.

وقد أشكل عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ الأصول الموضوعية التي فرضها في تصوير هذه الثمرة هي بحدِّ نفسها غير تامة, ولم تكن مورد التسليم عند الجميع, كما سيأتي الكلام فيها.الوجه الثاني: على فرض التسليم لم تترتب عليها ثمرة القول بالمقدمة الموصلة التي ذكرها قدس سره , لأنَّه لو قلنا بأنَّ عدم الضدِّ يكون مقدمة للضدِّ الآخر للتمانع بينهما؛ فإنَّه كما يقتضي أنْ يكون عدم المانع مقدمة, كذلك يقتضي أنْ يكون وجود الضدِّ مانعاً عن الضدِّ الآخر, فتكون النتيجة أنَّ العلة التامة لترك الضد الآخر حراماً غيرياً؛ باعتباره الضدّ العام للواجب, فتحرم علته التامة بالحرمة الغيرية لا محالة, وهو مِمّا لا يلتزم به.

وفيه: إنَّه لا ضير في كون العلة التامة للواجب محرمة بالحرمة الغيرية, فإنَّه لا يتمُّ في العلل التكوينية, أمّا العلل التشريعية التي هي أشبه بالأسباب العادية فلا يضرُّ أنْ تكون محرمة للغيرية.

الوجه الثالث: إنَّ ترك الضدّ العبادي واجب بالوجوب الضمني الغيري, فيكون مقتضياً بالنهي الغيري الإستقلالي عن ضدِّه العام؛ وهو الفعل العبادي, فتقع العبادة فاسدة؛ بناءً على أنَّ إقتضاء النهي الغيري البطلان, فلا فرق بين القولين في المقدمة من الموصلة وغيرها.

ص: 406

الوجه الرابع: إنَّ ما نسبه المحقق الخراساني قدس سره إلى صاحب تقريرات الشيخ قدس سره ؛ من أنَّ نسبة الأمر الأهم إلى الصلاة نسبة الجامع إلى مصداقه لا يخلو من مسامحة؛ فإنَّ عبارة صاحب التقريرات لا تخلو من تشويش, ولأجله إختلفوا في بيان مقصوده؛ فقيل: إنَّ مقصوده هو أنَّ نقيض كلّ شيء رفعه, وهذا يعني أنَّ نقيض الترك اللا ترك الملازم مع الفعل, فإنْ سرت الحرمة من الملازم إلى الملازمة فإنَّه يحرم الفعل فيفسد إذا كان عبادة, سواء قلنا بوجوب مطلق المقدمة أو المقدمة الموصلة خاصة, وإنْ لم تسرِ الحرمة فلا تفسد العبادة على كِلا القولين.

وهذا التقريب لا يرده ما في الكفاية, كما هو مذكور في محله.

وقيل: في تقريب مقصودة بعد التسليم على أنَّ نقيض كلِّ شيء رفعه, لكن في هذا التقريب يرى أنَّ الفعل مصداق لعدم الترك وليس ملازماً معه فينطبق عليه ويتَّحد معه بالحمل الشايع, وعليه؛ فلا ثمرة بين القول بوجوب مطلق المقدمة أو الحصة الموصلة, لأنَّه كما يكون عدم الترك المطلق منطبقاً على الفعل فيحرم بحرمته, وكذلك عدم الترك الموصل ينطبق على الفعل فيكون مصداقاً له فتسري إليه الحرمة لأنَّها إنحلالية.

وقد أبطل المحقق الإصفهاني قدس سره (1) ذلك كلّه وناقش في الأصل الموضوعي المفترض من التقريبي؛ حيث أنَّ الإلتزام بذلك بملاحظة ما هو المشهور فيالألسنة من أنَّ نقيض كلّ شيء رفعه, أو الفعل أمر وجودي وليس رفعاً للترك بل رفعه اللا ترك, وهو غفلة عن المراد بالرفع؛ فإنَّ الرفع في هذه المقولة أعم من الرفع الفاعلي والمفعولي, فإنَّ الإنسان إنَّما يكون نقيض اللا إنسان؛ حيث أنَّه مرفوع به واللا إنسان إنَّما يكون نقيض الإنسان؛ حيث أنَّه رافع له.

ص: 407


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص363.

الوجه الخامس: ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره في مقام مناقشة الثمرة التي ذكرها المحقق الخراساني قدس سره من أنَّ الأمر الغيري يتعلق بمجموع المقدمات المساوقة مع العلة التامة, وعنوان المجموع عنوان إعتباري والوجود الحقيقي إنَّما هو لواقع الأجزاء, وعليه؛ يكون نقيضه هو عدم جميع تلك الأجزاء لا عدم عنوان المجموع الإعتباري, وحينئذ يتعلق النهي الغيري بهذا النقيض فيكون لعدم كلِّ جزء منها تهيؤاً ضمنياً غيرياً, فيكون الفعل أيضاً منهياً عنه ضمناً لأنَّه نقيض الترك الذي هو جزء من المقدمة الموصلة.

وأورد عليه بأنَّه لا يضرُّ أنْ يكون العنوان الإعتباري متعلق الحكم الإعتباري أيضاً من الوجوب والحرمة ونحوهما وهو كثير في الفقه, وهو قدس سره لا يتركه في مباحثه الفكرية؛ لا سيما إذا كان ذلك العنوان الإعتباري حاكياً عن المصاديق الخارجية وطريقاً إلى الوجودات الحقيقية للأجزاء كما في المقام, فإنَّ عنوان المجموع طريق إلى تلك الأجزاء الحقيقية, ويتعلق بها الحبّ والوجوب, وعليه؛ يكون نقيضه هو عدم هذا العنوان الإعتباري لا عدم الأجزاء, فلا حاجة إلى جعل النقيض عدم كلّ جزءٍ جزء.

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام في الردِّ عليه بأنَّ النهي لم يكن ضمنياً, بل إنَّ عدم الأجزاء والمطلوب الضمني يكون مبغوضاً إستقلالياً؛ فهو يتبع الدليل وظهوره, فإنْ دلَّ على كونها مبغوضاً إستقلالياً لأهمية الأجزاء, وإلا يكون منهياً بالنهي الضمني.

ولعلَّ كلامه يرجع إلى البغض والكراهة, فإنَّها تتعلق بالأجزاء إستقلالاً, وكذلك الأمر بالنسبة إلى المطلوب الضمني.

وكيف كان؛ فإنَّ ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في بيان الثمرة غير تامّ كما عرفت, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 408

الجهة الرابعة: في بيان ثمرة وجوب المقدمة

تمهيد

ذكرنا في ابتداء بحث الأصول أنَّ الملاك عند الأصوليين في ثمرة المسألة الأصولية كونها مِمّا يُتوصل إلى إثبات جعل شرعي لا تطبيق جعل ثابت على صغرى من صغرياته.وبعبارةٍ أخرى معروفة: أنْ تقع في طريق إستنتاج الحكم الشرعي. وعلى هذا الأساس يقع الكلام في إثبات ثمرة البحث الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته, والكلام في ذلك يقع ضمن ناحيتين:

الأولى: في كون هذا البحث من المسألة الأصولية.

الثانية: في إثبات الثمرات في هذا البحث.

أمّا الناحية الأولى؛ فقد يقال بأنَّ هذا البحث لم يكن من المسائل الأصولية, فالظاهر أنَّه لا ينبغي الإشكال في كونه من مباحث الأصول ومن مسائله؛ لما ذكرنا من أنَّه يكفي في جعله بحثاً من البحوث من مسائل علم الأصول, كونه له إرتباط علمي أو موضوعي أو من حيث الهدف والغاية في دخوله في مباحث أي علم من العلوم.

أمّا علم الأصول؛ فلأنَّ من أهم أغراضه هو القدرة على كيفية إستنباط الحكم الشرعي, وعليه؛ يكون بحث الملازمة داخلاً تحت هذا الهدف أيضاً؛ فإنَّه بناءً على إثبات الوجوب الشرعي الترشحي للمقدمة يكون عند تطبيق هذه الكبرى على فرد من أفراد المقدمات فلا بُدَّ من الحكم بوجوبها شرعاً. وكذا بناءً على اللابديّة العقلية؛ فإنَّه يحكم عند تطبيقها على فرد من المقدمات بلزوم إتيانها عقلاً, فيستنتج الحكم الفرعي لقاعدة الملازمة, فتكون من الثمرات المترتبة على هذا البحث كما سيأتي بيانه, فلا إشكال في كون هذا المبحث من مسائل علم الأصول, سواءً قلنا بمقالة المشهور في المناط أم لم نقل بها.

ص: 409

وأمّا الناحية الثانية: فقد ذكر الأصوليون ثمرات أصولية تترتب على القول بالوجوب الترشحي الشرعي نذكر المهم منها:

فمنها: ما ذكرناه؛ وهو إثبات الوجوب الغيري للمقدمة من الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته شرعاً, وهو يكفي في طريق إثبات جعل شرعي على فرد من أفراد المقدمات.

وأشكل عليه بأنَّ هذا الوجوب الغيري لا يقبل التنجيز والتعذير, لأنَّه لا يترتب على مخالفته العقاب ولا على موافقته الثواب بما هو واجب غيري.

