التفكر في القرآن (سورة الأنفال، سورة التوبة) المجلد 9

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر في القرآن (سورة الأنفال، سورة التوبة) المجلد 9 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن (9)

سورة الأنفال . سورة التوبة

--------------------

السيّد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الناشر: دار العلم

الطبعة الأولی - 1443ه.ق - 2021 م

عدد النسخ: 1000 نسخة

المطبعة: إحسان

--------------------

شابك: 7-660-204-964-978

--------------------

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

(9)

التفكر في القرآن

سورة الأنفال

سورة التوبة

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

سورة الأنفال

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

الإطار العام للسورة

هذه السورة المباركة نزلت حول غزوة بدر أولى غزوات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وفيها بيان نصر اللّه تعالى لرسوله وللمؤمنين وخذلانه للكافرين.

وبيان وجوب استجابة المسلمين لنداء الجهاد، ووجوب إطاعة اللّه ورسوله، ووجوب الإعداد لهم مهما استطاع المسلمون، وحرمة الفرار من الزحف.

وبيان كفاية المؤمنين الصابرين لقتال الكفّار الذين لا يفقهون حتّى لو كان الكفّار ضِعفين.

وأنّ المشركين يستحقّون ما نالهم من القتل والذل لأنّهم هم الذين بدأوا المسلمين بالإيذاء حيث أرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو حبسه مع رفضهم لآيات اللّه ودعائهم بأنّه إن كان هو الحق فليعذّبهم اللّه، وأنّهم صدّوا عن المسجد الحرام، وارتكبوا فيه البدع، وأنفقوا أموالهم للصد عن سبيل اللّه، وأنّهم أثاروا الفتنة وغير ذلك ممّا أوجب تشريع قتالهم.

ص: 5

وبيان مصير المقتولين من الكفّار إلى جهنّم وبئس المصير، وكذا حكم الأسرى وكيفيّة التعامل معهم.

وبيان سبب خروج الكفّار إلى قتال المسلمين بالبطر والرياء وتزيين الشيطان أعمالهم لهم.

وبيان خوف المنافقين وخطرهم على المسلمين.

وبيان أنّه لا بأس بمعاهدة الكفّار إلاّ إذا خاف خيانتهم، وأنّهم إذا أرادوا السلم فاجنح لها مع التوّكل على اللّه تعالى.

وبيان حكم الغنيمة وعامة الأنفال والفداء الذي يؤخذ من الأسرى، وغير ذلك ممّا سيأتي.

ص: 6

الآيات1-4

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَسَْٔلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 1 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ 2 الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ 3 أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ 4}

1- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَسَْٔلُونَكَ} السائل أصحاب النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {عَنِ} حكم {الْأَنفَالِ} جمع نفل، وهي الغنائم الحربيّة وكل ما لا مالك له. {قُلِ} في جوابهم: {الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ليس لكم حق فيها إلاّ إذا نحلكم اللّه أو الرسول إيّاها، وقد قسّم الرسول غنائم بدر بينهم بالسويّة ثمّ أعطاهم اللّه بعد بدر أربعة أخماس الغنائم الحربيّة {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوا عقابه ولا تطلبوا ما ليس لكم، {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فلا تتنازعوا في الغنيمة وغيرها، {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في ما شرّعه اللّه تعالى وصنعه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمر الغنيمة وغيرها {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالإيمان يقتضي الطاعة والإصلاح والتقوى، وهذا حثّهم على القبول بحكم اللّه والرسول.

2- {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} الكاملو الإيمان {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي لم تطمئن بما قدّموه من طاعة، {وَإِذَا تُلِيَتْ} قُرأت {عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ} هذه التلاوة {إِيمَٰنًا} فالملكات النفسانيّة تقوى بالتكرار، {وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ

ص: 7

يَتَوَكَّلُونَ} يعتمدون عليه في أمورهم وشؤونهم، هذه في صفاتهم القلبيّة.

3- وأمّا في أعمالهم: فهم {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ} أي يواظبون عليها بالإتيان بها وحث الناس عليها، {وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ} واجباً كان أو مستحبّاً.

4- {أُوْلَٰئِكَ} المتّصفون بهذه الصفات {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} حيث خضعت قلوبهم وجوارحهم إلى اللّه تعالى {لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} وهي درجات القرب والمنزلة {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ} في الجنّة {كَرِيمٌ} أي بتعظيم وكرامة لهم.

بحوث

الأوّل: نزلت هذه الآيات حينما اختلفوا في غنائم بدر ولم يكن قد بيّن اللّه قبل ذلك حكمها، حيث انقسم المسلمون في غزوة بدر إلى أصناف ثلاثة: فقسم بقي مع الرسول يحامي عنه، وقسم طلبوا المشركين بعد انهزامهم فاتّبعوهم وغنموا منهم، وقسم جمعوا الغنائم التي بقيت في ساحة القتال، ومن غنم شيئاً ادّعى أنّه أولى به، ومن لم يغنم طلب أن يشارك في الغنيمة فاختلفوا، فأنزل اللّه هذه الآيات فسلّموا لذلك، ثمّ إنّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قسّم الغنائم بين جميعهم بالسويّة فضلاً منه عليهم، ثمّ بعد بدر نزلت آية الخمس، ففي الغزوات والسرايا اللاحقة صار أربع أخماس للمقاتلين فللراجل سهم وللفارس سهمان، وخُمس لأرباب الخمس، وسيأتي بيانه في الآية 41 إن شاء اللّه تعالى، ففي تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «نزلت يوم بدر لمّا انهزم الناس، وكان أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على ثلاث فِرق: فصنف كانوا عند خيمة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وصنف أغاروا على النهب، وفرقة

ص: 8

طلبت العدو وأسروا وغنموا - إلى أن قال - فاختلفوا في ما بينهم حتّى سألوارسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: لمن هذه الغنائم؟ فأنزل اللّه {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} - إلى أن قال - فلم يخمّس رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببدر، قسمه بين أصحابه، ثمّ استقبل يأخذ الخمس بعد بدر»((1)).

معنى الأنفال وشأن نزولها

الثاني: قوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}.

{الْأَنفَالِ} جمع (نفل)، وهي في الأصل بمعنى الزيادة، ومنه نوافل الصلاة لأنّها زيادة على الفرائض، وكأنّها زائدة على أموالهم حيث إنّها لا مالك لها، أو لأنّها زيادة في حصّة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن سائر الناس.

وشأن النزول وإن كان الغنائم الحربيّة إلاّ أنّ الآية عامّة لكل ما لا مالك له، فتشمل:

1- الغنائم الحربيّة التي هي شأن النزول، لكن بعد ذلك وهب اللّه أربعة أخماسه للمقاتلين، وبقي خُمسه للّه وللرسول وسائر أربابه.

2- الفيء وهو ما صالح الكفّار به سواء كان أراضي أم أموال أخرى ولم يقاتل عليها المسلمون، ويعبّر عن ذلك عادة بالفيء، وكذا قطائع الملوك.

3- الثروات وبعض الأماكن الهامّة أو العامّة التي لا مالك لها، وقد ذكرتها الروايات، ومنها: المعادن، والآجام، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، والأراضي الموات، والأراضي التي انجلى عنها أهلها، وإرث من لا وارث له وغير ذلك((2)).

ص: 9


1- ([1]) تفسير القمي 1: 254؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 267.
2- ([2]) راجع وسائل الشيعة 9: 523-537.

والأنفال للّه وقد ملّكها رسوله محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومن بعده هي للأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ، والمشهور أنّها أبيحت في زمان الغيبة للمؤمنين أو لمطلق من حازها سواء كان مؤمناً أو غير مؤمن((1)).

وممّا ذكرنا يعلم أنّ هذه الآية نزلت قبل آية الخمس، وليست آية الخمس ناسخة لها؛ لعدم المنافاة بين الأمرين، بل هو من التخصيص حيث منح اللّه أربعة أخماس خصوص الغنيمة الحربيّة للمقاتلين، وبقي الخمس وسائر الأنفال في عموم هذه الآية، وأمّا قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلًا طَيِّبًا}((2))، فهو في الفداء المأخوذ من أسرى المشركين لا الغنائم الحربيّة كما سيأتي بيانه.

الثالث: قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

أي وحيث علمتم أنّ الأنفال للّه وللرسول وأنّه لا حق لكم فيها فعليكم مراعاة الشرع عبر الأمور التالية لتكونوا مؤمنين حقّاً:

1- قوله: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي احفظوا أنفسكم من عقابه وذلك بأن لا تطلبوا ما ليس لكم، ولا تجعلوا الأنفال في سبيل آخر من غير إذن اللّه ورسوله.

2- وقوله: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ} بأن لا تتنازعوا في الأنفال ولا في غيرها، فإن الكثير من الخلافات بين الناس ترجع إلى الأمور الماليّة والتي سببها غالباً إمّا منع من له الحق أو طلب ما ليس بحق في الأموال، و{ذَاتَ

ص: 10


1- ([1]) للتفصيل راجع موسوعة الفقه 33: 466.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 69.

بَيْنِكُمْ} أصل (البين) الافتراق، ولذا يطلق على الوسط بين الشيئين، و(ذات)مؤنّث (ذو) بمعنى الصاحبة، ويراد بها هنا الحالة، فالمعنى الحالة التي هي وسطكم لا تفسدوها بالتنازع، بل أصلحوها بالوئام والوفاق، وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس.

3- وقوله: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في التشريعات والأوامر التنفيذيّة وغيرها.

فالأوّل في عدم طلبهم ما ليس لهم، والثاني في تعاملهم بعضهم مع بعض، والثالث في نسبتهم مع اللّه ورسوله.

وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بيان أنّ المؤمن هو من يمتلك هذه الصفات، وفي ذلك حثّهم على الرضوخ لحكم اللّه والرضا به.

ثمّ إنّ للإيمان معان متعدّدة، فقد يكون مقابل الكفر، وقد يكون مقابل النفاق، وقد يكون مقابل الفسق، والمراد هنا الإيمان مقابل الفسق أو النفاق لأنّ المخاطب به المسلمون، فمن لم يتّق ولم يصلح ولم يطع فهو فاسق أو منافق.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ}.

صفات المؤمنين

بيان صفات المؤمنين كاملي الإيمان حثّاً لهم على إيجاد هذه الصفات في أنفسهم، وهي خمس صفات، ثلاث منها قلبيّة واثنتان عمليّة:

1- قوله: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الوجل) هو عدم الطمأنينة في القلب، قيل: وجل الرجل يوجل وجلاً إذا قلق ولم يطمئن((1)).

ص: 11


1- ([1]) راجع معجم الفروق اللغويّة: 227.

فالمعنى إذا ذكر اللّه لم تطمئن قلوبهم إلى ما قدموه من الطاعة وظنّواأنّهم مقصّرون فاضطربوا من ذلك وقلقوا.

سؤال: إنّ ذكر اللّه يوجب الطمأنينة كما قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}((1)

والجواب: إنّ هناك حالتين: فحالة هي ذكر عذابه وبطشه بالعصاة فهنا توجل قلوب المؤمنين، وحالة أخرى هي ذكر رحمته وثوابه فهنا تطمئن القلوب، قال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ}((2))، فتقشعر خوفاً ثمّ تلين لتذكر رحمته ولطفه.

في التقريب: «أي اضطربت وخافت من عظمته، وإن لم يكن خوفاً من ذنب، فإنّ الإنسان إذا علم أن سيحضر محضراً كبيراً وعظيماً ارتجف قلبه خوفاً من الفشل»((3)).

2- وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا} لأنّ كل آية لها إيمان خاص بها فكلّما نزلت آية آمن بها المؤمنون فازداوا إيماناً، وكذا كلّما سمعوا آية قد سمعوها من قبل نفذت في قلوبهم أكثر لأنّ الإيمان ملكة باطنيّة تترسخ وتزداد بالتكرار.

3- وقوله: {وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يعتمدون عليه في أمورهم، ويظهرون العجز عنده، ولذا قيل: «التوكّل: إظهار العجز في الأمر والاعتماد

ص: 12


1- ([1]) سورة الرعد، الآية: 28.
2- ([2]) سورة الزمر، الآية: 23.
3- ([3]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 297.

على غيرك»((1))، وقد مرّ أنّ التوكّل هو أن يعمل الإنسان بما عليه ويعتمد على اللّه في ما لا يقدر ولا يعلم، وأمّا لو لم يؤدّ ما عليه وتكاسل فهو من التواكل لا التوكّل.

4- وقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ} في المفردات: «إقامة الشيء: توفية حقّه... ولم يأمر اللّه تعالى بالصلاة حيثما أمر ولا مدح بها حيثما مدح إلاّ بلفظ الإقامة تنبيهاً على أنّ المقصود منها توفية شرائطها لا الإتيان بهيئتها»((2))، بل الإقامة تشمل الحث عليها والإعلان عنها، وهذه أهم العبادات ومثال لسائرها وهي بين العبد وربّه.

5- وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ} هذا بين الإنسان وسائر الناس، ويشمل الإنفاق الواجب كالخمس والزكاة، والإنفاق المستحب كالصدقة والصلة.

الخامس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.

أي هؤلاء هم الذين يحق إطلاق لفظ المؤمن عليهم لأنّ إيمانهم حقيقي تجذّر في قلوبهم وتحكّم في جوارحهم، وأمّا غيرهم فإطلاق المؤمن عليهم لبعض الاعتبارات الأخرى كعدم كونه كافراً أو عدم كونه منافقاً حتّى لو لم يكن كامل الإيمان، ترغيباً لهم لكي يستكملوا إيمانهم أو تسهيلاً لسائر المؤمنين.

ص: 13


1- ([1]) راجع مقاييس اللغة: 1063.
2- ([2]) المفردات للراغب: 692-693.

وقوله: {حَقًّا} إمّا وصف لمقدّر أي إيماناً حقّاً، أو مفعول مطلق لفعلمقدر أي أحق حقّاً.

نتيجة الإيمان

ونتيجة إيمان هؤلاء أمور ثلاثة:

1- قوله: {لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أي درجات القرب والمنزلة عند اللّه تعالى، وقيل: درجات في الجنّة، ولكنّه يستلزم التكرار في قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.

2- وقوله: {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم، بل ولما لا يقدرون عليه وهذا ليس بذنب إلاّ أنّه قد يمنع من نيل الدرجات العالية لكن اللّه تعالى يغفر ذلك فلا يكون مانعاً.

3- وقوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (كريم) إمّا وصف للرزق أي عالي الشأن، وإمّا وصف باعتبار المرزوق أي رزق كريم صاحبه، فيكون مرجعه إلى تعظيم صاحبه فهو رزق بكرامة وعدم إهانة، ومرجع الأوّل إلى هذا أيضاً لأنّ الرزق العالي لا يناله إلاّ العالي.

ص: 14

الآيات 5-8

اشارة

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ 5 يُجَٰدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ 6 وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ 7 لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ 8}

5- جعل اللّه الأنفال للّه وللرسول وإن كرهوا {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} أمر بخروجك فخرجت {مِن بَيْتِكَ} المدينة المنورة {بِالْحَقِّ} بالحكمة وحسن العاقبة {وَإِنَّ فَرِيقًا} جماعة {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} للخروج، فكما كرهوا أمر اللّه في الخروج كذلك كرهوا جعل الأنفال للّه وللرسول.

6- {يُجَٰدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} وهو ما أمرتهم به من حرب المشركين جادلوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليثنوه عنه {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} ذلك الحق حيث أمر اللّه تعالى به وأخبر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنصر، وكان سبب جدالهم خوفهم {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي ينظرون إلى أسبابه وأدواته فالخوف يكون أشد، وكان جدالهم في أنّهم لم يتهيؤوا للقتال مع قلّة عددهم وعُدّتهم.

7- ثمّ يذكر اللّه نعمه عليهم، فأوّل نعمة هي ما وعده اللّه إيّاهم، فقال: {وَإِذْ} أي اذكروا الوقت الذي {يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} إمّا قافلة

ص: 15

قريش التجارية المقبلة من الشام ليغنموها، وإمّا النفير إلى حرب المشركينفي بدر لينتصروا عليهم، {أَنَّهَا لَكُمْ} أي لصالحكم {وَتَوَدُّونَ} أي تظهرون حبّكم ورغبتكم في {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} أي الطائفة التي ليس فيها بأس وشدّة وهي غنيمة القافلة {تَكُونُ لَكُمْ وَ} لكن اللّه قدّر القتال خلافاً لرغبتكم؛ إذ {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ} يثبت {الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ} أي بأمره إيّاكم بالقتال {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ} يستأصلهم، و«الدابر» أثر الشيء وما يأتي بعده.

8- وإنّما أراد اللّه ذلك {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} أي يثبته واللام للعاقبة {وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ} يدمغه ويظهر بطلانه {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} كرهوا إحقاق الحق.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ}.

بيان أنّ اللّه تعالى لا يحكم إلاّ بحكمة، وقد كان البعض كارهاً لخروج الرسول من المدينة لاغتنام قافلة قريش لأنّهم كانوا يعلمون أنّ قريشاً لا تسكت على ذلك، ولكن اللّه أمر رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخروج وإن كره هؤلاء ثمّ علموا عظيم فائدة ذلك الخروج حيث نصر اللّه المسلمين ببدر وأخزى المشركين، وهكذا حينما خص اللّه الأنفال باللّه والرسول كره بعضهم ذلك، لكن كان في هذا الحكم حكمة لأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قسّم الغنائم بين جميع من خرج إلى الجهاد بالسويّة وكان في ذلك مصلحتهم جميعاً.

والحاصل: إن الآية تبيّن أنّ أحكام اللّه تعالى فيها الحكمة حتّى لو كانت

ص: 16

خلاف رغبات الناس وشهواتهم.

وقوله: {كَمَا} يتعلّق بالمعنى المستفاد من قوله: {الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}.

وقوله: {أَخْرَجَكَ} أي أمرك بالخروج فخرجت، فحيث كان الأمر من اللّه تعالى نسب الإخراج إليه تعالى، وذلك لمصلحتك ومصلحة الدين ولذا قال: {رَبُّكَ} فالرب هو المصلح للأمر والمدبّر للشأن.

وقوله: {مِن بَيْتِكَ} أي محل إقامتك، أي المدينة المنوّرة، أو بيتك في المدينة.

وقوله: {بِالْحَقِّ} أي متلبّساً به، و(الحق) هو الواقع الثابت، فكل فعل صوابٍ فيه الحكمة هو حق.

وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا} حال أي والحال أنّ مجموعة من المؤمنين كانوا كارهين لذلك الإخراج خوفاً وطلباً للدعة والراحة.

الثاني: قوله تعالى: {يُجَٰدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا...} الآية.

لمّا خرج المسلمون علم أبو سفيان - قائد قافلة المشركين التجاريّة - بذلك فكتب إلى قريش يستنصرهم، فخرجوا مجهّزين بالرجال والسلاح، وغيّر هو مسير القافلة فأفلت من المسلمين، فأمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمسير إلى بدر للقاء المشركين، فحينئذٍ جاء الكارهون للخروج يجادلون رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليُثنوه عن المسير إلى بدر ويرغّبوه في الرجوع إلى المدينة، مع أنّهم كانوا قد علموا أنّ اللّه تعالى أخبر رسوله بإحدى الطائفتين إمّا غنيمة العير وإمّا النفير وحيث أفلت العير لم يبق إلاّ النفير، مضافاً إلى أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمرهم بالمسير وهو الذي لا ينطق عن الهوى فكان لا بدّ لهم

ص: 17

من إطاعته في الحق الذي أمر به.

وقوله: {يُجَٰدِلُونَكَ} قيل: كان من جدلهم أنّهم لم يتهيّأوا للقتال فقالوا: هلّا أخبرتنا لنعد عُدّتنا للحرب، مع أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان قد أخبرهم بأحد الأمرين - العير أو النفير - وهم يعلمون أنّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يأمرهم إلاّ بأمر اللّه تعالى.

وقوله: {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ}، تقبيح لجدالهم؛ لأنّ الإنسان قد يجادل وهو لا يعلم الحق، وقد يجادل بعد تبيّن الحق وهذا جدال بالباطل، وتبيّن الحق كان بإخبار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن اللّه تعالى.

وقوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ...} بيان سبب جدالهم بأنّه لم يكن لطلب الحق أو الجهل به وإنّما لشدّة الجبن والخوف والجزع الذي اعتراهم كالذي يؤتى به إلى مكان الإعدام وهو يشاهد وسائله وأسبابه.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ...} الآية.

تذكيرهم بما وعدهم اللّه حين الخروج فلا وجه لجدالهم. نعم، هم كانوا يحبّون الاستيلاء على القافلة حيث الغنيمة من غير قتال طلباً للدنيا، ولكن اللّه تعالى أراد القتال والنفير بحكمته لإثبات الحق واستئصال الكافرين.

وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} أي اذكروا الوقت الذي وعدكم اللّه وعداً حسناً وذلك لمّا أوحى إلى رسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبركم بالوحي.

وقوله: {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} الطائفة تطلق على جماعة من الناس ثمّ توسّعوا فيها فأطلقوها على القطعة من الشيء يقال: طائفة من الليل أي قطعة منه، وفي الآية أريد بالطائفة إمّا الناس أي الذين كانوا مع القافلة بأسرهم

ص: 18

واغتنام ما معهم أو الذين جاؤوا للحرب من المشركين بقتلهم وغنيمة أشيائهم، وإمّا الفعل أي الغنيمة أو القتال.

وقوله: {أَنَّهَا لَكُمْ} أي لصالحكم فإن غنمتم القافلة فهو تعويض لكم عن مصادرة المشركين لأموال وبيوت المهاجرين، وإن قاتلتموهم فالنصر عليهم واستئصال مجموعة من أئمّة الكفر.

وقوله: {غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} مشتق من الشوك ثمّ استعير للسلاح وشدّة البأس والحِدّة، فلم يكن مع العير إلاّ أربعون فارساً لا طاقة لهم بالمسلمين وكان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر مجاهداً، وأمّا مع النفير فكان حدود الألف من المشركين بكامل عُدّتهم فكانوا أكثر من المسلمين بثلاثة أضعاف وأشد بأساً وسلاحاً.

وقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ} أي خلاف ما رغبتم فيه لأنّكم كنتم تريدون الدنيا، لكن اللّه تعالى كان يريد إظهار الحق على الباطل فلذا قدّر الحرب بأن هيَّأ أسبابه.

وقوله: {يُحِقَّ الْحَقَّ} قد مرّ أنّ العرب قد تصيغ الفعل من الفاعل أو المفعول، ومنه إحقاق الحق أي إثباته وإظهاره وإعلاؤه، وكانت غزوة بدر من الوقائع المفصليّة في تاريخ الإسلام حيث أسست لانتصار المسلمين وهزيمة المشركين إلى الأبد.

وقوله: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ} مرّ أنّ الدابر هو ما يأتي بعد الشيء، وقطع الدابر بمعنى استئصال الشيء بحيث لا يبقى له أثر من بعده.

الرابع: قوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.

ص: 19

هذا ليس تكراراً لما في الآية السابقة وإن كان مثله؛ وذلك لأنّ المقصود بيان تحقق ما أراده اللّه تعالى، فكأنّه قال: إنّ اللّه قدّر إحقاق الحق وقطع دابرالكافرين فكانت العاقبة هي تحقق ذلك حيث أحق الحق وأبطل الباطل.

وبعبارة أخرى: الغرض في الآية السابقة بيان تقابل إرادتهم مع إرادة اللّه تعالى فهم كانوا يريدون العير لكن اللّه تعالى قدّر إحقاق الحق واستئصال الكفّار، وأمّا في هذه الآية فالغرض هو بيان تحقق ما أراده اللّه، وقيل: «ليس بتكرير؛ لأن الأوّل لبيان مراد اللّه وتفاوت ما بينه وبين مرادهم، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول على اختيار ذات الشوكة ونصره عليها»((1))، وقيل: الأوّل مطلق لبيان القاعدة العامّة إنّ اللّه يريد تحقيق الحق وإزهاق الكفر، والثاني بيان انطباق القاعدة على إرادته ذات الشوكة حيث إنّ فيها إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولذا يدخل في الأوّل كل حق وباطل ومن أجلى مصاديقهما الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وأعداؤهم.

وقوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} اللام للعاقبة، والظاهر أنّها متعلّقة بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ} أي يريد اللّه أن يحق الحق ليحق الحق، وقيل: متعلّقة بقوله: {يَعِدُكُمُ} أي إنّما وعدكم إحدى الطائفتين لأنّه يريد إحقاق الحق! وهو بعيد عن سياق الآية.

وقوله: {وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ} أي يظهر بطلانه، أو ليدمغه ويزهقه.

وقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} بيان أنّ اللّه غالب على أمره، وأنّ المجرمين أضعف من ذلك حتّى وإن كانوا في الظاهر أقوياء ذوو عدد وعُدّة،

ص: 20


1- ([1]) تفسير الصافي 3: 298.

وإجرامهم هو بالكفر والعصيان.

سبب غزوة بدر

الخامس: وكان قصّة بدر أنّه لمّا هاجر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه إلىالمدينة والحبشة عمد المشركون إلى الاستيلاء على بيوتهم ونهب أموالهم مع تشديد إيذاء من بقي منهم في مكّة.

ثمّ بعد ذلك خرجت قافلة تجاريّة من المشركين إلى الشام ولمّا رجعت محمّلة بالبضائع والأموال أمر اللّه تعالى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخروج إليها ليأخذوها عوضاً عن أموالهم المنهوبة أو يقاتلوا المشركين، فخرج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ثلاثمائة وثلاثة عشر من المسلمين فلمّا قربوا منها علم بهم أبو سفيان - وكان قائد القافلة - فأرسل رسولاً إلى مكّة يستنصرهم فخرجت قريش في ألف مقاتل للذود عن القافلة.

ثمّ إنّ أبا سفيان حرّف مسير القافلة إلى ساحل البحر فأفلت من المسلمين، ولمّا بلغ خبر ذلك إلى المشركين اختلفوا في الرجوع أو المسير لقتال المسلمين، فكان الرأي الغالب هو القتال.

ثمّ إنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استشار أصحابه في الرجوع أو القتال، وكان يريد أن تبادر الأنصار إلى قبول القتال من غير أن يكرههم عليه، ففطن سعد بن معاذ - كبير الأنصار - إلى ذلك وقال: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه كأنّك أردتنا؟ قال: نعم، قال: فلعلّك خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟ قال: نعم، قال: بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه، قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به حق من عند اللّه، فمُر بنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت، ثمّ قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كأنّي بمصرع فلان هاهنا وبمصرع فلان هاهنا وبمصرع

ص: 21

أبي جهل وعتبة وشيبة، فإنّ اللّه وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه الميعاد»، ثمّ أمر بالرحيل إلى أن نزل ماء بدر((1))، وسيأتي باقي تفاصيل غزوة بدر تباعاً.

ص: 22


1- ([1]) للتفصيل راجع تفسير القمي 1: 259؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 272-276.

الآيات 9-11

اشارة

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ 9 وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 10 إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ 11}

9- ثمّ يذكر اللّه تعالى نعمة ثانية، فقال: واذكروا {إِذْ} الوقت الذي {تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تطلبون غوثه وتستجيرون به لمّا رأيتم كثرة المشركين عدداً وعُدّة {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} بأن وعدكم {أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ} يكونون رديفاً لكم، بمعنى أنّهم يأتون لنصركم.

10- {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} لم يجعل الإمداد أو إخباركم به {إِلَّا بُشْرَىٰ} بالنصر {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ} بهذا الإمداد أو خبره {قُلُوبُكُمْ} حيث كانوا خائفين وجلين لقلّة عددهم وعُدّتهم، {وَمَا} ليس {النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ} لا من العدد ولا من الملائكة فهو تعالى ينصر من غير واسطة أو بواسطة، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب بسلطانه ولذا أمدّكم ونصركم {حَكِيمٌ} بحكمته أرسل الملائكة مع أنّ النصر منه لا منهم.

11- ثمّ يذكر اللّه نعمة أخرى فقال: اذكروا {إِذْ} الوقت الذي {يُغَشِّيكُمُ} يستولي عليكم {النُّعَاسَ أَمَنَةً} أي لأجل أمنكم فالخائف

ص: 23

المرعوب يبتعد النوم عن جفونه والآمن ينام لاطمئنان باله {مِّنْهُ} من اللّه،{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً} المطر وكان ذلك حينما أجنبوا وكانوا بعيدين عن الماء وكانت الأرض التي نزلوا عليها رمليّة رخوة، فوسوس الشيطان إليهم بأنّكم إن كنتم على حق ما صليّتم على جنابة ونجاسة وما كان محلّكم رخواً لا تتمكّنون من القتال فيه فأنزل اللّه المطر {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} من خبث وحدث الجنابة {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَٰنِ} وسوسته، {وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ} بإزالة الخوف وذلك بالوثوق بلطف اللّه تعالى، {وَيُثَبِّتَ بِهِ} بالماء {الْأَقْدَامَ} إذ تلبّد الرمل وصلبت الأرض.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ}.

بيان نعمة ثانية لهم لأنّه تعالى بعد أن بيّن أنّ اللّه حكم بأنّ الأنفال للّه وللرسول وأنّه قد أخرج رسوله إلى الحرب مع كراهتهم للأمرين بعد ذلك بيّن مجموعة من نعمه عليهم ليشكروه عليها وليسلّموا لحكمه ولا يكرهوه، فكان منها: ما مرّ من وعده إحدى الطائفتين لهم، ومنها: ما هو مذكور في هذه الآية وهو وعده بأن يرسل الملائكة لنصرهم حينما استجاب لدعائهم واستغاثتهم.

وقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الاستغاثة هي طلب الغوث، وذلك لمّا علموا بزيادة عدد المشركين ثلاثة أضعاف حيث كان المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان المشركون حوالي الألف، وبكثرة عُدّتهم فكان مع

ص: 24

المسلمين فرسان وسبعون جملاً، وكان في معسكر المشركين مأتان أو أربعمائةفرس((1))، فضلاً عن كثره سلاح المشركين وقلّة سلاح المسلمين، فاستغاثوا باللّه لينصرهم، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال: اللّهم أنجز لي ما وعدّتني، اللّهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف ربّه مادّاً يديه حتّى سقط رداؤه من منكبيه»((2)).

وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الاستجابة من الجواب أي لم يترككم بلا جواب، وعادة تستعمل الاستجابة في قضاء الحاجة، وكان ذلك بأن أغاثهم اللّه لمّا أرسل إليهم الملائكة لنصرتهم.

وقوله: {مُمِدُّكُم} (الإمداد) الرفد بشيء يكون فيه المعونة والتقوية.

عدد الملائكة في غزوة بدر

وقوله: {بِأَلْفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ} هذا في غزوة بدر، وأمّا قوله تعالى في سورة آل عمران: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ}((3))، فيرتبط بغزوة أ ُحد، فيكون اللّه قد أرسل في بدر ألف من الملائكة وفي أ ُحد وعدهم بثلاثة إلى خمسة آلاف، ولكن حيث إنّ بعض المفسّرين حملوا الآيتين على غزوة بدر فلذا صاروا بصدد الجمع، فقال بعضهم: إنّ الذين نزلوا كان ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف والذين قاتلوا مع المسلمين ألف منهم فقط،

ص: 25


1- ([1])تفسير القمي 1: 267؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 279.
2- ([2]) مجمع البيان 4: 621؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 289.
3- ([3]) سورة آل عمران، الآية: 124-125.

وبعضهم قال: إنّ قوله: {مُرْدِفِينَ} يدل على أنّه كان هنالك مجموعة من الملائكة آخرينيتبعون هؤلاء الألف حيث نزلوا في ثلاث أو خمس مجموعات فأوّل مجموعة كانت ألف ثمّ تبعتها ردفاً لها آلاف أخرى، وقيل: إنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعدهم في البداية بألف من الملائكة ثمّ وعدهم بثلاثة آلاف ثمّ وعدهم بخمسة آلاف؛ وذلك لأنّ في التدريج ربطاً للقلوب أكثر، وما ذكرناه هو الأقرب، فراجع ما ذكرناه في سورة آل عمران((1)).

وقوله: {مُرْدِفِينَ} الرديف هو التابع الذي يجلس خلف الراكب، والإرداف هو الإتباع، فالمردفين - بصيغة اسم الفاعل - بمعنى ردف بعضهم بعضاً، أو بمعنى جعلوكم ردفاً لهم كناية عن أنّهم ينصرونكم فكأنّهم في مواجهة المشركين وأنتم خلفهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ...} الآية.

يظهر من هذه الآية أنّ الملائكة لم يقاتلوا وإنّما كان الغرض من إنزالهم هو تقوية معنويات المسلمين فقط؛ لأنّ الأضعف ذا المعنويّات العالية يغلب الأقوى المهزوم نفسيّاً، فكان الغرض أمرين:

1- قوله: {بُشْرَىٰ} أي بشارة بالنصر؛ لأنّ الإنسان يفرح بكثرة الأعوان وإن علم أنّهم للسواد والكثرة فقط.

2- وقوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} ليرتفع خوفها وقلقها.

وقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ} بيان أنّ الواقع هو من اللّه، ووجود

ص: 26


1- ([1]) التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 374.

الوسائط أو عدمها لا تأثير له في تنجيز ما أراده تعالى، وهذا لا ينافي لزومالأخذ بالأسباب الظاهريّة كما قال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ}((1)).

سبب إرسال الملائكة

وقد مرّ مراراً أنّ الأسباب المادّيّة هي أسباب في الظاهر لكن السبب الواقعي هو قضاء اللّه وقدره وإرادته، لكنّه سبحانه غالباً لا يريد إلاّ لو تهيّأت الأسباب الظاهريّة، وهذا هو الفرق بين التوكّل والتواكل، فالتوكّل هو أن يعمل الإنسان بوظيفته عبر الأسباب الظاهريّة التي جعلها اللّه تعالى ثمّ يعتمد على اللّه في إنجاح ما أراد حيث إنّه قد تكون موانع أو لا تتوفر شروط أو يوجد مزاحم يمنع من تأثير السبب الظاهري من غير علم الإنسان أو من غير قدرته، وأمّا التواكل فهو التكاسل عن أداء الوظيفة، وعلى كل حال فإنّ النصر - وهو النتيجة - لا يكون إلاّ من اللّه، وأمّا الوسائط الظاهريّة فهي لأغراض أخرى، وهنا كان إنزال الملائكة بغرض البشارة والاطمئنان، واللّه قادر على أن يفعل ما يشاء بلا واسطة كما أهلك قوم لوط بجبرئيل (عليه السلام) ومن معه من الملائكة ولم يكونوا يبلغوا العشرة.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} بيان أنّ اللّه غالب على أمره لا يحتاج إلى شيء فإن قدّر وسائط فذلك بحكمته، بل حتّى الإنسان الحكيم أحياناً يجعل وسائط في أموره مع تمكّنه من أدائها فيأمر ولده أو خادمه بشراء حاجات من السوق مع تمكّنه هو من شرائها، ونحو ذلك.

الثالث: قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم...} الآية.

بيان لمجموعة أخرى من نعمه تعالى عليهم وحيث إنّ جميعها ترتبط

ص: 27


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 60.

بأمنهم - مادّيّاً ومعنويّاً - جمعها في كلام واحد، حيث آمنهم من الخوف فناموا وأجنبوا، وآمنهم من وسوسة الشيطان، وآمنهم من مزالق الأقدام، وتلك النعم هي:

من نِعم اللّه يوم بدر

1- قوله: {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} أي يستولي عليكم النوم، فالخائف ينعس لكنّه لا ينام لقلقه وخوفه، وأمّا الآمن فيغلبه النعاس فينام، فقوله: {يُغَشِّيكُمُ} أي يستولي عليكم وذلك بأن يتحوّل النعاس إلى نوم، وبهذا التعبير يتبيّن نعمته وأمّا لو كان يقال: (إذ تنامون) فلم يكن له هذا المدلول.

وقوله: {أَمَنَةً} بمعنى الأمن، قيل: هي الدعة التي تنافي المخافة((1))، ولذلك أجنب الكثير منهم، والقلق لا ينام وإذا نام لا يحتلم - على ما قيل - .

2- وقوله: {لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} أي بالماء، طهارة من الخبث لنجاسة المني، ومن حدث الجنابة حيث غسلوا واغتسلوا.

3- وقوله: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَٰنِ} كأنّ المراد بالرجز هنا وسوسته، وقيل: الرجس والرجز بمعنى واحد وهو من باب الإبدال لأنّ الأصل السين((2))، وقيل: الغالب التعبير عن العذاب وأسبابه بالرجز، وعن القذارات المادّيّة والمعنويّة بالرجس، وحيث إنّ وسوسة الشيطان توجب العذاب إن استجاب الإنسان لها لذلك عبّر عنها بالرجز، وفي تفسير الصافي: «روي أنّهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، وقد غلب المشركون على الماء، فوسوس إليهم الشيطان

ص: 28


1- ([1]) مجمع البيان 4: 623.
2- ([2]) راجع مقاييس اللغة: 422.

وقال: كيف تُنصرون وقد غُلبتم على الماء وأنتم تصلّون محدثين مُجنبين وتزعمونأنّكم أولياء اللّه وفيكم رسوله؟! فأشفقوا، فأنزل اللّه المطر، فمُطروا ليلاً حتّى جرى الوادي، واتخذوا الحياض على عدوته، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضّؤوا، وتلبّد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتّى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة»((1)).

4- وقوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ} ربط القلب هو شدّه وإزالة المخاوف عنه، وكأنّ المقصود أنّهم لمّا رأوا لطف اللّه بهم في تطهيرهم بالماء وإروائهم به وثقوا بأن اللّه تعالى ناصرهم فقويت قلوبهم.

5- وقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} أي لتتلبّد أرضيّة المعركة حتى لا تسوخ أرجلهم فيها، وقيل: إنّ جانب المسلمين تلبّد وجانب المشركين أوحل((2))، ولعلّه لأنّ طرف المسلمين كان رملاً وطرف الكفّار كان تراباً.

ص: 29


1- ([1]) تفسير الصافي 3: 300-301.
2- ([2]) مجمع البيان 4: 623.

الآيات 12-14

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٖ 12 ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 13 ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ 14}

12- ثمّ يذكر اللّه نعمة رابعة هي تثبيت المؤمنين وخذلان الكافرين، فقال: اذكروا {إِذْ} الوقت الذي {يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} معيّة بالنصرة والمعونة، فعلى الملائكة تثبيت المؤمنين وعلى اللّه إرعاب الكافرين، {فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} بتقوية قلوبهم وذلك بإلقاء لمّة تقوّي قلوبهم، أو بتكثير سوادهم الموجب للاطمئنان، {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} وهو الخوف يملأ القلب فيقطعه، فكان تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين مباشرة ومن غير واسطة، وحيث انهارت معنويّات الكفّار وارتفعت معنويّات المؤمنين أمرهم اللّه تعالى باستئصال شأفة الكفّار فقال: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} الرؤوس وهي الضربة القاتلة {وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٖ} وهو أطراف الأصابع وهي الضربة التي تشلّهم عن القتال، وكأنّ المعنى اقتلوا بعضهم وشلّوا عن القتال الآخرين.

13- {ذَٰلِكَ} الضرب فوق الأعناق وكل بنان {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنّ الكفّار {شَاقُّواْ} عصوا وخالفوا {اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ

ص: 30

شَدِيدُ الْعِقَابِ} في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن المشاقة جرم عظيم يساويه العقاب الشديد.

14- {ذَٰلِكُمْ} خطاب للمشركين بالالتفات إليهم، أي إنّ العقاب ذلك الذي رأيتموه من القتل والأسر {فَذُوقُوهُ} في الدنيا «والفاء» لإفادة ترتّبه على الكفر، {وَأَنَّ لِلْكَٰفِرِينَ} في الآخرة {عَذَابَ النَّارِ}.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ...} الآية.

بيان لنعمة رابعة لهم وهي تثبيت قلوب المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وبعبارة أخرى: زيادة معنويّات المؤمنين وانهيار معنويّات الكفّار، فإنّ عدد الكفّار كان ثلاثة أضعاف وعُدّتهم أضعاف مضاعفة، وقضيّتهم هي الدفاع عن أموالهم فكان حسب الظواهر غلبة الكفّار محسوماً إلاّ أنّ المعنويّات أثّرت أثرها فصارت سبباً لهزيمة الكفّار، فأمّا معنويّات المؤمنين فارتفعت بإعانة الملائكة لهم، وأمّا معنويّات الكفّار فانهارت بإلقاء اللّه تعالى الرعب في قلوبهم.

وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَٰئِكَةِ} من الواضح أنّ الملائكة معصومون وهم ينفّذون أوامر اللّه تعالى بالكيفيّة التي يريدها، قال سبحانه: {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}((1))، وطريقة معرفتهم ما يريده اللّه تعالى وحيه إليهم، وبيان ذلك للمؤمنين ربط لقلوبهم وتقوية لهم، ولعلّه أيضاً لإبطال

ص: 31


1- ([1]) سورة التحريم، الآية: 6.

خرافات الجاهليين حول الملائكة والتي علقت في أذهان من أسلم منهم.

وقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} الظاهر أنّ هذا كالمقدّمة لأمره تعالى إيّاهم تثبيت المؤمنين، والمخاطب هم الملائكة ولعلّ ذلك لبيان قوّة الملائكة لأنّ اللّه معهم، ويحتمل أن يكون المخاطب الرسول والمؤمنين على سبيل الالتفات بأن يكون اللّه أوحى إلى الملائكة أنّه تعالى معهم وهذا يناسب قوله: {يُوحِي رَبُّكَ} ولذا أمر ملائكته بثبيت قلوبهم، والمعيّة هنا بالنصرة والمعونة.

وقوله: {فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لأنّ في القلب لُمّتان: لمّة من الشيطان وهي وساوسه وقد أبطلها اللّه تعالى بإنزال المطر، ولُمّة من الملائكة وهي دعوتهم الإنسان إلى الخير، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «ما من قلب إلاّ وله أذنان، على أحدهما ملك مرشد، وعلى الآخر شيطان مفتِّن، هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي، والملك يزجره عنها»((1))، ويمكن أن يكون التثبيت بزيادة السواد أو بكلام يسمعونه فيه البشارة بالنصر أو غير ذلك.

وقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} كأنّه بمعنى: أيّها الملائكة أنتم وظيفتكم تثبيت المؤمنين، وأمّا الكفّار فأنا أتولّى أمرهم عبر إلقاء الرعب في قلوبهم إمّا بطريقة غيبيّة، أو بطريقة طبيعيّة؛ لأنّهم كانوا في قرارة أنفسهم يعلمون صدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنّ اللّه ناصره، أو لمّا رأوا شدّة عزيمة المؤمنين وصمودهم انخلعت قلوبهم، و(الرعب) هو انزعاج النفس بتوقّع مكروه، وأصله التقطيع((2))، وهو من أشد أنواع الخوف، وفي الحديث

ص: 32


1- ([1]) الكافي 2: 266؛ وراجع شرح أصول الكافي، للمؤلّف 10: 314-318.
2- ([1]) راجع مجمع البيان 4: 619.

عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ونصرت بالرعب»((1))، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «ما لقيت أحداً إلاّ أعانني على نفسه»((2)).

وقوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} الظاهر أنّ المخاطب هم المؤمنون، كناية عن القتل؛ لأنّ الرأس فوق العنق، وقيل: هو المذبح، أي مادام علمتم أيّها المؤمنون أنّ الملائكة يثبتونكم بأمر اللّه وأنّ اللّه ألقى الرعب في قلوب المشركين فتولّوا أمرهم بالقتل وغيره.

وقوله: {وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٖ} كناية عن شل حركتهم أو أسرهم، و(البنان) هو أطراف الأصابع، ومن ضربت بنانه لا يتمكّن من القتال ويكون مصيره الهزيمة أو الأسر.

الثاني: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ...} الآية.

أي إلقاء الرعب عليهم وأمركم بقتلهم وأسرهم إنّما هو عقوبة لهم على عصيانهم اللّه والرسول، ولولا عصيانهم لمّا أرعبهم اللّه ولا شرّع قتلهم وأسرهم.

وقوله: {شَاقُّواْ} أي عصوا وخالفوا، فكأنّ اللّه ورسوله في طرف والكفّار في شق آخر، وأصل (الشق) الانفصال.

وقوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} عام يشمل عذاب الدنيا والآخرة، ثمّ فصّل فيذلك العذاب في الآية التالية.

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}.

ص: 33


1- ([2]) من لا يحضره الفقيه 1: 241.
2- ([3]) نهج البلاغة، الحكمة: 318.

{ذَٰلِكُمْ} خطاب للكفّار وبيان عذابه الشديد، أمّا في الدنيا فهو ما رأوه من القتل والأسر، أي (ذلكم العقاب) أو (العقاب ذلكم).

وقوله: {فَذُوقُوهُ} قيل: الفاء هنا للترتيب على الكفر أي كفرتم فأذقناكم العقاب، وقيل: التعبير بالذوق لإفادة قلّة عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كذوق الطعام بتناول اليسير منه بالفم لإدراك طعمه.

وقوله: {وَأَنَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} إمّا مرفوع على أنّه عطف على {ذَٰلِكُمْ} أي ذلكم العقاب وأنّ للكافرين النار، وإمّا منصوب على أنّ الواو بمعنى مع، والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير - كذا في الكشّاف((1)) - ، والحاصل: ذوقوا ما عجّل اللّه لكم من القتل والأسر مع ما أجّل لكم من عذاب النار في الآخرة.

ص: 34


1- ([1]) الكشّاف 2: 205.

الآيات 15-18

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ 15 وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 16 فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 17 ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَٰفِرِينَ 18}

15- وحيث علمتم بنعم اللّه عليكم فاثبتوا ف{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ} في الحرب {الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا} أي حال كونهم زاحفين لقتالكم {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} لا تعطوهم ظهوركم، أي لا تنهزموا.

16- {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ} وقت القتال {دُبُرَهُ} يعطيهم ظهره منهزماً {إِلَّا} في حالتين: إذا كان {مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ} أي يغيّر موقعه في ساحة القتال ليكر عليهم {أَوْ مُتَحَيِّزًا} قاصداً الانضمام {إِلَىٰ فِئَةٖ} جماعة أخرى من المقاتلين يتقوّى بهم، فالمنهزم في غير هاتين الحالتين {فَقَدْ بَاءَ} رجع حال فراره {بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ} أي يصحبه غضب اللّه تعالى {وَمَأْوَىٰهُ} مقرّه في الآخرة {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

17- ونتيجة استجابة اللّه لكم وإنزال المطر عليكم وإرسال الملائكة لنصرتكم هو قتل الكفّار والإنعام عليكم: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} لأنه تعالى السبب الأقوى حيث أرسل الملائكة وثبّتكم وألقى في قلوبهم

ص: 35

الرعب، {وَمَا رَمَيْتَ} يا رسول اللّه {إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ} حيث إنّالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رمى وجوه الكفّار بقبضة من التراب فما بقي أحد منهم إلاّ امتلئت عيناه من الحصباء فكان هذا الأثر إعجازاً بفعل اللّه تعالى {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ} أي لينعم اللّه عليهم {بَلَاءً حَسَنًا} نعمة حسنة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لاستغاثتهم {عَلِيمٌ} بنواياهم ولذا أنعم عليهم هذه النعمة الحسنة.

18- فالغرض: {ذَٰلِكُمْ} أي البلاء الحسن للمؤمنين هذا أوّلاً، {وَ} ثانياً: {أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ} من الوهن بمعنى الضعف {كَيْدِ} وهو التدبير لإيقاع المكروه بالعدو {الْكَٰفِرِينَ} وذلك بإلقاء الرعب في قلوبهم ونحو ذلك.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}.

بعد بيان نعم اللّه تعالى على المؤمنين في غزوة بدر بأنّ اللّه وعدهم إحدى الحسنين النصر أو غنيمة الركب، وأنّه أمدّهم بالملائكة، وأنّه آمنهم وطهّرهم، وأنّه ثبّت قلوبهم وأرعب الكفّار، بعد ذلك يأمرهم اللّه تعالى بعدم الانهزام في معاركهم مع الكفّار، فإنّ نِعم اللّه تعالى لا تعني الكسل والتواني والفرار عن المسؤوليّة، بل إنّ عليهم أن يشكروها عبر العمل بما يأمرهم به اللّه، وهو سبحانه ينصرهم.

وقوله: {زَحْفًا} مصدر بمعنى اسم الفاعل، وهو حال إمّا من الذين آمنوا، أو من الذين كفروا، أو منهما، وأصل الزحف هو المشي البطيء، سُمّي به الجيش الكثير الذي لكثرته يرى كأنّه يزحف ويدب دبيباً.

ص: 36

وقوله: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} أي لا تجعلوا ظهوركم في مقابلهم، وهوكناية عن الفرار.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ...} الآية.

بيان عقوبة اللّه الدنيويّة والأخرويّة للمنهزم، مع بيان عدم شمول ذلك لحالة التحرّف والانحياز فليسا من الانهزام ولا بأس بهما.

وقوله: {يَوْمَئِذٖ} أي وقت الزحف، وهذه الكلمة منسلخة عن معنى اليوم مقابل الليل بل يراد بها الوقت بشكل عام.

وقوله: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا} النصب إمّا على الحال أو على الاستثناء، و(التحرّف) هو الذهاب إلى جهة الحرف أي الطرف، بأن يترك وسط الساحة ويتوجّه إلى طرفها.

وقوله: {لِّقِتَالٍ} أي تحرّفه ليس للفرار وإنّما لأجل القتال ليكون أمكن فيه.

وقوله: {أَوْ مُتَحَيِّزًا} من الحيّز وهو المكان أي قاصداً إلى حيّز آخر غير مكانه حيث يوجد فيه أصحابه فيتقوّى بهم ويتقوّون به.

وقوله: {إِلَىٰ فِئَةٖ} وهي المجموعة والجماعة، فكأنّ المقاتلين فئات في مواقع شتّى، فمن كان في موقع غير مناسب ينحاز إلى مجموعة أخرى يستعين بهم.

وقوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ} كأنّ هذا عقوبته الدنيوية أي المنهزم لا يرجع بالسلامة التي أرادها من فراره بل يرجع بعقوبة إلهيّة تنتظره بل

ص: 37

تصحبه، أو أنّه كان ذاهباً إلى القتال يصحبه رضا اللّه فرجع حاملاً غضبه،وقد مر أنّ اللّه تعالى ليس محلّاً للحوادث وليس له كيفيّات نفسانيّة فإنّها عوارض جسمانيّة وهو سبحانه منزّه عنها، فرضاه وغضبه بمعنى أثرهما، فرضاه ثوابه وغضبه عقابه.

وقوله: {وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ} عقوبة الآخرة، و(المأوى) المحل الذي يأوي إليه الإنسان.

ثمّ اعلم أنّ الآية عامّة وليست خاصّة بغزوة بدر، كيف وهذه السورة قد نزلت بعدها تبياناً لها، وقد زعم البعض أنّ فرار البعض من سائر الغزوات ورجوعهم إلى المدينة كان من الانحياز إلى فئة فلا بأس به؟!! وكأنّه لتبرير فرار البعض من غزوات وسرايا أخرى، مع وضوح أنّ التحيّز إلى فئة يراد به فئة في القتال لا فئة في خارج ساحة القتال في المدينة.

رمي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو رمي اللّه تعالى

الثالث: قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ}.

تفريع على قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} و{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} و{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ...} وبيان نتيجة الاستجابة وإنزال المطر وإنزال الملائكة في بدر، وأنّ النتيجة كانت أوّلاً انتصار المسلمين بقتل الكفّار ورميهم، فأنتم قتلتموهم في الظاهر لكن حيث إنّ اللّه تعالى هيّئ الأسباب فهو سبحانه قاتلهم في الواقع، وكذا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رمى وجوههم بالتراب والحصى لكن وصوله إلى وجوه جميعهم كان بفعل اللّه تعالى فإنّ وصول قبضة من التراب ترمى باليد إلى وجوه ألف إنسان خارق للعادة.

ص: 38

ومن المتعارف أنّه إذا اشترك اثنان في فعل ينفى ذلك الفعل عن السببالأضعف وينسب إلى السبب الأقوى، وبعبارة الكشّاف: «فأنتم لم تقتلوهم ولكن اللّه قتلهم؛ لأنّه أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع، وما رميت أنت يا محمّد إذ رميت ولكن اللّه رمى يعني إنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة؛ لأنّك لو رميتها لمّا بلغ أثرها إلاّ ما يبلغه أثر رمي البشر، ولكنّها كانت رمية اللّه حيث أثّرت ذلك الأثر العظيم فأثبت الرمية لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنّ صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل اللّه عزّ وجلّ فكأنّ اللّه هو فاعل الرمية على الحقيقة وكأنّها لم توجد من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصلاً»((1)).

الرابع: قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

بيان نتيجة ثانية لاستجابته وإنزاله المطر وإرسال الملائكة، وهي الإنعام على المؤمنين، و(البلاء) من البلو وهو إظهار المخفي، والمقصود هنا هو إظهار نعمة اللّه عليهم، فإنّ نعمه تعالى كثيرة لكنّها تخفى على الناس غالباً إذ يغفلون عنها، لكن إذا جائتهم من حيث لا يحتسبون أو بطريقة خارقة للعادة شعروا بها، وهكذا كانت نِعمه في بدر، فليس المراد من البلاء هنا الامتحان أو الصعوبات.

وقوله: {مِنْهُ} أي من اللّه تعالى.

وقوله: {بَلَاءً حَسَنًا} لأنّها نعمة تقوي إيمانهم، وقد تكون النعمة سبباً

ص: 39


1- ([1]) الكشّاف 2: 207.

للبطر والغفلة فتكون بلاءً سيّئاً بمعنى أنّها توجب سوءهم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} كأنّه تعليل لهاتين النتيجتين، فالمعنى أنتم استغثتم فقتلهم اللّه لأنّه سميع لاستغاثتكم، عليم بنواياكم وصدقها، كما أنّه عليم بكيفيّة نصركم عليهم، وفي التقريب: «وفي الحرب تظهر أقوال وتجول في الصدر نيّات، فمن الأحرى أن يحفظ الإنسان قلبه ولسانه لئلّا ينحرفا عن نهج الصواب بمحضر من يسمع ويعلم كل شيء»((1)).

الخامس: قوله تعالى: {ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَٰفِرِينَ}.

بيان الغرض من الاستجابة التي ترتّب عليها قتل الكفّار والنعمة على المؤمنين، وذلك الغرض أمران:

1- قوله: {ذَٰلِكُمْ} وهو خبر لمبتدأ مقدّر أي الغرض هو ذلك الذي ذكرناه من النعمة على المؤمنين، فذلك كما أنّه نتيجة للاستجابة كذلك هو الغرض منها، على نحو العِلة الغائية.

2- قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَٰفِرِينَ} أي إن غرضه تعالى تضعيف تدبير الكفّار حيث أرادوا بعددهم وعُدّتهم إطفاء نور اللّه تعالى.

ويحتمل أن تكون الآية لبيان الكبرى، والآية السابقة هي الصغرى، فالصغرى هي إنّ اللّه قتل المشركين ببدر وأنعم على المسلمين بالنصر، والكبرى هي أنّ اللّه يُنعم على المؤمنين باستمرار ويضعّف كيد الكافرين دائماً، ولذا نصر المسلمين ببدر وقتل الكافرين فيها.

قصة غزوة بدر

السادس: وكان من قصّة غزوة بدر أنّه لمّا تصاف الفريقان تقدّم عتبة بن

ص: 40


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 310.

ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمّد، أخرج إلينا أكفاءنا منقريش، فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا إليهم، فقالوا: ارجعوا إنّما نريد الأكفاء من قريش، فنظر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان له يؤمئذٍ سبعون سنة فقال: قم يا عبيدة، ونظر إلى حمزة وقال: قم يا عم، ثمّ نظر إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: قم يا علي - وكان أصغر القوم - فاطلبوا بحقّكم الذي جعله اللّه لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور اللّه ويأبى اللّه إلاّ أن يتم نوره، ثمّ قال: يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة، وقال لحمزة: عليك بشيبة، وقال لعلي (عليه السلام) : عليك بالوليد، فمرّوا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفاء كرام.

فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنّها فسقطا جميعاً، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وحمل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه، ثمّ اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي، أما ترى أن الكلب نهز عمّك! فحمل عليه علي (عليه السلام) ثمّ قال: يا عمّ طأطئ رأسك - وكان حمزة أطول من شيبة - فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه علي (عليه السلام) فطرح نصفه، ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه((1)).

وفي تفسير القمي: «ثمّ أخذ رسول اللّه (عليه السلام) كفّاً من حصى ورمى به في وجوه قريش، وقال: شاهت الوجوه، فبعث اللّه رياحاً تضرب في وجوه

ص: 41


1- ([1]) راجع مجمع البيان 4: 626-627.

قريش، فكانت الهزيمة»((1)).

وفي المناقب: عن ابن عباس أنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام) : «ناولني كفّاً من حصباء، فناوله ورمى به في وجوه قريش، فما بقي أحد إلاّ امتلأت عيناه من الحصباء»((2)).

وفيه أيضاً: «وكان القتلى - يعني قتلى المشركين - ببدر سبعين، والأسرى سبعين، قتل منهم أمير المؤمنين (عليه السلام) سبعة وعشرين، ولم يأسر أحداً، ... وقُتل من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسعة رجال»((3)).

ص: 42


1- ([1]) تفسير القمي 1: 267؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 284.
2- ([2]) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 1: 189؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 293.
3- ([3]) تفسير القمي 1: 269؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 286.

الآيات 19-23

{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَئًْا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ 19 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ 20 وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ 21 إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ 22 وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ 23}

19- ثمّ يخاطب اللّه الكفّار المحاربين قائلاً: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} تطلبوا الفتح لأهدى الفريقين {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} حيث فتح اللّه للمؤمنين فغلبوكم، وهذا تهكّم بهم، {وَإِن تَنتَهُواْ} تتركوا القتال الذي نُهيتم عنه {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أسلم لدنياكم، {وَإِن تَعُودُواْ} إلى حرب المسلمين {نَعُدْ} إلى أمرهم بقتالكم {وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ} لا تنفعكم {فِئَتُكُمْ} جماعتكم {شَئًْا وَلَوْ كَثُرَتْ} لأن اللّه تعالى ناصر دينه، وليس النصر بالكثرة فقط، {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} معيّة نصرة ومعونة.

20- ثمّ خاطب المؤمنين بأن يلتزموا بما هو سبب نصرهم، فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فطاعتهما هي سبب النصرة {وَلَا تَوَلَّوْاْ} لا تعرضوا {عَنْهُ} عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو عن أمر اللّه والرسول {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} تلك الأوامر فإنّ عدم الطاعة سبب خذلان اللّه لكم كما حصل

ص: 43

في أ ُحد حيث خالفوا أمر اللّه بعدم الفرار وأمر الرسول بالثبات في الثغر وساحة القتال.

21- {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ} أي كالكفّار والمنافقين الذين {قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أي لا يعملون بما سمعوا فسمعهم كان كأنّه لا سمع.

22- فصاروا بذلك أسوء الموجودات ف{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ} شبّههم بالدابة وبيّن أنّهم أسوء منها {الصُّمُّ} الذين لا يسمعون سماع تفهّم {الْبُكْمُ} الذين لا ينطقون بالحق {الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} لا يستعملون عقولهم ليعرفوا الحق.

23- {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} أي إذعاناً للحق وعدم عناد {لَّأَسْمَعَهُمْ} إسماعاً نافعاً بأن هدى قلوبهم للحق، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} حينما يعلم بعدم الخير فيهم لعنادهم {لَتَوَلَّواْ} رجعوا {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} قلباً عن الحق فلم يقبلوه.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ...} الآية.

لمّا بيّن أنّ اللّه موهن كيد الكافرين بيّن حالاتهم الثلاث:

1- قوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} أي قد علمتم ما أصابكم في بدر من قتل وأسر وانهزام حيث فتح اللّه للمؤمنين عليكم، وكانوا قد دعوا اللّه ليهلك المسلمين تارة، ولينصر أهدى الفريقين تارة أخرى، فروي أنّه: «خرج أبو جهل من بين الصفّين وقال: اللّهم إنّ محمّداً أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه فأحنّه - أي فأهلكه - الغداة»((1))، وقال أيضاً: «اللّهم ربنا ديننا القديم ودين محمّد

ص: 44


1- ([1]) تفسير القمي 1: 267؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 284.

الحديث فأيّ الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم»((1)).

وقوله: {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} أي قد رأيتم الفتح في بدر ولكن كان للمسلمين وليس لكم، وفي هذا تهكّم بهم.

2- وقوله: {وَإِن تَنتَهُواْ} الانتهاء هو ترك الشيء لأجل النهي عنه، والمراد هو عدم قتالهم للمسلمين مرّة أخرى.

وقوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي أسلم لكم لأنّكم بذلك تسلمون من القتل والأسر والخزي، فالكلام حول حالتهم في الدنيا لا في الآخرة لأنّ الفتح في أوّل الآية والعودة في آخرها يرتبطان بالحالة الدنيويّة فكذلك كونه خيراً في وسط الآية.

3- وقوله: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} أي إن رجعتم إلى قتال المسلمين مرّة أخرى بعد هزيمتكم ببدر عاد اللّه تعالى إلى نصرهم عليكم، لكن هذا العود منه تعالى مشروط بالطاعة كما سيأتي في الآية التالية، وهذا ما حصل في أ ُحد لمّا عاد المشركون إلى قتال المسلمين نصر اللّه المسلمين عليهم في الجولة الأولى فانهزم المشركون وقتل مجموعة منهم، لكن لمّا خالف المسلمون الشرط وعصوا اللّه ورسوله دارت الدائرة عليهم، قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ...}((2)).

وقوله: {وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ...} يعني إذا عُدتم إلى قتال المسلمين عاد اللّه

ص: 45


1- ([2]) مجمع البيان 4: 635-636.
2- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 152.

عليكم بالعقاب وعلى المسلمين بالنصر، ولا تغترّوا بكثرة عددكم لأنّ كل كثير هو لا شيء في مقابل قدرة اللّه تعالى وعزّته سبحانه، وهذا كالتعليل،أي سبب عودنا عليهم بالنصر وعليكم بالخزي هو عدم قدرتكم وعدم فائدة جمعكم.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} كالعلّة الثانية فهو عطف على قوله: {وَلَن تُغْنِيَ...}، فالمعنى نعود لأنّ اللّه مع المؤمنين معيّة نصرة ومعونة.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ}.

لمّا ذكر في الآية السابقة أنّ اللّه يعود على الكفّار بالهزيمة وأنّه مع المؤمنين، بيّن في هذه الآية شرط ذلك وهو أن يكونوا مؤمنين حقّاً، ولا يكون ذلك إلاّ بإطاعة اللّه في أحكامه، وإطاعة الرسول في ولايته، وأن لا يُعرض هؤلاء المؤمنون عن الطاعة مع علمهم بالتكاليف حيث لا يكونون معذورين في المخالفة.

وقوله: {وَلَا تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} أي لا تعرضوا عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو لا تعرضوا عن طاعة اللّه والرسول ويكون تذكير الضمير باعتبار التكليف، أو بمعنى لا تعرضوا عنهما ويكون إفراد الضمير لتعارف ذلك في اللغة وفي الكلام البليغ.

وقوله: {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} حال أي إعراضاً عن علم وعمد، أمّا لو لم يعلم الإنسان بالتكليف ولم يكن مقصّراً في جهله فلم يمتثل فهذا معذور في عمله، بل رخّص اللّه في ذلك بالبراءة في ما لا يعلم وجوبه وكذا ما لا يعلم حرمته.

ص: 46

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}.

وهم الكفّار والمنافقون فإنّهم يسمعون الكلام بآذانهم ولا يذعنون له فيقلوبهم فسمعهم كعدم السمع في عدم انتفاعهم به، قال سبحانه: {وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا}((1))، فهذه الآية عامّة كما تشمل المشركين الذين هم شأن النزول كذلك تشمل اليهود والمنافقين وغيرهم، وهكذا المسلمون إذا عصوا اللّه ورسوله كان علمهم بما سمعوه غير نافع لهم فكأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه تعالى، بل هم أسوء من الذي لم يسمع أصلاً فهو خالف بجهل وهؤلاء خالفوا عن علم وعمد.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}.

هذا تعليل للنهي في الآية السابقة، أي لا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون؛ لأنّهم شر الدواب حيث إنّهم صم بكم لا يعقلون.

وقوله: {شَرَّ الدَّوَابِّ} مرّ في سورة الأعراف في قوله: {أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}((2))

وجه كونهم أسوء من الأنعام إنّها لا عقل لها وهم لا يستعملون عقولهم، وهي تبتعد عمّا يضرّها وهم يعاندون على ما يضرّهم وغير ذلك فراجع، و(الدابة) في الأصل كل موجود حي يدب ويتحرّك على وجه الأرض، ثمّ خص بالبهائم، ويستعمل بشكل أخص في الخيل.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} بيان أنّ مقياس الخير والشر هو مقياس إلهي، فليست المظاهر والسلطة والمال ونحوها في مقياسهما، مع أنّ غالب الناس

ص: 47


1- ([1]) سورة الأعراف، الآية: 179.
2- ([2]) سورة الأعراف، الآية: 179.

ينخدعون بها، كالحيّة ليّن مسّها قاتل سمّها يجتنبها العالم بها ويدنو منها الجاهل بها اغتراراً بجمالها الظاهري.

وقوله: {الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أوصاف جعلتهم شر الدواب، و{الصُّمُّ} جمع أصم والمراد الذين لا يسمعون سماع تفهّم حتّى وإن قرع الكلام صماخهم، وبذلك تمّت الحجّة عليهم، و{الْبُكْمُ} جمع أبكم، وفي المفردات: «وهو الذي يولد أخرس، فكل أبكم أخرس، وليس كل أخرس أبكم»((1))، و{لَا يَعْقِلُونَ} نفي للعقل باعتبار عدم وجود آثاره، فالعقل الذي لا يمنع الإنسان عن العناد والمكابرة على الحق غير نافع، فسواء من لا عقل له ومن له عقل لا يستعمله.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}.

بيان أنّ الإشكال فيهم، لا أنّ اللّه تعالى جعلهم صماً بكماً لا يعقلون، بل هو سبحانه جهّزهم بأدوات الهداية من السمع والبصر والعقل وأرسل الأنبياء ليبيّنوا لهم، وأراهم الآيات، لكنّهم بسوء اختيارهم أغلقوا منافذ الهداية على أنفسهم ورفضوا هداية اللّه تعالى فتركهم اللّه حتى ضلّوا.

وقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} أي إذعاناً وقبولاً للحق وعدم عناد وانتفاعاً بلطفه بهم.

وقوله: {لَّأَسْمَعَهُمْ} أي للطف بهم بحيث يكون سمعهم نافعاً لهم، وذلك حال غير المعاندين المذعنين للحق فإنّ اللّه يجعل السمع نافعاً لهم لطفاً بهم

ص: 48


1- ([1]) المفردات للراغب: 140.

فيهتدون بحسن اختيارهم.

وقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أي لو لطف بهم حال عنادهم، فإنّ اللطف لايزيل اختيارهم فمع عنادهم لا ينفعهم ذلك اللطف، كما لطف بهم حيث أرسل الرسل وأنزل الكتب لكنّهم رفضوا هذا اللطف، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ}((1)).

وفي التقريب: «إنّ هناك ثلاث مراتب: الإسماع الظاهري، وإزالة الأغشية، وطهارة القلوب ذاتاً، فإزالة الأغشية خاصّة بالمؤمن، بينما الإسماع عام لكل أحد، فالمعنى: لو علم اللّه الطهارة الذاتيّة في قلوبهم لأزال الأغشية المظلمة عنها علاوة على الإسماع، لكن علم أنّ ذلك لا ينجح - فإنّ قلوبهم كالأرض السبخة التي لا ينفع معها الحرث - فلذا تركهم وشأنهم»((2)).

وقوله: {لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (التولّي) هنا بمعنى الرجوع فيراد به الإعراض بوجوههم، و(الإعراض) هنا يراد به الإعراض بالقلوب فالمعنى لا ينفعهم الإسماع عبر اللطف وإزالة الأغشية عن قلوبهم لأنّهم معاندون بحيث لو أسمعوا لأعرضوا بوجوههم وقلوبهم.

ص: 49


1- ([1]) سورة فصلت، الآية: 17.
2- ([2]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 313.

الآيات 24-26

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 24 وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 25 وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فََٔاوَىٰكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 26}

ثمّ بيّن اللّه أن في طاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحياة، فقال:

24- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وهم عموم من أسلم بلسانه سواء آمن بقلبه أم لا {اسْتَجِيبُواْ} بالطاعة والامتثال {لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث إنّ دعوته هي دعوة اللّه تعالى {لِمَا يُحْيِيكُمْ} فيه حياتكم وهذا يشمل جميع دعواته والتي منها الجهاد وولاية علي (عليه السلام) ، ويؤدّي ذلك إلى الحياة الطيّبة في الجنّة، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ} قادر عالم حكيم شديد البطش ولذا فهو {يَحُولُ} من الحيلولة بمعنى الفاصلة {بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فقد يريد الإنسان بعدم الاستجابة حفظ مصلحته لكن اللّه تعالى يحول بينه وبين ما أراد، كما أنّه تعالى أقرب إلى الإنسان من قلبه فمع قدرته على التصرّف في القلب جبراً لا يصنع ذلك لكنه قد يطبع على قلب العاصي، كما أنه يعلم ما في القلوب وقد ألقى المعرفة الفطرية فيها فلا مجال لأنكارها {وَ} سيجازيك--م فاعلم--وا {أَنَّهُ} للشأن {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون يوم القيامة

ص: 50

فيخبركم بما في قلوبكم ويجازيكم على أفعالكم.

25- ثمّ ينهاهم عن عدم الطاعة والاستجابة لأنّ ذلك يؤدّي إلى الفتنة، فقال: {وَاتَّقُواْ} احفظوا أنفسكم واحذروا {فِتْنَةً} بلاءً عامّاً {لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} بل تشمل الظالمين العصاة والساكتين عن نهيهم عن المنكر، بل أثرها الوضعي يعم الجميع حتّى المؤمنين الناهين عن المنكر، كما لو أثار العصاة حرباً يضطر المؤمنون إلى الدفاع وقد يقتلون فيه أو يجرحون، هذا في الدنيا، {وَ} أمّا في الآخرة ف{اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن عصاه فلم يُطع ولم يستجب للّه تعالى وللرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

26- ثمّ يحثّهم على الطاعة والاستجابة بتذكيرهم بعظيم نعمته عليهم، فقال: {وَاذْكُرُواْ إِذْ} الوقت الذي {أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} أي مكّة حيث كان الكفّار يعدّونهم ضعفاء فيؤذونهم ويعذّبونهم {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} المشركون بأن يأخذوكم للعذاب بسرعة كما صنعوا بعمّار وأبويه حيث كان المشركون يفاجئون المسلمين بذلك متى ما شاؤوا، {فََٔاوَىٰكُمْ} جعل لكم مأوى هي المدينة المنوّرة {وَأَيَّدَكُم} قوّاكم بعد الاستضعاف {بِنَصْرِهِ} حيث نصركم ببدر وغيره {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ} ومنها غنائم بدر بعد فقركم، وإنّما صنع ذلك بكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النِعم الجسام.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.

ص: 51

بعد أن أمر اللّه تعالى بطاعته وطاعة رسوله بيّن أنّ في ذلك كلّ خيرحيث إنّ فيه الحياة، ويلازم ذلك الهلاك في عدم الطاعة، وبعبارة أخرى: إنّهما يدعوان إلى الحياة ففي الاستجابة لهما الحياة، وفي عدم الاستجابة الهلاك كما قال تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}((1)).

وقوله: {اسْتَجِيبُواْ} الاستجابة من الجواب بالقبول وهي هنا الطاعة والامتثال، وفي التقريب: «لعلّ السر في الإتيان بباب الاستفعال المفيد للطلب، إفادة أنّ اللازم كون الجواب عن القلب والضمير لا بمجرّد اللفظ والظاهر، فإنّ طلب الإنسان لأن يُجيب إنّما بنبع من قلبه وباطنه»((2))، ومن ذلك يتبيّن أنّ قوله: {اسْتَجِيبُواْ} ليس مجرّد تأكيد لقوله: {أَطِيعُواْ} في الآية 20 بل بيان أنّه لا بدّ أن تكون طاعة ناشئة عن القلب وهي التي يترتّب عليها الحياة الطيّبة.

وقوله: {إِذَا دَعَاكُمْ} أي دعاكم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو إذا دعاكم اللّه والرسول فيكون إفراد الضمير باعتبار أنّ دعوتهما واحدة لأنّ الاستجابة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي استجابة للّه تعالى، أو باعتبار كل واحد منهما.

وقوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} وهو كل أوامر الإسلام من أصول وفروع والتي تترتّب عليها الحياة الخالدة في الجنّة، فإنّ الحياة الدنيويّة - بالإدراك والحركة - هي مرتبة ضعيفة بحيث يصح سلب اسم الحياة عنها كما قال: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}((3))؛ لأنّها مجرّد

ص: 52


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 42.
2- ([2]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 314.
3- ([3]) سورة الأنعام، الآية: 122.

متاع كما قال: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}((1))، إلاّ إذا آمن الإنسان واتّقى فتكون حياته طيّبة كما قال: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً}((2))، وقال: {وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْأخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}((3)

وبذلك يتبيّن أنّ الآية عامّة، وأنّ الجهاد وولاية الإمام علي (عليه السلام) والجنّة بيان لمصاديق (ما يحييكم)، أو شأن نزولها، وشأن النزول لا يقيّد عموم الآية.

والحاصل: أنّه لا يتوهمنّ أحد أنّ الجهاد مثلاً فيه الهلاك، وأنّ الولاية فيها الصعوبات التي قد تبلغ القتل وأنّ عامة أحكام الشرع فيها تقييد للحياة، بل الجهاد فيه الحياة حتّى وإن قتل الإنسان في سبيل اللّه، والولاية فيها السعادة حتّى وإن ضاقت الدنيا بفعل الظالمين على المؤمنين، وهكذا سائر الأحكام إذا قيّدت الهوى والشهوات ففي ذلك السعادة وهي الحياة الحقيقيّة.

الثاني: قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.

بيان أنّ عدم الاستجابة لا توصلكم إلى ما تريدونه من السعادة؛ لأنّ اللّه يمنعها عن العصاة، كما أنّ قلوبكم بيد اللّه تعالى، فدعوته إياكم ليس لحاجة منه إليكم، فإذا جعلكم مختارين في ما تفكّرون وما تعزمون عليه ثمّ أمركم اختياراً لا إكراهاً فإنّما ذلك بحكمته مع علمه بما في قلوبكم وقدرته على التصرّف فيها وجعله الفطرة في قلوبكم بحيث لا يمكنكم إنكارها في

ص: 53


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 185.
2- ([2]) سورة النحل، الآية: 97.
3- ([3]) سورة العنكبوت، الآية: 64.

قرارة أنفسكم.

وقوله: {يَحُولُ} من الحيلولة، أي هو أقرب إليكم من قلوبكم - علماً وقدرة - كما قال في آية أخرى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}((1)).

حيلولة اللّه بين الإنسان وقلبه

ثمّ إنّ لحيلولته تعالى بين المرء وقلبه مصاديق - بعضها من التأويل - :

1- فمنها: إنّ الذين لا يستجيبون إنّما يريدون مصلحتهم فيتركون الجهاد - مثلاً - لئلّا يقتلوا، ويتركون الولاية ليتمتعوا بفُتات الظالمين، ويتركون الأحكام ليتمتعوا بدنياهم، لكن ليعلموا أنّ اللّه تعالى قضى بالضنك والعذاب للعصاة، قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ}((2)).

2- ومنها: علمه بما في القلوب بحيث لا يتمكّن الإنسان من إخفاء ما في قلبه على اللّه تعالى، فهو سبحانه ليس بعد المرئ حتّى يمكن الإخفاء عنه بل قد أحاط علمه بما بداخله، فقبل أن يعلم الإنسان ما في قلبه يعلمه اللّه تعالى، فلا يمكن كتمان النوايا عنه، فمن لم يستجب لا يمكنه أن يعتذر بأعذار واهية كأن يقول: إنه لم يكن يعلم بالحكم أو غفل عنه أو نحو ذلك.

3- ومنها: قدرته على تقليب القلوب بما يشاء، فليس اختيار الإنسان في ما يقصده إلاّ لأنّ اللّه تعالى شاء اختياره، فليست دعوته للاستجابة لحاجة منه سبحانه بل لحكمته ابتلاءً للعباد واختباراً لهم.

4- ومنها: إنّ اللّه تعالى قد ألقى المعرفة الفطرية في قلوب الناس

ص: 54


1- ([1]) سورة ق، الآية: 16.
2- ([2]) سورة طه، الآية: 124.

فبفطرتهم يعلمون حُسن الحسن وقبح القبيح ويعرفون اللّه سبحانه، وإن غفل الإنسان عن ذلك فإنّه حينما يدعوه داعي اللّه تعالى يلتفت إليه، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ويثيروا لهم دفائن العقول»((1))، فلا يبقى لهم عذر يعتذرون به بأنّهم لم يفهموا كلام الرسل (عليهم السلام) فلم يستجيبوا لهم؟! وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حق»((2)).

5- ومنها: عدم تمكّن الإنسان من فعل ما يريده ويقصده، وذلك أنّ الإنسان قد يقصد شيئاً لكن جوارحه لا تتمكّن من تنفيذ ما أراده، فعليه أن لا يسوّف في تنفيذ أوامر اللّه ورسوله فلعلّه لا يتمكّن من تنفيذها لاحقاً؛ لأنّ اللّه تعالى قد يسلب توفيقه فتفوت عليه الفرصة.

6- ومنها: الطبع على قلوب العصاة، فإن من عصى مكرّراً قد يعاقبه اللّه تعالى بأن يطبع على قلبه بحيث لا يمكنه بعد ذلك قبول الهداية حتّى يرى العذاب الأليم.

فهذه الحيلولة هي في الدنيا.

وقوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي اعلموا بأنّ اللّه يجمعكم ليوم القيامة حيث الجزاء على أعمالكم، فيعاقب من لم يستجب للّه ورسوله.

الفتنة التي تعمّ الجميع

الثالث: قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

بيان أنّ عدم الاستجابة للّه والرسول تؤدّي إلى فتنة عامّة في الدنيا

ص: 55


1- ([1]) نهج البلاغة، الخطبة: 1.
2- ([2]) تفسير العيّاشي 2: 52.

وعذاب في الآخرة، فإنّ أوامر اللّه ورسوله لمصلحة العباد ونواهيهما لدفع المفسدة عنهم، فكل عصيان يؤدّي إلى فوت مصلحة والوقوع في مفسدة.

والمفسدة قد تكون شخصيّة لا تتعدّى صاحبها، وقد تكون عامّة تنجر إلى سائر الناس كمن يثقب السفينة حيث يغرق بذلك جميع ركّابها حتّى الذين سكتوا عنه ولم يشاركوه في الفعل، وهكذا المعاصي قد يعم بلاؤها الفاعل والساكت، سواء بالأضرار الدنيويّة أم بعذاب اللّه تعالى، كأصحاب السبت حيث عم العذاب الصائدين والساكتين، كما أنّ هنالك آثاراً وضعيّة - وليست عقوبة - تعم الجميع حتّى البريء، مثلاً لو ترك المسلمون الجهاد صار ذلك سبباً لسيطرة الكفّار عليهم فيأسرون ويقتلون حتّى الذين لم يكن الجهاد واجباً عليهم أو لم يستطيعوا الخروج إليه كالنساء والأطفال الأبرياء والمرضى.

وقوله: {وَاتَّقُواْ} أي احفظوا أنفسكم عبر الاستجابة، فإن لم تستجيبوا وقعت الفتنة عليكم.

وقوله: {فِتْنَةً} تشمل العذاب والبلاء العام والآثار الوضعيّة.

وقوله: {لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} أي لا تختص بالعصاة بل تشمل حتّى الساكتين عنهم الذين لم ينهوا عن المنكر عقوبة لهم، بل وتشمل الأبرياء لا عقوبة بل امتحاناً ورفعاً لدرجاتهم بصبرهم، و{لَّا تُصِيبَنَّ} نهي يتوجّه إلى الفتنة ويراد به المأمورون بالاتّقاء فكأنّه قال: أنهى الفتنة عن أن تصيب خصوص الظالم، والمراد بذلك حث الناس على الالتزام بالتقوى، كما في قوله: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ}((1))، أي أنهى سليمان

ص: 56


1- ([1]) سورة النمل، الآية: 18.

وجنوده عن تحطيمكم والغرض هو التأكيد على دخول النمل في المساكن، والظاهر أنّ {لَّا تُصِيبَنَّ} وصف للفتنة أي فتنة يقال لها لا تصيبي الظالم فقط بل اشمليهم أجمع.

وأمّا ما روي من قراءة (لتصيبنّ)((1)) فكأنّه - إن صح - تفسير للآية وبيان مصداق الفتنة بأنّها العذاب وهي تصيب الظالمين سواء الفاعلين للمنكر أم الساكتين فكلاهما ظالم فيصيبهم العذاب خاصّة.

ومن مصاديق الآية ما حدث بعد رحيل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكذا معركة الجمل حيث كانت فتنة أصابت الظالمين وغيرهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «أصابت الناس فتنة بعد ما قبض اللّه نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتّى تركوا عليّاً (عليه السلام) وبايعوا غيره، وهي الفتنة التي فتنوا بها، وقد أمرهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باتّباع علي (عليه السلام) والأوصياء من آل محمّد (عليهم السلام) »((2))، وفي تفسير القمي: «نزلت في الزبير وطلحة لمّا حاربا أمير المؤمنين (عليه السلام) وظلموه»((3)).

الرابع: قوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

تذكيرهم بحالتهم السابقة من الضعف والذل لكي يشكروا اللّه عبر طاعته على تبديل تلك الحالة إلى حالة حسنة، وفيه تحذير مبطن بأنّ عدم الاستجابة قد تُرجع إليهم تلك الحالة لأنّها تؤدّي إلى سيطرة الكفّار عليهم فيذلّونهم، كما نشاهد ذلك الآن حيث أعرض الناس عن أحكام اللّه تعالى فسيطر الشرق والغرب على المسلمين ونهبوا ثرواتهم وقتلوا أولادهم

ص: 57


1- ([1]) مجمع البيان 4: 639.
2- ([2]) تفسير العيّاشي 2: 53.
3- ([3]) تفسير القمّي 1: 271.

واحتلّوا بلادهم وأذلّوهم أيّما إذلال.

وقوله: {وَاذْكُرُواْ} أي بالشكر وذلك عبر الطاعة والاستجابة، وأنّه كيف تفضّل اللّه عليكم لمّا استجبتم للّه وللرسول حيث بدّل سوء حالكم إلى أحسن الأحوال.

وقوله: {مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} أي يستضعفكم كفّار قريش في مكّة.

وقوله: {أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} أي لم يكن لكم أمن بل كان حالكم تعذيب الكفّار لكم كلّما أرادوا لا يردعهم رادع ولا يمنعكم عنهم مانع، و(الخطف) هو الأخذ بسرعة على سبيل الاختلاس، و{النَّاسُ} هم مشركو مكّة.

وقوله: {فََٔاوَىٰكُمْ} أي جعل لكم المأوى الآمن في المدينة المنوّرة.

وقوله: {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} التأييد التقوية أي قوّاكم بما نصركم به من إنزال الملائكة ومن جعل الأنصار لكم.

وقوله: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ} فيه دلالة أنّهم كانوا فقراء في مكّة فأثروا بالزراعة والتجارة والغنائم في المدينة.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وهذا حث لهم على الشكر العملي بالطاعة والاستجابة؛ لأنّ تذكير سوء الحال سابقاً وتبديله إلى أحسن حال سبب للشكر عليه، وخاصّة إذا علموا أنّ استجابتهم في ضعفهم وفقرهم انتجت قوّتهم وغناهم، وهكذا استمرارها وزيادتها ستكون بالطريقة نفسها أي بالاستجابة مستمرّاً.

ص: 58

الآيات 27-29

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ 27 وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 28 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 29}

بعد ذكر وجوب الاستجابة بيّن أنّ عدمها خيانة، فقال:

27- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ} بمخالفة فرائضه {وَالرَّسُولَ} بمخالفة أوامره الإداريّة وسنّته {وَ} أن {تَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ} أنفسكم بخيانتهما؛ لأنّ خيانة اللّه والرسول خيانة لأمانة النفس أيضاً {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أن خيانتهما خيانة لأنفسكم، فتكون خيانتهما أبشع، وفي ذلك حث على ترك معصيتهما.

28- {وَ} من أهم أسباب الخيانة الأموال والأولاد ف{اعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَٰدُكُمْ فِتْنَةٌ} امتحان واختبار لكم فلا تخونوا لأجلهما {وَ} اعلموا {أَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} إذا وفيتم بأمانة اللّه ورسوله وذلك خير من الأموال والأولاد.

29- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ} بالاستجابة والطاعة فتحفظوا أنفسكم عن عقابه {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} ما تفرّقون به بين الحق والباطل سواء في الاعتقادات أم في الأعمال فتهتدون إلى الحق {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ} أي يبطل السيّئات بالحسنات {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} بسترها وإبدالها

ص: 59

بالثواب {وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ} لذا جعل الفرقان وكفّر السيّئات وغفر الذنوب.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

بعد أن أمر اللّه تعالى بطاعته وحث على الاستجابة له ولرسوله نهى عن المعصية وترك الاستجابة مع بيان أنّها ليست خيانة للّه وللرسول فحسب بل هي خيانة لأنفسكم أيضاً؛ لأنّ ضررها يعود عليكم أيضاً، وكان شأن نزولها أنّ بعض المسلمين أخبر الكفّار بما يريده المسلمين من مقاتلتهم صوناً لأمواله وأولاده الذين كانوا بجوار الكفّار((1)

ومن المعلوم أنّ هذه معصية كبرى وضررها يعود على عامّة المسلمين ومن جملتهم الخائن، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «فخيانة اللّه والرسول معصيتهما، أمّا خيانة الأمانة: فكل إنسان مأمون على ما افترض اللّه عليه»((2)).

وقوله: {لَا تَخُونُواْ} الخيانة هي نقض الأمانة بأن يمنع الحق الذي لزم عليه أداءه عمداً، أمّا أمانة اللّه تعالى فهي فرائضه التي ائتمن عليها خلقه، وأمّا أمانة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهي سنّته وأوامره الإداريّة وخاصّة الحربيّة منها.

وقوله: {وَتَخُونُواْ} الظاهر أنّه بتقدير (أن) فيكون نظير قولهم: «لا تأكل السمك وتشرب اللبن»، حيث إنّه نهي واحد بأن لا يجمع بينهما في الأكل،

ص: 60


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 300.
2- ([2]) تفسير القمّي 1: 272.

وكذا هنا نهي واحد هو خيانة اللّه والرسول والنفس؛ لأنّها خيانة واحدة فيحقيقتها تعلّقت بالثلاثة لأنّ ضرر المعاصي يعود على الإنسان نفسه، فلو خان اللّه ورسوله بعصيانهما فقد خان أمانة نفسه حيث إنّ كل إنسان مأمون على ما افترض اللّه عليه، كما مر في حديث الإمام الباقر (عليه السلام) .

وقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أنتم تعلمون أنّ خيانتهما خيانة لأنفسكم، حيث إنّ ضرر المعاصي - وخاصّة في الحرب - يعود عليكم، وفي ذلك حث شديد على ترك خيانة اللّه والرسول بل الاستجابة لهما وطاعتهما.

وقيل: {تَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ} عطف على المنفي وهو {تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فهو نهي ثان أي لا تخونوهما ولا تخونوا الأمانات في ما بينكم، {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنّها أمانة الناس أو تعلمون أنّها خيانة أو تعلمون أنّها قبيحة! وما ذكرناه أقرب.

الثاني: قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَٰلُكُمْ وَأَوْلَٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

بيان سبب الخيانة وهو خوف الإنسان على الأموال والأولاد، فيريد حفظهما ولو عبر المعصية، كما أنّ الذي أخبر الكفّار بمقصد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان سبب خيانته أن أمواله وأولاده كانتا عند الكفّار أو قريبتين منهم فخاف عليهما فأراد أن تكون له يد عندهم ليراعوهما، فيخبرهم اللّه تعالى بأنّ طاعة اللّه ورسوله وعدم خيانتهما أولى من ذلك؛ لأنّ الأولاد والأموال امتحان من جهة، وأنّ أجر اللّه تعالى أعظم منهما من جهة أخرى.

وقوله: {فِتْنَةٌ} أي ابتلاء واختبار، فعليكم أن ترجّحوا رضا اللّه والرسول

ص: 61

بطاعتهما وعدم خيانتهما لتنجحوا في الامتحان.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} هذا مقابل المصلحة في الأموال والأولاد، فيقال لهم: بل المصلحة في الطاعة وعدم الخيانة المستوجبة للأجر العظيم وذلك خير من الأموال والأولاد.

من آثار التقوى

الثالث: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا...} الآية.

كأنّ هذا تلخيص لجميع ما مرّ من الأوامر والنواهي ببيان أنّ تقوى اللّه هي خير لكم لأنّ آثارها عظيمة وهي:

1- قوله: {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} أي يهديكم بهداية تفرقون بها بين الحق والباطل، فإنّ من اتقى اللّه أنار اللّه قلبه بحيث تحصل له ملكة يميّز بها ما هو حق عمّا هو باطل سواء في العقائد أم في الأقوال أم في الأعمال، وذلك من أهم الأمور لئلّا يصير الإنسان من الذين قال اللّه عنهم: {هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}((1)).

2- وقوله: {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ} التكفير هو إبطال السيّئات بالحسنات كما قال: {إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ}((2))، فالتقوى حسنة تذهب السيّئات.

3- وقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الغفران هو ستر الذنب ويكون عادة بستره

ص: 62


1- ([1]) سورة الكهف، الآية: 103-104.
2- ([2]) سورة هود، الآية: 114.

بالثواب، فليس الغفران مجرّد محو السيّئات وإنّما محوها بالثواب، وحاصل الفرق بين الأمرين: أنّ تكفير السيّئات هو إذهابها بسبب العمل الصالح،وغفران الذنوب هو ستر تلك السيّئات بالثواب، فيكون التكفير مقدّمة للغفران، واللّه العالم.

وقوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} إمّا أمر رابع يضاف إلى الفرقان والتكفير والغفران، وإمّا هو سبب تلك أي إنّما يجعل اللّه ذلك لأنّه صاحب فضل عظيم عليكم.

ص: 63

الآيات 30-35

اشارة

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ 30 وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ 31 وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ 32 وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33 وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 34 وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ 35}

ثمّ يذكر اللّه قصّة المشركين الذين عارضوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكّة حتّى آل أمرهم إلى القتل في غزوة بدر، فكما أنعم على المؤمنين عذّب الكافرين، فقال:

30- {وَإِذْ} أي اذكر ذلك الزمان عبر الشكر للّه تعالى، حيث {يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يحتالون خفية {لِيُثْبِتُوكَ} يحبسوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ} بالسيف {أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكّة لتموت في الصحراء حيث اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا في أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكانت هذه آراء جمع منهم حتّى استقر رأيهم على قتله {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} أي يَرُد مكرهم ويُخفي ما أعدّه لك من النجاة وأعدّه لهم من الهلاك {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ} لأنّه أعلم بتدبير

ص: 64

الأمر ولا ينزل المكروه إلاّ لمن يستحقّه، ونفع مكره للمؤمنين أظهر.

31- {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ} على هؤلاء الكفّار المتآمرين {ءَايَٰتُنَا} آياتالقرآن الدالة على كونها معجز {قَالُواْ} مستخفّين مستهزئين: {قَدْ سَمِعْنَا} القرآن فعرفنا أنّها ليست معجزة ف{لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا} القرآن {إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ}!

32- {وَإِذْ} أي اذكر الوقت الذي زادوا في استهزائهم واستخفافهم ف{قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا} القرآن {هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} فلا حق غيره {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} أي حجارة هي عذاب وآية لا مجرّد رجم من فوق {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} غير الحجارة، وهذا الكلام غاية الاستخفاف والتكذيب فمرادهم أنّه ليس بحق فلذا لا نستحق عذاباً بتكذيبه؛ إذ لو كان حقّاً للزم عذابنا.

33- {وَ} اللّه تعالى يردّهم ويبيّن سبب عدم تعجيل العذاب عليهم؛ إذ {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} لأنّ اللّه لا يعذّب قوماً إلاّ بعد إخراج أنبيائهم منهم، فمادام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين أظهرهم لا ينزل عليهم العذاب، وفيه إشعار بأن اللّه سيعذّبهم بعد خروجك منهم، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي لو آمنوا واستغفروا عن كفرهم وذنوبهم لم يعذّبهم اللّه قط لا في الدنيا ولا في الآخرة.

34- ثمّ بيّن اللّه أنّهم يستحقّون العذاب بسوء عملهم، فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي كيف لا يعذّبهم اللّه {وَهُمْ يَصُدُّونَ} يمنعون المؤمنين {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} بطردهم عن مكّة وعدم السماح لهم بالحج والعمرة

ص: 65

{وَ} الحال أنّهم {مَا كَانُواْ أَوْلِيَاءَهُ} أي لم يجعل اللّه لهم تولية أمر المسجد الحرام {إِنْ} نافية أي وليس {أَوْلِيَاؤُهُ} المتولّون له {إِلَّا الْمُتَّقُونَ} لاالمشركون ولا فسقة المسلمين {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بأنّه لا ولاية لهم.

35- {وَ} كيف يكون المشركون أولياءه مع أنّه {مَا كَانَ صَلَاتُهُمْ} دعاؤهم أو ما يسمّونه صلاةً {عِندَ الْبَيْتِ} الكعبة {إِلَّا مُكَاءً} صفيراً {وَتَصْدِيَةً} تصفيقاً.

ثمّ بيّن اللّه أنّه عذّبهم بسوء أعمالهم في غزوة بدر، فقال: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} بالسيف {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} بسبب كفركم.

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر اللّه تعالى نعمته على المؤمنين قابله ببيان عذابه على المشركين وسبب ذلك، فحيث وعد المؤمنين بإحدى الطائفتين وبيّن لهم أنّه أمدّهم بالملائكة وأنّه أنزل الأمن عليهم وأنّه هيّأ ساحة المعركة لهم بالغيث ثمّ وعدهم بالحياة الطيّبة إن أطاعوا اللّه والرسول واستجابوا لهما، وذكّرهم بنعمه عليهم بالتكثير والإيواء والنصر والرزق، ووعدهم إن اتقوا أن يجعل الفرقان لهم وبالتكفير والغفران... بعد كل ذلك بيّن سبب عذابه على المشركين بالسيف في غزوة بدر وذلك بمؤامرتهم على الرسول، وتكذيبهم بالقرآن، ودعائهم بالعذاب استخفافاً به، وصدّهم عن المسجد الحرام والصفير والتصفيق عند الكعبة.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ

ص: 66

يُخْرِجُوكَ...} الآية.

مؤامرة المشركين لقتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

هذا أولى جرائمهم - المذكورة هنا - فقد عارضوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لإبطال رسالته وللقضاء على دعوته، حيث اجتمعوا في دار الندوة - لمّا سمعوا إسلام أهل المدينة وبيعتهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخافوا من تقوية جانب المسلمين - وتشاوروا في ما بينهم بين قائل ٍ بحبس الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبذلك ينقطع عن المسلمين وتموت دعوته، وقائل ٍ بإركابه بعيراً وإخراجه من مكّة ليموت في الصحراء، وقائل ٍ بقتله، وهذا ما استقر رأيهم عليه، وليضيع دمه بين قريش فلا يتمكّن بنو هاشم من الطلب بثأره اتفقوا على اختيار أربعين شخصاً من جميع قبائل قريش - بما فيهم بنو هاشم - ليضربه كل واحد منهم ضربة فاختاروا أبا لهب من بني هاشم ومن كل قبيلة شخصاً، فأخبر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك فخرج من مكّة وبات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في فراشه لتعمية الأمر عليهم فلمّا بزغ الصبح هجموا على دار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يجدوه ووجدوا عليّاً (عليه السلام) ، فقالوا له: أين محمّد؟ فقال (عليه السلام) : «أجعلتموني عليه رقيباً؟ ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم»((1))، ثمّ خرجوا في طلب الرسول وتفرقوا في أودية مكّة فلم يجدوه، وبات رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غار ثور ثلاثة أيّام فلمّا خف الطلب خرج في اليوم الرابع إلى المدينة((2)).

وقوله: {لِيُثْبِتُوكَ} الإثبات هو تقييد الحركة وذلك بالحبس.

وقوله: {أَوْ يُخْرِجُوكَ} ليس مجرّد إخراج وإنّما إركابه على بعير وتركه

ص: 67


1- ([1]) تفسير القمّي 1: 276.
2- ([2]) لتفصيل قصة الهجرة والمبيت ومؤامرة قريش راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 301-317؛ عن تفسير القمّي 1: 271؛ وتفسير العيّاشي 2: 53؛ والأمالي للشيخ الطوسي: 463.

في الصحراء هائماً ليلقى حتقه.

وقوله: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} المكر علاج الأمر بخفاء، ومكر اللّه إمّا بمعنى رد مكرهم، أو جزائهم عليه، أو المراد إنّه يدبّر ما يخفى عليهم حتّى يباغتهم به.وقوله: {خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ} فليس في مكره سوء، وإنّما هو أعلمهم بما يقدّر، كما أنّه لا يمكر إلاّ بما هو الحق والصواب، كما أنّ انتفاع المؤمنين به أكثر من سائر أنواع العلاج، كما أنّه ينزل العقاب بمكره على من يستحقّه، عكس سائر الماكرين فقد يكون مكرهم جهلاً أو خطأ أو قليل النفع للمؤمنين أو عقاباً لمن لا يستحقّه.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا...} الآية.

هذا ثاني جرائمهم التي استحقّوا بها العذاب وهو استخفافهم بالقرآن الكريم وجحد كونه آية مع عدم تمكّنهم من الإتيان بمثله.

وقوله: {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} لعلّ مقصودهم أنّهم لم ينكروا ما لم يسمعوه وإنّما أنكروه بعلم! ولذا قالوا {لَوْ نَشَاءُ...} بدون حرف عطف.

وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا} وهذا إنكار لإعجاز القرآن وذلك بادعاء تمكّنهم من الإتيان بمثله! لكنّهم كذبوا في دعواهم هذه لأنّ القرآن تحدّاهم، وهم قد فعلوا ما تمكّنوا منه لإبطال أمر الإسلام من صرف الأموال وشن الحروب وحياكة المؤامرات وغيرها إلاّ أنّهم لم يأتوا بمثله مع أنّه لو كان باستطاعتهم لفعلوه حتماً.

وقوله: {إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ} هذا استخفاف آخر منهم بالقرآن

ص: 68

الكريم وهو جحد ما فيه من قصص بزعم أنّها أساطير، فقولهم هذا يرتبط بإنكار معانيه، كما أنّ قولهم السابق: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا} إنكار إعجاز لفظه، وكلامهم نظير أن يستخف أحدنا بكلام غيره فيقول قد سمعت كلامهفلم أر منه إلاّ ما هو سيّء!!

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ...} الآية.

جريمتهم الثالثة - وهي تابعة للسابقة باستخفافهم بالقرآن الكريم - وهو جحد كونه من اللّه تعالى عبر التوجه إلى اللّه بالدعاء بأنّه إن كان هو الحق فعاقبنا بالعذاب، وهذا أقوى في الجحد لأنّ مقصودهم إنّ اللّه يعلم بأنّه ليس بالحق ولذا لا يعذّبنا على جحوده، ولو كان حقّاً لعذّبنا عليه!

وقد أكّد جحدهم بأبلغ وجه بضمير الفصل وبإضافة {مِنْ عِندِكَ}.

وقوله: {مِّنَ السَّمَاءِ} تأكيد على أن يكون الرجم بعذاب إلهي لأنّ الرجم من السماء لا يكون إلاّ بالعذاب، فإنّ الإمطار بالحجارة من فوق قد يكون بيد إنسان أو بعامل طبيعي كانهيار جبلي فلا يكون معجزاً، ولعلّهم ذكروا ذلك ليكون كعذاب أصحاب الفيل الذي عاصره بعضهم.

وقوله: {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} أي عذاب آخر غير الرجم بالسجّيل، وكأنّ إضافة هذا مزيد في استخفافهم وبيان وثوقهم بأفكارهم، وهذا ما يتعارف في ألسن الجاحدين، كما يقول أحدهم للآخر: إن كنت شجاعاً فاضربني أو اصنع بي أيّ شيء آخر، إظهاراً لوثوقه بعجز ذاك وعدم شجاعته مثلاً.

ثمّ اعلم أنّ لهذه الآية مصاديق، منها: مشرك في مكّة وهو النضر بن

ص: 69

الحارث أو أبو جهل((1))، وكان جزاؤه القتل في غزوة بدر، ومنها: منافق في المدينة وهو الحارث بن النعمان أو ابن عمرو الفهري لمّا أنكر علىالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إعلانه خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حيث قال هذا القول أيضاً فلمّا خرج من المدينة ألقى اللّه تعالى عليه حجارة قتلته((2))، ولا محذور في شمول الآية لكليهما، كما لا استبعاد في تعلّم منافق من كافر قولته.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.

هذا بيان سبب تأخير العذاب عنهم وهو أحد أمرين: وجود النبي بين أظهرهم واستغفارهم.

وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ} أي ليس من حكمته ذلك فإنّ اللّه إذا أراد عذاب قوم أخرج المؤمنين أوّلاً ثمّ عذّب الكفّار كما في عذاب الأمم السالفة.

وقوله: {وَأَنتَ فِيهِمْ} أي والحال أنت فيهم، وفي ذلك تلميح بعذابهم بعد خروجه عنهم.

وقوله: {مُعَذِّبَهُمْ} قيل: إن الاستغفار مستمر إلى يوم القيامة وبابه مفتوح لمن شاء ولذا استعمل الاسم وهو دال على الاستمرار فقال: {مُعَذِّبَهُمْ}، وأمّا وجود النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين أظهرهم فقد كان موقّتاً ولذا استعمل الفعل {لِيُعَذِّبَهُمْ}، وقيل: هو تفنن في العبارة.

وقوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} كأنّ المعنى لو تابوا واستغفروا من شركهم

ص: 70


1- ([1]) راجع تفسير القمّي 1: 269؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 322.
2- ([1]) راجع الكافي 8: 57؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 317-319.

وآمنوا فإنّ اللّه يرفع عنهم العذاب إذا استحقّوه، كما رفع العذاب عن قوم يونس لمّا استغفروا وآمنوا.

فحاصل المعنى: إنّهم استعجلوا العذاب وأنكروه لكن اللّه لا يعذّبهم في حالتين: وجود النبي فيهم وتوبتهم واستغفارهم.

السادس: قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...} الآية.

بيان استحقاقهم للعذاب وأنّ العذاب سيشملهم مع فقد الأمرين وهما جوار الرسول والاستغفار.

وقوله: {وَمَا لَهُمْ} أي أيُّ شيء يوجب عدم عذابهم، أو كيف لا يعذّبهم وفي ذلك بيان جريمة رابعة لهم وهو صدّهم عن المسجد الحرام.

وقوله: {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءَهُ} أي كان صدّهم بباطل لأنّ اللّه لم يجعل أمر المسجد الحرام إليهم ليمنعوا عنه من شاؤوا، و{أَوْلِيَاؤُهُ} بمعنى الذين يلون أمره ويتصدّون لشؤونه.

وقوله: {إِلَّا الْمُتَّقُونَ} أي قد جعل اللّه التولية للمتّقين لا للمشركين، وحينئذٍ هؤلاء يمنعون مَن أ َمَرَ اللّه بمنعه وهم المشركون، كما نزل من بعد قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}((1)).

وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي أكثر المشركين لا يعلمون أنّ تولية المسجد الحرام للمتّقين، وإنّما قال: {أَكْثَرَهُمْ} لأنّ بعضهم كانوا

ص: 71


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 28.

يعلمون ذلك ولكنّهم كانوا يعاندون، وقيل: الأكثر هنا بمعنى الجميع، كما أنّ القليل قد يستعمل بمعنى لا أحد.

السابع: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}.

بيان لجريمة خامسة لهم وهي هتكهم لحرمة البيت وتخليطهم على عبادة المؤمنين، فبدلاً من الدعاء والصلاة كانوا يصفّرون ويصفّقون فكانت هذه صلاتهم، قيل: إنّهم إذا رأوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلّي جاؤوا حوله بالصفير والتصفيق يريدون بذلك تخريب صلاته، وهذا تشنيع عليهم وبيان عدم استحقاقهم لولاية البيت حيث منعوا المتّقين عنه وهتكوا حرمته.

وقوله: {صَلَاتُهُمْ} أي ما كانوا يسمّونه صلاة، أو بمعنى كانوا يفعلونهما مكان الصلاة، كما تقول لمن سكر ولم يصل: لقد كانت صلاتك الخمر أي شربتها بدلاً عن الصلاة، وذلك غاية الذم لهم.

وقوله: {مُكَاءً} وهو جمع اليدين والصفير فيهما.

وقوله: {تَصْدِيَةً} وهو التصفيق من الصدى وهو رجوع الصوت فكأنّ التصفيق إرجاع الصوت من غيرفائدة في ذلك، قال الخليل: «كانوا يطوفون بالبيت عراة يصفرون بأفواههم ويصفّقون بأيديهم»((1)).

الثامن: قوله تعالى: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}.

بعد بيان استحقاقهم للعذاب في قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ...} بيّن أنّه تعالى قد عذّبهم بكفرهم وذلك بسيوف المؤمنين في يوم بدر، قال سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن

ص: 72


1- ([1]) كتاب العين 5: 418.

يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}((1))؛ إذ العذاب تارةيكون بطريق إعجازي، وأخرى بطريق طبيعي، والحكمة تقتضي اختيار الثاني مع توفّر أسبابه وهذا ما حصل لأنّهم بكفرهم استحقّوا ذلك العذاب، فلمّا خرج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم ولم يستغفروا عذّبهم بسيوف المسلمين في بدر، ولعلّ عدم تعذيبهم بالحجارة من السماء أو بعذاب سماوي آخر لأنّه كان في مكّة مؤمنون لم يتمكّنوا من الهجرة مع قصدهم لها فلم يكونوا قد استحقّوا العذاب، بل مع اختلاط المؤمن بغيره لا يأذن اللّه للمسلمين بعذاب الكفّار كما قال: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}((2)).

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي الكفر الجامع للجرائم المذكورة، وقد اختصرها بذلك لأنّ الكفر كان سبب مكرهم واستخفافهم بالقرآن ودعائهم الباطل وصدّهم عن المسجد الحرام وهتكهم له.

ص: 73


1- ([2]) سورة التوبة، الآية: 52.
2- ([1]) سورة الفتح، الآية: 25.

الآيات 36-40

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ 36 لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٖ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ 37 قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ 38 وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 39 وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ 40}

ثمّ يذكر اللّه تعالى جريمة أخرى من جرائمهم هي إنفاقهم الأموال للصد عن سبيل اللّه تعالى، فقال:

36- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ} يصرفونها {لِيَصُدُّواْ} ليمنعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه واتّّباع رسوله {فَسَيُنفِقُونَهَا} أي يستمرّون في الإنفاق ولا ينقطعون عنه {ثُمَّ تَكُونُ} تلك الأم--وال {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي سبباً للحسرة لأنّها ضاعت من غير وصولهم إلى مبتغاهم من القضاء على الإسلام وأهله {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} بظفر المسلمين عليهم هذا في الدنيا، {وَ} أمّا في الآخرة ف{الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} يجمعون للعذاب، فأموالهم التي أنفقوها صارت حسرة وأورثتهم ضرراً في الدنيا والآخرة.

37- وإنّما لم يمنعهم اللّه قهراً {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ} كل خبيث من كافر

ص: 74

وكفر ومعصية {مِنَ الطَّيِّبِ} كل طيب من مؤمن وإيمان وطاعة، هذا فيالدنيا {وَيَجْعَلَ} أي وليجعل في الآخرة {الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٖ} الفريق الخبيث والأعمال الخبيثة {فَيَرْكُمَهُ} أي يجعل الخبثاء وأعمالهم كالركام {جَمِيعًا} أي مجموعين {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} كما تجمع القمامة من أماكن متفرقة فتتراكم بعضها فوق بعض ثمّ تلقى جميعاً في المزبلة، {أُوْلَٰئِكَ} الذين أنفقوا هذه الأموال {هُمُ الْخَٰسِرُونَ} حيث خسروا الأموال واشتروا بها النار.

38- لكن باب التوبة مفتوح لهم ف{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} موعظةً لهم: {إِن يَنتَهُواْ} عن الكفر والصد عن سبيل اللّه {يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} من ذنوبهم {وَإِن يَعُودُواْ} إلى حرب الإسلام {فَقَدْ مَضَتْ} جرت وقُضيت {سُنَّتُ} اللّه في {الْأَوَّلِينَ} وهي نصر المؤمنين على الكافرين.

