تَقْرِيبُ تَهْذِيبِ الأصول المجلد 2

هوية الکتاب

تَقْرِيبُ تَهْذِيبِ الأصول

الجزء الثاني

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

ص: 1

اشارة

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأصول

الجزء الثاني

تأليف: آية الله السيد علي الموسوي السبزواري.منشورات مكتبة السيد السبزواري قدس سره .

الطبعة: الأولى (1000 نسخة).

التاريخ: 1442 ه-.ق / 2021 م

© جميع الحقوق محفوظة للناشر

ص: 2

تَقْرِيبُ

تَهْذِيبِ الأُصُول

الجزء الثاني

آية الله السيد

علي الموسوي السبزواري

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ اَلْرَحیمْ

(لا يَخْفى أنَّ الأُصولَ مُقدمَّةٌ وَآلةٌ لِلْتَعرُّفِ على الفِقهِ؛ وَلَيسَ هُوَ مَطلُوباً بالذّاتِ, فَلا بُدَّ أَنْ يَكونَ البَحْثُ فِيهِ بِقَدَرِ الإحْتياجِ إِلَيهِ فِي ذِي المُقدِّمَة؛ لا زائِدَاً عَلَيهِ, وَأَنْ تَكُونَ كَيْفيَّة الإِسْتِدلالِ فِيهِ مِثلها فِي الفِقه فِي مُراعاةِ السُّهُولةِ, وَما هُوَ أَقْرَبُ إلى الأَذْهانِ العُرفيَّةِ, لابْتِناءِ الكِتابِ وَالسُنَّةِ اللَّذَينِ هُما أَساس الفِقْهِ عَلى ذلِك, فَالأُصُولُ مِنْ شُؤُونِ الفِقْهِ؛ لا بُدَّ أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ خُصُوصيّاته مِنْ كُلِّ جِهَةٍ)(1).

فَقِيهُ عَصْرِهِ وَفَرِيدُ دَهْرِهِ آيَةُ الله العُظْمى السَّيِّد عَبْدُ الأَعْلى المُوسَويُّ السَّبْزَوارِيُّ قدس سره

ص: 5


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص6.

ص: 6

المقصد الأول

مباحث الألفاظ

ص: 7

ص: 8

الكلام في مباحث الألفاظ

تمهيد

لا بُدَّ من العلم بأنَّ جميع ما يذكر في هذه المباحث إنَّما هو في تشخيص مصاديق أصالة حجية الظهور التي هي من الأصول النظامية العقلائية, فلا بُدَّ في تعيين تلك الصغريات من الرجوع إلى فهم العرف لأنَّه المرجع في مثل ذلك.

وتصنيف مباحث الألفاظ يقع في فصول:

الفصل الأول الأوامر

اشارة

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في الجهات التي ترتبط بالأمر, وهي:

الجهة الأولى: في مادة الأمر

ونعني بمادة الأمر هي كلمة الأمر. وقد ذكر اللغويون لها معانٍ عديدة ربَّما تبلغ أربعة عشر معنىً؛ نذكر بعضاً منها:

1- الطلب.

2- الشيء.

3- الحادثة.

4- الشأن.

5- الشيء العجيب.

وإلى غير ذلك من المعاني المذكورة.

وقبل بيان الحقّ لا بُدَّ من ذكر أمور:

الأول: الظاهر أنَّ بعض تلك المعاني إنَّما يستفاد من القرائن التي تحيط بموارد إستعمالاتها، كقولنا جئتك لأمر كذا حيث استفيد من اللام الغرض أو الحاجة.

ص: 9

أو هي من لوازم تلك المعاني فاعتبرت من معانيها, فيكون من إشتباه المفهوم بالمصداق, كالفعل العجيب والحادثة.

الثاني: إختلف علماء اللغة في كيفية معالجة المشترك اللفظي, فقال بعضهم بأنَّ أكثر ما يعرف أنَّه من المشترك في لغة العرب ما يمكن أنْ ينتزع له جامعاً, ولذا دأب بعض اللغويين إرجاع المعاني المتعددة التي تذكر في المشتركات إلى معنى واحد يكون جامعاً لها, فتكون من المشترك المعنوي, وقد إختار هذا المنهج الراغب الإصفهاني في مفرداته, وإبن فارس, والسيد الوالد قدس سره في تفسيره وغيرهم, وهو موافق للأصل الذي يدلُّ على عدم تعدد الوضع إلاّ فيما إذا لم يمكن إرجاعه إلى جامع قريب يقبله الذوق العرفي. ولكنه يحتاج إلى خبرة تامة ومعرفة كاملة بمواضع الإستعمال وخصوصياته, ومنابع الأوضاع اللغوية.

الثالث: إنَّ الإشتقاقات التي تذكر لكلمة معينة قد تكون موافقة للقواعد التي تذكر في اللغة وقد لا تكون كذلك؛ كما هو الدائر في عصرنا الحاضر, لكن بشرط الإستيناس عند العرف, ومن الأخير كلمة العولمة والخصخصة والمروحة ونحوذلك مِمّا هو كثير, ويمكن أنْ تكون كلمة الأمر من هذا القبيل, فإنَّها تجمع على أوامر, كما تجمع على أمور, فإنَّ إختلاف الجمع يدلُّ على تعدد المعاني, إلا إذا أمكن ارجاعهما إلى معنىً واحد؛ كما سيأتي بيانه.

الرابع: ذكر أنَّ من معاني مادة (أ م ر)؛ الطلب, ويراد به السعي على المعروف؛ وهو إمّا أنْ يكون نحو تحصيل شيء سواءً من الطالب نفسه أم بدفع غيره إليه. وإمّا أنْ يراد به المفهوم الإسمي المنتزع من تحريك الغير ودفعه بصيغة الأمر أو غيرها نحو تحقيق شيء. والمراد به في المقام هو الثاني دون الأول.

الخامس: قد ذكروا من معاني الأمر الطلب والشيء, فقيل بأنَّهما من المختلفين اللذين لا يمكن جمعهما تحت عنوان واحد, لأنَّه قد يستعمل الطلب في مورد لا يصحُّ إستعمال الأمر

ص: 10

فيه, كقولك (يا طالب الدنيا), وقولك (طلبت شيئاً فما وجدته), كما أنَّه يصحُّ إستعمال الشيء بالنسبة إلى الأعيان الخارجية, ولا يصحُّ إستعمال الأمر بالنسبة إليها, ولكن عرفت أنَّ المراد من الطلب بعض مفهومه دون جميعه, ومن أجل ذلك لم يصحُّ إستعمال الأمر في جميع مواضع إستعمال الطلب. وكذا في الأعيان؛ فإنَّ كلمة (الأمر) لا تطلق على الأعلام الشخصية بالذات وغيرها, ولعلَّه من أجل ذلك قال السيد الوالد قدس سره : (إلا أنْ يكون مرادهم المعنى في الجملة لا بنحو الكلية؛ وهو صحيح).

السادس: تمسك بعضهم لإثبات الإشتراك اللفظي في المقام بوجهين:

الوجه الأول: إختلاف صيغة الجمع, فإنَّ الأمر بمعنى الطلب يجمع على أوامر, وبمعنى غيره على أمور, وهو دليل على الإختلاف.

الوجه الثاني: إنَّ الأمر بمعنى الطلب يُشتَّق منه الأمر والمأمور, بينما الأمر بمعنى غيره جامد لا يُشتَّق منه غيره, وإختلاف المصاديق غير معهود في اللغة في كِلا الأمرين.

إذا عرفت ذلك فقد إختلف الأصوليون في معالجة الإشتراك المزعوم في كلمة الأمر, وهناك عدَّة محاولات أهمها:

المحاولة الأولى: إرجاع معاني غير الطلب إلى معنى واحد فيكون مشتركاً لفظياً بين معنيين هما الطلب والجامع بين غيره من المعاني المذكورة, فيكون بالنسبة إلى غير الطلب مشتركاً معنوياً, وبالنسبة إلى غيره وإليه مشتركاً لفظياً.

المحاولة الثانية: إرجاع جميع تلك المعاني؛ بما فيها الطلب إلى معنى واحد.

أمّا المحاولة الأولى؛ ففيها أقوال:

القول الأول: إرجاع سائر المعاني إلى مفهوم واحد؛ وهو الشيء وهو الذي اختاره المحقق الخراساني قدس سره , فيكون مشتركاً بين الطلب والشيء, واستدلَّ عليه بالتبادر(1).

ص: 11


1- . إرجاع معاني غير الطلب إلى معنى واحد.

وأُشكل عليه بأنَّ مفهوم الشيء بعرضه العريض لا يناسب أنْ يكون مدلول الأمر كذلك, فإنَّ الشيء يطلق على الأعيان الخارجية والجوامد فيقال (زيد شيء), ولا يقال (أمر).

القول الثاني: إرجاع سائر المعاني إلى الواقعة والحادثة, أو الواقعة والحادثة الخطيرة المهمة, ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره , واستدلَّ عليه باختلاف صيغة الجمع بين أوامر وأمور(1).

وأُورد عليه بأنَّه يصحُّ إستعمال الأمر بهذا المعنى في كلام لا يحصل فيه التناقض والمحال, كأنْ يقال (فلان تكلم بأمرٍ غير مهم), أو يقال (إجتماع النقيضين وشريك الباري أمر محال) من دون عناية فيه ولا مجاز, أو يقال (عدم رؤية زيد أمرٌ عجيب). ولا محال في البين أبداً, كما أنَّه تستعمل كلمة الأمر في الجوامد كما إذا كانت من قبيل أسماء الأجناس، فيقال (النار أمر ضروري للإنسان), وهي ليست من الحادثة أو الواقعة وإنْ لم تطلق على العَلَم بالذات أو بالإشارة فلا يقال (عليٌّ أمرٌ), أو (هذا -مشيراً إلى عَلَم- أمرٌ).

القول الثالث: إرجاع سائر المعاني إلى الفعل والحدث, فيطلق الأمر على خصوص الأفعال في قبال الصفات والأعيان, واختاره المحقق الإصفهاني.

ويورد عليه بما ذكرناه آنفاً, مع أنَّه يمكن أنْ يقال بأنَّه ربَّما يكون إطلاق الأمر على الأفعال باعتبار الشيء, كما يطلق على الأعيان والصفات بهذا الإعتبار.

وأمّا المحاولة الثانية(2)؛ فهي على أنحاء:

النحو الأول: إرجاع المعنى غير الطلبي إلى الطلب بعد إرجاعه إلى الفعل مقابل الصفات والأعيان, وذلك باعتبار موردية الأفعال لتعلّق الإرادة بها بخلاف الأعيان والصفات, كما يُعبَّر عنه بالطلب ولو لم يتعلق به طلب بالفعل، كما يُعبَّر عنه بالشأنية والمَعرِضية لأنْ يتعلق به.

ص: 12


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص86.
2- . وهي توحيد المعاني جميعها في معنى واحد جامع.

وفيه: ما عرفت من أنَّ إستعمال الأمر بغير المعنى الطلبي ليس مخصوصاً بما يكون فعلاً، بل قد يطلق على ما لا يمكن أنْ يطلب كشريك الباري الذي هو أمرٌ مستحيل، مضافاً إلى أنَّ إطلاقه عليه إذا كان بلحاظ قبول المحل؛ وهو يصدق على غير الفعل أيضاً.

النحو الثاني: إرجاع المعنى الطلبي إلى غير الطلب، وقد إستقربهُ المحقق النائيني قدس سره , حيث ذكر أنَّه يمكن أنْ يكون الطلب ليس معنىً برأسه في قبال الواقعة والحادثة, بل من جهة أنَّه مصداق من مصاديقها .

وفيه: إنَّه بناءً عليه لا فرق بين الطلب التكويني والتشريعي, مع أنَّه يطلق الأمر بالطلب التشريعي على الواقعة ولا يصحُّ إطلاق الأمر على الطلب التكويني ، فإذاطلب زيد المال لا يقال أنَّه أمر به, مع أنَّ الأمر يتعدى إلى متعلق الطلب كالطلب نفسه, فيقال أمر بالصلاة, وهو يدلُّ على مساوقته مع الطلب دون أنْ يكون منتزعاً منه كواقعة أو حادثة.

النحو الثالث: إنَّ الأمر موضوع للجامع بين الطلب والواقعة.

ويرد عليه ما أوردناه سابقاً من أنَّه لا جامع بينهما لاختلاف الآثار واللوازم، ثم أنَّه ما المراد من الجامع؟ هل هو الشيء؟.

وهو مردود بأنَّه كلمة الأمر ليست أوسع نطاقاً من كِلا الأمرين وإنْ كان جامعاً مساوياً لمجموعهما, وهو بالآخرة يرجع إلى الواقعة فرجع إلى النحو الثاني.

النحو الرابع: إنَّ جميع الأشياء باعتبار صدورها من فاعلها فعل وأمر, وباعتبار وجودها في أنفسها لا فعل ولا أمر, بل هو شيء وموجود وشخص ونحو ذلك.

وبعبارة أخرى: إنَّ الفعل والأمر باعتبار معناه المصدري فهو يشمل جميع ما تعلقت به إرادة الخالق عَزَّ وَجَلَّ، وبهذا الإعتبار تدخل الأحكام الشرعية أيضاً, لأنَّها مِمّا تعلقت بها الإرادة التشريعية؛ فهي فعلٌ ومجعولٌ, لكن في عالم الإعتبار والتشريع فالطلب الذي هو

ص: 13

إبراز الإرادة التكوينية والتشريعية هو أحد معاني الأمر بهذا الإعتبار, لأنَّه فعل ومن مصاديقه بهذا المعنى, فيكون عدم إطلاق الأمر على الذوات والأعيان باعتبار وجوداتها في أنفسها, ولأجل ذلك صار منه معنىً جزئياً فصحَّ الإشتقاق كما يدفع به إشكال إختلاف الجمع نظراً إلى أنَّ الملاحظ في الأوامر المعنى الحدثي وهو الفعل, وفي الأمور إلى كونه من الجوامد, مع أنَّه يمكن أنْ يكون الإختلاف في الجمع راجع إلى التفنن وإستساغة العرب أنْ يكون الجمع في غير الطلب إلى الأمور, وإنْ كان الجميع يرجع إلى معنى واحد, وبذلك نثبت الإشتراك المعنوي.

هذا كلُّه بحسب المعنى اللغوي، أمّا بحسب المعنى العرفي الذي منه الإصطلاح الأصولي؛ إذ الإصطلاح جديد لهم في الأمر وإنْ قال بعضهم بذلك ولكن الدليل على خلافه, فالأمر عبارة عن البعث بلفظ (إفعل) أو ما يقوم مقامه, وبهذا الإعتبار تصحُّ الإشتقاقات منه باعتبار تضمّنه معنى البعث الذي هو معنى حدثي قابل للإشتقاق والتفريع, وليس المراد أنَّ لفظ الأمر موضوعٌ للقول المخصوص, مثل وضع لفظ الإسم لكلمة مخصوصة حتى لا يصحُّ الإشتقاق منه, لأنَّه ليس فيه معنىً حدثي كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره , هذا مع الظهور فيه، وأمّا مع الإجمال فالمرجع هو الأصل العملي الذي ينفي التكليف.

الجهة الثانية:

إختلف العلماء في اعتبار العلوّ أو الإستعلاء في صدق الأمر, والإحتمالات المذكورة في كتب القوم هي:

الأول: إعتبار كِلا الأمرين.

الثاني: إعتبار أحدهما.الثالث: إعتبار الإستعلاء.

الرابع: عدم إعتبارهما معاً.

ص: 14

والكلام تارةً يقع بحسب الأصل الذي يقتضي عدم إعتبارهما معاً.

وأخرى بحسب حكم العقل الذي يتبع من الإرتكازات والوجدان, وهو يدلُّ على إعتبار العلوّ الحقيقي في معنى الأمر, بلا فرق بين أنْ يكون الأمر صادراً عن لسان الإستعلاء أو بغيره كقوله تعالى:(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجرٌ کَریمٌ)(1).

وثالثة بحسب اللغة؛ فإنَّ التبادر من الأمر الصادر من شخص هو العلوُّ.

ورابعة بحسب العرف؛ فإنَّه يشهد على أنَّ الطلب الصادر من العالي إنَّما هو أمر سواء كان مستعلياً أو خافضاً لجناحه، وعدم صدقه على طلب السافل المستعلي أو المساوي إلا على سبيل العناية, بل ربَّما يوجب التقبيح والتوبيخ إنْ كان على النحو المعهود ولم يكن من السؤال والإلتماس.

ومن ذلك يظهر أنَّ الطلب الصادر من أحد الوالدين إنَّما هو أمر باعتبار علوِّه الحقيقي لا لأجل إستعلائهما, والموضوع لا يحتاج إلى أكثر مِمّا ذكرناه؛ إذ لا ربط له بالبحث الفقهي والأصولي, لأنَّ الأمر الذي نبحث فيه ما كان صادراً من المولى سبحانه وتعالى، أو مَنْ نصبه مشرِّعاً, وهو مستجمع للعلوِّ والإستعلاء.

نعم؛ لا بُدَّ أنْ يعرف بأنَّه ليس كلُّ طلب صادر من العالي يكون أمراً, بل خصوص الصادر عن مقام مولويته أو علوِّه دون ما يصدر بغير هذا اللحاظ كالصادر من الملوك لأمثالهم فإنَّها لا تكون أوامر, بل هي إلتماسات ونحوها.

الجهة الثالثة: في دلالة الأمر على الوجوب

ذهب جمع من المحققين إلى ذلك وإستدلُّوا عليه بالتبادر، وبناء العرف والعقلاء على كون الطلب الصادر من المولى بمادة الأمر هو الوجوب، قال السيد الوالد قدس سره : (إنَّ مادة

ص: 15


1- . سورة البقرة؛ الآية 245, وسورة الحديد؛ الآية 11.

الأمر في أيَّة هيئة إستعملت ظاهرة في الوجوب إلا مع القرينة على الخلاف, لانسباق الوجوب منها في المحاورات)(1)، وقريبةٌ منه عبارة الكفاية وغيرها.

أمّا الإستدلال عليه بجملة من الآيات والروايات كقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ)(2), ورواية: (لَوْ لَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ)(3) وغير ذلك؛ فغير تامّ؛ إمّا لوجود القرائن في الكلام مِمّا تدلُّ على إستفادة الوجوب منها, أو أنَّه من الإستعمال الذي هو أعمّ من الحقيقة, ولعلَّه لأجل ذلك جعلها المحقق الخراساني من المؤيدات, وهذا لا كلام فيه ومفروغ عنه, فلا نحتاج إلى ذكر الأدلة منالمثبتين والنافين ومناقشتها من دون إختصاص لذلك بمادة الأمر, بل هي واردة في صيغة الأمر, لأنَّ دلالتها على الوجوب كدلالة مادة الأمر من حيث الدليل والملاك.

ولكن البحث في تفسير هذه الدلالة وتحديد منشئها, وقد اختلف العلماء على أقوال ثلاثة:

القول الأول: أنْ تكون بحسب الوضع.

ذهب إليه المشهور واستدلوا عليه بالتبادر كما عرفت آنفاً مع المناقشة في سائر المناشئ.

القول الثاني: أنْ تكون بحكم العقل.

ذهب إليه المحقق النائيني(4) قدس سره ومن تبعه.

القول الثالث: أنْ تكون بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وهو مختار المحقق العراقي(5) قدس سره .

ص: 16


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص53.
2- . سورة النور؛الآية 63.
3- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص22.
4- . أجود التقريرات؛ ج1 ص95.
5- . مقالات الأصول؛ ج1 ص65.

أمّا القول الثاني؛ فقد ذكر المحقق النائيني في إثباته بأنَّ الوجوب الذي هو الطلب التام غير المحدود ليس مدلولاً للدليل اللفظي الذي يدلُّ على مطلق الطلب فحسب, بل العقل يحكم بأنَّ الطلب الصادر من العالي إذا لم يقترن بالترخيص في المخالفة يدلُّ على الوجوب, بخلاف الإستحباب الذي هو الطلب الناقص المحدود المستفاد من إقترانه بالترخيص في المخالفة, فإنَّه لا يلزم العقل بموافقته لأنَّه يحتاج إلى مؤونة زائدة, إذ هو مركب من الطلب والحدّ؛ بخلاف الوجوب الذي هو بسيط لا تركب فيه لأنَّه الطلب غير المحدود كما عرفت.

وعليه يكون كلٌّ من الوجوب والإستحباب من شؤون حكم العقل المترتب على طلب المولى لا من شؤون اللفظ، ولعل ما ذكره قدس سره مقتبس مِمّا ذكروه في حقيقة الوجود, حيث أنَّ مرتبة منه تكون بسيطة وغير محدودة وهو وجود الواجب جلَّ وعَلا الذي هو في غاية التمام والكمال فلا نقص فيه ولا حدّ، وبقية المراتب منه كلُّها ناقصة ومحدودة ومركبة من الوجود والماهية التي هي حدُّ الوجود, ولذا قالوا كلُّ ممكن زوج تركيبي له وجود وماهية, وكيف كان؛ فقد أورد عليه:

أولاً: إنَّ حكم العقل بلزوم الإمتثال لا يكفي فيه مجرد صدور الطلب من المولى مع عدم إقترانه بالترخيص, فإنَّه لو علم العبد بأنَّ الطلب الذي صدر من المولى لا يكون ملزماً حتى مع عدم إقترانه بالترخيص لوجود الملاك غير اللزومي فيه فلا يحكم العقل حينئذٍ بلزوم الإمتثال لمجرد صدور الطلب مع عدم الترخيص.وهذا يعني أنَّ حكم العقل بالوجوب فرع مرتبة معينة من الطلب، وهذه المرتبة لا يكشف عنها إلا الدليل اللفظي, فإذا دلَّ عليها اللفظ تكون موضوع الوجوب العقلي, وهذا هو معنى كون الدلالة لفظية.

ص: 17

ويمكن الإشكال عليه بأنَّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره إنَّما هو في فرض عدم وجود قرينة خاصة على الترخيص سواءً كان لفظياً أم غيره كما في مفروض المثال، فإنَّ العبد إذا إطَّلع على أنَّ الطلب الصادر من المولى لا يكون ملزماً لعدم وجود ملاك اللزوم فيه فهو يكفي أنْ يكون دليلاً للترخيص, مع أنَّه سيأتي أنَّ الطلب لا يتَّصف بالنقص والتمام إلا إذا رجع إلى المحكي بهذا العنوان, وهي الإرادة التي هي قائمة بالنفس إلا أْن يراد مِمّا ذكر بأنَّ حكم العقل تارةً يكون مطلقاً لا يرتبط بلفظ كحكمه بلزوم الطاعة وشكر المنعم.

وأخرى يتبع المدلول اللفظي كما في المقام فإنَّ دلَّ الدليل اللفظي على أنَّ المقصود من الطلب مرتبة معينة من الإرادة التامة الملزمة كما في الوجوب فإنَّه يحكم العقل بوجوب الإمتثال, وإنْ لم يدلُّ على ذلك فلا وجوب عقلي للإمتثال فحكمه تابع للَّفظ ومدلوله.

ثانياً: قيل بأنَّ الإلتزام بهذا المبنى يترتب عليه بعض الآثار الفقهية التي لا يلتزم الفقهاء بها وهي عديدة:

منها: إنَّه يلزم عليه رفع اليد عن دلالة الأمر على الوجوب فيما إذا إقترن بأمر عام يدلُّ على الترخيص والإباحة. كما إذا ورد (أكرم الفقيه ولا بأس بعدم إكرام العالم)، مع أنَّ القاعدة التي يلتزم بها الفقهاء رفع التعارض بينهما بالتخصيص فيكون تعارضاً غير مستقر, وفي مثل ذلك يخصص العام فيجب إكرام الفقيه.

بينما بناءً على مسلك المحقق النائيني لا تعارض بين القولين فيرفع اليد عن وجوب الإكرام لوجود الترخيص في الترك فيكون العام رافعاً لحكم العقل بالوجوب لأنَّه معلق على عدم ورود الترخيص كما عرفت.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنْ لا حكم للعقل في مثل هذه الموارد التي يجتمع العام مع الخاص إلا بعد معالجة الحكمين بالرجوع إلى العرف في تشخيص الدلالة ثم الحكم عليه

ص: 18

وهو يحكم بتخصيص العام, فيبقى الوجوب بحكم العقل بعد المعالجة بين الكلامين فلا نقض على هذا المسلك.

ومنها: إنَّه لو صدر أمر ولم يقترن بترخيص متَّصل ولكن إحتملنا وجود ترخيص منفصل؛ فإنَّ بناء العقلاء وعمل الفقهاء على دلالة الأمر على الوجوب حتى يثبت خلافه, وهذا لا يمكن إثباته على هذا المسلك لأنَّه قد فرض فيه أنَّ حكم العقل بالوجوب معلق على عدم ورود الترخيص من الشارع, وفيه محتملات ثلاثة:الأول: أنْ يكون معلقاً على عدم إتّصال الترخيص بالأمر, وهو يستلزم كون الترخيص المنفصل غير منافٍ لحكم العقل بالوجوب, وهو باطل لكثرة القرائن المنفصلة على عدم الوجوب.

الثاني: أنْ يكون معلقاً على عدم صدور الترخيص من المولى واقعاً ولو كان بصورة منفصلة, وهو يستلزم عدم إمكان إحراز الوجوب عند الشكِّ في الترخيص المنفصل مع القطع بعدم وروده متَّصلاً لأنَّه مع الشكِّ فيه يُشكُّ في الوجوب لا محالة.

الثالث: أنْ يكون معلقاً على عدم إحراز الترخيص والعلم به، وهو خروج عن محل الكلام لأنّ البحث في الوجوب الواقعي الذي يشترك فيه الجاهل والعالم لا في المنجزية.

ويمكن الجواب عنه بأنَّ حكم العقل بالوجوب ليس معلقاً على احتمال الترخيص, بل لا بُدَّ من ثبوته بلفظ أو قرينة معتبرة، فتبطل الإحتمالات الثلاثة إلا الثاني؛ الذي يكون التعليق على عدم صدور الترخيص من المولى واقعاً وثبوته ظاهراً, فعند الشكِّ فيه يرجع إلى أصالة العدم فيثبت حكم العقل حينئذٍ.

وأمّا القول الثالث؛ وهو كون الوجوب مدلول الإطلاق, فهو يتَّحد مع المسلك الأول في أنَّ الوجوب هو مفاد الدلالة اللفظية وإنْ كان الأول يرجع إلى حاقِّ اللفظ, بخلاف الثاني الذي يرجع إلى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة.

ص: 19

وقد قيل في تقريبه وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: إنَّ مادة الأمر وصيغته تدلان على مطلق الطلب وإرادة المولى له, وهي إمّا شديدة كما في الواجبات أو ضعيفة كما في المستحبات, ولا ريب أنَّ شدَّة الإرادة من نفسها وسنخها لا من شيء آخر, وأمّا ضعفها إنَّما تعني عدم الإرادة الشديدة, وإذا دار الأمر بينهما يتعين بالإطلاق الإرادة الشديدة لأنَّها لا تزيد على الإرادة بشيء كما عرفت, فهي من هذه الناحية بسيطة لا حدَّ فيها فلا يحتاج إلى بيان الحدّ, بخلاف الإرادة الضعيفة؛ فإنَّها تزيد بحدِّها على حقيقة الإرادة, فلو أرادها المولى فلا بُدَّ من أنْ ينصب القرينة على حدِّها, لأنَّ الأمر لا يدلُّ إلا على ذات الإرادة.

وفيه: إنَّ هذا البيان يشبه ما ذكر في القول السابق في مرتبة الوجود التامة الكاملة التي لا حدَّ لها بخلاف سائر مراتبه المحدودة, وهو أمر عقلي بعيد عن المدلولات اللغوية؛ لا سيما في باب الإطلاق ومقدمات الحكمة, لأنَّها ظهور حالي عرفي يقضي بأنَّه إذا كان أمر المتكلم بين أنْ يكون كلامه يفي بمرامه من دون مؤونة زائدة, أو يكون محتاجاً إلى مؤونة زائدة, كلُّ ذلك بنظر العرف, فهو الحكم في التمييز بين الأمرين لا الأمر العقلي الذي هو من الدقَّة بمكان في مقابل الأمر العرفي الذي يدركه العرف لبساطته, فلا تؤثر مقدمات الحكمة في إثبات الإطلاقإذا كان الملاك هو الأمر العقلي, بل لا يمكن أنْ تؤثر هذه المقدمات العقلية في إثبات الأمر العرفي الذي لا يلتفت إليها.

الوجه الثاني: إنَّ الوجوب ليس عبارة عن مجرد الطلب, لأنَّه ثابت في المستحبات أيضاً، فلا بُدَّ من إنضمام أمر زائد على أصل الطلب وهو إنَّما يكون عدم الترخيص في الترك دون ما ذكره القدماء من إنضمام النهي أو المنع من الترك, لأنَّه موجود في المكروهات؛ فيكون الوجوب هو طلب قد تميز بقيد عدمي, كما أنَّ الإستحباب طلب متميز بقيد وجودي وهو الترخيص في الترك.

ص: 20

وحينئذٍ إذا كان هناك كلام يدلُّ على أمر مشترك وتردد أمره بين حقيقتين؛ إحداهما تميّز أمر عدمي، والأخرى بأمرٍ وجودي تعيّن بالإطلاق الحمل على الأول, لأنَّ الأمر العدمي خفيف المؤونة بحسب النظر العرفي، إلا إذا كان المقصود هو الأمر الوجودي؛ فلا بُدَّ من ذكره وإلا يكون خرقاً عرفياً لظهور حال المتكلم, بخلاف ما إذا كان المقصود هو الأمر العدمي, فإنَّ في عدم ذكره لا يكون خرقٌ عرفيٌ لأنَّه لا يزيد على الحيثية المشتركة عرفاً.

ويورد عليه بأنَّه ليس كلُّ أمر عدمي لا يلحظ كأمرٍ زائدٍ, بل يلحظ عرفاً في كثير من الموارد إذا كان له دخل في تعيين المراد كما في المقام, فإنَّ فيه يدور الأمر بين أمرين متباينين؛ أحدهما الوجوب والآخر الإستحباب, ولعلَّه لأجل ذلك لا يرى العرف أنَّهما من قبيل الأقل والأكثر, نعم؛ يتسامح العرف في غير المقام كما في الإطلاق اللحاظي مثلما يذهب المشهور في أسماء الأجناس التي قالوا باستحالة أنْ يكون موضوع الحكم فيها هي الطبيعة المحفوظة في المطلق والمقيد, بل لا بُدَّ من أخذ خصوصية زائدة في اللحاظ, إذ كان الكلام دالاً على ذات الطبيعة فإنَّ العرف يرى المسامحة, فإنَّه إذا كان مرام المتكلم مطلقٌ من دون ذكر المميز, فإنَّه ليس خرقاً في الظهور الحالي بخلاف ما إذا كان مرامه المقيد.

الوجه الثالث: إنَّ الوجوب والإستحباب يشتركان في أنَّ كلَّ واحدٍ منهما فيه مؤونة زائدة ومميِّز له بحسب النظر العرفي على ذات الطلب وبحاجة إلى البيان, إلا أنَّ هذه الزيادة على ذات الطلب مرددة بين زيادة أخفّ؛ والتي يمكن أنْ تكون هي الأمر العدمي, وبين أشدّ كما في الأمر الوجودي, وسكوت المتكلم عرفاً عن بيان الزيادة الأشدّ يكون قرينة على إرادة الأخفّ؛ فيتعين الوجوب لا محالة.

ويرد عليه بأنَّ هذا التقريب وإنْ كان أقرب الوجوه ولكن لا كلية فيه, إذ أنَّه يختص بما إذا أحرز البيان من قبل المولى وإنْ سكت عنه وهي عناية لا تحصل دائماً؛ مع أنَّ البناء الفقهي والعرفي على فهم الوجوب في سائر الموارد من دون ملاحظة ذلك.

ص: 21

الوجه الرابع: إنَّ صيغة الأمر تدلُّ على الإرسال والدفع بنحو المعنى الحرفي, وهو يقتضي سدُّ أبواب العدم للإندفاع والتحرك, أو بمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوري والمدلول التصديقي.إنَّ الطلب المبرز سِنخُ حُكمٍ يشتمل على سدِّ أبواب العدم, وهو يعني عدم الترخيص في الترك والمخالفة.

وقد نفى بعض الأعلام البأس عن هذا الوجه واعتبره الجاري في تمام موارد إستعمالات صيغة الأمر.

ولكن الحقَّ أنَّ هذا الوجه يرجع إلى الدلالة اللغوية وليس شيئاً زائداً عنها, لأنَّ الإرسال والدفع إنَّما يرجع إلى ما يفهمه العرف من صيغة الأمر ومادته, وهو معنى الوجوب بهذه الخصوصية وهي عدم الترخيص في الترك.

وهناك فوارق بين هذه المسالك الثلاثة قد أشار إليها بعض الأعلام(1) لا بُدَّ من ذكرها, ونذكر ما يتعلق بها:

منها: إنَّه بناءً على مسلك الوضع والإطلاق تجري قواعد الجمع الدلالي والعرفي فيما إذا تعارض ما يدلُّ على الوجوب وما يدلُّ على الترخيص, فإنَّ القاعدة تقتضي الجمع بين دليل الوجوب ودليل الترخيص بالحمل على الإستحباب.

وأمّا بناءً على مسلك حكم العقل فإنَّ الوجوب لمّا لم يكن مدلولاً للَفظ الأمر حتى يجمع بين الدليلين فلا بُدَّ أنْ يكون دليل الترخيص وارداً على حكم العقل بالوجوب ورافعاً لموضوعه.

ص: 22


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص24.

وفيه: ما ذكرناه آنفاً من أنَّ حكم العقل بالوجوب لا يتحقق إلا بعد ملاحظة ما يرتبط بدليل الوجوب من حيث الملاك والمعارضة؛ فهو حكم معلق على ذلك, فلا يحكم بالوجوب إذا كان هناك ما يدلُّ على الترخيص فيرجع إلى الجمع المذكور في مسلك الوضع والإطلاق.

فلا فرق بين ما لو قلنا بورود الترخيص على دليل الوجوب أو أنَّه مقتضى الجمع العرفي الدلالي، ولا ثمرة عملية تترتب على ذلك.

ومنها: إنَّه بناءً على مسلك الوضع والإطلاق تثبت لوازم الوجوب أي ما يترتب على الملاك والشوق الأكيد والشديد من اللوازم, فلو علمنا -مثلاً- بأنَّ الدعاء عند رؤية الهلال والدعاء عند آخر الشهر متساويان في الملاك والمحبوبية, وورد أمر بأحدهما نثبت وجوبه بالمطابقة ووجوب الآخر بالملازمة، بينما لا يمكن ذلك بناءً على مسلك حكم العقل لأنَّ الوجوب ليس مرتبة دلالية ثبوتية ولا ربط له بالمبادئ والملاكات حتى يكشف عنها وعن ملازماتها، بل هو حكم عقلي ينتزع من طلب الشيء وعدم الترخيص في تركه.

وفيه: إنَّ الملازمة ربَّما تكون من الظهور ما يحكم بها العقل كما في سائر الملازمات البينة, فإذا حكم العقل بالوجوب في الأول يحكم بالوجوب في الثانيلشدة الملازمة بينهما كما هو مفروض الكلام في التساوي بين الدعائين فلا اختلاف بين المسالك من هذه الجهة أيضاً.

ومنها: ثبوت دلالة السياق على مسلك الوضع وسقوطها على مسلك الإطلاق وحكم العقل, وذلك أنَّ الفقهاء قالوا بأنَّه إذا وردت أوامر عديدة في سياق واحد وعرفنا من الخارج إستحباب بعضها إختلَّ ظهور الباقي في الوجوب على القول بالوضع, إذ يلزم من إرادة الوجوب تغاير مدلولات تلك الأوامر مع ظهور وحدة السياق في إرادة المعنى الواحد من الجميع.

ص: 23

وأمّا بناءً على مسلك حكم العقل فجميع الأوامر مستعملة في معنى واحد وهو الطلب, والوجوب حكم عقلي خارج عن مدلول اللفظ, فإذا دلَّ دليل على الترخيص في بعض تلك الأوامر لا يختلُّ السياق في الباقي.

وكذلك الحال بناء على مسلك الإطلاق لأنَّ المعنى المستعمل فيه واحد على كلِّ حال, لكن أُريد في بعضها المقيد بدالٍّ آخر كما هو المحقق في بحوث المطلق والمقيّد.

وفيه: إنَّ عادة الفقهاء جارية على تقطيع الروايات في العمل إذا كان هناك ما يدلُّ عليه من دون الإخلال بالسياق، فإذا ورد دليل يتضمن أوامر متعددة في سياق واحد وعلمنا من الخارج إستحباب بعضها يخرج هذا بمقتضى الدليل عن تلك الأوامر من دون الإخلال بسياق الكلام إذا حكم به العرف, ومثل هذا كثير في الروايات يجدها من يرجع إليها.

هذا إذا لم يحكم العرف بالإخلال. وأمّا إذا حكم العرف بالإخلال بالسياق فلا يبقى ظهور حتى على المسلكين الآخرين.

ومنها: إنَّه إذا ورد أمر واحد بشيئين وعلم من الخارج باستحباب أحدهما فعلى مسلك الوضع لا يمكن إثبات الوجوب للآخر بهذا الأمر, لأنَّه يشبه إستعمال اللفظ في أكثر من معنى, وهو غير صحيح.

وأمّا بناءً على مسلك حكم العقل فالأمر مستعمل في معنى واحد وهو الطلب والوجوب؛ ينشأ من حكم العقل فيما إذا لم يرد فيه الترخيص فيثبت الوجوب في الذي لم يرد فيه الإستحباب فقط.

وكذلك الحال على مسلك الإطلاق؛ فإنَّ الأمر ينحلُّ إلى حصتين تقيد إطلاق إحداهما بدليل خاص، وهو لا يستوجب تقييد الحصة الثانية لأنَّ التقييد ضرورة ولا بُدَّ من أنْ تتقدر بقدرها.

ص: 24

وفيه: إنَّ عدم إستفادة الوجوب في مثل هذا الأمر, إنَّما هو لعدم ثبوت الظهور فيه فإذا اختلَّ الظهور فلا تبقى إستفادة الوجوب على المسلكين الآخرين, فإنَّهما مبنيان على ظهور اللفظ أيضاً, نظير ما لو تكلم بكلام مجمل فإنَّه لم يقل أحد بثبوت الوجوب على جميع المسالك.ومنها: ما إذا ورد أمرٌ بطبيعيِّ فعلٍ كما إذا ورد (أكرم العالم), وعلمنا من الخارج بأنَّ إكرام غير الفقيه لا يجب, فهل يمكن إثبات إستحباب إكرام غير الفقيه من العلماء أم لا يثبت؟.

فإنه على مسلك الوضع لا يمكن إثبات الإستحباب, لأنَّه بعد حمله على الوجوب بمقتضى الوضع لا بُدَّ من تخصيص غير الفقيه وإخراجه عن العام بدليل آخر يدلُّ على الإستحباب.

وهذا بخلاف مسلك حكم العقل الذي يحكم بالوجوب, لأنَّ الأمر مستعمل في الطلب على كلِّ حال, غاية الأمر ثبت الترخيص في حصة ولم يثبت في أخرى فيثبت الإستحباب لا محالة في الأولى والوجوب في الثانية.

وكذلك الحال على مسلك الإطلاق؛ إذ لا وجه لرفع اليد عن أصل الطلب في غير الفقهاء.

وفيه: ما ذكرناه آنفاً من أنَّ اللفظ ظاهر في الوجوب إذا لم تقم قرينة على التخصيص وإلا فيستفاد من مجموع الدليلين ما يقتضيه الكلام, فيحكم في مثل المقام بالوجوب في مورد الفقيه والإستحباب في مورد غير الفقيه؛ بمقتضى الدليل المخصص, فلا اختلاف في المسالك من هذه الجهة.

ومنها: ما إذا كان هناك أمران وورد ترخيص لأحدهما وشكَّ في أنَّه ترخيص لهذا أو ذاك؛ فإنَّه بناءً على أنَّ الوجوب بحكم العقل يجب الإحتياط, إذ لا تعارض بين الأمرين بلحاظ مدلوليهما، وإنَّما العقل يحكم بالوجوب فيما لم يرد فيه ترخيص, والمفروض أنَّ أحد الأمرين لم يرد فيه ترخيص فيحصل علم إجمالي منجز. وهذا بخلافه على المسلكين الآخرين حيث يفضي إلى التعارض بين مدلوليهما ثم الإجمال والتساقط.

ص: 25

وفيه: إنَّ حكم العقل بالإحتياط بناءً على مسلكه مبنيٌّ على البقاء على ظهور اللفظ عرفاً, وإلا فالإجمال والتساقط كما في المسلكين الآخرين، وليس حكم العقل بالإحتياط على الإطلاق حتى لو لم يثبت الظهور.

ومنها: إنَّه على مسلك الإطلاق على تقريب المحقق العراقي من أنَّ الأثر ظاهر بإطلاقه في الطلب الشديد. وعليه؛ يمكن إثبات أعلى مراتب الوجوب, فلو وقع تزاحم بين واجبين أحدهما قد ثبت بالأمر والآخر بدالٍّ آخر غير الأمر قدم ما ثبت بالدليل اللفظي لأنَّ دليله يدلُّ بالإطلاق على كونه في أعلى مراتب الملاك والوجوب.

وفيه: إنَّ توصيف الطلب بالشديد والضعيف غير صحيح, وإنَّما الموصوف بهما هي الإرادة؛ وهي أمر نفساني لا ربط للدليل بها, فهو يدلُّ على الطلب, فعند التعارض بين دليل لفظي وغيره مِمّا يدلان على الوجوب فهما على حدٍّ سواء إذ الوجوب نشأ من طلب واحد ولكن منشأه إرادة نفسانية مؤكدة دون الإستحباب كما عرفت.ومِمّا ذكرنا يظهر أنَّه لم تترتب ثمرة عملية مهمة على إختلاف المسالك, فهي بالنسبة إليها على حدٍّ سواء.

نعم؛ إنْ إستُفيد من القرائن ما يترتب على أحدها دون الآخر فهو بمقتضى الدليل الخاص فيقتصر عليه, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الجهة الرابعة: في الطلب والإرادة

والطلب: هو المفاد بالأمر وغيره.

والإرادة: هي حالة في النفس لها التأثير في صدور الفعل, وقد عبِّر عنها بالكيف النفساني, وهي إما تكوينية أو تشريعية.

والمشهور بين الإمامية إتّحاد الطلب والإرادة خلافاً للأشاعرة وبعض الإمامية الذين ذهبوا إلى إختلافهما. والكلام تارةً يقع من ناحية المفهوم, وأخرى من ناحية المصداق.

ص: 26

أمّا الأولى؛ فلا ريب في اختلاف الطلب والإرادة مفهوماً, فإنَّه يفهم من لفظ الإرادة تلك الكيفية النفسانية التي يعبر عنها بالشوق المؤكد, أمّا الطلب فإنَّ المفهوم منه هو السعي في تحصيل شيء. ويدلُّ على ذلك إستعمال الإرادة فيما لا يصحُّ استعمال الطلب فيه كقوله تعالى:(یُرِیدُ أَن یَنقَضَّ فَأَقَامَهُ)(1), وقوله تعالى: (فَأَرَادَ رَبُّکَ أَن یَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا)(2), وقولك: (أردت الصلاة فصليت), وغير ذلك من الإستعمالات الصحيحة, واستعمال الطلب فيما يشكل إستعمال الإرادة فيه، كقولك: (طلبت حقي من زيد فأنكره).

وأمّا الثانية؛ فهما وإنْ كانا يتصادقان في الجملة ولا يمكن إنكار ذلك إلا أنَّ الأشاعرة ذهبوا إلى التغاير بينهما في المصداق ايضاً, وهو وإنْ كان بحثاً كلامياً لكن أدرجوه في الأصول لمناسبة ما. وقد استدّل الأشاعرة على التغاير في المصداق بأمور:

الأمر الأول: إنَّ الإرادة التشريعية لا تتعلق بشيء غير مقدور وبما أنَّ الأفعال مخلوقة لله سبحانه وتعالى وخارجة عن قدرة العبد مع أنَّ الطلب قد تعلق بها شرعاً، فلا بُدَّ أنْ يكون الطلب غير الإرادة, وبهذه المناسبة وقع البحث في الجبر والتفويض والإختيار وسيأتي الكلام فيه.

الأمر الثاني: إنَّ الطلب عبارة عمّا هو مدلولٌ للكلام اللفظي الإنشائي, وهو من الصفات القائمة بالنفس غير الإرادة وغير الصفات المشهورة كالعلم ونحوه, وسمُّوا هذه الصفة بالكلام النفسي؛ الذي هو من صفات النفس أيضاً, وبهذه المناسبة بحث الأصوليون عن الكلام النفسي في المقام, ومن ثم تطرقوا إلى بحثقِدَم القرآن؛ لأنَّه حاكٍ عن الكلام النفسي وهو من صفاته عَزَّ وَجَلَّ, أو حدوثه لأنَّه مركب من الحروف والكلمات المتصرمة.

ص: 27


1- . سورة الكهف؛ الآية 77.
2- . سورة الكهف؛ الآية 82.

الأمر الثالث: إنَّه في الأوامر الإمتحانية لم تتعلق إرادة بالفعل وإلا يلزم أنْ تكون أوامر جدية لا أنْ تكون إختبارية إمتحانية، مع أنَّ الطلب موجود قطعاً، ونفي الإثنين يساوق إنكار الأمر في البين.

الأمر الرابع: إنَّ أمر الكفار بالإسلام والإيمان والأوامر المتوجهة إلى الجميع بالنسبة إلى الفروع والأحكام الشرعية بما فيهم من الكفار والعصاة، فإنْ كانت الإرادة تتعلق بمتعلقاتها لزم تخلف الإرادة عن المراد فلا بُدَّ أنْ يكون مجرد الطلب وهو موجود, ونفي الأمر من الطلب والإرادة مساوق لإنكار الأمر وهو خلفٌ.

وقد اختلف المتأخرون من أصحابنا في ذلك فالمحقق الخراساني قدس سره ذهب إلى الإتّحاد بينهما مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، فهما متَّحدان في الإنشاء فهناك طلب إنشائي وإرادة إنشائية. كما أنَّهما متَّحدان في الحقيقة, فالطلب الحقيقي متَّحد مع الإرادة الحقيقية, والمقصود من الطلب الإنشائي عنده هو إيجاد مفهوم الطلب في عالم الإعتبار بمادة الأمر وصيغة إفعل, فليس هناك صفة قائمة بالنفس تسمى بالإرادة أو الطلب.

نعم؛ قد يكون الداعي إلى إنشاء هذا المفهوم وإيجاده في عالم الإعتبار تلك الصفة النفسانية.

وعلى هذا الرأي يجاب عن إشكال الأوامر الإمتحانية بأنَّ الموجود فيها الطلب الإنشائي والإرادة الإنشائية معاً, وهما متحدان لا أنْ تكون إرادة وطلب حقيقيين حتى يلزم المحذور, فإنَّه لا مانع من أنْ ينشئ الشارع مفهوم الطلب والإرادة في عالم الإنشاء والإعتبار بمادة الأمر وصيغة إفعل بداعي الإمتحان(1).

كما يجاب به عن الأوامر المتوجهة إلى الكفار والعصاة من أنَّه لا مانع من تخلف المراد عن الإرادة التشريعية, بخلاف الإرادة التكوينية التي هي مفقودة في تلك الأوامر.

ص: 28


1- . كفاية الأصول؛ ص64.

وذهب المشهور والمعتزلة إلى الإتّحاد واستدلُّوا عليه بالوجدان, والتحقيق كما عليه أهله تغاير الطلب والإرادة بالدقة العقلية وفي المحاورات, كما أنَّ العرف يرى التغاير بينهما ايضاً, فإنَّ إحراز الطلب عندهم يكفي في إتمام الحجة وصحة المؤاخذة على ترك المطلوب من حيث أنَّه إحراز للطلب, بخلاف الإرادة؛ فإنَّ إحرازها كإحراز للملاك لا يكفي في إتمام الحجة إلا بعد قيام الدليل عليها من سيرة ونحوها, وهذا المقدار يكفي في إثبات التغاير بينهما, وما ذكره المحققالخراساني قدس سره من إتّحادهما إنشاءً غير صحيح, لأنَّ مفاد الأمر ليس إنشاء الطلب, بل مفاده البعث والتحريك نحو المتعلق فإنَّه كما يحصل البعث بغير الطلب كالترغيب إلى المصلحة أو الزجر عن الترك كذلك يحصل بالأمر وصيغة إفعل أيضاً, فلا موضوع لإنشاء الطلب حتى تصل النوبة إلى إتّحاده مع الإرادة الإنشائية, ويأتي مزيد بيان في صيغة افعل.

ومن أجل ذلك ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى الإختلاف والتغاير بين الإرادة والطلب مستشكلاً على القول بالإتّحاد بأنَّه إنْ أُريد منه في المفهوم ففيه: إنَّ الإرادة كيف نفساني, والطلب تصدي وسعي في الخارج, فلا يقال طلب الضالة إلا لمن تصدَّى لتحصيلها في الخارج, وسعى له فلا يطلق على مجرد الإشتياق, وأنَّ الطلب في التشريعات عبارة عن البعث وإيجاده بالصيغة، وفي التكوينيات عبارة عن تحريك النفس للعضلات.

وإنْ أُريد منه في المصداق ففيه: إنَّ الإرادة كيف نفساني, والطلب من مقولة الفعل, ويستحيل صدق المقولتين على أمر واحد لتباينهما.

وإنْ أُريد منه في النفس والواقع؛ بأنْ لا يكون هناك إلا ثلاثة وهي التصور والتصديق بالفائدة والشوق المؤكد المعبر عنه غالباً بالإرادة ولا رابع هناك ليكون شيئاً آخر يسمى بالطلب الذي هو نفس الإختيار وتحريك النفس للعضلات. ففيه: إنْ كانت الثلاثة غير

ص: 29

اختيارية يلزم منه أنْ تكون حركة العضلات غير اختيارية في انقيادها للنفس فلا يجوز العقاب, وأنْ يكون سبحانه مقهوراً، لأنَّ إرادته عين ذاته وهي غير اختيارية له تعالى؛ ولا ريب في فسادهما.

ويمكن رفع النزاع كما أشار إليه بعض الأعلام بأنْ يراد من الإتّحاد في الجملة؛ بأنْ يكون الطلب مظهراً للإرادة وكاشفاً عنها, ومن يقول بالتغاير والإختلاف في الجملة أيضاً؛ فإنَّه لا ريب في تصادقهما في الجملة فيكون نسبة الطلب إلى الإرادة كنسبة اللفظ إلى المعنى والكاشف إلى المكشوف مفهوماً وحقيقة وإستعمالاً, لأنَّ الطلب مبرز للإرادة, والقول بالتغاير يقتضيه البرهان كما عرفت لا لأجل رفع شبهة تخلُّف الإرادة عن المراد.

ثم إنَّه قد عرفت من أنَّ الإرادة بحسب المتعلق تنقسم إلى تكوينية وتشريعية؛ وإنْ كانتا بحسب الحقيقة شيئاً واحداً؛ وهو الشوق المؤكد والكيف النفساني, وذكروا في الفرق بينهما وجوهاً:

الوجه الأول: إنَّ الإرادة التشريعية تتعلق بفعل الغير الصادر عنه بالإختيار لا بالقهر والإجبار, فإذا صدر الفعل عنه كذلك يكون خلفاً وتخلفاً للإرادة عن المراد, ومن المعلوم أنَّ مثل هذه الإرادة ليست ملازمة لإتيان متعلقها، ولو كان المريد قادراً مطلقاً لا يخرج عن قدرته شيئاً.

وأمّا الإرادة التكوينية فتتعلق إمّا بفعل المريد أو بفعل الغير مطلقاً طوعاً وكرهاً سواءً كان الفاعل من ذوي الشعور أو لا، وذلك لمصلحة في ذلك الفعل مطلقاً مندون تقييده بكونه قادراً بالإختيار, وحينئذٍ إذا كانت مثل هذه الإرادة صادرة عن القادر المطلق الذي إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون فلا محالة يقع ذلك الفعل كما في قوله تعالى للسماء والأرض: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(1).

ص: 30


1- . سورة فصّلت؛ الآية 11.

الوجه الثاني(1): إنَّ الإرادة التكوينية لا يمكن تخلّف المراد عنها, بخلاف الإرادة التشريعية التي يمكن التخلف بينهما, وبذلك أجاب المحقق الخراساني عن الدليل الرابع للأشاعرة.

الوجه الثالث: ما ذكره بعض المحققين من أنَّ الإرادة التشريعية لا تتعلق بفعل القادر المختار إلا إذا كان ذلك الفعل الذي يصدر منه ذا فائدة عائدة إلى المريد، ولمّا لم تكن من فعل العبد فائدة عائدة إلى الله تعالى فلا يمكن تعلق إرادته سبحانه بفعل العبد، بل تتعلق بإيصال النفع إلى العبد؛ ببعثه وتحريكه نحو الفعل وإيصال النفع كذلك من فعله سبحانه لا من فعل العبد أو زجره عن السيئات.

وفيه: إنَّ إيصال النفع أيضاً ليس فيه فائدة تعود إليه عَزَّ وَجَلَّ, لأنَّه سبحانه لا نقص فيه حتى يستكمل بمثل هذه الفوائد. وعليه؛ فلا تتعلق إرادته المقدسة مطلقاً بفعل من الأفعال سواءً كان لنفسه أو لغيره لعدم الحاجة والنقص فيه عَزَّ وَجَلَّ(2).

والصحيح؛ إنَّ الإرادة مطلقاً -سواءً من الله عَزَّ وَجَلَّ أو من الخلق- تابعة لما يرى المريد من المصلحة في متعلقها إذا كان عاقلاً حكيماً, بلا فرق بين أنْ تكون المصلحة نوعية راجعة إلى النوع والنظام أو المجتمع, أو شخصية ترجع إلى شخص المريد أو شخص المراد منه الفعل بسبب لطف المريد بالنسبة إليه، ولأجل ذلك لا بُدَّ أنْ يكون جميع ما له دخل في المصلحة تحت الإرادة, كما يخرج عنها كلُّ ما لم يكن له دخل فيها.

فإذا علم الله عَزَّ وَجَلَّ بعلمه الأزلي أنَّ في الفعل المعين مصلحة راجعة إلى نفس الفاعل أو إلى النوع وكان صدوره بإرادته واختياره لا أنْ يكون صادراً عنه بالقهر والإجبار، فإذا تحقق مثل ذلك لا محالة تتعلق إرادته عَزَّ وَجَلَّ بذلك الفعل بما عليه من الشروط من دون

ص: 31


1- . وهو يترتب على سابقه.
2- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص39.

تفاوت بين متعلق الإرادة وبين ما قامت به المصلحة, ولا شكَّ أنَّ مثل هذه الإرادة يمكن تخلّفها عن فعل الغير الذي تعلقت به إذا اختار الترك والعصيان وإلا يكون مجبوراً وهو خلف.

نعم؛ ربَّما يُتوهم من أنَّ الإرادة الأزلية إذا تعلقت بفعل العبد بهذه الشروط؛ من كونه فاعلاً بالإختيار لا بالإجبار فإنَّه يجب صدور ذلك الفعل, غاية الأمر بالإختيار غير أنَّه مجبور بالواسطة.ويمكن الجواب عنه بأنَّه إنْ أُريد من ذلك أنَّ الفعل يصير بواسطة تعلق الإرادة الأزلية ضروريَّ الوجود يخرج عن إختيار العبد ويصبح فاعلاً بالإضطرار فهو خلف, لأنَّ المفروض قيام المصلحة بالفعل الإختياري لا الإضطراري, والإرادة تابعة لهذه المصلحة سعة وضيقاً.

وإنْ أُريد أنَّه مع بقاء الإختيار في الفاعل وعدم إنقلابه إلى فاعل بالإضطرار, ومع ذلك يكون الفعل ضروري الوجود من ناحية تلك الإرادة الأزلية فهو كلام غير وجيه.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في المسائل الثلاثة, وهي:

1- مسألة الجبر والإختيار.

2- مسألة تخلُّف المراد عن الإرادة.

3- مسألة الكلام النفسي.

وجميع هذه المسائل خارجة عن بحث الأصول, لكنهم ذكروها فيه إستطراداً وتبعاً للمحقق الخراساني قدس سره .

ص: 32

المسألة الأُولى: مسألة الجبر والإختيار

وتفصيل القول فيها تارةً يقع عن الفاعل في أفعال الإنسان من هو, وحينئذٍ تكون المسألة كلامية, وأخرى يقع عن الفعل مطلقاً أيّاً كان فاعله وهل يصدر من فاعله بالإختيار أو بالإجبار والمسألة حينئذٍ فلسفية وإنْ كان الأصوليون وغيرهم أدرجوهما في مسألة واحدة.

والكلام في الجانب الأول أي الفاعل في أفعال الإنسان من هو؛ وعمدة البحث في كون الإحتمالات في أعمال العباد خمسة, يستلزم من بعضها الجبر ومن بعضها الآخر التفويض ومن بعضها الأمر بين الأمرين كما ستعرف.

وتفصيل الكلام فيها حسب ما يقتضيه المقام كالتالي:

الإحتمال الأول: أنْ يكون الفاعل هو الله تعالى والإنسان محلٌّ قابل لذلك الفعل, فلا إرادة ولا إختيار للعبد كسائر المواد تحت يد الصنّاع, فإنَّ الحديد -مثلاً- ليس فاعلاً للفعل وإنَّما هو قابل له والفاعل إنَّما هو الحداد، وعلى هذا الرأي ليس لمبادئ إرادة الإنسان دخل في تحقق الفعل فتكون نسبته إلى الإنسان إنَّما هو بالمجاز لاقترانه به, بخلاف نسبته إلى الله تعالى فهو على نحو الحقيقة، وهذا هو مذهب الأشاعرة، فقد قالوا أنَّ العبد بالنسبة إليه عَزَّ وَجَلَّ كالقلم في يد الكاتب،والسيف في يد القاتل، واستدلُّوا عليه بظواهر بعض الآيات كقوله تعالى:(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)(1), وقوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ)(2), وغير ذلك من الآيات الكثيرة.

ص: 33


1- . سورة الصافات؛ الآية 96.
2- . سورة الأنفال؛ الآية 17.

واعتبروا هذا من شؤون التوحيد الخالص, وهو يتحقق في نفي الإرادة والإختيار عمّا سوى الله تعالى, ومن هنا فلا يختص بالأفعال الإختيارية بل يجري في عالم الكون والفساد المبتني على الأسباب والمسببات كالإحراق؛ فإنَّه من صنع الله عَزَّ وَجَلَّ ولو اقترن في هذا العالم بالنار.

ولكن من أوضح ما يُردُّ به على هذا الرأي أنَّه مخالف للوجدان في أفعال الإنسان, إذ هناك فرق بين حركة المرتعش وحركة غير المرتعش, وفي غيرها مِمّا يجري في عالم الأسباب والمسببات, وأمّا الآيات التي إستدلَّ بها فهي معارضة بآيات أخرى أقوى في الدلالة تدلُّ على نسبة الفعل إلى العبد، قال تعالى:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ«7» وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(1), وغيره.

وأجيب عن تلك الآيات بأنَّ نسبة خلق عمل العبد إليه سبحانه وتعالى إنَّما هو بالتسبيب مع اقتران الإنسان بفعله وكونه مسؤولاً عنه، كما أنَّ نفي الرمي عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم إنَّما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة لا بالنسبة إلى الفعل المباشري الصادر منه صلی الله علیه و آله و سلم .

الإحتمال الثاني: أن يكون الفاعل هو الإنسان، ولا نصيب لخالقه في الفاعلية، وهو مذهب التفويض المنسوب إلى المعتزلة؛ حيث قالوا بأنَّ الأفعال منسوبة إلى العباد على نحو الحقيقة وإلى الله تعالى بالمجاز، فلا تكون أفعال العباد مورد إرادته سبحانه وتعالى أصلاً, وهم إنَّما ذهبوا إلى هذا الرأي إمّا لأنَّ نسبة أفعال العباد إذا كانت من القبائح والسيئات غير صحيحة ولا يمكن أنْ تكون مورد إرادته عَزَّ وَجَلَّ, أو لأنَّ نسبتها إليه تعالى تستلزم الجبر وهو منفي عندهم.

ص: 34


1- . سورة الزلزلة؛ الآيات 7 - 8.

بل يمكن إرجاع هذا القول إلى البحث المعروف من أنَّ المعلول بعد احتياجه إلى العلة في الحدوث فهل هو يحتاج إليها في البقاء؟.

والقول بعدم الإحتياج يستلزم التفويض, وحيث ثبت بطلان هذا المبنى كما حقق في موضعه، فالمعلول محتاج في وجوده البقائي -ومنه أفعال العباد وغيرها من سلسلة المعلولات في عالم الأسباب والمسببات- إلى الله تعالى, وبه يثبت بطلان التفويض.

وأمّا ما ذكروه من الأدلة فهي باطلة عقلاً ونقلاً, والأول ما سيأتي بيانه في الأمر بين الأمرين, وأمّا الثاني فلقوله تعالى: (قُل کُلٌّ مِنْ عِندِ اللَّهِ)(1), وقوله تعالى: (وَ إِیَّاکَ نَسْتَعِینُ)(2),وما ورد عن المعصومين علیهم السلام من قول: (لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِالله), وغير ذلك من الأدعية المأثورة والجميع ظاهر ظهوراً عرفياً في صحة إضافة أعمال العباد إلى الله تعالى إمّا بنحو القضاء والرضا معاً كما في الحسنات, أو على نحو القضاء فقط كما في السيئات، ولا ريب أنَّ قضاؤه ليس من العلَّة التامة المنحصرة في شيء أبداً.

الإحتمال الثالث: أنْ يكون لكلٍّ من الله تعالى والإنسان نصيب في الفاعلية, بمعنى كونهما فاعلين طوليين؛ فالإنسان هو الفاعل المباشر للفعل بما أعطى له الله تعالى من الإرادة وأسباب القوة, والله تعالى غير المباشر لأنَّه سبحانه هو الخالق للإنسان ولتلك القوى, فيكون فاعل الفاعل, وهذا هو أحد الوجوه التي فُسِّرَت بها نظرية الأمر بين الأمرين.

الإحتمال الرابع: أنْ يكون الفاعل المباشر هو الله تعالى لكن إرادة العبد مقدمة إعدادية لقابلية المحل لإفاضة الفعل, فيكون من إجتماع فاعلين عرضيين, وهو أيضاً أحد الوجوه في تفسير الأمر بين الأمرين؛ كما سيأتي بيانه.

ص: 35


1- . سورة النساء؛ الآية 78.
2- . سورة الفاتحة؛ الآية 5.

الإحتمال الخامس: إجتماع فاعلين وهما الله والعبد على الفعلين لا الطوليين كما في الثالث ولا عرضيين كما في الرابع، بل على نحو وحدة الفاعلية؛ فإنَّ الحقيقة تقتضي أنْ تكون نسبة العبد إلى الله تعالى هي نسبة الربط والفناء, والمعنى الحرفي إلى المعنى الإسمي، فإذا لحظنا إلى الفناء والإندكاك كان الفاعل هو الله تعالى, وإنْ لاحظنا العبد بغير نظر الفناء والإندكاك كان هو الفاعل.

هذه هي الإحتمالات الخمسة في أعمال العباد؛ وقد عرفت بطلان الأول والثاني منها بالوجدان والبرهان, والخامس مبنيٌّ على نظرية عرفانية صوفية إختلفوا في حقيقتها أصحابها, فيكون الأمر دائراً بين الثالث والرابع اللذين هما من وجوه تفسير نظرية الأمر بين الأمرين التي أسَّسها الأئمة الهداة علیهم السلام , وسيأتي في البحث الآتي ما يبين وجه صحتهما.

والكلام في الجانب الثاني أي جبرية الأفعال ونفي الإختيار للإنسان؛ يكون في أنَّ مجرد نسبة الفعل إلى الإنسان مطلقاً لا تثبت الجبر إلا إذا كان على وجه لا ينفي الجبر, كما هو كذلك على مسلك الأشعري فإنَّه يثبت الجبر لا محالة, وكيف كان؛ فإنَّ شبهة الجبر قديمة في حياة الإنسان, وقد وقعت مورداً للبحث في جميع الأديان السماوية منها والوضعية, بل أنَّ كثيراً من المذاهب الفلسفية المعاصرة وغيرها تدخل الجبرية والحتمية فيها بوجه من الوجوه وإنْ كانت بصورةٍ خفية, ولا بُدَّ من بيان المسالك فيهما ثم تحرير الجواب عن أصل الشبهة.

إذا عرفت ذلك فإنَّ الكلام يقع في جهتين:

الجهة الأولى: في بيان المذاهب المعروفة في الجبر؛ وهي:أولاً: ما نسب إلى الأشعري من أنَّ أفعال الإنسان صادرة من الله تعالى وليس للإنسان دخل فيها أصلاً. وعرفت أنَّه يكفي في بطلانه أنَّه ينافي الوجدان, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 36

ثانياً: ما ذهب إليه جمع من القول بوحدة الوجود بل الوحدة المطلقة، فلا أثنينية في البين بين الخالق ومخلوقه, فلا إرادة غير إرادة الله تعالى، لأنَّ ثبوتها للعبد مثلاً يتوقف على تعدد الوجود، والمفروض وحدته فلا أثنينية بين الخالق ومخلوقاته.

وفيه: إنَّه قد ثبت بطلان وحدة الوجود فضلاً عن الوحدة المطلقة، كما أنَّ الإعتقاد بهذا الرأي يستلزم الكفر كما ثبت في الفقه؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ثالثاً: ما ذكره بعض الفلاسفة من أنَّ علم الله تعالى علَّة تامة لحصول معلوماته, وفعل العبد معلوم له تعالى فلا بُدَّ أنْ يقع، ولا أثر لإرادة العبد واختياره في فعله أصلاً وقد أشار عمر الخيام(1) في بعض أشعاره إلى أنَّ هذا القول من أنَّ شربي الخمر كان الله يعلمه من الأزل فلو لم أشربها ينقلب علمه عَزَّ وَجَلَّ إلى الجهل.

وفيه: إنَّ الوجدان على خلاف ذلك, فإنَّه لم يكن العلم علَّة تامة لحصول المعلوم، بل الأدلة العقلية والنقلية تدلُّ على بطلانه, وفي جملة الأخبار الواردة في باب أسباب الفعل التي هي المشيئة والإرادة والقدر والقضاء والإمضاء تدلُّ على أنَّها من المقتضيات وليست من العلة التامة في شيء.

ص: 37


1- . وهو المعبر عنه بالجبر العلمي الذي نسب إلى عمر الخيام, والحال أنَّه لم يوجد في رباعياته مثل هذا المعنى إلى ما ورد بالرباعيات المنسوبة إليه بتحقيق حامد حفني الصراف, وهي الرباعية (66) والتي وردت هكذا: من مى خورم و هركه چو من اهل بود *** می خوردن او نزد خرد سهل بود مى خوردن من حق ز ازل ميدانست *** گر مى نخورم علم خدا جهل بود ومعناه بالعربية: أنا أحتسي الشراب ويشربها كلُّ من هو مثلي أهل لها, فإنَّ شربه لها عند العقل يكون سهلاً, إنّ الله كان يعلم منذ الأزل بأنِّي سأشربها، فأنا إنْ لم أشربها فعلمه إذن يكون جهلاً.

وهذه الأسباب تارةً إلتفاتية تفصيلية, وأخرى على نحو الإجمال والإرتكاز, وهذا هو الغالب، والفرق بين المشيئة والإرادة بالكلية والجزئية كما هو مفصل في محله.

والحاصل؛ إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يعلم أنَّ العباد يفعلون أعمالهم لكن بإرادتهم واختيارهم, بحيث لهم أنْ يفعلوا أو يتركوا، فقد تعلق علمه تعالى بأفعالهم من حيث أنَّها مختارةً لا أنْ يتعلق بأحد طرفي الإختيار فقط.رابعاً: الحتمية في الحوادث الكونية؛ وهذه وإنْ إختلفت تفسيراتهم فيها حتى بلغ الأمر بهم أنْ قالوا أنَّه ليس من اليسير أنْ نقرر دعوى الحتمية على وجه الدقة, وإنْ قرروا في بيانها أنَّ لكلِّ حادثة سبب وأنَّ الطبيعة مطَّردة، ورتبوا عليه أنَّه إذا كانت لدينا معرفة بحالة الكون في وقت معين ففي إمكاننا من حيث المبدأ أنْ نتنبأ بكلِّ ما يتلو ذلك الوقت من تاريخ الكون، ومن هذا المنطلق يرى بعضهم بأنَّ الإرادة ليست حرة وأنَّنا خاضعون للحتمية في طرائق سلوكنا, وبطلان هذا القول واضح بعد التجارب الحديثة والبراهين العقلية والشرعية, كما أنَّه مخالف للوجدان, ولعله لأجل ذلك وغيره عدل بعضهم مِمَّن يسلّم بالحتمية إلى حرية الإرادة.

هذه هي أهم المسالك في الجبرية, ونفي حرية الإرادة عند الإنسان, وإنْ كانت هناك مذاهب أخرى وهي إمّا محدودة في بعض الأمور أو لا أثر لها لعدم شهرتها, ولكن يمكن الجواب عن أصل الشبهة بوجه عام كما سنبيّنه إنْ شاء الله تعالى.

الجهة الثانية: في بيان المسالك في الجواب عنها؛ وقبل ذكرها لا بُدَّ من ذكر مقدمة, وهي: إنَّ منشأ هذه الشبهات يرجع إلى أنَّ جميع الممكنات -بما فيها الفعل الصادر من الإنسان- مسبوقة بالضرورة فإنَّها تحتاج في وجودها إلى علَّة, لأن الممكن -كما هو المعروف- ما لم يجب بالغير لم يوجد, فلا بُدَّ أنْ يكون وجودها بالضرورة, فيكون صدور الفعل من

ص: 38

الإنسان بالضرورة لأنَّه ممكن من الممكنات, ولا ريب أنَّ الضرورة تنافي الإختيار لأنَّها تساوق الإضطرار المقابل للإختيار, كالحركة القسرية التي هي ضرورية المقابلة للحركة الإختيارية, ولأجل ذلك إختلف العلماء في ردِّ الشبهة وتعددت المسالك في إبطالها, وهذه المسالك هي:

المسلك الأول: وهو المشهور بين الفلاسفة, حيث قالوا بأنَّ فعل الإنسان وإنْ كان مسبوقاً بالضرورة إلا أنَّ الضرورة لا تنافي الإختيار, لأنَّه بمعنى إنْ شاء فعل وإنْ شاء ترك وهي قضية شرطية والمعروف أنَّ القضية الشرطية لا تتكفل حال شرطها من حيث ضرورة وجودها أو ضرورة عدمها، فإنْ صدقت تلك القضية الشرطية فقد صدق الإختيار وحينئذٍ لو كان الشرط هو نفس الإرادة ضرورياً فيكون الجزاء ضرورياً بالغير، وإنْ كان الشرط ممتنعاً يكون الجزاء ممتنعاً بالغير؛ بلا فرق بين وجوب الشرط وامتناعه بالغير كما في الإنسان, أو يكون بالذات كما في الباري عَزَّ وَجَلَّ لأنَّ صفاته واجبة بالذات لأنَّها عين ذاته، وضرورة الفعل الناشئة من الإرادة لا تنافي الإختيار بل تؤكده, لأنَّ الإختيارية تكون بصدق القضية الشرطية, فإنْ أراد الفاعل تحقق الفعل أصبح ضرورياً عند الإرادة وهذا هو تأكيد للملازمة، بل يدلُّ على صدق القضية الشرطية وبدون هذه الضرورة تكون القضية الشرطية كاذبة.والحاصل: إنَّ الإختيار يصدق إذا صدقت هذه القضية الشرطية كما في حركة يد السليم، وغير صادق إذا لم تصدق القضية الشرطية كما في حركة يد المرتعش, وهذا لا ينافي ضرورة الفعل بالإرادة ولا ضرورة الإرادة نفسها, وهو الذي أشار إليه المحقق الخراساني من أنَّ الفعل الإختياري ما يكون صادراً عن الإرادة بمبادئها لا ما يكون صادراً عن إرادة صادرة عن الإختيار.

ص: 39

وأورد عليه بعض الأعلام بأنَّ تفسير الإرادة بذلك إمّا أنْ يكون مجرد إصطلاح فلسفي فلا مشاحةَ معهم من أجل جعل الغطاء على تلك المسألة.

وأمّا لكونه معنىً لغوياً فلا بُدَّ من الرجوع إلى اللغة لتعيين وضع الكلمة ودلالتها عليه, ولا كلام حينئذٍ معهم أيضاً, وأمّا لكونه يرجع إلى مسألة التكليف والحساب والجزاء من الثواب والعقاب، وتوضيح الفرق بين الحركة القسرية والحركة الإرادية حيث أنَّ هناك حساب وجزاء على الثانية دون الأولى.

فقال: إنَّه بناءً على الإحتمال الأخير بعد الإعراض عن الأولين؛ تارةً يقع الكلام بناءً على التسليم بالحسن والقبح العقليين كما هو الحقُّ، وأخرى نتكلم بناءً على إنكارها كما هو مذهب الأشاعرة صريحاً وغيرهم على نحو الإشارة كما عليه بعض الفلاسفة.

أمّا بناءً على الأول فلا مخلص لهم عن الشبهة بتلك الكلمات، فلأنَّ ما يصدر بالضرورة ينتهي بالضرورة إلى عللها وهكذا حتى ينتهي إلى الواجب بالذات، فتكون حركة اليد كحركة الأمعاء الناشئة بالضرورة من عامل الخوف الناشئ بالضرورة من عوامل مؤثرة في النفس التي تنشأ من عللها وهكذا حتى ينتهي إلى الواجب بالذات, فكما يقبح المحاسبة على الثانية يقبح على الأولى وإنْ سُمِّيَ إختيارياً.

وأمّا بناءً على إنكار الحسن والقبح العقليين فالأمر واضح, إذ لا مشكلة من ناحية قبح المحاسبة والعقاب حتى نحتاج إلى حلِّها.

نعم؛ تبقى مشكلة التكليف والخطاب؛ فإنَّه بناءً على عدم الإختيار يستلزم لغويته، وقال في الجواب عنها بما ذكروه, فإنَّ الحركة الناشئة من الإرادة وإنْ كانت ضرورية كحركة الأمعاء لكنها سنخ فعل يمكن تدخّل التشريع فيه على خلاف سائر الأمور الضرورية التي تفتقد فيها الإرادة، فيصحُّ التكليف والتخويف بالعقاب.

ص: 40

ويرد عليه:

أولاً: إنَّ كون الإختيار بمعنى إنْ شاء فعل وإنْ شاء ترك مِمّا لا يمكن إنكاره لأنَّه وجداني لكلِّ فاعل بالإختيار, فلا حاجة إلى بيان كونه من مجرد الإصطلاح, أو بحسب اللغة ترتبت عليه مسألة التكليف أو لم تترتب.ثانياً: إنَّ جعل الميزة بين الضرورتين في الحركتين الإختيارية والقسرية بأنَّ في الأولى سنخ فعل حاصل من إرادة يصحُّ لأجلها تعلق التشريع بها بالتكليف والتخويف بالعقاب, وهذه الميزة تكفي عند العقل في تعلق الحسن والقبح العقليين بها مع أنَّ قاعدة الملازمة التي تدلُّ على أنَّ كلَّ ما حكم به الشرع حكم به العقل تقضي بصحتها.

المسلك الثاني: ما ذهب إليه بعض الفلاسفة المتأخرين, وهو يرجع إلى إنكار قوانين العلية في الممكنات بأنْ يخرج الممكن من عالم الإمكان إلى عالم الوجود بلا حاجة إلى توسيط الضرورة, واعتبروا أنَّ هذا يساوق الإختيار والحرية, إذ يبقى الفعل ممكناً حتى حين صدوره.

وأشكل عليه بأنَّ جعل الإمكان ونفي الضرورة ونفي مبادئ العلية مساوقاً للإختيار غير صحيح, لأنَّ مجرد كون الفعل ليس ضرورياً لا يكفي في كونه إختيارياً للفاعل، كما أنَّ إنكار مبادئ العلية معناه الإعتراف بالصدفة وهي غير الإختيار بلا إشكال.

وفيه: إنَّ الأمر بالنسبة إلى أفعال الإنسان وحرية إرادته يدور بين أنْ تكون أفعاله مسبوقة بالضرورة فتكون ضرورية بلا دخل للإرادة فيها كما عرفت، وبين نفي الضرورة والقول بأنَّ الفعل الممكن هو ما يخرج من الإمكان إلى عالم الوجود بإرادة من الفاعل فيصير إختيارياً له، وتتَّصف إرادته بالحرية وإنكار مبادئ العلية لأجل نفي الضرورة لا لإثبات الصدفة التي هي الحادث من دون سبب معلوم, ولا أظن أنَّ القائل بذلك يريده, فإنَّه لا ينطبق على إخراج شيء من عالم الإمكان إلى عالم الوجود مع الإعتراف بوجود سبب لهذا

ص: 41

الإنقلاب؛ اللهم إلا أنْ ينكر قانون السببية بالكلية كما هو رأي بعض الفلاسفة فيكون لنا معه كلام آخر؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

المسلك الثالث: وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من أنَّ قوانين العلية لا تشمل الأفعال الإختيارية للإنسان, لأنَّه حينما يلتفت إلى عمل وتحققت عنده أسباب الفعل وانقدحت في نفسه الإرادة الجدية التامة فإنَّه لا يحصل وجوب ولا يتَّصف الفعل بالضرورة بحيث يخرج عن قدرة الإنسان, فإنَّ النفس حتى بعد الإرادة تبقى على اختيارها وإمكانها في أنْ تتحرك نحو الفعل أو لا تتحرك, فما يصدر من النفس بعدما تتمّ عندها الإرادة فعل خارجي -كالصلاة- وفعل نفساني قائم في النفس, وهو أسبق رتبة من الفعل الخارجي وهو تأثير النفس على الأعضاء وحملها وإعمالها للقدرة والتحرك نحو الفعل, وهذا التأثير والتحرك ليس من قبيل العرض إلى محله بل هو من نسبة الفعل إلى الفاعل, وهذا الفعل النفساني وسط بين الإرادة والفعل الخارجي وليس معلولاً للإرادة حتى تتبعقوانين العلية بل النفس بعد الإرادة تبقى على اختيارها فبإمكانها التحرك نحو الفعل أو لا تتحرك.

وهذان الفعلان -الخارجي والنفساني- طوليان كما عرفت ولكنهما إختياريان, فإنَّ الفعل النفساني هو توجه النفس وتأثيرها, فهو أمر إختياري ولا حتمية فيها ولا يصبح وجودها ضرورياً بالإرادة، وأمّا الفعل الخارجي -كالصلاة- فهو وإنْ أصبح ضرورياً بعد الإختيار لكن هذه الضرورة لا تنافي الإختيار لأنَّها نشأت من الإختيار, فقد نشأ من الفعل الأول الذي هو عين اختيار النفس وإعمالها لقدرتها, فالضرورة في طول الإختيار فلا تنافي الإختيار(1).

ص: 42


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص90.

واعترض عليه بعض الأعلام بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ ما جعله فعلاً نفسياً وراء الفعل الخارجي ليس هو في الحقيقة كذلك, فإنَّ الإعمال والتحرك ونحو ذلك مِمّا جعله من الفعل النفسي هو عين العلم والتأثير عين الأثر، وهي عناوين إنتزاعية تنتزع من نفس العمل والأثر, فإنَّ الإيجاد والوجود والتأثير والأثر والإعمال والعمل مفاهيم مختلفة بالإعتبار لكنها متَّحدة خارجاً، فمثلاً الإحراق تارةً يلحظ منسوباً إلى الفاعل فيسمى إحراقاً وإيجاداً للإحتراق، وأخرى يلحظ منسوباً إلى المحل فيسمى وجوداً واحتراقاً(1).

وفيه: إنَّ هذا الإشكال حصل من تسمية أسباب الفعل بالفعل النفسي، ولكن لا ريب أنَّها غير الفعل الخارجي، فإنَّ المشيئة والإرادة والقضاء والقدر والإمضاء التي هي أسباب الفعل إنَّما تكون في النفس, وبعد تحققها وانسجامها توعز للنفس بالتحرك وإعمال القدرة في إيجاد الفعل خارجاً, وهي غير المفاهيم الإنتزاعية التي ذكرها لأنَّها تنتزع بعد تحقق الفعل خارجاً, وإنَّما الكلام في أسباب الفعل التي موطنها النفس.

الوجه الثاني: إنَّ فرض وجود عمل نفساني وسطاً بين الإرادة والفعل لا دخل له في حلِّ الشبهة، فإنَّه بالإمكان الإلتزام في الفعل الخارجي بما إلتزم به المحقق النائيني قدس سره في الفعل النفسي من خروجه عن قانون أنَّ الشيء ما لم يجب لم يوجد، فإنْ كان هذا التخصيص لذلك القانون كافياً لرفع الشبهة فيمكن أنْ يطبّق إبتداءً على الفعل الخارجي وإنْ لم يكن كافياً لذلك فلا فائدة في إفتراض فعل آخر يتوسط بين الإرادة والفعل لدفع الشبهة.

ص: 43


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص35.

وفيه: إنَّ الكلام في الفعل الصادر عن الإنسان بإرادته واختيار منه, ولا ريب أنَّ الفعل له أسباب نفسية تسمى بالمبادئ أو يعبّر عنها بأسباب الفعل وبدونها لا يمكن أنْ يتحقق فعل من الإنسان, فإنَّ نفي القانون المزبور في الفعل النفسي كمايدّعيه المحقق النائيني لأجل نفي ضرورية الفعل الإنساني وتحقيق إختياريته، فإذا طبقنا ذلك على الفعل الخارجي فلا بُدَّ أنْ يكون بهذا المناط وإلا فمع قطع النظر عن الإرادة فهو موجود من الموجودات يحتاج إلى علّة فيدخل في القانون المزبور كما سنبيّنه في كلامه الآتي.

الوجه الثالث: إنَّ الفعل الخارجي الصادر من الإنسان حاله حال الموجودات في عالم الطبيعة؛ فلا بُدَّ أنْ ينطبق عليه القانون المعروف (الشيء ما لم يجب لم يوجد)، وأمّا الفعل النفساني فقد إفترض المحقق النائيني قدس سره أنَّه خارج عن القانون المزبور, وعلى كلِّ حالٍ؛ سواءٌ قلنا بأنَّ الفعل الخارجي -كما هو رأي المشهور عند الفلاسفة- خارج عن القانون أو أنَّ الفعل النفساني كما هو رأي المحقق النائيني؛ ننقل الكلام إلى هذا القانون الذي هو قانون عقلي لا أنْ يكون قانوناً تعبدياً حتى يقبل التخصيص, فلا بُدَّ من التعميم.

وحينئذٍ يأتي السؤال: ما هو المصحح لوجود الفعل بعد فرض عدم وجوبه الذاتي؟.

والفروض العقلية المحتملة هي:

1- أنْ يكون المصحح لوجوده هو الوجوب بالغير والضرورة المكتسبة من العلّة.

وهذا خلف الخروج من قاعدة أنَّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

2- أنْ يكون المصحح له مجرد الإمكان الذاتي, بمعنى أنَّ مجرد إمكان صدوره عن الفاعل يكفي في صدوره.

وهذا أيضاً غير صحيح, لأنَّ الإمكان الذاتي مرجحٌ لجانب الوجود كما هو واضح بالوجدان بعدما كان معنى الإمكان هو التساوي بين الوجود والعدم في الشيء

ص: 44

الممكن, مع أنَّه بناءً على ذلك لا فرق بين الإمكان في الفعل والإمكان في غيره من سائر الموجودات؛ فإنَّه لم يقل أحدٌ بكفايته في سائر المجالات للوجود.

3- إنَّ الفعل الخارجي الصادر عن هجوم النفس كما عبَّر به المحقق النائيني وهذا الهجوم صادر عن هجوم آخر وهكذا.

وهذا أيضاً باطل للزوم التسلسل.

ويرد عليه: إنَّ هذه الفروض إنَّما تصحُّ في الفعل بما هو موجود خارجي, وأمّا إذا لوحظ الفعل من حيث أنَّه يرتبط بإرادة الفاعل واختيار منه وأنَّ الفعل النفسي هو الوسيط بينه وبين الإرادة، وهذا الفعل النفسي لا يخرج عن أصل الإختيار وما يصدر منه أيضاً لا يخرج عن الإختيار وإنْ كان ضروري الوجود.فالحَقُّ أنْ يُقال: إنّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره وإنْ كان لا بأس به في رفع اليد عن قانون العلية وقاعدة أنَّ الشيء ما لم يجب لم يوجد في الأفعال الإختيارية, وتثبت به حرية الإرادة في الإنسان, إلا أنَّه لا يخلو من غموض من جهات:

الجهة الأولى: إنَّ فرض وجود فعل نفساني غير أسباب الفعل يحتاج إلى دليل, فإنَّ المتحصل من الأدلة أنَّه ليس في صقع النفس سوى تلك الأسباب التي شرحتها جملة من الأخبار كما تقدمت الإشارة إليها, فلا يوجد فيها ما يسمى بالفعل النفساني الذي يتوسط بين الإرادة والفعل إلا أنْ يسمى بعض الأسباب بالفعل النفسي وهذا إصطلاحٌ منه.

الجهة الثانية: إنَّ هذا الفعل النفساني يرجع إلى الصفة النفسية التي يعبر عنها بالكلام النفسي المدلول للكلام اللفظي.

وفيه: إنَّ الإختيار ليس كلاماً نفسياً لأنَّه لا دلالة للفظ عليه أبداً بل هو مربوط بالفعل الخارجي لا بالكلام.

ص: 45

الجهة الثالثة: إنَّ ما ذكره قدس سره إنْ صحَّ في فعل الإنسان الخارجي لكنه يحتاج إلى تأمل شديد في الإنشائيات, فإنَّ الإختيار فيها يتعلق بفعل الغير لأنَّ الفعل في التكليف والأمر إنَّما هو فعل المأمور به, وبه يتعلق إختياره, ولم يكن فعل الآمر كي يتعلق به إختياره, فلا يتصور حصول صفة الإختيار في مورد التكليف.

اللهم إلا أنْ يقال بأنَّ الكلام في مطلق الفعل الإختياري الشامل لفعل الآمر وهو توجيه التكليف وفعل المأمور باعتبار إمتثال الأمر والتكليف.

المسلك الرابع: ما ذهب إليه بعض الأعلام؛ وهو نفي مفهوم الوجوب ونفي مفهوم الإمكان في أفعال الإنسان وإثبات مفهوم السلطنة, وبه يبطل البرهان على الجبر الذي كان منشؤهُ مفهوم الوجوب.

وخلاصة ما ذكره: إنَّ قاعدة (إنَّ الشيء ما لم يجب لم يوجد) من القواعد الفطرية التي يدركها العقل وليست قاعدة عقلية حتى لا تقبل التخصيص والتقييد كما هو شأن القواعد العقلية وإنْ كان الفلاسفة يستدلّون عليها بالبرهان العقلي, باعتبار أنَّ الحادثة بدونها لو وجدت تكون بلا علة ولا ترجيح، وأنَّه يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بغير مرجح وهو محال, ولكن ذلك من مجرد الإصطلاح وتشويش الألفاظ, وهذه القاعدة الفطرية الوجدانية تحكم بأنَّ مجرد الإمكان الذاتي لا يكفي في الوجود والتحقق إلا بأحد وجهين؛ إذا وجد أحدهما يحكم العقل بكفايته؛

أحدهما: الوجوب بالغير؛ الذي يكفي للخروج عن تساوي الطرفين ويصحح الوجود.والثاني: السلطنة؛ فإنَّه إذا وجدت ذات في العالم تملك السلطنة، والعقل بفطرته السليمة يحكم بكفاية هذه السلطنة للوجود، وهذه السلطنة تشترك مع الإمكان والوجوب من جهة وتخالفهما من جهة أخرى.

ص: 46

أمّا في الإمكان؛ فهي تشترك معه في أنَّ نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية لكن تختلف عن الإمكان في أنَّه لا يكفي لتحقق أحد الطرفين بل يحتاج تحققه إلى مؤونة زائدة, وأمّا السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضمّ شيء آخر إليها لأجل تحقق أحد الطرفين, إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة وهو خلف, ولكن في الإمكان لا يلزم من الحاجة إلى ضمِّ ضميمة خلاف مفهوم الإمكان، إذن فالسلطنة لو وجدت فلا بُدَّ من الإلتزام بكفايتها.

أمّا في الوجوب؛ فإنَّها تشترك معه في الكفاية لوجوب شيء بلا حاجة إلى ضمِّ ضميمة، وتمتاز عنه بأنَّ صدور الفعل من الوجوب ضروري، ولكن صدوره عن السلطنة ليس كذلك, إذ لو كان ضرورياً لكان خلاف السلطنة, فإنَّ هناك فرق بين (له أنْ يفعل) وبين (عليه أنْ يفعل) والأول مصداقه السلطنة، ومنها ينتزع العقل -لأجل هذه النكات- مفهوم الإختيار لا من الوجوب وغيره, فلو كانت هناك سلطنة فإنَّها مساوقة للإختيار وهي تكفي في صدور الفعل.

ويمكن إقامة البرهان على إثباتها في الإنسان بالشرع أو بالوجدان بأنَّنا ندرك مباشرة هذه السلطنة فينا بالوجدان, فإنَّه عندما يتمُّ الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عمل فإنَّه لا نقدم عليه قهراً ولم يدفعنا إليه أحد, بل نقدم عليه بالسلطنة, ويمكن دعوى العلم الحضوري عليه كما هو متحقق في حالة الجوع والعطش أو حالة الحب والبغض, كما أنَّ الجائع الذي يقدم أحد الرغيفين، والهارب أحد الطريقين إنَّما هو بناءً على قاعدة السلطنة؛ فإنَّه يرجح أحدهما وإنْ كان في بدو النظر بغير مرجح ولكن الحكماء يفرضونه إمّا بوجوده في علم المولى أو عند الملائكة المدبرات للأمور, فإنْ حكم أحد بعدم المرجح دائماً وجداناً فهو قد تمسك بالوجدان أيضاً(1).

ص: 47


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص36.

ولكن هذا القول يجري عليه ما ذكرناه في المسالك السابقة بالبيان التالي:

أولاً: إنَّ السلطنة المدَّعاة من الممكنات لا بُدَّ لها من علة فتحتاج إلى علة أخرى حتى تنتهي إلى الواجب بالذات, ومجرد عدم حاجتها إلى ميزة في تحقق أحد طرفي الممكن لا ينفي ذلك, فإنَّه إنْ كان صحيحاً في الفعل الخارجي لكنه غير تام في نفس السلطنة الثابتة في النفس؛ فهي من الممكنات؛ يجري فيها ما ذكروه في نفس الإرادة.ثانياً: إنَّ السلطنة إنْ كانت من أسباب الفعل التي هي ثابتة في النفس وجداناً فإنَّها لا تحلُّ الإشكال, وإنْ كانت غيرها فهو خلاف الوجدان الذي لا يثبت إلا الإختيار والإرادة في النفس وليس الإختلاف إلا بالإصطلاح.

ثالثاً: إنَّ السلطنة المزعومة لا تختلف عن الفعل النفساني الذي أثبته المحقق النائيني إلا في اللفظ والتعبير, ويجري عليها ما ذكرناه آنفاً.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ جميع ذلك من تكثير الإصطلاحات والألفاظ, إذ لا بُدَّ من الإذعان بأنَّ أفعال الإنسان لها من الخصوصية ما تجعلها خارجة عن ذلك القانون الجاري في الموجودات الإمكانية من أنَّ الشيء ما لم يجب بالغير لم يوجد, ولا ريب أنَّ هذه الميزة أتت من ناحية خلق الإنسان الذي يختلف عن سائر المخلوقات الدراكة, فقد تميز خلقه عنها من حيث كونه كائناً عاقلاً أخلاقياً مدركاً للحسن والقبح في الأشياء مسؤولاً عن أعماله, ولأجل ذلك صار مدار التشريعات ومحور الكمالات والعنصر الأساس في عالم الدنيا والآخرة وعليه تدور قوانين الحساب والجزاء، فلا بُدَّ أنْ يكون مختلفاً عن غيره في حرية إرادته وإلا كان خلاف الغرض من خلقه أو تبطل جميع القوانين التي شرَّعها العقل والشرع في جميع مجالات حياته, ومن يرجع إلى وجدانه يدرك ذلك بوضوح من دون لبس واشتباه, ولعلّ جميع تلك المسالك التي ذكرناها وغيرها مِمَّن يقول بالحتمية في الكون

ص: 48

ولكنه في الإنسان يذعن بحرية إرادته يرجع إلى ما ذكرناه ولكنهم أرادوا صياغة عباراتهم بصورة فلسفية لأنَّهم أدرجوا المسألة في علم الفلسفة وربطوها بالبراهين المعقدة, ويدلُّ على ما ذكرناه أنَّ القرآن الحكيم بحث عن جميع خصوصيات الإنسان ولم يهمل جانباً من جوانب حياته, ولم يرد فيه ما يبحث عن هذا الموضوع بهذه الدقة التي يذكرها العلماء, فقد أوكله إلى الوجدان وأوضحه بأدنى بيان, وكذلك ما وصل إلينا عن الأئمة الهداة علیهم السلام , وعلى هذا الأساس ذكروا نظريتهم المشهورة في أفعال الإنسان وهي الأمر بين الأمرين؛ التي جعلت الإنسان واسطة بين خالقه العظيم وبين ما يصدر منه, فصارت له منزلة بين منزلتين؛ منزلة الصانع العظيم ومنزلة المصنوع الذي منه مستمد قانون الحساب والجزاء مشروعيته؛ وإنْ كان العلماء قد إختلفوا في تفسير هذه النظرية.

ومن أهم ما ذكره العلماء في المقام وجوهاً:

الوجه الأول: ما ذكرناه سابقاً من أنَّ المراد منها أنْ يكون كلُّ واحد من الخالق والعبد نصيب في الفاعلية بمعنى كونهما فاعلين طوليين؛ فالعبد هو الفاعل المباشر للفعل بما أعطى الله تعالى له من القدرة وأسباب القوى والإرادة, والله تعالى غير المباشر لأنَّه خالق الإنسان وما أعطاه من القوى، فيكون فاعل الفاعل وهو يرجع إلى الثالث.

الوجه الثاني: أنْ يكون الفاعل المباشر هو الله تعالى, لكن إرادة العبد مقدمة إعدادية لقابلية المحل لإفاضة الفعل, فيكون من إجتماع فاعلين عرضيين.وأورد عليه بعض الأعلام بأنَّه بناءً على تفسير الإختيار بالسلطنة يبطل هذا الوجه؛ لاستلزامه الجبر لأنَّ جعل مبادئ الإرادة مجرد مقدمات إعدادية موجبة لقابلية المحل, فيكون الفاعل هو الله تعالى إذا فرضنا أنَّ الإرادة حالة نفسانية نسبتها إلى النفس نسبة العرض من المحل, وحينئذٍ لم يبق اختيار للإنسان لحصول الإرادة قهراً فيكون الفعل قد أوجده الله تعالى.

ص: 49

وإنْ فرضنا أنَّ الإرادة فعل من أفعال النفس ثم يأتي بعدها الفعل الخارجي فيكون مفاد هذا الوجه أنَّ الفعل يكون من الله تعالى, فإنَّه بناءً على هذا الوجه لا يختَّص فعل دون فعل, فلا يبقى إختيار للإنسان إلا إذا ثبتت السلطنة, وهو مِمّا يبطل هذا الوجه.

وفيه: إنَّ هذا الإشكال لا يختَّص بإثبات السلطنة بل يجري على قول المحقق النائيني أيضاً, وعلى فرضه فإنَّه لا يصحُّ الإشكال, لأنَّ هذا الوجه إنَّما يصحُّ وجهاً لتفسير النظرية المزبورة إذا أثبتنا للإرادة نحواً من الإستقلالية في الإنسان ولها دخل في تحقق الفعل الخارجي وإلا لما كان شرحاً للمنزلة بين المنزلتين لا أنْ تكون من مجرد المقدمات الإعدادية التي تعين قابلية المحل بلا فرق بين أنْ نثبت السلطنة أو لا.

الوجه الثالث: إنَّ أفعال العباد إمّا أنْ تكون من الحسنات والمباحات أو من السيئات.

أمّا في الحسنات والمباحات؛ فإنَّه تتعدد جهة الإنتساب إلى الله تعالى من رضائه وقضائه والإذن والترغيب وخلق الذات القادرة المختارةً, وتنتسب إلى العباد إنتساباً يحكم بصحته العقلاء, كما يصحُّ الإنتساب إليه عَزَّ وَجَلَّ فيها إنتساباً إقتضائياً لا يبلغ حدَّ الإلجاء والإضطرار.

وأمّا في السيئات؛ فإنَّ الله تعالى خلق النفس الأمارة في الإنسان والشيطان فتكون نسبتها إليه عَزَّ وَجَلَّ لكونه خالقاً لمنشئها -كما في القسمين الأولين-, فإنَّ خلق ذواتنا خلق لأفعالنا بالعرض. كما تنسب إليه عَزَّ وَجَلَّ على نحو الإقتضاء مع النهي والتوعيد وإتمام الحجة على الترك من كل جهة. وكل ذلك موافق لقانون العقل والعدل.

إنْ قيل: إنَّ نسبة السيئة إليه عَزَّ وَجَلَّ غير صحيح, فإنَّه تعالى منزَّهٌ عنها مطلقاً.

فإنَّه يُقال: إنَّه لا وجه للإنتساب إليه سبحانه على نحو الرضا والترغيب قولاً واحداً عند الجميع -بل هو لغو-, لكنه عَزَّ وَجَلَّ خالق للذات المختارةً القادرة على السيئة مع نهيه

ص: 50

عنها. وإظهار سخطه وتوعيده عليها، وقد فعلها العبد بسوء اختياره، فمنشأ النسبة هو خلقه عَزَّ وَجَلَّ للذات مع إبلاغ النهي والوعيد، وقضاؤهلها على نحو الإقتضاء لا القضاء الحتم ولا منقصة في هذا القسم من النسبة، ولعل الآية الكريمة ترشد إلى هذا الوجه؛ (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) (1).

الوجه الرابع: إنَّ لكلِّ فعل أسباب خفية لا تدركها العقول, وأسباب ظاهرة تدركها, والأُولى يصحُّ أنْ تكون من الله تعالى والثانية من العبد.

الوجه الخامس: أنْ يكون المراد أنَّ إرادة الصرف عن مراد العبد من الله تعالى كما هو محسوس لكلِّ أحد, فكم من مريدٍ لشيءٍ يُصرف عن إرادته، وكم من غير مريدٍ يصادفه ما يشتهيه, ويرشد إليه ما ورد في بعض الأحاديث عن أمير المؤمنين علیه السلام : (عَرَفْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وحَلِّ الْعُقُودِ ونَقْضِ الْهِمَم)(2).

ثم تطرق السيد الوالد(3) قدس سره في المقام إلى الحديث المعروف عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : (الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ, والسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)(4)، وما ورد في بعض الأخبار والمعروف بخبر الطينة؛ عَنْ الإمام عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ علیه السلام قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ النَّبِيِّينَ مِنْ طِينَةِ عِلِّيِّينَ قُلُوبَهُمْ وأَبْدَانَهُمْ وخَلَقَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تِلْكَ الطِّينَةِ وجَعَلَ خَلْقَ أَبْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ وخَلَقَ الْكُفَّارَ مِنْ طِينَةِ سِجِّينٍ قُلُوبَهُمْ وأَبْدَانَهُمْ فَخَلَطَ بَيْنَ الطِّينَتَيْنِ فَمِنْ هَذَا يَلِدُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ ويَلِدُ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ ومِنْ هَاهُنَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنُ

ص: 51


1- . سورة النساء؛ الآية 78.
2- . نهج البلاغة؛ حكم أمير المؤمنين علیه السلام ؛ الحكمة 247.
3- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص58.
4- . تفسير القمي؛ ج1 ص227.

السَّيِّئَةَ ومِنْ هَاهُنَا يُصِيبُ الْكَافِرُ الْحَسَنَةَ فَقُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ تَحِنُّ إِلَى مَا خُلِقُوا مِنْهُ وقُلُوبُ الْكَافِرِينَ تَحِنُّ إِلَى مَا خُلِقُوا مِنْهُ)(1), حيث بيَّن الحديث الشريف من أنَّ الإنسان مركب من طينة العليين وطينة السجين ومصير الأولى إلى الجنة والثانية إلى النار, وبناءً على ذلك لا أثر للإختيار ولا فائدة لما ذكرناه من البحوث في تصحيح حرية الإرادة في الإنسان.

ولكن يمكن الجواب أولاً بأنَّ تقدير السعادة والشقاوة المنسوبة إلى جعله تعالى إقتضائي لا على نحو العلة التامة الذاتية وإلا إستلزم منها ما لا يرتضيه العقل والنقل، وتبطل جملة من القوانين والقواعد المجعولة، وأهمها بطلان الدعاء, وعدم جدوى ما ورد في بعض الدعوات المعتبرة: (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُنِي مِنَ الْأَشْقِيَاءِ واكْتُبْنِي مِنَ السُّعَدَاءِ)(2).

ثانياً: إنَّه يصحُّ توجيه ذلك بأحد وجوه مقبولة لا تنافي تلك القواعد والقوانين؛منها: ما ورد في بعض الأخبار من أنَّه يُكتب في جبينه -وهو في بطن أمه- ما سيؤول إليه أمره من الشقاوة أو السعادة، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (يُسْلَكُ بِالسَّعِيدِ طَرِيقَ الْأَشْقِيَاءِ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مَا أَشْبَهَهُ بِهِمْ, بَلْ هُوَ مِنْهُمْ, ثُمَّ يَتَدَارَكُهُ السَّعَادَةُ. وقَدْ يُسْلَكُ بِالشَّقِيِّ طَرِيقَ السُّعَدَاءِ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مَا أَشْبَهَهُ بِهِمْ, بَلْ هُوَ مِنْهُمْ, ثُمَّ يَتَدَارَكُهُ الشَّقَاءُ. إِنَّ مَنْ عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَعِيداً وإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا فُوَاقُ نَاقَةٍ خَتَمَ لَهُ بِالسَّعَادَة)(3).

ومنها: ما ورد في مرسل إبْنِ أَبِي عُمَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ والسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟. فَقَالَ: (الشَّقِيُّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ وهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَنَّهُ سَيَعْمَلُ أَعْمَالَ الْأَشْقِيَاءِ والسَّعِيدُ مَنْ عَلِمَ

ص: 52


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج2 ص2.
2- . إقبال الأعمال (ط. القديمة)؛ ج1 ص37.
3- . التوحيد (للصدوق)؛ ص357.

اللَّهُ وهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَنَّهُ سَيَعْمَلُ أَعْمَالَ السُّعَدَاءِ. قُلْتُ لَهُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلی الله علیه و آله و سلم اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ؟.

فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ الْجِنَّ والْإِنْسَ لِيَعْبُدُوهُ, ولَمْ يَخْلُقْهُمْ لِيَعْصُوهُ وذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: فَيَسَّرَ كُلَّا لِمَا خُلِقَ لَهُ؛ فَالْوَيْلُ لِمَنِ اسْتَحَبَّ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)(1).

ومنها: أنْ يكون المراد بالسعادة الحظوظ الدنيوية، وبالشقاوة الحرمان عنها لأسباب خفية قصرت العقول عن الإحاطة بها.

وهناك وجوه أخرى مقبولة مذكورة في الكتب المعدّة لها؛ فراجع.

وأمّا ما ورد في الطينة فلا تدلُّ أيضاً على العلية التامة المنحصرة، بل غايتها إثبات الإقتضاء لها في الجملة, بل أنَّ نفس الخلط يكون دليلاً على ذلك فيصبح الإقتضاء ضعيفاً.

وأمّا الحكمة في ذلك فإنَّها ترجع إلى مصالح شتّى؛ منها أنَّ الله تعالى خلق في الإنسان مقتضى الخيرات ومقتضى الشرور, ثم خلق فيه العقل والإختيار, ثم بعث الرسل وأنزل الكتب وبشَّر بالثواب على الخيرات وأنذر بالعقاب على الشرور, وخلق الجنة والنار؛ كلُّ ذلك للدلالة على نفي الجبر والتفويض في أفعال العباد مِمّا دلَّت عليه الأدلة العقلية والنقلية كما فُصِّل في محله وعرفت سابقاً هذا كلّه في أفعال العباد, وأمّا غيرها من الأمور التكوينية فقد وقع النزاع أيضاً فيها ولكن مقتضى الأدلة المزبورة عدم الإختصاص بها, بل يعمُّ جميع المعلولات الحاصلة من العلل التكوينية، فإنَّ نظرية الأمر بين الأمرين تشملها, فإنَّ النبات الذي ينبت ينسب إلى المقتضيات التكوينية، كما ينسب إلى إرادة الله تعالى, وكذا خلق الإنسان والحيوان وجميع مواد الحياة في هذا النظام الكوني؛ فلا جبر ولا تفويض فيها أيضاً.

ص: 53


1- . المصدر السابق؛ ص356.

المسألة الثانية: شبهة تخلُّف المراد عن الإرادة

ذكروا في بيانها أنَّ الله تبارك وتعالى إمّا أنْ يكون قد أراد الإيمان والطاعة من العباد أو لم يردهما، فعلى الأول يلزم أنْ لا يتحقق كافر ولا فاسق لامتناع تخلُّف مراده تعالى عن إرادته، وعلى الثاني يلزم أنْ يكون بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب لغواً باطلاً.

وأجيب عن ذلك بوجوه:

منها: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من القول بتغاير الطلب والإرادة, وأنَّ الإيمان والطاعة هما من مورد الطلب دون الإرادة، وتخلُّف الطلب عن المطلوب ممكن دون تخلُّف المراد عن الإرادة.

وفيه: ما عرفت سابقاً من أنَّه مجرد دعوى, بل أنَّ نفي الإرادة في مورد إيمان العباد خلاف جملة من الآيات والروايات.

ومنها: إنَّ الإرادة إنَّما هي الفعل والإحداث، فهي من صفات الفعل سواءً كانت في الله تعالى أم في العبد، ولا تخلُّف لمراده تعالى عن إرادته, لأنَّ فعله عَزَّ وَجَلَّ في الإيمان إنَّما هو الدعوة إليه والبعث على الطاعة والتحريض على الخيرات والزجر عن الشرور، وقد فعله عَزَّ وَجَلَّ بإنزال الكتب وبعث الرسل على النحو الأتمّ الأكمل فلا وجه لتخلُّف المراد عن الإرادة.

ومنها: إنَّ الإرادة علّة تامة لحصول المراد إنْ لم يكن إختيار الغير فاصلاً بين الإرادة والمراد, وإلا فلا وجه لكونها علة تامة لاستلزامه الجبر حينئذٍ, مع أنَّ الوجدان قاضٍ على إختيارية الإيمان والطاعة, بل الفسق والعصيان, وقد عرفت سابقاً إثبات حرية الإرادة وبطلان الجبر وتقدم التفصيل؛ فراجع.

ص: 54

ثم إنَّ المعروف أنَّ الإرادة مطلقاً سواءً كانت من الله تعالى أم من العبد تحصل إذا كانت هناك مصلحة أو مفسدة في متعلقها, وهو الفعل؛ بلا فرق بين أنْ يكون متعلقها الأفعال الجوارحية كالصلاة والصيام ونحو ذلك أو الأفعال الجوانحية كعقد القلب والإنشاء وغير ذلك؛ وهذا واضح لا إشكال فيه.

كذلك في مبادئ الأفعال الإختيارية كالحبِّ والبغض والشوق والكراهة, فإنَّها أيضاً لا تخرج عن هذا الضابط نظراً لحصول الإعتقاد بالمصلحة في المحبوب أو الإعتقاد بالمفسدة في المكروه, وبهذا المناط تكون هذه المبادئ داخلة تحت الإختيار، وصحَّ تعلق التكليف بها أيضاً كالأمر بحب النبي صلی الله علیه و آله و سلم وآل بيته الأطهار علیهم السلام وبغض أعدائهم، إنْ لم نقل بأنَّ الحبَّ والبغض حينئذٍ يعتبران من الأفعال الجوانحية لا من مبادئ الأفعال, وإلا فالأمر أوضح.

ولكن وقع الكلام في نشوء المصلحة في نفس الإرادة والشوق المؤكد كما إذا كانت مصلحة في إرادة زيارة الإمام علیه السلام مثلاً لا في نفس الزيارة، فلو جعل المولى جزاءً معنياً على إرادتها سواءً حصلت الزيارة في الخارج أم لم تحصلفينقدح في النفس الإرادة والشوق نحو الزيارة, فعن جمع من العلماء إمكان نشوء الإرادة والشوق في مصلحة في نفسها.

وقد طبق ذلك على بعض الفروع الفقهية منها ما لو قصد إقامة عشرة أيام من أجل أنْ يصلي تماماً أو يصوم من دون غرض له في نفس البقاء عشرة أيام, فيكون متقوماً بنفس القصد والإرادة.

واعترض عليه المحقق العراقي قدس سره بأنَّه إذا كان الفعل والترك سيّان في نظر الإنسان فكيف تتعلق إرادته بأحدهما من دون ترجيح, وليس هو إلا من الترجيح بلا مرجح.

والكلام يقع تارةً في إمكان نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها, وأخرى في التخريج الفقهي للفرع المزبور وغيره وإنْ كان خارجاً عن البحث الأصولي.

ص: 55

أمّا إمكان نشوءها عن مصلحة في نفسها؛ فقد قيل: إنَّ الحب والشوق والبغض والكره من الصفات الحقيقية ذات الإضافة لا تحصل إلا على أساس ما في متعلقاتها من الملاكات من المصالح والمفاسد, ويدلُّ عليه الوجدان الذي هو المرجع في تشخيص صغرى السببية والعلية، فالحبُّ والشوق والبغض والكراهة لا تتحقق إلا إذا كان هناك سبب لها وهو تلك الملاكات من المصالح والمفاسد في المتعلقات.

وأمّا ما ذكره المحقق العراقي قدس سره فإنَّه قد يُجاب عنه بأنَّ الترجيح إنَّما يحصل لوجود المصلحة في نفس الإرادة، ولكن يمكن ترجيح الصحة بأنَّ الإرادة تارةً تلحظ على نحو المرآتية والطريقية إلى تحقق متعلقها فتكون من الصفات ذات الإضافة.

وأخرى تلحظ على نحو الموضوعية وأنَّها من الصفات النفسية التي يتعلق التكليف بها كما في الحبِّ والبغض فتنشأ المصلحة في نفسها فلم تخرج عن الضابطة المذكورة، فيكون الإشكال قد نشأ من الخلط بين المفهوم والمصداق كما هو الشائع في النزاعات, ولا دليل من عقلٍ على إستحالته كما يدَّعيه البعض ولم يخالف الوجدان؛ لا سيما بعد أنْ ورد في جملة من الأخبار أنَّ من نوى الخير يؤجر على النية والإرادة فقط وإنْ لم يتحقق منه في الخارج، وهو يكشف عن أنَّ الإرادة بنفسها تقع مورد الحكم والثواب ولا بُدَّ أنْ يكون عن مصلحة، ولعلَّ العلة في نفس الإرادة هي أنْ ينفي كلّ مظاهر الشر عن الإنسان حتى قصده وإنْ لم يتحقق منه في الخارج, فلا يكون هذا البحث قليل الجدوى بعد أنْ وردت الأخبار المستفيضة على أنَّ الخلود في الجنة أو في النار إنَّما يكون على نفس الإرادة في المؤمن أو في الكافر, وتوجيه تلك الأخبار خلاف ظاهرها.