ويرد عليه بما عرفت مُكرراً من ترتب الثواب والعقاب على المقدمة بما هو واجب غيري, كما أنَّه لا يختص إهتمامات الفقه بالتنجيز والتعذير حتى يقال بأنَّهما لا يترتبان على الواجب الغيري, مع أنَّه ثابت فيها أيضاً بالتبع وهو يكفي في ذلك.

ومنها: إنَّه بعد إثبات الواجب الغيري يمكن تنقيح صغرى من صغريات جعل آخر كحرمة أخذ الأجرة عليه مثلاً بناءً على شمولها للواجب الغيري.

وأورد عليه بأنَّه ليس ثمرة أصولية.

وفيه: إنَّه من تطبيق الكبرى بعد إثباتها في الأصول من أهم ثمرات هذا العلم.نعم؛ لا بُدَّ من تنقيح الصغرى وموضوعها فقد يكون في علم آخر, كما في المثال؛ فإنَّه بعد تطبيق الكبرى في ثبوت الوجوب الغيري الترشحي من هذا العلم يكون ثبات جواز أخذ الأجرة على الواجب الغيري يحتاج إلى دليل آخر, ولا دليل على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب بالنحو الكلي, وسيأتي أنَّ مقتضى الأصل وقاعدة السلطنة جوازه؛ إلا في موارد خاصة, بل الدليل على عدم الجواز, فيكون تابع للدليل عموماً وخصوصاً, والتفصيل مذكور في الفقه.

ص: 410

ومنها: ثبوت التنافي بين وجوب ذي المقدمة النفسي مع حرمة المقدمة والتعارض بين دليلها, ويكفي في كونها من ثمرات هذه المسألة الإحتمالات التي ذكروها في هذا الموضوع والردّ والإبرام فيها, فإنَّها شغلت حيِّزاً من هذا العلم.

وكيف كان؛ فخلاصة ما ذكروه هو أنَّ الإحتمالات ثلاثة؛ فإمّا أنْ تكون مقدمات الواجب النفسي مباحة, فقد يقال بعدم ترتب ثمرة أصولية عليه , ولكن عرفت أنَّ الثمرة لا تقتصر على ما ذكر حتى تنتهي عند هذا المورد.

وإمّا أنْ تكون بعضها محرمة فتشتمل على المباح والمحرم, فإنْ قلنا بأنَّ الملاك في الوجوب الغيري لا يسع الفرد المحرم من المقدمة, فإنَّ الوجدان الذي يقتضي بإرادة المقدمة غيرياً لا يحكم بأكثر من إرادة الجامع بين الأفراد المباحة, فإنَّه على هذا المبنى يختصّ الوجوب الغيري بالمقدمة المباحة خاصة, فلا يكون تزاحم ولا تعارض بين الواجب الغيري والحرام.

وإنْ قلنا بأنَّ الوجدان يقضي بوجوب الجامع بين تمام أفراد المقدمة مطلقاً حتى المحرمة منها لأنَّ ملاك هذه الإرادة إنَّما التوقف أو التوصل إلى ذي المقدمة وهما مشتركان بين المباح والحرام, وعليه؛ فلو قيل بأنَّ تعلق الوجوب الغيري بالمقدمة بنحو الحيثية التقييدية دخل المقام في باب إجتماع الأمر والنهي بالمعنى المصطلح, وكذلك الحال لو قيل بتعلقه بواقع المقدمة وإنَّ عنوانها حيثية تعليلية بالوجوب ولكن كانت الحرمة متعلقة بعنوان آخر, فإنَّ في هاتين الصورتين يتعدد العنوان؛ فعلى القول بإمكان الإجتماع لا تعارض, وعلى القول بالإستحالة أو إفتراض تعلق كلاً من الوجوب والحرمة بواقع الفعل يدخل المقام في باب التعارض بين الخطابين.

هذا كلُّه إذا كان الدليل على وجوب المقدمة الشرعية لفظياً, وأمّا إذا كانت على أساس الملازمة العقلية فسيختَّص الوجوب كما لو قيل بالإمتناع بالحصة المباحة, لأنَّ إطلاق الوجوب كان من جهة عدم المقتضي فيختَّص بما وجد فيه المقتضي.

ص: 411

وأمّا أنْ تكون جميع المقدمات محرمة بقطع النظر عن وجوب ذيها؛ فلو قيل بعدم وجوب المقدمة لم يكن هنالك تعارض بين الخطابين؛ الواجب النفسي وحرمة المقدمة؛ فإمّا أنْ نقول بعدم وجوب المقدمة, فإنَّه بعد تقييد كلّ واحدٍ منها لبَّاً بالقدرة على متعلقه, فلا إستحالة في جعل كلِّ واحد منها كذلك.كذلك بناء على الترتب ولكن غايته ثبوت التزاحم في مقام الإمتثال, أي: التنافي بين المجعولين الفعليين, فإنَّ للمكلف قدرة واحدة, فلو صرفها في كِليهما إستلزم إرتفاع القدرة عن الآخر, وليس هذا من التعارض في شيء.

وإمّا أنْ نقول بوجوب المقدمة؛ فيأتي التفصيل الذي تقدم في التنبيه الثاني, وخلاصته هي: إمّا أنْ نقول بأهمية الحرام أو مساواته مع الواجب النفسي؛ فلا تعارض, حيث لا وجوب للواجب النفسي, فلا تكون المقدمة واجبة أصلاً, حيث أنَّها كانت مقدمة الوجوب النفسي, فلا يترشح الوجوب الغيري على مقدمات الوجوب كما تقدم تفصيله.

وأمّا إذا كان الوجوب النفسي هو الأهمّ فلا تكون المقدمة عندئذٍ مقدمة الوجوب الفعلية قيد الوجوب النفسي ولو لم يفعل المقدمة تجنباً للحرام, لأنَّه لم يصرف قدرته في الأهم أو المساوي, وحينئذٍ يأتي ما ذكرناه سابقاً؛ فإنَّه لو قلنا بوجوب المقدمة الموصولة خاصة لم يكن تعارض في البين, لأنَّ الحرمة تكون مقيدة بعدم صرف القدرة في الواجب النفسي, فيجتمع مع وجوب المقدمة الموصلة المساوقة مع تحقيق الواجب النفسي وصرفه القدرة فيها.

وإذا قلنا بوجوب مطلق المقدمة فإنْ كان من جهة إستحالة التقييد بالموصلة فتكون النتيجة التعارض بين دليلي حرمة المقدمة ووجوب ذيها؛ هذا إذا قلنا باستحالة اجتماع الأمر والنهي أو تعلقهما بالعنوان الواحد, وإلا فيكون من باب الإجتماع, وكذا يدخل فيه

ص: 412

إذا قلنا بأنَّ وجوب مطلق المقدمة من جهة عدم المقتضي للتخصيص بالموصلة وكان الوجوب على عنوان المقدمة, بخلاف ما إذا قلنا بتعلق الوجوب بواقع المقدمة أو قلنا بامتناع إجتماع الأمر والنهي؛ إختصَّ الوجوب بالموصلة لا محالة لو كان الدليل الدلالة الإلتزامية, وإلا فالتعارض بين الخطابين إنْ كان الدليل لفظياً, كما عرفت آنفاً.

وكيف كان؛ فإنَّ جميع تلك الإحتمالات إنَّما من الثمرة الظاهرة على القول بالمقدمة الموصلة, أو القول بالوجوب لمطلق المقدمة وإنْ أنكر السيد الوالد قدس سره هذه الثمرة أيضاً, وذلك لأنَّ المقدمة إمّا أنْ تكون توصلية يصحُّ التوصل بها إلى ذيها؛ قلنا بوجوب المقدمة وقيل بجواز الإجتماع أو لا, وكذا إنْ كانت تعبدية بناءً على جواز الإجتماع, ولكن بناءً على الإمتناع وتغليب جانب الحرمة لا تصحُّ المقدمة العبادية قيل بوجوب المقدمة أو لا, ولكن ما ذُكر خلط بين الحكم الفقهي والبحث الأصولي.

ومن الثمرات فساد العبادة التي يكون تركها مقدمة لواجب أهم كالصلاة أول وقتها مع فعلية وجوب إزالة النجاسة عن المسجد, لأنَّ ترك الصلاة حينئذ مقدمة للإزالة فتكون واجبة بالوجوب المقدمي فيكون فعلها حراماً؛ كما عرفت سابقاً من أنَّالأمر بالشيء يكون نهياً عن ضدِّه فتقع فاسدة, لأنَّ النهي في العبادة يوجب الفساد حتى لو كان النهي غيرياً كما تقدم تفصيل ذلك في التنبيه الثاني من التنبيهات.

وأشكل عليه بأنَّ فساد العبادة يعتمد على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده, وإنَّها تبتني على كون النهي الموجب للفساد أعمّ من النهي النفسي والغيري وهما محلُّ البحث, بل إنَّ مسألة الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد أيضاً محل البحث.

ولذا تصدى كثير من الأصوليين إلى مناقشة كلّ واحد من هذه الأصول الثلاثة, فتراهم يلتمسون الأدلَّة للخروج منها؛ فذكر بعضهم أنَّ النهي في المثال إنَّما يكون بالنهي الإستقلالي لا أنْ يكون نهياً غيرياً.