39- {وَ} إن لم ينتهوا ف{قَٰتِلُوهُمْ} أي قاتلوا أيّها المسلمون الكافرين {حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي صد عن سبيل اللّه {وَيَكُونَ الدِّينُ} الطريقة {كُلُّهُ لِلَّهِ} بأن يحكم شرع اللّه، وهذا لا ينافي إقرار أهل الذمة ومعاهدة الكفّار؛ لأنّ قبول الذمّة والمعاهدة من دين اللّه تعالى {فَإِنِ انتَهَوْاْ} عن الفتنة أو عن الكفر {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يعلم سرّهم ونواياهم فيجازيهم على أعمالهم.

40- {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا عن الكفر {فَاعْلَمُواْ} أيّها المسلمون {أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ} يتولّى شؤونكم فينصركم، {نِعْمَ الْمَوْلَىٰ} حيث لا يضيع من تولّاه فإنّه عالم قادر يفي بما يعد {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} حيث لا

ص: 75

يغلبه أحد ولا يُغلب من نصره.

بحوث

الأوّل: قول--ه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

بيان جريمة أخرى من جرائمهم وهي صرف الأموال للصد عن الإسلام، وفي تفسير القمّي: «نزلت في قريش لمّا وافاهم ضمضمٌ وأخبرهم بخبر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في طلب العير، فأخرجوا أموالهم وحملوا وأنفقوا وخرجوا إلى محاربة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببدر فقُتلوا وصاروا إلى النار، وكان ما انفقوا حسرة عليهم»((1))، وهذا شأن النزول ومعنى الآية عام شامل لكل إنفاق إذا كان يراد به الصد عن سبيل اللّه تعالى.

وقوله: {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} هو الإسلام واتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حتّى وإن كان بعضهم لا يعلم بأنّه صد عن سبيل اللّه.

وقوله: {فَسَيُنفِقُونَهَا} يراد به إنّهم سيستمرّون على الإنفاق للصد، ويحتمل أن يكون تأكيداً لقوله: {يُنفِقُونَ} ليكون مقدّمة لذكر الحسرة والانكسار.

وقوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي تكون تلك الأموال سبباً لحسرتهم؛ لأنّهم لم يصلوا إلى مبتغاهم من الصد عن سبيل اللّه، وكل من صرف مالاً لمقصد ثمّ لم يصل إليه يتحسّر على ماله الذي ضاع من غير نتيجة، وأمّا الحسرة في الآخرة فغير مرادة في هذه الآية لأنّها ليست حسرة على الأموال

ص: 76


1- ([1]) تفسير القمّي 2: 277.

وإنّما حسرة على الأعمال، أي الإنفاق على الباطل.

وقوله: {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} أي ليس ضاعت أموالهم فحسب بل انتجت عكس ما كانوا يريدون؛ لأنّهم صرفوها للصد عن سبيل اللّه لكنّها صارت سبباً للحرب التي كانت نتيجتها فتح مكّة بعد حين وانهزام الكفر وأهله، وإن كانت الحرب بينهم وبين المسلمين سجالاً إلاّ أنّ النصر النهائي كان للإسلام وأهله.

وقول---ه: {إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} بيان عاقبتهم في الآخرة، فإنّ الحسرة والمغلوبيّة في الدنيا.

الثاني: قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٖ...} الآية.

كأنّه تعليل لما هو مذكور في الآية السابقة، أي هؤلاء ينفقون للصد لأنّ اللّه تعالى أراد أن يميز بين المؤمن و الكافر وبين الأعمال الصالحة والخبيثة في الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك التمييز إلاّ بكونهم مختارين يتمكّنون من التمرّد والعصيان فلم يمنعهم اللّه سبحانه عن أفعالهم قهراً، أمّا التمييز في الدنيا فهو بالكفر والمعصية وبالإيمان والطاعة، وأمّا التمييز في الآخرة فبالجنّة والنار.

وقوله: {لِيَمِيزَ} أي ليجعل مائزاً فارقاً بين الفريقين.

وقوله: {الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الظاهر أن {الْخَبِيثَ} و{الطَّيِّبِ} هنا يراد به الجنس أي كل خبيث سواء كان إنساناً أم عملاً، وهكذا كل طيّب إنساناً كان أم عملاً، فكما يمتاز المؤمن عن الكافر كذلك يمتاز العمل الحسن عن

ص: 77

العمل القبيح، حيث إنّه في الدنيا يختلط المؤمن بالكافر فقد يلد المؤمنكافراً أو يلد الكافر مؤمناً، ولا يمكن التمييز بينهما إلاّ لو كانوا مختارين لكي يُجزى كل فريق بما يستحقّه من العقاب بعمله أو الثواب بفضل اللّه تعالى، وهكذا لا يمكن التمييز إلاّ بالتمكّن من الأعمال الصالحة والأعمال الخبيثة، فلا يكفي مجرّد ملكة الاختيار بل لا بدّ من التمكّن من إعمال هذه الملكة، فالإنسان المختار إذا كان وحده في جزيرة فإنه لا يتمكّن من الظلم لا لأجل عدم اختياره بل لأجل عدم وجود مادة الظلم وهي حق الغير مثلاً، فالحاصل: أنّ التمييز لا بدّ فيه من المختار ومن مادة الاختيار.

جعل الخبيث بعضه فوق بعض

وقوله: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٖ} أي يلحق الأعمال الخبيثة بالناس الخبثاء فلمّا اجتمعوا بها ألقاهم اللّه في نار جهنّم بأعمالهم، قال سبحانه: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}((1))، وقال: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ}((2))، وقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}((3)).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) - في حديث طويل - قال: «إنّ اللّه سبحانه مزج طينة المؤمن حين أراد خلقه بطينة الكافر، فما يفعل المؤمن من سيّئة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج، وكذلك مزج طينة الكافر حين أراد خلقه بطينة المؤمن، فما يفعل الكافر من حسنة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج»، قال:

ص: 78


1- ([1]) سورة النحل، الآية: 25.
2- ([2]) سورة الأنعام، الآية: 31.
3- ([3]) سورة العنكبوت، الآية: 13.

«فإذا كان يوم القيامة ينزع اللّه تعالى من العدو الناصب سنخ المؤمن ومزاجهوطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله الصالحة ويردّه إلى المؤمن، وينزع اللّه من المؤمن سنخ الناصب ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله السيّئة الرديئة ويردّه إلى الناصب، عدلاً منه جل جلاله وتقدّست أسماؤه، ويقول للناصب: لا ظلم عليك، هذه الأعمال الخبيثة من طينتك ومزاجك وأنت أولى بها، وهذه الأعمال الصالحة من طينة المؤمن ومزاجه وهو أولى بها...» الحديث((1))، ولتفصيل أحاديث الطينة راجع شرحنا على أصول الكافي((2)).

وقوله: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} أي يجعل الخبيث جميعه بعضه فوق بعض كالركام المتراكم؛ لأنّ من الحكمة جعل الأعمال الخبيثة على ظهور الناس الخبثاء متراكمة عليهم لتكون الأعمال نفسها عذابهم بناءً على ما مرّ من تجسّم الأعمال، ولذا المال الذي أنفق في الصد عن سبيل اللّه هو خبيث ومآله إلى جهنّم، قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}((3))، وقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}((4)).

وقوله: {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} أي يلقيه في جهنّم، قيل: لفظ (الجعل) عام ويستعمل في الأفعال كلّها؛ إذ هو فعل كنائي عن فعل أو أفعال أخرى تفهم من سياق الكلام.

ص: 79


1- ([1]) كنز الدقائق 5: 340.
2- ([2]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 8: 9-13.
3- ([3]) سورة التوبة، الآية: 35.
4- ([4]) سورة الأنبياء، الآية: 98.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ} أي الكفّار الذين أنفقوا أموالهم ليصدّواعن سبيل اللّه هم الخاسرون خسارة لا خسارة فوقها؛ لأنّهم خسروا أموالهم فلم ينتفعوا بها في ما أرادوا وخسروا أنفسهم بالعذاب الخالد في جهنّم.

الثالث: قوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ...} الآية.

بعد تهديد الكفّار وإخبارهم بما يؤول إليه أمرهم وأمر أموالهم يعظهم اللّه تعالى موعظة عسى أن يهتدي منهم من كان قابلاً للّهداية وإتماماً للحجّة على المعاندين منهم.

وقوله: {إِن يَنتَهُواْ} الانتهاء هو ترك الشيء لأجل النهي عنه، والمراد ترك الكفر والعصيان وليس مجرّد ترك قتال المسلمين أو الصد عن سبيل اللّه؛ لأنّ الغفران إنّما يكون لمن آمن.

معنى الإسلام يجبّ ما قبله

وقوله: {يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} أي ما مضى منهم من الكفر والعصيان، والإسلام يجُبّ ما قبله - أي يقطعه - ، وهذا يرتبط بعدم العقوبة على الذنب، ولا ارتباط له بالآثار الوضعيّة، بل لا بدّ فيها من دليل آخر فقد يدل على إسقاطها كعدم وجوب قضاء الصلاة والصوم على الكافر الأصلي إذا أسلم، وقد يدل على عدم إسقاطها كوجوب رد ما سرقه من المسلمين أو وجوب قضاء الصلوات والصيام على المرتد، وأمّا لو لم يكن دليل خاص بقيت الآثار الوضعية على عموم الأدلة؛ لأنّ الكافر مكلّف بالفروع كتكليفه بالأصول، كما مرّ.

وقوله: {وَإِن يَعُودُواْ} أي إلى قتال المسلمين وإنفاق المال للصد عن

ص: 80

سبيل اللّه.

وقوله: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} أي سنة اللّه في الأوّلين أي الذين كانوا قبل الإسلام حيث شرّع اللّه للمؤمنين منهم قتال الكافرين وعاقبهم في الدنيا ونصر المؤمنين ثمّ يعذّب الكافرين في الآخرة، وقد أجرى هذه السنّة في الآخرين أيضاً، قال سبحانه: {وَلَوْ قَٰتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الْأَدْبَٰرَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}((1))، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} إلى قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَٰفِرُونَ}((2))، وهذا لا ينافي غلبة الكفّار أحياناً لأنّ المقصود هو النصر النهائي والذي يكون للمؤمنين في الدنيا قبل الآخرة، قال سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}((3)).

الرابع: قوله تعالى: {وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ...} الآية.

تشريع لقتال الكفّار الصادين عن سبيل اللّه، وبيان أمده فما دام هناك كفر وصد عن سبيل اللّه فالقتال مشرّع، فإذا انتهى الكفر والصد فلا يشرّع القتال.

وقوله: {وَقَٰتِلُوهُمْ} أي قاتلوا الكفّار الذين يصدّون عن سبيل اللّه، فلا يشمل الحكم الكافر الذمي ولا الكافر المعاهد.

ص: 81


1- ([1]) سورة الفتح، الآية: 22-23.
2- ([2]) سورة غافر، الآية: 83-85.
3- ([3]) سورة آل عمران، الآية: 146.

وقوله: {حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} كأن المراد بالفتنة هنا الصد عن سبيل اللّه تعالى ويمكن تعميمه لكل كفر ومعصية.

متى يكون الدين كلّه للّه تعالى

وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} أي الطريقة الحاكمة هي شرع اللّه تعالى، وهذا لا ينافي وجود أهل الذمة لأنّهم محكومون بقوانين الإسلام وإن كانوا أحراراً في الالتزام بدينهم، كما لا ينافي المعاهدة مع الكفّار لأنّ المعاهدة معهم قد شرّعها اللّه تعالى، وتطبيق هذه الآية على جميع الأرض لا يكون إلاّ في زمان الإمام المهدي، وقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: «لم يجئ تأويل هذه الآية، ولو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما بلغ الليل حتّى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال اللّه»((1)).

وقوله: {فَإِنِ انتَهَوْاْ} كأنّ المقصود هنا بالانتهاء هو ترك الفتنة.

وقوله: {بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يظنّوا أنّهم يتمكّنون من خداع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين كما قال: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}((2))، وقيل: إن انتهوا عن الكفر بأن أسلموا فاللّه عالم بأعمالهم، وما ذكرناه بالسياق أنسب.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.

تهديد للمشركين وتقوية لقلوب المؤمنين بأنّهم إن قاتلوا المسلمين فإنّ

ص: 82


1- ([1]) تفسير العيّاشي 2: 56؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 326.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 62.

اللّه ناصرهم ويتولّى أمورهم فلذا ستكون الهزيمة للمشركين حتماً.

قوله: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي لم ينتهوا بأن أعرضوا عن ترك القتال، وقيل: أعرضوا عن الإسلام.

وقوله: {أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ} المولى هنا بمعنى المتولّي للأمور والمدبّر لها والأولى بهم، ويلازم ذلك نصره لهم، وفي ذلك شد لقلوب المؤمنين لئلّا يخشوهم ولا يبالوا بمعاداتهم لهم.

وقوله: {نِعْمَ الْمَوْلَىٰ} إذ لا يضيع من تولّى أمره؛ لأنّه عالم وقادر ولا يخلف الوعد فينجز ما وعده من نصرهم.

وقوله: {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} تأكيد لأنّ كونه نعم المولى يلازم كونه نعم النصير، أو نعم المولى في ما يرتبط بشؤونهم، ونعم النصير في ما يرتبط بأعدائهم بنصر المسلمين عليهم، قال سبحانه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}((1)).

ص: 83


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 160.

الآية 41

اشارة

{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 41}

41- {وَ} كما علمتم أنّ اللّه مولاكم وينصركم ف{اعْلَمُواْ} أنّ له ولرسوله وآله وذويهم حقّاً فعليكم أن لا تنازعوهم فيه ف{أَنَّمَا غَنِمْتُم} استفدتم في حرب أو غيرها {مِّن شَيْءٖ} أي كل شيء قليل أو كثير {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ} وهو الإمام خاصّة، فسهم اللّه تعالى يعطى للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبعده يعطى السهمان للإمام (عليه السلام) مضافاً إلى سهمه، {وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} من بني هاشم خاصّة، فاعلموا ذلك {إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ وَ} آمنتم ب{مَا أَنزَلْنَا} من الآيات {عَلَىٰ عَبْدِنَا} محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يوم غزوة بدر حيث ميّز اللّه فيه الحق عن الباطل {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} وأمّا سائر الغنيمة - وهي أربعة أخماسها - فهي للمجاهدين في الغنيمة الحربيّة، ولأصحابها العاملين فيها في الغنائم غير الحربيّة.

بحوث

الأوّل: قد مرّ في صدر السورة أنّ اللّه تعالى أنفل غنائم غزوة بدر كلّها لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو قسّمها بالسوية بين المجاهدين، ثمّ بعد ذلك منح اللّه

ص: 84

تعالى الغنائم الحربيّة للمجاهدين، بعد أن فرض فيها حقوقاً:

كيفية تقسيم الغنائم

فمنها: صفو المال وهو النفيس منه، كصفايا الملوك وقطائعهم، فجعله للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن بعده للإمام (عليه السلام) .

ومنها: الرَضح وهو العطاء الذي يعطيه الرسول أو الإمام لمن ساعد في الحرب وإن لم يشارك في القتال، كمن أرشد على عورة من عورات الكفّار أو عالج الجرحى أو أعد الطعام ونحوه للمجاهدين.

ومنها: من قتل قتيلاً من المشركين فله سَلَبه.

ومنها: ما يراه الرسول والإمام مصلحة للمسلمين كما أعطى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غنائم حُنين للمؤلّفة قلوبهم من قريش.

ثمّ بعد ذلك إن فاض من الغنيمة شيء استخرج خُمسه (20%) للأصناف الستّة المذكورين في هذه الآية، والباقي (80%) يقسّم بين المقاتلين: للفارس سهمان وللراجل سهم؛ إذ على الفارس نفقه فرسه وقد يصيب الفرس عقر أو جرح فجُبر ذلك بزيادة سهمه.

ثمّ إنّ شأن نزول هذه الآية الغنائم الحربيّة إلاّ أنّ الآية عامّة تشمل الغنيمة الحربيّة وغيرها من الفوائد، كما سيأتي بيانه.

معنى الغنيمة

الثاني: قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ}.

في المفردات: «الغَنَم: معروف...، والغُنْم: إصابته والظفر به، ثمّ استعمل في كل مظفور به من جهة العِدى وغيرهم، قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٖ}، {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلًا طَيِّبًا}((1))، والمغنم: ما يُغنم، وجمعه

ص: 85


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 69.

مغانم، قال: {فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}((1))»((2)).

ومادة (غ ن م) هي كل فائدة، والغنيمة الحربيّة إحدى مصاديقها، وقد مر مراراً أنّ شأن النزول لا يخصص عموم الآيات فكثير من الآيات نزلت في قضايا خاصّة مع كون التشريع فيها عاماً يشمل تلك القضية وغيرها فالعبرة بعموم اللفظ.

وجوب الخمس في كل فائدة

وقد تواترت الروايات عن الأئمّة (عليهم السلام) بأنّ الخمس يجب في كل فائدة وهي: الغنائم الحربيّة، والغوص، والمعدن، و الكنز، وأرباح التجارات والصناعات ونحوهما، مضافاً إلى الحلال المختلط بالحرام من غير تمييز، والأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، والتفصيل يطلب من كتب الفقه، وورد في أحاديث غير الشيعة أيضاً الخمس في غير الغنائم فقد روت العامة عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «وفي الركاز الخمس»((3))، والركاز هو المعدن والغوص، وهناك أحاديث أخرى في كتبهم تدل على أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخذ الخمس من المسلمين أيضاً((4)).

وقوله: {وَاعْلَمُواْ} عطف على قوله: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلَىٰكُمْ...} فالمعنى إن قاتلكم الكفّار فإنّ اللّه مولاكم ونصيركم عليهم وقد جعل لكم أربعة أخماس الغنائم، فالنصر منه والغنيمة لكم، ثمّ إنّ {فَاعْلَمُواْ} يراد به علماً يستتبع العمل.

ص: 86


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 94.
2- ([2]) المفردات للراغب: 615.
3- ([3]) مسلم 5: 128.
4- ([4]) المصنف 4: 116؛ 9: 66؛ الدر المنثور 3: 187.

وقوله: {أَنَّمَا} هي (أنّ) الثقيلة و(ما) الموصولة، والعائد مقدّر لوضوحه، أي أنّ الذي غنمتموه، والخبر قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ...}، ودخلت الفاء على الخبر لأنّه بمعنى الجزاء أي (إن غنمتم فللّه خمسه).

وقوله: {مِّن شَيْءٖ} للتعميم أي كل شيء سواء كان قليلاً أم كثيراً، فلا يجوز منع خمس الشيء الجليل بذريعة عدم حاجة اللّه والرسول والإمام، كما لا يجوز منع خمس الشيء الحقير باعتبار قلّة فائدته أو عدم نفعه.

تقسيم الخمس على ستة أقسام

الثالث: قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.

الآية واضحة جدّاً في تقسيم الخمس على ستّة أقسام، فلا وجه لما زعمه البعض من تقسيمه إلى خمسة أو أربعة! وأضعف منه ما زعمه البعض من أنّ الخمس كلّه يصرف في سبيل اللّه! ولعمري ليس هذا مجرّد تفسير بالرأي فحسب بل هو غلط أيضاً، وإنّما ساقهم إلى ذلك انزعاجهم من سهم ذي القربى فأسقطه أوائلهم فأراد المتأخّرون منهم تبرير فعلتهم!

وقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} سهم اللّه تعالى يكون للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن بعده للإمام (عليه السلام) يصرفه في مصالح الدين ممّا يقرّب إلى اللّه تعالى، وغير خفي أنّ كل الوجود هو ملك اللّه تعالى ف{لِلَّهِ خُمُسَهُ} أريد به صرف سهم اللّه في تلك المصالح فهي ملكيّة اعتباريّة في طول ملكّيته تعالى الحقيقيّة.

وقوله: {وَلِلرَّسُولِ} تكرار اللام فيه وفي {وَلِذِي الْقُرْبَىٰ} للدلالة على ملكّيتهما له، وأمّا سائر الأصناف فهي تصرّف عليهم فإذا أعطوه ملكوه على الأصح لا أنّهم يملكونه قبل إعطائهم، فأمّا الرسول والإمام فهما يملكانه

ص: 87

بمجرّد الاغتنام، ثمّ إنّ سهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ارتحاله يعطى للإمام (عليه السلام) .

وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَىٰ} هو الإمام من أهل البيت (عليهم السلام) خاصّة ولذا أفرد (ذي) ولو أراد كل القرابات للزم أن يقول: (ذوي).

وقوله: {وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} من أقرباء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاصّة وهم بنو هاشم؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى حرّم عليهم زكاة الناس فعوّضهم عن ذلك بنصف الخمس، أمّا اليتامى فيشترط فيهم الفقر، وأمّا ابن السبيل فنقصان نفقته في سفره حتّى لو كان غنيّاً في بلده، وكل ذلك يستفاد من أحاديث الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، والتفصيل يطلب من كتب الفقه.

ثمّ إنّ خبر {فَأَنَّ لِلَّهِ...} مقدّر، أي حق أو ثابت.

الرابع: قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.

{إِن} شرطية ترتبط بقوله: {وَاعْلَمُواْ...} أي علمكم بأنّ الخمس لهؤلاء - علماً يستتبع العمل - إذا كنتم مؤمنين، وبعبارة أخرى: إنّ قوله: {وَاعْلَمُواْ...} قرينة على الجزاء المقدّر، فالمعنى إن كنتم آمنتم فاعلموا - علماً ملحوقاً بالعمل - أنّ الخمس لهؤلاء.

وقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا} أي وإن كنتم آمنتم بما أنزلناه على محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم غزوة بدر، والظاهر أنه يراد به آيات من القرآن، ولعلّه آية الأنفال، فالمعنى إن كنتم آمنتم بالآية التي دلّت على أنّ الغنائم كلّها للّه وللرسول ولا شيء لكم منها فاعلموا أنّ اللّه خفّف عليكم وشرّع الخمس له

ص: 88

وللرسول وللإمام ولسائر الأصناف المذكورة وقد جعل لكم أربعة أخماس، فمن آمن بتلك الآية وهي خلاف مصلحته فلا جرم يؤمن بهذه أيضاً وفيها مصلحة للمجاهدين، وقيل: {مَا أَنزَلْنَا} يعني الملائكة أو النصر الذي أنزله اللّه!

وقوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} الفرقان هو ما يميّز الحق عن الباطل؛ لأنّهما كانا مختلطين فبالقتال تميّزا، وسيأتى قوله: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}((1)).

وقوله: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} تفسير {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} بأنّه يوم الحرب بين جمع المؤمنين وجمع الكفّار في بدر.

الخامس: قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}.

كأنّه تعليل لتشريعه الخمس، أو تعليل لقوله: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا}، أو تعليل لكون ذلك اليوم يوم الفرقان، أو هو مقدمة للآيات التالية حيث بيان ما جرى في غزوة بدر فقدّم له مقدّمة بأنّ اللّه قادر على كل شيء ولذا قدّر ما قدّر وصنع ما صنع.

ص: 89


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 42.

الآيات 42-44

اشارة

{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ 42 إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ 43 وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ 44}

42- ثمّ يفصّل اللّه في بيان يوم الفرقان، فقال: {إِذْ} الوقت الذي كنتم {أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} أي شفير الوادي الذي هو أقرب إلى المدينة وكان موقعاً لا ماء فيه وتسوخ فيه الأقدام {وَهُم} الكفّار {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ} الجانب الأبعد عن المدينة {وَالرَّكْبُ} جمع راكب أي الجماعة الذين كانوا مع القافلة التجاريّة مكاناً {أَسْفَلَ مِنكُمْ} بجانب البحر خلف المشركين الذين جاؤوا ليدافعوا عن قافلتهم فكل الظواهر كانت بصالح المشركين، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} أنتم والكفّار على القتال {لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَٰدِ} لم تخرجوا له حيث كنتم تخافونهم لكثرتهم ويخافونكم لشدّة بطشكم {وَلَٰكِن} اللّه جمعكم من غير ميعاد {لِّيَقْضِيَ} أي لينجّز وينفّذ {اللَّهُ أَمْرًا} هو نصركم وإعزاز الإسلام وأهله {كَانَ مَفْعُولًا} مفروغاً عنه ومحتوماً، وإنّما قضاه لإقامة الحجّة على الفريقين ف{لِّيَهْلِكَ} بالكفر أي ليضل {مَنْ

ص: 90

هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ} أي دليل واضح على بطلان كفره فتتم الحجّة عليه، {وَيَحْيَىٰ}بالإيمان أي يهتدي {مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ} أي برهان شاهَدَه لا يختلجه شك، {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} لأقوال الفريقين {عَلِيمٌ} بنواياهم فلذا يجازي كل فريق بما يستحق.

43- وكان ذلك {إِذْ} أي في الوقت الذي {يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ} يُري اللّهُ الرسولَ رؤيا حول المشركين حيث رآهم {قَلِيلًا} فأخبر أصحابه بقلّة عدد المشركين {وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا} فأخبر أصحابه بكثرتهم {لَّفَشِلْتُمْ} أي لضعفتم عن قتالهم جُبناً وسوء رأي {وَلَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي أمر القتال هل تقدمون على قتالهم أم لا وبذلك كانت تتفرق كلمتكم {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع، {إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي ما في القلوب لذا قدّر من الرؤيا ما فيه تقوية قلوبكم.

44- {وَ} اذكروا {إِذْ} الوقت الذي {يُرِيكُمُوهُمْ} يريكم اللّهُ المشركين {إِذِ الْتَقَيْتُمْ} في ساحة القتال {فِي أَعْيُنِكُمْ} عياناً {قَلِيلًا} لئلّا تهابوهم {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} كي يتجرّؤوا على الهجوم عليكم {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا} هو القتال بينكم {كَانَ مَفْعُولًا} مقدّراً حتماً، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} إذ كل الأمور بقضائه وقدره.

من مقدمات غزوة بدر

بحوث

الأوّل: هذه الآيات فيها بيان بعض تفاصيل غزوة بدر الكبرى ممّا يدل على أنّ اللّه تعالى نصر المسلمين مع أنّ موازين القوى كانت بصالح الكفّار لكن اللّه تعالى أراد أن يُعز الإسلام وأهله ويُذل الكفر وأهله فهيّأ الظروف

ص: 91

ليتقاتل الفريقان ولينهزم الكفّار.

ففي البداية وعد المسلمين إحدى الحسنيين - الظفر بالقافلة أو النصر في المعركة - ولو كان يقال لهم بأن عليهم القتال لما خرج أكثرهم، ثمّ أفلتت القافلة وجاء مشركو مكّة لحمايتها وكان موقعهم في الجانب الأفضل من الوادي حيث الماء وصلابة التربة، وكان موقع المسلمين في الجانب الآخر حيث الأرض رخوة ولا ماء فيها، كما أنّ عزيمة المشركين كانت قويّة لأنّ قافلتهم التجاريّة كانت خلفهم يريدون حمايتها، ثمّ إنّ اللّه أراد اقتحام الفريقين للقتال فلذا أرى رسوله في المنام أنّ المشركين قليلون فأخبر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين بذلك فاشتدّت عزيمتهم، ثمّ لمّا اصطف الجمعان أرى اللّه كلّاً منهم الآخر قليلاً ليقتحموا القتال، وإنّما قدّر اللّه ذلك كلّه لأنّه أراد تحقق القتال إعزازاً لدينه وخزياً للشرك وأهله، وهذا ما حصل حيث إنّ غزوة بدر كانت مفتاح ظفر المسلمين وانتشار الدين، وهكذا إذا أراد اللّه شيئاً هيّأ أسبابه ونفّذ ما أراده.

الثاني: قوله تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ...} الآية.

بيان تفاصيل المعركة لأجل اتّضاح نصر اللّه للمسلمين مع أنّ الظروف الحربيّة كانت بصالح المشركين من كل الجهات.

وقوله: {الْعُدْوَةِ} وهي جانب الوادي، حيث إنّ بدراً يقع في وادي فنزل المسلمون في إحدى الجانبين والمشركون في الجانب الآخر.

وقوله: {الدُّنْيَا} مؤنّث الأدنى أي الأقرب إلى المدينة حيث الموقع غير

ص: 92

مناسب لرخاوة الرمل وعدم الماء فأنزل اللّه المطر ليتطهّروا ولتصلب الأرضكما مرّ في الآية 11.

وقوله: {الْقُصْوَىٰ} مؤنّت الأقصى أي الأبعد عن المدينة وكان صلباً وفيه الماء.

وقوله: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} الركب جمع راكب مثل الصحب وصاحب، والمراد القافلة التجاريّة لقريش فقد أفلتوا إلى جانب البحر فصاروا خلف المشركين، فكانت عزيمة المشركين على القتال أشد وداعيهم للفرار أضعف، وكان من عادة بعض العرب إذا أرادوا الصمود في القتال أن يجعلوا أموالهم ونساءهم وذراريهم خلفهم لتشتد عزيمتهم، و{أَسْفَلَ} أي أبعد عنكم ونصبه على الظرفيّة أي مكاناً أسفل منكم.

وقوله: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} بيان أنّ اللّه هيّأ الظروف، ولولا ذلك لما تقاتل الفريقان حتّى لو اتفقوا وتواعدوا على ذلك؛ لأنّ كل طرف كان يهاب الطرف الآخر وذلك لكثرة عدد وعدّة الكفّار من جهة، ورعب الكفّار من المسلمين من جهة أخرى، وهذا ما حصل في غزوة بدر الصغرى حيث تواعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأبو سفيان يوم أحد على القتال في العام القابل في بدر، فلمّا كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكّة ثمّ ألقى اللّه الرعب عليه فرجع، ثمّ أرسل من يثبّط المسلمين فكرهوا الخروج فلم يخرج مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ القليل وكانوا سبعين نفراً فقط على ما قيل، فخرجوا حتّى وافوا بدراً ولم يلق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأصحابه أحداً من المشركين ببدر، ووافق السوق وكانت لهم تجارات ثمّ انصرفوا سالمين غانمين، وقد

ص: 93

مرّ ذكر هذه الغزوة في سورة آل عمران فراجع((1)).

وقوله: {لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَٰدِ} أي حدث خلاف وشجار في الخروج فلم تكونوا تخرجون ولا هم يخرجون.

وقوله: {وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ} أي ولكن اجتمعتم - أنتم وهم - في هذا المكان للقتال لأنّ اللّه قضاه قضاءً حتماً، والقضاء هو الحكم، والمراد هنا حكمه التكويني.

وقوله: {أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} أي كان من الحكمة تنفيذه وتحقيقه، فلذا كان أمراً مفروغاً عنه، واللّه تعالى قادر على ذلك من غير أسباب لكنّه سبحانه أراد أن يكون عبر الأسباب لذلك هيّأ مقدماته، و{أَمْرًا} هو إعزاز الإسلام وأهله وخزي الكفر وأهله.

الثالث: قوله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ...} الآية.

أي إنّما كان ذلك أمراً مفعولاً مفروغاً عنه في حكمة اللّه لأنّه أراد الحجّة على المؤمنين والكافرين، فأمّا المؤمنون فليكون إيمانهم عن برهان واضح لا يختلجه شك، وأمّا الكفّار فلإتمام الحجّة عليهم ليكون بقاء من بقي على الكفر عن عناد بعد وضوح الحجّة، وقيل: الحياة والهلاك هنا بالمعنى الحقيقي، أي ليكون الجميع من الأموات والأحياء على بيّنة من أمرهم فلا يعيش إنسان ولا يموت إلاّ بعد إكمال الحجّة الواضحة عليه.

وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} بيان أنّ اللّه لا يخفى عليه أقوال ونوايا

ص: 94


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 530-531.

الفريقين، فليس ما أجراه في بدر إلاّ للحجّة على الفريقين مع علمه بذلك لأنّ الجزاء إنّما هو بالعمل والنيّة لا بالعلم.

الرابع: قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَىٰكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ...} الآية.

رؤيا رآها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في منامه فأخبر المسلمين بها رغّبتهم على الجهاد، حيث إنّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رأى المشركين قليلين، ولو كان يراهم كثيرين فأخبر المسلمين به لخارت قواهم وضعف رأيهم وانشقّوا، ولا شك أنّ رؤياه صادقة لأنّ رؤيا الأنبياء وحي وهي جزء من أربعين جزءاً من النبوّة - كما في الخبر((1)) - وليس في رؤياهم أضغاث أحلام، ولا تلبيس الشيطان، وقد كان عدد الكفّار بين التسعمائة والألف وهو عدد قليل بالنظر إلى الواقع وإلى كون معنوياتهم ضعيفة والرعب في قلوبهم، فليس قلّة العدد بالقياس إلى عدد المجاهدين المسلمين كي يقال إنّهم كثير، بل قيل: إنّ تعبير الرؤيا تختلف عن دلالة اليقظة فمنها رموز تدل على أمور خلاف ما تدل عليه في اليقظة كالحزن تعبيره السرور، فما رآه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان تعبيره الكثرة لكنّهم لم يكونوا للرؤيا يعبرون فحملوها على ظاهرها.

وقوله: {لَّفَشِلْتُمْ} الفشل هو الضعف عن جبن.

وقوله: {لَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي تفرّقت كلمتكم في أمر القتال، ولو كان يحصل ذلك لكانوا يتراجعون عن القتال أو كان يرجع الكثير منهم، وبذلك كانت الهزيمة، فالفشل يرتبط بالجانب النفسي، والنزاع يرتبط بالقول وما

ص: 95


1- ([1]) راجع بحار الأنوار 58: 175، 167؛ والأمالي للشيخ الصدوق: 64.

يترتّب عليه من الانسحاب.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أي أنعم عليكم بالسلامة عن الفشل والتنازع فدخلتم القتال موحّدين ذوي معنويات عالية.

وقوله: {ذَاتِ الصُّدُورِ} أي القلوب لأنّها صاحبة الصدر، وحيث إنّ اللّه عالم بما في الصدور لذا قضى بهذه الرؤيا لتقوية قلوبهم لكيلا يفشلوا.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا...} الآية.

هذا بيان حال الاصطفاف للقتال، حيث إنّ اللّه تعالى رغّب كلا الفريقين إلى اقتحام القتال لئلّا يجنحوا إلى السلم، وكان ذلك بأن رأى المسلمون الكفّار قليلاً فعزموا على جهادهم، ورأى الكفّار المسلمين قليلاً فتجرّؤوا على قتالهم؛ وذلك إمّا بسبب طبيعي كتعرجات وتلال بينهما تحجب الرؤية، أو بسبب نفسي لأنّ الحالات النفسيّة تؤثّر في الحواس الظاهرة، أو بسبب ظاهري كحجب مقدّمة الجيش مؤخّرتها، أو بسبب غيبي بالتصرّف في أعين الفريقين، وقد مرّ تفصيل ذلك في الآية 13 من سورة آل عمران((1)).

وقوله: {فِي أَعْيُنِكُمْ} هذا لبيان أنّه لم يكن في المنام بل في اليقظة، وقد قال تعالى في سورة آل عمران: {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}((2))، وهو إمّا بمعنى يرى المسلمون الكفّار ضعفي المسلمين مع أنّهم كانوا ثلاثة أضعاف، أو بمعنى يرى الكفّار المسلمين ضعفين وحينئذٍ فالتقليل قبل

ص: 96


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 49-50.
2- ([2]) سورة آل عمران، الآية: 13.

الاقتحام في الحرب ليتجرّؤوا والتكثير بعد الاقتحام ليخافوا فينهزموا.وقوله: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} هذا ليس تكراراً لما في الآية 42، بل الأمر المفعول هنا هو القتال، وهناك هو إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الكفر وأهله، والحاصل: أنّ اللّه قضى قضاءً حتماً بقتال الفريقين ليتنجّز ما قضاه قضاءً حتماً بنصر الإسلام وهزيمة الكفر.

وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي كل الأمور بقضائه وقدره فإذا أراد شيئاً تحقّق.

ص: 97

الآيات 45-48

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 45 وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ 46 وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ 47 وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ أَعْمَٰلَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ 48}

ثمّ يرشد اللّه المؤمنين إلى كيفيّة الجهاد ليكون النصر حليفهم، فقال:

45- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ} في الحرب {فِئَةً} جماعة كافرة أو باغية {فَاثْبُتُواْ} ولا تنهزموا، {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا} ليكون الجهاد في سبيله {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تظفرون بالنصر والثواب.

46- {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ} في أحكامه، {وَرَسُولَهُ} أطيعوه في أوامره الحربيّة وغيرها، {وَلَا تَنَٰزَعُواْ} بأن تختلفوا حول لقاء العدو {فَتَفْشَلُواْ} لأنّ النزاع سبب ضعف الرأي والجبن وانهيار الجبهة الداخليّة {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوّتكم ودولتكم، {وَاصْبِرُواْ} على ما يصيبكم من المكاره {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ} معيّة حفظ ونصرة.

47- {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم} وهم مشركو مكّة خرجوا

ص: 98

منها لقتال المسلمين {بَطَرًا} وهو تجاوز الحد في المرح بسبب كثرةالنعمة والغفلة عن شكرها {وَرِئَاءَ النَّاسِ} ليمدحهم الناس على شجاعتهم وإطعامهم الطعام، {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون الناس عن دين اللّه تعالى {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} بعمله وقدرته فيقدّر لهم ما يريد ويجازيهم بسوء أعمالهم.

48- {وَ} اذكر {إِذْ} الوقت الذي {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ أَعْمَٰلَهُمْ} بقتال المسلمين حيث وسوس إليهم ليقتحموا الحرب {وَقَالَ} خادعاً لهم: {لَا غَالِبَ لَكُمُ} لقوّتكم وكثرتكم {الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} أي لا أحد من الناس يغلبكم {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} أي مجير لكم وأنتم في ذمّتي لا أدع أحداً ينالكم بسوء، {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} أي تلاقت الفئة المسلمة والفئة الكافرة بأن رأى بعضهم بعضاً فّي ساحة القتال {نَكَصَ} أحجم فرجع {عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} أي رجع القهقرى منهزماً، {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ} أي زايلتكم فلا جوار ولا ذمة بيني وبينكم {إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ} حيث رأى الملائكة وجبرئيل فعلم أنّ الهزيمة لاحقة بالمشركين {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} بأن يعذّبني على أيدي الملائكة فيصيبني مكروه وشين {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} جزاءً على الأعمال، فالجزاء وإن كان يساوي الجريمة لكنّه شديد لا طاقة لهم به.

الأوامر والنواهي التي توجب النصر

بحوث

الأوّل: تتضمّن هذه الآيات مجموعة من الأوامر والنواهي الحربيّة للمسلمين لكي ينتصروا في المعركة، فإنّ اللّه ناصرهم بشرط أن ينصروه بالالتزام بما يقوله وهذا هو التوكّل بأن يعمل الإنسان بما عليه ويعتمد على اللّه تعالى في ما هو خارج عن قدرته، فالأوامر هي: الثبات وذكر اللّه وإطاعة اللّه والرسول

ص: 99

والصبر، والمناهي هي: النزاع والبطر والرياء والصد عن سبيل اللّه والانخداع بتزيين الشيطان، وبالالتزام بالأوامر والنواهي يكون النصر.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ...} الآية.

(الفئة) هي الجماعة والمراد الذين خرجوا لقتال المؤمنين سواء كانوا كفّاراً أم بغاة.

وقوله: {فَاثْبُتُواْ} أي لا تتراجعوا منهزمين بل استقيموا.

وقوله: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا} إذ في وقت الغضب - والحرب تثير أشد الغضب - يخرج الإنسان عن طوره فيجور ويظلم، أو إذا رأى في نفسه قوة يرائي الناس، لكنّه إن كان في ذكر اللّه قلباً ولساناً فإنّه يقاتل في الإطار المشروع فلا يمثّل ولا يقتل الصبية والنساء وغير ذلك من البطش والتنكيل ولا يرائي، مضافاً إلى أن ذكر اللّه يوجب اطمئنان القلب، ودعاءه قد يستجاب فينزل اللّه النصر. و{كَثِيرًا} كأنّه أريد به دائماً في كل الخطوات؛ لأنّ الكثير قد يكون بمعنى الجميع كما أنّ القليل قد يراد به العدم.

وقوله: {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الفلاح هو الفوز والظفر، فكأنّ المراد أنّ الثبات والذكر يوجبان ظفركم على عدوّكم ونيلكم الثواب.

الثالث: قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...} الآية.

إطاعة اللّه تعالى والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل أوامرهما ونواهيهما، وخاصّة أحكام اللّه في القتال وأوامر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الحربيّة، مثلاً نهى اللّه عن الانهزام

ص: 100

وأمر الرسول الرماة بالبقاء في موقعهم يوم أ ُحد فلم يطع أكثر الرماة أمر الرسول ولم يطع أكثر المسلمين أمر اللّه، فكانت الهزيمة.

وقوله: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ} النزاع هو المخاصمة بحيث يريد كل فريق الوصول إلى مبتغاه بأيّ ثمن، وأمّا تداول الرأي والمشورة وترجيح رأي على آخر فليس من النزاع في شيء، والمراد هنا النزاع في قتال العدو أو في كيفيّة قتاله.

وقوله: {فَتَفْشَلُواْ} أي تضعفوا عن جُبن، فإنّ النزاع يوجب انهيار المعنويّات وتشتّت الأفكار والأفعال ويوغر الصدور.

وقوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوّتكم ودولتكم، وأصل الريح بمعنى الهواء الجاري، والاستعمال هنا مجازي أو من باب التشبيه.

وقوله: {وَاصْبِرُواْ} على المكاره، و(الصبر) غير (الثبات)؛ لأنّ الثبات هو عدم الانهزام فقد يكون معه مكروه فيصبر عليه وقد لا يكون.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّٰبِرِينَ} المعيّة هنا بمعنى الحفظ والنصرة والثواب.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ...} الآية.

بيان حال المشركين والتي أدّت إلى هزيمتهم، ونهي المسلمين عن مثلها، وهي البطر والرياء والصد عن سبيل اللّه تعالى والانخداع بتزيين الشيطان، وكأنّ الآيات تبيّن عمل المسلمين والكفّار، فالمسلمون يذكرون اللّه كثيراً والمشركون يراءون الناس، وهؤلاء يطيعون اللّه ورسوله وأولئك زيّن لهم الشيطان أعمالهم فاتبعوه، وهؤلاء يَثبتون وأولئك يصدّون عن

ص: 101

سبيل اللّه، وهؤلاء يصبرون على المكروه وأولئك أبطرتهم النعمة.

وقوله: {بَطَرًا} مصدر بمعنى الفاعل وهو حال أي خروجهم في حال كونهم بطرانين، و(البطر) هو شدّة المرح الناشئ عن النعمة والغفلة عن شكرها، حيث خرج المشركون مع المغنيّات والمعازف والخمور، أرادوا أن يسكروا بالخمر فشربوا كأس المنايا، وأرادوا أن تعزف لهم القيان فناحت عليهم النوائح.

وقوله: {وَرِئَاءَ النَّاسِ} حال ثانية أي حال كونهم يراؤون الناس شجاعتهم وكرمهم بإطعام الطعام؛ لأنّ بدراً كانت سوقاً تجاريّاً يحضرها العرب في الموسم فأرادوا أن ينتصروا ويطعموا ليراهم أهل الموسم وليسمع عنهم أهل الآفاق، فالرياء هنا بمعناه اللغوي، وليس بالاصطلاح الشرعي الذي هو من مصاديق المعنى اللغوي.

وقوله: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} حال ثالثة؛ لأنّهم أرادوا القضاء على الإسلام والمسلمين.

وقوله: {مُحِيطٌ} إحاطة علم وقدرة، فلم يخرجوا عن علمه وقدرته وإنّما أمهلهم ليتوب من يتوب منهم أو يزداد المعاند إثماً.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ أَعْمَٰلَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ...}.

تزيين الشيطان لهم عبر وسوسته في صدروهم تارة، وبتمثّله بصورة سراقة بن جعشم الكناني وإغوائهم بكلامه تارة أخرى كما في الخبر((1))، ولا

ص: 102


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 349، عن أمالي الشيخ الطوسي: 176؛ ومجمع البيان 4: 678-679.

محذور في تمثّل الشياطين أو الملائكة بصورة بشر كما تمثّل هاروت وماروت بصورة بشرين، والشيطان بصورة سراقة أو غيره؛ لأنّ الشياطين والملائكة أجسام لطيفة قد تتكثّف إذا أقدرهم اللّه على ذلك.

وقوله: {زَيَّنَ لَهُمُ...} أي حسّنها في نظرهم، فقد يعلم الإنسان قبح شيء بفطرته أو عقله إلاّ أنّ الكلام المُنمّق وإثارة الهوى والشهوات قد يُريه القبيح حسناً، قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا}((1)).

وقوله: {أَعْمَٰلَهُمْ} الباطلة وخاصّة مقاتلة المسلمين.

وقوله: {وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ...} هذا كلام يتطابق مع الهوى فهو نفخ فيهم وبيان كثرتهم وقوّتهم، والنفوس يستهويها أمثال هذا الكلام.

وقوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} أي مجير لكم وإنّكم في ذمّتي، قيل: إنّ بعض المشركين كان يهاب قبيلة كنانة بأن ينحازوا إلى المسلمين، فلذا تمثل لهم الشيطان بصورة سراقة وهو من كنانة فأجارهم بأن أدخل المشركين في ذمّته فبذلك أمنوا جانب كنانة؛ لأنّ العرب كانت تلتزم بجوار كبرائها وذمّتهم.

وقوله: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} أي تلاقوا في ساحة القتال بحيث رأى بعضهم بعضاً.

وقوله: {نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} رجع القهقرى هارباً منهزماً، و(النكص) هو الإحجام عن جبن، و(العقب) نهاية القدم من خلف، والمنهزم في بداية انهزامه يرجع القهقرى خوفاً من أن يلحقه الطلب ثمّ لمّا يطمئن يولّي وجهه

ص: 103


1- ([1]) سورة فاطر، الآية: 8.

ويدبر.

وقوله: {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ} البراءة هي التباعد عن الشيء ومزايلته، فالشيطان غدر بهم ورجع عمّا زيّنه وضمنه لهم، وإنّما تبرّأ منهم لأنّه أراد أن لا يصيبه ما أصابهم من عذاب اللّه الدنيوي، حيث إنّه لمّا رأى الملائكة وجبرئيل علم بالعذاب وقد كان يعلم بأنّه لا يموت لأنّ اللّه قد وعده الإمهال إلاّ أنّه خاف من أن يضربه جبرئيل بضربة يشينه منها إلى يوم القيامة كما في الخبر((1)).

وقوله: {إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ} هذا تعليل لبراءته منهم، فقد رأى الملائكة ولم يكن المشركون قد رأوهم.

وقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} خوفه من عذابه بأيدي الملائكة وليس خوفاً من المعصية، فالمعنى إنّي أخاف أن يصيبنى مكروه بأمر اللّه تعالى.

ص: 104


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 284.

الآيات 49-54

اشارة

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 49 وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 50 ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِ 51 كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ 52 ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 53 كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَٰلِمِينَ 54}

49- {إِذْ} أي اذكر الوقت الذي {يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ} الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك وهم الذين أسلموا من غير يقين بالإسلام ولا إبطان كفر: {غَرَّ} خدع {هَٰؤُلَاءِ} المسلمين {دِينُهُمْ} حيث خرجوا بعدد وعُدّة قليلة لقتال المشركين الذين هم أضعافهم عدداً وأكثر منهم عُدّة، لكن جوابهم أنّ هؤلاء متوكّلون {وَمَن يَتَوَكَّلْ} أي يعتمد ويكل أمره {عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ} حسبه لأنّه سبحانه {عَزِيزٌ} فلا يُغلب {حَكِيمٌ} فلا يخذل المسلمين بل ينصرهم.

50- وكانت النتيجة غلبة المسلمين وهلاك رؤوس الكفر {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمني أي ليتك أيّها الرائي كنت تشاهد {إِذْ يَتَوَفَّى} يقبض أرواح

ص: 105

{الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَٰئِكَةُ} ملك الموت وأعوانه حال كونهم {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ} كناية عن شمول العذاب لهم {وَ} يقولون لهماستخفافاً وإذلالاً: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} المحرق لأنّ الضرب كان بمقامع من نار.

51- ويقال لهم أيضاً: {ذَٰلِكَ} العذاب {بِمَا قَدَّمَتْ} أي بسبب الأعمال التي كسبتها {أَيْدِيكُمْ} من الكفر والعصيان {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٖ} بذي ظلم {لِّلْعَبِيدِ} عبيده من الناس.

52- كانت عادة كفّار قريش {كَدَأْبِ} أي مثل عادة {ءَالِ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وآله {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} سائر الأمم الكافرة حيث {كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} التي أنزلها على أنبيائه (عليهم السلام) {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أي عاقبهم {بِذُنُوبِهِمْ} أي بسببها فأولئك بالغرق وسائر أنواع الإهلاك وهؤلاء بالسيف والأسر في يوم بدر، حيث {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} لا يضعف عن أخذهم {شَدِيدُ الْعِقَابِ} إذا أخذ، فليس عقابه يسيراً كي لا يخشوا منه.

53- {ذَٰلِكَ} الأخذ هو من سنّة اللّه تعالى التي أجراها في جميع الأمم {بِأَنَّ} أي بسبب أن {اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا} مبدّلاً {نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ} إلى نقمة بالعذاب {حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الحسن إلى السيّء، فغيّر المشركون صلة الرحم إلى معاداة الرسول والمسلمين ومحاربتهم، وبدّلوا الكف إلى تكذيب آيات اللّه وغير ذلك وهكذا آل فرعون وغيرهم، {وَ} بسبب {أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوالهم {عَلِيمٌ} بنواياهم فيعلم التغيير من عدمه.

54- فتغيير اللّه نعمة قريش لمّا اعتادوا على التكذيب {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَ} سائر الأمم {الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} حيث {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ} فكفروا

ص: 106

بنعمته {فَأَهْلَكْنَٰهُم} أهلكنا كفّار قريش والكفّار الذين من قبلهم {بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ} من كفّار قريش والذين من قبلهم وآل فرعون {كَانُواْ ظَٰلِمِينَ} فلم يكن أخذهم إلاّ بظلمهم واستحقاقهم للأخذ.

المنافقون في غزوة أحد

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ...} الآية.

بعد ذكر الكفّار يأتي ذكر أهل النفاق وأهل الشك، وظاهر السياق يقتضي وجود الفريقين حين القتال حيث لمّا رأوا كثرة عدد المشركين وعُدّتهم زعموا بأن لا طاقة للمسلمين على قتالهم وأنّهم قد خُدعوا حيث وقفوا هذا الموقف، ومن ذلك يتّضح أنّ زعم أنّ هذا قول المنافقين الذين كانوا في المدينة! لا يلائم سياق الآيات، وكذا زعم بعضهم أنّ المنافقين هم المشركون! ولعلّ هذه التوجيهات وأمثالها لأجل تنزيه جميع من حضر بدراً من المسلمين عن النفاق!

لكن اللّه يبيّن أنّه عزيز حكيم فينصر من يتوكّل عليه بعزّته وحكمته، وهذا ما تحقق حيث انهزم المشركون.

وقوله: {يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ} المنافق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولم يكن في جيش المشركين منهم أحد إذ مع قوّة المشركين وعدم سكنى من معهم في المدينة لم يكن هناك وجه معقول للنفاق في صفوفهم، وهذا يدل على أنّ بعض الذين كانوا في معسكر المسلمين كانوا من المنافقين والذين خرجوا بطمع غنيمة القافلة التجاريّة فاستقر الحال إلى القتال.

ص: 107

وقوله: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك وعدم يقين بالإسلام، قيل:«إنّهم فتية من قريش أسلموا بمكّة واحتبسهم آباؤهم، فخرجوا مع قريش يوم بدر»((1))، ويمكن أن يكون بعض أهل الشك في صفوف المسلمين أيضاً، ثمّ إنّه قد مر في سورة المائدة الآية 52 أنّ مرض القلب يراد به النفاق إلاّ لو عطف على النفاق فيراد به الشك((2)).

وقوله: {غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ} الغرور هو جهل بخداع، أي زعموا أنّ الإسلام خدع هؤلاء وأغفلهم عن أن لا يعرضوا أنفسهم للإبادة.

وقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ...} جوابهم بأنّ المسلمين ليس مخدوعين، بل دينهم أعزّهم لأنّه وجّههم إلى اللّه تعالى فتوكّلوا عليه، واللّه تعالى ينصر من نصره لأنّه عزيز لا يغلبه أحد، وحكيم فيضع الأمور في مواضعها، ومن ذلك نصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة التي لا تعقل، فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} من وضع السبب مكان المسبب.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}.

كأنّه بيان نتيجة توكّل المسلمين على اللّه العزيز الحكيم وتأكيد على أنّ دينهم لم يغرّهم بل أعزّهم.

وقوله: {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمني ولا جزاء لها، وقيل: جزاؤها مقدّر أي لرأيت أمراً فظيعاً ونحو ذلك، والمخاطب ب{تَرَىٰ} عموم الناس أي ترى

ص: 108


1- ([1]) مجمع البيان 4: 681.
2- ([2]) راجع التفكر في القرآن، سورة المائدة: 188.

أيّها الرائي، أو المخاطب هو رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باعتباره قائد المسلمين فكأنّهأريد المسلمون عبر خطاب قائدهم.

وقوله: {إِذْ يَتَوَفَّى} الوفاة هو القبص الكامل غير منقوص، والمراد الموت بواسطة قبض روحهم.

وقوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ} يضربونهم بمقامع نار من حديد، والمراد إحاطة العذاب بهم، أو ضرب الوجوه والأدبار لإذلالهم لأنّ الوجه محل الكرامة فضربه خزي لهم، وضرب الدبر استخفاف بهم.

وقوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} عطف على {يَضْرِبُونَ} بإضمار القول أي يضربون ويقولون لهم ذوقوا، وفي هذا القول مزيد إذلال لهم.

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِ}.

تعليل لضربهم وعذابهم وأنّه لا زيادة فيه بل بمقدار استحقاقهم.

فقوله: {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} بيان لسبب أصل العذاب، و(الباء) سببّية، و(ما) موصولة، والعائد محذوف، وتخصيص الأيدي بالذكر لأنّ غالب أعمال الإنسان بيديه فتمّ تعميمه لأعمال القلوب والجوارح، والإنسان يقدّم عمله إلى الآخرة فيرسله أوّلاً ثمّ يلتحق هو به، فالمعنى هذا عقاب أعمالكم وهي الكفر والعصيان التي قدّمتموها إلى الآخرة فتجسّمت لكم.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ...} كأنّه بيان أنّ شدّته ليس ظلماً بل هو بمقدار ما يستحقّونه، أو تتمة التعليل أي هذا العذاب هو ما قدّمتموه وليس عذابكم به ظلماً لأنّ اللّه ليس بظلّام للعبيد.