ومن ذلك يظهر الوجه في التخريج الفقهي للفرع الفقهي المزبور وغيره, فإنَّ الشرط في صحَّة الصوم والتمام إنَّما هو قصد الإقامة من دون اشتراط تحققهاخارجاً, نعم؛ إشترط

ص: 56

الفقهاء فيه بعض الشروط المذكورة في الفقه, وقد أطال بعض الأعلام في توجيه ذلك بناءً على إستحالة أخذ المصلحة في نفس الإرادة والقصد(1), وما ذكره تطويل لا طائل تحته, مع ظهور المناقشة فيه, وقد ذكر وجوهاً:

الوجه الأول: أنْ تكون المصلحة في المتعلق إلا أنَّ المتعلق ليس هو الإقامة مطلقاً, بل الحصة الخاصة منها وهي الإقامة القصدية التي دعت المكلف أنْ يقصد الإقامة؛ وقد ذهب إليه المحقق العراقي.

وقد أورد عليه أنَّه إنْ أراد من الإقامة القصدية المقيد والتقييد بنحو التركيب الضمني فهو غير صحيح, فإنَّ الثابت في الفقه عدم إشتراط نفس الإقامة في صحَّة الصوم والتمام ولو ضمناً, فلو نوى الإقامة وصلى ثم عدل كان عليه التمام والصيام بلا إشكال.

الوجه الثاني: إذا كان الشرط هو نفس إرادة الإقامة لا غير يستلزم من الإشكال ما لا يمكن حلُّه مثل ما إذا تعلَّق غرض المسافر بصوم أقلّ من عشرة أيام فسوف تكون صحة صومه غير متوقفة على وقوع الإقامة منه أصلاً, لأنَّه يعلم أنَّه لو عدل بعد الصوم عن الإقامة فإنَّ صومه صحيح بلا إشكال ويحصل به غرضه, فيكون تصحيح صومه أقل من عشرة أيام إنَّما هو من نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها.

وفيه: إنَّه لا بأس به إذا صحَّ تحقق الإرادة لمصلحة في نفسها, مع أنَّ صحَّة صومه ربَّما تكون لأجل الدليل الخاص أو كما سيأتي كما هو مفصَّلٌ في الفقه.

كما يلزم منه أنَّه إذا تعلَّق غرضه بالصوم عشرة أيام فصاعداً وهو من الناحية الفقهية يتوقف على الجامع بين أنْ يصلي صلاة رباعية أو يبقى عشرة أيام حقيقة مع قصد الإقامة, إلا أنَّ العادة جرت أنْ يتحقق الفرد الأول من هذا الجامع قبل الفرد الثاني فلا يبقى أثرٌ

ص: 57


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص39 ومابعدها.

للفرد الثاني، فقصد الإقامة لا بُدَّ أنْ ينشأ من القصد نفسه مع صلاة رباعية لا الإقامة عشرة أيام؛ لعدم تعلق غرض له فيها, وهو محال.

وفيه: إنَّ الدليل دلَّ على أنَّ قصد الإقامة في الفرض المزبور ليس كافياً إلا إذا إنضمَّ إليه صلاة رباعية, وهو كافٍ في الخروج عن المحالية المزبورة.

الوجه الثالث: أنْ يكون المراد من قصد الإقامة الذي هو شرط لصحة الصوم فرضاً هو البناء النفسي والإلتزام بالإقامة ولو لم يكن له شوق نحوها, فحينئذٍ يرتفع الإشكال السابق لأنَّه مسلط على نفسه وأفعالها كتسلطه على أفعال جوارحه.ولكن يرد عليه بأنَّ داعيه إلى هذا البناء إنَّما هو تصحيح الصوم, وهو يعلم أنَّ هذا الداعي سوف ينتفي ويزول في ظرف العمل بعد تحقق البناء منه حدوثاً, فلا يتمشى منه بناء جدّي حقيقي على البقاء عشرة أيام.

وفيه: إنَّه مصادرة مع أنَّه يصحُّ أنْ يكون الشارع قد إكتفى بالبناء الحدوثي في تركيب الأثر ما لم يتحقق منه ما يخالفه وله نظائر في الفقه, فلا نحتاج إلى البناء الإستقبالي، وهو كافٍ في تحقق القصد الجدي.

الوجه الرابع: أنْ يُراد بقصد الإقامة العلم أو الإطمئنان بالمكث عشرة أيام، وهذا هو الذي قرره الفقهاء وبه يمكن التخلص من إشكال نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها وإنْ لم يمكن التخلص عن الإشكال على التقدير المتقدم من أنَّ هذا العلم والبقاء عشرة أيام لا يحصل إلا إذا كان هناك بناء نفسي جدي على ذلك.

ويمكن الجواب عنه من أنَّه مع عدم العلم أو الإطمئنان لا تحصل إرادة حتى تصل النوبة إلى نشوئها عن مصلحة في نفسها لعدم إعتبارها شرعاً، وإنْ حصل العلم والإطمئنان تحققت الإرادة ولو كانت عن مصلحة في نفسها وإنْ لم تتحقق الإقامة منه بعد ذلك.

ص: 58

فالحَقُّ أنْ يُقال لا مانع عقلاً وشرعاً في نشوء الإرادة عن مصلحة في نفسها.

ومِمّا ذكرنا يظهر حال بقية الفروع الفقهية التي ذكروها في المقام.

المسألة الثالثة: وهي الكلام النفسي الذي ذهبت إليه الأشاعرة

إستدلُّوا على ذلك بأنَّه لا ريب في صدق المتكلم عليه تعالى كما قال عزَّ من قائل: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا)(1).

فإنَّه إذا كان المراد بالكلام فيه عَزَّ وَجَلَّ نفس هذه الأصوات والحروف والهيئات التي هي حادثة قطعاً لزم منه كونه عَزَّ وَجَلَّ محلاً للحوادث وهو منزه عنها.

فلا بُدَّ أنْ يكون المراد به غير ذلك لكون الكلام وصف فيه عَزَّ وَجَلَّ قديم قائم بذاته كسائر أوصافه المقدسة وهو غير العلم والإرادة وسائر الصفات, والكلام اللفظي المركب من الحروف والأصوات والهيئات مخلوقة كاشفة عنه لا أنْ تكون عينه حتى يلزم كونه تعالى محلاً للحوادث، ويسمى هذا الوصف بالكلام النفسي, كما أنَّ الصفات في الإنسان تكون قائمة بالنفس كذلك بالنسبة إليه تعالى؛ فالصفات قائمة بذاته المقدسة.

وأنكر الإمامية والمعتزلة الكلام النفسي بالمعنى المذكور وقالوا بأنَّه لا وجود له أصلاً, وأنَّ التكلم عبارة عن إيجاد الحروف والأصوات والهيئات الخاصة سواءً كانت بالآلات الخاصة كما في تكلمنا أم بالإبداع كما في تكلّمهِ تعالى؛ فإنَّه عبارةعن خلق تلك الأصوات والحروف والهيئات, كما أنَّ إيجاده عَزَّ وَجَلَّ لسائر الممكنات عبارة عن خلقها، فلا ملزم للكلام النفسي لا فيه تعالى ولا في غيره.

إلا أنْ يكون مرادهم بالكلام النفسي تقدير الكلام والقضاء به قبل خلقه فلا بأس به, إذ ما من شيء إلا وله قضاء وقدر مطلقاً سواءً كان من فعله أم من فعل غيره.

ص: 59


1- . سورة النساء؛ الآية 164.

أو يكون المراد به النسبة الكلامية القائمة بالطرفين فلا مشاحة في الإصطلاح.

أو يكون المراد به الأحاديث النفسانية في الإنسان كما يدلُّ عليه الوجدان, فإنْ أرادوا بالكلام النفسي ذلك فلا إشكال فيه, فالموجود في النفس إمّا في الأخبار فإنَّه ليس إلا الصور العلمية التصورية أو التصديقية وتسمى تلك بالقضايا المعقولة التي هي مدلولات للقضايا اللفظية, وليس شيء عدا ذلك حتى يسمى بالكلام النفسي.

وأمّا في الإنشائيات فهو الطلب الذي هو عين الإرادة وليس شيء وراءها حتى يكون هو الكلام النفسي.

ثم أنَّهم ذكروا من فروع الكلام النفسي مسألة خلق القرآن وقِدَمه، مع أنَّه لا وجه للقدم فيه إلا علمه تعالى الأزلي بما لا نعرف كيفية تعلقه به، وغير ذلك لا يتصور معنى للقدم فيه؛ إلا أنَّ الله تعالى عالم بما ينزله من القرآن، والقِدَم بهذا المعنى لا يختَّص بالقرآن بل يعمُّ جميع ما سواه عَزَّ وَجَلَّ مِمّا يعمّه علمه سبحانه.

وأمّا كلماته وحروفه والكتابة فإنَّها من المحدثات وجداناً.

ص: 60

المبحث الثاني: صيغة الأمر

اشارة

والكلام يقع في جهات:

الجهة الأولى: في دلالة صيغة الأمر على الوجوب

وينبغي تقديم أمور:

الأمر الأول: إنَّ صيغة الأمر مركب من مادة وهيئة؛ أمّا المادة فهي موضوعة بالوضع الشخصي لحدث معين سواء كانت متهيئة في هيئة الماضي أو المضارع أو الأمر.وأمّا الهيئة فلا إشكال في أنَّها من المعاني الحرفية, وقد تقدم في وضع الحروف أنَّها موضوعة للنسب والإرتباطات لتحكي الهيئة عنها في عالم البيان وإظهار المراد عند المحاورة, وقد تقدم الكلام في هيئة الإسم وهيئة الماضي والمضارع وبقي الكلام في هيئة الأمر ك- (إفْعَل) و(صَلِّ) و(صُمْ) و(إشْرَب) ونحوها, وفي المقام يقع البحث عنها.

الأمر الثاني: إنَّ أهل المحاورة يحكمون بأنَّ في صيغة الأمر جهتان من النسبة؛ نسبة إلى الآمر, ونسبة أخرى إلى المأمور؛ والأولى نسبة الباعثية والإرسالية, والثانية نسبة المبعوثية. والهيئة إمّا أنْ تكون موضوعة لكلتا النسبتين أو تكون موضوعة لخصوص نسبة المبعوثية؛ أي مبعوثية المأمور إلى إيجاد المادة.

الأمر الثالث: ذكر العلماء لصيغة الأمر معانٍ كثيرة كالطلب والتهديد والتعجيز والإستهزاء والإهانة والترجي والتمني والإستفهام ونحوها, وقد إختلفوا فيها أيضاً, فقيل أنَّه على سبيل الإشتراك اللفظي في الجميع أو المعنوي كذلك أو اللفظي في بعضها والمعنوي في الآخر أو الحقيقة في واحد والمجاز في غيره.

والمعروف بين المحققين المتأخرين أنَّ الإختلاف في مورد هذه المعاني إنَّما هو في دواعي الإستعمال لا المعنى المستعمل فيه الأمر, وهو البعث نحو المطلوب والتحريك إليه وإيجاد الداعي له.

ص: 61

وبعبارة أخرى: النسبة الإرسالية؛ فإنَّ الأمر قد يكون الداعي من وراءهُ إخطار هذا المعنى والنسبة في ذهن السامع؛ إظهار عجزه أو الإستهزاء به أو إختباره أو الطلب منه كما عرفت.

واستدلُّوا على ذلك بالأصل الذي يقتضي عدم تعدد الوضع، كما يقضي عدم تعدد المستعمل فيه أيضاً, وأنَّ المتيقن إنَّما هو الإستعمال في البعث نحو المطلوب.

وما ذكره العلماء من معاني هيئة الأمر إنَّما هي من قبيل الدواعي لإيجاد هذه النسبة، فلم تستعمل الصيغة في واحد منها فضلاً عن أنْ يكون هو الموضوع له.

إذا عرفت ذلك نقول: ذهب المحقق الخراساني إلى أنَّ صيغة الأمر موجدةٌ لمعناها في نفس الأمر, لأنَّه ذهب إلى أنَّ الصيغ الإنشائية تتكفل إيجاد المعنى بوجود إنشائي(1).

وقد تقدم ما يتعلق بكلامه, مع أنَّ ما ذكره في المقام ليس بياناً لمعنى الصيغة، إذ لم يعلم معناها الذي يوجده إنشاءً, وكلامنا في تعيين معناها إلا أنْ يريد من ذلك أنَّه بعد التعيين تكون الهيئة موجدة له, كما صرَّح به في موضع آخر من أنَّ صيغة إفعل تستعمل في إنشاء الطلب وإنْ اختلفت دواعي إنشائه من طلب وتهديد وتعجيز ونحوها.وناقش بعض الأعلام ما ذكره من وضع الصيغة لإنشاء الطلب لأنَّ الإنشاء غير قابل للإنشاء والإيجاد مرة أخرى، وعليه فلا تصلح الصيغة لإنشاء معناها, فإنَّ الطلب الإنشائي معناه هو الطلب الموجود بوجود إنشائي فلا يقبل الإنشاء ثانياً لامتناع إيجاد الموجود، فلا تصلح الصيغة لإيجاد معناها لأنَّه غير قابل للإيجاد ولكنه حاول توجيه عبارته بأنَّ الموضوع له والمستعمل فيه الطلب، مع قيد الوضع بأنْ تستعمل في مقام الإنشاء والإيجاد, فإنَّ الطلب تارةً يقصد الإخبار عنه, وأخرى يقصد إيجاده وإنشاؤه، فصيغة (إفعل) وضعت لنفس الطلب لكن بقيد إستعمالها في مقام الإنشاء بحيث لا يجوز

ص: 62


1- . كفاية الأصول؛ ص69.

إستعمالها في الإخبار عن الطلب، فيكون مراده أنَّها موضوعة للطلب من أجل إنشائه بتقييد الوضع بذلك ولكن لا يخلو هذا التوجيه من التعسف كما هو ظاهر.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ ما ذكره المحقق الخراساني يصحُّ على مبناه في المعنى الحرفي من أنَّه لا فرق بينه وبين المعنى الإسمي, وأنَّ كُلاً منهما موضوع لمعنىً واحد، والفرق بينهما في اللحاظ؛ فإنَّ الإسم إختصَّ باللحاظ الإستقلالي، والحرف باللحاظ الآلي.

ولكن عرفت بطلانه, فلا يصحُّ أنْ توضع الهيئة إلى مفهوم الطلب كلفظ الطلب لأنَّ الهيئة من المعنى الحرفي.

وذهب السيد الخوئي إلى أنَّ الصيغة موضوعة لإبراز الإعتبار النفساني وهو المدلول التصديقي, وهو متباين في هذه الموارد فلا محالة يكون لصيغة الأمر معانٍ عديدة بعددها(1).

وقد عرفت سابقاً في بحث الوضع خطأ مبناه قدس سره , مع أنَّه يستلزم على مبناه أنْ لا يكون إرتباطه بين مفاد الهيئة والمادة, وأنَّ التعجيز والإستهزاء الإنشائيين لا الإخباريين لا يتعلقان بمفاد المادة وهو الطيران مثلاً، إذ لو كان هناك طيران لما كان عجز ولا إستهزاء, فلا يبقى أي إرتباط بين مفاد الهيئة الإنشائي والمادة.

بخلاف مسلك المشهور من دلالة الصيغة في تمام الموارد على النسبة الإرسالية, فإنَّه يتَّضح الإرتباط بينهما, حيث أنَّ الأمر بالطيران -مثلاً- يدلُّ في موارد التعجيز أو الإستهزاء على إرساله نحو مفاد المادة وهو الطيران بقصد إظهار عجزه أو الإستهزاء به؛ حيث أنَّه لا يستطيع الطيران, فيظهر بذلك عجزه وهو المدلول التصديقي.

وقيل: إنَّ مفاد الهيئة هو الجعل بأنْ يكون متعلقه هو كون الفعل في عهدة المكلف كما ذهب إليه السيد الخوئي قدس سره , فيرجع إلى إشتغال ذمة المكلف بالفعل، أو جعل البعث والمحرك

ص: 63


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج2 ص130.

نحو الفعل واعتباره تشبيهاً بالبعث التكويني كما عليه المحقق الإصفهاني قدس سره .

ولكن الإلتزام بذلك غير صحيح؛ لأنَّه بناءً على الأول(1) فإنَّه لا يعتبر فيه القدرة على الفعل لعدم توقف التكليف عليه, بل هو كالدين في الذمة مع عدم القدرة على الأداء. بخلاف الثاني(2)؛ فإنَّهما تتوقفان على القدرة لتوقف الإنبعاث عليه.

كما أنَّه بناءً على الأول لا يعتبر في تنجز العلم الإجمالي كون جميع أطرافه مورد الإبتلاء, لعدم اعتبار كون الشيء موضع الإبتلاء في صحة التكليف به, بخلاف الثاني فإنَّه يشترط كون الشيء موضع الإبتلاء في تحقق الباعثية, فيعتبر في منجزية العلم الإجمالي كون جميع الأطراف محل الإبتلاء.

والحقُّ أنَّ مفاد الهيئة هو الإرسال نحو مفاد المادة والبعث نحو المطلوب والتحريك إليه وإيجاد الداعي, غاية الأمر قد يكون الداعي إخطار هذا المعنى في ذهن المخاطب, وقد يكون الداعي إظهار عجزه أو الإستهزاء به أو نحو ذلك, والدليل عليه مضافاً إلى أصالة عدم تعدد الوضع وعدم تعدد المعنى المستعمل فيه؛ إنَّ ذلك هو المتيقن من دلالة الهيئة عند العرف ومن أجل ذلك كان ظاهر صيغة الأمر هو الإرسال والبعث, وأنَّ الداعي في نفس المتكلم إنَّما هو الطلب لا الإستهزاء والتعجيز أو غير ذلك من الدواعي, فإنَّه لا بُدَّ من أنْ تثبت بقرينة لأنَّ فيها مؤونة زائدة على أصل الطلب والإرادة فتنفى بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وأمّا ما ذكره المحقق الخراساني من أنَّ داعي الطلب قد أخذ قيداً في الوضع لا في المعنى الموضوع له فقد عرفت بطلان هذا المسلك في بحث الوضع.

ص: 64


1- . وهو: إشتغال الذمة بالتكليف.
2- . وهو: جعل الباعثية والمحركية.

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام من أنَّ النكتة في ذلك أنَّ المدلول التصوري لصيغة الأمر أولاً هو النسبة الإرسالية وفي طولها الإرادة, فلو كان المدلول التصديقي هو الإرادة أيضاً لتطابق المدلول الصديقي مع المدلولين التصوريين وإلا فلا(1).

والحقُّ أنَّ ذلك يتمُّ فيما إذا كان هناك مدلولان, وليس الأمر كذلك, فإنَّه ليس فيه إلا مدلول واحد وهو النسبة الإرسالية, وإنَّ الإرادة قد حصلت في ضمن المدلول التصوري بالملازمة وليست بينهما طولية.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ دلالة صيغة الأمر لا إشكال فيها، وإنَّما الإختلاف في كيفية إستفادة الطلب منها لأنَّها من الهيئات, فلا يمكن أنْ تكون موضوعة لمفهوم الطلب الإسمي كلفظ الطلب، فلا بُدَّ من أنْ تكون موضوعة بإزاء معنى نسبي يساوق المعنى الإسمي.فما ذكره السيد الخوئي قدس سره في المقام من أنَّه إبراز إعتبار نفساني, وهو إعتبار الفعل في ذمة المكلف غير سديد؛ لأنَّه مبنيٌّ على مسلكه, وهو نظرية التعهد؛ وقد عرفت فسادها.

كما أنَّ ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره في الصيغ الإنشائية من أنَّها موجدة لمعانيها في نفس الأمر وأنَّ صيغة إفعل تستعمل في إنشاء الطلب أيضاً غير تام كما تقدم آنفاً.

فلا بُدَّ أنْ يكون إستعمال الصيغة في المعنى الحقيقي بداعي البعث والتحريك, فهي موضوعة للنسبة الإرسالية والبعث والتحريك, ولكلِّ واحد منها فرد حقيقي تكويني, وهو ما إذا دفع شخصٌ شخصاً في الخارج نحو شيء خارجي وفرد عنائي تنزيلي, وهذا المعنى مسلَّم عند الكلِّ, ومقتضى الإطلاق أنْ يكون الداعي إليه هو البعث الحقيقي إلا أنْ تكون قرينة على الخلاف.

ص: 65


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص51.

وهذا المقدار هو الذي يفهمه العرف من الصيغة بمجرد إطلاقها, والذي يفيد الفقيه والأصولي تحقيق ظاهر الكلام المنسبق منه عند إطلاقها, سواءً كان بالوضع أو بغيره.

ومن ذلك يظهر أنَّه لا وجه للتكلف في إلتماس وجوه أخرى؛ فإنَّه تطويل بلا طائل تحته.

ويُعلم من ذلك أنَّ التمني والترجي والإستفهام الواردة في كلامه تعالى مستعملةٌ في معانيها الإنشائية بدواعٍ شتّى, منها التكلم مع الناس بما يليق بهم في كيفية المحاورة بينهم, والمستحيل إنَّما هو إستعمالها في معانيها الحقيقية بالنسبة إليه تعالى إمّا استلزام جهله عَزَّ وَجَلَّ من الإستفهام الحقيقي أو العجز في التمني والترجي؛ تعالى عن ذلك علواً كبيراً, فلا بُدَّ أنْ يكون الإستعمال في المعاني الإنشائية بدواعٍ أخرى فلا إستحالة فيه أبداً، فلا حاجة إلى القول بالمجاز كما ذكره المحقق الأنصاري(1) قدس سره في تفسير آية النفر في كلمة (لعلَّ)(2).

الجهة الثانية: في كيفية دلالة الصيغة على الوجوب

بعد الفراغ من دلالة الصيغة على الوجوب يقع الكلام في كيفية دلالتها.

وقد إختلفوا في أنَّها ظاهرة في مطلق الطلب, أو في الوجوب؛ وهو الطلب الإلزامي, أو في الندب؛ أي الطلب غير الإلزامي.

والإحتمالات التي ذكرنا في كيفية دلالة مادة الأمر على الوجوب تجري في الصيغة أيضاً:

الإحتمال الأول: مسلك حكم العقل وانتزاعه للوجوب من مجرد طلب المولى عند عدم ترخيصه في الترك.الإحتمال الثاني: مسلك الإطلاق, وأنَّ مقتضى مقدمات الحكمة تعيين الطلب الشديد الذي هو الوجوب.

الإحتمال الثالث: مسلك الوضع لخصوص الطلب الشديد الذي لا يرضى بتركه.

ص: 66


1- . فرائد الأصول؛ ج1 ص127.
2- . سورة التوبة؛ الآية 122.

وقد ذهب السيد الوالد قدس سره إلى أنَّ هذا البحث لا فائدة فيه؛ بعدما عرفت من أنَّ مفادها البعث نحو المبعوث إليه, ومقتضى الإطلاق كونه بداعي الطلب الحقيقي, فيحكم العقل حينئذٍ بلزوم الإمتثال؛ ما لم تكن قرينة على الترخيص, فالوجوب حكمٌ عقليٌّ بعد تمامية الحجة والبيان، وأنَّ الندب يستفاد من القرائن الخارجية لا من نفس الصيغة من حيث هي وإنْ صحَّ إضافة كلٍّ منها إليها بالعناية, وبذلك إختلفت الصيغة عن مادة الأمر التي ذكرنا جريان المسالك الثلاثة فيها(1).

وقد نوقش ذلك بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ الحاكم بالإلزام لا بُدَّ أنْ يكون من بيده الجزاء والعقل بمعزل عن ذلك.

وفيه: إنَّ للجزاء مرتبتين؛ الإستحقاق على المخالفة ومرتبة الفعلية، والأولى: حكم العقل ومرتبة على إلزامه, والثانية: وظيفة الشارع وتكون تحت إختياره.

الوجه الثاني: لا دلالة للإطلاق على الوجوب لأنَّ مفاد الهيئة النسبة الإرسالية, والإرسال والدفع ليس كالطلب ينقسم إلى شديد وضعيف كي نعيِّن مرتبته الشديدة بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

ويرد عليه بأنَّ الإرسال قد ينقسم بلحاظ منشأه إلى المرتبتين, كما أنَّ الإطلاق كما يجري في المدلول التصديقي وهو الإرادة لإثبات المرتبة الشديدة؛ يجري في المدلول التصوري بالملازمة, أي أنَّ صيغة الأمر تدلُّ بالملازمة على الإرادة والطلب تصوراً, فيمكن إجراء مقدمات الحكمة بلحاظها.

الوجه الثالث: إنَّه لا يمكن إستفادة الوجوب بالوضع لأنَّ النسبة الإرسالية لا تتحصص إلى حصتين وجوبية واستحبابية؛ ليقال بأنَّ الصيغة موضوعة بإزاء إحداهما فقط.

ص: 67


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص63.

وفيه: إنَّ الإرسال وإنْ لم يكن كذلك لكنه ينقسم إلى الحصتين بلحاظ منشأهُ من الإرادة الشديدة أو الإرادة الضعيفة فيكون من المعقول وضع الصيغة لخصوص الإرادة الشديدة.

ومن ذلك يظهر وجه المناقشة في جملة مِمّا ذكروه في المقام.

كما إنَّ البحث في معنى الوجوب والندب لا وجه له بعد كون الوجوب ناشئاً من إرادة شديدة والندب من إرادة ضعيفة, وتقسيم الإرادة إلى هاتين المرتبتين صحيح وهو محسوس عندنا وجداناً.وقد قيل في الفرق بين الوجوب والندب وجوهٌ:

الوجه الأول: إنَّ الوجوب مركب من الطلب, والمنع من الترك، والندب مركب من الطلب والترخيص في الترك.

وقد أورد عليه بأنَّ الوجوب والندب أمران بسيطان وليس فيهما تركُّب.

الوجه الثاني: ما ذكره في الكفاية من أنَّ الوجوب هو الطلب الشديد أو القوي, والندب هو الطلب الضعيف.

وفيه: إنَّ الطلب هو التصدي نحو المقصود, ولا معنى للشدة والضعف فيه, وإنَّ الطلب هو المنتزع عن الصيغة فيكون متأخراً عن الوجوب وعن إستعمال الصيغة.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنَّ الفرق بين الوجوب والندب إنَّما يكون من حيث الملاك والمصلحة الملزمة وغير الملزمة(1).

وفيه: إنَّ الوجوب والندب ثابتان حتى على رأي من ينكر تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد كالأشعرية, ويجريان في التكاليف العرفية الناشئة من غير مصلحة.

ص: 68


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص94.

الوجه الرابع: ما ذهب إليه السيد الخوئي قدس سره من أنَّ الصيغة موضوعة لإبراز إعتبار اللابُدِّيَّة على ذمة المكلف كالدَين, فإذا أبرز ذلك الإعتبار النفساني مع ترخيص المولى في تركه فيكون ندباً, وإلا يكون واجباً؛ كلُّ ذلك فعل المولى(1).

وفيه: ما ذكرناه سابقاً من فساد المبنى والبناء.

الوجه الخامس: إنَّ الوجوب هو الشوق الأكيد, والندب هو الشوق الضعيف.

وفيه: إنَّ الوجوب والندب من الأحكام ومن الأمور المجعولة التي تحت إختيار جاعلها كغيرها من الأفعال الإختيارية وليست من الصفات النفسانية الخارجة عن الإختيار كالشوق.

الجهة الثالثة: في مدلول الجملة الفعلية الخبرية الواردة في مقام الطلب

لا ريب في صحة إستعمال الجمل الخبرية في مقام إنشاء الطلب فيما إذا قامت قرينة على ذلك, سواءً كانت حالية أو مقالية, وقد ورد مثل هذه الجمل في النصوص نظير (يعيد) و(يتوضأ), وإنَّما الكلام في كيفية دلالتها على الوجوب أو الندب أو غيرها.

وقد اختلف الأصوليون في تفسير دلالتها على الطلب إلى مسلكين:

المسلك الأول: ما هو المشهور بين المتأخرين أمثال المحقق الخراساني(2) قدس سره وغيره من أنَّ الجملة الخبرية مستعملة في هذه الموارد في معناها الحقيقي؛ وهو النسبة الصدورية.فإذا قيل: (المصلي إذا نسي الركوع يعيد صلاته) فهو مستعمل في نسبة الإعادة إلى المصلي في الخارج, إلا أنَّه يستفاد منها الطلب بأحد وجوه:

الوجه الأول: إنَّ الجملة الخبرية في مقام الإنشاء فيها إخبار عن وقوع الفعل حقيقة في الخارج لكن لا مطلقاً ليكون كذباً بل في حقِّ الإنسان الذي يكون في مقام الإمتثال

ص: 69


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج2 ص129.
2- . كفاية الأصول؛ ص70.

وتطبيق عمله مع الشريعة, فيكون ملازماً مع كون الفعل -كالإعادة- مطلوباً للشارع فتكون الجملة الخبرية مستعملة في النسبة الخبرية تصوراً أو تصديقاً, ولكنه يدلُّ بالإلتزام على الطلب, وتكون القرينة في الواقع تدلُّ على التضييق والتقييد في الإخبار.

الوجه الثاني: أنْ يكون على أساس الكناية بأنْ يخبر عن اللازم ويريد الملزوم، فإنَّ الوجوب ملزوم، ووقوع الفعل لازم, فيكون اللفظ مستعملاً في اللازم ويدلُّ على الملزوم بالدلالة الإلتزامية، فظهور الجملة الخبرية الواقعة في مقام الإنشاء وفي الوجوب بنحو الإلتزام لملازمة الوقوع عن الإرادة الحتمية, وفي هذه الصورة فقد إستعملت الجملة في النسبة الخبرية تصوراً أو تصديقاً وتكون القرينة حينئذٍ قرينة على الكناية.

الوجه الثالث: حصول دلالة إلتزامية بين النسبة الصدورية الخبرية والنسبة الإرسالية الإنشائية لأجل قيام القرينة على هذه النكتة, فيكون المدلول الجدي هو النسبة الإرسالية الملازمة لا المدلول التصوري المطابقي وهو النسبة الصدورية.

الوجه الرابع: الإدّعاء بأنَّ النسبة الصدورية كما يمكن تعلق الإخبار بها يعقل تعلق الإرادة والطلب بها أيضاً، وإنَّما نستفيد من الإخبار في سائر الموارد بحسب الطبع للجملة, والإرادة والطلب شيء زائد على نفس النسبة الصدورية بحاجة إلى نصب قرينة ومؤونة زائدة, فيكون المدلول التصوري للجملة الخبرية محفوظاً دون المدلول التصديقي.

والظاهر أنَّ الوجه الأول أقرب الوجوه المتقدمة بعد عدم خروج الجمل الإخبارية عن معانيها الحقيقية؛ وهي النسبة الإخبارية الصدورية, لكن بداعي البعث والتحريك لا بداعي مجرد الإخبار.

وكيف كان؛ فإنَّ الظاهر كفاية مثل هذه الجملة في إتمام الحجة فيحكم العقل بلزوم الإمتثال مع عدم ورود الترخيص. وهي من فروع قاعدة دفع الضرر المحتمل فكيف بالمقطوع فيصحُّ العقاب على الترك حينئذٍ عقلاً وشرعاً.

ص: 70

هذا إذا أحرزت أنَّها في مقام البعث والإنشاء، وأمّا إذا شكَّ في ذلك فلا وجه لاستفادة الوجوب منها بل مقتضى الأصل عدمه.

المسلك الثاني: ما ذهب إليه السيد الخوئي من أنَّ الجملة الخبرية في مقام الطلب والإنشاء يختلف معناها المستعمل فيه لاختلاف معاني الإخبار والإنشاء سنخاً،فإنَّ الهيئة في الجمل الخبرية موضوعة لقصد الحكاية, وفي الإنشائية لقصد إبراز الأمر النفساني, فلا بُدَّ من الإمتثال فيما نحن فيه؛ إمّا بالإشتراك اللفظي أو بالحقيقة والمجاز, والأول هو الأظهر, وقد إستشهد على تعدد المعنى في الجملة الخبرية وعدم انحفاظ معناها الخبري في موارد الإنشاء بأنَّه لو كان كذلك لصحَّ إستعمال أيَّة جملة خبرية في مقام الإنشاء؛ حتى الإسمية والفعل الماضي مطلقاً لا خصوص ما إذا كان جزاء لجملة شرطية, كما في مثال (إذا نسي الركوع أعاد صلاته), وأمّا الفعل المضارع فإنَّه يستعمل غالباً في مقام الإنشاء فيقال يعيد أو يسجد سجدتي السهو ونحو ذلك(1).

وفيه: فساد المبنى كما تقدم مفصلاً, وأمّا الشاهد الذي إستند إليه فالظاهر أنَّه غير صحيح لاستعمال فعل الماضي في الطلب من دون سياق الشرط، كما في (غفر الله لك, أو رحمك الله, أو عافاك الله), وإنْ لم يكن مطَّرداً في مقام الطلب فلا يقال: (صليت أو صمت), بل لا بُدَّ أنْ يقال: (تصلي وتصوم).

ولعلَّ السرّ في ذلك يرجع إلى أنَّ الطلب الحقيقي لا يناسب فعل الماضي الذي يدلُّ على الفراغ عن تحقق الفعل ومضيِّه بخلاف الدعاء.

لكن إذا ما قُلب الماضي إلى المضارع بإيقاعه في سياق الشرط أصبح مناسباً مع مقام الطلب الحقيقي, وكذلك الجملة الإسمية فإنَّها مثل الماضي من هذه الجهة التي أشرنا إليها.

ص: 71


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج2 ص133.

ثم أنَّه بعدما تبين دلالة الجملة الفعلية الواردة في مقام الإنشاء وإبراز إرادة المولى وطلبه فهي تدلُّ على النسبة الإرسالية وبداعي البعث والتحريك لا بداعي مجرد الإخبار, وهذا المقدار كافٍ في إتمام الحجة فيحكم العقل بلزوم الإمتثال مع عدم ورود الترخيص في الترك, وأنَّه من فروع قاعدة دفع الضرر المحتمل فكيف بالمقطوع, فيصحُّ العقاب على الترك حينئذٍ عقلاً وشرعاً.

ولكن بعض الأصوليين لم يكتفوا بذلك فالتمس لدلالتها على الوجوب أو الجامع بينه وبين الإستحباب وجهاً آخر أو نكتة زائدة.

فقال قدس سره : إنَّ دلالة الجملة الخبرية على الوجوب ترتبط بالنكتة التي على أساسها تستظهر دلالتها على الطلب, فإنْ كانت الدلالة على أساس إحدى النكات الثلاث الأولى كانت تلك العناية مناسبة مع الطلب الوجوبي كما هو ظاهر, وأمّا إذا كانت العناية هي النكتة الرابطة وهي تعلق الطلب والإرادة إبتداءً بمدلول الجملة الخبرية فهو كما يناسب الوجوب كذلك يناسب الإستحباب، وأمّا على مسلك السيد الخوئي فإنَّ دلالتها على الوجوب واضحة فإنَّ وضع الفعل في عهدة المكلف يدلُّ على الوجوب لا محالة؛ إمّا بحكم العقل أو من باب الإعتبار العرفي والعقلائي, وهو وعاء الضمان واللزوم المناسب مع الوجوب.

والحقُّ أنَّ ذلك تطويل لا طائل تحته, فإنَّ دلالة الجملة الفعلية على الوجوب أوضح من دلالة صيغة إفعل عليه، لأنَّ إبراز وقوع الفعل خارجاً من المنقاد يلازم عرفاً الطلب الحتمي والوجوب, فإنَّ الطلب غير الحتمي لا يستلزم وقوع الفعل خارجاً من المنقاد, ولعلَّه إلى ذلك يشير المحقق الخراساني قدس سره أنَّ ظهور الجملة الخبرية من البعث آكد من ظهور الصيغة, وما ذكره السيد الوالد بكفايته في إتمام الحجة وكلُّ ما قيل سابقاً من النكات وما ذكره السيد الخوئي قدس سره فيما تقدم إنَّما يؤشر إلى هذا الظهور بلا فرق بينها.

ص: 72

ومن جميع ذلك يظهر ضعف القول بعدم ظهورها في الوجوب باعتبار أنَّها غير مستعملة في معناها الحقيقي وهو الإخبار بثبوت النسبة, والمعاني المجازية متعددة ولا مرجح للوجوب.

ثم إنَّ الجملة الخبرية قد تكون ظاهرة في الطلب لوجود القرينة الحالية أو المقالية كما عرفت آنفاً, وقد تكون نصَّاً في الطلب والإرسال فيما إذا دخل لام الأمر على الفعل المضارع نظير (ليصل) فإنَّه حينئذٍ تنقلب النسبة الخبرية إلى النسبة الإرسالية فتدلُّ على الوجوب بالوجوه التي ذكرناها في صيغة إفعل, وقد يشكل في كونها في مقام الإنشاء والإرسال فلا وجه لاستفادة الطلب والوجوب منها بل مقتضى الأصل عدمه.

كما أنَّ الجملة الفعلية التي تستعمل في مقام إبراز إرادة المولى وطلبه تنقسم إلى ثلاثة أقسام من ناحية دلالتها على الوجوب:

الأول: ما يكون دالاً على الدفع والإرسال؛ إمّا بالمعنى الحرفي كما في صيغة الأمر أو الفعل المضارع الذي دخل عليه لام الأمر, أو بالمعنى الإسمي كما في قولك: (آمرك أو أحركك نحو هذا الفعل), ولا إشكال في إستفادة الوجوب منها بالوجه الذي ذكرناه آنفاً من الإطلاق وحكم العقل بالوجوب وغيرها.

الثاني: ما يستفاد منه وضع الفعل في عهدة المكلفين, نظير قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(1), وقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )(2), وهذا أيضاً يدلُّ على الوجوب لحكم العرف والعقلاء بأنَّ ما يجعل في العهدة والذمة بمنزلة الضمان فيكون مناسباً مع الوجوب.

الثالث: ما يستفاد منه رغبة المولى إلى الفعل كقوله: (أحب أن تصنع كذا، أو ينبغي لك كذا أو أنه مطلوب منك)، ومثل ذلك لا دليل على إفادته للوجوب ما لم تكن قرينة خاصة تقتضيه.

ص: 73


1- . سورة آل عمران؛ الآية 97.
2- . سورة البقرة؛ الآية 183.

المبحث الثالث: في دلالة الأمر على المرة أو التكرار

وهنا لا بُدَّ من تقديم أمور:الأمر الأول: إنَّ الفرق بين هذا البحث بناءً على أنَّ المراد من المرة الفرد أو الأفراد من التكرار, ومسألة تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد.

إنَّ البحث في تلك المسألة إنَّما هو عن دخل الخصوصيات الفردية ومشخصاتها في متعلق الأمر وعدمه، وفي المقام يكون البحث عن متعلق الأمر هل هو وجود واحد أو وجودات؟.

الأمر الثاني: إنَّ الفرق بين القول بالتكرار والقول بالإنحلال أيضاً واضح لأنَّ معنى الإنحلال أنْ يكون الحكم الواحد لفظاً منحلاً بعدد أفراد موضوعه؛ إمّا بالظهور اللفظي كما في موارد العموميات نظير (أكرم كلَّ عالم), أو بالقرينة كما في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(1)؛ بناء على عدم ثبوت العموم له لعدم إشتماله على أداته لكن لا معنى لحليّة البيع إلا إذا كان موضوعه كلُّ فرد من أفراده.

وعلى أيَّة حالٍ؛ التكرار من موارد الإنحلال إنَّما يكون في نفس الحكم, بينما التكرار في المقام يكون من متعلق الحكم.

الأمر الثالث: قد يراد من المرة الفرد ومن التكرار الأفراد, وقد يراد منهما الدفعة والدفعات, وبينهما عموم مطلق لصدقهما فيما إذا أتى بذات المأمور به أو إذا لم يكن للواجب أفراد عرضية كالصلاة؛ فإنَّه لا يمكن إيجاد أفراد منها دفعة واحدة، فالتكرار فيها من حيث الأفراد لا بُدَّ أنْ يكون بالتكرار بحسب الدفعات, وصدق الثاني دون الأول فيما إذا أتى بأفراد منه دفعة.

ص: 74


1- . سورة البقرة؛ الآية 275.

وهل أنَّ مرادهم بها الفرد أو الأفراد كما عليه جمع من الأصوليين, وإنَّ التكليف إنَّما يكون بأحدهما أو المراد هو الدفعة أو الدفعات كما عليه صاحب الفصول لأنَّ ظاهر اللفظين يدلُّ عليهما. ولو كان المراد هو الفرد والأفراد لكان البحث من متمِّمات البحث الآتي؛ من أنَّ الأمر يتعلق بالطبيعة أو الفرد, ولكن عرفت إختلاف البحثين ملاكاً وعرفاً.

أو أنَّ المراد كِلاهما كما في الكفاية, والظاهر سقوط هذا النزاع بعد الإتّفاق على عدم دلالة الأمر على كلِّ واحد من المعنيَين.

هذا كلُّه فيما إذا أمكن التعدد في متعلق الأمر, وإلا فالبحث ساقط من أصله.

الأمر الرابع: ذكر بعض الأعلام أنَّه لا ثمرة في هذا البحث لا علمياً ولا عملياً(1) إلا في موردين تعرض لهما صاحب الكفاية بمناسبة البحث المذكور(2):

أحدهما: هو البحث عن جواز تبديل الإمتثال بفرد آخر غير المأتي به إبتداءً, والبحث فيه وإنْ كان مقامه في مبحث الإجزاء إلا أنَّ جمعاً من الأصوليين ذكروه في المقام.الثاني: الفرق بين الأمر والنهي؛ فإنَّ النهي يقتضي التكرار والدوام دون الأمر؛ حيث يكتفي بامتثاله بالمرة(3), وسيأتي تحقيقه في مبحث النواهي.

إذا عرفت ذلك؛ وقع النزاع عند الأعلام في دلالة الأمر على المرة أو التكرار، أو مشترك بينهما لفظاً أو معنىً, أو لا دلالة له عليهما والإكتفاء بالمرة لحصول الطبيعة, والمعروف المشهور الذي عليه التحقيق عدم دلالته عليهما مطلقاً.

أمّا الهيئة فلا تدلُّ إلا على الطلب والبعث نحو المطلوب والتحريك إليه وإتمام الحجة والنسبة الإرسالية؛ كلُّ ذلك على نحو اللابشرط عن كلِّ قيد حتى اللابشرطية.

ص: 75


1- . منتقى الأصول؛ ج1 ص515.
2- . كفاية الأصول؛ ص79.
3- . المصدر السابق؛ ص149.

وكذلك لا تدلُّ المادة إلا على طبيعة الحدث، وأمّا النسبة فإنَّما تدلُّ على الإرتباط وليس هناك وضع آخر غيرها. فلا ريب ولا إشكال في عدم دلالة الأمر على المرة ولا على التكرار وضعاً؛ لا من ناحية الهيئة ولا من ناحية المادة.

ويدلُّ عليه أصالة الإطلاق التي تدلُّ على الإكتفاء بمجرد إتيان ذات المأمور به لتحقق الإمتثال به عرفاً, كما أنَّ ما يقتضيه الأصل العملي هو البراءة أيضاً لأنَّ الشكَّ في الزائد عليه إنَّما شكٌّ في أصل التكليف, ومع عدم البيان بالنسبة إليه يرجع إلى البراءة, ويؤيد ذلك أمران:

أحدهما: إنَّه إذا ورد قيد يدلُّ على المرة أو على التكرار لا يستلزم منه المجاز مطلقاً.

الثاني: إنَّه لو أخذت المرة أو التكرار في مدلول هيئة الأمر كان لازمه أخذ طرف النسبة, وهو الحدث مرة أو مكرراً معها في مدلول الهيئة؛ وهو غريب, وإنْ أُخذ ذلك في المادة المشتركة في كافة الإشتقاقات لزم إستفادة المرة أو التكرار منها وهو أمر لم يقل به أحد؛ بلا فرق بين أنْ يكون المراد بالمرة والتكرار الفرد والأفراد والدفعة والدفعات فإنَّ الدليل فيها واحد.

وربَّما يستشكل على التمسك بالإطلاق المقامي باعتبار أنَّه ليس له ضابط نوعي بل يختلف إستفادة إنحلال الحكم إلى أحكام عديدة بعدد أفراد الطبيعة أو عدم إنحلاله حسب اختلاف الموارد. ولكن الصحيح إنَّ له ضابطاً نوعياً, وقيل في توجيه ذلك وجوهٌ:

الوجه الأول: إنَّ الإطلاق بلحاظ المتعلق بدلي وبلحاظ الموضوع شمولي.

وأورد عليه بأنَّه لا فرق بينهما بعد تمامية مقدمات الحكمة وكونها في كافة الموارد بمعنى واحد وذات وظيفة واحدة وهي إثبات كون ذات الطبيعة هي تمام ما أخذ في الجعل من دون أخذ قيد زائد معها.

ص: 76

الوجه الثاني: إنَّ الإطلاق وإنْ اختلف في المتعلق عن الموضوع فالأول بدلي وفي الثاني شمولي, وذلك باعتبار أنَّ الذهن يلحظ الموضوع مفروض الوجود في المرتبة السابقة على الحكم, وحيث أنَّ له تطبيقات متكثرة فلا محالة يتعدد الحكم ويتكثر وينحلّ بعدد تلك التطبيقات, وأمّا المتعلق فهو ليس كذلك بل يطلب إيجاده أو إعدامه فلا يلاحظ مفروض الوجود والثبوت في المرتبة السابقة على الحكم والأمر فلا معنى للإنحلال بلحاظه.

وفيه: إنَّ الذهن كما يتصور الموضوع يتصور المتعلق أيضاً ثم يحكم عليهما, وأمّا فرض تصور الموضوع متقدماً إنَّما هو بلحاظ الحكم وكذلك المتعلق بالنسبة إليه أيضاً فهما على حدٍّ سواء من هذه الجهة, والذهن يتصور القضية من حيث المجموع فإذا تمَّت مقدمات الحكمة فلا بُدَّ أنْ يكون على نسقٍ واحد وهو إثبات ذات الطبيعة, مضافاً إلى أنَّه إذا تعدد الموضوع وانحلَّ فينحلُّ الحكم والمتعلق بسببه للتلازم بينها.

الوجه الثالث: إنَّ الإطلاق المقامي يدلُّ على أخذ الطبيعة في كلٍّ من المتعلق والموضوع, وأمّا إستفادة الشمولية والبدلية فلا بُدَّ أنْ تكون بدلالات أخرى سيأتي بيانها في موضع آخر, فيكون مقتضى الإطلاق الأولي الإكتفاء بالمرة والدفعة ما لم ترد قرينة حاكمة على ذلك, وهذا أمر بيِّن عرفاً ولغةً ولا نحتاج إلى مزيد عناية كما يظهر من كلام بعض الأعلام.

ويترتب على ذلك أمور:

أولاً: إنَّ الإطلاق بحسب الطبع الأولي في كلٍّ من المتعلق في الجملة الإنشائية, والمحمول في الجملة الخبرية لا يكون شمولياً بل يكون في كلٍّ من الموضوع والمتعلق بنحو صرف الوجود.

ثانياً: إنَّه لا فرق بناءً على ما ذكرناه بين الأوامر والنواهي، فمقتضى الطبع الأولي في النواهي أيضاً هو صرف وجود الطبيعة, إلا أنَّ الفرق إنَّما هو من ناحية الإمتثال فإنَّ

ص: 77

المطلوب في الأمر هو صرف الوجود وإيجاد الطبيعة، وفي النهي إعدامها، وإيجاد الطبيعة يتحقق بفرد ولكن لا تنعدم الطبيعة إلا بانعدام تمام أفرادها فلا يتحقق الإمتثال في النهي إلا باجتناب تمام أفرادها, فالفرق بين الأمر والنهي ليس راجعاً إلى تعدد الحكم في النهي واتّحاده في الأمر، بل هو واحدٌ في كلٍّ منهما ومتعلقٌ بالطبيعة بنحو صرف الوجود.وإنَّما الفرق في مقام الإمتثال وإيجاد الطبيعة وإعدامها, فلو قال مثلاً: (أكرم العالم) كان كلّ عالم يجب إكرامه بوجوب واحد غير منحلٍّ إلى وجوبات متعددة بعدد أنحاء الإكرام المتعددة، وإذا قال: (لا تكرم فاسقاً) كان مقتضى الطبع الأولي أنَّه يحرم إكرام كلَّ فاسق حرمة واحدة غير منحلّة, إلا أنَّ الوجوب الواحد يتحقق إمتثاله بإكرام واحد, وأمّاالحرمة الواحدة لا يمكن إمتثالها إلا بترك كلِّ إكرام، وهذا الفرق ثابت في الجملة الخبرية الموجبة والنافية أيضاً كما هو معلوم.

وقد أورد بعض المتأخرين على هذه المقالة بأنَّها تتم بناءً على أنَّ الطبيعة في الخارج نسبتها إلى الأفراد نسبة الأب إلى الأبناء, فيكون وجودها بوجود فرد واحد وعدمها لا يكون إلا بانعدام كلِّ الأفراد؛ وهذه هي فكرة الكلي الطبيعي المعروف في الفلسفة وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من أنَّ نسبة الطبيعة في الخارج إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء فالطبيعة في كلِّ فردٍ لها وجود مستقلّ.

ولكن ذلك خلط بين المفهوم والخارج فإنَّ المفاهيم مرآة للخارج فلا يكون الكلي فيها إلا مفهوم واحد نسبته إلى الخارج نسبة الأب إلى الأبناء.

ثالثاً: ذكر بعض الأعلام(1) أنَّ الإنحلال إلى الشمول في طرف الموضوع وعدمه في طرف المحمول, والمتعلق إنَّما هو من شؤون عالم التطبيق والفعلية ولا ربط له بعالم الجعل, ولذا

ص: 78


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص125.

فهو ليس من المداليل الوضعية أو الإطلاقية لأنَّ اللفظ يكشف عن عالم الجعل دون عالم التطبيق والفعلية, والجعل هنا واحد بخلاف الشمولية والبدلية في العموميات الوضعية, فإنَّه قد تُفرض فيها أداة العموم من قبيل كلمة (كلّ) في (أكرم كلَّ عالم)؛ فإنَّه يستفاد منه العموم الشمولي, وأنَّ كلمة (أيّ) وضعت للعموم البدلي, كما ستعرف من أنَّ المولى في باب العموم ينظر إلى الأفراد بنحو إجمالي ولا يقتصر نظره على ذات الطبيعة فتارةً يلحظها شمولياً. وأخرى يلحظها بدلياً بخلاف باب المطلقات فإنَّها تدلُّ من ناحية الموضوع والمتعلق على ذات الطبيعة من دون لحاظ الشمولية والبدلية في كلِّ واحد منهما ولكنهما من شؤون التطبيق والفعلية.

ولكن يمكن القول بأنَّ المقامين -أي مقام الجعل ومقام التطبيق والفعلية- إنَّما يتبعان اللحاظ, فإذا لاحظ المتكلم الإنحلال وعدمه في الشمولية أو البدلية فيهما فلا فرق في ذلك من باب المطلقات أو باب العموم؛ للتلازم بين الحكم وموضوعه ومتعلقه, إلا أنَّ الإطلاق المقامي في باب المطلقات يدلُّ على أنَّ المطلوب في الأمر والنهي إنَّما هو صرف الوجود كما عرفت, ويدلُّ على ما ذكرناه ما يذكر في الأمر الرابع.

رابعاً: ثم إنَّ ما ذكرناه بحسب الطبع الأولي في كلٍّ من ناحية التطبيق والفعلية وناحية الجعل لا ينافي أنْ يوجد ما يحكم على خلاف الطبع الأولي فيوجب عدم الإنحلال في الموضوع أو الإنحلال في المتعلق, وقد مثلوا ما يوجب عدم الإنحلال في ناحية الموضوع بالتنوين كما إذا قال: (أكرم عالماً)؛ فإنَّ التنوين يدلُّعلى تقييد الطبيعة بقيد الوحدة وهو ينافي الإنحلال فيثبت الحكم على فرد واحد من الماهية دون الأفراد المتكثرة.

كما مثَّلوا لما يوجب الإنحلال في المتعلق بالنكتة النوعية الموجودة في باب النواهي بأنَّها وإنْ كانت مثل الأوامر في عدم الإنحلال وتعلقهما بالطبيعة, فإذا قال (لا تأكل) إنَّما يحرم

ص: 79

الأكل حرمة واحدة بلا انحلال, فلو أكل مرة واحدة حصل العصيان وسقطت الحرمة، لكن الغالب في النهي والحرمة قيام مبادئهما بكلِّ فرد فرد بنحو التعدد لا بالمجموع ولا بالجامع, وذلك لوضوح أنَّ النهي إمّا أنْ ينشأ من مفسدة في الفعل فالغالب أنَّها في كلِّ فرد مستقلاً, أو ينشأ عن مصلحة في الترك والغالب أيضاً أنَّها توجد في ترك كلِّ فرد مستقلاً, ولأجل ذلك أصبح للنهي ظهور في إرادة تحريم الطبيعة بتمام أفرادها بلا فرق في ذلك بين الأفراد الطولية أو العرضية, ومثل ذلك لا يجري في الأمر، فإنَّ المصلحة أو المفسدة في الترك لم يكن قيامهما بفعل تمام الأفراد، فلا ينعقد للأمر ظهور خلاف الطبع الأولي.

والمستفاد من مجموع ما ذكرناه أنَّ الوضع واللحاظ قد يقتضيان عدم الإنحلال أو يقتضيان الإنحلال على سبيل الشمولية أو البدلية ولكن ذلك يتبع الدلائل والقرائن والفهم العرفي.

خامساً: المراد بالموضوع الذي ذكرنا أنَّ مقتضى طبع الحكم إنحلاله بلحاظه هو أنْ يكون بحسب الفهم العرفي مقدر الوجود كما في قولنا: (أكرم العالم) وأمّا ما لم يكن كذلك بأنْ لم يكن مقدر الوجود بحسب الفهم العرفي فلا ينحلُّ الحكم بلحاظه كما في قولنا: (يجب الخمس في أرباح مالك)، فإنَّه بحسب المتفاهم العرفي لم يؤخذ ربح المال مقدر الوجود لينحلَّ الحكم ولولا الدليل الخارجي لكُنّا نفهم منه لزوم إيجاد الربح.

وكذلك الحال في مثال: (تيمّم بالتراب وتوضأ بالماء).

والحاصل من جميع ذلك أنَّ الإنحلال وعدمه في جانب الوضع أو الموضوع والمتعلق يتبع الفهم العرفي والقرائن.

ومن جميع ذلك يظهر فساد ما حكى عن الفصول من أنَّ بحث المرة والتكرار إنَّما هو بالنسبة إلى الهيئة فقط, لاتّفاق الأدباء على أنَّ المصدر المجرد عن اللام والتنوين إنَّما يدلُّ على الماهية المطلقة والطبيعة الصرفة، وبما أنَّ المصدر أصل المشتَّقات ومادةً لها فلا مورد

ص: 80

للنزاع بالنسبة إلى المادة؛ فإنَّه مضافاً إلى ما تقدم في بحث المشتق من أنَّه لا دليل على كون المصدر أصلاً للمشتقات؛ كما عرفت من أنَّ له هيئة وما له هيئة لا يقع مادة لغيره. نعم؛ يصحُّ أنْ يقع لحاظه منشأً لوضع الصيغ ونظمها ولكنه ليس من المادة في شيء.وعلى فرض التنزل فإنَّ المادة المجردة لها حُكمٌ والمادة المتهيئة بهيئة خاصة لها حكم آخر, مع أنَّ عوارض إحداهما تنسب إلى الأخرى لمكان الإتّحاد بينهما، وما عرفت من أنَّ النزاع أعم مِمّا ذكره.

ثم إنَّ بعض الأصوليين ذكر في خاتمة هذا البحث بحث تعدد الإمتثال أو تبديله, وإنْ كان موضعه في بحث الإجزاء, ونحن تبعاً لهم نذكره في المقام على نحو الإيجاز والتفصيل يأتي في موضعه الذي ذكرناه؛ فيقع الكلام في موردين:

الأول: في تعدد الإمتثال قد اتَّضح مِمّا تقدم ذكره أنَّه لا فرق بين الأفراد العرضية والأفراد الطولية فيما ذكر من الإنحلال بلحاظ الفهم العرفي في جانب الموضوع أو المتعلق, ولكن الإمتثال بفردين عرضيين ممكن ولا إشكال فيه لأنَّ المأمور به إذا كان هو الطبيعة من غير تقييد بالوحدة أو الكثرة فإنَّ التخيير العقلي بين الفردين أو أكثر ثابت, ويعدُّ الجميع إمتثالاً واحداً.

وأمّا الإمتثال بفردين طوليين في عمود الزمان فلا يمكن أنْ يتحقق بها لأنَّ نسبة الطبيعة إلى الأفراد كذلك وإنْ كانت واحدة كالأفراد العرضية إلا أنَّه بعد تحقق الفرد في عمود الزمان يسقط به الوجوب قهراً, فلا يبقى موضوع للإمتثال الثاني ولا يأتي التخيير العقلي هنا لوجود الضيق في الواجب بما هو واجب, ولكن إذا تمَّ البحث الآتي فإنَّه يتمّ تعدد الإمتثال, وقد يتصور التخيير الشرعي كما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره في الأقل والأكثر فيما إذا كانا متباينين كالتسبيحة الواحدة بشرط لا عن الزائد والثلاث تسبيحات، إلا أنَّه يحتاج إلى تأمل ومؤونة زائدة ولا يثبت بالإطلاق.

ص: 81

الثاني: في التكرار وتبديل الإمتثال من فردٍ إلى فردٍ آخر, ولا إشكال في وجوب تبديل الإمتثال أو التكرار إذا كان مستفاداً من القرائن, ولكن إذا دلَّ الدليل على المرة أو دلَّ الإطلاق عليها فهل يجوز التكرار حينئذٍ؟.

ذهب جمعٌ إلى الجواز, منهم المحقق الخراساني قدس سره واستدلَّ عليه ببقاء الغرض الأقصى وإمكان الإمتثال عقيب الإمتثال من هذه الجهة, إذ لم تكن نسبة المتعلق إلى الغرض نسبة المعلول إلى العلة، بل نسبة المقتضي إلى المقتضى, ففي هذه الحالة يبقى الأمر على حاله ببقاء الغرض الذي دعا إلى الأمر(1).

وأشكل عليه بأنَّ الغرض غير معلوم, فربَّما يختلط بين الغرض الأدنى الذي يترتب على فعل المأمور به, والغرض الأقصى, مضافاً إلى أنَّ الإنسان ليس مكلفاً بتحصيل الغرض، وإنَّما اللازم هو الخروج عن عهدة تكليف المولى وتحصيل المصلحة المترتبة على المأمور به.

وناقش بعض الأعلام كلاً من الأصل والإشكال كما سيأتي ذكره في موضعه.والحَقُّ أنْ يُقال بالتفصيل بين ما إذا كان المأتي به علة تامة لسقوط الأمر من جميع الجهات خطاباً وملاكاً وقبولاً، فلا يعقل التكرار لفرض سقوط الأمر بجميع جهاته وعدم إمكان قصده حينئذٍ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا بأس بالتكرار وتعدد الإمتثال لفرض إمكان قصد الأمر لاحتمال بقائه, وتعيين كلّ واحد من الفرضين إنَّما بالرجوع إلى الأدلة الخاصة أو القرائن التي تحتف بنفس الأمر الذي يراد إمتثاله.

وعلى ذلك يمكن حل الفرع الفقهي المعروف في جواز أو إستحباب إعادة الصلاة جماعة لمن صلاها فرادى, والظاهر عدم سقوط الأمر من جميع جهاته كما تدلُّ عليه جميع الروايات الواردة في هذا الفرع, لاسيما قوله علیه السلام : (إنّ الله يختار أحبٌّهما إليه).

ص: 82


1- . كفاية الأصول؛ ص80.

ولكن ذكر بعض الأعلام في المقام بأنَّ الروايات الواردة في هذا الفرع تنقسم إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: ما ورد فيها عنوان الأمر بالإعادة فقط، وذكر أنَّها لا تدلُّ على كون ذلك من باب تبديل الإمتثال، إذ لعلَّه يرجع إلى كونه أمراً إستحبابياً جديداً له إمتثال جديد.

وفيه: إنَّه خلاف الظاهر منها, فإنَّ الأمر بالإعادة فيها إنَّما يرجع إلى تلك الصلاة التي صلاها فرادى، ولا وجه لصرفه إلى كونه أمراً جديداً.

الثانية: ما جاء فيها جملة (ويجعلها الفريضة) كما ورد في معتبرة هشام بن سالم عن الإمام الصادق علیه السلام (1) ونوقش في دلالتها مع تبديل الإمتثال والتكرار بوجوه:

أحدها: إنَّ المقصود أنَّه يصلي فرضاً مقابل التطوع والنافلة لبطلان الجماعة في صلاة التطوّع.

ورُدَّ بأنَّه خلاف الظاهر لأنَّ اللام في كلمة الفريضة إشارة إلى نفس الفرض السابق, كما أنَّ كلمة إنْ شاء تدل على تعلق المشيئة بتلك الفريضة.

الثاني: إنَّ لفظ الفريضة أخذ معرفاً إلى ذات الصلاة كالظهر مثلاً بقطع النظر عن كونها واجبة أو مستحبة, فيكون مفادها مفاد الطائفة الأولى من الأمر بالإعادة.

وردَّ بأنَّه المفهوم من جملة (ويجعلها الفريضة) هو العهد, أي: إجعل صلاتك المعادة جماعة هي الفريضة.

الثالث: إنَّها واردة فيمن هو مشغول بالصلاة ويجد الجماعة قبل فراغه عن صلاته، واستشهد عليه بالتعبير بصيغة المضارع (في الرجل يصلي).

وفيه: إنَّه خلاف الظاهر, فإن ظاهر كلام الإمام علیه السلام بيان الوظيفة لهذا الشخص لما بيده من الصلاة المعادة.

ص: 83


1- . جامع أحاديث الشيعة؛ الباب 54, من أبواب صلاة الجماعة؛ ج1 ص455.

والحقُّ أنَّ هذه الرواية تدلُّ بوضوح على جواز التبديل وجعل الصلاة المبدلة هي الفريضة، وما ذكره بعض الأعلام من الإشكال بأنَّه يستفاد منها هدم الإمتثال وذلك بأنْ يُقال أنَّ الواجب كان مشروطاً من أول الأمر بشرط متأخر, أي أنْ لا يأتي بعد ذلك بفرد آخر أفضل منه بنية جعلها هي الفريضة، فلو أتى بذلك يكون هدماً للإمتثال الأول وهو غير سديد وبعيد عن ظاهر الصحيحة، مع أنَّ فرضية الشرط المتأخر إنَّما تكون فيما إذا لم يمكن تصحيح الكلام بوجه، والمفروض أنَّه لا إستحالة من التبديل كما عرفت ويأتي.

الطائفة الثالثة: ما ورد بلسان أنَّ الله يختار أحبّهما إليه، وهو ظاهر في إمكان تبديل الإمتثال بوضوح ولو على سبيل تحصيل الثواب الأكمل.

وأشكل عليه بأنَّه من قبيل الشرط المتأخر, وقد عرفت الكلام في أصل إمكان فرض الشرط المتأخر في المقام مع أنَّه خلاف الظاهر.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ هذه الطوائف الثلاث تشترك في بيان أمر واحد وهو عدم سقوط الأمر من جميع جهاته فيصحُّ التبديل والإعادة من دون إشكال ويكفي فيه قصد الأمر في الجملة, ولا ينافي ذلك صحَّة ما ذكره جمع من الأعلام من أنَّ المطلوب في باب التكاليف هو الخروج عن عهدتها وتحصيل المصلحة المترتبة على المأمور به, فإنَّ الخروج عن العهدة يحصل بأحدهما إنْ تمَّ الدليل على الإعادة والتبديل.

ثم إنَّه لو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فإنَّه يدلُّ على عدم كون الأمر بشرط لا عن الزيادة وعدم كونه بشرط شيء بالإضافة إلى التكرار، فيجوز الإقتصار على المرة كما يجوز الإتيان بأكثر من مرة وعدم إضراره بالإمتثال.

هذا ما يتعلق بدلالة الأمر على المرة والتكرار وما يتعلق به من البحوث, وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى في بحث الإجزاء.

ص: 84

المبحث الرابع: في الفور أو التراخي

إختلف العلماء في دلالة الأمر على أحدهما مثل المبحث السابق؛ فهل يدلُّ على الفور, أو التراخي, أو هما مشتركان معنوياً أو لفظياً, أو لا دلالة له على أحدهما؟.

والحقُّ هو الأخير؛ لما عرفت في البحث السابق من أنَّ الأمر لا يدلُّ إلا على الطبيعة المجردة, والهيئة إنَّما تدلُّ على الطلب والبعث والإسترسال ولا تدلُّ بشيء من الدلالات على الفور أو التراخي, والمادة على مجرد الحدث والمتعلق, والنسبة للربط إلا إذا دلَّ دليل خاص على أحدهما.فما هو المناط في البحث السابق يجري في هذا البحث أيضاً من دون تفاوت, وليس هو من القياس كما إدَّعاه البعض.

وقيل بأنَّه للتراخي لأنَّ الفور محال, فلا إشتراك لعدم إمكانه بعد عدم تعقل الفور.

وفيه: إنَّ البحث في الفور الممكن لا المحال.

وقال بعض المحققين بأنَّه للفور، وإستدلَّ عليه تارةً بالعقل لأنَّ المقولات الإعتبارية ومنها الأوامر الشرعية كالمقولات الحقيقية, فإنَّه كما يستحيل تخلّف المعلول عن علته تكوينياً كذلك يكون في التشريع, لأنَّ الأمر بمنزلة العلة. وأخرى بالعرف, حيث أنَّ الفور من وظائف العبودية عرفاً. وثالثة بالشرع كآيتي الإستباق والمسارعة.

وفيه: أمّا الأول: فلأنَّ الأحكام معلولات حقيقة لكونها تابعة لمصالح ومفاسد واقعية, إلا أنَّ تلك الأحكام مرتبطة بالعلل لا بالأوامر فهي ليست عللها، وعلى فرض التنزُّل فإنَّ الكلية ممنوعة لانَّ المقولات الإعتبارية ليست كالمقولات الحقيقية مطلقاً.

وأمّا الثاني: فلأنَّ وظيفة العبودية إتّباع كيفية الأمر, والمفروض إختلافها في المقام, وما ذكره من صغريات نظرية حقّ الطاعة, وسيأتي في الموضع المناسب بيانها.

ص: 85

وأمّا الثالث: فيمكن الإشكال عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ الإستباق إلى الخيرات ليس بواجب مطلقاً, إذ قد يجب السبق كما في الواجب الفوري دون المستحب والمتراخي فإنَّه لا يجب السبق فيهما.

وأمّا المسارعة فلأنَّه وإنْ كان يجب العمل بأسباب المغفرة لأنَّ في تركه يترتب الضرر العظيم، ولكن دخول الجنة قرينة الأعم من المغفرة اللازمة وغيرها.

الوجه الثاني: إنَّه لو كانت الآيتان وغيرهما للوجوب فإنَّه يستلزم تخصيص الأكثر, وهو مستهجن.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من أنَّ الإستدلال بالآيتين يلزم من وجوده عدمه, لأنَّ السبق إلى أحد الخيرات يستلزم عدم خيرية الأخريات، إذ لا خير فيما يعارض الخير فيسقط الخير المسبوق إليه عن كونه خيراً فلا إستباق.

وفيه: إنَّ ملاك الخير يبقى في المتزاحمات وإنْ لم يكن على الفعلية فيها مع أنَّ الخطاب في الآية إلى الجماعة والمتعلق متعدد فلا يتصور تعارض الخيرات.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أنَّه لا يستفاد من الآيتين الوجوب, إذ لو كان الأمر فيهما إلزامياً لكان الأنسب بيان ذلك بذكر لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة رأساً.وأشكل عليه بأنَّ ما ذكره يجري في جميع الأوامر الإلزامية، فإنَّ المقصود فيها بيان لزوم الفعل, فاللازم على ما ذكره بيان الوجوب ببيان لازمه, وهو أمر لا يقول به أحد إذ لا فرق بين المقام وغيره.

والحَقُّ أنْ يُقال أنَّ حسن المسارعة إلى الإمتثال من المرتكزات في أذهان العرف, كما أنَّ حسن المسارعة إلى المغفرة والإستباق إلى الخيرات من الأمور المحبوبة في النفوس والمرتكز في الأذهان.

ص: 86

فلا تكون الآيتان لو تمَّت دلالتهما إلا إرشاداً إليها, فلا يستفاد منها حكم إلزامي مولوي إلا أنْ تقوم قرينة خاصة عليه وهذا هو مراد المحقق الخراساني قدس سره , وقوله بأنَّ الآيتين تدلان على الإرشاد لاستقلال العقل بحسن ذلك, كالأمر بالطاعة.

والحاصل: إنَّ حسن الفورية مقتضى المرتكزات, والتراخي مقتضى سهولة الشريعة, ولا يتعين أحدهما إلا بدليل معتبر.

ثم إنَّه لو ترك الفورية فهل يلزم إتيانه فوراً ففوراً أو يسقط الأمر، أو يبقى لا فوراً؛ ذكر بعض الأصوليين أنَّ النزاع مبني على دلالة الصيغة على أخذ الفورية -لو قلنا به- على نحو وحدة المطلوب أو تعدده بحيث يتعلق طلب بذات العمل وطلب آخر بالإتيان به فوراً, فيجب إتيان العمل على الثاني ولا يجب على الأول, لأنَّ المقيد يزول بزوال قيده, بخلاف تعدد المطلوب فإنَّ عصيان أحد الخطابين لا يستدعي سقوط الخطاب الآخر.

وبعد إثبات وجوب الإتيان يأتي الكلام في كونه فوراً ففوراً.

والحقُّ أنَّه لا يمكن إثبات أحد الوجهين من نفس الأمر، ولم يقم دليل خارج على أحدهما أيضاً, فالمرجع ما ذكرناه من أنَّ المرتكز في الأذهان والنفوس حسن المسارعة إلى الإمتثال والمسارعة والإستباق إلى الخيرات, فلو ترك الفورية لا يرتفع حسنه, بل يبقى الحسن فوراً ففوراً حتى يأتي المأمور به ويسقط التكليف.

ومن جميع ذلك تظهر المناقشة فيما ذكره السيد الخوئي وبعض الأعلام في المقام؛ فراجع.

ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فإنَّه يقتضي إستصحاب أصل الطلب لا فوره إنْ كان الزمان ظرفاً له، وأمّا إذا كان مفرداً أو لم يعلم كيفيته فالأصل البراءة.

ص: 87

المبحث الخامس: في الواجب التعبدي والتوصلي

لا ريب في وقوعه في الشرع الحنيف, وإنَّما الكلام في أنَّ مفاد الأمر في الواجبات هل هو التوصلية أو التعبدية ؟ وبيان ذلك في أمور:

الأمر الأول: في بيان المراد من التعبدي والتوصلي؛ وقد ذكروا لهما معانٍ متعددة, والمعروف منها أربعة:

أولاً: التوصلي؛ ما يسقط ولو بفعل الغير.

ويقابله التعبدي؛ أي ما لا يسقط إلا بفعل الإنسان نفسه مباشرة.

ثانياً: التوصلي؛ ما يسقط ولو كان صادراً عن المكلف إضطراراً وإلجاءً.

ويقابله التعبدي؛ وهو ما لا يسقط إلا بإتيان المكلف له طوعاً وإختياراً.

ثالثاً: التوصلي؛ ما يسقط ولو بإتيانه في ضمن فرد محرم.

ويقابله التعبدي؛ الذي لا يسقط إلا بإتيانه في ضمن فرد لا ينطبق عليه عنوان محرم.

رابعاً: التوصلي؛ بمعنى عدم إحتياجه إلى قصد القربة وسقوطه ولو بدون داع القربة.

ويقابله التعبدي؛ فهو ما يحتاج إلى قصد القربة.

وأمثلة كلّ واحد منها واضحة وكثيرة ويترتب عليها ثمرات فقهية وأصولية.

وقد جعل السيد الخوئي قدس سره بين المعنى الرابع والمعاني الثلاثة الأولى من وجوه النسب نسبة العموم من وجه, وقد ذكر أمثلة في بيان مادة الإفتراق بين الطرفين بما لا يخلو من إشكال؛ فراجع.

وقد ذكروا أيضاً معانٍ أخرى للتعبدي والتوصلي إلا أنَّ المناقشة فيها ظاهرة ولذا أعرضنا عن ذكرها, والمهم بيان الأصل عند الشكِّ في كون الواجب تعبدياً أو توصلياً, فهل هو التعبدية أو التوصلية في كلِّ واحد من تلك المعاني, والمناسب لمباحث الألفاظ أنْ يكون

ص: 88

الأصل المبحوث عنه هو الأصل اللفظي دون الأصل العملي ولكن الأعلام ذكروه في المقام بالمناسبة.

وغير خفي من أنَّه إذا ثبت الأصل اللفظي سواءً كان الإطلاق أو غيره لا تصل النوبة للأصل العملي, وبعد فقد الأول وعدم إمكان إثباته يبحث عن أنَّ الأصل العملي هل هو التعبدية أو التوصلية؛ فيقع الكلام في أصالة التعبدية والتوصلية.

الأمر الثاني: الكلام في كلِّ واحد من المعاني الأربعة بعد ثبوت الأصل؛ ويقع ضمن مسائل:

المسألة الأولى: إذا شكَّ في سقوط الواجب بفعل الغير فهل يقتضي الأصل هو سقوطه فلا يحتاج إلى مباشرة المكلف نفسه بإتيانه، أو لا يقتضي ذلك فلا يسقط إلا بإتيانه بنفسه؟. فتارةً نبحث عن مقتضى الأصل اللفظي, وأخرى عن الأصل العملي.أمّا الأصل اللفظي فقد ذكر جمع من الأصوليين من أنَّ مقتضى القاعدة هو التعبدية وعدم سقوط الواجب بإتيان غير المكلف نفسه, لأنَّ الشكَّ فيه يرجع إلى الشكِّ في إطلاق الهيئة, أي في سعة دائرة الوجوب وضيقه لا في إطلاق المادة, أي سعة الواجب وضيقه لأنَّ فعل الغير باعتباره خارجاً عن إختيار المكلف وقدرته؛ فلا يكون مشمولاً لإطلاق المادة، فالشكَّ في إطلاق المادة لا منشأ له إلا إحتمال تقييد الوجوب -أي الهيئة- بما إذا لم يفعله الغير, ومع الشكِّ فيه يكون مقتضى إطلاق الهيئة عدم السقوط.

وأشكل عليه بعض الأعلام:

أولاً: إنَّ فعل الغير قد ينسب إلى المكلف فيكون مقدوراً له, كما إذا أمر عبده أو إبنه أو إستأجر شخصاً لتنظيف المسجد مثلاً، ففي كلِّ مورد يمكن للمكلف إلجاء الغير أو إيجاد الداعي في نفسه للفعل يمكن أمره بذلك أو إطلاق الأمر له.

ثانياً: وعلى فرض عدم كون فعل الغير مقدوراً له كما في غير موارد التسبب، إلا أنَّه لا يوجب عدم الإطلاق في مادة الأمر ومتعلقه, إذ يمكن تعقل تعلق الأمر والتكليف

ص: 89

بالجامع بين فعل المكلف وفعل الغير, فتتسع دائرة الواجب ليشمل الفعل مطلقاً أو التسببي فقط، فمن ناحية القدرة لا يمكن أنْ تكون مانعة عن إطلاق متعلق الأمر.

والصحيح أنَّ كِلا الإيرادين خارجان عن الغرض الذي شرعت لأجله التكاليف مطلقاً, لاسيما الشرعية منها, فإنَّ المرتكز العرفي أنَّها شرعت لغرض تكميل النفوس وتهذيبها ولا يحصل ذلك إلا بمباشرة المكلف لامتثالها فقد أخذت النسبة الفعلية في صدور الأمر, والنسبة الإرسالية الإنشائية إنَّما حصلت وفق هذه الفعلية الصدورية، ومن المعلوم أنَّه مع تحقق الفعل من الغير لا يتحقق ذلك الغرض ولا تصدق تلك النسبة الصدورية الفعلية المأخوذة في متعلق الأمر، فيكون مقتضى القاعدة عدم سقوط التكليف بأداء غير المكلف، فيكون مقتضى الأصل التعبدية بالمعنى الأول.

إلا أنَّه قد يعارض هذا الأصل الأولي بما يدلُّ على عدم إعتبار المباشرة فيما إذا دلَّ الدليل على أنَّ المراد من التكليف صدور الفعل مطلقاً من المكلف أو من الغير سواءً كان مستنداً أو متسبباً إلى المكلف أو لا, فيكون الأصل في مثل ذلك التوصلية.

هذا كلُّه بحسب الأصل اللفظي.

أمّا الأصل العملي فقيل -هو المعروف بين المحققين- بأنَّه الإحتياط, وقالوا في تقريبه:

أولاً: إنَّه من الشكِّ في السقوط بعد اليقين باشتغال الذمة المستدعي لليقين بالفراغ.

ثانياً: التمسك باستصحاب بقاء الوجوب وعدم سقوطه بفعل الغير.وأشكل عليه بعض الأعلام بأنَّ الشكَّ في المقام إمّا أنْ يكون في الشكِّ في الواجب باعتبار أنَّ منشأ الشك في السقوط بفعل الغير لاحتمال كونه مصداقاً للواجب باعتبار معقولية تعلق التكليف بالجامع بين فعله وفعل غيره فيكون مرجع الشكّ في المقام إلى الشكِّ في سعة وضيق دائرة الواجب ومتعلق الوجوب في أنَّه الحصة المباشرة أو الأعم منها ومن فعل الغير.

ص: 90

وإمّا أنْ يكون الشكُّ في الوجوب باعتبار أنَّ منشأه الشكّ في تقييد الوجوب الذي هو مفاد الهيئة بما إذا لم يأتِ به الغير مع العلم بأنَّ الواجب الذي هو مفاد المادة خصوص الفعل المباشري.

ففي الفرض الأول يكون مقتضى الأصل هو البراءة, لأنَّ الشكَّ في المورد يرجع إلى الدوران بين الأقل والأكثر, لأنَّ أصل الفعل الجامع معلوم وإنَّما الشكُّ في خصوصية المباشرة فيجري فيه أصل البراءة عن وجوبها فلا مجال للإشتغال أو الإستصحاب.

وفيه:

أولاً: إنَّ القائل بالإحتياط لا يرى وجهاً لتعلق الأمر بالجامع ويحكم بعدم معقوليته في المقام.

ثانياً: إنَّه محكوم بالمرتكز العرفي, فإنَّ مقتضى الأصل الأولي هو تعلق التكليف بالمكلف نفسه واعتبار النسبة الصدورية الفعلية وهو يقتضي الإشتغال ما لم يخرج عن العهدة, ومع الشكّ في الخروج من العهدة فالمرجع الإحتياط, فلا يبقى مجال للبراءة والدوران بين الأقل والأكثر.

وأمّا في الفرض الثاني من الشكِّ فقال: (فإنْ كان منشأه من جهة إحتمال إشتراط الوجوب بعدم فعل الغير بحيث يكون فعله رافعاً من أول الأمر بنحو الشرط المتأخر, فإنَّ مقتضى الأصل العملي هو البراءة لا الإشتغال ولا الإستصحاب؛ لكون الشكّ في إرتفاع الوجوب من أول الأمر).

وفيه: إنَّه مخالف للمرتكز العرفي -كما عرفت- الذي يدلُّ على إشتراط المباشرة, وعليه تدور النسبة الصدورية الفعلية, فلا وجه لاحتمال إشتراط الوجوب بعدم فعل الغير وإنْ كان على نحو الشرط المتأخر.

وإنْ كان على نحو الشرط المقارن فيكون فعل الغير رافعاً للوجوب من أول الأمر.

ص: 91

فقد أشكل عليه بأنَّ سقوط الوجوب بفعل الغير بقاءً إنَّما يكون من جهة إحتمال زوال المحبوبية وارتفاعها بفعل الغير, أو من جهة أنَّ فعل الغير سبب فوات الملاك بنحو لا يمكن تحصيله بعد ذلك، ومقتضى الأصل فيها هو الإستصحاب لتمامية أركانه دون الإشتغال, لأنَّ الشكَّ في أصل المحبوبية هو من الشكِّ في أصل التكليف, كما أنَّ الشكَّ في فوات الملاك بفعل الغير فلأنَّ الأمر يدور فيه بينإذن الشارع فيه وبين عدم فوات الملاك بفعل الغير, وهو يرجع إلى الشكِّ في أصل الإذن ومورده البراءة.

وفيه: إنَّه تفصيل مخالف للمرتكز العرفي, فالمرجع في الشكِّ فيه هو عدم فوات الملاك, والمرجع فيه الإستصحاب.

ولعله لذلك عقَّب بأنَّه لو فرضنا الإلتزام بمفوتية فعل الغير وجوب البدار جرت أصالة الإشتغال.

والحاصل أنَّه بناء على المرتكز العرفي يشك في سقوط التكليف عن المكلف لو أتى به الغير فالمرجع قاعدة الإشتغال ولا ترفع اليد عنها إلا أنْ يدلَّ دليل على رضا الشارع وإذنه بفعل الغير وسقوط الغرض أو الملاك والمحبوبية، نعم؛ قد يكون الإلتزام الفقهي في كثير من الموارد سقوط كلّ واحد مِمّا ذكر لما يستفاد من الأدلة الواردة في خصوص ذلك المورد, فيكون المرجع حينئذٍ البراءة لا الإشتغال.

المسألة الثانية: في الشكِّ في سقوط الواجب بالحصة غير الإختيارية من فعل المكلف.

والبحث فيه تارةً يكون بحسب الأدلة اللفظية من الإطلاق والأصل اللفظي, وأخرى بحسب الأصل العملي.

أمّا الأولى: فإنْ ثبت إطلاق للمادة فهو يقتضي التوصلية فلا بُدَّ أنْ يسقط الواجب ولو كان في ضمن الحصة غير الإختيارية ويتحقق الإجزاء, لأنَّ ما وقع يكون مصداقاً له لا محالة

ص: 92

فلا يبقى أثر للتمسك بإطلاق الهيئة حينئذٍ, وإنْ لم يثبت الإطلاق للمادة بلْ ثبتت الحصة الخاصة الإختيارية من الفعل بالقرينة أمكن الرجوع إلى إطلاق الهيئة في إثبات التعبدية, فيبقى الوجوب لو وقعت الحصة في ضمن الفرد غير الإختياري، فالبحث يقع في إثبات إطلاق المادة وعدمه, فإنْ أمكن يثبت السقوط وإلا فالمرجع إطلاق الهيئة فلا يسقط.

فقد قيل: إنَّ الظاهر أنَّ مقتضى الإطلاق اللفظي للمادة هو التوصلية والإجتزاء بالحصة غير الإختيارية من الفعل, ولكن قد منع عنه بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنَّ ظاهر الأمر هو المحركية وإيجاد الداعي في نفس المكلف, وحيث أنَّه يستحيل التحريك نحو غير المقدور فيكون هذا الظهور الحالي مقيداً لبياً متَّصلاً بالخطاب يقيد متعلقه بالحصة المقدورة بالخصوص، فتكون وظيفة الأمر تقتضي تعلقه بالفعل الإرادي دون غيره(1).وأورد عليه بأنَّ متعلق الأمر هو الجامع بين الفعل الإختياري والفعل غير الإختياري وهو مقدور وإختياري، وتعلق الأمر بالجامع لا ينافي داعي التحريك والباعثية كما هو غير خفي.

وفيه: إنَّه لا يرفع الإشكال, فإنَّ تعلق الأمر بالجامع وإنْ كان لا ينافي كون الأمر بداعي التحريك والباعثية لكنه يختص بالفعل الإرادي, إذ لا يمكن إحداث الداعي إلى الفعل مع الغفلة وبدون الإرادة, فلا بُدَّ من أنْ يكون ما يصدق عليه أنَّه مأمور هو الفعل الخاص وهو التوأم مع الإرادة لا الفعل مطلقاً.

وأمّا الردُّ عليه بأنَّ الأمر ليس جعل الداعي والتحريك وإنَّما هو جعل الفعل في عهدة المكلف, فيكون نظير إشتغال الذمة, فلا مانع من تعلقه بغير الإختياري من الأفعال وغير المقدور نظير إشتغال الذمة بهما، فهو غير وجيه لعدم صحة البناء والمبنى كما عرفت مكرراً.

ص: 93


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص153.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق المذكور قدس سره بما دلَّ على اعتبار الإرادة والقدرة على متعلق التكليف في صحَّة التكليف وتوجهه فلا يتعلق التكليف بالفعل غير الإختياري بحكم العقل.

وردّ عليه بعدم إعتبار الإختيارية والقدرة في صحة التكليف.

وفيه: إنَّه إيراد مبنائي، فإنَّ مبنى المحقق النائيني هو اعتبار المركبة من الأمر وجعل الداعي, واعتبار القدرة في متعلق الأمر في صحة التكليف.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من أنَّه على مبنى كون التقابل بين الإطلاق والتقييد هو العدم والملكة فإذا إستحال التقييد إستحال الإطلاق، فلا يتمُّ إطلاق المادة للحصة غير الإختيارية؛ لأنَّه يستحيل تقييدها بذلك فيستحيل إطلاقها لها أيضاً(1).

وفيه: إنَّ تقييد المادة بالحصة الإختيارية ممكن كما هو واضح، فلا بُدَّ أنْ يكون إطلاقها المستلزم للإنطباق على الحصة غير الإختيارية ممكناً.

الوجه الرابع: لزوم اللغوية إذا ثبت الإطلاق للمادة ليشمل الحصة غير الإختيارية لعدم إمكان الإنبعاث نحوها.

ويرد عليه: إنَّ الفائدة لا تنحصر بذلك, بل يعقل أنْ تكون الفائدة على الإطلاق أنَّه إذا وقع الفعل غير الإختياري أمكن الإجتزاء به.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ الأفعال لا تدلُّ بموادها ولا بهيئاتها على أخذ الإرادة والإختيار فيهما؛ لا الإختيار مقابل الكراهة ولا الإختيار مقابل الإضطرار, فإنَّ مادة الأكل والشرب لا تدلُّ إلا على صدق الأكل والشرب, سواء كان عن إرادة أو عن إضطرار وإكراه، وهكذا بالنسبة إلى هيئة أكل وشرب، ويأكل ويشرب؛بلا فرق بين أنواع الهيئات الماضي

ص: 94


1- . محاضرات في أصول الفقه؛ ج2 ص150.

والمضارع وغيرها, فيمكن التمسك بإطلاق المادة لإثبات التوصلية بهذا المعنى إلا إذا ثبت ظهور على خلافه، كما سيأتي.

وذكر بعض الأصوليين أنَّه يمكن إثبات التوصلية ولو لم يكن إطلاق للمادة للوجوه المتقدمة بأحد وجهين:

الوجه الأول: إنَّه بعد سقوط الأمر خطاباً عند المزاحمة لا يمكن إثبات الملاك إلا بأحد طريقين؛ إمّا بإطلاق المادة, وإما التمسك بالدلالة الإلتزامية, لأنَّ الدلالة المطابقية لدليل الحكم تتكفل ثبوت الحكم للمتعلق، وبالدلالة الإلتزامية تتكفل ثبوت الملاك في المتعلق لملازمة ثبوت الحكم لثبوت الملاك لأنَّه معلول للملاك، فإذا انتفت الدلالة المطابقية من إجل الدليل على سقوطها عن الحجية، فإنَّ ذلك لا يستلزم نفي الدلالة الإلتزامية عنها لأنَّها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية، كما هو المعروف بين المحققين.

ويمكن الإشكال عليه بوجوهٍ تمثِّل الرد على السيد الخوئي في اعتراضه على أستاذه أيضاً.

أولاً: عدم ثبوت الإطلاق للمادة بلحاظ الملاك لأنَّ المقيد لإطلاق المادة بلحاظ الخطاب في المقام هو الظهور الحالي في الجعل بداعي المحركية والباعثية, وقد عرفت أنَّه متَّصل بالمادة فيمنع عن أصل انعقاد الإطلاق في المادة بلحاظ الخطاب, ومعه لا ينعقد إطلاقها بلحاظ الملاك, وهذا بخلاف باب التزاحم بناءً على إستحالة الترتب وسقوط الإطلاق في مادة أمر المهم, فإنَّ السقوط إنَّما هو بلحاظ المعارضة مع الأمر الآخر المقدم عليه بالأهمية فاختلف البابان في جهة السقوط.

ثانياً: إنَّ عدم سقوط الدلالة الإلتزامية عن الحجية إذا سقطت الدلالة المطابقية عنها إنَّما يكون فيما كان إرتفاع الحكم فيه بدليل منفصل بحيث لا يتصرف في ظهور الكلام, بل يقتضي نفي حجيته فقط, أمّا إذا كان الدليل متَّصلاً أو كالمتصل -كما في المقام- بحيث

ص: 95

أوجب التصرف في ظهور الكلام ورفع أصل الدلالة المطابقية لا خصوص حجيتها.ولا بُدَّ أنْ تنتفي الدلالة الإلتزامية لتبعيتها لها في الوجود، كما لا يخفى والمقام من قبيل الثاني.

الثاني: إنَّ الإطلاق للمادة بلحاظ الملاك بعد سقوط إطلاقها بلحاظ الخطاب يتعارض مع إطلاق الهيئة المقتضي لعدم تحقق الإمتثال إلا بالحصة الإختيارية التي هي متعلق الوجوب بحسب الفرض, وهذا بخلاف موارد التزاحم الذي يكون فيه الأمر المهم ساقطاً على كلِّ حال.

الوجه الثاني: ما يستفاد من كلمات المحقق العراقي قدس سره من أنَّ هنا إطلاقان؛ أحدهما إطلاق المادة, والآخر إطلاق الهيئة.إنَّ الأصل اللفظي وإنْ لم يكن مقتضياً للإجزاء والسقوط لو أتى بالفعل بغير إرادة واختيار لكنه لا يقتضي أيضاً عدم السقوط، ومنشأ الشكِّ هو إطلاق الهيئة الذي بمنزلة القرينة المتَّصلة بالمادة فيكون إطلاق المادة مانعاً من إنعقاده ورافعاً له، فإنْ كان المقيد لإطلاق المادة متَّصلاً بها كما ذكره المحقق النائيني قدس سره في البرهان العقلي إنهدم بذلك الظهور الإطلاقي في المادة, فلم يبقَ مانع من إنعقاد الظهور الإطلاقي في الهيئة.

وأمّا إذا كان المقيد برهاناً نظرياً ومقيداً منفصلاً فقد إنعقد إطلاق للمادة ويكون هادماً لإطلاق الهيئة من أول الأمر، فإذا سقطت حجية إطلاق المادة بعد ذلك بمقيد منفصل فلا يوجب هذا إنعقاد إطلاق الهيئة بعد سقوطه من جديد.

فحينئذٍ يؤخذ بإطلاق المادة للإجتزاء بالحصة غير الإختيارية إلا إذا دلَّ دليل على عدم الإجتزاء وقد عرفت عدم تماميته.

وفيه:

أولاً: إنَّ الدليل والبرهان الذي أوجب إنهدام الظهور الإطلاقي في المادة عند من أثبتها كالمحقق النائيني هو من المقيّد المتصل اللبِّي كما عرفت فالإحتمال الثاني غير تامّ.

ص: 96

ثانياً: النقض بسائر موارد التقييد كما إذا أمر بالغسل -مثلاً- وورد في دليل منفصل إشتراط كون الماء مباحاً ونحوه من الشروط التي لا دخل لها في المسمى, فإنَّه لا يوجب الإجتزاء بما إذا جاء المكلف بالواجب الفاقد للقيد لعدم التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات الوجوب.

ثالثاً: إذا ثبت ظهور عرفي يدلُّ على إعتبار الإرادة والإختيار في متعلق الأمر فلا بُدَّ أنْ تكون النسبة الإرسالية في الهيئة على طبق ذلك الظهور, وحينئذٍ لا يدع مجالاً للتفصيل المزبور، وهذا هو الحقُّ الذي يعتمد عليه في إعتبار الحصة الإختيارية فلا يجتزئ بغيرها ولا يسقط الواجب إلا إذا دلَّ دليل على الإجتزاء كما في سائر التوصليات.

وعليه؛ تحمل الأمر على التعبدية بهذا المعنى, ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي فهو يقتضي الإشتغال كما عرفت سابقاً.

نعم؛ قد يرجع في كثير من الفروع الفقهية إلى البراءة, ولعلّ الوجه في الرجوع إلى البراءة يرجع إلى إمكان إثبات إطلاق المادة ليشمل الحصة الإختيارية وغير الإختيارية بلحاظ الملاك والمصلحة حتى في فرض عدم التمكن من التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الخطاب كما ذكرناه آنفاً, وإثبات ذلك يكون إمّا لأجل حصول القطع بأنَّ إرادة المكلف لا دخل لها في الملاك والمصلحة؛ لأنَّه لو كان لها دخل لكانت تؤخذ في متعلق الأمر، أو من أجل أنَّ التضييق الحاصل من أخذ القدرة في متعلق الأمر من ناحية الأمر باعتبار أنَّه لا يمكن تعلقه بغير المقدور؛لا أنَّه قبيح, وأنَّ شرط حسن الخطاب أنْ يكون المأمور به مقدوراً، فإنَّه لا يمكن أنْ يكون دخيلاً في المصلحة لأنَّ وجود الأمر معلول للمصلحة فلا يمكن أنْ يكون معلوله علة للمصلحة.

فلو فرض سقوط الخطاب وقصور الأمر عن شموله للحصة غير الإختيارية فلا قصور للملاك والمصلحة نظير ما قيل في باب التزاحم من إمكان إثبات الإجتزاء بالضد المهم

ص: 97

المزاحم بالأهم بناءً على إستحالة الترتب, وذلك بالتمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك وإنْ سقط إطلاقها بلحاظ الخطاب بسبب المزاحمة بالأهم، ولذا جعل السيد الخوئي ذلك نقضاً على المحقق النائيني قدس سره الذي صحَّح التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك في بحث الترتب ومنعه في المقام.

المسألة الثالثة: في الشكِّ في سقوط الوجوب بالحصة المحرمة من مصاديق الواجب؛ فهل الأصل يقتضي التعبدية فلا يسقط بالحصة المحرمة, أو التوصلية بمعنى السقوط ولو كان الواجب في ضمن الفرد المحرم ؟.

فيقع الكلام أيضاً تارةً من حيث الأصل اللفظي. وأخرى من حيث الأصل العملي, والظاهر عدم تعلق الوجوب بالفرد المحرم لدلالة المرتكز العرفي عليه, فلا يكون الفرد المحرم من أفراد الواجب إلا إذا ثبت خلافه بدليل آخر يدلُّ على الإجتزاء ولو في ضمن الحصة المحرمة, وإذا حصل الشكُّ في إسقاطها للوجوب فإنَّه يرجع إلى الشكِّ في إسقاط غير الواجب للوجوب, وحينئذٍ يصحُّ التمسك بالإطلاق في بقاء الوجوب, وهذا هو مقتضى قاعدة الإشتغال أيضاً إذا لم يمكننا التمسك بالأصل اللفظي.

وهذا المقدار يكفي في إثبات الحكم ويغنينا من الرجوع إلى التفصيلات المذكورة في المقام, ولم يذكر السيد الوالد قدس سره هذا القسم في المقام لما سيأتي بحثه في مسألة الإجتماع.

ثم إنَّهم ذكروا وجوهاً:

الوجه الأول: ما ذكره بعض المحققين من أنَّه إمّا أنْ تكون نسبة دليل الحرمة إلى دليل الوجوب نسبة العموم والخصوص المطلق, وإمّا أنْ تكون النسبة العموم من وجه.

فإنْ كان من قبيل الأول, بأنْ كانت الحرمة متعلقة بالمقيد من العنوان الواجب, كما إذا ورد وجوب الغسل بالعنوان المطلق وورد تحريم الغسل بعنوانه المقيد أي بماء المسخّن

ص: 98

مثلاً؛ فإطلاق المادة لا يشمل الحصة المحرمة حتى لو قلنا بجواز إجتماع الأمر والنهي, إذ من يقول بجواز الإجتماع إنَّما يقول به فيما إذا كانا بعنوانين متباينين مفهوماً كالغصب والصلاة.وأمّا إذا كانت الحرمة بعنوان آخر وكانت النسبة بينها وبين دليل الوجوب العموم من وجه فإنَّه بناءً عليه يدخل في مسألة الإجتماع, فإنْ قيل بالإمتناع لم يشمل إطلاق المادة للحصة المحرمة فيتمسك بإطلاق الهيئة لإثبات عدم الإجتزاء, وإنْ قيل بالجواز أمكن التمسك بإطلاق المادة فيثبت الإجتزاء.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من إبتناء المسألة على إشتراط الحسن الفاعلي في الواجب مضافاً إلى حسنه الفعلي, فإنَّه بناءً على ذلك لا يحصل الإجتزاء, لأنَّ الفعل وإنْ كان مصداقاً للواجب والحرام بناءً على الجواز إلا أنَّهما موجودان بإيجاد واحد وفاعلية واحدة فليس له حسن فاعلي، وأمّا إذا قلنا بعدم إشتراط الحسن الفاعلي فلا بأس بإطلاق المادة والحكم بالإجتزاء(1).

ولكن الصحيح أنَّه لا حاجة إلى كلِّ واحد من التفصيلين بعدما عرفت من أنَّ الشكَّ في الإجتزاء بالفرد المحرم يرجع إلى الشكِّ في إسقاط غير الواجب للوجوب, فيرجع فيه إلى إطلاق الهيئة في بقاء الوجوب, مع أنَّ الوجه الثاني غير صحيح في نفسه وعلى فرض إشتراط الحسن الفاعلي فإنَّه يصحُّ التمسك بإطلاق المادة بناءً على جواز الإجتماع, فإنَّ من يقول بالجواز إمّا أنْ يقول بتعدد الوجود؛ فما يكون متعدداً وجوداً يكون متعدداً إيجاداً وفاعلية فيكون الحسن الفاعلي محفوظاً.

ص: 99


1- . أجود التقريرات؛ ج 1 ص102.

وإمّا أنْ يقول بالوجود الواحد لكنه فيه جهتا إجتماع؛ حسن وقبح, وحرمة ووجوب؛ فيمكن أنْ يفرض أنْ تكون الفاعلية الواحدة مجمعاً للحسن والقبح في وقت واحد من جهتين أيضاً.

وأمّا البحث عن الأصل العملي فقد عرفت أنَّ قاعدة الإشتغال تقتضي عدم الإجتزاء بالفرد المحرم, وقيل: أنَّه من الشكِّ في الأقل والأكثر سواءً قيل بامتناع الإجتماع أو بالجواز، أمّا على الجواز فلأنَّه يعلم بتعلق الوجوب بالجامع بين الحصتين ويشكُّ في التقييد بخصوصيته المحللة فتجري البراءة. وأمّا على الإمتناع فإنَّ الشكَّ فيه من الشكِّ في المسقط, لأنَّ تعلق الوجوب بالجامع مستحيل حسب الفرض, غاية الأمر؛ يشكُّ في تقييد الوجوب بعدم الإتيان بالحصة المحرّمة وعدمه, فيكون شكاً في المسقط فيجري فيه ما مضى في الشك في المسقط.

والحقُّ أنَّ الشكَّ في المقام مرجعه إلى الشكِّ في المسقط للوجوب وسببه إسقاط غير الواجب للوجوب, فالقاعدة تقتضي الإشتغال أو الإستصحاب كما عرفت.

هذا هو تفصيل ما أجمله السيد الوالد قدس سره في الأول من الأمور الختامية لهذا المبحث(1).المسألة الرابعة: في التعبدي والتوصلي بالمعنى الرابع من المعاني المتقدمة الذي هو المشهور في العبادات بمعنى عدم سقوطها إلا مع قصد القربة، والتوصلي ما لا يعتبر فيه ذلك. وقبل الخوض في بيان مقتضى الأصل لا بُدَّ من تقديم أمور:

الأمر الأول: في المراد من قصد القربة

قيل: هو عبارة عن قصد الأمر فقط، وقد ذهب إليه جمع من الفقهاء منهم صاحب الجواهر قدس سره , وعلى هذا الأساس أنكر الشيخ البهائي قدس سره الثمرة في بحث الضد

ص: 100


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص69.

باعتبار أنَّ العبادة تتوقف على قصد الأمر, ولا أمرَ بالضد الأهم ولو لم نقل باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص.

وقيل: إنَّ قصد القربة عبارة عن قصد المصلحة والملاك التي هي السبب في الأمر، وقد ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره .

وفيه: إنَّ قصد المصلحة والملاك التي هي العلة للأمر يرجع إلى قصد الأمر، وهكذا قصد كلُّ ما هو واقع في سلسلة معاليل الأمر فإنَّ قصدها بما هي معاليل للأمر يرجع إلى قصده.

وقيل: إنَّه عبارة عن كلِّ ما يكون موجباً لمرضاة الله تعالى والتقرب إليه من الوجوه التي ذكروها في الفقه وأنهاها الشهيد الثاني في الروضة إلى العشرة.

والظاهر هو الأخير؛ لأنَّ الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة لا تدلُّ على أكثر من أنَّ العبادة يلزم أنْ يكون إتيانها إبتغاء مرضاة الله تعالى والتقرب لدى جنابه، فيكون قصد كلّ واحد من تلك الوجوه المذكورة في الفقه يكفي في تحقق العبادة وصدق الإمتثال.

الأمر الثاني: بيان ما يتحقق به التقرب وما به قوام العبادة

ذكر جمع من العلماء أنَّ ما يتحقق به التقرب إلى الله تعالى هو إتيان الفعل لمجرد إبتغاء مرضاته عَزَّ وَجَلَّ, وهو يتحقق بإتيان الفعل بالدواعي القربية المعروفة كداعي أهلية المولى, أو الشكر والتخضع والمصلحة, أو تحصيل الثواب, أو الفرار من العقاب, لأن المستفاد من الأدلة اللفظية هو كون العبادة لابتغاء مرضاة الله عَزَّ وَجَلَّ كما عرفت آنفاً.

وذهب المحقق الإصفهاني قدس سره إلى أنَّ التقرب لا يتحقق إلا بإتيان الفعل بداعي الأمر, لأنَّ به يتعنون الفعل بعنوان حسن وهو موجب لاستحقاق الثواب وذلك لأنَّ إستحقاق المدح والثواب عقلاً على شيء يتوقف على أمرين:

أولاً: أنْ ينطبق عنوان حسن بالذات أو بالعرض على ذلك الشيء, وإلا فإنَّ مجرد المشي إلى السوق مثلاً لا يمدحه العقلاء ما لم يتعنون بعنوان حسن حتى لو جيء به بداعي الأمر,

ص: 101

لأنَّه لا يوجب المدح ما لم يوجب تعنون الفعل بعنوان حسن.

ثانياً: أنْ يؤتى به مضافاً إلى من بيده ومن يستحق من قبله الثواب والمدح, فإنَّ الفعل بدون إرتباطه بالمولى تكون نسبته إليه وإلى غيره على حدٍّ سواء، فلا بُدَّمن أنْ يكون مرتبطاً بالمولى, وهو إمّا أنْ يتحقق بنفس الفعل كتعظيم المولى, أو بواسطة الأمر كالصلاة, فإنَّها بنفسها لا يمكن ربطها بالمولى لأنَّها ليست من الأفعال المضافة إلى الغير كالتعظيم.

وعليه؛ فالإتيان بالفعل بداعي الأمر يكون موجباً لاستحقاق المدح, لأنَّه بذلك يتعنون لما هو حسن في نفسه وهو الإنقياد والإحسان مع ارتباطه بالمولى بقصد أمره, أمّا الإتيان به بالدواعي القربية الأخرى التي ذكرناها فلا يوجب مدحاً ولا ثواباً, ثم ذكر تفصيل ذلك فراجع كتابه نهاية الدراية(1).

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ الإستحقاق تارةً يتحقق من ثبوت حقٍّ للمستحق على من عليه الحقّ كما في الدين والمعاملات المعاوضية كالبيع والإجارة ونحوهما, وأخرى يتحقق من أجل قابلية المستحق لما إستحقه ولياقته بحيث لا يكون المدح إرتجالياً، بمعنى أنَّه لو أعطي ذلك كان في محله لا أنْ يكون له حقَّاً لازماً في عهدة غيره.

والمراد بالإستحقاق في المقام هو الثاني لا الأول، وبه يمكن الجمع بين القول بأنَّ الثواب على العمل من باب الإستحقاق, والقول بأنَّه تفضُّل من المولى, ولا ريب أنَّ هذه اللياقة في العبد إنَّما تحصل من مقتضيات من جملتها كون الفعل الذي يأتي به ذا وجه حسن عند العقلاء بحيث إذا مدحوه عليه صار لائقاً لنيل الثواب؛ والشارع الأقدس سيد العقلاء وخالقهم, فلا يحتاج العبد حينئذٍ أنْ يأتي بالفعل مرتبطاً إلى المولى كما ذكره المحقق الإصفهاني وإنْ كانت إضافته إلى المولى مِمّا يوجب مزيد الحسن لا أنْ يكون منحصراً فيه.

ص: 102


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص129.

ومن ذلك يظهر أنَّ النزاع لفظي, إذ لم يوجد مورد من الأفعال التي تعلّق بها الأوامر هي خالية من الحسن وإنْ كان إدراكه يحتاج إلى تأمل لكن عدم دركه ليس دليلاً على نفيه عنها.

الأمر الثالث: المعروف أنَّ كلَّ ما هو متأخر عن الأمر لا يمكن أنْ يكون متعلقاً للأمر

وقد إستدلوا على ذلك بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ نسبة المتعلق إلى الأمر نسبة المعروض إلى عرضه كما هو الأمر في نسبة الموضوع إلى الحكم، أي المكلف مع التكليف وشروطه.

ومتعلق التكليف يعني فعل المكلف, ومتعلق المتعلق في الموضوعات التي يتعلق بها فعل المكلف، وموضوع التكليف هو المكلف مع شرائط التكليف؛ ككونه عاقلاً وحراً وبالغاً وغيرها مِمّا أخذها الشارع في بعض موضوعات التكاليف, فإنَّ كلَّ واحد من هذه الثلاثة في رتبةٍ متقدمة من الحكم, فتكون نسبة الحكم إليها نسبة العرض إلى معروضه فلا يمكن أنْ يكون الحكم متقدماً على أحد هذه الأمور,فكلُّ ما هو متأخر عن الحكم لا يمكن أنْ يؤخذ في متعلق الحكم أو في متعلق المتعلق أو موضوعه لا جزءً ولا قيداً.

ولكن هذا الكلام يصح في الإنقسامات الأولية؛ وذلك أنَّ متعلق الحكم له إنقسامات قبل عروض الحكم عليه, وهي التي تحصل بطروِّ الحالات والخصوصيات من غير ناحية ورود الحكم عليه، ففي قولنا: (أكرم زيداً) فإنَّ الإكرام تارةً يكون بالتواضع, وأخرى بالإستقبال إذا قدم من السفر, وثالثة بالإطعام, ورابعة بمساعدته وإعانته, وغير ذلك من الإنقسامات الواردة على نفس الإكرام مع غضِّ النظر عن الحكم، ولا فرق في مثل هذه الإنقسامات بين متعلق الحكم, أو متعلق المتعلق, أو موضوع التكليف, وقد إصطلح العلماء عليها بالإنقسامات الأولية, ويقابلها الإنقسامات الثانوية؛ الحاصلة من ورود الحكم عليها باعتبار أنَّها لم ترد على تلك الأمور أولاً وبالذات بل ثانياً وبالعرض, فقد ورد عليها من ناحية الحكم.

ص: 103

فالضابط الكلي فيها أنَّ الحكم يشمل جميع الإنقسامات الأولية في مقام الثبوت لو كان الملاك والمصلحة مطلقة, بخلاف الإنقسامات الثانوية -كقصد القربة- التي ترد على المتعلق، أو العلم بالحكم أو الجهل به الواردين على الموضوع فلا يمكن شمول الحكم لها بإرادة واحدة وجعل واحد.

وقد ذكروا في وجه ذلك بأنَّ متعلق المتعلق كالموضوع للتكليف لا بُدَّ أنْ يفرض وجودهما على نحو القضايا الحقيقية في مقام جعل الأحكام الشرعية وإنشائها، فإذا أمر الشارع الإنسان العاقل البالغ الحر المستطيع أنْ يقف في عرفات أو المشعر في زمان معين أو الطواف حول البيت الشريف وغيرهما من سائر أفعال الحج مِمّا لها مساسٌ بفعل خارجي ففي مثل ذلك لا بُدَّ أنْ يفرض وجود الموضوع والمكلف بجميع شروطه كالعقل والبلوغ والإستطاعة والحرية فرضاً واقعياً, ويكون مفروض الوجود خارجاً في الرتبة السابقة على الحكم, فيرد عليه الجعل والإنشاء, فلا بُدَّ لكلِّ حاكم وآمر أنْ يلاحظ موضوع حكمه في الرتبة السابقة على الحكم، ويتَّضح ذلك في القضايا الشخصية عند كلِّ شخص.

ومن ذلك يظهر أنَّه إذا كان قصد الأمر بنفسه مأموراً به فيكون القصد المزبور متعلقاً للتكليف والأمر متعلق المتعلق، كحال عرفات والبيت الشريف؛ فلا بُدَّ أنْ يفرض وجود الأمر في الخارج في الرتبة السابقة على الأمر المتعلق بقصد الأمر حتى يأمر به، والمفروض أنَّ الأمر الذي هو متعلق المتعلق ليس إلا هذا الأمر الذي هو الحكم المتعلق بقصد الأمر جزءً وشرطاً, فيلزم أنْ يفرض وجود الأمر قبل وجوده فرضاً حقيقياً واقعياً؛ وهو محال.

هذا في مرحلة الجعل والإنشاء.

وكذلك الأمر في فعلية الحكم؛ فإنَّ فعلية الحكم تبعٌ لفعلية موضوعه ومتعلق متعلقه، فلا يصير وجوب إكرام العالم مثلاً فعلياً إلا بعد فعلية وجود العالم فيالرتبة السابقة، وعليه؛

ص: 104

فلا يمكن أنْ يصير الأمر المتعلق بقصد الأمر فعلياً إلا أنْ يكون وجود الأمر الذي هو متعلق المتعلق فعلياً في الرتبة السابقة، ولازم ذلك أنْ يكون فعلية الأمر منوطة بفعليته, أي وجوده منوطاً بوجوده في الرتبة السابقة؛ وهذا محال.

وهكذا في مقام الإمتثال؛ لأنَّ معنى الإمتثال هو أنْ يأتي بتمام المأمور به بقصد إمتثال أمره المتعلق بمجموع المأمور به, والمفروض أنَّ قصد الأمر الذي هو قصد الإمتثال جزء للمأمور به فيلزم منه أنْ يأتي قصد الأمر بقصد الأمر, فيكون الداعي والمدعو إليه شيئاً واحداً؛ وهذا محال أيضاً.

ومنشأ هذه المحالات الثلاثة هو أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر الذي يستلزم منه تقدم الشيء على نفسه في المقامات الثلاثة, أي مقام الجعل والإنشاء, ومقام الفعلية, ومقام الإمتثال, فلا يمكن أنْ يؤخذ قصد الأمر شرعاً.

الوجه الثاني: إنَّه يستلزم منه أنْ يكون قصد الأمر داعياً ومحركاً لمحركية نفسه وداعويته، وهو مساوق لعلية الشيء لعلية نفسه لأنَّ المفروض أنَّ قصد الأمر داعٍ ومحرك إلى إيجاد متعلقه كما ذكرنا, فلو كان جزء من المتعلق هو محركية الأمر نحو المتعلق فإنَّه يستلزم أنْ تكون محركيته نحو إيجاد هذا الجزء, أي محركية الأمر نحو المتعلق علة لإيجاده فتكون محركية الأمر بما هو جزء للمتعلق صار معلولاً لمحركية الأمر بما هو علة لإيجاد المتعلق، ومن المعلوم أنَّه لا معنى لمحركية الأمر إلا عليته فصارت عليته سبباً لعليته.