ص: 413

وجعل المحقق الخراساني -تبعاً لصاحب الفصول (قدس سرّاهما)(1)- صحة الصلاة من الثمرات على المقدمة الموصلة, لأنَّ تركها مطلقاً ليس بواجب بل الواجب إنَّما هو تركها الموصل إلى الإزالة, ومع فعل الصلاة لا وجه لكون تركها مطلقاً واجباً, وعرفت الوجه في ذلك هو أنَّ فعل الصلاة أحد المتلازمين والآخر الترك والنهي عن أحد المتلازمين لا يقتضي النهي عن الآخر, فيصير فعل الصلاة صحيحاً لوجود المقتضي وفقد المانع عن الصحة.

وأمّا المحقق الأنصاري قدس سره فقد اعتبر أنَّ ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة واجب فيصير نقيضه حراماً؛ بناءً على المقدمة والمعروف من أنَّ نقيض كلِّ شيء رفعه, وهو كلي له أفراد منها فعل الصلاة فتصير فاسدة, لأنَّ النهي عن الجامع إنَّما يكون نهياً عن مصاديقه إنطباقَ الكلي على أفراده.

وأورد عليه في الكفاية بأنَّ الصلاة لازم للنقيض لا أنْ تكون عينه, ولا دليل على لزوم كون لازم النقيض محكوماً بعين حكم النقيض, بل يجوز ألا يحكم عليه بحكم آخر في الظاهر أبداً.

نعم؛ لا بُدَّ أنْ يكون محكوماً بحكم مغاير لحكم النقيض, كما الملازمة بينهما.

وحاول السيد الوالد قدس سره الجمع بين الرأيين(2)؛ فقال: مقالة الشيخ قدس سره صحيحة بحسب الأنظار العرفية المبنية عليها الأدلَّة الشرعية, وإشكال المحقق الخراساني إنَّما هو صحيح بحسب الدقَّة العقلية, وكلٌّ منهما صحيح في مورده, ثم اختار ما ذهب إليه الشيخ قدس سره عرفاً.

ص: 414


1- . نقل ذلك كلّه في دروس في مسائل علم الأصول؛ ج2 ص122 وما بعدها.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص216.

ولكن الحقُّ أنْ يقال: إنَّ ما ذكره السيد الوالد قدس سره في مقام اختيار الحكم الفقهي في مثل هذه الصلاة التي يكون فعلها موجباً لترك الإزالة فهو صحيح بالأنظار العرفية, وأمّا البحث الذي نحن فيه من إثبات الثمرة على المقدمة فإنَّه عقليٌصرف, ولذا أورد على كلِّ واحد من الرأيين بالإشكالات والتصورات العقلية, فلا بُدَّ من ترجيح أحد الرأيين بالرجوع إلى القواعد العقلية المرعية.

وكيف كان؛ فإنَّ ما ذكر إنَّما هو من الثمرات المهمة التي لا تخلو من النقض والإبرام.

ومن الثمرات برء النذر لمن نذر إتيان واجب بإتيان مقدمة الواجب إذا قلنا بوجوبها, وعدم البرء بناءً على عدم الوجوب.

وفيه: إنَّها مسألة فرعية موضعها الفقه, ولا ينطبق عليه ملاك المسألة الأصولية, فلا يستنتج منها الحكم الكلي, فقد يقال إنَّها تابعة لقصد الناذر, فإنَّه مع الإطلاق أو الغفلة ينصرف إلى الواجب النفسي.

ومن الثمرات أيضاً حصول الفسق بترك واجب له مقدمات كثيرة فيتعدد الواجب وتركه فيتحقق الإصرار على المعصية.

وفيه: إنَّه ليس إلا من ترك الواجب الواحد, فلا تكون إلا معصية واحدة تعددت مقدماتها إم إتَّحدت, وقد تقدم الكلام في ذلك وذكرنا أنَّه إجماعي أيضاً.

نعم؛ لو كان واجب نفسي مقدمة لواجب نفسي آخر وقد تركهما فإنَّها تتعدد المعصية, ولكنه خارج عن محل البحث الذي انعقد في الوجوب الغيري الترشحي فقط.

ص: 415

الجهة الخامسة: تحقيق الأصل في المقدمة عند الشكِّ في وجوبها

وقع الكلام في تأسيس الأصل عند الشكِّ في وجوب المقدمة.

والكلام فيه يقع تارةً في الملازمة واللابُدِّية العقلية, أي: المسألة الأصولية. وأخرى في وجوب المقدمة الترشحي والمسألة الفقهية.

أمّا الأولى؛ فالظاهر أنَّه لا يمكن الرجوع إلى الأصل عند الشكِّ في اللابُدِّية العقلية؛ لانتفاء شروط جريان الأصل فيها من الشكِّ والأثر. وقد ذكر في توجيهه أنَّ إتيان كلّ مقدمة بالنسبة إلى ذيها من الفطريات والوجدانيات لكلِّ أحد, فلا يتصور الشكّ فيها حتى يجري فيها الأصل.

نعم؛ قد تتوجه النفس إليها -تفصيلاً أو إجمالاً- وقد تغفل عنها؛ كما هو الشأن في جميع فطريات النفس ووجدانياتها, ومن المعلوم أنَّه لا ربط لذلك بالشكِّ فيها.

وهذا الإستدلال أَولى مِمّا ذكرهُ بعضهم من الإستدلال على عدم جريان الأصل فيه من أنَّ الملازمة وكذلك وجوب المقدمة من لوازم ماهية الوجوب النفسي, وهي غير مجعولة؛ لا بجعل بسيط لأنَّه خلاف كونه لازماً, ولا بالجعل التأليفي المركب لأنَّ لوازم الماهية ذاتية والذاتي لا يعللّ فلا يمكن إجراء الإستصحابفيه؛ لما سيأتي من البحث في اللوازم ومعناها وأقسامها والشكّ في كون وجوب المقدمة واللابُدِّية على القول به في اللوازم الماهية.

وأمّا من ناحية الأثر؛ فإنَّ المعروف أنَّ الأصول العملية من البراءة والإستصحاب إنَّما تجري طبق الأثر المترتب على المستصحب فيه, وهو إنَّما يكون بلحاظ الأحكام التكليفية التي تقبل التنجيز والتعذير, بحيث يكون في مخالفتها عصيان وعقاب, واللابُدِّية العقلية لا تكون فيها تلك الأحكام إلا ما يترتب على ترك ذي المقدمة فلا مجرى للأصل فيها.

ص: 416

وستأتي الإشكالات التي ذكروها في المقام.

وأمّا الثانية؛ فلا تجري البراءة العقلية في الوجوب الغيري الترشحي, لأنَّ البراءة العقلية تدور مدار العقاب, وإنَّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان أساس البراءة العقلية, ولا عقاب بالمقدمة مطلقاً؛ إلا ما كانت المقدمة عين ذيها كالتوليديات.

وأمّا البراءة الشرعية أو الإستصحاب فيدور جريانها مدار ترتب الأثر في مجراها, فإنْ قلنا بكفاية مطلق الأثر الشرعي في مجريها كما سيأتي.

ولا ريب في أنَّ مطلق الوجوب أثر شرعي. وإنْ قلنا بعدم الكفاية فلا مجري لهما كما عرفت آنفاً من أنَّ الأصول العملية إنَّما تجري بلحاظ الأحكام التكليفية التي تقبل التنجيز والتعذير المترتب على مخالفتها العصيان والعقاب.

وعلى كِلا الرأيين يمكن إجراء الإستصحاب في إثباته أو نفيه بلحاظ حكم آخر يقبل التنجيز والتعذير, فيكون وجوب المقدمة شرعاً موضوعاً له, ولكن يكون إجراء الأصل بلحاظ ذلك الحكم الجزئي المشكوك من الشبهة الموضوعية, وهذا موقوف على تنقيح كبرى ذلك الحكم الآخر بنحو يصلح الوجوب الغيري أنْ يكون تنقيحاً لصغراها, وقد ذكروا لذلك أمثلة؛ منها: جريان استصحاب عدم وجوب المقدمة شرعاً لإثبات جواز أخذ الأجرة عليه وعدم حرمته تكليفاً أو وضعاً الثابتة في الوجوبات.

ولكن ذلك موقوف على كبرى حرمة أخذ الأجرة على الواجبات وهو موضع خلاف؛ فقد ذهب المتأخرون على عدم الحرمة واستدلوا على ذلك بأمور, وقد تقدم ما يتعلق بذلك.

وكيف كان؛ فلا يجري الإستصحاب على كلِّ الفروض.

ومنها: جريان الإستصحاب وعدم وجوب المقدمة شرعاً, فلا يتحقق الإصرار على المعصية لو ترك الواجب النفسي إذا كان له مقدمات متعددة فيكون فاعله فاسقاً.

ص: 417

ولكن عرفت أنَّ الفسق والإصرار على المعصية إنَّما يتحقق بترك الواجب وفعل الحرام, فلا مجرى لاستصحاب وجوب المقدمة شرعاً أو تقيةً.