ص: 109

و(ظلّام) قيل: هو للنسبة وليس للمبالغة مثل نجّار وحدّاد وتمّار، وقيل: هو للمبالغة، وفي التقريب: «ومن المحتمل أن تكون مبالغة؛ وذلك لإفادةأنّه سبحانه لو كان ظالماً لكان كثير الظلم؛ لأنّ كل صفة تصح فيه تعالى لا بدّ وأن تبلغ شأناً كثيراً، فنفي المبالغة نفي للأصل»((1))، وفي الكشّاف: «أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذّب بمثله ظلّاماً بليغ الظلم متفاقمه»((2))، وقيل: لأجل كثرة العبيد فحتّى لو كان ظلم كل واحد قليلاً لكان المجموع كثيراً جداً، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كثيراً.

الرابع: قوله تعالى: {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ...} الآية.

بيان أنّ كفر هؤلاء ليس أمراً جديداً كي يقال: لو كان محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسولاً وأراهم الآيات لما كذّبوه! فيقال: إنّ الكفر بالآيات عادة الأمم السابقة، وأنّ اللّه أخذ الأمم السابقة بأليم العذاب، فليس أخذه كفّار قريش إلاّ استمراراً لما صنعه بأولئك؛ وذلك لأنّ اللّه قوي وعقابه شديد لا يستهان به.

وقوله: {كَدَأْبِ} خبر لمبتدأ مقدّر أي دأب مشركي قريش كدأب أولئك، و(الدأب) العادة الدائمة المستمرّة الاختياريّة، قيل: «إن العادة على ضربين اختيار واضطرار، ... والدأب لا يكون إلاّ اختياراً»((3)).

وقوله: {ءَالِ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وآله، و(الآل) هم الخواص في النسب، ولعلّ ذكر خصوص آل فرعون ثمّ التعميم لكل الأمم الكافرة لأجل شباهة

ص: 110


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 345.
2- ([2]) الكشّاف 2: 229.
3- ([3]) معجم الفروق اللغوية: 346.

مشركي قريش بهم من جهة قرابة بعضهم بعضاً في النسب،ومن جهة كون الرئاسة لهم كآل فرعون، أو لأنّهم خرجوا من ديارهم في طلب موسى (عليه السلام) وقومه وهؤلاء خرجوا لمحاربة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من ديارهم، أو لأنّ اللّه أخذ أولئك رغم قوّتهم وعدّتهم بالإعجاز حيث أغرقهم، وهكذا أخذ هؤلاء بالنصر الذي أنزله مع الملائكة رغم كثرة عددهم وعدّتهم.

وقوله: {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} الظاهر رجوع الضمير إلى مشركي مكّة، ويحتمل رجوعه إلى آل فرعون، والأوّل أنسب.

وقوله: {كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} فلم يكن كفراً عن غفلة بل رأوا الآيات وعاندوا في كفرهم.

وقوله: {بِذُنُوبِهِمْ} بيان سبب الأخذ أي عدلاً منه لأنّه عاقبهم على ما اقترفوه من جرائم.

وقوله: {قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} بيان عدم عجزه تعالى عن الأخذ لأنّه قوي وعدم عجزه عن معادلة عقابهم بجريمتهم فهو شديد العقاب، وفيه تحذير لمن يزعم أنّ عقابه هيّن يمكن تحمّله كما زعمت اليهود حيث قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}((1)).

سبب عدم تغيير النعمة إلى نقمة

الخامس: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ...} الآية.

بيان لسنّة عامّة من سنن اللّه تعالى التي لا تحويل لها وتجري على جميع الأمم، وهي أنّ النعم التي أنعم اللّه بها عليهم لا يبدّلها إلى نقمة لطفاً منه

ص: 111


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 80.

ورحمة، إلاّ حين كفرانها فإنّ اللّه حينئذٍ يسلبها منهم كما قال: {لَئِن شَكَرْتُمْلَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}((1)).

وكان مشركو مكّة قبل البعثة يصلون الرحم ولم يكونوا يكذّبون بآيات اللّه بل كانوا يفتخرون بأمثال إهلاك أصحاب الفيل ونحو ذلك فكان اللّه قد أنعم عليهم بالأمن والرفاه، فلمّا أرسل اللّه رسوله محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليهم قطعوا رحمه وكذّبوا بآيات اللّه، فأخرج اللّه رسوله منهم، ثمّ عذّبهم بسيوف المسلمين وبالملائكة يوم بدر كآل فرعون.

وبذلك يتّضح جواب سؤال: أنّ قريش كانت كافرة عاملة بالقبائح فكيف أنعم اللّه عليهم ولم يغيّر النعمة إلاّ بعد تكذيبهم رسول اللّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ إذ الجواب: إنّ بعض الحالات الحسنة للكفّار وحتّى بعض الحالات غير السيّئة تقتضي نعمة عليهم بلطف اللّه وكرمه.

وقيل: إنّ اللّه يبتدأ الجميع بالنعمة فإن استمروا على ما هم عليه لا يسلبها منهم، وإن غيّروا سلبها منهم، فتارة هم يتحوّلون من الحسن إلى السيّء، وتارة من السيّء إلى الأسوء! وما ذكرناه أظهر.

وتبديل النعمة قد يكون بطريقة غيبيّة، وقد يكون بطريقة طبيعيّة، وقد يكون بهما معاً، مثلاً المجتمع الذي ينعم بالأمن إذا بدأوا بالظلم والقتل والسرقة ينعدم الأمن فيهم، وقد يسلّط اللّه عليهم ظالماً يسومهم سوء العذاب عقوبة لهم، ومشركو مكّة لمّا غيّروا سلب اللّه منهم نعمة الأمان وحرّية التجارة وأهلك جمعاً منهم وأسر آخرين بأيدي المسلمين، قالسبحانه:

ص: 112


1- ([1]) سورة إبراهيم، الآية: 7.

{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}((1)).

وحيث إنّ مورد هذه الآية تبديل النعمة إلى نقمة بسوء عملهم لذلك خص الكلام بها، وإلاّ فالسنّة عامّة تشمل هذا التغيير وكذا تغيير المعصية إلى الطاعة فيبدّل اللّه العذاب إلى نعمة كما حصل لقوم يونس حيث تضرّعوا فرفع اللّه العقاب عنهم، والآية العامّة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}((2)).

وقوله: {لَمْ يَكُ} أي سنته جرت على ذلك لأنّ ذلك متطابق مع الحكمة.

وقوله: {مَا بِأَنفُسِهِمْ} سواء نواياهم أم أعمالهم.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تعليل ثان في طول التعليل الأوّل، أي أخذهم بذنوبهم لأنّه عالم بهم وبأفعالهم فكأنّ المعنى أذنبوا فعلم بهم فأخذهم، ولعلّ ذكر السمع هنا لأجل أنّ تكذيبهم باللسان عادة مضافاً إلى القلوب، فهو تعالى يسمع ما قالوا ويعلم بما نووا.

السادس: قوله تعالى: {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ...} الآية.

هذا وإن كان بظاهره تكراراً لما في الآية 52، إلاّ أنّ اختلاف الغرض يرفع التكرار، وبحسب اختلافه تغيّرت بعض الكلمات، فالأوّل في العقاب مع عدم ظلم اللّه لهم فيه، والثاني في سلب النعمة مع ظلمهم لأنفسهم، فحيث ذكر أوّلاً {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِ} ذكر

ص: 113


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 52.
2- ([2]) سورة الرعد، الآية: 11.

له مثالاً من آل فرعون وغيرهم حيث كفروا وأذنبوا فعاقبهم اللّه بذنوبهم من غير ظلم لهم، ثمّ لمّا ذكر السنة العامّة {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً...} ذكر له مثالاً من آل فرعون و غيرهم حيث سلب اللّه النعمة وأبدلها إلى النقمة، ولذا ذكر في الأولى {كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} وفي الثانية {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ}؛ لأنّ الرب هو المصلح للشأن فأنعم عليهم بالآيات فكذّبوها وذلك كفرانهم للنعمة فسلبها منهم.

والحاصل: أنّ الآية الأولى مثال للعقاب من غير ظلم من اللّه لهم، والآية الثانية مثال لسلب النعمة وتبديلها إلى نقمة بسبب ظلمهم لأنفسهم، واللّه العالم.

وإذا فرض أنّه تكرار فلحكمة ففي التقريب: «وإنّما كرّر لتأكيد أنّ الحالة هي الحالة، فإنّ كثيراً من الناس لا يصدّقون أنّ ما جرى في الأمم السابقة تجري في هذه الأمّة، ولذا يحتاج الأمر إلى تركيز وتقرير، وذلك لا يكون إلاّ بالتكرار والتذكير مرّة فمرّة»((1))، وفي مجمع البيان: «وإنّما كرّر قوله: {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} لأنّه أراد بالأوّل بيان حالهم في استحقاق عذاب الآخرة، وفي الثاني بيان استحقاقهم لعذاب الدنيا. وقيل: إنّ في الأوّل تشبيه حالهم بحال أولئك في التكذيب، وفي الثاني تشبيه حالهم بحالهم في الاستئصال. وقيل: إنّ الأوّل في أخذهم بالعذاب، والثاني في كيفيّة العذاب، وقيل: إنّ آل فرعون كانوا على أحوال مختلفة في المعصية، فبيّن مشاركة هؤلاء إيّاهم في تلك الأحوال»((2)).

ص: 114


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 347.
2- ([2]) مجمع البيان 4: 685.

وقوله: {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ} هذا منهم كفران النعمة؛ لأنّ الآيات نعمة لهم كان عليهم أن يشكروها بالتصديق بها وبالعمل على مقتضاها، ولذا قال: {رَبِّهِمْ}.

وقوله: {فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ} كأنّ ذكر الذنوب للتعميم لتشمل تكذيب الآيات وغيرها، فسائر الذنوب ما كانت سبباً للإهلاك إلاّ أنّه لمّا انضم التكذيب إليها أوجبت جميعها الإهلاك.

وقوله: {وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ} ذكر الخاص بعد العام حيث ذكر في التكذيب آل فرعون بالخصوص ثمّ ذكر تكذيب سائر الأمم، فكذلك في العذاب ذكر عذاب سائر الأمم ثمّ عذاب آل فرعون.

وقوله: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَٰلِمِينَ} بيان أنّ العذاب كان باستحقاقهم لظلمهم أنفسهم، وذلك بعد أن نفي الظلم عن اللّه سبحانه في الآيات السابقة.

ص: 115

الآيات 55-59

اشارة

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 55 الَّذِينَ عَٰهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٖ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ 56 فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 57 وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ 58 وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ 59}

بعد ذكر المشركين والمنافقين يذكر اللّه تعالى أهل الكتاب في حربهم مع المسلمين، فقال:

55- {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} أسوء الموجودات الحيّة {عِندَ اللَّهِ} أي في حكمه تعالى {الَّذِينَ كَفَرُواْ} بعناد وإصرار {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لا يتوقّع إيمانهم أصلاً.

56- وهم {الَّذِينَ عَٰهَدتَّ مِنْهُمْ} أي من الكفّار و«من» للتبعيض {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} لا يفون به {فِي كُلِّ مَرَّةٖ} فكلّما عاهدوا نقضوه {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} لا يخافون اللّه أو لا يخافون عاقبة غدرهم، قيل: هم يهود بني قريظة نقضوا العهد ثمّ جدّد المسلمون العهد معهم فنقضوه مرّة أخرى.

57- {فَإِمَّا} «إن» شرطيّة و«ما» للتأكيد {تَثْقَفَنَّهُمْ} أي ظفرت بهم {فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم} أي فرّق بسبب التنكيل بهم {مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي سائر الكفّار لأنّ عقوبتهم لنقضهم العهد عبرة لسائر الكفّار وللمعاهدين منهم

ص: 116

{لَعَلَّهُمْ} أي لعلّ من خلفهم {يَذَّكَّرُونَ} يتّعظون فيعلمون أنّ نقض العهد عقوبته شديدة.

58- {وَإِمَّا} «إن» شرطية «وما» للتأكيد {تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} أي نقضاً للعهد حيث ظهرت أماراته وعلائمه {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} أي أخبرهم بانتهاء العهد معهم {عَلَىٰ سَوَاءٍ} أي بالعدل، فكما نقضوا عهدهم فاترك عهدك معهم لكن مع إخبارهم بذلك لئلّا تباغتهم فيعتبروه خيانة منك ف{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} أي يعاقبهم.

59- ولمّا أمر اللّه بالحرب وعد بالنصر فقال: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} لا يظن {الَّذِينَ كَفَرُواْ} بأنّهم {سَبَقُواْ} فاتوا من أن يظفر بهم؛ إذ {إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} أي لا يجدون المسلمين عاجزين عن الظفر بهم؛ وذلك لأنّ اللّه ناصرهم، قيل: نزلت في المنهزمين من المشركين لمّا أرادوا جمع فلولهم والرجوع لقتال المسلمين.

أهل الكتاب الذين غدروا بالمسلمين في غزوة بدر

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر اللّه تعالى المشركين المحاربين ثمّ المنافقين عطف عليهم ذكر أهل الكتاب من اليهود الذين عاهدوا المسلمين فغدروا بهم، وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة.

فأمّا بنو قينقاع فقد ظاهروا المشركين يوم بدر فلمّا ظفر المسلمون بالمشركين خرجوا إليهم وحاصروهم فنزلوا على حكم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمرهم بالخروج من المدينة فخرجوا إلى الشام بنسائهم وذراريهم.

وأمّا بنو النضير فأرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأمرهم بالجلاء من المدينة

ص: 117

فأبوا إلى أن اضطروا إلى ذلك.

وأمّا بنو قريظة فنقضوا العهد حيث أعانوا مشركي مكّة بالسلاح، ثمّ اعتذروا بأنّهم نسوا العهد، فجدّد المسلمون عهدهم، لكنّهم نقضوه مرّة أخرى في غزوة الأحزاب، فحاصرهم المسلمون، ثمّ نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان حليفهم في الجاهليّة فحكم بقتل المقاتلين منهم.

وهذه الآيات تشير إلى هذه الطوائف وكيفيّة التعامل معهم، وأمّا تفصيل جلاء بني النضير ففي سورة الحشر، وتفصيل ما جرى على بني قريظة ففي سورة الأحزاب.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}.

شأن نزول الآية بنو قريظة، وتأويلها ببني أمية كما في الخبر((1))، وهذه الآية بمعنى ما مرّ في قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}((2)).

وقد مرّ أنّ (الدابة) كل موجود حي يتحرّك على وجه الأرض، واستعمل في خصوص البهائم، وهؤلاء كالبهائم في عدم تعقّلهم.

وقوله: {شَرَّ الدَّوَابِّ} أي أسوءها جميعاً لأنّهم عطّلوا عقولهم، و{شَرَّ} هنا إمّا للتفضيل حيث إنّ بعض الدواب كالسامّة فيها شر، أو منسلخ عن التفضيل كما يقال: المؤمن خير من المنافق مع أنّ المنافق لا خير فيه.

ص: 118


1- ([1]) البرهان في تفسير القرآن 4: 351.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 22-23.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} أي في حكمه سواء التشريعي بجعل أحكام عليهمتجعلهم دون الدواب، أم التكويني بخلقهم من طينة سجّين وبقضاء جهنّم عليهم، وغير ذلك.

وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُواْ} المراد المعاندون منهم بقرينة قوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ إذ الفاء عطف الجملة على الجملة ويراد به رسوخ الكفر فيهم بحيث لا يرجى إيمانهم وهذا هو المعاند المصر على كفره.

الثالث: قوله تعالى: {الَّذِينَ عَٰهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٖ...} الآية.

بدل البعض من الكل، لبيان أنّ المقصود من الكفّار الذين لا يؤمنون في الآية السابقة هم الناقضون للعهد؛ لأنّ الكافر المعاند شر، وشر منه الكافر المعاند الناقض للعهد لأنّه زاد الخيانة والغدر إلى كفره وعناده.

وقوله: {الَّذِينَ عَٰهَدتَّ مِنْهُمْ} أي من الكفّار وهم بنو قريظة كما مرّ، ومن للتبعيض، حيث عاهدهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا يمالئوا عليه عدوّاً.

وقوله: {فِي كُلِّ مَرَّةٖ} الظاهر أنّه كان العهد معهم مرّتين، مرّة حين قدوم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المدينة المنوّرة، ومرّة أخرى قبل غزوة الخندق، لكن كان الغدر طبيعتهم كلّما شعروا بضعف المسلمين، فلذا لو كان يجدِّد العهد معهم مرّة ثالثة لنقضوه، وهكذا.

وقوله: {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} أي لا يخافون عقاب اللّه، أو لا يخافون عاقبة الغدر من العار والضرر الذي سيلحق بهم.

الرابع: قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ...} الآية.

ص: 119

هؤلاء لم يكونوا يستحقّون الرحمة بهم ولا تجديد العهد معهم؛ لأنّهمغدروا مرّتين، وخاصّة المرّة الثانية حيث حاصرت الأحزاب المسلمين، ولم يكن للمسلمين طاقة لقتالهم، ولذا اضطروا إلى حفر خندق لئلّا يقع قتال مباشر، فكانت خيانة حين الحرب وهي أشد أنواع الخيانة، ولذا أمر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يعاقبهم على خيانتهم حال الحرب ليكونوا عبرة لسائر الناس كي لا يفكّر أحد منهم في نقض العهد.

وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} هي (إن) الشرطيّة و(ما) التأكيديّة ولحوقها يجوّز تأكيد الفعل بنون التأكيد، و(الثقف) هو الظفر بالشيء وإدراكه.

وقوله: {فَشَرِّدْ بِهِم} أي نكّل بهم عقوبة لهم وعبرة لغيرهم بإلقاء الرعب في قلوبهم لئلّا يهمّوا بنقض العهد، و(التشريد) هو التفريق على اضطراب.

وقوله: {مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي سائر الكافرين من المعاهدين وغيرهم الذين لم يحاربوك.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} الضمير يرجع إلى {مَّنْ خَلْفَهُمْ}، أي برجاء اتعاظهم بما جرى على هؤلاء من العقاب كي لا ينقضوا العهد؛ وذلك لأن مراعاة المعاهدات من أهم الأمور التي توجب الأمن، فعدم احترامها يوجب عدم فائدتها، فحفظ المعاهدات عن طريق عقوبة الناقض من الأمور التي يحث عليها العقل والعقلاء بعد الشرع.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ...} الآية.

شأن نزولها بنو النضير وبنو قينقاع حيث ظهرت منهم علائم الخيانة، والحكم العقلي والشرعي هو عدم صحّة الاستمرار في العهد معهم وهم

ص: 120

يتحيّنون الفُرص للإيقاع بمن عاهدهم، فإنّ العهود لأجل إيجاد الأمن، ولاأمن مع إرادتهم الخيانة وظهور بوادرها، وحينئذٍ لا بدّ من إعلامهم بانتهاء المعاهدة دون المبادرة إلى مقاتلتهم ومباغتتهم فإنّ ذلك خيانة وغدر بهم، أمّا مع الإعلان فذلك امتثال لنداء العقل بعدم الاستمرار في المعاهدة، ولنداء الأخلاق بعدم الخيانة والغدر بهم.

وقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ} ليس خوفاً اعتباطيّاً فذلك وسوسة، وإنّما هو خوف عقلائي منشؤه ظهور أمارات الخيانة فيهم، كما فعل بنو النضير حيث أرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإلقاء رحى عليه حينما استراح عند حصنهم وكان (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد ذهب إليهم بنفسه ليستعين بهم على جمع دية قتيل، بمقتضى المعاهدة معهم.

وقوله: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} النبذ هو الإلقاء والطرح، والمراد هنا إخبارهم بانتهاء العهد وإعلامهم بقصد قتالهم.

وقوله: {عَلَىٰ سَوَاءٍ} أي كي يكون الطرفان متساويين في الأمر، لا أن يكونوا هم بصدد المباغتة والخيانة وتكونوا أنتم في أمن ودعة، أو بمعنى كما هم نقضوا العهد فكذلك أنتم أنهوا العهد معهم لتكونوا متساويين في عدم المعاهدة.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} تعليل لإخبارهم؛ لأنّ عدم إخبارهم بانتهاء المعاهدة هو بمعنى استمرارها فيكون قتالهم نقضاً للعهد وهو خيانة، أو بمعنى أنّ إنهاءكم المعاهدة معهم هو جزاء خيانتهم فاللّه يعاقب الخائن بأن أمركم بإنهاء العهد معه.

وقد مرّ أنّ حب اللّه وعدم حبّه هو بمعنى الثواب والعقاب لأنّه سبحانه

ص: 121

ليس محلّاً للحوادث وليست له كيفيّات نفسانيّة سبحانه وتعالى عمّا يصفون.السادس: قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}.

إمّا هذا بيان صنف آخر من الكفّار وهم المنهزمون الذين نجوا بجلدتهم ثمّ عزموا الرجوع إلى قتال المسلمين بعد جمع فلولهم فقوله: {سَبَقُواْ} بمعنى هربوا وفاتوا الطلب، وإمّا من تتمة الآية السابقة وهو تحذير لمن نقض العهد فمعنى {سَبَقُواْ} فازوا بالسبق ومن فرصة مباغتة المسلمين.

وقوله: {لَا يُعْجِزُونَ} أي لا يجدون المسلمين عاجزين عن إدراكهم، أو بمعنى إنّ اللّه ليس بعاجز عن عقوبتهم؛ إذ هم في قبضته تعالى أينما كانوا.

ص: 122

الآيات 60-63

اشارة

{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ 60 وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 61 وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 62 وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 63}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى كيفيّة مواجهة الكفّار، فقال:

60- {وَأَعِدُّواْ لَهُم} هيأوا لقتال الكفّار {مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ} كل ما يتقوّى به في الحرب، فيشمل السلاح وغيره، والقوّة المادّيّة والمعنويّة، ومن ذلك الرمي {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} أي الخيل التي تربط بمعنى الاستعداد الدائم، وسبب هذا الإعداد، {تُرْهِبُونَ بِهِ} بالإعداد أو الرباط {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} أي الكفّار المحاربين علناً كمشركي مكّة {وَءَاخَرِينَ} سائر الكفّار {مِن دُونِهِمْ} أي من غير الأعداء المكشوفين كالكفّار الذين لا حرب بينكم وبينهم ولا يظهرون عداوتكم لكنّهم يضمرونها {لَا تَعْلَمُونَهُمُ} بأعيانهم {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} لأنّه المطلّع على الضمائر فلذا أمركم بالاستعداد الدائم كي لا يباغتوكم، وحيث إنّ إعداد القوّة والرباط يستلزم صرف الأموال فقال: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} و«من» للتعميم أي

ص: 123

كل شيء حتّى لو كان يسيراً {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يرجع إليكم في الدنيا بالأمنوالغنيمة وفي الآخرة بالثواب {وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} أي لا ينقص أجركم.

61- {وَإِن جَنَحُواْ} مال الكفّار {لِلسَّلْمِ} المصالحة والمسالمة {فَاجْنَحْ} أي عليك أن تميل {لَهَا} إلى السلم {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} اعتمد عليه وثق به فلا تخش فوات الفرصة، {إِنَّهُ} تعالى {هُوَ السَّمِيعُ} للأقوال {الْعَلِيمُ} بالنيّات فيعلم ما يريدون من جنوحهم إلى السلم فلا يفوته غادر.

62- {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} باقتراحهم السلم لأجل تجميع قواهم ثمّ الغدر بك {فَإِنَّ حَسْبَكَ} يكفيك {اللَّهُ} في رد كيدهم؛ إذ {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ} قوّاك {بِنَصْرِهِ} حيث نصرك في بدر بالملائكة وبعلي بن أبي طالب (عليه السلام) {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} كالأنصار، فإنّ اللّه هو الذي هداهم ومكّنك من أن تقاتل بهم الكفّار.

63- {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} جمعها ولائم بينها بعد طول عداء {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} لأجل تأليفها {مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} لأنّ المال لا يزيد إلاّ عداوة {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} - غيبيّاً وطبيعيّاً - بتصفية القلوب، فإنّ الدين يزيل العداوة وأسبابها، {إِنَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره إذا أراد شيئاً أوجده {حَكِيمٌ} بحكمته يدبّر الأمور ومنه التأليف بين القلوب.

كيفية القتال مع الكفّار

بحوث

الأوّل: هذه الآيات تبيّن كيفيّة التعامل مع الكفّار، فمن جهة لا بدّ أن يكون المسلمون على أتم الاستعداد للقتال لئلّا يباغتهم الكفّار، وأن يتسلّحوا بما يمكنهم من قوّة لئلّا يطمعوا فيهم بل ليرهبوهم فلا يقدموا على مقاتلتهم،

ص: 124

ومن جهة أخرى لو أراد الكفّار المسالمة بعدم الحرب أو بمعاهدةفليسالمهم المسلمون، وعليهم أن لا يخافوا أن يكون جنوحهم للسلم مكراً وخداعاً لأنّ اللّه والمؤمنين لهم بالمرصاد، فاللّه تعالى ينصر من نصره والمؤمنون مستعدّون دائماً، وهذا ما حصل حيث عاهد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يهود المدينة المنوّرة فنقضوا العهد فسلّط اللّه المؤمنين عليهم بغنيمة ديارهم وأموالهم تارة، وبقتل جمع منهم وأسر آخرين تارة أخرى، وهكذا حصل مع مشركي مكّة حيث صالحهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الحديبيّة، فلمّا نقضوا العهد فتح اللّه مكّة له وكسر شوكة الشرك وأهله.

الثاني: قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ...} الآية.

بيان أن لا يتوانى المسلمون في الاستعداد للحرب من جهتين:

إحداهما: أن تكون قوّتهم الحربيّة بأقصى حد يتمكّنون منه فلا يقولوا بأنّه يكفيهم ما عندهم من قوّة بل عليهم أن يزيدوها ما تمكّنوا.

والثانية: الحذر والالتفات المستمر حيث لا تكفي القوّة بدون الجاهزيّة للحرب، فما أكثر الدول التي كانت تمتلك أسلحة أقوى وأكثر من عدوّها لكن العدو باغتها بحيث لم تتمكّن من استعمال تلك القوّة، فقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ} بيان للجهة الأولى، وقوله: {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} بيان للجهة الثانية؛ لأنّ معنى الرباط جاهزيّة الخيل والمقاتلين لصد هجمات الأعداء ومباغتتهم.

وقوله: {مِّن قُوَّةٖ} «من» للتعميم بأن لا يستهين الإنسان بالقوّة الصغيرة ولا يستصعب القوّة الكبيرة، ومن مصاديق القوّة الرمي وآلاته، فما ورد في

ص: 125

بعض الأخبار من تفسير القوّة بالرمي((1)) والسيف والترس((2)) هو بيان للمصداق، وكان سبب هزيمة المسلمين في غزوة أ ُحد تخلية الرماة مواقعهم الحربيّة ممّا فتح ثغراً استغلّه المشركون للّهجوم على المسلمين من خلفهم، كما أنّ القوّة أعم من السلاح المادي والنفسي، وكان المسلمون يختضبون بالسواد لئلّا يظهر الشيب عليهم، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية أنّه قال: «ومنه الخضاب بالسواد»((3))، والحاصل: أنّ القوّة تشمل كل ما ينفع في الحرب من سلاح أو غيره.

وقوله: {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} عطف على قوّة، أي ما استطعتم من رباط الخيل، والربط هو الشد أيسر من العقد، ورباط الخيل ربطها للجهاد، أو مواضع ربطها بأن تكون جاهزة دائماً.

وقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ} الرهبة هي طول الخوف واستمراره((4))، فالمعنى أن لا يكونوا في اطمئنان من غفلتكم بل ليكن خوفهم مستمرّاً وهذا الخوف هو أقوى رادع لهم عن محاربتكم.

وقوله: {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} عام وإن كان شأن النزول مشركي مكّة، فأمّا عداوتهم للّه فبسبب كفرهم وعصيانهم، وأمّا عداوتهم لكم فحسداً وحقداً وثأراً لقتلاهم، وهذا في الأعداء ظاهري العداوة.

وقوله: {وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي غير أولئك الأعداء الظاهرين، وهم كل

ص: 126


1- ([1]) الكافي 5: 49.
2- ([2]) تفسير العيّاشي 2: 66.
3- ([3]) من لا يحضره الفقيه 1: 123؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 354.
4- ([4]) راجع معجم الفروق اللغوية: 261.

عدو آخر فقوله: {مِن دُونِهِمْ} أي غيرهم، وليس بمعنى الأقل منهم عداوة، وذلك كسائر الكفّار الذين لم يكن لهم معكم موجب ظاهر للعداوة بل قد يكونون معاهدين لكم لكنّهم يعادونكم في الباطن ويتحيّنون الفرص لمباغتتكم.

وقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} كأنّه حث وتحريض على عدم التماهل وعدم حسن الظن بالكفّار، فعدم علمكم ليس دليلاً على عدم عداوتهم، لكن اللّه يعلم لذا أمركم بالقوّة والجاهزيّة.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.

حيث إنّ إعداد القوّة والرباط بحاجة إلى أموال، لذا يحث اللّه المسلمين على المساهمة في الإنفاق الحربي بما يستطيعون ولو بالشيء القليل فإنّ ذلك لا يضيع بل يعود نفعه إليهم.

وقوله: {مِن شَيْءٖ} للتعميم لئلّا يستقل الفقير إنفاقه، فإنّ القليل قد ينفع في ساحة القتال، وقد يجتمع القليل فيصير كثيراً.

وقوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي يرد إليكم جزاؤه وافياً كاملاً غير منقوص، وهذا الجزاء في الدنيا والآخرة، أمّا في الآخرة فواضح لأنّ اللّه يجازي المؤمن بعمله الخير، وأمّا في الدنيا فلأنّ الناس ينعمون بالأمن والسلامة بسبب القوّة الدفاعيّة لبلدهم، وكلّما أنفقوا أكثر كانت القوّة أشد فكان الأمن والسلامة أدوم، وقد يكون ذلك غنيمة المجاهدين حيث إنّهم أنفقوا على سلاحهم وخيولهم فعادت إليهم غنائم.

ص: 127

وقوله: {وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} أي لا ينقص ما استحققتموه من الجزاء.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

بيان حالة أخرى وهي ما لو أراد الكفّار عدم الحرب أو أرادوا الصلح فهنا يجوز الميل إلى السلم مع التوكّل على اللّه تعالى، وليست الآية منسوخة بالأمر بالجهاد وقتل المشركين؛ وذلك لعدم التنافي، إذ قد تكون المصلحة في القتال وقد تكون المصلحة في الهدنة أو المصالحة، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأولو الأمر (عليهم السلام) يراعون في كل مورد ما فيه الحكمة.

وقوله: {جَنَحُواْ} الجنوح هو الميل ومنه جناح الطائر لأنّ فيه ميلاً.

وقوله: {لِلسَّلْمِ} هو أعم من المصالحة والهدنة، وإنّما سُمّي سلماً لسلامة الناس من القتل والجرح والأسر وسائر أضرار الحرب.

وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} بأن ينصرك ويؤيّدك، ولعلّ المقصود أن لا تخف من فوات الفرصة؛ لأنّه قد يكون السلم أحمد عاقبة مع وصولك إلى هدفك بأقل الخسائر، كما حصل في الحديبيّة في السنة السادسة حيث كان يتمكّن المسلمون من فتح مكة عنوة لكن مع إراقة دماء كثيرة إلاّ أنّ الصلح فتح لهم باباً من الأمن لنشر الدين ومن ثَمّ لمّا نقض المشركون العهد فتحوا مكّة بدون خسارة لا في الأرواح ولا في الأموال، والحاصل: أنّ التوكّل ليس خاصاً بالحرب أو الحالات الصعبة بل في جميع الحالات، وهو يقتضى عمل الإنسان بما يستطيع عليه وأداء الوظائف، والاعتماد في ما هو خارج عن قدرته ووظيفته على اللّه تعالى.

ص: 128

وقوله: {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يسمع أقوالهم في السلم ويعلم بضمائرهم من جنوحهم إليها، وهذا تحذير لهم وللمسلمين من الغدر والخيانة، وفي تفسير القمي: «وفزع أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين نظروا إلى كثرة قريش وقوّتهم، فأنزل اللّه على رسوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وقد علم اللّه أنّهم لا يجنحون ولا يجيبون إلى السلم، وإنّما أراد اللّه بذلك لتطيب قلوب أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فبعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى قريش فقال: يا معشر قريش، ما أحد من العرب أبغض إليّ من أن أبدأكم، فخلّوني والعرب، فإن أكُ صادقاً فأنتم أعلى بي عيناً وإن أكُ كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري فارجعوا...»((1)).

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.

أي لو كان قصدهم من الجنوح للسلم هو الخداع ليجدوا فرصة تجميع القوى والمباغتة والغدر فلا يضرك ذلك؛ لأنّ اللّه ناصرك، والمؤمنون مستعدّون متهيؤون، كما حصل مع بني قريظة وغيرهم حيث خانوا وغدروا فأخزاهم اللّه تعالى.

وقوله: {حَسْبَكَ اللَّهُ} أي يكفيك اللّه شرّهم ويتولّى أمرك بالطريق الغيبي والطبيعي، كما حصل في غزوة بدر حيث أيّده اللّه تعالى بالملائكة وبأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وبسائر المؤمنين، و(حَسْب) مصدر بمعنى اسم الفاعل أي محسبك وكافيك.

ص: 129


1- ([1]) تفسير القمّي 2: 263؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 279-280.

وقوله: {هُوَ الَّذِي...} إمّا بيان كيفيّة كفاية اللّه تعالى له، وإمّا تذكير بنصره بما حدث سابقاً من إسلام أهل المدينة ونصرتهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {بِنَصْرِهِ} ولنصر اللّه مصاديق ومنه نصره بالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «فكان النصر عليّاً، ودخل مع المؤمنين، فدخل في الوجهين جميعاً»((1)).

وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ} شأن نزولها - على ما قيل - الأنصار فإنّ أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قوي لمّا آمنوا به، لكن شأن النزول لا يحدّد مفهوم الآية فهي عامّة شاملة لكل مؤمن أيّد اللّه تعالى به رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

السادس: قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ...} الآية.

بيان أنّ نصر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمؤمنين كان عبر تأليف قلوبهم بالدين ممّا لم يمكن بالمال أبداً، ومنهم الأوس والخزرج كانت بينهم منافرة وعداوة وأحياناً مقاتلة لسنوات طوال، وبالإسلام اجتمعت قلوبهم وانصهروا في عنوان الأنصار فلم ترجع بينهم عداوة أبداً حينما كانوا ملتزمين بالإسلام وتعاليمه، ومن المعلوم أنّ اجتماع قلوبهم كان من أقوى الأسباب لقوّة الإسلام، فإنّ وحدة الكلمة من أهم أسباب النصر.

وقوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} بسبب غيبي، وكذلك بسبب طبيعي الذي هو قوانين الإسلام وقيادة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم.

وقوله: {لَوْ أَنفَقْتَ...} لأنّ العداوات أمر معنوي في القلوب فلا يزيلها

ص: 130


1- ([1]) البرهان في تفسير القرآن 4: 355؛ عن أمالي الشيخ الصدوق: 215، وغيره.

إلاّ أمر معنوي، وأمّا المال فلا يزيد إلاّ العداوة وقد يكون وقوداً للعداوات بالكبر والحسد، فلو رأينا شخصين يتباغضان لأسباب متعددة فلو أعطيناهما الأموال على أن يزول البغض من قلوبهما لما أمكن ذلك. نعم، لو اجتمع السبب المعنوي مع المال أمكن زوال بعض العداوة كما لو أكرم العدو عدوه وأغدق عليه بالمال فقد تخف تلك العداوة أو تزول لكن ليس بسبب المال وإنّما بسبب الإكرام والمحبّة والعفو ونحو ذلك.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} تأكيد أو أنّ {أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} في تصفية القلوب و{أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} في الأعمال والأقوال، فكما اجتمعت قلوبهم كذلك اجتمعت كلمتهم وأفعالهم.

وقوله: {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فتأليفه لهم ولقلوبهم لأنّه تعالى عزيز غالب على أمره، ولأنّه حكيم في تدبيره أراد نصرة الدين بهم بحكمته تعالى.

والحاصل: إنّ اللّه مطلع على القلوب وأمرها بيده، فإن أراد الكفّار عبر جنوحهم للسلم الخداع فإنّ اللّه عالم بنواياهم ويكفيك أمرهم، كما أنّه عالم بقلوب المؤمنين فلمّا علم منهم الإيمان ألّف بين قلوبهم وبذلك قوّى أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 131

الآيات 64-66

اشارة

{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 64 يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ 65 الَْٰٔنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ 66}

ثمّ يحرّض اللّه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمؤمنين على الجهاد حتّى مع قلّتهم، فقال:

64- {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ} يكفيك في الجهاد {اللَّهُ وَ} يكفيك {مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وسيدهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

65- وحيث علمت بذلك ف{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ} وهو الترغيب والحث بشدّة {الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} عبر ذكر آثاره وفوائده الدنيويّة والأخرويّة وأضرار تركه، وبيّن لهم أنّهم المنصورون مع قلّتهم على الكفّار على كثرتهم ف{إِن يَكُن مِّنكُمْ} أيّها المؤمنون {عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} من الكفّار أي عشرة أضعافهم، ثمّ قال للتأكيد: {وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فليس للعشرين والمائة خصوصية بل كلّما كان الكفّار عشرة أضعاف المؤمنين كان نصر اللّه للمؤمنين الصابرين، وتلك الغلبة {بِأَنَّهُمْ} أي الكافرين {قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} لا فهم لهم لذا عزيمتهم ليست شديدة، والحاصل: من المؤمنين الصبر ومن الكفّار عدم الفهم.

ص: 132

66- ثمّ لمّا ازداد عدد المسلمين وانتشر الإسلام خفف اللّه الحكم، فقال{الَْٰٔنَ} بعد كثرتكم {خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} فلم يكلّف الواحد جهاد العشرة {وَعَلِمَ} أي ظهر ما كان يعلمه {أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} أي ضعفاً في العزيمة لذا خفّف عنكم، {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ} أي بشرط الصبر {يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} من الكفّار {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} بمشيئته فإنّه أراد أن يكون المؤمنون أقوى بإيمانهم وصبرهم {وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ} ينصرهم، ولذا المؤمن الصابر ينصره اللّه على عشرة أضعافه من الكفّار الجاهلين، أو على ضِعفيه من سائر الكفّار.

أسباب غلبة المسلمين مع قلة عددهم

بحوث

الأوّل: هذه الآيات حث للمؤمنين على الجهاد حتّى لو كانوا أقل من الكفّار لكن بشرط كونهم صابرين بأن يثبتوا ولا ينهاروا، والمذكور في هذه الآيات وإن كان خبراً إلاّ أنّ المقصود به الإنشاء أي الأمر بالجهاد مع توفّر شروطه حتّى لو كان الكفّار عشرة أضعاف، ثمّ التخفيف على المؤمنين بالأمر بالجهاد مع شروطه حتّى لو كان الكفّار ضِعفين.

وقد علّل اللّه الغلبة بصبر المؤمنين وبعدم فهم الكفّار، أمّا صبر المؤمنين فعلى كل حال بأن لا ينهاروا نفسيّاً وعسكريّاً أمام كثرة الكفّار وقوّتهم، وأمّا عدم فهم الكفّار فلأنّ العالم بالفنون الحربيّة وبالأمور النفسيّة يغلب الجاهل بهما حتّى لو كان الجاهل أضعافاً مضاعفة. نعم، لو استعمل الكفّار العلوم الحربيّة والأساليب النفسيّة فحينئذٍ ترجح كفّتهم لو ترك المسلمون تلك العلوم، ولكن لو استعمل الطرفان تلك العلوم والأساليب فاللّه يرجّح كفّة

ص: 133

المؤمنين غيبيّاً حتّى لو كان عددهم نصف عدد الكفّار.

ولذا في معركة بدر كان الكفّار ثلاثة أضعاف المسلمين وكانوا أكثر جاهزيّة وسلاحاً لكن غلبهم المؤمنون بنصر اللّه تعالى، وفي معركة أ ُحد كان المسلمون سبعمائة و الكفّار بين ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف، أي بين أربعة إلى سبعة أضعاف ومع ذلك انتصر المسلمون في الجولة الأولى لمّا كانوا صابرين، إلاّ أنّهم لمّا خالفوا أمر اللّه ورسوله فلم يصبروا انهزموا.

وفي تقريب القرآن: «وذلك لأن الإيمان والتضحية طاقتان عظيمتان تبدّلان الإنسان العادي إلى شخص شجاع مقدام، وذلك الضَعف في الكفّار بسبب أنّهم قوم لا يفقهون أي لا يفهمون، فمن يحارب عن معرفة وإيمان يُزوّد بما لا يزوّد به الإنسان الخلي من العقيدة والدين، وإنّ من عرف أنّه إن قُتل دخل الجنّة وإن قَتل دخل الجنّة كان قوي القلب في مقابل من لا يفقه ذلك... إنّ الفئة - الإيمانية - إذا كانت قليلة كانت الطاقة الإيمانيّة فيها قويّة جدّاً؛ وذلك لأنّها تتقوّى حتّى تتمكّن من مقابلة القوي، وهذا أمر بيّن في علم النفس، فالنفس القويّة تأتي بما تُحيّر العقول فيه، أمّا إذا كثرت الفئة فإنّ روح الاتّكالية تقوى فيهم، وبمقدار ارتفاع نسبة الاتّكاليّة تنخفض القوّة والطاقة، ولذا نرى الأمم أوّل تكوّنها أنشط منها في أواسط حياتها فكيف بأواخرها، وهذا هو السبب في أن خفف اللّه الحكم عن المؤمنين بعد أن كثروا... ولعلّ الحكمين تابعان لحالة نفوس المسلمين في كل دور، فمتى رأوا قوّة من أنفسهم كان العشرة منهم بمائة، ومتى رأوا الضعف من أنفسهم كان العشرة منهم بعشرين فلا نسخ في البين،

ص: 134

واللّه العالم»((1)).

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

هذا تأكيد لما مرّ في الآية 62 حيث قال: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} لكن هناك لبيان عدم تمكّن الكفّار من خداع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهنا للتحريض على القتال، ومقتضى السياق أن يكون معنى هذه الآية إنّ اللّه يكفيك ويكفي المؤمنين فقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عطف على الكاف في قوله: {حَسْبُكَ}، ويحتمل أن يكون المعنى يكفيك اللّه ويكفيك المؤمنون بأن يكون {وَمَنِ اتَّبَعَكَ...} عطفاً على (اللّه)، وعلى هذا تكون الكفاية طوليّة أي يكفيك اللّه فهو الذي هيّأ لك هؤلاء المؤمنين فهم يكفونك لأنّ اللّه هيّأهم، فليس المؤمنون في عرض نصر اللّه تعالى.

الثالث: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن...} الآية.

التحريض هو الترغيب بشدّة، وفي المفردات: «التحريض: الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه»((2)).

وقوله: {إِن يَكُن مِّنكُم...} هذا لإزالة خوفهم في ما لو كان الكفّار كثيرين حتّى لو كانوا عشرة أضعاف.

وقوله: {عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ} بيان شرط الغلبة وهو الصبر، ثمّ إنّه تعالى

ص: 135


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 354-355.
2- ([2]) المفردات للراغب: 228.

ذكر أوّلاً العشرين والمأتين ثمّ ذكر المائة والألف، وهذا تأكيد للمطلب وتعميم له ليعرف أنّ العدد لا خصوصية له بل كل عدد من المؤمنين الصابرين يغلبون عشرة أضعافهم من الكفّار الذين لا يفقهون.

وقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} الفقه هو العلم بمقتضى الشيء على تأمّله، وكأنّ هذا بيان سبب خسارة الكفّار بأنّهم لا يفهمون، وعليه فلو لم يصبر المؤمنون خسروا، أو كان الكفّار يعلمون الفنون الحربيّة والنفسيّة فقد لا يكفي العُشر من المؤمنين، كما في هذا العصر حيث إنّ الكفّار أخذوا بالعلوم الحربيّة وتركها المسلمون، وكذلك صبر الكفّار ولم يصبر المسلمون فكانت الغلبة للكفّار على المسلمين رغم كثرة عدد جيوش المسلمين.

الرابع: قوله تعالى: {الَْٰٔنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا...} الآية.

قوله: {الَْٰٔنَ} في زمن لاحق على غزوة بدر حينما وهنت عزيمة المؤمنين، ولعلّه بعد هزيمتهم في معركة أ ُحد.

وقوله: {خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} أي في التكليف فلم يوجب عليكم الجهاد إلاّ إذا كان الكفّار ضعفين أو أقل، وهذا أيضاً نوع تحريض لهم بأن يجاهدوا حتّى لو كان عددهم نصف عدد الكفّار.

وقوله: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} الضعف هنا هو الوهن في العزيمة، لا ضعف الجسد أو ضعف العُدّة، وضعف العزيمة يلازم ضعف الإيمان لأنّ المؤمن الكامل الإيمان لا تزيله العواصف وهو أشد من الجبال الراسية، ومن هذا يُعلم أنّه لا نسخ للآية السابقة بل هما بيان حقيقتين، فمع قوّة الإيمان يكفي العُشر، ومع ضعف العزيمة يكفي النصف، وأمّا ما روي من

ص: 136

نسخ تلك بهذه((1)) فلعلّه أريد به النسخ اللغوي أي التخصيص فالعُشر يكفي إلاّ مع الضَعف فيكفي النصف، واللّه العالم.

وقيل: كان فيهم قِلّة فأمروا بالجهاد ولو كانوا عُشر الكفّار للضرورة إلى ذلك، ثمّ لمّا كثروا خفّف اللّه عنهم لعدم الضرورة إليه!

وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بمشيئة التشريعيّة والتكوينيّة، فأجاز لكم الجهاد مع كونكم نصف المشركين، كما ينصركم غيبيّاً حين صبركم على الجهاد.

وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّٰبِرِينَ} بيان عِلة غلبة المسلمين الصابرين على الكفّار؛ إذ إنّه تعالى يعين الصابرين عبر القوانين الطبيعيّة والغيبيّة التي أودعها في الكون، واللّه المستعان.

ص: 137


1- ([1]) راجع الكافي 5: 65؛ وعنه تفسير الصافي 3: 358.

الآيات 67-71

اشارة

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْأخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 67 لَّوْلَا كِتَٰبٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 68 فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 69 يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 70 وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 71}

ثمّ يذكر اللّه أسارى الحرب، فقال:

67- {مَا كَانَ} ليس له ولا يحل {لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ} بأن يترك القتال ويشرع في الأسر {حَتَّىٰ يُثْخِنَ} أي يواصل القتال وبه يكثر قتلى الكفّار {فِي الْأَرْضِ} ليعز الإسلام وأهله ويذل الكفر وأهله وليكون عبرة للآخرين، لكن المسلمين في غزوة بدر تركوا القتال بمجرّد انهزام المشركين وشرعوا في أسرهم طمعاً في الفداء ف{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي حطام الدنيا الزائل ولذا تركتم القتال {وَاللَّهُ يُرِيدُ} لكم {الْأخِرَةَ} أي ثوابها لذا شرّع مواصلة القتال حتّى الإثخان، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} ذو عزة ومنعة فلذا أمر بمواصلة القتال {حَكِيمٌ} في ما شرّعه فقوّة المسلمين أهم من الفداء.

68- لكن ما فعلوه لم يكن عصياناً لأمر سابق لذا لم يعاقبهم اللّه عليه

ص: 138

ف{لَّوْلَا كِتَٰبٌ} أي حكم مكتوب {مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} بأن لا يعذّب إلاّ بعد بيان الحكم {لَمَسَّكُمْ} أصابكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الأسرى وتركتم القتال {عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

69- لكن حيث أخذتم الأسرى فاللّه أباح لكم فداءهم {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} أي من الفداء لأنّه جزء من الغنيمة حال كونه {حَلَٰلًا} شرعيّاً {طَيِّبًا} تميل النفس إليه وتستسيغه، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} بأن لا تخالفوه في مستقبل أمركم بعد أن علمتم الحكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للذنوب {رَّحِيمٌ} فأباح الفداء ويثيب المؤمن المطيع، هذا بالنسبة إلى المسلمين الآسرين.

70- وأمّا الأسرى ف{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم} في سلطتكم {مِّنَ الْأَسْرَىٰ} الذين أسرتموهم في غزوة بدر {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} أي إيماناً وإسلاماً لأنّ بعضهم ادّعى أنّه كان قد أسلم وإنّما أخرجه الكفّار كرهاً، أراد به إسقاط الفداء عن نفسه، لكن يقال له: إنّ الأمر على الظاهر لكن لو صدقتم ف{يُؤْتِكُمْ} اللّه {خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء بأن يعطيكم أكثر وأحسن منه {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم، {وَاللَّهُ غَفُورٌ} للذنوب {رَّحِيمٌ} بإعطاء الثواب تفضّلاً منه تعالى.

71- {وَإِن يُرِيدُواْ} يريد الأسرى {خِيَانَتَكَ} بأن يرجعوا إلى حربك مرّة أخرى مع المشركين {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} بالكفر وبمحاربة رسوله {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي فسلّط اللّه المسلمين عليهم، والمعنى كما أمكن منهم في المرّة الأولى فسيمكن منهم في المرّة الثانية، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بنواياهم {حَكِيمٌ} في ما شرّعه عليهم.

ص: 139

حول أسرى المشركين في بدر

بحوث

الأوّل: هذه الآيات حول الأسرى وفيها عتاب شديد للمسلمين الذين تركوا القتال وشرعوا في أسر الكفّار من غير أمر من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ذلك، فقد أمرهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالقتال ولم يأمرهم بالكفّ عنه، لكنّهم لمّا انهزم المشركون تركوا القتال وطمعوا في فداء الأسرى ولذا بدلاً من الاستمرار في القتال وتعقّب الفارين وقتلهم كفّوا عن تعقبهم وعن القتال وأسروا من تمكّنوا من أسره حتّى أنّ بعضهم كان يمنع المجاهدين عن قتل المشركين طمعاً في أسرهم، إلاّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) حيث لم يأسر أحد وقتل من حاربه((1))، وكان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد تقدّم إلى المسلمين بعدم قتل بني هاشم الذين كانوا مع المشركين - وهم العباس وعقيل ونوفل - وكذا عدم قتل أبي البختري((2))

وكان قد دافع عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مكّة فأراد النبي مكافئته، ولم يتقدّم إلى المسلمين في سواهم بشيء، فكان عليهم أن يرجعوا إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما أرادوا إيقاف القتال، فنزلت هذه الآيات عتاباً لهم، وبيان أنه لو كان قد نزل نهي عن إيقاف القتال لاستحقوا بالمخالفة عذاباً عظيماً، لكن حيث إنّه لم ينزل نهي، وهم قد عملوا حسب عادتهم في الجاهليّة لذا عفا اللّه عنهم وأباح لهم الفداء حلالاً طيّباً، هذا بالنسبة إلى المسلمين الآسرين.

وأمّا الأسرى فكانوا طائفتين:

ص: 140


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 286.
2- ([2]) راجع الكافي 8: 202؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 361.

1- فبعضهم ادّعى بأنّهم كانوا قد أسلموا ولكنّهم خرجوا كرهاً كالعبّاس بن عبد المطلب أراد أن يفلت من الفداء حينما قال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «يا عباس، افدِ نفسك وابني أخيك عقيلاً ونوفل بن الحارث فإنّك ذو مال، فقال: إنّي كنت مسلماً ولكن قومي استكرهوا عليّ، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّه أعلم بشأنك أمّا ظاهر أمرك فقد كنت علينا»((1))، ثمّ ادعى أنّه لا مال له فأخبره الرسول بما خبّأه عند زوجته أم الفضل، فهؤلاء يقال لهم: إنّ على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يتعامل معهم على ظاهرهم كما يتعامل مع سائر الأسرى، وأمّا القلوب فاللّه يعلم بها فإن كانوا صادقين عوّضهم اللّه بأفضل ممّا أخذ منهم.

2- وطائفة أخرى هم سائر الأسرى لم يدّعوا الإسلام ولا الإكراه على الخروج فيقال لهم: إنّه سيطلق سراحهم بعد أخذ الفداء مع تحذيرهم من الخيانة بالرجوع إلى قتال المسلمين لأنّ اللّه سيسلّطهم عليهم مرّة أخرى كما سلّطهم عليهم في بدر، وقد عاد بعضهم إلى أ ُحد فأسروا مرّة أخرى فأمر النبي بقتلهم ولم يُقلهم.

الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...}.

أي إنّ اللّه لم يشرع للأنبياء الماضين إيقاف الجهاد بل شرّع عليهم الاستمرار فيه حتّى يكثروا القتل في الكفّار المحاربين لإعزاز الإيمان وأهله وإذلال الكفر وأهله، وهذا حكم لم يتغيّر بل أكّده اللّه في سورة محمّد حيث قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ

ص: 141


1- ([1]) الخرائج والجرائح 1: 61؛ وعنه بحار الأنوار 19: 247.

الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}((1)).

ولعلّ جرأة المشركين في جمع فلولهم والرجوع إلى قتال المسلمين بعد عام في أ ُحد كان نتيجة إيقاف الحرب يوم بدر والانشغال بأخذ الأسرى، ولعلّه لو كانوا يواصلون القتال لقتلوا منهم مقتلة عظيمة كانت عبرة لهم بحيث لا يتجرّأون في الرجوع إلى قتال المسلمين مرّة أخرى، واللّه العالم.

وقوله: {مَا كَانَ} أي لم يشرّع له، ولا يجوز له.

وقوله: {لِنَبِيٍّ} بيان أنّ هذا حكم عام لجميع الأنبياء الذين جاهدوا بالسلاح ولم ينسخ في أيّة شريعة، وكذلك لم ينسخ في شريعة الإسلام.

وقوله: {أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ} أي أن يترك الحرب ليأخذ الأسرى.