الوجه الثالث: إنَّ الأمر إنَّما تعلق بمجموع الصلاة -مثلاً- المأتي بها بقصد الأمر, والمفروض أنَّ الأمر قد تعلّق بمجموع القيد والمقيّد اللذين لهما وجود واحد إذ ليس لذات الصلاة أمر، ولقيدها وهو إتيانها بداعي أمرها وجود آخر حتى نقول بالإنحلال، فلا يمكن إتيان المجموع بقصد الأمر المتعلق بالمجموع, لما تقدم من أنَّه يرجع إلى إتيان

ص: 105

قصد ذلك الأمر الشخصي بقصد ذلك الأمر الشخصي, فيكون الداعي والمدعو إليه شيئاً واحداً.

الوجه الرابع: استلزامه الدور وذلك لأنّ الأمر يتوقف على متعلقه وقصد الأمر يتوقف على ثبوت الأمر فأخذه في متعلق الأمر يستلزم فرض توقف الأمر عليه فيلزم الدور.

ولأجل ذلك اعتبر جمع من الأصوليين أن اعتبار قصد الأمر في متعلق العبادة جزءً أو شرطاً إنَّما يكون عقلياً ويمنع أن يكون شرعياً لاستحالته وإن تصدى بعضهم الجواب عنها مما يفتح الباب لجعل قصد الأمر في العبادة أمراً شرعياً كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

الأمر الرابع: ذكروا أنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد اللحاظيين في المقام تقابل العدم والملكة, وذلك أنَّه تارةً يكون لحاظه هو الإطلاق بمعنى أنْ لا يقيد متعلقأمره بقيد وخصوصية مع إمكان ذلك التقييد فيستكشف من ذلك أن نظره تعلق بالطبيعة المرسلة من دون مدخلية قيد وخصوصية في مقصده ومراده لتساوي غرضه بالنسبة إلى جميع الخصوصيات.

وأخرى إذا تعلّق نظره بإيجاد الطبيعة مقيدة بقيد أو خصوصية لها دخل في غرضه, وهو لا يخلو؛ إمّا أنْ يكون التقييد في مقام البعث ممكناً فإنَّه لا بُدَّ من تقييدها بتلك الخصوصية.

وإمّا أنْ لا يكون التقييد بذلك ممكناً فلا بُدَّ أنْ يتوسل إلى تحصيل غرضه بجعل آخر يكون متمماً للجعل الأول, وهو وإنْ لم يكن تقييداً لحاظياً ولكنه ينتج نتيجة التقييد.

ومن ذلك يظهر أنَّ إستكشاف الإطلاق من إرسال الأمر بالطبيعة وعدم تقييدها إنَّما هو فيما إذا أمكن التقييد, وأمّا إذا لم يمكن التقييد فلا يمكن إستكشاف الإطلاق من عدم التقييد, إذ من المحتمل أنْ يكون عدمه لعدم إمكانه لا لإرادة الإطلاق, بل تكون محالية الإطلاق لأجل محالية إرادة التقييد, فيكون في الإطلاق اللحاظي لحاظ كلا طرفي وجود

ص: 106

القيد وعدمه، والمفروض أنَّ لحاظ وجوده في المتعلق محال لأجل تلك المحاذير التي ذكرناها في التقييد, فهي تأتي في الإطلاق أيضاً.

والحاصل: إنَّ الشيء بالنسبة إلى الواقع الذي فيه الملاك والمصلحة مِمّا يتعلق به الغرض لا يمكن أنْ يكون مهملاً بل إمّا مطلق أو مقيد, وفي عالم البعث والتحريك فإنَّه يمكن أنْ يكون مهملاً ولا يكون مطلقاً أو مقيداً؛ لأجل عدم إمكان كونه مقيداً فلا بُدَّ أنْ لا يكون مطلقاً لامتناعه بامتناع التقييد, فإذا كان الملاك مطلقاً ولا يمكن الإطلاق اللحاظي فلا بُدَّ أنْ يتوسل إلى تحصيله بجعل آخر متمم للجعل الأول حتى ينتج نتيجة الإطلاق, وقد خالف جمع أيضاً في هذا الأمر, لأنَّهم أبطلوا المحاذير السابقة, فأمكن التقييد فصحَّ الإطلاق, فخرج التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة.

وبعد بيان تلك الأمور لا بُدَّ أنْ نعرف الكلام في مناقشة تلك المحاذير:

أمّا محذور الدور فقد قيل في دفعه وجوهٌ ترجع إلى رفع التهافت وإيجاد الإختلاف بين المتوقف والمتوقف عليه في الحيثية والجهة, وهذه الوجوه هي:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من أنَّه يثبت في المورد وأمثاله مِمّا يرد فيه محذور التهافت والدور, كما في حجية الخبر مع الواسطة كما سيأتي في محله بالدليل؛ حكمين طوليين بإنشاء واحد بحيث يكون أحدهما المتقدم منهما موضوعاً ومتعلقاً للمتأخر منهما, فينشأ المولى وجوبين طوليين بإنشاء واحد كلي ينحلُّ إلى وجوبين؛ أحدهما أمر ضمني بذات الصلاة وهذا لم يؤخذ في موضوعهأمرٌ آخر، وأمر ضمني آخر بقصد الأمر، يكون الأمر الضمني الأول محققاً لموضوع الأمر الثاني فلا يلزم شيء من المحذورات المتقدمة(1).

ص: 107


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص77.

وأورد عليه:

أولاً: إنَّه إنْ أُريد تصوير أخذ قصد الأمر في موضوع شخصه بنحو لا يكون هناك أكثر من أمر واحد فالأمر الضمني بالصلاة مع الأمر الضمني بقصد الأمر كلاهما ضمنيان بلحاظ عالم الجعل والمجعول معاً فلا يعقل أنْ يكون أحدهما مأخوذاً في موضوع الآخر لأنَّه خلف الضمنية؛ فإنَّ الأوامر الضمنية يكون موضوعها جميعاً واحداً, فلا يعقل أنْ يكون موضوع أحدهما غير موضوع الآخر أو في طوله.

وإنْ أُريد تصوير أمرين طوليين إستقلاليين لكنهما مجعولان بجعل واحد وذلك عن طريق تصوير جامع ويشير المولى به مثلاً إلى مجموعة الإجزاء والشرائط بما فيها قصد الأمر ويأمر بكلِّ ما هو مقدور منها فتجب سائر الأجزاء والشرائط بالقدرة التكوينية، ويجب قصد الأمر في طول وجوب تلك الأجزاء والشرائط، ولكنه مجرد فرض خلاف ما هو الواقع في الأوامر العبادية.

ثانياً: إنَّه إنْ تمَّ في مسألة حجية الخبر مع الواسطة باعتبار أنَّ الحكم فيها وإنْ كان واحداً بلحاظ عالم الجعل لكنه منحلٌّ بلحاظ عالم الفعلية والمجعول إلى أحكام عديدة مستقلة, فيعقل أنْ يحقق أحدهما موضوع الآخر.

وأمّا في المقام فلا يتمّ؛ فإنَّ الأمر الضمني بالصلاة مع الأمر الضمني بقصد الأمر كلاهما ضمنيان بلحاظ الجعل والمجعول معاً كما عرفت, فلا يقاس المقام على تلك المسألة.

فالحَقُّ أنْ يُقال: إنَّه يمكن أنْ يكون مراد القائل بذلك مجعولان في عالم التصور واللحاظ لدفع الشبهات المذكورة في إمكان أخذ قصد القربة في الأمر وإنْ لم يكن في الخارج إلا أمراً واحداً في عالم الجعل والمجعول, فلا يضر التمسك بأصالة التوصلية أو التعبدية في مدلول الأوامر المتعلقة بفعل من الأفعال ولا يرد عليه ما ذكر, أو يكون مقصوده أمران نفسيان لا ضمنيان كما سيأتي؛ وإنْ كان بعيداً عن ظاهر كلامه قدس سره .

ص: 108

الوجه الثاني: إختلاف المتأخر والمتقدم بالحيثية والجهة, فإنَّ وجود قصد إمتثال الأمر في الخارج يتوقف على الأمر، والأمر يتوقف على الوجود الذهني والعنواني لقصد الأمر في ذهن الحاكم, فيكون المتقدم إنَّما هو لحاظ الأمر بما هو طريق إلى الخارج, وما هو المتأخر نفس الأمر الخارجي الصادر من الآمر. فلا دور ولا تهافت حينئذٍ.الوجه الثالث: إنَّ الدور في مقام الإمتثال أيضاً مرفوع باختلاف الحيثية والجهة أيضاً, فما هو قيد للعمل إنَّما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى جعل الآمر, وما هو المتأخر إنَّما هو قصد الأمر من حيث الإضافة إلى الممتثل.

وأمّا محذور تقدم وجود الأمر على إنشائه في المقامات الثلاثة؛ مقام الجعل, والفعلية, والإمتثال؛ فقد ذكر السيد الخوئي في رفعه بأنَّه لا برهان على لزوم أخذ متعلقات المتعلق موضوعاً للحكم ومفروغاً عنه في رتبة سابقة على الحكم إلا بملاكين؛ أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي.

أمّا الملاك الإثباتي؛ فإنَّه يتحقق فيما إذا كان لسان الدليل ظاهراً ولو كان عرفاً في أخذ متعلق المتعلق بنحو مفروغ عنه, كما في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)(1), أو من قبيل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2)؛ الذي يستظهر منه العرف كون العقد مفروغاً عنه ليكون من مقدمات الوجوب لا من مقدمات الواجب وإلا لوجب إيجاد عقد للوفاء به، وفي غير ذلك لا دليل على كونه مفروغاً عنه.

وأمّا الملاك الثبوتي؛ فهو فيما إذا كان متعلق المتعلق خارجاً عن إختيار المكلف, من قبيل الوقت والقبلة؛ فإنَّه إذا لم يفرض مفروغاً عنه وقيداً للحكم لزم من إطلاق الأمر لزوم

ص: 109


1- . سورة آل عمران؛ الآية 97.
2- . سورة المائدة؛ الآية 1.

تحصيله, وهو تكليف بغير المقدور, فإذا قال المولى (صلِّ عند الزوال) فإنَّه إنْ لم يؤخذ الزوال قيداً لوجوب الصلاة كان معناه وجوب الصلاة في الزوال حتى قبل تحقق الزوال وهو غير مقدور للمكلف, فلا بُدَّ أنْ يؤخذ ذلك قيداً للحكم.

وأمّا إذا لم يؤخذ شيء من الملاكين فلا موجب لأخذ متعلق المتعلق مفروض الوجود, بل يكون التكليف مطلقاً من ناحيته.

وفي المقام -وهو قصد الأمر- لم يقع متعلقاً للمتعلق من هذا القبيل, ولم يوجد شيء من الملاكين من التقييد، أمّا الإثباتي فهو واضح, وأمّا الثبوتي فلأنَّ الأمر وإنْ كان غير إختياري للمكلف ولكنه يوجد بنفس خطاب الأمر, فلا موجب لتقييد الخطاب به وإلا كان غير مقدور.

وأشكل عليه بأنَّه إنْ كان الإشكال عليه من ناحية مقام الثبوت فإنَّ المحقق النائيني قدس سره (1) يفرض الكلام في ضرورة وجود متعلق المتعلق المستفادة من إدراك العقل.

والبحث الثبوتي لا يلاحظ فيه الدليل الخارجي وما يستفاد منه, لأنَّ البحث في مقام الثبوت عن الضرورة والإمكان بحسب ما يدركه العقل, ولا ريب أنَّه مع الغفلة عن الدليل الخارجي وإنْ كان الإشكال عليه في مقام الإثبات, أي أنَّ معرفةكون الشيء مفروض الوجود والكشف عنه لا بُدَّ أنْ يكون بدليل العقل أو بالدليل الشرعي, وهو وإنْ كان صحيحاً ووجيهاً إلا أنَّ ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من البرهان العقلي في الأمور غير الإختيارية لا يفي بإثبات فرض الوجود فيها, لأنَّ محصل دليله يرجع إلى أنَّ التكليف بها يكون من التكليف لغير المقدور كما هو واضح, فلا بُدَّ أنْ يكون الحكم مترتباً على وجوده وتحققه, أي يكون مفروض الوجود.

ص: 110


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص106 - 108.

ولكن يرد عليه بأنَّ المعروف بين الأصوليين -ومنهم السيد الخوئي- إعتبار القدرة على المكلف به من الشرائط العامة المأخوذة في موضوع الحكم, فالحكم لا يصير فعلياً بدون القدرة على إمتثاله، وحينئذٍ لا وجه ولا ملزم لأخذ الأمور غير الإختيارية في موضوع الحكم بملاك لزوم التكليف بما لا يطاق بدونه بعد كون القدرة عند السيد الخوئي قدس سره من الشرائط العامة المأخوذة من موضوع الحكم, فتكون هذه الأمور محصلاً للقدرة؛ فاشتراطها يغني عن إشتراط تلك الأمور وتحقيقها.

وذكر بعض الأعلام بعض الوجوه تأييداً لما ذكره المحقق النائيني قدس سره وغيره مِمّا ذكر في إستحالة أخذ قصد الأمر في متعلق نفسه؛ وهي لا تخلو من مناقشة:

أولاً: إنَّ وجود الأمر وحده غير كافٍ في القدرة على قصد الأمر, بل لا بُدَّ من وصوله ولو بأدنى مراتبه -وهو الإحتمال- إذ لولاه لا يتأتى من المكلف قصد الأمر إلا على نحو التشريع المحرم, ووصول الأمر غير إختياري, ولا يكون مجرد ثبوت الأمر متكفلاً لحصوله, لا سيما بعد كون الخطابات الشرعية المجعولة من قبيل القضايا الحقيقية, فلا بُدَّ من أخذ وصوله قيداً في الأمر وشرطاً مفروغاً عنه، وهذا هو الملاك الثبوتي الذي إعترف به السيد الخوئي, وبعد انضمام ما سيأتي في بحث القطع من إستحالة أخذ وصول الحكم في موضوع شخصه، فيتمُّ ما ذكر من إستحالة أخذ قصد الأمر في متعلق نفسه على أساس لزوم التهافت والدور الذي ذكره المحقق النائيني قدس سره وإنْ كان الفرق بين ما يذكره من أنَّه يقرر ذلك بلحاظ أخذ الأمر في موضوع نفسه, وهذا التقرير يكون بلحاظ أخذ وصول الأمر في موضوع نفسه.

وفيه: إنَّ التكليف بما هو إعتبار كالملاك له من الإطلاق ما يشمل موارد وصول التكليف وعدم وصوله, لأنَّ الغرض من التكاليف ليس وصولها إلى المكلفين كما يُدَّعى, بل

ص: 111

المقصود منها ليس إلا الداعوية والمحركية كما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره , ولذا كان قصد الأمر ليس إلا لأجل الداعوية والمحركية, فإطلاق التكاليف يشمل موارد الجهل المركب وعدم تقييدها بوصولها, ولا يلزم منه محذور إلا فعلية التكليف في مورد لا يمكن أنْ يكون باعثاً ومحركاً ولكنه مختَّصبما إذا كان عدم المحركية تكوينية, ولا يشمل ما إذا كان من ناحية الجهل الذي ذهب الجميع إلى صحة التكليف في موارد الجهل, فلا وجه لدعوى قصور إطلاق التكليف, مع أنَّك عرفت في البحوث السابقة أنَّ الغرض لا ينحصر فيما ذكره المحقق النائيني قدس سره فلا يشترط في التكاليف وصوله إلى المكلف.

ثانياً: إنَّ الأمر وإنْ كان في مرحلة التصور وأفق الذهن معروضاً في الحقيقة على عنوان قصد الأمر لا واقعه ومعنونه الذي هو في طول الأمر, وبهذا أجبنا عن شبهة الدور كما عرفت سابقاً؛ لكن الآمر إنَّما يأمر بالعنوان باعتبار أنَّه فانٍ في المعنون وحاكٍ في الخارج، فهو يرى من خلال العنوان المعنون والخارج، وبذلك يقع التهافت في نظره.

وفيه: إنَّ التفكيك بين العنوان والمعنون وأنَّ الأول موطنه الذهن والآخر الخارج يقتضي التفكيك لا محالة, وهو كافٍ في رفع التهافت, وأمّا كون أحدهما مرآة للآخر فهو مقتضى العنوانية, وهذا يكون في مرحلة أخرى وإلا إذا تحقق الإتّحاد بينهما فقد خرج عن مفروض الكلام.

ثالثاً: إنَّ قصد إمتثال الأمر عبارة أخرى عن محركية الأمر لإيجاد الداعي والإرادة لإتيان الفعل في نفس المكلف, وإنَّ التكليف عبارة عن الخطاب والإعتبار الذي يجعل بداعي المحركية والباعثية نحو متعلقه، ولهذا لم يكن شاملاً للعاجز؛ إذ لا يعقل المحركية والباعثية فيه، وعليه؛ لا بُدَّ أنْ يكون الأمر صالحاً للمحركية.

وبناء على ذلك يقال بأنَّ الأمر الضمني بقصد إمتثال الأمر لا يعقل أنْ يكون محركاً وباعثاً نحو ما تعلق به, لأنَّ الأمر بذات الفعل إنْ كان كافياً للتحريك وانقداح الإرادة في نفس

ص: 112

المكلف فهو عبارة أخرى عن قصد الإمتثال, ومعه لا يبقى مجال لتعلق الأمر الضمني الثاني للداعوية والمحركية لا تأسيساً ولا تأكيداً، وإنْ لم يكن الأمر الضمني بذات الفعل كافياً لتحرك المكلف فلا فائدة في الأمر الضمني بقصد الأمر, لأنَّهما أمر واحد بحسب الفرض.

وفيه: ما عرفت من أنَّه ليس الغرض من التكاليف منحصراً في إيجاد الداعوية والمحركية في نفس المكلف, بل الغرض تحصيل ملاك الأمر المحبوب والمصلحة، وقصد الأمر إنَّما هو طريق لحفظ ذلك الملاك، فلو حصل -ولو من داعي الأمر- حصل المطلوب والغرض, وربما يكون الغرض هو الأمر الثاني الضمني لبيان هذه الجهة.

رابعاً: ما ذكر في تفسير عبارة المحقق الإصفهاني قدس سره الذي قال بأنَّ أخذ قصد الإمتثال في الأمر يستلزم داعويته ومحركيته نحو محركية نفسه(1), وذكر وجوهاًثلاثة في تصوير ذلك وقال بأنَّها مستحيلة, وكلامه قدس سره لا يخلو من إغلاق وهي مبنية على تسليم كون الغرض من الأوامر هو المحركية وانقداح الإرادة في نفس المكلف, وقد ذكرنا فساده؛ فإنَّه ليس الغرض منحصراً في ذلك, وعلى فرضه فإنَّه تامٌّ في الأوامر الإستقلالية دون الأوامر الضمنية فإنَّ الأمر الضمني المتعلق بقصد القربة ليس لأجل المحركية بل لأجل التحفظ على الملاك المحبوب.

والحاصل: إنَّ شيئاً مِمّا ذكر في مناقشة ما ورد في إستحالة أخذ قصد إمتثال شخص الأمر في متعلقه غير تام, ولا ريب أنَّ تلك الأدلة التي إستدلَّ بها على وجه الإستحالة وردودها هي من الأمور العقلية والمباحث الفلسفية الدخيلة في علم الأصول الذي يبتني جُلّ مباحثه على التصورات الحاصلة من المرتكزات والمباني العقلائية والفهم العرفي من

ص: 113


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص134.

النصوص الإسلامية التي تتَّصف بالعقلانية والبساطة وابتعادها عن التعقيدات المذكورة في غيره من سائر العلوم العقلية.

ولقد فقدت تلك البساطة والعقلائية في علم الأصول عند دخول تلك المباحث الفلسفية وإقحام الأمور العقلية الصرفة فيه، ومِمّا زاد الأمر تعقيداً جعل الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية من الأمور الحقيقية والعقلية وترتيب آثارها عليها مع أنَّها ليست إلا إعتبارات يعتبرها المولى كالحجية وغيرها من الأحكام الوضعية, ففي الموضوع المبحوث عنه فإنَّ المعتبر المولى الحكيم يعتبر الأوامر التعبدية أنْ يكون بقصد الأمر لأنَّ الغرض المترتب على مثل هذه الأوامر لا يمكن أنْ يتحقق إلا بهذه الصيغة، وربَّما يكون ذلك بتصوير أمرين ضمنيين أحدهما تعلق بذات الفعل والآخر لأجل حفظ الملاك تعلق بقصد القربة, ولعلَّ ما ذكروه في رفع الإستحالة المزعومة إنَّما ينبع من هذا المرتكز العرفي عندهم ولكنهم أخطأوا الطريق حيث أدرجوه في مباحث عقلية بحتة.

هذا كلُّه في أخذ قصد القربة بمعنى قصد إمتثال شخص الأمر في متعلقه.

وأمّا في غير هذا المعنى فقد قالوا في تصويره وجوهاً:

الوجه الأول: أنْ يؤخذ في متعلق الأمر قصد طبيعي الأمر لا شخصه، والطبيعي قابل للإنطباق على شخص ذلك الأمر، وهو وإنْ سلم من بعض وجوه الإستحالة المتقدمة ولكن الإشكال لا يرتفع, فإنَّ الأمر بقصد إمتثال طبيعي الأمر كالأمر بقصد إمتثال شخصه في الإستحالة من حيث الوجوه التي ذكرها السيد الصدر قدس سره ؛ وقد عرفت الجواب عنها.

الوجه الثاني: ما نقله المحقق النائيني قدس سره عن أستاذه المجدد الشيرازي؛ (فإنَّه قال: إذا إستحال أخذ قصد الإمتثال لكن يؤخذ عنوان ملازم لقصد الإمتثال)(1).

ص: 114


1- . فوائد الأصول؛ ج1 ص152.

وأورد عليه بأنَّه ليس هناك ملازم لقصد الأمر دائماً بل هو خلاف الواقع, ولو فرض التسليم فالمتلازمان وإنْ إستحال التفكيك بينهما في الخارج إلا أنَّه لا إستحالة في فرض التفكيك بينهما، فيلزم إطلاق الأمر العبادي المجعول على نهج القضايا الحقيقية لمثل هذا الفرض وهو خلف غرض المولى.

وقد ردَّ كِلا الإعتراضين:

أمّا الأول؛ فلأنَّه يمكن فرض عنوان ملازم لقصد الإمتثال دائماً, وهو العنوان السلبي أي عدم صدور الفعل بداعٍ دنيوي أو نفساني, فإنَّه يلازم خارجاً عند تحقيق المكلف للفعل عند الإمتثال, لأنَّ الفعل لا يصدر من الإنسان بلا داعٍ.

والحَقُّ أنْ يُقال أنَّ العنوان الملازم له يمكن تصويره, فإنَّه أمر سهل من دون تعقيد ولا تصل النوبة إلى جعله أمراً سلبياً.

وأمّا الثاني؛ فلأنَّ شمول الأمر لفرض التفكيك بين المتلازمين إنْ تحقق الغرض فيه فلا إستحالة فيه, وإنْ لم يكن فيه الغرض فلا يشمله، مع أنَّه يستحيل فرض التفكيك لعدم الإنفكاك عن العنوان الملازم دائماً ولو كان أمراً سلبياً, فلا إشكال فيما ذكره السيد قدس سره من هذه الناحية ولكن أورد عليه ببعض الوجوه المتقدمة التي عرفت عدم تماميتها.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره في مقام الجواب عن محذور أخذ قصد الأمر في متعلقه من جعل الأمر متعلقاً بالحصة التوأمة مع قصد الأمر بحيث يكون القيد والمقيد خارجين عن متعلق الأمر، وهو لا يمكن أنْ يكون محركاً نحو ما تعلق به محركية زائدة على محركية الأمر بذات الفعل, وهذا هو ذات الحصة التوأم مع القيد، ويكون التقييد مشيراً إلى ذات المقيد(1).

ص: 115


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص80.

وقد أشكل عليه بأنَّ ذلك لا يحلُّ الإشكال, لأنَّ إتيان المكلف بالحصة التوأم مع قصد الإمتثال يتوقف على قصد الأمر المتوقف على وصول الأمر, فلا بُدَّ من أخذه في موضوعه. وقد عرفت سابقاً بأنَّه خروج عن محلِّ البحث وهو أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بأمر واحد.

الوجه الرابع: إنَّه لا ملزم بأنْ يؤخذ قصد القربة بعد عدم إمكانه، فيؤخذ في متعلق الأمر العبادي أحد القصود الأخرى غير قصد القربة، وهي قصد المحبوبية والإرادة, وقصد المصلحة والملاك, وقصد كونه حسناً ذاتاً, وقصد كونه سبحانه وتعالى أهلاً للعبادة.

وقد نوقش هذا الوجه بعدة وجوه أهمها(1):

1- إنَّ الوجه الثالث والرابع لا بُدَّ من إرجاعهما إلى الوجهين الأوليين لأنَّهما متوقفان على أنْ يكون الفعل عبادة وحسناً في المرتبة السابقة حتى يمكن أنْ يؤتى به بأحد هذين الداعيين, فلا يمكن أنْ تنشأ عباديته منهما.

وفيه: إنَّ عبادية فعل إنَّما تأتي من حسن إضافته إلى الله تعالى, وهو يتحقق بأحد الوجهين المزبورين, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

2- عدم إمكان أخذ قصد المحبوبية أو المصلحة والملاك من الناحية الفقهية باعتبار أنَّه لو أُخذا وكانا موجبين لتحرك المكلف من مجرد المصلحة أو المحبوبية فلازم ذلك عدم إجزاء ذلك التحرك لأنَّه يجب أنْ يكون تحركه من مجرد المحبوبية أو الملاك, إلا إذا أخذ الجامع بينه وبين قصد الأمر.

ص: 116


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص86 ومابعدها.

3- إنَّ قصد المصلحة والملاك بالخصوص إنْ كانت راجعة إلى العبد لا إلى المولى لا يكون قصدها مضافاً إلى المولى, ولا من أجله لكي يكون مقرباً إلا إذا جيء بها باعتبار إهتمام المولى وإرادته لها من العبد؛ فيرجع إلى الإرادة والمحبوبية.

وأمّا قصد الجامع بين قصد ذلك وقصد الأمر، الذي هو المتعين فقهياً على تقدير إمكانه أصولياً, فهو وإنْ سلم من بعض الإشكالات المتقدمة ولكنه إنْ تعلق به أمر آخر مع الأمر بذات الفعل.

ويرد عليه: إنَّه إذا كان الأمر محركاً كان الجامع حاصلاً, وإنْ لم يكن محركاً فلا يفيد الأمر الضمني بأحد القصود القريبة للتحريك، فيلزم محذور عدم محركية زائدة في الأمر الضمني بقصد القربة أو كونه تحصيلاً للحاصل.

وفيه: ما عرفت سابقاً من الجواب عن هذا الإشكال؛ من أنَّ الأمر الضمني لأجل حفظ المحبوبية والملاك لا لغرض المحركية حتى يستلزم ما ذكر.

فالحقُّ أنَّه لا مانع من أخذ قصد القربة بأحد القصود المذكورة وتكفي في عبادية الفعل حسن إضافته إلى الله تعالى, وأنَّ الملاك والمصلحة وإنْ كانت راجعة إلى العبد إلا أنَّ الله تعالى وفَّق العباد بتحريكهم نحو إدراكها, ويكفي ذلك في إنتساب الفعل إليه عَزَّ وَجَلَّ بقصدها, فيكون مقرّباً إليه عَزَّ وَجَلَّ فلا نحتاج إلى إرجاع هذا القصد إلى الأول والثاني من القصود المتقدمة.

4- ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من إستحالة قصد الملاك لأنَّه يلزم منه أنْ تكون المصلحة قائمة بالفعل المأتي به بداعي المصلحة؛ وهو دورٌ, لأنَّ الإتيان بداعي المصلحة فرع قيام المصلحة به الذي هو فرع أنْ يؤتى به بداعي المصلحة(1).

ص: 117


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص108.

وفيه: إنَّه مضافاً إلى أنَّه لا داعي لجعل المصلحة في الفعل بل تكون في نفس الأمر أنَّ الإتيان بداعي المصلحة لا يتوقف على قيامها بذات الفعل بأنْ تكون ذات الفعل تمام ما يحصِّلُ المصلحة, بل يتوقف على أنْ يكون للفعل دخل في إيجادها فهو يأتي بالفعل، وكان ذلك بنفسه عبارة عن قصد المصلحة.

الوجه الخامس: إنَّ المراد بعبادية الأمر تعدده أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر بالإتيان به بقصد الأمر الأول, وذلك بالإنحلال إلى أمرين وربما بجعلين, بخلاف الواجب التوصلي؛ حيث لا يوجد فيه إلا أمر واحد تعلق بذات الفعل.

وبذلك يمكن التخلص من بعض الإشكالات المتقدمة كشبهة الدور والتهافت, وإنَّ ما ذكره السيد الصدر قدس سره لا يرفع بعض المحذورات كما ستعرف.

وكيف كان؛ فإنَّ هذا التفسير قد ورد في كلمات بعض المحققين وقد إختلفوا في صياغته, نذكر بعض تلك الموارد من الصياغات:

الأولى: ما ورد في كلمات المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية من أنَّ الأمر الأول يتعلق بذات الفعل مطلقاً، والأمر الثاني بالقصد, وهو قصد الأمر مستقلاً عن الأمر الأول جعلاً ومجعولاً.

الثانية: ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من أنَّ الأمر الأول يتعلق بالطبيعة المهملة أي اللابشرطية المقسمية, كما عرفت من أنَّه إذا إستحال التقييد بقصد الأمر إستحال الإطلاق بلحاظه أيضاً, لأنَّ بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة, فيكون الأمر الأول مهملاً, ولا بُدَّ من رفع إهماله بالأمر الثاني الذي هو مستقلٌّ عن الأمر الأول جعلاً ومجعولاً ولكنه متمم للجعل الأول حيث لا يعقل الإهمال الثبوتي واقعاً, فلا بُدَّ من رفعه بالأمر الثاني يبين فيه الإطلاق أو التقييد في تمام موارد القيود الثانوية التي لا يمكن أخذها في متعلق الأمر الأول.

ص: 118

الثالثة: ما إختاره المحقق العراقي قدس سره من أنَّ الأمر الثاني وإنْ كان مستقلاً في مرحلة المجعول والفعلية ولكنه متَّحد مع الأمر الأول في مرحلة الجعل والإنشاء، نظير جعل الحجية للخبر المباشر وخبر الواسطة بجعل واحد, مع إنحلاله إلى مجعولين مستقلين؛ فالأمر الأول تعلق بذات الأجزاء والشرائط, والآخر تعلق بالإتيان بها مع قصد الأمر, فتكون فعليته في طول الأمر الأول، نظير حجية خبر الواسطة(1).

وأشكلوا على كلِّ واحدة منها بوجوه, نذكر المهم منها:

أمّا الصياغة الأولى؛ فقد أُورد عليها:

أولاً: إنَّ المكلف إذا إمتثل الأمر الأول بإتيان الفعل لا بقصد الإمتثال فإنْ سقط الأمر الأول لزم منه سقوط الأمر الثاني ولو عصياناً فلا تجب الإعادة وهو خلف،وإنْ لم يسقط الأمر الأول برغم تحقق متعلقه خارجاً وهو ذات الفعل لزم منه أنْ يكون من طلب الحاصل؛ إذ لا معنى لبقاء الأمر والطلب مع تحقق ما تعلق به.

وقد أجيب عن هذا الإيراد بالإلتزام بسقوط الأمر الأول بشخصه, ولكن يتولد منه أمرٌ آخر مثله لبقاء غرضه, وسيأتي الكلام في تصوير هذا الأمر المتولد.

ثانياً: إنَّه لا فائدة لجعل الأمر الثاني ولا محركية زائدة له طالما كان الأمر باقياً ومتجدداً بنوعه ما لم يأتِ المكلف بقصد الأمر.

وفيه ما عرفت سابقاً من أنَّ الغرض لا ينحصر في المحركية, بل ربَّما يكون لأجل غرض آخر كحفظ الملاك في الأمر الثاني.

ص: 119


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص77.

أمّا الصياغة الثانية؛ فقد أورد عليها بوجوه:

أولاً: ما ذكره السيد الخوئي من بطلان المبنى, فإنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من العدم والملكة بل من تقابل الضدين, فإذا إستحال التقييد فإنَّه يجب الإطلاق. وفيه: إنَّه نقاشٌ مبنائي سيأتي الكلام فيه أيضاً.

ثانياً: ما ذهب إليه أيضاً من أنَّه لا يعقل الإهمال في الأمر الأول حتى يرفع بالأمر الثاني, وذلك إمّا لاستحالة الإهمال لأنَّ الحكم له حظ من الوجود في أفق الذهن وعالم الإعتبار, وكلُّ ما له حظ من الوجود لا بُدَّ أنْ يكون متعيناً في صقع وجوده، ويستحيل التردد فيه حينئذٍ.

أو لأجل أنَّ الأمر من مجعولات الأمر الذي ينشئها من خلال الصور الذهنية والعلمية, فلا يعقل أنْ يكون الجاعل متردداً أو جاهلاً بما جعله حين الجعل(1).

وقيل في الردِّ عليه بأنَّ الوجهين يرجعان إلى أنَّ المراد من الإهمال في كلام المحقق النائيني قدس سره هو الإهمال في الوجود والفرد المردد, أي المردد بين المطلق والمقيد ولكن مراده هو الإهمال المفهومي, لأنَّ متعلق الأمر الأول مدلول إسم الجنس, أي ذات الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة بعد إستحالة لحاظ الإطلاق ولحاظ التقييد في متعلق الجعل الأول, لأنَّ الإطلاق والتقييد حيثيتان لحاظيتان زائدتان على ذات الطبيعة المهملة, فإذا إستحال كلٌّ من اللحاظين؛ الإطلاقي والتقييدي في متعلق الجعل إضطرَّ المولى أنْ يجعل أمره على ذات الطبيعة المهملة ويتصدى لرفع الإهمال بأمر ثانٍ يكون متمماً للجعل يرفع به الإهمال إلى الإطلاق أو التقييد.

ص: 120


1- . هامش أجود التقريرات؛ ج1 ص103.

وفيه: إنَّ المستشكل إنَّما يلاحظ الحكم والأمر وهما من الإعتبار الخاص الذي له حظٌّ من الوجود لا أنْ يكون نظره إلى المتعلق الذي يكون مهملاً من حيث الفرد, وإنْ جاء ذلك من ناحية الإطلاق والتقييد فهما السبب في الإهمال في الفرد كماهو واضح, فلا بُدَّ في مرحلة الجعل أنْ لا يكون مهملاً, بل تعلق بطبيعة معلومة في عالم التصور واللحاظ, فما ذكره في إيراده على المحقق النائيني صحيح.

ثالثاً: ما ذكره السيد الصدر من أنَّ الطبيعة المهملة التي تعلق بها الأمر إذا كانت في قوة المقيدة -كما هو المشهور بين الأصوليين كما سيأتي في مباحث المطلق والمقيد- نظراً إلى غرض المولى فإنَّه يلزم على ذلك الإستغناء عن الأمر الثاني, لأنَّ المولى في موارد تعلق غرضه بالمقيد يستطيع تحقيق تمام غرضه بالأمر الأول المهمل فلا حاجة إلى ما يرفع إهماله إلى التقييد لأنَّ المهمل بحسب الفرض في معنى المقيد, نعم؛ لو كان غرضه المطلق إحتاج إلى رفعه بالأمر الثاني المطلق, وإنْ كانت المهملة في قوة الإطلاق الذاتي للطبيعة لا الإطلاق اللحاظي كما ذهب إليه بعض المحققين, فحينئذٍ رجعت هذه الصياغة إلى ما ذكره صاحب الكفاية من حيث كون متعلق الأمر الأول مطلقاً غاية الأمر بالإطلاق الذاتي كما عرفت.

وفيه: إنَّ كون المهملة في قوة المقيدة ربَّما لا تكفي في تحقيق جميع غرض المولى, فلا بُدَّ من الأمر الثاني لإتمامه كما عرفت مكرراً. مضافاً إلى أنَّ كون المهملة في قوة الإطلاق الذاتي سيأتي تحقيقه في محله إنْ شاء الله تعالى.

رابعاً: ما ذكره السيد الصدر أيضاً من أنَّ تعلق الأمر بالطبيعة المهملة إذا كانت المهملة في قوة الجزئية والمقيدة، كما هو مبنى المشهور يتجه عليه إشكال الدور, لأنَّ إمتثال هذا الأمر كامتثال الأمر بالمقيد يتوقف على الأمر فيلزم أخذ الأمر في موضوع الجعل الأول وهو

ص: 121

محال، وعليه يستحيل الإهمال، كما يستحيل التقييد والإطلاق, وهو يعني إستحالة الأمر بفعل من الأفعال لا مطلقاً ولا مقيداً ولا مهملاً من ناحية قصد القربة، وهذا معناه بعد فرض ثبوت أصل الأمر بالفعل إرتفاع النقيضين وهو من أوضح المحالات, مِمّا يكشف عن خلل في إحدى المقدمات(1).

ويرد عليه: إنَّ المفروض بناءً على هذا الوجه في تفسير الأمر التعبدي أنَّ قصد إمتثال الأمر الأول لم يؤخذ في جعله, وإنَّما أخذ في جعل الأمر الثاني، فإنَّه لو لم يكن هذا الجعل الثاني لكان الأمر الأول توصلياً يسقط بمجرد إيجاد متعلقه، وما ذكره المستشكل إنَّما هو رجوع منه إلى أصل الإشكال لا النظر إلى دفعه بالأمر الثاني الذي يكون موضوعه قصد القربة في الأمر الأول.

وأمّا الصياغة الثالثة التي ذكرها المحقق العراقي لتعدد الأمر بأنْ يكون هناك جعل واحد ينحلُّ إلى مجعولين؛ أحدهما على ذات الأجزاء والشرائط، والآخر على الإتيان بها مع قصد الأمر, ويكون فعليته في طول الأمر الأول وإنَّما عدلعن تعدد الجعل إلى وحدته لأنَّ الأمر العرفي في الواجبات التعبدية، قد عرفت الإشكال فيه فيما سبق, ولا يرفع بعض الإشكالات المتقدمة, ويأتي مزيد بيان.

والحقُّ أنَّ هذا الوجه بالصياغات الثلاثة لا ملزم له إذا أمكننا رفع وجوه الإستحالة بوجه مقبول, حيث أنَّ تعدد الأمر في الواجبات التعبدية خلاف الظاهر.

الوجه السادس(2): ما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره أيضاً في تفسير العبادية بعد عدم الفرق بينها وبين التوصليات في أنَّ الأمر في كلتيهما متعلق بذات الفعل فلا فرق بينهما من

ص: 122


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص92.
2- . من وجوه أخذ قصد القربة بغير معنى قصد إمتثال شخص الأمر في متعلقه.

ناحية الأمر ومتعلق الوجوب, وإنَّما الفرق هو أنَّ الأمر التوصلي يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه وهو ذات الفعل لتحقق الغرض منه, ولكن الأمر التعبدي لا يسقط إلا بإتيان متعلقه مع قصد القربة إذ الغرض لا يحصل إلا بذلك, وسقوط الأمر يتبع سقوط الغرض لا بمجرد الإتيان بمتعلقه.

وأورد عليه بأنَّ عدم سقوط الأمر بعد تحقق متعلقه خارجاً مستحيل, فإنَّه من طلب الحاصل، فإذا تعلق الأمر بذات الطبيعة وقد حقق المكلف فرداً منها كان بقاء شخص ذلك الطلب المتعلق بالجامع بين الفرد الواقع وغيره مستحيلاً لحصول متعلقه, فلا بُدَّ من سقوطه.

وأمّا بقاء طلب فرد آخر من الطبيعة غير ما وقع فهو معقول ولكنه أمر آخر لا محالة(1).

ويمكن الإشكال عليه بأنَّ الغرض إذا كان من قبيل الحيثية التقييدية بالنسبة إلى الأمر فما ذكره المستشكل صحيح, فإنَّه لا بُدَّ من تحقق متعلقه واستيفاء الغرض منه, ويكون عدم سقوط الأمر من تحصيل الحاصل وهو مستحيل.

وأمّا إذا كان من قبيل الحيثية التعليلية بالنسبة إلى الأمر -وهو الغالب في الأوامر- فالأمر ليس كذلك, فإنَّه قد يحصل متعلق الأمر ولكن لا يسقط الغرض به لحكم ومصالح, فلا إستحالة لو أتى المكلف بالمتعلق لأجل درك الغرض.

الوجه السابع: ما ذكره بعض المحققين في تفسير الواجب التعبدي مع إتّفاقه مع الواجب التوصلي في أنَّ الأمر فيهما يكون متعلقاً بذات الفعل, إلا أنَّه لو أتى المكلف بالفعل من دون قصد الأمر سقط شخص ذلك الأمر -كما عرفت آنفاً من إستحالة بقائه بعد حصول متعلقه- وتولد أمرٌ جديد متعلق بفرد آخر من ذات الفعل لأنَّ الغرض لا يزال باقياً.

ص: 123


1- . كفاية الأصول؛ ص72 - 74.

وهذا بخلاف الأمر التوصلي؛ فالفرق بين الواجب التوصلي والواجب التعبدي من ناحية تجدد أمر آخر كلَّما لم يأتِ المكلف بالفعل بقصد القربة الذي له الدخل في تحقيق غرض المولى, فيكون الفرق بناءً على هذا التفسير بين الأمر التعبدي والتوصلي ليس بالتقييد والإطلاق من ناحية قصد القربة, بل بالتجدد وتولد أمرآخر كلَّما لم يأتِ المكلف بقصد القربة كما عرفت, لأنَّ له الدخل في غرض المولى.

وهذا التفسير يشترك مع التفسير السابق في أنَّ الأمر التعبدي والتوصلي لا يختلفان في المتعلق ولا فيما يحقق غرض المولى من كلٍّ منهما. ويختلف عنه في أنَّ التفسير السابق إنَّما يفترض فيه بقاء شخص الأمر المتعلق بذات الفعل. وأمّا في هذا التفسير فالأمر يسقط بشخصه لكنه يبقى بنوعه ضمن شخص آخر من الأمر يتعلق بغير الفرد المأتي به.

كما أنَّه يشترك مع التفسير الذي يذهب إلى تعدد الأمر في التعبدي ووحدته في التوصلي، فإنَّ هذا التفسير لتعدد الأمر وتجدده كلَّما لم يأتِ المكلف بالفعل مع قصد الأمر ولكنه يختلف عنه في أنَّ الأمر الثاني يتجدد بعد سقوط الأمر الأول، ويتعلق بذات الفعل كالأول لا بقصد الأمر(1).

وأشكل عليه بأنَّه لا يعقل تعلق الأمر المتجدد بذات الفعل, لأنَّ المفروض عدم وفائه بتحقيق الغرض لأنَّ ذات الفعل ليس هو المحبوب، والأمر لا بُدَّ أنْ يتعلق بما هو المحبوب.

وأجيب عنه تارةً بأنَّ المحبوب هو المحركية نحوه فإنَّ ذلك يكفي في جعل الفعل محبوباً في فرض محركيته نحو المتعلق, فإذا حصل هذا في المقام وكان هذا الأمر كافياً في محركية المكلف نحو ما تعلق به يكون الجزء الآخر للغرض والمحبوب متحققاً أيضاً, إذ ليس المراد بقصد القربة إلا محركية الأمر.

ص: 124


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص94.

وفيه: ما عرفت من أنَّ الغرض إذا كان في الأمر الأول هو المحركية لكنه في الأمر الجديد ليس كذلك لأنَّه متولد من الأمر النوعي, فهو ليس إلا لتحقيق الغرض الخاص, فإذا كان متعلقاً بذات الفعل فإنَّه ليس بمجرده محبوباً كما تقدم.

وأخرى: إنَّه يكفي عقلاً وعقلائياً في تعلق الأمر بشيء أنْ يكون المتعلق هو غاية ما يمكن سدّ باب عدم الغرض من ناحيته, ولو كانت هناك أبواب أخرى للعدم أيضاً لا بُدَّ أنْ يُسدّ, ولكن لم يؤمر بها لعدم إمكان الأمر بها, ولهذا صحَّ الأمر بما يحتمل كونه مصادفاً للمحبوب.

وهذا هو الصحيح الجدير بالقبول في المراد بالغرض الذي يناط به صحة الأحكام مطلقاً, والذي نبَّهنا عليه مكرراً, فلا نحتاج إلى تعيين خصوصياته وأفراده, لاسيما أنَّه لا يمكن العلم بالأغراض الإلهية ولا سبيل لنا إلى كشفها إلا ما يبينه الشارع، فيكون تعيين بعضها بلا برهان، وبذلك تنحلُّ جملة من الإعتراضات التي ذكرها الأصوليون التي تبتني على تعيين الغرض في فرد مخصوص فينشأ منه الإشكال.وكيف كان؛ فإنَّه بناءً على هذا التفسير للأمر التعبدي وأنَّه من الأوامر المجعولة على نحو القضية الخارجية فإنَّه يكون عن طريق تجديد الأمر الموجَّه إلى الشخص, وأمّا في الأوامر الكلية المجعولة بنحو القضايا الحقيقية فيكون عن طريق نصب قرينة عامة على أنَّ هذا الأمر له توجهات عديدة تتجدد متى ما أتى المكلف بالفعل لا بقصد القربة, ولو كان بيان هذه القرينة العامة بلسان تقييد متعلق الأمر، كما إذا قال المولى (صلِّ) بقصد القربة, فهو تقييد في مقام الإثبات لكنه كاشف عن تجدد الأمر بحسب مقام الثبوت, ومن ثم يعطي هذا التفسير نفس نتيجة ما لو كان الأمر متعلقاً بالفعل المقيد, وتنحلُّ جميع تلك المحاذير التي توجهت على تقييد الأمر بقصد القربة.

ص: 125

والصحيح أنْ يُقال: إنَّ هذا التفسير لا يخرج عن تلك التجشمات التي صنعتها أفكار الأصوليين عند تصوير الشبهات والمحاذير على أساس الأفكار الفلسفية والأمور العقلية المعقدة, مضافاً إلى أنَّ القول بانحلال الأمر وتجدده إلى التوجهات العديدة كلَّما لم يأت المكلف بقصد القربة يحتاج إلى دليل, بل لم يتصوره ولم يلحظه صاحب الحكم ومن قرر الأمر.

وأمّا القرينة العامة التي يدَّعيها القائل بها فإنَّها ليست هي القرينة بل هو بيان للغرض الذي يتوقف على قصد الأمر كما هو واضح.

فالحقُّ الذي هو جدير بالقبول هو صحَّة تقييد الأمر بقصد القربة, وأنَّ شيئاً من تلك المحاذير غير واقعة.

وها هنا لا بُدَّ من بيان أمور:

الأمر الأول: إنَّ الحكم هو إعتبار محض وكيفية إعتباره بيد المعتبر, فله أنْ يعتبره مطلقاً أو يجعله مقيداً -سواء كان القيد من الإنقسامات الأولية أو الإنقسامات الثانوية- من دون أنْ يستلزم إشكال, وأغلب تلك المحاذير إنَّما تترتب فيما إذا إعتبرنا الأحكام من الأعراض ومنشؤها الأمور العقلية المحضة.

الأمر الثاني: الأغراض التي يذكرها الأصوليون بالنسبة إلى الحكم لم يقم عليها دليل, وقد ترتب على ذكرها إشكالات كثيرة كانوا في غنىً عنها، والذي يصحح إنشاء الحكم وإخراجه من عنوان العبث هو أنْ يكون المتعلق غاية ما يمكن سدّ باب عدم الغرض من ناحيته, وهذا المقدار يكفي أنْ يكون مناطاً في صحة إنشاء الأحكام مطلقاً فلا نحتاج إلى ذكر الأفراد والتماس الوجوه في بعض العناوين كعنوان المحركية أو المحبوبية ونحو ذلك, وهي متحققة وتترتب عليها قهراً بعد إنشاء الحكم وصحته, مع أنَّ العلم بالأغراض

ص: 126

الإلهية دعوى لم يقم عليها برهان فإنَّها متعددة لا يمكن حصرها ولا سبيل إلى كشفها إلا ما يعينه الشارع, يضاف إلى ذلك أنَّ إلتماس الغرض في الأحكام ينافي حقّ الطاعة المفروض على العبد عقلاً.وبذلك تنحلُّ جملة من الإشكالات الحاصلة من تعيين الغرض في فرد خاص. فإذا كان الحكم إعتباراً ينشأ من غرض خاص يكفي في معرفته هو أنَّ المتعلق غاية ما يمكن أنْ يسدّ به عدم الغرض والخروج عن الحكم العبثي.

الأمر الثالث: إنَّه إذا كان أحد الموالي العرفيين أو أحد المقننين ساذجاً في الذهن بريئاً عن تلك الإعتراضات والشبهات, فإذا أمر عبده بفعل مقيد بقصد الأمر فإنَّه لا يخطر في ذهنه شيء من تلك الشبهات، والشارع المقدس مع علمه بالجزئيات لم يخرج عن الطريق العرفي في إنشاء الأحكام وإبلاغها إلى الأنام, فليس له طريقة تختص به في هذين المجالين.

الأمر الرابع: إنَّ العلماء على اختلاف إتّجاهاتهم في المقام إنَّما يريدون التخلص من تلك المحاذير بالحلول المطروحة منهم, إذ لم يسعهم إنكار الواجب التعبدي, وهو يكشف عن أنَّهم هم السبب في وقوعهم في المأزق, فلو كانوا قد تركوا الموضوع إلى المرتكز العرفي لَما وجدوا فيه إشكالاً.

إذا عرفت ذلك يظهر أنَّه يمكن أخذ قصد الأمر في نفس الحكم الشخصي فضلاً عن غيره من دون محذور, وما ذكر إنَّما هي شبهات إنقدحت في أذهان الأصوليين عند قياس المقام على الأمور العقلية والحقائق الواقعية, وقد عرفت فساد ذلك.

وبناءً عليه: إذا لم يمتنع التقييد فلا يمتنع الإطلاق ولا تصل النوبة إلى الإهمال, وبذلك ننهي الكلام في معنى التعبدي والتوصلي وبعض خصوصياته.

ص: 127

ثم إنَّه يقع الكلام تارةً في بيان مقتضى الأصل اللفظي, وأخرى الأصل العملي في الأوامر في إثبات التوصلية أو التعبدية, فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول: في بيان مقتضى الأصل اللفظي

وقد عرفت سابقاً أنَّ المراد من الأصل اللفظي هو الإطلاق, وهو إمّا أنْ يكون لفظياً أو يكون مقامياً؛ فالكلام يقع في كلٍّ منهما:

أمّا الإطلاق اللفظي؛ فلا ريب في ثبوته, فإذا لم يمتنع أخذ قصد القربة قيداً في متعلق الأمر بنفس الأمر, فضلاً عمّا إذا كان بأمرين فيكون شأنه شأن سائر القيود والأجزاء يتمسك بالإطلاق عند الشكِّ في أخذها في الواجب.

وأمّا بناءً على الوجوه الأخرى التي قيلت في الخروج عن تلك المحاذير مِمّا عرفت سابقاً ما فيها فقد إختلفوا في كيفية الإستفادة منه وتطبيقه, وموجز الكلام فيه:

أولاً: ما قيل في تفسير التعبدي بأنَّه أمر بذات الفعل, ولكنه يتجدد كلَّما لم يأتِ المكلف بقصد الأمر، فإنَّه يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي بأحد وجهين:أولهما: إنَّه بنظر العرف يكون قصد الأمر من القيود الداخلة في الأمر, فإذا قام دليل على التقييد إثباتاً أخذ به، وإلا كشف من ذلك عدم أخذه ثبوتاً؛ كما عرفت سابقاً.

وفيه: إنَّ نظر العرف إلى كون قصد الأمر من القيود يكفي في دفع المحاذير السابقة, وحينئذٍ يصحُّ التمسك بالإطلاق إنْ لم يدلّ دليل على التقييد, فلا نحتاج إلى التفسير الذي ذكر في معنى التعبدي وغيره فإنَّه من لزوم ما لا يلزم، يضاف إلى ذلك ما عرفت من عدم الدليل على صحة هذا التفسير؛ فراجع.

ومنه يظهر الإشكال في الوجه الثاني الذي ذكر في تصحيح التمسك بالإطلاق لنفي الأمر التجددي لأنَّ الإطلاق يقتضي مطابقة المرام مع ما بين إثباتاً.

ص: 128

ويرد عليه بأنَّ الأمر التجددي هو حقيقة الأمر التعبدي بناءً على هذا التفسير, فيكون التمسك بالإطلاق لنفي الأمر التجددي يوجب الإهمال.

ثانياً: ما قيل من أنَّ الفرق بين التعبدي والتوصلي من ناحية الغرض فقط, فحينئذٍ يقع الإشكال في التمسك بالإطلاق لنفي التعبدية فاعترض عليه بعدة إعتراضات, أهمها:

الإعتراض الأول: إنَّه لا يمكن التمسك بالإطلاق إثباتاً للكشف عن الإطلاق ثبوتاً, إذ كلَّما إستحال الإطلاق ثبوتاً إستحال إثباتاً.

ولكن ينبغي تفسير هذه المقالة المجملة؛ فقيل في توجيهها بأنَّ إستحالة الإطلاق عند إستحالة التقييد تارةً يراد به إستحالة شمول الخطاب للمقيد الذي يستحيل تقييد الحكم به.

وأخرى يراد به إستحالة التقييد؛ فيستحيل بالتالي شمول الخطاب لصورة فقدان القيد كما هو مقصود المحقق النائيني قدس سره الذي هو صاحب هذه المقالة.

فإنْ كان المراد من المقالة المعنى الأول كما هو ظاهر بعضٌ ومنهم السيد الخوئي قدس سره فإنَّه لا بُدَّ من ملاحظة ملاك الإستحالة في تقييد حكم بقيد من القيود؛ فإنَّه إمّا أنْ يكون الملاك قائماً في نفس ثبوت الحكم على المقيد, أي عدم صلاحية المقيد بذاته لثبوت الحكم فيه نظير إستحالة تقييد الحكم بالعاجزين فهذا يوجب إستحالة الإطلاق, أي إستحالة شمول الحكم له بالإطلاق أيضاً, وليس المقام من هذا القبيل. وإمّا أنْ يكون الملاك قائماً في عملية التقييد نفسه؛ إمّا من أجل كون نتيجة التقييد لزوم المحال أو الإستهجان كما في تقييد الخطابات بالكفار فحسب, أو من أجل تقدم الأمر على نفسه فيستحيل نفس عملية التقييد, أو من أجل التهافت.

فإنه بناءً عليه لا يلزم من إستحالة التقييد إستحالة الإطلاق, بمعنى شمول الحكم للمقيد بالإطلاق, لأنَّ المحذور كان من نتيجة التقييد فيكون محدوداً على المقيدفقط, وهو غير

ص: 129

موجود في الإطلاق أو في نفس عملية التقييد فهو يرتفع بالإطلاق أيضاً, وعلى هذا التفسير فإنَّ تطبيق الكبرى المتقدمة من إستحالة الإطلاق لاستحالة التقييد يكون عقيماً وبلا فائدة, لأنَّه يثبت إستحالة الإطلاق بمعنى عدم شمول الحكم للحصة التعبدية, وهو غير مقصود بل المقصود نفي التعبدية أي نفي شمول الحكم للحصة المأتي بها بلا قصد الأمر.

اللهم إلا أنْ يُقال بأنَّ التلازم الموجود بين إستحالة التقييد وإستحالة شمول الحكم بالنظر العقلي السطحي وإنْ لم يكن بالدقة فهي كافية في تطبيق الكبرى, فإذا إستحال التقييد إستحال الإطلاق فيرجع إلى ما ذكرناه سابقاً من المحاذير، وقد عرفت الجواب عنها.

وأمّا المعنى الثاني؛ أي إستحالة التقييد بقصد القربة فيستحيل إثبات الإطلاق أي التوصلية.

وقد استدلَّ عليه بوجوه:

1- أنْ يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، لأنَّ الإطلاق عدم التقييد في موضع قابل للتقييد، فإذا إستحال في مورد فلا يكون مورداً للإطلاق أيضاً.

2- أنْ يكون التقييد والإطلاق كلاهما فرع قابلية الطبيعة للتقسيم بين واجد القيد وفاقده، فإذا لم تكن لها القابلية ولم يكن مقسماً إستحال أخذ القيد واستحال رفضه, وقد ذكرنا سابقاً من إستحالة قبول الطبيعة للإنقسام إلى ما يؤتى بها بقصد الأمر، وما يؤتى بها لا بقصد الأمر إلا من طول الأمر, ففي المرتبة السابقة على الأمر التي هي مرتبة تعلق الأمر بالطبيعة لا تكون مقسماً لها كما هو الأمر في جميع التقسيمات الثانوية المتأخرة عن الأمر.

3- أنْ يكون الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في عالم التصور واللحاظ باعتبار أنَّ الإطلاق هو إسراء الحكم إلى تمام الحالات في عالم اللحاظ, فإذا فرض المحذور في

ص: 130

أخذ قصد القربة في متعلق الأمر -وهو محذور التهافت مثلاً في اللحاظ- لزمه منه إستحالة الإطلاق بنفس ملاك إستحالة التقييد.

ويمكن الإشكال على جميع تلك الوجوه.

أمّا الوجه الأول: فهو مبنائي؛ فمن ينكر أنْ يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد من العدم والملكة كما سيأتي في بحث الإطلاق من أنَّ سريان الطبيعة إلى تمام الأفراد إمّا أنْ يكون على سبيل الإطلاق الذاتي أو على سبيل الإطلاق اللحاظي ولا ثالث لهما.

فعلى الأول؛ يكون السريان ذاتياً لا يمكن سلخه عن الطبيعة فيكفي في حصول الإطلاق عدم المانع أي عدم لحاظ القيد الذي هو نقيض لحاظ القيد, فيكون التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب وهذا هو المشهور بين الأصوليين.وعلى الثاني؛ يكون التقابل بينهما تقابل التضاد, لأنَّ كلاً من الإطلاق والتقييد بحاجة إلى لحاظ زائد على الطبيعة فيكونان معاً أمرين وجوديين فيكون التقابل بينهما تقابل الضدَّين.

وليس هنا نكتة أخرى غير ذلك حتى يكون ملاكاً لأنْ يكون التقابل بينه وبين التقييد من تقابل العدم والملكة.

وأورد السيد الصدر قدس سره النقض على ذلك أيضاً ولكنه غير تام لمن أمعن النظر فيه, وسيأتي تتمة الكلام في موضعه.

وأمّا الوجه الثاني: فلأنَّ المناط في المقسمية هو مصداقية الحصتين للطبيعة مفهوماً لا إمكان الوجود خارجاً, فيكون المراد من قابلية إنقسام الطبيعة إنَّما هو بلحاظ المفهوم, أي مصداقية كلٍّ من الحصتين للطبيعة لا بمعنى وجودها خارجاً, فهذا ثابت قبل الأمر لأنَّ هذه المصداقية ذاتية وليست في طول الأمر.

وأمّا الوجه الثالث: فلأنَّ الإطلاق ليس جمعاً للقيود بل هو رفضها، فيقتصر النظر على ذات الطبيعة بخلاف العموم.

ص: 131

هذا كلُّه ما يتعلق بالإعتراض الأول.

الإعتراض الثاني: إنَّه بعد إستحالة التقييد إمّا أنْ يتحقق الإهمال وهو غير معقول ثبوتاً كما عرفت سابقاً, أو يثبت الإطلاق بالضرورة, ولكن هذا الإطلاق لا ينفع لنفي التعبدية وإثبات توصلية الواجب, لأنَّ المفروض أنَّ الفرق بينهما ليس في الواجب بل في الغرض, وإطلاق الواجب لا يمكن أنْ يكشف عن الإطلاق في الغرض, إذ الإطلاق ضروري فلا يمكنه التقييد حتى إذا كان الغرض مقيداً.

وأورد عليه بعض الأعلام بأنَّ هذا الإعتراض إنَّما يصحُّ بناءً على ثبوت الإطلاق الذاتي في الطبيعة المهملة, وأمّا إذا قلنا بإمكان إهمال الطبيعة إهمالاً لحاظياً وتكون في قوة الجزئية لا المطلقة فإنَّه بعد إستحالة التقييد نقول: إمّا أنْ يفرض الإهمال أو يفرض الإطلاق ولا سبيل إلى الإهمال, لأنَّ إستحالة التقييد إمّا لأجل برهان الدور فهو كما يثبت إستحالة التقييد يثبت إستحالة الإهمال أيضاً كما عرفت من أنَّ المهملة في قوة المقيدة, فلا بُدَّ من تقييد الأمر بها بالأمر, فالإعتراض على هذا الإحتمال تام بعد أنْ كان الإطلاق ضرورياً على هذا المسلك.

وأمّا إذا كانت إستحالة التقييد غير برهان الدور من الوجوه المتقدمة التي عرفت أنَّها تختَّص بفرض التقييد فلا يكون الإطلاق ضرورياً لعدم تعيّنه مقابل الإهمال الذي هو في قوة الجزئية، فحينئذٍ إذا كان غرض المولى في المقيد أمكنه جعل الأمر على الطبيعة المهملة التي هي في قوة الجزئية فمع إطلاق الجعل نستكشف إطلاق الغرض وهو معنى التوصلية.ولكن يمكن الإشكال عليه بأنَّه حتى على فرض الإطلاق اللحاظي فإنَّ من مقدمات الحكمة عدم بيان ما يمكن أنْ يكون بصدد بيانه, فلا بُدَّ من نصب قرينة على إرادة الإهمال إهمالاً لحاظياً والمفروض أنَّها بيان, ولمّا كان المفروض عدم إمكان بيان التقييد وإنْ

ص: 132

أمكن الإطلاق ثبوتاً فلا يصحُّ التمسك بإطلاق الكلام لنفي القيد؛ لعدم تمامية إحدى مقدماته, فعدم البيان لا يكون دليل الإطلاق لعدم إمكان البيان.

والإيراد عليه بأنَّ الإمتناع ثبوتي لا إثباتي فلا يهمُّ حينئذٍ في تحقيق إمكان بيان القيد وعدم إمكانه غير صحيح، كما عرفت من أنَّه ليس كلّ المحذورات التي ذكرناها مِمّا توجب الإستحالة ثبوتاً, لا سيما ما هو مفروض الكلام وهو التخلف في الغرض، ويأتي مزيد بيان.

الإعتراض الثالث: إنَّ الإطلاق ثبوتاً لا هو مستحيل ولا هو ضروري, إذ أنَّ الإطلاق الثبوتي لا يمكن إحرازه بمقدمات الحكمة إثباتاً كما عرفت آنفاً من عدم إمكان إبراز التقييد إثباتاً, فلا يكون عدم ذكر القيد إثباتاً كاشفاً عن الإطلاق ثبوتاً, وهذا هو معنى أنَّ الإطلاق الحكمي الإثباتي أخذ فيه قابلية التقييد.

وعليه يتمُّ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنَّه إذا إستحال التقييد إستحال الإطلاق، إذا كان نظره إلى مرحلة الإثبات والدلالة العرفية.

وأورد عليه بأنَّه يتمُّ فيما إذا فرض أنَّ الدالَّ على الإطلاق إثباتاً مجرد عدم بيان التقييد, وأمّا إذا كان الدالُّ عليه عدم بيان ما يخالف الإطلاق ولو كان هو الإهمال الذي هو في قوة التقييد فالكاشف عن الإطلاق موجود, لأنَّه وإنْ لم يكن يمكنه التقييد إلا أنَّه كان يمكنه نصب قرينة على الإهمال الذي هو في قوة التقييد.

والصحيح أنَّ ذلك ما لم يرجع إلى الدلالة في الكلام, ولا إعتبار به لأنَّه من مجرد فرض, فإذا نصب قرينة وفهم منها العرف الإهمال وكان بمنزلة التقييد كان بياناً في مرحلة الإثبات, ومن ثم عاد الإشكال في هذا البيان.

والحاصل أنَّ إثبات الإطلاق اللفظي بناءً على هذا المسلك(1) مشكل جداً كما عرفت من النقوض والإعتراضات والإشكال عليها.

ص: 133


1- . وهو مسلك صاحب الكفاية.

الوجه الثالث(1): مسلك تعدد الأمر في الواجب التعبدي والظاهر إمكان إثبات الإطلاق به ولا مانع فيه, وذلك لأنَّ الأمر إذا لم يأخذ قصد القربة ولو بجعل آخر أمكن التمسك بالإطلاق اللفظي عرفاً لنفي القيد عند الشكِّ فيه فتثبت التوصلية لا محالة.

ولكن أُشكل على ذلك بالتالي:أولاً: إنَّه بناءً على تفسير المحقق النائيني قدس سره لتعدد الجعل لا يتمُّ الإطلاق اللفظي لإثبات التوصلية, لأنَّ إطلاق الجعل الأول لا يعني عدم التقييد بقصد القربة بالجعل الثاني.

وفيه: إنَّ الآمر إذا كان في مقام البيان ولم يأخذ القيد وهو قصد القربة بجعل آخر الذي بإمكانه فعل ذلك فإنَّ العرف يحكم بأنَّ الإطلاق يقتضي التوصلية, والمفروض تعلق الأمر الثاني بموضوع الجعل الأول.

ثانياً: إنَّه بناءً على ما ذكره المحقق العراقي قدس سره في بيان تعدد الأمر من وحدة الجعل وتعدد المجعول(2) لا بُدَّ من تصوير الجامع بين الواجبين والموضوعين, فإنْ كان العنوان المأخوذ في لسان الدليل هو الجامع بين الفعل وقصد القربة فإنَّه تثبت التعددية دون التوصلية, وإنْ كان العنوان المأخوذ في الدليل هو الفعل فقط أي ذات الصلاة فهي تثبت التوصلية دون التعبدية لكن لا بالإطلاق بل بأصالة التطابق بين العنوان المأخوذ في عالم الإثبات والعنوان المأخوذ في عالم الثبوت.

ويرد عليه بأنَّه لا حاجة إلى تصوير الجامع, فإنَّ متعلق الأمر هو نفس الفعل كما يصرح به نفسه قدس سره , وأنَّ العرف يحكم بإطلاق الجعل من دون نصب قرينة على التقييد وكونه بين الفعل وقصد القربة خلاف المفروض.

ص: 134


1- . من الوجوه التي ذكرت في إثبات الأصل اللفظي لإثبات التوصلية.
2- . مقالات الأصول؛ ج1 ص237.

والحقُّ إمكان التمسك بالإطلاق لإثبات التوصلية عند الشكّ في أمر ما أنَّه تعبدي أو توصلي, وما ذكر إنَّما هو مجرد تصورات لا تحقق لها في الخارج وهي قابلة للنقاش كما عرفت.

أمّا الإطلاق المقامي فقد تمسك به جمع من الأعلام, لا سيما مِمَّن رفض الإطلاق اللفظي, وقد ذكروا له تقريبين:

التقريب الأول: إثبات الإطلاق ببرهان نقض الغرض, فإنَّه لو كان قصد القربة دخيلاً في الغرض لكان على المولى بيانه ولو بجملة خبرية وإلا لزم نقض الغرض، والمفروض عدم ورود دليل عليه في فرض الشك, فإنَّه يستكشف منه عدم دخله في الأمر.

إلا أنَّ المحقق العراقي قدس سره ذكر في توجيه ذلك أنَّ لزوم نقض الغرض يتوقف على تمامية أحد أمرين؛ فإمّا أنْ يُقال بأنَّ الأصل العملي في دخل قصد القربة في الغرض هو البراءة لا الإحتياط، أو يُقال بأنَّ قصد القربة من القيود التي يغفل عنها العرف ولا يحتمل وجوبه بل لا يلتفت إلى أصله وإلا فلو كان ملتفتاً إلى إحتمال دخله, فيكون هذا الإحتمال مجرى لأصالة الإشتغال، فلا يلزم حينئذٍ من عدم بيان دخل قصد القربة في الغرض نقض للغرض.وأشكل السيد الصدر قدس سره على التمسك بالإطلاق المقامي حتى لو تمَّ الأمرين اللذين ذكرهما المحقق العراقي بوجهين:

الوجه الأول: إنَّ برهان نقض الغرض إنَّما يتمُّ فيما إذا أحرز بعدم بيان المولى لدخالة قصد القربة في الغرض على الإطلاق, وإلا فلو إحتملنا ذكره في غير الخطاب الشخصي من خطابات وبيانات أخرى, فلا يتمُّ هذا البرهان ومثل ذلك لا يمكن إحرازه من مجرد سكوت المولى في شخص خطاب الأمر كما لا يخفى(1).

ص: 135


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص103.

وفيه: إنَّه خلاف الفرض, إذ المفروض إحراز عدم دخالته في الغرض على الإطلاق, وسيأتي كفاية ظاهر الحال في نفيه إذا لم يبين.

الوجه الثاني: إنَّ كشف الإطلاق بنكتة أنَّ قيد القربة مِمّا يغفل عنه عادة, مِمّا يبرهن على أنَّ قصد القربة ليس شرطاً واقعياً أي ليس له الدخل في الغرض على الإطلاق, وأمّا كونه شرطاً ذِكرياً أي يكون شرطاً عند التذكر والإلتفات إلى قصد القربة أو إحتمال دخله في الغرض فلا يمكن نفيه بالإطلاق المقامي, لأنَّ من لا يلتفت إليه لا غرض في قصده للقربة، ومن يلتفت إليه من دون بيان المولى لا حاجة إلى البيان بالنسبة إليه؛ لأصالة الإشتغال, فلا يلزم نقض الغرض.

وفيه: إنَّ مراد المحقق العراقي قدس سره من ذلك أنَّ برهان نقض الغرض إنَّما يتم فيما إذا لم يكن قصد القربة مِمّا يلتفت إليه العرف, وإلا فإنَّه بمجرد إلتفاته يحكم بالإشتغال فلا حاجة إلى بيان المولى.

وما ذكره السيد الصدر قدس سره إنَّما يصحُّ فيما إذا تمَّ أخذ قصد القربة في الغرض بأيِّ وجهٍ كان, وحينئذٍ يجري الكلام في أنَّه هل كان ذلك على نحو الشرط الواقعي أو الشرط الذِكري.

التقريب الثاني: دليل ظاهر الحال؛ فإنَّ ظاهر حال المولى عند الأمر بالشيء أنَّه بصدد بيان تمام ما له دخل في تحقيق غرضه، فلو كان الأمر قاصراً عن بيان تمام غرضه لعدم إمكان أداء تمامه بذلك الأمر ولكنه بإمكانه تكميل ذلك بيان آخر, كالجملة الخبرية؛ فإنْ لم يضع ذلك إنعقد في كلامه إطلاق مقامي, لنفي دخل قصد القربة في الغرض بلحاظ هذا الظهور الحالي.

والظاهر أنَّ هذا التقريب هو المناط في التقريب الأول أيضاً ويرجعان إلى أمر واحد.

وكيف كان؛ فإنَّ الإطلاق المقامي صحيح وهو يعضد الإطلاق اللفظي.

ص: 136

ثم أنَّه قد تمسك بعض الأصوليين ببعض الوجوه لإثبات التعبدية مقابل الإطلاق الذي عرفت أنَّه يقتضي التوصلية, ولكن ظهور فسادها يغنينا عن التعرض لها, فمن أراد التوسعة فليرجع إلى كتب القوم.وبذلك ننهي الكلام في المقام الأول وهو الأصل اللفظي.

المقام الثاني: في الأصل العملي

فيما لو فرض عدم إمكان التمسك بالإطلاق لنفي التعبدية, وهو يدور بين الإحتياط والإستصحاب والبراءة, أمّا الأول فقد قيل في تقريبه وجوهٌ أربعة إختلف الأصوليون في بيانها:

الوجه الأول: وجود علم إجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر, فيكون الشكُّ في المحصل فيجب الإحتياط بالإتيان مع قصد القربة.

الوجه الثاني: إنَّ الإتيان بالأقل أي بدون قصد القربة لا يمكن إحراز مصداقيته للواجب المعلوم إشتغال الذمة به فيجب الفراغ اليقيني.

الوجه الثالث: إنَّه لا يحرز سقوط التكليف المعلوم ثبوته وفعليّته.

الوجه الرابع: إنَّه لا بُدَّ من الجزم بتحصيل غرض المولى وهو لا يحصل إلا بالأكثر, وهو الإتيان مع قصد القربة.

وبعبارة أخرى: إنَّ الشكَّ في حصول الغرض يوجب الإحتياط, ولكن الظاهر أنَّ شيئاً مِمّا ذكر لا يتمُّ توجيهه في الإحتياط به بعد إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر نفسه أو بأمر آخر, فإنَّ الشكَّ حينئذٍ يكون في الشرط والقيد, فالمرجع هو البراءة النقلية والعقلية.

وحينئذٍ يظهر الإشكال في الوجوه المتقدمة.

أمّا الأول؛ فلأنَّه لا يجري بعد أنْ كان الشكُّ في أصل القيد والشرط, والمرجع فيه البراءة لا الإحتياط.

ص: 137

وكذا الثاني؛ لأنَّه بعد إتيان الأقل يكون الشكُّ في الزائد, وأنَّ بإتيان ذات الفعل يحصل القطع بمصداقيته للأمر.

وأمّا الثالث؛ فإنَّ مع إتيان أصل الفعل يحصل الشكُّ في إشتغال الذمة بالشرط, والمرجع فيه البراءة.

وأمّا الرابع؛ فإنَّ الغرض الذي يجب تحصيله إنَّما هو الغرض المعلوم بحدوده وقيوده وأقام الشارع الحجة عليه، وأمّا إذا شكَّ في حدِّ الغرض ثبوتاً مع عدم الدليل عليه إثباتاً وإنْ كان لأجل إمتناعه فلا دليل من عقل أو نقل على وجوب الإحتياط في تحصيله.

وبعبارة أخرى: إنَّ الغرض الذي علم ثبوته واقعاً بحدِّه وجب تحصيله ولو بالإحتياط كما في أطراف العلم الإجمالي والشبهات البدوية قبل الفحص، وأمّا إذا شكَّ في أصل ثبوته فلا يحكم العقل بوجوب الإحتياط فيه. هذا مع أنَّه سيأتي في محلِّه أنَّه لا إحتياط في الأقل والأكثر الإرتباطيين بل المرجع هو البراءة.

ثم إنَّهم قد استدلُّوا على القول بالإحتياط بوجوه:

منها: عدم الجزم بالسقوط من دون قصد القربة والشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وهذا الوجه وإنْ لم يتم في الأقل والأكثر فإنَّ الشكَّ في الأكثر مرجعهالبراءة, إلا أنَّ في المقام خصوصية لم تكن في ذلك لأنَّ الشكَّ في السقوط مسبب عن الشكِّ في دخالة قصد القربة في الغرض فيجب الإحتياط تحصيلاً للغرض.

وقد عرفت الجواب عنه آنفاً, مع أنَّه سيأتي في موضعه أنَّ هناك فرقاً بين الإشتغال والبراءة بعد التأمين عن الشكِّ في سقوط المناط في الإشتغال. أنَّ الشكَّ إذا كان منشؤه إحتمال أمر يرجع إلى المولى كتحصيل الغرض فإنَّ عليه بيانه, سواء بصيغة الأمر أو بصيغة الإخبار, فإذا لم يأتِ بيان من ناحيته فإنَّه يكون مجرى البراءة، وكلُّ شكٍّ ينشأ من ناحية العبد -وأنَّ من وظيفته إحرازه كاحتمال عدم الإتيان بالواجب- يكون مجرىً للإشتغال.

ص: 138

ومنها: إنَّ الإحتياط في المقام إنَّما هو من جهة إشتغال الذمة بالغرض المولوي المعلوم, فلا بُدَّ من تحصيله جزماً بخلاف موارد الأقل والأكثر, وذلك لأنَّ الغرض المولوي إذا كان المولى في مقام بيانه ولا يتصدى إليه إلا بمقدار بيانه, فإنَّ الشكَّ في الأقل والأكثر إنَّما يتحقق في القدر المتيقن الذي هو الأقل دون الأكثر فتجري البراءة فيه، ولكن لا تجري البراءة فيما إذا علمنا بالغرض ولكن لم يتمكن المولى من بيانه.

ويرد عليه: إنَّ تحصيل الغرض إنَّما يجب إذا كان المولى في مقام بيانه بحدوده, وهو وإنْ لم يتمكن -فرضاً- من بيانه بنفس الأمر لكن يمكنه أنْ يبيّنه ببيان آخر، فإذا لم يبيّنه فلا يجب تحصيله.

ومنها: إنَّ البراءة العقلية لا تجري في المقام لما عرفت من الوجهين الأخيرين في تقريب الإحتياط, وأمّا البراءة الشرعية فلا تجري أيضاً بدعوى أنَّ أدلة البراءة الشرعية ناظرة إلى التكاليف الشرعية التي تكون رفعها ووضعها تحت إرادة المولى الشارع, ومن الواضح أنَّه في المقام لا يحتمل دخل قصد القربة في التكليف الشرعي كما عرفت فيما سبق, فلا يطبق عليه دليل البراءة الشرعية، وإنَّما يحتمل دخل قصد القربة في تحصيل الغرض وهو أمر تكويني وليس تكليفاً شرعياً حتى يطبق عليه حديث الرفع, لأنَّه يرفع ما يكون قابلاً للجعل والوضع وهو الحكم لا الغرض.

وفيه: إنَّه ممنوع صغرى وكبرى, فإنَّه لا يختَّص حديث الرفع ودليل البراءة بالأحكام الإنشائية التكليفية بل تشمل كلُّ جهة ترجع إلى المولى, ويمكن فيه تحميل المسؤولية على المكلف, ولو كان غرض المولى فإنَّ الرفع إنَّما هو رفع المسؤولية والتبعية دون رفع الواقع.

مع أنَّ الغرض يمكن أنْ يناله لسان الدليل بأيِّ وجهٍ كان؛ فيفيد الإلزام والكلفة عرفاً, يضاف إلى ذلك أنَّه قد عرفت إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر, فيكون قابلاً للوضع والرفع. ومن جميع ذلك يظهر بطلان التمسك بالإشتغال.

ص: 139

وأمّا الإستصحاب؛ فقد تمسك به جمعٌ, فيجب قصد الأمر باستصحاب أصل الوجوب إذا شكَّ في سقوطه بعد إتيان ذات الفعل المأمور به.فيرد عليه بأنَّه إنْ أُريد منه دخل قصد الأمر في المتعلق فهو مثبت.

وإنْ أُريد وجوب قصد الإمتثال من غير دخله في المتعلق؛ ففيه: إنَّه ليس أثراً لنفس المتيقن المستصحب الذي هو ذات الوجوب من حيث هو, وقصد الإمتثال غير ذات الوجوب كذلك. وسيأتي في بحث الإستصحاب أنَّه يعتبر فيه أنْ يكون المشكوك عين المتيقن شرعاً.

وإنْ أُريد به حكم العقل بوجوب الإحتياط فهو باطل, لأنَّه مع العلم بأصل الوجوب لا يحكم العقل بوجوب الإحتياط وتحصيل الغرض المشكوك ثبوته, فضلاً عن إثبات ذلك بالإستصحاب؛ فلا يجري الإستصحاب.

والصحيح؛ هو الرجوع إلى البراءة عند الشكِّ في كون الأمر تعبدياً أو توصلياً لدوران الأمر فيه بين الأقل والأكثر والتحقيق فيه جريان البراءة عن الأكثر كما سيأتي, وهذا يجري أيضاً فيما إذا قلنا بتعدد الأمر؛ أحدهما يتعلق بذات الفعل, والآخر يتعلق بقصد القربة؛ الذي اصطلح عليه بمتمم الجعل كما تقدم بيانه, لأنَّ الشكَّ حاصل في وجود أمر بعد العلم بالأمر الأول, فيكون مجرى البراءة أيضاً.

ومن جميع ما تقدم في قصد القربة يظهر الكلام في قصد الوجه والتمييز من القيود الثانوية فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها.

ص: 140

المبحث السادس: أقسام الواجب

اشارة

تطرّق الأصوليون إلى أقسام الواجب في مواضع متفرقة حسب إتّجاهاتهم في تبويب البحوث الأصولية المختلفة؛ فقد ذكر بعضهم الواجب التخييري والواجب الموسّع والواجب الكفائي في كيفية تعلّق الأمر، وبعضهم تبعوا صاحب الكفاية في تقسيماته، وقد تعرضنا إلى ذلك فيما سبق.

والسيد الوالد قدس سره أدرج أقسام الواجب في الأمر الثالث من الأمور التي ذكرناها في مباحث الأوامر.

وكيف كان؛ فإنَّ الأقسام سبعة:

القسم الأول: الواجب المطلق والواجب المشروط

وهما من المفاهيم إلاضافية ولا يخلو واجب منهما، ويصحُّ اجتماعهما في واحد من جهتين كما هو الشأن في جميع الأمور إلاضافية؛ فالحج مثلاً مشروط بالنسبة للإستطاعة، ومطلق بالنسبة إلى الزوال. والصلاة مشروطة بالزوال، ومطلقة من حيث الإستطاعة ولم يتحقق واجب مطلق من كلِّ الجهات, إذ كلُّ واجبٍ لا بُدَّ وأنْ يكون مشروطاً ولو كان الشرط من الشروط العامة كالعقل والبلوغ؛ فكلُّ واجبإذا لوحظ بالنسبة إلى أمرٍ مّا فإمّا أنْ يكون مقيداً به فهو واجب مشروط به، وإمّا أنْ لا يكون كذلك فهو الواجب المطلق.

ثم إنَّ البحث فيهما(1) يقع من جهات:

الجهة الأولى: في تعريفهما؛ فقد ذكر صاحب الكفاية عدَّة تعاريف وأورد عليها بعدم الطرد والعكس، وإنْ كان الإيراد عليها كذلك لأنَّها تعاريف لفظية؛ ألا أنَّ الغرض منها تقريب المعنى إلى الذهن.

ص: 141


1- . أي المطلق والمشروط.

والصحيح أنَّهما من المبيَّنات العرفية لشيوعهما في المخاطبات؛ فكلُّ ما قيل في تعريفهما إنْ رجع إلى ما هو المقبول عند العرف فلا بأس، وإلا فهو مردود.

الجهة الثانية: وقع الكلام بين الأعلام في إمكان الواجب المشروط عقلاً بمعنى إمكان رجوع القيد إلى الوجوب وتقييده به بحيث لا يتحقق الوجوب إلا بعد تحقُّقه, والأقوال فيه ثلاثة:

القول الأول: ما نسب إلى المحقق الأنصاري قدس سره (1) من عدم إمكان رجوع القيد إلى الوجوب بل يرجع القيد إلى الواجب، وأمّا الوجوب فهو فعلي مطلق مع إعترافه بأنَّ مقتضى القواعد العربية هو رجوع القيد إلى الهيئة دون المادة.

وعليه؛ يكون الواجب المشروط عنده مثل الواجب المعلَّق عند صاحب الفصول.

وقد إستدلَّ الشيخ على رأيه بوجهين:

أحدهما: إنَّ مفاد الهيئة معنى حرفي غير قابل للإطلاق والتقييد؛ لأنَّه من شأن المفاهيم المستقلة القابلة للسعة والضيق مع أنَّ الوضع في المعاني الحرفية وما يلحق بها خاص فلا يقبل التقييد.

والآخر: إنَّ الوجدان في كلِّ إنسان إذا توجه إلى شيءٍ فإنَّ طلبه يتعلق بما تشتمل عليه المصلحة؛ وهي إمّا أنْ تترتب على المطلوب بقول مطلق بلا تقييد بشيء، أو تترتب على تقدير خاص فيتعلق الطلب والشوق بذلك الفعل على هذا التقدير؛ فيكون الشوق فعلياً متعلقاً بما هو إستقبالي، وهذا أمرٌ وجداني عند كلِّ آمر إذا علم بترتّب المصلحة على فعل معيّن في المستقبل، فإنَّ شوقه فعليٌّ، وهو يطلبه في هذا الحين.

القول الثاني: ما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره (2) خلافاً لما نسب إلى الشيخ؛ وهو رجوع القيد إلى الوجوب وتعليق تحقّقه على الشرط.

ص: 142


1- . مطارح الأنظار (ط. القديمة)؛ ص45-46 (نقلاً عن التقريرات).
2- . كفاية الأصول؛ ص95.

القول الثالث: ما إختاره المحقق النائيني قدس سره (1) معتبراً إياه أنَّه مقصود الشيخ الأنصاري قدس سره وهو رجوع القيد إلى المادة المنتسبة، ومدَّعياً إستحالة ما ذهب إليه الشيخ قدس سره لرجوعه إلى الواجب المعلق.وتوضيح الكلام في ذلك يستدعي البحث تارةً من حيث الثبوت وعالم نفس الأمر وأنَّه معقول في نفسه مع قطع النظر عن الإبراز وعالم اللفظ، وأخرى بلحاظ عالم الإثبات وإمكان إرجاع الشروط إلى مدلول الإنشاء من الأمر والإيجاب.

أمّا من حيث مقام الثبوت فقد ذكر الأصوليون أنَّ التكاليف المجعولة لها مراحل ثلاث وإنْ اختلف التعبير عنها, وهي:

1- مرحلة الملاك والمصلحة.

2- مرحلة الإرادة والشوق.

3- مرحلة الجعل والإعتبار.

وقد وقع النظر في تحقق الواجب المشروط في هذه المراحل الثلاث:

أمّا المرحلة الأولى؛ فالظاهر أنَّه لا إشكال في معقولية تقييد المصلحة والملاك بتحقق تقدير خاص كشرب الماء مشروطاً بالعطش, والنار بالبرد ونحو ذلك, وهذا واضح لا إشكال فيه.

أما المرحلة الثانية؛ فقد وقع الخلاف في تفسير الإرادة المشروطة بعد الفراغ عن أصل وجودها كإرادة الدواء مشروطاً بالمرض، وقد قيل فيها وجوه:

الوجه الأول: ما نُسب إلى جمعٍ منهم الشيخ الأنصاري والمحقق الخراساني وغيرهم من أنَّه لا فرق بين الإرادة المشروطة والإرادة المطلقة؛ فإنَّ كلتاهما إرادةٌ فعليّة موجودة في نفس المريد بالفعل، وإنَّما الفرق من ناحية المتعلَّق؛ فإنَّ الإرادة المطلقة لا قيد في متعلّقها، بينما

ص: 143


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص132.

المشروط يكون فيه متعلّقها مقيداً، فيكون المراد مقيداً لا الإرادة. فالإنسان الذي يريد أنْ يشرب الدواء مثلاً مقيد بحالة المرض ولا يسري هذا القيد إلى الإرادة من المقيد، وبالتالي يرجع القيد في الإرادة المشروطة إلى المراد دون نفس الإرادة.

وقد إستدلُّوا على ذلك بدليلين:

1- الدليل الوجداني؛ فإنَّ كلَّ آمر إذا راجع وجدانه يرى بأنَّ الإرادة فيما يطلبه مع قيدٍ؛ قد وُجدت لتكون فعليّة ولا يمكن فرضها معلَّقة على وجود شيء آخر كما عرفت آنفاً.

2- الدليل البرهاني؛ وهو أنَّ نفس تصدّي المولى لطلب الفعل من العبد بنحو الواجب المشروط قبل تحقّق الشرط يدلُّ على فعليّة الإرادة في نفس المولى, فهو قد شرَّع الإيجاب مقدمة لإيجاد المراد خارجاً ولا يمكن أنْ تترشّح الإرادة نحو المقدمات إلا بعد فعليّة الإرادة.

وأُورِد على الدليل الوجداني؛ بأنَّ إرجاع الإرادة المشروطة إلى التعليق في المراد دون الإرادة التي هي فعليّة خلاف الوجدان، وأنَّ الفرق إنَّما يكون في نفس الإرادة المطلقة والإرادة المشروطة, ولذا قد يُطوَّر الدليل الوجداني فيقال: إنَّالفروض المتصورة في المقام هي: فرض عدم الإرادة نهائياً؛ وهو خارج عن محلّ البحث, وفرض وجود الإرادة في الجملة؛ وحينئذٍ إمّا أنْ تكون هذه الإرادة في المقام فعليّة قبل تحقق الشرط أو لا تكون فعلية. ولا ريب أنَّ الفرض الثاني خلاف الوجدان الذي يقضي بأنَّ هناك فرقاً قبل تحقق الشرط بين من يريد شرب الدواء على تقدير المرض ومن لا يريده، وهو مِمّا يدلُّ على فعليّة الإرادة قبل الشرط.

وأمّا الفرض الأول وهو كون الإرادة فعليّة فلا بُدَّ من رجوع القيد فيها إلى المراد لا محالة, وهو المطلوب. وفيه؛ إنَّ ذلك لا يقضي برجوع القيد إلى المراد ولا إلى نفس المتعلق.

ص: 144

وأمّا الجواب عن الدليل البرهاني؛ فإنَّ مجرد ذلك لا يقضي بأنَّ الشرط يرجع إلى المراد, فإنَّ هناك تفسيرات أخرى يأتي ذكرها، كما إذا قلنا بأنَّه من المقدمات المفوتة؛ والصحيح أنَّ فعليّة الإرادة نحو المقيد تقتضي فعليّة الشوق والإرادة نحو قيده.

الوجه الثاني: وهو الذي يظهر من المحقق العراقي قدس سره (1), وهو يتَّفق مع الوجه السابق في أنَّ الإرادة المشروطة كالإرادة المطلقة فعليّة من أول الأمر؛ وإنْ كان يختلف عن الوجه الأول في أنَّ فعليّة الإرادة تتبع فعليّة الشرط في الإرادة المشروطة؛ لأنَّ شرطها ليس وجود القيد خارجاً بل لحاظه ووجوده الذهني في نفس المولى وهو فعلي حين فعليّة الإرادة.

نعم؛ فاعلية هذه الإرادة الفعليّة عقلاً مشروطة بتحقق الشرط خارجاً, ولعلَّ الوجه في ذلك يرجع إلى أنَّ الإرادة من موجودات عالم النفس, فلا بُدَّ أنْ يكون شرطه المؤثر من سنخه وعالمه لا من عالم آخرٍ وهو العالم الخارجي.

وأُورِد عليه؛ بأنَّ مجرد لحاظ الشرط الخارجي ووجوده الذهني التصوري لا يكون شرطاً للإرادة، بل التصديق بوجوده هو الذي يكون شرطاً في إنقداح الإرادة في النفس.

ولكن سيأتي من أنَّ شدّة الإرتباط بين ما يحدث في النفس من التصورات والإرادة التي هي حركة نفسية قضية أخرى؛ فإذا كان الشرط المتصور مرآة للشرط الخارجي فهو يكفي في حدوث الإرادة الفعليّة في النفس.

الوجه الثالث: ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من أنَّ الإرادة المشروطة المطلقة فعليّة من أول الأمر كالوجهين السابقين؛ إلا أنَّ وجود الإرادة المشروطة تعني وجود إرادة معلقة، بينما الإرادة المطلقة تعني أنَّ الإرادة غير معلّقة فهي فعلية.

ص: 145


1- . مقالات الأصول؛ ج1 ص105-108.

وبعبارة أخرى: إنَّ الوجودَ للإرادة في كلِّ واحدة منهما فعليٌّ, ولكن الموجود في الإرداة المشروطة معلّقٌ وفي المطلقة فعليٌّ؛ نظير حرمة شرب الخمر التي هي فعليّة بينما حرمة شرب العصير العنبي معلّقة على غليانه.

وفيه: إنَّ الوجود عين الموجود بذلك الوجود ولا يعقل التفكيك بينهما, ويستحيل أنْ يكون أحدهما فعلياً والآخر معلقاً إلا في الوجدانيات الإعتبارية التي لا يكون الموجود فيها حقيقياً؛ نظير باب الجعل والمجعول, والكلام في الإرادة والشوق الذي هو مبادئ الجعل له وجود حقيقي في عالم النفس.

الوجه الرابع: ما ذهب إليه بعض الأعلام من أنَّ في الإرادة المشروطة توجد إرادتان:

إحداهما: إرادة الفعل المفروض وجود شرط له كشرب الماء المشروط بالعطش.

وهذه الإرادة ليست فعليّة قبل تحقّق الشرط وجداناً، فهي تتحقق عند تحقق الشرط في ذهن الإنسان إنْ كان من الموجودات الذهنية الحضورية عند نفس المريد أو عند تحقق التصديق بحصوله في الخارج, ومن دون ذلك لا توجد هذه الإرادة.

والأخرى: إرادة مطلقة وفعليّة قبل وجود الشرط أو التصديق به خارجاً.

وهذه غير متعلِّقة بنفس الفعل كشرب الماء عند العطش، بل بالجامع بين شرب الماء وعدم العطش (الإرتواء)، أي أنَّها متعلقة بعدم تحقق المجموع من شرط الوجوب؛ فإنَّ هذا الإجتماع مبغوض لديه بالفعل لمنافرته قواه فينقدح في نفسه شوق فعلي نحو عدم وقوع هذا المجموع المركب، ولذا لو علم بأنَّه إذا صعد إلى السطح عطش عطشاً لا يمكنه شرب الماء كان ذلك داعياً لعدم صعوده. وأما إرادة شرب الماء فلا دور لها في عدم الصعود على السطح وإنَّما تدعوه نحو شرب الماء. فالقوم لم يتخيلوا هذه الإرادة المتعلقة بالجامع لذا أثبتوا فعليّة الإرادة المشروطة من أول الأمر.

ص: 146

وبالجملة؛ إنَّ الإرادة المشروطة في الواقع تطور للإرادة المطلقة؛ فإنَّ إرادة شرب الماء على تقدير العطش تطوِّر إرادة الإرتواء الذي يتحقق بالجامع بين عدم العطش وشرب الماء على تقدير العطش, وبين إرادة الجامع إقتضاء التخيير لإعدام الشرط كما في مثال عدم الذهاب إلى السطح، أو الجزاء على تقدير الشرط كما إذا عطش وكان يمكنه شرب الماء. ورُتِّب على ذلك:

1- إنَّه بذلك يمكن الجواب على البرهان الذي أُقيم -على ما عرفت سابقاً- على فعليّة الإرادة قبل تحقّق الشرط من أنَّه لو لم تكن الإرادة فعليّة قبل الشرط فكيف يتصدى المريد لجعل الخطاب والأمر من البداية؛ مع أنَّ الخطاب والجعل من مقدمات المراد، ولا يعقل التحرّك نحوها من دون فعليّة الإرادة.والجواب عنه: إنَّ الباعث على الخطاب والجعل هو الإرادة الثابتة المتعلقة بالجامع والتي هي فعليّة قبل تحقّق الشرط وبعده وتتحول إلى إرادة متعلقة بالجزاء كلَّما تحقق الشرط في الخارج.

2- إنَّ القول بتعلّق الإرادة بالجامع بين عدم الشرط ووجود الجزاء يستلزم عدم إمكان الرجوع إلى البراءة عن الواجب المشروط في تحقق شرطه خارجاً للقطع بالتكليف بالجامع والشك في حصوله من جهة الشك في حصول أحد فرديه, فلا بُدَّ من الرجوع إلى أصل آخر مؤمِّن كاستصحاب عدم تحقق الشرط مثلاً.

والجواب عنه: إنَّه تجري البراءة عند الشكِّ في الشرط, لأنَّ أشواق المولى وإرادته لا تدخل كلُّها في عهدة المكلفين إلا بمقدار ما يتصدّى المولى نفسه لتسجيله والمطالبة به وجعله في عهدة عباده، وفي الواجب المشروط يكون فعل الجزاء على تقدير الشرط -أي الإرادة المشروطة- هو الذي يكون قد سجّله المولى على ذمة المكلفين، فلا تشتغل إلا بهذا المقدار. وأما السبب في هذا الضيق فيرجع إلى أمور عديدة.

ص: 147

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ سبب الإختلاف في تفسير الإرادة المشروطة هو فعليّة الإرادة وتأخُّر الشرط. وقد تصدّى الأصوليون للجواب عن هذه المعضلة بالإلتزامات التي تقدم ذكرها.

ولكن لو عرفنا حقيقة الإرادة التي هي تحرّك نفساني بأيِّ معنىً إعتبرت؛ من الشوق والحب ونحو ذلك، فإنَّ هذه الحركة النفسانية تبعث الشعور عند الفاعل بما يريده ويدرك الغاية به من المراد، ولا يمكن أنْ تتحقق الإرادة في النفس من دون سبق تصور ونزوع النفس إلى الشيء مع الحكم عليه ثم إتّخاذ القرار بتنفيذ ذلك الحكم, وهي التي يعبّر عنها بمقدمات الإرادة. وإذا تحققت تلك المقدمات يحصل ذلك التحرك النفساني الذي يُعبّر عنه بالإرادة، ولا بُدَّ أنْ يكون لها متعلّق وهو المراد.

وعلى هذا؛ إنَّ هذه الإرادة لا إختلاف فيها من حيث كونها مطلقة أو مشروطة؛ لأنَّ حقيقتها لا تتغير سواءً كان المراد والمتعلق على سبيل الشرط أم لم يكن، فإنَّ الإرادة في الجميع فعليّة في النفس وإنْ كان المراد قد يكون إستقبالياً ومعلَّقاً على حصول شروط أو ظروف خاصة، وقد لا يكون كذلك بل يكون فعلياً؛ فإنَّ ذلك لا يغيِّر حقيقة الإرادة ولا يوجب تقسيمها إلى إرادتين.

فالإرادة في جميع تلك الحالات على حدٍّ واحد, وإنَّ البواعث والأغراض هي التي تجعل المراد متعلقاً فعلياً أو إستقبالياً معلّقاً على حصول الشرط.

وأمّا تقسيم الإرادة في المشروطة إلى إرادتين فمِمّا لا دليل عليه، بل إنَّ فرضهما لا يرفع الإشكال, كما أنَّه لا فائدة في حصول إرادة تتعلق بالفعل المشروط غيرالإرادة التي تتعلق بالحكم، ولا تكون فعليّة مع أنَّه لا توجد إرادة في النفس إلا أنْ تكون فعلية.

وأما الإرادة المتعلقة بالجامع فهي ليست إرادة أخرى غير تلك التي تعلّقت بالحكم ومجموع الشرط والجزاء. وأمّا ما ذكره المحقق العراقي قدس سره فهو الأقرب وإنْ كانت صياغته لا تخلو من إشكال كما عرفت. ويمكن إرجاع الصيغ الأخرى إلى ما ذكرناه؛ فراجع.

ص: 148

أمّا الإشكال الذي يترتب على القول بفرض إرادتين فهو لم يحصل حتى على فرض الإرادتين؛ فإنَّهما متَّحدتان من حيث المتعلق، إذ الشكُّ في شرطه يوجب الرجوع إلى البراءة ولا يُحتاج إلى ما ذكره وإنْ كان في حدِّ نفسه صحيحاً.

وأمّا المرحلة الثالثة(1): فقد وقع البحث في إمكان الواجب المشروط أو لزوم رجوع الشرط إلى الواجب.

والظاهر إمكان رجوع الشرط إلى الوجوب كالمرحلتين السابقتين بمعنى إناطة الوجوب بالشرط؛ فلا يتحقق المجعول إلا بتحقق الشرط, وقد وُجِّهَ ذلك بتوجيهين:

أحدهما؛ ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (2) من أنَّ الواجب المشروط حاله حال القضية الحقيقية؛ كالنار حارة والسماء زرقاء؛ التي تنحلّ إلى قضية شرطية مثل: إذا كانت النار موجودة فالحرارة موجودة، وقضية حملية في طرف الجزاء، فتتحقق مرحلتان؛ مرحلة القضية الشرطية الصادقة حتى مع كذب طرفيها، ومرحلة القضية الحملية في طرف الجزاء والتي تكون فعليّة عند فعليّة الشرط. وحال الواجب المشروط كذلك، فإنَّ للحكم الشرعي مرحلتان؛ مرحلة الجعل التي ترجع إلى قضية حقيقة شرطية، ومرحلة المجعول التي ترجع إلى فعليّة الوجوب عند تحقق الشرط في الخارج.

وعليه؛ يمكن إناطة الوجوب بمعنى المجعول بالشرط رغم فعليّة الجعل والإيجاب، ولا محذور فيه بعد أنْ كان من الأمور الإعتبارية العنوانية, فيكون إيجاده فعلياً والموجود بهذا الجعل والإيجاد تعليقياً مشروطاً بتحقق شيء من الخارج.

والآخر؛ ما ذهب إليه بعض المحقِّقين(3) رادّاً مقالة المحقق النائيني؛ حيث قال بأنَّ تنظير

ص: 149


1- . وهي مرحلة الجعل والإعتبار في الأحكام المجعولة.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص224.
3- . وهو السيد الصدر في بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص193-194.

القضية الحكمية الشرعية بالقضية الحقيقية في المرحلة الأولى صحيح لا بأس به, ولكنه بالنسبة إلى المرحلة الثانية غير صحيح؛ لأنَّ القضية الحقيقية يكون لجزائها فعليّة حقيقية, بخلاف القضية المجعولة, فإنَّه لا يكون لجزائها مرحلة فعليّة حقيقية بالدقة، بل هي وهمية تصورية. وقال في توجيه ذلك: إنَّ ما يفترضتحققه في القضايا المجعولة عند تحقق شرطها من الحكم الفعلي إنْ كانت نسبته إلى القضية المجعولة نسبة المجعول إلى جعله حقيقة فمن الواضح أنَّ المجعول بالذات وهو المجعول الحقيقي إنَّما هو نفس القضية الحقيقية؛ أي نفس الجعل لأنَّ الجعل والإعتبار من الصفات النفسانية ذات الإضافة كالحب والعلم، والإضافة في هذه الصفات داخلة في حاقِّ ذاتها ولم تكن من العوارض عليها. فإنَّ المعلوم والمحبوب عين العلم وعين الحب, والمفروض في المجعول أنَّه عين الجعل حقيقة فهو أيضاً كذلك.

فإذا كانت له نسبة وعلاقة إلى الجعل وكان له وجود حقيقي فلا بُدَّ أنْ تكون علاقة أخرى.

وإنْ كانت النسبة بينهما نسبة المسبب إلى سببه ومقتضيه ويكون الأمر الخارجي شرطاً لفعليته؛ فإنْ كان المراد من الأمر الخارجي هو السبب عن جعل الشارع فمن الواضح أنَّ الأحكام الشرعية ليست أموراً خارجية تكوينية. وإن كان المراد به أنَّه أمرٌ نفسانيٌ يحصل لدى الجاعل عند تحقق الشرط في الخارج؛ فمن الواضح أيضاً أنَّه لا يحصل في نفس المولى الجاعل للحكم شيء عند تحقق الشرط في الخارج؛ سواءً علم بتحقّقه في الخارج أم لا, فلا يوجد في القضايا المجعولة شيء حقيقيٌ خارجاً أو في نفس المولى وراء نفس الجعل, ولنصطلح عليه بالمجعول الفعلي.

ص: 150

نعم؛ عند تحقق الشرط خارجاً تصبح للقضية المجعولة فاعلية ومحرِّكية للعبد نحو الفعل، ولا بأس بأن نعبِّر عنه -مسامحةً- عند تحقّق الشرط خارجاً بفعليّة المجعول وتحقق الوجوب تصوُّراً، ولكنَّه مجرد رؤية تصورية.

ولعلّ المحقق النائيني حينما إدَّعى وجود مرحلتين للحكم؛ مرحلة الجعل والمجعول كان ينظر إلى ذلك, ثم إنَّه قال بإنكار المجعول بالنظرة التصديقية الحقيقية وبه ينحلُّ إشكال الشرط المتأخر، كما أنَّه بقبول المجعول بالنظرة التصورية يصحُّ إستصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية كما سيأتي في محلّه.

والصحيح أنْ يُقال: إنْ كان مقصود المحقِّقَين المذكورَين إثبات فعليّة المجعول وهو الوجوب عند تحقق الشرط خارجاً؛ فما ذكراه لا يثبت ذلك، لأنَّ فعليّة التكاليف منحصرة بحكم العقل ولا ربط لها بالشارع، وتدور هذه الفعليّة مدار تحقّق الشرائط بأسبابها خارجاً؛ فمع التحقق يكون التكليف والمجعول فعلياً عقلياً، ومع عدمه لا فعليّة له, فيكون الإطلاق والإشتراط في التكليف الفعلي راجعاً إلى حكم العقل فقط, وما يرتبط بالشارع إنَّما هو الإطلاق والإشتراط في مرتبة جعل القانون فقط, فيصحُّ له جعل القانون المطلق أو المشروط ولو لم يكن مكلّف في البين. ولعلَّ هذا المعنى هو مراد المحقق المذكور ليجعل القضايا الشرعية بمنزلةالقضايا الحقيقية، وهذه هي الفعليّة التي يصحُّ إنتسابها إلى الشارع حيث له حقُّ إعلان القانون وجعله.

وأمّا فعليّة التكليف(1) فهي من العقل؛ فإنْ رجع ما ذكراه إلى ما ذكرناه فلا بأس به، وإلا فهو تطويل بلا طائل تحته.

ص: 151


1- . أي المجعول.

وبذلك ينحلُّ إشكال المحقق الخراساني؛ حيث ذهب إلى أنَّ القول برجوع الشرط إلى الواجب يستلزم إنفكاك المنشأ عن الإنشاء والإعتبار عن المعتبِر، بل إنَّه بناءً على ما ذكر يسقط هذا الإشكال من أصله.

هذا كله في مقام الثبوت. وأمّا من حيث مقام الإثبات(1) فقد استدلَّ على ذلك بوجهين:

الأول: إنَّ هيئة الأمر التي يُستفاد منها الوجوب تدلُّ على المعنى الحرفي, وإنَّ الوضع فيه جزئي، والجزئي لا يقبل التقييد والتخصيص لأنَّهما من شؤون المعاني الكلية.

الثاني: إنَّ الإطلاق والتقييد من شؤون المعاني الإستقلالية في التصور, بحيث يمكن التوجّه إلى الحكم وموضوعه توجهاً إستقلالياً تفصيلياً، والمعنى الحرفي آليُّ متقوّمُ بالغير, وهو غير قابل للإطلاق والتقييد لعدم إمكان التوجه إليه كذلك.

وقد أُشكل على الوجهين بعدة إشكالات ترجع إلى إختلاف مبانيهم ومذاهبهم في المعنى الحرفي والتي تقدم ذكرها مفصلاً.

وقد عرفت في محلّه:

1- إنَّ الوضع في المعنى الحرفي ليس خاصاً وجزئياً.

2- إنَّه على فرض جزئية المعنى الحرفي لا مانع من تقييده, فإنَّ جزئيته تأتي من ناحية طرفيه التي تختلف النسب فيه وتتباين باختلاف أطرافها, بحيث لا يعقل إنتزاعُ جامعٍ حقيقي بين النسب الحقيقية، وهذا لا يقتضي جزئية المعنى الحرفي المحفوظ في طرفيه. ونظير ذلك تقييد الأعلام الشخصية وغيرها من الجزئيات.

3- إنَّ آلية المعنى الحرفي ليست بالمعنى الذي لا يمكن النظر إليها أبداً, لأنَّه خلاف الوجدان؛ فإنَّه كما يُنظَر إلى المعنى الإسمي كذلك يُنظَر إلى المعنى الحرفي بما هو هو

ص: 152


1- . وهو إستحالة رجوع الشرط إلى الوجوب في مرحلة الإثبات والدلالة.

من دون محذور، إذ يمكن توجيه النفس إستقلالاً إليه، وتقييده ولو عن طريق معنى إسمي مشير إليه, وقد تقدم البحث عنه مفصّلاً؛ فراجع.

4- إنَّ أصل الإشكال نشأ من التفكيك بين المادة والهيئة تصوراً وعقلاً، ورتَّبوا على كلِّ واحد منها أحكاماً خاصة، ولكن يمكن لنا إثبات الملازمة بينهما في الإطلاق والإشتراط من جهات متعددة:

أ- الإتّحاد بينهما في الوجود.

ب- التلازم العقلي؛ وهو يثبت الإتّحاد في الإطلاق والإشتراط في الجملة، أي من جهة خاصة لا مطلقاً, فإنَّ العقل يمكنه التفكيك بين الحيثيات والجهات.

ج- إنَّ العرف الذي ينزِّل على أنظارهم الأدلة يحكم بعدم التفكيك بينهما في الإطلاق والإشتراط, فيكون إشتراط أحدهما وإطلاقه عين إشتراط الآخر وإطلاقه.

نعم؛ يفرّق العرف بينهما في أنَّ قيود الوجوب واجبة التحصيل بخلاف قيود الواجب، ولكنّ هذا أمر آخر لا ربط له بالملازمة العرفية في الإطلاق والإشتراط.

ومن جميع ذلك تظهر الملازمة بين الهيئة والمادة في الإطلاق والإشتراط وإنْ صحَّ التفكيك بينهما عقلاً ولكنه بمعزل عن الأحكام الشرعية المنزَّلة على العرفيات، ولعلَّ مراد المحقق النائيني من المادة هذا المعنى من الملازمة.

الجهة الثالثة(1): فيما يترتب على هذا البحث

ذُكرت ثمرات عديدة لهذا البحث؛ منها:

1- وجوب بعض المقدمات قبل إتيان زمان الواجب؛ ولأجل ذلك أدرجوا هذا القسم في مباحث وجوب المقدمة, فإنَّ المقدمة بما أنَّها مترشحة من وجوب ذيها فهي تابعة

ص: 153


1- . من بحوث المطلق والمشروط.

من حيث الإطلاق والإشتراط لوجوب ذيها أيضاً؛ فإذا كان وجوب ذي المقدمة مشروطاً بشرطٍ كان وجوبها كذلك، ومن ذلك يستلزم لغوية جعل الوجوب للمقدمة. وهو إشكال معروف قد إختلفت أنظار الأصوليين في الجواب عنه. وقد عرفت أنَّه بناءً على رأي الشيخ الأنصاري قدس سره يكون الوجوب فعلياً مطلقاً والواجب مشروطاً بتحقّق شرطه، وسيأتي في بحث وجوب المقدمة الجوابُ عنه ولا نحتاج إلى ارتكاب ما هو خلاف المشهور باعتراف الشيخ نفسه.

2- الثمرة بين مختار الشيخ الأنصاري وما اختاره المحقق الخراساني؛ أمّا ما يرتبط بالمقدمات الوجوبية وهي الشرط الذي يُعلَّق عليه الوجوب فعلى مختار صاحب الكفاية تخرج عن محلِّ النزاع، إذ بناءً على الرأي الأخير يخرج الشرط الذي يُعلَّق عليه الوجوب في الخطاب عن محلِّ النزاع لرجوع الشرط إلى الوجوب فيكون مقدمة وجوبية ولا يجري النزاع فيها.أمّا على مختار الشيخ الأنصاري فهو وإنْ كان من قيود الواجب إلا أنَّه أُخِذ بنحوٍ لا يكون قابلاً لترشُّح الوجوب عليه؛ فإنَّ الواجب هو الشيء على ذلك التقدير, فالوجوب متعلق بذلك الشيء على تقدير الشرط، وتعلق الوجوب به يكون من طلب الحاصل, لأنَّ الشرط قد أُخِذ قيداً للواجب؛ على أنْ يكون حصوله تكوينياً من دون تسبيبٍ من المولى, فالوجوب متعلق بالفعل على تقدير حصول ذلك الشرط من نفسه وطبعه, فيمتنع قبل حصول تعلُّق طلب المولى له لأنَّه خلفٌ، فقد أُخِذ قيداً على تحقّقه طبعاً كما أنَّه يمتنع تعلُّق الطلب به وبعد حصوله لأنَّه طلب الحاصل.

وأمّا المقدمات الوجودية للواجب المشروط غير المعلَّق عليها وجوبه فهي على مختار صاحب الكفاية لا تكون متعلقة للطلب إلا بعد حصول الشرط لتبعية وجوبها في

ص: 154

الإشتراط لوجوب ذيها، إذ لا وجوب لذي المقدمة قبل الشرط كي يترشح منه وجوب المقدمة. ولكن على مختار المحقق الأنصاري قدس سره تكون متعلّقة للطلب قبل حصول الشرط, لكون وجوب ذي المقدمة حالياً قابلاً لأنْ يترشّح منه وجوب المقدمات. نعم؛ الأمر في العلم يختلف فيه عن غيرها من مقدمات الوجود, وذلك لدليلٍ خاص لا من باب الملازمة.