ومنها: فيما لو نذر الإتيان بواجب؛ فإنَّه على القول بوجوب المقدمة يتحقق الوفاء بالنذر بالإتيان بها, فلو شكَّ يكون إستصحاب عدم الوجوب نافياً لتحقق الإمتثال,فتبقى الذمة مشغولة. ولكن عرفت أيضاً بأنَّ النذر المطلق ينصرف إلى الواجب النفسي, فليس هناك كبرى يعتمد عليها في شمولها للوجوب الغيري.

وكيف كان؛ فقد ذكروا في المقام إشكالات أخرى تعرض لها المحقق الخراساني قدس سره .

ومنها: ما أشرنا إليه آنفاً؛ ومحصله: إنَّ التعبد بالإستصحاب مثلاً إنَّما يكون بلحاظ أنْ يكون ما يجري فيه الإستصحاب تحت تصرف المولى بما هو جاعل للحكم الشرعي أو موضوع الحكم الشرعي, فلا بُدَّ أنْ يكون المستصحب أحدهما المقدمي, وفي غير ذلك لا حجية للإستصحاب, وإذا أردنا تطبيق هذه الكبرى على الوجوب -فضلاً عن الملازمة- يظهر أنَّه ليس داخلاً تحت تصرف المولى, لأنَّه من لوازم ماهية الوجوب النفسي, وهي غير مجعولة لا بجعل بسيط ولا بجعل تأليفي كما عرفت, فلا يمكن إجراء الإستصحاب فيه.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أنَّ الوجوب الغيري وإنْ لم يكن مجعولاً إستقلالاً إلا أنَّه مجعول بالتبع, ويكفي ذلك أنْ يكون تحت سلطان الشارع بجعل منشأ إنتزاعه؛ وهو صحيح.

الوجه الثاني: إنَّه لا يشترط أنْ يكون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي, وإنْ كان ذلك مشهوراً في ألسنة الأصوليين, ودليلهم على ذلك أنَّ الإستصحاب حكم شرعي, فلا بُدَّ أنَّ ما يجري فيه تحت سلطان الشارع, وذلك لأنَّه كما سيأتي في بحث

ص: 418

الإستصحاب إنَّه يكفي في صحة جريان الإستصحاب ترتب مطلق الأثر الشرعي العملي, لأنَّ الإستصحاب وظيفة عملية في موارد الشكّ, فلا بُدَّ أنْ يكون المشكوك منتهياً إلى الأثر العملي حتى يجري فيه الأصل, والإستصحاب ليس إثباتاً حقيقياً للمستصحب, بل هو إثبات تعبدي ظاهري, وهو يعني إثبات أثره العملي, وهذا يكفي في صحة جريان الإستصحاب.

وسيأتي تفصيل الكلام في محله إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثالث: إنَّ وجوب المقدمة ليس من لوازم الماهية, لأنَّه بناءً على كون الحكم أمراً إعتبارياً فالأمر واضح, وأمّا بناءً على إنَّه لم يكن كذلك فإنَّ وجوب المقدمة على القول به باعتباره أمراً وجودياً قابل للوجود وعدمه في نفس المولى, ولوازم الماهية أمور واجبة بذاتها وواقعيتها وصادقة مع قطع النظر عن وجودها, وإذا كان المراد من كلام المحقق الخراساني من وجوب المقدمة أنَّه من لوازم الماهية ولكنه بالتبع غير صحيح, ولكن إستفادة ذلك من كلامه بعيد.وللمحقق الإصفهاني قدس سره (1) كلام في المقام لا بأس بذكره بعد بيان الفرق بين لوازم الوجود ولوازم الماهية, فإنَّهم قالوا أنَّ ما يكون لازماً للشيء في حدِّ نفسه مع قطع النظر عن

الوجود الخارجي والذهني, فهو من لوازم الماهية؛ وما يكون لازماً لشيء في عالم وجوده فهو من لوازم الوجود.

ومثال الأول الزوجية للأربعة وإمكان الممكن, ومثال الثاني حرارة النار, فأشكل المحقق المزبور عليه بأنَّه بناءً على ما هو التحقيق من أصالة الوجود تكون الماهية أمراً إعتبارياً وهمياً, فلا معنى لكون لازم الماهية هو الأمر الثابت لها بقطع النظر عن الوجود مطلقاً, فإنَّ

ص: 419


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص114.

اللازم معلول ومستتبع للملزوم, فلا بُدَّ أنْ يكون الملزوم أمراً أصيلاً صالحاً للتأثير في إيجاد ذلك اللازم وليس هو غير الوجود, فيكون المقصود من لوازم الماهية هو اللازم لمطلق وجود الشيء العيني والذهني, أمّا لوازم الوجود فهو لازم الوجود العيني فقط.

والصحيح أنْ يقال: إنَّ هذا البحث دخيل في علم الأصول, وإنَّما أدرجوه فيه كسائر المباحث الفلسفية العقلية, ومن أجله ابتعدت مباحث علم الأصول ومسائله عن الذوق العرفي والسليقة المستقيمة التي لها الدخل الكبير في استنباط الأحكام الشرعية, وخرجت

المباحث الأصولية عن الطور المألوف.

وعلى أي حالٍ؛ فإنَّ ما ذكره قدس سره يعتمد على أصالة الوجود, وهو مخالف لما يستفاد من ظواهر النصوص القرآنية والأخبار الواردة عن المعصومين علیهم السلام ليس المقام مورد ذكرها, وعلى فرض القول بأصالة الوجود فإنَّه لا ريب أنَّه بعد تحقق الماهية واقترانها بالوجود وعدم إمكان التفكيك بينهما في هذه المرحلة يكون للماهية أمراً أصيلاً صالحاً للتأثير في إيجاد اللازم, والعقل له السعة في التفكيك بين اللوازم فينسب بعضها إلى الماهية مع قطع النظر عن الوجود, والبعض الآخر إلى الوجود بقطع النظر عن الماهية كما ذكروه.

والدليل على ذلك صدق القضية القائلة للإنسان غير الموجود في الخارج ولا في الذهن أنَّه ممكن, أو الأربعة غير الموجودة زوج, ونحو ذلك من القضايا الصادقة مع قطع النظر عن الوجود, وليس المحكوم عليه فيها هو الموجود في الذهن كما هو واضح, وصدق هذه القضايا برهان على صحة ما ذكرناه.

ومنه يظهر الجواب عمّا ذكره السيد الصدر قدس سره (1) من أنَّ عالم الواقع أوسع من عالم الوجود العيني والذهني, فلوازم الماهية أمور واقعية وليست أموراً وجوديةحقيقية, لذلك تكون

ص: 420


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص279.

صادقة وثابتة مع فرض عدم الوجود, فهي أمور واجبة ضرورية ولكنها ليست واجبة بوجودها وإنَّما واجبة بذاتها, واستنتج من ذلك أنَّه لا يلزم منه تعدد واجب الوجود.

كما إنَّه يلزم من ذلك أنَّ ما قيل من اللوازم معلومات للملزوم, فبناءً على أصالة الوجود لا يعقل تأثير الماهية فيها واستلزامها لها فاسد, فإنَّ نسبة اللوازم إلى ملزوماتها إنَّما هي نسبة العرض إلى المعروض لا المعلول إلى العلة, بمعنى أنَّها ليست أموراً وجودية حتى تحتاج إلى العلة في إيجادها وإنَّما هي أمور واقعية واجبة بذاتها وواقعيتها لا بوجودها.

وعليه؛ فليست لوازم الماهية مجعولة حقيقة مطلقاً حتى الجعل التبعي, بل لها الواقعية والثبوت الذاتي سواء تحقق وجود للملزوم أم لا, وإنَّما هي مجعولة بالعرض والمجاز باعتبار انتزاعها من الملزوم الموجود, فالوجوب للملزوم حقيقية وليس للازم إلا مجازاً.

ويرد عليه: إنْ كان مرادهُ ما ذكرناه فلا بأس, وإلا فإنَّه خلاف المصطلح عليه عند من أسَّس هذه الإصطلاحات وهم أصل المعقول, فإنَّهم حصروا الأشياء في الوجود والماهية, وجعلوا الواقع الذي اصطلح عليه السيد قدس سره أحدهما, فإذا كان مراده من الواقع ذلك فهو لم يسلم مِمّا أورد عليهم, وأمّا إذا كان المراد الواقع عليه عند أهل المعنى والفقهاء الذي هو الأعم من الوجود فهو يسلم عن جميع ما ذكروه في المقام وغيره, ولكنه اصطلاح لم يرتضيه أصحاب هذه المقالات.

وكيف كان؛ فإنَّ وجوب المقدمة على القول به خارج عمّا ذكره كِلا الطرفين, فإنَّه حكم إعتباري يكون وجوده وعدمه تحت إختيار المعتبر وليس من لوازم الماهية حتى يكون معلولاً لها, ويكون واقعية الأمور الإعتبارية ووجودها باعتبارها من المعتبر فهي صادقة مع قطع النظر عن وجودها.