وقوله: {حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الإثخان هو تغليظ الحال بكثرة القتل عبر مواصلة القتال، وليس المعنى إثخان الدين أي قوّته! فهذا لا وجه له بل هو خطأ لغة ويأباه سياق الآيات، بل تأباه آية سورة محمّد، وعلى كل حال لا بدّ أن يكون الغرض من الجهاد هو إعزاز الإسلام وكسر شوكة الكفر وإرعاب سائر الكفّار لئلّا يقدموا على قتال المسلمين وهذا يستدعي مواصلة القتال حين انهزام المشركين، لا أن يكون الغرض هو الغنيمة المادّيّة بحيث يتركوا القتال من غير استئذان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} عتاب للمسلمين الذين أوقفوا القتال وشرعوا في أسر الكفّار، ببيان أنّ غرضهم كان الفداء، قال الشيخ المفيد: «ولم يكن منه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الأسرى ذنب عوتب عليه، وإنّما كان ذلك من

ص: 142


1- ([1]) سورة محمّد، الآية: 4.

أصحابه الذين أسروا بغير علمه وكفّوا عن القتال طمعاً في الفداء»((1))، و(العَرَض) هو حطام الدنيا، سُمّي بذلك لقلّة بقائه.

وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْأخِرَةَ} أي يريد لكم ثواب الآخرة، فإنّ اللّه لم يأمركم بالجهاد لأجل اكتساب المال والغنائم وإنّما أمركم به لتنالوا الثواب بالجنّة والرضوان ولذا أمر الأنبياء بالإثخان قبل الأسر.

وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي بعزّته أمر الأنبياء بالإثخان وبحكمته شرّع هذا الحكم لهم لأنّ فيه مصلحة الدين وأهله.

الثالث: قوله تعالى: {لَّوْلَا كِتَٰبٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

أي إنّ إيقافكم الحرب وأخذكم الأسرى بدون إذن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان عملاً يوجب استحقاقكم للعذاب لولا كتاب سبق من اللّه تعالى، وذلك الكتاب إمّا قضاؤه بأن لا يعذّب قبل نزول الحكم حتّى لو كان قبح العمل واضحاً عقلاً، لطفاً منه ورحمة بعباده كما قال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ}((2))، وإمّا عدم عذابهم ورسول اللّه فيهم كما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}((3)).

وقوله: {كِتَٰبٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} أي حكم سجّله وكتبه في القرآن أو في اللوح.

وقوله: {فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي أخذتم الأسرى وتركتم القتال.

ص: 143


1- ([1]) المسائل العكبريّة: 108.
2- ([2]) سورة طه، الآية: 134.
3- ([3]) سورة الأنفال، الآية: 33.

وقوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما.

الرابع: قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

بيان أنّ خطأهم في ترك القتال وأخذ الأسرى لا يعني حرمة الفداء؛ فإنّه بعد أن وقع في الأسر سبعون من المشركين كان لا بدّ من إجراء حكم الشرع عليهم، وهو أن الحاكم الإسلامي مخيّر بين خمسة أمور يراعي المصلحة في اختيار أيٍّ منها: إمّا أن يقتلهم، أو يمُن عليهم بإطلاق سراحهم مجّاناً، أو يأخذ الفداء منهم، أو يسترقهم، أو يحبسهم حتّى حين، وقد أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقتل اثنين منهم هما عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة، وروي: «فلمّا قتل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) النضر وعقبة خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلّهم، فقاموا إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول اللّه، قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، وهم قومك وأساراك، هبهم لنا يا رسول اللّه وخذ منهم الفداء وأطلقهم... فأطلق لهم أن يأخذوا الفداء ويطلقوهم، وشرط أن يقتل منهم في عام قابل بعدد من يأخذون منهم الفداء، فرضوا منه بذلك»((1)).

وقوله: {فَكُلُواْ} جزاء لمقدّر أي أحلّه اللّه فكلوه.

وقوله: {مِمَّا غَنِمْتُمْ} أي من الفداء لأنّه جزء من الغنيمة.

وقوله: {حَلَٰلًا طَيِّبًا} الحلال هو ما أباحه الشرع، والطيب لغةً هو ما كان يلائم الطبع ويُلتذ به، وأمّا الطيب الشرعي فهو كل حلال حتّى لو تنفّرت الطباع منه كالأدوية المُرّة.

ص: 144


1- ([1]) البرهان في تفسير القرآن 4: 287.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} وعظ لهم بأن يكون غرضهم في مستقبل أمرهم كسب رضا اللّه تعالى بالعمل بأحكامه لا حطام الدنيا وعرضه.

الهاشميون الذين كانوا مع المشركين

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا...} الآية.

نزلت في الهاشميين الذين كانوا مع المشركين فأمرهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بدفع الفداء كسائر المشركين، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «نزلت في العباس وعقيل ونوفل» قال: «إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نهى يوم بدر أن يُقتل أحد من بني هاشم، وأبو البختري، فأسروا - إلى أن قال: - فجيء بالعباس فقيل له: افدِ نفسك، وافد ابني أخيك! فقال: يا محمّد، تتركني أسأل قريشاً في كفيّ؟ فقال: أعط ممّا خلّفت عند أم الفضل وقلت لها: إن أصابني في وجهي شيء فأنفقيه على نفسك وولدك، فقال له: يا ابن أخي من أخبرك هذا؟ قال: أتاني به جبرئيل (عليه السلام) من عند اللّه عز ذكره، فقال: ومحلوفه ما علم بهذا أحد إلاّ أنا وهي وأشهد أنّك رسول اللّه. قال: فرجع الأسرى كلّهم مشركين إلاّ العباس وعقيل ونوفل كرّم اللّه وجوههم، وفيهم نزلت هذه الآية...»((1)).

وقوله: {فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} أي إيماناً؛ لأن المغفرة لا تنال مشركاً.

وقوله: {خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من المال، وقد روي أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعطى بعد ذلك العبّاس مالاً كثيراً((2)

كما قيل: إنّ اللّه بارك له في تجارته، فربح أضعافاً مضاعفة ممّا فداه يوم بدر.

ص: 145


1- ([1]) الكافي 8: 202؛ وتفسير العيّاشي 2: 68.
2- ([2]) قرب الإسناد: 21.

وقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي زيادة على تعويضكم المادي فإنّ اللّه يغفر ذنوبكم.

السادس: قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ...}.

سائر الأسرى الذين أطلق سراحهم يهدّدهم اللّه - لكي لا يعودوا إلى قتال المسلمين مرّة أخرى - بأنّهم إن عادوا سيسلّط اللّه عليهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرّة أخرى حيث لا ينفعهم حينذاك استغاثتهم واستعطافهم، وهذا ما حصل حيث رجع بعض أسرى بدر إلى قتال المسلمين في أ ُحد فأسروا ولم يقبل منهم شيئاً فقتلوا.

وقوله: {خِيَانَتَكَ} الظاهر أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخذ منهم عهداً بأن لا يعودوا لقتال المسلمين، فكان العود خيانة بنقض العهد.

وقوله: {فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ} لأنّ الكفر خيانة للّه حيث إنّ شكر المنعم واجب، فكفروا بالنعمة، كما أنّهم خانوا عهد اللّه إليهم في فطرتهم بأن لا يطيعوا الشيطان كما قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِي ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}((1)).

وقوله: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي سلّطك عليهم في يوم بدر، فكما كان قادراً على ذلك في ما مضى كذلك هو قادر عليه في المستقبل.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي يعلم بأنّهم يريدون الخيانة أم لا، كما أنّه حكيم حينما أباح إطلاق سراحهم مقابل الفداء وقضى بإمكانك منهم لو خانوا.

ص: 146


1- ([1]) سورة يس، الآية: 60-61.

الآيات 72-75

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 72 وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ 73 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ 74 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَٰئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ 75}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى - في ختام السورة - حكم الولاية بين الناس، فقال:

72- {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ} من مكّة إلى المدينة أو الحبشة {وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ} بأن أنفقوها {وَأَنفُسِهِمْ} بأن اشتركوا في ساحة القتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا لغرض دنيوي وهؤلاء هم المهاجرون، {وَالَّذِينَ ءَاوَواْ} جعلوا للمهاجرين مأوى {وَّنَصَرُواْ} رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهؤلاء هم الأنصار {أُوْلَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} أي يتولّى بعضهم بعضاً في المحبّة والنصرة وغير ذلك من أقسام الولاية، وهذا خبر يراد به الأمر أي يجب عليهم أن يتولّى بعضهم بعضاً، {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} بدون عذر مع وجوب الهجرة عليهم {مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} فكل أقسام الولاية مقطوعة

ص: 147

بينكم وبينهم {حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ} فإن هاجروا ثبتت كل أنواع الولاية لهم، {وَ} لكن هؤلاء المؤمنين غير المهاجرين {إِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ} طلبوا أنتنصروهم على الكفّار {فِي الدِّينِ} أي في ما يرتبط بدينهم {فَعَلَيْكُمُ} أي يجب عليكم {النَّصْرُ} أمّا لو طلبوا النصر في أمر دنيوي فلا، {إِلَّا} لو كان استنصارهم {عَلَىٰ قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ} معاهدة فحينئذٍ يجب الالتزام بالمعاهدة - مادام الكفّار ملتزمين بها - {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الولاية والالتزام بالميثاق وغيرهما {بَصِيرٌ} يراكم فيجازيكم.

73- {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} والمقصود نهي المؤمنين عن أن يتولّوا الكفّار حتّى وإن كانوا أقرباء {إِلَّا} إن لا {تَفْعَلُوهُ} أي إن لم يتولّ بعضكم بعضاً أو تولّيتم الكفّار {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ} محنة وصعوبات واختلاط الأمر {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} لأنّه سبب ضعف المسلمين وتقوية الكفر وأهله، هذا من حيث حكم الولاية.

74- {وَ} أمّا دلالة الولاية ونتيجتها ف{الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وذلك لإطاعتهم للّه تعالى فقاموا بشروط الإيمان، وعاقبتهم أنّ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} من اللّه لذنوبهم {وَرِزْقٌ} في الدنيا والآخرة {كَرِيمٌ} مع كرامة حيث لا تبعة ولا مِنّة فيه.

75- {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ} سواء في زمن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أم بعده {وَهَاجَرُواْ} من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام {وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمْ} مع المسلمين الذين هاجروا من قبل {فَأُوْلَٰئِكَ مِنكُمْ} في جميع الأحكام، {وَ} ما ذكر من الولاية إنّما هي في غير الميراث؛ إذ {أُوْلُواْ الْأَرْحَامِ} أي أصحاب

ص: 148

القرابات بالنسب {بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ} في الإرث فذو الرحم أولى من الغريب والأقرب أولى من الأبعد {فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} في حكمه الذي أنزله في كتابه{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} ولذا حكم بهذه الأحكام بحكمته تعالى.

أصناف الناس من جهة الولاية

بحوث

الأوّل: لمّا كان غالب آيات هذه السورة المباركة حول قتال المشركين وكيفيّة التعامل معهم، ختمها اللّه تعالى ببيان الحكم في الولاية التي تشمل النصرة والمحبّة والإرث وغير ذلك، فصنّف الناس على أصناف:

1- فمنهم: الملتزم بجميع أحكام الشرع فآمن وجاهد في سبيل اللّه وهاجر أو آوى المهاجرين، فهذا تجب ولايته في كل شيء، حتّى الإرث إن كان قريباً في النسب وأمّا لو لم يكن قريباً فلا يرث.

2- ومنهم: المؤمنون الذين لم يهاجروا - ومن ثَمَّ لم يجاهدوا - مع قدرتهم على الهجرة ووجوبها عليهم، فهؤلاء عصاة، ولذا تنقطع الولاية معهم إلاّ ولاية إرث الأقرباء. نعم، لو تعرّض المشركون إلى دينهم فاستنصروا فلا بدّ للمسلمين من أن ينصروهم، إلاّ لو كان المشركون معاهدون والتزموا بالمعاهدة فيحنئذٍ يجب التزام المسلمين بها.

3- ومنهم: المؤمنون الذين جاؤوا من بعد وهاجروا وجاهدوا فهؤلاء حكمهم كحكم القسم الأوّل، كما لو تأخّر هجرة بعض المؤمنين أو وُلدوا في العصور المتأخّرة فهؤلاء حكمهم بعد الهجرة كحكم الطائفة الأولى.

4- ومنهم: الكفّار فلا يجوز للمؤمنين ولايتهم.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ...}

ص: 149

الآية.

بيان التكليف تجاه المؤمن الكامل الإيمان، وهو الذي إن كان في بلادالكفر ولم يتمكّن من العمل بمقتضى دينه هاجر إلى مكان يتمكّن منه أداء شعائر الدين، وإن كان في بلد الإسلام آوى إليه من يهاجر من المسلمين، كما أنّه يجاهد بماله ونفسه فهذا كامل الإيمان فتجب على المؤمنين ولايته.

وقوله: {وَهَاجَرُواْ} وهم المهاجرون الأوّلون في زمن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث هاجر جمع منهم إلى الحبشة وجمع إلى المدينة المنوّرة، ومن المعلوم أنّ الهجرة من أصعب الأمور لأنّها تعني ترك الوطن والمال والأقرباء وكل ما يرتبط بذلك، ولذا لا يهاجر غالب الناس إلاّ لو اضطرّوا إليها، والهجرة واجبة إن لم يتمكّن الإنسان من أداء شعائر دينه، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}((1))، أمّا إذا تمكّن الإنسان من أداء شعائر دينه في بلاد الكفر فلا تجب عليه الهجرة.

وقوله: {وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ} بأن أنفقوها في سبيل اللّه فمنه واجب كما لو توقّف عليه دين الإنسان، فالمهاجرون تركوا دورهم ومتاجرهم وأموالهم في مكّة ثمّ استولى عليها المشركون، وهذا من أشق الأمور على الإنسان لذا كان جهاداً.

وقوله: {وَأَنفُسِهِمْ} بأن شاركوا في جبهات القتال أو عرضوا أنفسهم

ص: 150


1- ([1]) سورة النساء الآية: 97.

للخطر كياسر وسميّة والدي عمّار رضوان اللّه عليهم حيث قُتلا لإسلامهم فكان ذلك جهاداً منهم.

وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بأن كان غرضهم طاعة اللّه وكسب رضاه.

وقوله: {وَالَّذِينَ ءَاوَواْ} وهم الأنصار الذين قبلوا المهاجرين في بيوتهم فجعلوها مأوى لهم، حيث قسّم الأنصار بيوتهم مع المهاجرين إلى أن فتح اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فغنم بيوت بني النضير فقسّمها بين المهاجرين، كما سيأتي تفصيله في سورة الحشر إن شاء اللّه تعالى.

وقوله: {وَّنَصَرُواْ} أي نصروا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإسلام في الغزوات وغيرها.

وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} أي هؤلاء المهاجرون والأنصار لبعضهم الولاية على بعض، والولاية هنا عامة تشمل كل أنواع الولاية من المحبّة والنصرة والصداقة وغير ذلك إلاّ الإرث فهو خاص بذوي القرابات، كما سيأتي في الآية 75.

الثالث: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيْءٍ}.

بيان الصنف الثاني من المؤمنين وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا مع وجوب الهجرة عليهم ومن ثَمّ لم يجاهدوا فهؤلاء لا ولاية لهم، لمخالفتهم أمر اللّه تعالى، مثل العبّاس بن عبد المطلب فإنّه بعد أسره في بدر وفدائه أسلم لكنّه رجع إلى مكّة ولم يهاجر إلى المدينة، حتّى فتح اللّه تعالى مكّة المكرّمة لرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخرج إلى المدينة، ولم يكن هجرة؛ لأنّ مكّة بالفتح صارت من دار الإسلام فالخروج منها لم يكن هجرة، وروي عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه

ص: 151

قال: «لا هجرة بعد الفتح»((1))، وكان بنو العبّاس يزعمون أنّهم أولى بالخلافة من الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) لأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ارتحل والعبّاس حيّ وهو عمّ، والعم أولى من ابن العم! وكلامهم باطل من جهات: إذ الخلافة تعيين من اللّه وليست بالإرث، وأنّ العم لا يرث مع وجود البنت إلاّ على التعصيب الباطل، وأنّ ابن العم من الأبوين أولى بالإرث من العم إذا كان من الأب، وكان عبد اللّه وأبو طالب أخوين من الأب والأم وأمّا العبّاس فكان من أم أخرى، مضافاً إلى ما نطقت به هذه الآية حيث لم يهاجر العبّاس فلم تكن له من الولاية شيء، وهذا ما استدل به الإمام الكاظم (عليه السلام) لمّا سأله هارون العبّاسي((2)).

وقوله: {مِّن شَيْءٍ} تعميم فلا توجد أيّة ولاية معهم، إلاّ الإرث لو كانوا من ذوي الأرحام، كما سيأتي في الآية الأخيرة.

وقيل: إنّ اللّه في البداية شرّع الإرث بالمواخاة دون القرابة ثمّ نسخه بالآية الأخيرة! لكن لم يدل دليل معتبر على ذلك، فالأصح أنّه لا نسخ وإنّما آية الولاية عامّة إلاّ للإرث فولايته لذوي الأرحام.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمِ...} الآية.

هذا استثناء من عدم الولاية لمن لم يهاجروا، وهو أنّ الكفّار لو تعرضوا لدين المسلمين الذين لم يهاجروا فطلبوا النصر فلا بدّ من نصرهم ليس

ص: 152


1- ([1]) الكافي 5: 443.
2- ([2]) راجع عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 81؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 370.

لأجلهم وإنّما لأجل الدين، فهؤلاء مع وجوب الهجرة عليهم عصاة في تركهم الهجرة والجهاد ولكنّهم مسلمون لا يحق للكفّار التعرّض لدينهم، وأمّا إذا استنصروا في غير الدين فلا تجب نصرتهم، بل يقال لهم هاجروا تتخلّصوا من الظلم والهوان، فما أنتم فيه إنّما هو بما كسبت أيديكم.

وقوله: {فِي الدِّينِ} حصر لاستنصارهم، بأن يكون لأجل دينهم، لا لأجل دنياهم.

وقوله: {إِلَّا عَلَىٰ قَوْمِ...} أي لو كان هناك ميثاق بين المسلمين والكفّار فحينئذٍ الوفاء بالمعاهدة أولى من الاستجابة لاستنصار المسلمين العصاة بعدم الهجرة، حيث إنّ ما هم عليه من الاضطهاد هو بسوء اختيارهم.

نعم، لو كان التعرّض للمسلمين نقضاً من الكفّار لعهدهم مع المسلمين فحينئذٍ يلزم إنهاء المعاهدة ومن ثَمَّ نصر أولئك المسلمين كما يحدث في العصر الحاضر حيث إنّ المعاهدات الدوليّة بين دول المسلمين والكفّار تؤطّر بإطار بيان الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان وقراراتها العامّة والتي تمنع أيّة دولة من اضطهاد مواطنيها وتضمن الحرّيات الدينيّة، وحينئذٍ لو خالفت دولة كافرة واضطهدت المسلمين فقد خالفت المعاهدات بينها وبين الدول الإسلاميّة وبذلك يجب على المسلمين إنهاء تلك المعاهدات ونصر المسلمين المضطهدين.

الخامس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.

هذا إخبار يراد به تشريع حكم للمسلمين لا للكفّار، فالمعنى لا يجوز لكم ولاية الكفّار بل اتركوهم يتولّى بعضهم بعضاً كما قال تعالى: {لَّا تَجِدُ

ص: 153

قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}((1))، وقد ذم اللّه المنافقين بشدّة لمّا تولّوا الكفّار فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}((2))، وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}((3)).

نعم، لو لم يكن الكفّار محاربين ولم يُخرجوا المسلمين من ديارهم فلا بأس بِبرّهم وهو ليس من الولاية، قال سبحانه: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ...}((4)).

السادس: قوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.

أضرار ولاية الكفّار

بعد أن أمر اللّه بولاية المؤمنين المذكورين بعضهم لبعض ونهى عن ولاية الكفّار، يحذّر المؤمنين من عصيان هذا الأمر والنهي؛ إذ يودّي إلى الفتنة والفساد الكبير، وذلك لأنّ الولاية لا بدّ منها لكن في إطارها الصحيح فإن خرجت عن ذلك اختل النظام فأورثت الفتنة والفساد، وذلك ككل قانون صحيح إذا خرج عن مساره انقلب إلى ضده، وفي التقريب: «وقد دل منطق التاريخ أنّ كل وقت اتّخذ فيه المسلمون الكافرين أولياء ضعفت شوكتهم وذهبت ريحهم، وبالعكس كل وقت اتخذوهم فيه أعداء واتخذوا

ص: 154


1- ([1]) سورة المجادلة، الآية: 22.
2- ([2]) سورة المجادلة، الآية: 14-15.
3- ([3]) سورة الممتحنة، الآية: 1.
4- ([4]) سورة الممتحنة، الآية: 8.

سائر المسلمين أولياء قويت شوكتهم وهبّت ريحهم»((1))، وفي تفسير الصافي: «لأنّ المسلمين ما لم يكونوا يداً واحدة على أهل الشرك كان الشرك ظاهراً وتجرّأ أهله على أهل الإسلام ودعوهم إلى الكفر»((2)).

ولذا فالمسلمون كلّهم أمّة واحدة وهم إخوة، أمّا ما جاء به الكفّار إلى بلاد المسلمين من الحدود واعتبار سائر المسلمين أجانب لا يدخلون البلد إلاّ بتأشيرة ولا يحق لهم البقاء ولا العمل فيه إلاّ بإجازة ولا يتمتّعون بحقوق المواطنين، وفي المقابل يكون للكافر المواطن كامل الحقوق فهذا ترك العمل بهذه الآيات ممّا أورث المسلمين ذُلّاً وهواناً وسيطر عليهم الشرق والغرب يقتلون أبناءهم وينهبون ثرواتهم وينتهكون حرماتهم، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.

وقوله: {فِتْنَةٌ} كأنّ المراد به هنا محنة ومشاكل تعم المسلمين، يضيع فيه الحق وأهله فيختلط الأمر.

وقوله: {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} كأنّ المراد به هنا سيطرة الكفّار واختلال النظام واضطراب حال المسلمين، وهو نتيجة الفتنة.

السابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ...} الآية.

هذا بيان لدلالة التولّي ونتيجته فليست تكراراً للآية 72، أمّا الدلالة: فهي أنّ هؤلاء مؤمنون حق الإيمان، فإنّ من يلتزم بأوامر اللّه ونواهيه ويطيعه في

ص: 155


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 361.
2- ([2]) تفسير الصافي 3: 364.

كل ما أمر وخاصّة في الصعوبات فهو المؤمن الحق، أمّا الضعيف الإيمان أو المنافق فهو لا يطيع بل يعصي في ما صعب عليه الالتزام به بل حتّى في الأمور السهله ممّا لا رغبة له فيها.

وأمّا نتيجتها: فالمغفرة لذنوبهم لأنّ الحسنات يذهبن السيّئات، وكذا الرزق الكريم، وهو عام يشمل الدنيا والآخرة؛ إذ بالهجرة والجهاد في سبيل اللّه بعد الإيمان فتح اللّه للمسلمين الدنيا وأغدق اللّه عليهم الغنائم وبركات السماء والأرض، كما أنّ اللّه وعد المؤمنين العاملين بالصالحات بثواب الآخرة.

وقوله: {رِزْقٌ كَرِيمٌ} أي مع كرامة فلا تبعة له ولا مِنّة، وهذا شأن عطاء اللّه تعالى.

الثامن: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَٰئِكَ مِنكُمْ}.

بيان أنّ حكم الولاية مستمر وليس خاصّاً بالسابقين الأوّلين، فما دامت شرائط الهجرة والجهاد موجودة كان حكم الولاية مستمرّاً، فأمّا «لا هجرة بعد الفتح» فهذا يتربط بالهجرة من مكّة؛ إذ بفتحها صارت جزءاً من بلاد الإسلام، كما ذكرنا ذلك قبل قليل.

وقوله: {مِن بَعْدُ} أي بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة والمدينة، فكلّما هاجر المسلمون من مكّة قبل فتحها كانوا مهاجرين تجب ولايتهم، أمّا بعد فتح مكّة فبالهجرة من سائر بلاد الكفر إلى بلد الإسلام.

وقوله: {فَأُوْلَٰئِكَ مِنكُمْ} أي هم من جملتكم فيجري عليهم جميع الأحكام، فالسابقون الأوّلون حازوا بفضل السبق لكن الأحكام ليست خاصّة

ص: 156

بهم، وكذلك هم منكم في الأجر والثواب.

أولوية أولو الأرحام

التاسع: قوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ}.

بيان أنّ ولاية المؤمنين بعضهم لبعض لا تعني إرثهم من بعض إلاّ إذا كانوا أقرباء نسباً مع كون الأقرب يمنع الأبعد، وقيل: هذه نسخت حكم الولاية في الإرث! لكن لا دليل معتبر على النسخ مع عدم المنافاة بين الولاية وبين عدم الإرث إلاّ بالقرابة، فلا نسخ في البين.

ثمّ اعلم أنّ لفظ {أُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} ورد في القرآن مرّتين والسياق يقتضي تغاير المقصود من الآيتين، فهذه الآية - التي في سورة الأنفال - حيث الكلام عن ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ظاهرة في الأولويّة في الإرث، فهي تدل على أنّ ذوي الرحم أولى بالإرث من غيرهم، كما أنّ الرحم الأقرب كالابن أولى من الأبعد كالعم، وأمّا الآية الأخرى - التي في سورة الأحزاب - فسياقها يدل على أنّ المقصود بها الإمارة والحكومة حيث قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَٰتُهُمْ وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَٰجِرِينَ}((1)

حيث إنّ الآية في أحكام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأقربائه فيقال: إنّ النبي أولى بالمؤمنين فله الولاية عليهم سواء في الأمور العامّة أم الخاصّة، وأمّا أزواج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحكمهن أنّهن لا يجوز الزواج بهن لأنّهن أمّهات المؤمنين، وأمّا الولاية بعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهي للإمام علي بن أبي طالب فهو

ص: 157


1- ([1]) سورة الأحزاب، الآية: 6.

رحم الرسول الأولى به من غيره، وهذه الآية تجري في الأئمّة من ولده (عليهم السلام) فالولد الأكبر أولى بأبيه من سائر الناس وسائر القربات، ويستثنى من ذلك الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كان أولى بالإمام الحسن (عليه السلام) من أولاده، كما يستثنى الأكبر إذا مات في حياة أبيه أو كانت به عاهة، وبذلك دلّت مستفيض الروايات، وقد ذكرنا بعضها في شرح أصول الكافي فراجع((1)).

والحاصل: أنّ آية الأنفال في الإرث وآية الأحزاب في الإمرة والخلافة بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبذلك يتّضح معنى الروايات الواردة في تفسير هاتين الآيتين، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه سئل عن الآية فقال: «نزلت في ولد الحسين (عليه السلام) »، قلت: جعلت فداك نزلت في الفرائض؟ قال: «لا»، قلت: «ففي المواريث؟» قال: «لا، نزلت في الإمرة»((2))، فهذا الحديث وأمثاله تفسير لآية الأحزاب، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إنّ بعضهم أولى بالميراث من بعض لأنّ أقربهم إليه رحماً أولى به»((3))، فهذا الحديث وأمثاله تفسير لآية الأنفال.

وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ} أي أولى في الإرث فالأقرب أولى من الأبعد، وهذه الآية مطلقة تشمل الرجال والنساء، كما تشمل من لهم سهم في الكتاب ومن ليس لهم سهم وبذلك يبطل التعصيب، كما يبطل التعصيب أيضاً بقوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}((4))؛ لأنّ التعصيب

ص: 158


1- ([1]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 4: 313-315.
2- ([2]) البرهان في تفسير القرآن 7: 521.
3- ([3]) البرهان في تفسير القرآن 4: 375-376.
4- ([4]) سورة النساء، الآية: 7.

هو توريث الأبعد من الرجال خاصّة، وقد مرّ بحثه في سورة النساء فراجع((1)).

وقوله: {فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} أي في حكمه المسجّل في كتابه وهو القرآن الكريم وكذا اللوح.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} بيان أنّ أحكامه إنّما هي بعلم، فهو العالم بكل شيء لذلك شرّع ما هو الأصلح بحكمته تعالى.

خاتمة: في ثواب قراءة سورة الأنفال والتوبة

خاتمة

عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة براءة والأنفال في كل شهر لم يدخله نفاق أبداً، وكان من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) حقّاً، وأكل يوم القيامة من موائد الجنّة مع شيعته حتّى يفرغ الناس من الحساب»((2))، والمراد من قرأها وتدبّرها وعمل بها.

وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ هذه السورة فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنّه بريء من النفاق، وكُتبت له الحسنات بعدد كل منافق، ومن كتبها وعلّقها عليه لم يقف بين يدي حاكم إلاّ وأخذ حقّه وقضى حاجته، ولم يتعدّ عليه أحد ولا ينازعه أحد إلاّ وظفر به وخرج عنه مسروراً وكان له حصناً»((3))، وهذا من باب المقتضي والأثر الغيبي الذي يقدّره اللّه تعالى إن شاء.

ص: 159


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 44.
2- ([2]) تفسير العيّاشي 2: 46؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 259.
3- ([3]) البرهان في تفسير القرآن 4: 260.

ص: 160

سورة التوبة

الإطار العام للسورة

موضوع هذه السورة المباركة كيفية التعامل مع المشركين الناقضين للعهد وغير الناقضين ومع أهل الكتاب، ومع المنافقين المخالفين لأمر اللّه ورسوله، وأكثر آياتها حول غزوة تبوك وما جرى على المسلمين فيها.

فالقسم الأوّل من السورة: بيان نقض المشركين للعهود وأن ذلك صار سبباً لبراءة اللّه ورسوله من عهودهم، ويستثنى من ذلك المعاهدون الذين التزموا بالعهود، أو إذا أسلموا، مع الحث على قتال الناقضين للعهد، وأنه لا حقّ للمشركين في المسجد الحرام لأنه دار التوحيد لا دار الشرك، ولذا لا يجوز لهم دخوله بعد البراءة منهم، ثمّ حث المسلمين على نصر الرسول وأنّهم إن لم ينصروه فإن اللّه ناصره كما نصره في غزوة حنين، وفي الغار حين هجرته من مكة، ثمّ الحث على جهاد أهل الكتاب مع بيان سببه وبيان حال أحبارهم ورهبانهم.

والقسم الثاني من السورة: حول غزوة تبوك التي فضحت المنافقين، وبيان مواقف الناس في الغزوة، فمنهم منافقون يستأذنون لئلّا يجاهدوا من غير عذر صحيح، بل لو خرجوا مع المسلمين زادوهم خبالاً وهم طلاب فتنة

ص: 161

وأعمالهم غير مقبولة، ومنافقون إن أعطوا المال رضوا وإن لم يعطوا سخطوا، ومنافقون يؤذون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومنافقون يخالفون عهدهم مع اللّه تعالى ويلمزون المتصدّقين، ثمّ بيان أن المخلّفين يفرحون بمعصيتهم لكن اللّه تعالى يعاقبهم في الدنيا بتشريعات وفي الآخرة بالعذاب، وهناك أعراب يعتذرون بأعذار واهية، ثمّ يستثني اللّه ذوي الأعذار الحقيقية كالضعفاء والمرضى ونحوهما.

ثمّ يصنّف اللّه تعالى الناس بشكل عام مع انطباق هذا التصنيف على مواقف الناس في غزوة تبوك، فمنهم: أعراب هم أشد كفراً ونفاقاً، ومنهم: أعراب مؤمنون، ومنهم: السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، ومنهم: الذين اتبعوهم بإحسان، ومنهم: منافقون من أهل المدينة ومن الأعراب حولها، ومنهم: المعترفون بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ومنهم: المرجَون لأمر اللّه، ومنهم: منافقون مخربون، ومنهم: المؤمنون المجاهدون في سبيل اللّه.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى لطفه بالنبي وبالمؤمنين الذين اتبعوه في غزوة تبوك مع صعوبتها وعلى بعض العصاة الذين تابوا.

ثمّ يأمر باتّباع الصادقين - وهم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) - بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثمّ يبيّن ثواب اتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الجهاد، ويستثني منهم من ينفر للتفقه في الدين.

ثمّ يبيّن اللّه كيفية قتال الكفّار، وحال المنافقين والمؤمنين، ثمّ تختم السورة بوصف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 162

الآيات 1-4

اشارة

{بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ 1 فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَٰفِرِينَ 2 وَأَذَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 3 إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَئًْا وَلَمْ يُظَٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ 4}

1- هذه {بَرَاءَةٌ} انقطاع الأمن والعصمة {مِّنَ اللَّهِ} بتشريعه {وَرَسُولِهِ} بتنفيذه {إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} بسبب نقضهم للعهود التي كانت بينهم وبين المسلمين.

2- {فَسِيحُواْ} سيروا بمهلة وأمن أيها المشركون {فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ} من عاشر ذي الحجة إلى عاشر ربيع الثاني {وَاعْلَمُواْ} أن هذه المدة لا تنفعكم و{أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} فلا تفوتونه وإن أمهلكم {وَ} اعلموا {أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَٰفِرِينَ} الخزي: ذل بفضيحة.

3- ثمّ عمّم اللّه البراءة فقال: {وَأَذَٰنٌ} إعلام {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} جميعاً - المسلمين والمشركين - {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} عاشر ذي الحجة {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} سواء المعاهدين الناقضين أم غير المعاهدين فلا تشريع منه تعالى لأمنهم، {وَرَسُولُهُ} كذلك بريء منهم فيرسل من يقاتلهم،

ص: 163

وكان المؤذن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعدعزل أبي بكر، {فَإِن تُبْتُمْ} أيها المشركون من الشرك {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في الدنيا والآخرة {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن التوبة {فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} فهو قادر على أخذكم {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في الدنيا والآخرة.

4- ويستثني من البراءة صنفين: أحدهما: الذين لم يغدروا فقال: {إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَئًْا} من العهود بل التزموا بجميع شروطها {وَلَمْ يُظَٰهِرُواْ} لم يعاونوا في نقض الشروط {عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ} التي اتفقتم عليها في المعاهدة، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} فمن التقوى الالتزام بالمعاهدة مع هؤلاء.

عدم بدأ سورة التوبة بالبسملة

بحوث

الأوّل: لم تبتدأ هذه السورة بالبسملة كسائر السور القرآنية «لأن بسم اللّه للأمان والرحمة، ونزلت سورة البراءة لرفع الأمان بالسيف»، كما عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ((1))، وأمّا ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «الأنفال وبراءة واحدة»((2)) فلعلّ المراد أن المعنى متقارب فكأن سورة التوبة تتمة لسورة الأنفال، وليس المعنى أنهما سورة واحدة، فالوحدة حُكمية من جهة المعنى وليست وحدة عددية.

وقد مرّ أن ترتيب القرآن بسوره وآياته وما فيه كلّه من اللّه تعالى وليس للناس فيه صنع، وأمّا الجمع الذي كان في زمن أبي بكر وعثمان فكان

ص: 164


1- ([1]) مجمع البيان 5: 9؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 381.
2- ([2]) تفسير العياشي 2: 73؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 381.

استنساخاً وبعث القرآن إلى بعض المدن، وإحراق قرآئين بعض الصحابة، وأمّا القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فكان جمعه بتفسيره وتأويله، وعليه فالقرآن الموجود الآن بين الدفتين هو بنفس الكيفية التي خلّفه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمّته.

الثاني: سبب نزول هذه الآيات أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عاهد مجموعة من المشركين، إلاّ أن الكثير منهم نقضوا العهود إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر، فصار المسلمون في حِلٍّ من تلك المعاهدات إلاّ أن اللّه تعالى أراد إعلام المشركين بانتهاء تلك العهود، ولعلّه لئلّا يُحمل عدم التزام المسلمين بها على الغدر بالمشركين وليتهيّأ المسلمون لقتالهم، ولفتح باب التوبة عليهم، ولعلّ بعض آحاد المشركين لم يكن يعلم غدر المعاهدين من قومه.

ثمّ اختار اللّه تعالى لزمان الإعلام وقتاً يجتمع فيه الجميع ليطلعوا على ذلك ولئلّا يبقى مجال لادّعاء بعضهم عدم العلم بانتهاء المعاهدات، فكان وقت الإعلام في الحج الأكبر.

وقد أمهلهم اللّه تعالى أربعة أشهر وهي فترة كافية لرجوع الحجاج منهم إلى ديارهم ووصول الخبر إلى جميعهم.

عزل أبي بكر عن تلاوتها في الحج

فأرسل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبا بكر إلى الحج، إلاّ أن اللّه تعالى أوحى إليه بأن يعزله ويرسل الإمام علياً (عليه السلام) لتلاوة هذه الآيات، وقد اتفقت رواية المسلمين على أن اللّه تعالى أوحى إلى رسوله: «لا يُؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك»((1))، وهذا كلام مطلق ولا يختص بإعلام هذه الآيات بل إعلامها

ص: 165


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 383-385.

شأن نزول هذا الوحي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص شأن الوحي، وخصوصية المورد لا تخصّص الوارد، ولذا أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام علياً (عليه السلام) بإعلان مجموعة أخرى من الأحكام التي أوحاها اللّه تعالى إليه كمنع حج المشركين بعد ذلك العام بقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}((1))، وكمنع الطواف عراة بقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ}((2))، وغير ذلك((3)).

لا يؤدّي عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ الإمام علي (عليه السلام)

وحيث إن هذا الموقف من اللّه تعالى دليل واضح على أن الذي يؤدّي عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كل شيء هو الإمام علي (عليه السلام) لا غيره، وفي ذلك دلالة صريحة على كونه الأفضل، لذلك حاول البعض اختلاق قضايا وإضافتها إلى هذه القصة لإلغاء دلالتها! إلاّ أن ما أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله بأنه: «لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك» حجة بيّنة على عدم صحة تلك الإضافات، مضافاً إلى التناقض والاضطراب في ما أضافوه، فراجع التفاسير المفصّلة.

الثالث: قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ}.

قوله: {بَرَاءَةٌ} هي التباعد والمزايلة، والمراد هنا انقطاع أمن وعصمة وانتهاء المعاهدة، وهي إمّا خبر لمبتدأ مقدر أي هذه براءة، أو مبتدأ والخبر قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم}.

ص: 166


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 28.
2- ([2]) سورة الأعراف، الآية: 31.
3- ([3]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 382-386.

وقوله: {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لأن التشريع من اللّه تعالى، والتنفيذ من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما أن في اقتران الاسمين زيادة احترام وتبجيل للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {إِلَى الَّذِينَ عَٰهَدتُّم} المعاهدة هي ميثاق بين طرفين، وأمّا العهد فقد يكون ميثاقاً أو أمراً كقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِي ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَٰنَ}((1))، ثمّ إن تلك العهود شارك في إبرامها المسلمون أيضاً ولذا نسب العهد إليهم فقال: {عَٰهَدتُّم}، وأمّا البراءة فهي أمر من اللّه تعالى يبلّغه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولذا خصّها بهما.

الرابع: قوله تعالى: {فَسِيحُواْ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ...} الآية.

إمهال لهم بعد الإعلام بالمدة الكافية ليرجعوا إلى مأمنهم ويأخذوا استعدادهم، وذلك رحمة من اللّه للناس، وإلاّ فيجوز أخذ الناقض للعهد بجرمه من غير إعلام له ولا إمهاله.

وقوله: {فَسِيحُواْ} من السياحة بمعنى السير على مهل، فيكونون في أمن وأمان.

وقوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٖ} وهي بدأت من حين الإعلام أي من يوم العاشر من ذي الحجة؛ إذ لا معنى لابتداء المدة قبل الإعلام، فلا يصح ما قاله بعضهم من أن الأشهر بدأت من شوال أو من ذي القعدة.

وقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} تهديد لهم بأن إمهالهم ليس عن ضعف، وأن اللّه غالب على أمره فلا يمكنهم معارضته.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَٰفِرِينَ} لبيان أن اللّه ينفّذ تهديده بأخذهم أخذ

ص: 167


1- ([1]) سورة يس، الآية: 60.

عزيز مقتدر، ف{غَيْرُ مُعْجِزِي} بيان قدرته تعالى، و{مُخْزِي} بيان إعمال تلك القدرة، و(الإخزاء) إذلال بفضيحة.

الخامس: قوله تعالى: {وَأَذَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ...} الآية.

هذه الآية تعميم للبراءة، حيث إن الآية الأولى كانت للبراءة من المشركين المعاهدين الذين نقضوا العهد، وهذه الآية لبيان البراءة من المشركين كافة حتى الذين لم يكن بينهم وبين المسلمين عهد، ولذا قال: {إِلَى النَّاسِ}، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «وكانت سيرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلاّ من قاتله، ولا يحارب إلاّ من حاربه وأراده، وقد كان نزل عليه في ذلك: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}((1))، فكان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يقاتل أحداً قد تنحّى عنه واعتزله، حتى نزلت عليه سورة البراءة وأمره اللّه بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلاّ الذين قد كان عاهدهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة إلى مدة...»((2)).

وقوله: {وَأَذَٰنٌ} وهو النداء المسموع، فالمقصود وصول الخبر إلى جميعهم بحيث لا يبقى أحد لا يعلم به.

وقوله: {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي كما كانت البراءة من اللّه ورسوله، كذلكالأذان منهما أي هما اللذان أمرا به، وكان المؤذّن الإمام عليّاً (عليه السلام) ، فهو

ص: 168


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 90.
2- ([2]) تفسير القمي 1: 281؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 383.

المؤذن من اللّه ورسوله في الدنيا بالبراءة من المشركين، وهو المؤذن في الآخرة باللعنة على الظالمين، قال تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّٰلِمِينَ}((1))((2)).

وقت الحج الأكبر

قوله: {الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} المراد هنا خصوص يوم العاشر من ذي الحجة من السنة التاسعة للّهجرة؛ وذلك لأن معظم أعمال الحج في هذا اليوم، وقد اجتمع المسلمون والمشركون للحج في تلك السنة فقط - حيث فتحت مكة في السنة الثامنة ولم يحج المسلمون فيها لانشغالهم بالغزوات، ومنع المشركون من الحج في السنة العاشرة فما بعد - ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّما سُمّي الأكبر لأنها كانت سنة حجّ فيها المسلمون والمشركون، ولم يحج المشركون بعد تلك السنة»((3))، وعنه (عليه السلام) قال: «يوم الحج الأكبر يوم النحر»((4))، وأمّا ما ورد من أنه: «خروج القائم (عليه السلام) وأذان دعوته إلى نفسه»((5)) فهو من التأويل بجريان مثل ذلك حين خروجه (عليه السلام) .

وكان الواجب الأذان بالبراءة يوم العاشر من ذي الحجة في السنة التاسعة، وهذا لا ينافي الإعلام قبله تمهيداً وبعده تأكيداً، ولذا ورد أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أذّن في المواقف كلّها، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «فبعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) ، وكان علي هو واللّه المؤذّن، فأذّن

ص: 169


1- ([1]) سورة الأعراف، الآية: 44.
2- ([2]) راجع معاني الأخبار: 59.
3- ([3]) معاني الأخبار: 296.
4- ([4]) تفسير العياشي 2: 76.
5- ([5]) تفسير العياشي 2: 76؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 387.

بأذان اللّه ورسوله يوم الحج الأكبر من المواقف كلّها»((1)).

نعم، يطلق الحج الأكبر في غير هذه الآية على الحج بجميع أيّامه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «الحج الأكبر يوم عرفة، وجَمع، ورمي الجمار، والحج الأصغر العمرة»((2)).

والحاصل: أن الحج الأكبر هو جميع أيام الحج إلاّ أن المقصود منه في هذه الآية خصوص يوم العاشر من ذي الحجة، واللّه العالم.

وقوله: {فَإِن تُبْتُمْ} المراد التوبة عن الشرك، لا نقض العهد؛ وذلك لأن هذه الآية بيان البراءة من جميع المشركين - سواء المعاهدين الناقضين أم غير المعاهدين - فتوبتهم بالإيمان، مضافاً إلى أن التوبة عن خصوص نقض العهد مع بقاء شركهم لا تنفع في رجوع العهد، ولذا لمّا نقضت قريش معاهدة الحديبية لم يقبل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجديدها مرّة أخرى رغم طلب أبي سفيان ذلك.

وقوله: {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن التوبة وبقيتم على الشرك.

وقوله: {غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} كما أن الناقضين غير معجزين كذلك عامة المشركين غير معجزين، فاللّه تعالى قادر عليهم.

وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} بيان أن اللّه تعالى يُعمل قدرته في عذابهم ف{غَيْرُ مُعْجِزِي} لبيان قدرته لكن القادر قد يعفو أو لا يستعمل قدرته،و{بَشِّرِ} لبيان أخذهم بتلك القدرة وعدم العفو عنهم، ويمكن أن يكون

ص: 170


1- ([1]) تفسير العياشي 2: 76؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 387.
2- ([2]) تفسير العياشي 2: 76؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 388.

الأوّل في الغلبة عليهم في الدنيا، والثاني في عذابهم في الآخرة.

وفي تقريب القرآن: «وتسمية الإنذار بشارة من باب الاستهزاء وذكر الضد مكان الضد، كما يسمى الزنجي كافوراً، والأعمى بصيراً، ولبيان أن العذاب يأتي مكان انتظار البشارة، فإن الكفّار كانوا ينتظرون بأعمالهم عاقبة حسنة فإذا بها عذاب ونكال»((1)).

السادس: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَئًْا...} الآية.

شروع في استثناء صنفين:

الصنف الأوّل: المعاهدون الملتزمون بالعهود، فلا يخالفون الشروط بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا الاستثناء يدل على أن أكثر المشركين كانوا بين ناقض للعهد وغير معاهد، وأمّا القليل منهم فمعاهد وفيّ بعهده.

وليس في الآية دلالة على عدم جواز معاهدة المشركين بعد ذلك، ولذا يجوز إبرام المعاهدات مع المشركين، وعليه فإطلاق أدلة جواز إبرام المعاهدات يدل على أنه يصح أن تتضمن المعاهدة خضوعهم لحكم المسلمين فيكونوا كأهل الذمة من أهل الكتاب.

وأمّا الصنف الثاني فسيأتي في الآية 6.

وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَئًْا} أي التزموا بمواد المعاهدة وشروطها بشكل تام من غير نقض شيء منها، فلو نقصوا شيئاً فقد نقضوا المعاهدة وهذا فيالالتزام المباشر.

ص: 171


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 366-367.

وقوله: {وَلَمْ يُظَٰهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا} قيل: هذا في الالتزام غير المباشر، فإن من يساعد العدو بالمال أو السلاح أو غير ذلك فقد نقض المعاهدة بشكل غير مباشر، وقيل: هو من ذكر الخاص بعد العام لأهمية عدم المظاهرة؛ ولأن بعض المشركين كان يزعم أنه لو ظاهر العدو خفي ذلك على المسلمين لعدم كون المظاهرة في العلن.

وقوله: {إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ} بيان أن العهد الموقّت لا يوجب التزاماً دائماً وإنّما التزاماً موقتاً، ومع انتهاء مدة العهد يكون المسلمون بالخيار بين تمديد المدة وتجديد العهد وعدم ذلك.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تعليل لاستثناء هؤلاء، فإن الغدر بهم خلاف التقوى، فالتعليل بأمر عام هو وجوب التقوى وتطبيقه على المورد الخاص وهو الالتزام بالعهد مع الملتزمين به.

ص: 172

الآيتان 5-6

{فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 5 وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ 6}

5- {فَإِذَا انسَلَخَ} مضى وانقضى {الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وهي أشهر السياحة التي حرم اللّه فيها قتال الناقضين وآخرها العاشر من ربيع الثاني، فأنتم بالخيار بين أمور أربعة: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} أي قاتلوهم {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} في أيّ مكان، {وَخُذُوهُمْ} بالأسر، {وَاحْصُرُوهُمْ} بمنعهم عن التحرك بحرية، {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ} بمراقبة حركتهم، فاختاروا ما هو الأصلح لئلّا يشكّلوا خطراً عليكم، {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك بأن آمنوا، هذا في العقيدة {وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ} هذا في الالتزام العملي بأحكام الشرع {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} بأن لا تتعرضوا لهم فقد صاروا إخوانكم في الدين {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوبهم لذا يقبل توبتهم {رَّحِيمٌ} بهم لذا رفع حكم القتل والأسر وغيرهما عنهم.

6- {وَ} الصنف الثاني الذي استثناه اللّه هو المستجير ف{إِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الذي أ ُمرت بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم {اسْتَجَارَكَ} استأمنك {فَأَجِرْهُ} أي أعطه الأمان {حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ اللَّهِ} عسى أن يهتدي

ص: 173

{ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي موضع أمنه أي ليكن في أمانك في رجوعه لئلّا يغدر به أحد في الطريق، {ذَٰلِكَ} أي إنّما استثنى اللّه هؤلاء {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} حقيقة الإيمان حيث لم يسمعوا القرآن وبراهينه فقد يكون سماعهم له سبباً لهدايتهم.

بحوث

الأوّل: لمّا حدد اللّه تعالى أشهر السياحة بحرية المشركين الناقضين للعهد وغير المعاهدين بأربعة أشهر بيّن أنه بانقضاء الأشهر الأربع يجب على المسلمين التضييق عليهم بالقتال أو غيره، والغرض من ذلك هو هدايتهم أو دفع خطرهم عن المسلمين، فإن اهتدوا فهو المطلوب، وإلاّ فلا بدّ من أن يختار المسلمون ما هو الأنسب في دفع شرهم إمّا بالقتال أو بالأسر أو الحصر أو المراقبة، كما أنه لا بدّ من إرشاد الجاهل منهم بفتح الطريق أمامه ليستمع إلى الهدى؛ إذ كثير من المشركين كانوا في مناطق بعيدة عن مكة والمدينة لم يسمعوا شيئاً عن الإسلام، فعسى أن يكون فيهم منصف قابل للّهداية فلذا لا بدّ من تعبيد الطريق أمامه ليستمع إلى الهدى، وهذا يتوقف على أحد أمرين: إمّا ذهاب المبلغين إليهم، وإمّا مجيئهم إلى دار الإسلام، فإذا امتنع الأوّل لوجود حالة القتال بين المسلمين والمشركين انحصر الأمر في الثاني بإعطاء الأمن لمن يريد سماع كلام اللّه، فإن استمع وأسلم فهو المطلوب وإن لم يهتد فلا بدّ من إرجاعه آمناً إلى محلّه.

الثاني: قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ...} الآية.

ص: 174

بيان الوظيفة العملية بعد انتهاء المدة.

وقوله: {انسَلَخَ} بمعنى انتهى وانقضى، وأصله من سلخ جلد الشاة، فكأن الأربعة أشهر تحميهم كما يحافظ الجلد على الشاة.

وقوله: {الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أي أشهر السياحة - التي ابتدأت بالعاشر من ذي الحجة وانتهت في العاشر من ربيع الثاني، فليس الأشهر الحرم هنا بمعناه المصطلح - وهو رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم - بل الألف واللام في {الْأَشْهُرُ} للعهد الذكري، و{الْحُرُمُ} بمعنى حرمة التضييق عليهم.

وقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ...} بيان كيفية التعامل معهم وذلك بالتخيير بين أمور أربعة، والواو فيها بمعنى أو، وليست الواو للجمع؛ إذ لا يمكن الجمع بين القتل والأخذ، وفي التقريب: «وليس المراد قتل كل فرد فرد، بل المراد وقوع المقاتلة وأنهم في حكم المحارب»((1)).

وقوله: {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أي في أيِّ مكان فلا يحتاج إلى إعلام حالة الحرب واصطفاف الجيوش مثلاً، فدماؤهم مهدورة، وليس ذلك من الغيلة والغدر؛ إذ تمّ إعلام البراءة وإمهالهم أربعة أشهر، فالمراد أن لا يشعروا بالأمان في أيّ مكان وأيّة حالة، وقيل: حيث وجدتموهم في حِلٍّ أو حرم.

وقوله: {وَخُذُوهُمْ} هو الشق الثاني من التخيير، ويشمل الأسر والحبس.

وقوله: {وَاحْصُرُوهُمْ} هو الشق الثالث، أي منعهم عن الحركة بحيث لا يتمكنون من الذهاب والأياب إلى أماكن أخرى.

وقوله: {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٖ} وهو الشق الرابع، أي مراقبتهم والتجسس

ص: 175


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 368.

عليهم في تحركاتهم لئلّا يشكلوا خطراً على المسلمين، و(المرصد) الطريق أو كل مكان يتم به مراقبة تحركاتهم.

الثالث: قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ...} الآية.

أي التضييق المذكور - بالقتل والأخذ والحصر والرصد - غايته هو إسلامهم حيث إنهم إن أسلموا صاروا من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

وقوله: {تَابُواْ} أي عن الشرك بأن آمنوا، وهذا في جانب العقيدة.

وقوله: {وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ} هذا في جانب العمل، فلا يكفي مجرد لقلقة اللسان بل لا بدّ من الالتزام العملي بأحكام الإسلام والذي أهمها الصلاة والزكاة، فإن الذين يظهرون إسلامهم باللسان على ثلاثة أقسام:

1- من آمن بقلبه أيضاً والتزم بأحكام الإسلام، فهذا مؤمن ظاهراً وباطناً.

2- من نافق مع التزامه بأحكام الإسلام، فهذا محكوم عليه بالإسلام ظاهراً فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، لكنه في الآخرة يكون مع الكفّار وهو في الدرك الأسفل من النار.

3- من لم يؤمن قلبه ولا التزم بأحكام الإسلام، وإنّما تاب توبة ظاهرية فكلامه مجرد لقلقة لسان فقد يقال بأن هذا لا يحكم عليه بالإسلام، فتأمل.

وقوله: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أي أتركوهم ولا تتعرضوا لهم، فكأن المسلمين قد وقفوا في طريقهم حين الشرك، وتركوا الطريق حين الإسلام.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ اللَّهِ...} الآية.

ص: 176

حيث إن الغرض من بعث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو هداية الناس فلذا استثنى اللّه تعالى المشرك الجاهل الذي يريد التعرّف على الإسلام، فلا بدّ من إعطائه الأمن لكي يحقق عن الإسلام بحرية تامة من غير خوف على نفسه؛ إذ لولا إعطائهم الأمن لما خرجوا وبقوا على جهلهم وكفرهم، أمّا مع إعطاء الأمن فعسى أن يهتدي منهم جمع كثير.

وقوله: {اسْتَجَارَكَ} أي طلب أن تجيره، فالاستجارة بمعنى الاستئمان وطلب الأمن.

وقوله: {حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ اللَّهِ} أي ينحصر الغرض من إعطاء الأمن في أن يسمع إلى كلام اللّه ليعلم به، و{كَلَٰمَ اللَّهِ} يشمل القرآن وترجمته وبيان معناه، بل يشمل كلام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنه {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}((1)).

وقوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي أوصله إلى محل أمنه إن لم يسلم، والمقصود توفير الحماية له إلى وصوله إلى بلده وليس مجرد تركه ليرجع ولعل ذلك ليكون أدعى لهم للخروج إلى سماع كلام اللّه تعالى، فلا يكفي مجرد شعورهم بالأمن من المسلمين فقط.

وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} تعليل لهذا الاستثناء، وعليه فالمشرك الجاحد لا يُجار؛ لأن الإجارة إنّما هو للجاهل عسى أن يعلم فيهتدي.

ومن ذلك كلّه يتبين أن الآية غير منسوخة أصلاً بل هي في صميم مهمة الأنبياء والرسل (عليهم السلام) ؛ لأن هذه الإجارة من أسباب هداية كثير من الناس.

ص: 177


1- ([1]) سورة النجم، الآية: 3-4.

الآيات 7-12

اشارة

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَٰمُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ 7 كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَٰهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَٰسِقُونَ 8 اشْتَرَوْاْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 9 لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ 10 فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ 11 وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَٰتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَٰنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ 12}

7- ثمّ يبيّن اللّه تعالى سبب البراءة من عهود الناقضين فقال: {كَيْفَ} استفهام إنكاري {يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ}؟ فإن ذلك غير معقول مع كونهم ناقضين للعهد حيث إن للعهد غرضاً لا يبقى مع نقضهم. {إِلَّا الَّذِينَ عَٰهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} حيث لم ينقضوا العهد {فَمَا اسْتَقَٰمُواْ} أي مادام ثبتوا على العهد {لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} بالوفاء بعهدهم فإن ذلك من التقوى و{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.

8- {كَيْفَ} يكون لهم عندكم عهد {وَ} الحال أنهم {إِن يَظْهَرُواْ} يظفروا {عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ} لا يراعوا {فِيكُمْ إِلًّا} قرابة {وَلَا ذِمَّةً} عهداً {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَٰهِهِمْ} أي التزامهم بالعهد لا يتعدى الكلام الذي فيه رضىً

ص: 178

لكم {وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ} الوفاء بالعهد بل يضمرون الغدر ويتحيّنون الفرص لذلك {وَأَكْثَرُهُمْ} أكثر المشركين {فَٰسِقُونَ} خارجون عن العهد ناقضون له.

9- وسبب ذلك أنهم ظلموا أنفسهم ف{اشْتَرَوْاْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} بدلاً عنها {ثَمَنًا قَلِيلًا} من الهوى والشهوات، وظلموا الذين يريدون الإسلام {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} منعوهم عن الإيمان، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بالنسبة إلى أنفسهم وإخوانهم الكفّار.

10- وظلموا المسلمين ف{لَا يَرْقُبُونَ} لا يراعون {فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا} قرابة {وَلَا ذِمَّةً} عهداً {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} لا المؤمنون، حيث إن المشركين اعتدوا بنقض العهد فالخروج عن عهدهم ليس اعتداءً منكم أيها المؤمنون.

11- وحيث علمتم أخلاقهم وعملهم فموقفكم منهم إن تابوا فهم منكم وإن نكثوا فقاتلوهم، فقال: {فَإِن} أسلموا بأن {تَابُواْ} عن الشرك {وَ} خضعوا لأحكام الإسلام ف{أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي الدِّينِ} أي عاملوهم معاملة الأخ فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم، {وَنُفَصِّلُ الْأيَٰتِ} نميّزها ونبيّنها {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} أمّا الجهلة فلا تنفعهم الآيات.

12- {وَإِن نَّكَثُواْ} نقضوا {أَيْمَٰنَهُم} التي عقدوها جمع يمين بمعنى الحلف {مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} معكم {وَطَعَنُواْ} عابوا وقدحوا {فِي دِينِكُمْ فَقَٰتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} حيث إنهم الناقضون وباقي الكفّار تبع لهم {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَٰنَ لَهُمْ} أي لا حرمة لحَلفهم وعهدهم بعد نكثهم، وإنّما تقاتلونهم {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} عن الكفر فليكن غرضكم هدايتهم لا مجرد الانتقام منهم.

ص: 179

سبب البراءة من المشركين

بحوث

الأوّل: لما حكم اللّه تعالى بالبراءة من عهود المشركين الناقضين وأمر بالتضييق عليهم بالقتال وغيره بيّن سبب ذلك مع تقديم استثناء الذيناستقاموا على العهد، وحاصله: لا يعقل أن يبقى عهد مع الغادرين الناقضين للعهد وهم يتحينون الفرص للإيقاع بكم فيخادعونكم بالكلام المعسول مع كون قلوبهم تقصد غيره، وإنّما كان حالهم ذلك لأنهم ظلموا أنفسهم أوّلاً برفض آيات اللّه لأجل دنيا فانية، وظلموا إخوانهم الكفّار ثانياً حيث منعوهم عن الدخول في الإسلام، وظلموا المؤمنين ثالثاً بعدم مراعاة قرابة ولا ذمة معهم، ومن كان شأنه كذلك لا حريجة له عن الغدر بالعهود والمواثيق وقد غدروا بالفعل فلا معنى للبقاء على عهدهم؛ لأن إبرام العهود إنّما هو بغرض الأمن وسائر المصالح، ولا أمن ولا مصلحة مع غادر، إن تاب قبل اللّه توبته، وإن نقض العهد فلا بدّ من مقاتلته بغرض انتهائه عن الكفر لا لمجرد الانتقام، مع بيان أنه لا بدّ من التركيز على قادة الكفر الذين يتبعهم الآخرون، فإن هؤلاء ينظر إليهم سائر الكفّار فإن آمن القادة آمن الأتباع معهم وإن نقضوا نقضوا معهم، فالأولى عدم تشتيت القوى بل استئصال شأفة الكفر بقطع رأسه.

الثاني: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ...} الآية.

شروع في تعليل البراءة، بأنه مع غدرهم لا عهد من اللّه ورسوله لهم، وبيان سبب الاستثناء الأوّل، وهو استمرار العهد مع غير الناقضين لأنهم

ص: 180

استقاموا فلا بدّ أن يقابلوا باستقامة مثلها فإن ذلك من التقوى.

وقوله: {كَيْفَ} استفهام إنكاري، وهو يفيد النفي، أي لا يعقل أن يأمر اللّه بعهد مع غادر فإن اللّه تعالى حكيم ولا حكمة في بقاء العهود مع غادر،كما أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثاقب الرأي مأمور، ومن السذاجة الوفاء لغادر يتحين الفرص للإيقاع بالمؤمنين.

وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ...} جملة معترضة لبيان أن هذه العلة لا تشمل الملتزمين منهم وأن الوفاء مع هؤلاء من التقوى المأمور بها، وعليه فلهؤلاء عهد عند اللّه حيث أمر بالتقوى، وعند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث إنه مأمور بمكارم الأخلاق والأعمال.

وقوله: {عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كأنه لبيان مصداق الذين وفوا بالعهد من المشركين ليعرفهم المسلمون فلا يقاتلوهم، قيل: هم بنو ضمرة حيث دخلوا في عهد قريش يوم صلح الحديبية ولم ينقضوا العهد لما نقضته قريش.

وقوله: {فَمَا اسْتَقَٰمُواْ لَكُمْ} «ما» مصدرية زمانية، أي في مدة استقامتهم بالوفاء بعهدكم يلزمكم الوفاء بعهدهم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} بيان أن الوفاء مع الملتزمين منهم من التقوى واللّه تعالى قد أمر بالتقوى.

الثالث: قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً...} الآية.

لمّا جاء استثناء الملتزمين كجملة معترضة لزم تكرار {كَيْفَ} مع عدم الحاجة إلى تكرار مدخولها لوضوحه، أي كيف يكون للمشركين عهد عند

ص: 181

اللّه ورسوله والحال أنهم يتصفون بالصفات التالية:

1- قوله: {وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ...} أي لا حريجة لهم من دين أو أخلاق عن الغدر، و{يَظْهَرُواْ} بالغلبة عليكم والسلطة عليكم و(إلّ) بمعنى قربىالرحم وقيل: بمعنى اللّه، وقيل بمعنى الحلف، و(الذمة) العهد لأنه يذمّ الإنسان على إضاعته.

2- وقوله: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَٰهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ} أي يخادعونكم بكلام فيه رضاكم وهو التزامهم بالعهود، لكن قلوبهم تخالف ذلك وتنطوي على الغدر.

3- وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَٰسِقُونَ} أي غادرون، فالفسق هنا بمعنى الخروج عن العهد والميثاق، وأمّا الأقلّ منهم فهم الذين استقاموا على العهد ووفوا به لتعففهم عمّا يخدش في العرض.

والحاصل: أنهم عملاً غدروا، وقلوبهم تأبى الوفاء، ولا حريجة لهم من دين أو أخلاق، ومن كان كذلك فلا معنى للبقاء في عهده.

سبب نقض المشركين للعهد

الرابع: قوله تعالى: {اشْتَرَوْاْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى قوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}.

هذا بيان لحالة المشركين العامة وهي التي أدت بهم إلى نقض العهد، وبهذا يتبيّن عدم التكرار في الآيات، فحاصل المعنى أن صفة المشركين هي الاشتراء والصد وعدم المراقبة، وذلك أدّى بهم إلى نقض العهد والخداع والغدر حين القدرة، فتلك الصفات هي:

1- قوله: {اشْتَرَوْاْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} أي رفضوا الدلائل الواضحة

ص: 182

مقابل ثمن بخس هي شهواتهم وأهواؤهم.

2- وقوله: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} منعوا الناس عن الإيمان، وهذا نتيجة الاشتراء؛ لأنهم يعلمون أنه إذا آمن الناس لا يتمكنون من نيل أهوائهموشهواتهم لذا منعوهم عنه بالقوة تارة، وبالإرعاب أخرى، وبالإشاعات ثالثة، وبغير ذلك.

3- {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} أي حالتهم عدم المراعاة، وهذه الثلاثة معاً صارت سبباً لأن يغدروا حين القدرة.

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} بيان أن البراءة منهم ومن عهودهم ليس اعتداء منكم ليكون منهياً عنه، بل هم المعتدون حيث نقضوا العهود فصرتم أنتم في حِلٍّ منها.

والحاصل: أن الشرك يؤدّي إلى رذائل الأخلاق وهي تؤدّي إلى سوء الأعمال.

الخامس: قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ...} الآية.

بيان سبب الاستثناء الثاني فليس تكراراً لما في الآية الخامسة فالمعنى إن توبتهم عن الشرك وخضوعهم لأحكام الإسلام سبب غفران ما ارتكبوه من نقض العهد، بل يكونون كسائر المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

وقوله: {فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي الدِّينِ} أي عاملوهم معاملة سائر المسلمين فالجميع إخوان في الإسلام، فكما أن الإخوان في النسب متساوون في الحقوق وتترتب على الأخوّة النسبية أحكام شرعية، كذلك الإخوان في الدين متساوون في الحقوق وتترتب على هذه الأخوّة جملة من الأحكام.

ص: 183

وقوله: {وَنُفَصِّلُ الْأيَٰتِ} التفصيل هو التمييز ولازمه الوضوح والظهور.

وقوله: {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} لأنهم هم المنتفعون بهذه الآيات المفصلّة، والقرآن وإن نزل للجميع إلاّ أن الجهلة لا ينتفعون به لزيغ قلوبهم وسوءأعمالهم.

كيفية قتالهم والغرض منه

السادس: قوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ...} الآية.

أي إن أصرّوا على نقض العهد ولم يتوبوا فهؤلاء لا بدّ من قتالهم، والظاهر أن الغرض من هذه الآية ليس مجرد التأكيد على البراءة منهم وقتالهم، وإنّما بيان كيفية قتالهم وبيان الغرض الأسمى في ذلك القتال، وبيان كيفية نقضهم.

1- أمّا كيفية قتالهم: فهي بالتركيز على رؤوس الكفر الذين يتبعهم الآخرون، فهم الأولى بالقتال؛ إذ بالغلبة عليهم يخضع سائر الكفّار لحكم اللّه تعالى، وأمّا مع تركهم وقتال الأتباع فذلك تشتيت القُوى وإضاعة الجهود، وقبل ذلك لما فتح اللّه مكة أسلم عامة العرب لأن أهل مكة كانوا رؤوس الكفر، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}((1))، وهكذا كان بعد نزول آيات البراءة، وسيأتي بيانه بعد قليل.

2- وأمّا الغرض الأسمى في قتالهم: فهو انتهاؤهم عن الكفر وإسلامهم، وليس مجرد الانتقام منهم، وإن كان ذلك أيضاً مطلوباً كما سيأتي في الآيتين 14-15.

ص: 184


1- ([1]) سورة النصر، الآية: 1-2.

3- وأمّا كيفية نقضهم للعهد: فبمخالفة اليمين وبالطعن في الإسلام.

قوله: {وَإِن نَّكَثُواْ} النكث هو النقض، وأصله في نكث الغزل والحياكة ثمّ استعير في نقض العهود.

وقوله: {أَيْمَٰنَهُم} جمع يمين بمعنى القَسم؛ وذلك لأنهم إذا تعاهدوا حلفوا على الالتزام به، وهذا تشنيع عليهم.

وقوله: {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} ولعل هذا كان من مصاديق صدهم عن سبيل اللّه، بأن كانوا يقدحون في الإسلام ويعيبون عليه بالأكاذيب لئلّا يدخل الناس فيه.

قتال أهل الجمل

وقوله: {فَقَٰتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} لأنهم المضلّون لغيرهم، فالنقض بدأ منهم واتبعهم الآخرون، فإن استؤصلوا زالت شوكة الكفر وزال المانع عن إسلام غيرهم من أتباعهم.

وقوله: {لَا أَيْمَٰنَ لَهُمْ} أي لا قيمة لأيمانهم بعد نقضهم لها، أو لا أيمان لصالحهم بمعنى أن حلفكم أنتم المسلمين بالالتزام بالعهود قد انتهى أجله لأنه كان حلفاً مشروطاً فلما خالفوا الشرط صرتم في حِلّ منه.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} بيان الغرض الأسمى من قتال أئمة الكفر وهو إسلامهم، فاللّه تعالى قد أرسل رسوله لهداية الناس ولم يشرّع القتال إلاّ للدفاع ونصرة الدين، فليس الغرض مجرد الانتقام منهم.

ثمّ اعلم أن هذه الآية نزلت في السنة التاسعة من الهجرة وقد تلاها أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحج الأكبر، ولم يقاتل المسلمون بعدها أئمة الكفر في زمن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان أهل الجمل أوّل من قوتلوا بهذه الآية، فعن أمير

ص: 185

المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «عَذَرني اللّه من طلحة والزبير، بايعاني طائعين غير مكرهين، ثمّ نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته، واللّه ما قُوتل أهل هذه الآيةمنذ نزلت حتى قاتلتهم»((1))، والروايات في ذلك كثيرة((2)).

ص: 186


1- ([1]) تفسير العياشي 2: 79؛ شواهد التنزيل 1: 209؛ عنهما في البرهان في تفسير القرآن 4: 403.
2- ([2]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 400-403.

الآيات 13-16

اشارة

{أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 13 قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٖ مُّؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 15 أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ 16}

13- ثمّ يحثّهم اللّه على جهاد المشركين الناقضين فقال: {أَلَا تُقَٰتِلُونَ} استفهام للحث والتحضيض أي هلّا، {قَوْمًا} اجتمعت فيهم أسباب قتالهم فأوّلاً: خانوا اللّه بأن {نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ} نقضوا قَسَمهم في العهد، {وَ} ثانياً: عارضوا رسوله بأن {هَمُّواْ} عزموا {بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} من مكة حيث تشاوروا في دار الندوة على ذلك {وَ} ثالثاً: {هُم بَدَءُوكُمْ} بالقتال {أَوَّلَ مَرَّةٍ} حيث خرجوا إلى بدر لقتال المسلمين، ثمّ يبيّن اللّه تعالى سبب الإحجام عن قتالهم: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} استفهام إنكاري أي هل تخافون أن ينالكم منهم مكروه؟ {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} بأن تطيعوه في أمره بقتالهم حيث إن عذابه أشد {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حيث إن المؤمن هو الذي يخشى اللّه ويطيعه.

14- ثمّ يأمرهم اللّه بقتالهم ويرفع خشيتهم ببيان فوائد قتالهم {قَٰتِلُوهُمْ

ص: 187

يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} بالقتل والأسر {وَيُخْزِهِمْ} يذلّهم ويفضحهم {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٖ مُّؤْمِنِينَ} وهم الذين آذاهم الكفّار وغدروا بهم.

15- {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} حيث إن أذية الكفّار ملأ قلوبهم غيظاً وهو ما تُذهبه فرحة الانتصار، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} من أولئك الكفّار إن آمنوا وعملوا الصالحات، وهذا بمنزلة الاستثناء {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بالمصلحة لذا أمركم بالقتال، وعليم بالقلوب والأفعال لذا يتوب على من تاب {حَكِيمٌ} في أمره بقتالهم إن لم يتوبوا.

16- ثمّ يبيّن اللّه سبب أمره بقتالهم فقال: {أَمْ} منقطعة وفيها معنى الاستفهام {حَسِبْتُمْ} ظننتم {أَن تُتْرَكُواْ} من غير أمركم بالجهاد {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} أي لم يظهر بسرعة ما علمه اللّه تعالى من التمييز بين المؤمنين {الَّذِينَ} عارضوا الكفّار بأن {جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَ} ولم يوالوهم بأن {لَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي بطانة وهم أصحاب السِرّ، وبين العصاة الذين والوا الكفّار وتركوا جهادهم، {وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ} لا يخفى عليه شيء من بواطنكم وظواهركم.

بحوث

الأوّل: لما أمر اللّه تعالى بقتالهم بيّن أوّلاً: أسباب قتالهم فذكر ثلاثة أمور تصلح كل واحدة منها لقتالهم، وهي مخالفتهم اللّه بنقض أيمانهم، ومعارضتهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعزمهم إخراجه، وشروعهم قتال المسلمين.

ثمّ بيّن سبب إحجام البعض عن قتالهم وهو خشية أن ينالهم أذى منهم.

ص: 188

ثمّ بيّن اللّه تعالى فوائد قتالهم كل فائدة لوحدها تصلح للأمر بقتالهم،وهي: عذاب الكفّار في الدنيا، ونصر المسلمين عليهم، وشفاء صدور المؤمنين الذين غدر الكفّار بهم فقتلوا بعضهم.

ثمّ بيّن تعالى علة وجوب الجهاد وهو تمييز المطيع الذي يجاهد ولا يوالي الكفّار من العاصي الذي يترك الجهاد ويوالي الكفّار.

الثاني: قوله تعالى: {أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ...} الآية.

بيان أسباب قتالهم الثلاثة.

أسباب قتال المشركين

وقوله تعالى: {قَوْمًا} أي المشركين بشكل عام، وليس المراد خصوص أهل مكة؛ لأن هذه الآيات نزلت بعد فتحها بسنة، وإنّما نسب إلى غيرهم ما فعلوه لأن الكفر كلّه ملّة واحدة، ولرضا سائر المشركين بأفعال مشركي مكة، ولانطواء نفوسهم على هذه الرذائل إن استطاعوا إليها سبيلاً، والأسباب هي:

1- {نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ} حيث حلفوا باللّه حين المعاهدة، وبنكثهم لم يراعوا حرمة اللّه تعالى.

2- وقوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} الهمّ هو العزم على الشيء، وغير خفي أن المشركين تشاوروا في دار الندوة بين حبس الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإخراجه وقتله كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}((1))

ثمّ استقر رأيهم على قتله، فلعل ذكر خصوص الإخراج هنا لبيان أن أخفّ ما همّوا به كافٍ في الأمر بقتالهم فضلاً عن الحبس والقتل

ص: 189


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 30.

وهما أشد، أو لأن الإخراج هو الذي حصل ممّا هموا به، قال سبحانه: {مِّنقَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ}((1)).

3- وقوله: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي البدء بالقتال حيث خرجوا لقتال المسلمين في بدر، والدفاع حق مشروع مكفول.

وقوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} بيان أن سبب الإحجام عن قتالهم هو خشيتهم حيث إن الذي يحق له شرعاً وعقلاً الدفاع لا يمتنع عن القتال إلاّ لو خاف، والاستفهام إنكاري.

وقوله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} لأن ضرر المشركين قليل إذا قيس بعقاب اللّه تعالى.

الثالث: قوله تعالى: {قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

فيه إزالة خشيتهم ببيان فوائد قتالهم، وذلك يتضمن وعداً منه تعالى أيضاً.

فوائد قتالهم

وقوله: {قَٰتِلُوهُمْ} هو تصريح بالأمر بالقتال بعد الحث عليه في الآية السابقة، والفوائد هي:

1- قوله: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} العذاب الدنيوي بقتلهم وأسرهم، ويمكن أن يدخل فيه العذاب الأخروي أيضاً، حيث يبدأ ذلك بموتهم قتلاً بيد المسلمين كما قال تعالى في قتلاهم ببدر: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَٰرَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}((2)).

ص: 190


1- ([1]) سورة محمّد، الآية: 13.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 50.

2- وقوله: {وَيُخْزِهِمْ} أي يذلّهم بفضيحة، وهذا أمر نفسي، كما أن العذاب أمر بدني.

3- وقوله: {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} وهذا يقابل عذابهم وخزيهم، فالنصر مادي ومعنوي.

4- وقوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٖ مُّؤْمِنِينَ} وهم الذين غدر المشركون بهم حيث قتلوا بعضهم، فكأن صدورهم سقيمة بما اعتلج فيها من الهم والغم، فيكون قتالهم برءاً لها وسلامة.

5- وقوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} الغيظ هو أشد الغضب، حيث إن المشركين قتلوا جمعاً من المؤمنين وآذوهم فقد امتلئت قلوبهم غيظاً عليهم، وفرحة النصر تزيل الغيظ، ثمّ إن الهمّ والغيظ صفتان مختلفتان، والهمّ كالمرض فزواله شفاء، والغيظ ليس كالمرض وقد يزول بزوال سببه فالأمر بقتال المشركين وما يترتب عليه يرفع هاتين الصفتين، وقيل: إن الشفاء في الأمر بقتالهم وإذهاب الغيظ بالنصر عليهم.

وقوله: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} استئناف لفسح الطريق أمام الكفّار للتوبة، وإخبار المؤمنين بأن بعضهم سيؤمنون وفي ذلك زيادة سرور لهم.

الرابع: قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ...} الآية.

بيان لسبب أمره تعالى بجهادهم بالتمييز بين المطيعين والعصاة، فإن الآيتين السابقين كانتا في الفوائد التي تترتب على جهادهم، وهذه الآية لبيان علة الوجوب، وفرق بين الفائدة وبين العلة الغائية، مثلاً علة وجوب

ص: 191

الصوم هي التقوى، وتترتب عليه فائدة صحة الجسم مثلاً.

وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أم بمعنى بل وتستعمل عادة في عِدل الاستفهام فحيث قال: {أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَٰنَهُمْ} عادله بهذه الآية.

وقوله: {أَن تُتْرَكُواْ} أي من غير تكليف، أو آمنين في بلدكم.

وقول--ه: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} (لمّا) لنفي ما يتوقع حصوله والمراد نفي المعلوم لا العلم، أي لم يظهر ما علمه اللّه تعالى؛ لأن الثواب والعقاب على العمل لا على العلم.

والحاصل: أن اللّه تعالى أراد التمييز بين المسلمين بأمرهم بالقتال وكان ذلك يحصل بشيئين: الجهاد وعدم موالاة الأعداء.

1- قوله: {الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ} أي من المسلمين وهم الذين استجابوا للّه ورسوله في الأمر بالجهاد.

2- وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ...} أي لم يوالوا الكفّار؛ لأن الوليجة هي البطانة التي يخفي الإنسان لديها أسراره، وهي من أظهر مصاديق التولي، فهؤلاء يرفضون جهاد أصدقائهم الكفّار، كما انخزل عبد اللّه بن أ ُبي ومجموعة من المنافقين يوم أحد قبل المعركة لأنهم كانوا يوالون مشركي مكة.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ...} أمّا اتخاذ اللّه تعالى وليجة فبحبّه وطاعته ودعائه وبث الحزن إليه، وأمّا اتخاذ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فبطاعته وعدم كتمانه شيئاً، وأمّا اتخاذ المؤمنين فبالصداقة معهم وبث ما في القلب إليهم، وفي رواية متعددة أن المراد بهم الأئمة (عليهم السلام) ((1)).

ص: 192


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 408-409.

وقوله: {وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ} الخبير هو العالم ببواطن الأمور، وكأن المقصود بيان أن {لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} ليس علماً عن جهل بل علم عن خبرة، حيث أراد اللّه أن يتحقق معلومه.

ص: 193

الآيات 17-22

اشارة

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ اللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ 17 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ 18 أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ 19 الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ 20 يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٖ مِّنْهُ وَرِضْوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ 21 خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ 22}

17- وحيث إن اللّه بريء من المشركين ف{مَا كَانَ} أي لا يحق {لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ} بالبناء والترميم والتنوير ونحوها {مَسَٰجِدَ اللَّهِ} حال كونهم {شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم} بأقوالهم وأفعالهم {بِالْكُفْرِ} حيث لا يجتمع الكفر بآيات اللّه مع تعمير بيوته. {أُوْلَٰئِكَ} الكفّار {حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَٰلُهُمْ} فما فائدة إعمارهم المساجد؟ {وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ} فلا تهديهم أعمالهم - ومنها الإعمار - إلى الجنّة والثواب.

18- {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اللَّهِ} يحق له ذلك {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} هذا في جانب العقيدة، {وَ} شهد على نفسه بالإيمان بأن {أَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ} هذا في جانب العمل حيث إنهما أهم من العمارة {وَلَمْ

ص: 194

يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} أي ليس خوفه في الدين إلاّ من اللّه لا الأصنام، وهذا لا ينافي الخوف الغريزي من المحاذير الدنيوية كالسبع واللص ونحو ذلك {فَعَسَىٰأُوْلَٰئِكَ} المتصفون بهذه الصفات {أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} إلى طريق الجنّة عكس أولئك الذين هم في النار خالدون.

19- ثمّ بيّن اللّه سبب حق المؤمن بالعمارة دون المشرك {أَجَعَلْتُمْ} استفهام إنكاري {سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي أهل السقاية والعمارة من دون إيمان {كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حيث أردتم التفاضل بينهما مع أنهم {لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ}، فأولئك ظالمون بالشرك {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي} إلى ثوابه {الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} فكيف يسمح لهم بعمارة بيته وخدمة زوّاره؟ والحاصل: أن الغرض من العمارة والسقاية كسب ثواب اللّه ولكنه تعالى حرّم ثوابه على المشرك فلذا لم يشرّعهما لهم.

20- ف{الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ} تحملوا تبعة إيمانهم ف{هَاجَرُواْ وَ} أرخصوا أموالهم وأنفسهم في سبيله ف{جَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً} على من ليسوا كذلك حتى وإن عمّروا المساجد وسقوا الحجاج، {عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الذين يظفرون بالثواب.

21- {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} في القرآن وعلى لسان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بِرَحْمَةٖ مِّنْهُ وَرِضْوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ} والتنكير للتعظيم {لَّهُمْ فِيهَا} في الجنات {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} دائم لا زوال له.

22- {خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} في الجنات، وإنّما يبشرهم بذلك حيث {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

ص: 195

عمارة المسجد الحرام وخدمة زواره

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر اللّه براءته وبراءة رسوله من المشركين أتبعه ببيان منعهمعن عمارة بيته وخدمة زوّاره مع بيان سبب هذا الحكم؛ وذلك لأنهم كفّار باللّه فلا وجه لعمارتهم لبيته، ولأن المقصود من ذلك هو الثواب والجنّة، والمشرك لا ثواب له لأنه ظالم وأعماله باطلة بسبب شركه، والجنّة محرمة عليه بل مصيره إلى الخلود في النار، وحيث إن البيت بيت اللّه والحجاج زواره فلا معنى لأن يكون لأعداء اللّه تعالى شأن فيه، وإنّما الشأن لأوليائه.

الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ اللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم...} الآية.

قوله: {مَا كَانَ} أي لا يحق لهم، ولعل استعمال لفظ الماضي للدلالة على أن عدم حقهم كان من قبل أي من حين خلق اللّه البيت وأمر ببنائه حيث أمر اللّه تعالى تطهير بيته من عبادة غيره كما قال: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ...}((1)).

وقوله: {يَعْمُرُواْ} المراد العمران المادي بالبناء، والترميم والإنارة والكنس ونحوها، لا المعنوي بعبادة اللّه؛ إذ لا يمكن ذلك منهم فلا معنى للنهي عنه. نعم، لو كان معنى {مَا كَانَ} عدم الإمكان أمكن تعميم الإعمار.

وقوله: {مَسَٰجِدَ اللَّهِ} جميع المساجد وإن كان المقصود في الآية المسجد الحرام، فالمعنى لا يحق لهم إعمار المسجد الحرام لأنه مسجد وهم ممنوعون عن إعمار المساجد.

ص: 196


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 125.

وقوله: {شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} حال وهو في موقع العِلة لهذا الحكم، أي المشركون كفّار باللّه تعالى فلا يحق لهم عمارة بيته، فلا يزعمواأنهم أولياء للّه حيث يعتقدون به ويعبدونه؛ وذلك لأن شركهم في العقيدة والعبادة أخرجهم عن ولايته إلى الكفر به، وأمّا شهادتهم فهي بأقوالهم وأفعالهم الشركية في المسجد الحرام وغيره.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} تتمة للعلة، ببيان أن الغاية من الإعمار هو الثواب، وهؤلاء لا ثواب لهم لبطلان عملهم، فلا وجه للإذن لهم بالإعمار، وحتى لو عمّروا قهراً فلا نفع لهم منه.

وقوله: {وَفِي النَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ} لأن اللّه لا يغفر أن يشرك به، فإعمارهم لا يهديهم إلى طريق الجنّة.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ...} الآية.

لما بيّن عدم حق المشركين في الإعمار، ذكر أن ذلك الحق ينحصر في أولياء اللّه تعالى وذكر من صفاتهم ما يقابل صفات المشركين المذكورة في الآية السابقة، فقابل الشرك بالإيمان باللّه واليوم الآخر، وقابل شهادتهم بالكفر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقابل خلودهم في النار باهتداء المؤمنين إلى طريق الجنّة.

وقوله: {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} يدخل فيه الإيمان بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه (عليهم السلام) لأن اللّه أمر به، ولا يمكن الإيمان باللّه إلاّ بالإيمان بما أنزله، فيكون ذكر الإيمان باليوم الآخر - مع أنه داخل في الإيمان باللّه - للإشعار بأن الغرض من

ص: 197

الإعمار هو ثواب الآخرة.

وقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ} وهما شهادة على الإيمان؛ لأن اللّهيتقبل من المتقين ولا تقوى إلاّ بإطاعة اللّه في أحكامه.

وقوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} المراد الخشية الدينية، فلا يخاف من الأصنام، وليس المراد الخوف الغريزي من المحاذير فالمؤمن لا يخشى في الدين الأصنام ونحوها لكن قد يخاف من سبع أو لصّ أو كلام الناس، قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}((1))، وقال سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ}((2)).

وقوله: {فَعَسَىٰ} أي هؤلاء في رجاء أن يهديهم اللّه إلى طريق الجنّة ف(عسى) هنا لرجائهم؛ لأنّ الرجاء محال في اللّه تعالى حيث إنه بسبب عدم العلم، فالمؤمن يرجو رحمة اللّه ولا يعلم باستحقاقه لها حيث يمكن ارتداده أو حبط عمله.

وقوله: {مِنَ الْمُهْتَدِينَ} الظاهر أن المراد الاهتداء إلى طريق الجنّة، لمقابلته بخلود المشركين في النار في الآية السابقة قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}((3)).

الرابع: قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ...} الآية.

ص: 198


1- ([1]) سورة الأحزاب، الآية: 39.
2- ([2]) سورة الأحزاب، الآية: 37.
3- ([3]) سورة محمّد، الآية: 4-5.

بيان أن السقاية والعمارة لا قيمة لهما من دون الإيمان والعمل بالصالحات، وإنّما القيمة للإيمان والعمل بالصالحات حتى لو لم يكن معهسقاية وعمارة.

وقوله: {سِقَايَةَ الْحَاجِّ} قيل: لا بدّ من تقدير أهل السقاية، أو تقدير كإيمان من آمن؛ وذلك لأن (السقاية والعمارة) اسم معنى، و(من آمن) اسم ذات، ولا تقابل بينها! لكن يمكن التقابل باعتبار القيمة فيقال هذا العمل لا قيمة له لأنه من الكافر، وأمّا المؤمن فله القيمة عند اللّه، فتأمل.

ثمّ إنه قد ذكرت في هذه الآية سقاية الحاج ولم تذكر في الآية 17، ولعلّه لعدم جواز عمارة المشركين للمسجد الحرام لأن هذه العمارة عمل ديني بحت، وأمّا سقاية الحاج فلا منع للمشركين منه لأنه عمل إنساني فيجوز للمشرك أن يصنعه، ولكن لا ثواب له لحبطه بالشرك.

وقوله: {كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ...} والآية وإن نزلت حين مفاخرة العباس وشيبة للإمام علي (عليه السلام) ، إلاّ أن (من آمن) يشمل حمزة وجعفر رضوان اللّه عليهما وقد كانا قتلا قبل نزولها فهما أيضاً مقصودان بها، ففي الحديث: «نزلت في حمزة وعلي (عليه السلام) وجعفر، والعباس وشيبة إنهم فخروا بالسقاية والحجابة، فأنزل اللّه عز ذكره: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ...}، وكان علي (عليه السلام) وحمزة وجعفر هم الذين آمنوا باللّه واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل اللّه لا يستوون عند اللّه»((1)).

وغير خفى أن المفاخرة كانت في الأفضلية لا في التساوي فكان العباس

ص: 199


1- ([1]) الكافي 8: 203.

يقول إنه الأفضل، وعليه فالكاف في قوله: {كَمَنْ ءَامَنَ} ليس للتساوي، بل للتماثل في أصل الفضيلة، فيردّهم اللّه تعالى بأن السقاية والعمارة من غيرإيمان لا قيمة لهما.

وقوله: {لَا يَسْتَوُنَ عِندَ اللَّهِ} نظير قوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَٰبُ النَّارِ وَأَصْحَٰبُ الْجَنَّةِ}((1))، وقوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}((2)).

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} الذي هو المقياس الحقيقي للتفضيل، فهؤلاء فضّلوا السقاية والعمران بأوهام سطروها في أذهانهم، لكن الحق الذي هو عند اللّه غير ذلك.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} كأنه تعليل لعدم التساوي، فالمشرك ظالم لنفسه فلا يكون عمله عن اهتداء فلا فضل له أصلاً - كذا قيل - .

وقيل: هو بيان أن التساوي بين الفريقين ظلم، أو السقاية والعمارة من غير إيمان عملان محرّمان فيكونان ظلماً، والظالم غير مهتدي فلا يتساوي مع المؤمن المهتدي.

الخامس: قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

لما ذكر في الآية السابقة عدم استوائهم وعدم هداية الظالمين، صرّح في هذه الآيات بأن الفضل والفوز للمؤمن العامل بالصالحات وأن الثواب له.

ص: 200


1- ([1]) سورة الحشر، الآية: 20.
2- ([2]) سورة هود، الآية: 24.

وقوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً...} أفعل التفضيل هنا منسلخ عن معنى التفضيل، بل المقصود منه بيان عظم درجة المؤمن المهاجر المجاهد، ويمكن أنيكون لبيان القاعدة العامة في الأفضلية فهذا أعظم درجة من الجميع بما فيهم سائر المؤمنين فكيف بالمشركين.

وقوله: {هُمُ الْفَائِزُونَ} وهذا مقابل عدم هداية اللّه للقوم الظالمين، فأولئك ظالمون والظالم خاسر، وهؤلاء فائزون بالثواب ظافرون به.

وقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم...} بيان للفوز، والبشارة من اللّه بأمور ثلاثة هي:

1- قوله: {رَحْمَةٖ مِّنْهُ} تنكير (رحمة) للتعظيم، كما أن (منه) للتعظيم أيضاً؛ فهي التي تليق بفضله وكرمه، والظاهر أن المراد بالرحمة هنا عدم العذاب.

2- وقوله: {وَرِضْوَٰنٖ} هو ثواب معنوي، وذلك أعظم النعم كما قال: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}((1)).

3- {وَجَنَّٰتٖ...} وتمام الفضل والثواب فيها يكون من جهتين: بقاء النعمة فلذا قال: {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ}، وبقاؤهم فيها ولذا قال: {خَٰلِدِينَ فِيهَا}، وأكد الخلود بقوله: {أَبَدًا}.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تعليل لهذه البشارة، فاللّه تعالى قادر حكيم ولذا حباهم بهذا الثواب العظيم.

ص: 201


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 72.

الآيتان 23-24

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَٰنَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَٰنِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ 23 قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ 24}

23- ولمّا كانت القرابة والمصالح قد تمنع عن البراءة والجهاد فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَٰنَكُمْ أَوْلِيَاءَ} ولاية اتّباع، وأمّا المعاشرة في الدنيا من غير تبعية فلا محذور فيها {إِنِ اسْتَحَبُّواْ} اختاروا وآثروا {الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَٰنِ وَمَن يَتَوَلَّهُم} يتّبعهم {مِّنكُمْ} من المسلمين {فَأُوْلَٰئِكَ} التابعون {هُمُ الظَّٰلِمُونَ} بوضع الموالاة في غير موضعها وبمخالفتهم أمر اللّه حيث ظلموا أنفسهم وغيرهم.

24- ثمّ ينهى اللّه تعالى عن ترجيح حبهم وحب غيرهم على الدين فقال: {قُلْ} يا رسول اللّه: {إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} وهم سائر القرابات قريبة أم بعيدة، وهذا في النسب، {وَ} أمّا في المال ف{أَمْوَٰلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي كسبتموهما وجمعتموها {وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} أي عدم رواجها {وَمَسَٰكِنُ} سواء دور أم بلاد {تَرْضَوْنَهَا}

ص: 202

ترغبون في البقاء فيها {أَحَبَّ إِلَيْكُم} أي أقرب إلى نفوسكم{مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِ} فترجّحون تلك على طاعتهما ولا تجاهدون {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا {حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي حتى يأتي أمر اللّه بحكمه فيكم أو عذابه عليكم، وذلك فسق منكم {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} الخارجين عن طاعته بعد معرفتهم بها.

بحوث

الأوّل: لما ذكر اللّه تعالى البراءة من المشركين وأوجب التضييق عليهم بالقتال وغيره أمر المسلمين بعدم اتّباع الكفّار، وأجلى مصاديق الاتّباع هو ولاية الآباء والإخوان ولذا خصّهما بالذكر، وأمّا غيرهما من سائر القرابات فلا اتّباع لهم غالباً، ولو كان اتّباع فقطعه سهل.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَٰنَكُمْ أَوْلِيَاءَ...} الآية.

قوله: {لَا تَتَّخِذُواْ} الاتخاذ هو جعل شيء لشيء من غير أن يكون له بالذات فقد يكون حقاً أو باطلاً.

وقوله: {أَوْلِيَاءَ} المراد ولاية التبعيّة، لا مجرد الحب الغريزي والمعاشرة بالمعروف فقد يجوز ذلك لغير المجاهرين بعداوة اللّه ورسوله كما قال: {وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}((1))، وقال: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ

ص: 203


1- ([1]) سورة لقمان، الآية: 15.

يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ}((1)).

وقوله: {إِنِ اسْتَحَبُّواْ} أي طلبوا الحُبّ بمعنى اختاروه وآثروه، وذلك بترتيب الأثر على ذلك الحبّ فقد يحب الإنسان شيئاً لكن لا يعمل بمقتضى حبّه وقد يرجّح ما يحبه على غيره، وقيل: استحب بمعنى أحبّ، أو بتضمين استحبوا معنى الترجيح ولذا عُدّي ب(على).

موانع طاعة اللّه تعالى

وقوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} أي يتّبعهم بدلاً عن طاعة اللّه ورسوله بتقديم ولايتهم على ولايتهما.

وقوله: {الظَّٰلِمُونَ} بوضع الموالاة في غير موضعها ممّا يستلزم عذاب اللّه تعالى وذلك بخس للنفس حقها.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ...} الآية.

بعد ذكر الولاية يذكر المحبة التي توجب ترجيح الأمور الدنيوية على طاعة اللّه ورسوله، ولذا عمّم في هذه الآية إلى جميع القرابات والمصالح المادّيّة فقد لا يكون اتّباع لكن محبة مرجّحة، ومتعلّقها إمّا الأقرباء أو الأموال، وقدّم الأقرباء على الأموال لأنهم أحب عادة، ثمّ في الأقرباء قدم الأحب فالأحب، ولم يذكر الغرباء لأنه إذا وجب قطع القريب فالغريب أولى، ولقلّة الترجيح بهم.

وقوله: {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي الأقرباء غير ما ذكروا سواء قربوا كالأعمام أو بعدوا، واشتقاقها من العشرة لمعاشرة الأقرباء بعضهم مع بعض عادة.

ص: 204


1- ([1]) سورة الممتحنة، الآية: 8.

وقوله: {اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي اكتسبتموها، وفي المفردات: «استعير الاقتراف للاكتساب حسناً كان أو سوءاً»((1)).

وقوله: {تِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} الكساد هو عدم الرواج، وسببه هنا إعراض المشركين أو مقاطعتهم، وروي: «لمّا أذّن أمير المؤمنين (عليه السلام) بمكة أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام جزعت قريش جزعاً شديداً، وقالوا: ذهبت تجارتنا وضاعت عيالنا وخربت دورنا، فأنزل اللّه عزّ وجلّ في ذلك...»، ثمّ تلا الآية((2)).

وقوله: {وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا} أي تحبون البقاء فيها، وتشمل البلاد بعدم الهجرة عنها والدُور بعدم الرغبة في مفارقتها.

وقوله: {مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ويظهر ذلك في ترك طاعتهما في الهجرة والبراءة قال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}((3)).

وقوله: {فَتَرَبَّصُواْ} هذا تهديد لهم، قيل: أصل التربص هو التثبت في الشيء حتى يجيء وقته، وفي المفردات: «التربص: الانتظار بالشيء سلعة كانت يقصد بها غلاءً أو رخصاً، أو أمراً ينتظر زواله أو حصوله»((4)).

وقوله: {يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي يأتي أمر اللّه تعالى التشريعي أو التكويني بعذابهم، وفي التقريب: «حتى يأتي اللّه بأمره فإنكم لا خير فيكم، وإنّما يأتي بأمر اللّه غيركم، كما يقال: إن كنت لا تفعل هذا فانتظر حتى يأتي غيرك

ص: 205


1- ([1]) المفردات للراغب: 667.
2- ([2]) تفسير القمي 1: 284؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 414.
3- ([3]) سورة البقرة، الآية: 165.
4- ([4]) المفردات للراغب: 338.

ليفعله، فإن اللّه غنيّ عنكم فهو القادر على أن ينفّذ أوامره بواسطة أناس غيركم»((1)).

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} لا يهديهم بالطبع على قلوبهم وقطع الألطاف عنهم بسبب سوء اختيارهم الفسق الذي هو خروج عن طاعته تعالى بعد تمام الحجة عليهم.

ص: 206


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 380.

الآيات 25-28

اشارة

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئًْا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ 25 ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَٰفِرِينَ 26 ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 27 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 28}

ثمّ بيّن اللّه تعالى أن عدم جهادهم لا يضرّ اللّه ورسوله شيئاً، وأن اللّه قد أتى بأمره في نصر دينه فقال:

25- {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ} مواضع الحرب {كَثِيرَةٖ} بلغث ثمانين بين غزوة وسرية، ثمّ ذكر مثالاً فقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} وهو وادٍ قريب من مكة {إِذْ} في الوقت الذي {أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} حيث بلغوا اثني عشر ألفاً {فَلَمْ تُغْنِ} لم تنفع تلك الكثرة {عَنكُمْ شَئًْا} من أمر القتال حيث انهزموا في أوّل الوقعة ولم يثبت إلاّ عشرة فقط {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ} لم يجدوا ملجئاً يطمئنون إليه بسبب إحاطة العدو بهم وشدة رعبهم {بِمَا رَحُبَتْ} أي مع سعتها {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} منهزمين قد أعطيتم ظهوركم للعدو.

26- {ثُمَّ} بعد هزيمتكم {أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} وهي ما يوجب

ص: 207

الاطمئنان وسكون النفس {عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} الذين لم ينهزموا، وأمّاالمنهزمون فقد ارتكبوا كبيرة نزعت الإيمان عنهم {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} وهم ملائكة أنزلهم لنصرة رسوله {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالقتل والأسر {وَذَٰلِكَ} العذاب {جَزَاءُ الْكَٰفِرِينَ} على كفرهم.

27- {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ} بعد نصر المسلمين وهزيمة المشركين {عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} من المسلمين المنهزمين ومن الكفّار الذين أسلموا من بعد {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لذا يتوب عليهم.

28- وكما أمر اللّه تعالى بالبراءة منهم كذلك منعهم عن المسجد الحرام فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} خاطبهم ليعلموا ويعملوا {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي باطنهم قذر خبيث وكذا ظاهرهم {فَلَا يَقْرَبُواْ} أي لا يدخلوا {الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} للحج ولا لغيره {بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا} وهو العام التاسع حيث أذّن الإمام علي (عليه السلام) بالبراءة، {وَإِنْ خِفْتُمْ} أيها المؤمنون والمقصود أهل مكة {عَيْلَةً} أي فقراً بانقطاع أموال المشركين عنكم حيث كانوا يأتون للحج بالتجارات والتبرعات {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ} تعالى بغيرهم وبغير حجهم {مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ} علّقه على المشيئة لأن كل الأمور بيده وليدعوه ويرجوه، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ} بأحوالكم وبالمصالح {حَكِيمٌ} في ما يأمر وينهى، وفي ما يُعطي ويمنع.

بحوث

الأوّل: لمّا حثّهم اللّه على الجهاد ونهاهم عن تولي الكافرين حتى لو كانوا أقرباء، وبيّن أن ترجيحهم وترجيح المصالح المادّيّة على اللّه ورسوله

ص: 208

والجهاد في سبيله فسق وأن اللّه يأتي بأمره لنصرة دينه... بعد ذلك ذكر لهممثالاً قريباً لذلك النصر، وهو ما حصل في غزوة حنين، حيث إن المسلمين على كثرتهم انهزموا ولم يثبت إلاّ القليل جداً مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يبلغوا عشرة، وعلى أكثر تقدير مائة فقط، ثمّ رمى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكف من حصى في وجوه المشركين وقال: «شاهت الوجوه»، ثمّ رفع رأسه إلى السماء ودعا اللّه تعالى، ثمّ أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي بالمسلمين، فرجع المنهزمون ودارت الدائرة فأنزل اللّه نصره على رسوله، وانهزم المشركون وأ ُسرت نساؤهم وذراريهم وغُنمت أموالهم، وكانوا قد جاؤوا بها إلى ساحة الحرب لتقوى عزيمتهم على قتال المسلمين ولئلّا ينهزموا((1))، وبلغ قتلى المشركين مائة قتيل، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) بيده يوم حنين أربعين»((2)).

والحاصل: أن اللّه تعالى غنيّ عنهم فإذا أراد نصر رسوله ودينه نصره بما يشاء، إلاّ أن عليهم أن يمتثلوا لأمر اللّه تعالى لأنه تعالى امتحنهم بالجهاد لينالوا ثوابه.

قصة غزوة حنين

الثاني: قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ...} الآية.

بيان أن النصر من اللّه تعالى لا منهم في الغزوات والسرايا المختلفة، مع ذكر خصوص غزوة حنين؛ إذ في سائر المواطن - التي انتصروا فيها - كانوا قد ثبتوا، فلعل بعضهم يتوهم أن النصر كان منهم، أو زعم اشتراكهم مع اللّه

ص: 209


1- ([1]) راجع تفصيل غزوة حنين في البرهان في تفسير القرآن 4: 417-421.
2- ([2]) الكافي 8: 376.

سبحانه وتعالى في النصر، لكن في غزوة حنين ظهر بجلاء اختصاصه تعالى بالنصر دونهم.

وقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} إضافة النصر إلى ضمير الخطاب لحثهم وتحريضهم بأنه تعالى كما نصركم في ما مضى فإنه سينصركم في ما يأتي إن أطعتم اللّه ورسوله، مع إشعار ذلك بحاجتهم إليه تعالى وغناه عنهم.

وقوله: {مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ} جمع موطن وهو المحل والموضع، والمراد مواقع الحرب، وبلغت غزوات الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسراياه ثمانين غزوة وسرية، وهو عدد كثير، والكثير أمر عرفي ويختلف باختلاف متعلقه، وما ورد في تفسيره بالثمانين((1)) فهو لبيان إحدى المصاديق.

وقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} موضع قرب مكة اجتمعت فيه قبائل هوازن بعد فتح مكة لقتال المسلمين وكانوا ثلاثين ألفاً، فلما فتح اللّه على رسوله مكة في شهر رمضان من العام الثامن للّهجرة، مكث فيها قليلاً ثمّ خرج إلى قتالهم.

وقوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الإعجاب هو السرور بالشيء المونق فيروق للإنسان، وهو غير العجب، فالعجب مذموم دائماً، وأمّا الإعجاب فقد يكون ممدوحاً إذا كان في موضعه، وقد يكون مذموماً إذا أورث الاتّكاليّة والركون إلى الشيء والغفلة عن اللّه تعالى.

ثمّ بين اللّه تعالى أمرين يرتبطان بالكثرة، فلا هي نفعتكم ولا هي بسطت قدرتكم في الأرض:

ص: 210


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 415-417؛ عن الكافي 7: 464؛ ومعاني الأخبار: 218، وغيرهما.

1- قوله: {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئًْا} أي لم تنفعكم تلك الكثرة ولو شيئاً قليلاً، بمعنى أنها لم تكن ذات فائدة أصلاً؛ لأن الذين حفظوا الرسول بالدفاع عنه كانوا أقل القليل وهم عشرة فقط ثمّ جاء النصر من اللّه تعالى ولم يكن للكثرة دخل فيه أصلاً.

2- وقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ} كناية عن إحاطة العدو بهم وغلبة الرعب عليهم بحيث لم يشعروا بالأمن في ساحة المعركة، وكان ذلك مقدمة لفرارهم ليلتجؤوا إلى محل آمن، وهذه الهزيمة النفسية.

وقوله: {بِمَا رَحُبَتْ} تعريض لهم، بأن الأرض كانت وسيعة، والكثرة تملأ الأرض، لكنها ضاقت عليهم.

وقوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} الفرار الذي تلا الهزيمة النفسيّة؛ لأن المنهزم يدير ظهره للعدو ليبتعد عنه.

الثالث: قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ...} الآية.

بيان لكيفية نصر اللّه تعالى وهو على ثلاث مراحل:

1- قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ...} أي ثبّت اللّه تعالى رسوله والذين لم ينهزموا، وكان ذلك التثبيت بإنزال السكينة عليهم، وهي من السكون بمعنى ثبات النفس وطمأنينتها، وهذه السكينة لطف خاص إلهي يكون بالإيمان والعلم والمعرفة، وقد مرّ بعض الكلام حولها في الآية 248 من سورة البقرة((1)).

ص: 211


1- ([1]) التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 256.

وقوله: {وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وهم الذين ثبتوا ولم ينهزموا؛ لأن الفرار من الزحف معصية كبيرة كما قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}((1))، ومن كان هكذا فليس بمؤمن، وأمّا توبة اللّه على بعض المنهزمين فكانت بعد ذلك كما قال تعالى في الآية التالية: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} وعليه فلم يكونوا مؤمنين وقت نزول السكينة. وهذه السكينة سبّبت استمرار ثبات المؤمنين ممّا مهّد لهزيمة الكفّار.

2- وقوله: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} هم الملائكة نزلوا للنصر ودفعوا الكفّار، وفي تفسير القمي: «وكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجوّ فانهزموا في كل وجه»((2)).

3- وقوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بيان لانهزام الكفّار، وكان عذابهم بالقتل والأسر وسلب الأموال.

الرابع: قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

فتح باب الرجاء للمنهزمين من المسلمين حيث ارتكبوا كبيرة موبقة بأن اللّه يتوب عليهم ويرجع إليهم لطفه ورحمته ومغفرته إن تابوا عن ذنبهم، وأيضاً فتح باب الرجاء للكفّار المقاتلين بأن اللّه يغفر لهم إن آمنوا وعملوا الصالحات، فالآية بإطلاقها تشمل كلا الطائفتين، ولا وجه لتخصيصها

ص: 212


1- ([1]) سورة الأنفال، الآية: 16.
2- ([2]) تفسير القمي 1: 288؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 421.

ببعضهم.

وقوله: {عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} لم يعدهم اللّه تعالى بالمغفرة القطعية، وإنّما علّقها على مشيئته تعالى لأن بعضهم لم يتوبوا أو نافقوا.

نجاسة المشركين

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}.

لمّا أمر اللّه تعالى بالبراءة من عهود المشركين التي نقضوها ومنع عن موالاتهم، نهى عن دخلوهم إلى المسجد الحرام - حتى المعاهدين الذين وفوا بعهدهم - لأنه محل القدس والطهارة وهم منبع القذارة المادّيّة والمعنويّة، وبذلك يخلص المسجد الحرام لعبادة اللّه وحده لا شريك له.

وقوله: {نَجَسٌ} أي قذرون، ويستعمل النجس في المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وهذه القذارة مطلقة تشمل قذارة باطنهم بالعقيدة الفاسدة، وقذارة ظاهرهم بتركهم الغسل والتطهير ومزاولتهم للخمر والخنزير وغير ذلك، قال الوالد رضوان اللّه عليه في التقريب: «النجاسة في الشريعة هي القذارة التي توجب الغسل للشيء الذي يباشره برطوبة، وهذه النجاسة قد تكون لأضرار خارجية كالبول والغائط، وقد تكون لأضرار معنوية كالكافر، فإنه وإن كان نظيف الجسم إلاّ أن معتقده الباطل أوجب الحكم بنجاسته، وذلك خير وقاية للمسلمين من أن يتلوّثوا بعقيدته، فإنهم إذا عرفوه نجساً حتى أنه يجب الاجتناب عنه في المأكل والملبس وأنه مهما باشر شيئاً برطوبة تنجّس فوراً منه، اجتنبوا عنه فلا يتعدى إليهم ما انطوى عليه من العقيدة الباطلة، وهو بدوره إذ يعرف أنه عند المسلمين

ص: 213

نجس لا بدّ وأن يسأل عن السبب ويريد إزالة هذه الوصمة، ولدى تحقيق ذلك تظهر له خرافة معتقده ممّا يدعوه أن يتركها ويعتقد بالعقيدة الصحيحة»((1))، فكما يلزم اجتناب المصاب بمرض مُعدي لئلّا يبتلى السليم به كذلك يلزم اجتناب منحرف العقيدة لئلّا يسري الانحراف إلى غيره.