3- إنَّ القول بتعلُّق الشرط بالوجوب يُظهر الجواب عن الشرط المتأخر, وأمّا بناءً على تعلُّقه بالواجب فإنَّه لا يمكن الجواب عن الشرط المتأخر الذي هو محلُّ بحثٍ عند الأعلام إلا ببعض التوجيهات.

4- إنَّ إثبات الواجب المشروط يستلزم التفكيك بين الإعتبار والمعتبر والإنشاء والمنشأ وكلاهما محال. وقد عرفت الجواب عن بعضها, وسيأتي في بحث وجوب المقدمة الجواب عن جميعها.

5- ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من كون الإعتبار متعلِّقاً بأمر على تقديرٍ مّا، وسيأتي تفصيل الكلام عنه في كتاب البيع في مبحث البيع الفضولي إنْ شاء الله تعالى.

بقي شيء؛ وهو: إنَّ المحقق النائيني قدس سره وتصحيحاً للواجب المشروط إلتزم برجوع القيد إلى المادة المنتسبة. والمراد به: إنَّ القيد يرجع إلى المادة ولكن لا بمعنى كون القيد من قيود الواجب والوجوبُ يكون فعلياً لأنَّه يرجع إلى الواجب المعلَّق الذي التزم به صاحب الفصول، ويراه المحقق المزبور وغيره أنَّه باطل لأنَّه محال كما سيأتي، بل بمعنى أنَّ القيد يطرأ على المادة من حيث ورود النسبة إليها, فإنَّ الشيء قد يكون متعلَّقاً للنسبة الطلبية مطلقاً من غير تقييد، وقد يكون متعلَّقاً للنسبة الطلبية حين إتّصافه بقيد في الخارج؛ فالحجُّ المطلق لا يتَّصف بالوجوب, بل المتَّصف هو الحجُّ المقيد بالإستطاعة الخارجية, فما لم

ص: 155

يوجد هذاالقيد يستحيل تعلّق الطلب به ليكون طرفاً للنسبة الطلبية، فالقيد راجع إلى المادة ولكن لا بما هي منتسبة إلى الفاعل فيكون الواجب هو الحصّة الخاصة أي الفعل على تقدير القيد الخاص.

وقد أُورد عليه بعدة إيرادات، والحقُّ ما ذكرناه من أنَّ المادة والهيئة متلازمتان من حيث الإطلاق والإشتراط فلا يبقى مجالٌ لما ذكره قدس سره من أنَّ النسبة من المعاني الحرفية فلا يَرِدُ عليها التقييد, لأنَّه يرى أنَّ المعاني الحرفية آلية فلا يمكن تصويرها مستقلاً.

والحاصل من جميع ذلك: إنَّه لا دليل على إمتناع الواجب المشروط ثبوتاً ولا إثباتاً.

القسم الثاني: الواجب المعلَّق والواجب المنَجَّز

القسم الثاني(1): الواجب المعلَّق والواجب المنَجَّز

المعروف والمشهور أنَّ الذي إبتكر هذا التقسيم هو صاحب الفصول، فهو الذي قال بأنَّ الواجب؛ إمّا مطلقٌ غيرُ مقيدٍ بشيء وهو المنجّز, أو يكون الواجب مقيَّداً بشيء وهو الواجب المشروط عند المشهور، أو يكون الوجوب مطلقاً والواجب مقيَّداً بشيء غير مقدور وهو المعلَّق. فإنَّ القيود المأخوذة في التكليف إمّا إختيارية يجب تحصيلها ويترشّح عليها الوجوب فيكون الواجب منجَّزاً, وقد تكون غير إختيارية, أو أُخِذ وجودها الإتّفاقي قيداً في الواجب فيكون وجوباً معلَّقاً. ولا فرق بين الواجب المعلَّق عند صاحب الفصول وما نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس سره في الواجب المشروط, إلا أنَّ التعليق في المعلَّق يكون على أمر غير مقدور، وفي المشروط أعم منه.

ولتوضيح الأمر فإنَّ الأقسام التي يمكن تصورها أربعة:

الأول: المادةُ والهيئةُ كلتاهما مطلقتان؛ وهو الواجب المطلق والمنجّز.

ص: 156


1- . من أقسام الواجب.

الثاني: المادةُ والهيئةُ كلتاهما مقيدتان؛ وهو الواجب المشروط على كِلا الإصطلاحين وعند الطرفين.

الثالث: المادةُ مقيدةٌ والهيئةُ مطلقةٌ؛ فإنْ كان التقييد بغير المقدور فهو المعلَّق.

الرابع: عكس ذلك، أي المادةُ مطلقةٌ والهيئةُ مقيدةٌ؛ وهو المشروط عند المشهور.

وقد أنكر الشيخ الأنصاري قدس سره (1) الواجبَ المعلَّق، ووجَّه المحقق الخراساني قدس سره (2) إنكاره بأنَّ الواجب المعلَّق هو الواجب المشروط بالمعنى الذي إختاره الشيخ الأنصاري قدس سره ، فلا يبقى للمعلَّق معنىً معقول، لكنَّ إنكار الشيخالأنصاري قدس سره يرجع في الحقيقة إلى إنكار الواجب المشروط بالمعنى المشهور لا إلى إنكار الواجب المعلَّق بالمعنى الذي ذهب إليه صاحب الفصول، فهما في الواقع يشتركان في إقرارهما للواجب المعلَّق إلا ما عرفت من الفرق بينهما. وإنْ كان بعض الأصوليين قد تصدّى لبيان أنَّ إنكار الشيخ يرجع في الواقع إلى إنكار الواجب المعلَّق, وأنَّ ما ذهب إليه في الواجب المشروط يختلف عن الواجب المعلَّق عند صاحب الفصول.

وعلى أيَّ حالٍ؛ فإنَّ مختار العَلَمين المذكورين في الواجب المشروط والواجب المعلَّق إنَّما يرجع إلى دفع الإشكال في موارد قليلة في الفقه تُوُهِّمَ فيها وجوب المقدمة قبل ذيها كما سَيَبين.

وقد وقع الكلام في إمكان الواجب المعلَّق, فقد إدُّعي إمتناعه عقلاً وإستدلوا عليه بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره من أنَّه غير معقول؛ لما أوضحناه من كلامه آنفاً في أنَّه عين الواجب المشروط بالمعنى الذي إختاره الشيخ قدس سره , فلا يكون

ص: 157


1- . مطارح الأنظار (ط. القديم)؛ ص51.
2- . كفاية الأصول؛ ص101.

حينئذٍ له معنى معقول، فهو قدس سره في الحقيقة لم ينكر الواجب المعلَّق الذي فرضه صاحب الفصول وإنَّما يرجع إنكاره إلى تسميته بالمعلَّق بعد أنْ أطلق عليه الواجب المشروط، فهو معقول ثبوتاً ولا إشكال من هذه الناحية.

الوجه الثاني: إنَّ الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في جميع الخصوصيات والآثار, إلا أنَّ الأُولى تتعلق بفعل الغير والثانية بفعل نفس الشخص, ويستحيل إنفكاك الإرادة التكوينية عن المراد, لأنَّها الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات, فكذلك يستحيل إنفكاك الإرادة التشريعية عن المراد وهو فعل الغير. والقول بالواجب المعلَّق يستلزم التفكيك بين الإرادة التشريعية والمراد التشريعي؛ وهو محال.

وهذا الإعتراض حكاه المحقق الخراساني(1) عن المحقق النهاوندي(2) (قدس سِرّاهما). وقد ذكر السيد الوالد قدس سره (3) في إستحالة إنفكاك المراد عن الإرادة بأنَّه إنفكاكٌ للمعلول عن العلة التامة وهو محال.

ولعلّ مراده قدس سره بذلك أنَّه مع عدم تحقق المراد لا تتأتّى الإرادة؛ لا بمعنى أنَّ الإرادة تساوق وجود المراد، فالإرادة التشريعية وِزانُها وزان الإرادة التكوينية من هذه الناحية، أو نقول بالإرادة التشريعية باعتبار الإيجاب؛ فإنَّ حقيقتها إيجادالباعث والداعي للعبد نحو الفعل، فالباعثية مع الإنبعاث متضايفان كالعلة والمعلول, فلا يصدق أحدهما بدون الآخر ولا يمكن التفكيك بينهما, إذ كيف يمكن إنبعاث المكلف بالفعل نحو أمر إستقبالي؛ فهو أمر مستحيل، فلا بُدَّ أنْ يكون الإنبعاث مستحيلاً أيضاً, فيكون الواجب المعلَّق محالاً.

ص: 158


1- . كفاية الأصول؛ ص102.
2- . في كتابه تشريح الأصول؛ ص263-264.
3- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص76.

وقد ذكر الأصوليون في الجواب عنه ما يلي:

1- إنكار إمتناع إنفكاك المراد عن الإرادة التكوينية وعدم إمتناع تعلُّق الإرادة التكوينية بأمر إستقبالي؛ فإنَّ الذي يريد الوصول إلى مدينة معينة يحتاج إلى مقدمات متعددة؛ كركوب السيارة وطيِّ المسافة ونحو ذلك، ولا ريب أنَّ فعل تلك المقدمات لم يتعلق به إرادة إستقلالية, بل إنَّ ذلك يتبع إرادة الوصول إلى المكان المقصود بحيث لو لم تكن تلك الإرادة لما تعلَّقت بالمقدمات، فالإرادة تعلقت بأمر إستقبالي بدليل الإنبعاث نحو فعل المقدمات التي تعلّقت بها إرادة تبعية مترشِّحة عن إرادة ذيها فعلاً.

ونوقش بأنَّ ما ذُكِر شاهداً لا يصلح للإستشهاد به, لأنَّ الشوق إلى المقدمة بما هي مقدمة وإنْ لم يحصل إلا تبعاً للشوق المتعلِّق بذيها؛ ولكن الشوق المتعلق بذيها لم يبلغ حدَّ الإرادة لعدم وصوله حدّ التحريك والباعثية لتوقف حصوله على المقدمات، إذ إرادة المقدمة غير تابعة لإرادة ذي المقدمة, فالتبعية إذا حصلت ففي أصل الشوق المتعلق بهما لا في حدِّه ووصوله إلى مرحلة الباعثية بمعنى الإرادة.

وفيه: إنَّه مغالطة واضحة؛ فإنَّ الُمدَّعى أنَّه ليس مجرد شوق من دون أنْ يصل إلى حدِّ الباعثية, فإنَّه لو لم يصل إلى ذلك الحدّ لما حصلت الإرادة الفعليّة إلى إتيان المقدمات, فإنَّ مجرد الشوق غير كافٍ في الإنبعاث.

2- إنْ قلنا بأنَّ الإرادة هي الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد, فهذا المعنى يوهم بامتناع تعلُّقها بالمتأخر زماناً لامتناع تحريك العضلات نحوه، لأنَّ المراد من التحريك هو التحريك الفعلي.

ص: 159

وأما إذا قلنا بأنَّ المراد بالإرادة تحديد مرتبة الشوق التي تسمى بالإرادة وهو الحدُّ الخاص الذي يستتبع تحريك العضلات شأناً لا فعلاً, فهي بهذا المعنى يمكن أنْ تتعلق بأمر إستقبالي لا يحتاج إلى تمهيد مقدمة، وربّما يكون الشوق المتعلَّق به أقوى مِمّا تعلَّق بأمر فعلي.

وفيه: إنْ كان المرادُ من الإرادة الشوقَ ولو كان مؤكداً فإنَّه يمكن تفكيك المراد عن الإرادة، إذ كم من مشتاقٍ ينفكّ عن الشوق وجداناً.

وأمّا إذا كان المراد بها الإختيار المستلزم لتحقق المختار فالمراد لا ينفكُّ عن الإرادة أبداً، ولا وجه لما ذكره من عقلٍ أو نقل.

3- إنَّ الإرادة التشريعية تختلف عن الإرادة التكوينية؛ فالإرادة التشريعية تتعلَّق بالأمر المتأخر دائماً ولو كان الزمان قصيراً، فإنَّ حدوث الداعي في نفس المكلف يتوقف على بعض المقدمات كتصوّر العمل المكلَّف به وما يترتب عليه من مثوبة أو عقوبة، وهذا لا يحدث إلا بعد الإنبعاث بزمانٍ ولو كان قليلاً، فإذا فرض الإنفكاك فلا يرى العقل مانعاً في ذلك سواءً طال زمان التفكيك أم قَصُر.

وفيه: ما سيأتي تحقيقه من أنَّ المراد من الإرادة التشريعية غير المراد من الإرادة التكوينية مِمّا يستحيل إنفكاكها عن متعلَّقها، فإنَّ متعلَّق التشريع فعلُ الغير؛ وهو ليس بإراديٍّ للمريد بل للغير، وانفكاك فعل الغير عن الإرادة التشريعية أمر بديهي كموارد العصيان وعدم الإطاعة. وسيأتي مزيد بيان لذلك.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ الأمر والطلب إنَّما هو جعل ما يمكن أنْ يكون باعثاً وداعياً ومحرِّكاً للمكلف نحو الفعل, بحيث يصدر الفعل عن المكلف باختياره بداعي البعث الصادر من المولى؛ فإنَّ ما يترتب على الفعل ليس هو إلا

ص: 160


1- . نهاية الدراية (ط.1)؛ ج1 ص186.

الحصة الخاصة منه, وهو الفعل الإختياري دون مطلق الفعل ولو كان بالقهر والغلبة، فإذا كانت حقيقة الطلب هي ما يمكن أنْ يكون باعثاً إمتنع تعلُّقه بالأمر الإستقبالي, إذ مع تمامية جميع المقدمات وانقياد المكلف لأمر المولى, فإنْ لم يتحقق إنبعاثه نحو الفعل فلا يتحقق البعث بنحو الإمكان بالأمر أيضاً.

وبعبارة أخرى: إنَّ البعث والإنبعاث متضايفان, فلا يصدق أحدهما بدون الآخر, فلا بعث بدون إنبعاث, كما لا إنبعاث بدون بعث. وقد ثبت في محلِّه أنَّ المتضايفَين متكافئان في القوة والفعل؛ فإذا كان أحدهما فعليّاً كان الآخر كذلك، ويمتنع أنْ يكون أحدهما بالفعل والآخر بالقوة.

وعليه؛ فإذا كان الأمر عبارة عن جعل ما يمكن أنْ يكون باعثاً فهو بعث بالإمكان, فلا يتحقق واقعاً إلا فيما يمكن تحقق الإنبعاث له؛ أي إذا كان الأمر بعثاً بالإمكان لزم تحقق الإنبعاث بالإمكان لمكان التضايف، وإذا إنعدم الإنبعاث الإمكاني فلا يصدق البعث الإمكاني، وهو يساوق عدم الأمر.

والمقام من هذا القبيل؛ فإنَّه مع تعلُّق الأمر بالفعل الإستقبالي لا يمكن الإنبعاث نحوه في فرض حصول جميع مقدماته، وإذا لم يتحقق الإنبعاث إمكاناً لم يتحقق البعث بالإمكان فهو يرجع إلى عدم تحقُّق الأمر.

ومن هنا يظهر أنَّ ما أورده المحقق الخراساني قدس سره على الإشكال السابق من أنَّ الأوامر التشريعية دائماً يتحقق فيها إنفكاك المأمور عن الأمر ويتأخر عنه الوجود؛ فلا محيص من الإلتزام بالواجب المعلَّق فهو ليس بوارد عليه, لأنَّ المحذور ليس إنفكاك المأمور عن الأمر في الوجود، بل المحذور هو إنفكاكالإنبعاث عن البعث, والمراد بالإنبعاث هو الإنبعاث إمكاناً لا خارجاً, فإنَّه طرف التضايف لا الإنبعاث الخارجي فتكون مناقشة

ص: 161

المحقق الإصفهاني لكلام صاحب الكفاية ترجع لكونه غير رافعٍ للمحذور والإشكال فإنَّه أجنبيٌّ عنه.

وبالجملة؛ إنَّ الأمر إذا كان متعلِّقاً بأمر فعلي كان الإنبعاث ممكناً في كلِّ وقت بفرض الإنقياد فيه دون ما إذا تعلَّق بأمر إستقبالي كما عرفت، وأمّا تأخُّر الإنبعاث الخارجي عن الأمر فهو غير ضائر, لأنَّه ليس بطرف التضايف, فهذا يدلُّ على إستحالة الواجب المعلَّق.

والحقُّ في الجواب: ما أشرنا إليه سابقاً من أنَّ حقيقة التكليف والأمر إنَّما هو جعل القانون والتشريع في عهدة المكلف وإتمام الحجّة عليه أو إيجاد الداعي في نفس المكلف نحو المأمور به, ولا ريب أنَّ جميع ذلك لا ينفكُّ عن بيان التكليف مطلقاً كان أم مشروطاً, معلقاً أم غيره؛ لأنَّه بمجرد تعلُّق الإرادة التشريعية بذلك يحصل المراد المتمثل فيما ذكر في الواقع فلا يعقل الإنفكاك. وليس المراد من الأمر جعل ما يمكن أنْ يكون باعثاً وداعياً, فإنَّه لا دليل عليه. وعلى فرض التنزُّل فإنَّ حقيقة الأمر هي جعل ما يمكن له إقتضاء الداعوية والتأثير؛ ولا ريب أنَّ المقتضي لا ينسلخ عن إقتضائه إذا وجد ما يمنع عن تأثير المقتضي في مقتضاه سواءً كان المانع من الخارج أم لأجل عدم قبول المحل؛ فإنَّ النارَ مقتضٍ للإحراق ولو لم تكن مؤثرة فعلاً لمانع خارجي. وعليه؛ فعدم إمكان الدعوة فعلاً والإنبعاث عن الأمر في الواجب المعلَّق لا ينافي كون الأمر مقتضياً للدعوة والبعث.

وأمّا ما ذكره المحقق العراقي قدس سره في الجواب عن هذا الوجه من أنَّ الأمر وإنْ كانت حقيقته جعل ما يمكن أنْ يكون داعياً ولكن من دون إشتراط أنْ يكون ممكن الدعوة فعلاً, بل يكفي فيه إمكانه ولو في المستقبل؛ فإنَّه يمكن تأويله إلى ما ذكرناه.

وكيف كان؛ فإنَّ ما ذكره المحقق الإصفهاني في بيان إستحالة الواجب المعلَّق غير تام.

ص: 162

الوجه الرابع: وهو الذي ذكره المحقق النائيني قدس سره (1)؛ من أنَّ كلَّ قيد لم يجب تحصيله كالقيد غير الإختياري، أو الإتّفاقي كالزمان الإستقبالي؛ إذا أُخذ في الواجب المعلَّق؛ فإنْ كان راجعاً إلى الوجوب ولو بنحو الشرط المتأخر كأن يكون وجود الحكم مترتباً على وجود القيد فالوجوب -وإنْ كان فعلياً قبل تحقق القيد- إذا كان متحققاً في لوح الواقع فهو الواجب المشروط وليس قسماً آخراً في قبال الواجب المشروط.وإنْ كان يرجع إلى الوجوب فلمّا كان القيد غير إختياري لا يعقل التحريك نحوه بحسب الفرض, فلا بُدَّ حينئذٍ من أخذه قيداً في الوجوب على نحو الشرط المتأخر، فلا يعقل الواجب المعلَّق.

وبعبارة أخرى: إنَّ إستحالة الواجب المعلَّق ترجع إلى أنَّ قيد المتعلَّق الذي لا يجب تحصيله يرجع إلى الموضوع المأخوذ بنحوِ مفروض الوجود فيمتنع وجود الحكم قبله، فإنَّ جعل الأحكام الشرعية عنده يكون بنحو القضايا الحقيقية.

وأُجيب عنه: إنَّنا نمنع كلية الكبرى التي تتكرر في كلامه قدس سره كثيراً، فليس كلُّ ما لا يجب تحصيله يكون مأخوذاً بنحو فرض الوجود، إذ أنَّ القيود تكون على أقسام ثلاثة:

الأول: القيود المأخوذة في المتعلَّق.

الثاني: القيود التي ترتبط بالحكم نفسه؛ كالزمان تكون نسبته إلى الحكم نسبة الظرف إلى المظروف.

الثالث: القيود التي لا ترتبط بالحكم أصلاً.

والذي يُحتاج إلى أخذه من تلك الأقسام مفروضَ الوجود هو القسم الثالث فقط دون ما كان مثل الزمان وقيود المتعلَّق، فإنه لا وجه معقول يقتضي فرضَ الوجود فيهما، مع أنَّ فرض

ص: 163


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص136.

الوجود في القيود ليس مدلولاً لدليل شرعي حتى يؤخذ بإطلاقه.

والصحيح أنْ يُقال: إنَّ القيود التي تؤخذ على نحو الشرط المتأخر هي تلك القيود التي لا يمكن للمولى أنْ يضمن للمكلفين تحقُّقَها في الخارج كالقدرة على إتيان التكليف عند تحقّق القيد. وأمّا القيود التي يمكن أنْ يضمن المولى تحقُّقَها للمكلفين؛ كتحقق الزوال وطلوع الفجر ونحو ذلك، والتي تتبع دوران الفلك وتقلباته إلى يوم القيامة؛ فيصحُّ هنا أنْ يوجب المقيَّد من دون أنْ يأخذه قيداً للوجوب. ولا يَرِد محذور التحريك نحو غير المقدور؛ فإنَّ الأمر بالمقيَّد في الحقيقة يبيّن أمراً بالقيد، بل هو أمر بالتقيُّد وذات المقيَّد وكلاهما مقدوران للمكلف وإنْ كانت القدرة على التقيُّد تابعة للمقيَّد إذا كان القيد مضمون التحقّق خارجاً فلا يستلزم منه أي محذور.

وعليه؛ فلا مانع من تعلّق الأمر بالصوم المقيَّد بطلوع الفجر من أول الليل بنحو الواجب المعلَّق. نعم؛ القدرة على الفعل الإستقبالي في الواجب المعلَّق في ظرفه لا بُدَّ أنْ تؤخذ شرطاً في الوجوب على نحو الشرط المتأخر، ولا يستلزم شمول الوجوب بإطلاقه صورةَ عدم القدرة أو الحياة فيكون تكليفاً بغير المقدور.

وأمّا دعوى أنَّ ما لا يجب تحصيله يكون دخيلاً في إتّصاف الفعل بالمصلحة يكون ذلك ملاكاً لأخذه في موضوع الحكم ومفروض الوجود؛ فهي مندفعة بأنَّه لا ملازمة بين ما لا يجب تحصيله وبين دخالته في الإتّصاف بالمصلحة، بل يمكن أنْيكون للأمر غير الإختياري الذي لا يجب تحصيله دخلاً في وجود المصلحة وفعليَّتِها لا أنْ يكون دخيلاً في الإتّصاف.

وعليه؛ فيمكن أنْ يكون القيد المأخوذ في الواجب المعلَّق من هذا القبيل ويكون ما تترتب عليه المصلحة هو الحصة الخاصة المقيَّدة به مع عدم لزوم تحصيله لعدم إختياريته فيتعلق به الوجوب فعلاً لتحقّق ملاكه.

ص: 164

الوجه الخامس: إنَّه لا قدرة للمكلف عل العمل وإمتثال التكليف حين صدور الخطاب لفرض تعلُّقِه بغير المقدور، فلم يتحقق في الواجب المطلق القدرة في ظرف الوجوب لعدم القدرة على الواجب في ظرفه, فيكون الوجوب قد تحقق قبل تحقّق شرطه, إلا أنْ تؤخذ القدرة في وقت الإمتثال على نحو الشرط المتأخر؛ وهو ممنوع.

وفيه: إنَّه من الثابت عند الجميع أنَّ المعتبر من القدرة في التكليف مطلقاً؛ القدرة حين الإمتثال, بل إنَّ إطلاق الشرط على شرطية القدرة إنَّما هو على نحو المسامحة, أي بمعنى كونها مصحِّحة للتكليف والموجب للخروج عن اللغوية، لا أنْ يكون المراد بالشرط هو المصطلح في العلوم العقلية.

يبقى شيء؛ وهو: إنَّ القولَ بتلازم الهيئة مع المادة في الأنظار العرفية في أنَّ تقييد أحدهما عين تقييد الآخر وإنْ أمكن التفكيك بينهما دقةً؛ كما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره (1).

لا يستلزم منه إمتناع الواجب المعلَّق، وقد تفطّن قدس سره إلى هذا الإشكال وأجاب عنه: إنَّه ربَّما يكون نظر صاحب الفصول قدس سره إلى الدقة العقلية لا إلى الأنظار العرفية.

والحاصل من جميع ذلك أنَّ ما ذُكر في وجه إستحالة الواجب المعلَّق غير تام؛ فلا محذور فيه لا ثبوتاً ولا إثباتاً, وقد قيل بوقوعه؛ وذلك في موارد ثلاثة فلا وجه لإنكاره، وهذه الموارد هي:

1- الواجبات التدريجية المقيَّدة بزمان معين؛ كالصوم؛ فإنَّ الوجوب تعلّق بالجزء الأخير من الإمساك الواقع في الجزء الأخير من النهار، والمفروض أنَّ الوجوب قد تعلَّق به من أول الفجر. ونظيره الصلاة؛ فإنَّ الوجوب متعلِّق بها من أول

ص: 165


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص76.

الوقت المقيَّد بمضي زمان جميع الأجزاء السابقة عليه إلى آخر جزء من الصلاة من حين دخول الوقت, فيلزم الفصل بين الوجوب والواجب.

2- الواجبات التدريجية غير المقيَّدة بزمان معين؛ كالصلاة أثناء الوقت؛ فإنَّ الوجوب يتعلق بالجزء الأخير منها من حين الإبتداء بها.

3- الواجبات التي يكون لها مقدمات يتوقف عليها حصولها؛ فإنَّ الوجوب يتعلّق بالواجب قبل الإتيان بمقدماته، مع أنَّه لا يمكن الإتيان به قبلها, فيلزم الفصل بين الوجوب والواجب؛ وهو الواجب المعلَّق الذي يُدَّعى إمتناعه، ووقوعُ مثل ذلك ينافي دعوى إستحالته, وقد أوردها المحقق النائيني قدس سره نقضاً على دعوى إستحالة الشرط المتأخر أيضاً, وذلك لأنَّ الإمساك في أول الفجر مثلاً مشروط ببقاء شرائط التكليف في آخر الوقت متأخرٌ زماناً عن تحقّق التكليف مع أنَّه شرطُه. وهكذا الحال في الصلاة أول الوقت لأنَّ وجوبها أول الوقت مشروط ببقاء شروطها إلى مقدار أربع ركعات بعد أول الوقت وهو شرط متأخر.

وكيف كان؛ فقد تصدّى جمعٌ من المحقّقين للردِّ على هذه النقوض وبيان عدم المنافاة بين دعوى إستحالة الواجب المعلَّق وتحقق مثل تلك الموارد، نذكر منها جواب المحقِّقَين النائيني والإصفهاني (قدِّسَ سِرّاهما).

أما ردُّ المحقق النائيني على النقوض فنذكره بالبيان التالي:

النقض الأول: إنَّ الواجب وشرطه إذا كانا تدريجيَين كانت فعليّة الوجوب تدريجية أيضاً, لأنَّ فعليّة الحكم بفعليّة موضوعه، فبعد أنْ كان الشرط تدريجيَّ الحصول كانت فعليّة الحكم تدريجيةً بتدريجية الشرط. وعليه؛ فلا يكون التكليف المتعلَّق بالجزء الأخير فعلياً من أول الوقت بل يصير فعليّاً عند حصول الشرط في ظرفه.

ص: 166

وبعبارة أخرى؛ إنَّ عدم فعليّة الحكم قبل فعليّة القدرة على الجزء الأخير, ولا منافاة بين تدريجية الحكم ووحدته كسائر الأمور التدريجية التي تتَّصف بالوحدة.

وفيه: إنَّه بعيد عن سياقات الأدلة التي تدلُّ على وحدة الوجوب وفعليّته, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

النقض الثاني: تخلَّص منه قدس سره بالقول بأنَّ العمل إذا كان مقيَّداً بقيدٍ غير مقدور كالزمان يكون مقدوراً ولو بالواسطة، وعليه؛ فإنَّ الجزء الأخير وإنْ كان متأخراً في وجوده إلا أنَّه لمّا كان مقدوراً عليه فعلاً بالقدرة على الإتيان بالأجزاء السابقة صحَّ تعلُّق التكليف به, لأنَّه مقدور بالواسطة فلا يتحقق محذور الواجب المعلَّق وهو تعلُّق التكليف بمن هو مقيد بغير المقدور، لأنَّ التكليف تعلَّق بالمقدور ولو بالواسطة.

ومنه يظهر الجواب عن النقض الثالث؛ فإنَّ الواجبات ذوات المقدمات مقدورة بالقدرة على مقدماتها فلا مانع من تعلُّق التكليف فعلاً بها فإنَّ الشرط -وهو القدرة- متحقق فعلاً.وفيه: إنَّه يمكن أنْ يرجع إلى ما ذكرناه آنفاً من تقسيم القيود إلى ما يمكن أنْ يضمنه المولى وإلى ما لا يمكن أنْ يضمنه؛ ففي الأول يصحُّ تعلُّق التكليف به لأنَّه مقدورٌ للمكلف، وفي الثاني يرجع إلى الشرط المتأخر.

أمّا المحقق الإصفهاني قدس سره فقد وافق المحقق النائيني قدس سره في الجواب عن النقضين الأول والثاني في الواجبات التدريجية مطلقاً سواءً كانت مقيدة بالزمان أو بغيره؛ فقد ذهب قدس سره إلى تدريجية فعليّة الحكم بتدريجية حصول الشرط من دون أنْ ينافي وحدة الحكم والشرط, ولكنه خالفه في الجواب عن النقض الثالث؛ فقد إلتزم بأنَّ التكليف بذي المقدمة قبل الإتيان بالمقدمة لا يكون فعلياً وإنْ تعلّق الشوق به لوجود المانع من فعليّته ومحركيّته. وأمّا التكليف بالمقدمة فهو فعليٌّ لترشُّح الشوق إليها من الشوق المتعلِّق بذيها, والمفروض أنَّه لا مانع من محركيّة الشوق المتعلِّق بها فيتعلق الطلب الفعليُّ بها.

ص: 167

وبالجملة؛ إنَّه يلتزم بفعليّة البعث إلى المقدمة دون البعث إلى ذيها، وإنَّ تحقق التلازم بينهما في تعلُّق الشوق؛ إذ تعلُّقَه بذي المقدمة يلازم تعلُّقَه بالمقدمة.

وفيه: إنَّ الشوق المتعلِّق بهما على حدٍّ سواء، كما هو المفروض، وإنْ كان منشأُ الشوق إلى المقدمة هو الشوق إلى ما فيه التحقّق، والمانع في أحدهما دون الآخر هو من قبيل العود إلى نفس الإشكال.والحقَّ في الجواب ما سيأتي.

ثم إنَّه قد عرفت آنفاً أنَّ سبب اختيار الشيخ الأنصاري قدس سره إلى ما ذهب إليه في الواجب المشروط واختيار المحقق صاحب الفصول للواجب المعلَّق إنَّما هو الخروج عن الإشكال المعروف في المقدمات الُمفوِّتة؛ وهي مقدمات الواجب قبل تحقّق زمانه، إذ كيف يترشّح الواجب إلى المقدمة قبل زمان وجوب ذي المقدمة، واعتبروا أنَّ تصحيح وجوب المقدمات المُفوِّتة قبل زمان الواجب من ثمرات الواجب المعلَّق.

وكيف كان؛ فقد وقع التسالم على وجوب بعض المقدمات قبل تحقّق وقت ذيها إذا لم يُتمكن من الإنتباه إليها بعد حلول وقت ذيها، نذكر بعض مواردها:

الأول: وجوب حفظ الماء قبل الوقت لمن يعلم أنَّه لا يجده بعد الوقت، بل إنَّ بعض الفقهاء أفتى بلزوم تحصيل الماء قبل الوقت لو علم أنَّه لا يتمكن منه بعد الوقت.

الثاني: لزوم الغسل للصوم قبل الفجر مع أنَّ وقت الواجب متأخر عن وقت وجوب المقدمة.

الثالث: وجوب حفظ الإستطاعة في أشهُر الحج مع أنَّها مقدمة وجوبية، بل أفتى البعض بلزوم حفظها مطلقاً ولو قبل أشهُر الحج. وكذا الحكم في المقدمات الوجودية؛ حيث يجب تحصيلها قبل وقت الحج كالسير مع الرفقة والسير إلى الحج قبل زمانه ونحو ذلك.الرابع: لزوم تعلُّم المسائل الإبتلائية قبل الإبتلاء بها، كما يجب على الصبي التعلُّم قبل بلوغه إذا علم بفوت الواجب بعد البلوغ لو تركه.

ص: 168

وقد ذكر المحققون في حلِّ هذا الإشكال أجوبة متعددة:

الحلُّ الأول: القول بالواجب المعلَّق؛ وقد عرفت أنَّه لا محذور فيه ثبوتاً ولا إثباتاً مع إمكانية دفع الإشكال في المقدمات المُفوِّتة به, ولكنّه من التطويل بلا طائل بعد بيان الوجوه الصحيحة المقنعة لدفعه كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس سره من أنَّ القيدَ قيدٌ للمادة؛ فالوجوب مطلق وفعليٌّ في الواجب المشروط ولا موجب له، مع إعترافه بأنَّه خلاف القواعد العربية.

وقد تقدم مِنّا ما يرتبط بذلك.

الحلُّ الثاني: ما إختاره المحقق الخراساني قدس سره من الأجوبة وهي:

الجواب الأول: القول بالواجب المعلَّق في تلك الموارد المتقدمة؛ فيكون الوجوب فعلياً والواجب معلّقاً على الوقت لا أنْ يكون مشروطاً به, وحينئذٍ لا محذور في ترشُّح الوجوب على المقدمات قبل الوقت.

وقد علَّق عليه بعض الأعلام بأنَّ هذا الجواب إنَّما يصحّ إذا توفرت فيه شروط ثلاثة:

أولاً: أنْ يكون الوقت من قيود الترتُّب لا الإتّصاف, وإلا لم يكن مقتضى الإطلاق الوجوبَ لفرض عدمه, بل كان الوجوب مشروطاً به بنحو الشرط المتأخر.

ثانياً: أنْ يكون القيد الإستقبالي للواجب مِمّا يتضمن حصوله كالوقت, وقد عرفت عدم إمكان الواجب المعلَّق في غير هذه الصورة.

ثالثاً: إمكان الشرط المتأخر؛ لأنَّ كلَّ واجب معلَّق يكون مشروطاً بنحو الشرط المتأخر بحياةِ أو قدرة المكلف على الواجب في وقته لأنَّ قيد الحياة والقدرة ليس مِمّا يُحرز حصوله دائماً، فإذا توفرت هذه الشروط أمكن التمسُّك بالواجب المعلَّق لدفع الإشكال المزبور. وقد عرفت فيما سبق عدم الحاجة إلى القول بالواجب المعلَّق، وأمّا الشروط المزبورة ففيها كلام ظهر مِمّا سبق, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 169

الجواب الثاني: الإلتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخر؛ فيكون الواجب في تلك الموارد فعلياً مشروطاً بالشرط المتأخر, وهو مجيئ الوقت الخاص فيكون زمانَ إتيانه لا زمانَ وجوبه؛ فإذا عُلِم بحصوله في ظرفه يُعلَم بفعليّة الحكم فعلاً قبل حصول الشرط, فلا مانع من ترشُّح الوجوب على المقدمات لفعليّة الوجوب قبل حصول الشرط ووقت الواجب.

ولا يخفى أنَّ الإلتزام بهذا الوجه يقتضي إنكار الواجب المعلَّق, لأنَّ ثمرته كانت منحصرة في رفع الإشكال المزبور، وهو مدفوعٌ بهذا الوجه؛ فلا ثمرة تترتب على الواجب المعلَّق.

لكن يمكن الإشكال عليه بما يلي:

أ- إنَّه يرجع إلى الواجب المعلَّق واقعاً, فإنَّ كليهما يشتركان في إنفكاك زمان الوجوب عن الواجب، فلا فرق بين أنْ نقول بأنَّ الوجوبَ فعليٌّ والواجبَ إستقباليُّ معلّقٌ على تحقّق شرطه، وبين أنْ نقول بفعليّة الوجوب والواجب؛ إذا عُلم بحصول الواجب في ظرفه فيترشّح الوجوب في كلا الوجهين على المقدمات بفعليّة الوجوب.

ب- إنَّه لا دليل على إثبات الشرط المتأخر وإنْ فُرض إمكانه ثبوتاً؛ فإنَّ المنساق عرفاً من القيود والشروط هو خصوص المقارنة، فظاهر قول الإمام الباقر علیه السلام : (إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ وَجَبَ الطَّهُورُ والصَّلَاةُ)(1) إنَّما يدلُّ على عدم الإنفكاك، ومن يدّعي كلّاً من الواجب المعلق والشرط المتأخر خلاف الظاهر.

ولعلَّه لأجل ذلك تصدّى قدس سره لحلِّ هذه الجهة؛ بأنَّه إذا تمَّ الدليل على وجوب المقدمة قبل زمان ذيها نستكشف من ذلك بطريق الإن سبقُ وجوب ذي المقدمة وكون المتأخر هو زمان إتيانه لا وجوبه لعدم وجود طريق للتخلص إلا بذلك، لأنَّ وجوب المقدمة يستحيل قبل وجوب ذيها, ولكنه ليس بشيء.

ص: 170


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج1 ص372.

ج- ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره من أنَّ كِلا الوجهين متلازمان في الصحة والبطلان، فإنَّنا إنْ قلنا باستحالة إنفكاك الواجب عن الوجوب بطل الواجب المعلَّق وبطل الشرط المتأخر أيضاً؛ لأنَّ المفروض هو تقدُّم الوجوب على الواجب على كلِّ حال, وإنْ قلنا بعدم إستحالة ذلك صحَّ الواجب المعلَّق أيضاً، ولكنّ ما ذكره مبنيٌّ على بعض الوجوه التي تقدم ذكرها في إستحالة الواجب المعلَّق, ولا يتمُّ على بعض الوجوه الأخرى؛ فالقول بالواجب المعلَّق بوجوب تعلُّق الأمر بغير المقدور -وهو قيد الوقت-؛ لا يرد على الشرط المتأخر.

د- إنَّ الشرط المتأخر في المقام مستحيل, وإنْ قلنا بإمكانه في غيره فيبطل الجوابان. والوجه في ذلك: إنَّ المفروض في المقام هو تقدُّم الوجوب فقط لا الواجب الذي يكون زمانه مقارناً مع زمان الشرط, بينما في الشرط المتأخر يكون زمان الوجوب المتقدم نفس زمان الواجب؛ وحينئذٍ لا بُدَّ من حلِّ مشكلة أخذِ المتأخر في المتقدم بطريقٍ آخر غير ما هو المذكور في المقام بحيث يكون تقدُّم الوجوب على زمان الواجب الذي يكون مقارناً لزمان الشرط؛ إذ لا طريق لتصحيحه, فتبقى مشكلة تأثير المتأخر في المتقدم على أ- حالها؛ إذ لا مبرر لتقديم الوجوب على الواجب إلا إفتراض أنّه يولّد ويُحدث إحتياجاً من رأس. وهذا بحدِّ ذاته إشكال.

وأجاب بعض الأعلام عنه بأنَّ الشرط المتأخر يُحدث حاجةً في وقته للواجب ولكنّ المكلف لا يمكنه تحصيل هذه الحصة المقارنة حين الإحتياج إلا بإتيان بعض المقدمات وقيود الواجب من البداية؛ كالصوم المقيَّد بالطهور من أول آنات الفجر فيقدِّم المولى إيجابَه على المكلف لكي يسعى في تحصيله قبل ذلك بتحصيل مقدماته, فتكون روحُ تقدُّم الإيجاب وملاكُه في المقام نفس روح الملاك في سائر موارد الشرط

ص: 171

المتأخر، فلا يرد إشكال تأثير المتأخر في المتقدم مع أنَّه يمكن أنْ نفترض موارد الشرط المتأخر في أنْ يكون الإتّصاف والحاجة إلى الواجب الإستقبالي فعليّاً من أول الأمر، وإنَّما أُنيط بالشرط المتأخر من جهة أنَّ إشباع تلك الحاجة من دون تحقق ذلك الشرط المتأخر فيه مفسدة أهم من مصلحة الإشباع, فيكون إناطة الوجوب به بنحو الشرط المتأخر بهذا الإعتبار. فيرد على كِلا الوجهين اللذين ذكرهما من تصحيح الشرط المتأخر في المقام وغيره بأنَّه مجرد إفتراض مخالف لظاهر الأدلة كما عرفت آنفاً، مع أنَّه مبني على إمكان الشرط المتأخر والواجب المعلَّق، وأمّا مع إستحالتهما فلا يمكن دفع الإشكال بهما كما هو واضح.

الجواب الثالث: وهو ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من الإلتزام بالوجوب النفسي لتلك المقدمات؛ ولكن من جهة كونه وجوباً نفسياً تهيُّئياً, للعلم بعدم سبق وجوب ذي المقدمة؛ إمّا لعدم إمكان تصوره ثبوتاً, أو لعدم مساعدة الدليل عليه إثباتاً.

والوجوب الغيري محالٌ لعدم وجوب ذي المقدمة, فلا بُدَّ من الإلتزام بالوجوب النفسي لتلك المقدمات؛ غاية الأمر أنَّه ليس لغرضٍ في نفس المقدمة, بل لتحصيل غرض الواجب والتهيؤ للإتيان به في ظرفه، أو لغرض سدّ أبواب العدم ليكون الوجوب فعلياً ومطلقاً فيكون الوجوب المقدَّم ووجوب ذي المقدمة معلولَين لفعليّة الملاك والإرادة النفسيين المفروض فعليتهما في المقام؛ غايته لم يؤثر ذلك في فعليّة وجوب ذي المقدمة لمحذور الشرط المتأخر والواجب المعلَّق، ولم يؤخذ هذا المحذور في المقدمة.

ولكنّ هذا الوجه يحتاج إلى إثبات الملاك النفسي للمقدمات ولا يكفي ما ُذكر لإثباته؛ فإنَّ مجرد تحصيل غرض الواجب والتهيؤ للإتيان به في ظرفه هو الداعي في إيجاب المقدمات بالوجوب الغيري أيضاً. يضاف إلى ذلك أنَّه يُحتمل أنْ تكون قيود الواجب من قيود الإتّصاف.

ص: 172

الحلُّ الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره (1) في معنى الشرط من أنَّه الوجود اللحاظي والتقديري الثابت فعلاً بنفس لحاظ المولى وتقديره.

وعليه؛ فلا بأس بترشُّح الوجوب منه إلى تلك المقدمات, فقد ذهب إلى أنَّ من الواجب المشروط وجود الوجوب الفعلي قبل الشرط إلا أنَّ الموجود بهذا الوجود تقديريٌ.

وأُورد عليه: إنَّ إيجاب المقدمة يكون من شؤون فاعلية الوجوب لا فعليّته؛ وهذه الفاعلية والتأثير مَنوط بتحقق شرط المقدَّر عليه كالوجود الموجود.

وفيه: إنَّه يمكن أنْ يكون نظر المحقق المزبور هو كفاية فعليّة الوجوب في إيجاب المقدمات وإنْ كانت فاعليته موقوفة على تحقق شرطه المقدور عليه الوجوب، ولكن أصل المبنى غير سديد؛ فإنَّ الشرط ليس كذلك كما هو محقَّق في محلِّه.

الحلُّ الرابع: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره بعد أنْ التزم باستحالة الواجب المعلَّق والشرط المتأخر؛ وعلى فرض الإلتزام بهما فإنَّه لا ينفعنا في إثبات إيجاب التعلُّم قبل البلوغ أو وجوب الحج قبل الإستطاعة لعدم تحقق التكليف بذي المقدمة قبلهما، ولو إلتزم بتحقق الوجوب قبلهما فلازمه إيجاب سائر المقدمات لا خصوص التعلُّم, ولم يقل به أحد؛ إذ لا يجب المسير إلى الحج على من يعلم بتحقق الإستطاعة فيما بعد، فلا فرق بينه وبين سائر المقدمات الوجودية، وقد إختار وجوهاً للجواب عن الإشكال في المقدمات المُفوِّتة وهي:

الأول: الإلتزام بمتمِّم الجعل؛ ببيان: إنَّنا إذا فرضنا مصلحة الواجب فعلاً قبل فعليّة الوجوب بحيث كان عدم التكليف به فعلاً لأجل عدم القدرة عليه لا لعدم ملاكه فحينئذٍ يتعلق التكليف بمقدماته التي لا يتمكن منها بعد حصول زمان الواجب بمتمم الجعل. وهو نظير ما ذكره في قصد الأمر.

ص: 173


1- . بدائع الأفكار؛ ج1 ص340 وما بعدها.

وضابط متمِّم الجعل هو أنَّ غرض المولى يتحقق بفعل نحوٍ خاص لا يمكنه الأمر به كذلك، فيتصدّى لإنشاء حكمين يتوصل بهما إلى تحصيل غرضه، وما نحن فيه كذلك.

ولكن؛ إنْ تمَّ ذلك فهو يتمُّ في جميع المقدمات الوجودية من دون إختصاصٍ بتلك المقدمات المذكورة، وهو مِمّا لا يلتزم به أحد. مع أنَّ إثبات المصلحة وتماميتها قبل البلوغ أو قبل الإستطاعة ممنوع.

الثاني: إنَّه بعد فرض كون الشرط من قيود الإتّصاف؛ فقبل زمانه لا خطابَ ولا ملاكَ ولا إرادةَ؛ فلو ترك المقدمة -كالغُسل مثلاً قبل الفجر- فإنَّه يستلزم تفويت الملاك والإرادة الفعليَين للمولى بعد الفجر فيكون عاجزاً عن الإتيان بذي المقدمةحينئذٍ، وليس من الضروري إشتراط الملاك والإرادة بالقدرة على الواجب في وقته، وعلى هذا سوف يحرم هذا التفويت لأنَّه تفويت إختياري للملاك. فالعجز الحاصل عند ظرف الواجب إنَّما نشأ باختياره، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار. فإذا ثبت العجز -لهذه القاعدة- فيكون التفويت الإختياري للملاك إذا تصدّى المولى لإبرازه بالقدر الممكن بمنزلة التفويت الإختياري للخطاب.

وتوضيح ما ذكره يقتضي بيان أمور:

1- المعروف أنَّ الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار عقاباً وإنْ كان ينافيه خطاباً، فلو ألقى شخص نفسه من شاهق فإنَّه حين السقوط يمتنع عليه الحفظ؛ فإذا مات فيكون الإمتناع حاصل من إختياره وهو لا ينافي الإختيار في العقاب فيكون معاقَباً على إهلاك نفسه, ولكنّه ينافيه خطاباً فإنَّه لا يمكن خطابه بالحفظ لفرض الضرورة والإضطرار.

ص: 174

ومقابل هذا القول المعروف ما ذهب إليه أبو هاشم(1) من عدم منافاته عقاباً وخطاباً، وما ذهب إليه ثالثٌ من منافاته عقاباً وخطاباً.

والسرُّ في ذلك؛ أمّا بالنسبة إلى منافاته خطاباً فإنَّه يرجع إلى أنَّ التكليف إنَّما هو جعل الداعي للمكلف نحو الفعل بلحاظ ترتُّب الداعوية عليه كما عرفت ذلك مفصّلاً فيما سبق. وفي مورد الإمتناع يمتنع حصول الداعي نحو الفعل وتحقُّق التحرُّك والإنبعاث, وهذا لا ينافي كونه إختيارياً باختيارية سببه؛ فإنَّ قوام صحة التكليف ليس إختياريةُ الفعل فقط بل إمكان الإنبعاث وحصول الداعي نحوه.

نعم؛ إنَّ من يلتزم بأنَّ حقيقة التكليف ليست إلا جعل الفعل في عهدة المكلف من دون شرط الداعوية كما ذهب إليه السيد الخوئي قدس سره (2)، فله أنْ يلتزم بأنَّ الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار خطاباً؛ لأنَّ التكليف يكون كسائر الأحكام الوضعية التي لا يعتبر فيها إمكان الإنبعاث، بل إنَّها تتعلق بذمة المكلف وإنْ لم يكن قادراً أصلاً.

وأمّا بالنسبة إلى عدم منافاته عقاباً فلأنَّ الفعل وإنْ خرج عن القدرة ولكنّه بسبب إختياره، فكان إمتناعه إختيارياً فيستحق العقاب على تركه, لأنَّ ملاك العقاب إختيارية العمل.

2- إنَّ العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى الملزِم حتى لو لم يكن أمرٌ من المولى على طبقه؛ إمّا لعدم إلتفاته أو لغير ذلك، فإذا رأى العبد أنَّ إبن سيّده في الماء

ص: 175


1- . وهو أبو هاشم المعتزلي, واختاره أيضاً المحقق القمي في القوانين, كما عن السيد الخوئي قدس سره في المحاضرات؛ ج2 ص364.
2- . محاضرات في علم الأصول؛ ج3 ص66.

بحيث لو تركه غرق ولم يكن سيده حاضراً فإنَّه يجب عليه إنقاذه تحصيلاً لغرض مولاه الملزِم لفرض أنَّه يعلم بأنَّ سيّده لو كان ملتفتاً إلى ذلك لأوجب إنقاذ إبنه.

نعم؛ لو كان المولى متمكناً من الأمر ولم يأمر؛ لم يجب على العبد تحصيل غرضه حينئذٍ لأنَّ عدم أمره مع تمكنه من ذلك يكشف عدم إرادته تحصيل الغرض ولو كان ملزَماً في نفسه.

3- إنَّ الإحتمالات في أخذ القدرة في التكاليف متعددة؛ فإمّا أنْ لا يكون لها دخل في الملاك بل تكون شرطاً عقلياً لتصحيح التكليف فقط فالملاك بدونها حاصل. وإمّا أنْ تكون دخيلة في الملاك فتكون شرطاً شرعياً، وفي هذا الفرض؛ فإمّا أنْ تكون دخيلة في الملاك مطلقاً في أي ظرف تحقّقت وإمّا أنْ تكون دخيلة في الملاك على تقدير خاص وظرف معين لا مطلقاً.

وعلى الثاني؛ إمّا أنْ تكون القدرة دخيلة في الملاك بعد حصول شرط الوجوب ولو قبل تحقق زمان الواجب أو تكون دخيلة فيه بعد تحقق زمان الواجب، فالقدرة الحاصلة قبل ذلك غير محصِّلة للملاك أصلاً.

والحاصل؛ إنَّ الإحتمالات أربعة:

الأول: أنْ تكون شرطاً عقلياً.

الثاني: أنْ تكون شرطاً شرعياً لها دخل في الملاك مطلقاً، فيلزم على تقديرهما وجوب تحصيل المقدمات في أول أزمنة الإمكان.

الثالث: أنْ تكون شرطاً شرعياً لها الدخل في تحصيل الملاك بعد حصول شرط الوجوب، وعلى هذا الإحتمال فإنَّه يُفرَّق فيه بين المقدمات المُفوِّتة قبل حصول شرط الوجوب، والمقدمات المُفوِّتة بعد حصوله فلا يحرم تفويتها على الأول دون الثاني.

ص: 176

الرابع: أنْ تكون شرطاً شرعياً لها دخل في تحصيل الملاك بعد تحقق زمان الوجوب، فلا يجب الإتيان بالمقدمات المُفوِّتة قبل وقت الواجب.

هذا غاية ما يمكن أنْ يكون تفسيراً لما أفاده قدس سره والذي أطال الكلام فيه، فيكون التفويت غير جائز لأنَّه تفويت إختياري للملاك, إذ الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار وكون التفويت الإختياري للملاك بمنزلة التفويت الإختياري للخطاب. ولا ريب أنَّ هذا الوجه إنَّما يتَّجه إذا لم يتمكن المولى من حفظ ملاكه بخطاب آخر بأيّة كيفية كانت من المعلَّق والمشروط ونحو ذلك؛ وإلا فالأمر واضح, ولكنّ الذي يفيدنا في المقام هو ثبوت حكم شرعي من تلك الوجوه وعدم كفاية الوجوب العقلي, أي وجوب إتيان المقدمات شرعاً، وقد إستفاد بعض الأعلام من كلماتالمحقق النائيني قدس سره إستكشاف الوجوب الشرعي الغيري للمقدمات المُفوِّتة من ذلك.

وأما السيد الخوئي قدس سره الذي وافق أستاذه فيما ذكره إلا أنَّه خالفه في هذا الأمر حيث ذهب إلى أنَّ إستكشاف ذلك يكون من جهة قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وهذه القاعدة عنده لا تنطبق على الأحكام العقلية التي تكون في طول حكم مولوي شرعي كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية، إذ يكون حكم الشرع المستكشَف لغواً صرفاً. وما نحن فيه من هذا القبيل.

وذهب بعض الأعلام إلى عدم إستفادة الوجوب الشرعي من كلام المحقق النائيني قدس سره من قاعدة الملازمة. بل إنَّ المستكشف هو الحكم الشرعي بنفس الملاك المولوي؛ فإذا تحقق ملاكٌ مولويٌ في صوم النهار فإنَّه سيصبح فعلياً عند طلوع الفجر، فلا بُدَّ من حفظه تشريعاً, وحيث أنَّ هذا لا يكفي لحفظه التشريعي على كلِّ تقدير لعجزه عنه لو لم يغتسل قبل الفجر؛ فلا بُدَّ من تتميم الحفظ التشريعي بالأمر بالمقدمة المُفوِّتة، ولا يكون ذلك لغواً

ص: 177

لأنَّ هذا الخطاب -كخطاب (صُمْ)- ينشأ من ملاكٍ واحد وهو الملاك النفسي؛ وكلٌّ منهما يحفظ حيثية من حيثيات الملاك, ولولا الحفظ التشريعي لم يجب على العبد التحرك لأنَّه يتبع في تحرُّكِه تحرُّكَ المولى للحفظ التشريعي.

وكيف كان؛ فإنَّه يمكن أنْ يُناقش ما ذكره المحقق النائيني قدس سره لما ذكره أولاً بما يرتبط بقاعدة الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار من أنَّها ليست قاعدة شرعية تعبُّدية وإنَّما هي حكم عقلي أُريد به دفع التوهم المعروف في العلوم العقلية من أنَّ الفعل إلارادي يدور أمرُه بين الضرورة والإمتناع فلا يكون إختيارياً؛ لأنَّ الفعل إمّا أنْ تتعلق به الإرادة فيكون ضرورياً, وإمّا أنْ لا تتعلق به فيكون ممتنعاً؛ كما هو المعروف من أنَّ المعلول ضروريُّ الوجود عند وجود علَّته وممتنع عند عدم وجود علَّته.

وقد ذكروا هذه القاعدة كحكمٍ عقلي لبيان أنَّ الوجوب الحاصل عن الإرادة إنَّما هو الوجوب بالغير لا بالذات، كما أنَّ الإمتناع الناشئ عن عدم الإرادة يكون ممتنعاً بالغير لا بالذات.

وفي كِلا الموردين لا يتنافى مع إختيارية وجود الفعل أو عدمه, فإنَّ الضرورة والإمتناع الذَين يتنافيان مع إختيارية الفعل هما الضرورة والإمتناع السابقان على مرتبة الإرادة لا اللاحقان لها الناشئان منها، فالفعل وإنْ كان ضرورياً بالإرادة لكنّه إختياري لأجل ضرورةٍ قد حصلت عن الإرادة، فالقاعدة سِيقت لدفع التوهُّم.

وقد ذكروا موارد تطبيقية لها وهي:

1- ما ذكرناه آنفاً في الفعل الإرادي وكون الإمتناع فيه ناشئ من عدم الإرادة له؛ من أنَّ الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار. وأمّا الخطاب فقد عرفت الإختلاف في حقيقته, وقد تقدم الكلام فيها، وإنْ أمكن القول بأنَّه لا ينافي الإختيار أيضاً، وقد

ص: 178

عرفت أيضاً أنَّ الخطاب الشرعي في الوجوب والحرمة ليس إلا إعتبار ولا يكون الغرض منه منحصرٌ في إيجاد الداعي حتى يمتنع حصوله في هذه الحالة.

2- إنَّ المسببات التوليدية لا تكون إرادية بعد حصول السبب، بل تكون ضرورية الحصول نظير الفعل الحاصل بعد رمي السهم أو إلقاء الشخص نفسه من شاهق.

ويظهر الجواب عنه بما ذكرنا من أنَّ الإمتناع في المسببات التوليدية إنَّما نشأ عن الإرادة والإختيار وتعلُّقِها بالسبب فتترتب آثار الفعل الإختياري على المسبب من صحة المؤاخذة والعقاب ونحو ذلك؛ لأنَّ إرادةَ السبب إرادةُ المسبَّب عند العقلاء، فالفعل إختياري في نظرهم أيضاً.

أمّا تعلُّق التكليف به في هذه الحال فقد عرفت الأمر فيه.

3- أنْ يكون الفعل في نفسه من الأفعال الإرادية التي تتعلّق بها الإرادة نفسُها مباشرةً؛ فيفعل المكلف فعلاً يستلزم سلب إرادية ذلك الفعل فيكون ضرورياً من دون أنْ تتعلّق به الإرادة نظير حركة المرتعش؛ حيث تنطبق عليه القاعدة المذكورة, فيُدَّعى فيه صحة العقاب على الفعل غير الإرادي لأنَّه وإنْ كان فعلاً غيرَ إختياري إلا أنَّ عدم الإختيار إنَّما نشأ عن الإختيار فكان ذلك مصحِّحاً لآثار الفعل الإختياري عليه.

نعم؛ تعلُّق التكليف به في هذه الحال يرجع إلى ما ذكرناه سابقاً؛ فالإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار في هذه الموارد عقاباً, وأمّا منافاته له فهو محلُّ تأمُّلٍ وإشكال كما عرفت.

هذا بحسب البحث العقلي. وأمّا بحسب الأدلة فلا بُدَّ من الرجوع إلى لسان دليل الحكم والحرمة والمبغوضية, فإنْ إستُفيد منه مبغوضية الفعل المسلوب عنه الإرادة مطلقاً في جميع

ص: 179

أفراده وأحواله كان موردَ تطبيق القاعدة، وإنْ إستُفيد من الدليل مبغوضية الفعل المسلوب عنه الإرادة في بعض أحواله وأفراده فلا تشمله القاعدة إذ لا دليل على صحة عقابه على الفعل المزبور، فإنَّه فعل غير مبغوض للمولى لأنَّه غير إراديّ. فصحة العقاب مطلقاً أمرٌ ليس بصحيح.

هذا كلُّه ما يتعلق بأصل القاعدة؛ وأمّا تطبيق القاعدة على المقدمات المُفوِّتة فيما إذا تركها المكلف مِمّا يؤدي إلى ترك الواجب في ظرفه فالظاهر أنَّ إجراء هذه القاعدة محلُّ إشكال من جهات:الأولى: إنَّ المقدمات المُفوِّتة ليست نسبتها إلى ذيها نسبة السبب إلى المسبب, وإنَّ الواجب ذا المقدمة المُفوِّتة من الأفعال الإرادية. وقد عرفت أنَّ صحة العقاب مطلقاً في جميع الموارد ليس بصحيح.

الثانية: إنَّ المورد الذي وقع كلام الأعلام فيه يختَّص بالواجبات التعبدية كالحج والصلاة والصوم؛ مِمّا يُعتبر فيه الإرادة والقصد اليها؛ فلا كلام فيها من هذه الجهة كما هو الحال في المورد الثالث من موارد تطبيق القاعدة.

الثالثة: إنَّ الإشكال الذي نحن بصدده ليس ما يكون من جهة مخالفة التكليف الفعلي المتعلِّق بالعمل لكي يقال هل أُخذ الفعل الإرادي في متعلَّق الحكم ومطلقِ الحكم على نحو يُنسب إلى إختيار الفاعل ولو بالواسطة؛ لأنَّ المفروض أنَّ الواجب مقيَّدٌ بزمان متأخر فلا يُتمكن منه فعلاً لعدم إختيار قيده, وإنَّما الكلام في سلب القدرة عليه في ظرفه بترك بعض مقدماته, ويأتي أصل الإشكال في المقدمات المُفوِّتة.

وهنا نسأل: ما هو الملزِم للإتيان بالمقدمات المُفوِّتة قبل حصول زمان الواجب؛ إذ لا وجوب يترشّح عليه بسبب الفرض، وبعد حصول زمان الواجب لا تكليف به لعدم القدرة عليه بسبب ترك المقدمات، فحالها حال المقدمات الوجوبية من عدم تعلُّق الوجوب بها.

ص: 180

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني قدس سره ثانياً بما يرتبط بإثبات الوجوب وتعلُّق الإلزام بالمقدمات من لزوم إتيان المقدمات إذا علم المكلف بتحقّق الملاك فيها -وهو لزوم حفظ غرض المولى- فيجب إتيان المقدمات لأجل ذلك؛ كحكم العقل بلزوم المحافظة على غرض المولى الملزم وقبح تفويته بترك مقدماته. وبالملازمة بين حكم العقل والشرع يتعلق الوجوب الشرعي بالمقدمة فإذا ثبت ذلك فسوف يحرُم تفويت المقدمة، لأنَّ ذلك يستلزم تفويت غرض المولى وهو حفظ الواجب، ولكنّ العقاب يترتب على نفس ترك المقدمة لأنَّها كانت واجبة عليه شرعاً بملاك ذي المقدمة؛ وهي فعلٌ إرادي فلا تحتاج التمسك بقاعدة الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار كما هو واضح.

فالتمسك بها في إثبات العقاب على ترك المقدمات المُفوِّتة من لزوم ما لا يلزم ومن باب المسامحة، فإنَّ العقاب على نفس ترك المقدمة التي هي فعل إختياري تتعلق به الإرادة مباشرةً فيكون العقاب على ما هو بالإختيار. مضافاً إلى ذلك؛ إنّه قدس سره قَبِل بعدم جريان قاعدة الملازمة في المقام لأنَّ الحكم الشرعي بالمقدمات المُفوِّتة في طول الحكم العقلي فلا يثبت به إلا الإرشاد دون الحكم المولوي.

ولأجل ذلك إختار السيد الخوئي قدس سره كون لزوم المقدمات المُفوِّتة من باب وجوب المقدمة العلمية؛ ومراده قدس سره في ذلك أنَّ العقل كما يحكم بصحة العقاب على مخالفة التكليف الذي يقع في المستقبل -ولو ترك بعض ما يستلزم منه تركالواجب وتحقق المخالفة في ظرفه- كذلك يحكم بصحة العقاب على تفويت غرض المولى الذي يلزم تحصيلُه, فيجب على المكلف عقلاً حفظُ غرضِ المولى وصحة العقاب على تفويته في ظرفه؛ فإذا توقف تحقُّقه على الإتيان بالمقدمات لزم الإتيان بها بحكم العقل من باب المقدمة العلمية.

ص: 181

وما ذكره قدس سره وإنْ أمكن ربطه بقاعدة الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار بوجهٍ ما؛ فإنَّه قد يُقال بأنَّ المقدمات تكون واجبة عليه بحكم العقل للزوم المحافظة على غرض المولى في ظرفه، وأمّا ترك الواجب في ظرفه فهو إستقبالي وليس فعلياً فيكون ممتنعاً عليه في ظرفه فيصحُّ العقاب عليه.

ويرد على ما ذكره السيد الخوئي قدس سره ؛ بأنَّ الحكم بلزوم إتيان المقدمات لمّا كان مفروغاً عنه بحكم العقل أو بوجه آخر من الوجوه التي ذكرناها؛ فتركه يكون لأجل ترك الفعل الإختياري الواجب، فلا حاجة إلى قاعدة الإمتناع؛ إلا أنْ تكون قواماً لوجه الحكم باللزوم ومتمِّماً له. فيَرِد عليه بنفس ما أُورد على المحقق النائيني قدس سره .

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني قدس سره ثالثاً من الإحتمالات المتصورة في أخذ القدرة فهو صحيح؛ لأنَّ أساس الحكم بلزوم المقدمة المُفوِّتة هو تفويت الغرض الملزم, فقد يتوهم بأنَّه يتم فيما إذا لم تكن القدرة دخيلة في تحقق الملاك؛ بل كان الفعل بنفسه واجداً للملاك ولو لم يكن مقدوراً. وإلا؛ فلو كانت القدرة دخيلة في تحقق الملاك لم يكن تحصيل القدرة لازماً, إذ قبل القدرة ليس هناك غرض ملزم حتى يلزم المحافظة عليه ويحرم تفويته، فلا يلزم تحقيق هذا الأمر, أي واجدية الفعل للملاك، وهذا التوهّم يُدفع بأنَّ دخالة القدرة في الملاك إنَّما تكون على الأنحاء التي ذكرها المحقق النائيني قدس سره .

وكيف كان؛ فإنَّ أخذَ القدرة في الملاك لا يلزم عدم وجوب المقدمة المُفوِّتة بقولٍ مطلق، بل هو ملازم له في الجملة.

يبقى إشكالٌ قد يورد على ما ذكره المحقق النائيني قدس سره ومن تبعه وهو: إنَّه بناءً على فرض وجوب المقدمات المُفوِّتة ولزوم إتيانها لم يختلف الحال في مطلق المقدمات، فإنَّ مقتضى ذلك وجوبُها؛ إذ ملاك الإلزام هو المقدمة وحصول التفويت بتركها وهو مطرّد

ص: 182

في جميع المقدمات المُفوِّتة مع أنَّه قدس سره لم يلتزم بذلك، لذا أفتى بجواز إجناب الشخص نفسه قبل الوقت مع علمه بعدم تمكنّه من الغُسل في الوقت.

وأُجيب عنه باختلاف المقدمات في نحو دخالتها في الملاك؛ فإمّا أنْ تكون القدرة على المقدمة دخيلة في الملاك بقول مطلق فيلزم تحصيل المقدمة قبل زمان ذيها، وإمّا أنْ لا تكون كذلك بل يكون الدخل في الملاك في القدرة على المقدمة فيزمان ذيها فلا تأثير للقدرة عليها قبل زمان ذيها في الملاك فلا يلزم تحصيلها قبل زمان ذيها لعدم وجود الملزم حينئذٍ, حتى على فرض كون وجوب المقدمة شرعاً مترشحاً من وجوب ذيها بوجه من الوجوه المتقدمة من الواجب المعلَّق أو نحوه، وذلك لأنَّ القدرة على الواجب من قبل المقدمة في زمانه إذا كانت دخيلة في الملاك كانت شرطاً للوجوب فلا يلزم تحصيلها قطعاً؛ إذ المقدمة الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدِّمي.

ومن الوجوه التي ذكرها الأصوليون في الجواب عن الإشكال المعروف في المقدمات المُفوِّتة ما ذكره بعض الأعلام قدس سره (1) من أنَّ جميع الأجوبة المتقدمة تبتني على الأوامر والأغراض التشريعية؛ وهي بعيدة عن حقيقة الإرادة التشريعية, وفي نظره أنَّها تنحلُّ في الواجبات المشروطة إلى إرادتين.

وقد ذكر في بيان ذلك أنَّ القدرة على المطلوب الإستقبالي في وقته إمّا أنْ تكون من قيود الإتّصاف والحاجة بحيث لا حاجة مع العجز فلا إشكال حينئذٍ من عدم الإهتمام بالمقدمات المُفوِّتة؛ لا في الأغراض التكوينية ولا التشريعية. وإمّا أنْ لا تكون كذلك فلا تكون القدرة على الواجب من قيود الإتّصاف، وفي هذه الحالة سوف يهتم المكلف بالمقدمات المُفوِّتة قبل وقت الإتّصاف والحاجة.

ص: 183


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص209.

ويتحقق هذا الإهتمام في الواقع عندما تكون في البين إرادتين:

إحداهما: إرادة الجزاء؛ وهو شرب الماء, وهذه مشروطة بتحقّق العطش مثلاً أو إحرازه، أمّا قبله فلا شوق ولا إرادة لشرب الماء، بل ربّما يبغضه لمنافرته مع طبعه.

والأخرى: إرادة الجامع بين عدم الشرط ووجود الجزاء، أي الجامع بين أنْ لا يعطش وبين أنْ يشرب الماء على تقدير العطش، بمعنى أرادة الإرتواء الذي هو الجامع الملائم مع طبعه، وهذه الإرادة غير مشروطة بشيء. واعتُبرت هذه الإرادة الفعليّة وهي التي يعبّر عنها بحبّ الذات وحبّ بقاء الذات وحبّ ما يلائم الذات؛ وهو أمرٌ غريزيٌ ذاتيٌ في كلِّ فرد. ومن هذه الإرادة الفعليّة تنقدح إرادة غيريّة تجاه المقدمات المُفوِّتة للجزاء وهو شرب الماء كما في المثال قبل تحقق شرط الإتّصاف وهو العطش، لأنَّه يعلم بأنَّه لو لم يحققها من قَبْلُ فسوف يفقد ذلك الجامع ويبتلي بما ينافر ذاته, وهو مِمّا ينافي حكم الفطرة.

هذا ما يتعلق بالإرادة التكوينية؛ والإرادة التشريعية على وزانها، فإنَّ المكلف في الإرادة التشريعية يصبح كأنّه نفس المولى في الإرادة التكوينية فيتحرك نحو المقدمات المُفوِّتة، لأنَّ فيها إرادتان؛ إحداهما متعلقة بالجزاء على تقدير الشرط، والأخرى متعلقة بالجامع بين الجزاء أو عدم الشرط. وهذه الإرادة فعليّة غيرمشروطة بشيء، ومنها تنقدح الإرادة الغيريّة التي تتعلق بالمقدمات المُفوِّتة للجزاء. والإشكال في تلك المقدمات إنَّما نشأ عن الغفلة عن الإرادة الفعليّة المحركة نحو حفظ المقدمات المُفوِّتة في كلِّ غرض في الوعاء المناسب له؛ أي في التكوينيات يكون حفظها تكوينياً في الأغراض التكوينية، وفي التشريعات يكون الحفظ في الأغراض التشريعية. ثم ذكر قدس سره ما يتعلق بهاتين الإرادتين من النكات والخصوصيات.

ص: 184

ويرد عليه ما أوردناه سابقاً في بحث الواجب المشروط؛ فإنَّ انحلالَ الإرادة التي هي من الأمور البسيطة في النفس إلى إرادتين غيرُ صحيح، وأما ما ذكره في التكوينيات فهو خلطٌ بين الإرادة التي تتعلق بأفعال تكوينية وغرائزٍ في النفس مثل حبّ الذات وجلب الملائم ودفع المنافي عنها؛ فإنَّها تعتبر دواعي وأغراض لها. وعلى فرض تماميتها في التكوينيات فلا يجري في الإرادة التشريعية كما هو واضح, فإنَّه لا يمكن فرض المكلف نفسه منزلة المولى مع أنَّ حبّ الذات فيه يقتضي عكس ذلك، فهو لا ينبعث نحو الفعل إلا بداعي الخوف أو طلب الثواب فانحلال الإرادة إلى إرادتين مِمّا لم يقوم عليه دليل.

والحَقُّ أنْ يُقال في الجواب بأنَّ جميع تلك الوجوه مبنيّة على جعل ذي المقدمة علَّة تامة منحصرة لوجوب المقدمة كالعلل التكوينية, وجعل الأمور الإعتبارية بمنزلة الأمور التكوينية, مع أنَّه لا بُدَّ من القول بالفصل بينهما؛ فإنَّ لكلِّ واحد فيها أحكاماً خاصة به لا تترتب على الآخر.

وبناءً عليه؛ يمكن الجواب عن الإشكال المعروف في المقدمات المُفوِّتة بأنَّ المقدمة وذيها في الشرعيات, بل حتى العرفيات من الإعتبارات الصحيحة العقلائية التي تدور مدار الجعل الإعتباري, وهذه المقدمات تارةً تعتبر مقدمات داخلية والتي يكون الوجوب فيها وجوباً واحداً ينبسط على جميع الأجزاء مع ترتيب خاص بحيث يكون بعضها متقدماً على الآخر بشكل يجعل هذا الوجوب يتّصف بالوصفين؛ الغيري والنفسي. وأخرى تكون مقدماتٍ خارجيةً يكون منشأُ الوجوب فيها هو ذا المقدمة، ومنه ينبسط على المقدمات, سواءً كانت مقارنة أم متأخرة أم مقدمة على ذيها فتكون مثل المقدمات الداخلية, فإنَّ الحكم وملازماته من الإعتباريات التي ترجع كيفيةُ إعتبارها إلى ما يعتبره المعتبر، فتصحُّ بكلِّ نحوٍ تطرق إليه الإعتبار, وليس ذلك من تقدُّم المعلول على العلة أو بالعكس زماناً

ص: 185

أو من تأثير المتأخر في المتقدم, فإنَّ التقدم والتأخر الزمانيين لا ينافيان التقارن الإعتباري الذي يُفرض فيه إنبساط العلة على المعلول وتقارنها معه بجميع أجزائه وجزئياته.ويرد عليه بأنَّه لا ملاك للوجوب النفسي في المقدمات الخارجية مطلقاً، فإنَّ ملاك وجوبها ينحصر في إيجاب ذي المقدمة, وإنَّ محبوبيتها متمحضة فيه، فلا وجه للوجوب النفسي الإنبساطي بالنسبة إليها.

ويمكن الجواب عنه بأنَّ المناط في إيجاب المقدمة هو التمكٌّن من ذيها بأيِّ نحو يكون لها دخلٌ في ذلك؛ سواءً كان من جهة كونها دخيلة في وجوب ذيها أو من جهة أخرى.

ثم إنَّ السيد الوالد قدس سره (1) ذكر ثلاثة وجوه في الجواب عن الشبهة:

الأول: إنَّ إثبات الوجوب في هذه الموارد من باب حكم العقل بقبح تفويت التكليف في ظرفه مطلقاً، فالوجوب عقلي ويتبعه حكم شرعي أيضاً ولا نحتاج إلى إثبات أنَّ وجوبها تبعٌ لواجب آخر وذلك الواجب الآخر غايةٌ له لفرض كون الوجوب حينئذٍ عقلياً وشرعياً مستقلاً, فيكون الوجوب في جميع المقدمات كوجوب صلاة الظهر وجوباً مستقلاً وفيه ملاك المقدمية أيضاً.

الثاني: إنَّ وجوب ذي المقدمة علَّة غائية لوجوب المقدمة وليس علَّة فاعلية حتى يلزم المحذور؛ فلا تجب المقدمة إلا لوجوب ذيها في وقته, والثابت في محلِّه أنَّ العلة الغائية متقدمة في العلم ومتأخرة في العمل، وقد جرت السيرة على الإهتمام بإتيان أمور لأجل غايات تترتب عليها في أوقات خاصة فيكون للغاية إعتبار صحيح فعلي يترتب على فعلها آثار عرفية صحيحة بل شرعية أيضاً كصحة إعتبار وجوبها فعلاً. وليس ذلك من القول بالوجوب النفسي للمقدمة لأنَّه مِمّا كان الملاك فيه غيرَ وجوب شيء آخر، ولا ملاك

ص: 186


1- . تهذيب الأصول؛ ص78-79.

للمقدمة في المقام وغيره إلا وجوب ذي المقدمة والتمكين من إتيانه في ظرفه، فإنْ أراد مَن يقول بالوجوب النفسي التهيُّئي فلا مشاحة في الإصطلاح. نعم؛ يكون وجوبُ الشيء عقلياً لأجل غايته؛ والكلام في الوجوب الشرعي المولوي للمقدمات إلا أنَّه يمكن أنْ نرجع إلى قاعدة الملازمة للعلم بالملاك مع إستقرار السيرة العقلائية على الوجوب الذي يستكشف منه الوجوب الشرعي كما في سائر الموارد. ولكن يمكن أنْ يُستشكل على هذا الوجه وسابقه بأنَّهما يعتمدان على قاعدة الملازمة في إثبات الوجوب الشرعي منه, وأنَّ جريانها في المقام محلُّ تأمّل سيأتي بيانه في محلّه إنْ شاء الله تعالى. هذا مضافاً إلى أنَّ إثبات الوجوب بالوجهين المزبورين لا يختَّص بالمقدمات المُفوِّتة بل تجري في جميع المقدمات، وهو محلّ تأمّل أيضاً. وجميع هذه الوجوه تشترك في دفع الإشكال المعروف في المقدمات المُفوِّتة، ولا بأس بها وإنْ كانت تختلف حسب مباني أصحابها, ويمكن أنْ يقال أنَّ أحسنها ما ذكرناه بعد كون الأحكام ومتعلقاتها من الإعتبار الذي يصحُّ على النحو المزبور؛ وهو إنحلال الوجوب على جميع المقدمات وإنْ كان منشأ إنبساطه ذا المقدمة فيصحُّ الإعتبار.

الثالث: إنَّ الواجب المشروط والواجب المطلق من المفاهيم ذات الإضافة؛ فربّما يكون الواجب مشروطاً من جهة ومطلقاً من جهة أخرى، ويترتّب على ذلك إحتمالُ إنقلابِ الواجب المشروط مطلقاً إذا تحقّق شرطه وإنْ كان مشروطاً من غير ذلك الشرط, بلا فرق في ذلك بين أنْ يكون الشرط من شروط الوجوب أو يكون من شروط الواجب، والإشكال فيه واضح.

وفي ختام هذا البحث لا بأس بالتعرّض لأمور:

الأمر الأول: في وجوب التعلُّم؛ فإنَّ التعلُّم من الموضوعات المهمة في حياة الإنسان العملية لأنَّه يعتبر من المقدمات المُفوِّتة كما عرفت.

ص: 187

والفروض التي يمكن أنْ تُتصور فيه هي:

الفرض الأول: أنْ يكون المكلف عالماً بالتكليف الفعلي الثابت عليه ولكنه يجهل خصوصياته؛ كمن يعلم بوجوب الصلاة أو الصوم أو الحج ولكنه يجهل أحكامه من أجزاء الواجب وشرائطه، وفيه صور متعددة:

الأولى: أنْ لا يتمكن من أداء ذلك الواجب من دون تعلُّم أحكامه، وفي هذه الصورة لا ريب في وجوب التعلُّم لصيرورته مقدمة وجودية لذلك الواجب.

الثانية: أنْ يتوقف إحراز الإمتثال القطعي على التعلُّم كما لو دار الأمر بين محتملات عديدة لا يمكن الجمع بينهما, وفي هذه الصورة يجب التعلُّم عقلاً لوجوب الإمتثال اليقيني.

الثالثة: أنْ يتمكن من الإمتثال القطعي من دون التعلُّم كالرجوع إلى الإحتياط، والإتيان بكل المحتملات. والمعروف عدم وجوب التعلُّم لكفاية الإمتثال الإجمالي كما حُقِّق في محلِّه.

الفرض الثاني: العلم بأنَّه قد يُبتلى بتكليف في المستقبل ولكنه لو لم يتعلم أحكامه فعلاً فسوف لا يتمكن تعلّمها في وقت فعليّة ذلك التكليف عليه، وفي هذا الفرض تَرِدُ الصور الثلاث المتقدمة وأحكامها؛ غاية الأمر يكون وجوب التعلُّم في الصورة الأولى من باب وجوب المقدمة المُفوِّتة للواجب الشرعي، وفي الثانية للوجوب العقلي وهو إحراز الإمتثال اليقيني خلافاً لما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره من أنّ الوجوب في هذه الصورة لا يرتبط بالمقدمات المُفوِّتة.

الفرض الثالث: أنْ يحرز صغرى التكليف ويشكُّ في كبراه؛ كمن رأى الهلال ولكنه يشكُّ في وجوب قراءة الدعاء الذي لم يتعلمه عند رؤيته، وحيث أنَّ الشبهة حكمية فيجب عليه؛ إمّا تعلُّم الدعاء وقراءته إحتياطاً، أو الفحص وتحصيل الحجة على أحد الطرفين. إمّا وجوبه أو عدمه فيدخل في الفرض الأول.

ص: 188

الفرض الرابع: عكس ما تقدم؛ بأنْ تتنجّز كبرى التكليف عليه بالفعل ويشكُّ في صغراه؛ وهنا تجري الأصول المؤمِّنة عن فعليّة ذلك التكليف, كاستصحاب عدم تحقّق الصغرى وبه ينفي وجوب التعلُّم عليه.

الفرض الخامس: إحتمال إبتلاء المكلف في المستقبل بصغرى تكليف كبراه, بحيث يكون منجَّزاً عليه, كما إذا إحتمل أنَّه سيستطيع وهو يعلم بوجوب الحج على المستطيع أو يحتمله إحتمالاً منجزاً, فهل يجب عليه تعلُّم أحكام الحج إذا كان تركه للتعلم سبباً في عجزه عن الإمتثال في حينه؛ وقد اْختلفوا في وجوب التعلُّم عليه فقيل بجريان الأصول العملية المؤمِّنة أيضاً كاستصحاب عدم إبتلاءه في المستقبل بصغرى ذلك التكليف كالصورة السابقة, فإنَّهما في الملاك على حدٍّ سواء.

وأُشكل عليه بوجوه:

1- ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من وجود علم إجمالي يكون إبتلاؤه في المستقبل ببعض صغريات التكليف, فلو عوّل على الأصل المؤمِّن لزم منه المخالفة القطعية.

وفيه: إنَّ العلم الإجمالي ينحلُّ في كثير من الأحيان إلى علم تفصيلي أو إجمالي أضيق منه؛ يضاف إلى ذلك أنَّ كلَّ تلك الأطراف ليست مِمّا يكون ترك التعلُّم فيها موجِباً للتفويت, بل أنَّ كثيراً منها يمكن فيها التعلُّم بعد العلم بالتكليف, فلا تتعارض الأصول المؤمِّنة بلحاظ نفي وجوب التعلُّم.

2- ما ذكره السيد الخوئي قدس سره أيضاً من وجوب التعلُّم وعدم الرجوع إلى الأصول المؤمِّنة، وذلك لأنَّ أدلة وجوب التعلُّم واردة مورد الأصول المؤمِّنة كالإستصحاب, فلو تقدمت على تلك الأدلة فإنَّه يلزم إلغاؤها.

وفيه: إنَّه لا لغوية فيها؛ فإنَّ وجوب التعلُّم يشمل موارد العلم بأصل الوجوب والجهل بخصوصياته؛ كما عرفت في الفرض الأول، إذ لا معنى للرجوع للأصل المؤمِّن أو

ص: 189

الإستصحاب، كما يشمل موارد العلم الإجمالي الصغير المنجّز حيث لا تجري فيها الأصول المؤمِّنة ذاتاً للتعارض والإجمال في موردها، وفي غيرهما يمكن الرجوع إلى الأصل المؤمن من دون إشكال.

3- ما عن المحقق النائيني قدس سره من أنَّ وجوب التعلُّم لا يمكن نفيه باستصحاب العدم, لأنَّ الوجوب من آثار نفس الشكّ والإحتمال المشكوك وهو الإستطاعة واقعاً حتى ينتفي بانتفاءه تعبُّداً.

وفيه: إنَّ الثابت في محلِّه أنَّ الإستصحاب يقوم مقام العلم الوجداني بالموضوع, فإذا صحَّ جريان إستصحاب عدم الإستطاعة التي هي موضوع وجوب الحج الذي تعلَّمَ أحكامه فإنَّه يقوم مقام العلم بعدمها فينتفي الشكُّ فلا يجب التعلُّم.

4- ما ذكره بعضهم ونسبه إلى المحقق النائيني قدس سره أيضاً من أنَّ دليل وجوب التعلُّم يدلُّ على أنَّ كلَّ مخالفة تنشأ من ترك التعلُّم يعاقب عليها، ولا تكون الأصول المؤمِّنة موجبة لدفعه، ولم تُجعل لدفع وجوب التعلُّم فإنَّ الأصل النافي لا ينفي وقوع هذه المخالفة إلا بالملازمة العقلية، بل لو إستصحب عدم وقوع المخالفة لم يكن مقيَّداً لأنَّه يُحتمل الوقوع في المخالفة على كلِّ حالٍ، وعليه؛ فلو وقع فيها لعوقب لا محالة, فيجب دفع الضرر المحتمل بالتعلُّم(1).

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ التعلُّم عنصر مهم في حياة الإنسان العملية، وقد إهتمَّ به العقل ودعا إليه الشرع الحنيف بأساليب مختلفة لا يسع المقام ذكرها, وهو طريقة العقلاء في جميع شؤونهم الدنيوية والدينية والأخروية، ولا يتحقق أيُّ تقدُّم في أيِّ مجال من مجالات الحياة العملية والأخلاقية إلا بالعلم والتعلُّم، وإنَّ أهمّ ما يترتب على التعلُّم هو كونه طريقاً

ص: 190


1- . كلُّ هذه الإشكالات في كتاب بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص213 وما بعدها.

لإحراز وقوع العمل صحيحاً وبدونه لا يمكن ذلك، فهو ليس من مجرد المقدمات المُفوِّتة حتى نبحث عن وجوبها والتماس الوجوه في إثباته؛ لأنَّ أهميته أكبر من ذلك بكثير، فالعقل والنقل متَّحدان على لزومه، وطريقةُ العقلاء التي لم يَحِدْ عنها الشارع لكونه رئيس العقلاء بل رأسهم؛ تُثَبِّت ذلك ويلومون مَن تَرَك العمل سواءً كان عملاً شرعياً كالواجبات وغيرها أم عرفياً لأجل ترك التعلُّم، ولا يعذرونه في ذلك بل يعاقبون التارك الجاهل حتى عُدَّ ذلك مثلاً معروفاً من أنَّ القانون لا يحمي الجاهل، فإنَّ جميع ذلك مِمّا يدلُّ على وجوب التعلُّم في جميع الفروض المتقدمة إلا ما إذا كان العمل خارجاً عن مورد إبتلاءه لا فعلاً ولا في المستقبل, ولعلَّ ما ذكره الأعلام من الوجوه المتقدمة وغيرها مِمّا لم نذكره كما أنَّ من قال بالوجوب النفسي للتعلُّم؛ يرجع إلى ما ذكرناه، وإلا فلا تخلو من إشكال, ولقد أجاد المحقق النائيني قدس سره حيث أفاد بخروج التعلُّم من المقدمات المُفوِّتة لأنَّ تَرْكَه لا يستلزم امتناع الواجب وإنَّما يستلزم امتناع إحراز الواجب فيجب التعلُّم مطلقاً كما عرفت.

الأمر الثاني: في أقسام الشكوك المرتبطة بالشرط؛ وهي:

أولاً: الشبهة الحكمية فيما إذا كان الشكُّ في الإشتراط وعدمه، فمقتضى الأصل والإطلاق عدمه.

ثانياً: الشبهة الموضوعية فيما إذا لو علم بالشرط وشكَّ في حصوله؛ فإنَّ مقتضى الأصل وإنْ كان عدم الحصول إلا أنَّه يظهر عن جمع من الفقهاء في جملة من الموارد لزوم الفحص؛ وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

ثالثاً: الشكُّ في وجوب تحصيل الشرط؛ وفيه يجري النزاع المعروف بين الأصوليين وهو رجوع القيد إلى المادة أو الهيئة، فقد ذهب السيد الوالد قدس سره (1) إلى أنَّ مقتضى أصل البراءة

ص: 191


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص80.

عدم الوجوب ويترتب عليه أنْ لا يكون التكليف المشروط منجَّزاً إلا بعد حصوله, سواءً كان الشرط متَّصلاً بالكلام أو منفصلاً عنه.

وتفصيل الكلام في هذا البحث هو أنَّه إذا رُجع إلى المادة فسوف يكون من قيود الواجب فيجب تحصيله, ولا إشكال في عدم لزوم تحصيله إذا رجع إلى الهيئة, أي فيما إذا كان من قيود الوجوب؛ ولكن إذا شُكَّ في حاله فهل يرجع إلى الهيئة أو المادة أو أنَّ هناك قاعدة عامة يمكن التمسك بها في إثبات أحد الطرفين, أو لم يوجد مثل ذلك؛ فلا بُدَّ من الرجوع إلى القرائن والمناسبات التي تثبت أحدهما فيختص بذلك المورد. والبحث هنا يقع في مقامين:

المقام الأول: فيما إذا كان دليل التقييد منفصلاً عن دليل الأمر وشكَّ في رجوعه إلى مدلول هيئة الأمر أو مادته؛ إنَّ مقتضى القاعدة الأولية التعارض بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة والتساقط، ثم الرجوع إلى الأصول العملية، إلا أنْ يثبت ترجيحٌ لإطلاق الهيئة فيُقدَّم على إطلاق المادة.

وقد ذكر قدس سره له وجوهاً ثلاثة:

الوجه الأول: إنَّ إطلاق الهيئة شموليٌ يقتضي توسيع الوجوب لحالة فقدان القيد, بخلاف إطلاق المادة الذي مدلوله صرف الوجود فيكون بدلياً، والإطلاق الشمولي أقوى من الإطلاق المادي.

وأُشكل عليه:

1- إنَّه من مجرد الإستحسان الذي تجلّ الأحكام الإلهية البناء عليه.

2- إنَّه لا دليل على قوة أحدهما وضعف الآخر, لأنَّ كِلا الطرفين يثبتان بمقدمات الحكمة؛ نعم؛ إذا كان أحدهما ثابتاً بالوضع والآخر بمقدمات الحكمة لكان له وجهٌ، ولكنه ليس كذلك.

3- ما عرفت من التلازم العرفي بينهما؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ص: 192

الوجه الثاني: دوران الأمر بين مخالفة واحدة أو مخالفتين؛ لأنَّ تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة, إذ لا معنى لإطلاق المادة في صدق الواجب من دون الوجوب، فالمخالفة واحدة بينهما وتقييد المادة لا يستلزم تقييد الهيئة, والتقييد خلاف الأصل فإنَّه مخالفةٌ ضرورةً. والعرف في مثل ذلك يرتكب مخالفة واحدة دون مخالفتين, وفيه بطلان الكبرى والصغرى معاً لما عرفت من التلازم العرفيبينهما, وإنَّه لا دليل على أنَّه إذا دار الأمر بين مخالفة واحدة أو مخالفتين تُقدَّم الأولى على الثانية مع أنَّه وجه إستحسانيّ صرف.

الوجه الثالث: إنَّ التعارض بين الإطلاقين فرع العلم الإجمالي برجوع القيد إلى أحدهما، وهذا العلم الإجمالي ينحلُّ إلى العلم التفصيلي بتقييد المادة وعدم شمولها للحصة الفاقدة مطلقاً إمّا تخصيصاً أو تخصُّصاً، أي إمّا لعدم الوجوب أو لعدم كونه واجباً للشكِّ في تقييد الهيئة فيُتمسك فيها بالإطلاق بلا معارض.

إنَّ هذا الوجه وإنْ أمكن القول به في بعض الموارد تبعاً لما يُستفاد من القرائن والإعتبارات ولكنه لا يمكن أنْ يستند إلى قاعدة عامة؛ وذلك لأنَّ التقييد بالقيد والشرط يكون بأحد وجهين؛ إمّا أنْ يكون بحدوثه قيداً للواجب أو الوجوب كالإستطاعة للحج، وإمّا أنْ يكون التقييد على نحو الظرفية؛ أي بشرط حدوثه وبقاءه في الوجوب أو الواجب، وهذا يحتاج إلى مزيد من التقييد.

وبناءً على هذا فإنَّه تارةً يعلم إجمالاً بأنَّ تقييد المادة أو الهيئة على وزانٍ واحد؛ بأنْ يعلم بأنَّ حدوث الشرط هو التقييد إمّا في الوجوب أو في الواجب، أو يعلم أنَّ القيد ظرف للوجوب أو الواجب، فقيل بأنَّ في مثل ذلك يتم التقريب المتقدم للإنحلال والتمسك بإطلاق الهيئة.

ص: 193

وأخرى يعلم إجمالاً بتقييد الهيئة بنحو الظرفية أو لمدلول المادة بحدوثه، وهنا أيضاً يتمُّ تقريب الإنحلال للعلم تفصيلاً بتقييد المادة بأصل حدوثها فلا واجبَ، ويشكّ في تقييد كلٍّ من الهيئة أو المادة بنحو الظرفية فيتمسك بالإطلاق لنفي أصل تقييد الهيئة وتقييد المادة بنحو الظرفية بلا معارض.

وتارةً ثالثة العلم إجمالاً بتقييد الهيئة حدوثاً أو المادة به حدوثاً وبقاءً.

وقد يقال: بعدم إنحلال العلم؛ إذ لا يلزم من تقييد الهيئة حدوثاً تقييدُ المادة به إلا حدوثاً لا بقاءً, فيمكن التمسك بالإطلاق لنفي تقييد المادة به بقاءً, فيعارض إطلاق الهيئة حيث يعلم إجمالاً بأحد التقييدين فرضاً، واستُشكل عليه بوجهين:

1- إنَّ معنى تقييد المادة من خلال تقييد الهيئة هو عدم وقوع الفعل قبل الشرط مصداقاً للواجب, وعدم الإجتزاء به من دون أنْ يلزم من ذلك وجوب إيجاد الشرط قبل الفعل بمعنى تقييده بالشرط، بينما اللازم من تقييد المادة إبتداءً أنَّه قد قُيِّدَ به الشرط فيلزم إيجاده، وهذا غير معلوم على كلِّ حالٍ؛ فيُتمسك بالإطلاق في المادة لنفي هذا المعنى للتقييد بهذا المعنى.

وأُورد عليه بأنَّ تقييد المادة ليس له إلا معنىً واحد وهو تخصيصها بالقيد وصيرورة التقييد به تحت الأمر. وما ذكر من عدم صحة الإجتزاء بما وقع قبل القيد أو الإلزام بتحصيل القيد قبلها؛ فإنَّهما من آثار التقييد وليس نفس القيد.والأول من آثار تقييد المادة مباشرةً, والثاني من آثار تقييد المادة بضميمة إطلاق الوجوب من ناحية القيد، فيثبت إطلاق الوجوب لمعلومية تقييد المادة وإطلاق الهيئة.

وفيه: إنَّ إختلاف الآثار كافٍ في الحكم في إختلاف التقييدين إلا أنْ يرى العرف بالوحدة في التقييد، ولعلّ الأمر كذلك كما ذكرناه مراراً، وربّما يكون مراد المستشكل أيضاً.

ص: 194

2- إنَّه يمكن القول بثبوت الإهمال في المادة إذا رجع القيد إلى الهيئة؛ لاستحالة الإطلاق فيها كما هو واضح واستحالة التقييد لأنَّه لغو صرف, إذ الغاية من التقييد الأمر بالتقييد والتحريك نحوه, مع أنَّ الأمر بالتقييد بقيد الوجوب تحصيلٌ للحاصل؛ إذ يكفي لحصوله خارجاً حصول القيد وذات المقيد، فالأول مفروض الحصول, والثاني يكفي فيه الأمر بذات المقيَّد, فلا فائدة للأمر بالتقييد فإذا ثبتت إستحالة الإطلاق والتقييد في المادة ثبت الإهمال، ولكن ليس المراد بالإهمال ما كان بلحاظ أصل الحكم حتى لا يعقل ذلك ثبوتاً لدى الحكم؛ وإنَّما هو إهمال في طرف من أطراف الجعل للإستغناء بتقييد الوجوب عن تقييده، فأصالة الإطلاق في المادة بمعنى عدم التقييد بالقيد المشكوك جارية لأنَّه مؤونة زائدة فينفي الأصل وتكون طرفاً للمعارضة مع أصالة الإطلاق في الهيئة.

وفيه: إنَّه مبني على التفكيك بين المادة والهيئة, وأمّا إذا ثبت التلازم العرفي بينهما كما عرفت فلا وجه لثبوت الإهمال في المادة أبداً.

وردَّ أيضاً بأنَّه مبني على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الضدين الذَين لهما ثالث. ولكن سيأتي في بحث المطلق والمقيد أنَّ التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب؛ فلا تتصور واسطة بينهما باسم الإهمال. وسيأتي الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

والحقُّ أنَّ جميع ما ذُكر مبنيٌّ على التفكيك بين المادة والهيئة, مع أنَّ الأمر ليس كذلك لوجود التلازم العرفي بينهما في الجملة، مضافاً إلى أنَّ ما ذكر إنَّما هو من مجرد الإستحسان الذي لا يمكن بناء الحكم عليه؛ فما ذهب إليه جمع من التعارض بين الإطلاقين وسقوطهما والرجوع إلى الأصل في نفي وجوب تحصيل القيد إلا إذا قامت قرينة أو إعتبار في المورد؛ فيتبع هذا كلّه فيما إذا كان دليل القيد منفصلاً عن دليل الأمر.

ص: 195

المقام الثاني: فيما إذا كان دليل القيد متَّصلاً بدليل الأمر؛ فقد يُقال بأنَّه تارةً يدلُّ دليل القيد المتَّصل على كونه مطلوباً مستقلاً ولازماً أعمّاً من الجامع بين تقييد المادة أو الهيئة, كما إذا قال: تصدّق قبل القيام، وعرفنا من القرائن بأنَّ الصدقة مطلب مستقل ولا تجري الصدقة قبل القيام وإنْ كانت أفضل, وأخرى يفرض فيماإذا كان لسان القيد متَّجه إلى أحد الأمرين من المادة أو الهيئة ولكن يشك في أنَّه لأيِّهما كما إذا قال: تصدق مع التعظيم أو قائماً.

وقد ذهب بعض إلى التفرقة بين الفرضين؛ ففي الأول يكون مقتضى الإطلاق فيهما تامٌّ ذاتاً, فإذا كان أحدهما أقوى من الآخر فيقدم وإلا يتعارضان ويتساقطان.

وأمّا في الفرض الثاني فقد قال بأنَّ الحكم فيه الإجمال للشكِّ في أصل انعقاد الظهور الإطلاقي في كلِّ واحد منهما ذاتاً, فلا يمكن التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات سمة الوجوب للمقترن مع القيد والفاقد له.

ولكن الصحيح أنَّه لا فرق بين الفرضين؛ أمّا الأول فهو واضح، وأمّا الثاني فلأنَّ المدار إنَّما يكون على حصول الشكِّ في وجوب تحصيل الشرط من أيِّ سبب كان؛ بالإجمال أو بغيره, مع أنَّ الحقَّ إنعقاد ظهور الكلام فيهما, لا سيما إذا قلنا بالتلازم العرفي بين المادة والهيئة, فيكون المرجع بعد التعارض التساقط وهو الأصل، فلا يكون أصل التكليف المشروط به منجَّزاً حينئذٍ إلا بعد حصول الشرط إلا إذا كان هناك إعتبارٌ وقرينة يدلُّ على أحد الأمرين فيؤخذ به.

هذا تفصيل ما أوجزه السيد الوالد قدس سره في المقام.

الأمر الثالث: ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) في المقام أنَّ قانون الجمع بين الدليلين بتقديم الأقوى منهما إنَّما يكون بين دليلين متعارضين ذاتاً لا عرضاً من جهة العلم الإجمالي

ص: 196


1- . نقله في كتاب بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص218.

الحاصل من الخارج بكذب أحدهما، كما إذا علمنا بكذب أحد خطابين؛ إمّا خطاب: (لَا يَضُرُّ الصَّائِمَ مَا صَنَعَ إِذَا اجْتَنَبَ ثَلَاثَ خِصَالٍ؛ الطَّعَامَ والشَّرَابَ والنِّسَاءَ والِارْتِمَاسَ فِي الْمَاءِ)(1), أو خطاب: (لَا تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ)(2), وعلمنا بخروج الإرتماسي من الأول أو صلاة الآيات من الثاني؛ فإنَّه لا يُقدَّم إطلاق أحدهما على الآخر وإنْ كان أقوى، وقد ذكر قدس سره ذلك على سبيل القاعدة في باب التعارض وطبَّقها على المقام الذي لا تعارض بالذات بين إطلاق المادة وإطلاق الهيئة في دليل واحد.

وذكر بعض الأعلام قدس سره في بيان ما أفاده المحقق النائيني قدس سره وجوهاً:

الوجه الأول: قياس ذلك بباب العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين؛ إذ أنَّ المعروف عدم تقديم الخبر الذي يكون لسان الخطاب فيه أقوى من الآخر, لأنَّ نسبة العلم الإجمالي إلى كلِّ واحد منهما على حدٍّ سواء فكذلك الظهورين اللذين يعلم بكذب أحدهما.وفيه: إنَّه قياسٌ مع الفارق وخلطٌ بين مرحلة الصدور ومرحلة الدلالة، ويكشف عن الواقع المراد للمتكلم؛ فإنَّ قواعد الجمع العرفي ترتبط بالثانية دون الأولى, فيثبت بها ملاكاً لتشخيص مرام المتكلم على ما هو أقوى كشفاً وأوضح دلالة, فلو عُلم بكذب إحدى الدلالتين والكشفين وكانت إحداهما أقوى من الأخرى فإنَّ إحتمال الكذب فيها أضعف مِمّا في الأخرى, فتُقدَّم الأقوى وتُجعل قرينة على تشخيص المراد. وعلى هذا فلا وجه لما ذكره قدس سره .

الوجه الثاني: إنَّه من إشتباه الحجة باللاحجة فتكون من الشبهة المصداقية لدليل الحجية؛ فتسقطان عن الحجية لأنَّ حجية الظهور مشروطة بعدم العلم بالكذب ومع فرض العلم

ص: 197


1- . وسائل الشيعة (ط. آل البيت)؛ ج10 ص31.
2- . المصدر السابق؛ ج2 ص342.

بكذب أحدهما فيسقطان معاً عن الحجية، ولا تجري هنا قواعد الجمع العرفي لأنَّها من تقديم أقوى الحجتين لا تعيين الحجة من اللاحجة.

ويرد عليه ما أُورد على سابقه من الفرق بين الموردين؛ فإنَّ حجية الظهور ليست مشروطة بأنْ لا يكون الطرف الآخر كذباً لتكون الشبهة مصداقية للحجة, مع أنَّ اللاحجية إنَّما تكون في مورد العلم بالخلاف، وفي المقام لا علم بمخالفة شيء منها بالخصوص, لأنَّ العلم الإجمالي علم بالجامع لا أكثر.

الوجه الثالث: إنَّ الحجة الأقوى تكون من باب القرينية فتُحذف، وإنَّما تثبت إذا إجتمع الأقوى مع الأضعف، وإذا إجتمعا في سياق متَّصل يوجب هدم الأضعف ورفعه, ولا يتمُّ ذلك إلا في المتعارضين بالذات لا في موارد العلم الإجمالي بكذب إحداهما فإنَّهما إذا إجتمعا مع العلم الإجمالي أوجب إجمالهما.

وفيه: إنَّ الإجمال بما يحصل من وجود دليل ثالث صالح لأنْ يكون قرينة على كلِّ واحد منهما، وهو الدالُّ على القيد الإجمالي، وإنْ لم يكن كذلك فلا إجمال أبداً، كما عرفت سابقاً.

الوجه الرابع: إنَّ القرينية تكون فيما إذا كان أحد الدليلين متعرضاً بمدلوله لنفي مدلول الآخر وقرينةً عليه؛ فالخاص بالنسبة إلى العام وفي باب التعارض العرضي لا يكون كذلك؛ فإنَّ مدلول أحد الدليلين أجنبي عن مدلول الآخر بالكلية.

وفيه: إنَّ التعرُّض لنفي مدلول الآخر كما يتحقق بالدلالة المطابقية كذلك يتحقق بالدلالة الإلتزامية أيضاً، وفي موارد التعارض يكون كلُّ واحد من الدليلين متعرضاً لنفي الآخر بالإلتزام، لأنَّ كلاً منهما يدلُّ بالإلتزام على قضية شرطية؛ فيرجع كلُّ تعارض عرضي إلى التعارض الذاتي بين الدليلين لثبوت هذه القضية الشرطية في كلٍّ منهما من أول الأمر, والعلم الإجمالي يوجب إحراز الشرط فقط.

ص: 198

وما ذكره المحقق النائيني قدس سره لا كلية فيه، فلا بُدَّ من الرجوع إلى موارد التعارض العرضي واستفادة الخصوصيات من الدليل وإنْ كان لنا فيما ذكر منالوجوه في بيان تلك القاعدة بعضُ المناقشات والتي سيأتي ذكرها في الموضع المناسب إنْ شاء الله تعالى.

القسم الثالث: الواجب النفسي والواجب الغيري.

القسم الثالث(1): الواجب النفسي والواجب الغيري.

القسم الثالث: الواجب النفسي والواجب الغيري.

والبحث فيه يقع من جهات:

الجهة الأولى: في تعريفهما؛ وقد إختُلف فيه، فالمعروف المشهور -وإنْ تعددت صياغته- هو: إنَّ الواجب النفسي ما أُمر به لا لأجل تكليف آخر، والغيري ما كان أمره لأجل التمكُّن من تكليف آخر.

وأُورد عليه بالإشكال المعروف من أنَّه يستلزم أنْ تكون أكثر الواجبات واجباتٍ غيرية، لأنَّها وُجدت لأجل مصالح وملاكات لزومية تترتب عليها، فلا بُدَّ أنْ تكون غيرية بمقتضى هذا التعريف؛ إلا معرفة الله تبارك تعالى فإنَّها واجب نفسي على كلِّ حالٍ؛ لأنَّها محبوبة لذاتها.

وأُجيب عنه بأنَّه ليست النفسيةُ والغيريةُ بلحاظ الملاك والمبادئ؛ بل بلحاظ عالم الإلزام وتحمُّل المسؤولية من قبل المولى.

وعليه؛ فإذا جُعلت المصلحة بنفسها في عهدة المكلف إبتداءً واشتغلت الذمة بها كانت من الواجب النفسي ويكون الفعل المحصَّل لها واجباً غيرياً.

كما أنَّه لو جُعل نفس العمل كالصلاة والصيام وغيرها في العهدة واشتغلت الذمة به كان الفعل واجباً نفسياً.

ص: 199


1- . من أقسام الواجب.

وبعبارة أخرى: إنَّ المصالح والملاكات هي أغراض المولى لجعل التكليف في عهدة المكلف؛ فتارةً يتعلق التكليف بالأفعال لتحقيقها فتكون واجبات نفسية, وأخرى يتعلق التكليف بنفس المصلحة والملاك وجعله في عهدة المكلف فيكون واجباً نفسياً, والفعل واجب غيري. بينما في الواجب الغيري يكون التكليف الآخر كالعلة الغائية لإيجابه سواءً كان الأمر به مستقلاً أم لا، وسواءً كان متقدِّماً عليه أو مقارناً أو متأخراً، وسواءً كانت فيه مصلحة نفسية أم لا.

ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنَّ التكليف النفسي هو ما يترتب العقاب على تركه بما هو هو، وإنَّ التكليف الغيري ما لا يعاقب على تركه بما هو هو بل بما يؤدي إلى ترك شيء آخر. وعلى هذا الأساس فلا يترتب العقابُ على ترك المصالح والملاكات الإلزامية, لأنَّ إستحقاق العقاب إنَّما يكون بلحاظ نفس التكليف لا بلحاظ المصالح, إلا إذا تعلّق التكليف به مباشرةً فيترتب عليه العقاب.

وعلى ضوء ما ذكرنا يتولد تساؤلٌ, وهو: إذا كانت الأفعال من الأسباب أو المقدمات لتلك المصالح والملاكات فلماذا عدل المولى عن جعلها في العهدة إلىجعل الأفعال التي هي بمنزلة الأسباب مع أنَّ مقتضى القاعدة لزوم التطابق بين ما يجعله المولى في العهدة وبين غرضه.

وقد أُجيب عنه بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ تلك المصالح ربَّما تتوقف على مقدمات وأمور أخرى خارجة عن قدرة المكلفين, وأنَّ نسبة الفعل الواجب إلى ذلك الأمر وإلغاؤه ليست نسبة السبب التوليدي إلى مسببه كي يكون مقدوراً بالواسطة؛ بل

ص: 200


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص167.

نسبته نسبة المعِدِّ إلى المعَدِّ له, لأنَّ الأثر لا يترتب على الفعل مباشرةً ويتوسط بأمور إختيارية؛ بل هناك أمور أخرى غير إختيارية، فيمتنع تعلُّق التكليف بها لكونها غير مقدورة حتى بالواسطة، فما هو مقدور لهم هو الفعل فحسب فيأمر به.

وقد أورد عليه السيد الخوئي قدس سره بأنَّ الغرض الأقصى وإنْ كان خارجاً عن القدرة إلا أنَّ الغرض الأدنى وهو الإعداد والتهيؤ يكون تحت قدرة المكلف فلا بُدَّ أنْ يُدخله في العهدة.

وفيه: إنَّ الكلام في الغرض الأقصى الذي هو الأثر والغاية والمصلحة، وأمّا الغرض الأدنى وهو التهيؤ فهو حاصلٌ من إتيان الفعل ضرورةً، فإذا أُطلق عليه الغرض فلكونه أمراً مسامحياً.

الوجه الثاني: غموض المصلحة المطلوبة للمولى لدى المكلف وعدم إمكان تشخيصها إلا من قبل المولى نفسه من خلال الأمر بالفعل الذي يكون عنواناً مشيراً إليها، فلا محيص عن الأمر بالفعل.

الوجه الثالث: إنَّه ربَّما يكون الفعل مِمّا تتوقف عليه المصلحة النهائية فيجعل المولى الفعل بنفسه في العهدة فيأمر به ليتمكن المكلف من تحصيل الغرض, وهذا الأمر واضح من الأغراض المتعلقة بنفس عنوان الإطاعة والإمتثال والتقرب إلى المولى.

وهناك وجوه أخرى لا تخلو من مناقشة.

وكيف كان؛ فلا أثر عملي يترتب على هذا البحث, فيُكتفى بما ذكرناه للتمييز بين الواجب النفسي والواجب الغيري ولو على نحو الإشارة, ولأجل ذلك أوجز السيد الوالد قدس سره الكلام في هذه الجهة.

الجهة الثانية: إذا شكَّ في واجب أنَّه نفسي أو غيري؛ فإذا إستفدنا من القرائن ما يعين على أحدهما فلا إشكال في اتّباعها، وأمّا إذا إنتفت القرائن فالبحث يقع تارةً في الرجوع إلى الأصل اللفظي, وأخرى في الرجوع إلى الأصل العملي.

ص: 201

أمّا الأصل اللفظي؛ فإنَّ مقتضى أصالة الإطلاق عدم كون الجعل والإيجاب عن داعٍ غيري سواءً كان إطلاقَ الهيئة أو المادة أو كليهما, وتقدم الكلام في بحثدلالة الأمر على النفسية ما يفيد المقام أيضاً, وقد أطال بعض الأعلام الكلام في دلالة الإطلاق بما لا يرجع إلى محصّل؛ فراجع.

وأمّا الأصل العملي؛ فإنَّه يختلف باختلاف الموارد، وهي:

المورد الأول: أنْ يعلم بوجوبٍ مُعَيَّنٍ كالوضوء مثلاً وشُكَّ في كون هذا الوجوب نفسياً أو غيرياً لواجبٍ آخر فعليٍّ على المكلف كالصلاة على الحائض والحج على غير المستطيع؛ وهنا تجري البراءة عن الوجوب النفسي عنه.

المورد الثاني: إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو تقيُّده بواجبٍ آخرٍ محتمَلِ الوجوب أو مقطوعِه ففي ذلك ثلاث صور:

أ- أنْ يعلم إجمالاً بوجوب شيء وجوباً نفسياً ووجوب أمر آخر مقيَّد به, بحيث لو علم بوجوبه النفسي لما وجب الأمر الآخر, كالوضوء والزيارة؛ فإنَّه لو علم بوجوب الوضوء نفسياً فلا وجوب متحقق للزيارة، وحينئذ يتولد علم إجمالي بوجوب الوضوء أو الزيارة المقيَّدة به، وهذا العلم الإجمالي وإنْ لم ينحلّ في عالم الأمر والواقع لأنَّ وجوب الوضوء المعلوم على كلِّ حالٍ, إنَّما هو الجامع بين الوجوب النفسي أو الغيري فلا يتطابق معلوم متعلقه مع المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين؛ ولكنه ينحلّ في عالم التكليف والجعل فلا تعارضُ أصالةُ البراءة عن وجوب الزيارة أصالةَ البراءة عن وجوب الوضوء, إذ يعلم بترتب العقوبة على مخالفته على كلِّ حالٍ, إمّا بنفسه أو باعتباره مؤدياً إلى ترك الواجب النفسي؛ فلا تجري البراءة في حقِّه, إذ يعلم باشتغال الذمة بالوضوء فيكون حاله حال سائر

ص: 202

موارد الدوران بين التعيين والتخيير. والنتيجة هي جواز ترك الزيارة، فتكون النتيجة هي جريان البراءة عن الزيارة؛ أي جواز تركها دون الوضوء.