ص: 421

ومن جميع ذلك يظهر فساد ما ذكره في الكفاية وغيره مِمّا ذكره العلماء في المقام, وعلى فرض التنزل والقول بأنَّ وجوب المقدمة من لوازم الماهية فإنَّه لا يجري فيه الإستصحاب كما عرفت من أنَّ شرط جريان الإستصحاب أنْ يكون المستصحب تحت سلطان المولى وتصرفه بما هو مولى؛ ولوازم الماهية خارجة عن هذا الملاك.

اللهم إلا أنْ يراد من إجراء الأصل نفي الموجود بالعرض أو بالتبع ظاهراً, وبلحاظ الأثر العملي في جريان الإستصحاب.

ثم إنَّ هناك إشكالات غير ما تقدم ذكرها الأعلام؛ نذكر إثنين منها:

الإشكال الأول: ما ذكروه في جريان الأصل في الملازمة -المسألة الأصولية- بأنَّه لا حالة سابقة متبقية للملازمة لأنَّها لو كانت فهي أزلية وأبدية, ولا يتحقق العلم بعدمها سابقاً والشكُّ في بقائها لاحقاً.ويمكن رفع الإشكال بجريان أصل العدم إذا كان المراد هو القضية الشرطية العرفية, أو العدم الأزلي إذا كان المقصود القضية الفعلية الخارجية, أي: أصل اللزوم الفعلي من قبل الوجوب النفسي الفعلي للوجوب الغيري, فهو مسبوق بالعدم ولو قبل تحقق اللزوم ولو كان بالعدم الأزلي.

نعم؛ إذا كان المقصود بالملازمة القضية الحقيقية الشرطية الصادقة على تقدير ثبوتها قبل تحقق الشرط والجزاء فهي لا حالة سابقة لها.

وهذا الإشكال والجواب يجريان في كثير من اللوازم والملزومات.

الإشكال الثاني: ما ذكروه في كلتا المسألتين؛ الأصولية -أي الملازمة-, والفقهية -أي الوجوب الغيري- من دعوى إستحالة إجراء الأصل في الوجوب الغيري مع احتمال الملازمة, لأنَّه من التعبد فيما يحتمل إستحالته, إذ الملازمة لو كانت فالتفكيك بين اللازم

ص: 422

والملزوم مستحيل, ولأجل هذا الإحتمال يستحيل التعبد المذكور, إذ أنَّ شرط جريان الأصول العملية أنْ ننتهي إلى نتيجة مقطوعة لا محتملة, فاحتمال الإستحالة في ثبوت التعبد مساق من عدم ثبوته, كالشكِّ في الحجية.

وأجاب المحقق الخراساني قدس سره عن هذا الإشكال بأنَّه مبنيٌّ على ثبوت التلازم بين الحكمين حتى في مرتبة الفعلية من الأحكام, وأمّا إذا قيل بأنَّ التلازم على تقديره إنَّما هو بين الأحكام في مرحلة الواقع فلا استحالة, وهذا هو مختاره في الكفاية وبه يندفع الإشكال.

وتحقيق الكلام يستدعي بيان المراد من الفعلية, وقد فسَّروها بوجوه يأتي ذكرها في بحث الحجج والإجابات نذكرها على سبيل الإيجاز, وهي:

أولاً: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّ الحكم الواقعي هو الإنشائي الذي لا حقيقة له إلا الإعتبار, والإنشاء بالحكم الفعلي الإرادة الحقيقية والطلب إيجاد للفعل من العبد. وقد جمع قدس سره بين الأحكام الواقعية والظاهرية بافتراض إرتفاع فعلية الحكم الواقعي في موارد الأصول والأمارات وبقائها إنشائية محضة, وحينئذٍ لا تناقض في اجتماع حكمين متضادَّين في مرحلة الإنشاء والإعتبار المحض, وإنَّما المستحيل هو اجتماع إرادتين واقعيتين فعليتين.

وعلى هذا التفسير يكون دعوى اختصاص التلازم بين الوجوبين في مرحلة الأحكام الواقعية وعدم ثبوته في الأحكام الفعلية غير صحيحة, إذ لا يعقل التلازم بين الإنشائين اللذين هما مجرد لفظ واعتبار مع عدم تحقق التلازم بين الإرادتين الحقيقيتين.

ص: 423


1- . نقله في بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص274 وما بعدها.

ثانياً: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ المراد بها المجعول, أي: الحكم على نحو القضية الخارجية عند فعلية الموضوع خارجاً.

وعليه؛ فلا إشكال في ثبوت التلازم بين الحكمين الفعليين, فإنَّه لو فرض ثبوت التلازم بين الجعلين والقضيتين الحقيقيتين كان ثبوته بين المجعولين أَولى, فحين فعلية الجعل النفسي يتحقق موضوعه خارجاً, فيصحُّ الجعل الغيري المقيد بقيود الجعل الفعلي النفسي فعلياً أيضاً. ولكن هذا المعنى للفعلية لا يمكن فرض إرتفاعها في موارد الأصول والأمارات, وهذا لا يكون مقصود صاحب الكفاية.

ثالثاً: الفعلية عند المحقق الإصفهاني قدس سره (2) بمعنى صيرورة الطلب باعثاً ومحركاً للمكلف للإمتثال وإتيان الفعل المتوقف على الوصول, وقد يساوي هذا المعنى للتنجز بحسب بعض المصطلحات.

وبناءً على هذا المصطلح يصحُّ الجواب الذي ذكره المحقق الخراساني قدس سره ؛ فإنَّه من الواضح عدم التلازم بين الحكمين في مرحلة الفعلية المساوقة مع التنجز, فإنَّه لا تلازم بين وصول الوجوب النفسي وبين وصول الوجوب الغيري.

والحقُّ إنَّه لا تفاوت بين التفسيرات الثلاثة وإنْ كان الصحيح من الفعلية ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره , وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى, كما إنَّه أجاب المحقق الإصفهاني قدس سره عن الإشكال المزبور بأنَّه على فرض ثبوت الملازمة في مرحلة الأحكام الفعلية, فإنَّه يمكن إجراء الأصل أيضاً, لأنَّه بمجرد إحتمال الإستحالة في التعبد المذكور لا يمنع عن التمسك بدليل التعبد, وإنَّما لا يصحُّ التمسك به إذا حصل القطع بالإستحالة, ومن هنا

ص: 424


1- . المصدر السابق.
2- . المصدر السابق.

جاز التمسك بإطلاق دليل التعبد بحجية البينة فيما لو أُخبرت بمضمون يحتمل إستحالته ثبوتاً؛ كما إذا أخبرت البينة بتكلم الميت المحتمل إستحالة.

كما أنَّه يصحُّ التمسك بظاهر آية النبأ مثلاً في حجية الخبر الواحد لو فرض ظهورها من ذلك, ولا يرفع اليد عنه لمجرد إحتمال إستحالته.

وأشكل عليه السيد الصدر قدس سره بأنَّ الإستحالة المحتملة تارةً في الحكم الواقعي فقط وهذا هو مؤدى الأصل أو الأمارة؛ دون أنْ تكون هناك نكته مشتركة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري, أي: نفس التعبد. وأخرى تكون في الحكم الواقعي مع وجود نكته مشتركة بينه وبين نفس التعبد.

ففي المورد الأول؛ لا يضرُّ ذلك الإحتمال في التمسك بدليل التعبد لإثباته, لأنَّ المحتمل إستحالته هو الحكم الواقعي وهو لم يثبت حقيقة بل تعبداً, فيكون الثابتحقيقة ووجداناً إنَّما هو التعبد بوجود ذلك الحكم وتنجز آثاره وهو مِمّا يقطع بإمكانه, فلا يصحُّ رفع اليد عن دليل ثبوته.

وفي المورد الثاني؛ يستحيل التعبد بالمحتمل لأنَّه يستلزم الخلف, إذ أنَّ إثبات ذلك التعبد بدليله يقتضي ثبوته وجداناً وحقيقةً, وحينئذٍ إنْ فرض احتمال الإستحالة في ذلك التعبد كان تناقضاً وإنْ كانت نكته مشتركة بين مرحلة التعبد والواقع, فإنَّ احتمال الإستحالة يستلزم فيه إرتفاع التعبد وهو خلف؛ إذ مع احتمال الإستحالة في الواقع أيضاً يرتفع, ومع ارتفاعه يرتفع الشك في الواقع إذا كان منشؤه احتمال الإستحالة فقط كما في المقام, وهو يستلزم ارتفاع التعبد كما عرفت.

والمثالين اللذين ذكرهما المحقق الإصفهاني قدس سره من الأول, ومحل الكلام من الثاني؛ فلا وجه لقياسه عليها.

ص: 425

ويمكن الجواب عنه بأنَّ مفروض الكلام هو المورد الثاني, وأمّا المورد الاول فإنَّه إذا لم يثبت الحكم الواقعي حقيقةً, وإنَّما يثبت تعبداً لأجل تنجز آثاره فيثبت التعبد حقيقة ووجداناً, وإلا؛ فإنَّ الحكم الواقعي من دون الآثار والتنجز ليس إلا من مجرد الإعتبار المحض, ولا وجه لاحتمال إستحالته, فيكون مجرى هذا الإحتمال هو التعبد فيكون ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره من أنَّ مجرد احتمال الإستحالة في التعبد يكفي في الرجوع إلى دليل التعبد, وإنَّ التفكيك بين الحكم الواقعي والتعبد مجرد فرض لا واقع له.