وقوله: {فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وهو حكم متوجه إليهم وإلى المسلمين، أمّا إليهم فلأنه قانون تنفيذي لا بدّ من مراعاته حتى لمن لم يكن مسلماً ولم يكن يعتقد بالشريعة، وأمّا إلى المسلمين فتكليف عليهم بوجوب منع المشركين عنه، وهذا الحكم مطلق ليس خاصاً بالحج بل يمنعون عن دخوله دائماً. نعم، منعهم عنه يلازم منعهم عن الحج أيضاً إذ من أهم أركان الحج الطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام. ثمّ إن التعبير بعدم الاقتراب تشديد في النهي كقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ}((2)).

السادس: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

لما كان الحج موسم تجارة وكان المشركون يتبرعون للبيت ولأهل مكة، خافوا من انقطاع تلك المنافع، فأخبرهم اللّه تعالى بأنه يعوّضهم عن أموال المشركين بفضله، وكان الأمر كذلك حيث حج المسلمون من أهل الآفاق فاستفاد أهل مكة منهم أكثر ممّا كانوا ينتفعون به من المشركين، وقيل: هو كلام عام لا يختص بغناهم بأموال الحجاج بل يعمّ الغنى بسائر

ص: 214


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 385.
2- ([2]) سورة الأنعام، الآية: 152؛ سورة الإسراء، الآية: 34.

الوجوه أيضاً، حيث إنه باستتباب الإسلام وفتح البلدان ارتفع مستوى معيشة الناس ومنهم أهل مكة، كما حاز الكثير منهم على الغنائم والولايات والتجارات ببركة الإسلام.

وقوله: {إِن شَاءَ} وفي تفسير الصافي: «قيل: قيّده بالمشيئة لينقطع الآمال إلى اللّه تعالى ولينبّه على أنه متفضّل في ذلك، وأن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض، وفي عام دون عام، وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً، ووفّق طائفة من أهل اليمن للإسلام فحملوا الطعام إلى مكة، ثمّ فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجّه إليهم الناس من أقطار الأرض»((1)).

ص: 215


1- ([1]) تفسير الصافي 3: 394.

الآيات 29-31

اشارة

{قَٰتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٖ وَهُمْ صَٰغِرُونَ 29 وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَٰرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَٰهِهِمْ يُضَٰهُِٔونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَٰتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ 30 اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَٰهًا وَٰحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 31}

بعد بيان حكم المشركين بيّن اللّه تعالى حكم أهل الكتاب فقال:

29- {قَٰتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إيماناً صحيحاً {وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ} فلا يعتقدون به أو اعتقادهم فيه بالباطل {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيعتقدون بحليّتها ويرتكبونها {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي لا ينقادون ولا يخضعون للإسلام، فكل واحدة من هذه الأوصاف الثلاثة أباحت مقاتلتهم {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} اليهود والنصارى والمجوس، وغاية المقاتلة {حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} وهي مقدار من المال لحقن دمائهم ولحمايتهم جزاء لهم على بقائهم على الكفر {عَن يَدٖ} أي من غير امتناع {وَهُمْ صَٰغِرُونَ} خاضعون لحكم الإسلام.

30- ثمّ يبيّن اللّه سبب عدم إيمانهم باللّه إيماناً صحيحاً فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} زعموا ذلك لأنه أحيى لهم التوراة بعد فقدانها، وقد

ص: 216

انقرض القائل بذلك منهم، {وَقَالَتِ النَّصَٰرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وهم غالبالنصارى، وبعضهم قال إنه هو اللّه، {ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَٰهِهِمْ} لا حجة لهم فيه، أو هم في قرارة أنفسهم يعلمون بطلانه، {يُضَٰهُِٔونَ} يشابه قولهم {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} حيث اقتبسوا هذه العقائد الفاسدة من المشركين والوثنيين الذين كانوا قبلهم فحرّفوا بها دينهم، {قَٰتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم أي لعنهم اللّه {أَنَّىٰ} استفهام للتعجيب {يُؤْفَكُونَ} يُصرفون من الحق إلى الباطل.

31- وسبب آخر لكفرهم أنهم {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ} علماءهم {وَرُهْبَٰنَهُمْ} عبّادهم {أَرْبَابًا} بأن أطاعوهم إطاعة عمياء في تحليل الحرام وتحريم الحلال {مِّن دُونِ اللَّهِ} فلم يطيعوه إطاعة مطلقة {وَ} كذلك اتخذوا {الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ربّاً مع أنه بريء منهم {وَمَا أُمِرُواْ} لم يأمرهم اللّه تعالى ورسله والمسيح {إِلَّا لِيَعْبُدُواْ} في الألوهية والطاعة {إِلَٰهًا وَٰحِدًا} في حال كونه {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا توجد آلهة سواه، {سُبْحَٰنَهُ} أنزهه تنزيهاً {عَمَّا يُشْرِكُونَ} به.

قتال أهل الكتاب

بحوث

الأوّل: لمّا بين اللّه تعالى البراءة من المشركين وأمر بقتالهم، واستثنى منه بعضهم، عقّب ذلك بقتال أهل الكتاب مع استثناء أهل الذمة منهم، وقد بيّن اللّه تعالى خمسة أسباب لقتالهم هي: فساد عقيدتهم، وارتكابهم المحرمات، وعدم خضوعهم للدين الصحيح، ومحاولتهم إطفاء نور اللّه وأكلهم الأموال بالباطل لتغيير أحكام اللّه تعالى، وقد استثنى من القتال من يدخل في ذمة

ص: 217

المسلمين فيدفع الجزية ويلتزم بشروط الذمة، ثمّ يبيّن اللّه تعالى كفرهم فيالعبادة والطاعة فقد زعموا أن للّه تعالى ابناً وأطاعوا غير اللّه إطاعة عمياء وبذلك أشركوا فاستحقوا أحد أمرين: إمّا القتال وإمّا الصَغار.

سبب قتال أهل الكتاب

الثاني: قوله تعالى: {قَٰتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ...} الآية.

أمر بقتالهم مع بيان السبب المبيح له واستثناء أهل الذمة منهم.

وقوله: {قَٰتِلُواْ} أمر يفيد الوجوب، وهو تشريع للجهاد الابتدائي مع أهل الكتاب وهذا لا ينافي إبرام المعاهدات معهم؛ لأن سياق الآية في غير المعاهدين منهم.

ثمّ يذكر اللّه تعالى ثلاثة أوصاف لهم كانت السبب في تشريع قتالهم، الأوّل والثاني يرتبطان بالعقيدة والثالث بالعمل، وهي:

1- قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الإيمان باللّه تعالى هو الاعتقاد الصحيح فيه بتنزيهه عن الشريك والولد والصاحبة والخرافات التي لا تليق به، فمجرد الاعتقاد بوجوده تعالى وبألوهيته من دون تنزيهه عن ذلك ليس من الإيمان في شيء، فمن يعبد جسماً على شكل إنسان فيه نقائص فلا يعبد اللّه سبحانه بل يعبد صنماً حتى لو زعم أنه اللّه تعالى.

وقوله: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ} كذلك، فحتى لو اعتقدوا به لا يكون ذلك الاعتقاد إيماناً للتحريف فيه، فهم لا يعتقدون بالآخرة أو إذا اعتقدوا بها فاعتقادهم باطل لا يطابق الواقع، فلا يكون إيماناً بها.

سؤال: ألا ينافي هذا الحرية في العقيدة وقد قال اللّه تعالى: {لَا إِكْرَاهَ

ص: 218

فِيالدِّينِ}((1)).

والجواب: إنه لا بدّ من تطويق الانحراف وعدم السماح له بأن يكثر وأن يقوى، وذلك يكون بجعل المنحرفين في إطار خاص يجمع بين عدم إكراههم على معتقد لا يرضونه وبين عدم فسح المجال لهم ليحرّفوا الآخرين أو ليتعدّى انحرافهم إليهم، كالمريض بالمرض المعدي حيث يحجر عليه ويمنع عن بعض الأمور، وذلك الإطار الخاص هو السماح لهم بالالتزام بدينهم مع مراعاتهم لشروط الذمة - والتي تحجّم الانحراف فيهم بحيث لا يتعدّى إلى غيرهم - فإن لم يقبلوا بتلك الشروط لزم استئصالهم بالقتال لئلّا يعمّ ضررهم.

2- وقوله: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ولعلّ ذكره بالخصوص دون تحليلهم لما أحلّه اللّه ورسوله؛ لأن المحرمات فيها مفاسد عامة غالباً فارتكابها يوجب رواج الانحراف في المجتمع، وأمّا المحلّلات فلا ضرر لو تركها بعض الناس فعدم التزامهم بها لا يضر المجتمع الإسلامي.

ثمّ إن اللّه تعالى هو المشرّع، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو المبلغ، ولذا قرنهما معاً، بل إن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً مشرّع بإذن اللّه، فقد أدّب اللّه نبيّه بآدابه ففوض إليه دينه، وقد مرّ الكلام فيه وقد فصلناه في شرح أصول الكافي، فراجع((2)).

3- وقوله: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} إمّا بمعنى أنّهم لا ينقادون للإسلام فيكون هذا في الجانب العملي فالدين الذي يخضعون له باطل، وإمّا بمعنى

ص: 219


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 256.
2- ([2]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 4: 193-214.

لا يتخذونه ديناً أي لا يُسلمون، وإمّا بمعنى عدم التزامهم بالواجبات كما أن {لَا يُحَرِّمُونَ} بمعنى عدم التزامهم بالمحرمات، فيكون المعنى: لا يؤمنون ولا يلتزمون بترك المحرمات ولا بفعل الواجبات.

والإضافة في {دِينَ الْحَقِّ} إمّا من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الدين الذي هو دين الحق، وإمّا بمعنى اللام أي دين للحق بمعنى مطابقته له.

عدم قتال أهل الذمة

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} من بيانية أي المقصود هنا من الذين لا يؤمنون... هم أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى وكذلك المجوس؛ إذ دلت الأدلة المعتبرة على أنهم أهل كتاب فقد كان لهم نبيٌّ فقتلوه وكتاب فحرفوه، ولسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) فيهم حيث لم يقاتلهم وأخذ الجزية منهم والتفصيل يطلب في الفقه.

وقوله: {حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} غاية القتال، أي إلى أن يدخلوا في ذمة المسلمين، وذلك بأن يلتزموا بعدة شروط، منها: الجزية وهي من مادة (ج ز ي) إمّا بمعنى الاجتزاء بها في حقن دمائهم، وإمّا جزاءً لهم على كفرهم أو بدلاً عن حماية المسلمين لهم، وأمّا سائر الشروط فقد أشار إليها بقوله: {صَٰغِرُونَ}.

وقوله: {عَن يَدٖ} أي بغير امتناع، يقال: سلّمه بيده أي بسلاسة وانقياد.

وقوله: {وَهُمْ صَٰغِرُونَ} أي أذلاء، والصَغار هو الذل الذي يصغر قدر صاحبه، وليس المقصود إذلالهم وإهانتهم وإنّما بيان خضوعهم لحكم المسلمين وهذا ذلّ لهم حيث يزعمون أنهم شعب اللّه المختار وأنهم أبناء اللّه وأحباؤه، فخضوعهم لغير أهل مذهبهم هو ذلّ لهم في أنفسهم حتى لو عاملوهم

ص: 220

بإحسان واحترام، وهذا يتضمن سائر شروط الذمة حيث لا يتمكنون من دعوة الناس إلى معتقدهم ولا التجاهر بارتكاب ما يزعمونه حلالاً وهو حرام عند المسلمين، وغير ذلك.

وفي التقريب: «إن أهل الكتاب حيث انحرفت عقيدتهم حتى جعلوا الخرافة في معتقدهم، وحيث حرّفوا كتبهم حتى نسبوا الزنا والكفر وشرب الخمر والقسوة وشبهها إلى أنبيائهم، وحيث هدموا نظم اللّه سبحانه ليجعلوا مكانها أنظمة مخترعة، استحق الإسلام أن يشعرهم بشيء من الذلة ليتركوا الباطل إلى الحق، فإن الإنسان لا يرضى أن يبقى ذليلاً، لكنه احترمهم حيث أقرّ بهم وسمح لهم بالبقاء تحت ظله باحترام اسم الكتاب، وهذا الإذلال لا ينافي الحرية في شيء، أ رأيت من ينحرف في سلوك أو أخلاق هل يستحق ما يستحقه المستقيم؟! وليس الميزان في تقييم الإنسان الذي يراعي جهتي المادة والروح واقعاً هو النظر إلى صورته البشرية، بل الصورة والسيرة، فمن انحرفت سيرته لم تنفعه صورته»((1)).

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَٰرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ...} الآية.

لمّا ذكر في الآية السابقة عدم إيمانهم باللّه تعالى بيّن في هذه الآية والتي تليها وجوهاً لكفرهم.

وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} كان جمع منهم يعتقدون بذلك، وقد انقرضوا الآن على ما قيل.

ص: 221


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 388.

وقوله: {عُزَيْرٌ} قيل: الذي دعاهم إلى القول ببنوّته أن بخت النصر لما هجم على فلسطين سباهم إلى بابل وأحرق كتبهم ومنها التوراة، وقد طالت المدة عليهم مائة عام فجاء عزير وكتب لهم التوراة مرّة أخرى، فعظّموه وغلوا فيه حتى جعلوه ابناً للّه سبحانه وتعالى، وروي أن اليهود ناظروا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال لهم: «فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيراً ابن اللّه؟! قالوا: لأنه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت، ولم يفعل به هذا إلاّ لأنه ابنه، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فكيف صار عزير ابن اللّه دون موسى، وهو الذي جاء بالتوراة ورُئي منه من العجائب ما قد علمتم...» الحديث((1)).

ثمّ إن الظاهر أنهم قصدوا البنوّة التشريفية لا الحقيقية أي ابن بالتبنّي((2))، وهو زعم باطل لأنه افتراء على اللّه تعالى ولأن غاية شرف المخلوق أن يكون عبداً للّه تعالى، كما مرّ تفصيله.

وقيل: عزير هذا هو الذي أماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه، وكان ذلك سبباً لزعمهم بنوّته!

وقوله: {قَوْلُهُم بِأَفْوَٰهِهِمْ} أي هو مجرد كلام لم ينشأ عن برهان وحجة قيل: لا يذكر القول مقروناً بالأفواه إلاّ إذا كان ذلك القول زوراً، وقيل: كناية عن عدم يقينهم به.

وقوله: {يُضَٰهُِٔونَ} المضاهاة هي المشابهة والموافقة، وكأن المقصود بيان أنهم اتّبعوا في هذه العقيدة الكفّار الذين سبقوهم، وفي ذلك ذم شديد

ص: 222


1- ([1]) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : 531؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 429.
2- ([2]) راجع تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : 531؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 429.

لهم بأنهم تركوا الهدى الذي جاء به أنبياؤهم وانقلبوا على أعقابهم بإحياء عقائد الكفّار الوثنيين قبلهم.

وقوله: {مِن قَبْلُ} أي كان كفر الكفّار قبل كفر أهل الكتاب، فاتّبعوهم في كفرهم.

وقوله: {قَٰتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم بالهلاك، والمقصود لَعَنَهم اللّه بطردهم عن رحمته، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أي لعنهم اللّه أنّى يؤفكون، فسمّى اللعنة قتالاً، وكذلك {قُتِلَ الْإِنسَٰنُ مَا أَكْفَرَهُ}((1)) أي لعن الإنسان»((2)).

وقوله: {أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} أي يُصرفون من الحق الذي جاء به أنبياؤهم إلى الباطل الذي ابتدعه الكفّار من قبلهم.

من أسباب كفر أهل الكتاب

الرابع: قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَٰنَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}.

بيان سبب آخر لكفرهم، وهي عبادة غير اللّه تعالى.

ثمّ إن العبادة على نوعين:

1- إعطاء حق التشريع لشخص بالذات.

2- والخضوع لشيء بقصد تأليهه.

وقد جمعت الآية كلا الأمرين، فهؤلاء أعطوا لعلمائهم وعبّادهم حق التشريع من دون إذن اللّه وأطاعوهم في البدع التي شرّعوها، كما أن النصارى ألّهوا عيسى (عليه السلام) مع أنه ابن مريم فكان بشراً لا إلهاً.

ص: 223


1- ([1]) سورة عبس، الآية: 17.
2- ([2]) الاحتجاج 1: 240؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 438.

وقوله: {اتَّخَذُواْ} افتعال من الأخذ والمراد به هنا الاعتقاد.

وقوله: {أَحْبَارَهُمْ} جمع حبر - بفتح الحاء وكسرها - وهو العالم، وأكثر استعماله في علماء اليهود.

وقوله: {وَرُهْبَٰنَهُمْ} جمع راهب وهو الزاهد التارك للدنيا، وأكثر استعماله في قساوسة النصارى.

وقوله: {أَرْبَابًا} جمع رب، والمراد ربوبيّة الطاعة، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أما واللّه ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون»((1)

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «واللّه ما صلّوا لهم ولا صاموا، ولكن أطاعوهم في معصية اللّه»((2)).

وقوله: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أي اتخذوه رباً، والمقصود ربوبيّة الألوهية ولذا فصله عن الأحبار والرهبان، مضافاً إلى تكريمه (عليه السلام) بعدم جعله في سياق أئمة الكفر.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَٰهًا وَٰحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ...} الآية.

أي لا يُعذرون في اتخاذهم للأرباب لأن اللّه تعالى ورسله (عليهم السلام) قد أمروهم بالتوحيد في الألوهية والطاعة، إلاّ أنهم عصوا عن علم وعمد.

وقوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُواْ} عبادة بالتأليه والطاعة، وأمّا طاعة الأنبياء

ص: 224


1- ([1]) الكافي 1: 53.
2- ([2]) المحاسن 1: 246؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 439.

والأئمة (عليهم السلام) فليست عبادة لهم لأنها طاعة بأمر اللّه تعالى فهي عبادة له سبحانه لا لهم.

وقوله: {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} تأكيد، ولئلّا يتوهم أحد أن هناك آلهة غير اللّه إلاّ أن العبادة خاصة بأحدهم، بل الإله الذي يستحق العبادة هو إله واحد ولا إله غيره.

وقوله: {سُبْحَٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} في التقريب: «الشرك على أربعة أقسام: الشرك في ذات اللّه، والشرك في صفاته، والشرك في أفعاله، والشرك في أمره ونهيه، فمن قال: إن له شريكاً، أو أن صفاته لغيره، أو أن قسماً من الخلق لسواه، أو أنه يحق الأمر والنهي لغيره، فهو مشرك»((1)).

ص: 225


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 390.

الآيات 32-35

اشارة

{يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ 32 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 33 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ 34 يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ 35}

ثمّ بين اللّه تعالى سبباً آخر لقتالهم هو صدّهم عن سبيل اللّه تعالى فقال:

32- {يُرِيدُونَ} اليهود والنصارى {أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ} وهو دينه ورسوله وكتابه وكل ما يرتبط به {بِأَفْوَٰهِهِمْ} بما يقولون بألسنتهم، أو هو تشبيه بالنفخ لإخماده {وَ} لكن محاولاتهم تذهب سدىً؛ إذ {يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ} أي يظهره تاماً لا نقصان فيه وذلك بإعلائه في جميع المجالات {وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ} أي لم يريدوا ذلك.

33- وهؤلاء ليس يمتنع عليهم إطفاء نور اللّه فحسب بل دينهم إيضاً سيزول؛ إذ {هُوَ} اللّه {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بِالْهُدَىٰ} البراهين والحجج {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} أي ليسيطره ويغلّبه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} جميع الأديان {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

ص: 226

34- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وجّه الخطاب للمؤمنين حثّاً لهم على قتالهمببيان سبب آخر هو فسادهم المالى ف{إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ} كأخذ الرشوة لتغيير حكم اللّه {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الإسلام خوفاً عن انقطاع تلك الأموال، ثمّ هدد اللّه أصحاب الأموال - ومنهم الذين يدفعون الأموال الباطلة إلى الأحبار والرهبان - بقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} يجمعون {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بل ينفقونها في سبيل الطاغوت، أو لا يؤدّون حقوقها الواجبة {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ}.

35- وذلك العذاب {يَوْمَ} أي في يومٍ {يُحْمَىٰ عَلَيْهَا} أي يُوقد النار على تلك الأموال من الذهب والفضة {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فهي في النار ويوضع عليها النار فتشتدّ حرارتها {فَتُكْوَىٰ} أي فتحرق {بِهَا} بتلك الأموال {جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} وهو الجنب تحت الإبط {وَظُهُورُهُمْ} وكأن المقصود بيان تعذيبهم من كل الجهات الأربع، ويقال لهم توبيخاً: {هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ} جمعتم {لِأَنفُسِكُمْ} حيث أردتم نفعكم لكن بعدم الإنفاق في سبيل اللّه تحول إلى عذاب عليكم {فَذُوقُواْ} وبال {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}.

أسباب أخرى لقتال أهل الكتاب

بحوث

الأوّل: هذه الآيات تتضمن السبب الرابع والخامس لتشريع قتال أهل الكتاب أحدهما: معارضتهم الإسلام حيث لم يكتفوا بالتمسك بالعقيدة الباطلة وإنّما حاربوا العقيدة الحق بغرض إمحائها وإزالتها لتخلو الساحة لشهواتهم وأهوائهم، والآخر: أكل الأموال بالباطل حيث يأخذ الأحبار

ص: 227

والرهبان تلك الأموال باطلاً، وعوامّهم يدفعون تلك الأموال إليهم طوعاً، فاشترك الطرفان في الجريمة.ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن محاولتهم إطفاء نوره غير نافعة وتذهب سُدى بل أراد اللّه تعالى ازدياد ذلك النور بأن يعمّ جميع الأرض رغماً عنهم، وأنّ تلك الأموال تتحول إلى وبال عليهم يوم القيامة حيث يعذّبون بها.

الثاني: قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}.

قوله: {يُرِيدُونَ}: أي يحاربون الإسلام علناً، فالإرادة هنا بمعنى القصد الذي يستتبع العمل وليس مجرد التمني.

وقوله: {بِأَفْوَٰهِهِمْ} أي بألسنتهم وذلك بإثارة الشبهات والأكاذيب والاستهزاء ونحو ذلك، وقيل: هو كناية عن النفخ تشبيهاً لهم بمن يريد إطفاء نور عظيم بالنفخ عليه.

وقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ} الإباء هو الامتناع، وهذا المعنى يتضمن النفي ولذا عقّبه بالاستثناء، أي منع اللّه تعالى تكويناً ما أرادوه.

وقوله: {يُتِمَّ نُورَهُ} أي ينشره في كل مكان وفي جميع المجالات، فوصف النور بالإتمام وصف بحال المتعلّق، فإن نور اللّه تعالى تام دائماً لكن انتشاره تدريجي إلى أن يعمّ.

وقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ} وصفهم في هذه الآية بالكفر إمّا لأن أصل الكفر بمعنى الستر فهؤلاء يسترون الحق ولذا يريدون إطفاء نور اللّه، وإمّا لأنهم كفروا بالنعمة حيث إن نور اللّه أعظم النعم على البشرية.

ص: 228

غلبة الإسلام على كل الأديان

الثالث: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.

بيان علة إتمام اللّه تعالى نوره، وهو أن اللّه يتعالى عن العبث فقد أرسل رسوله لهداية الناس فلا يعقل أن يسمح لأعدائه بإطفاء نوره، بل الحكمة تقتضي عموم تلك الهداية بحيث لا يبقى ضلال أصلاً.

وقيل: هو تحريض على قتالهم؛ لأن اللّه تعالى أراد نشر دينه فلا بدّ لهم من المجاهدة في ما أراده تعالى، وأهل الكتاب يحاولون إمحائه فلا بدّ من منعهم بالمقاتلة.

وقوله: {بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ} الباء بمعنى مع أو للآلة، و(الهدى) بيان طريق الرشد ليسلك((1)) وفي المفردات: «الهُدى والهداية في موضوع اللغة واحد، لكن قد خص اللّه عزّ وجلّ لفظة الهدى بما تولاه وأعطاه، واختص هو به دون ما هو إلى الإنسان»((2))، و{دِينِ الْحَقِّ} مرّ أنه إمّا بمعنى الدين الحق أو دين للحق الثابت، ومن ذلك يتبيّن الفرق بين الهدى ودين الحق، فالهدى هو إرشادهم بالبراهين والحجج، ودين الحق هو المرشَد إليه من عقائد وأحكام وأخلاق وغيرها.

وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} اللام للعاقبة، و(الإظهار) هو الغلبة والسيطرة، وذلك يكون بالغلبة من كل الجهات، ومنها: الغلبة في الحجة، ومنها: الغلبة في الحكم بأن يسيطر الإسلام على كل ربوع الأرض بحيث لا

ص: 229


1- ([1]) معجم الفروق اللغوية: 109؛ وراجع معجم مقاييس اللغة: 1027.
2- ([2]) المفردات، للراغب: 838-839.

يبقى دين غيره، أمّا غلبة الحجة فقد تحققت من أوّل الأمر إذ لا هداية إلاّ بذلك، وأمّا الغلبة في السلطة فسيكون حين ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) حيثيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «واللّه ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم (عليه السلام) »((1))، والمراد التأويل بمعناه اللغوي وليس التأويل الاصطلاحي؛ فإن الغلبة في قيامه (عليه السلام) أبرز مصاديق الآية، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمّد (عليهم السلام) ، فلا يبقى أحد إلاّ أقرّ بمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »((2)).

وقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أصحاب الأديان الأخرى، فحيث قابل دين التوحيد بأديان الشرك ناسب وصفهم بالمشركين هنا.

الرابع: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ...} الآية.

بيان سبب آخر من أسباب مقاتلتهم وهو فسادهم المالي الذي أدّى بهم إلى منع الناس عن سبيل اللّه تعالى، وهذا يشترك فيه عظماؤهم حيث يأخذون تلك الأموال، وعوامّهم حيث يدفعونها.

وقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وجّه الكلام إليهم لأنهم الذين يصدّقون به، ولأنهم المأمورون بقتالهم.

وقوله: {إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} وإنّما ذكر الكثير لأن بعضهم

ص: 230


1- ([1]) كمال الدين 2: 67؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 442.
2- ([2]) مجمع البيان 5: 63.

ليسوا كذلك كما قال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَالْحَقِّ...}((1)).

وقوله: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ} الباء إمّا سببية أي الأكل بسبب باطل كالرشوة، وإمّا للبدلية أي يأكلون الأموال مقابل الباطل كتغيير أحكام اللّه تعالى، والأوّل أظهر.

وقوله: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} لخوفهم من انقطاع تلك الأموال عنهم إن أسلم الناس، وهذا دأب المبطلين حيث يرجّحون مصالحهم الدنيوية الزائلة على الحق ولذا يسعون إلى إبقاء الناس على جهلهم لتستمر لهم مصالحهم.

الخامس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ} إلى قوله: {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}.

هذا عام شامل لأهل الكتاب وللمسلمين ولغيرهم ولذا عطفه بالواو ولم يجعله وصفاً للأحبار والرهبان، ولعلّ شأن نزوله عوام أهل الكتاب الذين يدفعون أموالهم للأحبار والرهبان بالباطل فشاركوا في جريمتهم بالصد عن سبيل اللّه، فهؤلاء العوام جمعوا الأموال وأنفقوها في سبيل الطاغوت ولم ينفقوها في سبيل اللّه تعالى.

وقوله: {يَكْنِزُونَ} مادة (ك ن ز) بمعنى الجمع، يقال: كنزت التمر في الوعاء، وناقة كناز هي السمينة التي اجتمع اللحم عليها، ومن مصاديقه

ص: 231


1- ([1]) سورة المائدة، الآية: 82-83.

إخفاء المال في الأرض، فلعل المقصود في الآية الذين يجمعون الأموال سواء ادخروها في الأرض أم لا.

وقوله: {وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} سواء احتفظوا بها من دون أداء حقها الواجب أم أنفقوها في سبيل الطاغوت وهذا هو شأن نزول الآية، وأمّا جمع المال مع أداء حقه الواجب وعدم صرفه في الحرام فليس من الكنز المذموم في هذه الآية، وضمير {لَا يُنفِقُونَهَا} يرجع إلى الأموال المكنوزة، أو إلى الذهب والفضة باعتبارهما شيئاً واحداً.

وقوله: {يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} بيان لشدة حرّها فهي من جهة في نار جهنم ومن جهة أخرى تزاد حرارة بوضع النار عليها، أو بيان أنها وقود النار والوقود أشد حرارة من النار التي تنبعث منه كما قال: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}((1)).

وقوله: {فَتُكْوَىٰ} الكي هو إحراق الجلد بحديدة ونحوها وقد يتوسع فيه بإلصاق الشيء الحامي على الأجسام.

وقوله: {جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} إمّا كناية عن الجهات الأربع أي يُكوَوْن من جميع الجهات، أو لأنهم إذا طُلب منهم الحق يعبسون وجوههم ويلوون جنوبهم ويديرون ظهورهم، فتعذب الأعضاء التي ظهرت عليها معصية اللّه سبحانه.

وقوله: {هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} يقال لهم هذا الكلام توبيخاً وتقريعاً حيث كنتم تتوقعون النفع ممّا كنزتم فإذا به يتحول إلى عذاب عليكم،

ص: 232


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 24.

والألم والحسرة في ذلك أكثر، فجمع لهم العذاب الجسمي والنفسي.

وقوله: {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} إمّا بتقدير وبال أو نحوه، أي ذوقواعقابه، وإمّا بمعنى انتفعوا به على سبيل الاستهزاء بهم، واللّه العالم.

ص: 233

الآيتان 36-37

اشارة

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَٰبِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَٰتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ 36 إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطُِٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَٰلِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ 37}

ثمّ نهاهم اللّه عن القتال في الأشهر الحرم فقال:

36- {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ} أي حسب تقديره وأمره {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} وليس ثلاثة عشر كما كان يصنعه المشركون كل سنتين مرّة ليتطابق الحج مع فصل الربيع وكما فعله بعض اليهود كل ثلاث سنوات مرّة لتتطابق السنوات مع الفصول {فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} أي في ما كتبه وقدّره تكويناً {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} أي هذا التقدير كان منذ بدأ الخلق حيث إن الشمس بنورها والقمر والأرض بحركتهما تشكّل الشهور {مِنْهَا} من تلك الشهور {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} جمع حرام أي هي محترمة ويحرم القتال فيها، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، {ذَٰلِكَ} أي حرمة الأشهر الأربعة {الدِّينُ الْقَيِّمُ} الطريقة القويمة التي تقوم بها مصالح الناس {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ} في الأشهر الحرم بهتك حرمتها والقتال فيها {أَنفُسَكُمْ} إذ ذلك يضرّكم في الدنيا بزوال أمنكم

ص: 234

فيها، وفي الآخرة بالعقاب. {وَ} إذا انقضت الأشهر الحرم أو إذابدأكم المشركون فيها بالقتال ف{قَٰتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} جميعهم {كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً} جميعكم أي جزاء لهم على قتالهم إياكم، وعليه فلا يدخل في الأمر بالقتال المعاهدون الذين وفوا بالعهد، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} معية نصرة فالكفّ عن قتالهم في هذه الأشهر لا يضركم شيئاً بل هو تقوى منكم.

37- وعليكم أن تراعوا الأشهر الحرم التي عينها اللّه تعالى لا ما تلاعب به المشركون بالنسيء؛ إذ {إِنَّمَا النَّسِيءُ} وهو تأخير الأشهر {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأنهم زادوا على كفرهم باللّه مخالفتهم لأحكامه {يُضَلُّ بِهِ} بالنسيء {الَّذِينَ كَفَرُواْ} والمضِلّ هو الشيطان، وكيفية عملهم {يُحِلُّونَهُ} يحلّون الشهر الحرام {عَامًا} فيقاتلون فيه {وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} أي يبقون على تحريمه في عام آخر، وإنّما يحلّون ويحرّمون {لِّيُوَاطُِٔواْ} أي ليوافقوا بذلك {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي أربعة أشهر، فلا يحلّون شهراً إلاّ حرّموا شهراً آخر مكانه ليكون إيقاف القتال في كل سنة أربعة أشهر، فأخذوا بالعدد وتركوا الشهر {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} وهي الأشهر الحرم الواقعيّة {زُيِّنَ لَهُمْ} والمزيِّن الشيطان {سُوءُ أَعْمَٰلِهِمْ} حتى حسبوها حسنة {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ} وذلك لعنادهم وعدم قبولهم الاهتداء.

حكم الأشهر الحرم

بحوث

الأوّل: لما أمر اللّه تعالى بقتال المشركين وأهل الكتاب بيّن أن هذا الحكم لا يشمل الأشهر الحرم فلا يجوز القتال فيها، ثمّ بيّن أنها هي التي قدرها اللّه تعالى من حين الخلق وليست ما يتلاعب به الكفّار حيث يقدمونها

ص: 235

ويؤخرونها حسب أهوائهم وشهواتهم.

وقد بيّن اللّه تعالى أن الشهور اثنا عشر ولا زيادة عليها، خلافاً لما يصنعه اليهود من إضافة شهر كل ثلاث سنوات فتصير السنة ثلاثة عشر شهراً، وذلك لتتطابق السنة القمرية مع فصول السنة، حيث إن القمرية تنقص عن الشمسية عشرة أيام عادة، فكانوا يجمعونها حتى تصير شهراً فيزيدون في السنة شهراً.

وخلافاً لما كان يصنعه المشركون من جعل السنة ثلاثة عشر شهراً كل سنتين وكانوا يسمونه النسيء.

النسيء ونوعاه

وقد كان النسيء على نوعين، وكأنّ الآية 36 لإبطال الأوّل، والآية 37 لإبطال الثاني:

النوع الأوّل: تأخير السنة شهراً كل سنتين، فتكون السنة ثلاثة عشر شهراً كل سنتين وذلك ليكون الحج في الربيع حيث لا برد شديد ولا حرّ شديد، فلا يدور الحج في فصول السنة، ويكون الحج في ذي الحجة سنتين وفي المحرّم سنتين وفي صفر سنتين وهكذا، فكل دورة من النسيء - من تقارن الحج مع ذي الحجة إلى تقارنه مرّة أخرى معه - كانت تقدّر بخمس وعشرين سنة؛ لأن السنة اثنا عشر شهراً، والحج كل سنتين في شهر، فهذه أربع وعشرون سنة، يضاف إليها سنة أخرى لم تحسب بسبب التأخير حيث إن الحج يتأخر شهراً كل سنتين، فخلال أربع وعشرين سنة يكون مجموع التأخير سنة كاملة، فهذه خمس وعشرون سنة دورة النسيء.

ثمّ إنه تطابقت دورة النسيء مع ذي الحجة في العام العاشر من الهجرة فحجّ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حجة الوداع وقال في خطبته: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض، السنة اثني عشر شهراً منها

ص: 236

أربعة حرم...»((1))، أراد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيان أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء، وقد ذكرنا تفصيله في شرح أصول الكافي فراجع((2))، ولعلّه لهذا السبب لم يحج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في السنة الثامنة حيث فتحت مكة في شهر رمضان، ومن المحتمل أن السنة التاسعة والعاشرة كانتا السنتين اللتين تطابقتا مع ذي الحجة الواقعية، فأرسل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) في السنة التاسعة لتلاوة آيات البراءة وسماه اللّه الحج الأكبر، ثمّ حج هو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في السنة العاشرة وثبت فيه الأشهر وأبطل النسيء، واللّه العالم.

النوع الثاني من النسيء: هو تأخير الشهر الحرام من المحرّم إلى صفر، وكان ذلك حينما يشق عليهم ترك القتال ثلاثة أشهر متواليات - في ذي القعدة وذي الحجة والمحرّم - فكانوا يؤخرون الشهر الحرام عن المحرّم في عام فيقاتلون فيه، ولا يؤخرونه في العام القابل فيكفّون عن القتال فيه.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَٰبِ اللَّهِ...} الآية.

الشهر القمري أمر تكويني محسوس لأنه يرتبط بمنازل القمر لكن السنة القمرية اعتبارية، عكس الأشهر والسنوات الشمسية؛ فإن دورة الفصول أمر تكويني وأمّا الشهور فاعتبارية، وهذه الآية لبيان عدد الشهور وليس أيامها، وعليه فالمعنى إن التكوين والتشريع للّه تعالى، فكما أن خلق السماوات

ص: 237


1- ([1]) بحار الأنوار 55: 339.
2- ([2]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 7: 8-9؛ وراجع موسوعة الفقه 68: 35-37؛ ومجمع البيان 5: 74-76؛ ومرآة العقول 5: 171.

والأرض له، كذلك تقدير عدد الشهور وتحريم أربعة منها، وهي حقيقة ثابتة لا تغيير فيها ولا تبديل.

وقوله: {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} لا ثلاثة عشر كما هو نسيء اليهود.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} تشنيع على من يتلاعب بالشهور لتغيير أحكام اللّه تعالى.

وقوله: {فِي كِتَٰبِ اللَّهِ} أي في ما كتبه وقدّره، والمراد كتابه التشريعي كما عرفت، ولعله اللوح المحفوظ.

وقوله: {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} لبيان حتمية هذا التقدير وعدم التغيير فيه حيث إنه سبق خلق الإنسان بفترة طويلة.

وقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، و{حُرُمٌ} جمع حرام، سميت بذلك لوجوب احترامها وحرمة القتال فيها، وهذا يدل على أن الأشهر عند اللّه تعالى هي الأشهر القمرية، ثمّ لعل سبب تشريع حرمتها هي حرمة الحج في ثلاثة منها حتى يكون الحجاج آمنون ذهاباً وإياباً، وأمّا رجب فلتوسطه في السنة ليأمنوا وكذا: «لما علم [اللّه] من المصلحة في الكفّ عن الظلم فيها لعظم منزلتها، ولأنه ربّما أدّى ذلك إلى ترك الظلم أصلاً لانطفاء النائرة وانكسار الحمية في تلك المدة، فإن الأشياء تجر إلى أشكالها»، كما في مجمع البيان((1)).

وفي الأحاديث تأويل الشهور بالأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) والأربعة الحرم بمن أسماؤهم علي - وهم أمير المؤمنين وزين العابدين والرضا

ص: 238


1- ([1]) مجمع البيان 5: 70.

والهادي (عليهم السلام) -((1)).

وقوله: {ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي المقوِّم لمصلحة الناس الثابت المستحكم، فإن التشريع إذا طابق التكوين قامت مصالح الناس وإن تخالفا اختلّت شؤونهم.

وقوله: {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} الظلم بشكل عام منهي عنه في جميع الشهور، فالمقصود هنا انتهاك حرمة الأشهر الأربعة بالقتال فيها، فإن مخالفة تشريع اللّه تعالى لا يضرّه سبحانه، بل ضرره على الناس في الآخرة بالعقاب وفي الدنيا بزوال الأمن بحيث يتضرر حتى الذي بدأ بالقتال فيها فضلاً عن سائر المفاسد المترتبة على انتهاك حرمة هذه الشهور.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَٰتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.

لعلّ المقصود أن المشركين إذا انتهكوا حرمة الأشهر الحرم وبدأوكم بقتال فيجب عليكم الدفاع، ودفاعكم ليس انتهاكاً لحرمتها كما قال: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَٰتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ}((2))، وعليه فالمعنى قاتلوا جميع المشركين بالكيفية التي يقاتلونكم جميعاً، فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه، وإن كفّوا عنكم فيه فكفّوا عنهم، ويحتمل أن يكون المقصود قتالهم جميعاً بعد انقضاء الأشهر الحرم لأنهم يقاتلونكم جميعاً ولا يستثنون أحداً منكم، وبذلك يخرج المعاهدون الذين التزموا بالعهد فلم يقاتلوكم

ص: 239


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 446 فما بعد.
2- ([2]) سورة البقرة، الآية: 194.

و{كَافَّةً} أي جميعاً، والأوّل صفة للمشركين، والثاني صفة للمسلمين.

وقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي لازموا التقوى دائماً ومن ذلك مراعاتكم لحرمة الأشهر الأربعة، ولا تخشوا فوات المشركين منكم أو استعدادهم فيها لقتالكم لأن اللّه معكم، والمعيّة هنا بالنصرة أي ينصركم عليهم، فإن من اتقى اللّه في ما أمر نصره اللّه تعالى، كما قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}((1)).

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} الآية.

نهي عن التلاعب بالأشهر الحرم بأن يحلّوا شهر المحرّم ويؤخروا الشهر الحرام إلى صفر.

وقوله: {النَّسِيءُ} من مادة (ن س أ) بمعنى التأخير.

وقوله: {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأنه كفر عملي إضافة إلى كفرهم في العقيدة وكلّما أحدث الكافر معصية زاد في كفره؛ لأن الكفّار مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول كما مرّ، كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}((2)).

أو لأنهم كانوا يزعمون أن التشريع لهم من دون اللّه تعالى وهذا كفرزيادة على كفرهم بالشرك.

ص: 240


1- ([1]) سورة محمّد، الآية: 7.
2- ([2]) سورة التوبة، الآية: 124-125.

وقوله: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} تأكيد على زيادة الكفر؛ لأن كل كفر ومعصية ضلال، والذي أضلّهم الشيطان والهوى.

وقوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} تفسير للنسيء المقصود في هذه الآية، وهو النوع الثاني منه، والضمير يرجع إلى النسيء أي كانوا يبيحون النسيء في سنة فيؤخرون الشهر الحرام إلى صفر، وكانوا يحرمونه في السنة التالية فلا يؤخرون الشهر الحرام، ويمكن رجوع الضمير إلى الشهر الحرام المستفاد من سياق الكلام.

وقوله: {لِّيُوَاطُِٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} والمواطاة الموافقة، أي كانوا يريدون الالتزام بعدد الأربعة فلم يحلّوا شهراً من الحرام إلاّ حرّموا شهراً آخر ليكمل العدد، وبهذا التلاعب يزعمون أنهم لم يخالفوا أمر اللّه تعالى، مع أنهم ارتكبوا معصيتين: تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وقوله: {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي نتيجة النسيء هي تحليل الشهر الذي حرّمه اللّه تعالى ولا ينفعهم تلاعبهم في رفع المعصية عنهم.

وقوله: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَٰلِهِمْ} زينها لهم الشيطان حتى حسبوا القبيح حسناً، وفي ذلك انقلاب للموازين عندهم وهو من أسوء أنواع الضلال.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ} أي يخذلهم فيتركهم حتى يضلوا، وذلك لعنادهم في كفرهم.

ص: 241

الآيات 38-40

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا مِنَ الْأخِرَةِ فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فِي الْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ 38 إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَئًْا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 39 إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٖ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 40}

بعد أن أمرهم بالجهاد نهر المتخاذلين عنه فقال:

38- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الخطاب للجميع حيث إن المتثاقلين كانوا منهم {مَا لَكُمْ} بمعنى أيّ نفع يعود إليكم في التخلّف {إِذَا قِيلَ لَكُمُ} قاله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {انفِرُواْ} اخرجوا للقتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} أي تثاقلتم مائلين {إِلَى الْأَرْضِ} فلا تريدون الخروج {أَرَضِيتُم} استفهام إنكاري {بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} شهواتها وملذاتها {مِنَ الْأخِرَةِ} بدلاً عن ثواب الآخرة ونعيمها، لكن اعلموا {فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} ما يتمتع ويستلذ به {فِي} جنب ثواب {الْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} مستحقر، فعليكم أن لا ترجحوا الحقير الفاني على الجليل الباقي.

ص: 242

39- ثمّ يهددهم اللّه تعالى فيقول: {إِلَّا تَنفِرُواْ} إن لا تخرجوا إلىالجهاد فأنتم المتضررون؛ إذ {يُعَذِّبْكُمْ} اللّه {عَذَابًا أَلِيمًا} في الدنيا بسيطرة الكفّار عليكم، وفي الآخرة بالنار، {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} يأتي بأناس آخرين مكانكم ينصرون الدين هم أطوع منكم لا يتثاقلون {وَلَا تَضُرُّوهُ} لا تضروا اللّه {شَئًْا} لأنه الغني عنكم {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} فيتمكن من الاستبدال ومن نصر دينه.

40- ثمّ يذكر لهم مثالاً حيث استبدل أهل مكة بالأنصار ونصر رسوله حيث لا ناصر له ف{إِلَّا} إن لا {تَنصُرُوهُ} الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي فينصره اللّه حالاً كما نصره في ما مضى {إِذْ} في الوقت الذي {أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أخرجوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنهم كانوا السبب في الخروج حيث أرادوا قتله، حال كونه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحدهما حيث لم يكن له ناصر {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} حيث لا طريق للفرار {إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ} أبي بكر: {لَا تَحْزَنْ} فلم يكن أحد يسلي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل هو كان يسلي الصاحب {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} يعلم بحالنا، {فَ} كان نصر اللّه تعالى لرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن {أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} الطمأنينة والأمنة الخاصة {عَلَيْهِ} على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَأَيَّدَهُ} أيد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بِجُنُودٖ} من الملائكة وغيرهم {لَّمْ تَرَوْهَا} أنتم فلم يكونوا من جنس البشر، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي كيدهم وتآمرهم لقتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {السُّفْلَىٰ} فاشلة مغلوبة {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} دائماً {هِيَ الْعُلْيَا} المرتفعة الغالبة، ومن كلمته وعده بنصر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنجائه من مشركي مكة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره {حَكِيمٌ} في تدبيره.

ص: 243

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ...} الآية.

لما أمرهم اللّه تعالى بقتال المشركين وأهل الكتاب زجرهم عن التكاسل عن الجهاد، وشأن نزول الآية غزوة تبوك في السنة التاسعة حيث الطريق طويل، والعدو الروم، وكان في وقت أدركت ثمار أشجارهم، فصعوبة الطريق من جهة وقوة العدو من جهة أخرى وانشغالهم بمحاصيلهم من جهة ثالثة صارت سبباً لضعف عزيمة الكثيرين منهم، فيقرّعهم اللّه تعالى ويحثّهم على الخروج.

وقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الخطاب وإن كان عاماً إلاّ أن المقصود به المتثاقلون، وإنّما صحّ تعميم الخطاب لأن المتكاسلين كانوا ضمن المسلمين بل الظاهر أن أكثرهم كانوا كذلك ويصح خطاب الجميع بما يفعله الأكثر.

وقوله: {مَا لَكُمْ} (ما) استفهامية، و(لكم) بمعنى النفع فالمعنى أي فائدة تعود لكم بالتثاقل؟

وقوله: {انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} النفر هو الخروج ويتضمن معنى التباعد والهياج، فكأن المقصود الخروج بسرعة.

وقوله: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} أي تثاقلتم من باب الافتعال بمعنى إظهار الشيء أي أظهرتم الثقل، وضُمّن معنى الميل ولذا عُدّي ب(إلى)، والمعنى كأنكم شيء ثقيل لا يتمكن من الحركة.

ص: 244

وقوله: {أَرَضِيتُم} استفهام إنكاري، أي هل آثرتم الدنيا على الآخرة.وقوله: {فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا...} أي ما يتمتع ويستلذ به في الدنيا هو شيء مستحقر زائل وفاني إذا قيس بثواب الآخرة وكرامته ودوامه.

أسباب عدم خروجهم للجهاد

الثاني: قوله تعالى: {إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ...} الآية.

يبيّن اللّه تعالى ثلاثة أمور تترتب على عدم خروجهم:

1- قوله: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} حيث آثروا متاع الدنيا لكن العاقبة هي العذاب الأليم، وهو ليس بمنحصر بعذاب الآخرة بل يشمل عذاب الدنيا أيضاً ومن ذلك سيطرة الكفّار عليهم وما تستتبعه من قتلهم وسبي ذراريهم وسلبهم أموالهم.

2- وقوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي يأتي بأناس آخرين ينصرون دينه فيكون ثواب النصرة والطاعة لهم دونكم، كما أن أهل مكة لما خذلوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذبوه استبدل اللّه بهم أهل المدينة فحازوا على فضيلة نصرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

3- {وَلَا تَضُرُّوهُ شَئًْا} لأن اللّه تعالى غني عنكم ويتمكن من نصر دينه ورسوله بما شاء، وضمير {لَا تَضُرُّوهُ} إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ويمكن إرجاعه إلى اللّه تعالى.

آية الغار

الثالث: قوله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} الآية.

بيان مثال حاضر لهم حيث إن اللّه تعالى نصر رسوله في أشد الظروف

ص: 245

وأصعبها؛ إذ تكالب عليه أهل مكة لقتله فاضطر إلى أن يخرج ولم يكنمعه إلاّ شخص واحد والتجأ إلى غار لم يكن فيه منفذ للفرار لو وصل إليه الأعداء، ولم يكن معه من يسليه ويشد عزيمته بل بالعكس كان صاحبه هو الذي يحتاج إلى التسلية، والحاصل: لا ناصر ينصر ولا حصن يمنع ولا أحد يقوّي المعنويات، ومع ذلك نصره اللّه تعالى وهيّأ له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما أراد من الهجرة وفشلت محاولة المشركين.

وقوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} الجزاء محذوف أي إن لم تنصروه فسينصره اللّه كما نصره في قصة الهجرة.

ثمّ إن اللّه تعالى بيّن ثلاثة أمور تدل على شدة قوة الأعداء وعدم وجود الأسباب الظاهرية لنصرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد فصل بين الأمور الثلاثة بكلمة {إِذْ} وهي:

1- قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} إنّما كان إخراجاً لأنهم كانوا السبب حيث أرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاضطر إلى الخروج، وهذا يدل على قوة المشركين وعدم تمكن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مقاومتهم في الظاهر لمّا مات أبو طالب (عليه السلام) ناصره فتكالب عليه الأعداء.

وقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال أي حال كونه وقت الخروج وحيداً لم يكن معه إلاّ شخص واحد وقد طلبه المشركون بخيلهم ومقاتليهم، و{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحدهما.

2- وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} بيان عدم وجود مفرّ له، وقد وصل المشركون إلى الغار لكن اللّه تعالى صرفهم عنه، والغار في جبل ثور قرب مكة.

ص: 246

3- وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} أي مع وجود ما يحبط المعنويات فإن الصاحب كان خائفاً حزيناً وقد ظهر عليه ذلك بحيث احتاج إلى أن يسليه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والحزن إنّما هو لأمر قد مضى كما أن الخوف ممّا سيأتي، فالحزن هنا إمّا بمعنى الخوف أي لا تخف، وإمّا بمعنى الحزن على ما فاته في مكة من مال وغيره.

والحاصل: إن الظروف العسكرية والنفسية كلها كانت بصالح المشركين لكن اللّه تعالى نصر رسوله فكذلك سينصره في ما يأتي.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} المعية هنا بمعنى العلم والإنقاذ فقد وعد اللّه رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن لا يصيبه سوء من المشركين.

الرابع: قوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٖ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ...} الآية.

أي رغم أن كل الظروف لم تكن بصالح الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ أن اللّه تعالى نصره، وقد بيّن اللّه ثلاثة أمور في نصره:

1- قوله: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي لطفه الخاص الذي أورث سكون نفس الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وطمأنينته، وقد مرّ الكلام عنها((1))، وهذا لا يعني أنه كان مضطرباً، بل السكينة زيادة اطمئنان ولطف من اللّه تعالى.

2- وقوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٖ لَّمْ تَرَوْهَا} المراد التأييد حين الخروج، وليس المقصود هنا بيان تأييده في بدر وغيره؛ لأن السياق يقتضي كون التأييد حين ذاك.

ص: 247


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 256.

مدلول آية الغار

والجنود التي لم يروها هم الملائكة، والحمام التي باضت في فوهة الغار، والعنكبوت التي نسجت على باب الغار((1))، حتى صرف اللّه المشركين عن النظر في الغار والدخول فيه، فقوله: {لَّمْ تَرَوْهَا} أعم من عدم كونها مرئية أو لم تكن حاضرة ليروها، أو الخطاب للمسلمين المتثاقلين فإنهم لم يروا تلك الجنود حتى لو فرض أن المشركين رأوها حين بحثهم عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد روي أن اللّه تعالى أرسل ملكاً في صورة رجل حثّهم على البحث عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الشعاب فانصرفوا عن الغار((2))، كما روي أن سراقة بن مالك «لحق برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّهم اكفني شر سراقة بما شئت، فساخت قوائم فرسه...»((3)).

3- وقوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىٰ} الظاهر أن المراد من كلمتهم هو ما اتفقوا عليه في دار الندوة من قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكلمتهم كيدهم حينذاك، و{السُّفْلَىٰ} كناية عن كونها فاشلة مغلوبة.

وقوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} إخبار بالقاعدة العامة وهي أن وعد اللّه لا خلف فيه، وإنجاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المشركين في الغار مصداق لإنجاز اللّه تعالى ما وعده (والعليا) للدلالة على أنها الغالبة المنصورة.

وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} كالتعليل لكون كلمته هي العليا؛ فإنّه سبحانه عزيز غالب على أمره، وهو حكيم في تدبيره وفي كلمته.

ثمّ إن هذه الآية قدح في الصاحب ولا مدح فيها له بشيء، وذلك من

ص: 248


1- ([1]) راجع مجمع البيان 5: 80.
2- ([2]) راجع تفسير القمي 1: 276.
3- ([3]) الكافي 8: 263.

جهات متعددة:

منها: أنه لا بدّ في البلاغة من تطابق الممثَّل والممثَّل به، والمعنى: إن لم تنصروه في غزوة تبوك فلا يضره لأن اللّه ناصره، كما أنه في الغار نصره اللّه حينما لم ينصره أحد حتى صاحبه.

ومنها: أن السكينة نزلت على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم تنزل على صاحبه، مع أنه في القرآن كلّما نزلت السكينة على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نزلت على المؤمنين أيضاً كما مرّ في الآية 26.

وقد التفت بعضهم إلى ذلك فحاولوا إرجاع ضمير (عليه) إلى (صاحبه)، مع وضوح بطلان ذلك حيث إن الضمائر السابقة واللاحقة كلها للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وسياق الكلام أيضاً في نصرة اللّه تعالى للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وزعم بعضهم عدم حاجة الرسول إلى السكينة! مع وضوح بطلان ذلك أيضاً؛ لأن اللّه تعالى أنزل سكينته على رسوله في يوم حنين وفي صلح الحديبية مع وجود أنصار متعددين له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ويوم الغار أصعب من ذينك الموقفين كما هو أوضح من أن يخفى.