ب- نفس الصورة السابقة, إلا أنَّه على تقدير الغيرية تكون مقدمة الواجب النفسي مرددة بين أمور غير محصورة فيتحقق علم إجمالي بوجوب نفسي مردد بين أمور غير محصورة. والظاهر جريان البراءة عن الوجوب النفسي فيجوز تركه لعدم تنجُّز العلم الإجمالي حتى تحرم مخالفته.

ج- نفس الصورة الأولى؛ بأنْ يُعلم الوجوب نفسياً أو وجوب أمر آخر مقيَّد به بحيث إذا ثبت الوجوب النفسي فلا وجوب للأمر الآخر المقيَّد به؛ ولكن هذه الحالة تتميز بكون الواجب الآخر ثابت على كلِّ حالٍ سواءً كان الواجب الأول نفسياً أم غيرياً أم قيداً للواجب الآخر كالصلاة لغير الحائض أو الحج للمستطيع.

وقد إختلف الأصوليون في الأصل الذي يمكن الإعتماد عليه في هذه الصورة؛ فذهب المحقق النائيني قدس سره إلى أنَّ الوجوب في كلٍّ من الواجبينثابت ومعلوم، وإنَّما الشكُّ في تقيُّد أحدهما بالآخر فتجري البراءة عنه ونتيجة ذلك نفسيتهما معاً، فيجوز للمكلف إيقاع كل واحد قبل الآخر.

ولكن السيد الخوئي قدس سره دفع ذلك بأنّا نعلم إجمالاً بكون وجوب الوضوء -مثلاً- نفسياً أو وجوب تقيد الصلاة به نفسياً؛ وهو علم إجمالي منجَّز غير منحلّ لا حقيقةً ولا حكماً؛ لأنَّ الأصل المؤمِّن عن وجوب التقيُّد يعارض الأصل المؤمِّن عن الوجوب النفسي للوضوء الذي يجري بلحاظ العقوبة الزائدة في تركه، فإنَّ الوضوء لو كان واجباً بالوجوب النفسي كان في تركه عقوبة زائدة على عقوبة ترك الواجب الآخر على تقدير تقيُّده به.

ص: 203

ونوقش ذلك بأنَّه لا مجال للمكلف في المقام إلا الإستناد إلى كِلا الأصلين؛ وهما: البراءةِ التي تجري في أصل وجوب التقييد، والوجوبِ النفسي للوضوء. لأنَّ البراءة عن التقييد تجري للتأمين عن العقوبة في فرض فعل ذات الصلاة لا في فرض تركها، وإلا كانت العقوبة معلومة على كلِّ حالٍ، وفي فرض فعل الصلاة لا تكون البراءة جارية عن وجوب الوضوء، لأنَّه يعلم في هذه الحال أنَّ في ترك الوضوء عقوبة واحدة على كلِّ حالٍ، أمّا من جهة وجوبه نفسياً أو من جهة وجوب التقيُّد به فليس في تركه عقوبة أخرى زائدة؛ إذ لا يُحتمل كون الوضوء واجباً نفسياً وغيرياً في آنٍ واحد، وهذا هو الملاك في الإنحلال الحكمي في أطراف الشبهة المحصورة التي لا يمكن للمكلف فيها الإستناد إلى الأصول المؤمِّنة جميعاً في عرض واحد.

وعليه؛ سوف تجري البراءة عن وجوب التقيُّد بلا معارض كما اختاره المحقق النائيني قدس سره ؛ هذا إذا كانت الواقعة مرة واحدة، وأمّا إذا تعددت وتكررت فسوف يتشكل علم إجمالي تدريجي منجّز كما هو واضح.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ العلم الإجمالي ينحلّ حكماً في الحالات الثلاث الأخيرة، لأنَّ الضابطة فيه هو أنَّه كلَّما تشكّل علم إجمالي بأحد تكليفين كانت مخالفة أحدهما مستلزمة لمخالفة الآخر دون العكس؛ لم تجرِ البراءة عن ذلك التكليف, لأنَّ هذه المخالفة تساوق المخالفة القطعية على كلِّ حالٍ فتجري البراءة عن التكليف الآخر بلا معارض، ولهذه النتيجة تطبيقات عديدة نذكر بعضها:

1- إذا عُلم إجمالاً بوجوب شيء أو تقييد واجب آخر محتمل الوجوب أو مقطوع الوجوب به فإنَّ البراءة تجري عن التقيُّد بلا معارض.

ص: 204

2- إذا عُلم بوجوب أحد الضدين اللذين لهما ثالث وحرمة الضد الآخر، كما لو علم بوجوب إستقبال القبلة أو حرمة إستدبارها في الصلاة؛ فتجري البراءة عن وجوبالإستقبال بلا معارض لأنَّ الإستدبار يستلزم عدم الإستقبال فهو مخالفة قطعية.

3- إذا عُلم بوجوب أحد أمرين وجوديين متغايرين أحدها أخصّ مورداً من الآخر فتجري البراءة عن الأخص، لأنَّ ترك الأعم يستلزم ترك الأخصّ دون العكس.

4- موارد الدوران بين الأقل والأكثر بالمعنى الأعم الشامل للدوران بين التعيين والتخيير؛ فإنَّ ترك الجامع يستلزم مخالفة قطعية فتجري البراءة عن الأكثر والتعيين. وهذا صحيح في الأقل والأكثر غير الإرتباطيين, وأمّا فيهما فإنَّ الإنحلال فيهما يحتاج إلى بيان آخر سيأتي ذكره في موضعه، وهذا الضابط الكلي للإنحلال يختلّ في أحد موردين:

الأول: أنْ يُفرض تباين زمان الوضوء الواجب -مثلاً- فيما إذا كان نفسياً عن زمانه فيما إذا كان غيرياً، كما إذا كان الوضوء على تقدير كونه واجباً نفسياً قبل الظهر وعلى تقدير كونه واجباً غيرياً للصلاة بعد الظهر؛ فإنَّه في هذه الحالة يمكن المخالفة القطعية لكلٍّ منهما في زمانه مستقلاً عن الآخر.

الثاني: أنْ يكون زمان الوجوب الغيري أوسع من زمان الوجوب النفسي؛ فإنْ كان زمان الأول أعمّ وزمان الثاني قبل الظهر في المثال المزبور فإنَّ الحكم يختلف بالنسبة إلى الحالات الثلاث المتقدمة، لإنَّه لا يجري الإنحلال في الحالة الأولى, وهي ما إذا كان أصل وجوب الصلاة مشكوكاً؛ إذ يمكن المخالفة القطعية للتكليف النفسي المعلوم بإلاجمال على كلِّ تقدير مستقلاً عن الآخر؛ بأنْ يترك الوضوء النفسي قبل الظهر ويترك الصلاة بعد الظهر.

ص: 205

ولكن يجري الإنحلال عكسياً في الحالة الثالثة من تلك الحالات؛ لأنَّ مخالفة الوجوب النفسي للوضوء لا تستلزم مخالفة الوجوب النفسي للتقيُّد، إذ يمكنه الإتيان بالوضوء بعد الظهر، بخلاف العكس فإنَّ مخالفةَ وجوب التقيد بفرض الإتيان بأصل الصلاة دون وضوء مخالفةٌ قطعية للتكليف فتجري البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء قبل الظهر.

هذا ما ذكره الأعلام، وأما السيد الوالد قدس سره فقد أوجز القول بأنَّه إذا عُلم بعدم وجوب ذي المقدمة أو لم يُعلم به فمقتضى أصالة البراءة عدم فعليّة الوجوب مطلقاً، وإنْ عُلم به وقلنا بأنَّ العلم بجنس الوجوب يجزي في تنجُّزه كما هو مقتضى مرتكزات المتشرعة فقد وجب الإتيان؛ وإلا فلا يجب لأصالة البراءة.

وما ذكره قدس سره هو الأوفق للذوق العرفي، وقد عرفت التفصيل فيه.وكيف كان؛ فلا ريب أنَّ الدليل اللفظي الذي تقدم ذكره إذا جرى وصحَّ التمسك به فلا يبقى مجال للشكِّ كما هو معلوم.

الجهة الثالثة: إختلفوا في إستحقاق العقاب والثواب على الأوامر الغيرية، والكلام فيها يقع في مقامين:

المقام الأول: في ترتُّب الثواب على الواجب الغيري والعقاب على تركه

المقام الثاني: في إمكان التقرب بقصد الأمر الغيري

أمّا المقام الأول: فقد ذهب المشهور إلى عدم ترتُّب الثواب والعقاب مستقلاً بلحاظ الأمر الغيري والمقدمة، بينما ذهب بعضٌ إلى التفصيل بين الثواب؛ فيترتب على فعل المقدمة, والعقاب؛ فلا يترتب إلا على ترك ذي المقدمة.

ص: 206

كما ذهب آخرون إلى ترتُّب الثواب والعقاب؛ كِلاهما على المقدمة والأوامر الغيرية(1).

واستُدِلَّ للقول الأول بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ بناء العرف والعقلاء على عدم العقاب والثواب على المقدمات؛ لذا فهم لا يرون من يترك واجباً من الواجبات له مقدمات عديدة أنَّه مستحق لعقوبات متعددة بعدد المقدمات الفائتة وكذا بالنسبة إلى الثواب، بل لا يرونه مستحقاً إلا لعقاب واحد أو ثواب واحد. كذلك على ترك الواجب والعلة.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (2) من أنَّه لا مصلحة في الواجبات الغيرية، بل لا مصلحة لإيجابها إلا إتيان غاياتها، فإنَّ الغرض من الواجب الغيري غرضٌ تبعي لا

ص: 207


1- . إنَّ أقوال وأنظار العلماء في ترتب الثواب على الواجب الغيري وعدمه مبنية على القول بأنَّ الثواب من باب الإستحقاق فيبحث عن حدود الإستحقاق, وهل أنَّها تعمُّ الغيري أو تنحصر بالنفسي, وهذه الآراء تقسم هكذا: 1- أنْ يترتب الثواب على النفسي دون الغيري, وهو المطابق للرأي الأول المذكور أعلاه, وهو مختار المحقق الخراساني في الكفاية؛ ص138. 2- يترتب الثواب على الغيري كالنفسي, وهو المطابق للرأي الثالث المذكور أعلاه, ولكن إذا كان واجباً أصلياً لا تبعياً, أي مدلولاً لخطاب مستقل لا ما إذا فُهم وجوبه على نحو التبعية بإحدى الدلالات؛ الإلتزامية, الإيماء والإقتضاء, وهو ما اختاره المحقق القمي في القوانين؛ ج1 ص102ونقله في أجود التقريرات؛ ج1 ص172. 3- يترتب الثواب على الغيري بشرط قصد التوصل به إلى ذي المقدمة أي الواجب النفسي, وهو مختار المحقق النائيني على ما يبدو في أجود التقريرات؛ ج1 ص172, وتبعه تلميذه في المحاضرات؛ ج2 ص231. 4- يترتب الثواب على الغيري مضافاً إلى قصد التوصل كون المقدمة موصلة بأنْ تنتهي إلى الإتيان بذيها. [أصول الفقه للشيخ حسين الحلي؛ ج2 ص200]. أمّا على القول من أنَّ الثواب في الواجب النفسي من باب التفضل فالمرجع هو الكتاب والسنَّة من أنَّ هل هناك ما يدلُّ على ترتب الثواب على الواجب الغيري أو لا, إذ لا كاشف للثواب إلى طريق النقل.
2- . نهاية الدراية؛ ج2 ص113.

إستقلالي تبعاً لباعثيّة ومحركيّة الأمر النفسي, فلايكون الإنبعاث عن الأمر الغيري موجباً للقرب ولا عدمُه موجباً للبُعد، فلا يكون إمتثاله موجباً للثواب ولا عدمه موجباً للعقاب.

الوجه الثالث: إنَّ الثواب ينشأ من إتيان الواجب بداعي الأمر الذي هو معنى الإمتثال، ويترتب الثواب على موافقة الأمر الغيري بتصور الإتيان بالمقدمة بداعي الأمر الغيري، ومن الواضح أنَّ الأمر الغيري لا يصلح للداعوية والتحريك فلا يمكن إتيان العمل بداعي إمتثال الأمر الغيري.

والحقُّ أنَّ شيئاً مِمّا ذكروه لا يصلح لإثبات المطلوب، ويظهر ذلك عند إيراد الوجوه التي تمسكوا بها لإثبات الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري أو تركه.

ومن الأمور التي يمكن التعليق بها على الوجوه المزبورة:

1- دعوى الفرق بين من يأتي بالواجب مع مقدمات طويلة تجب عليه وبين من يأتي به بلا مقدمة بينه وبين الواجب ولا مشقة، فإنَّ العقل يحكم بأنَّ الأول يحقِّق ثواباً زائداً.

وأُشكل عليه بأنَّ السبب للثواب مطلقاً سواءً كان زائداً أم لا هو واحدٌ؛ وهو الواجب النفسي, إلا أنَّ الزيادة إنَّما تحصل باعتبار كون الواجب النفسي أصبح شاقاً لما قيل من أنَّ (أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُها)، فهو ثواب على الواجب النفسي فيكون الدليل أعمّ من المدعى.

وفيه: إنَّ ما ذُكر خلاف المفروض, فإنَّه كما يُحكم بأنَّ الثواب يترتب على الواجب المستقل فإنَّه لا ينفي أنْ يكون الثواب مترتباً على فعل المقدمات أيضاً.

2- إنَّ موضوع الثواب والعقاب هو التعظيم واحترام المولى لا الإحسان إليه، ولا إشكال في أنَّ فعل المقدمة بقصد الإمتثال والتوصل إلى ذي المقدمة إنقياد وتعظيم للمولى, سواءً جاء بذي المقدمة بعد ذلك أم لا، فالتعظيم متعدد فلا بُدَّ أنْ يكون الثواب متعدداً.

ص: 208

ورُدَّ بأنَّ التعظيم والإنقياد وإنْ كان هو موضوع الثواب المولوي ولكن الكلام في أنَّ ملاكه هو إتيان الواجب النفسي أو إتيان الواجب الغيري، ولكنه ليس بشيء فإنَّ التعظيم والإنقياد حاصل بكلِّ واحدٍ منهما وجداناً.

3- لو لم يترتب ثواب مستقل على فعل الواجب الغيري بقصد الإمتثال فإنَّه لا يمكن لنا أنْ نفسّر ترتُّب الثواب على الإتيان بالمقدمة بقصد التوصُّل والإمتثال حتى إذا لم يتمكن بعد ذلك من إتيان ذي المقدمة لمانعٍ مع أنَّه لا إشكال في ترتُّب الثواب واستحقاقه له وإنْ لم يتحقق المطلوب النفسي.

وأُشكل عليه بما يلي:

أولاً: النقض بالإجزاء لمن شرع بها ثمَّ لم يتمكن من إتمام الواجب الإرتباطي.وفيه: إنَّه أول الكلام؛ لأنَّه إذا إنطبق عليه عنوان الإنقياد والتعظيم فسوف يستحق الثواب.

ثانياً: إنَّ موضوع الثواب المولوي هو الإنقياد والتعظيم بلحاظ المطلوب النفسي للمولى بحسب إعتقاد المكلف لا بحسب الواقع، وهو أمر وجداني حدوثاً وبقاءً فلا يتعدد بتعدُّد الأجزاء أو المقدمات، نعم؛ إذا ما ترك المكلف الإستمرار في تحصيل المطلوب النفسي للمولى باختياره ومن دون عجز حقيقي لم يستحق ثواباً على ما فعل ولكنه يستحق الثواب الإنفعالي, لأنَّه يتحقق بملاك حصول الإحسان والإنفعال في نفس المولى، كما لا يستحق الثواب المولوي لأنَّ موضوعه هو التعظيم والإنقياد, وهو يتحقق من أول الأمر مشروطاً بالإتمام وعدم التراجع عنه بنحو الشرط المتأخر، فمن يتراجع باختياره عن فعل المطلوب النفسي لم يعظم المولى من أول الأمر سواءً في المقدمات أم الأجزاء.

وفيه: إنَّه مبنيٌّ على الفرق بين الثواب والعقاب الإنفعاليين والذي يكون بملاك حصول المطلوب للمولى ويتحقق حافز إنفعالي من نفسه ملائمٍ أو معاكسٍ فيثيب أو يعاقب، وبين

ص: 209

الثواب والعقاب المولويين الناشئين من حكم العقل بالإستحقاق؛ فلا بُدَّ من تشخيص موضوع حكم العقل الذي يكون حاكماً من هذا الباب.

ويرد عليه: إنَّه خلط بين الأمرين، فإنَّ موضوع البحث هو الثاني دون الأول؛ من أنَّ إثبات الأول يحتاج إلى دليل، فإذا صحَّ في الموالي العرفيين فلا يصحُّ في مولى الموالي، وهو أمر مسلَّم.

والحقُّ أنَّ كلَّ ما ذُكر في إثبات القولين السابقين على فرض سلامته من النقاش إجتهادٌ في مقابل النص، فقد وردت عدة نصوص من القرآن الكريم والسنَّة الشريفة تدلُّ على ترتُّب الثواب على إمتثال الأوامر الغيرية؛ فمن القرآن الكريم عدَّة آيات بعضها يدلَّ على المطلوب بالخصوص كقوله تعالى: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ«120» وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1).

وأخرى تدلُّ على العموم كقوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)(2).

وقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)(3).

وقوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(4), وغيرها من الآيات الكريمة؛ بعد صدق الحسنة

ص: 210


1- . سورة التوبة؛ الآيات 120-121.
2- . سورة الأنعام؛ الآية 160.
3- . سورة الزلزلة؛ الآية 7.
4- . سورة النحل؛ الآية 97.

والخير والعمل الصالح الواردة في الآياتعلى الواجبات الغيرية فيترتب الثواب على فعلها، وأمّا السنّة ففيها الكثير؛ منها ما ورد في ترتُّب الثواب على زيارة الإمام الحسين علیه السلام وأنَّ لكلِّ خطوة كذا من الثواب؛ عَنْ بَشِيرٍ الدَّهَّانِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام : رُبَّمَا فَاتَنِي الْحَجُّ فَأُعَرِّفُ عِنْدَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ علیه السلام ؟ فَقَالَ: (أَحْسَنْتَ يَا بَشِيرُ؛ أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ علیه السلام عَارِفاً بِحَقِّهِ فِي غَيْرِ يَوْمِ عِيدٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عِشْرِينَ حَجَّةً وعِشْرِينَ عُمْرَةً مَبْرُورَاتٍ مَقْبُولَاتٍ, وعِشْرِينَ حَجَّةً وعُمْرَةً مَعَ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أو إِمَامٍ عَدْلٍ, ومَنْ أَتَاهُ فِي يَوْمِ عِيدٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ حَجَّةٍ ومِائَةَ عُمْرَةٍ ومِائَةَ غَزْوَةٍ مَعَ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أو إِمَامٍ عَدْلٍ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ لِي بِمِثْلِ الْمَوْقِفِ؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ شِبْهَ الْمُغْضَبِ, ثُمَّ قَالَ لِي: يَا بَشِيرُ؛ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ علیه السلام يَوْمَ عَرَفَةَ واغْتَسَلَ مِنَ الْفُرَاتِ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِ خُطْوَةٍ حَجَّةً بِمَنَاسِكِهَا, ولَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ وغَزْوَةً)(1).

وما ورد في السعي في قضاء حاجة المؤمن؛ فإنَّ من سعى فيها فله كذا من الثواب قضيت الحاجة أم لا: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمْشِي لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فِي حَاجَةٍ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لَهُ بِكُلِ خُطْوَةٍ حَسَنَةً وحَطَّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً ورَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً وزِيدَ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وشُفِّعَ فِي عَشْرِ حَاجَاتٍ)(2).

وما ورد من أنَّ نية المؤمن خير من عمله؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : (نِيَّةُ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِه)(3).

هذا مع صدق الإنقياد لفعل المقدمات التي هي من موجبات الثواب عند العقلاء مطلقاً, وتقتضيه كثرة تفضل الله تعالى على عباده وسعة رحمته.

ص: 211


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج 4 ص580.
2- . المصدر السابق؛ ج 2 ص197.
3- . المحاسن؛ ج 1 ص260.

وقد أُشكل على التمسك بالنصوص تارةً؛ بأنَّ ذلك كلَّه بواسطة ذي المقدمة؛ لا في حدِّ نفسها, فلا تنطبق العناوين المذكورة من العمل الصالح والحسنة والخير وغيرها عليها إلا باعتبار إضافتها إلى ذي المقدمة التي توجب تعنونها بتلك العناوين الحسنة وسبباً لعروض تلك عليها.

وفيه: إنَّه خلاف ظواهر تلك النصوص بل صريح بعضها, فإنَّ عنوان العمل الصالح والحسن ونحو ذلك قد أُطلق فيها على بعض المقدمات, سواءً تحقق ذو المقدمة في الخارج أم لا.

وتارةً أخرى؛ باختصاص الإطلاقات بالواجبات النفسية.

وفيه: إنَّه بلا شاهد، بل الشواهد على خلافه.

وتارةً ثالثة؛ بأنَّ الثواب ينحصر في قصد القربة والأمر، فلا ثواب في غيره, والمفروض أنَّ الأوامر الغيرية لا يمكن قصد الأمر والقربة فيها.وفيه: أولاً: إنَّها دعوى بلا شاهد, بل على خلافها الشواهد؛ لما يظهر من النصوص التي ذكرنا بعضها, وسيأتي في البحث التالي ما يتعلق بهذا الأمر.

ثانياً: إنَّ المناط في الثواب هو كون العمل محبوباً لدى الله عَزَّ وَجَلَّ بأيِّ مرتبة من مراتب الحب ولو كان مقدِّمياً إنقيادياً, فإنَّه من المعلوم أنَّ لحبِّه عَزَّ وَجَلَّ مراتب متفاوتة, فيكون لثوابه أيضاً مراتب كذلك. فلا ريب في أنَّ سقوط الأمر في العبادات وإنْ كان متوقفاً على قصد الأمر إلا أنَّ الإثابة على المحبوبات لدى المولى عَزَّ وَجَلَّ أعمُّ من ذلك.

وتارةً رابعة؛ إنَّ الثواب من باب التفضُّل.

وفيه: إنَّه خلاف قوله تعالى کُتِبَ لَهُم في الآية الكريمة: (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ)(1).

ص: 212


1- . سورة التوبة؛ الآية 120.

ومن جميع ذلك يظهر؛ إنَّه لا مانع ثبوتاً من الثواب على المقدمات والواجبات الغيرية وإنْ قلنا بتقوّمه بقصد القربة فإنَّه يكفي كون العمل محبوباً لديه عَزَّ وَجَلَّ في الجملة؛ هذا إذا أردنا من الثواب الجزاءَ المجعول الشرعي وهو ثواب المولى.

وأمّا إذا كان المراد به المدح والتحسين وهو وإنْ كان أمراً عقلياً لا ربط له بالشرع لكنه متحقق أيضاً في الواجبات الغيرية, ويترتب على إتيان المقدمات بلا إشكال, لأنَّ ملاكه تحقق الإنقياد وانطباقه على العمل, ولا إشكال في أنَّ كلَّ إنقياد ممدوح عند العقل والعقلاء, ثم إنَّ هذا كلّه فيما إذا قلنا بترتب الثواب على المقدمات إستقلالاً, وأمّا إذا قلنا بالإنبساط من ذي المقدمة إلى المقدمات فالأمر أوضح, سواء حصل ذو المقدمة في الخارج أم لا.

هذا ما يتعلق بالثواب.

وأمّا العقاب؛ فلا ريب في ترتُّب العقاب إذا إستلزم من ترك المقدمات ترك ذي المقدمة, فيكون الواجب الغيري موجباً لاستحقاق العقاب, فإنَّ ترك المقدمة لواجب إستقبالي بحيث لا يُتمكن من الواجب في ظرفه بمنزلة ترك إحدى المقدمات المُفوِّتة كالغسل قبل الفجر للصوم؛ فإنَّه بتركه لا يُتمكن من الصوم في ظرفه, وإنَّما الكلام في أنَّ إستحقاق العقاب من حين ترك المقدمة أو من زمان الواجب النفسي؟.

وقد ذكر بعض الأصوليين لكلِّ واحدٍ من الإحتمالين وجهاً؛

أمّا وجه إستحقاق العقاب من ترك المقدمة؛ فلأنَّ ملاك الثواب هو إنقياد العبد للمولى وكونه بصدد إمتثال أمره, كما أنَّ مناط العقاب هو طغيان العبد وخروجه عن وظيفة العبودية, سواء في ترك الواجب أم في فعل المحرم, ويظهر هذاالمعنى في ترك المقدمة, فإنْ خرج عن مقام العبودية فملاك العقاب يتحقق بمجرد ترك المقدمة المؤدي إلى ترك ذيها.

ص: 213

وأمّا وجه عدم إستحقاقه للعقاب قبل مجيء زمان الواجب؛ فلأنَّ الإنقياد للأمر النفسي إنَّما يكون في ظرفه ولا يعقل تحققه قبله, فعدم الإنقياد الذي يكون عصياناً وموجباً للعقاب إنَّما يتحقق في ظرف الواجب النفسي أيضاً, لأنَّه نقيض الإنقياد والإطاعة, ومن المعلوم لزوم إتّحاد زمان النقيضين, وعليه فلا ملاك للعقاب قبل ظرف الواجب النفسي.

وفيه: إنَّ كون عدم الإنقياد عصياناً دائماً أول الكلام, مع أنَّ فيه غموض وتبعيد للمسافة.

فالأَولى الرجوع إلى مسألة التجري, فإنَّه إنْ قلنا إستحقاق المتجري للعقاب كما عليه المحقق الخراساني قدس سره فلا إشكال في إستحقاقه له من حين ترك المقدمة ولو لم تحصل المخالفة للتكليف النفسي بعد, وأمّا إذا لم نقل بذلك وقلنا بأنَّ العقاب يترتب على نفس مخالفة التكليف لا على مجرد التجري ما لم يصادف الواقع -كما هو ظاهر الشيخ الأنصاري قدس سره - فالعقاب يترتب في ظرف الواجب؛ إذ لا يتحقق قبله ترك الواجب ومخالفته.

وأمّا المقام الثاني, وهو: إمكان التقرب بقصد الأمر الغيري من دون قصد التوصل لامتثال الأمر النفسي؛ فالمشهور عدم إمكان ذلك, وقد ذُكرت له وجوه:

الوجه الأول: إنَّ الوجوب الغيري يختَّص بالمقدمة الموصلة, فلا يمكن قصد إمتثال هذا الوجوب إلا بإرادة التوصل, لكونه قيداً أو جزءاً في متعلق الأمر الغيري, فلا يشمل الوجوب الغيري غيره.

وفيه: إنَّه خلط بين قصد التوصل بمعنى محركية الأمر النفسي بذي المقدمة نحو فعل المقدمة من أجل التوصل إلى إمتثاله, وبين قصد التوصل بمعنى الإقدام على فعل المقدمة الموصلة بمحركية الأمر الغيري بها والمدَّعى لزوم قصد التوصل بالمعنى الأول, وهذا الوجه يثبت لزوم قصد التوصل بالمعنى الثاني الذي لا ينفي إمكان الإنبعاث والتحرك عن الأمر الغيري بل يثبته.

ص: 214

الوجه الثاني: إنَّ محركية الأمر إنَّما تكون بلحاظ ما يترتب عليه من الأثر, كالثواب والتجنب عن العقاب, فهي بلحاظ المطلوب النفسي للمولى, فلا محالة لا تكون المحركية إلا بقصد الأمر النفسي.

وردَّ عليه:

أولاً: إنَّها دعوى بلا شاهد, بل على خلافها الشواهد, كما يظهر من النصوص التي تقدم ذكر بعضها.ثانياً: إنَّ هذا الوجه مبنيٌّ على إختصاص الثواب والعقاب بالمطلوب النفسي, فليس على الواجب الغيري ثواب ولا عقاب وقد عرفت فساده وإنَّ الثواب كما يترتب على المطلوب النفسي كذلك يترتب على الغيري وكذلك العقاب؛ فالمحركية التي تحصل من المطلوب النفسي بلحاظ ما يترتب عليه من أثر الثواب والتجنب عن العقاب كذلك تحصل من الواجب الغيري بهذا اللحاظ أيضاً.

ثالثاً: إنَّ المحركية للاوامر لا تنحصر فيما تترتب عليها من أثار الثواب والعقاب, فقد ذكرنا أنَّها تحصل أيضاً من جهات أخرى, وأهمها الإستشعار بوظيفة العبودية للمولى, ولأجل ذلك قالوا بدلالة الأمر على الوجوب بهذا الحكم العقلي, وعلى هذا الأساس كما تتحقق المحركية في المطلوب النفسي تحصل أيضاً من الوجوب الغيري بهذا الملاك أيضاً.

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام في توجيه هذا الوجه بأنَّ العقل يحكم بأنَّ العبد لا بُدَّ أنْ يجعل نفسه إمتداداً للمولى وهذا يستدعي التطابق بين إرادة المولى لو كان هو المباشر, ولا إشكال أنَّ المولى لو باشر تحقيق مطلوبه وكانت إرادته للمقدمة غيرية أي كان تحركه بداعي المطلوب النفسي, فالعبد إنَّما يستَّحق الجزاء بحكم العقل إذا تعلقت إرادته كذلك, أي كان مراده النفسي دون الغيري.

ص: 215

ففيه: إنَّه إعادة للإشكال بصيغة أخرى, فإنَّ حكم العقل يتعلق بكِلا المطلوبين؛ النفسي والغيري, بعد ثبوت الأثر على كلِّ واحدٍ, فقد ذكرنا أنَّ المطلوب الغيري محبوب ويستحق فاعله المدح والإستحسان لدى العقلاء, والثواب كما عرفت سابقاً.

وأمّا ما ذكره المحقق العراقي في مقام الردِّ على هذا الوجه بأنَّ إرادة المولى للصلاة غيرية أيضاً, لأنَّه إنَّما يريدها باعتبار المصالح فيها, فلا بُدَّ للمكلف من إرادة تلك المصالح؛ فهو مردود بما ذكرناه في إبتداء البحث في تعريف الواجب النفسي, وذكرنا أنَّ المدار في المولوية والنفسية عند تسجيل التكليف في عهدة المكلف, وهو فعل الصلاة لا ملاكاتها, مع أنَّ المطلب غير صحيح كما عرفت فلا تحتاج إلى هذا الإيراد.

الوجه الثالث: ما عن المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ الأمر الغيري تابع في الوجود للأمر النفسي, فتكون محركيته تبعية أيضاً, فلا يمكن أنْ تكون مستقلة في القصد.

وفيه: إنَّه خلط بين الأمور الإعتبارية والأمور الحقيقية, وقد أخذه مِمّا ذكر في الحكمة من تبعية وجود الممكن لوجود واجب الوجود, فلا يكون مستَّقلاً في الإيجاد والفاعلية أيضاً, وإنَّما الفاعل الحقيقي هو الله تعالى الواجب الوجود فلافاعل بالحقيقة غيره سبحانه مع أنَّ الوجوب مطلقاً من الأمور الإعتبارية يكون وجودها الإعتباري بيد المعتبر, كما أنَّ الفاعلية الحقيقية لا تتصور في الوجوب الغيري, فإنَّ فاعل المقدمة إنَّما هو المكلف نفسه بما يترتب عليها من الفوائد والآثار التي هي العلة الغائية في نفس المكلف, وقد عرفت أنَّها كما تترتب على المطلوب النفسي تترتب كذلك على الأمر الغيري.

والحاصل: إنَّ عمدة الإشكال في المقام هو الإعتقاد بخلوّ الأمر الغيري من الأثر والفائدة وأنَّهما مترتبان على المطلوب النفسي؛ وقد عرفت أنَّه غير تام, وحينئذٍ يصحُّ قصد الأمر

ص: 216


1- . نهاية الدراية؛ ج2 ص130.

الغيري كما يصحُّ الأمر النفسي, فإنْ كان قصده عنواناً لقصد الأمر النفسي يسقط الأمر النفسي وإلا فيحتاج في سقوطه في العبادات قصد الأمر.

الجهة الرابعة(1): في عبادية الطهارات الثلاث؛ فإنَّه لا اشكال في مقدميتها, وقد عرفت في الجهة السابقة عدم قربية الأمر الغيري عندهم, وهي في حال كونها كذلك لا تتَّصف بصفات الواجبات الغيرية, ولأجل ذلك وقع الإشكال في عباديتها, فقد ذكر الأصوليون عدَّة إشكالات على عبادية الطهارات الثلاث, وأهمها:

الإشكال الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أنَّ موافقة الأمر الغيري لا تستلزم القربية والمفروض حصول التقرب بالإتيان بالطهارات الثلاث لأجل الصلاة؛ ذلك كما عرفت سابقاً من أنَّ قربية كلّ واجب تتوقف على تعلق أمر قربي به والأمر الغيري لا يمكن أنْ يكون قريباً.

والجواب: إنَّ قربية واجب من الواجبات تتوقف على إمكان أخذ قصد القربة قيداً فيه, ويمكن أنْ يؤتى به كذلك سواءً كان من ناحية قصد نفس الأمر المتعلق به أو أمراً آخراً كقصد التوصل في المقام.

الثاني: إنَّ موافقة الأمر الغيري لا تستوجب ثواباً بحسب الفرض مع أنَّه يترتب الثواب على الإتيان بالطهارات الثلاث.

والجواب: ما عرفت سابقاً من إمكان تعلق الثواب على الواجبات الغيرية؛ فراجع, وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الثالث: إنَّ الأوامر الغيرية هي توصلية؛ تسقط بمجرد الإتيان بمتعلقها, مع أنَّ الطهارات الثلاث ليس كذلك, فإنَّه لا بُدَّ من الإتيان بها بنحو العبادة وقصد إمتثال الأمر الغيري.

ص: 217


1- . من جهات البحث في الواجب النفسي والواجب الغيري.

وفيه: إنَّ الأوامر الغيرية إذا كانت متوقفة على العبادية فلا بُدَّ من قصد التقرب بها ليتحقق الغرض الغيري المقدمي, وما ذكر في الإشكال مختَّص بذلك الواجبالغيري الذي ليس الغرض منه نفسه, بل التوصل به إلى ذي المقدمة, والطهارات الثلاث ليست كذلك.

وقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره في الجواب من هذه الإشكالات أيضاً بأنَّ الطهارات الثلاث مستحبة في أنفسها وهي بما هي كذلك تكون مقدمة للصلاة فيكون الأمر الغيري متعلق بها بما أنَّها عبادة في نفسها, وبذلك تندفع الوجوه الثلاثة من الإشكالات المزبورة كما هو واضح, ففي الأمر الغيري لم يحصل التقرب به من جهة موافقته ليُقال أنَّه لا يحصل التقرب به, بل من جهة كون الفعل في نفسه مأموراً به نفسياً وكونه عبادة فيكون التقرب قد حصل من جهة موافقة الأمر الندبي. كما أنَّ إستحقاق الثواب كان من جهة هذا الأمر لا لأجل موافقة الأمر الغيري.

الرابع: إستلزامه الدور, وقد صيغ بعبارات مختلفة وخلاصتها: إنَّ الأمر الغيري يتوقف على عبادية الوضوء وأخويه, فإذا كانت عباديتها متوقفة على الأمر الغيري فإنَّه يستلزم الدور. وحاول المحقق الخراساني قدس سره دفعه على أساس الإستحباب النفسي للطهارات الثلاث.

وأشكل عليه بوجوه:

1- إنَّ الأمر الإستحبابي يندكُّ وينعدم بعروض الوجوب لامتناع إجتماع المثلين.

وفيه: ما عرفت مكرراً من أنَّ الأحكام الشرعية أمور إعتبارية تقبل الإعتبار فيما إذا كان هناك سبب معقول له, مع أنَّه يكفي في القربية بقاء الإستحباب النفسي ذاتاً وإنْ إرتفع حدَّاً ومرتبة. فيكون الإجتماع ملاكياً لا فعلياً مع أنَّه إذا كان الإجتماع فعلياً يمكن رفعه بالإختلاف في الحيثية وفرضها حيثية تقيدية لا تعليلية.

ص: 218

2- إنَّ عبادية الطهارات الثلاث إذا كانت ناشئة من تعلق الأمر النفسي بها لما صحَّ الإتيان بها بقصد أمرها الغيري من دون إلتفات إلى الأمر النفسي الندبي, مع إنَّ الضرورة الفقهية جارية على صحَّتها وإنْ أُتي بها بقصد الأمر الغيري من دون إلتفات إلى الأمر الندبي, فلا تختص بما إذا أتى بها بقصد الأمر النفسي, وهذا يكشف عن أنَّ الطهارات الثلاث لم تكن متعلقة للأمر النفسي مع كونها مقدمة, وإلا فلا بُدَّ من قصد الأمر النفسي في صحَّتها.

ويمكن الجواب عنه بما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أنَّ ذلك صحيح على نحو تعدد الداعي أو على الداعي؛ فإنَّ من يأتي بالوضوء مثلاً بداعي التوصل قاصد الإتيان بمتعلق الأمر الغيري الذي هو الفعلالعبادي من ناحية الأمر الندبي, فداعوية التوصل تبعث على داعوية الإستحباب النفسي.

وأمّا الإشكال عليه بأنَّ هذا صحيح ومعقول مع الإلتفات إلى الداعي الطولي والإنتهاء إليه لا ما إذا كان المكلف غافلاً لم يكن عالماً به؛ فهو مردود بأنَّ ثبوت الدواعي المتعددة في النفس سهل المؤونة, وجهل المكلف بالإستحباب النفسي لا يضرُّ في صحَّة عمله ووقوعه بعد ثبوت الملاك واقعاً والإستحباب الواقعي وقصده للأمر الغيري الذي إجتزى به الشارع عنه.

3- إنَّه قد يرتفع الإستحباب النفسي فيما إذا زاحمه إستحباب آخر أهم منه كما إذا كان في إستعمال الماء ضررٌ على المؤمن وقد يستلزم وجوب الترك لولا المقدمة وفي ذلك لا تبقى القربية فيما إذا ارتفع الأمر الندبي النفسي.

وفيه: إنَّ ذلك ينشأ من المزاحمة ولكن بعد أنْ أصبح المتعلق محبوباً لدى المولى بتعلق الأمر الندبي النفسي به وثبوته واقعاً في صحة التقرب بالأمر الغيري المشار إليه إجمالاً, ولعله

ص: 219

هذا هو مراد الشيخ الأنصاري قدس سره (1)؛ حيث ذهب إلى أنَّ الوضوء والغسل في نفسه متعنون بعنوان واقعي راجح في ذاته وهو بهذا العنوان يكون رافعاً للحدث إلا أنَّ العنوان من العناوين القصدية التي لا تتحقق إلا بالقصد اليها, نظير عنوان التعظيم؛ فعبادية الوضوء ليست من ناحية الأمر الغيري حتى يستلزم الدور بل هو عبادة مع قطع النظر عن الأمر الغيري. نعم؛ إنَّ ذلك العنوان القصدي لمّا كان مجهولاً لدينا فلا طريق إلى قصده إلا بقصد إمتثال الأمر الغيري به, فإنَّه تعلق به ذلك العنوان المتعنون به فيكون مقصوداً إجمالاً, ومنه يظهر إستحقاق الثواب؛ فإنَّه لأجل رجحانه الذاتي ولكونه في نفسه عبادة لا لأجل الأمر الغيري عندهم, والظاهر أنَّ الجميع يريدون دفع الإشكال الوارد على الطهارات الثلاث من حيث عبادتها واستحقاق الثواب عليها؛ إمّا بإثبات رجحانها الذاتي أو باثبات الأمر النفسي المتعلق بها, ولا يخفى أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يرجع إلى الآخر, فإنَّ الرجحان الذاتي لا يمكن كشفه إلا بدليل خاص؛ وأمّا بالنسبة إلى الإستحباب أو الإجماع فلا خلاف مذكور فيهما, والنزاعُ يكون لفظياً, وما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من الإشكال على ما أفاده الشيخ قدس سره لا وجه له أبداً, وقد قيل أنَّه من مسامحاته التي يجلُّ عنها مثله.

ونحن في غنىً عن هذا البحث بعدما عرفت فن الجهات السابقة من إمكان قصد الأمر الغيري كما يصحُّ قصد الأمر النفسي, وعرفت أيضاً ثبوت الثواب على الأوامر الغيرية, فلا محالة في إمكان قصد الأمر الغيري للطهارات الثلاث إذا كان عنواناً لقصد الأمر بالصلاة؛ هذا إذا لم يكن عبادة, وإلا فالأمر أظهر, إلا أنَّالكلام في ثبوت عبادية الطهارات الثلاث التي لا إشكال فيها إنَّما لأجل رجحانها الذاتي أو ثبوت الأمر الإستحبابي, وكلاهما صحيح لا إشكال فيه.

ص: 220


1- . كتاب الطهارة؛ ج2 ص55.

تتمة وفيها بحوث

عرفت أنَّ الطهارات الثلاث تختلف عن سائر المقدمات والأوامر الغيرية في كونها أموراً عبادية, ويصحُّ قصد أمرها الغيري كما يصحُّ قصدها وإثباتها بما أنَّها معنونة بعنوان قصدي راجح بذاته أو لاجل تعلق الأمر الإستحبابي بها فيقصد الإستحباب أيضاً في إثباتها.

وللقوم تفصيل في كيفية قصد الطهارات الثلاث والمسألة محررة في الفقه, ولكن نذكر ما يتعلق بها على سبيل الإجمال فيما سيأتي والتفصيل موكول إلى محله.

البحث الأول: في إثبات عبادية الطهارات الثلاث

والغرض من ذلك هو صحَّة التقرب بها والثواب عليها, ويجوز قصد الأمر الإستحبابي في مورد تعلق الأمر الغيري بالوضوء وأخويه.

وقد ذكر الأعلام في توجيه ذلك وجوهاً:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره , وهو تعلق الأمر الندبي بها فيجوز قصد الإستحباب ويترتب عليه الثواب والتقرب بها وعدم تعين قصد الأمر الغيري, بل قد يدّعي عدم صحته في مورد الوضوء ونحوه.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الأنصاري قدس سره ؛ وهو الإلتزام بأنَّ الوضوء معنون بعنوان قصدي راجح في ذاته, ويكون قصد الأمر الغيري طريقاً إليه إجمالاً, لأنَّ الأمر الغيري يدعو إلى ما تعلق به, فيصحُّ قصد الأمر الغيري لأجل ذلك, وقد ذكرنا أنَّ هذا الوجه وسابقه يدفعان جميع الإعتراضات التي ذكروها في عبادية الطهارات الثلاث, فإنَّ المقربية والثواب إنَّما تكون بلحاظ كون العمل راجحاً بنفسه لتعنونه بالعنوان الراجح, والأمر الغيري إنَّما هو توصلي محض, وقصده إنَّما يكون لأجل طريقيته إلى قصد العنوان الراجح, ويندفع بذلك محذور الدور لأنَّ العبادية لم تنشأ من الأمر الغيري بل جاءت من الرجحان الذاتي, فلم تتوقف عباديتها على الأمر الغيري.

ص: 221

وأُشكل على هذا الوجه:

1- إنَّه لا ملزم له, لأنَّه يمكن الإلتزام بالإستحباب النفسي ودفع الإعتراضات به, وصحة إثباتها بقصد الأمر الندبي فلا نحتاج إلى فرض عنوان مجهول قصدي, وليس ذلك إلا لتبعيد المسافة.

ويمكن الجواب عنه بما ذكرناه سابقاً من تلازم الوجهين, فإنَّ الأمر الندبي كاشف عن ملاك المحبوبية والرجحان الذاتي وهو منكشف به.

2- إنَّه بناءً عليه لا بُدَّ من قصد الأمر الغيري, لأنَّه لا يمكن قصد العنوان المجهول إلا بواسطته فيكون داعياً إلى العمل.وأجيب عنه بأنَّ قصد العنوان المجهول بتوسط الأمر الغيري لا ينحصر بذلك باعتبار كون الأمر الغيري داعياً إلى العمل, بل يتحقق أيضاً في اخذ الأمر الغيري بنحو التوصيف فيقصد المكلف بإتيان الوضوء المأمور به لا بداعي الأمر, فإنَّ الوصف إشارة إلى ذلك العنوان أيضاً, وقد تفطن الشيخ الأنصاري قدس سره إلى هذا الإيراد وذكره في عبارته؛ فراجع.

الوجه الثالث: إنَّ ذي المقدمة في العبادات لا يتحقق إلا بإتيانه على نحو عبادي كذلك لا يتحقق إلا بإتيانه مع المقدمة العبادية, فعبادية الطهارات الثلاث إنَّما تكون لأجل توقف حصول الغرض من غاياتها عليها, فيصحُّ إتيانها بقصد الأمر الغيري ولا نحتاج إلى أمر آخر لكفايته في تحصيل الغرض.

وهذا الوجه يثبت عبادية الطهارات الثلاث فقط ولا يدفع الإعتراضات التي ذكرناها سابقاً, إلا أنَّه يندفع به إعتراض الدور, وقد ذكره الشيخ الأنصاري لأجل ذلك, وقد نقله المحقق الخراساني وغيره على خلاف ما يريد الشيخ (قدَّسَ الله أسرارهم).

ص: 222

الوجه الرابع: الإلتزام بوجودين؛ أحدهما تعلق بذات العمل, والآخر تعلق به بقصد الأمر, وبذلك تتحقق عبادية الطهارات الثلاث, وبدونه لا يمكن إثباتها لعدم كون الطهارات عبادات بنفسها, وعدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر الأول.

والحقُّ أنَّه لا يمكن الإلتزام به كما يظهر من البحوث السابقة, كما أورد عليه القوم بايرادات مذكورة في المفصلات.

الوجه الخامس: إنَّ عبادية الطهارات الثلاث إنَّما تحققت باعتبار تعلق الأمر النفسي الضمني بالشرائط كما تعلق بالأجزاء, فيؤتى بها بداعي أمرها النفسي الضمني كما يؤتى بالأجزاء, كالركوع, وهذا الوجه مبنيٌّ على إلحاق الشرائط بالأجزاء وهو محلُّ بحث, وعلى فرضه فإنَّ الشرط في المقام هي الطهارة لا أفعال الوضوء التي هي مسببة عنه, وليست الطهارة متعلقة للأمر الضمني فالطهارة ليست كسائر الشروط كما سيأتي تحقيقه.

الوجه السادس: إتيان الطهارات الثلاث بقصد التوصل بها إلى الواجب النفسي التي هي مقدمة له وهو محقق لعباديتها, فإنَّه يكفي في تحقق العبادية الإتيان بالفعل مضافاً إلى المولى, وهو كما يتحقق بالأمر الندبي يتحقق بقصد التوصل أيضاً وإنْ لم نقل بوجوب المقدمة غيرياً.

وهذا الوجه وإنْ كان صحيحاً ثبوتاً إلا أنَّ إتيان الفعل بقصد التوصل تارةً يكون بداعي القربة والمثوبة, وأخرى بغير ذلك الداعي بل بقصد دنيوي, والفرق بينهما واضح؛ فما يوجب سقوط الأمر هو الأول دون الثاني, فلا بُدَّ من إثبات كون إتيان المقدمة بداعي التوصل إلى الواجب النفسي حتى يوجب القرب والثواب, وهويرجع إمّا إلى أنَّه مشروع في إطاعة الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة, أو لأنَّ إتيان المقدمة يكشف عن تحقق صفة حسنة في العبد, أو الثواب على ذات العمل لقرينية في نفسه, والأول والثاني لا يمكن

ص: 223

الإلتزام بهما, والثالث يحتاج إلى حكم العقلاء بترتب الثواب على نفس العمل, ولا يثبت المطلوب إلا بالرجوع إلى أحد الوجوه المتقدمة.

والحاصل: إنَّ عبادية الطهارات الثلاث مِمّا لا إشكال فيها وإنْ إختلف الأصحاب في وجه إثباتها, ويمكن إرجاع بعضها إلى بعض؛ فلا نزاع في البين ولا وجه للنقض والإبرام.

ولكن إثبات الإستحباب النفسي للطهارات الثلاث بالوجه الأخير إنَّما يجدي بعد دخول الوقت للتلازم بين وجوب الواجب واستحباب الطهارات, وأمّا تعلق الأمر النفسي بها قبل دخول الوقت فلا يثبت هذا الوجه, لأنَّ تعلق الأمر بالواجب النفسي لا يتكفل إثباته لأنَّ غاية ما يتكفله هو توقف عباديتها على الأمر النفسي, بمعنى؛ إنَّه عند وجوب المقدمة والأمر بها لا بُدَّ أنْ يؤتى بها على نحو العبادية المتوقفة على الإستحباب, ولأجل ذلك وقع البحث عند الأعلام في إثبات إستحباب الطهارات في كلِّ آنٍ من الدليل الخارجي, وهو إمّا الإخبار أو الرجحان الذاتي أو غير ذلك. والثمرة تظهر في أنَّه لو ثبت إستحبابها النفسي كان الإتيان بها قبل الوقت بداعي القربة صحيحاً, بخلاف ما إذا ثبت إستحبابها بعد دخول الوقت بالملازمة المذكورة؛ وسيأتي البحث عنه.

البحث الثاني: في الشكِّ في إعتبار شيء في الطهارات الثلاث

إنَّه سواءً كان المعتبر فيها جزءً أو شرطاً وهل يكون مجرى للبراءة أو الإشتغال, وهو يتفرع عن المسألة المعروفة من كون الطهارة أمراً مسبباً عن الأفعال أو أنَّها عنوان لها؛ والآراء فيه ثلاثة:

الرأي الأول: وهو المعروف بينهم كون الشك مجرى الإشتغال لا البراءة, واستدلَّ على ذلك بأنَّ الأمر قد تعلق بالطهارة وهي امر بسيط والأفعال محصلات لها ونسبتها إلى الطهارة نسبة السبب إلى المسبب نظير العقد والملكية الحاصلة به, فيكون الشكُّ في إعتبار جزء فيها من الشكِّ في المحصل وتحقق الإمتثال لا في التكليف, فالمرجع قاعدة الإشتغال.

ص: 224

الرأي الثاني: كونه من مجاري البراءة, لأنَّ نسبة الطهارة إلى الأفعال نسبة العنوان إلى المعنون نظير القيام والتعظيم الحاصل به, لأنَّ الطهارة ليست أمراً مغايراً لهذه الأفعال بل هي عنوان لها, فوجودها عين وجود الطهارة وكذا بالعكس, فيكون الشكُّ في جزء أو شرط في التكليف الزائد لأنَّ الأمر متعلق بهذه الأفعال بعنوان كونها طهارة, وقد ذهب إلى ذلك جملة من المحققين منهم المحقق الهمداني والمحقق الإصفهاني وكذلك السيد الوالد وغيرهم (قدَّسَ الله أسرارهم).وقد أورد عليه بأنَّه لا يعقل أنْ تكون نسبة الطهارة إلى الأفعال من نسبة العنوان إلى المعنون, لأنَّ الأمور التي تدخل في هذه النسبة لا بُدَّ أنْ يكون العنوان مجعولاً بإزاء المعنون فيلزم أنْ يفرض المعنون موجوداً كي تعنون بالعنوان إعتباراً, والوضوء وأخويه ليسا كذلك, إذ ليس له وجود إستمراري كي يعتبر كونه طهارة مستمرة بل وجوده وقتي منقطع, مع أنَّ الطهارة أمر إستمراري.

ويمكن الجواب عنه بأنَّ صرف وجود المعنون في وقت معين يكفي في إنطباق العنوان عليه فتدخل الطهارة في هذه النسبة, وأمّا إستمراريتها فهي إنَّما تثبت بالدليل الخاص كما يستفاد ذلك من أدلة النواقض, فما لم يحصل ناقض تبقى الطهارة مستمرة فيدخل الشكُّ في جزء منها في الشكِّ من التكليف؛ وهو من مجرى البراءة.

كما أنَّ الإشكالَ عليه بأنَّه على فرض إدخال الطهارة والأفعال في باب العنوان والمعنون لا يمكن إجراء البراءة أيضاً, لأنَّ الشكَّ لم يتعلق بنفس الأفعال بل بالعنوان البسيط الإعتباري المنطبق عليها, وتكون الأفعال محققة لذلك العنوان البسيط المعلوم فيكون الشكُّ حينئذٍ من الشكِّ في المحصل, والمرجع قاعدة الإشتغال؛ مردودٌ بأنَّه فيه مسامحة واضحة, فإنَّ الشكَّ في الطهارة إنَّما يكون منشؤه الشكّ في إعتبار جزء أو فعل خاص في المعنون, فيكون الشكّ حينئذٍ في أصل التكليف؛ والمرجع هو البراءة كما تقدم, فالحقُّ ما ذهب إليه هؤلاء المحققين.

ص: 225

الرأي الثالث: إنَّ الأمر لم يتعلق بالطهارة كي يقع البحث السابق, بل هو متعلق بالأفعال من الغسل والمسح, ومع الشكِّ في إعتبار جزء أو شرط زائد يكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر والمقرر فيه الرجوع إلى البراءة في التكليف الزائد الذي هو الأكثر, ولكن عمدة الإشكال فيه أنَّه لم يتعلق الأمر النفسي الوجوبي بالأفعال إلا بالغسل فقط, وأمّا الأمر المتعلق بالأفعال في غيره فهو الأمر النفسي الندبي لا الوجوبي, والرجوع إلى البراءة في الأوامر الندبية موضع خلاف, إلا أنْ يُراد منه أنَّ الأفعال بنفسها تكون شرطاً في الواجب النفسي فيكون الشك في الشرطية الزائدة فيكون من مجاري البراءة, ولكن إثبات ذلك يحتاج إلى أنْ تكون الأفعال بنفسها شرطاً في الواجب النفسي لا الطهارة وهو مشكل وإنْ كان ظاهر الآية الشريفة يدلُّ على ذلك؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(1), ولكن لا بُدَّ من رفع اليد عنه لأمور كثيرة مذكورة في الفقه وأهمها تسالم العلماء على شرطية الطهارة في الصلاة كما ورد في عباراتهم.

وبعد الفراغ من تعلُّق الأمر الإستحبابي بالطهارات, فالإتيان بها قبل الوقت بداعي الإستحباب لا إشكال فيه, وإنَّما الكلام بعد دخول الوقت وتعلق الأمر الغيري بها.

فقد ذهب المحقق النائيني قدس سره (2) إلى إندكاك الندب في الوجوب الضمني بها بناءً على ما ذهب من أنَّ الشرائط كالأجزاء يتعلق بها الأمر النفسي الضمني, فالمنعدم حدّ الإستحباب دون أصل الطلب فيمكن الإتيان بالعمل بقصد المحبوبية بواقعها دون حدِّها, وهذا الإندكاك يحصل بين الإستحباب والوجوب الضمني, أمّا الوجوب الغيري فهو باقٍ على

ص: 226


1- . سورة المائدة؛ الآية 6.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص180.

حاله. ولكن الحقّ أنَّ ذلك تطويل بلا طائل تحته, فإنَّ عبادية الطهارات الثلاث لا تتحقق إلا بقصد الأمر الإستحبابي مطلقاً قبل الوقت أو بعده لترتب الغاية عليها أم لا, وتفصيل الكلام موكول إلى محله في الفقه. ثم إنَّ الأصوليين ذكروا في المقام بحث صياغة الوجوب الغيري إطلاقاً وتقييداً, فهل يتعلق بمطلق المقدمة أو يختَّص بالمقدمة التي يقصد بها التوصل إلى ذيها أو أنَّه يتعلق بخصوص المقدمة التي يترتب عليها الوجوب أي المقدمة الموصلة أو يتعلق بمطلق المقدمة ولو لم يترتب عليها المقدمة, ولكن السيد الوالد قدس سره ذكر ذلك في بحث المقدمة في الملازمات العقلية ونحن نتبعه في ذلك, وسيأتي الكلام إنْ شاء الله تعالى.

القسم الرابع: الواجب التعييني والواجب التخييري

القسم الرابع(1): الواجب التعييني والواجب التخييري

وفيه بحوث:

البحث الأول: في وقوعهما

لا إشكال في وقوعهما في العرف والشرع, وإنَّما الكلام في تصوير الواجب التخييري بعد إتّفاق الجميع على أنَّ المراد من الواجب التعييني هو الذي لا عِدل له في عرضه, والتخيري خلاف ذلك.

والإشكال إنَّما نشأ في الواجب التخييري من ناحية منافاة التخيير لحقيقة الوجوب, فإنْ وجب شيء يستدعي عدم جواز ترك متعلقه مع أنَّ المفروض في جواز الترك.

وقد اختلف الأصوليون في دفع هذا الإشكال؛ نعرض جملة من آراءهم:

الرأي الأول: ما اختاره المحقق الخراساني قدس سره (2)؛ وهو كون الوجوب التخييري سنخ وجوب مشوباً بجواز الترك, وذلك لأنَّ الغرض المترتب على الفردين إمّا أنْ يكون واحداً

ص: 227


1- . من أقسام الواجب.
2- . كفاية الأصول؛ ص140.

فلا بُدَّ أنْ يكشف عن وجود جامع حقيقي بينهما يكون هو المؤثر في ذلك الغرض, لأنَّ الواحد لا يصدر إلا عن واحد فيكون الجامع هو متعلق الأمر لأنَّه هو متعلق الغرض, فيكون التخيير عقلياً لا شرعياً.

وإمّا أنْ يكون الغرض متعدداً, فلا بُدَّ أنْ يفرض كون حصول أحدهما يمنع عن حصول الآخر بحيث لا يمكن إجتماع كلٍّ منهما وإلا كان واجباً تعيينياً فيتعلقالوجوب بكلٍّ منهما على نحوٍ يجوز تركه إلى بدله وعِدله لا مطلقاً, فيكون الوجوب التخييري بناءً على هذا الرأي وسطاً بين الإستحباب والوجوب التعييني, حيث أنَّ الإرادة فيه أقوى من إرادة الإستحباب, حيث لا يجوز ترك متعلقها مطلقاً وأضعف من إرادة الوجوب حيث يجوز ترك متعلقها إلى بدل, بخلاف الوجوب حيث لا يجوز ترك متعلقه مطلقاً فهو سنخ وجوب يعرف بلوازمه وآثاره كوحدة العقاب على ترك الفعلين وعدم جواز ترك كلّ منهما إلا إلى بدل ونحو ذلك.

واعترض عليه:

أولاً: إنَّه يخالف ما عليه العرف في الواجبات التخييرية, فلا يرون تعدد الوجوب بتعدد أفراد التخيير.

ثانياً: إنَّه لا يرفع الإشكال, لأنَّه بعد فرض تعدد الوجوب بتعدد متعلقه, فما هو الوجه في سقوط أحدهما عند إتيان الآخر إلا أنْ يقول بتقييد وجوب أحدهما بترك الآخر, وهو غير مقبول على ما ستعرف إنْ شاء الله تعالى.

ثالثاً: إنَّ التمسك بقاعدة الواحد لا يصدر إلا عن واحد في صورة الفرض المترتب على الأمرين لإرجاع التكليف إلى الجامع حتى يكون هو المؤثر في الفرض موهون أيضاً, لأنَّ القاعدة إنَّما تكون في الواحد الشخصي دون النوعي, وعلى فرضه في الواحد البسيط

ص: 228

الحقيقي لا الواحد الإعتباري, والمقام من الأخيرين دون الأولين, ولكن يمكن إرجاع هذا الرأي إلى بعض الآراء الآتية كما ستعرف.

الرأي الثاني: إنَّ الواجب التخييري عبارة عن إيجاد الفرد الذي يختاره المكلف من بين البدائل خارجاً يكون هو الواجب تعييناً دون غيره, وبذلك يرجع الواجب التخييري إلى الواجب التعييني.

وأُورد عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّه على خلاف قاعدة الإشتراك التي تدلُّ على وحدة الأحكام بالنسبة إلى المكلفين واشتراك المسلمين جميعاً فيها, إذ يستلزم أنْ يكون الواجب في حقِّ من يختار العتق مثلاً غير ما هو الواجب في حقِّ من اختار الإطعام وغير من يختار الصيام مثلاً.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّ قاعدة الإشتراك إنَّما تثبت إشتراك المسلمين في أصل الوجوب التخييري, وهو عنوان ما يختاره لأحد أفراد التخيير الذي يتعين عليه, وهذا يختلف باختلاف المختار, ولا يضرُّ ذلك بأصل القاعدة مضافاً إلى ما سيأتي.

ثانياً: إنَّه غير معقول ثبوتاً, لأنَّه يرجع إلى إيجاب الفعل الذي يختاره المكلف والأمر به كذلك يكون من قبيل تحصيل الحاصل فيكون محالاً.وفيه: إنَّ عنوان ما يختاره المكلف إمّا أنْ يكون بنحو الموضوعية؛ بأنْ يكون هو مركز التكليف ومصبّ الإيجاب وعليه يكون التكليف متعلقاً بعنوان ما يختاره المكلف, وهو مشترك بين الجميع ويكون كلٌّ من البدائل مصداقاً لما هو الواجب لا أنَّه الواجب, وهذا المعنى يتطلب الوجه الأول أيضاً من الإعتراض لاشتراك الجميع في هذا التكليف, كما أنَّه لا يكون من تحصيل الحاصل.

ص: 229

وإمّا أنْ يكون عنوان ما يختاره المكلف بنحو الطريقية وكونه مشيراً إلى واقع ما يختاره, فيكون الفعل بعنوانه الواقعي هو مركز التكليف, وعليه فلا يكون من تحصيل الحاصل, إذ ليس الواجب إلا واقع الفعل الذي إختاره المكلف ولكن المولى إستغنى عن جعل أحكام عديدة بعدد المكلفين بهذا العنوان المشير, كما يمكن ردُّه أيضاً إذا كان المتعلق ما يختاره المكلف على نحو القضية التعليقية لا الفعليّة فلا يكون من تحصيل الحاصل.

ثالثاً: إنَّه يلزم على فرض عصيان المكلف وعدم إتيانه بالأفراد إمّا إرتفاع الوجوب فلا عصيان حينئذٍ؛ وهو غير معقول, إذ لا معنى لوجوبٍ ليس فيه عصيان عند الترك.

وإمّا بقاء الوجوب على حاله فيلزم بقائه بلا متعلق؛ وهو محال.

وفيه: إنَّه يمكن إرجاع قيد ما يختاره المكلف إلى الواجب دون الوجوب فيتحقق العصيان عند الترك, وبذلك تندفع الإعتراضات الثلاثة المذكورة.

رابعاً: إنَّ هذا الوجه خلاف ظاهر دليل الواجب التخييري, فإنَّه يدلُّ على نسبة التكليف إلى البدائل على حدٍّ سواء لا أنْ يكون الوجوب لخصوص ما يختاره المكلف فقط.

وهذا الإعتراض لا بأس به إلا إذا خالف إرتكاز العقلاء والموالي العرفية, فإنَّه حينئذٍ يجب حمل الدليل على هذا المرتكز العقلائي, فإذا ثبت مثله ينقلب الإعتراض إلى الثبوت دون الإثبات كما هو واضح.

والحَقُّ أنْ يُقال في الردِّ على هذا الرأي أنَّ التكليف إنْ كان متوجهاً إلى واقع المكلف بالعنوان الأولي الواقعي فهو خلاف الوجدان, لأنَّ التكليف في الواجب التخييري بالنسبة إلى البدائل واحد من حيث المكلف والمكلف به وإنْ كان التكليف متوجهاً على عنوان ما نختاره بنحو الموضوعية ويكون المختار مصداقاً لمتعلق الوجوب, فهذا العنوان يكون من الجامع بين البدائل فيكون التخيير عقلياً لا شرعياً, وسيأتي الكلام في الجامع فلا نحتاج إلى هذا الراي لأنَّه من التطويل بلا طائل.

ص: 230

الرأي الثالث: إنَّ الوجوب التخييري في الحقيقة وجوب تعييني لكلِّ واحدٍ من الطرفين, لكنه مشروط بعدم إتيان الآخر وذلك باعتبار القضاء في الملاك التعييني في كلٍّ منهما وهو يقتضي الأمر بكلٍّ منهما مشروطاً بعدم الآخر؛ ذكره المحقق الخراساني قدس سره في ضمن ما يمكن تصويره في الوجوب التخييري, ولابُدَّ أنْ يقال بأنَّ هذا مبنيٌّ على تعدد الغرض وعدم إمكان الجمع بينهما, وإلا مع إمكان الجمع يتعين الأمر بكلٍّ منهما, كما أنَّه مع وحدة الغرض لا معنى لتعين أحدهما عند ترك الآخر, بل الأمر مطلقاً لا بُدَّ أنْ يكون بنحو التخيير.

وأورد عليه جمع من المحققين بوجوه:

1- إنَّ هذا خلاف ظاهر الأمر التخييري في الواجبات التخييرية فإنَّها في عالم الإثبات خطاب واحد وأمر واحد لا أمرين مشروطين.

ولكن هذا الإيراد إنَّما يجري على من أراد إثبات ذلك بالدليل, وأمّا إذا كان من مجرد الفرض والتصوير فلا يرد عليه كما هو مفاد كلام المحقق الخراساني قدس سره .

وكيف كان؛ فالأمر التخييري تارةً يستفاد من خطاب واحد.

وأخرى يستفاد من خطابين؛ كأن يأمر المولى في خطاب بالصوم ويأمر في خطاب آخر بالعتق فيكون دليل وجوب كلٍّ من العملين منفصلاً عن الآخر؛ غاية الأمر أنَّه لا إطلاق لهما, كما إذا جاء المكلف بأحدهما؛ إمّا لكونه دليلاً لبِّياً, أو لأنَّه دليل لفظي ولكنه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة حتى يتم الإطلاق, وإمّا للعلم من الخارج بعدم وجوبهما معاً, فيستوجب في جميع ذلك أنْ نقول بأنَّ وجوب كلٍّ منهما مشروط بعدم الآخر, وذلك إمّا لجمع عرفي بين الدليلين, أو لتساقط إطلاق كلٍّ منهما في حال الإتيان بالآخر وإنْ بقي الإطلاق في حال ترك الآخر على حاله.

ص: 231

وعلى ما ذكر لا يتمُّ الإيراد الذي أورد عليه من الناحية الإثباتية بالطريقة التي ذكرها المستشكل.

2- ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره (1) من أنَّ الملاكين المتضادَّين؛ إنْ كان التضادُّ بين وجودهما متعاقباً, بأنْ يكون إستيفاء أحدهما سابقاً يمنع من إستيفاء الآخر لا ما إذا جاء بهما دفعة واحدة, فاللازم حينئذٍ إيجاب الجمع بينهما حفظاً لكِلا الملاكين التعيينيين, وإنْ كان التضادُّ بينهما متحققاً من مطلق وجودهما ولو على نحو التقارن لزم منه أنْ لا يقع إمتثال أصلاً لو جاء بهما معاً, وهو خلاف الضرورة في باب الواجبات التخييرية.

وفيه: إنَّه يمكن إفتراض الخطاب من الواجبات التخييرية بأحد نحوين يدفع بكلِّ واحدٍ منهما الإشكال, فإمّا أنْ نقول بأنَّ ملاك أحدهما موقوف على عدم تقدم الآخر عليه وعدم مقارنته له, أي كون مطلق وجود الآخر في عمود الزمان مانع عنه, وأمّا العِدل الآخر فيكون الوجود المتقدم للأول بالخصوص مانعاً عنه لا الوجود المقارن فيكون هذا الفرض تلفيقياً بين الحالتين المفترضتين في المؤاخذة,وعليه؛ فلو وجدا معاً كان الموجود أحد الملاكين لا محالة وهو ملاك ما افترض عدم مانعية وجود الآخر عنه في حال الإقتران وبذلك يحصل الإمتثال, ولا يرد عليه أنَّه تكليف بالجميع لعدم إنحفاظ أكثر من ملاك حتى لو جمع.

وإمّا أنْ نفترض أنَّ الوجود السابق لكلٍّ منهما يؤثر في المنع المطلق لملاك الآخر, وأمّا الوجود المقارن فلا يكون كذلك, بل يمنع عن نصف الملاك في الآخر فيكون مجموع النصفين الحاصل بمنزلة الملاك الكامل في أحدهما عند المولى لأجل إهتمامه به.

ص: 232


1- . نهاية الدراية (ط. الأولى)؛ ج1 ص254.

وبناءً على هذا؛ فلا يؤثر المكلف بالجمع ويكون الجميع إمتثالاً فيكون في هذه الحالة ثلاثة بدائل؛ كلٌّ منهما منفرداً عن الآخر ومجموعهما معاً. وعلى كِلا الإفتراضين يصحُّ هذا الإيراد, ولكن لا يخفى أنَّ ما فرض من الردِّ خلاف المتفاهم العرفي.

3- إنَّ لازم هذا الرأي صدور معصيتين من المكلف فيما لو ترك كِلا الفردين معاً, لأنَّ شرط كلٍّ من الوجوبين المشروطين متحقق فيعاقب بعقابين, وهو خلاف المفروض في الواجبات التخييرية من عدم حصول أكثر من معصية واحدة وعقاب واحد فيما إذا ترك البدلين.

وأورد عليه بأنَّه في موراد التضادّ الذاتي والملاكي بين الواجبين إمّا أنْ يكون عدم كلٍّ منهما شرطاً في إتّصاف الآخر بالملاك؛ فلا بُدَّ من تعدد العقاب والمعصية فيما إذا تركهما معاً.

وإمّا أنْ يكون عدم كلٍّ منهما شرطاً؛ إذ مخالفة الإنشاء بما هو إنشاء لا يستلزم تعدد العقاب, إذا لم ترجع المخالفة إلى مبادئ الحكم وملاكه ولذلك لا فرق بين أنْ يبرز المولى الملاك بنحو الإنشاء أو بنحو الإخبار, وهناك إشكالات أخرى يظهر فسادها عند التمعن فيها فلا حاجة لذكرها.

الرأي الرابع: ما أفاده المحقق الإصفهاني قدس سره من أنَّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوب كلٍّ من العدلين والبدلين لوجود الملاك فيهما غير أنَّ تحصيل ملاكهما معاً يعارض مصلحة التسهيل ومنَّته على المكلف, ولذلك رخَّص المولى في ترك أحدهما على سبيل البدل, وعليه؛ فلو تركهما معاً كان معاقباً بعقاب واحد لأنَّه لم يكن مرخصاً في ترك الآخر, وإنْ فعل أحدهما أو كلاهما كان ممتثلاً للواجب, ولا يخفى أنَّ هذا الرأي هو نفس الرأي السابق إلا أنَّ الفرق بينهما أنَّ السابق كان التضادُّ بين الملاكين في البدلين دون هذا الرأي.

ص: 233

وأورد عليه أيضاً بعدة مناقشات:

المناقشة الأولى: ان هذا الراي يخالف ظاهر دليل الوجوب التخييري من جهات:1- أنَّه يستلزم وجود وجوبين مستقلين لكلٍّ من العِدلين؛ وهو خلاف ظاهر الدليل.

وفيه: ما عرفت في الردِّ على نفس هذا الإشكال في الرأي السابق, وذكرنا أنَّه يمكن أنْ يكون هذا الرأي من مجرد الإفتراض والتصور للوجوب التخييري ثبوتاً, مع إنَّه يمكن إستفادته من تعدد الخطاب على النحو المتقدم, فيتمُّ إقامة الدليل عليه إثباتاً أيضاً, وعلى فرض عدم تمامية الدليل وفساد جميع الآراء في تصوير الوجوب التخييري يتعين هذا الرأي حينئذٍ, ولكنه فرض بعيد.

2- إنَّه موقوف على إستفادة وجود ملاكين تعيينين في كلٍّ من الواجبين, ولا طريق لإثبات ذلك غير الخطاب, وهو ظاهر وحدة الحكم لا تعدده.

وفيه: إنَّه يمكن رفعه بتعدد الخطاب كما فرضناه سابقاً, حيث إندفع به الإيراد الأول فإنَّ كِلاهما من باب واحد؛ وهو الإشكال الإثباتي.

3- إنَّه موقوف على وجود مصلحة التسهيل في حقِّ المكلفين واستفادته من الدليل مشكل, إذ لا ظهور له في ذلك ولا قرينة تدلُّ عليه.

وفيه: إنَّه يمكن إستفادته من تعدد الخطاب الذي يدلُّ على تعدد الوجوب, فلا محالة يدلُّ الدليل على وجود الترخص في ترك كلِّ واحدٍ منهما إلى البدل بعد دلالته على عدم لزوم الجمع بينهما.

4- إنَّ الوجوب كما هو المعلوم لا يسقط إلا بالإمتثال أو العصيان أو إرتفاع الموضوع, وفي المقام الذي تعدد فيه الوجوب لا بُدَّ أنْ يفرض أنَّ فعل كلٍّ منهما رافع لموضوع الآخر وإلا لم يكن وجه آخر لسقوطه فلا بُدَّ من الجمع بينهما, وهو خلاف ظاهر الدليل, والجواب نفس الجواب السابق.

ص: 234

المناقشة الثانية: إنَّه بناءً على هذا الرأي يستلزم تعدد العقاب لو ترك المكلف كِلا الفعلين, لأنَّ الترخيص كان في ترك كلٍّ منهما إلى الآخر, والترك الحاصل في الفعلين غيره, فكان تركاً جمعياً لا تركاً بدلياً فيكون العقاب على كلِّ واحدٍ من الواجبين, وهذا خلاف ما عليه في الواجبات التخييرية كما عرفت سابقاً, وقد أطال بعض الأعلام في الجواب عن هذه المناقشة ولا حاجة إلى ذكرها ومناقشتها, فإنَّ من يريد رفع الإشكال في الوجوب التخييري يذعن أنَّ العقاب واحد فيه إذا ترك الفعلين معاً, فلا بُدَّ من توجيه كلامه بما لايستلزم هذا الإشكال أيضاً, ففي المقام لا بُدَّ أنْ يفرض بأنَّ المصلحة التي إقتضت أنْ يترك المكلف أحد الفعلين على سبيل البدل هي التي اقتضت أنْ يكون العقاب واحداً على تركهما معاً, وذلك بأنْ يكون الترخيص المذكور مقيداً بوجوب كلٍّ منهما بما إذا ترك الآخر فيكون الوجوب واحداً, وهو الذي يراه المحقق الخراساني قدس سره فيما ذكرناه سابقاً, وسيأتي مزيد بيان أيضاً إنْ شاء الله تعالى.الرأي الخامس: الواجب التخييري يرجع إلى إيجاب الفرد المردد بين البدلين أو البدائل بخلاف الواجب التعييني الذي هو إيجاب فرد معين.

وأشكل عليه المحقق الإصفهاني قدس سره (1) بالإشكال المعروف, وهو إنْ أريد الفرد المردد بالحمل الأولي وإيجابه فهو ليس بمردد بل معين ويكون جامعاً بين الفردين وحينئذٍ يكون الفرض مترتباً على الفردين دون هذا الجامع, وإنْ أريد به الفرد المردد بالحمل الشايع أي المردد المصداقي فهو مستحيل؛ لعدم تحقق الفرد المردد لا في الذهن ولا في الجامع حتى تتعلق به الإرادة.

ص: 235


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص255.

وقد قيل في وجه الإستحالة وجوهاً:

الوجه الأول: إنَّه لا وجود للمردد فإنَّ الوجود مساوق للتشخيص والتعين فيستحيل وجود الفرد المردد مصداقاً, وقد ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره في مسألة بيع الصاع من الصبرة.

وقد أشكل عليه تارةً بأنَّه مبنيٌّ على فهم حقيقة الوجود وأنَّها تقبل التردد اولاً.

وأخرى؛ بأنَّ ذلك إنَّما يتمُّ في الصفات الحقيقية دون الأمور الإعتبارية.

وثالثةً؛ بأنَّ المردد المبهم إنْ كان من كلِّ جهة فهو حقٌّ, وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان بين طرفين أو اطراف محصورة فلا إشكال لتعينه في الجملة وهو يكفي لتعلق الإرادة به.

الوجه الثاني: إنَّه يستلزم من المفهوم المردد التناقض, إذ لو كان ثابتاً بنحوٍ يحمل عليه أحد العنوانين فقط معيناً لا أنْ يكون مردداً, وإنْ كان بنحوٍ يحمل عليه كلٌّ من العنوانين فمعناه أنَّه يصحُّ حمل كلٍّ من العنوانين عليه وسلبه عنه؛ وهذا تناقض مستحيل.

الوجه الثالث: إنَّ المفهوم المردد لا يتعلق به الحكم, لأنَّه البعث والتحريك المكلف إلى إتيان المأمور به عن إرادة واختيار, ومن الواضح أنَّ الإرادة لا تتعلق بالفرد على البدل, إذ لا وجود له, ولا واقع في أنْ يكون التكليف المتعلق بالفرد المردد قابلاً للتحريك فيكون ممتنعاً؛ كذا ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1).

ويمكن الجواب عنه بأنَّها مبنية على الدقائق الفلسفية وبحث الحكم وأمثاله من الإعتبارات التي هي خفيفة المؤونة فيصحُّ تعلق الإيجاب بالمفهوم المردد إذا كان بين طرفين أو اطراف محصورة لتعينه في الجملة، مع أنَّ المفهوم المردد يكون بالحمل الشايع معيناً, فيكون الفرد على البدل مفهوماً معيناً لكونه مرتبطاً بالواقع الخارجي, ولذا يصحُّ التعبير وتصوره والحكم عليه كمفهوم من المفاهيم.

ص: 236


1- . كفاية الأصول؛ ص241.

وعلى هذا يكون قابلاً لتعلق الصفات الحقيقية والإعتبارية به كغيره من المفاهيم المتعينة.

وما ذكره المحقق الخراساني قدس سره قد عرفت بطلانه في بحث الأوامر, مع أنَّه على القول بما ذهب إليه فإنَّ الأمر يقتضي الحركة نحو كلٍّ من الفعلين على سبيل البدل, فيأتي بأحدهما منبعثاً عن التكليف المزبور.

وهذا المقدار يكفي في صحَّة التكليف.

وهناك وجوه أخرى يمكن إرجاعها إلى أحد الوجوه المتقدمة.

الرأي السادس: إنَّ الواجب التخييري يرجع إلى إيجاب الجامع بين الأمرين أو الأمور وتعلق الإرادة به.

وقد اختلفوا في تصوير هذا الجامع على وجوه:

1- قيل إنَّه جامع حقيقي بناءً على قانون أنَّ الواحد لا يصدر إلا من واحد ولو كان الواحد نوعياً وتطبيقه على ملاك كلٍّ من العِدلين, فيكون المؤثر في كلٍّ منهما هذا الجامع الذاتي بينهما.

ولكن عرفت أنَّ هذا القانون على فرض إعتباره مختَّص بالبسيط الحقيقي لا الواحد الإعتباري؛ والمقام من الثاني دون الأول.

2- كون الجامع إنتزاعياً؛ إمّا عنوان أحدهما, أو المفهوم الفرد المردد, أو عنوان ما يختاره المكلف ونحو ذلك, وهذا النوع من الجامع يصدق حتى على ما لا يمكن إنتزاع الجامع الذاتي بين أطرافه, كما أنَّه يصدق على مورد النقيضين أيضاً.

وقد أشكل على هذا الرأي بأنَّه يرجع إلى التخيير العقلي دون الشرعي والكلام في التخيير الشرعي.

ص: 237

ويمكن الجواب عنه بأنَّ التخيير العقلي ما أخذ فيه الجامع القريب في ظاهر الخطاب دون ما إذا إنتزع الجامع الإعتباري من الأطراف, كما يدلُّ على مثل هذا الجامع قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ)(1) , وبعض الأخبار التي ذكر فيها الكفارة أولاً ثم بيان أفرادها.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الآراء يمكن التمسك به لدفع الإشكال في تصوير الواجب التخييري ولا محذور فيها ثبوتاً ولا إثباتاً, وما أورد عليها يمكن دفعه وإنْ كان الأوجه منها ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (2) من أنَّ الواجب التخييري هو كلُّ واحدٍ من الأطراف في ظرف عدم الآخر, ولا يلزم منه عدم الوجوب عند إتيان جميع الأطراف أو تعدد العقاب عند ترك جميعها, فإنَّ المرادإنطباق الوجوب على أول وجود طرف من الأطراف فلا وجوب لغيره عند الإجتماع, كما أنَّه لا وجه لتعدد العقاب عند ترك الجميع, فإنَّه لا تكليف إلا بالواحد في الواقع؛ فلا محذور.

البحث الثاني: في بيان الثمرة المترتبة على إختلاف صياغة الواجب التخييري

تبين مِمّا ذكرناه تعدد الآراء في تصوير الواجب التخييري وعدم إنحصارها في رأي؛ فإمّا أنْ يكون الوجوب التخييري بنحو الوجوبين التعينين المشروطين فيما إذا كان هناك ملاكين متضادين, أو أنْ يكون وجوب واحد يتعلق بالجامع الحقيقي أو الإنتزاعي بين الطرفين فيما إذا كان هناك ملاك واحد يحصل بكلٍّ منهما.

وقيل: إنَّ هناك أثر عملي يترتب على إختلاف صياغة الواجب التخييري عند الشكِّ في مورد بين أنْ يكون واجباً تخييرياً أو واجباً تعينياً كما لو شكَّ في أنَّ صوم شهرين في كفارة الإفطار عمداً تخييري أو تعيني؛ فإنَّه بناءً على كون الوجوب التخييري هو الوجوب

ص: 238


1- . سورة المائدة؛ الآية 89
2- . كفاية الأصول؛ ص140-141.

المشروط بعدم العِدل الآخر يكون الشكُّ في أصل التكليف كون الشبهة بدوية للشكِّ في وجوب الصوم إذا أعتق رقبة مثلاً, فيجري الأصل المؤمن عنه, بينما على القول بأنَّ الوجوب التخييري هو وجوب الجامع الذاتي الحقيقي بين الفعلين تكون الشبهة من موارد الدوران بين الأقل والأكثر لأنَّه يعلم بتعلق الوجوب بالجامع ويشكُّ في تعلقه زيادة عليه تعلقه بالصوم خاصة, وحينئذٍ يكون التمسك بالأصل المؤمن في نفيه متوقفاً على جريانه في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر التحليليين؛ أي المطلق والمقيد.

كما أنَّه بناءً على القول الآخر في تعلق الوجوب بالجامع, أي الجامع الإنتزاعي, وهو عنوان أحدهما ونحوه يدخل المقام في موارد الدوران بين التعيين والتخيير بعد تحقق علم إجمالي بوجوب عنوان الصوم أو عنوان أحدهما وهما متباينان مفهوماً, فإنَّ إجراء البراءة عن التعيين أي وجوب الصوم يكون مبنياً على القول بعدم معارضته مع البراءة عن الطرف الآخر للعلم الإجمالي وهو وجوب أحدهما باعتبار أنَّ مؤونته قطعية على كلِّ تقدير وإنَّما المؤونة والكلفة الزائدة في طرف وجوب الصوم فقط؛ وهذا ما سيأتي البحث عنه إنْ شاء الله تعالى.

البحث الثالث: في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر

إنَّ متعلق التخيير على قسمين؛ فإمّا هو بين المتباينين, أو بين الأقل والأكثر؛ ولا إشكال في الأول ثبوتاً وإثباتاً فهو واقع في الشرعيات والعرفيات ومسلّم عند الجميع, وإنَّما الإشكال في القسم الثاني؛ فقد أشكلوا عليه بوجهين:

الأول: إنَّ الأكثر إمّا لا مصلحة فيه أو تكون مصلحته عين مصلحة الأقل أو متباين معه؛ وفي الأولين لا وجه لإيجابه, والأخير من المتباينين لا من الأقل والأكثر, فلا وجه لتصوره فضلاً عن وقوعه.

ص: 239

الثاني: إنَّ مع إشتمال الأكثر على الأقل فإنَّه بامتثال الأقل ينطبق الوجوب عليه لا محالة, فلا يبقى مورد للتكليف بالأكثر.

وبعبارة أخرى: إنَّ الغرض إنْ كان يحصل بالأقل فلا مجال للإمتثال بالأكثر, وإنْ لم يحصل بالأقل فلا وجه لجعله طرف التخيير والإكتفاء به في مقام الإمتثال.

ويمكن الجواب عن كِلا الإشكالين:

أمّا الأول: فإنَّ الأكثر يشتمل على سنخ مصلحة الأقل زائدة عليها لازمه التحصيل مع عدم الإقتصار على الأقل, ويأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا الثاني: فقد دفعه المحقق الخراساني قدس سره بأنَّه يمكن أنْ يكون المحصل للغرض عند وجود الأكثر دون الأقل الذي في ضمنه, بمعنى أنَّ الأقل يكون محصلاً للغرض إذا وجد بحدِّه, ولا يكون محصلاً له إذا وجد في ضمن الأكثر بل المحصل له يكون هو الأكثر, وعليه يتحقق التخيير بين الأقل والأكثر لأنَّ كِلاهما محصل للغرض ولا مرجح يقتضي تعيين أحدهما دون الآخر.

وأشكل عليه بأنَّ ذلك يتمُّ فيما إذا لم يكن للأقل وجود مستقل لو وجد الأكثر, كالخط الطويل والخط القصير, فإنَّه لا وجود للخط القصير مستقلاً عند وجود الخط الطويل, وأمّا إذا كان له وجود مستقلٌّ نظير التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث, فلا يتمُّ ما ذكره؛ إذ الأقل موجود بحدِّه دائماً فيتحقق به الغرض فلا تصل النوبة إلى الأكثر.

وأجاب عنه بأنَّ الأقل قد لوحظ مستقلاً وبشرط عدم الإنضمام وعليه يترتب الغرض, وأمّا مع الإنضمام فإنَّ الغرض يترتب على الأكثر فيكون الأقل قد لوحظ بشرط لا, فلا فرق حينئذٍ بين ما إذا تخلَّل العدم بين الأقل والأكثر وعدمه, وبه يصحُّ التخيير بين الأقل والأكثر, ولا يخفى أنَّه بذلك يخرج عن دوران الأمر بين الأقل والأكثر ويدخل في المتباينين,

ص: 240

لأنَّ الأقل بشرط لا والأقل بشرط شيء متباينان بحمله على التخيير بين المتباينين, ولكن لا يضرُّ؛ فإنَّه تصحيح للتخيير بين الأقل والأكثر, وقد ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره كلام أستاذه المحقق الخراساني قدس سره وأطال الكلام فيه, وأدرج المسائل الفلسفية فيه كما هو دأبه, ونحن في غنىً عنه؛ فراجع.

يبقى الكلام في التخيير بين التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث, والمحتملات فيه هي:

الإحتمال الأول: كون التسبيحات حقيقة واحدة وإنَّما الإختلاف بالعرض فيصحُّ الإكتفاء بالتسبيحات مرَّة واحدة وانطباق الواجب على الأولى والزائد يتَّصف بالإستحباب, لأنَّ الواجب كان بعنوان صرف الوجود في الخارج وكان الزائدمستحباً فينطبق هذا العنوان -أي صرف الوجود- على الوجود الأول وعنوان الزائد على الثاني قهراً دون العكس. وبناءً على هذا لا تكون التسبيحات حقائق مختلفة وإنَّما الإختلاف من جهات اخرى.

الإحتمال الثاني: كون التسبيحات حقائق مختلفة وكانت إحدى الحقائق واجبة ولا معيّن لها إلا قصد الفاعل, وكذا حقيقة التسبيحة المستحبة فيتَّصف كلُّ واحدٍ منهما بالوجوب وإنْ كانت التسبيحة الأخيرة, لأنَّ الإتّصاف بالوجوب تابع لقصد التعيين, وعليه تتَّصف الثلاث كلُّها بالوجوب لأنَّها طرفي الواجب التخييري, ولكن لا يخفى أنَّه ليس تخييراً بين الأقل والأكثر حتى يُقال بعدم إمكانه بل يرجع إلى المتباينين, فإنَّ التسبيحة الواحدة بناءً على هذا حقيقة مباينة للتسبيحات الثلاث.

الإحتمال الثالث: إنَّ التخيير بين التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث يرجع إلى إختلاف متعلقها, فإنَّ الأقل بشرط لا والأكثر بشرط شيء فيتحقق الواجب لا محالة؛ إمّا بالأقل أو بالأكثر, وأمّا الأقل في ضمن ما كان الأكثر فليس بواجب أصلاً كي يُقال بسقوط التكليف قبل الإتيان بالزائد, وقال بعضهم بأنَّ كلَّ تخيير يقع في الفقه يرجع بظاهره إلى

ص: 241

هذا الوجه وإنْ كان بحسب الدقة والتحقيق يرجع إلى التخيير بين المتباينين؛ لما عرفت من أنَّ الأقل بشرط لا يباين بشرط شيء, وقد ذكرنا آنفاً أنَّ رجوعه إلى المتباينين بهذه الصيغة مِمّا لا يغفل عنها المحقق الخراساني قدس سره الذي إبتكرها, فلا بُدَّ أنْ يكون المراد منه تصحيح الأقل والأكثر عن طريق المتباينين, فلا وجه للإشكال عليه من هذه الناحية, وإنْ أشكل عليه بعض الأعلام بأمور فرضية أخرى يمكن دفعها فلا حاجة إلى نقلها.

الإحتمال الرابع: إنَّ الأقل والأكثر والمتباينين من باب واحد إذا قلنا بأنَّ الواجبين التخييرين هما في الواقع واجبان تعينيان مشروطان باعتبار تضمنهما ملاكين تعينيين متضادَّين, فإنَّ الأمر بالأقل مشروط بترك الأكثر وكذلك الأمر بالأكثر مشروط بترك الأقل, ولا ترد الإشكالات التي أُثيرت حول الصيغ المتقدمة, وهذا هو الذي إخترناه وإنْ كان ظاهر الدليل في التسبيحات هو الإحتمال الأول؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

القسم الخامس: الواجب العيني والواجب الكفائي

القسم الخامس(1): الواجب العيني والواجب الكفائي

لا إشكال في وقوعهما, كما إنَّهما من المبينات عند متعارف الناس.

وقد عرّف الأصوليون الأول بأنَّه ما كان له إمتثالات متعددة حسب أفراد المكلفين وتعددهم فيتعدد الثواب والعقاب بتعدد المطيعين والعاصين, كما يتحقق فيه إمتثال بعض ومخالفة آخرين.وأمّا الواجب الكفائي فهو ما كان إمتثال بعض المكلفين موجباً لسقوطه عن الآخرين.

فهما من ناحية الوجوب على حدٍّ سواء وإنَّما الإختلاف من ناحية المتعلق.

ثمَّ إنَّه يظهر من المحقق الخراساني قدس سره أنَّ البحث في الواجب الكفائي على حدِّ البحث

ص: 242


1- . من أقسام الواجب.

في الواجب التخييري وإنْ كان الإختلاف بينهما أنَّ الواجب التخييري من ناحية المكلف به ومتعلق الحكم, وفي الواجب الكفائي من ناحية المكلف.

وعليه؛ فإنَّه كما وقع البحث في تفسير الوجوب التخييري في تركه إلى بدلٍ كذلك وقع في المقام؛ هل يجوز للمكلف تركه لو فعله الآخر؟.

والحقّ أنَّهما بحثان مختلفان من بعض الجهات إلا أنْ يريد قدس سره التشبيه في الجملة لامن كلِّ جهة كما ستعرف.

وكيف كان؛ فقد إختلف الأصوليون في تفسير حقيقة الوجوب الكفائي من ناحية كيفية تعلقه بالمكلف, والآراء التي ذكرت هي:

الرأي الأول: إنَّ الوجوب الكفائي متعلق بجميع المكلفين على سبيل الإستغراق؛ فهناك وجوبات متعددة بعددهم.

الرأي الثاني: أنْ يكون متعلقاً بمجموعهم؛ فهناك وجوب واحد على الجميع.

الرأي الثالث: إنَّه متعلق بعنوان أحد المكلفين؛ فهناك وجوب واحد على عنوان أحدهم بنحو العموم البدلي.

الرأي الرابع: أنْ لا يكون للوجوب الكفائي إلا طرف واحد وهو المكلف به ولا يلاحظ المكلفون, فلا أطراف له أصلاً, فهو إيجاب للفعل من دون ملاحظة جعل المكلف له أصلاً.

ومن مجموع تلك التفاسير نستفيد خصائص الواجب الكفائي, وهي:

1- إنَّه لو إمتثله بعض سقط عن الباقين كما تقدم آنفاً.

2- إنَّه لو تركه الجميع فالكلُّ عاصون يستحقون العقاب.

3- إنَّه لو إمتثله الجميع دفعة أو متدرجاً؛ إذا كان الواجب قابلاً للتكرار فالكلُّ يعتبر إمتثالاً.

ولا بُدَّ من تطبيق تلك التفاسير على ضوء هذه الخصائص.

ص: 243

أمّا التفسير الأول الذي اعتبر فيه أنْ يكون طرفاً لوجوب كلُّ مكلف على سبيل الإستغراق فقد إختلفوا في وجه التطبيق على أنحاء أربعة:

النحو الأول: أنْ تكون وجوبات عديدة بعدد المكلفين, غير أنَّ الواجب فيه جامع الفعل الصادر منه أو من غيره, لا أنْ يكون صدور الفعل من كلِّ واحدٍ منهم, فيكون الوجوب الكفائي عبارة عن جعل الفعل وصدوره خارجاً من عهدة كلِّمكلف, وقد ذكرنا سابقاً أنَّ مثل هذا الجامع الذي يكون بين فعل المكلف نفسه وفعل الغير وإنْ أمكن تصويره لكن لا دليل عليه في الخارج, وعلى فرضه تتحقق فيه جميع تلك الخصائص, إذ يتحقق العصيان لو ترك الجميع, لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم كان الفعل في عهدته, كما أنَّه لو فعله واحد منهم سقط التكليف بالإمتثال لتحقق الغرض فيه, لكون الواجب هو تحصيل جامع الفعل في الخارج؛ سواء من هذا أو ذاك وقد حصل, فيسقط التكليف, وكذلك لو فعل الجميع دفعة لكان الكلُّ إمتثالاً واحداً.

النحو الثاني: أنْ تكون وجوبات عينية بعدد المكلفين ولكنها مشروطة بعدم الإتيان الآخر به. وقد إعترض عليه بأنَّه إذا أتى بالواجب أكثر من واحد يلزم منه أنْ لا يكون إمتثالاً أصلاً, إذ الشرط هو عدم إتيان الآخر, ولم يتحقق الغرض من إتيانه له.

ولكن يمكن الجواب عنه بانطباق الوجوب على أول فعل يصدر من المكلف فلا وجوب لغيره عند إلاجتماع حتى يلزم المحذور، كما ذكرنا في الواجب التخييري المشروط بعدم إتيان الطرف الآخر.

النحو الثالث: أنْ يكون الفعل واجباً على كلِّ المكلفين مع ترخيص في الترك لكلٍّ منهم مشروطاً بفعل الآخر حفاظاً على مصلحة التسهيل؛ كما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره في الواجب التخييري, وفيه تتحقق تلك الخصائص الثلاثة؛ فإنَّه إذا أتى أحد المكلفين بالفعل

ص: 244

أمكن للآخرين الترك باعتبار الترخيص له وفعليته في حقهم, وإذا ترك الجميع يكون الكلُّ عاصين لفعليّة التكليف في حقهم مع عدم شمول الترخيص في الترك, كما أنَّه لو فعل الكلُّ كان إمتثالاً للطلب وإنْ جاز لبعضهم الترك.

وقد أشكل عليه بأنَّه بناءً على مسلك المشهور في كون الوجوب هو المجعول الشرعي فيتحقق التناقض العقلائي بين إطلاق الوجوبات المتعددة المجعولة بعدد المكلفين وبين الترخيص المذكور, فلا محيص عن تضيق دائرة الوجوبات؛ فيرجع إلى النحو السابق.

ودفعه بعضهم بأنَّه لا حاجة إلى مصلحة التسهيل في الترخيص لا هنا ولا في الواجب التخييري؛ فإنَّه يمكن إفتراض أنَّ الملاك موجود في الأفعال في المقام, والواجب التخييري غير لزومي حتى يتأثر المولى لو لوحظ كلٍّ منهما مستقلاً, بل إنَّ تعدد الترك منهم وتوافر التفويت يوجب أذية المولى فلا يرخص إلا مشروطاً, ولكنه يحتاج إلى مؤونة أكثر من مؤونة جعل مصلحة التسهيل في الترخيص كما لا يخفى.

النحو الرابع: أنْ يكون مرجع الوجوب الكفائي إلى تحريم ترك الفعل المنظم إلى ترك الآخرين لا مطلق الترك, وبه يمكن حفظ تلك الخصائص أيضاً, فإنَّ تركالجميع يكون عصياناً من الجميع لصدور الترك المحرم عنهم, وعند فعل أحد منهم يمكن للآخرين تركه, كما أنَّه على تقدير إتيان أكثر من واحد كان كلٌّ منهم قد حقق الملاك بامتثاله؛ حيث تجنب الحرام.

وهذا الوجه بناءً على مسلك المشهور في كون الوجوب هو المجعول الشرعي, فيكون الوجوب الكفائي هو أحسن التعابير عن ذلك, كما أنَّه يجري في الوجوب التخييري بلحاظ المتعلق ولكن ذكرنا في بحث الأوامر أنَّ ذلك أحد الوجوه في جعل الأحكام وناقشناه بما لا نزيد عليه.

ص: 245

وكيف كان؛ فإنَّ جميع تلك الأنحاء لها وجه معقول بناءً على كون الوجوب الكفائي هو ما يتعلق بالجميع.

وأمّا بناءً على التفسير الثاني للوجوب الكفائي؛ بأنَّه يتعلق بمجموع المكلفين بنحو العموم المجموعي, ولكن العموم المجموعي تارةً يراد تكليف مجموعة بإتيان فعل كما إذا كلف عشرة أشخاص بتحريك حجر معين الذي لا يمكن لكلِّ فرد تحريكه منفرداً فلا يكون إلا تكليف واحد على المجموع, فكذلك يكون الواجب الكفائي.

لكن هذا المعنى لا يتعقل في الواجب الكفائي كما هو واضح, كما لا تتحقق فيه الخصائص المتقدمة حيث يسقط التكليف بامتثال فرد واحد, وهذا المعنى لا يتحقق في هذا التصور للعموم المجموعي الذي فيه إمتثالات متعددة وعصيانات كذلك.

وأخرى يُراد به جعل مجموع المكلفين مكلفاً واحداً بالوحدة الإعتبارية. وعليه؛ يكون الإمتثال واحداً كما يكون العصيان واحداً إذا ترك الجميع, فلو فعل أحدهم فكأن هذا المجموع قد صدر منه الفعل ولو في ضمن جزء منه.

ولكن الكلام في تحقق هذه الوحدة الإعتبارية في المكلفين وإنْ امكن تصويرها في المكلف به والمتعلق كالأمر بمجموع المركب الإعتباري كالصلاة؛ فإنَّه يتعلق التكليف بايجاده لأنَّه المقصود للمولى.

وأمّا في طرف المكلف فإنَّ جعل الواحد الإعتباري مورد التكليف ليكون عنواناً لمجموع المكلفين قد يُقال بأنَّه لا وجه معقول له, فإنَّه ليس ممكناً حقيقة وإنَّما المكلف حقيقة هو كلُّ فردٍ فرداً, فلا يُعقل عصيان واحد وامتثال واحد للمجموع, ولكن لا بأس به إذا كان عنوان محضاً للأفراد وفانيا فيها.

وأمّا بناءً على التفسير الثالث الذي يكون الوجوب الكفائي فيه متعلقاً بالمكلفين بنحو العموم البدلي -وهذا الوجه صحيح وواقع- نظير الأمر بإكرام العالِم بنحو العموم البدلي,

ص: 246

ولكن العموم البدلي لا يصحُّ إفتراضه إلا بأحد قيدين في الطبيعة التي تعلق بها الأمر؛ إمّا قيد الأولية أو قيد الوحدة أي أحدهم.

أمّا على الأول ومعناه أنَّ التكليف متعلق بأول المكلفين؛ بأنْ يكون الواجب -مثلاً- هو العالِم الأول؛ فهو لا ينسجم مع خصائص الكفائي الذي يعمّ جميع المكلفين من دون فرق بين المكلف الأول وغيره.وأمّا على الثاني ومعناه كون متعلق الوجوب هو المكلف بقيد الوحدة أي أحدهم؛ فهو كسابقه في البطلان في المقام وإنْ أمكن تصويره في الواجب التخييري باعتبار أنَّ المطلوب فيه هو إيجاد متعلق الوجوب بجعل التكليف به داعياً نحو أحد فعلين أو أفعال وتحريك الداعي نحوه.

وأمّا في المقام؛ فإنَّ الغرض في الواجب الكفائي هو التكليف في عهدة المكلف واشتغال ذمته.

وعليه؛ فالإحتمالات المتصورة هي: إمّا أنْ يُراد به بتكليف أحد المكلفين وتشتغل ذمته بهذا العنوان الإعتباري؛ فهو لغوٌ, إذ لا ذمة له حتى تشتغل به.

أو أنْ يُراد به تشغيل ذمة كلّ فرد من المكلفين باعتباره مصداقاً لهذا العنوان؛ فهو خلف وحدة التكليف, ويمكن تصحيحه كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.

أو أنْ يُراد تشغيل ذمة أحدهم تعييناً؛ فهو ترجيح بلا مرجح.

أو أنْ يُراد تشغيل ذمة أحدهم المردد؛ فقد عرفت أنَّه لا وجود للفرد المردد حتى تنشغل ذمته.

والحقُّ أنَّ ذلك إنَّما يُراد في غير الأمور الإعتبارية, وأمّا التكليف الذي هو اعتبار محض وجعل ذمة المكلف مرهونة بهذا الإعتبار المضاف إلى عنوان أحدهم فيكون حكماً واحداً, غاية الأمر أنَّه يستتبع عقلاً لزوم تحريك كل المكلفين نحو تحقيق الواجب بحيث لا يجوز لهم الترك المطلق, فتكون الأفراد مصاديق كما في الفرض الثاني.

ص: 247

وأمّا بناءً على التفسير الرابع الذي فسّر الوجوب الكفائي بإيجاب الفعل من دون إضافة إلى مكلف أصلاً فهو صحيح بحسب مبادئ الحكم كالحبِّ والبغض؛ فإنَّه يعقل تعلق الحبّ والشوق بأمرٍ في نفسه من دون دخل صدور من مكلف أو إنسان, فإنَّ الحبَّ مُضايف للمحبوب.

ولكن في عالم التشريع والتكليف الذي حقيقته البعث والتحريك واشتغال الذمة ونحوه؛ فإنَّ كلَّ ذلك مضايف مع المتحرك, ومع تشغيل عهدته فلا يعقل إفتراضها من دون طرف وهو المكلف, ولكن يرد عليه ما أوردناه على سابقه من أنَّ الجعل والتشريع باعتبار كونهما من الأمور الإعتبارية وهي حقيقة المؤونة, فيمكن أن يتحقق الأمر الإعتباري من دون إضافته إلى مكلف بل يكفي تعلقه بالفعل فقط, ولكن الفعل يحكم باشتغال عهدة المكلف به ولا نحتاج إلى إلتماس صياغة لهذا الحكم العقلي حتى يلزم الرجوع إلى الوجوه المتقدمة.

فالحقُّ هو أنْ يُقال: إنَّ كلَّ واحد من تلك الوجوه يكفي في تبلور فكرة الوجوب الكفائي وتصحيحه وإنْ لم تسلم من بعض الإشكالات.

ومِمّا ذكرنا يظهر أنَّ الواجب الكفائي يختلف عن الواجب التخييري, وأمّا إتّحادهما كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره فهو خلاف ظواهر أدلَّة الواجباتالكفائية ومنافس لما تسالموا عليه من تعدد العقاب فيها لو إتَّفق الجميع على تركه, بينما لا تعدد في الواجب التخييري وإنْ أشكل بعضهم عليه بأنَّ الواجب الكفائي المصلحة فيه إمّا أنْ تكون واحدة أو متعددة ولا سبيل إلى الأخير, وعلى الأول لا وجه لتعدد الثواب والعقاب.

ويمكن دفعه بأنَّ تعدد العقاب إنَّما يتحقق لأجل الإستخفاف بأمر المولى من كلِّ أحد.

وأمّا تعدد الثواب فإنَّه يرجع إلى؛ أمّا إلى القول بتعدد الأمر وانحلاله إهتماماً واحتفاظاً بالمصلحة الواحدة فيتحقق الإمتثال حسب تعدد الأمر, أو لأجل تحقق الإنقياد المتعدد.

ص: 248

القسم السادس: الواجب الموسّع والواجب المضيق

القسم السادس(1): الواجب الموسّع والواجب المضيق

قسَّم الأصوليون الواجبات إلى: المؤقتة؛ التي يشترط فيها أدائها في وقت معين, وغير المؤقتة؛ التي لم تقيد بوقت دون وقت.

وقسَّموا المؤقت إلى: مضيَّق؛ وهو الذي يكون الوقت المحدد بمقدار الواجب, وموسَّع؛ وهو الذي يكون وقته أوسع مِمّا يستوعبه الواجب, وذلك لأنَّ الزمان هو ظرف لجميع الممكنات الزمانية سواء كانت من التشريعات أم غيرها من أفعال المكلفين؛ فإنْ كان دخيلاً في الواجب شرعاً أيضاً يسمى مؤقتاً, وإلا فغير مؤقت. والأول إمّا مضيَّق أو موسَّع, والموسَّع إمّا فوري أو لا, والأخير له أفراد طولية وعرضية, ولا إشكال في وقوع الجميع, وقد وقع الإشكال من بعضهم في إمكان كلٍّ من الواجب المضيَّق والواجب الموسَّع, ولكن لا وجه للإصغاء إليه؛ فلا يستحق التعرض له, وإنَّما المهم هو البحث عن المسألة المعروفة التي ترتبط بالمقام وهي تبعية القضاء للأداء فيما إذا ترك المكلف إتيان الفعل في الوقت, فهل يمكن إثبات القضاء عليه فيجب عليه إمتثاله خارج الوقت بنفس دليل الواجب فيما إذا فرض عدم وجود دليل خاص أم لا ؟.

والكلام في ذلك يقع في مقامات:

المقام الأول: في الإحتمالات المقصودة منه, وهي:

الإحتمال الأول: عدم دلالة الدليل الدالّ على الواجب المؤقت -موسَّعاً كان أو مضيَّقاً- على وجوب الفعل خارج الوقت مطلقاً؛ وهو الذي إختاره جمع من المحققين منهم المحقق الخراساني قدس سره (2), وذلك لأنَّ الظاهر من دليل التقييد الذي قيَّد الواجب لكونه في وقت

ص: 249


1- . من أقسام الواجب.
2- . كفاية الأصول؛ ص144.

معين بمجموع القيد والمقيد, فإنَّ دليل التوقيت إنَّما يكون مقيداً لدليل الواجب بتمام الحالات وفي جميع مراتبه, فيكون الوقت قيداًركنياً, وهذا يقتضي أنْ لا يكون إلا وجوباً واحداً بالمقيد أُفيد بمجموع الدليلين وهذا معنى وحدة المطلوب, وفي مثله لا يمكن أنْ نثبت القضاء بالأمر الأول عند إنتهاء الوقت كما هو واضح.

والنتيجة؛ عدم تبعية القضاء للأداء إذا لم تكن القرينة على تعدد الجعل بلا فرق في ذلك بين كون دليل القيد متَّصلاً أو كان منفصلاً, لأنَّ المنفصل إمّا أنْ يدلّ على التقييد فيكون حاله كالمتَّصل, وإمّا أنْ لا يدلّ عليه فيكون خارجاً عن الفرض.

الإحتمال الثاني: إحتمال ثبوت القضاء بالدليل الدالّ على الواجب مطلقاً, سواءً كان دليل التقييد متَّصلاً أو منفصلاً, وقالوا أنَّه يمكن ذلك بأحد وجوه ثلاثة:

1- أنْ يكون لسان دليل التوقيت لزوم تحقق الواجب في وقت معين, أو الدليل الأول يدلُّ على مطلوبية ذات الفعل, فإذا تحقق الفوت في ذلك الوقت المعين فإنَّ غاية ما يقتضيه هو فوات التكليف الثاني, وأمّا التكليف الأول المتعلق بذات الواجب فهو باقٍ على حاله.

وعليه؛ يجب الإتيان بالواجب خارج الوقت بنفس الخطاب الأول, وهذا هو معنى تعدد المطلوب.

2- أنْ يكون لسان دليل التوقيت يدلُّ على تقييد المرتبة المؤكدة من ذلك الوجوب مع بقاء أصله غير مقيد بالوقت, فهو يعني أنَّ هناك وجوبين من داخل الوقت ولو بنحو التأكيد؛ ثابتين بنفس الدليل الأول, ويكون أحدهما مقيداً دون الآخر, وبهذا يفترق عن الأول, وهذا يثبت بقاء الأمر بذات الفعل خارج الوقت بنفس دليل الواجب.

ص: 250

3- أنْ يكون دليل التوقيت مقيداً للأمر الأول بتمام مراتبه لكن لا يقيده مطلقاً بل في فرض إمكان الإتيان بالقيد, فيكون الوقت بناءً عليه قيداً غير ركني بتقيده به الواجب مع القدرة, وأمّا مع العجز فلا تقييد به, وهو يرجع إلى تعدد الأمر؛ بأنْ يكون هناك أمر بالمقيد في حقِّ القادر وأمر آخر بذات الفعل في حقِّ من لم يأتِ بالمقيد, وهو يرجع إلى أنَّ ذلك مقتضى إطلاق الأمر الأول لحال عدم الإتيان بالمقيد مع عدم التمكن منه, ودليل التقييد لم يقيد حالة عدم التمكن.

وبناءً عليه؛ يثبت القضاء بنفس الدليل الأول.

الإحتمال الثالث: القول بالتفصيل بين كون دليل القيد منفصلاً عن دليل المقيد؛ فإنْ كان الدليل المنفصل مبنيّاً من كلِّ جهة فقد عرفت الإحتمالات الثبوتية فيه, وأمّا إذا كان مجملاً وكان لدليل الواجب إطلاقٌ أُخذ بالقدر المتيقن من دليل التقييد لإهماله, ويرجع فيما عداه إلى إطلاق دليل الواجب ويثبت وجوب القضاء به.

وتفصيل ذلك نقول: إنَّ دليل الواجب المنفصل عن دليل المقيد إمّا أنْ يكونا مطلقين, أو مهملين, أو يكونا مختلفين؛ فالصور أربعة:

1- أنْ يكون لكلٍّ منها إطلاق إذا كان لدليل الواجب إطلاق؛ فيؤخذ بإطلاق دليل التقييد, لأنَّه حاكم على إطلاق دليل المقيَّد كما هو الشأن في حاكمية كلّ قرينة على ذي القرينة، فيؤخذ بإطلاق دليل القيد الذي يدلُّ على كون الذات مقيَّدة بهذا القيد, سواءً تمكن المكلف من تحصيل هذا القيد أم لم يتمكن كما إذا فات الوقت؛ فيكون حاكماً على إطلاق دليل الواجب, وهو لزوم الإتيان به مطلقاً؛ سواءً في الوقت أم في خارجه.

ص: 251

2- أنْ يكون كلاهما مهملين؛ فإذا لم يكن لدليل القيد إطلاق يشمل صورة التمكن من إتيانه في الوقت وعدم التمكن فيه وكان دليل المقيِّد مهملاً أيضاً فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأصول العملية, ومقتضى الإستصحاب بقاء الوجوب إذا قلنا بجريانه، أمّا إذا قلنا بعدم جريانه لحكم العرف باختلاف الموضوع أو للشكِّ في بقائه فالمرجع البراءة.