والحقّ؛ إنَّ ما ذكره الأعلام من النقض والإبرام في المقام كلُّها فروض عقلية وإقحام الأصول في مسائل عقلية, ولعلّه لأجل ذلك أعرض السيد الوالد قدس سره عن ذكرها في المقام, فإنَّ مبناه هو الإبتعاد عن جرِّ الأصول في المسائل العقلية الصرفة, وإقحام المباحث الفلسفية في علم الأصول.

الجهة السادسة:

في إثبات الوجوب الغيري الشرعي من أجل ثبوت الملازمة بين الوجوبين الشرعيين؛ وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته.

والحقُّ ثبوت وجوب المقدمة تبعاً لوجوب ذيها, ويمكن إثبات ذلك بوجوه:

الوجه الأول: الوجدان القاضي بأنَّ طلب الشيء يستدعي طلب مقدماته أيضاً حتى مع الغفلة عن اللا بُدّية العقلية إذا لم يغفل عن المقدمات, ولأجل وضوح ذلك ربما يتعلق الطلب بالمقدمات إستقلالاً والأمر بذيها تبعاً, كما إذا قال: (إركب السيارة واذهب إلى الزيارة), ويكون الطلب التفصيلي لذي المقدمة قد إنطوى على طلب جميع مقدمات إنطواء الفرع في الأصل, والإرادة الإجمالية في التفصيلية الإلتقائية.

الوجه الثاني: إتّفاق العقلاء على وجود أوامر غيرية فيما بينهم, والأوامر الغيرية في الشرع أكثر من أنْ تحصى.

ص: 426

الوجه الثالث: صحة إستعمال الأمر في الطلب الغيري وفي المحاورات العرفية بلا شبهة وارتياب, وجعل ذلك كله إرشاداً إلى الشرطية أو الجزئية أو المانعية, فهو مِمّا لا ربط له بكون نفس الأمر الغيري إرشاداً.

وهذه الأدلَّة الثلاثة الدالة على الوقوع تكفي في الحكم؛ فإنَّ أول دليل على شيء وقوعه, ولا حاجة لنا في إقامة البراهين والأدلَّة غيرها, ولكنهم استدلوا بأدلة أخرى قابلة للمناقشة؛ منها: إنَّه لو لم تجب المقدمة فلا مانع من طرف الشارع في تركها, ومع الترك؛ فإنْ بقي الواجب على وجوبه فهو تكليف بما لا يطاق, وإلا انقلب الواجب المطلق إلى المشروط وهو باطل.

ويرد عليه بأنَّه بعد اللابُدِّية العقلية يتمكن المكلف من الإتيان بالواجب بحكم العقل حتى فيما إذا لم يمنع الشارع من ترك الواجب؛ فلا يكون من التكليف بما لا يطاق, فيصحُّ العقاب على ترك الواجب حينئذ.

ومنها: التفصيل بين السبب وغيره؛ فتجب المقدمة في الأول وعدمه في الثاني, لأنَّ المسبب بدونه مقدور, والتكليف إنَّما توجه بالسبب لكفاية القدرة في توجيه التكليف وصحته.

ويرد عليه ما ذكرناه آنفاً مع أنَّه ليس بالتفصيل في وجوب المقدمة, وإنَّما هو قول بتوجه الوجوب النفسي إلى السبب فقط.

ومنها: التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره بالوجوب في الأول دون الأخير؛ بدعوى أنَّه لولا وجوبه شرعاً لما جعله الشارع شرطاً.

وفيه: إنَّه مستلزم للدور أولاً كما هو واضح, وإنَّ مناط المقدمية توقف ذي المقدمة عليه ودخالة المقدمة في ذيها؛ بلا فرق بين كون منشأ التوقف عقلياً أو شرعياً أو عرفياً ثانياً.

ومنها: إنَّ الحكم كما هو المعروف له ثلاثة مراحل؛ مرحلة الملاك, ومرحلة الحب والإرادة, ومرحلة الجعل والإعتبار.

ص: 427

أمّا في مرحلة الملاك؛ فقيل إنَّه لا ينبغي أنْ يتوهم الملازمة بين المقدمة وذيها في الملاك, فإنَّه لو فرض أنَّ وجود الملاك في شيء يستدعي وجود في مقدماته أيضاً لزم الخلف وانقلاب الواجب الغيري إلى النفسي.

وأمّا في مرحلة الجعل والإعتبار؛ فقيل لا ملازمة بين اعتبار الوجوب النفسي واعتبار الوجوب الغيري, لأنَّ الملازمة بينهما إمّا أنْ يراد بها: الملازمة بنحو الإستتباع الغيري.

أو يراد بها: إنَّ اعتبار الوجوب النفسي يحقق داعياً في نفس المولى لجعل الوجوب على مقدماته.

وكِلاهما غير موجود؛

أمّا المعنى الأول؛ فإنَّه غير معقول في باب الجعل والإنشاء, لأنَّ إنشاء الجعل فعل إختياري مباشري للجاعل فيكون مستتبعاً لمبادئه من الإختيار والإرادة لالفعل مباشري آخر, إذ الفعل المباشري من الفاعل المختار لا يكون علة لفعل مباشري آخر منه, فالوجوب النفسي لا يعقل أنْ يستتبع قهراً إنشاء للوجوب الغيري.

وأمّا الملازمة بمعنى كونه داعياً فهو صحيح في الأفعال المباشرية لجعل الحكم واعتباره, لكن الداعي لجعل الحكم إمّا أنْ يكون هو إبراز الحب والإرادة, وإمّا أنْ يكون تحديد مركز المسؤولية وتعيين ما يدخل في عهدة المكلف فيما لو فرض أنَّ المحبوب المولوي لم يكن بجميع مقدماته تحت قدرة المكلف بحيث يترك تحقيقه إليه بإختياره, وكِلا هذين الداعيين غير معقول في المقام, وذلك لأنَّ الحب الغيري للمقدمة لو كان للملازمة في مرحلة الحب والشوق فيكفي نفس الجعل في إبرازه, وإنْ فرض عدم وجوده فلا وجود للمبرز حتى يحتاج إلى إبرازه بالجعل, فالداعي الأول غير موجود, كما إنَّه لو كان الداعي من أجل تحديد مركز المسؤولية وتعيين ما يدخل في عهدة المكلف؛ فلأنَّه إنَّما يكون في

ص: 428

المحبوب المولوي الذي يدخل في عهدة المكلف لا المحبوب الغيري الذي لا يتنجز ولا يدخل في عهدته.

ومن جميع ذلك يظهر عدم الملازمة بين الوجوب النفسي والغيري في مرحلة الجعل والإعتبار.

وأمّا بلحاظ الشوق والإرادة؛ فالصحيح هو التلازم بين الحب النفسي والحب الغيري, لأنَّ الشوق أمر تكويني وليس كالجعل والإعتبار فعلاً إختياراً, فإنَّ من المعقول أنْ يقع أمراً تكوينياً تبعاً لأمر تكويني آخر.

والصحيح: إنَّ جميع ما ذكر قابل للمناقشة وإنَّها مجرد تصورات, فيصدم مع ما هو الواقع في الإرادة والجعل الذي يدلُّ عليه الوجدان واتّفاق العقلاء وصحة الإستعمال التي تقدم ذكرها, وقد ذكرنا أنَّها كافية في صحة أمر وإمكانه وتحققه.

ومنها: إنَّ ما يصحُّ في الإرادة التكوينية يصحُّ في الإرادة التشريعية؛ وهذه كبرى لا إشكال فيها, وبانضمامها إلى الصغرى -وهي ثبوت الملازمة في الإرادة التكوينية, أي: من أراد شيئاً واشتاق إليه أراد مقدماته- ينتج ثبوت الملازمة بين الوجوبين, واستدلَّ على الصغرى تارةً؛ بأنَّ من اشتاق إلى شيء اشتاقَ إلى مقدماته لأنَّه يأتي بها, ولا ريب أنَّ الفعل الإختياري الصادر عن الفاعل المختار ما لم تتعلق به الإرادة لا يصدر منه.

وأخرى؛ بأنَّ من أراد شيئاً بالإرادة التكوينية فإنَّه يتصدى إلى حفظه من ناحية مقدماته, فمن أراد شرب الماء فهو يتصدى إلى حفظ مقدمته؛ وهي إعداده مثلاً, وفي الإرادة التشريعية يحفظ ما تعلقت به من ناحية مقدماته بإيجابه غيرياً.

والفرق بين الإرادتين؛ إنَّه في التكوينية يفعل المقدمة, وفي التشريعية يكون بإيجابه على العبد, وهذا يصعب إنكاره, ولعل الوجدان والإتّفاق اللذان إدَّعيناهما في ابتداء هذا البحث يرجعان إليه وهو منشؤهما.

ص: 429

ومع ذلك فقد أشكل عليه بعض الأعلام:

أولاً: إنَّ التشكيك في الملازمة بين الإرادتين -التشريعية والتكوينية- يجعل بالإمكان التشكيك في أيٍّ منهما.

وفيه: إنَّ لا ملازمة في ذلك, فإنَّه قد يكون في التشريعية مزية خاصة تشبه الإرادة التكوينية فلا يكون التشكيك في الإرادة التشريعية مستلزماً للتشكيك في الإرادة التكوينية.

ثانياً: إنَّ الإرادة التكوينية التي تعلقت بذي المقدمة قد تعلقت بالمقدمة أيضاً, فيكون إتيانها بنفس تلك الإرادة.

وفيه: إنَّه لمكان أهمية المقدمة لا بأس بها, ولكنه لا يضر بأصل المقصود.

ومنه يظهر الخدشة فيما ذكره أخيراً من حفظ المراد التشريعي من ناحية المقدمة ربما يكون بالإيجاب النفسي كما يكون بإيجابه غيرياً؛ فإنَّه لا يضرُّ بأصل المقصود من هذا الدليل.

والصحيح؛ إنَّ هذا الدليل متين جداً, وربما يكون هو منشأ الوجدان واتّفاق العقل كما عرفت.

ومنها: التمسك بالأوامر الخاصة التي وردت في بعض المقامات, حيث يستكشف بالبرهان الإنّي ثبوت الحب والإرادة الغيرية فيها بعد العلم بعدم وجود الملاك النفسي في مواردها, وإذا ثبتت الملازمة في بعض الموارد تثبتت في الكلّ؛ لعدم إمكان التبعيض.

وأورد عليه بأنَّ الداعي من تلك الأوامر لم ينحصر بما ذكر حتى يتم الإستكشاف بطريق الإن, إذ يمكن أنْ يكون هنالك داعٍ آخر يقتضي الأمر بها, وهو الإرشاد إلى مقدمتها ودخلها في الغرض من الواجب النفسي بداعي الإرشاد.

ص: 430

مع إنّه إنْ أريد من الإستكشاف المزبور من ظهور الأمر في المولوية والصدور أنْ إرادة حقيقيه فهذا الظهور غير مسلم في جميع أوامر الأجزاء والشرائط؛ فإنَّها إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية للمركبات الشرعية لا أكثر من ذلك.

ويرد عليه بما ذكرنا في ابتداء البحث من أنَّ ورود تلك الأوامر يكفي في ثبوت الوجوب الغيري, سواء كان بداعي الإرشاد أو إرادة حقيقية وإنْ كانت تبعية.

والحق؛ إنَّ جميع ما ذكر من المناقشات إنَّما هو تبعيد للمسافات, فالبرهان إنَّما هو الذي ذكرناه في ما تقدم, ثم إنَّه قد يفصل في القول بوجوب المقدمة شرعاً بين المقدمة الفعلية؛ فلا تكون واجبة, وبين المقدمة الشرعية؛ فتكون واجبة. وبين المقدمة التي تكون سبباً توليدياً, وبين غيرها؛ فتكون واجبة في الأولى دون الثانية, وقد عرفت آنفاً وجه التفصيل في كلِّ واحد منها والجواب عنه.

الجهة السابعة:
اشارة

في مقدمة المستحب والمكروه والحرامأمّا مقدمة المندوب؛ فإنَّها مندوبة بعين ما ذكرناه في مقدمة الواجب, فيكون وزانها وزان مقدمة الواجب من دون كلام زائد, وربما يمكن توجيه ذلك بأنَّ المطلوبية العرضية التي تكون للمقدمة من مراتب الطلب؛ شديداً كان أم ضعيفاً.

وأمّا مقدمة الحرام؛ فإنَّه لا ريب في وجود الفرق بينها وبين مقدمة الوجوب والمندوب؛ لأنَّ الطلب المتعلق بترك الحرام إنَّما يكون متعلقه مجموع المقدمات لا جمعيها, كما هو كذلك في الواجب, ولا شكَّ أنَّ انتفاء إحدى المقدمات في الحرام يوجب عدم التمكن من ذي المقدمة الذي يكون المطلوب فيه الترك, وهو يحصل بترك إحدى المقدمات؛ على عكس مقدمات الواجب والمندوب لتوقفها على إتيان جميع المقدمات, إذ المطلوب فيها الفعل, وهو متوقف على إتيان كلّ ما له دخل في التحقيق.

ص: 431

وبناءً على ذلك تحرم إحدى مقدمات الحرام, فلو أتى بجميع تلك المقدمات إلا واحدة منها مِمّا أوجب ترك الحرام, فهو لم يأتِ بالحرام الغيري أبداً لعدم تحقق ذلك في المقدمة.

وحينئذٍ؛ فإنَّ الصور التي يمكن تصويرها في مقدمات الحرام التي هي على قسمين؛ إمّا أنْ تكون إختيارية أو توليدية, وهي:

الصورة الأولى: أنْ تكون المقدمات كلّها عرضية من حيث مركزها من ذيها كانت هناك حرمة واحدة على مجموعها, أي: طلب ترك إحداها تخييراً ويتعين لا محالة في ترك ما يقع في آخر السلسلة.

الصورة الثانية: أنْ تكون إحداها تقع من حيث المركز في آخر السلسلة من حيث التسلسل دائماً, ففي هذه الصورة يكون المطلوب تركها تعييناً ولا يكون تخييراً لترك إحداها كما في الأولى.

وقيل في وجه ذلك: إنَّ ترك المقدمة الواقعة في المرتبة السابقة يستنتج ترك تلك المقدمة لا محالة؛ فلا وجه لطلبه ولو تخييراً, فإنَّ من طلب مجموعة التركين وامتثال الحرمة غير موقوف عليها, بل يتوقف على إحداهما. وبما أنَّ أحد التركين واقع لا محالة؛ فستكون حرمة مجموع المقدمات مؤدياً إلى المنع عن الأخير وطلب تركها تعييناً.

الصورة الثالثة: أنْ تكون من المحرمات التوليدية؛ كما في حرمة إحراق المصحف, ويكون الإلقاء في النار سبباً له, فإنَّ في مثال ذلك تكون مقدمة مجموع أمور عرضية كالصورة الأولى, فيكون الواجب ترك إحداها تخييراً ويتعين هذا المطلوب التخييري تعيناً عقلياً فيما إذا كان منحصراً فيه, وأمّا غير المنحصر فيه فلا يطلب تركه ولا يحرم فعله ولا يتحقق التجري أيضاً حتى بناءاً على حرمة التجري, لأنَّه لم يفعل ما يوجب التجري, لأنَّ مورده إنَّما هو في ما إذا كان الفعل حراماً إعتقاداً وحلالاً واقعياً, ففي المقام لم تتحقق الحرمه الإعتقادية.

ص: 432

نعم؛ لا يبعد تحقق بعض مراتب التجري فيما إذا كان بانياً على إتيان الحرام على كلِّ تقدير, فبترك المقدمات ينترك الحرام قهراً.

ومن جميع ذلك يتَّضح أنَّ مقدمات الحرام الإختياري دون التوليدي ليست بمحرمة ولو ارتكب جميعها؛ إذا كانت الإدارة منصرفة عن ارتكاب الحرام, وإلا كانت محرمة لتعين المطلوب حينئذ؛ وهو ترك الإرادة, بخلاف التوليدي؛ فإنَّ الواجب ترك إحداها تخييراً.

هذا كلُّه إذا لم يستفد من الأدلَّة حرمة أمر بحرمة مقدماته أيضاً كما ورد في الرشوة والربا والخمر, فإنَّه قد يستفاد من أدلة حرمتها تعميم الحرمة الشرعية الغيرية لجملة كثيرة من مقدماتها.

ولو كانت الحرمة نفسية بملاك غيري أو نستفيد الحرمة لها من حرمة تعريض الإنسان نفسه لمظنَّة إرتكاب الحرام, كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)(1)؛ بناءً على أنَّ المراد من الوقاية ما يشمل ترك التعرض والإبتعاد عن المحرمات بمقدماتها, فإنَّ جميعها من الحظر.

وهذا خارج عن مورد بحث الأصوليين.

وأمّا مقدمات المكروه فهي كمقدمات الحرام بلا مزيد كلام.

ختام

تقدم في بحث الواجب النفسي والواجب الغيري أنَّه لا ثواب ولا عقاب في الواجبات الغيرية غير ما يترتب على الواجب النفسي, وذكرنا هناك أنَّ ما ذكره الأصوليين لا يتمُّ مع ما يستفاد من ظواهر بعض الأدلَّة التي تدلُّ على ترتب الثواب على جملة من مقدمات الواجبات والمندوبات كما ذكر السيد الوالد قدس سره توجيه ذلك بما ينسجم مع مقالة الأصوليين

ص: 433


1- . سورة التحريم؛ الآية 6.

من عدم الثواب بأحد وجهين:

الأول: إنَّ الثواب تفضُّل, بل إنَّ استحقاقه تفضُّلٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ يؤتيه بما يشاء على ما يشاء لمن يريد, وهذا هو المنساق من جملة من الآيات والروايات كما هو مفصل في محلِّه.

وبناءً على ذلك؛ فلا إشكال في ترتب الثواب على بعض المقدمات, لأنَّ تفضله تعالى غير محدود بحدٍّ, ولا يعلم منشؤه ومقداره إلا ذاته الأقدس؛ فيسقط رأس البحث أصلاً حينئذٍ.