3- أنْ يكون لدليل التقييد إطلاق؛ فيؤخذ به ويحكم بمدخليته في جميع مراتب المصلحة والملاك، وعند إنتفاء القيد وتحقق الفوت يحتاج القضاء إلى خطاب جديد.

4- إذا كان لدليل الواجب إطلاق مع إهمال دليل القيد؛ فلا بُدَّ من الرجوع إلى إطلاق دليل الواجب والقول بعدم سقوط الأمر بفوات الوقت, وهذا هو مختار صاحب الكفاية في هذه الصورة فقط, فيكون هو القول الرابع في المسألة.

أمّا إذا كان دليل الواجب مجملاً فالأمر واضح؛ فإنَّه يؤخذ بإطلاق دليل التقييد بلا إشكال.

المقام الثاني: في الدليل على تلك الوجوه, وإثبات ما يدلُّ عليه ظاهر الدليل, وإمكان اثبات الوجوب به خارج الوقت؛ سواءً كان دليل المقيد متَّصلاً أو منفصلاً.

أمّا الوجه الأول؛ فقد يُقال بخروجه عن مفروض البحث, فإنَّ المفروض هو أنْ يكون دليل الوقت دالاً على قيدية الوقت للواجب على حدِّ سائر التقييدات التي يحمل المطلق عليها, مع أنَّ المفروض فيه أنَّ دليل الوقت يدلُّ على وجوب مستقل للمؤقت أو التقييد بالوقت مع بقاء الواجب المطلق سالماً من ذلك.

ولكن يمكن أنْ يُقال بأنَّ ما ذكر رجوع إلى القول الأول وخروج من مفروض الكلام الذي يفترض فيه ثبوت تعدد المطلوب في المؤقتات بالنسبة إلى قيدية الوقت بحسب ظاهر الدليل.

ص: 252

أمّا الوجه الثاني؛ المبني على الأخذ بالقدر المتيقن من مدلول دليل التقييد المرتبة الشديدة الأكيدة من الوجوب الثابت بالدليل الأول, فيتمسك بإطلاقه لإثبات أصل الوجوب في خارج الوقت؛ فقد أُورد عليه بوجهين:

1- إنَّه بناءً على إفتراض أنَّ دليل التوقيت ناظر إلى تقييد المراتب وليس ناظر إلى مفاد دليل الوجوب, فيكون المراد هو الوجوب الأكيد واختصاصه بالوقت, وحينئذٍ يمكن أنْ نتمسك بإطلاق دليل الواجب لإثبات عدم التقييد فيه أصلاً فيكون الواجب بهذا الوجوب مطلقاً, وهذا يستلزم الخروج عن مفروض هذا الوجه؛ الذي إفترض فيه تقييد دليل التوقيت الدليل الأول بتمام مراتبه وموارده فيرجع بناءً عليه إلى الوجه الأول؛ وقد عرفت الإشكال فيه.

وفيه: إنَّ إفتراض كون دليل التقييد ناظراً إلى دليل الواجب ويقيده بتمام مراتبه وموارده خروجٌ عن صلب موضوع هذه الوجوه الثلاثة؛ فإنَّها تبتني على عدم تقييد دليل التوقيت لدليل الواجب بتمام مراتبه, أي كان على نحو تعدد المطلوب, وإلا يرجع إلى القول الأول فلا نزاع ولا إختلاف, والتقييد كما يتحقق بالنسبة إلى مفاد دليل الواجب يتحقق بالنسبة إلى المراتب. وبتعبير آخر؛ إمّا أنْ يرجع التقييد بين الدليلين إلى وحدة المطلوب أو إلى تعدد المطلوب, وهما واقعان في الخطاب العرفي أيضاً.

2- إنَّه بناءً على إفتراض كون دليل التوقيت ناظر إلى مفاد دليل الواجب وتقييده به فلا يصحُّ التمسك بدليل الوجوب لإثباته في خارج الوقت ولو بمرتبة أخرى, وذلك لأنَّ مفاد الخطاب ليس إلا جعل وجوب واحد ولا يتكفل أبداً لإثبات تمام مراتب الوجوب على الواجب حتى يبقى الإطلاق بلحاظ بعضها فلا يستظهر من دليل إيجاب شيء أنَّه واجب بالمرتبة العالية الشديدة, والمفروض تقييد دليل التوقيت لهذا المدلول الواحد, فلا إطلاق حتى يتمسك به خارج الوقت.

ص: 253

وفيه: إنَّه يرجع إلى القول الأول؛ إذ المفروض أنَّ للوجوب مع القيد مرتبة تختلف عن الوجوب بدونه, فإنَّ الجمع بين دليل أصل الوجوب ودليل القيد يقتضي القول بذلك عرفاً, والمستدلُّ إنَّما نظر إلى هذه الجهة لا أنْ يُراد به بلحاظ الإعتبار أو المعتبر, فهذا امر لا يخالفه وجدان العرف عند النظر إلى دليلي القيد والمقيد.

أمّا الوجه الثالث الذي يرجع دليل القيد فيه إلى تمام مراتب المقيد دون أنْ يقيد إطلاقه, وفي فرض إمكان الإتيان بالقيد أصبح الوقت بسببه قيداً غير ركنيٍّ, فمع العجز عنه لا تقيَّد به فيتعدد الأمر؛ يرجع أحدهما إلى إطلاق دليل المقيد بالنسبة إلى خارج الوقت نظير الأمر بالتمام للحاضر وبالقصر للمسافر.

فقد أُورد عليه:

أولاً: إنَّ مقتضى ذلك جواز التأخير إختياراً نظير جواز السفر والصلاة قصراً, إذ المكلف على هذا الوجه إمّا مكلف بالصلاة في الوقت؛ وهو المتمكن, وإمّا مكلفبالصلاة خارجه؛ وهو غير المتمكن, وهذا من لا يقول به أحد, فهذا الوجه ساقط في مرحلة الثبوت.

ثانياً: إنَّ الأمر يتضمن إثبات وجوب واحد بلحاظ المتعلق, فهو يتعلق بصرف وجود الطبيعة, ولايثبت وجوباً للطبيعة في حال القدرة على القيد, ولا يثبت وجوباً آخر في حال العجز عنه, فالأمر بلحاظ متعلقه لا ينحلُّ إلى وجوبات عديدة, بخلاف موضوعه وهو المكلف فإنَّه ينحلُّ إلى وجوبات عديدة بعدد أفراد المكلفين, فيعقل تقييد بعضها دون البعض. فلا وجه لاستفادة جعلين من دليل الوجوب؛ أحدها المقيد بالوقت والآخر وجوب المطلق خلاف ظاهر دليل الوجوب, وخلاف المفروض أيضاً من تقييد نفس الجعل المستفاد من دليل الوجوب لا إستفادة وجوب آخر مستقل على المقيد.

ص: 254

ويرد عليهما: أمّا الأول؛ فإنَّه ليس مقتضى التقييد جواز التأخير, وكما أنَّه ليس المقام من قبيل التمام والقصر حيث يتحقق التبادل بتبدل الموضوع وهو الحاضر والمسافر, وأمّا فيما نحن فيه؛ فإنَّ الموضوع والمتعلق واحد وأنَّ الإختلاف في الحالات والمراتب التي حصلت من دليل التقييد فلا يجوز التأخير إختياراً, فإنَّه في حالة التمكن يجب عليه إتيان الفعل في الوقت, فإنْ أخّره عصى وأثم.

وأمّا الثاني: فلأنَّ ورود القيد على الوجوب لا يقتضي إلا إختلافه في المرتبة والحالة لا في تعدد المتعلق, فإنَّ الوجوب بلا قيد غير الوجوب مع القيد عرفاً كما عرفت آنفاً وإنْ كان المتعلق واحداً كما هو المفروض وإلا خرج عنه, فإذا كان دليل المقيد يدلُّ على الوجوب المتعلق بصرف الطبيعة كما هو المعلوم, ولكنه بعد ورود القيد عليه حصل تضييق في دائرة الوجوب لتكون الطبيعة مع القيد مع بقاء صرف الطبيعة على أصل المحبوبية والطلب, والحاصل؛ إنَّ إنكار ذلك وإرجاع القيد إلى المقيد وجعل مجموعهما مورد الوجوب مِمّا لا يرتضيه القائل بتعدد الأثر المترتب على كلٍّ من القيد والمقيد, فالإشكال عليه من هذه الناحية مثل الإشكال على غيره من الوجوه السابقة؛ غير سديد, وإنَّه من لزوم ما لا يلزم به القائلون بها, إلا إذا دلّ على وحدة المطلوب لا تعدده.

ولأجل تلك المناقشات التي عرفت الوجه فيها ذهب المشهور إلى عدم تبعية القضاء للأداء, واستدلُّوا عليه بجملة من الأمور نذكر منها الأهم:

أولاً: إنَّه ظاهر دليل الواجب مع دليل التوقيت كما في سائر التقييدات.

وفيه: إنَّه لو ثبت ظاهر يدلُّ عليه فلا كلام فيه, ولكن إثبات ذلك مع الفهم العرفي للتعدد مشكل.

ص: 255

ثانياً: إنَّ ثبوت القضاء شرعاً في الحج والصوم المنذورين في وقت معين مع أنَّ قصد الناذر تعلق بالفعل المقيد بالوقت الخاص بنحو الوحدة دليل على أنَّه لا يبقىالأمر بذات الفعل بعد الوقت لعدم موافقته للقصد, فيكشف ذلك عن أنَّ القضاء إنَّما يكون بأمر جديد, والظاهر أنَّه لا يختلف الحال في ثبوت القضاء بين الموارد.

ويرد عليه مضافاً إلى أنَّه منقوض بالبيع مع تخلف الوصف وثبوت الخيار مع أنَّ العقود تابعة للقصود, وكذا النذر؛ فإذا ثبت القضاء مثلاً بأمر آخر مع وقت النذر فإنَّ ذلك لا يستلزم وجود حكم تعبدي خاص في النذر في جميع الموارد التي دخل فيها الوقت الذي يكون فيه الأمر على نحو وحدة المطلوب, أو أنَّ النذر في الواقع ينحلُّ إلى قصدين وإنْ لم يتفطن إليه الناذر. وكذا مسألة الوقف إذا تعذر الموقوف عليهم فإنَّه يصرف فيما هو الأقرب إلى قصد الواقف, وغير ذلك, فإنَّه لايبطل البيع والوقف فيهما بل تحمل على تعدد المطلوب.

فالحَقُّ أنْ يُقال: إذا ثبت من ظاهر الدليل كون القيد والمقيد على نحو وحدة المطلوب فهو, وإلا فالمتفاهم العرفي منها أنَّه على نحو تعدد المطلوب, ولأجل ذلك رفع الإشكال بناءً على تعدد المطلوب من أنَّه يستلزم منه تعدد الوجوب. ويمكن القول بوجود احتمال أنْ يكون التعدد في فعليّة الأمر, وهي مقيدة بوقت خاص لا في نفس الوجوب والأمر, ووحدة الأمر مع تعدد الفعليّة متحقق لا يقبل الإنكار.

وعليه؛ يكون الأمر بعد الوقت موجوداً وإنْ لم يكن فعلياً, كما إنَّ ظهور القضاء في النذر يقتضي التبعية وكون القيد بنحو تعدد المطلوب.

هذا مع أنَّه ربَّما تكون هناك قرائن تدلُّ على ما ذكرناه, مثل كثرة إهتمام الشارع بالصلاة بحيث يحصل القطع بأنَّ التوقيت يكون من باب تعدُّد المطلوب، وهذا بحسب الأصل اللفظي.

ص: 256

المقام الثالث: في مقتضى الأصل العملي في الشبهة الحكمية فيما إذا شُكَّ في كون التقييد على نحو وحدة المطلوب فلا يثبت القضاء إلا بدليل جديد، أو تعدُّدِه فيثبت بنفس الدليل الأول.

وقد ذهب جمعٌ إلى التمسك باستصحاب وجوب العمل الثابت أولاً؛ الذي هو معلوم وتقييده بالوقت بحيث ينتفي الشكُّ بانتفاءه.

وأُشكل عليه: تارةً؛ بأنَّه يكون من قبيل القسم الثالث من أقسام إستصحاب الكلي الذي ثبت بطلان الإستصحاب فيه، لأنَّ المتيقن إنَّما هو وجوب المقيَّد بالوقت وهو معلوم الإرتفاع بعد الوقت، والشكُّ إنَّما هو في حدوث وجوب آخر.

وأخرى؛ بأنَّ الزمان إذا كان مأخوذاً في المتعلق يكون مقوماً لا أنْ يكون حالةً بنظر العرف، بخلاف ما يؤخذ في الموضوع. والمفروض إنتفاء الزمان فلا تتَّحدُ القضيتان فلا يجري الإستصحاب لفقدِ شرطه.

والحقُّ أنَّ شيئاً منها لا يرد على الإستصحاب في المقام, لأنَّ المستصحب هو ذات الوجوب, والكلي منه المردد بين الوجوب الضمني المتحقق في وحدة المطلوبوالنفسي الإستقلالي المتحقق في تعدد المطلوب الثابت أولاً فيكون من القسم الثاني من إستصحاب للكلي بعد الشكّ في كون التوقيت بنحو وحدة المطلوب أو تعدده فلا محذور في إستصحابه, ويترتب عليه أثره.

نعم؛ لو ثبت كون التوقيت على نحو وحدة المطلوب لا يمكن التمسك لاستصحابه, لأنَّه من قبيل القسم الثالث من إستصحاب الكلي, ويمكن الرجوع إلى البراءة أيضاً للشكِّ في كون التقييد مقوماً لأصل المطلوبية, لأنَّ التقييد بلحاظ بعض مراتب المطلوب معلوم يقيناً, وأمّا بلحاظ تمام مراتبه أو كون القيد مقوماً لأصل المطلوبية فهو مشكوك فيرجع فيه إلى الأصل فيبقى أصل الوجوب بعد الوقت أيضاً.

ص: 257

المقام الرابع: في جريان الإستصحاب في الشبهة الموضوعية

بمعنى: إنَّه بعد ثبوت القضاء وشكَّ بعد الوقت في الإتيان بالعمل المأمور به في الوقت وعدمه؟.

فإنْ كان في البين دليل يدلُّ على عدم الإعتناء بالشكِّ كما ورد في الصلاة فلا إشكال فيه. وإنْ لم يكن؛ فالوجوه المتصورة هي:

إمّا التمسك بإطلاق الدليل ويحكم بوجوب القضاء.

ولكن يرد عليه بأنَّه إذا قلنا بتبعية القضاء للأداء وتكفل الدليل الأول لوجوبه فالتمسك بإطلاقه يكون من التمسك بالدليل في الموضوع المشتبه.

وأمّا إذا قلنا بعدم التبعية فالأمر أوضح.

أو التمسك بأصالة عدم الإتيان فيحكم بوجوب القضاء؛ سواءٌ كان موضوع القضاء مطلق عدم الإتيان أم الفوت والترك, لأنَّه عبارة أخرى من عدم الإتيان عرفاً وإنْ أمكن بحسب الدقة العقلية تصور الفرق بينهما ولكنها ليست مِمّا تدور عليها الأحكام الشرعية.

أو التفصيل بين القول بأنَّ موضوع القضاء هو عدم الإتيان بالعمل في الوقت فيجري الإستصحاب ويثبت به موضوع القضاء مباشرة, وبين القول بأنَّ موضوعه الأمر الوجودي الملازم لعدم الإتيان وهو فوت العمل, فلا يصحُّ التمسك بالأصل حينئذٍ لأنَّه يكون مثبتاً, وذلك لأنَّه يكون من إثبات الموضوع بالملازمة, وقد أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره في مبحث الإجزاء, وتعرض إليه المحقق النائيني قدس سره في هذا المبحث, ويستفاد من كلامهما أنَّهما قد إتَّفقا على أنَّ موضوع القضاء هو الفوت, وإنَّما الكلام في تشخيص مفهومه وأنَّه أمر عدمي أو وجودي.

وكيف كان؛ فإنَّه إذا قلنا بتبعية القضاء للأداء وثبوته بالأمر الأول فلا إشكال عند الشكِّ في الإتيان بالمأمور به هو لزوم الإتيان لقاعدة الشغل أو إستصحاب عدم الإتيان بالواجب؛ سواءٌ كان موضوع القضاء الفوت أو غيره.

ص: 258

وأمّا إذا لم نقل بالتبعية يأتي الترديد المتقدم وإنْ كان الحقُّ هو التمسك بالإستصحاب, بلا فرق بين كون موضوع القضاء هو الترك أو الفوت أو عدم الإتيان لأنَّها بمعنىً واحد عرفاً وإن أمكن التفكيك عقلاً؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

المقام الخامس: في بيان الثمرة لهذا البحث

قد يُقال: بأنَّ إحدى الثمرات هي ما ذكرناه آنفاً؛ وهو إذا قلنا بالتبعية في لزوم الإتيان بالمأمور به لقاعدة الشغل أو إستصحاب عدم الإتيان به فيتحقق موضوع القضاء.

وإنْ قلنا بعدم التبعية يأتي الترديد في موضوع القضاء؛ في أنَّه إمّا الترك أو الفوت, وإنَّه أمر وجودي أو عدمي, ولكن عرفت أنَّه لا فرق بينهما بحسب النظر العرفي.

ومن الثمرات؛ إنَّه لو قلنا بالتبعية لا يصدق لفظ القضاء أو الفوت على ما يؤتى به بعد الوقت, لأنَّ ما فات لا يمكن تداركه إلا بجعل شيءٍ آخر بدلاً عنه وقائماً بمصلحته, لا بإيجاد أصل الواجب الباقي وجوبه بعد الوقت, وما يؤتى به في خارج الوقت فهو أصل الواجب وهو لم يفت بل هو باقٍ بنفسه خارج الوقت, فلا يُعدُّ قضاءً لأنَّه عبارة عن إتيان ما فات في الوقت من خارجه, كما لا يسمى تداركاً لما فات لأنَّه لم يفت حتى يُتدارك, بل يكون كسائر الواجبات غير المؤقتة التي متى ما أُوتي بها تكون أداءً, ولا يتصور فيه القضاء أصلاً.

وهذه الشبهة لا تندفع إلا بأنْ نقول بعدم التبعية وإثبات القضاء بدليل آخر, ويكون مدلوله هو وجوب القضاء بعنوان تدارك ما فات؛ وجوب آخر مغاير لذلك الواجب الأول ثابت بدليل اخر, مثل قول النبي الأكرم : (مَنْ فَاتَتْهُ فَرِيضَةٌ فَلْيَقْضِهَا كَمَا فَاتَتْهُ )(1).

ص: 259


1- . عوالي اللئالي؛ ج2 ص54.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره في تأييد ما ذكر من أنَّ مدلول أدلَّة وجوب القضاء ليس هو بقاء الواجب الأول, بل يكون وجوباً آخراً مغايراً, لذلك إنَّه إذا لم يبقَ من الوقت مقدار إدراك ركعة بل كان أقل من ذلك ولم ينقضِ الوقت تماماً فإنَّه في هذا المقدار الباقي من الوقت لا يجب إتيان ذلك الواجب؛ لا أداءً ولا قضاءً؛ أمّا الأول؛ فلِعدم بقاء الوقت الكافي؛ لا الحقيقي ولا التنزيلي, وأمّا عدم وجوب القضاء؛ فلأنَّه لا بُدَّ أنْ يكون خارج الوقت, والمفروض عدم خروجه وليس هناك وجوب آخر في البين يخالف هذين العنوانين.

وفيه: إنَّ القضاء وهو الإتيان بالمأمور به ويلازمه التدارك أو يطابقه معناه الذي هو بدلية أحد العملين للآخر لكونه عوضاً عنه, ولذا لا يعبر عن القضاء عندالعرف إلا إتيان العمل الذي يتدارك به ما فات من المصلحة دون مجرد إتيانه, ومقتضى ذلك هو تبعية القضاء للأوامر لا عدمها, فإنَّه لا معنى للتدارك إذا كان واجباً مستقلاً ذا مصلحة مستقلة أجنبية.

نعم؛ لا يصدق الفوت حقيقة, إذ الطبيعة لم تفت ولكنه يصدق مسامحة باعتبار فوت الحصة الخاصة, فيقال: الطبيعة فاتت, ومن هنا قلنا بأنَّه لا فرق بين أنْ يكون موضوع القضاء هو الترك أو الفوت أو عدم الإتيان, فلا ثمرة مهمة تترتب على هذا النزاع بعد إتّفاق الجميع على وجوب القضاء بعد الوقت إذا فات الواجب في الوقت؛ فافهم.

القسم السابع: الواجب الأصلي والواجب التبعي

القسم السابع(1): الواجب الأصلي والواجب التبعي

والبحث فيه من جهات:

الجهة الأولى: في تعريفهما

قيل: إنَّ الأصلي ما أُنشأ عن إرادة إستقلالية، والتبعي ما أُنشأ عن إرادة تبعية.

ص: 260


1- . من أقسام الواجب.

وقيل: الأصلي ما أُنشأ بالإرادة التفصيلية، والتبعي بالإرادة الإجمالية. وهو يرجع إلى الأول, لأنَّ الإستقلال لا يحصل إلا بالإلتفات إليه وإلى ما يترتب عليه من المصالح والأغراض، ففيه إرادة تفصيلية بخلاف التبعي.

وقيل: إنَّ الأصلي ما لم يكن عن إرادة تبعية، والتبعي ما لم يكن عن إرادة إستقلالية.

وقيل: بالعكس؛ وهو من التعريف بالسلب في الأول والإيجاب في الثاني.

كما يمكن تعريفهما بالعكس؛ بجعل الأول إيجابياً والثاني سلبياً، ولا يضرّ هذا الإختلاف, لأنَّ المراد هو شرح اللفظ وتقريب المعنى إلى الذهن, وهو أمر خفيف المؤونة وبمقتضى المقابلة بينهما يمكن تعريفها بالسلب والإيجاب، وكلُّها ممكنة ثبوتاً.

الجهة الثانية: في وقوع هذا التقسيم وإمكان إقامة الدليل عليه إثباتاً

فهو يختلف حسب مقام الثبوت والتصور.

وقد إختلفوا في إمكان تصوره وتحققه في مقام الدلالة؛ وذلك لأنَّ المستفاد من ظاهر لفظ الأصلي والتبعي إذا سند الواجب اليهما وبمقتضى المقابلة بينهما أنْ يكون المراد من الأصلي هو الواجب الذي ليس وجوبه وارادته تابعة لوجوب آخر وإرادة أخرى بخلاف التبعي؛ الذي يكون وجوبه تابعاً لوجوب آخر وإرادته ناشئة من إرادة أخرى.

وبناءً على هذا لا فرق بين أنْ نقول الواجب الأصلي والتبعي وبين أنْ نقول الواجب النفسي والغيري, فيكون هذا التقسيم لغواً.والصحيح أنْ يُقال بأنَّ البحث تارةً يقع في مقام الإثبات وأخرى في مقام الثبوت:

أمّا الأول: فلأن الإرادة إنْ تعلقت بكلِّ واحدٍ من الواجب النفسي والغيري بعد الإلتفات إليه إستقلالاً فيكون أصلياً. وإمّا أنْ تكون الإرادة لازمة لإرادة شيءٍ آخر وإنْ لم يلتفت إليه يكون تبعياً.

ص: 261

وبناءً على هذا؛ فربَّما يكون الغيري أصلياً فيما إذا كان متعلقاً لإرادة إستقلالية بعد الإلتفات إلى أنَّ هذا الشيء مِمّا يتوقف عليه وجود ما له المصلحة الملزمة, وربَّما يكون تبعياً فيما إذا لم يكن مراداً بالإرادة الإستقلالية.

وبعبارة أخرى: إنَّ المريد إمّا أنْ يلتفت إلى المصلحة الملزمة في الواجب فيريده مستقلاً, فيكون أصلياً. وإمّا أنْ لا يكون ملتفتاً إليها فلا يريده أصلاً وإنْ كان فيه ملاك الإرادة وهي المصلحة الملزمة واقعاً, وعلى هذا يتَّصف الواجب النفسي والغيري بالأصلية والتبعية وتتداخل وتتصادق العناوين الأربعة من الأصلية والتبعية والنفسية والغيرية في مقام الدلالة والإثبات ولكن لكلِّ واحدٍ منها عنوان مستقل.

وأمّا الثاني(1): فالظاهر أنَّه أيضاً كذلك, فربَّما يُتصور كلُّ واحد منها مستقلاً وما ذكر من الإتّحاد بين النفسي والأصلي وبين الغيري والتبعي إنَّما ينشأ من الخلط في ملاك كلِّ واحد منها؛ فإنَّ الإرادة من الواجب الأصلي ما كانت مستقلة وفي التبعي ما إذا كانت تبعية, بينما في الواجب النفسي ما كان الأمر فيه لا لأجل تكليف آخر خلاف الغيري, فهما بحسب ظاهر اللفظ متغايران كما هو كذلك في الواقع مِمّا ذكره بعضهم أنَّه في مقام الثبوت لا فرق بين النفسي والأصلي وبين الغيري والتبعي غير سديد؛ ولا ثمرة عملية في هذا المبحث فلا تستحق الإطالة.

الجهة الثالثة: في الدليل على هذا التقسيم

قيل: بأنَّ الواجب إنْ كان مفاد الدلالة الإستقلالية المعتبرة ومقصوداً مستَّقلاً بالإفادة فهو أصلي وإلا فهو تبعي.

ص: 262


1- . أي: البحث في مقام الثبوت.

ولكنه مجرد دعوى ولا شاهد عليها من عقل أو نقل, فإنَّه رُبَّ واجب تبعي يُستفاد من الدلالة الإستقلالية, ورُبَّ واجب أصلي يُستفاد من غير الدلالات الإستقلالية كالمفاهيم ونحوها, ثم إنَّه يمكن أنْ يكون كلٌّ من الواجب النفسي والغيري أصليا وتبعياً في مقام الإثبات. نعم؛ ينطبق الواجب النفسي على الأصلي غالباً والغيري على التبعي كذلك.

وأمّا الأصل العملي فهو يختلف بحسب الإختلاف في تعريفهما, فإنَّه بناءً على تفسيرها بالإيجاب؛ إذا شكَّ في كون الواجب عن إرادة إستقلالية أو عن إرادة تبعية؛ فيجري الأصل في كلِّ واحدٍ من الطرفين وتسقطان بالمعارضة.وأمّا إذا كان التعبير عنهما بالسلب؛ فالأصلي ما لم يكن عن إرادة تبعية, والتبعي ما لم يكن عن إرادة استقلالية, فلا يجري الأصل في كلِّ واحدٍ منهما لكونه مثبتاً.

وأمّا إذا إختلف التعريف في كلِّ واحد منهما سلباً وإيجاباً؛ فإذا كان الأصلي سلبياً والتبعي إيجابياً؛ فإنَّه عند الشكِّ تجري أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية وتثبت الأصلية, ولا تعارض أصالة عدم الأصلية لفرض أنَّ الأصلي عدمي فتكون أصالة عدم الحدوث عن إرادة تبعية مفاداً مطابقياً للاصلية.

كما أنَّه إذا كان مفاد التبعي سلبياً والأصلي إيجابياً؛ يجري الأصل في الأصلي ويكون مفاداً مطابقياً للتبعي ومع عدم التعيين لا يجري الأصل لعدم إحراز الموضوع, فتصل النوبة إلى الأصل الحكمي وهو أصالة الإشتغال مع فعليّة الخطاب, ومع عدمها فالأصل البراءة.

ص: 263

ختام فيه أمور:

ثم إنَّه ذكر السيد الوالد قدس سره في آخر هذا المبحث ختاماً تعرض لبعض الأمور وهي ترجع إلى دلالات صيغة الأمر.

الأمر الأول: إعتبار المباشرة وأنْ لا يكون المأتي به من الفرد الحرام في العبادات, وقد تقدم الكلام في ذلك؛ فراجع(1).

الأمر الثاني: هل إطلاق دليل الوجوب يقتضي أنْ يكون عينياً نفسياً تعيينياً مقابل الكفائية والغيرية والتخييرية؟, وقد وقع البحث عند الأصوليين لما يقتضيه الأمر لكلِّ واحد من هذه العناوين الثلاثة, ومنشأ الإشكال هو أنَّه إذا كانت كلُّ واحدة من العينية والنفسية والتعيينية خصوصية في الوجوب كخصوصية التخيير والغيري والكفائي منه؛ فكيف يكون مقتضى الإطلاق إيراده هذه الخصوصية دون تلك؟ فإنَّ كلَّ واحد من هذه الأفراد يقابل الفرد الآخر, والمفروض أنَّه ليس مقتضى طبيعة الوجوب النفسية والعينية والتعيينية حتى تطرأ عليها الغيرية والتخييرية والكفائية.

ورفع هذا الإشكال يستدعي البحث في كلِّ واحدٍ من هذه العناوين الثلاثة, فالكلام يقع من جهات ثلاث:الجهة الأولى: في أنَّ إطلاق الأمر يقتضي النفسية أو الغيرية, والمعروف أنَّه يقتضي النفسية, ويمكن الإستدلال عليه بأنواع من الإطلاق:

الأول: الإطلاق الأحوالي لصيغة الأمر لحال عدم وجوب واجب آخر وعدم تحقق شرط وجوبه كالزوال بالنسبة إلى الصلاة فيثبت بالإلتزام الوجوب النفسي من دون أنْ يكون غيرياً.

ص: 264


1- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص69.

وأشكل عليه بأنَّه إنَّما يتمُّ إذا لم يكن الواجب المشكوك كونه نفسياً أو غيرياً مشروطاً بما يكون ملازماً دائماً مع ثبوت وجوب الواجب الآخر, فإنَّه لا يمكن إثبات كونه واجباً نفسياً.

ويرد عليه بأنَّ المفروض إنتفاء ذلك مع أنَّ وجوده لا يضرُّ, إذ المدار على الواجب المعني الذي نشكُّ في أنَّ وجوبه نفسي أو غيري, وأمّا الواجب الآخر الملازم له إذا لم نستفد من

دليله الشرطية فإنَّ مجرد الملازمة بينهما لا تثبت الغيرية كما هو واضح.

الثاني: التمسك بإطلاق المادة في دليل الواجب الذي يحتمل فيه أنْ يكون مقدمة لواجب آخر, فيثبت بالإلتزام أنَّ الوجوب فيه نفسي لا غيري, وهذا التقريب يتوقف على أمور:

1- أنْ يكون دليل ذلك الواجب النفسي لفظياً قد تمَّت مقدمات الحكمة والإطلاق في مادَّته.

2- أنْ لا يكون دليل الأمر بالواجب المردد بين النفسي والغيري متَّصلاً بدليل الواجب النفسي وإلا فسوف يسري الإجمال والتردد إلى ذلك الدليل أيضاً فيما إذا لم يكن الإقتران بين الدليلين صالحاً لتقييد المادة, وإلا فلا يلزم الإجمال بل كان الأمر بالعكس وكان إطلاق المادة قرينة على إستقلالية الأمرين.

3- أنْ يكون الوجوب الغيري المحتمل الذي يراد نفيه هو الوجوب الغيري بملاك التقييد الشرعي لا بملاك التوقف التكويني.

الثالث: التمسك بإطلاق المادة في الأمر بشيء كالوضوء بالنسبة للحصة غير الموصلة منه وإثبات أنَّه مصداق للواجب، فيثبت بالإلتزام أنَّ هذا الواجب نفسي لا غيريٌ.

ولكن هذا يختَّص بما إذا قلنا بأنَّ الوجوب الغيري مخصوص بالحصة الموصلة فقط فينفى الحصة غير الموصلة بإطلاق المادة كونه واجباً نفسياً بعد إثبات كونه مصداقاً للواجب؛ وسيأتي الكلام فيه.

ص: 265

الرابع: التمسك بإطلاق الأمر في إثبات النفسية بالمدلول المطابقي لا بالإلتزام, وذلك بدعوى أنَّه كلَّما دار الأمر بين قيدين أحدهما وجودي والآخر عدمي كان مقتضى الإطلاق والسكوت في مقام الإثبات إرادة الخصوصية العدمية ثبوتاً، فإنَّ خصوصية الغيرية وجودية؛ لأنَّها عبارة عن الوجوب الناشئ من وجوب آخر,بخلاف النفسية؛ التي هي الوجوب الذي لم ينشأ من وجوب آخر فتكون متعينة بالإطلاق.

ويرد عليه: أولاً: إنَّ النفسية أيضاً أمر وجودي، وهو خصوصية كون الوجوب ناشئاً عن ملاك في نفسه.

ثانياً: إنَّ الإطلاق المزعوم في المقام هو الإطلاق اللحاظي لم يفرق فيه القيد الوجودي أو القيد العدمي، فإنَّه عبارة عن لحاظ رفض القيود مطلقاً.

الخامس: إنَّ الكفائية والغيرية والتخييرية هي خصوصيات تحتاج إلى دليل خاص وقرينة مخصوصة, ومع العدم يكون المرجع هو حكم العقل بالنفي, كما كان إستفادة أصل الوجوب بحكمه أيضاً فيكون مقتضى إطلاق دليل الوجوب النفسية والعينية والتعيينية.

ولعلَّ هذا هو مراد من قال بأصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات, وهو تعيّن الخصوصية المناسبة مع عالم الإثبات, فإنَّ الوجوب الغيري تبعي ومن أجل واجب آخر بخلاف الواجب النفسي، والأمر بشيء إثباتاً يناسب أنَّ ذلك الشيء مأمور به أصالة ولنفسه لا أنْ يكون إيجابه لأجل شيء آخر.

وهذا يتمُّ بالحكم العقلي الذي ينفي الخصوصية الغيرية, وإلا فإنَّ بمجرد التطابق بين عالَمي الثبوت والإثبات لا يمكن إثبات الوجوب النفسي به.

الجهة الثانية: في أنَّ إطلاق الأمر هل يقتضي التعيينية أو التخييرية؟.

ص: 266

والحقُّ أنَّ أصالة الإطلاق أيضاً يقتضي التعيينية دون التخييرية, لأنَّ إستفادة جنس الوجوب من حيث هو لا وجه له, لأنَّ أدلَّة الأحكام تدلُّ على الأنواع لا الجنس من حيث هو, واستفادة التخيير بين الأنواع منفي بالإطلاق اللفظي؛ بلا فرق في ذلك بين أنْ يكون معنى التخيير إيجاب كلٍّ منهما مشروطاً بترك الآخر، أو قلنا بأنَّه إيجاب الجامع بين الفعلين، أو كان الواجب التخييري كالواجب التعييني إلا أنَّ الإختلاف بينهما في الشدة والضعف, فإنَّ الوجوب في التخييري مشوب بجواز الترك إلى البدل فهو مرتبة بين الوجوب التعييني الذي لا يرخص تركه مطلقاً والإستحباب الذي يرخص تركه مطلقاً، فإنَّه لا إختلاف على هذه المسالك في تفسير التخيير, فإنَّ الإطلاق يقتضي التعيينية.

الجهة الثالثة: في أنَّ إطلاق الأمر يقتضي العينية دون الكفائية بنفس الأسلوب المذكور.

هذا كلُّه بحسب الأصل اللفظي. أما إذا إقتضى الأمر الرجوع إلى الأصل العملي فإنَّه يمكن الرجوع إلى أصالة عدم السقوط بفعل الغير أو في ضمن فرد آخر, فهو يقتضي العينية والتعيينية، وأصالة عدم إشتراطه بواجب آخر فيدلُّ على النفسية. نعم؛ إذا شكَّ في الوجوب الغيري ولم يكن وجوب ذي المقدمة فعلياً يكون حينئذٍ من الشكِّ في أصل الوجوب, والمرجع البراءة, بخلاف ما إذا كان فعلياً فإنَّه يجب الإتيان به لا محالة.

الأمر الثالث(1): وقوع الأمر بعد الحظر ومفاده، وهو كثير في الروايات وقد عالج الفقهاء هذا الموضوع بإثبات قاعدة عامة في الفقه. وكيف كان إذا ورد الأمر عقيب الخطر، كقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)(2).

وقوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(3).

ص: 267


1- . من الأمور الختامية.
2- . سورة البقرة؛ الآية 217.
3- . سورة التوبة؛ الآية 5.

أو قوله تعالى: ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)(1).

أو توهمه كما إذا سأل عن جواز الشيء فأجيب بالأمر به.

والظاهر أنَّه قد إتَّفق الأصوليون على عدم الوجوب, وذلك لعدم دلالة الصيغة على الوجوب حينئذٍ؛ سواء قلنا بأنَّ الوجوب بحكم العقل, أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة, أو بالوضع لإكتناف الخطاب بما يحتمل قرينيته؛ وهو مورد توهم الخطر, وهو كافٍ في رفع الظهور في الوجوب كما في سائر الموارد إذا إكتنف الكلام بالقرينة الصارفة, ولكنهم إختلفوا في ظهوره.

فقيل: إنَّه ظاهر في الإباحة.

وقيل: إنَّه ظاهر في الحكم السابق على التحريم من وجوب أو إباحة أو غيرهما.

وقيل: بعدم ظهوره في شيء منهما.

أمّا الإباحة: فقد ذكروا في توجيهها بأنَّ وقوع الأمر بعد الخطر أو توهمه من القرينة الدالة على رفع التحريم, والإباحة والترخيص في العمل مطلقاً.

وردَّ بأنَّه ليس ذلك من القرائن العامة التي تدلُّ على الإباحة مطلقاً عرفاً، بل اللفظ معه يصير مجملاً، فلا بُدَّ من إتّباع القرائن الخاصة التي قد تدلُّ على الإباحة في مورد، أو تدلُّ على الوجوب في مورد آخر.

وهذا هو مختار جمع من الأصوليين منهم المحقق الخراساني, والسيد الوالد قدس سره (2) الذي ذكر أنَّه مع فقد هذه القرينة فالمرجع أصالة البراءة عن الوجوب.

ص: 268


1- . سورة المائدة؛ الآية 2.
2- . تهذيب الأصول؛ ج1 ص70.

وذهب بعض الأعلام في توجيه الإجمال إلى أنَّ الأمر له مدلول تصوري؛ وهو البعث والنسبة الإرسالية, ومدلول تصديقي؛ وهو وجود إرادة طلبية في نفس المولى، والأمر في مورد توهم الخطر يستعمل في نفس مدلوله التصوري، ولهذا لا يشعر بعناية المجاز, غاية الأمر أنَّ المدلول التصديقي كما يناسب الطلب في هذا المورد، كذلك يناسب رفع الخطر وكسر التحرج.

وبهذا أثبت أنَّه لا يدلُّ الأمر على الوجوب فيكون وروده مورد توهم الخطر يوجب الإجمال, بل قد حاول بعض المحققين إلى تأسيس قاعدة عامة في المقام؛ إمّالإثبات الإجمال بقرينة نوعية وهي إحتمال وجود إرتكاز نوعي متشرعي على عدم الوجوب في ذهن الراوي فيكون من إحتمال وجود القرينة المتَّصلة الموجبة للإجمال. أو للرجوع إلى أصالة البراءة عن الوجوب, وتكون نتيجتها الجواز كما تقدم آنفاً, ومن أجل ذلك لم يذهب الفقهاء إلى الوجوب في الأوامر الكثيرة الواردة في الفقه في موارد متفرقة من أبواب العبادات، كالأمر بصلاة الجمعة وصلاة الليل ونحو ذلك, فإنَّ عدم حمل الأمر على عدم الوجوب ليس لأجل شيء آخر كالإجماع حتى يستشكل عليه بأنَّه غير حاصل(1).

الأمر الرابع: لا ريب في أنَّ إيجاب شيء على المكلف مع إنتفاء شرطه قبيح عند العقلاء كافة وكلُّ قبيح عقلي ممتنع بالنسبة إليه تبارك وتعالى فيكون من التكليف المحال وبالمحال.

نعم؛ إذا كانت مصلحة خاصة تقتضي ذلك فلا إشكال فيه, لأنَّ وجود المصلحة يرفع قبحه، بل قد يكون تركه قبيحاً.

وليس من ذلك إنشاء التكليف في ظرف عدم الشرط, ولكن يتمكن منه حين فعلية التكليف، فإنَّه لا إشكال فيه بل هو شايع, وتفصيل ما ذكره قدس سره أنَّه تارةً يكون إنتفاء شرط المجعول ضرورياً قهرياً، وأخرى يكون إختيارياً.

ص: 269


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج2 ص118.

وفي الفرض الأول: إمّا أنْ يكون الإنتفاء الضروري للشرط لامتناعه في نفسه, كما إذا قال: إنْ إجتمع الضدّان وجبت الصدقة، وإمّا أنْ يكون بسبب الجعل نفسه, كما إذا قال: لو لم يُجعل عليك الصلاة فصلِّ، فإنَّه يستحيل فعلية هذا المجعول, لأنَّه ينتفي موضوع المجعول بنفس هذا الجعل.

وعلى كلا الفرضين يكون الجعل مستهجناً عقلائياً, ولكن عند وجود الغرض في نفس الجعل يصحُّ كما عرفت, والقول بأنَّ هذا ليس غرضاً عقلائياً من الجعل غير سديد, لأنَّه من المناقشة في الصغرى.

وعلى الثاني وهو ما إذا كان الإنتفاء إختيارياً وهو إمّا أنْ يكون الإنتفاء الإختياري بسبب الجعل ومنشأيته له كما إذا كان جعل كفارة الجمع للإفطار العمدي بالحرام مستلزماً لانتفائه خارجاً، فلا إشكال في صحة الجعل بل هو المقصود من الجعل كثيراً.

وإمّا أنْ يكون الإنتفاء الإختياري بدافع طبعي ثابت بقطع النظر عن الجعل، كما إذا جعل الكفارة على تقدير تناول القاذورات مثلاً، فإنَّ الشرط فيه منتفٍ خارجاً بحسب طبعه.

فالجعل وإنْ كان معقولاً وجائزاً في نفسه إلا أنَّه ليس كسائر الأوامر التي تقع في طريق إمتثال المكلف خارجاً, فلا بُدَّ أنْ يكون الجعل في المقام مراداً للمولى لغرض خاص مترتب عليه، ولأجله صلح الجعل.الأمر الخامس: في الأمر بالأمر وهو الشايع المتعارف، وعليه جرى بناء الشارع أيضاً, فإذا أمر المولى شخصاً بأنْ يأمر آخر بشيء فقد وقع البحث في دلالة الأمر بالأمر على وجوب الفعل على المأمور الثاني وعدمه, ويترتب عليه ثمرات كثيرة في الفقه منها الأمر بأمر الصبيان بالصلاة، كقول الإمام الصادق عن أبيه الباقر علیهما السلام : (... فَمُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إِذَا كَانُوا بَنِي سَبْعِ سِنِينَ)(1).

ص: 270


1- . الكافي (ط. الإسلامية)؛ ج3 ص409.

فإنَّه بناء على الوجوب تثبت مشروعية عبادة الصبي وتعلق الغرض بها فتكون مجزية عن الواجب لو صلّاها وبلغ في أثناء الوقت. وتفصيل الكلام فيه يقتضي ذكر الإحتمالات التي يمكن تصويرها في المقام.

لا ريب فيما إذا علمنا من القرائن أنَّ الأمر بالأمر كلاهما مراد للمولى, وهذا خارج عن مورد الكلام.

الأول: أنْ يكون مطلوب المولى هو صدور الفعل عن المأمور الثاني، فيكون أمره للمأمور الأول ليس إلا لمجرد إيصال أمره إلى المأمور الثاني, فيكون المجعول التشريعي بالأمر الأول إنَّما هو طلب الفعل من المأمور الثاني.

الثاني: أنْ يكون المجعول في الأمر بالأمر هو إيجاب أنْ يأمر المأمورُ الأول المأمورَ الثاني لا إيجاب الفعل على المأمور الثاني. فهو أمر طريقي ولكنه يدلُّ بالإلتزام عرفاً على طلب الفعل من المأمور الثاني, وهذا الوجه يرجع إلى الأول أيضاً فلا يختلفان في كون المقصود منهما صدور الفعل من المأمور الثاني وأنَّه بنفس الطلب الأول, إلا في الدلالة المطابقية في الأول والإلتزامية في الثاني ووساطة الإبلاغ والإرسال عند الأنبياء والمرسلين تنطبق على كلِّ واحد من هذين الوجهين.

الثالث: نفس الإحتمال الثاني إلا أنَّ للأمر الثاني موضوعية خاصة فيكون المأمور الأول هو المطلوب، وأمّا صدور الفعل من الثاني فلا يطلبه المولى لولا أمر المأمور الأول, وعليه لا يثبت وجوب الفعل على المأمور الثاني إلا إذا ثبت أنَّ المولى أعطى مقام الولاية والآمرية للمأمور الأول على المأمور الثاني فيجب عليه حينئذٍ لا باعتباره أمراً من المولى الحقيقي إبتداءً بل باعتباره أمراً من المأمور الأول المجعول له الولاية, فلا يثبت الوجوب على الثاني إلا بعد صدوره من الأول.

ص: 271

الرابع: أنْ يكون غرض المولى هو مجموع أمر المأمور الأول وفعل المأمور الثاني, وعليه فلا يجب الفعل على المأمور الثاني قبل أمر الأول، بلا فرق بين أنْ يكون هناك غرض واحد تعلق بمجموع الأمرين أو كان لكلِّ واحد منهما غرض معين.والمنساق من هذه الإحتمالات الأربعة عرفاً هو الأولين، فيكون الأمر بالأمر ظاهراً في إيجاب الفعل على المأمور الثاني إبتداءً, ولو فرض الشكّ في صدور الأمر بالأمر للإيجاب على المأمور الثاني أو لغرض آخر فهو من الشكِّ في أصل الوجوب, والأصل يقتضي البراءة. وإنْ كان الظاهر هو ما ذكرناه، فلا شكَّ حينئذٍ.

الأمر السادس: الأمر بعد الأمر -إذا ورد أمر بشيء ثم ورد أمر به-.

وله حالتان؛ الأولى: فيما إذا كان قبل إمتثاله. والثانية: بعد إمتثاله.

أمّا الحالة الأولى؛ فقد وقع البحث في أنَّه هل يحمل على التأكيد فلا يلزم التكرار, أو على التأسيس فيلزم تكرار الفعل, وهو كثير في النصوص الشرعية, فإنَّ مقتضى المحاورات أنَّ الثاني تأكيد للأول, وموضوع البحث فيما إذا كان المتعلق طبيعة واحدة ولم يذكر لأحدهما أو كليهما سبب وإلا فالظاهر التكرار، وقد وجّه بعض المحققين ذلك بأنَّ إطلاق المادة يقتضي التأكيد, إذ الطلب لا يتعلق بطبيعة واحدة مرتين من دون تقييد, فيكون متعلق الأول عين متعلق الثاني, كما أنَّ إنصراف الهيئة يقتضي التأسيس, فإنَّ الظاهر منها هو الطلب التأسيسي, ومقتضى القاعدة وإنْ كان تقديم الثاني على الأول، لأنَّ ظهور الأول تعليقي والثاني تنجيزي فيرفع موضوع الأول لكن ذلك يتم فيما إذا لم يكن ظهور إنصرافي في التأسيس, وإلا فإنَّ الظاهر في مثله التأكيد لا التأسيس كما عرفت, بل الحقُّ أنَّه لا ظهور إنصرافي للهيئة في التأسيس كما هو واضح.

وأمّا الحالة الثانية فلا إشكال في أنَّه إيجاب آخر لا ربط له بالأول وإنْ كان مثله إلا مع القرينة على الخلاف.

ص: 272

وإذا وصلت النوبة إلى الشكِّ في أنَّه أيّهما تكون الشبهة من الأقل أو الأكثر, فيجزي إمتثال واحد وتجري البراءة عن الأكثر.

الأمر السابع: في نسخ الوجوب فيما إذا وجب شيء ثم نسخ وجوبه بدليل، فهل يدلُّ دليل المنسوخ أو الناسخ على بقاء الجواز أو لا؟.

وتفصيل الكلام فيه يقتضى البحث تارةً من حيث دلالة الدليل؛ إمّا الناسخ أو المنسوخ, وأخرى في إثبات ذلك بالأصل العملي.

أمّا الجهة الأولى؛ فإنَّه يختلف ذلك باختلاف مبانيهم في إثبات الوجوب أو الجواز, فربَّما يثبت الجواز على بعض تلك المباني, ولكن المشهور المعروف بينهم عدم إمكان إثبات الجواز مطلقاً لا بدليل الناسخ ولا بدليل المنسوخ.

وتفصيل الكلام في المباني المذكورة:

الأول: عدم ثبوت الجواز مطلقاً لا من دليل الناسخ؛ لأنَّه لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت وهو الوجوب من دون تعرض له إلى الجواز, فعدم دلالته عليه واضح جداً. ولا من الدليل المنسوخ الذي دلَّ على الوجوب، فإذا التزمنا بأنَّ الوجوب أمر بسيط لا تركب في حقيقته فلا يدلُّ أيضاً على الجواز كما هو واضح,لأنَّ ما كان يدلُّ عليه -وهو الوجوب- قد ارتفع حسب الفرض، فلا دلالة له على غيره أبداً. وهذا هو المشهور بين المحققين.

الثاني: إثبات الجواز بالمدلول الإلتزامي للدليل المنسوخ؛ فإنَّه كما يدلُّ على الوجوب بالمطابقة، يدلُّ على نفي الحرمة بالإلتزام، وبعد ورود دليل الناسخ فإنَّ المدلول المطابقي يسقط عن الحجية ويبقى المدلول الإلتزامي على حجيته في نفي الحرمة, وبذلك يثبت الجواز بالمعنى الأخص.

ص: 273

وأشكل عليه بأنَّ الدليل المنسوخ له أربع دلالات إلتزامية لا واحدة, وهي الدلالة على نفي الكراهة، والدلالة على نفي الإستحباب، والدلالة على نفي الإباحة, فإنّ ثبوت الوجوب يستلزم انتفاء الأحكام الأخرى طُراً, فإذا ورد دليل الناسخ وإنتفى الوجوب به يقع التعارض بين الدلالات الإلتزامية الأربع, فتسقط بالمعارضة بعد عدم إمكان صدقها جميعاً.

وقيل: إنَّ الإباحة بالمعنى الأخص ليست منفية بدليل الوجوب المنسوخ إلتزامياً, بل منفية به بالمطابقة, لأنَّ الإباحة كذلك تثبت بانتفاء الأحكام الأربعة الأخرى, وإنَّ دليل المنسوخ يدلُّ على إنتفاء الإستحباب والكراهة والحرمة بالإلتزام ولا يدلُّ على نفي الإباحة إلا بنفس إثبات الوجوب، فإذا نفى دليل الناسخ الوجوب الذي هو المدلول المطابقي فيكون هذا النفي منضّماً إلى نفي الدلالات الإلتزامية الأخرى في الدليل المنسوخ, فينتج الإباحة بالمعنى الأخص لا محالة.

وفيه: إنَّ الإباحة بالمعنى الأخص كغيرها من الأحكام الأخرى؛ تنتفي بدليل الوجوب في عرض واحد بالدلالة الإلتزامية, فإذا ورد دليل الناسخ ورفع الوجوب لا تعود تلك الأحكام المنفية إلا بدليل, والمفروض عدم ثبوته لا في دليل الناسخ ولا في غيره.

الثالث: إثبات الجواز بالدلالة التضمنية بعد سقوط المطابقية, وذلك لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: بناءً على أنَّ الوجوب مركب من طلب الفعل والمنع من الترك؛ فإنَّ دليل المنسوخ يدلُّ بالمطابقة على المنع من الترك. وتبقى الدلالة التضمنية على حالها على أصل الطلب وهو الجواز بالمعنى الأعم، لعدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية.

وفيه:

أولاً: إنكار التركب في الوجوب, فإنَّه أمر بسيط، والتعبير بالمضمون المركب في بعض العبارات إنَّما هو تعبير بالملازمة.

ص: 274

ثانياً: إنكار عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية؛ كما سيأتي في بحوث العام والخاص والتعارض.

وخلاصة ما سيأتي أنَّ عدم التبعية بينهما في الحجية إنَّما يكون في المركبات الإعتبارية التي يكون لكلِّ جزء منها وجود مستقل عن وجود الآخر, نظير الدار دون المركبات الحقيقية التحليلية التي ليس لها إلا وجود واحد بسيط, وذلك لأنَّإنتفاء وجود المركب الإعتباري لا يساوق إنتفاء وجود أجزائه لفرض إستقلالية وجودها, فيمكن أنْ يقال ببقاء دلالة الدليل على وجود الجزء بالتضمن، أمّا المركب التحليلي الحقيقي الذي يكون له وجود واحد فإنَّ إنتفائه يساوق إنتفاء وجود أجزائه لفرض أنَّ الوجود واحد فقط, لأنَّ الدلالة التضمنية فيها تكشف عن ثبوت الجزء ووجوده تبعاً لوجود الكلّ وكشفه عنه، والمفروض أنَّه لا وجود للجزء بنفسه حتى يكون مدلولاً للكلام.

نعم؛ هناك دلالة تصورية على مفهوم الجزء في كِلا المقامين ولكنه لا ينفع, فإنَّ المقصود ثبوت الجزء ووجوده, وقد عرفت أنْ لا دلالة تضمنية عليه في المركب الحقيقي التحليلي لعدم وجود الجزء مستقلاً.

والمقام من هذا القبيل؛ إذ لا يقول أحد بأنَّ الوجوب مركب من أمرين مستقلين وإنشائين متعددين بحيث يكون لكلِّ واحد منهما وجود مستقلّ.

الوجه الثاني: بناءً على أنَّ الوجوب عبارة عن الإرادة الشديدة, ودليل الناسخ يرفع المرتبة الشديدة ويبقى أصل الطلب ولو بمرتبة ضعيفة, فيثبت بالدليل المنسوخ وهو الجواز بالمعنى الأعم.

والحقُّ عدم ثبوت هذا البناء كما حُقق في محلِّه.

ص: 275

الوجه الثالث: بناءً على أنَّ الوجوب ليس مدلولاً للَّفظ, وإنَّما هو بحكم العقل المنتزع من طلب العقل وعدم الترخيص في الترك كما إختاره المحقق النائيني قدس سره , فإنَّه بناءً عليه يتعين إثبات الجواز بالمعنى الأعم, لأنَّ دليل الناسخ لا ينفي الطلب الذي هو مدلول الدليل المنسوخ, ولكن عرفت تفصيل الكلام في هذا المسلك فيما تقدم من بحوث دلالة الأمر على الوجوب؛ فراجع.

وعلى فرضه فإنَّ الوجوب أمر بسيط وليس مركباً سواء كان بحكم العقل أو من مدلول اللفظ, اللهم إلا أنْ يكون المراد إثبات الوجوب بالتبع وإنْ لم يكن مجعولاً شرعياً, بمعنى إنتزاع العقل له من مجموع الأمرين؛ طلب الفعل وعدم ورود الترخيص في الترك, فيرجع حينئذٍ إلى أحد الوجوه السابقة.

والحاصل: لا دليل على ثبوت الجواز مطلقاً, فلا بُدَّ في إثباته من عناية زائدة في دليل الناسخ لإثبات الجواز مطلقاً بالمعنى الأعم أو الأخص, وإلا فلا يمكن إثبات ذلك؛ كما عرفت في أول البحث.

وقد يربط المقام بالمسألة الفلسفية المعروفة من أنَّ النوع إذا إنتفى بانتفاء فصله فهل يبقى الجنس الذي تضمنه الفصل ولو كان في ضمن نوع آخر أو لا؟ فعلى الأول يبقى الجواز الذي هو بمنزلة الجنس للوجوب فيما إذا إرتفع ما يكون بمنزلة الفصل, وهو المنع من الترك.

وقد أشكل عليه من أنَّه لا ربط بين البحثين المذكورين, وذلك لأنَّ الأحكام من الأمور الإعتبارية, وهي بسائط وليست مركبة من مادة وصورة فضلاً عنالجنس والفصل, كما أنَّه لا يتمُّ إذا قلنا بأنَّ الوجوب إنَّما يثبت بحكم العقل لا بالدلالة اللفظية, مضافاً إلى أنَّ البحث المذكور ثبوتي من إمكان بقاء الجنس بعد إنتفاء الفصل وزواله وعدمه, بينما البحث في المقام إثباتي في أنَّ الدليل المنسوخ هل يدلُّ على بقاء الجواز أم لا.

ص: 276

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ ظاهرهم هو الرجوع إلى المدلول التضمني للدليل المنسوخ في إثبات الجواز, لكن بعنوان بقاء الجنس ولو في ضمن نوع آخر عند إنتفاء فصله, وقد عرفت الجواب عنه بأنَّه لا تبقى الدلالة التضمنية, مع أنَّه قد ثبت في محلِّه بأنَّه لا وجه لبقاء الجنس خارجاً مع زوال فصله.

وإنَّ إرتباط البحثين يصحُّ بنا على ما ذكرنا من أنَّ الإستدلال بما ذكره المشهور في المقام بتلك المسألة الفلسفية لأجل إدراجها في الدلالة التضمنية؛ وقد تقدم الكلام فيها.

كما أنَّه يمكن إدراجه أيضاً في الدلالة العرفية والتمسك بالعرف إنْ تحقق ذلك باعتبار أنَّ الجنس والفصل بنظرهم يرجع إلى المدلول التضمني والمطابقي, فيكون البحث إثباتياً في كِلا البحثين كما هو واضح.

هذا كلُّه ما يتعلق بالجهة الأولى.

الجهة الثانية(1): بعد أنْ لم يثبت الدليل على بقاء الجواز فقد يتمسك بالأصل الحكمي في إثبات الإباحة بأصالتها, والظاهر أنَّه لا مانع من جريانها بعد رفع الوجوب والشكّ في ثبوت حكم آخر مقامه. وأمّا الأصل الموضوعي وهو إستصحاب أصل الجواز لليقين به سابقاً والشكُّ به لاحقاً بعد العلم بارتفاع الوجوب؛ فقد ناقش فيه جمع من الأصوليين:

أولاً: إنَّه من إستصحاب القسم الثالث من إستصحاب الكلي الذي ضابطه الشكّ في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد وسببه الشكّ في حدوث فردٍ آخر مقارن لارتفاع الفرد السابق؛ وسيأتي بطلانه وعدم جريانه وإنْ إستثنوا منه ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه لم يكن مغايراً للفرد الأول بنظر العرف, بحيث يُعدُّ عندهم من تغيّر الحالات لا من تعدد الأفراد, كما في الشكِّ في بقاء كلي السواد الموجود سابقاً ضمن مرتبة قوية منه للشكِّ في بقاء ذلك الفرد في ضمن مرتبة ضعيفة, فإنَّه لا مانع من جريان الإستصحاب هنا.

ص: 277


1- . في مقتضى الأصل العملي.

وفي المقام الجواز بالمعنى الأعم المعلوم ثبوته سابقاً كان في ضمن الوجوب، والذي يحتمل بقاؤه بعد نسخ الوجوب وارتفاعه هو الجواز في ضمن فرد آخر, وهو إمّا الإباحة أو الإستحباب أو الكراهة.

وأشكل عليه بعض الأعلام وقال: إذا كان المراد بالجواز بالمعنى الأعم عدم الحرمة يجري فيه الإستصحاب الشخصي, لأنَّ عدم الحرمة كان معلوماً سابقاً ويحتمل بقاؤه فيستصحب.نعم؛ هو مقترن مع الوجوب سابقاً ولكنه لا يجعله متغيراً بل هو شخص ذلك العدم، والأعدام لا تتعدد باختلاف مقارناتها, ويترتب عليه الأثر وهو التأمين من العقاب.

وإذا كان المراد من الجواز بالمعنى الأعمّ غير ذلك المعنى, بحيث يفترض جامعاً بين الأحكام الأربعة غير الحرمة فهو أمر لم يتعقل ولا يترتب عليه أثر عملي(1).

ويمكن الإيراد عليه بأنَّ إقتران عدم الحرمة(2) بالوجوب يجعله مختلفاً عن غيره عقلاً وعُرفاً، وليس هو شخص ذلك العدم, فإنَّ الوجوب عنوان ثبوتي إقترن به عدم الحرمة بحيث يُعدُّ عند العرف واحداً, وبعد النسخ إرتفع الوجوب المقترن بعدم الحرمة, ونشكُّ بعد ذلك في ثبوت الجواز بالمعنى الأعم الكلي في فرد آخر, فيعود الإشكال من جديد.

وأمّا الجواز بالمعنى الأعمّ الآخر فهو أمر معقول وهو معروف عند العلماء, ولكن جريان الإستصحاب فيه مبنيٌّ على كون الوجوب والإستحباب فردان من أصل الجواز الجامع الكلي ولا يختلفان إلا في المرتبة, فإذا شكَّ في بقاء الجواز في الإستحباب بعد إرتفاع الوجوب صحَّ إستصحاب الكلي.

ص: 278


1- . بحوث في علم الأصول؛ ج1 ص289.
2- . الذي هو الجواز بالمعنى الأعم.

وقد أشكل عليه المحقق الخراساني قدس سره (1) بأنَّ الإختلاف بين الوجوب والإستحباب وإنْ كانا من حيث المرتبة إلا أنَّ العرف يرى بأنَّهما فردان متغايران, والحكم في باب الإستصحاب هو نظر العرف لا النظر الدقِّي.

والحَقُّ أنْ يُقال بأنّ الوجوب والإستحباب أمران إعتباريان مجعولان من قبل الشارع, فهما متباينان وليس الإختلاف بينهما في الشدة والضعف، اللهم إلا أنْ يراد بهما الإرادة التشريعية المتعلقة بهما, فإنَّ الإختلاف بينهما حينئذٍ يكون من حيث الشدَّة والضعف ولا تغاير بينهما في نظر العرف, ولكن ذلك لا يعني جريان الإستصحاب, لأنّ الإرادة ليست من المجعولات الشرعية, كما أنَّها ليست موضوعاً لحكم شرعي, فلا يجري الإستصحاب منها ولا يترتب عليه أثر شرعي؛ وسيأتي توضيح ذلك.

ثانياً: إنَّه من الإستصحاب في الشبهة الحكمية وهو غير جارٍ.

وفيه: إنَّه غير صحيح؛ فإنَّ الإستصحاب كما يجري في الشبهات الموضوعية يجري أيضاً في الشبهات الحكمية, وسيأتي إثبات ذلك؛ مع أنَّه لو فرض التنزل فإنَّ الذي لا يجري هو إستصحاب الحكم الإلزامي لا إستصحاب عدم الحكم؛ وهو الترخيص والجواز.

وقد يتمسك لإثبات الإباحة باستصحاب أصل الطلب.ويرد عليه:

1- إنَّ الوجوب أمر بسيط لا تركب فيه كما تقدم سابقاً.

2- إنَّ وجود الطلب في ضمن الوجوب إنَّما هو على سبيل التضمن والوجود التحليلي, فيكون جريان الإستصحاب فيه من القسم الثالث من الكلي؛ إلا على مسلك المحقق النائيني من أنَّ الوجوب بحكم العقل استصحاب الطلب فيه من استصحاب

ص: 279


1- . كفاية الأصول؛ ص140.

الشخص, فإذا ارتفع الوجوب بدليل الناسخ فإنَّه يمكن القول ببقاء شخص ذلك الطلب فيصحُّ إستصحابه، ولكن عرفت ما فيه.

والحاصل: إنَّه لا يمكن إثبات الجواز بالأصل الموضوعي, وهو إستصحاب الإباحة والجواز, وإنْ أمكن إثباتها بالأصل الحكمي والرجوع إلى أصالة الإباحة.

الأمر الثامن(1): وهو يرجع إلى كيفيات تعلق الأمر, وهو بحث تعلق الحكم بالطبيعة أو الأفراد وقد إختلفوا في صياغته, لأنَّ هذا البحث قد أوقع الأصوليين في إشكالات, ولذا إختلفت تفسيراتهم, ونحن نذكر بعض الوجوه التي ذكروها:

منها: ما ذكره بعض الأعاظم من أنَّ الواجبات الشرعية إنَّما يجب فيها فرد على سبيل البدل وبنحو التخيير, فإذا قلنا بأنَّ الأوامر تتعلق بالطبائع يكون التخيير عقلياً, إذ لا يكون كلُّ فرد من الأفراد مأموراً بها بعنوانه، فإنَّ هناك حكماً واحداً يتعلق بالطبيعة التي

تكون نسبتها إلى الأفراد على حدٍّ واحد والترديد فيما بينها عقلي، وهذا هو المراد بالتخيير العقلي في باب الأحكام.

وأمّا إذا قلنا بتعلق الأوامر بالأفراد فإنَّه بناءً عليه ينحلُّ الحكم إلى أحكام عديدة بتعدد الأفراد ولكن على سبيل البدل, وهذا هو التخيير الشرعي في المقام, فمن يقول بتعلق الحكم بالأفراد ينفي به التخيير العقلي في المقام.

واستبعد المحقق النائيني قدس سره أنْ يكون التخيير الشرعي هو مقصود الأصوليين القدماء، إذ التخيير العقلي لا محذور فيه وهو مسلّم عند الجميع(2), وذلك لأنَّ الحكم إذا قلنا بأنَّه يتعلق بالأفراد والحصص على سبيل البدل, فإنَّ العنوان المأخوذ في الحكم لا

ص: 280


1- .من الأمور الختامية.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص210.

يمكن أنْ يتعلق بالأفراد الخارجية لأنَّه من تحصيل الحاصل, فلا بُدَّ أنْ يكون متعلق الأمر مفهوماً كلياً لا عنواناً مشيراً إلى الواقع الخارجي الذي هو مفروغ عنه, فيتعين أنْ يكون المتعلق مفهوماً كلياً مهما ورد عليه من القيود والحدود, فإنَّه لم يتشخص ما لم يفرغ عن وجوده.

يضاف إليه أنَّ القول بالتخيير الشرعي يستلزم تقدير كلمة (أو) بالنسبة إلى كلِّ فرد، والمفروض أنَّ أفراد الطبيعة لا نهاية لها فيمتنع التقدير.ومنها: ربط هذا البحث بالمسألة الفلسفية المعروفة؛ من أنَّ لمعروض الوجود والإيجاد الخارجي هو الماهية الشخصية، أو ذات الماهية والطبيعية، والتشخص إنَّما يكون بالوجود نفسه.

فإنْ قلنا بالأُولى يلزم أنْ يكون الحكم متعلقاً بالفرد لا الطبيعة، لأنَّ الإرادة التكوينية دائماً تتعلق بإيجاد الماهية الشخصية، والإرادة التشريعية مثلها من هذه الجهة.

وإنْ قلنا بالثاني فإنَّ الإرادة التكوينية متعلقة بها لا محالة, فلا بُدَّ أنْ تكون متعلق الإرادة التشريعية الطبيعية.

وذهب إلى ذلك المحقق النائيني قدس سره وادَّعى الوجدان على ذلك, وإنَّ متعلق الإرادة في أفق النفس ليس إلا ذات الطبيعة, والإرادة التشريعية على حدِّ الإرادة التكوينية, فيكون متعلقها الطبيعة, وفرّع عليه ثمرة عملية مهمة وهي: إنَّه بناءً على القول بتعلق الأمر بالطبائع يصحُّ إجتماع الأمر والنهي ويكون من الواضحات, فإنَّ متعلق الأمر طبيعة ومتعلق النهي طبيعة أخرى, وإنْ تصادقا في واحد فيكون نسبة كلّ واحد من الكليين في مورد الإجتماع إلى الآخر من قبيل المشخص وهو خارج عن دائرة الحكم, بخلاف ما إذا قلنا بتعلق الحكم بالماهية المشخصة فلا يمكن إجتماع الأمر والنهي، فإنَّهما وإنْ كانا

ص: 281

عنوانين متغايرين مفهوماً غير أنَّ كلَّ واحدٍ منهما من مشخصات الأمر، فيتحقق إتّحاد متعلقهما؛ وهو مستحيل, وسيظهر ما فيه من الإشكال وأنَّه لا ربط بين المقام والمسألة الفلسفية ولا ضرورة لمن يقول بأنَّ الوجود يعرض على الماهية المشخصة أنْ يقول بلزوم تعلق الإرادة التشريعية بالماهية المشخصة, فإنَّ المبرر في تعلق الأمر بالطبيعة أو عدم تعلقها هو قدرة المكلف وعدمها بحيث يكون تكليفاً بغير المقدور.

ومنها: ما ذكره المحقق الإصفهاني قدس سره من أنَّ البحث المذكور يرتبط بالمسألة الفلسفية المعروفة لوجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده، فعلى القول بوجوده يكون تعلق الحكم به أيضاً معقولاً, وكذا على القول بعدم وجوده في الخارج إذ الموجود في الخارج الفرد لا يمكن تعلق الحكم به لأنَّه تكليف بغير المقدور فإنَّه من تحصيل الحاصل.

وهذا الوجه مشترك مع ما أفاده المحقق النائيني قدس سره في ربط المسألة بالمسألة الفلسفية وإنْ إختلفا في توجيه تأثير تلك المسألة في المقام ووجه إستلزام القولين هنا للقولين هناك.

ويرد عليه بأنَّ النزاع حول وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده إنَّما هو في الوجود بالذات لا في مطلق الوجود ولو بالعرض, والطبيعي له هذا النوع من الوجود بالعرض، ولذا يصحُّ حمل الطبيعي على الوجود الخارجي بالحمل الشايعفيقال: (زيد إنسان) ولولا الإتّحاد لما صحَّ الحمل, فهو يكشف عن إتّحاد الكلي مع الفرد الخارجي وهو يكفي لتعلق الأمر والإرادة التشريعية, ويطلب إيجادها ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور.

ومنها: إنَّه لا ريب أنَّ متعلق الإلزام فعلاً أو تركاً لا بُدَّ أنْ يكون مرآة إلى الخارج, لأنَّ التحقق الخارجي هو المراد والمطلوب لكلِّ أحد والشارع لا يخالف طريقة العقلاء, وهذا هو أحسن الوجوه وأقربها إلى الذوق العرفي, ويمكن إرجاع غيره إليه ويكون مورد الإتّفاق.

ص: 282

نعم؛ الإختلاف في أنَّه مع قطع النظر عن الخصوصيات والمشخصات التي يعبّر عنها بالطبيعة، أو مع إعتبارها مرآة إلى الخصوصية الخارجية؛ ويعبّر عنه بالفرد.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ الطبيعة من حيث هي لا يمكن أنْ تكون مورد الطلب ولا يتعلق بها غرض عند العقلاء، بل هي فرض يختَّص بالعلوم العقلية كالمنطق والحكمة، كما أنَّه ليس المراد بالفرد ما هو المتحقق خارجاً بعد تحققه لكونه مسقطاً للطلب, فيكون طلبه من تحصيل الحاصل ولا يصحُّ أنْ يقع مورد الطلب بل التحقق الخارجي يكون طريقاً ومرآةً لتعلق الطلب بالطبيعة, ولعلّ السرّ في هذا البحث الذي يتَّضح الأمر فيه يرجع إلى متعلق الإلزام الذي لا بُدَّ أنْ يكون فيه السعة واللزوم على كلِّ الإحتمالات؛ فإنْ قلنا بأنَّ متعلقه الأفراد فيكون التوسع والسريان إمّا في دائرة ترجع إلى أنَّ القول بكون تعلق الإلزام بالأفراد يرجع إلى السريان والتوسع وإمّا في دائرة التطبيق بلحاظ الضمائم الكثيرة مثل اللون والطول والعرض والكون في مكان معين أو زمان معين وغير ذلك التي تقترن مع الطبيعة عند تطبيقها في عالم الوجود, أو يكون متعلق التوسعة هو السريان بحسب عالم الجعل أو بحسب عالم الحبُّ الذي هو روح الأمر والتكليف فيسري الحبُّ والجعل إلى جمع تلك الضمائم مِمّا تحتاجُ إليها الصلاة مثلاً؛ كأن تكون في مكان ما أو زمان ما, فإذا لم يكن تعقل السريان بحسب التكليف وإنْ كان ممكناً بحسب الحب وروح التكليف والأثر المترتب على ذلك أنَّ جميع تلك الضمائم والعوارض تكون مورد الحب, ويقابل ذلك القولَ القولُ بتعلق الأمر بالطبيعة بمعنى عدم سريان الأمر إلى الضمائم لا بحسب التطبيق ولا بحسب الجعل بروحه أي الحب.

أمّا بحسب الجعل فإنَّ الجعل تابع للملاك, وهو يتعلق بالطبيعة من حيث هي مع قطع النظر عن الضمائم, وقد ذكرنا أنَّه مجرد فرض ولا يتعلق به غرض العقلاء, فلا بُدَّ أنْ

ص: 283

تلاحظ على سبيل المرآتية إلى الأفراد, وأمّا الحب فلا يسري إليهما إلا على سبيل الملازمة, وهي لا تكفي إلا إذا كانت وحدة بين المتلازمين في الحكم.وأمّا بحسب التطبيق فلأنَّ ما تنطبق عليه الماهية هي الحصة، وأمّا العوارض فإنَّ كلَّ واحد منها مطابق لماهية أخرى, فلا معنى للسريان فيها, لكنه يمكن القول بها على سبيل المرآتية.

والأثر العملي الذي يترتب على القولين أنَّه لا بأس باجتماع الأمر والنهي بناءً على القول بالطبيعة, لأنَّ الكون في المكان المغصوب مثلاً من العوارض لماهية الصلاة ولا يلزم من ذلك إجتماع الضدين في مورد واحد، بخلاف القول بأنَّ الأمر يتعلق بالأفراد, فإنَّ الكون في المكان صار مصداقاً للواجب أو للمحبوب فيلزم الإجتماع.

ولكن عرفت أنَّ القول بالطبيعة يلزمه القول بأنَّ الطبيعة هي مرآة الأفراد، والقول بالتعلق بالأفراد ليس المراد منه الأفراد بعد تحققها بل هي بما أنَّها مرآة وطريق لتعلق الطلب بالطبيعة.

وأمّا الثمرة فسيأتي الكلام فيها في مبحث إجتماع الأمر والنهي, وهذا البحث من البحوث التي لا ثمرة عملية أو علمية فيها.

وبهذا ننهي مباحث الأوامر بناءً على تقسيم السيد الوالد قدس سره التي كان القسم الأول من مباحث الألفاظ وندخل في القسم الثاني وهو الذي يبحث عن النواهي.

ص: 284

الفصل الثاني النواهي

اشارة

الفصل الثاني(1)

والبحث فيها يقع في مباحث:

المبحث الأول: في دلالات صيغة النهي

والبحث فيها من جهات:

الجهة الأولى: إختلف الأصوليون في مدلول صيغة النهي؛ فالمشهور بين القدماء أنَّ مفاد صيغة النهي هو الطلب كمفاد الأمر وإنْ إختلفوا في متعلقه؛ فذكر بعضهم أنَّه طلب ترك الفعل، وآخر أنَّه الكفُّ عن الفعل, وهو أمر إيجابي باعتبار أنَّ العدم والترك وعدم الفعل خارج قدرة المكلف, لأنَّه ليس معلولاً حتى في مرحلة البقاء, وهو أزلي فيستحيل تعلق الطلب به وإنْ كان ذلك موهون جداً, فإنَّ العدم وإنْ كان أزلياً لكن العدم المضاف يكون تحت الإختيار فلا ينافي ذلك قابلية ذلك لوقوعه متعلقاً للطب والإرادة باعتبار مرحلة البقاء, وغير ذلك مِمّا ذكروه في بيان مفادها.

ولكن ذهب جمهور المحققين المتأخرين من الأصوليين إلى إختلاف المفادين ذاتاً, فإنَّ كلاً منهما يدلُّ على معنىً مغاير ومباين للآخر, واختلفوا أيضاً في بيان متعلق النهي بناءً على هذا الرأي على وجوه:

الوجه الأول: إنَّه يدلُّ على الزجر والتبعيد عن الطبيعة بخلاف الأمر الذي يدلُّ على البعث نحوها والتحريك اليها.

وأُشكل عليه بأنَّه إنْ أُريد من التحريك والزجر التكوينيان الخارجيان فهو ليس مدلول الأمر والنهي كما هو واضح, وإنْ أُريد منهما التشريعيّان فهما يحصلان بنفس الأمر والنهي,

ص: 285


1- .من أقسام مباحث الألفاظ.

فإنَّ وجوديهما الواقعيين مصداقان للتحريك والزجر لا بمدلوليهما, فلا بُدَّ أنْ يكون مدلولهما شيء آخر غير التحريك والزجر.

وفيه: إنَّ ذلك مخالف لما ذكرناه في حقيقة الوضع في مادة الأمر والنهي وهيئتهما؛ فإنَّ مدلول الأولى معنى إسمي, ومدلول الثانية النسبة الإرسالية التحريكية في الأمر والنسبة الزجرية التعبدية أو أنَّه إعتبار خاص, وكلتا النسبتين يراد منهما الإرسال والزجر الخارجيين التكوينيين لا التشريعيين. نعم؛ قد يتمُّ بناءً على رأيه في الوضع من أنَّه منشأ الدلالة التصديقية الموجودة في الجملة التامة, ولكن عرفت بطلان مبناه؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: إنَّ النهي يدلُّ على اعتبار حرمان المكلف عن الفعل وابتعاده عنه, لا اعتبار تركه على ذمته, كما أنَّ الأمر يدلُّ على وضع الفعل واعتباره في ذمة العبد, والشاهد على ذلك أنَّه بناءً على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها -كما عليه العدلية- فالأمر يتبع مصلحة في الفعل فيناسب إعتبار الفعلفي ذمة المكلف, والنهي يتبع مفسدة في الفعل فيكون هو مركز البغض فيناسب إعتبار حرمان المكلف منه.

وفيه: إنَّ الإنشاء لم يجعل إعتباراً في ذمة العبد؛ سواءً كان أمراً أو نهياً وإنْ كان هو من الإعتباريات, كما تقدم مكرراً فإنَّه يفترض أنْ يكون وعاءً وذمةً وعهدةً للمكلف وهي وإنْ كانت مقررة وثابتة لكنها لا تلائم الدلالات الوضعية, وعلى فرض كونه قد جعل الإعتبار فهو لا يختَّص باعتبار حرمان المكلف من الحصول على المصلحة والغرض, فإنَّ الغرض يحصل أيضاً في اعتبار الترك في ذمته ويفيد أيضاً نفس الفائدة وكون ما ذكره يناسب قانون تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد غيرُ سديد, فإنَّ الوضع وشؤونه بعيد عن مثل هذه الأحكام الفلسفية, ومن ثم يتعين أنَّ الواضع قد لاحظها حين الوضع وإنْ لم يغفل عنها.

ص: 286

الوجه الثالث: التفريق بين مفاد صيغة الأمر ومفاد صيغة النهي كما يقتضيه الوجدان؛ فإنَّ صيغة إفعل غير ما يفهم من صيغة لا تفعل, وبينهما إختلاف ذاتي لا بحسب المتعلق فقط كما عليه القدماء.

وإستدلَّ عليه بأنَّه بناءً على كون مفاد الصيغتين متباينتين فلا حاجة إلى إفتراض شيء وراء المعنى الحرفي للهيئة والمعنى إلاسمي للمادة في إستفادة مفاد الأمر والنهي كاملاً؛ فيكون مدلول الأمر هو الإرسال والتحريك نحو الفعل, أي النسبة الإرسالية. ومدلول النهي هو الزجر والمنع من الفعل, أي النسبة الزجرية. وأمّا إذا أخذنا بنظر القدماء وقلنا باتّحاد المفادين فيهما فإنَّه نحتاج إلى توسيط معنىً آخر غير مفاد الهيئة والمادة في مفاد النهي, لأنَّ الطلب والنسبة الطلبية إنْ تعلقت بالمادة فهذا خلف المقصود من النهي أو يتعلق بتركها, فهو يستلزم إدخال عنصر الترك الذي يكون مدلولاً للمادة فإنَّه على الفرض هو الطبيعة بما أنَّها مرآة لما يوجد من أفرادها لا لتركها.

ولاجل هذا لا بُدَّ لأصحاب هذا الرأي إمّا الإلتزام بدالٍّ ثالث وراء الهيئة والمادة يدلُّ على هذا العنصر الغريب؛ وهو خلف, أو أنْ يأخذونه في مدلول أحد الدالَّين؛ فإنْ كان في المادة فهو يستلزم التجوز, وهو خلاف الوجدان في النواهي والأوامر. وإنْ أُخذ في طرف الهيئة فهو خلاف الأوضاع اللغوية, لأنَّ الهيئة معنى نسبي والترك معنى إسمي ليكون طرفاً للنسبة وهو غير معهود في حالة المعنى الحرفي أنْ يكون دالاً على النسبة وطرفها معاً, وعلى فرض الدلالة فإنَّه نحتاج إلى نسبة أخرى بين الترك الإسمي المدلول عليها بالهيئة وبين المادة وهي الطبيعة وهي نسبة الإضافة لأنَّ المطلوب ترك المادة لا مطلق الترك, ولا دالَّ على هذه النسبة الثابتة أيضاً.

ويرد عليه: إنَّ ما ذكره تبعيد للمسافة وإقحام إحتمالات عقلية في عملية الوضع كما إعترف به نفسه, فإنَّه ليس إلا وضع للهيئة أو وضع للمادة ولا حاجة إلى عنصر ثالث

ص: 287

أبداً, مع أنَّ الترك هو من اللوزام القريبة المدلول عليها بالمادة أوالهيئة للزجر والمنع من الفعل, أي النسبة الزجرية, فإنَّه حتى على إتّحاد مفاد الصيغتين يكون الترك والزجر والمنع متلازمات عند العرف وإنْ أمكن التفكيك عقلاً, ومن ذلك يظهر أنَّ الإلتزام باعتبار الترك عنصراً لا يستلزم أنْ يكون هناك دالٌّ ثالث لمكان التلازم العرفي بين الزجر النفسي والترك الفعلي؛ مِمّا يدلُّ أحدهما على الآخر, كما أنَّه يمكن أنْ يؤخذ في الهيئة لأنَّ الترك الملازم للزجر والنسبة الزجرية لا يصيره معنى إسمي بكلِّ معنى الكلمة.

فالحَقُّ أنْ يُقال: إنَّه لا ريب في أنَّ النهي يكشف عن الكراهة النفسانية, كما أنَّ الأمر يكشف عن الرغبة إلى الشيء المأمور به, وإنَّما الخلاف في أنَّ المبرز عن الأول هو طلب الترك أو طلب كفّ المكلف نفسه عن الشيء المنهي عنه أو ردعه وزجره, كما أنَّ الأمر هو تحريضه وحثّه وحمله عليه.

والمنصرف إلى الأذهان هو الأخير؛ أي أنَّ المبرز لتلك الكراهة النفسانية عند النهي عن الشيء هو الزجر وإيقاف المكلف عن إتيانه, وذلك لأنَّ الزجر والإيقاف إمّا أنْ يكون خارجياً مثل الحبس والضرب ونحو ذلك؛ وهذا غير متحقق في النهي وجداناً, وإمّا أنْ يكون إعتبارياً؛ فهو إنَّما يتحقق في ضمن النهي المتعارف عند الناس, والأدلة الشرعية منزلة عليه فيكون متعلق النهي هو الزجر والإيقاف الإعتباري, ويدلُّ عليه ما ذكرنا من أنَّه إذا عرض على مكلف خالي الذهن عن تلك الوجوه كالمناقشات العلمية ينصرف ذهنه عند سماع النهي من المولى إلى الزجر عن المنهي عنه وإيقافه عن إتيانه, ويمكن إرجاع ما ذكره القدماء والمتأخرين إليه, فإنَّ من اللوازم العرفية للزجر والردع والإيقاف الإعتباري هو ترك الفعل وكفُّ النفس وحرمان المكلف, وهذا أمر عادي في تعاريفهم ولا يحتاج البحث إلى أكثر من ذلك بعد وضوح المراد عرفاً وفساد ما ذكروه, ومنه يظهر الإختلاف الذاتي بين مفاد النهي ومفاد الأمر لا بحسب المتعلق فقط.

ص: 288

ثمَّ إنَّ النهي في مقام الثبوت يمكن أنْ يقع على أنحاء:

النحو الأول: أنْ يتعلق النهي بعدم الطبيعة مقابل الأمر الذي يتعلق بصرف الوجود غاية الأمر أنَّ صرف الوجود يتحقق بامتثالٍ واحد, أمّا عدم الطبيعة فلا يتحقق إلا بإعدام جميع أفراد الطبيعة, والسرُّ واضح؛ فإنَّ الوجود متحقق من ضمن فرد واحد، بينما إنعدام الطبيعة لا يمكن أنْ يقع إلا بإعدام جميع أفرادها ولذا لو أتى بفرد واحد منها عصى النهي.

النحو الثاني: أنْ يتعلق النهي باعتبار سرايته إلى جميع وجودات الطبيعة بحيث يكون الشمول إستغراقياً فيكون كلُّ فرد من الأفراد موضوعاً مستقلاً فتكون نواهي متعددة حسب تعدد الأفراد بلا فرق بين الأفراد الطولية أو العرضية، سواءٌ كانت الطولية بحسب الزمان أو كانت بحسب العلية والمعلولية، وهذا المعنى هوالمسمى بالمقام الإستغراقي الأصولي الذي يكون لكلِّ فرد إمتثال وعصيان مستقلّ لا يرتبط بامتثال وعصيان الأفراد الأخرى.

النحو الثالث: أنْ يكون النهي متعلقاً بجميع الأفراد؛ بحيث لو إرتكب بعضها لم يخالف النهي, نعم؛ إرتكاب الجميع يكون مبغوضاً ومنهياً كما إذا قال المولى لا تأكل جميع الطعام الموجود؛ كلْ رمانه في هذا إلاناء. فالمنهي عنه هو الجميع, أمّا أكل البعض فلا محذور منه.

النحو الرابع: أنْ يكون النهي متعلقاً بعنوان بسيط ووصف ينتزع من ممارسة الفعل المنهي عنه كعنوان المدخن وشارب الدخان المنتزع عن ممارسة التدخين, فيكون المقصود من قول المولى لا تشرب الدخان أي لا تكن مِمَّن يتعود شربه, فلو شرب مرة أو اكثر مِمّا لا يوجب تعوده وحدوث هذه الصفة لم يخالف النهي.

هذه هي الأقسام في مرحلة الثبوت.

أمّا في مقام الإثبات فسيأتي البحث عنه في الجهات الآتية إنْ شاء الله تعالى.

ص: 289

الجهة الثانية(1): هل المستفاد من صيغة النهي إنحلال التحريم بحيث يكون الحكم إستغراقياً أم إنَّه لا يتحقق من النهي إلا حرمة واحدة كالوجوب المستفاد من الأمر.

والأثر العملي بين القولين يظهر في أنَّه بناءً على القول بوحدة التحريم لو صدر منه الفعل مرة عصياناً سقط التكليف فيجوز له أن يرتكب فرداً اخر منه. وأما على القول بانحلالية التحريم؛ فيكون الفرد الثاني محرماً كالفرد الأول, لا تسقط الحرمة عنه بعصيان الأولى, والمعروف المشهور هو الأول, لأنَّ إطلاق متعلق النهي شمولي إستغراقي بخلاف متعلق الأمر, فإنَّ إطلاقه بدلي ويكون المطلوب منه صرف وجوده.

إنَّما الكلام في توجيه ذلك مع أنَّ الإطلاق في كِلا المدلولين إنَّما يثبت بمقدمات الحكمة وهي واحدة في المقامين. فهل السبب يكون لغوياً بدلالة الإنْ على وضعها, وهذا باطل, إذ لا شأن للَّغة في ذلك. أو عقلياً كما عليه المشهور, أو بمقدمات الحكمة كما سيأتي بيانه.

قال المحقق النائيني قدس سره (2): إنَّ النهي تارةً يتعلق بترك الطبيعة بنحو المعنى الإسمي, وأخرى يتعلق بترك الأفراد ويلزمه ترك الطبيعة. ففي الأول؛ لو خالف فإنَّه يسقط النهي بخلاف الثاني لانحلال الحكم, ثم رجَّح الثاني وبيَّن أنَّ النهي بالنسبة للأفراد العرضية وهي الأفراد التي يمكن للمكلف إيجاد كل واحد منها فعلاً إنَّما هو بأخذ ترك الطبيعة حال تعلق الطلب به فانياً في معنوناته التي هيعبارة عن ترك كل واحد واحد من الأفراد الخارجية, وأمّا إنحلال النهي بالنسبة للأفراد الطولية وبقاءه في الآن الثاني بعد امتثاله في الآن الأول فيمكن بأحد وجهين؛ أولهما: أنْ يؤخذ الزمان في ناحية المتعلق, وثانيهما: أنْ يؤخذ الزمان في ناحية الحكم بأنْ يكون الحكم المتعلق بترك الطبيعة باقياً في الأزمنة

ص: 290


1- . من جهات دلالات صيغة النهي.
2- . أجود التقريرات؛ ج1 ص329-330.

اللاحقة, وبما أنَّه لا دليل على أخذ الزمان من ناحية المتعلق ولا معنى لتحريم شيءٍ يسقط بامتثاله آناً ما كان دليل الحكمة لبقاء الحكم في خلاله جهات من الإشكال منها الفرق بين الأفراد الطولية والأفراد العرضية, ومنها عدم أخذ فائدة الزمان من ناحية المتعلق, ولكن ليس في الردِّ عليه أثر عملي؛ فلا وجه لنقل كلامه ونقضه.

وذهب السيد الخوئي قدس سره إلى أنَّ مقدمات الحكمة تجري في مورد البدلي والشمولي معاً ويكون بينهما قدر مشترك وهذا المقدار المشترك ليس هو العين الشمولية أو البدلية, فلا بُدَّ من ضميمة ومقدمة عقلية في بعض الموارد حتى تثبت البدلية في مورد أو تثبت الشمولية في مورد آخر.

وإذا ورد أمر من المولى فقال (صلِّ) فإنَّه لا يخلو؛ إمّا أنْ يكون متعلق الأمر جميع الصلوات وهو الإطلاق الشمولي، وإمّا إحدى الصلوات وهو الإطلاق البدلي, وإمّا مجموعة من الصلوات دون غيرها.

والأخير باطل بمقدمات الحكمة بالمقدار المشترك؛ إذ لا خصوصية لتلك المجموعة حتى تحمل الطبيعة عليها، فلو أرادها المولى وجب عليه نصب قرينة.

والأول باطل لعدم مقدوريته للتزاحم والتباين بين الأفراد, وهذه مقدمة عقلية؛ فيتعين الثاني وهو الإطلاق البدلي.

الثاني(1)؛ فإذا قال المولى لا تكذب فإنَّ فيه أيضاً ثلاثة إحتمالات:

أنْ يكون جميع الأفراد أي كلُّ كذب وهو الإطلاق الشمولي. أو يكون أحد الأفراد وهو الإطلاق البدلي. أو يكون مجموعة من أفراد الكذب كالكذب على الله ورسوله مثلاً والكذب في حال الصوم مثلاً؛ والأخير باطل بمقدمات الحكمة المشتركة في جميع الأفراد,

ص: 291


1- .من متعلق النهي.

فلو أرادها المولى فلا بُدَّ من نصب قرينة وهو في مقام البيان، والمقدمة العقلية تنفي الثاني باعتبار أنَّ إشتراك كذب واحد من المكلف ضروري قهري فلا يعقل التكليف به فيتعين الأول وهو الإطلاق الشمولي.

الثالث: وهو الذي سمّاه بموضوعات الأحكام الوضعية, كقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(1), فإنَّه ترد الإحتمالات الثلاثة؛ حليَّة كلُّ بيع، وحليَّة أحد البيوع، وحليَّة مجموعة معينة من البيوع كالعقدية مثلاً.والثالث منتفي بالقدر المشترك من مقدمات الحكمة، والثاني منتفي بمقدمة عقلية؛ إذ من اللغو حليَّة بيع لا بعينه, فيتعين الثالث؛ أي الإطلاق الشمولي.

ويرد عليه:

أولاً: لا ريب في أنَّه إذا كان هناك قدرٌ مشترك في مقدمات الحكمة فلا يمكن أنْ يكون إستفادة البدلية أو الشمولية في مورد لأجل عدم معقولية الطرف الآخر أو لغويته مع أنَّ الثابت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يكون معقولاً في كثير من الموارد ولكن الفهم العرفي يقتضي تعيين أحدهما كما في موضوعات الأوامر لا متعلقاتها, فإنَّه يحتمل كِلا الوجهين منها, فإذا قال المولى: أكرِم العالم؛ فإنَّ مقتضى الإطلاق في الموضوع -وهو العالم- يقتضي الشمولية والبدلية, ولا إستحالة ولا لغوية تستلزم في كونه بدلياً فكلاهما معقول على حدٍ سواء, فلا بُدَّ أنْ يكون وراء إستحالة البدلية في مورد أو إستحالة الشمولية في مورد؛ أمر آخر غير ما ذكره وهو الذي يقتضي البدلية أو الشمولية.

ثانياً: إنَّ الإستحالة المفروضة في كلامه إنَّما منشؤها عدم القدرة, فنقول: إنَّ شرطية القدرة إمّا أنْ تكون مأخوذة في مرحلة الإمتثال فقط كما ذهب إليه السيد الخوئي قدس سره في بحث الترتب, وإمّا أنْ تكون بحكم العقل.

ص: 292


1- .سورة البقرة؛ الآية 275.

وكلُّ ذلك لا يقتضي الإستحالة ولا يقتضي الشمولية في النهي والبدلية في الأوامر.

فإنْ قلنا بالأول؛ فالأمر واضح, فإنَّه لم يعهد منه التفريع عليه في مورد أصلاً, فتقتضي الشمولية في حدود هذا المقيد.

وإنْ قلنا بالثاني؛ فلا مانع من إطلاق الخطاب لكلِّ أفراد المتعلق, غاية الأمر أنَّ الإمتثال اللازم بحكم العقل يختَّص بالمقدور منها.

وإنْ قلنا بالثالث؛ فإنَّ حكم العقل وإنْ كان لُبِّياً ولكنه بمنزلة المتَّصل فلا ينعقد إطلاق لغير المقدور من أفراد المتعلق فتثبت الشمولية في حدود هذا المقيد المتَّصل فيقيد دائرة الإطلاق الشمولي كسائر المقيدات للإطلاقات الشمولية، فلا بُدَّ من التفحص عن أمر آخر يقتضي أنْ يكون الإطلاق في متعلقات الأوامر بدلياً وفي متعلقات النواهي شمولياً.

والحاصل: إنَّ ما ذكره من الإستحالة قد لا تكون مطَّردة, إذ يمكن فرض أنْ تكون للطبيعة أفراد معدودة كما في قولنا أكرم العادل؛ حيث ينحصر في أفراد معدودين كعشرة مثلاً، مع أنَّ مقتضاها الإتيان بالقدر الممكن.

وذهب بعض الأعلام إلى إلتماس النكتة في تعيين الشمولية والبدلية بوجه آخر, وخلاصة ما ذكره أنَّ البدلية والشمولية إمّا أنْ تكون في العمومات فيكون الدالُّ عليها لفظياً كما في لفظ (كلّ) الدالُّ على الشمول, ولفظ (أي) في البدل وضعاً فيهما.وإمّا أنْ تكون في المطلقات؛ فإنَّ الشمولية والبدلية إنَّما هما من شؤون الإطلاق ومقدمات الحكمة ولكن الإطلاق ومقدمات الحكمة لا تثبت إلا أنَّ موضوع الحكم هو الطبيعة من دون قيد, وأمّا البدلية والشمولية فهما من شؤون تطبيق الحكم وليسا مدلولين لمقدمات الحكمة ولا للوضع، فإنَّ الحكم على الطبيعة لو كان غير قابل للإنطباق على جميع الأفراد فهو يدلُّ وإلا فشمولي؛ كما سيأتي تحقيقه في بحث المطلق والمقيد إنْ شاء الله تعالى.

ص: 293

والسرُّ يرجع إلى أنَّ القضية الحقيقية التي يناط فيها الحكم بالشرط إنَّما يتعدد بلحاظ الشرط لا بلحاظ المتعلق والجزاء, وعليه؛ يكون الأصل الأولي في المتعلقات هو الإطلاق الشمولي، وفي الموضوعات الإطلاق البدلي وإنْ إستثنى من هذا الأصل الأولي في كِلا الطرفين موردان, ففي طرف الموضوعات ما إذا كان الموضوع مع التنوين من قبيل أكرم عالماً (ففي هذه الحالة يحتاج الإسم إلى ما يتَّكيء عليه؛ التنوين أو الألف واللام) فيصير الإطلاق بدلياً, لأنَّ التنوين يكون تنوين تنكير, فيكون قد أخذ فيه قيد الوحدة وصرف الوجود وهو غير معقول في الشمولية.

وفي طرف المتعلقات يستثنى منه متعلقات النواهي, فإنَّه يستفاد منها أنَّ كلَّ فرد من المتعلق هو موضوع مستقل للحرمة وهي معنى الشمولية.

والحقُّ أنَّ ما ذكره غير تام لما يلي:

أولاً: لأنَّ البدلية والشمولية سواءٌ إستفيدتا من الألفاظ كما في العمومات أو كانت من شؤون الإطلاق ومقدمات الحكمة كما في المطلقات, فإنَّهما تتبعان ما تدلُّ عليه القرينة سواءً كانت لفظية أو عقلية فترجع إلى تلك النكات والقرائن سواءً من ناحية الموضوع أو المتعلق وليس الأمر راجعاً إلى كون الموضوع مفروض الوجود، والمتعلق لا يمكن أنْ يكون كذلك وإلا كان من تحصيل الحاصل, وهذا ما ذكره في مورد في الإستثناء من الأصل الأول.

ثانياً: إنَّ جعل الفرق بين النواهي والأوامر في أنَّ المأخوذ في متعلقات النواهي هي الطبيعة, بخلاف المتعلقات في الأوامر؛ فإنَّها صرف الوجود؛ غير صحيح فإنَّه ربَّما يكون المتعلق هو الطبيعة ويجري النزاع فيه في أنَّ المأخوذ هل هو وحدة الحرمة أو الشمول, فلا بُدَّ أنْ يكون الوجه في الإفتراق شيء آخر, وسيأتي في بحث الإطلاق والمقيد تفصيل الكلام إنْ شاء الله تعالى.

ص: 294

ثالثاً: إنَّ القرينة التي ذكرت في الإستثناء الأول(1) لا يمكن أنْ تكون سبباً في الفرق بين الأمر والنهي, فإنَّه كما يقال أكرم عالماً كذلك يقال لا تكرم عالماً, فلماذا يكون التنوين من الأمر بدلياً ويكون في النهي شمولياً مع أنَّه في كِلا الموردين وقع قيداً في المتعلق وإنْ كان بحسب الظاهر قيد الموضوع.وذهب المحقق الخراساني قدس سره (2) إلى أنَّه لا يمكن إستفادة ذلك من النهي, بل لا بُدَّ من دالٍّ آخر ولو كان من جهة إطلاق المتعلق من ناحية العصيان فيقال أنَّ مقتضاه ثبوت النهي مطلقاً سواءً عصى النهي أم لم يعصِ, أو يكون مقتضى هذا الإطلاق ثبوت النهي وتعلقه بالفعل بنحو العموم الإستغراقي؛ فينحلُّ إلى أفراد متعددة, فإذا عصى أحدها بقي الآخر على حاله.

وأُورد عليه بأنَّه قدس سره لم يلتزم بذلك كما سيأتي في بحث المطلق والمقيد, فإنَّه يرى أنَّ الإستغراق لا يثبت بالإطلاق بل إنَّ خصوصية الإستغراق والبدلية وغيرهما إنَّما تستفاد من قرائن خاصة, وهي ليست مفاد الإطلاق كما عرفت آنفاً, فإنَّ مفاد مقدمات الحكمة ليس إلا إرادة الطبيعة من غير تقييد.

إذا عرفت تلك الوجوه وما أُثير حولها من المناقشات فلا بُدَّ من إلتماس وجه آخر في تعيين الفرق بين النهي والأمر بعد الإلتزام باستمرار النهي وعدم سقوطه بالمخالفة والإلتزام بأنَّ متعلق النهي والأمر كلاهما الطبيعة، والظاهر أنَّه لا يمكن الإستغناء عن العرف وفهمه في مثل هذه الأمور، وهو يقضي بأنَّ من اللوازم العرفية لتعلق النهي بالطبيعة الفورية والإستمرار بالنسبة إلى الأفراد الدفعية والطولية فإنَّ معنى الردع عن الطبيعة

ص: 295


1- .وهي التنوين واللام.
2- . كفاية الأصول؛ ص150.

والزجر عنها عندهم هو إعدامها بالمرة، فتكون الفورية والإستمرار من المداليل السياقية للنهي, بخلاف الأمر؛ فإنَّه يتعلق بإيجاد الطبيعة وهو يتحقق بصرف الوجود, وهو أعمّ من الفورية والإستمرار؛ حيث أنَّه لا بُدَّ في إثباتهما من دليل من الخارج فيكون الفارق بينهما عرفي, وهذا الوجه يغنينا عن التمسك بالإطلاق حتى يناقش بما ذكرناه آنفاً, كما يغنينا من التمسك بما قيل من أنَّ النهي إنَّما ينشأ عن مفسدة في متعلقه، ومن الواضح ترتُّب المفسدة نوعاً على كلِّ فردٍ من أفراد الفعل لا على مجرد صرف وجوده أو مجموع الأفراد, فكلُّ فردٍ بقصد تركه؛ فإذا تحقق العصيان ولم يترك أحد الأفراد لزم ترك غيره, واعتبر بعضهم ذلك من القرينة العامة, فإنَّ ذلك قابل للمناقشة أيضاً:

أولاً: إنَّه إنَّما يتمُّ بناءً على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد, وأمّا إذا أنكرنا ذلك كما هو مسلك الأشاعرة فلا موضوع لهذه القرينة, مع أنَّهم لا ينكرون الإستمرار في النهي إذا رجعنا إلى الفرق في الخطاب المتعلق بالنهي والخطاب المتعلق بالأمر والتمييز بينهما.

ثانياً: إنَّ الكلام في إنحلال الخطاب لا إنحلال ملاكات الأحكام التي يحتاج إلى معرفته إلى دليل غير الخطاب.ومن جميع ذلك يظهر أنَّ الموضوع عرفي أكثر من كونه عقلياً, وعلى وجه الدقَّة في معرفته وكم لهم من الإعتراضات والمناقشات التي تبتني على الأحكام العقلية, مع أنَّ الموضوع أقرب إلى الفهم العرفي, كما يظهر أنَّ لهم خلطاً بين هذه الجهة والجهة التالية.

الجهة الثالثة(1): في كيفية إمتثال النهي

قد عرفت في الجهة السابقة إستمرار النهي؛ فمتى خولف وعصي في فرد من أفراد المنهي عنه لا يسقط النهي, لأنَّه ينحلُّ إلى عدَّة تكاليف ليشمل جميع الأفراد العرضية والطولية,

ص: 296


1- .من جهات دلالات صيغة النهي.

ولكن في هذه الجهة نبحث عن كيفية الإمتثال؛ فإنَّه في الأمر يتحقق بإتيان فرد من أفراد الطبيعة, ولا يكون عصياناً فيه إلا بترك تمام أفراد الطبيعة.

وأمّا في النهي فالأمر فيه على العكس؛ فإنَّه لا يتحقق إمتثاله إلا بترك تمام أفراد الطبيعة ولا يكفي إجتناب بعض أفرادها وبهذا إفترق الأمر والنهي أيضاً, وقد إستدلوا على ذلك بحكم العقل في النهي بأنَّ المطلوب فيه هو الإعدام فلا يكون إلا بانعدام الطبيعة, وفي الأمر هو الإيجاد فيكون بواحد منها, فالطبيعة الواحدة مفهوماً لا تنعدم إلا بانعدام تمام أفرادها ولكنها توجد بوجود فرد واحد, ولأجل ذلك كان في الأمر هو الإيجاد؛ فهو يتحقق بواحد من أفراد الطبيعة.

وقد حدث خلط في كلمات المحققين بين الجهتين؛ فاستدلُّوا بهذا الوجه العقلي لإثبات كون النهي على الإستمرار؛ الذي عرفت أنَّه موضوع الجهة السابقة, مع أنَّ هذا الوجه لا دخل له في دفع الشبهة التي ذكرناها في البحث السابق.

وكيف كان؛ فإنَّ هذه الجهة إنَّما تبين كيفية الإمتثال في الأمر والنهي والفارق بينهما, وقد أنكر كثير من المحققين الدليل المزبور الراجع إلى حكم العقل, وذكر بعضهم في توجيه ذلك بأنَّ نسبة الكلي الطبيعي إلى أفراده الخارجية إنَّما هي نسبة الآباء إلى الأبناء مقابل ما حكي عن الرجل الهمداني القائل بأنَّ نسبة الكلي الطبيعي إلى أفراده نسبة الأب الواحد إلى أبنائه, ولكن هذه هي مسألة فلسفية لا ربط لها بمباحث الأصول كما عرفت مكرراً وإن أمكن القول بمقالة الهمداني في الأصول والقول بوحدة الكلي عنواناً ومفهوماً, وإنْ لم نقل في الفلسفة ولكن قد عرفت مكرراً من أنَّه لا يمكن إبعاد المباحث الفلسفية من مباحث الأصول.

والحقُّ أنَّ هذا الفرق بين النهي والأمر يرجع إلى الفهم العرفي أيضاً, وإنَّ ذلك لازم تعلق النهي بالطبيعة, فإنَّه من المداليل السياقية أيضاً.

ص: 297

الجهة الرابعة: في الفرق بين الأمر والنهي بعد إتّحاد متعلقهما

والمعروف أنَّ اتّحاد متعلَّقي الأمر والنهي هو الطبيعة, وإنَّه يتحقق بما يلي:

1- إنَّ منشأ الأمر هو الرغبة النفسانية, وفي النهي الكراهة النفسانية, وإنَّ كلَّ واحدةٍ منها تابعة للمصالح والمفاسد ويختلفان في المبرز منهما.

2- إنَّ النهي يدلُّ على الإستمرار, والأمر على المرَّة؛ كما عرفت سابقاً.

3- إنَّ إمتثال النهي إنَّما يتحقق في ضمن ترك تمام أفراد الطبيعة، وأمّا الأمر فإنَّه يتحقق بإتيان فرد واحد منها.

4- إنَّ جميع ما ذكر في النهي من الخصائص لا يفرق فيها بين أنحاء مدلول النهي؛ سواءً كان مدلوله طلبٌ للترك أو كفُّ النفس أو الزجر أو الردع؛ بعد إتّحاد المناط والملاك فيها.

5- إنَّ قاعدة أنَّ الطبيعة توجد بفرد واحد وتنعدم بانعدام جميع افرادها هي قاعدة عقلية لا تقبل التخصيص كما هو الأمر في سائر القواعد العقلية, ولكن ذكر بعض الأعلام أنَّها تنطبق على كل الطبائع والكليات وسائر الجوامع والمفاهيم الكلية إلا الجامع الإنتزاعي في مثل أحدهما, فإنَّه إذا قال: (أوجد أحدهما) إستفيد منه لزوم إيجاد أحدهما. بينما إذا قال: (إترك أحدهما) لا يستفاد منه لزوم تركهما وإعدامهما معاً, فهذا الجامع يختلف عن غيره في أنَّه يمكن أنْ يصدق في حقِّه أنَّه واجد الوجود والعدم معاً, فنقول: أحدهما موجود وأحدهما معدوم, وأمّا سائر الجوامع والمفاهيم الكلية فإنَّه لا يضاف إليها العدم إلا بانعدام تمام مصاديقها وأفرادها.

فلا بُدَّ من حلِّ هذا الإشكال بأنْ نقول بأنَّ عنوان أحدهما وما يشبهه ليس جامعاً بل هو مجرد رمز ذهني يراد به التعبير عمّا في الخارج والإشارة إليه, فبدل أنْ يقول جاء زيد يقول جاء أحدهم, لأنَّه ليس جامعاً يشمل زيد وغيره.

ص: 298

وفيه: إنَّه خلاف ما عليه الفقهاء في الفقه؛ فإنَّهم يرتبون عليه آثار العنوان الجامع, ولذا قالوا بأنَّه لا يقع البيع إذا قال بعت أحدهما؛ للجهالة ولانطباقه على كثيرين يكون رمزاً أو إشارة.

أو القول بأنَّ عنوان أحدهما ليس جامعاً بالمعنى المعروف, فإنَّ المقصود ما إذا كان الجامع مِمّا يمكن تصويره وترتيب الأثر عليه، وأمّا عنوان أحدهما فإنَّه مجهول لا يترتب عليه الأثر لتردده, فهو خارج عن القاعدة تخصصاً.

المبحث الثاني: إجتماع الأمر والنهي

اشارة

المبحث الثاني(1): إجتماع الأمر والنهي

هذا العنوان يمكن أنْ يقع فيه ملاك البحث الفقهي؛ فيقال: إنَّ الصلاة في المحل المغصوب هل هي صحيحة أم لا؟.

كما أنَّ فيه ملاك البحث الأصولي؛ فيقال: إنَّ تعدد العنوان في الواحد هل ينفع في دفع محذور التضادّ بين الأمر والنهي أم لا؟.كما أنَّه يمكن أنْ يكون من المبادئ الأحكامية إنْ كان البحث في نفس الأمر والنهي؛ من حيث حالتي الفردية والإجتماع, ويصحُّ تقريره كلامياً إنْ كان البحث في أنَّه هل يصحُّ من الحكيم عَزَّ وَجَلَّ الأمر بشيء والنهي عنه أم لا؟؛ فيمكن أنْ يتحقق ملاك كلّ بحث فيه.

ومن ذلك يظهر أنَّه لا وجه للإختلاف فيما هو المناسب جعله عنواناً للبحث وتطويل الكلام؛ فلا فائدة فيه.

ص: 299


1- .من بحوث النواهي.

إذا عرفت ذلك فالكلام يقع في ضمن أمور:

الأمر الأول: في بيان وجه الفرق بين هذا البحث وما يأتي من بحث النهي في العبادات وبحث التصادق الموردي.

أمّا الأول؛ فقد قيل في وجه الفرق وجوهٌ:

1- ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّ الإختلاف بينهما جهتيٌّ؛ فإنَّ جهة البحث في النهي في العبادات هي إستلزام النهي المتعلق بفعلٍ للفساد.

وجهة البحث في المقام هي أنَّ تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون, فلا يسري كلُّ واحدٍ من الحكمين إلى المتعلق الآخر أو لا يوجب, فيكون متعلق كلُّ واحدٍ منهما واحد؛ فالإختلاف بينهما جهتيّ.

نعم؛ لو قلنا بالإمتناع وتقديم جانب الحرمة كان هذا البحث من صغريات تلك المسألة.

2- ما ذكره صاحب الفصول(2) من الإختلاف الموضوعي بينهما؛ فإنَّ موضوع البحث في المقام غير موضوع البحث في تلك المسألة.

وأورد عليه المحقق الخراساني قدس سره بأنَّ الإختلاف الموضوعي لا يوجب تعدد المسألة مع وحدة الجهة ومع تعددها يتعدد البحث وإنْ إتَّحد الموضوع.

3- إنَّ الفرق بينهما كون البحث هنا عقلي وفي تلك المسألة لفظي.

وفيه: إنَّ البحث في تلك المسألة عقلي أيضاً, مع أنَّ هذا الإختلاف لا يستلزم تعدد المسألة وعقد بحثين, لأنَّ غايته التفصيل في المسألة الواحدة كما هو المشاهد في بعض المسائل.

ص: 300


1- . كفاية الأصول؛ ص152.
2- . الفصول الغروية؛ ص140.

وذكر السيد الوالد قدس سره أنَّ إختلاف البحثين من نواحٍ عديدة؛ عرفي؛ لاختلاف البحثين عند العرف وأصل المحاورة.ومِلاكي؛ لأنَّ الملاك في المقام هو أنَّ تعدد العنوان في الواحد هل يكفي في رفع محذور التضادّ بين الحكمين المتضادَّين؟ وملاك البحث في تلك المسألة أنَّه لا يصحُّ التقرب إلى المولى بما هو مبغوض لديه.

وموردي؛ لأنَّ بين دليل الأمر والنهي في المقام عموم من وجه, مثل: صلِّ, ولا تغصب, وفي النهي في العبادة عموم مطلق, مثل: صلِّ, ولا تصلِّ في الحرير. كما أنَّه ليس في دليل إجتماع الأمر والنهي إشارة إلى المأمور به أبداً.

نعم؛ مورد النهي قد يكون شرطاً للمأمور به, بخلاف النهي في العبادة؛ فإنَّ النهي تعلق في ظاهر الدليل بقيد المأمور به.

وأمّا الثاني(1)؛ كما إذا تعلق الأمر بشيء وتعلق النهي بشيء آخر لا ربط له بالمأمور به أبداً لكن المكلف جمعها باختياره في مورد واحد مثل: صلِّ، ولا تنظر إلى الأجنبية، أو لا تسمع الغناء؛ فجمعها المكلف فصلى ونظر إلى إلاجنبية أو سمع الغناء أو هما معاً باختياره.

وأمّا مسألة إجتماع الأمر والنهي أو النهي في العبادة؛ فإنَّهما يُستفادان من ظاهر الدليل إذا جمع بينهما, فإذا كان ظاهره (لا تصلِّ في المغصوب) كان من النهي في العبادة, وإنْ كان ظاهره (لا تغصب) فهو من الإجتماع.

ص: 301


1- . وهو التصادق الموردي.

الأمر الثاني: في تحرير محل النزاع

والظاهر أنَّ الإختلاف بين العلماء في هذا البحث صغروياً وليس كبروياً, فذلك لأنَّهم تسالموا على أمور ثلاثة هي كبريات هذا البحث:

الأول: إنْ كان تعدد الوجه والعنوان في الواحد كافياً في رفع محذور التضادّ يصحُّ الإجتماع ولا يدخل في مورد النزاع.

الثاني: إنَّهم إتَّفقوا على عدم صحَّة الإجتماع مع عدم كفايته في رفع المحذور.

الثالث: إنَّه لا نزاع عندهم في أنَّ الجهة التقييدية توجب التعدد والجهة التعليلية لا توجب التعدد؛ فيقع البحث في تعيين كون المسألة من صغريات باب التعارض, وذلك إجتماع الضدَّين في المجمع لوضوح التضادّ بين الوجوب والجهة بمعنى منشأ إعتبارها لا بما هما أمران إعتباريان, فإذا سرى أحد الحكمين إلى الآخر وكان من التعارض وإنْ لم يراعى من باب الإلتزام؛ وسيأتي تفصيل ذلك إنْ شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: في بيان المراد بالواحد في عنوان البحث

إنَّ الواحد له إطلاقات متعددة ليست كلُّها مورد البحث:الواحد المفهومي؛ كالسجود لله والسجود لغيره عَزَّ وَجَلَّ؛ فإنَّهما متَّحدان في المفهوم ومختلفان في الوجود.

والواحد الشخصي؛ وهو خارج عن مورد البحث بلا إشكال مع أنَّه لو كان المراد خروج الواحد الجنسي ولا وجه لخروجه, إذ النزاع واقع فيه بلا كلام.

الواحد الجنسي؛ كالصلاة والغصب, فإنَّهما واحد جنساً وهو الحركة؛ الأعمّ من الواحد الجنسي والنوعي, مثل السجود لله والسجود للصنم, فإنَّهما يندرجان تحت كلي السجود.

ص: 302

الواحد في السجود سواءٌ كان واحداً شخصاً أو واحداً جنساً، كالصلاة والغصب المتَّحدين في الوجود, فيخرج السجود لله والسجود للصنم؛ لأنَّهما متعددان وجوداً وإنْ إتَّحدا جنساً إذ لا يكاد أنْ يكون وجودٌ واحد للسجود يضاف إلى كليهما معاً, على أنْ يكون كلٌّ منهما منفرداً بالإضافة لا أنْ يكون بنحو التشريك.

والظاهر أنَّ المراد بالواحد هو الأخير؛ بأنْ تكون الذات الواحدة المعنونة بعنوانين موجودة بوجود واحد, سواءً كان ذلك المعنون بعنوانين جنساً أو نوعاً أو غيرهما, فيصحُّ البحث في أنَّ إجتماع الأمر والنهي في الوجود الواحد من إجتماع الضدَّين, أو أنَّ تَعنون الموجود الواحد بعنوانين يوجب رفع التضادّ.

وأُشكل على ذلك بأنَّه لا يمكن أنْ يفرض الواحد في موضوع النزاع هو الواحد في الوجود، لأنَّ القول بالإمتناع يبتني على وحدة الوجود, والقول بالجواز يبتني على تعدد الوجود، فلا يمكن فرض إرادة الواحد في الوجود في العنوان الذي يكون موضوع النفي والإثبات.

ولذلك ذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى أنَّ المراد بالواحد الواحد في الإيجاد, لا وحدة الوجود, فإنَّه يمكن أنْ يتحقق وجودان بإيجادٍ واحدٍ كإيجاد الحركة الغصبية الصلاتية, فإنَّه يحقق وجود الصلاة ووجود الغصب, فيقع مورد البحث حينئذٍ.

وفيه: ما تقدم في أحد مباحثنا من إتّحاد الإيجاد والوجود ذاتاً واختلافهما إعتباراً, فيمتنع أنْ يفرض وحدة الإيجاد وتعدد الوجود.

فالحقُّ ما ذكرناه من كون المراد بالواحد هو الواحد في الوجود وهو المراد بحسب الصورة والمنصرف إلى الأذهان العرفية, وحينئذٍ ينتفي التعدد ولا يعتنى به, لأنَّه ينافي الوحدة بحسب الصورة والنظر العرفي.

ص: 303


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص340.

وبناءً على ذلك يكون الذات الواحد المعنون بعنوان موجوداً بوجودٍ واحدٍ, سواءٌ كان الذات المعنون بعنوانين جنساً أو كان نوعاً أو غيرهما، فيصحُّ البحث في أنَّ إجتماع الأمر والنهي في الموجود الواحد من إجتماع الضدَّين، أو أنْ يعنون الموجود الواحد بعنوانين يوجب رفع التضادّ, والمراد بالعنوانين في المقام؛ كلُّ مايصحُّ أنْ يرتفع به محذور الضدَّين فيشمل مطلق تعدد الإضافة والحيثية القابلة للتعدد ولو إعتباراً.

الأمر الرابع: الظاهر أنَّ عنوان البحث يعمُّ جميع أقسام الوجوب والتحريم

حيث أنَّ الأمر يشمل الأمر النفسي والغيري والكفائي والعيني والتخييري، وكذا النهي يشمل جميع أقسامه من النفسي والغيري.

والدليل على ذلك عموم الملاك, وهو مقتضى إطلاق لفظ الأمر والنهي أيضاً.

ولكن ذكر المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّه قد يدَّعى إنصراف الأمر والنهي المأخوذين في عنوان البحث خصوص النفسيين التعيينيين العينيين ولكن حكم عليها بالبطلان من جهة إطلاق المادة, وأمّا من جهة الهيئة فقال: هي غير بعيدة, ولكن حكم فيها أيضاً بالمنع ولا نحتاج إلى ذلك أبداً, فإنَّ الدعوى باطلة رأساً؛ لعموم الملاك وإطلاق لفظي الأمر والنهي.

نعم؛ الظاهر بأنَّه لا وقوع للنهي الكفائي ولا النهي التخييري في الشرع الحنيف.

كما أنَّه يشمل القول بأنَّ متعلق الأحكام الطبايع, أو القول بأنَّ متعلقها الأفراد؛ لما ذكرناه, ولأنَّ القول بالتعلق بالأفراد لا يُراد به الفرد الشخصي الخارجي من كلِّ جهة, حتى لا يمكن عروض عناوين عليه, بل المراد لحاظه في الجملة أو المراد به الوجود السِعي الشامل لكِلا الفرضين, فلا ينافي قبوله بعروض عناوين متعددة عليه.

ص: 304


1- . كفاية الأصول؛ ص152.

الأمر الخامس: صرَّح جمع من الأصوليين إعتبار قيد المندوحة في المقام

فإنَّ مع عدم المندوحة في مقام الإمتثال لا إشكال في الإمتناع ولا خلاف فيه أيضاً. وذكر المحقق الخراساني قدس سره من أنَّه ربَّما قيل بأنَّ إطلاق العنوان وعدم تقييده إنَّما هو لأجل وضوح ذلك وظاهر آخرين عدم إعتباره نظراً إلى أنَّ المهم في المقام هو بيان أنَّه يلزم إجتماع الحكمين المتضادَّين فيكون محالاً, أو لا يلزم المحال لأنَّ تعدد الوجه والعنوان يكفي في تعدد المعنون, ومن الواضح أنَّ هذا المناط لا يفرق فيه بين وجود المندوحة وعدم وجودها.

نعم؛ إنَّ وجود المندوحة شرط في الحكم العقلي بالجواز عند من يرى بالإمتناع، كما تعتبر بعض الشروط الأخرى.

وقيل: بأنَّ تعدد الوجه لو كان مجدياً في تعدد المعنون لكان مجدياً في التقرب به من حيث رجحانه في نفسه, فإنَّ عدم المندوحة يمنع عن الأمر لعدم القدرة على الإمتثال، ولكنه لا يمنع من الرجحان الذي يصلح للتقرب به. كما أنَّ تعدد الوجه والعنوان يكفي في رفع التضادّ, كذلك يكفي من حيث ترتُّب صحة الصلاة؛ فلا موجب للتقييد بعدم المندوحة لا على القول بالتضادّ؛ لكفاية الإستحالة من جهةالتضادّ في عدم صحة الصلاة, ولا على القول بعدم التضادّ؛ لكفاية تعدد الجهة من حيث التقرب.

وقيل: بأنَّ الإمتناع إنَّما هو من جهة التضادّ لوحدة الوجود, فلا أثر لوجود المندوحة وعدمها، ولو قيل بالجواز من جهة التضادّ لَتَعدد الوجود فلا دخل للمندوحة فيه أيضاً.

كما أنَّه إذا قلنا بعدم الجواز من جهة التزاحم في مقام الإمتثال؛ فإنْ قلنا بكفاية قصد الملاك في حصول التقرب وإنْ إرتفع الأمر فلا دخل للمندوحة وعدمها في صحَّة العبادة, وإنْ لم نلتزم بذلك باعتبار وحدة الإيجاد, وإنْ تعدد الوجود فلا دخل أيضاً للمندوحة وعدمها.

ص: 305

وذكر السيد الوالد قدس سره بأنَّه يمكن الجمع بين الكلمات بأنَّ من قال بالإعتبار جعل مورد النزاع المرتبة الفعليّة من التكليف ومرحلة إمتثاله, لأنَّه مع عدم المندوحة يكون المكلف مضطراً إلى إرتكاب الحرام, فكيف يعقل فعليّة النهي بالنسبة إليه حتى يعقل موضوع إجتماع الأمر والنهي.

ومن قال بعدم الإعتبار جعل مورده مرتبة أصل التشريع والجعل، ويصحُّ ذلك مع عدم المكلف أصلاً فضلاً عن المندوحة.

ثم قال: إنَّه لمّا كان نظر الأصولي إلى مرتبة فعليّة التكليف وتنجزه بالنسبة إلى المكلف فلا بُدَّ من إعتباره, وهو صحيح إذا كان الكلام في مقام الإمتثال فقط, وإنَّه وإنْ كان نظر الأصولي هو لحاظ ترتُّب الأثر العملي عليه, ولأجل ذلك إختلف البحث الأصولي عن مباحث الفلسفة, فإنَّ الغرض منها نفس العلم والمعرفة من دون لحاظ ترتُّب أثر عملي عليها, ولكن الكلام في المقام من جهة التضادّ الحاصل من إجتماع الأمر والنهي في واحد.

وعليه؛ فلا يختلف الحكم بهذا الإعتبار من جهة المندوحة وعدمها، وكيف كان, فإنَّه يتبين أثر التقييد بالمندوحة في موارد:

أولها: إذا قلنا بمقالة المحقق الكركي قدس سره (1) لتصحيح العبادة في الفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة؛ كان لوجود المندوحة أثر ظاهر, إذ مع عدمها لا أمر بالطبيعة حتى يقصد لانحصارها بالفرد المزاحم.

ثانيها: لو قلنا بعدم التزاحم بين الموسع والمضيق خلافاً للمعروف بين المتقدمين الذين يمثلون للتزاحم غالباً بتزاحم الأمر بالصلاة والأمر بإزالة النجاسة مع أنهما من الموسع والمضيق, فإنَّه بناءً على هذا الرأي لا يتحقق التزاحم مع وجود المندوحة, ومع عدمها يقع

ص: 306


1- . ذكره في منتقى الأصول؛ ج3 ص25-26.

التزاحم لعدم كون الأمر أمراً بالموسع بل بخصوص الفرد المزاحم لانحصار الواجب به.

و لكن الكلام في إعتبار هذين الوجهين, إذ لم يقل بهما أحد من المتقدمين كما ستعرف.

ثالثها: يظهر فيما إذا إعتبر مورد الإجتماع من موارد التزاحم, فإنَّه مع عدم المندوحة يسقط النهي؛ وسيأتي الكلام إنْ شاء الله تعالى.

الأمر السادس: المشهور أنَّ المقام من موارد التزاحم

فلا بُدَّ من وجود الملاك في كلِّ واحدٍ منهما ثبوتاً وتمامية الحجَّة عليه إثباتاً, وليس من موارد التعارض الذي لا مِلاك فيه إلا لأحدهما وإنْ إجتمعت شروط الحجية في الدليلين إثباتاً, ولذلك يقع التكاذب بينهما قهراً بخلاف التزاحم الذي لا تكاذب فيه أصلاً، ولكن المحذور فيه عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما فعلاً, وإنَّه لا يمكن أنْ يكون مورد من موارد إجتماع الأمر والنهي إلا إذا كان في كلٍّ من متعلقي الأمر والنهي مناط الحكم وملاكه مطلقاً حتى في مورد التصادق، حتى يكون مورد الإجتماع محكوماً بكِلا الحكمين بناءً على الجواز, أو يكون محكوماً بما هو أقوى مناطاً من الحكمين, أو بحكم آخر غيرهما لو تساوى المناطان بناءً على الإمتناع؛ فنرجع إلى أحكام الإجتماع وقواعد باب التزاحم, وأمّا إذا لم يكن لكِلا الحكمين مناط فيقع التعارض في الروايتين الدالَّتين على الحكمين، فالحكم حينئذٍ طبق قواعد باب التعارض من ترجيح أو تخيير أو غيره على ما هو المعمول في ذلك الباب, وفي غير هذه الصورة فلا يكون تعارض فيكون من موارد تزاحم المقتضيين, فيكون المقدم ما هو الأقوى منهما ولو كان أضعف دليلاً، نعم؛ فيما إذا كان كلٌّ منهما متكفلاً للحكم الفعلي كانت المعارضة ثابتة, فلا بُدَّ من ملاحظة قواعد المعارضة ولا بُدَّ من بيان ضابط التزاحم والتعارض حتى يمكن التمييز بينهما, فإنَّه يفيدنا في موارد كثيرة في الأصول وفي الفقه.

ص: 307

التزاحم

اشارة

تعرض الأصوليون للتزاحم في عدَّة مقامات في الأصول, وقد عرَّف بعض الأصوليين التزاحم بأنَّه تنافي الحكمين مع وجود ملاكهما.

ولتوضيح ذلك نورد كلام المحقق النائيني قدس سره , فإنَّه أحسن من كَتَب في هذا الموضوع, قال: (إنَّ التزاحم تارةً يكون في الملاك بمعنى أنْ يكون في فعل واحد جهة توجيه وجوبية وجهة أخرى توجب حرمته. وأخرى يكون في مقام الإمتثال, وتأثير كِلا الحكمين في مرحلة الداعوية الفعليّة. وإنَّ في الأول يرتبط التزاحم بعالم جعل الحكم وترجيح إحدى الجهتين على الآخرى وملاحظة حصول الكسروالإنكسار بينهما، فيكون هذا الأمر بيد نفس المولى ولا يرتبط بعلم المكلف وجهله.

وفي الثاني يرجع إلى تمام الإمتثال بعد جعل الحكم على موضوعه, ولأجل ذلك يكون المكلف هو الذي يعين الوظيفة بمقتضى عقله من ترجيح أو تخيير، وبذلك يتحقق الفرق بين الموردين)(1).

وقال: إنَّ محلَّ الكلام هو الإلتزام في مقام الإمتثال دون التزاحم في مقام الملاك وإنْ وقع الإشتباه بينهما لأجل الإشتراك في الإسم.

ثم ذكر الفرق بين باب التزاحم وباب التعارض بعد أنْ حكم بأنَّ الفرق بينهما بعد المشرقين, وذلك لأنَّ الفرق بينهما من وجوه ثلاثة:

الأول: إفتراق التزاحم عن التعارض من مورد التصادم

الثاني: الإفتراق من جهة الحاكم بالترجيح أو التمييز

الثالث: الإفتراق من جهة التقديم

ص: 308


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص270.

أمّا الأول؛ فقد قال بأنَّ التنافي بين الحكمين تارةً يكون في مقام الجعل والإنشاء بحيث يكون من المحال جعل كِلا الحكمين المتضادَّين في المورد الواحد كجعل الوجوب والحرمة على فعلٍ واحد. وأخرى يكون في مقام الفعليّة؛ بأنْ لا يكون هناك مانع من جعل كِلا الحكمين على موضوعهما المقدَّر، إلا أنَّ التمانع يحصل في مقام فعليّة الحكمين وتحقق موضوعيهما, فالتمانع يحصل بين الحكمين الثابتين على موضوعين إذا لم يمكن إمتثالهما معاً, كوجوب إنقاذ هذا الغريق أو وجوب إنقاذ ذاك الغريق.

فإنَّ التنافي في الصورة الأولى من التعارض بينما التمانع الحاصل في الصورة الثانية من التزاحم, ولعلَّ النكتة في هذا الفرق ترجع إلى أنَّ ثبوت أحد الحكمين المتنافيين بالنحو الأول يستلزم تضييق دائرة جعل الحكم الآخر, فإذا ورد مثلاً وجوب إكرام العالم وحرمة إكرام الفاسق فاجتمع الوصفان في شخص ثبوت الحكمين له, ويستحيل شمول جعلهما لمورد التصادق, فلا بُدَّ من رفع اليد عن أحدهما في ثبوت الآخر فتضيق دائرة جعله.

وأمّا الثاني؛ فإنَّ ثبوت أحد الحكمين المتنافين لا يلزم منه تضييق دائرة جعل الآخر فإنها على حالها لا يمسَّها شيء، وإنَّما يكون نفي ثبوت الآخر لانتفاء موضوعه لا لتضييق دائرة جعله, لأنَّ التنافي في مقام الفعليّة والإمتثال إنَّما يرجع إلى التنافي في تحقق موضوع كِلا الحكمين, بمعنى أنَّ إمتثال أحدهما يستلزم إرتفاع موضوع الآخر.فمثلاً: إذا تزاحم وجوب إنقاذ الغريقين فإنَّ إنقاذ أحدهما يستلزم إرتفاع القدرة عن إنقاذ الآخر فيرتفع الحكم لأجل إنتفاء موضوعه, وأمّا أصل الجعل فلا يمسَّه بشيء, فهو باقٍ على حاله كما هو الواضح من أنَّ الحكم لا نظر له إلى موضوعه؛ لا حدوثاً ولا بقاءً, فما يوجب رفع موضوع الحكم لا يتنافى مع الحكم وكيفية جعله.

ص: 309

والحاصل: إنَّ التنافي في مقام الفعليّة والإمتثال إنَّما يرجع إلى نفي الآخر بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لا السالبة مع وجود الموضوع كما هو الحال في التعارض, فأساس نكتة التزاحم هي إستلزام كلٌّ من الحكمين رفع موضوع الآخر، مع كون الحكم لا نظر له إلى إبقاء موضوع نفسه، فلا يتنافى كلُّ حكمٍ مع ما يستلزم رفع موضوعه.

هذا خلاصة ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في بيان جهة التنافي في باب التزاحم, وعمدة ما يريده: إنَّه لا تنافي في مقام الجعل ولا المجعول في باب التزاحم.

فما ذكره بعضهم في تفسير كلامه من أنَّ التعارض عنده هو التنافي في مقام الجعل، والتزاحم هو التنافي في مقام المجعول، ثم أورد عليه بأنَّه لا فرق بين مقامي الجعل والمجعول؛ فإنَّه غير صحيح, لأنَّه كما عرفت يرى أنَّه لا تنافي بين الحكمين أصلاً في باب التزاحم, فإنَّ أحدهما يرفع موضوع الآخر، فيكون المراد من التنافي فيه هو عدم إمكان جمعهما في عرض واحد فلا ينفي أحدهما الآخر ويرفعه، فإنَّ كلاً منهما لا نظر له إلى الآخر بل إلى موضوعه.

وإنَّ أساس كلامه قدس سره يرجع إلى أنَّ المنافاة في باب التزاحم إنَّما تكون في مقام الفعليّة والإمتثال ولا يلتفت إلى عالم الجعل، فإنَّ كلاً من الحكمين في هذا الباب يرفع موضوع الآخر بضميمة أنَّ الحكم لا نظر له إلى حفظ موضوعه وإبقاءه.

ولكن ذلك غير تام, وأُشكل عليه بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ ما ذكره من أنَّ الحكم لا نظر له إلى موضوعه حدوثاً ولا بقاءً لا أساس له من عقلٍ أو نقلٍ, بل الأمر على خلاف ذلك في كثير من الموارد نظير الأمر بالوضوء الذي يستفاد منه لزوم حفظ الماء وهو موضوع لوجوب الوضوء.

ص: 310

كما أنَّه قد يُقال في المقام بأنَّ الحكم يدعو إلى متعلقه ويطالب بصرف القدرة فيه, وهذا مِمّا لا إشكال فيه.

وعليه؛ يمتنع قهراً صرفها في متعلق الحكم الآخر, والمفروض أنَّ القدرة واحدة, فكِلا الحكمين ينظر إلى صرفها في متعلقه وهو ملازم للإحتفاظ بموضوعه, لأنَّ صرفها في غيره يقتضي إعدام موضوعه, فيكون نظر الحكم إلى موضوعهبواسطة إقتضائه الدعوة إلى متعلقه, وهو أمر لازم لكلِّ حكمٍ. وإذا ثبت ذلك, والمفروض كما عرفت أنَّ القدرة واحدة؛ فلا يتمكن من إمتثال الحكمين.

وعليه؛ فيمتنع جعل كِلا الحكمين, لأنَّ التكليف بالمحال محال في نفسه, لأنَّ حقيقة التكليف والحكم إنَّما هي لأجل ترتيب الداعوية عليه, سواءٌ قلنا بأنَّ الحكم عبارة عمّا يقتضي تحريك إرادة العبد، وقلنا بأنَّه عبارة عن أمر إعتباري لأجل داعوية المكلف نحو الفعل, أو أنَّه جعل الفعل في العهدة, فإنَّها تتَّفق في شيءٍ واحد وهو كون غرض الحكم هو إمكان الداعوية وتحريك العبد نحو العمل.

ففي الموارد التي لا يترتب على الجعل الدعوة والتحريك لا يكون المجعول الحكم.

وعليه؛ فيكون إعتبار القدرة في متعلق الحكم إنَّما هو لأجل إستحالة تحقق الحكم بدونها.

ومن هنا يمتنع إمتثال كِلا الحكمين لعدم القدرة على متعلقهما, فيمتنع جعلهما لامتناع المجعول, إذ يمتنع ثبوت الحكمين بعد أنْ لم يمكن تحقق داعويتهما معاً، فتتضيق دائرة جعل أحدهما قهراً كما إرتضاه في باب التعارض.

ويرد عليه:

1- إنَّ القول بأنَّ الحكم لا يمكن أنْ ينظر إلى متعلقه أو موضوعه كما صرَّح به المحقق النائيني قدس سره غير سديد؛ فإنَّ التفكيك بين الحكم وموضوعه من هذه الجهة

ص: 311

يستلزم سلب روح الحكم وماهيته, لأنَّ بينهما نحو تعلقٍ خاص ولو كان تقديرياً إقتضائياً, ولكن ذلك لا يستدعي أنْ يدعو إلى متعلقه كما زعمه المستشكل.

2- إنَّ جميع الأحكام إنَّما شرِّعت لأجل تكميل النفس الإنسانية وبلوغها إلى الكمالات اللائقة بها، والطريق إلى ذلك هو إمتثال تلك الأحكام وتطبيقها على الوجه الصحيح؛ فإنْ كان المراد أنَّ الحكم يدعو إلى متعلقه بهذا المعنى فهو أمر صحيح يحكم به العقل والشرع، وإن كان المراد به غير ذلك فلا دليل عليه.

3- إنَّ القول بأنَّ الحكم يدعو إلى متعلقه ويطالب بصرف القدرة فيه لا وجه له أبداً, فإنَّ الحكم إعتبار خاص يترتب على موضوعه المعين التقديري, وبذلك يتمُّ التشريع والجعل الذي هو وظيفة المولى, وأمّا وظيفة المكلف فهو التطبيق والإمتثال وصرف قدرته في ذلك, فهما أمران, وإنْ إرتبطا في مرحلة من المراحل ولكنهما وظيفتان؛ يختلف متعلق كلُّ واحدٍ منهما عن الآخر، فما ذكره المستشكل من أنَّ الحكم يدعو إلى متعلقه -وهو صرف القدرة- غير تامّ.

4- إنَّ الحكم كما عرفت مكرراً إعتبارٌ خاص وليس الغرض فيه منحصراً في جعل الداعوية والتحريك كما زعمه المستشكل, فإنْ لم يترتب على الجعل الدعوة والتحريك لا يكون الحكم المجعول فاسداً كما عرفت, إذ الغرض قد تحقق مع الحكم, فالقول بأنَّ لا جعلَ أبداً مع أنَّه لا فرق بينه وبين المجعول في ذلك المقام.

والحاصل: إنَّ الحكم يدعو إلى متعلقه, والغرض المترتب عليه هو تكميل النفس وبلوغها المراتب اللائقة بها، ولو قلنا بأنَّ المتعلق هو القدرة على إمتثال الحكم فإنَّ الجعل يدعو إليه الإقتضاء, وفي مرتبة الفعليّة إنْ حدثت هنالك إستحالة فإنَّها ترتفع بإعمال قواعد التزاحم, ولا يضرُّ ذلك بأصل الجعل لأنَّها قد تحققت في مرحلة متأخرة لا في أصل الجعل.

ص: 312

ومن جميع ذلك يظهر أنَّه لا صحَّة لما ذكره المحقق النائيني قدس سره ولا ما ذكره المستشكل.

الوجه الثاني: إنَّ علاج التزاحم كما عليه المحققون هو تقييد أحد الحكمين بترك إمتثال الآخر أو عصيانه وهو المصطلح عليه عندهم بالترتيب, ومن الواضح أنَّ هذا التقييد يرجع إلى تضييق دائرة الجعل والإنشاء فيكشف عن كون التنافي في مقام الجعل، لا في مقام الفعليّة والإمتثال, وإلا لم يكن وجه للتصرف فيه إنْ كان التنافي في غير ذلك المقام.

وفيه: إنَّ ما ذكره لم يكن سبباً في درج المقام في كون التنافي في مقام الجعل دون غيره, لأنَّ المكلف يرى الفرق بين كون التنافي في مقام الجعل وكونه في مقام الإمتثال بعد تمامية الجعل؛ فإنَّ هناك فرقاً بين ما إذا قال المولى: (أكرم العالم), وقال: (لا تكرم الفاسق). واجتمع الوصفان في العالم الفاسق؛ فيتردد الحكم بين الأول أو الثاني, فلا بُدَّ من تضييق دائرة أحدهما كما عرفت.

وبين ما إذا قال: (إذا جاءك زيد فأعطه درهماً), وقال: (إذا جاءك عمرو فأعطه درهماً). فجاءا معاً ولم يكن له إلا درهمٌ واحد فلا ريب أنَّ هناك فرقاً بين المثالين؛ فإنَّ الأول يكون التنافي فيه بين الحكمين في مقام الجعل. وفي الثاني يكون التنافي في مقام الإمتثال, لأنَّ المانع فيه أنَّ كلَّ واحد من الحكمين يدعو إلى إمتثال متعلقه بعد ثبوت المقتضي في كلِّ واحدٍ منهما, وهذا المقدار يكفي في الفرق بين حكم التعارض وحكم التزاحم؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثالث: إنَّ ما ذكره قدس سره من إمتثال أحد الحكمين رافع لموضوع الآخر غير تامّ؛ فإنَّ رفع موضوع الحكم وإعدامه قد يكون جائزاً وهو كثير, كما إذا سافر المكلف فأعدم موضوع وجوب الصوم في شهر رمضان.

ص: 313

وقد لا يكون جائزاً نظير رمي الإنسان نفسه من شاهق؛ فإنَّه حينئذٍ لا يكون قادراً على حفظ نفسه, فليس كل إعدام للموضوع هو غير جائز, فلا بُدَّ من البحث منكون البحث عن جواز رفع موضوع الحكم الآخر وعدمه والسرُّ في جوازه, فإذا ثبت الجواز فلا يتنافى الرافع مع الحكم الآخر.

وفيه: إنَّه خلط في البحث؛ فإنَّ الكلام ليس في كلِّ إعدام موضوع الحكم, بل هو مختَّص فيما إذا كان هناك تزاحم بين الإمتثالين من دون أنْ يمكن الجمع بينهما؛ فلا بُدَّ من إمتثال أحدهما الموجب لانتفاء موضوع الآخر.

فالحقُّ ما عليه المحققين من أنَّ التزاحم هو تنافي الحكمين في مرحلة الإمتثال مع تمامية ملاكهما.

صور التزاحم

تارةً يكون التزاحم من توارد الحكمين على موضوعين. وأخرى؛ ما إذا تواردا على موضوع واحد فيما لو إشتمل الفعل على جهة توجب وجوبه وتوجب حرمته.

وذهب المحقق النائيني قدس سره إلى إختصاص التزاحم بالصورة الأولى دون الثانية التي يعبر عنها بالتزاحم في مقام الملاك, وإستدلَّ على خروج الصورة الثانية بوجهين:

الوجه الأول: إنَّ علاج الصورة الثانية إنَّما يكون من جهة المولى, لأنَّها ترتبط بعالم جعل الحكم وترجيح إحدى الجهتين على الأخرى وملاحظة الكسر والإنكسار بينهما ولا يرتبط بالعبد.

الوجه الثاني: إنَّ الصورة الثانية إنَّما تبتني على رأي العدلية بضرورة وجود الملاك للحكم، مع أنَّ التزاحم المبحوث عنه لا يختَّص بهذا الرأي, فإنَّه يبحث عنه عند العدلية كما يبحث عنه عند الأشاعرة.

ص: 314

وأُورد على كِلا الوجهين:

أمّا الأول: فإنَّ الحاكم في كِلتا الحالتين هو إمّا المولى أو العقل؛ فإنْ كان العقل فهو طريق لتشخيص ما يحكم به المولى, فليس العقل هو المرجح لأحد الحكمين على الآخر بل هو يستكشف رجحانه عند المولى. وأمّا العقل وطريق الشرع يكشف عنه.

وسيأتي في بحث التعارض أنَّ المرجحات التي نصَّ عليها الشارع يمكن إرجاعها إلى ما يحكم به العقل أيضاً, ولذا يتعدى عنها إلى غيرها.

وأمّا الثاني: فلأنَّه إنَّما يختَّص بما إذا أُريد من الملاك المصلحة والمفسدة؛ فالأشعري ينكره, وأمّا إذا قلنا بالأعمّ؛ كالإرادة والكراهة والمحبوبية والمبغوضية ونحو ذلك فالأشعري لا ينكرها.فما ذكره غير صحيح, إلا أنَّ خروج الصورة الثانية عن مورد التزاحم مِمّا لا إشكال فيه؛ لا لما ذكره المحقق النائيني قدس سره بل لأجل أنَّ ما يريده الأصوليون من التزاحم من كونه تنافي الحكمين في مقام الإمتثال وترتيب الأحكام الخاصة به من تقديم الأهم أو إتيان المهم وترك الأهم وعصيانه عند الترتب والتخيير مع عدمه, أي الإلتزام بأحد الحكمين بنحو التخيير, بمعنى كون أحدهما واجباً بنحو التخيير لا التعيين كالواجب التخييري.

وهذه الأحكام لا تترتب على مورد التعارض والتضادّ بين الملاكين؛ فإنَّه لا يجري فيه الترتب كما سيأتي, وإنَّ التخيير الوارد فيه يختلف عن التخيير في مورد التزاحم, فإنَّه يرجع إليه بعد ملاحظة الكسر والإنكسار بين الملاكين والحكم بالغالب منهما إنْ كان المقدار الزائد ملزماً, ومع التساوي فالحكم هو التخيير, وهو بمعنى الإباحة وعدم الإلزام بأحدهما, وهو غير التخيير في مورد التزاحم الذي عرفت بأنَّه الإلزام بأحدها على التخيير، فهذا هو السبب في عدم دخول هذه الصورة في مورد التزاحم؛ لا لما ذكره المحقق المزبور.

ص: 315

منشأ التزاحم

عرفت بأنَّ منشأ التزاحم في مقام الإمتثال هو عدم القدرة على الإتيان بكِلا المتعلقين وهذا هو الغالب, وقد يكون من جهة أخرى غير عدم القدرة فهو على قسمين:

القسم الأول: وهو التزاحم من جهة عدم القدرة؛ قال المحقق النائيني قدس سره إنَّ ما كان منشؤه عدم القدرة فله صور خمس:

الأولى: أنْ يكون عدم القدرة إتّفاقياً، كما في مثال الغريقين الذي يتزاحم وجوب كلُّ واحد منهما مع الآخر لو لم يتمكن من إنقاذهما معاً.

الثانية: أنْ يكون لأجل التضادّ الإتّفاقي بين الواجبين دون ما إذا كان دائمياً, فإنَّه يكون من باب التعارض بين الدليلين.

الثالثة: موارد إجتماع الأمر والنهي في ما إذا إتَّحدت ماهيات في الخارج كالصلاة والغضب بناءً على عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها. وأمّا إذا كانت ماهية واحدة كما إذا إجتمع وضعان تعلق بأحدهما الوجوب وبالآخر الحرمة في مورد واحد كالعالم الفاسق كان المورد من التعارض دون التزاحم.

الرابعة: أنْ يكون الحرام مقدمة لواجب فيما إذا لم تكن المقدمة دائمية نظير توقف إنقاذ الغريق على الغصب, وأمّا إذا المقدمة دائمية كان من موارد التعارض.

الخامسة: إذا كان الواجب والحرام متلازمين إتّفاقاً كالتلازم بين إستقبال القبلة وإستدبار الجدي في بعض مناطق العراق؛ فيقع التزاحم بينهما فيما إذا كانأحدهما واجباً والآخر حراماً, وأمّا إذا كان التلازم دائمياً دخل في موارد التعارض, فيقع بين دليلي الحكمين.

القسم الثاني: التزاحم من غير جهة القدرة؛ فقد مثل له بما إذا كان المكلف مالكاً للنصاب الخامس من الإبل وهو خمس وعشرون ناقة, فإنَّه يجب فيه خمس شياه، ثم ملك بعد مضي

ص: 316

ستة أشهر فرداً آخراً فصار المجموع ست وعشرون ناقة؛ وهو النصاب السادس وفيه بنت مخاض, فإنَّ المكلف يستطيع أنْ يدفع خمس شياه عند انتهاء الحول؛ عملاً بما دلَّ على لزومها في خمس وعشرين ناقة, كما إنَّه قادرعلى دفع بنت مخاض عند مضي ثمانية عشر شهراً؛ عملاً بما دلَّ على لزومها في ستّ وعشرين ناقة ولكن دلَّ الدليل على أنَّ المال الواحد لا يزكى في العام الواحد مرتين, فيقع التزاحم بين الحكمين من هذه الجهة لا من جهة عدم القدرة على الإمتثال.

وقد أشكل عليه السيد الخوئي قدس سره بوجوهٍ؛ نُوردها ثم نذكر ما يترتب عليها من نقاش:

1- إنَّ القسم الثاني يرجع إلى القسم الأول وليس هو قسم له, لأنَّ التضادّ الإتّفاقي بين أمرين لا يكون إلا من جهة عدم القدرة على إتيانهما معاً من باب الإتّفاق, فلا يكون الثاني مغايراً في الحقيقة للأول.

وفيه: إنَّه خلاف الوجدان؛ فإنَّ التضادّ الإتّفاقي لا يكون منشؤه منحصراً بعدم القدرة على الأمرين إتّفاقاً, فإنَّه ربَّما يكون عدم القدرة حاصلاً من تضادّ الحكمين من حيث إمتناع إجتماع كلِّ واحدٍ من المتعلقين من مورد واحد لا أنْ يكون التضادّ منشأه عدم القدرة الإتّفاقي.

وبعبارة أُخرى: إنَّ العجز قد يحصل إتّفاقاً ويرجع إلى القصور في نفس القدرة, كالأمر بوجوده في مكان معين وملازمة شخص في ذلك الوقت وهو غير موجود في ذلك المكان, فإنَّه يمتنع عليه إمتثال كِلا الحكمين؛ إذ يمتنع أنْ يكون الشخص في مكانين في آنٍ واحد, وقد يحصل من ناحية متعلقها؛ كإنقاذ الغريقين, فإنَّه يتصور تحققه من شخص له قوة كبيرة فينقذ كِليهما معاً, فالفرق بين القسمين واضح.

ص: 317

2- إنَّه لا ثمرة لهذا التقسيم, فيكون لغواً محضاً.

وهو يرد على كثير من المباحث الأصولية مع إنَّهم لا يلتزمون به, كما أنَّ فيه نفي الثمرة في بعض البحوث كما في المقام لا يكون دليلاً على لغويته مطلقاً كما هو واضح إذ أنَّه يمكن فرض الثمرة, فإنَّ هذه الأقسام تختلف في جريان أحكامالترتب كما فصَّله المحقق النائيني قدس سره ؛ وسيأتي الكلام فيه في محله إنْ شاء الله تعالى.

1- إنَّ التزاحم ينحصر أمره بما كان منشؤه عدم القدرة على الإمتثال, ولا يتصور تحققه من جهة أخرى, والمثال الذي ذكره في القسم الثاني ليس من مصاديق التزاحم بل من مصاديق التعارض، لأنَّ ما دلَّ على أنَّ المال الواحد لا يزكى في السنة الواحدة مرتين يوجب العلم بكذب أحد الدليلين الدالّ أحدهما على وجوب الزكاة في النصاب الخامس، والثاني على وجوب الزكاة في النصاب السادس فلا بُدَّ من إعمال قواعد المعارضة ولا ربط له بباب المزاحمة فهو نظير ما دلَّ على عدم وجوب ست صلوات في اليوم الواحد, الموجب للتعارض بين ما دلَّ على وجوب صلاة الجمعة في يومها.

وفيه: إنَّ المثال موضع النزاع بين الفقهاء, فبعضهم يعتبره من التعارض وآخرون يدخلونه في التزاحم, لأنَّ ضابط التزاحم موجود في المثال الذي ذكره المحقق النائيني قدس سره , وهو ما إذا كان المكلف قد توجه إليه تكليفان لا يمكن الجمع بينهما؛ إمّا لأجل عدم القدرة عليه أو لوجود دليل خاصّ يدلُّ على ترك الجمع بينهما فانتفت القدرة لأجله, والمثال من قبيل الثاني؛ فإنَّ الدليل الدالّ على نفي تكرر الزكاة في العام الواحد في المال الواحد يدلُّ على نفي إجتماع الشيئين, أي نفي الزكاة ثانياً بعد ثبوتها أولاً, فكان مفاد الدليل أنَّ المال إذا ثبت فيه الزكاة أولاً يثبت فيه مرة أخرى, وهو ثبوتها أولاً برفع موضوع ثبوتها ثانياً فما

ص: 318

ذكره السيد الخوئي قدس سره ردَّاً عليه غير صحيح على مبنى المحقق النائيني قدس سره ؛ وسيأتي في كتاب الزكاة تحرير النزاع من هذه المسألة.

مرجحات التزاحم

ذكروا أنَّ المرجحات هنا هي التي يحكم بها العقل, بخلاف المرجحات في باب التعارض؛ فإنَّ المرجح فيها هو المولى نفسه وقد جعلوا ذلك هو الفارق بين البابين، كما أنَّ الفرق الآخر بينهما من جهة التقديم؛ فإنَّ باب التعارض يكون تقديم أحد المتعارضين بأقوائية الدلالة وترجيح السند بالشهرة وموافقة الكتاب وغير ذلك مِمّا هو مذكور في بحث التعارض.

بينما تكون المرجحات في باب التزاحم أمور أخرى غير ما هو مذكور في باب التعارض وهي:

المرجح الأول: تقديم ما ليس له بدل على ما كان له بدل فيما إذا كان بين حكمين؛ أحدهما له بدل والآخر ليس له بدل, وقد ذكروا له صورتين:

الصورة الأولى: أنْ يكون لأحدهما بدل في عرضه كما إذا كان واجباً تخييرياً, سواءً كان شرعياً كخصال الكفارة أم عقلياً كالواجب الموسع, وكان الآخر واجباًتعيينياً أو مضيقاً كما إذا تزاحم وجوب أداء الدين مع الإطعام والعتق الذي هو إحدى خصال الكفارة التخييرية، أو تزاحم وجوب إنقاذ الغريق مع وجوب الصلاة في أثناء الوقت بحيث لا تفوت الصلاة بامتثاله, والحكم في هذه الصورة تقديم الواجب التعييني على الواجب التخييري, وقد ذكروا في وجه التقديم بأنَّ الواجب التخييري لا إقتضاء له بالنسبة إلى الفرد المزاحم, لأنَّ المكلف مخير في مقام الإمتثال بين أفراد التخيير, والواجب التعيني له إقتضاء والدعوة إلى خصوص ما فيه التزاحم فينحصر الإمتثال فيه, ومن الواضح أنَّه لا تزاحم بين ما له إقتضاء وبين ما لا إقتضاء له فيقدم الأول على الثاني, لكن لا يخفى أنَّ هذا الوجه ينفي أصل التزاحم والتنافي لا أنْ يكون علاجاً له, وتقديم أحدهما على الآخر.

ص: 319

الصورة الثانية: ما إذا كان لأحدهما بدل طولي كالطهارة الحدثية المائية, فإنَّ لها بدلاً في طولها وهو التيمم, فلو تزاحم وجوبها ووجوب ما ليس له بدل كالطهارة الخبثية بأنْ كان هناك ماء لا يكفي إلا لأحدهما مع احتياجه إليهما لأجل الصلاة؛ قدَّم ما لا بدل له على ما له البدل.

وقيل في وجه التقديم أنَّه ببناء العرف إعتبار أنَّه يدور بين ترك أصل المصلحة لأجل تحصيل مصلحة أخرى, وبين تحصيل أصل المصلحة وإهمال بعض المصلحة الآخرى؛ كان الثاني مقدماً, ونتيجته ما ذكرناه من تقديم ما لا بدل له على ما له البدل.

وأُشكل عليه:

1- إنَّه لا إعتبار للنظر العرفي في المقام.

2- إنَّه غير مطَّرد, إذ قد يكون ذلك المقدار الفائت من المصلحة أهم في نظر العرف, وأشد أثراً من نفس المصلحة الأخرى المحتفظ بها بتمامها، فيقدم لا محالة.

وفيه: إنَّه إذا لم يكن للنظر العرفي إعتبارٌ فلا وجه لاعتباره في ملاحظته في ذلك المقدار الفائت من المصلحة؛ فإنَّ بينهما تهافتاً, مع إنَّه لو كان الأمر كذلك عند العرف فلا يحكم بتقديم ما لا بدل له على ما له بدل.

وقيل: بأنَّ وجه التقديم هو أنَّ ما له بدل في طوله يكون وجوبه مقيداً بالقدرة الشرعية فيكون من مصاديق المرجح الثاني, وهو إذا كان أحد الحكمين مقيداً بالقدرة الشرعية والآخر غير مقيد بها؛ كما سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

وفيه: إنَّه يمكن أنْ يجتمع في مورد واحد سببان للترجيح باختلاف الحيثية والجهة, فإذا قُدم أحد السببين يترتب عليه آثاره وأحكامه؛ كما ستعرف إنْ شاء الله تعالى.

فالمرجح الأول لا يكون مرجحاً في الصورة الأولى, وفي الثانية يمكن أنْ يجتمع معه سبب آخر للترجيح, ويرجع إلى العرف في تقديم أحدهما على الآخر كما عرفت.

ص: 320

ثم إنَّ المحقق النائيني قدس سره قد تعرض لفرع فقهي في المقام, وهو ما إذا دار أمر المكلف بالصلاة بين إدراك تمام الوقت مع الطهارة الترابية وعدم إدراك تمامه مع الطهارة المائية وحكم بترجيح الأول على الثاني لأنَّ الطهارة المائية لها بدل وهي الطهارة الترابية بخلاف تمام الوقت فإنَّه لا بدل له، وقد عرفت تقديم ما لا بدل له على ما له البدل. وهذا الفرع وقع فيه النقض والإبرام بين الأعلام وأطال الكلام فيه بعض الأعلام مع أَّنه لا يستحقُّ تلك إلاطالة، وهذا هو شأن كلِّ فرع فقهي إذا وقعت فيه الآراء الأصولية.

والحقُّ كما سيأتي بيانه في موضعه؛ إنَّه لا مزاحمة بين الأمر بالوضوء والأمر بإيقاع الصلاة في تمام الوقت وهما أمران ضمنيان فلا مزاحمة بينهما, فيسقط الأمر بالصلاة التامة بجميع أجزائها وشرائطها فيحدث الأمر بالناقص، ويدور الأمر بين إعتبار الوضوء أو تمام الوقت فيقع التعارض بين دليليهما, والنتيجة هي التخيير بينهما من دون وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

هذا كلُّه بحسب الوجه الأصولي. أمّا بحسب الدليل الشرعي فسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

المرجح الثاني: قبل بيان ما يرتبط به نقول أنَّ الحكمين إمّا أنْ يكون أحدهما مشروطاً بالقدرة الشرعية والآخر بالقدرة العقلية, أو يكونا مشروطين بالقدرة الشرعية, أو يكونا مشروطين بالقدرة العقلية.

وها هنا أقسام ثلاثة:

القسم الأول: إذا كان أحد الحكمين مشروطاً بالقدرة العقلية والآخر مشروطاً بالقدرة الشرعية

فيقدم الأول على الثاني؛ والمراد بالقدرة الشرعية هي القدرة العرفية التي هي أخصُّ من القدرة العقلية فإنَّه ليس للشرع فيها معنىً خاصاً, فالقدرة العرفية هي التمكن من الفعل مع عدم العسر والمشقَّة فلا قدرة عرفاً في موردها، ولذا ترتفع القدرة مع المنع الشرعي

ص: 321

عن العمل لوقوعه مع فعله في تبعات مخالفة المنع الشرعي, فهو حرج ومشقة عليه, وبذلك يصدق عرفاً أنَّه غير متمكن.

وأمّا وجه إعتبار القدرة واشتراطها في الحكم فهو يرجع إلى أنَّها إنْ أخذت في موضوع الحكم في لسان دليله تكون ظاهرة في القدرة العرفية؛ فإنَّ العرف هو المرجع في باب الألفاظ, والمفهوم العرفي للقدرة غير المفهوم العقلي للقدرة. وأمّا إذا لم يقيد الحكم في دليله بالقدرة فيكون مطلقاً من ناحيتها, لكن العقل يحكم باعتبار القدرة العقلية حتى لا يستلزم الإستحالة أو اللغوية في الحكم في صورة الإمتناع, والوجه في تقديم الحكم المقيد بالقدرة العقلية على الحكم المقيد بالقدرةالشرعية عند التزاحم بينهما ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره (1)؛ من أنَّ ثبوت الحكم المقيد بالقدرة العقلية يكون رافعاً لموضوع الحكم المقيد بالقدرة الشرعية كما عرفت من إرتفاع القدرة عرفاً بالحكم الشرعي المانع من العمل دون المقيد بالقدرة الشرعية فإنَّه لا يكون رافعاً لموضوع الآخر؛ إذ المنع الشرعي لا يرفع القدرة عقلاً على العمل.

وذكر المحقق الخراساني قدس سره في توضيحه في تقديم المورود عند الدوران بينه وبين الوارد أنَّه إمّا أنْ يكون بلا وجه أو على وجه دائر ولا عكس.

وفي المقام؛ إنَّ الإلتزام بالحكم المقيد بالقدرة العقلية لأجل تمامية موضوعه وعدم الإخلال بجهة ثبوته سوى إبتلائه بالحكم الآخر المشروط بالقدرة الشرعية وهو غير صالح للمنع لأنَّه يتوقف على ثبوت موضوعه, وهو مرفوع بالحكم الآخر كما عرفت. فحينئذٍ إمّا أنْ نلتزم به مع عدم موضوعه؛ وهو فاسد. أو نلتزم بأنَّه يمنع الحكم الآخر فيثبت موضوعه وهو يستلزم الدور؛ لأنَّ مانعيته عن الحكم الآخر يتوقف على تمامية موضوعه وتمامية موضوعه تتوقف على عدم الحكم الآخر؛ فيمتنع عدم الحكم الآخر إليه.

ص: 322


1- . فرائد الأصول؛ ج2 ص751.

وقيل: إنَّه بناءً عليه يمكن القول بأنَّ المقام ليس من موارد المزاحمة؛ فإنَّ نسبة الحكم المقيد بالقدرة العقلية إلى الحكم المقيد بالقدرة الشرعية نسبة الدليل الوارد إلى الدليل المورود, ولا معارضة بين الوارد والمورود فلا تمانع بين الحكمين, فيخرج عن مصاديق باب المزاحمة ولا يكون المرجح المزبور من مرجحات باب التزاحم فإنَّه لا يختَّص به بل يسري إلى غيره أيضاً.

ولكن يرد عليه بأنَّ ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره إنَّما يختَّص بباب الورود دون المزاحمة, فإنَّ إبتلاء الحكم المقيد بالقدرة الشرعية بالحكم المقيد بالقدرة العقلية يكفي في رفع الأخير موضوع الأول فيترجح عليه. وحينئذٍ لا وجه لفرض أنْ يرفع الأول موضوع الثاني. نعم؛ هو فرض صحيح في موارد الورود.

ومن هنا لا يمكن تشبيه المقام به, فالصحيح أنَّه من المرجحات؛ إذ لولا الإبتلاء بالتمانع بينهما ورفع أحدهما لموضوع الآخر لما أمكن تقديم الحكم المقيد بالقدرة العقلية.

وقال المحقق النائيني قدس سره (1) في وجه تقديم الحكم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية بأنَّ الأول تامُّ الملاك فعلاً فيكون وجوبه فعلياً مانعاً من تمامية الملاك في الثاني؛ للعجز عنه شرعاً, بخلاف المشروط بالقدرة الشرعية؛ فإنَّ وجوبه يتوقف على تمامية ملاكه, وهي تتوقف على عدم الوجوب الآخر, فلو إستند عدم وجوبه إلى الوجوب المشروط بالقدرة شرعاً لزم الدور, وهو لا يختلف عمّا ذكره المحقق الخراساني قدس سره , إلا أنَّ الفرق بينهما في أنَّالأخير نظر إلى السبب القريب وهي ترفع موضوع الحكم الآخر. أمّا المحقق النائيني قدس سره نظر إلى البعيد؛ وهو الملاك.

ولكن الذي يرد عليه أنَّه قال بأنَّ مسألة التزاحم لا تبتني على رأي العدلية في إثبات الملاكات للأحكام إلا أنْ يريد الجواب عن خصوص هذا المرجح فقط.

ص: 323


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص272.

القسم الثاني(1): إذا كانا مشروطين بالقدرة الشرعية

وهو إمّا أنْ يكون أحدهما أسبق زماناً من الآخر، أو يكونا متقاربين, أما الأول؛ وهو ما إذا كان أحد الواجبين أسبق زماناً من الآخر.

والحكم فيه هو ترجيح المتقدم زماناً على المتأخر؛ والوجه في ذلك أنَّ المتقدم زماناً تامٌّ في العقلية, ويكون مستقراً في حاله من دون مانع ويكون رافعاً للتكليف الآخر الذي يرفع موضوعه فلا يبقى له محل في ظرفه.

وقد أُشكل عليه أيضاً بأنَّه مع رفع موضوع الآخر بالأسبقية زماناً في الظرف المزاحم يخرج المورد من باب التزاحم المصطلح الذي هو التنافي في المقام, ولا يمكن أنْ يكون كلّ واحد من الحكمين داعيين إلى متعلقهما في زمان واحد, والمفروض أنَّ التنافي الحاصل في المقام هو كون أحدهما يرفع موضوع الآخر, فليس هو من التزاحم المصطلح وإنْ أطلق عليه التزاحم بالمعنى اللغوي, وهو مطلق التنافي.

هذا الإشكال يجري في أغلب المرجحات المذكورة, وقد عرفت الجواب عنه آنفاً لأنَّ التزاحم هو بمعنى التنافي في مقام الإمتثال بعد تماميتهما من حيث الداعوية, فإنَّه لولا التزاحم بين الحكمين لم يأتِ دور العلاج؛ وهو إمّا أنْ يتحقق برفع الموضوع أو بغيره, فلا وجه لإخراجه عن الترجيح, فلعلَّ العلماء نظروا إلى المبدأ؛ وهو ثبوت التزاحم.

ثم إنَّ الأسبقية الزمانية يمكن أنْ تُتصور على صور:

الصورة الأولى: أنْ يكون أحد الحكمين سابقاً على الآخر بموضوعه وامتثاله. بمعنى؛ إنَّ موضوع الحكم الآخر وامتثاله لا يكون إلا بعد إمتثال الأول, كما إذا حصل له الإستطاعة في شهر رجب ولكنه كان مريضاً ويعلم أنَّه يتعافى من مرضه في شهر شوال, وقد نذر على

ص: 324


1- . وهو المرجح الثالث.

نفسه أنْ يزور الإمام الحسين علیه السلام في شهر رجب أيضاً؛ مِمّا يوجب صرف المال المزبور في الزيارة. وفي هذه الصورة يقدم الأسبق زماناً -وهو النذر- على الحج, لأنَّ الوجوب السابق فعلي تامّ الموضوع, إذ لا مانع عنه عقلاً كما هو المفروض ولا شرعاً فإنَّه إنَّما يُتصور في الوجوب الآخر ولكنه ليس بثابت فعلاً لعدم موضوعه, فلا يصلح للمانعية وإذا إنتفت المانعية عقلاً وشرعاً لزم إمتثاله، فيرتفع موضوع اللاحق.وبعبارة أخرى: لا يكون الحكمين كِلاهما فعليين في زمان واحد في هذه الصورة.

الصورة الثانية: أنْ يكون أحد الحكمين سابقاً بموضوعه وامتثاله لكنه كان بنحو الواجب الموسع, أي أنَّه إذا لم يمتثل في ظرفه يستمر الحكم في الزمان اللاحق, كالمثال المتقدم فيما إذا لم يقيد نذر الزيارة بشهر رجب بل كان مطلقاً, وإنْ كان الشرط المعلَّق عليه النذر مثلاً متحققاً في شهر رجب فيصير الحكم من ذلك الحين فعلياً.

وحكم هذه الصورة يظهر مِمّا ذكرناه سابقاً من أنَّه لا مزاحمة بين الواجب الموسع والواجب المضيق إلا إذا تضيق الواجب الموسع في وقت المضيق؛ فيقع التزاحم بينهما لأنَّ كلَّ واحد منهما مضيقاً.

الصورة الثالثة: أنْ يكون أحد الحكمين سابقاً في امتثاله على إمتثال الآخر لكن موضوعه مقارن مع موضوع الآخر، كما لو نذر قبل الإستطاعة أنْ يزور الإمام الحسين علیه السلام في السابع من ذي الحجة إنْ جاء أخوه من السفر, فتقارن مجئ أخيه مع حصول الإستطاعة المالية أو البدنية أو تعاقباً من دون فاصل زماني طويل, بحيث لم يتمكن من إتيان المقدمة للسابق قبل حصول اللاحق.

والحكم في هذه الصورة وقوع التزاحم بين الحكمين. وقد وقع الخلاف في وجود المرجح وعدمه؛ فذهب بعضهم إلى أنَّه لا ترجيح لأحدهما على الآخر وعدم تقديم الأسبق زماناً

ص: 325

منهما بحسب الواجب بعد فرض ثبوت موضوع كلٍّ منهما وتقارنهما فيلزم المكلف حفظ القدرة على كلٍّ منهما بملاك وجوب المقدمات المفوتة, فيجب الحج ويلزم صرف المال فيه والسير مع القافلة التي تعتزم الحج، كما أنَّه تجب الزيارة ويلزم السير إلى زيارة الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء إنْ كان بعيداً أو البقاء فيها إنْ كان متوطناً وعدم إتلاف القدرة في غير الزيارة، فيكون كلُّ واحد من هذين الحكمين رافعاً لموضوع الآخر ولا أثر للسبق الزماني في مقام الإمتثال, لأنَّ وجوب المقدمة المفوتة للواجب اللاحق يرفع موضوع الوجوب السابق, سواءٌ قلنا بأنَّ لزوم وجوب المقدمات المفوتة إمّا بملاك حفظ الفرض الثابت في كلٍّ من الحكمين, أو على نحو الوجوب المعلَّق, أو على نحو المشروط بالشرط المتأخر.

وقيل: كفاية الأسبقية الزمانية في الترجيح.

وقيل غير ذلك؛ وسيأتي التفصيل في موضعه إنْ شاء الله تعالى.

الصورة الرابعة: أنْ يكون الحكمان متقارنين زماناً بحسب الإمتثال, لكن أحدهما أسبق موضوعاً من الآخر بنحو يستطيع المكلف المحافظة عليه قبل حدوث موضوع الآخر, كما لو نذر قبل حصول الإستطاعة أنْ يزور الإمام الحسين علیه السلام يوم عرفة إنْ جاء أخوه من السفر, فجاء أخوه وكان متمكناً من السفر إلى كربلاء فعلاً ولكنه غير متمكن من السفر إلى الحج.قيل: إنَّ الحكم في هذه الصورة والصورة الأولى هو: ترجيح الأسبق زماناً؛ وهو النذر في المثال؛ لوجود حكم فعلي بوجوب المقدمة المفوتة فيلزم حفظ القدرة فعلاً, فيصرف المال في السفر إلى زيارة الإمام الحسين علیه السلام فيرتفع بذلك موضوع الحج, والحكم الآخر لا يمنعه لعدم تحقق موضوع الحج فلا يجب حفظ المقدمات المفوتة, ولذا جاء صرف المال في غير الحج وإتلافه قبل الإستطاعة لو لم يكن وجه آخر بوجوب المحافظة عليه.

ص: 326

وأشكل عليه بأنَّه وإنْ جاز صرف المال في الوفاء بالنذر لكنه غير واجب, فإذا لم يصرفه في الوفاء بالنذر يتحقق موضوع الواجب الآخر في ظرفه فيثبت وجوبه ويكون رافعاً لموضوع وجوب الواجب السابق زماناً فيكشف عن عدم تحققه, فلا تكون المقدمات واجبة لأنَّ تركها يؤدي إلى إنكشاف عدم توفر الملاك لا إلى تفويت الملاك, فتفترق هذه الصورة عن الصورة الأولى.

وأجاب بعض الأعلام عنه بأنَّ الحكمين اللذين يكون أحدهما أسبق زماناً إمّا موضوعاً أو إمتثالاً؛ إمّا أنْ يكون لكلٍّ منهما دعوة إلى مقدماته المفوتة بملاك وجوب المقدمات المفوتة؛ فيقع التزاحم بينهما في وجوب المقدمات, ويكون وجوب كلُّ مقدمة رافعاً لموضوع وجوب ذي المقدمة الأخرى فلا أثر لسبقه زماناً وعدمه.

وأمّا إذا لم يكن لكلٍّ منهما دعوة نحو مقدماته المفوتة بل كان ذلك لأحدها فقط؛ يقدم الذي له الدعوة نحو المقدمات على الذي لا نظر له, لأنَّه فعلي ولا مانع منه.

وفيه: إنَّ موضوع البحث فيما إذا كان لكلٍّ منهما دعوة إلى مقدماته المفوتة؛ فيعود الكلام في وجه تقديم أحد الحكمين إنْ كان في البين ما يرجع به, وإلا إذا كان في أحدهما الداعوية دون الآخر كان الترجيح للأول, وسيأتي تفصيل الكلام في هذا الفرع إنْ شاء الله تعالى.

وأمّا إذا كانا متقارنين زماناً؛ موضوعاً وإمتثالاً؛ فإمّا أنْ يكونا متساويين في الأهمية, أو يكون أحدهما أهم من الآخر. لا ريب في أنَّ في التساوي التخيير.

أمّا إذا كانا مختلفين؛ فقيل يقدم الأهم على المهم بحكم العقل الذي يرى بأنَّ المولى لا بُدَّ له من الحكم بالأهم ملاكاً, وإلا فلو حكم بالمهم يكون ترجيحاً للمرجوح على الراجح وهو قبيح بنظر العقل.

ص: 327

وأورد عليه المحقق النائيني قدس سره (1) بأنَّ ترجيح المرجوح على الراجح لا يجري في المقام, وذلك لأنَّ المناط في ترجيح المرجوح إنَّما هو فيما إذا كان ملاك كلُّ حكم ثابتاً في حدِّ نفسه حتى في صورة التزاحم ولم يكن كلُّ واحد منهما رافعاًلملاك الحكم الآخر, وحينئذٍ يكون الحكم على طبق الملاك المرجوح تفويتاً لغرض الأهم, وهذا هو ترجيح المرجوح على الراجح.

وفي مورد التزاحم الذي نحن فيه الأمر ليس كذلك, لأنَّ ثبوت ملاك كلّ من الحكمين مشروط بعدم المانع عقلاً وشرعاً في متعلق الحكم, فإذا ثبت المانع الشرعي فإنَّه يرفع ملاك الحكم في الممنوع, وحينئذٍ فلو قدَّم المولى المهم وحكم بوجوبه لم يلزم تفويت الغرض الأهم بل يلزم نفيه وعدم تحققه, وهذا لا قبح فيه على المولى؛ إذ لا يلزم عليه حفظ الملاك فيه وعدم نفيه بمانع، فمع وجوب المهم لا ملاك في الطرف الآخر الأهم كي يلزم تفويته.

وعليه؛ يصحُّ له الحكم بالمهم فيلزم منه نفي تحقق الملاك في الأهم, كما يصحُّ له الحكم بالأهم فيلزم منه نفي تحقق الملاك في المهم؛ من دون أنْ يلزم منهما محذور في البين فلا ملزم له بترجيح أحدهما على الآخر, وإلا كان ترجيحاً بغير مرجح، فإذا كان الأمر في كلِّ واحد من الحكمين كذلك بمعنى أنَّه لا وجه للإلزام بأحد الحكمين بعينه. إذن يتحقق التخيير بينهما؛ إمّا بمعنى وجوب أحدهما لا بعينه, أو وجوب كلّ منهما مشروطاً بترك الآخر لأنَّه مقتضى عدم إمكان الجمع بين الحكمين, لرافعية كلٍّ منهما لموضوع الآخر؛ كما هو المفروض وعدم إمكان الحكم بأحدهما بعيينه لأنَّه ترجيح بدون مرجح, فإنْ إلتزمنا بالترتبّ وأمكننا رفع التزاحم بين الحكمين بإجراء الترتب تعين الإلتزام به فيقيد إطلاق كلٍّ منهما بترك الآخر، فيكون كلٌّ منهما ثابتاً في صورة ترك الآخر, فيرتفع التزاحم بينهما بذلك. والنتيجة هي: تخيير المكلف بين الفعلين, وإنْ لم يلتزم بالترتب بإلانكار مطلقاً أو أنكرنا

ص: 328


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص276.

ثبوته في مورد تزاحم الواجبين المشروط كلٌّ منهما بالقدرة شرعاً، تعين فيما نحن فيه الإلتزام بسقوط كِلا الحكمين في مورد التزاحم والقول بوجوب تخييري متعلق بأحدهما لا بعينه لثبوت أحد الملاكين لا بعينه، فالمكلف هو الذي يختار أحدهما لعدم إمكان الجمع بينهما.

ثم اختار قدس سره الأخير في المقام وذهب إلى التخيير الشرعي منه بمعنى ثبوت حكم شرعي بأحد العملين لا بعينه, فإنَّه وإنْ كان ملتزماً بالترتب لكنه أنكره في مثل المورد مِمّا كان التزاحم فيه بين حكمين مشروطين بالقدرة شرعاً.

وهذا الذي ذكره قدس سره هو الوجه في ذهابه إلى عدم تقديم إلاهم واختياره التخيير شرعاً.

أمّا السيد الخوئي قدس سره فقد اختار تقديم الأهم فيما نحن فيه, لأنَّه لا مانع من تقديم الأهم عقلاً؛ للقدرة عليه تكويناً, لا شرعاً؛ لأنَّ المانع الشرعي المتصور ليس إلا وجوب المهم الذي يستلزم صرف القدرة في غير الأهم, ولكنه لا يصلح للمانعية؛ لأنَّه بمزاحمته للأهم غير مقدور شرعاً فلا يكون الأمر به فعلياً مع عدم القدرة عليه شرعاً, ومعه لا يكون مانعاً من الأهم.وأورد عليه بأنَّه خلاف المفروض في المقام, إذ أنَّ كلاً منهما مشروط بالقدرة شرعاً فيكون كلٌّ منهما رافعاً لموضوع الآخر لأنَّه مانع شرعي عن الآخر، فلا وجه لمانعية الأهم عن المهم؛ دون العكس.

وفيه: إنَّ نفس الأهمية الموجودة في أحدهما تكون فارقاً بين الحكمين وإنكارها مكابرة واضحة.

وقيل: إنَّ تقديم الأهم إنَّما يكون بحكم العقل لا بأمر المولى, وشرعاً لما ذكره المحقق النائيني قدس سره لثبوت ملاك كل من الحكمين في نفسه, ومع قطع النظر عن المزاحم فإذا إلتزمنا بسقوط كِلا الحكمين فالصور المتصورة هي ثلاث:

إمّا الحكم بالتخيير بينهما بمعنى وجوب أحدهما لا بعينه، وهو يستلزم ثبوت كلٍّ من الملاكين لعدم منافاته للقدرة الشرعية على كلٍّ من الفعلين, ففي هذه الصورة يحكم العقل

ص: 329

بلزوم الإتيان بالأهم ملاكاً, كما يحكم بلزوم تحصيل أصل الغرض الملزم فيما إذا لم يتمكن المولى من الأمر به لأجل مانع, فإذا لم يقدر المولى أنْ يحكم بلزوم الأهم لأجل ما ذكره المحقق النائيني من لزوم ترجيح المرجوح فيحكم العقل بلزومه ترجيحاً للأهم.

وإمّا أنْ يحكم على طبق الأهم؛ وهو المطلوب.

وإمّا أنْ يحكم على طبق المهم؛ وهو من الترجيح من غير مرجح.

وأورد عليه بأنَّ العقل لا يتمكن من الإلزام بالأهم كما لا يتمكن الشرع, لأنَّ المحذور الذي يمنع من تعيين الأهم شرعاً يمنع من تعيينه عقلاً, لأنَّ الإلزام العقلي كالإلزام الشرعي؛ رافع لموضوع الآخر, فالعقل إذا حكم بالمهم فإنَّه يرفع موضوع الأهم ويكشف عن عدم ثبوت ملاك الأهم, وكذلك الأمر بالنسبة إلى حكمه بالأهم؛ فلا بُدَّ من ترجيح أحدهما على الآخر من دون مرجح.

ولكن الشأن كله في ثبوت المقولة, فإنَّك عرفت أنَّ ما ذهب إليه بعض من تقديم الأهم لعدم وجود مانع فيه لا عقلاً ولا شرعاً مع أنَّ القول بأنَّه إذا حكم العقل بالمهم يكشف عن عدم ثبوت ملاك الأهم أول الكلام.

ثم إنَّه بقي الكلام في الفرع الذي ذكره الفقهاء في كتبهم الفقهية واختاره المحقق النائيني قدس سره مثالاً للواجبين المتزاحمين المشروطين بالقدرة الشرعية مع كون أحدهما أسبق زماناً؛ وهو مثال تزاحم النذر والحج فيما إذا نذر قبل الإستطاعة أنْ يزور الإمام الحسين علیه السلام يوم عرفة ثم حصلت الإستطاعة؛ فقد وقع الخلاف بين الفقهاء في تقديم أيهما, وفي المسألة أقوال نذكرها على سبيل الإجمال, والتفصيل يأتي في موضعه، وهذه الأقوال هي:

القول الأول: تقديم النذر؛ كما عليه جمع من الفقهاء كصاحب الجواهر والسيد اليزدي والسيد الوالد وغيرهم (قدَّسَ الله أسرارهم) لأنَّه غير مقيد بالقدرة شرعاً,فيقدم على

ص: 330

الحج الذي هو مقيد بالقدرة شرعاً, وقد عرفت أنَّه مقتضى القاعدة في تزاحم الحكمين المختلفين في أخذ القدرة في متعلقهما.

القول الثاني: تقديم حجة الإسلام؛ ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره , لأنَّ وجوب الوفاء بالنذر كوجوب الحج مقيد بالقدرة شرعاً, والتي ترتفع بالمانع الشرعي, ومقتضى ذلك وقوع التمانع بين الحكمين، إلا أنَّ وجوب الوفاء مقيد بأنْ لا يكون متعلقه محللاً للحرام, وفي المقام هو كذلك؛ لأنَّ الوفاء بالنذر يستلزم ترك الحج وإنْ كان في نفسه راجحاً لأنَّه زيارة الإمام الحسين علیه السلام , فيكون وجوب الحج رافعاً لوجوب الوفاء لأنَّه يستلزم تحليل الحرام ووجوب الوفاء, ولا يصحُّ ذلك لأنَّه يتوقف على عدم فعليّة وجوب الحج حتى يستلزم منه تحليل الحرام, فلو كان عدم وجوب الحج مستنداً إلى فعليّة وجوب الوفاء بالنذر لزم منه الدور.

وفيه: إنَّ جميع ما ذكره لا يمكن المساعدة عليه, فإنَّ كون متعلق النذر مقيد بالقدرة شرعاً غير صحيح, كما وإنَّ كون معنى تحليل الحرام بالمعنى الذي ذكره –أي: الحصول الإتّفاقي من تحليل الحرام- لا دليل عليه, كما إنَّ وقوع التزاحم بين الحكمين على فرض اعتبار كون القدرة المأخوذة فيها شرعاً غير صحيح.

القول الثالث: تقديم الحج؛ لأَّنه غير مقيد بالقدرة شرعاً فيقدم على وجوب الوفاء بالنذر, لأنَّ موضوعه يرتفع بوجوب الحج.

القول الرابع: تقديم الحج مع عدم رافعية أحدهما لموضوع الآخر, لأنَّه لو إستلزم وجوب الوفاء بالنذر رفع موضوع وجوب الحج للزم لغويته؛ إذ يمكن كل مكلف أنْ يمنع من وجوب الحج عليه بنفي موضوعه؛ وهو الإستطاعة إلى عمرة بالنذر. ولكن كلُّ ذلك غير صحيح وتبعيد للمسافة، وإقحام الفكر الأصولي في المسألة الفقهية فتزداد بعداً عن الفهم العرفي المبني عليه الفقه والروايات، وسيأتي الكلام فيه مفصلاً إنْ شاء الله تعالى.

ص: 331

و كيف كان فان هذا البحث إنَّما هو في القسم الثاني من الأقسام الثلاثة اي في الحكمين المتزاحمين المشروطين بالقدرة الشرعية.

القسم الثالث: إذا كان الحكمان المتزاحمان مشروطين بالقدرة العقلية

ذكروا أنَّه تجري فيه نفس المرجحات السابقة, أي وجود البدل وعدمه, والتقييد بالقدرة شرعاً وعدمه، والأسبقية الزمانية.

أمّا الأول؛ فقد عرفت أنَّ ما لا بدل له يقدم على ما له بدل عند التزاحم بينهما, وإنَّ المناقشات التي ذكرناها في البدل تجري في المقام, والجواب نفس الجواب.

وأمّا الثاني؛ فإنَّه غير جارٍ في المقام, لأنَّ المفروض عدم تقييد كلّ من الواجبين أو أحدهما بالقدرة شرعاً, فما نحن فيه خارج موضوعاً عن الترجيح بالمرجح الثاني.وأمّا الثالث؛ فقد جعل المحقق النائيني قدس سره الأسبقية الزمانية موجبة للترجيح فيما إذا تساوى ملاكا الحكمين, وأمّا إذا كان في أحدهما أهمية دون الآخر فإنَّ الأهم هو المقدم بلا إشكال. بل وقد جعل قدس سره الأسبقية من ثمرات إلتزامه بالتخيير العقلي, وذلك لأنَّ التنافي الذي يحصل بين الحكمين تارةً يأتي من نفس الخطابين؛ فلا بُدَّ أنْ نرفع اليد عن كِلا الحكمين والإلتزام بثبوت خطاب مستقل بأحد الفعلين بنحو التخيير تحصيلاً لأحد الملاكين مع عدم القدرة على تحصيلهما معاً وكون الإلتزام بأحدهما المعين ترجيحاً بلا مرجح, فيكون التخيير شرعياً كما ذهب إليه بعض المحققين.

وأخرى يكون حاصلاً من إطلاق الخطابين؛ فلا بُدَّ من رفع اليد عن كِلا الإطلاقين بمقدار ما به التنافي, وهو يتحقق بتقييد إطلاق كلُّ خطاب منهما بصورة ترك الواجب وهو الترتب، وهذا هو معنى التخيير العقلي.

ص: 332

ومن ثمرات هذا التخيير العقلي دون الشرعي هو تقديم الأسبق زماناً من الواجبين, كما لو تزاحم وجوب القيام في صلاة الظهر ووجوبه في صلاة العصر, فيقدم الأسبق زماناً, وهو لا يتأتى إلا على القول بالتخيير العقلي.

وأمّا إذا كان التخيير شرعياً فلا وجه لترجيح الأسبق زماناً, إذ لا مانع من تعلق خطاب واحد بكلٍّ منهما بنحو البدل فيكون واجباً تخييرياً، والتقدم والتأخر الزماني لا يمنع من ثبوته وصحته, بينما التخيير العقلي مبنيٌّ على كون إمتثال أحدهما يوجب سقوط الحكم الآخر, لأنَّ ثبوت أحدهما مشروط بترك الآخر, فإذا لم يترك الآخر وبما أنَّ إمتثال الواجب المتأخر غير معقول في ظرف المتقدم؛ فلم يكن هناك ما يوجب سقوط التكليف السابق الفعلي. وعليه؛ فيكون الحكم السابق فعلياً من دون مزاحم فيجب إتيانه ويحرم تركه.

وأورد عليه بأنَّ ما ذكره قدس سره لا يفي بالمطلوب, لأنَّ الوجوب المتأخر إمّا أنْ يكون له تأثير ودعوة في الزمان السابق, أو لا يكون له تأثير فعلي. وعلى الثاني يخرج عن مورد المزاحمة، إذ الحكم السابق فعلي ولا مانع من إمتثاله لعدم فعلية التكليف المتأخر ولا تأثير له في ذلك الحين. وحينئذٍ يلزم إمتثال السابق لا لأجل الترجيح بل لأجل عدم المزاحمة. وعليه؛ لا يختلف الحال بين القول بالتخيير العقلي أو التخيير الشرعي؛ أمّا الأخير فلأنَّه لا موضوع له لعدم التزاحم والتساقط, واما على التخيير العقلي فإنَّه يقع التزاحم بين الحكمين لأنَّ كلاً منهما يدعو إلى ما يمنع من إمتثال الآخر في زمان واحد، فالحكم اللاحق قابل للإمتثال في الزمان السابق, بمعنى الإتيان بما له تأثير فيه في الزمان السابق, وهو حفظ القدرة على متعلقه المسقط للتكليف الآخر, فلا يختلف الحال حينئذٍ بين القول بالتخيير الشرعي والتخيير العقلي.

ص: 333

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ تقديم الأسبق زماناً لا يحتاج إلى هذه التعملات الفكرية, بل هو ببناء العقلاء في أعمالهم في مورد التزاحم, بل يعدُّون ترك الأسبق لأجل إمتثال اللاحق سفهاً خلاف سيرة العقلاء, ولا حاجة الى تفسير بنائهم بتوجيهات رديئة, وهذا البناء العقلاني يعين السابق ويقدمه وينفي التخيير, ولو فرض عدم تحقق هذا البناء فإنَّه لا ريب أنَّ التسابق محتمل الأهمية فيتعين بنظر العقل, وإنْ أمكن إرجاع ما ذكره المحقق النائيني قدس سره إلى هذا فهو متين جداً وإلا فالنظر فيه مجال واسع، فإنَّ موضوع التخيير سواء كان شرعياً أو عقلياً هو التساوي بين الحكمين وما ذكره ينفيه.

والحاصل: إنَّه مع تساوي الحكمين في الملاك يتعين ترجيح الأسبق زماناً, وأمَّا إذا كان أحدهما أهم ملاكاً كان هو المقدم سواءً كان متأخراً أم مقارناً بحكم العقل فلا يصحّ تفويته, وعلى المولى إلزام المكلف بالأهم تحصيلاً له وإلا كان الحكم بغيره ترجيحاً للمرجوح وهو قبيح، وإنْ لم يكن في البين أهمية ولا الأسبقية فالحكم هو التخيير عقلاً بالمعنى الذي تقدم؛ وهو الترتب الذي سيأتي تفصيل الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

هذا بعض ما يتعلق بأصل التزاحم, وسيأتي بقية الكلام في بحث التعارض إنْ شاء الله تعالى. لكن بقيت امور لا بُدَّ من التنبيه عليها:

التنبيه الاول: لقد أورد على تقسيم المحقق النائيني قدس سره للحكمين المتزاحمين من كونهما إمّا مشروطين بالقدرة الشرعية أو بالقدرة العقلية أو بأنَّ أحدهما مشروط بالقدرة الشرعية والآخر بالقدرة العقلية وترتيب الأثر على ذلك وهو غير وجيه، لأنَّ جميع الأحكام الشرعية مقيدة بالقدرة شرعاً, لأن التقييد إنَّما يكون على أنحاء ثلاثة:

1- أنْ يكون التقييد في نفس لسان دليل الحكم, كتقييد وجوب الحج بالإستطاعة.

ص: 334

2- أنْ يكون التقييد بدليل خاص منفصل، كما يستفاد من تقييد الوضوء بالقدرة الشرعية من تعليق الحكم بالتيمم على عدم الوجدان والمرض ونحوهما, والتفصيل قاطع للشركه.

3- أنْ يكون بدليل عام منفصل, وهو الثابت في جميع الأحكام؛ بدليل نفي الحرج والإضطرار الذي هو حاكم على جميع أدلة الأحكام, ويبين أنَّ الأحكام تختص بغير مورد العسر وغير مورد الإضطرار العرفي, وهو مساوق لتقييده بالقدرة الشرعية. وعليه فليس للحكمين المتزاحمين إلا صورة واحدة وهي صورة كونهما مقيدين بالقدرة الشرعية.

ومن جميع ذلك يظهر ضابط التزاحم وهو التنافي بين الحكمين في مقام الداعوية والإمتثال بمعنى إمتناع الجمع بين الحكمين من ناحية عدم قدرة المكلف علىالجمع بين متعلقهما فقط لا من ناحية الشرع؛ فإنَّهما تامّان ملاكاً وتشريعاً, بل من ناحية الحجة عليهما في مقام الإثبات من كلِّ جهة أيضاً، ويلزم من ذلك أنْ يكون إتّفاقياً لأجل جعل ما لا يقدر عليه المكلف دائماً قبيح.

التنبيه الثاني: إنَّ لفظ التزاحم لم يرد في نصٍّ شرعي من آية أو حديث حتى يلزم الرجوع إلى العرف في تحديد مفهومه, بل هو إصطلاح أصولي لتعيين الموارد التي يتنافى فيها الحكمان بلحاظ ترتيب بعض الأثار؛ كالترتّب وترجيح الأهم على المهم, أو الأسبق زماناً في بعض الصور, أو التخيير عند التساوي؛ إمّا بنحو الترتب وهو التخيير العقلي أو الشرعي بتعلق خطاب واحد بأحد الفعلين، كما عرفت، فيشمل جميع الأقسام التي ذكرناها بهذا الإعتبار وهو إمتناع الجمع بين الحكمين من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما, ولكن يظهر من بعضهم جعل التنافي بين الحكمين المشروطين بالقدرة شرعاً

ص: 335

ملحقاً بباب التزاحم باعتبار إنطباق ضابط التزاحم عليه لعدم كون التنافي بينهما من جهة التنافي في مقام الداعوية، بل من جهة رافعية كلُّ واحد منهما لموضوع الآخر, ولكن لما كان بحث الترتب يجري كما يجري فيه تقديم الأسبق زماناً والنزاع في نوع التخيير فيه أدرجوه في مبحث التزاحم.

ولكن عرفت أنَّ مناط بحث التزاحم الذي ذكرناه ينطبق عليه, فإدراجه في مبحثه صحيح يجري على القاعدة, كما إنَّه يندرج في بحث التزاحم تزاحم الحكمين في موضوع واحد؛ الذي يعبر عنه بتزاحم المقتضيين بتحقق المناط فيه وهو عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما بعد تمامية الملاك فيهما, ولكن المحقق النائيني قدس سره أخرجه عن هذا البحث لأنَّه راجع إلى المولى وكونه مبتنياً على رأي العدلية, كما أخرجه بعض الأعلام عنه أيضاً باعتبار عدم ترتُّب آثار التزاحم فيه, ولا مجال للترتب في الموضوع الواحد, كما لا معنى للإلزام التخييري فيه مع تساوي الملاكين، كما لا يجري فيه التقديم بالأسبقية زماناً؛ إذ لا معنى للأسبقية هنا وضعفهما ظاهر, وما أبعدهما من صاحب الكفاية من حصر التزاحم الإصطلاحي في التزاحم بين المقتضيين.

وهذا أيضاً لا وجه له ولا ظهور لكلامه في ذلك أيضاً.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّ دليل نفي الحرج أو الإضطرار وإنْ تكفل رفع الحكم في صورة عدم التمكن العرفي لكنه لا يتكفل رفع الملاك لعدم دخالة عدم الحرج في رفع الملاك ولذا قيل بوجود الملاك, لأنَّ ظاهر الدليل أنَّ إرتفاع الحكم لأجل الإمتنان والتسهيل, وهو ظاهر في ثبوت الملاك بحيث لولا الإمتنان لثبت الحكم, وهذا بخلاف تقييد الموضوع بالقدرة فإنَّه ظاهر في دخالة الوصف في ملاك الحكم فيرتفع بدونها, وعلى هذا يثبت الترجيح بالأهمية في تزاحم سائر الأحكام لوجود الملاك في نفسه في موارد إرتفاعهما بالعسر والحرج.

ص: 336

ثانياً: إنَّ الإضطرار والعسر على فرض إيجابهما تقييد موضوع الحكم بالقدرة الشرعية لكنه لا يكون موجباً لرفع موضوع الآخر، وذلك لأنَّ الإضطرار إنْ كان المراد به المعنى الأولي له وهو الإضطرار العقلي فلا معنى له, إذ هو ثابت عقلاً فإنَّه يرتفع لعدم التمكن, فلا مِنّة في رفع الحكم في حاله لأنَّه مِمّا يحكم به العقل.

وإنْ كان المراد به الإضطرار العرفي أي المشقة والعسر كما إعترف به الشيخ الأنصاري قدس سره في رسائله, لأنَّه الذي يصحح الإمتنان, ولكن هذا المعنى من الإضطرار إنَّما يصحُّ ويتَّجه في مورد لا يكون التكليف فيه ممتنعاً, إذ مع إمتناعه من نفسه لا نحتاج إلى إرتفاعه إلى المنة, لأنَّه مرتفع قهراً بحكم العقل؛ فلا منّة في رفعه.

وعليه: فلا يشمل دليل رفع الإضطرار صورة المزاحمة, لأنَّ جعل التكليفين ممتنع في نفسه لعدم القدرة على إمتثالهما، فارتفاع كلٌّ من الحكمين بوجود الآخر أمر قهري لا بُدَّ منه, فلا يكون مشمولاً لدليل الرفع، فلا يكون الحكم حينئذٍ مقيداً موضوعه بعدم الإضطرار من جهة المزاحم بواسطة دليل الرفع بل يكون التقييد بحكم العقل. وعلى هذا فلا يكون أحد الحكمين رافعاً لموضوع الآخر كما زعمه المستشكل.

التنبيه الثالث: عرفت أنَّ الحكمين المتزاحمين إنْ وجد في أحدهما الأهمية يقدم على الآخر، ولا ريب أنَّه مع العلم أو الظنّ المعتبر بها راجحة على الآخر. وأمّا إذا كان مجرد إحتمال فهل يقدم محتمل الأهمية على الآخر؟.

ذكر المحقق النائيني قدس سره (1) أنَّ الكلام يقع تارةً فيما إذا إلتزمنا بالتخيير الشرعي في مورد التساوي في الملاك. وأخرى فيما إذا إلتزمنا بالتخيير العقلي في مورده.

ص: 337


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص279.

أمّا على الأول فيكون من موارد الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين؛ وهو مورد الخلاف بين المحققين, فمن قائل بالبراءة عن التعيين ومن قائل بالإشتغال.

وأمّا على الثاني فيتعين الأخذ بمحتمل الأهمية؛ إذ يدور الأمر بين تقييد كِلا الإطلاقين أو تقييد إطلاق خصوص غير المحتمل, وتقييده معلوم على كِلا الحالين, بينما تقييد محتمل الأهمية غير معلوم فنرجع إلى أصالة عدم التقييد فيتعين الأخذ بإطلاقه.

هذا خلاصة ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في المقام, وبيان ذلك نقول أنَّ لدوران الأمر بين التعيين والتخيير صوراً:

ما إذا كان في المسألة الأصولية؛ بمعنى دوران الأمر في الدليلين المتعارضين بين التخيير بينهما في مقام الحجية وتعيين أحدهما خاصة, ولا إشكال أنَّ الحكم هو التعيين كما سيأتي في محله أنَّ الشكَّ في الحجية

1- يكفي في عدمها, فيكون محتمل الحجية مقطوع الحجية على كِلا التقديرين, لأنَّه إمّا فرد التخيير أو هو المتعين, وأمّا الفرد الآخر فهو مشكوك الحجية فالأصل عدمها.

2- أمّا إذا كان الدوران بين التعيين والتخيير العقلي في الفرع الفقهي؛ كما لو ورد أمر قد تعلق بالطبيعة ثم شكَّ في أنَّ المتعلق ذات الطبيعة حتى يكون المكلف مخيراً بين أفرادها أو أنَّ المتعلق الطبيعة مع خصوصية ما. والمعروف فيه هو الرجوع إلى البراءة في الخصوصية فيكون من مصاديق دوران الأمر بين الأقل والأكثر فيكون التخيير عقلياً.

3- دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي في المسالة الفرعية؛ كما لو علم بتعلق الأمر بفرد ولكن شك في أنَّه متعلق الأمر بخصوصية أو أنَّه مخير بينه وبين غيره؛ وقد وقع الخلاف في هذه الصورة في جريان البراءة في الخصوصية كسابقتها فيثبت التخيير, أو إنَّها مجرى الإشتغال فيثبت التعيين.

ص: 338

هذه الصور الثلاث لا إشكال في ثبوتها, ويمكن أن تزيد صورة أخرى, وهي:

4- دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام المزاحمة؛ كما لو تزاحم حكمان واحتمل الأهمية في ملاك أحدهما؛ فقد ذهب جمع من الأصوليين ومنهم المحقق النائيني قدس سره إلى التعيين فيه فيقدم على غيره, لأنَّ غير محتمل الأهمية مِمّا يعلم بسقوط إطلاق دليله على كِلا التقديرين؛ تقدير أهمية الحكم الآخر وتقدير عدمه كما عرفت آنفاً؛ فيسقط إطلاقه عن الحجية.

أمّا محتمل الأهمية فلا يعلم بسقوط إطلاق دليله فيتمسك بأصالة الإطلاق فيه، وحينئذٍ لا فرق بين القول بالتخيير العقلي أو التخيير الشرعي في مورد التساوي. فما ذكره المحقق النائيني قدس سره من الفرق بينهما وجعل المورد من ثمرة الإختلاف بينهما غير سديد, فإنَّه بناءً على ما ذكرناه لا تصل النوبة إلى التساوي حتى يثبت التخيير بل الحكم من أول الأمر محتمل الأهمية.

التنبيه الرابع: عرفت سابقاً أنَّ مسألة إجتماع الأمر والنهي من موارد التزاحم, فلا بُدَّ من ثبوت الملاك في كلِّ واحد من الحكمين ثبوتاً وإتمام الحجة عليهما إثباتاً فلا تكاذب بينهما بخلاف التعارض, والمحذور إنَّما هو من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الإمتثال, فمناط التزاحم متحقق في هذه المسألة, وهذا هو المشهور بين الأصوليين.

هذا ويمكن أنْ يستفاد تحقق الملاك من أمور أيضاً:الأمر الأول: التسالم على أنَّ مسألة إجتماع الأمر والنهي إنَّما هو فيما إذا كان بين الدليلين عموم من وجه وذلك لا يتمُّ إلا مع وجود الملاك في كلِّ واحد منهما وهذا هو مناط التزاحم.

الأمر الثاني: قولهم بصحة الصلاة في المكان المغصوب مع العذر من نسيان أو جهل أو نحوهما حتى مع ذهابهم إلى الإمتناع وتغليب جانب النهي, فلو لم يكن الملاك موجوداً لَما كان للصحَّة وجه أبداً مع العذر.

ص: 339

الأمر الثالث: إعتبار قيد المندوحة, فإنَّ الظاهر منه أنَّ البحث في قدرة المكلف فقط فلا بُدَّ من كون الملاك فيهما تاماً وقيام الحجة على كلٍّ من الحكمين, فلو كان من التعارض لا وجه لهذا القيد أصلاً.

ثم إنَّه لو شك في أنَّ المقام من التزاحم أو التعارض فإنَّ مقتضى إطلاق كلٍّ من الدليلين وتمامية الحجة على كلٍّ منهما إحراز الملاك في كلٍّ منهما، إذ لا طريق لإحرازه إلا من ذلك فيكون من مورد التزاحم لا التعارض.

هذا تمام ما يتعلق بالتزاحم, وسيأتي مزيد بيان في بحث التعارض إنْ شاء الله تعالى.

ثم إنَّه قبل الدخول في صلب موضوع مسألتنا -وهي إجتماع الأمر والنهي- لا بُدَّ أنْ نبيّن موقع التضاد في الأحكام مثل (صلِّ) و(لا تصلِّ في المغصوب) الذي إستدل به القائل بامتناع إجتماع الأمر والنهي, وقد إختلف الأصوليون في بيان التضاد بين الأحكام, وأهم ما ذكروه هي وجوه أربعة؛ نذكرها وما يمكن الجواب عنها:

الوجه الأول: ما ذكره المشهور من مرور أصل الحكم بأربع مراحل, وهي:

المرحلة الأولى: مرحلة وجود المصلحة في الفعل أو المفسدة فيه؛ الموجبين لحدوث الإرادة أو الكراهة في النفس.

المرحلة الثانية: مرحلة وجود الإرادة أو الكراهة النفسانية.

المرحلة الثالثة: مرحلة إنشاء الحكم وإبراز المولى تلك الإرادة أو الكراهة بمبرز خارجي.

المرحلة الرابعة: مرحلة فعلية الحكم ووصوله إلى حدِّ الداعوية والتحريك.

وقد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة عدم جدوائية هذه المراحل؛ فراجع.

وكيف كان؛ فقد إدّعى جمعٌ بتحقق التضادّ في المرحلة الأولى, وذلك لامتناع إجتماع المصلحة والمفسدة في فعلٍ واحد, لأنَّهما من قبيل السواد والبياض ويستحيل إجتماعهما في واحد كما هو معلوم.

ص: 340

وأورد عليه بأنَّه لا دليل على كون المصلحة والمفسدة من قبيل المتضادين, بل يكذبه الوجدان؛ إذ نرى كثيراً من الأفعال يترتب عليها مصلحة ومفسدة في آنٍ واحد.وأشكل عليه بأنَّ الصحيح وقوع التضادّ في هذه المرحلة لأنَّه ليس المراد من المصلحة والمفسدة ذات المصلحة وذات المفسدة, بل المراد بهما تلك المصلحة التي تصير منشأً لإرادة الفعل، والمفسدة التي تصير منشأً لكراهته, وهما بهذه الكيفية لا يجتمعان في فعلٍ واحد, وبعبارة أخرى: إنَّ التضادَّ حاصل من حيث المبدأ بمعنى المصلحة والمفسدة.

وفيه: إنَّ إجتماع المصلحة والمفسدة بهذا المعنى مستحيل فيما إذا كان كلٌّ منهما باقياً على حاله وعدم الكسر والإنكسار بينهما, فمع وجود المصلحة الغالبة تكون قاهرة للمفسدة المغلوبة وتوجب تعلق الإرادة بالفعل, كما إنَّ العكس صحيح، نعم؛ إنْ بقيت كلُّ واحدة منهما على غالبيتها في شيء واحد فيقع التضادّ، ولكن هذا مجرد الفرض الذي لا يتحقق.

إنْ قُلتَ: مع وجود الغالبية والمغلوبية في شيء واحد يكون محالاً أيضاً.

قُلتُ: إنَّ فرض كون التضادّ حاصلاً من ناحية كون المصلحة موجبة لحدوث الإرادة والمفسدة موجبة لحدوث الكراهة وهما متضادتان يستحيل إجتماعهما فكان تضاداً بحسب المبدأ, ولكن المفروض أنَّ الغالب منهما هو الذي أوجد الإرادة أو الكراهية دون المغلوب فلا إجتماع من هذه الناحية. فلا تضادَّ في هذه المرحلة كما ذهب إليه جمعٌ.

وأمّا في المرحلة الثانية(1)؛ فقد ذكر المحقق الإصفهاني قدس سره (2) أنَّه لا تضادَّ في هذه المرحلة أيضاً وإنَّهما يمكن أنْ يتعلقا بأمر واحد؛ وذلك بوجه فلسفي دقيق ينفعنا في موارد كثيرة.

ص: 341


1- . وهي مرحلة الإرادة والكراهة.
2- . نهاية الدراية؛ ج1 ص270.

وخلاصة ما ذكره قدس سره هو: إنَّ التضادَّ من الأوصاف الخارجية العارضة للأمور العينية الخارجية كالسواد والبياض، والإرادة والكراهة من الصفات النفسانية العارضة على ما هو موجود في النفس دون الأمور الخارجية؛ فلا تضادَّ بينهما؛ لا من ناحية موضوعهما وهو النفس، لأنَّها من المجردات القابلة لاجتماع حالات وكيفيات مختلفة في آنٍ واحد كما هو معلوم بالوجدان. ولا من ناحية متعلقهما لأنَّه ليس متعلقهما نفس الفعل الخارجي بل هو الوجود العرضي العنواني, وذلك لأنَّ ما في أفق النفس يستحيل أنْ يقوم بما هو خارج عن أفق النفس وإلا لزم نسبة ما في النفس إلى الخارج, نظير ما يحدث من الشوق فإنَّ متعلقه غير موجود خارجاً, بل ربّما لا يمكن حصوله كالشوق إلى المحال. وحينئذٍ لا يتحقق التضادّ, لأنَّه من الصفات العارضة على الموجودات الخارجية كما عرفت.وكلامه متين جداً وإنْ أشكل عليه بما ذكر في المرحلة الأولى وعرفت الجواب عنه.

وأمّا المرحلة الثالثة(1)؛ فالمعروف بين المحققين المتأخرين عدم تحقق التضادّ بين الأحكام, لأنَّها إعتبارات محضة ولا تضاد فيها, مع أنَّ الإنشاء خفيف المؤونة, فيمكن أنْ يتحقق أكثر من إنشاء واحد في فعلٍ واحد, ومع ذلك فقد ذهب جمعٌ إلى وقوع التضادّ في هذه المرحلة تبعاً لاختلافهم في حقيقة الإنشاء، وقد ذكرناها سابقاً.

فقيل بأنَّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ أو استعمال اللفظ في المعنى بقصد التسبيب إلى تحقق الإعتبار العقلائي، فلا يتحقق بدون القصد، نظير التعظيم الذي لا يتحقق من دون قصد هذا المعنى وهو المشهور بينهم.

وقيل بأنَّه إيجادٌ للمعنى بوجود إنشائي وإنْ لم يترتب عليه الإعتبار العقلائي، ولذا يصحُّ الإنشاء من الغاصب, مع إنَّه مِمّا لا يترتب عليه الأثر عقلائياً.

ص: 342


1- . وهي مرحلة الإنشاء.

وقيل بأنَّه إيجاد المعنى باللفظ لا أكثر.

وبعبارة أخرى: إنَّه إستعمال اللفظ في المعنى من دون قصد الحكاية والإخبار.

وقيل بأنَّه إبراز الإعتبار النفساني.

وقد عرفت في بحث الوضع عدم تمامية جملة منها؛ فراجع.

فلا تضادَّ في هذه المرحلة لأنَّ الأحكام من الإعتباريات ولا تضادَّ فيها.

وأمّا المرحلة الرابعة(1)؛ فقد عرفت أنَّ التنافي إنَّما يأتي من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما، ولهذا كان إتّفاقياً وليس دائمياً وإلا كان لغواً.

وذهب بعض الأعلام إلى إستحالة ذلك لعدم تحقق الداعوية التي هي قوام الحكم وحقيقة التكليف, وفي الحكمين المتعارضين لا تتحقق مرحلة الداعوية والتأثير لجعل الحكم في هذه المرحلة؛ وقد عرفت فساد ذلك.

وذكرنا أنَّ الحكم إعتبار خاص لا يشترط في حقيقته وقوامه الداعوية, بل يتبع لأغراض معينة. ومن جميع ذلك يظهر أنَّه لا تضادَّ في أي مرحلة من مراحل الحكم والإنشاء.

الوجه الثاني: ذهب بعض الأعلام بعد تمهيد مقدمة وخلاصتها: إنَّ الأمر والنهي تارةً يلحظان باعتبار متعلقهما بالذات. وأخرى باعتبار متعلقهما بالعرض.

والمراد من المتعلق بالذات ذلك العنوان القائم بالنفس والذهن؛ الذي هو المعروض الحقيقي للحكم، كما إنَّ المقصود من المتعلق بالعرض مورد إنطباقذلك العنوان باعتبار أنَّه ملحوظ بما هو فانٍ في معنونه فيكون هو المعروض بالعرض, نظير المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض.

ص: 343


1- . وهي مرحلة الفعلية والتأثير؛ أي: الإمتثال.

فها هنا يمكن تصور ثلاث حالات في المعروض:

1- أنْ يكون المعروض بالذات واحداً, من قبيل (صلِّ) و(لا تصلِّ). فإنَّ الأصل هو الأصل الموضوعي المفروغ عنه هو إستحالة إجتماع الأمر والنهي فيه قبل البحث عن إجتماع الأمر والنهي.

2- أنْ يكون الأمر بالعكس في المعروض بالعرض؛ فإنَّه يجب إفتراض التغاير فيهما بقطع النظر عن التغاير بين المعروضين بالذات, كشرب الخمر والصلاة, فإنَّه يجب أنْ نفترض بإمكان تعلق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر.

ففي هذين الفرضين لا يخلو الأمر؛ إمّا أنْ نقول باستحالة إجتماع الأمر والنهي للتضادِّ بينهما, أو نقول بوجوب إفتراض الإختلاف في المتعلقين, فلا تجري مسألة إجتماع الأمر والنهي فيهما.

3- هناك حالة أخرى إعتبرها الوسطى؛ والتي تكون موضوع هذا البحث, وهي: التغاير بين المعروضين بالذات, وحينئذٍ يقع البحث عن هذا التغاير, وهل يرفع به محذور التضادّ أو لا؟ لأنَّه إمّا أنْ يرجع إلى أنَّ هذا التغاير يكشف عن التغاير بين المعروضين بالعرض.

وإمّا باعتبار أنَّه بنفسه يكون كافياً في دفع محذور التضادّ وإنْ لم يكن كاشفاً عن التغاير, وسيأتي تفصيل ذلك عن قريب إنْ شاء الله تعالى.

ثم إنَّه ذكر أنَّ إستحالة إجتماع الأمر والنهي على متعلق واحد بالذات لا بُدَّ أنْ يكون بأحد وجوه ثلاثة:

الأول: التضادُّ الحاصل في مرحلة الإمتثال من أنَّ التكليف مشروط بالقدرة, ولا قدرة للمكلف على أنْ يصلي أو لا يصلي, لأنَّه ليست له إلا قدرة واحدة فيستحيل أنْ يجتمع

ص: 344

التكليفان, وهذا هو المناط الذي ذكرناه في مبحث التزاحم الذي عرفت بأنَّ بعضهم دفعه بأنَّه لا مانع من وجود قدرتين مشروطتين كلٍّ منهما بعدم الآخر, وهو غير معقول في المقام, ويرجع هذا الوجه إلى التضادِّ في مرحلة الداعوية الإمتثال, ويمكن إنكاره لمن يرى أنَّ القدرة ليست شرطاً في التكليف بل في الإمتثال فقط, فيدفعه بأنَّه لا مانع من التكليف بغير المقدور, غاية الأمر أنَّ العقل يحكم بعدم منجزية شيء منهما لأنَّه على تقدير عدم أحد النقيضين يكون الآخر ضرورياً فلا معنى لاشتراط الأمر بأحدهما بفرض ترك الآخر, فإنْ تحقق أحدهما دون الآخر يتنجز حكم العقل به, وإلا فلا يحكم العقل بتعين أحدهما كما هو واضح.الثاني: إنَّ التضادَّ بين (صلِّ) و(لا تصلِّ) ثابت في علم الجعل والحكم, لأنَّهما من البعث والزجر, ويستحيل إجتماعهما على عنوان واحد.

وهذا الوجه يمكن إنكاره لمن يرى بأنَّ الحكم ليس إلا مجرد إعتبار للفعل أو الترك على ذمَّة المكلف وليس متقوماً بالباعثية والمحركية كما عرفت الوجه فيه آنفاً.

الثالث: إنَّ التضادَّ بينهما ثابت في مرحلة المبادئ, لأنَّ الأمر يكشف عن مصلحة تامة ومحبوبية فعلية في الفعل, والنهي يكشف عن مفسدة تامة ومبغوضية فعلية في الفعل، فإذا تعلقا بشيء واحد يلزم إجتماع الضدَّين.

ويمكن ردُّه إمّا على مسلك من يقول بأنَّ مبادئ الحكم قد تكون في نفس الجعل لا أن تكون في متعلقه؛ فلا يتَّحد مركز المصلحة الفعلية مع مركز المفسدة الفعلية.

وإمّا أنْ نقول بأنَّ المبادئ ليست إلا ذات المصلحة والمفسدة لا المصلحة والمفسدة التامتين الموجبتين للحبِّ والبغض, وقد تجتمع مصلحة ومفسدة في فعلٍ واحد وجداناً, ثم اختار وجهاً أخر من هذه الوجوه ورفع به التضادّ فيها على فرض ثبوته.

ص: 345

ثم قال في رفع التضادِّ بأنَّ الوجه الأول يمكن إمتثال الأمر فيه وذلك بإتيان الجامع بغير الحصة المحرمة.

وفي الوجه الثاني أيضاً لا يجري فيه التضادّ لإمكان فعلية إنقداح كِلا الداعيين؛ داعي البعث نحو المطلق وداعي الزجر نحو المقيد.

وفي الوجه الثالث وهو التنافي بلحاظ عالم المبادئ؛ وهو تارةً يلاحظ بالنسبة إلى عالم الذهن والمفاهيم أي المعروض بالذات وأخرى بالنسبة إلى عالم الخارج أي المعروض بالعرض.

أمّا بالنسبة إلى عالم الذهن فقد يُقال بأنَّ المحبوبية الإستقلالية لا تجتمع مع المبغوضية الإستقلالية, كذلك لا تجتمع المحبوبية الضمنية مع المبغوضية الضمنية والدليل على ذلك عدم إمكان إجتماع المبغوضية الإستقلالية مع المحبوبية الضمنية؛ فإنَّه لا يعقل الأمر بالصلاة مثلاً مع النهي عن التكبيرة نهياً إستقلالياً.

وردّه بأنَّ هناك فرقاً بين المحبوبية الضمنية والمبغوضية الضمنية؛ فالأول لا يجتمع مع البغض الإستقلالي, والثاني إنَّ المبغوضية ضمنية؛ فإنَّه يمكن أنْ تجتمع مع المحبوبية الإستقلالية, فلا بُدَّ من الفرق بين الفرضين. واستدلَّ على ذلك بأمور ثلاثة:

الأول: الوجدان.

وفيه: إنَّه على خلاف ما يدَّعيه.

الثاني: إنَّه لا تنتقل المبغوضية الضمنية في نفسها, بخلاف المحبوبية الضمنية, فإنَّ الحبَّ إذا تعلق بمجموع جزئين فسوف تتعلق محبوبيتان ضمنيتان بالجزئين،ويكون لكلٍّ منهما إقتضاء لإيجاد ذلك الجزء لا على نحو الإستقلال بل كجزء من إقتضاء الحبّ الإستقلالي للمجموع, فيكون الحبُّ الضمني جزءاً تحليلياً لذلك الحبّ الواحد.

هذا بخلاف البغض؛ فإنَّه إذا تعلق بمجموع جزئين فإنَّه يقتضي إعدام المجموع بأي واحد من الجزئين ونفيه لا إعدام كليهما, وهذا الإقتضاء لا يمكن أنْ يتبعض إلى بغضين

ص: 346

ضمنيين بحيث يكون لهما إقتضاءان تحليليان, وهذا كاشف عن عدم إنحلال المبغوضية إلى مبغوضين ضمنيين, وإلا كان البغض الضمني أشدُّ من البغض الإستقلالي.

الثالث: إنَّ البغض والحبّ إنَّما يتنافيان فيما إذا فرض تنافيهما في مقام الإقتضاء والتأثير, فإذا كان بين مقتضاهما تنافٍ ذاتي لا عرضي يستحيل إجتماعهما.

وعليه؛ فلا تنافي ذاتي بين مقتضى الحب الإستقلالي بشيء ومقتضى البغض الضمني لذلك الشيء, لأنَّ البغض الضمني لا يقتضي أكثر من إعدام المجموع لا الجميع, وهو لا يتنافى مع مقتضى الحب الإستقلالي لذلك الجزء لعدم توقف إعدام الجميع على إعدام ذلك الجزء.

ومن ذلك يتَّضح أنَّه لا تنافي بين أنْ تقع الصلاة مثلاً مركزاً للمحبوبية الإستقلالية ومركزاً للمبغوضية الضمنية؛ فلا تتنافى بلحاظ عالم المعروض بالذات.

وفيه: أولاً: إنَّ مقام المعروض بالذات هو النفس والذهن, ولا ريب أنَّ التنافي والتضادّ إنَّما يكون في مقام الوجود الخارجي دون النفس التي هي من المجردات, فتجتمع المبغوضية والمحبوبية سواء كانتا بالإستقلال أو بالضمن من دون محذور في البين، وما ذكره قدس سره إنَّما هو خلط بين عالم الوجود الخارجي وعالم النفس كما عرفت آنفاً.

ثانياً: إنَّ الحبَّ والبغض لا يبقيان على إستقلاليتهما بالنسبة إلى شيء واحد, فإنَّه لا بُدَّ من الكسر والإنكسار في مباديهما؛ فإذا غلبت المصلحة في الشيء أوجبت تعلق الحب وامتيازه على البغض الضمني الحاصل من وجود المفسدة المغلوبة, والعكس بالعكس؛ فلا يمكن فرض أنَّ هناك مصلحة غالبة أو مفسدة غالبة كذلك, بل لا بُدَّ من الكسر والإنكسار بينهما, ويتبعهما الحب والبغض باعتبار كونهما مَبادئاً للأحكام.

والإشكال بأنَّ ما هو موجود في النفس إنَّما لوحظ باعتبار كونه مرآة لما في الخارج؛ فلا بُدَّ أنْ يكون ما يجري في الخارج ملحوظاً في ذلك العالم مردود بأنَّ ما في أفق النفس يستحيل أنْ يتقوم بما هو خارج عن النفس.

ص: 347

هذا كلُّه بالنسبة إلى المبادئ في عالم الذهن والمفاهيم.

وأمَّا بلحاظ عالم المعروض بالعرض فقد يقال باستحالة وجود واحد في الخارج يكون متعلقاً للمحبوبية والمبغوضية الإستقلاليتين معاً.وفيه: إنَّ الأحكام وإنْ تعلقت بالعناوين بما هي مرآة عن الخارج لكن ذلك إنَّما بلحاظ المرآتية فقط لا أكثر, وقد عرفت سابقاً بأنَّ متعلق الأمر إنَّما هو الطبيعة التي تكون مرآة عن صرف وجود الطبيعة في الخارج، ومتعلق النهي فإنَّما هو الحصة الخاصة التي تكون مرآة عن الفرد، فما يكون معروض النهي غير ما هو معروض الأمر في مصداق المعروض بالعرض في الامر. وعليه؛ فلا إجتماع للمحبوبية والمبغوضية في مركز واحد في عالم المعروض بالعرض, كما لا اجتماع في مركز واحد بلحاظ المعروض بالذات.

هذا ما يتعلق بموضوع التضادّ في الأحكام؛ الذي هو عمدة ما إستدلَّ به القائلون بامتناع إجتماع الأمر والنهي.

الوجه الثالث(1): وهو للمحقق النائيني قدس سره (2)؛ فقد ذهب إلى أنَّه لا يوجد تضادٌّ بين الأمر والنهي المتعلقين بالمطلق والمقيد مع وضوح أنَّ التركيب إتّحادي وليس إنضمامياً لأنَّ مركز الأمر هو صرف الوجود, ومركز النهي هو الفرد, ولا تنافي ذاتي بينهما, إلا أنَّه يوجد تنافٍ بالعرض يقتضي عدم إمكان إجتماع الأمر والنهي, كالأمر بالصلاة والنهي عن الصلاة في الحمام, وذلك لأنَّ الأمر بصرف وجود الطبيعة لازم إمكان تطبيقها على أي فرد من أفراد الطبيعة خارجاً؛ حتى الفرد المحرم, فيقع تنافٍ لا محالة بين هذا المدلول الإلتزامي المستفاد من بدلية متعلق الأمر وبين النهي عن الفرد.

ص: 348


1- . في بيان التضاد بين الأحكام.
2- . فوائد الأصول؛ ج1 ص435.

وغير خفيٍّ أنَّ هذا الوجه يختلف عن سابقه في أنَّه يختَّص بالنهي التحريمي, فلا يشمل النهي التنزيهي, وبذلك يدفع الإشكال المعروف الذي طالما وقع الإختلاف في رفعه, وهو مسألة الكراهة في العبادات.

ولكن يمكن الإشكال على هذا الوجه بأنَّ الإطلاق البدلي في متعلق الأمر ليس معناه ولا لازمه الترخيص في التطبيق على الأفراد كحكم شرعي مولوي، وإنْ كان ذلك الإطلاق البدلي مدلولاً عرفياً له، فلا يوجب الإمتناع والتنافي بينهما؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الرابع: إنَّ الحبَّ إذا تعلق بالجامع بنحو صرف الوجود فإنَّه يلازم تعلقه بكلِّ فرد على تقدير عدم الأفراد الأخرى.