الثاني: إنبعاث الثواب من التكاليف النفسية العبادية إلى جميع مقدماتها, نظير ما ورد من أنَّ الله تعالى يحفظ لصلاح الرجل أهله وجيرانه وأهل قريته, وهذا هو المرجو من سعة فضل الله تعالى غير المتناهي, فيكون التكليف النفسي من الواسطة في الثبوت لجميع مقدماته؛ سواء أتى بالتكليف النفسي أو منع عنه مانعشرعي, كما يرشد إليه قوله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)(1), وقد ورد في أبواب السعي في قضاء حاجة المؤمن من الثواب ولو لم تقضَ الحاجة, والمشي للحج وزيارة الحسين علیه السلام ولو منع عن حصول المقصود.

وقيل أيضاً في وجه ذلك: إنَّ الثواب على ذي المقدمة لكن بزيادة المقدمات أو المشقة في تحملها يزيد الثواب عليه؛ من باب (إِنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا), فليس الثواب على المقدمة ولكنه على ذي المقدمة؛ فإنَّه يثاب عليه بثواب عظيم على قدر مقدماته المذكورة في النصوص.

ولكن هذا الوجه فيه تأمل واضح؛ فإنَّ ظواهر الأدلَّة التي تدلُّ على ترتب الثواب على الأعمال إنَّما تثبت لنفس المقدمات.

نعم؛ لا يبعد حصول المبغوضية من بعض المحرمات النفسية إلى مقدماتها في الجملة؛ حصل الحرام النفسي أو لم يحصل.

ص: 434


1- . سورة النساء؛ الآية 100.

هذا كلُّه لو لم تكن مقدمات الواجبات والمندوبات بنفسها مطلوبة بالذات, ولم تكن مقدمة الحرام مبغوضه بنفسها, وإلا فيكون ترتب الثواب والعقاب على المقدمات واضحاً لا شبهة فيه.

ثم إنَّه لا إشكال في حرمة السفر لغاية محرمة ووجوب الإتمام فيه وليس مبنياً على حرمة مقدمة الحرام بل من أجل دليل مخصوص كما ذكر في الفقه.

تم بعون الله تعالى الجزء الثالث ... ويليه الجزء الرابع؛ في مبحث الضدّ

ص: 435

ص: 436

الفهرست

الفصل الثالث: المفاهيم ......................................................... 7

تمهيد ........................................................................... 7

مفهوم الشرط .................................................................. 20

الجهة الأولى: مفاد الجملة الشرطية ............................................... 20

الجهة الثانية: دلالة الجملة على العلّية التامة المنحصرة في المدلول التصوري والتصديقي ... 26

تنبيهات مفهوم الشرط .......................................................... 39

التنبيه الأول: صور الوحدة والتعدد من حيث الشرط والجزاء . .................. 39

التنبيه الثاني: في تعدد الجزاء بتعدد الشرط ........................................ 46

أقسام البحث ................................................................... 48

تتمة فيها أمور .................................................................. 53

مفهوم الوصف ................................................................. 79

الإستدلال على عدم المفهوم للوصف ............................................ 83

مفهوم الغاية .................................................................... 87

مفهوم الإستثناء أو الحصر ....................................................... 90

مفهوم اللقب والعدد ........................................................... 97

الفصل الرابع: العام والخاص ................................................... 99

الأمر الأول: في تعريف العام والخاص .......................................... 99

ص: 437

الأمر الثاني: أقسام العموم ...................................................... 102

الأمر الثالث: ألفاظ العموم ..................................................... 107

التخصيص ..................................................................... 121

الجهة الأولى: إستعمال العام في المخصص ........................................ 121

تنبيهات ........................................................................ 130

الجهة الثانية: إجمال المخصص وأقسامه وأحكامه ................................. 132

تنبيهات ........................................................................ 142

الجهة الثالثة: في المخصص المجمل مصداقاً ...................................... 145

عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ................................... 146

المقام الأول: إذا كان المخصص لفظياً ............................................ 147

أدلة عدم صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .............................. 154

المقام الثاني: إذا كان المخصص لبياً ............................................... 155

ختام فيه أمور ................................................................... 158

إستصحاب العدم الأزلي ........................................................ 161

أدلة عدم القول باستصحاب العدم الأزلي ....................................... 163

نقاط الإختلاف في القول باستصحاب العدم الأزلي وعدمه ...................... 166

الإشكالات على كون عدم العرض المأخوذ في الموضوع نعتياً أو محمولياً ثبوتاً ..... 168

الإستدلال على المطلوب ثبوتاً ................................................... 171

الإستدلال على كون العدم محمولياً إثباتاً ......................................... 173

القول الثالث: التفصيل في جريان استصحاب العدم الأزلي ....................... 176

ص: 438

الجهة الرابعة: الخطابات الشفاهية ............................................... 183

ثمرات البحث المذكورة في المقام ................................................. 187

تنبيه ............................................................................ 188الجهة

الخامسة: تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ومدلوله .............. 189

ختام فيه أمران .................................................................. 199

الجهة السادسة: تخصيص العام بالمفهوم .......................................... 203

المقام الأول: في مفهوم الموافقة مع العام .......................................... 204

المقام الثاني: مفهوم المخالفة ..................................................... 208

الجهة السابعة: تعقيب الإستثناء لجمل متعددة ................................... 210

الجهة الثامنة: تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد ................................ 217

الجهة التاسعة: دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ............................. 219

الفصل الخامس: المطلق والمقيد .................................................. 225

تمهيد ........................................................................... 225

تنبيهات ........................................................................ 226

البحث الأول: ألفاظ المطلق ..................................................... 230

اللفظ الأول: أسماء الأجناس ................................................... 230

تحقيق الكلام في كون إسم الجنس في مقام الثبوت أو في مقام الإثبات ............. 238

اللفظ الثاني: علم الجنس ........................................................ 239

اللفظ الثالث: النكرة، وهو المفرد المبهم في الجملة ................................ 241

اللفظ الرابع: المفرد المعرّف باللام ............................................... 242

ص: 439

اللفظ الخامس: دخول التنوين على اسم الجنس .................................. 246

البحث الثاني: الإطلاق ......................................................... 248

البحث الثالث: مقدمات الحكمة ................................................ 258

تنبيهات......................................................................... 268

خاتمة فيها مسألتان .............................................................. 271

المسألة الأولى: في شمولية الإطلاق وبدليته ...................................... 271

المسألة الثانية: في الإنصراف ..................................................... 276

البحث الرابع: التقييد ........................................................... 277

المقام الأول: في المقيد المتصل بالمطلق ............................................ 280

المقام الثاني: في المقيد المنفصل .................................................... 282

خاتمة ........................................................................... 288

الفصل السادس: المجمل والمبين ................................................ 291

المقام الأول: في المجمل بالذات .................................................. 292

المقام الثاني: في المجمل بالعرض ................................................. 294

تنبيه في محل بحث التعارض ..................................................... 295

المقصد الثاني: الملازمات العقلية ................................................. 299

مباحث المستقلات العقلية ...................................................... 305

الأمر الأول: الإجزاء ........................................................... 309

تمهيد أمور ...................................................................... 310

الجهة الأولى: في سقوط كل أمر بالنسبة إلى امتثاله ................................ 312

ص: 440

الجهة الثانية: في إجزاء الإتيان بالمأمور به الإضطراري عن التكليف الواقعي ...... 318

أدلة إثبات التقييد ............................................................... 325

مقتضى الأصل العملي ........................................................... 334

الجهة الثالثة: في إجزاء الإتيان بما يصح الاعتذار به عن الواقع عند انكشاف الخلاف .... 338

الجهة الرابعة: العمل بما حصل من الاعتقاد وتخيل الأمر وتوهّمه .................. 354

الأمر الثاني: مقدمة الواجب ..................................................... 355

الجهة الأولى: في تقسيمات المقدمة ................................................ 359

الجهة الثانية: في الشرط المتأخر ................................................... 365

ختام: التنبيه على أمور لها التعلق بالبحث السابق ................................. 379

الجهة الثالثة: الأقوال في وجوب المقدمة ......................................... 382

القول الأول: ما نسب إلى المشهور ............................................... 382

القول الثاني: ما يظهر من صاحب المعالم قدس سره .................................. 383

القول الثالث: ما نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس سره ................................. 385

القول الرابع: ما ذهب إليه صاحب الفصول قدس سره ................................. 389

التنبيه على أمور ................................................................. 401

التنبيه الأول .................................................................... 401

التنبيه الثاني ..................................................................... 405

التنبيه الثالث ................................................................... 405

الجهة الرابعة: في بيان ثمرة وجوب المقدمة ....................................... 409

الجهة الخامسة: تحقيق الأصل في المقدمة عند الشكِّ في وجوبها .................... 416

ص: 441

الجهة السادسة: وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته ............................ 426

الجهة السابعة: في مقدمة المستحب والمكروه والحرام ............................. 431

الجهة السابعة: في مقدمة المستحب والمكروه والحرام ............................. 431

ختام ........................................................................... 433

الفهرست ...................................................................... 437

ص: 442

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.