ومعنى ذلك: إنَّ التخيير العقلي ملازم للتخيير الشرعي في عالم الحبّ وإنْ لم يكن كذلك في عالم الجعل والحكم, فإنَّه بلحاظ عالم المبادئ للحكم يكون الحبُّ سارياً من الطبيعة إلى الأفراد بنحو مشروط, وهذا يستوجب التضادّ بين النهي عن الحصة والأمر بالطبيعة, لأنَّ الأول يقتضي تعلق البغض بالحصَّة الخاصة، والثانييقتضي تعلق الحبّ بها؛ بشرط ترك سائر الحصص, فيلزم منه إجتماع الضدَّين؛ فإنَّه كما لا يجتمع الضدّان مطلقاً كذلك مشروطاً.

و لكن هذا الوجه يرجع إلى ما ذكرناه سابقاً من أنَّ عالَم الحب الذي هو مبدأ للحكم وموطنه النفس, والقول بأنَّ الحبَّ إذا تعلق بالجامع بنحو صرف الوجود ينتقل الحب إلى أفراده صحيح لا إشكال فيه, ويمكن أنْ يتعلق البغض بفرد خاص من تلك الأفراد في ذلك العالم الذي لا تضادَّ فيه, ولكنه لا يضرُّ بأصل المطلوب وإنَّما إجتماع الضدَّين يأتي من الخارج وفي مرحلة الإمتثال, وقد عرفت أنَّه لا إجتماع للضدَّين أيضاً, لأنَّه إنَّما يأتي من ناحية عدم قدرة المكلف, ويمكن رفعه بإتيان الجامع بغير الحصة المحرمة.

ص: 349

والحاصل من جميع ذلك: إنَّه لا يمكن تصوير التضادّ في الأحكام, سواء أُريد من التضادِّ معناه الإصطلاحي أم غيره من التنافي والإمتناع, وبذلك يرتفع أهم وجه من وجوه الإمتناع فلا يحتاج إلى رفعه بالقول بالتغاير بين متعلق الأمر والنهي بنحو الإطلاق والتقييد أو التغاير بينهما بنحو تعدد العنوان من قبيل (صلِّ) و(لا تغصب)؛ فإنَّ المصير إليهما إنَّما يكون بعد ثبوت التضادّ بين الأحكام وامتناع إجتماعهما؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

ثم إنَّ الأقوال في مسألة إجتماع الأمر والنهي متعددة، وهي:

القول الأول: الإمتناع؛ وهو المنسوب إلى المشهور, وأهم ما إستدلَّ به عليه وجهان:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ؛ وهو مركب من مقدمات:

المقدمة الأولى: تضادُّ الأحكام في مرتبة الفعلية, فيكون من إجتماع الضدَّين في واحدٍ شخصيّ وهو محال في نفسه وليس من التكليف بالمحال, وقد عرفت الجواب عن هذه المقدمة مفصلاً, وذكرنا أنَّ إجتماع الضدَّين المحال منحصر بما إذا كان كلُّ واحد من الضدَّين موجوداً خارجياً, والأحكام كلُّها من الأمور الإعتبارية, وفي مرتبة الفعلية يأتي التنافي من ناحية عدم القدرة ولكنه قادر على إتيان الجامع بغير الحصة المحرمة, وعلى فرض تحقق التضادّ فيها فإنَّه يمكن رفعه بالتغاير الإعتباري وهو ثابت كما ستعرف, فهذه المقدمة باطلة من أصلها.

المقدمة الثانية: إنَّ متعلق الأحكام ما يصدر من المكلف خارجاً, وهو موجود شخصي خارجي, فيلزم فيه إجتماع الضدَّين وليس إسمه وعنوانه الكلي حتى يندفع المحذور.

ويرد عليه: أولاً: إنَّه يمكن فرض أنَّ متعلق الأحكام هو الصورة الذهنية كما عليه جمعٌ من المحققين.

ص: 350

ثانياً: إنَّ الفعل الخارجي الصادر من المكلف تارةً يلاحظ باعتباره موجوداً خارجياً ترتبت عليه الآثار الخاصة, وهذا القسم هو المتبادر في اذهان الناسإبتداءاً. وأخرى يلاحظ باعتبار كونه مورد إعتبار صحيح يترتب عليه الآثار الشرعية والقانونية, فله وجودان؛ أحدهما وجود حقيقي ذو أبعاد حقيقية من المكان والزمان وهذا القسم هو الذي يقع مورد الحساب والمؤاخذة والثواب والعقاب, وإنْ لم يكن موجوداً بالفعل في الخارج فإنَّه قائم بالإعتبار وليس متَّحداً مع الخارجيات كاتّحاد الطبيعي وأفراده، بل هو نظير ربط الإشارة بالمشار إليه, ويمكن أنْ نضرب المثال لهذا القسم بالعقد الواقع بين الطرفين؛ فإنَّه بعد وقوعه له إعتبار خاص عند العقلاء يرتب عليه الآثار الشرعية، وإنْ وقع اللفظ بما هو وجود خارجي في زمان سابق, وكذلك الوضوء, وغير ذلك من الأفعال الصادرة من المكلف.

وعلى هذا الوجه تكون الأحكام إعتبارية, وموضوعاتها الصادرة من المكلفين أيضاً إعتبارية, ولا محذور في إجتماع الضدَّين إنْ تحقق في مثل هذا القسم, ولا بأس بصدق الضدِّية والإعتبارية لعدم الوجود الخارجي فيه, فهذه المقدمة أيضاً باطلة.

المقدمة الثالثة: إنَّ تعدد الوجوه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون ولا يضرُّ بوحدته كما في الواجب تعالى؛ فإنَّه مع كمال بساطته يصدق عليه جميع صفات الجمال والجلال.

ويرد عليه: أولاً: إنَّ قياس المبحث بساحته عَزَّ وَجَلَّ فاسد ومع الفارق, فإنَّه تعالى في كمال البساطة وفوق ما نتعقله من البساطة, وموارد بحثنا مركبة مطلقاً ولو كان التركيب إعتبارياً, فمثلاً الصلاة التي تتقوم من أمور كثيرة كالنية والحركة والسكون والقول ونحوها وهي من مقولات مختلفة لا بُدَّ أنْ تكون بينهما جهة جامعة تجمع تلك الأمور المتباينة والحقائق المختلفة, فلا يمكن قياسها مع تلك الوحدة الصرفة في الذات والصفات وجميع شؤونه عَزَّ وَجَلَّ.

ص: 351

ثانياً: إنَّ الأصوليين إختلفوا في تصوير تعدد الوجه والعنوان فربَّما يكون على أحد الوجوه المذكورة لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون ولا يضرُّ بوحدته، فلا يرفع غائلة إجتماع الضدَّين المفروض, فيكون إجتماع الأمر والنهي ممتنعاً.

إلا أنَّه على بعض الوجوه الأخرى يتحقق تعدد المعنون؛ مِمّا يرفع تلك الغائلة، وسيأتي بيان ذلك عند إستطراد أدلَّة المجوزين لاجتماع الأمر والنهي.

ثالثاً: إنَّ تعدد المعنون حاصل لا محالة؛ إمّا لأنَّ غالب ما يبحث عنه الأصوليون في المقام هو من المركب الإعتباري الذي يتقوم من أمور مختلفة, كالصلاة فإنَّ الوجوه فيها إعتبارية وليست حقيقية لأنَّها مركبة من مقولات متباينة لا تجتمع في وحدة حقيقية, وفي مثل ذلك يكون المعنون متعدداً لا واحداً حقيقياً, وحينئذٍ يكون تعدد الوجه والعنوان كاشف عن تعدد المعنون لا محالة. فإنْ كان للمعنون وحدةإعتبارية فالأمر فيه واضح, إذ لا محذور في إجتماع الضدَّين الإعتباريين في الواحد الإعتباري.

المقدمة الرابعة: إنَّ الموجود الواحد ليس له إلا ماهية واحدة فالجميع وإنْ كان مورد الأمر والنهي لكنه واحد وجوداً وماهية, والمفروض إنَّ تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون فيكون من إجتماع الضدَّين المحال.

وفيه: إنَّ الموجود الواحد إنَّما يكون له ماهية واحدة من الحقائق البسيطة لا المركبات الإعتبارية التي يصحُّ تقومها بماهيات كثيرة كما هو واضح, والمقام من الثاني دون الأول.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ ما ذكره قدس سره لإثبات الإمتناع باطل؛ إمّا لعدم التضادّ بين الأحكام ولا يضر في الأمور الإعتبارية, أو لكفاية رفعه بالتعدد الإعتباري على فرض وجوده.

ص: 352

الوجه الثاني(1): إنَّ القول باجتماع الأمر والنهي وجوازه يستلزم نقض الغرض، لأنَّ الأمر بالشيء إنَّما لأجل إدراك المصلحة والتقرب بالمأمور به إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وهو لا يجتمع مع النهي الفعلي.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّه عين المدَّعى؛ فإنَّه من قال بأنَّ جواز الإجتماع يوجب نقض الغرض؟!.

ثانياً: إنَّه لا محذور في ذلك مع تعدد الجهة فيجلب المأمور المصلحة من طرف، ويقع في المفسدة من طرف آخر, ولا محذور فيه أبداً؛ لا من عقلٍ ولا من نقلٍ ولا من عرفٍ.

ثالثاً: إنَّه واقع كثيراً فيتقرب إلى الله تعالى من جهة ويقع في المفسدة من جهة أخرى، ولا يلزم التقرب بعين ما هو مبعِّد لفرض تعدد الجهة، فيكون من التقرب إليه عَزَّ وَجَلَّ بشيء، والتباعد عنه بشيء آخر، وإنْ كانت لهما وحدة إعتبارية.

القول الثاني(2): الجواز؛ وإستدل عليه بأمور:

الأمر الأول: ما عن المحقق القمي قدس سره (3) من أنَّه لا فرض لاجتماع الأمر والنهي أصلاً, لأنَّهما متعلقان بالطبائع، والفرد الذي هو المجمع يكون مقدمة لوجود الطبيعة، ومقدمة الواجب ليست بواجبة, وعليه؛ لا موضوع لهذا البحث. وعلى فرض وجوب مقدمة الواجب فإنَّه لا مانع من إجتماع الوجوب الغيري مع النهي النفسي, لأنَّ الممنوع هو إجتماع النفسي منهما.

ويرد عليه: إنَّ ما ذكره من الدعاوى الثلاث ممنوعٌ لأنَّ الفرد عين الطبيعة كما هو ثابت في محلِّه, وعلى فرض مقدمية الفرد للطبيعة فلا فرق بين الأمر والنهي فلا يكون الأمر مقدمياً

ص: 353


1- . من وجوه القول الأول؛ الإمتناع.
2- . من أقوال مسألة إجتماع الأمر والنهي.
3- . نقله في تهذيب الأصول؛ ج1 ص94.

والنهي نفسياً, مع أنَّ المعروف إنَّ هذه المسألة تجري في جميع أقسام الأمر والنهي، فما ذكره لا يمكن المساعدة عليه.

الأمر الثاني: ما ذكرناه سابقاً؛ وهو الذي إعتمد عليه جمعٌ من المحققين من أنَّ متعلق الأوامر والنواهي هي الصور الذهنية، وإنَّ وجودها الخارجي ظرف سقوط التكليف لا ظرف ثبوته، ومن المعلوم إنَّ في ظرف العروض وتعلق الأحكام بتلك الصور الذهنية لا يكون تعارض وتنافٍ ولا إجتماع ضدَّين. نعم؛ في مرحلة الإمتثال والتطبيق يقع التزاحم إذا أراد المكلف تطبيق الحكمين على المجمع.

وأشكل عليه بأنَّ تعلق أحكام الأوامر والنواهي بالصور الذهنية وإنْ كان صحيحاً لكن ذلك ليس باعتبار وجوداتها الذهنية, بل بما هي حاكيات عن الخارج ومرآة لها وفانية في المعنونات، لأنَّ الإرادة والكراهة تابعتان للمصالح والمفاسد, ومن المعلوم أنَّ الصور الذهنية ليس فيها تلك المصالح والمفاسد بل هي قائمة بوجوداتها الواقعية، والإرادة والكراهة من صفات النفس؛ فلا يتعلقان أولاً وبالذات بالموجود الخارجي, بل هو ظرف سقوطهما بالإطاعة أو العصيان, لا ظرف ثبوتهما, فيكون عمل النفس جعل تلك الصور الذهنية وسيلة لإرادة تلك الوجودات الخارجية بحيث يسري الطلب إليها قبل تحققها في الخارج بمرآتية هذه الصورة وحكايتها عنها قبل تحققها في الخارج حتى لا يلزم المحذور فيكون الخارج هو المطلوب بالذات والصورة الذهنية مطلوبة بالعرض. بمعنى إنَّ تعلق الطب بها لأجل كونها حاكية عن الخارج ومرآة له.

والحقُّ أنَّ ذلك لا يفي بالغرض في متعلق الأحكام التي تقدم أنَّها إعتبارات عقلائية تجعل الفعل أو الترك في ذمة المكلف, وإنَّ المصالح والمفاسد ربَّما تكون في نفس الجعل لا في متعلقه، مع أنَّه لو قلنا بأنَّها تكون في الموجودات الواقعية, لكن ذلك لا ينافي أنْ يكون

ص: 354

متعلق الحكم تلك الصورة الذهنية بما هي مرآة للمعنونات الخارجية؛ التي هي طرف الإمتثال وسقوط الحكم, وإنَّ الإرادة والكراهة التي هي من مبادئ الحكم موطنها النفس وإنْ كان منشؤها تلك المصالح والمفاسد بوجوداتها الواقعية, وقد تقدم سابقاً ما يرتبط بهذا الموضوع؛ فراجع.

فما ذكره بعض المحققين من أنَّ متعلق الأحكام الصورة الذهنية التي هي عنوانٌ لما في الخارج ولا تعارض ولا إجتماع ضدَّين في تلك الصور هو الصحيح المعتمد عليه.

الأمر الثالث: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره (1) من أنَّ مناط جواز الإجتماع وعدم لزوم إجتماع الضدَّين كون المجمع مركباً إنضمامياً بحيث يكون وجود متعلقالأمر غير وجود متعلق النهي وإنْ حصلت بينهما وحدة وصيرورتهما مركباً واحداً إنضمامياً, فإذا كان الأكل والشرب واجباً واستعمال آنية الذهب والفضة حراماً؛ فوقوع الأكل والشرب فيهما يكون من باب إجتماع الأمر والنهي ويكون التركيب بينهما إنضمامياً, لأنَّ الأكل والشرب من مقولة وكونهما من آنية الذهب والفضة من مقولة أخرى وإنْ لم تكن الثانية مقولة مستقلة بل كانت متممة للأولى، وهكذا في جميع متعلقات الأفعال. وقد ذكر هذا المطلب بتفصيل في مقام الرد على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره وجهاً للإمتناع.

وخلاصة ما ذكره قدس سره هو: إنَّ العناوين على قسمين:

القسم الاول: العناوين الإشتقاقية التي تحمل على الذات؛ كالعالم والعادل ونحو ذلك.

القسم الثاني: مبادئ تلك العناوين الإشتقاقية؛ أي العلم والعدالة.

وفي الأول؛ يكون التركيب إتّحادياً بعد إنتزاع تلك العناوين عن الذات المحمولة عليها باعتبار قيام المبادئ والأعراض بها، فإنَّ هذا القيام مجرد حيثيتة تعليلية في الصدق لا

ص: 355


1- . منتهى الأصول (ط. القديمة)؛ ج1 ص394.

تقييدية, لأنَّ الحمل والصدق على الذات لا على المبادئ والذات واحدة لأنَّ هذه العناوين منتزعة من الذات وجهة الصدق تكون تعليلية لا تقييدية، فيكون تعددها لا يوجب تعدد المعنون؛ أي الذات, وإنْ كانت النسبة بينهما عموم من وجه يكون التركيب بين العنوانين الإشتقاقيين كالحلو والأبيض, والمصلي والغاصب في مورد الإجتماع إتّحادياً دائماً, لأنَّ معروض العنوان وما ينطبق عليه هو الذات, وهي لا تتعدد بتعدد العنوان وإنْ كان العرض القائم بها متعدداً فالذات التي إنطبق عليها البياض والحلو هي ذات واحدة.

وفي الثاني؛ يكون التركيب إنضمامياً, لأنَّ تلك العناوين تنتزع من نفس المبادئ, وهي عناوين ذاتية لها وتكون هي مصداقها بنحو الحيثية التقييدية, فتعددها يوجب تعدد المعنون خارجاً إذا كان بين العنوانين عموم من وجه, كالغصب والصلاة لا الغاصب والمصلي؛ إذ في هذا الحال لا بُدَّ لكلِّ واحدٍ من العنوانين من جهة صدق بنحو الحيثية التقييدية محفوظة في مورد إفتراق نحوٍ آخر, وهذا لا يكون إلا مع تعدد المعنون وإلا لزم عدم صدقهما في مورد الإجتماع, ومن هنا يثبت أنَّ التركيب إنضمامي في مورد الإجتماع بلحاظ المبادي والعناوين الذاتية إذا كان بينهما عموم من وجه. وبعبارة أوضح: إنَّ المبدأ له هوية واحدة أينما حصل, فالبياض مع الحلاوة عين البياض في غيرها, وكذا الصلاة مع الغضب عين الصلاة في غير الغضب, كما أنَّ الغضب مع الصلاة عين الغضب مع غيره؛ فلا تختلف هوية المبادي وهي واحدة, فيلزم أنَّ يكون التركيب بين المبادي تركيباً إنضمامياً ولذا ذهب إلى جواز الإجتماع, ولا بُدَّ من القول بأنَّ موضوع كلامه قدس سره ما كان مبدأ الإشتقاق فيه الأفعال الإختيارية لا من الصفات الجسمانيةكالبياض ولا من الصفات النفسانية كالشجاعة لأنَّ ما لم يكن من الأفعال الإختيارية لا يكون متعلقاً للأمر والنهي.

كما أنَّه لا يدخل في محل الكلام ما إذا كان الفعلان الذان يكون أحدهما متعلقاً للأمر والآخر يكون متعلقاً للنهي, فما له وجود وإيجاد متعدد وكان وجود أحدهما مغايراً

ص: 356

لوجود الآخر, كالصلاة والنظر إلى الأجنبية؛ فإنَّه لا إشكال في جوازه وليس هو من إجتماع الأمر والنهي في واحد، فإنَّ متعلق كلّ واحد منهما مغايراً للآخر بالنظر العرفي, فيكون محل الكلام ما إذا كان كلٌّ من متعلق الأمر والنهي فعلاً إختيارياً وكانا بحسب الظاهر موجودين بوجود واحد. وقد وافق السيد الخوئي قدس سره أستاذه فيما ذكره من التقسيم والإستدلال, إلا أنَّه إستثنى العناوين الإنتزاعية التي اعتبر أنَّه لا حقيقة مقولية خارجية لها كالفوقية والتحتية ونحو ذلك؛ التي ليست لها حقائق متأصلة في الخارج, فتعددها لا يستدعي تعدد المعنون خارجاً, ولذا قد تنتزع من مبادئ ومناشئ متباينة كما يقال الغرفة فوق والسقف فوق والسماء فوق وهكذا, وحيث أنَّ الصلاة والغضب من هذه العناوين فلا بُدَّ من ملاحظة منشأ إنتزاعهما في الخارج, فإذا كانت حركة واحدة لزم إمتناعهما, وسيأتي الكلام في هذه الجهة.

والحاصل: إنَّ ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره يدور حول محورين؛ أحدهما: إنَّ الذات في مورد العناوين الإشتقاقية واحدة بخلاف الثاني؛ فإنَّ المبدأ فيه له هوية واحدة.

والثاني: إنَّ الحيثية متعددة, ففي الأول تعليلية وفي الثاني تقييدية.

ويمكن الإشكال بوجوه:

الوجه الأول: إنَّ ما ذكره من أن انحفاظ هوية المبدأين يستلزم كون التركيب بينهما إنضمامياً غير تام, لأنَّ مجرد كون المبدأ محفوظاً بتمام هويته في جميع موارد الصدق لا يوجب عدم إتّحاده مع الخصوصية المنضمة إليه, فإنَّ الجنس محفوظ بتمام هويته مع جميع الفصول مع أنَّه متَّحد معها وجوداً, وليس التركيب بين الجنس والفصل تركيباً إنضمامياً بل هو تركيب إتّحادي.

إلا أنْ يوجه ما ذكره المحقق النائيني قدس سره بأنَّ البرهان لا يجري في العناوين والماهيات الطولية كالأجناس المتصاعدة أو النوع والفصل فيما لو كانت النسبة فيها التساوي أو

ص: 357

العموم من وجه, وإنَّ التركيب فيهما إتّحادي بأنْ يقال بأنَّ لكلِّ مبدأ ماهية مستقلة ومقولة خاصة غير المبدأ الآخر, لأنَّ الوجود الواحد لا يكون له إلا ماهية واحدة, فتعدد الماهية يستلزم تعدد الوجود, ولأجل ذلك كان التركيب في الأجناس المتصاعدة والنوع والفصل إتّحادياً إذا كانت النسبة بينهما التساوي أو من وجه.

الوجه الثاني: إنَّ ما ذكره في العناوين الإشتقاقية من أنَّ التركيب فيها إتّحادي غير سديد؛ لأنَّ المشتَّق إمّا أنْ نلتزم فيه بالبساطة أو التركيب.أمّا إذا قلنا ببساطة المشتق فيكون معنى المشتق نفس المبدأ, فلا فرق بين العالم والعلم فإنَّهما بمعنىً واحد؛ غاية الأمر إنَّ المعنى المصدري قد أخذ فيه أنْ يكون بشرط لا, فلا يصحُّ حمله على الذات, والعنوان الإشتقاقي مأخوذ لا بشرط فيصح حمله عليها. وعلى هذا القول لا فرق بين العناوين الإشتقاقية والمبادئ في كون التركيب إنضمامياً, فإنَّ حقيقتهما شيء واحد لا إختلاف بينهما, فما يقال في المبادئ يأتي في المعاني الإشتقاقية على حدٍّ سواء.

وأمّا إذا قلنا بتركيب المعاني الإشتقاقية بأنْ تكون معانيها مركبة من الذات والتقيد بالعرض فيكون معنى العالِم هو ذاتٌ لها العلم, على أنْ يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً.

وعلى هذا القول؛ فإنَّ التخصص بالخصوصية وإنْ كان من كيفيات الوجود, إذ ليس له وجود منحاز عن وجود الذات, لكن كلّ واقع تخصص يختلف عن واقع التخصص الآخر فما ينطبق عليه كلُّ عنوان يختلف عمّا ينطبق عليه العنوان الآخر, فما ينطبق عليه العالم هو الذات المتخصصة بخصوصية العلم غير ما ينطبق عليه الفاسق الذي هو الذات المتخصصة بخصوصية الفسق, فيكون المجموع من الذات والخصوصية يختلف عن المجموع الآخر من الذات والخصوصية الأخرى؛ وإنْ كان الوجود واحداً فيهما.

ولأجل ذلك ربّما يكون هذا الإختلاف منشأً للقول بجواز إجتماع الأمر والنهي الذي سيأتي الكلام فيه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 358

والحاصل: إنَّ القول ببساطة المشتق يستدعي القول بعدم الفرق بين العناوين الإشتقاقية والمبادئ فيكون التركيب إنضمامياً, وإنَّ القول بتركب المشتق يستلزم كون التركيب غير إتّحادي, ومن الغريب أنَّ المحقق النائيني قدس سره يقول ببساطة المشتق ومع ذلك يفرق هنا بين العناوين الإشتقاقية ومباديها.

فالقول بأنَّ التركّب في العناوين الإشتقاقية مطلقاً إتّحاديٌ غيرُ صحيح.

الوجه الثالث: إنَّ التفرقة بين جهة الصدق في القسمين بكونها من العناوين الإشتقاقية تعليلية وفي مبادئ تلك العناوين تقيدية غير سديد, فإنَّه مضافاً إلى إمكان تصوير الجهة التقييدية بالمعنى الذي ذكرناه آنفاً في العناوين الإشتقاقية فلا وجه لجعلها تعليلية. إنَّه بناءً على كون التركيب بين المبادئ إنضمامياً لا تنحفظ هوية المبدأ ولا يفرق حينئذٍ بين أنْ تكون الجهة تعليلية أو تقييدية فلا نحتاج إلى معرفتهما، فلا وجه لجعل ذلك ركيزة من ركائز هذا البحث كما عرفت.

الوجه الرابع: إنَّ كلامه كما عرفت يشمل العناوين الإشتقاقية تلك التي لها تأصيل في الخارج كانت من العناوين الإنتزاعية كالفوقية والتحتية التي ليس لها تأصلٌ في الخارج, وقد ناقش السيد الخوئي قدس سره ذلك صغرى وكبرى؛ فذكر بأنَّ التركيب الإنضمامي إنَّما يكون فيما إذا كان المبدءان من المبادئ المتأصلة فيالوجود, فيكون لكلِّ مبدأ وجود لاستحالة إنطباق مقولتين وماهيتين حقيقيتين على وجود واحد كالبياض والحلاوة والعلم والعدالة, وأمّا إذا كان المبدءان أو أحدهما من المبادئ الإنتزاعية فلا يتم ما ذكره, لأنَّ المبدأ الإنتزاعي لا وجود له في الخارج إلا بوجود منشأ إنتزاعه, وحينئذٍ لا بُدَّ من ملاحظة ذلك المنشأ؛ فإنْ كان مغايراً في الوجود مع مبدأ الآخر أو منشأ إنتزاعه جاز إجتماع الأمر والنهي, وإنْ إتَّحدا؛ بأنْ كان منشأ الإنتزاع مع المبدأ الآخر وجوداً واحداً أو

ص: 359

إتَّحد منشأ الإنتزاعين إمتنع إجتماع الأمر والنهي كالصلاة والغضب, فإنَّهما متَّحدان في المبدأ وهو الحركة الخاصة, فيتَّحدان في الوجود الخارجي, والصلاة والغضب من العناوين الإنتزاعية المتأصلة.

ثم إستشكل على المحقق وقوله بجواز إجتماع الأمر والنهي في الصلاة في الدار المغصوبة ولا يقول باجتماع الأمر والنهي في شرب الماء المغصوب, لأنَّ الغصب فيه ينطبق على نفس الشرب فيمتنع أنْ يكون الشرب مأموراً به في الوقت الذي يتعلق به النهي بالغصب فيكون من إجتماع الأمر والنهي حقيقة، فأنكر عليه السيد الخوئي ذلك, ويمكن مناقشته بما يلي:

أولاً: إنَّ العناوين الإنتزاعية محل خلاف؛ فإنَّ المعروف أنَّه لا أصل لها في الخارج, وإنَّها تابعة لمنشأ إنتزاعها, فيكون وجودها تبعاً لوجود مناشئها, فليست لها مقولة خارجية كسائر المقولات, ولكن ذكر بعضهم بأنَّ لها وجود خارجي وتأصل في الخارج, وإن قيل بأنَّ مقولاتها أضعف المقولات, فالنزاع يكون صغروياً والتفصيل موكول إلى محله.

ثانياً: إنَّ الفرق بين مثال شرب الماء المغصوب ومثال الصلاة والغصب واضح؛ فإنَّ في الأول يكون متعلق الشرب والغصب واحداً وبينهما إتّحاد كامل فلا يكون الشرب واجباً. بخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة؛ فإنَّ متعلق الصلاة من مقولة الفعل أو الوضع, ومتعلق الغصب من مقولة الأين, فيمكن لأجل هذا الإختلاف بين المتعلقين قيل: بجواز الإجتماع, ولعل نظر المحقق النائيني قدس سره إلى هذه الجهة من الفرق بين المثالين, ولأجل ذلك خرج مثال الشرب عن محل النزاع وحكم بأنَّ التركيب فيه إتّحاديٌ.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ العناوين الإشتقاقية قد تكون من الإنتزاعيات, وهي إمّا أنْ يكون لها واقع خارجي ويكون ما ينطبق عليه من الأمور الحقيقية التي لها وجود حقيقي متأصل،

ص: 360

مثل المفاهيم والعناوين الإشتقاقية كعنوان إنسان وعنوان ضارب وأمثالها فإنَّها وإنْ كانت عناوين إنتزاعية لكن لها تأصل في الخارج ووجود حقيقي.

وإمّا أنْ لا يكون لها واقع وراء الإنتزاع, فيكون واقعه إنتزاعي لا حقيقي. مثل الفوقية والتحتية ونحوهما والعناوين الإنتزاعية تطلق على كلِّ واحدٍ منهما.مع إنَّ المبادئ أيضاً إمّا أنْ تكون من المسببات الوليدية كالإحراق والقتل.

وإمّا أنْ تكون نسبتها إلى الخارج نسبة الطبيعي إلى فرده, فيكون له حقيقة وماهية تنطبق على الخارج باعتبار أنَّه فرد لها كالضرب والقيام والأكل.

وإمّا أنْ تكون نسبته إلى الخارج نسبة العنوان إلى المعنون؛ بأنْ لا يكون له حقيقة وواقع ليكون الخارج فرداً لها, بل يكون عنواناً لحقائق مختلفة من دون أنْ يكون له واقع مقولي, كالغصب؛ فإنَّه إنْ كان بمعنى التصرف وهو ليس له واقع غير واقع الأفعال كالقيام والقعود ونحوهما, ونظيره مفهوم (شيء)؛ فإنَّ واقعه لا يكون إلا تلك الحقائق المختلفة المتأصلة؛ فالغصب عنوان ينطبق على حقائق مقولية متأصلة كالقيام والقعود، كما ينطبق على الأمر الإعتباري من دون تصرف كالإستياء الحاصل من الظالم والسلطان على ملك الغير من دون تصرف خارجي ولا جامع مقولي بين الأمور الواقعية والأمور الإعتبارية, فلا بُدَّ أنْ يكون المراد من الغصب هو التصرف في ملك الغير بلحاظ تخصصه بخصوصية وهي عدم كونه برضا المالك, فالغصب من العناوين الإشتقاقية؛ شأنه شأن سائر الموارد في أنَّه ليس لها واقع غير ما ينطبق عليه, ولكنه بخصوصية خاصة.

وعليه؛ فإنْ كان معنونه وما ينطبق عليه غير المأمور به كان المورد من موارد إجتماع الأمر والنهي ومن موارد التركيب الإنضمامي بحسب تقسيم المحقق النائيني قدس سره , كالصلاة في الدار المغصوبة, فإنَّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة أخرى.

وإنْ كان معنونه نفس المأمور به إمتنع إجتماع الحكمين, كمثال شرب الماء المغصوب.

ص: 361

الأمر الرابع(1): ما ذكره بعض المحققين من إثبات تعدد الوجود لمتعلق الأمر والنهي, وذلك لأنَّ الخصوصية الدخيلة في كلِّ واحدٍ من العملين وإنْ لم يكن لها وجود مستقل عن العمل إلا أنَّه يمكن أنْ تكون مورد تعلق الأغراض العقلائية مع قطع النظر عن العمل, فيكون لتلك الخصوصية مورد الغرض ويكون العمل متعلق لغرض آخر مختلف عن الغرض المتعلق بالخصوصية وإنْ إجتمعا في وجود واحد؛ إلا أنَّ متعلق الإرادة يختلف عن متعلق الكراهة, وهذا يكفي في تعدد الوجود.

الأمر الخامس: ما أشار إليه المحقق العراقي بأنَّ موضوع الكلام هو ما إذا كان هناك وجودٌ واحدٌ حقيقةً ذا جهتين؛ إحداهما تكون متعلق الأمر والأخرى تكون متعلق النهي فلا بُدَّ من فرض وحدة الوجود, وأنكر على من جعل أساس البحث كون التركيب إنضمامياً أو إتّحادياً، لأنَّ إنضمامية التركيب معناها تعدد الوجود وهو خروج عن محلِّ البحث فإنَّه لا إشكال في جوازه.وقال في توجيه ما ذكره: إنَّ الوجود الواحد إذا كان ذا حيثيتين أحدهما كانت مصداقاً وفرداً لغرض, والأخرى كانت مصداقاً وفرداً لغرض آخر؛ فإمّا أنْ لا يكون بين الحيثيتين جهة مشتركة جامعة, وإمّا أنْ يكون بينهما جهة مشتركة؛ فإنْ لم يكن بينهما جهة مشتركة جاز إجتماع الأمر والنهي لاختلاف متعلقيهما. وإنْ كانت بينهما جهة مشتركة لم يجز إجتماع الأمر والنهي لاستلزامه إجتماع الحكمين في شيء واحد, وذلك لأنَّ متعلق الحكم ليس هو الوجود الخارجي لأنَّه طرف السقوط, كما أنَّه قد يكون الحكم ولا يكون الوجود الخارجي وإنَّما متعلقه الوجود الذهني، وهو يشتمل على الطبيعي مع خصوصية الوجود, وقد كان الحكم ثابتاً للطبيعي المتحقق ضمناً في الموجود الذهني.

ص: 362


1- . من أمور الإستدلال على الجواز في مسألة إجتماع الأمر والنهي.

وعليه؛ فإنَّ فرض وجود الجهة المشتركة الجامعة بين الخصوصيتين يستلزم فرض تعلق الحكمين الثابتين للخصوصيتين بالجهة الجامعة لوجودها في ضمن كلٍّ من الخصوصيتين, فيلزم إجتماع الحكمين المتضادَّين في شيءٍ واحد وهو محال, وغير ذلك من الوجوه التي إستدلَّ بها على جواز إجتماع الأمر والنهي.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ إجتماع الأمر والنهي من العوارض الطارئة على القانون والتشريع؛ سواء كان إلهياً أو وضعياً كالنسيان والغفلة والإضطرار ونحوها, ولا ريب أنَّ الحكيم يعلم بأنَّه قد يتصادق في مورد واحد الأمر والنهي وغيرهما من الأحكام التكليفية كالندب والكراهة, وإنَّ المكلف قد يبتلى بالجمع بين الأمر والنهي إختياراً أو إضطراراً؛ فلا بُدَّ أنْ يكون هناك علاج لهذا العنوان الطارئ كما في غيره من العناوين الطارئة على التشريع والقانون, ولم يخطر في بال أحد أنَّ التشريع في مثل هذا المورد يكون من الجمع بين الضدين بعد إختلاف متعلقهما. والأصوليون بعدما فرضوا التضاد بين الحكمين حاولوا رفعه بوجوه ذكرنا جملة منها, ولكنها مجرد فروض وهمية لا واقع لها ولا تخلو من الإشكال, فلا بُدَّ لهم القول بذلك وليس لهم طريق آخر بعد إثبات التضاد. مع أنَّ الأمر لا يصل إلى ذلك أبداً, وإنَّما حصل التنافي بينهما بعد أنْ جمع المكلف بين الحكمين في واحد, ولا بُدَّ من تطبيق ذلك حسب القواعد والأدلة. ولعلَّ من ذهب إلى جواز الإجتماع وإمكان أنْ ينطبق على المكلف عنوان العاصي والمطيع من جهتين مختلفتين هو الأقرب إلى الأذهان مِمّا ذكروه في هذا الموضوع من تفصيل لا طائل تحته, ولقد أحسن السيد الوالد قدس سره ؛ حيث أوجز الكلام فيه فتأمل.

ثم إنَّ بعضهم إستدلَّ على جواز الإجتماع بأنَّ الأحكام الخمسة هي متضادة فيما بينها بلا إختصاص بالأمر والنهي, وقد ورد في الشرع إجتماع الأمر مع الكراهة ولم يستشكل فيه

ص: 363

أحد, فما يقال في هذا المورد يقال في الأمر والنهي التحريمي أيضاً. والقول بأنَّ العرف لا يرى التضاد في إجتماع الأمر والكراهة بخلاف الأمر والنهي غير سديد بعد ثبوت التضاد بين الأحكام عندهم, وإنَّ التضاد أمرواقعي عقلي إنْ ثبت فلا دخل لنظر العرف في رفعه إلا أنْ يرجع إلى تعدد الموضوع ونحوه.

ولأجل ذلك إختلف الأصوليون في إلتماس الوجه في رفع التضاد بين الوجوب والكراهة في العبادات وغيرها فذكروا له وجوهاً:

الوجه الأول: إنَّ الكراهة في العبادات وغيرها إنَّما تحمل على الجهة الخارجة عن الذات للزوم رجحان الذات في العبادة مطلقاً، وهو صحيح باعتبار أنَّ غائلة إجتماع الضدين ترتفع بتعدد الجهة؛ كما يأتي بيان ذلك إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: إنَّ الكراهة في العبادات الواجبة والمندوبة تعني الأقل ثواباً، فيخرج عن التضاد موضوعاً, كما أنَّ الإستحباب في العبادات الواجبة بمعنى الأكثر ثواباً.

ولا بُدَّ أنْ تكون أقلية الثواب بالنسبة إلى ذات العبادة وأصل طبيعتها التي تعلق النهي التنزيهي بها لا بالنسبة إلى الفرد.

وقد أشكل عليه بأنَّه إنْ كانت أقليَّة الثواب قد لوحظت بالنسبة إلى أصل طبيعة العبادة فإنَّه يلزم منه خروج الواجب عن وجوبه, لأنَّ ثواب الطبيعة محدودة بحدٍّ معين فمع الخروج عنه يلزم الإنقلاب.

وإنْ لوحظت بالنسبة إلى الفرد فيلزم أنْ يكون كلُّ فرد أقل ثواباً بالنسبة إلى الفرد الآخر مكروهاً. وهذا لا يقول به أحد.

ويمكن الجواب عنه تارةً باختيار الشقِّ الأول ولا يلزم منه المحذور، لأنَّ الطبيعة هي لا إقتضائية بالنسبة إلى الثواب فليس فيه حدٌّ محدود بل ليس الثواب في مرتبة الطبيعة أصلاً وإنَّما هو معلول الإمتثال القابل لزيادة الثواب أو قلته حسب الحالات والخصوصيات.

ص: 364

وأخرى باختيار الشقِّ الثاني ولا يلزم المحذور أيضاً, لأنَّه ليس المدَّعى أنَّ كلَّ ما هو أقل ثواباً من غيره يكون مكروهاً، بل المدَّعى أنَّ الكراهة حكم شرعي؛ فإنْ دلَّ الدليل في عبادة على أنَّها مكروهة فإنَّ الكراهة فيها بمعنى أقليَّة الثواب بالنسبة إلى نفس العبادة التي لم تكن مكروهة.

نعم؛ يبقى أنَّ صرف النهي التنزيهي عن معناه الحقيقي وهو طلب الترك مع جواز الفعل إلى أقليَّة الثواب خلاف الظاهر ولا يصحُّ إلا بدليل كما هو واضح؛ ولكن سيأتي إمكان دفع هذا الإشكال إنْ شاء الله تعالى.

الوجه الثالث: إنَّ الكراهة في العبادات إقتضائية لا فعلية, فلا تنافي العبادة الفعلية. أي: إنَّ في العبادات المكروهة إقتضاء الكراهية لا مرتبة الفعلية لغلبة رجحان العبادة عليها.

وفيه: إنَّه خلاف ظاهر النهي الفعلي المتعلق بالعبادة فإنَّها عبادة مكروهة فعلاً وليس فيها إقتضاء الكراهة.الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره (1) من أنَّ العبادات التي تعلق بها النهي التنزيهي على أنحاء ثلاثة:

أولاً: أنْ يتعلق النهي بالذات ولا بدل لها, كصوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة في أوقات خاصة.

ثانياً: أنْ يتعلق النهي بالذات ولها بدل, كالصلاة في الحمام.

ثالثاً: أنْ يتعلق النهي بالخصوصية المحفوفة بذات العبادة كالصلاة في مواضع التهمة.

أمّا القسم الأول الذي وقع الإجماع على صحته لو جيء بها مع أرجحية الترك كما يظهر من مداومة الأئمة علیهم السلام على الترك؛ فقد قال قدس سره بأنَّه لا بُدَّ من أنْ يكون الوجه في النهي

ص: 365


1- . كفاية الأصول؛ ص163.

التنزيهي في العبادة أحد وجوه ثلاثة:

الأول: إنَّ النهي ليس لأجل مرجوحية ذات العبادة حتى ينافيها بل إنَّما هو لأجل إنطباق عنوان راجح ذي مصلحة على الترك, فيكون الترك من حيث هو ذو مصلحة, فيكون الفعل ذو مصلحة والترك أيضاً كذلك, وتكون مصلحة الترك أرجح ولذلك يرجح على الفعل فيكون الفعل والترك من قبيل المندوبين المتزاحمين إذا كان أحدهما أرجح من الآخر إلا أنَّهما بين الفعلين، والمقام بين الفعل والترك فيقع الفعل صحيحاً, لأنَّه ذو مصلحة وموافق للغرض من دون سراية مصلحة الترك إلى ذات العبادة حتى تصير مرجوحة، بل هما ملحوظان مستقلان كما في مطلق موارد التزاحم.

الثاني: أنْ يكون الوجه ملازمة الترك لعنوان راجح ذي مصلحة أكثر من مصلحة الفعل فيرجح الترك للوصول إلى تلك المصلحة الملازمة.

الثالث: أنْ يكون المقصود بالنهي هو الإرشاد إلى إشتمال الترك أو ملازمه على مصلحة أكثر من مصلحة الفعل من دون أنْ يكون هناك طلب أو زجر حقيقةً, فلا يلزم إجتماع الحكمين في شيء واحد؛ إمّا لأجل تعدد متعلق الحكمين كما هو مقتضى الوجهين الأولين، أو عدم وجودهما كما هو مقتضى الوجه الأخير.

تنبيهات

التنبيه الأول: في الإضطرار إلى إرتكاب الحرام

كما لو اضطرَّ إلى الكون في المحل المغصوب؛ ولا بُدَّ من تنقيح الموضوع. والكلام في توجيه إجتماع الأمر والنهي.

والبحث يقع تارةً في الإضطرار الحاصل لا بسوء الإختيار. وأخرى فيما إذا كان حاصلاً بسوء إختيار المكلف.

ص: 366

المقام الأول: إذا كان الإضطرار لا بسوء إختيار المكلف

لا ريب في سقوط الحكم التكليفي المتعلق بالتصرف بالمغصوب أي الحرمة عقلاً وشرعاً, وذلك لمكان الإضطرار الذي يستحيل معه التكليف لأنَّه لا يكون بغير المقدور، وهذا المقدار لا إشكال فيه فلا يكون محلُّ الكلام, فلا بُدَّ أنْ يكون فيما إذا كان المضطَّر إليه مقدمة الواجب إتّفاقاً أو دائماً, وفي وقوع الفعل صحيحاً ومجزياً, وحينئذٍ وقع الخلاف في ذلك؛ فقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره أنَّه إذا كان الإضطرار إلى الحرام قهرياً إستلزم رفع الحرمة والمبغوضية ولم يكن ملاك التحريم مؤثراً في هذه الحال فيكون ملاك الأمر بلا مزاحم, فيؤثر في الأمر فيجب عليه الخروج من المكان المغصوب لوجوب تفريغ ملك الغير عن الكون فيه عقلاً وشرعاً, فلا حرمة في التصرف لخروجه لمكان الإضطرار فتتَّصف بالوجوب فقط ولا يحرم بقاؤه فيه مع عدم التمكين من الخروج, ويلزم منه صحة العمل العبادي الذي به يتحقق الحرام لارتفاع المانع.

وأورد عليه بأنَّ تصحيح العمل المحرم المضطر إليه بوجود الملاك يحتاج إلى دليل على ثبوته مع ارتفاع الحكم.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنَّه يمكن إستكشافه بأهمية الواجب أو بإطلاق دليل الحكم الوجوبي بعد إرتفاع المانع عن شموله للمورد.

وعليه؛ يثبت الحكم؛ فلا حاجة إلى إلتماس الملاك كما ذهب إليه مشهور العلماء لأنَّ إطلاق الأمر تامٌّ؛ إذ لم يكن مانع ومقيد له سوى الحرمة والمفروض سقوطها, وبهذا فرَّقوا بين حالتين من المانعية؛ أحدهما: المانعية الحاصلة من النهي النفسي والحرمة التكليفية كما في الوضوء بماء مغصوب؛ الذي يكون تقييد الأمر بغيره من باب إمتناع الإجتماع عقلاً, ففي مثل ذلك لا تثبت المانعية إلا في فرض ثبوت الحرمة.

ص: 367

والثانية: المانعية المستفادة من النهي الإرشادي إبتداءً, وفي مثل ذلك لا تسقط المانعية حتى في حالات الإضطرار.

ولكن المحقق النائيني قدس سره خالف المشهور وذكر أنَّ القيود العدمية المعتبرة في المأمور به بحيث تكون موجبة لتحديد الحكم واختصاصه بمورد دون آخر تكون على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أنْ تكون مدلولة للنهي الغيري إبتداءً, فيكون النهي إرشادياً يفيد مانعية متعلقه عن صحة العمل الذي وقع مع ذلك القيد، كالنهي الوارد عن لبس الحرير في الصلاة أو خطاب (لا تصلِّ في وبر ما لا يؤكل لحمه).وفي مثل ذلك لا ترتفع المانعية بالإضطرار إذا كان لدليل القيد إطلاق, فتثبت المانعية مطلقاً في حال الإختيار والإضطرار معاً, فلا تسقط المانعية في حال الإضطرار وإنْ سقطت الحرمة لأجله.

القسم الثاني: أنْ تكون المانعية تابعة للنهي النفسي الدالّ على التحريم, فيستفاد منه مانعية القيد عن صحة العمل.

لكن المشهور ذهبوا إلى أنَّ المانعية في مثل هذا القسم في طول الحرمة وتابعة لها, فإذا سقطت الحرمة لأجل الإضطرار تسقط المانعية أيضاً وتزول.

ولكنه قدس سره خالف المشهور وذهب إلى أنَّ المانعية في عرض الحرمة, فيستفاد من النهي الحرمة والمانعية من عرض واحد, وعليه لا يرفع إضطرار المانعية وإنَّما يرفع الحرمة فقط, فإنَّ المانعية لا تنافي الإضطرار لعدم إناطتها بالحرمة فلم يحكم بالصحة والإجزاء.

القسم الثالث: أنْ تكون المانعية ثابتة لأجل مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه, وفي مثله إذا سقطت الحرمة لأجل الإضطرار يبقى الأمر بلا مزاحم, لأنَّ أساس ذلك هو أنْ يكون الحكمان فعليين, وإذا سقطت فعلية أحدهما فلا مزاحمة حينئذٍ.

ص: 368

هذا خلاصة ما أفاده قدس سره في المقام.

ويمكن تقريب دعواه بأحد وجهين:

الوجه الأول: من جهة أنَّ النهي يقتضي حرمة الفعل وعدم وجوبه, أي المانعية في عرض واحد, والإضطرار إنَّما ينفي المعلول الأول دون الثاني, وليست المانعية من ناحية الحرمة لأنَّ الحرمة والوجوب ضدّان, والمعروف إستحالة توقف أحد الضدَّين على عدم الآخر أو بالعكس, بل كلٌّ من الضدين مع عدم الآخر معلولان لعلَّة واحدة هي مقتضى ذلك الضدّ وملاكه.

وأورد عليه السيد الخوئي قدس سره بما يلي:

1- إنَّ دلالة النهي على الحرمة بالمطابقة ودلالته على عدم الوجوب بالإلتزام, والدلالة الإلتزامية في طول المطابقية لا في عرضها, وما ذكر في بحث الضدِّ من عرضية كلُّ ضدٍّ مع عدم الضدِّ الأخر إنَّما هو في عالم الثبوت دون الإثبات.

وأورد عليه بأنَّ هذا الإعتراض يرجع إلى إبطال دعوى المحقق النائيني بعرضية المدلولين في مقام الإثبات, مع أنَّ ظاهر كلام المحقق إنَّما هو عالم الثبوت؛ حيث عبَّر أنَّ الملاك علة لأمرين في عرض واحد ولم يعبر بأنَّ النهي علة فيكون من صغريات ما ذكر في بحث الضد.وفيه: إنَّ بحث الدلالة إنَّما يكون في مقام الإثبات دون الثبوت, فيكون قصده من الملاك هو النهي باعتبار كونه ملاكاً وعلة للحرمة والمانعية, فلا يكون من صغريات بحث الضد الذي هو في مقام الثبوت.

2- إنَّ الدلالة الإلتزامية تسقط عن الحجية كلَّما سقطت الدلالة المطابقية, فلا يمكن إثبات ملاك الحرمة أو المانعية بعد سقوط الحرمة.

ص: 369

وفيه: إنَّ هذا الإيراد سيأتي؛ فإنَّ المحقق النائيني قدس سره يرى أنَّ الدلالة الإلتزامية تتبع الدلالة المطابقية في الحجية دون الوجود, والسيد الخوئي قدس سره يرى تبعيتها لها في الوجود والحجية. فالأول يرى بعدم الطولية في الحجية، والثاني يرى بالطولية منها.

وأشكل عليه بأنَّ بحث تبعية الدلالة الإلتزامية للدلالة المطابقية إنَّما هو بالنظر العرفي والدلالات الإلتزامية العرفية، أمّا غيرها فليس مورد البحث, وموضوع بحثنا ليس في موارد الدلالات الإلتزامية العرفية, فإنَّ إرتفاع الوجوب في المجمع عند ثبوت الحرمة من الدقائق العقلية التي وقع فيها النقض والإبرام وليس من الأمور العرفية الظاهرة.

وعليه؛ فالقدر المسلّم من الدلالة الإلتزامية العرفية من دليل تحريم الغصب هو إرتفاع الوجوب عن الغصب فيما إذا لم يكن بعنوان آخر, أمّا إذا كان بعنوان آخر فلا دلالة عرفية على إرتفاعه, لأنَّه يتوقف على مقدمة عقلية؛ وهي كون متعلق الحكم هو المعنون لا العنوان, أو نظير ذلك مِمّا يقول به القائل بالإمتناع.

ويرد عليه: إنَّ ما ذكره خروج عن المفروض من كلام المحقق النائيني قدس سره , فإنَّ الدلالات مطابقية كانت أم إلتزامية في مفروض كلامه ما يستفاد في الملاك أو ظاهر الدليل, والعرف يمكن له تشخيص الموضوع وتعيين المصاديق, والعلماء يرجعون إلى العرف في تشخيص الموضوعات وتعيينها مع قطع النظر عن مسألة إجتماع الأمر والنهي وجوازه أو إمتناعه, فإنَّ الإضطرار إلى إرتكاب الحرام يكون مقدمة من مقدمات الواجب, ويأتي الكلام في أنَّ النهي يدلُّ على الحرمة فقط أو المانعية أيضاً.

فالحَقُّ أنْ يُقال في الردِّ على ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره أنَّه مضافاً إلى أنَّه خلاف فهم المشهور في طولية الدلالتين؛ إنَّه لا علية بين النهي وبين الحرمة والمانعية، فإنَّ مدلول النهي غير ذلك كما عرفت في إبتداء هذا الفصل, وعلى فرض القول بالعلية فإنَّه لا يمكن

ص: 370

قبول علية الملاك لأمرين عرضيين؛ وجود الضدِّ وهو الحرمة, وعدم الضدِّ الآخر وهو الوجوب, لأنَّ الأمر الوجودي -وهو الملاك- لا يمكن أنْ يكون علّة للأمر العدمي مستقلاً, كما أنَّ العدم لا يمكن أنْ يكون علة للوجود, وإنَّما المقتضى لأحد الضدَّين بحسب الحقيقة علّة لإيجاد ضدّهالمانع عن تأثير مقتضى الضدِّ الآخر, فإنَّه بمقدار ما يقرب الملاك والمقتضى نحو الضدِّ الأول يبعد عن الضدِّ الثاني للتمانع بينهما واستحالة إجتماعهما, وهو يعني أنَّه لا توجد علتان وتأثيران بل علية واحدة للملاك.

كما أنَّه إذا سلَّمنا حجية المدلول الإلتزامي للخطاب بعد سقوط مدلوله المطابقي كفى ذلك في إثبات المانعية بلا حاجة إلى مسألة تأثير الملاك بصورة عرضية في الحرمة والمانعية, لأنَّ دليل النهي يدلُّ على المانعية وعدم الوجوب إلتزاماً, وإلا فلا دليل على ثبوت الملاك بعد سقوط الحكم إلا أنْ نرجع إلى الأهمية أو الرجوع إلى التبعية حتى تحرز ثبوت معلوله الثاني.

الوجه الثاني(1): إنَّ حديث الرفع (ومَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ) (2) إنَّما يرفع الحكم وهو الحرمة فقط لا الملاك, فإنَّ ذلك مقتضى الرفع الإمتناني, وأمّا رفع التكليف برفع مقتضاه خلاف الإمتنان؛ هذا أولاً. وثانياً: إنَّ ملاك الحرمة يمنع ثبوت الوجوب في مادة الإجتماع, فلو كان الفعل عبادياً لا يمكن التقرب به بما فيه ملاك الحرمة, أو باعتبار أنَّ المجمع قد إجتمع فيه مباديء الحكم وهي المحبوبية والمبغوضية وهما لا يجتمعان في مورد الإجتماع ولو لم يكن

ص: 371


1- . في تقريب دعوى المحقق الثاني قدس سره .
2- . عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةٌ؛ الْخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ ومَا لَا يُطِيقُونَ ومَا لَا يَعْلَمُونَ ومَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ والْحَسَدُ والطِّيَرَةُ والتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِشَفَةٍ). [التوحيد (للصدوق)؛ ص353].

عبادياً وعرفت أنَّ حديث الرفع لا يرفع إلا الحكم دون المبادئ فلا يمكن إنبساط الأمر عليه مع وجود ملاك المبغوضية.

وفيه: إنَّ شيئاً مِمّا ذكر لا يصحُّ, فإنَّ رفع الحكم من دون رفع المقتضى لا يدلُّ على الإمتنان, بل إنَّ الرفع إنَّما يرفع ما هو الأصلح للعباد سواء كان حكماً أو مبدأً, فربَّما يقتضي رفعهما معاً, وذلك يختلف بحسب الموارد, وأمّا إجتماع مبادئ الحكم في مورد الإجتماع فقد عرفت الحال فيه فيما سبق؛ فإنَّه بعد الكسر والإنكسار بينهما وتحديد الأهم منهما ولترجيحه لا يبقى مورد للثاني.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّ ما ذكره المشهور من إرتفاع المانعية بارتفاع الحرمة وسقوطها هو الصحيح.

هذا كله في أصل كبرى المسألة؛ وهي الإضطرار إلى إرتكاب الحرام إذا لم يكن حاصلاً بسوء الإختيار.

وأمّا الكلام في الصغرى؛ أعني الصلاة في المكان المغصوب ففيه حالات ثلاث:

الحالة الأولى: إذا كان الإبتلاء بالغصب في تمام الوقتفالظاهر أنَّ الكبرى المتقدمة تنطبق عليها, فإنَّ المكلف في هذه الحالة مضطَّر إلى إرتكاب الحرام وممارسة عمل الغصب؛ إمّا ضمن الأفعال العقلائية أو في غيرها مِمّا لم تكن مصداقاً للواجب. وقد عرفت سقوط الحرمة, فتصحُّ الصلاة فيه حينئذ.

وذهب بعضٌ إلى أنَّ التصرف الصلاتي يزيد عن مقدار المضطر إليه من الغصب فيكون محرماً, فلا تصحُّ الصلاة لحرمة تلك الزيادة المتحققة في التصرف الصلاتي؛ حيث لا إضطرار إليها.

وفيه: إنَّ الغصب سواء قلنا بأنَّه بإشغال الحيز من المكان المغصوب أو بإلقاء الثقل على الأرض المغصوبة، وشيء منهما لا يزداد بصلاة المكلف، فإنَّ ما يشغله من الفضاء ثابت

ص: 372

على كلِّ حالٍ من أي شكل من الأشكال الهندسية تحقق، كما إنَّ الثقل أيضاً لا يختلف بالقيام أو القعود أو السجود، فلا يكون البقاء ساكناً أقل تصرفاً في الغصب، وما يمكن أنْ يكون سبباً في ذلك مجرد أوهام كما هو واضح؛ فراجع.

الحالة الثانية: إذا إرتفع الإضطرار قبل إنتهاء الوقت

والظاهر أيضاً أنَّ حكم هذه الحالة كالحكم في الأولى؛ لأنَّه بعد فرض سقوط الحرمة، فيجوز له الصلاة في ذلك المكان حتى مع علمه بالخروج بعد ساعة والمفروض عدم لزوم تصرف زائد بالصلاة الإختيارية، ولكن هذا خلاف الإحتياط, بل قيل بعدم صحة الصلاة

مع تمكنه من إتيانها في غير المكان المغصوب؛ كما سيأتي بيانه في الفقه.

كل ذلك لأدلة نفي الحرج وحديث الرفع, بل هو من ضروريات المذهب ظاهراً، كما إدَّعاه السيد الوالد قدس سره .

الحالة الثالثة: في إمكان الخروج بعد أنْ أُلقي إضطراراً في ذلك المكان المغصوب

فلا ريب في أنَّه يجب عليه الخروج فوراً تخلصاً من الغصب, ولا يجوز له أنْ يعمل عملاً بل يؤخره الى ما بعد الخروج أو يعطله, وحينئذٍ؛ فإنْ أمكنه الصلاة حين الخروج صلاة إختيارية؛ كما إذا كان راكباً في عربة وأمكنه الصلاة عليها في حال سيرها جاز له أنْ يصلي إذا كان في ضيق الوقت دون سعة الوقت؛ كما عرفت آنفاً.

وأمّا إذا كانت الصلاة الإختيارية تعيقه عن الخروج سريعاً وفوراً فلا يجوز ولا تصحُّ منه الصلاة في سعة الوقت. ومع ضيق الوقت عليه أنْ يصلي الصلاة الإضطرارية ولو إيماءً.

ص: 373

المقام الثاني(1): فيما إذا كان إرتكاب الحرام بسوء إختيار المكلف

والكلام فيه تارةً في حكم الخروج(2)، وأخرى في حكم الصلاة حين الخروج(3).

أمّا حكم الخروج فلا إشكال في وجوبه وتخلية المكان المغصوب فوراً؛ حتى لا يرتكب المزيد من الحرام، والكلام في حكم الخروج يقع في جهاتٍ ثلاث:

الجهة الأولى: في حكم الخروج

لا إشكال في أنَّ الخروج تصرّفٌ في الغصب فيكون غصباً لكنه سبب في التخلص عن الغصب الزائد الذي يحصل من البقاء، ولأجل ذلك إختلفوا في حرمته.

فقيل: إنَّ الخروج يقع محرماً، لأنَّ الإضطرار بالإختيار لا ينافي الإختيار خطاباً وعقاباً. وهو إختيار المحقق القمي قدس سره في القوانين(4).

وقيل: إنَّ الخروج يقع مبغوضاً لكنه غير محرم، لعدم منافاة الإضطرار بالإختيار ثبوت العقاب ومنافاته ثبوت الخطاب. وهو رأي المحقق الخراساني(5).

وذكر بعض الأعلام في توجيهه بعد مناقشة المقولة المعروفة (الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار) أنَّ النهي وإنْ سقط لأجل الإضطرار بالخروج ولكن سقوطه إنَّما يكون سقوطاً عصيانياً نشأ عن تفويت غرض المولى من قبل المكلف إختياراً بدخوله في الغصب ولهذا يستحق عليه العقاب.

ص: 374


1- . من التنبيه الأول.
2- . والجهات الثلاث الآتية معقودة لبيانها.
3- . وعُقدت لبيانه الجهة الرابعة.
4- . القوانين؛ ص86.
5- . كفاية الأصول؛ ص205.

وقيل: إنَّ الخروج يقع مطلوباً ولا يكون مبغوضاً, فلا حرمة ولا عقاب عليه. وهو رأي الشيخ الأنصاري قدس سره (1)؛ وقد قال في توجيهه بأنَّ التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا كلام, وأمّا الخروج فهو لا يقع محرماً أصلاً، لا قبل الدخول إذ لا يتعلق به التحريم قبل الدخول لعدم تمكنه من الخروج وعدمه قبل الدخول، ودعوى التمكن من ترك الخروج بترك الدخول مردودة, لأنَّ صدق ترك الخروج من فرض ترك الدخول إنَّما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع. ولا بعد الدخول فلم يكن الخروج محرماً لأنَّه مِمّا يترتب عليه التخلص عن الحرام، فلا يقع الخروج إلاّ متَّصفاً بالمحبوبية.

وأشكل عليه المحقق الخراساني قدس سره :

1- النقض بالبقاء؛ فإنَّه قبل الدخول تعلق به التكليف مع أنَّه غير مقدور.

2- إنَّ الخروج وتركه مقدور قبل الدخول لكنه بالواسطة, على خلاف الدخول؛ فإنَّه مقدور بدون واسطة، ومن المعلوم أنَّه لا يعتبر في صحة التكليف أكثر من القدرة مطلقاً بواسطة أو بدونها نظير مطلق الأفعال التوليدية التي إختياريتها باختيارية أسبابها.

ومنه يظهر الجواب عمّا قال؛ من أنَّه لا يصدق الترك إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، فإنَّ المناط هو الترك بأيِّ نحوٍ حصل, وذلك لأنَّ التمكن مطلقاً هو الذي يصحح التكليف.

والظاهر من كلام العلمين أنَّ النزاع بينهما يرتكز على صحة التكليف بترك الخروج قبل الدخول؛ فيرى المحقق الخراساني قدس سره أنَّ الخروج الناشئ عن إختيار الدخول يقع مبغوضاً, لأنَّه عصيان للنهي السابق.

ص: 375


1- . مطارح الأنظار؛ ص151.

أمّا الشيخ الأنصاري قدس سره فإنَّه يذهب إلى عدمه لعدم كون الترك قبل الدخول مقدوراً فلا يصح التكليف.

لكن الذي يورد على المحقق الخراساني قدس سره :

أولاً: إنَّ ما ذكره من النقض غير سديد؛ فإنَّ حكم البقاء حكم الخروج قبل الدخول فإنَّه يجري فيه الخلاف أيضاً, ولم يظهر من الشيخ قدس سره حرمة البقاء قبل الدخول حتى يكون مورداً للنقض عليه.

ثانياً: إنَّه لم يظهر من كلام الشيخ قدس سره إعتبار المباشرة في صحة التكليف, بل هو بعيد؛ كيف وهو القائل بالواجب المعلق مع عدم القدرة على الواجب في ظرف الوجوب. بل الظاهر من كلامه أنَّ مراده إنَّ الخروج إذا لوحظ قبل الدخول فهو غير مقدور لعدم قابليته لإعمال الارادة فيه إيجاداً أو تركاً, بل هو متحقق قهراً بترك الدخول, فهو في هذا الظرف متروك في نفسه. وأمّا إذا لوحظ بعد الدخول مِمّا يقبل إعمال الإرادة فيه من نفسه فهو قابل لتعلق الحكم لكنه واقع مورد الإضطرار وسبب للتخلص عن الحرام, فلم يصحُّ تعلق التكليف فيه, فهو غير قابل للتحريم في كلِّ حالٍ، وهذا بخلاف البقاء؛ فإنَّه بعد الدخول قابل للتحريم لعدم وقوعه مقدمة للواجب.

فما أورده المحقق الخراساني قدس سره يمكن أنْ يورد عليه بأنَّ الخروج مبغوض وإنْ سقط النهي لأجل الإضطرار, ولكنه سقوط عصياني ناشئ عن تفويت غرض المولى من قبل المكلف إختياراً.

وفيه: إنَّ هذا مبني على ترجيح ملاك المبغوضية، وأمّا إذا قلنا بترجيح ملاك الإيجاب على جهة المبغوضية لأنَّه الأهم فلا محذور فيه حينئذٍ؛ كما سيأتي بيانه، فالحقُّ ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره .

ص: 376

وذهب المحقق النائيني قدس سره (1) إلى أنَّ الخروج ليس مورد الإضطرار, لأنَّه وإنْ كان تصرفاً في الغصب لكنه باعتبار أنَّه تسليم المال إلى صاحبه وتخليصٌ له, فيجب من هذه الناحية, فيكون الخروج واجباً نفسياً لوجوب التخليص عن الغصب الزائد, ولأجل ذلك قال بأنَّ الخروج ليس مورد الإضطرار فلا يدخل المورد تحت قاعدة الإمتناع بالإختيار ينافي الإختيار، بل هو مورد التزاحم بين حرمة الخروج ووجوب التخلص عن الغصب الزائد وإنْ كان كلُّ واحد من الحكمين قد حصل بسوء الإختيار.

وإنْ كان يورد عليه بأنَّ تحقق الإضطرار إلى الحرام يوجب الخروج عن مسألة التزاحم, مضافاً إلى أنَّه إذا أُلحقت هذه المسألة بباب التزاحم فلا بُدَّ من البحث فيها هناك لا المقام, فلا وجه لجعلها مسألة مستقلة في المقام.

الجهة الثانية: في وجوب الخروج شرعاً

قد استشكل بعضهم في ثبوته لأنَّ الخروج محكوم عليه عقلاً بلزومه, فلا وجه للوجوب الشرعي مع اللا بُدَّية العقلية بل يكون لغواً.

وفيه: إنَّ حكم الشرع حينئذٍ يكون إتماماً للحجة وتأكيداً لحكم العقل وقطعاً لعذر المكلف من ثبوت الحكم الشرعي في مورد الظلم, ووجوب رد المغصوب المنقول الواجب عقلاً وشرعاً ولو كان بمستوى إختيار المكلف, مع إنَّهم إختلفوا في وجه الوجوب, فقيل بأنَّه وجوب نفسي لوجود مقتضيه في الخروج, لأنَّ الإنسان يجب عليه تسليم المال إلى صاحبه فيكون من مصاديق الردِّ الواجب.

وقيل: إنَّ الخروج بنفسه تخلص من الحرام فيكون واجباً نفسياً.

ص: 377


1- . أجود التقريرات؛ ج1 ص376.

ويرد عليه بأنَّه ليس في الغصب إلا حكم واحد وهو حرمة التصرف فيه, وأمّا تسليم المال أو ردُّه إلى صاحبه أو تخليصه؛ فإنَّ كلَّ ذلك معروضات للزوم الإجتناب عن الغصب وحرمته, فهو ملازمات عقلية منتزعة عن حرمة الغصب وليس حكماً شرعياً, فلا مقتضى للوجوب النفسي.

ولكن يرد عليه بأنَّه لشدَّة الإرتباط بين الإجتناب وهذه الملازمات بحيث يعدُّ أحدهما عين الآخر عرفاً, فيكون واجباً نفسياً.

وقيل: بالوجوب المقدمي وأثبتوا له وجوهاً:

1- إنَّ الخروج واجب مقدمي للتخلص من الحرام.

وردَّ بأنَّ التخلص ليس بواجب شرعي كما عرفت آنفاً.

2- إنَّه مقدمة لترك الحرام الواجب شرعاً, فيكون الخروج مقدمة للكون في خارج المكان المغصوب، وهذا العنوان وإنْ لم يكن واجباً ملازماً مع1- الواجب الذي هو ترك الحرام, لأنَّ ترك الحرام أمر عدمي والكون خارج الدار أمر وجودي؛ فيستحيل أنْ يكون أحدهما عين الآخر.

ولكن لا يخفى أنَّ هذا البيان غاية ما يثبت أنَّ الكون خارج المكان المغصوب الذي هو أمر وجودي ليس عين ترك الحرام العدمي, وهذا المقدار لا يمنع أنْ يكون الخروج مقدمة لكلا الأمرين المتلازمين؛ الوجودي والعدمي, مضافاً إلى أنَّه ما المانع أنْ يكون الخروج الوجودي مقدمة لأمر عدمي نسبي كترك الحرام الذي تتعلق به إرادة المكلف فينطبق على الكون خارج المكان المغصوب, فيكون أحدهما عين الآخر بالنظر العرفي, فهذا الوجه لا بأس به.

ص: 378

3- إنَّ الخروج ضد البقاء, والمعروف في بحث الضدِّ أنَّ أحدهما لا يمكن أنْ يكون متوقفاً على عدم الآخر, ولا أنْ يكون أحدهما مقدمة لترك الآخر, فلا مقدمة ولا توقف بين الضدَّين, فلا بُدَّ من أنْ يكون الخروج مقدمة للكون في الخارج أو ملازماً لترك الحرام, وقد عرفت آنفاً أنَّهما متلازمان عرفاً, بل أحدهما عين الآخر بالنظر العرفي, مع أنَّ التضادّ بينهما يمكن رفعه باختلاف الزمان فيكون فعل ضدٍّ في زمان موجباً لعدم ضدِّه في آنٍ آخر؛ وهو أمر معقول فلا موجب للإستحالة. أو يكون الأمران متلازمين, فلا بُدَّ أنْ يكون التلازم بينهما ناشئاً من عليَّة أحدهما للآخر أو يكون أحدهما معلولين لعلَّة ثالثة. ولا يمكن أنْ يكون كلٌّ منهما علَّة مستقلة وإلا لزم إمكان إنفكاكهما. وفي المقام لا يمكن إفتراض أنَّ أحدهما علَّة للآخر, فلا بُدَّ من فرض أنَّهما معلولان لعلة ثالثة وهو الخروج وهو يعني مقدمية الخروج لترك الحرام.

وقد إعترض المحقق الإصفهاني قدس سره (1) على ذلك بأنَّ التلازم بين الكون خارج المكان المغصوب وعدم الكون داخله تارةً ينشأ من علية أحدهما للآخر, وهو منفي في المقام. وأخرى تنشأ من معلوليتهما لعلَّة ثالثة. وثالثة تنشأ من ناحية التمانع والتضادّ فيما بين الكونين حيث يضيق عالم التكوين عن إستيعابهما معاً في آنٍ واحد. والمقام من هذا الأخير.

وأورد عليه بعض الأعلام بأنَّ التمانع الذاتي بين الضدَّين يؤدي إلى أنْ يكون مقتضى أحدهما مزاحماً ومانعاً عن الآخر لا محالة, فلا إستثناء عن القاعدة المزبورة.

وفيه: إنَّ مفروض كلام المحقق قدس سره هو: إنَّ التمانع بينهما له وجه آخر غير الذاتي, وهو عدم استيعاب التكوين لهما في آنٍ واحد, فما ذكر خلاف مراده قدس سره , وهو ضيق خناق عالم

ص: 379


1- . نهاية الدراية؛ ج1 ص287.

التكوين الذي يكون منشأً للتلازم بين شيئين.

والصحيح في ردِّه أنْ يُقال: إنَّ الكون خارج الدار يكون في آنٍ لاحق عدم الكون كما عرفت آنفاً.

كما أنَّه إعترض على البرهان المذكور من أنَّنا ولو سلَّمنا بأنَّ المتلازمين أنْ يكون أحدهما معلولاً للآخر أو كلاهما معلولين لعلة ثالثة لكن ذلك لا يلزم أنْ تكون تمام أجزاء أحدهما تمام أجزاء علة الآخر, بل يكفي أنْ يكون المقتضي لأحدهما علة تامة للآخر, مع فرض أنْ يكون هذا المقتضي بنفسه علة للجزء الآخر من علة الأول. والمقام من هذا القبيل؛ فإنَّ الكون خارج الدار مع عدم الكون داخلها متلازمان, ولكن علَّة الأخير هو عدم إرادة البقاء في الدار، لأنَّ إرادة الكون في الدار علَّة له فعدمها علَّة لعدمه. وعدم إرادة البقاء في الدار مع إرادة الكون في الدار علَّة له, فعدمها علَّة لعدمه، وعدم إرادة البقاء في الدار ملازم مع إرادة الكون خارج الدار المعلولين لأقوائية مصلحة الكون خارج الدار, وهو مقتضى الكون خارج الدار لا علَّة تامة، إذ لا بُدَّ من شرط أو مقدمة إعدادية؛ وهو الخروج من الدار, وهكذا يكون الخروج مقدمة لأحد المتلازمين دون الآخر.

وإعترض عليه بأنَّ مجرد عدم إرادة الغصب ليس علة لعدم البقاء في الدار المغصوبة لمن هو في الدار فعلاً, بل لا بُدَّ من التحرك إلى خارج الدار, وإلا بقي في الدار المغصوبة بحكم القوانين الطبيعية.

وكيف كان؛ فإنَّه يصحُّ إثبات الوجوب المقدمي للخروج لعدم الغصب وتركه الذي هو واجب على المكلف، كما يصحُّ إثبات الوجوب النفسي كما عرفت آنفاً, ولا يضر أنْ يكون ملاك كلّ واحد من القسمين موجوداً في مورد.

ص: 380

ثم إنَّه أشكل المحقق الخراساني قدس سره (1) على أصل إتّصاف الخروج بالوجوب الغيري, وخلاصة ما ذكره: إنَّ ترشح الوجوب الغيري على المقدمة مشروط بقابلية المحلِّ بأنْ يكون مباحاً؛ إمّا ذاتاً كما في المقدمة المباحة, أو عرضاً في طول سقوط الحرمة عنها بملاك شرعي كما في موارد المقدمة المحرمة المنحصرة لواجب أهم. وأمّا إذا كانت المقدمة محرمة أو كانت معصية لو فرض سقوط الحرمة خطاباً بالعصيان فلا قابلية فيها للإباحة, ومعه لا يترشح الوجوب عليها، فإنَّ الوجدان يقضي بأنَّ من أحبَّ شيئاً أحبَّ مقدماته، ومن الواضح أنَّ الوجدان لا يثبت أكثر من ترشح الحبّ على ما يمكن أنْ يكون مباحاً من المقدمات, لا ما يكون حراماً وعصياناً, فيبقى الخروج من المقام مبغوضاً ومحرماً رغم وقوعه مقدمة الواجب.ولكن سيأتي في الجواب عن بعض المشاكل المترتبة على الجمع بين الوجوب والحرمة أنَّ المبغوضية المترتبة على الخروج على فرض الحرمة إنَّما هي قابلة للكسر والإنكسار؛ فإذا تعلق الحب بذي المقدمة فإنَّ ملاكه يكون غالباً على مفسدة الخروج فتسقط الحرمة وتكون المبغوضية مقهورة؛ وسيأتي مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى.

الجهة الثالثة: في بعض الإيرادات التي أُوردت في المقام

إنَّه بناءً على القول بتمامية مقتضى الوجوب والحرمة معاً بالنسبة إلى الخروج من المكان المغصوب.

وعمدة ما ذكروه هو: كيفية التوفيق بين الحرمة والوجوب في موضوع واحد، وكيفية التوفيق بين حرمة الخروج ووجوب ذي المقدمة المترتب عليه مثل الكون خارج الدار أو ترك الحرام أو عدم الكون في الدار في الآن الثاني.

ص: 381


1- . كفاية الأصول؛ ص112.

ويمكن الإيراد بما يلي:

الإيراد الأول: ويقال في رفعه بأنَّ الحرمة بناءً على ثبوتها بالنسبة إلى الخروج من المكان المغصوب إنَّما تثبت في الآن الأول, أي قبل الدخول في الدار، وأمّا بعد دخول المكلف بسوء إختياره إلى الدار تسقط الحرمة, فيأتي دور الوجوب الغيري, فلم يجتمعا في زمانٍ واحد.

وفيه: إنَّه من لزوم ما لا يلزم به صاحب هذا القول, فإنَّه يرى بحرمة الخروج مطلقاً حتى بعد الدخول.

وأشكل عليه بوجهين:

الوجه الأول: إنَّ أقصى ما يستفاد من ذلك إمكان التوفيق بين الحرمة والوجوب في مرحلة الخطاب, إلا أنَّ التنافي بين الأحكام بحسب الحقيقة ليس بلحاظ مرحلة الخطاب بل بلحاظ المبادئ وعالم الحب والبغض, ومن الواضح أنَّ المبغوضية وملاك الغصب ثابت في المقام, اذ لم تنسخ أو تقيد حرمة الغصب بالغصب الدخولي دون الخروجي.

وأجيب عنه بأنَّه بعدما ذكرنا من الكسر والإنكسار بين المبغوضية والمحبوبية فإنَّ المبغوضية تقع مقهورة بعد دخول المكلف لطروِّ المصلحة القاهرة للخروج من المكان المغصوب, فتكون المحبوبية وإنْ كانت غيرية فهي فعلية ومسببة لإزالة المبغوضية, ولأجل ذلك أوردنا على المحقق الخراساني قدس سره , حيث أشكل على الكبرى في ثبوت الوجوب الغيري كما تقدم.

الوجه الثاني: إنَّ إجتماع الوجوب والحرمة على فعل واحد في زمانين وإنْ كان يرفع محذور إجتماع الضدَّين ولكنه يلزم منه الجهل مع وحدة زمان المتعلق, فإنَّ المولى من أول الأمر عندما يلاحظ الخروج بعد الدخول؛ فإمّا أنْ يرى فيه المفسدة فيحرمه, أو يرى فيه المصلحة فيوجبه، وإمّا أنْ يحرمه قبل الدخول ثميوجبه بمجرد الدخول الذي زمانه

ص: 382

مجهول عند المولى. فيلزم منه الجهل بواقع الحال, أو عدم كون التحريم الأول جديَّاً لأجل الزجر والمنع.

وهذا المعنى وإنْ أمكن تصويره في الأحكام الوضعية كالملكية مثلاً, فإنَّه يمكن جعل مال لزيد يوم السبت ثم يجعل نفس ذلك المال يوم الأحد لعمرو من يوم السبت, وهو المسمىّ عندهم بالكشف الحكمي, لأنَّ الملاك والمصلحة في مثل هذه الأحكام الوضعية قائم بنفس الإعتبار, فيمكن إعتبار معتبر سابق.

وأمّا الأحكام التكليفية فإنَّ الملاك فيها يكون في المجعول لا في الجعل, فلا يعقل أنَّ المولى يحرم شيئاً من أول الأمر ثم يوجبه بعد الإبتلاء به.

وفيه: إنَّ المولى يرى في الخروج مفسدة ومصلحة غالبة مشروطاً بالدخول فيكون الدخول من شرائط الإتّصاف.

وبعبارة أخرى: إنَّ المولى يرى أنَّ مفسدة الغصب تقتضي أنْ يسدَّ أبواب عدمه على المكلفين مطلقاً المتمثل عدمه بعدم الدخول أصلاً, وعدم بعد الدخول المستلزم للبقاء في الدار المغصوبة, ولكنه يرى أنَّ المصلحة تقتضي أنْ لا يسدَّ باب الخروج عليه فإنَّه يساوق البقاء في الغصب الذي هو مبغوض عند المولى, فيأمره بالخروج وغلق باب البقاء.

ومن ذلك يستفاد أنَّ الإشكالين السابقين لا صحَّة لهما، فلا محذور ثبوتي في الجمع بين تحريم الخروج قبل الدخول وإيجابه بعده، بل هو المتعين لو قلنا بوجوب الخروج إمّا نفسياً أو مقدمياً كما عرفت آنفاً نظير ما إذا وقع الخروج مقدمة لواجب أهم كما لو توقف إنقاذ الغريق على خروجه من الأرض المغصوبة التي دخلها بسوء إختياره.

الإيراد الثاني: في المنافاة بين حرمة الخروج ووجوب ترك الغصب في الآن الثاني.

ص: 383

وقد ذكر في تقريبه وجوهاً كلُّها باطلة:

1- إذا حرم الخروج قبل الدخول؛ فبما أنَّ وجوب الخروج غيري معلول لوجوب ذي المقدمة في المقام فتسري المنافات إلى وجوب ذي المقدمة، لأنَّ التفكيك بين العلة والمعلول لا يمكن.

وفيه: ما عرفت من سقوط الحرمة بعد الدخول، وعلى فرض ثبوتها فإنَّه لا بُدَّ من الكسر والإنكسار بين المبغوضية والمصلحة.

2- إنَّ إيجاب ذي المقدمة غير معقول إشتراط مقدميته عقلاً وشرعاً بأنْ لا يكون ممنوعاً عنه أو عن مقدمته المنحصرة شرعاً، فإذا فرض حرمة الخروج فكيف يمكن إيجاب ما يترتب عليه؟!.وفيه: إنَّه يمكن أنْ نفرض إيجاب ذي المقدمة على فرض عصيان مقدمته المحرمة الأهم بنحو الترتب, فإنَّه يكفي في صحة التكليف أنْ يكون المكلف قادراً عليه على تقدير الإنقياد كما في المقام.

3- إنَّ إرتفاع حرمة الخروج بعد الدخول لم يكن من باب النسخ والبداء, بل من قبيل الرفع العصياني.

وفيه: لا ينتفي الغرض, بل تسقط الحرمة فقط لعدم الجدوى فيها، وحينئذٍ يكون الأمر بذي المقدمة نقضاً لهذا الغرض الفعلي المحرم.

هذا كلُّه مبنيٌّ على تحريم الخروج, وإلا فلا وجه لهذه البحوث كما هو الحقُّ.

ويرد عليه: إنَّ الأمر بذي المقدمة لم يكن ناقضاً للغرض الذي نقضه المكلف بسوء إختياره, وإنَّما يبين أنَّ المكث في الغصب لا يكون بقائياً, بل خروجياً فقط بعد إمكان فرض الجامع بين المكثين وتحديده في الخروج فقط.

ص: 384

هذا تمام الكلام في الجهات الثلاث المرتبطة بحكم الخروج، أمّا حكم الصلاة حال الخروج فالكلام فيه في الجهة الرابعة.

الجهة الرابعة: في حكم الصلاة في حال الخروج

ذكر السيد الوالد قدس سره أنَّه لا تصحُّ في سعة الوقت وإمكان إتيانها في محلٍّ مباح بالإتّفاق حتى عند القائلين بالجواز, وأمّا في الضيق فهي صحيحة حال الخروج بناءً على الجواز, وكذلك بناءً على الإمتناع ورضا المالك بالخروج كما استظهرناه، وكذا بناءً على عدم رضاه مع تغليب جانب الأمر. نعم؛ بناءً على عدم رضاه وتغليب جانب النهي لا وجه للصحة، ولكن أنّى لنا إثبات ذلك في ضيق الوقت مع أنَّ الصلاة لا تسقط بحال، ولا دليل على تغليب النهي مطلقاً.

وحاصل ذلك نقول: إمّا أنْ لا يتمكن المكلف من الصلاة بعد الخروج لضيق الوقت, وإمّا أنْ يتمكن من الصلاة خارج المكان المغصوب ولو بالإتيان بالوظيفة الإضطرارية.

وتفصيل ذلك: إنَّه بناءً على القول بجواز إجتماع الأمر والنهي تقع الصلاة صحيحة كما ذكره قدس سره , ولكن ذكر بعضهم بأنَّه إنْ كانت الصلاة الإختيارية توجب مزيد مكث له وتصرف في الغصب تعين عليه تكليفاً الإقتصار على الصلاة الإضطرارية تقديماً لجانب الحرام وإنْ كانت صحيحة إذا خالف بملاك الترتب.

ويرد عليه: إنَّه بعد جواز الإجتماع وهو عازم على الخروج كان تصرفه تصرفاً صحيحاً, فلا موجب للإقتصار على الصلاة الإضطرارية بعد شمول إطلاقات أدلة الإجزاء أو الشروط لمثل هذه الصلاة, ولا نحتاج إلى الرجوع إلى الترتب فيتصحيح صلاته؛ لا سيما إذا كانت هناك قرينة عامة عرفية تدلُّ على إحراز رضاء المالك لمثل التصرفات الصلاتية كما ستعرف.

وأمّا بناءً على القول بالإمتناع فقد ذكر في وجه صحة الصلاة وجهين:

ص: 385

أحدهما: القرينة العامة العرفية التي تدلُّ على أنَّ الناس يرضون بخروج الغاصب والظالم والسارق عن ملكهم؛ لا سيما إذا كان بعد إظهار ندامته وتوبته وعدم حصول تضرر في مالهم، والتضمين لو تحقق ضرر عليهم، بل الظاهر أنَّ متعارف الناس يستنكرون على المالك لو أظهر عدم رضائه بالخروج مع الحالة هذه, فإذا رضي المالك بالخروج يجب بلا إشكال لوجود مقتضيه.

والوجه الآخر: إنَّه مع تغليب جانب الأمر وسقوط النهي تصحُّ الصلاة أيضاً.

ولكن فصل بعض الاعلام بناءً على القول المزبور بأنَّه تارةً يكون المجمع عليه فعل السجود فقط من أفعال الصلاة, وأخرى يفترض الإتّحاد في تمام أكوان الصلاة؛

فعلى الأول؛ يتعين على المكلف الصلاة مع الإيماء للسجود حتى إذا لم يلزم من الصلاة الإختيارية مكث زائد لحرمة السجود ومبغوضيته المانعة عن الصحة حسب الفرض.

وفيه: مع تغليب جانب الأمر وسقوط النهي عن التأثير لا وجه لذلك كما سيفرضه في الوجه الثاني.

نعم؛ لو قلنا بتغليب جانب النهي يمكن القول بذلك, لكن سيأتي عدم الدليل على ذلك, هذا إذا لم نقل برضاء المالك وإلا فالأمر أوضح.

وعلى الثاني؛ قال: إنَّ مقتضى القاعدة الأولية صحة الصلاة وسقوط الأمر رأساً، لأنَّ المكلف منذ البداية كان أمامه دليلان؛ دليل حرمة الغصب دخولاً ومكثاً وخروجاً, ودليل الأمر بالصلاة. وبعد التعارض في مادة الإجتماع وتقديم تجنب النهي تقيد دليل الأمر بالصلاة في المكان المباح, والمفروض أنَّ دخوله في المكان المغصوب كان بسوء إختياره، وكان بإمكانه الصلاة خارج المكان المغصوب ليجتنبه فقد عجَّز نفسه عن إمتثال كِلا الخطابين، فيسقط الخطابان سقوطاً عصيانياً, ولكن لا بُدَّ من رفع اليد عن هذه

ص: 386

القاعدة الأولية لأجل الدليل الخاص في باب الصلاة أنَّها لا تسقط بحال, فيدلُّ على وجوبها وصحتها فيجب الإتيان بها, وهذا الدليل معتضداً بالقرينة العرفية يدلُّ على عدم مبغوضيتها عندئذٍ فإنَّه لا يمكن التقرب بما يكون مبغوضاً ولا تقع عبادة.

وأورد عليه بعض الأعلام بأنَّ المبغوض إذا كان بديله غير مبغوض فلا يمكن التقرب به, إذ لا يعقل ترجيح المبغوض والتقرب به على غير المبغوض, وإذا كان بديله مبغوضاً أيضاً فلا بُدَّ أنْ يلاحظ الأقل مبغوضية والتقرب به بمعنى جعله بديلاً عن الأكثر مبغوضية وهو معقول, وإذا كان إنتفاء المبغوضية لأجلعدم الوقوع في محذور إجتماع المبغوضية مع الوجوب فإنَّه يمكن الجواب عنه بأنَّنا نلتزم بعدم المحبوبية, فإنَّ وجوب الصلاة ثبت هنا بمثل الإجماع ولا مأخذ لاشتراط المحبوبية وراء الأمر في المقام لا ثبوتاً ولا إثباتاً, ثم فصَّل الكلام في بيان ذلك, ولكن كلُّ ذلك تطويل بلا طائل تحته, فإنَّه بعد ترجيح الأمر وسقوط النهي وانتفاء المبغوضية أو إنكسارها بعد الكسر والإنكسار بينها وبين المحبوبية لا وجه للقول لذلك, مع أنَّ الدليل الأول الدالُّ على عدم سقوط الصلاة لا ينحصر بالإجماع, فإنَّ قول الإمام الصادق علیه السلام : (وَلَا تَدَعُ الصَّلَاةَ عَلَى حَالٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلی الله علیه و آله و سلم قَالَ الصَّلَاةُ عِمَادُ دِينِكُمْ) ظاهر في ثبوت الأمر والمحبوبية مع أنَّه يمكن الإجماع في إثبات المحبوبية والأمر, وهكذا أثبت وجوب الصلاة ومحبوبيتها بناءً على الإمتناع واتّحادها مع الأكوان الغصبية.

وهنا يأتي الكلام السابق؛ هل تثبت عليه وظيفة المختار أو الصلاة الإضطرارية وإنْ إستلزمت الوظيفة الإختيارية مكثاً زائداً تعينت عليه الصلاة الإضطرارية, إذ لا موجب لرفع اليد عن دليل حرمة المكث الزائد, فتقع الصلاة الإختيارية حينئذٍ فاسدة, وأمّا إذا لم يستلزم المكث الزائد المحرم فلا مانع من التمسك بإطلاق دليل جزئية الركوع والسجود وغيرهما من الأجزاء فيأتي بالصلاة الإختيارية.

ص: 387

هذا كلُّه مع قطع النظر عن القرينة العرفية كما عرفت, ومع عدم القول بالوجوب, وسقوط النهي عن الخروج والإمكان؛ وإلاّ فإنّ عليه إتيان الصلاة الإختيارية مع سائر الأجزاء والشرائط, ولا تصل النوبة إلى الصلاة الإضطرارية.

وأمّا القول بأنَّه بناءً على سقوط النهي لا بُدَّ من إتيان الصلاة من دون أنْ يكون فيها تصرفٌ زائدٌ في الغصب لأنَّ الحرمة إنَّما ترتفع عن الحركة نحو الخروج ولا ترتفع عن تصرفات أخرى لا تكون دخيلة فيه؛ ففيه: إنَّه خلاف الفرض, فإنَّ الصلاة لا تخالف الحركات الخروجية, فإذا كان هناك مكث زائد في الصلاة الإختيارية فإنَّه ليس لأجل التصرف الغصبي المحرم في الحالة الأولى.

أمّا الحالة الثانية(1)؛ فقد ذكر السيد الوالد قدس سره عدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة حتى عند القائلين بجوار اجتماع الأمر والنهي مطلقاً سواء كانت الصلاة خارج الدار أكمل أم لا لغرض المبغوضية فيجب إتيانها خارج الدار, ومن ذلك يعرف أنَّ ما ذكره بعض الأعلام من التفصيل تطويل بلا طائل تحته بعد ثبوت الإجماع على بطلان الصلاة في الداخل مع تمكنه من إتيانها خارجها, فقال: إنَّه إذا تمكن من الصلاة خارج الدار كاملة تعين عليه ذلك, وأمّا إذا لم يتمكن من الصلاة أكمل وأحسن, فإنْ كانت في الدار المغصوبة أكمل وأحسن حالاً من الخارج تعين عليه ذلك لو لم يكن مقتضى القاعدة سقوط خطاب الصلاة,وأمّا إذا كان مقتضى القاعدة ذلك وإنَّما ثبت الوجوب بمثل الإجماع فمن الواضح عدم ثبوت إجماع على صحة الصلاة في الداخل حتى لو فرض أنَّ الصلاة في الداخل تكون أكمل منها في الخارج.

ص: 388


1- . وهي ما إذا تمكن من الصلاة خارج الدار المغصوبة.
التنبيه الثاني: في تعارض الحكمين

لا ريب في عدم خلو واقعة من الوقائع من حكم من الأحكام, فبناءً على جواز إجتماع الأمر والنهي يكون مورد الإجتماع محكوماً بالوجوب والحرمة أو بالوجوب والندب أو الوجوب والكراهة كما عرفت من الوجوه التي سبقت، من تعدد الجهة ونحوها، وأمّا بناءً على الإمتناع إمّا للتضادّ أو للتزاحم كما عرفت, فلا بُدَّ حينئذٍ من إثبات أحدهما، وقد قيل بتقديم دليل النهي وتغليب جانب الحرمة على دليل الأمر والوجوب في مورد الإجتماع بعد أنْ كان التعارض بينهما بنحو العموم من وجه، وقد ذكروا في ذلك وجوهاً بعد أنْ لم يكن هناك دليل خاص يدلُّ عليه ولم يدَّعيه أحد إلا أنْ يتمسك بالإجماع على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة مع العمد والإختيار, وهو مِمّا تسالم عليه القائلون بالجواز عليه أيضاً، ولكنه مختص بالصلاة فقط, فلعله حاصل من أدلة خاصة كما عرفت ولأجل خصوصيته في الصلاة لأنَّها لا تترك في حال.

الوجه الأول: إذا تعارض إطلاقان أحدهما شمولي والآخر بدلي في مورد العموم من وجه قدم في مورد الإجتماع الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي, ففي المقام إطلاق الأمر بالصلاة يكون بدلياً, إذ الواجب فرد منها لا جميع أفرادها, بينما إطلاق النهي عن الغصب شمولي يثبت حرمة كلّ غصب، فيكون إطلاق المادة في متعلق الأمر بدلياً وإطلاقها في النهي شمولياً دائماً, فإذا وقع التعارض بينهما بنحو العموم من وجه قدم إطلاق النهي الشمولي على أطلاق الأمر البدلي.

ويرد عليه: إنَّه إذا إستند الإطلاق إلى الوضع كان الأمر كذلك، وأمّا إذا إستند كلُّ واحد من الإطلاقين إلى مقدمات الحكمة فلا وجه للتقديم لتساويهما في مناط الإعتبار. وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه إنْ شاء الله تعالى.

ص: 389

نعم؛ بناءً على مبنى المحقق النائيني قدس سره الذي يذهب إلى لزوم إختصاص متعلق الأمر بالحصة المقدورة عقلاً وشرعاً؛ فإنَّه عليه يكون إطلاق النهي لمورد الإجتماع رافعاً لهذا الشرط ووارداً على إطلاق دليل الأمر دون العكس, وذلك لأنَّ إطلاق الأمر يكون بدلياً, فشموله لمورد الإجتماع لا يجعل إمتثال النهي غير مقدور لا عقلاً ولا شرعاً بخلاف العكس.

ولكن هذا الوجه إنَّما ينفي إطلاق الأمر أصلاً في مورد الإجتماع لفقد شرطه, والكلام فيما إذا تعارض الإطلاقان, مضافاً إلى أنَّه لو تمَّ هذا فهو في دليل الحرمة والوجوب دون الكراهة والأمر، كما هو واضح.وربما يناقش في تطبيق هذه القاعدة في المقام فيما إذا لم تكن مندوحة للمكلف, بحيث إنحصرت الصلاة –مثلاً- بالمكان المغصوب, وذلك لأنَّ المعارضة حينئذٍ تكون بين إطلاق النهي الشمولي مع الوجوب الذي هو مدلول الهيئة لا المادة، وإطلاق الهيئة شمولي وليس بدلياً. نعم؛ إذا كانت مندوحة في المقام ربَّما يقال بتمامية القاعدة.

وأجيب عنه بأنَّ التعارض بحسب الحقيقة بين إطلاق المادة في الدليلين دائماً, لأنَّ إرتفاع الوجوب في صورة عدم المندوحة ليس تقييداً زائداً في دليل الأمر, إذ كلُّ أمر مشروط بالقدرة على متعلقه، فإذا قيّد متعلق الأمر الذي يكون إطلاقه بدلي بغير الغصب فإنَّ ذلك لم يحدث تقييد مدلول الهيئة زائداً على تقييد متعلق الأمر بالقدرة عليه.

وكيف كان؛ فإنَّ أصل القاعدة موضع نقاش سواء قلنا بتطبيقها في المقام أو لا.

الوجه الثاني: إنَّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه: إنَّ بناء العقلاء على تقديم أقوى الملاكين سواء كانا مصلحتين أم مفسدتين أم مختلفتين؛ هذا فيما إذا لم يمكن الجمع بينهما. وأمّا إذا أمكن الجمع فبها كجلب المصلحة ودفع المفسدة، كما إذا صلى في غير المغصوب، كما عرفت من اعتبار قيد المندوحة في مورد النزاع.

ص: 390

الوجه الثالث: إنَّ مقتضى السيرة تغليب جانب النهي على الأمر عند الدوران بينهما، أمّا إعتبار أنَّ دليل النهي يتكفل لحكم إلزامي ودليل الأمر يكون متكفلاً لحكم ترخيصي وهو التوسعة وجواز تطبيق الجامع على المجمع؛ نظير ما ورد النهي عن الغصب، وورد جواز شرب الحليب, فإنَّه يقدم دليل التحريم على إطلاق دليل جواز شرب الحليب للحليب المغصوب.

وأمّا لأجل الإستقراء كما في حرمة الصلاة على الحائض أيام الإستظهار, وحرمة الوضوء من الإنائين المشتبهين.

ويرد عليه:

أولاً: إنَّ الإستقراء فهو ناقص لا إعتبار به بل الأمر بالعكس, فإنَّه عند الدوران بينهما فإنَّهم حكموا بسقوط فعلية الحرمة عند عدم إمكان إقامة الدليل عليه، واعتبروه موافقاً لسهولة الشريعة نظير إرتفاع الحرمة من الشبهات التحريمية والعلم من ترتيب الشارع الأقدس أحكام الوطئ الصحيح على الوطئ بالشبهة، وصحة الصلاة مع الجهل بالغصب ونحو ذلك من الموارد التي ثبتت الصحة فيها, وإنَّ مجرد المبغوضية في الواقع لا أثر لها مالم تكن مقرونة بالمنجزية الفعلية.

ثانياً: إنَّ ما ذكر في وجه تقديم دليل النهي, لأنَّه يتضمن حكماً إلزامياً بخلاف الأمر الذي يتكفل بحكم ترخيصي, فإنَّه لا يتمُّ فيما إذا لم تكن مندوحة حيث يكون كِلا الحكمين إلزامياً بعد انحصار الواجب في ذلك الفرد.

ثالثاً: إنْ كان الإمتناع حاصلاً من إطلاق دليل النهي الشامل للفرد المحرم ودليل الأمر المتعلق بالجامع الشامل للفرد المحرم فإنَّه لا يكون الدليل حينئذٍ ترخيصياً.

ص: 391

وأمّا إذا فرضنا الإمتناع من جهة إستلزام الأمر بالجامع الترخيصي في تطبيقه على كلِّ فرد. كما ورد في عبارات المحقق النائيني قدس سره فهذا الترخيص لا بُدَّ وأنْ يراد به الترخيص الفعلي ومن جميع الجهات لا الترخيص الجهتي ومن جهة الصلاة وإلا فإنَّ هذا الترخيص يكون ترخيصاً وضعياً لا ينافي حرمة الفرد, وهذا خلاف الإمتناع, أمّا الترخيص الفعلي ومن جميع الجهات فإنَّه إذا تحقق في مورد يتنافى مع الحرمة جزماً كما لو قال يجوز شرب هذا الماء لكلِّ عنوان وقال لا يجوز شربه إذا كان غصباً كان بينهما تعارض لا محالة.

ومن جميع ذلك يظهر أنَّه لا وجه لتقديم النهي على الأمر في مورد الإجتماع بناءً على الإمتناع، وحينئذٍ فمقتضى البراءة العقلية والنقلية عدم فعلية النهي, كما إنَّ مقتضى أصالة عدم المانعية لمثل هذا النهي الذي لم يثبت غلبة مفسدته على مصلحة الأمر صحة الصلاة لإطلاق دليلها الشامل لمورد الإجتماع ايضاً مع وجود المصلحة.

والقول بأنَّ المعتبر في العبادة المصلحة الراحجة والغالبة على المفسدة لا مجرد وجود المصلحة؛ يرد عليه: إنَّه لا دليل على إعتبار المصلحة الغالبة في العبادة بل يكفي مطلق المصلحة إنْ لم تكن مرجوحة, فالأقسام ثلاثة؛ غَلَبة المفسدة على مصلحة الأمر وتساويهما، ومرجوحية المفسدة بالنسبة إلى المصلحة. وعدم الصحَّة يختَّص بالأول فقط كما عرفت ذلك في طي مباحثنا السابقة، ومن ذلك يظهر أنَّ النهي لا يشمل مورد الإجتماع إلا مع فعلية وغلبة المفسدة دون غيرها.

التنبيه الثالث: في الثمرة المترتبة على هذه المسألة

قد يقال بأنَّه بناءً على جواز إجتماع الأمر والنهي يلزم صحة العمل العبادي بدعوى إنَّ متعلق الأمر غير منهي عنه فيصحُّ الإتيان به، سواء علم بالحرمة أو لم يعلم وإنْ خالف المحقق النائيني قدس سره في إطلاق هذا الحكم، والتزم البطلان في صورة العلم بالحرمة دون الجهل بها.

ص: 392

وحاصل ما ذكره في توجيه ذلك على ما أفاده بعض الأعلام بأنَّه إذا إلتزمنا بجواز الإجتماع من الجهة الأولى -وهي إجتماع الضدَّين في شيء واحد- لأجل تعدد الجهة أو المتعلق, ولكن لا نلتزم بجوازه من الجهة الثانية -وهي جهة التزاحم- فلا بُدَّ من الإلتزام بالإمتناع بلحاظها لعدم التمكن من إمتثال كِلا الحكمين فلا يكونان فعليين فيقع التزاحم بينهما فلا بُدَّ من تقديم أحد الحكمين, فلو قدّم النهي إرتفع الأمر عن الفرد المزاحم, وحينئذٍ فلا بُدَّ أنْ يكون من تصحيح العبادة بأحد وجوه ثلاثة؛ فإنْ تمَّت صحَّت العبادة وإلا فيبطل العمل قهراً، وهي:

1- الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة وإنْ كان الفرد المزاحم خارجاً عن دائرة المأمور به. وهو الذي التزم به المحقق الكركي.

2- تصحيح تعلق الأمر به بنحو الترتب, فيؤتى به بداعي الأمر المتعلق به.

3- الإتيان به بداعي الملاك لاشتماله على ملاك الأمر.

ثم ناقش قدس سره هذه الوجوه الثلاثة:

أمّا الوجه الأول؛ فقال بعدم صحته, لأنَّ الفرد المزاحم فرد للطبيعة لا بما هي مأمور بها، فلا يصحُّ الإتيان به بداعي الأمر لأنَّ الأمر يدعو إلى ما تعلق به.

وأمّا الوجه الثاني؛ فلعدم جريان الترتب في مثل الفرض, لأن عصيان النهي عن الغصب إمّا أنْ يكون بالغصب الصلاتي أو بغيره, وعلى كِلا التقديرين لا يصحُّ تعلق الأمر بالصلاة, لأنَّه على الأول طلب الحاصل وعلى الثاني طلب النقيضين, فإنَّ الأمر بالصلاة على تقدير الإتيان بغيرها طلب النقيضين، كما لا يخفى.

وأمّا الوجه الثالث؛ فإنَّ الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الملاك إنَّما يجدي في المقربية إذا لم يكن مشتملاً على القبح الفاعلي كما في المقام، فإنَّ الغصب والصلاة وإنْ كانا متعددي

ص: 393

الوجوه لكنهما ممتزجين في الخارج بحيث لا يمكن الإشارة الحسيَّة إلى أحدهما دون الآخر، فهما متَّحدان بحسب الإيجاد والتأثير وقد كانا صادرين بإرادة واحدة فيكون الفاعل مرتكباً للقبيح في فاعليته, فيمتنع أنْ يكون الفعل الصادر منه مقرباً لقبح جهة صدوره.

وهذا البيان لا يجري في صورة الجهل بالحرمة، إذ مع الجهل لا تزاحم بين الحكمين، لأنَّ التزاحم إنَّما يتحقق مع وصول كِلا الحكمين إلى مقام الداعوية وهو منتفٍ مع الجهل، فيكون الأمر بلا مزاحم، كما إنَّ جهة صدور العمل لا تكون متَّصفة بالقبح مع الجهل، فلا يكون الفاعل مرتكباً للقبيح في فاعليته.

ولكن يمكن الجواب عمّا ذكره بعد الغضِّ عن أصل ما ذكره في جهة التزاحم كما عرفت مفصلاً.

أمّا الأول؛ فإنَّه يصحُّ الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر بالطبيعة، فإنَّه كغيره من سائر الأفراد محصلٌ للملاك وموافقٌ للغرض. كما اختاره جمعٌ منهم المحقق الخراساني قدس سره والسيد الوالد قدس سره .

وأمّا الثاني؛ فإنَّ نفي الترتب في مورد إجتماع الأمر والنهي إنَّما يتم بناءً على الإمتناع ووحدة وجود المأمور به والمنهي عنه, لأنَّ عصيان أحدهما يكون بامتثال الآخر, فلا وجه للترتب. ولكن لا مانع منه بناءً على جواز الإجتماع بعد الإلتزام بتعدد وجود المأمور به والمنهي عنه، فإنَّه بعد تغاير وجود الغصب ووجود الصلاة فلا معنى لأنْ يُقال إنَّ عصيان النهي عن الغصب إمّا أنْ يكونبالغصب الصلاتي أو بغيرها، إذ الغصب غير الصلاة فكيف يكون بنفس الصلاة؟ نعم؛ يكون ملازماً للصلاة أو غيرها, وهذا لا يمنع الترتب. وسيأتي مزيد بيان في محله إنْ شاء الله تعالى.

ص: 394

وأمّا الثالث؛ فلأنَّ الأفعال الإرادية إنَّما تتعلق الإرادة بها مباشرة, فلا يمكن صدور فعلين بإرادة واحدة إذ المفروض أنَّ كلَّ فعل تتعلق به الإرادة بنفسه، فيكون كلُّ فعل متعلقاً لإرادة غير الإرادة المتعلقة بالآخر وإنْ كان يرى تعلق الإرادة بفعلين مسامحة ولكنه خلاف الحقيقة.

نعم؛ إذا كانت الأفعال من الأسباب التوليدية فيمكن صدور فعلين بإرادة واحدة حقيقة كما هو واضح, ولكن المقام -وهو الصلاة في المكان المغصوب- ليس من الأفعال التوليدية فيكون لكلِّ واحد منهما -الغصب والصلاة- إرادة مستقلة, فلا يكون الإتيان بالصلاة مشتملاً على القبح الفاعلي لأنَّ جهة صدورها تختلف عن جهة صدور الغصب, مع إنَّ القول بالإيجاد واحد غير صحيح؛ فإنَّ الإيجاد والوجود وإنْ كانا متَّحدين حقيقة ولكنهما متغايران إعتباراً فلا يمكن فرض تعدد الوجود ووحدة الإيجاد, بل إذا تعدد الوجود يتعدد الإيجاد. وعليه لا يكون المكلف في جهة إيجاده المأمور به فاعلاً للقبيح فلا تتصف جهة الصدور بالقبح.

ومن جميع ذلك يظهر صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بجواز الإجتماع مطلقاً في صورة العلم بالغصب وفي صورة الجهل به؛ هذا كلُّه بناءً على القول بجواز الإجتماع.

وأمّا بناءً على الإمتناع وتقديم جانب النهي فقد ذهب المحقق الخراساني قدس سره إلى التفصيل بين صورة العالم حيث حكم ببطلان العمل العبادي, وبين صورة الجهل فلا يبطل؛ لإمكان تصحيحه بأحد الوجوه الثلاثة المتقدمة؛ إمّا إتيانه بقصد الأمر المتعلق بالطبيعة لكونه وافياً بالغرض, أو إتيانه بقصد الملاك, أو إتيانه بقصد الأمر المتعلق به بناءً على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد المؤثرة فعلاً بالحسن والقبح.

ص: 395

وقد أشكل عليه بمثل ما من المحقق النائيني قدس سره فإنَّ الفعل إذا كان مشتملاً على مِلاكي الحكمين وكان مِلاك النهي غالباً لم يقع الفعل مقرباً للمولى, لأنَّ ملاك الأمر المقرب هو المصلحة الغالبة لا مجرد المصلحة.

وفيه: ما سيأتي من عدم الدليل على ذلك, بل وجود المصلحة كافية في التقرب.

وأمّا الوجه الثالث؛ فقد أورد عليه بأنَّه من التصويب المجمع على بطلانه لاستلزامه نفي الحكم الواقعي في صورة الجهل, ولكن عرفت الجواب عن جميع ذلك ولا تصويب كما تقدم مفصلاً.وهناك تفصيلات أخرى كالتفصيل بين ما إذا كانت مندوحة بمعنى إمكان إمتثال المأمور به بفرد آخر وعدمه ومن مصاديقه الصلاة في المكان المغصوب مع السعة ومع الضيق.

أو التفصيل بناءً على تقديم جانب الأمر وملاكه بين صورة الضيق فيصحُّ العمل، وصورة السعة فلا يصحُّ كما ذكره في الكفاية من أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن هذه لأنَّ الإتيان بالفرد المشتمل على مفسدة التحريم يستلزم عدم التمكن من إستيفاء مصلحة الأفراد الأخرى غير المبتلاة فهما ضدّان، وبما أنَّ الأفراد الأخرى متعلقة للأمر فإذا إلتزمنا بأنَّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدِّه كان هذا الفرد منهياً عنه فلا يقع صحيحاً, وهذا لا يتأتى في الضيق إذ لا فرد غيره. وقد أنكرنا هذه الملازمة كما عرفت سابقاً وسيأتي في بحث الضد تحقيقه.

والحَقُّ أنْ يُقال: إنَّ شيئاً مِمّا ذكروه لا يمكن أنْ تكون ثمرة عملية تترتب على هذا البحث الطويل, لأنَّ مورد الإجتماع إنْ كان توصلياً فيسقط الوجوب بالإتيان بالمجمع إتّفاقاً مع التفصيل في الإثم والضمان كما هو مفصل في الفقه, وإنْ كان تعبدياً فإنْ كان له بديل فالجميع متَّفقون على أنَّه يتعين إختيار البديل, ولا يجوز الإتيان بالمبدل وإنْ لم يكن له بدل

ص: 396

وكان في سعة الوقت وإمكان التأخير والإتيان بغير مورد الإجتماع فظاهرهم التسالم على التأخير, وإنْ كان في الضيق وعدم إمكان التأخير فيظهر منهم عدم الخلاف في لزوم الإتيان في المجمع حينئذٍ.

هذا كلُّه بناءً على القول بتغليب النهي بناءً على الإمتناع كما نسب إلى المشهور. وأمّا بناءً على عدم التغليب فالأمر كما ذكرناه مفصلاً, فعدم الثمرة بين القولين أظهر من أنْ يخفى.

ثم إنَّ الأصوليين ذكروا في المقام بحث عن إقتضاء النهي للفساد, ولكن السيد الوالد قدس سره ذكره في بحث الملازمات العقلية ونحن نتبعه في هذا التقسيم.

تم بعون الله تعالى الجزء الثاني ... ويليه الجزء الثالث؛ في المفاهيم

ص: 397

ص: 398

الفهرست

في مباحث الألفاظ .................................................. 9

الفصل الأول: الأوامر ..................................................... 9

المبحث الأول: في الجهات التي ترتبط بالأوامر ............................. 9

الجهة الأولى: في مادة الأمر ................................................. 9

الجهة الثانية: إحتمالات إعتبار العلوّ أو الإستعلاء في صدق الأمر ............ 14

الجهة الثالثة: في دلالة الأمر على الوجوب ................................... 15

الجهة الرابعة: في الطلب والإرادة ........................................... 26

المبحث الثاني: صيغة الأمر ................................................. 61

الجهة الأولى: في دلالة صيغة الأمر على الوجوب ............................ 61

الجهة الثانية: في كيفية دلالة الصيغة على الوجوب ........................... 66

الجهة الثالثة: في مدلول الجملة الفعلية الخبرية الواردة في مقام الطلب ........ 69

المبحث الثالث: في دلالة الأمر على المرة أو التكرار .......................... 74

المبحث الرابع: في الفور أو التراخي ......................................... 85

المبحث الخامس: في الواجب التعبدي والتوصلي ............................ 88

المبحث السادس: أقسام الواجب ........................................... 141

القسم الأول: الواجب المطلق والواجب المشروط ........................... 141

القسم الثاني: الواجب المعلَّق والواجب المنَجَّز .............................. 156

ص: 399

القسم الثالث: الواجب النفسي والواجب الغيري ........................... 199

القسم الرابع: الواجب التعييني والواجب التخييري ........................ 227

القسم الخامس: الواجب العيني والواجب الكفائي ......................... 242

القسم السادس: الواجب الموسّع والواجب المضيق ......................... 249

القسم السابع: الواجب الأصلي والواجب التبعي ........................... 260

ختام فيه أمور .............................................................. 264

الفصل الثاني: النواهي ..................................................... 285

المبحث الأول: في دلالات صيغة النهي ..................................... 285

المبحث الثاني: إجتماع الأمر والنهي ......................................... 299

التزاحم .................................................................... 308

صور التزاحم .............................................................. 314

منشأ التزاحم .............................................................. 316

مرجحات التزاحم ......................................................... 319

تنبيهات ................................................................... 366

التنبيه الأول: في الإضطرار إلى إرتكاب الحرام .............................. 366

التنبيه الثاني: في تعارض الحكمين ........................................... 389

التنبيه الثالث: في الثمرة المترتبة على هذه المسألة ............................. 392

الفهرست ................................................................. 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.