وأمّا {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} و{فِي الْغَارِ} و{لِصَٰحِبِهِ} و{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فلا دلالة لها على شيء من الفضل.

إذ ثاني اثنين عدد ولا فضيلة فيه، إذ لو مشى مسلمان أو مسلم وكافر معاً كان المسلم ثاني اثنين.

ومسجد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل من الغار وقد كان يجمع المسلم والمنافق.

والصحبة من دون إيمان لا قيمة لها، كما قال تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ

ص: 249

وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ...}((1)).

كما أن اللّه مع الجميع مؤمنهم وكافرهم، قال سبحانه: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ}((2))، وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ}((3))، كما أنه تعالى قد ينقذ المؤمن والكافر والمشرك، كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَنجَىٰهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}((4)).

ص: 250


1- ([1]) سورة الكهف، الآية: 37.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 108.
3- ([3]) سورة المجادلة، الآية: 7.
4- ([4]) سورة يونس، الآية: 23.

الآيات 41-43

اشارة

{انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 41 لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ 42 عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَٰذِبِينَ 43}

ثمّ يحثّهم اللّه على الجهاد على كل حال فقال:

41- {انفِرُواْ} اخرجوا إلى الجهاد {خِفَافًا} جمع خفيف أي حال كونكم نشطين فيه لقلة المشاغل {وَثِقَالًا} جمع ثقيل لكثرة المشاغل ومشقته عليكم، {وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ} ببذلها {وَأَنفُسِكُمْ} بالذهاب إلى القتال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بقصد امتثال أمره ولإعلاء كلمته، {ذَٰلِكُمْ} النفر والجهاد حيث فيه العزة والثواب {خَيْرٌ لَّكُمْ} من القعود {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن كنتم تعلمون لعلمتم أن النفر والجهاد خير لكم.

42- {لَوْ كَانَ} ما دعاهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليه {عَرَضًا} مال الدنيا والغنيمة {قَرِيبًا} سهل الوصول إليه {وَسَفَرًا قَاصِدًا} ليس بالبعيد فكان يُقصد لسهولته {لَّاتَّبَعُوكَ} طمعاً في الدنيا ولأنه سهل، {وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي المسافة التي يقطعونها كانت بعيدة وفيها المشقة، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} بعد رجوعكم معتذرين عن عدم الخروج قائلين: {لَوِ اسْتَطَعْنَا} كانت لنا القدرة

ص: 251

في المال والبدن {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} حال كونهم {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ}بعدم الخروج وبالحلف الكاذب {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} في ادعائهم وحلفهم، فقد كانوا يستطيعون لكن آثروا الراحة.

43- ولما علم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن خروجهم يضرّ جيش الإسلام أذن لهم في البقاء فقال اللّه تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} أي لا عتاب عليك في الإذن لهم وقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَٰذِبِينَ} ظاهر الكلام متوجه إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن المقصود به أولئك المتخلّفون، كعتاب موسى هارون (عليهما السلام) مع كون المقصود عبدة العجل، فالمعنى لا يحق للكاذبين الاستئذان والتخلّف.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

لمّا هدّدهم اللّه تعالى في تركهم الجهاد حثّهم عليه ببيان أنه خير لهم من القعود، وبيّن أن الأعذار الواهية غير مقبولة.

وقوله: {خِفَافًا وَثِقَالًا} جمع خفيف وثقيل، فالخفيف هو قليل المشاغل النشط الذي لا يمنعه عن الجهاد مانع من كبر في العمر وأهل ومال وزرع وحرث ونحو ذلك، والثقيل عكسه فيشق عليه الخروج للجهاد، والمقصود الخروج على كل حال.

وقوله: {وَجَٰهِدُواْ} من الجهد والتعب، فلا تمنعكم الصعوبة عن الجهاد، والنفر أيضاً بمعنى الجهاد إلاّ أن عطف الجهاد عليه لأجل بيان تفصيله بأنه

ص: 252

بالمال والنفس وأنه في سبيل اللّه، أو أن النفر هو خروج بقصد الجهاد،ولكن قد يخرج أحدهم ولا يجاهد أو لا ينوى القربة، فلا بدّ أن يُتبع النفر بالجهاد في سبيله تعالى.

وقوله: {ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي النفر والجهاد بصالحكم في الآخرة بالثواب، وفي الدنيا بالعزة والغنيمة.

وقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} المعنى إن كنتم تعلمون لعلمتم أنه خير لكم.

الثاني: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ...} الآية.

بيان بطلان أعذارهم وأنهم يريدون الدنيا، فلا يخرجون إلى الجهاد إلاّ لو كان سهلاً فيه الغنيمة، أمّا لو كان صعباً فلا، بل يعتذرون بالأعذار الكاذبة ويحلفون باللّه عليها.

وقوله: {عَرَضًا قَرِيبًا} العرض الغنيمة، ويسمى متاع الدنيا عرضاً لأنه سريع الزوال لا ثبوت له، والقريب ما كان سهل المأخذ.

وقوله: {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي غير بعيد فيكون سهلاً، وسُمّي قاصداً لأنه ممّا يُقصد لسهولته.

وقوله: {بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي المسافة التي يشق قطعها، وكان ذلك في غزوة تبوك، حيث المسافة بعيدة جداً وكان الوقت صيفاً شديد الحرّ مع كون العدو الروم.

وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ...} إخبار بما سيقوله المنافقون المتخلّفون بعد رجوع المسلمين من غزوة تبوك، والغرض فضحهم من أوّل الأمر ومنع ضِعاف الإيمان من اللحاق بهم، ومع ذلك فلم يجد المنافقون بداً من ذكر

ص: 253

هذا العذر إذ لم يكن لهم عذر آخر يتشبثون به.

وقوله: {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بعدم اتّباعك وقت المشقة، وبالحلف كاذباً، وهلاكهم في الآخرة بالعذاب وفي الدنيا بالذل والفضيحة، وقد قابل ادعائهم عدم الاستطاعة كذباً بهلاكهم حقيقة.

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} لمّا حلفوا باللّه بيّن أنه تعالى يعلم بكذبهم ويفضحهم لأن ما يعلمه اللّه تعالى من أفعالهم كائن لا محالة، فقابل بين حلفهم الكاذب وعلمه تعالى الصادق.

سبب إذن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للتخلف عن الجهاد

الثالث: قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَٰذِبِينَ}.

كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعلم بأنه لا مصلحة في خروج هؤلاء المنافقين مع المجاهدين بل يترتب عليه ضرر كبير كما سيأتي في الآية 47: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ...}، وفي الوقت نفسه كان يريد أن لا يكون عدم خروجهم تمرّداً منهم بما يضعف به عزيمة المجاهدين ويذهب به هيبة الإسلام، وكان الحلّ في أن يأذن لهم في عدم الخروج، وإنّما الذم على الذين يختلقون الأعذار الكاذبة ليفروا من الجهاد، فهذه الآية ذم لهم ولكن جعل الخطاب للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليكون أوقع وأبلغ، كما في عتاب موسى (عليه السلام) لهارون (عليه السلام) وكان المقصود به عبدة العجل كما مرّ تفصيله في سورة الأعراف((1))، وسأل المأمون الإمام الرضا (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: «هذا ممّا نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب اللّه بذلك

ص: 254


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة الأعراف: 277.

نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأراد أمّته، وكذلك قوله عزّ وجلّ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}((1)

وقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَئًْا قَلِيلًا}((2))»((3))، وقال الوالد رضوان اللّه عليه: «استأذن جماعة من المنافقين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تركهم الخروج إلى تبوك، فأذن لهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد كان هذا الإذن كسائر أوامر الرسول وكلماته بالوحي بدليل قوله سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}((4))، لكن الاستئذان من القوم كان نفاقاً فاستحقوا العقاب، ومن البلاغة أن يوجه الإنسان العتاب إلى أحد وهو يريد إفهام غيره، فإذا ألحّ الشخص المتظاهر بالفقر، فأشرت إلى ولدك بإعطائه المال، تقول له - معاتباً وأنت تريد إفهام الآخذ - : لِمَ أعطيته المال؟ مع أن إعطاءه كان بأمرك، ولكنك تريد توبيخ الآخذ بصورة بليغة، وهذا كما يظهر في الكلام يظهر في العمل، فقد تأخذ بيد الولد لتقصيره أمام الآخذ مظهراً غضبك عليه، تريد إفهام الآخذ بسوء صنيعه في الأخذ، كما تقدم في قصة موسى وهارون (عليهما السلام) »((5)).

وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ} أي لا يعاتبك ولا يؤاخذك، فلا يراد العفو عن ذنب بل المقصود نتيجة العفو أي إنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غير مؤاخَذ ولا معاتَب على إذنه لهم كقوله: {وَإِن تَسَْٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ

ص: 255


1- ([1]) سورة الزمر، الآية: 65.
2- ([2]) سورة الإسراء، الآية: 74.
3- ([3]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 202؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 467.
4- ([4]) سورة النجم، الآية: 3-4.
5- ([5]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 403-404.

لَكُمْ عَفَااللَّهُ عَنْهَا}((1))، وكقوله: {إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}((2)).

وقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} بيان المعفوّ عنه، فالمعنى لا يؤاخذك اللّه على إذنك لهم.

وقوله: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ...} بيان غاية عدم الإذن، أي لا تأذن حتى تعلم بالصادق في عذره عن الكاذب، وليس المعنى حتى يتبيّن لك المنافقون فإن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعرفهم كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}((3))، فالمعنى من جاءك مستأذناً - سواء كان مؤمناً أم منافقاً - فلا تأذن له حتى تعلم بمن هو صادق في عذره عمّن هو كاذب فيه، ومع ذلك فقد فوّض اللّه تعالى الإذن للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمن شاء منهم، كما سيأتي بيانه قريباً.

ص: 256


1- ([1]) سورة المائدة، الآية: 101.
2- ([2]) سورة البقرة، الآية: 237.
3- ([3]) سورة محمّد، الآية: 30.

الآيات 44-48

اشارة

{لَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ 44 إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ 45 وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ 46 لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّٰلِمِينَ 47 لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَٰرِهُونَ 48}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن الاستئذان من غير عذر حقيقي لا يجتمع مع الإيمان فقال:

44- {لَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} في {أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} إذ المؤمن يمتثل أمر اللّه تعالى ولا يحتال عليه ويعلم بثوابه وعقابه، {وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ} الذين يتقون عصيانه فيطيعون أوامره ولا يتهربون منها فيجازيهم على تقواهم.

45- {إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ} في القعود عن الجهاد وعدم بذل الأموال فيه {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} إيماناً راسخاً {بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} والريب شك مع تهمة {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} يتحيّرون.

46- وأعذارهم واهية فقد قصدوا من أوّل الأمر عدم الخروج {وَلَوْ أَرَادُواْ

ص: 257

الْخُرُوجَ} للجهاد طاعةً للّه {لَأَعَدُّواْ لَهُ} للخروج {عُدَّةً} وهيأسباب القتال بأن تهيؤوا له {وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} انطلاقهم للجهاد أي خذلهم اللّه فلم يوفقهم للجهاد بسوء أعمالهم {فَثَبَّطَهُمْ} عوّقهم أي تركهم بحالهم {وَقِيلَ} وكأن القائل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا أذن لهم: {اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ} عن الجهاد كالمرضى والنساء والصبيان.

47- وإنّما كره اللّه انبعاثهم فأذن لهم الرسول لأنه {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} في ضمنكم {مَّا زَادُوكُمْ} بخروجهم {إِلَّا خَبَالًا} أي فساداً في الرأي، {وَلَأَوْضَعُواْ} أي أسرعوا في الدخول {خِلَٰلَكُمْ} بينكم {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} بإيقاع الخلاف بينكم، {وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ} أي يتأثرون بكلامهم أو جواسيس لهم ينقلون كلامهم فيساعدونهم على فتنتهم، {وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّٰلِمِينَ} فيعاقبهم على سوء أعمالهم.

48- وهذه الحالة متأصلة في نفوسهم تدل على نفاقهم ف{لَقَدِ ابْتَغَوُاْ} طلبوا {الْفِتْنَةَ} بتشتيت الأمر وتفريق الأصحاب {مِن قَبْلُ} أي قبل غزوة تبوك وذلك في غزوة أ ُحد حيث انخزلوا عن الجهاد وشقوا صفوف المجاهدين {وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ} والقلب تصريف الشيء عن وجهه حيث حاولوا إفشال برامج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ} الظفر {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} بغلبة الإسلام {وَهُمْ كَٰرِهُونَ} لذلك.

بحوث

الأوّل: في هذه الآيات يبيّن اللّه تعالى أن الاحتيال عن إطاعته تعالى دليل عدم الإيمان، فإن المؤمن يطيع اللّه تعالى ولا يحاول الفرار من تنفيذ أوامره،

ص: 258

وأمّا غير المؤمن فتارة يجاهر بالعصيان، فإن لم يتمكن من المجاهرة اختلقأعذاراً، لئلّا يقع في مشقة الإطاعة من جهة، ولئلّا يظهر نفاقه وعدم طاعته من جهة أخرى.

وحيث إن المؤمن الذي يريد الجهاد قد يتعذر عليه ذلك بحيث لا يتمكن منه، وهذا أيضاً يأتي للاستئذان، أراد اللّه تعالى التمييز بينه وبين العاصي المحتال، فذكر أن هؤلاء العصاة ينوون العصيان من أوّل الأمر فلذا لا يتهيّؤون منذ البداية عكس المؤمن المعذور الذي يحاول رفع عذره ويجهد في توفر الأسباب، وبذلك ينكشف العصاة الذين يريدون الفرار من الجهاد عن المؤمنين المعذورين واقعاً.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أنه سبحانه وإن أمر هؤلاء بالجهاد تشريعاً إلاّ أنه خذلهم فلم يلطف بهم اللطف الخاص الذي يوفّقهم للطاعة ولذا صدّقهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الظاهر فأذن لهم، وهذا الإذن لا يرفع التكليف بالجهاد عنهم لأنه كان مبنيّاً على ما قالوه، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مأمور بالعمل بالظاهر، كمن يأتيه ويدعي المرض في شهر رمضان فيأذن له في الإفطار، وذلك في الحقيقة قضية شرطية أي إن كان عذرك حقيقياً فقد أذنت لك.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى سبب خذلانهم وعدم توفيقهم، وهو أنهم لو خرجوا مع المسلمين أفسدوا آراءهم وأثاروا النزاع بينهم كما فعلوا من قبل فدفع اللّه سبحانه شرّهم.

الثاني: قوله تعالى: {لَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ}.

ص: 259

أي ليس من شأنهم الاستئذان للفرار من الجهاد؛ لأن المؤمن الحق يطيعاللّه تعالى في ما أمره من غير احتيال للتخلص من الحكم، إذ ذلك من لوازم الإيمان الحق، فمن يعتقد باللّه جازماً ويعلم بحكمته وأنه لا يأمر إلاّ لمصلحة وأن من شأن عبوديته امتثال أوامره أطاعه بمجرد أمره، وكذلك من يعتقد بالآخرة وثوابها وعقابها يمتثل الأمر جزماً.

وهذا لا ينافي تحقق العذر الحقيقي لبعض المؤمنين بحيث يسقط الجهاد عنهم كما قال: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَٰذِبِينَ}((1)) فتأذن للصادق دون الكاذب، لكن مع ذلك لا بدّ للمؤمن المعذور من الاستئذان لئلّا ينفرط عقد الطاعة ولئلّا تدبّ الفوضى في صفوف المسلمين، ولئلّا يستغل المنافقون والعصاة ذلك للفرار من الأحكام، قال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}((2))، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٖ جَامِعٖ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَْٔذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَْٔذِنُونَكَ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَْٔذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ}((3))، فقوله: {لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} يراد به الصادق في عذره مع كون عذره مقبولاً لإعفائه وهو ما ذكره بقوله: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ}.

وقوله: {أَن يُجَٰهِدُواْ} بتقدير في، أي لا يستأذنون في الجهاد بتركه.

ص: 260


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 43.
2- ([2]) سورة النور، الآية: 51.
3- ([3]) سورة النور، الآية: 62.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ} أي يتقون العصيان أو يخافون اللّه تعالى.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ...} الآية.

أوصاف المنافقين الذين يريدون الفرار من الجهاد

الاحتيال على الأحكام الشرعية واختلاق الأكاذيب للتهرّب منها دليل عدم الإيمان، وقد ذكر اللّه تعالى ثلاثة أوصاف لهؤلاء، وهي:

1- قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي إيمانهم باللّه ليس براسخ ولا صحيح فهؤلاء يظنون أنهم يتمكنون من مخادعة اللّه تعالى، كما قال: {وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ}((1)).

2- وقوله: {وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} فلا يعتقدون به فلا يؤمنون بثوابه وعقابه أو إيمانهم به ضعيف فيزعمون أن لا عذاب لهم لو عصوا.

3- وقوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} الارتياب هو شك مع تهمة، فكأن المقصود شكهم في حكم الجهاد واتهامهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيه، فقد لا يؤمن شخص إيماناً صحيحاً لكن لا يشك ولا يتّهم وهذا يكون غالباً في ضعاف الإيمان والذين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد يكون لا يؤمن مع ارتياب وهذا يكون غالباً في المنافقين الظانين باللّه ورسوله ظن السوء.

وقوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي يتحيّرون لأنهم من جهة يستصعبون الجهاد ويخافون منه، ومن جهة أخرى لا يريدون أن يفتضحوا في المجتمع، فيكونون مذبذبين متحيرين دائماً.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}.

ص: 261


1- ([1]) سورة فصلت، الآية: 22.

هذا علامة عدم صدقهم في أعذارهم؛ وذلك لأن المطيع يهيّؤ نفسه وقد يفاجؤه عذر حقيقي، لكن العاصي يوطّن نفسه منذ البداية على عدم الامتثال فيظهر ذلك على عمله بعدم الاستعداد للطاعة، كما أن الذي لهمعوّقات عن الامتثال يحاول إزالة تلك المعوّقات لأن مقدمة الواجب المطلق واجبة عقلاً، وأمّا من يترهّل ويدعي وجود معوّقات ولا يحاول إزالتها فهذا يكشف عن عدم إرادته الامتثال من البداية.

وقوله: {لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} أي هيؤوا واستعدوا للخروج، و(العدة) هي أسباب المقاتلة من مال وسلاح وخيل ونحو ذلك.

سبب عدم توفيق اللّه لهم

الخامس: قوله تعالى: {وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ}.

بيان سبب عدم توفيق اللّه لهم، فإنه لا طاعة إلاّ بتوفيق منه، وذلك لمن أحسن النية والعمل، وأمّا من أساء النية والعمل فلا يلطف اللّه سبحانه به اللطف الذي يؤدّي به إلى اختيار الطاعة، كالولد الذي يريد العصيان فقد يأتي الوالد وينصحه ويزين له ويعطيه الوعود فيختار الولد الطاعة، وقد ييأس منه الوالد لكثرة سوء عمله فيتركه في براثن المخالفة والعصيان.

وقوله: {كَرِهَ اللَّهُ} هذا في الإرادة التكوينية، وذلك لا ينافي إرادته التشريعية، بمعنى أن الجهاد مأمور به ولا يسقط عن هؤلاء، فهو تعالى يريد تشريعاً بمعنى بقاء التكليف، ويكره تكويناً بمعنى عدم اللطف الموجب للطاعة.

وقوله: {انبِعَاثَهُمْ} أي قيامهم للجهاد، وفي هذا إشعار بسبب الكراهة

ص: 262

وهو تثاقلهم بحيث لا بدّ في تحقق طاعتهم من انبعاثهم وهو انطلاقهم بسرعة.

وقوله: {فَثَبَّطَهُمْ} التثبيط هو التعويق والشغل عن المراد((1))، وذلك بالخذلان وعدم التوفيق.

وقوله: {وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ} والقائل هو الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما أذن لهم، أو اللّه تعالى حينما لم يوفقهم للجهاد، و{الْقَٰعِدِينَ} هم العجزة والنساء والصبيان ونحوهم، وفي هذا أشد الذم لهم.

السادس: قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ...} الآية.

بيان سببين لكراهة اللّه تعالى انبعاثهم للجهاد، وهو أنهم لو خرجوا لحولوا طاعة الجهاد إلى معصية، كالمرائي الذي يحول عبادة اللّه تعالى إلى ويل في جهنم.

قوله: {مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} كل مجاهد صادق يزيد جيش الإسلام مقاتلاً نافعاً، أمّا هؤلاء فلا يزيدون المسلمين إلاّ خبالاً، والخبال هو فساد الرأي؛ لأنهم بكلامهم يفسدون آراء بعض المقاتلين وذلك بإثارة الشبهات والمخاوف.

وقوله: {وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} الإيضاع هو الإسراع في الدخول بين الناس، يقال للمسافر الذي دخل بدابته وسط رحل المسافرين: أوضع خلالهم، والمقصود أنهم يسرعون بينكم بالنميمة وذلك لشق صفوف

ص: 263


1- ([1]) راجع لسان العرب 7: 267.

المجاهدين وإثارة النزاع بينهم، مع أن الجيش أحوج ما يكون إلى وحدة الكلمة وصفاء القلوب.

وقوله: {وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ} فالنمام لو رفضه الناس فشل في إثارة الخلاف بينهم، لكن كان كثير من المسلمين حديثي عهد بالإسلام فلذا كانت نميمة هؤلاء مؤثرة في شق الصف، فالسمّاع بمعنى البسيط الساذج السريع القبول والتأثر، وقيل: معنى {سَمَّٰعُونَ لَهُمْ} أنهم عيون ووسائط لهم في نقل فتنتهم إلى سائر المسلمين.

السابع: قوله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ...} الآية.

بيان أن هذه الحالة متجذّرة فيهم، وهو كالدليل على الآية السابقة.

وقوله: {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ} المراد بها تشتيت الأمر وتفريق المجاهدين عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {مِن قَبْلُ} أي في غزوة أ ُحد حيث انخزل ثلاثمائة منهم فتركوا الرسول وسائر المسلمين، كما أنهم كادوا أن يؤثّروا في طائفتين من المسلمين ليرجعوا، وقد مرّ ذكره في سورة آل عمران((1)).

وقوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُورَ} التقليب هو صرف الشيء عن وجهه، فكانت أمور المسلمين متّسقة وكلمتهم واحدة، لكنهم شتّتوا الأمر ولعل انخزالهم كان من أسباب الهزيمة في غزوة أ ُحد لأنهم كانوا يشكّلون ثلث عدد المسلمين المقاتلين.

قوله: {حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ} لعل المراد الظفر، فقد غلب المسلمون الكافرين

ص: 264


1- ([1]) راجع التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 365.

وفتحوا مكة.

وقوله: {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} لعل المقصود غلبة الإسلام على الشرك ودخولالناس في الإسلام أفواجاً، والحاصل: كما فشلت مخططاتهم في الماضي كذلك تفشل في الحال رغماً عنهم.

ص: 265

الآيات 49-52

اشارة

{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَٰفِرِينَ 49 إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ 50 قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 51 قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ 52}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى بعض أوصاف المنافقين فذكر أربعة أصناف منهم، أمّا الصنف الأوّل فذكره بقوله:

49- {وَمِنْهُم} من المنافقين {مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي} في التخلف عن الجهاد {وَلَا تَفْتِنِّي} أي لا توقعني في الفتنة بإخراجي إلى الجهاد، {أَلَا} للتنبيه {فِي الْفِتْنَةِ} وهي عصيان اللّه ورسوله {سَقَطُواْ} من حيث زعموا الفرار منها، {وَ} عاقبتهم العذاب حيث {إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَٰفِرِينَ} فكل ما يصنعونه يوصلهم إلى جهنم.

50- ومن الفتنة التي سقطوا فيها أنهم يعارضون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على كل حال ف{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} أي نعمة كالعافية والغنيمة {تَسُؤْهُمْ} تورث حزنهم لفرط عداوتهم وحسدهم، {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} كالبلاء والشدة {يَقُولُواْ} متبجّحين وشامتين: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أي أخذنا الحذر بتخلفنا

ص: 266

{مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} بما أصابك من المصيبة.51- {قُل} في جوابهم عن فرحهم: {لَّن يُصِيبَنَا} من حسنة أو مصيبة {إِلَّا مَا كَتَبَ} قدّره {اللَّهُ لَنَا} فهو خير لنا؛ إذ {هُوَ} اللّه {مَوْلَىٰنَا} أي يتولى أمورنا بما هو بصالحنا، {وَ} حيث كان اللّه مولانا ف{عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يكلوا إليه أمورهم ويرضوا بقضائه لأنه لا يقدر إلاّ ما هو خير لهم.

52- واستنكاراً على زعمهم أخذ حذرهم {قُلْ}: إنّ المطيعين هم الذين أخذوا حذرهم دونهم ف{هَلْ تَرَبَّصُونَ} تنتظرون {بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} الظفر أو الشهادة فنحن على كل حال رابحون، {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ} نتوقع {بِكُمْ} أحد الشرّين: {أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنْ عِندِهِ} قارعة سماوية أو هلاك في الدنيا ثمّ عذاب في الآخرة {أَوْ بِأَيْدِينَا} بأن ننتصر فتفتضحوا وتذلوا أو يأذن لنا بقتلكم، ثمّ يهددهم بقوله: {فَتَرَبَّصُواْ} العاقبتين {إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} عاقبتنا الحسنة على كل حال وعاقبتكم السيئة على كل حال.

الصنف الأوّل من المنافقين وأوصافهم

بحوث

الأوّل: لما ذكر اللّه تعالى المنافقين الذين يريدون الفرار من الجهاد، عطف الكلام إلى ذكر مجموعة من أوصافهم، تحذيراً للمؤمنين عنهم وعن الاتصاف بتلك الأوصاف، فذكر أربعة أصناف منهم وهم: الذين لا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم، والذين يرضون بالعطاء ويسخطون بالمنع، والذين يؤذون الرسول، والذين ينقضون عهد اللّه تعالى وصدّر كل صنف بقوله: {وَمِنْهُم} وقد بينت هذه الآيات مجموعة من أقوالهم وأفعالهم

ص: 267

وفضحتهم.

أمّا الطائفة الأولى: فهم الذين يتهربون من الجهاد، فإن من أعرض عن عمل لا يريد نجاح ذلك العمل لئلّا يكون إدانة له ولتصرفه، فلذا يسوؤه ظفر المسلمين، ويفرح بمصيبتهم ويشمت بها ويتبجح بصحة رأيه حينما أعرض عن الجهاد، وأمّا سائر الطوائف فيأتي ذكرها لاحقاً.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ...} الآية.

كأنه زعم أن امتثاله لأمر اللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الخروج إلى الجهاد فتنة له، قيل: نزلت في جدّ بن قيس حيث زعم أنه لو خرج إلى الجهاد افتتن ببنات الروم((1))، ومعنى الآية عام لكل من يترك أحكام اللّه تعالى زاعماً أن فيها المفسدة، مع أن أحكامه هي الحق وفي امتثالها جلب المصلحة ودفع المفسدة.

وقوله: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} بيان أن ما صنعوه كان عصياناً للّه تعالى ولرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذلك هو الفتنة بعينها.

وقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَٰفِرِينَ} تهديد لهم بأن عاقبتهم إلى جهنم، أو بمعنى أنهم وقعوا في الفتنة على كل حال سواء خرجوا أم لم يخرجوا، لأنهم مع خروجهم يزيدون المسلمين خبالاً ونزاعاً، ومع عدم خروجهم عصوا اللّه ورسوله، أو بمعنى أنهم في السيئة على كل حال ففي الدنيا سقطوا في الفتنة وفي الآخرة تحيط بهم نار جهنم.

ص: 268


1- ([1]) راجع مجمع البيان 5: 91.

ويحتمل أن تكون جهنم حالياً محيطة بهم لكن لا يشعرون بها لعدم تزويدهم بما يدركونها به حتى إذا ماتوا ذاقوا حرّها، كالجريح الذي تمّ تخدير موضع جرحه فهو لا يشعر بالألم حتى إذا زال أثر المخدّر شعر به.

الثالث: قول--ه تعال--ى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ...} الآية.

توضيح للفتنة التي سقطوا فيها فإنهم لمّا عصوا اللّه ورسوله أرادوا أن تتبيّن صحة مواقفهم، فإذا ظفر المسلمون استاؤوا لأن في ذلك فضيحتهم ووضوح بطلان موقفهم، وإن ابتلي المسلمون بمصيبة تبجّحوا بزعمهم صحة موقفهم وفرحوا بما أصاب المسلمين.

وقوله: {حَسَنَةٌ} شأن نزولها العافية والغنيمة، لكن المراد بها عام لكل نعمة سواء في حرب أم غيرها.

وقوله: {مُصِيبَةٌ} شأن النزول البلاء والشدة في الحرب، والمراد عام لكل مصيبة.

وقوله: {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أي يتبجّحون دفاعاً عن موقفهم المتخاذل بترك الجهاد بأنهم قد احتاطوا فلم يقعوا في ما وقع فيه المجاهدون من المصيبة، كما قالوا مثل ذلك في غزوة أحد، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ}((1))، وقال سبحانه: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ

ص: 269


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 168.

فَأَفُوزَ فَوْزًاعَظِيمًا}((1))، و(أخذ الأمر) كناية عن التحذّر.

وقوله: {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} أي بالمصيبة التي أصابت المسلمين وكذلك بموقفهم المتخاذل.

وحين الحسنة لا يتمكنون من قول شيء ولذا اقتصر بقوله: {تَسُؤْهُمْ}، وأمّا حين المصيبة فردّ فعلهم يكون بالقول وبالفعل وبالقلب، فأمّا قولهم فهو التبجّح والشماتة، وأمّا فعلهم فهو التولّي وكأنهم لا يريدون سماع شيء من الجواب، وأمّا ما في قلوبهم فهو الفرح بما أصاب المسلمين، واللّه العالم.

الرابع: قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَىٰنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

هذا جواب عمّا قاله المنافقون بأنهم قد أخذوا حذرهم وأن المؤمنين لم يأخذوا حذرهم لذا أصيبوا بالمصيبة، وحاصل الجواب: أن المؤمنين يمتثلون أمر اللّه تعالى، وهو الذي يتولى شؤونهم فلا يكتب لهم إلاّ ما هو خير لهم سواء كان مصيبة أم حسنة، ويتوكّلون عليه بامتثال أمره وبطلب الثواب منه.

وقوله: {إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} فالمصيبة لا تضرّنا لأن اللّه هو الذي قدّرها لنا، كمن يُسقى دواءً مُرّاً يتأذى به فهو خير له رغم التأذي.

وقوله: {هُوَ مَوْلَىٰنَا} أي المتولي لشؤوننا، فالمعنى إنه يقدّر لنا ما هو خير لنا، عكس ما يقدّره للكفّار والمنافقين فإنه شر لهم على كل حال؛ إذ النعمة استدراج لهم والمصيبة انتقام وعذاب لهم.

ص: 270


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 72-73.

وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} حث لهم على امتثال أوامر اللّه تعالى والاعتماد عليه؛ لأنه سبحانه يقدّر الخير للمتوكّلين.

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ...} الآية.

استفهام إنكاري مع تضمينه الجواب، فهم ينتظرون ليروا ما يؤول إليه أمر المجاهدين من الظفر أو الهزيمة، فيقال لهم: إن كليهما خصلة حُسنى؛ لأن في الظفر الفوز بالدنيا وثواب الآخرة، وفي الهزيمة الفوز بثواب الآخرة وقد يكون فيها منافع دنيوية أيضاً، وفي مقابل ذلك المنافقون خاسرون على كل حال، إمّا بعذاب من اللّه أو بأيدي المؤمنين فضلاً عن حرمانهم من فوائد النصر.

وقوله: {تَرَبَّصُونَ بِنَا} التربص هو الانتظار، وقيل: هو طول الانتظار((1)).

وقوله: {إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} الحسنى مؤنث الأحسن فما يقدره اللّه للمؤمنين هو أحسن تقدير، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «وكذلك المرؤ المسلم البريء من الخيانة ينتظر إحدى الحسنيين إمّا داعي اللّه فما عند اللّه خير له، وإمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل ومال ومعه دينه وحسبه»((2))، ومن تأويل الآية ما عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إمّا موت في طاعة اللّه أو إدراك ظهور إمام»((3)).

وقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ...} أي نعلم بأن اللّه يصيبكم بعذاب على

ص: 271


1- ([1]) راجع معجم الفروق اللغوية: 122.
2- ([2]) نهج البلاغة، الخطبة: 23.
3- ([3]) الكافي 8: 286.

كل حال فنحن ننتظره، وهو إمّا عذاب من اللّه مباشرة من السماء بالإهلاك أو المسخ ونحوهما، وإمّا بأيدي المؤمنين حيث يأمرهم اللّه بعقاب المنافقين بالفضح أو الصغار أو القتل.

وقوله: {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} في مجمع البيان: «صورته صورة الأمر والمراد التهديد كقوله: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ}((1))»((2)).

ص: 272


1- ([1]) سورة فصلت، الآية: 40.
2- ([2]) مجمع البيان 5: 94.

الآيات 53-57

اشارة

{قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ 53 وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ 54 فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ 55 وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ 56 لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًَٔا أَوْ مَغَٰرَٰتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ 57}

وكان بعض المنافقين يريد الإنفاق للجهاد فراراً من القتال فقال تعالى:

53- {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا} بغير إكراه {أَوْ كَرْهًا} بإكراه وإلزام، والأمر بمعنى الشرط أي إن أنفقتم طائعين أو كارهين ف{لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} لأن شرط القبول التقوى وأنتم لستم متقين إذ {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ} بترككم الجهاد بالنفس، فلا ينفعكم إنفاق المال.

54- {وَ} لذلك الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفض قبول إنفاقهم لغزوة تبوك ف{مَا مَنَعَهُمْ} من {أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ} باطل عقيدتهم وعملهم، أمّا عقيدتهم فقد {كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} كفراً باطنياً رغم إظهارهم الإسلام نفاقاً، {وَ} أمّا عملهم فإنهم لا يعتقدون بالعبادات فلذا {لَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ} متثاقلين بكسل {وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ} لا يرغبون في الإنفاق.

ص: 273

55- ومن كان كذلك فلا قيمة لمظهره {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ}بل هي وبال عليهم؛ إذ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا} بتلك الأموال والأولاد {فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} حيث توجب مشقّتهم دائماً، {وَ} يريد أن {تَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} تخرج أرواحهم {وَهُمْ كَٰفِرُونَ} فلا تنفعهم تلك الأموال والأولاد في الآخرة أيضاً.

56- {وَ} كما لا تعجب بأموالهم وأولادهم لا تعجب بأقوالهم حيث {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي مثلكم في الإيمان والطاعة {وَمَا هُم مِّنكُمْ} لأن قلوبهم كافرة {وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون من الجهاد فيريدون إرضاءكم بالمال.

57- {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًَٔا} يلتجئون إليه كالحصن {أَوْ مَغَٰرَٰتٍ} كهوف في الجبال {أَوْ مُدَّخَلًا} في الأرض كالنفق {لَّوَلَّوْاْ} فرّوا منكم أو من القتال {إِلَيْهِ} إلى كل واحد منها {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون لا يمنعهم مانع.

من طرقهم للفرار من الجهاد

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة فرارهم من الجهاد باختلاق الأعذار الكاذبة وحلفهم عليها، ذكر في هذه الآيات طريقة أخرى اتخذوها في الفرار من الجهاد هي محاولتهم الإنفاق للجهاد عوضاً عن خروجهم إليه، ولم يكن هذا الإنفاق في سبيل اللّه تعالى بل تخلصاً عن الجهاد بالنفس، ولذا فإن إنفاقهم لا يتقبله اللّه سبحانه، فيحبطه من غير ثواب، ولا يقبله الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيرفضه.

ثمّ ينهى اللّه تعالى عن الانخداع بمظاهرهم وبأقوالهم؛ إذ كثرة أموالهم

ص: 274

وأولادهم وبال عليهم فهي عذاب عليهم في الدنيا والآخرة، وأمّا قولهم المعسول بأنهم من المؤمنين وحلفهم عليه فهو كذب ينشأ من خوفهم بل لو تمكنوا من الخروج عنكم لفعلوا ذلك مسرعين كالدابة الجموح.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ}.

أي إن اللّه تعالى لا يتقبل إنفاقهم الأموال للجهاد لأنهم كانوا فاسقين من قبل الإنفاق، واللّه سبحانه لا يتقبل إلاّ من المتقين، أو لأنهم كانوا فاسقين بترك الجهاد بالنفس فلا ينفعهم الإنفاق حيث لا يكون إنفاقهم حينئذٍ جهاداً بالأموال.

وقوله: {أَنفِقُواْ} صورته صورة أمر لكن المقصود به الخبر أو الشرط، أي سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً فلن يتقبل منكم، أو إن أنفقتم كذلك فلن يتقبل منكم.

وقوله: {طَوْعًا} أي من غير إكراه لكم.

وقوله: {كَرْهًا} أي بإكراه وإلزام وجبر.

وقوله: {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} التقبّل من اللّه تعالى بمعنى إنماء العمل والثواب عليه.

وقوله: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ} هذا تعليل لعدم القبول ولذا لم يعطفه بالواو.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ...} الآية.

ص: 275

الظاهر أن هذه الآية ترتبط برفض الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تسلّم تلك الأموال منهم.

وقيل: (يتقبّل) و(تقبل) في الآيتين من اللّه تعالى وإنّما الآية الثانية كالتفصيل للآية الأولى ببيان تفصيلي لفسقهم المانع عن قبول اللّه سبحانه عملهم.

وقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ...} أي المانع عن القبول سوء أعمالهم، و(هم) المفعول الأوّل و{أَن تُقْبَلَ} المفعول الثاني بتقدير (عن)، و{أَنَّهُمْ كَفَرُواْ...} الفاعل.

وقوله: {كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ...} أي كفرهم الباطني فإن المنافق يظهر كلمة الإسلام من غير اعتقاد بها، ولذا يعامل في الدنيا معاملة المسلم وفي الآخرة معاملة الكافر، هذا في جانب العقيدة.

وقوله: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ...} هذا في جانب العمل، حيث لا يعتقدون بالصلاة لكنهم حيث أظهروا الإسلام نفاقاً يأتون الصلاة لئلّا يفتضحوا، لكن كسلهم عنها يفضحهم، و{لَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ} إمّا بتقدير (إلى) فالمعنى لا يحضرون صلاة الجماعة إلاّ متكاسلين، أو بتقدير (الباء) أي لا يصلون إلاّ كسلاً، وذلك حيث يراهم الناس، ولولا ذلك لتركوها ألبتة.

وقوله: {وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ} أي بكراهة قلبية بمعنى عدم الرغبة؛ لأن من لا يعتقد بشيء لا يرغب فيه، وإذا اقتضت مصلحته أتى به عن كراهة، وهذا لا ينافي قوله: {أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} لأن الطوع بمعنى عدم الإجبار، فقد لا يكون الإنسان مجبوراً على فعل شيء لكنه يأتي به من

ص: 276

دون رغبة رعاية لمصلحة من مصالحه، والحاصل: يستعمل لفظ (الكره) فيالإجبار و(الكاره) في غير الراغب.

الرابع: قوله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا...} الآية.

ينهى اللّه تعالى عن الانخداع بمظهرهم وأقوالهم لأنهما وبال عليهم، وأمّا أموالهم وأولادهم فهي مشقة عليهم في الدنيا ولا تنفعهم في الآخرة.

وقوله: {فَلَا تُعْجِبْكَ} الإعجاب هو السرور بالشيء بما يثير التعجب لحسنه والخطاب للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقصود الأمة، أو لا يعجبك أيها الرائي.

وقوله: {أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ} المقصود كثرتهما لأن كثرة الأموال والأولاد تثير الإعجاب لحسنها في الظاهر، لكنها لا تكون خيراً إلاّ مع الإيمان والعمل الصالح بالشكر حين الإنعام بها وبالصبر حين المصاب بها.

وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} أي هي نعمة استدرجوا وعوقبوا بها لكفرهم ولسيئات أعمالهم، قال سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}((1)).

وقوله: {لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} بمعنى المشقة والتعب وعدم التهنّأ بها، لأن جمع الأموال وحفظها وتربية الأولاد من أصعب الأمور وتثير قلق النفس واضطرابها دوماً إلاّ إذا كان الإنسان مؤمناً فتكون نفسه مطمئنة ويكون شاكراً حينما ينعم اللّه عليه بها صابراً حين المصاب بها.

وقوله: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ} عطف على {لِيُعَذِّبَهُم} أي

ص: 277


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 178.

ويريد اللّه أن يموتوا كافرين، وهذا إمّا بمعنى عدم انتفاعهم بالأموال والأولاد في الآخرة؛ لأن الكافر تحبط أعماله ولا يثاب على صنيع أولاده وخيراتهم له، وإمّا بمعنى أنهم في نقمة فلا وجه للإعجاب بظاهرهم؛ لأن الخير الدنيوي لا قيمة له مع الكفر كما لو رأيت جميلاً مريضاً بمرض فاتكٍ فلا تعجب بمنظره الجميل مع علمك بمرضه.

الخامس: قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}.

أي كما عليك أن لا تعجب بأموالهم وأولادهم كذلك لا تنخدع بأقوالهم بأنهم من المسلمين حتى وإن حلفوا عليها؛ وذلك لأنهم ليسوا مسلمين باطناً وإنّما يقولون هذا الكلام عن خوف نفاقاً.

وقوله: {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي تابعون لكم، كما قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}((1))، أو مثلكم في الإسلام فالمعنى من زمرتكم.

وقوله: {يَفْرَقُونَ} الفَرَق تشتت القلب من الخوف، ونظيره: انصدع قلبه، وهذا الخوف إمّا من الجهاد بالنفس، فالذي يخاف منه ويحجم عنه ليس من زمرة المسلمين، وإمّا من المسلمين حيث يخافون سطوتهم على الكفّار فيظهرون الإسلام نفاقاً، والأوّل أنسب إلى السياق.

السادس: قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًَٔا أَوْ مَغَٰرَٰتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}.

هذا كالدليل على خوفهم من الجهاد بالنفس وأنهم ليسوا من المسلمين

ص: 278


1- ([1]) سورة إبراهيم، الآية: 36.

وإلاّ لشاركوهم في المصائب أيضاً ولدافعوا عنهم لا أن يفروا بجلدتهم بأيّةكيفية أمكنت.

وقوله: {مَلْجًَٔا أَوْ مَغَٰرَٰتٍ أَوْ مُدَّخَلًا} للتشنيع عليهم بأن المهم عندهم إنقاذ أنفسهم بأيّة كيفية أمكنت، ونظيره قوله تعالى: {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسَْٔلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَّا قَٰتَلُواْ إِلَّا قَلِيلًا}((1)).

وقوله: {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ} أي أعرضوا عنكم وفروا من الجهاد وأقبلوا إلى ما تمكنوا منه من الملجأ أو المغارات أو المدخل.

وقوله: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} الجموح هو إنطلاق الفرس بسرعة بحيث لا يتمكن صاحبه من ضبطه، فالمقصود أنهم يسرعون في الفرار ولا يصغون إلى كلامكم نظير قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ عَلَىٰ أَحَدٖ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَىٰكُمْ}((2)).

وقد التقى الإمام الحسين (عليه السلام) في طريق كربلاء بعبيد اللّه بن الحر الجعفي فطلب نصره، فأبى وقال إنه لم يخرج من الكوفة إلاّ كراهة ذلك، ثمّ عرض سيفه وفرسه له فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : «إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالك»((3)).

ص: 279


1- ([1]) سورة الأحزاب، الآية: 20.
2- ([2]) سورة آل عمران، الآية: 153.
3- ([3]) تفسير نور الثقلين 3: 268؛ تفسير كنز الدقائق 8: 95.

الآيات 58-60

اشارة

{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَٰتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ 58 وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَٰغِبُونَ 59 إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 60}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى صنفاً ثانياً من المنافقين هم عكس أولئك الذين ينفقون للفرار من الجهاد فقال:

58- {وَمِنْهُم} من المنافقين {مَّن يَلْمِزُكَ} يعيبك {فِي} قسمة {الصَّدَقَٰتِ} أي الزكاة {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ} عنك {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا} حيث لم يكونوا من مستحقيها {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} عليك أي يغضبون بشدة، فهم طلاب دنيا فرضاهم وغضبهم حسب مصلحتهم لا حسب حكم اللّه تعالى.

59- {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ} بقلوبهم آخذين {مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} من الأموال التي يستحقونها أو يجوز إعطاؤها لهم {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ} أي يكفينا {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} من غير الصدقات بتقدير رزق أو تشريع استحقاق {وَ} سيؤتينا {رَسُولُهُ} بتنفيذ حكم اللّه في الاستحقاق أو من أمواله الشخصية حتى من غير استحقاق بهدية ونحوها {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَٰغِبُونَ} أي رغبتنا تنتهي إلى اللّه فنرضى بما أعطانا ولا نسخط على ما منعنا، وجزاء

ص: 280

«لو» مقدر أي لكان خيراً لهم.

60- ثمّ يبيّن اللّه سبب منعهم عن الصدقات فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ} أي الزكاة الواجبة {لِلْفُقَرَاءِ} الذين عندهم ما لا يكفيهم، {وَالْمَسَٰكِينِ} الذين لا شيء عندهم، {وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا} وهم الموظفون الساعون في جمعها لأن ذلك حق عملهم، {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم المنافقون أو المسلمون ضعاف الإيمان الذين يراد تحبيب الإسلام إليهم، {وَفِي} تحرير {الرِّقَابِ} أي العبيد الذين هم في شدة أو لم يتمكنوا من تسديد مال المكاتبة لحريتهم، {وَالْغَٰرِمِينَ} أي في تسديد دين المديونين، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو كل عمل خير يراد به وجه اللّه كالجهاد وسائر المصالح، {وَابْنِ السَّبِيلِ} المسافر الذي نفدت نفقته وانقطع في السفر فيُعطى مؤونة الرجوع، ويكون الحصر في هذه الأصناف الثمانية {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} تعالى فلا يجوز صرف الزكاة في غيرهم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بالمصالح والحاجات {حَكِيمٌ} في تشريعه.

الصنف الثاني من المنافقين وأوصافهم

بحوث

الأوّل: هذه الآيات بيان لصنف آخر من المنافقين - بعد الصنف الأوّل الذين يحتالون لعدم الجهاد ويريدون أن يدفعوا الأموال لذلك - وهذا الصنف الثاني عكس أولئك فهم الذين يطمعون في الأموال بحيث يكون ذلك مدار رضاهم وسخطهم، بل تعدّوا الحدود بأن عابوا على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تقسيم الصدقات، مع أن الحق أن يرضوا بفضل اللّه عليهم ويدعو اللّه في زيادة فضله عليهم فيجعلوا اللّه ورسوله المدار في الرضا والسخط.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن منعهم عن الصدقات لأجل أنها شرعت لموارد

ص: 281

خاصة لا يجوز تعدّيها، وهي: الحاجة والعمل ومصالح الإسلام والمسلمين، أمّا الحاجة ففي الفقراء والمساكين والرقاب والغارمين وابن السبيل، وأمّا العمل فالذين يسعون في جمع الزكاة يعطون حق عملهم منها، وأمّا المصالح فالمؤلفة قلوبهم وفي سبيل اللّه.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَٰتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}.

(اللمز) هو أن يعيبه في وجهه، عكس (الهمز) الذي هو أن يعيبه بظهر الغيب((1)).

وقوله: {فِي الصَّدَقَٰتِ} يراد بها الزكاة الواجبة ويدلّ عليه قوله بعد ذلك {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ}، وأصل الصدقة هو كل عمل يؤتى به لخدمة الغير ويراد به وجه اللّه تعالى؛ لأن في هذا تصديقاً للّه تعالى ولذا ورد: «عونك الضعيف من أفضل الصدقة»((2))، و«إماطتك الأذى عن الطريق صدقة»((3))، وأمّا كلمة الزكاة في القرآن فيراد بها عموم الإنفاق في سبيل اللّه وليس خصوص الزكاة المصطلحة عند المتشرعة ولذا وردت في آيات مكية كثيرة مع أن الزكاة المصطلحة شرّعت في المدينة.

وقوله: {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا} بأن كانوا من الأصناف التي تستحق الزكاة، كما لو كانوا من المؤلفة قلوبهم أو كانوا عاملين عليها، {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا} بأن لم يكونوا من مستحقيها.

ص: 282


1- ([1]) راجع معجم الفروق اللغوية: 559.
2- ([2]) الكافي 5: 55.
3- ([3]) الدعوات، للراوندي: 98.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «هم أكثر من ثلثي الناس»((1)).

ثمّ إن الآية دلت على شدة نفاقهم بحيث إنهم يبدؤون بلمز الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى قبل أن يعلموا بأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعطيهم أو لا، فهم يلمزون لكن إن اعطوا رضوا ولذا عطفه بالفاء.

وقوله: {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (إذا) للمفاجأة كأنهم كانوا يتوقعون الإعطاء بحيث يتفاجؤون عند المنع فيسخطون، أو أنهم يسخطون فوراً من غير انتظار أموال أخرى يستحقونها أو ينيلهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إياها فكأنّهم يريدون من كل مال أتى!

الثالث: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ...} الآية.

بيان أن الخير لهم - وكذا لغيرهم - هو الرضا والقول الحسن في ما حكم به اللّه تعالى وصنعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لا اللمز والسخط، فهنا أربع مراحل:

1- قوله تعالى: {رَضُواْ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي أن يرضوا بما قسمه اللّه لهم حيث لم يمنعهم اللّه من كل شيء، بل آتاهم من الغنائم وغيرها، بل رزقهم اللّه من فضله حيث كان اللامزون الساخطون من الأغنياء، والحاصل: أن اللّه تفضّل عليهم بالرزق حتى أغناهم وشرّع لهم موارد مالية أخرى كالغنائم وقد قسمها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بينهم، فكان عليهم أن يرضوا بذلك لا أن يطمعوا في ما لا حقّ لهم فيه بحيث يعيبوا على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويسخطوا عليه.

ص: 283


1- ([1]) الكافي 2: 412.

2- وقوله: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ} أي يكفينا اللّه تعالى؛ لأنه سبحانه يشرّع ما هو الأصلح في تقسيم الأموال، فما شرّعه لهم من سائر الأموال تكفيهم، كما أن رزقه بحكمة وقد رزقهم بما أغناهم به فلماذا الطمع؟!

3- وقوله: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} كأنّه دعاء منهم بصورة خبر، أي ندعو اللّه تعالى أن يرزقنا من أموال أخرى ليس لحقّ لنا عليه وإنّما من فضله الواسع.

4- وقوله: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَٰغِبُونَ} أي رغبتنا تنتهي إلى اللّه تعالى فلا نرغب في ما لا يريده، بل نرغب في ما يريده، فسواء آتانا أم منعنا فإنا نرغب إليه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ...} الآية.

بيان سبب منع الصدقات عن أولئك الأغنياء ببيان مواردها التي لا يجوز تعديها إلى غيرها، وهي حاجة أو مصلحة أو عمل.

بيان مصارف الزكاة

وقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ} حصر موارد الزكاة في هذه الثمانية، كي لا تعطى في غيرها، ولا دلالة للآية على وجوب تقسيم كل زكاة على جميع هذه الموارد، كما لا دلالة لها على كمية إعطاء كل صنف، بل الأمر موكول إلى المزكّي أو حاكم الشرع فيعطي لمن شاء من هذه الأصناف ما شاء من الزكاة مع مراعاة الحكمة والمصلحة، والتفصيل يطلب من كتب الفقه.

ولا يخفى أن الأصناف الأربعة الأوائل تعطى الزكاة لهم ويملكونها ولذا جيء باللام الدالة على الملك، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا

ص: 284

وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}، وأمّا الأصناف الأربعة الأواخر لا يعطى المال لهم ليتصرفوا فيه بما شاؤوا وإنّما يعطى في مصلحتهم، فقال: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، فتُعطى الزكاة لموالي العبيد، وللدائنين لإبراء ذمة المديونين، وأمّا سبيل اللّه فالزكاة تعطى للمصلحة ولذلك كرّر (في)، وهكذا ابن السبيل لا يعطى المال ليملكه وإنّما المصلحة رجوعه.

1- وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ} الفقر الحاجة، والفقير هو الذي يملك مقداراً من المال لكن لا يكفيه لمؤونته ومؤونة عياله، ولذا كثير من الفقراء لا يسألون الناس وإنّما يكتفون بما عندهم مع ضنك وشظف وشدة في العيش.

2- وقوله: {وَالْمَسَٰكِينِ} والمسكين أشد حالاً من الفقير فلا شيء عنده فيضطر إلى سؤال الناس لئلّا يموت جوعاً، ومن مصاديقهم بعض ذوي العاهات الذين لا يتمكنون من العمل ولا يوجد لهم مال ولا من ينفق عليهم.

3- وقوله: {وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا} وهم الساعون والجباة في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدوها إلى من يقسّمها، فهؤلاء عملهم محترم ويوجب حقاً لهم بالأجرة، ولا وجه لدفع أجرتهم من أموال أخرى قد لا تتوفر في بيت المال وإن توفرت فلها مواردها الأخرى.

4- وقوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} تأليف القلوب هو جمعها واستمالتها، روي أنهم: «قوم وحّدوا اللّه عزّ وجلّ وخلعوا عبادة من يُعبد من دون اللّه، وشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه، وأن محمّداً رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهم في ذلك شكّاك في بعض ما جاء به محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأمر اللّه عزّ وجلّ نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقروا

ص: 285

به...»((1))، وقيل: إنّهم الكفّار الذين يستمالون للإسلام أو للجهاد، وقيل: بعمومه للكفّار والمسلمين ضعاف الإيمان، والتفصيل يطلب في الفقه((2)).

5- وقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} أي لتحرير العبيد خاصة إذا كانوا في شدة، أو كان مكاتباً ولم يستطع دفع ثمن كتابته، والتفصيل يطلب في الفقه((3)).

6- وقوله: {وَالْغَٰرِمِينَ} أي المديونين بشرط أن لا تكون تلك الديون صرفت في معصية اللّه تعالى.

7- وقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو جميع سبل الخير خاصة الجهاد والحج، وفي تفسير القمي: «وفي سبيل اللّه قوم يخرجون في الجهاد وليس عندهم ما ينفقون، أو قوم من المسلمين ليس عندهم ما يحجون به، أو في جميع سبل الخير»((4)).

8- وقوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} الذي انقطع في سفره الذي لم يكن في معصية اللّه حتى وإن كان غنياً في بلده فيعطى مؤونة رجوعه.

وقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} الظاهر أن هذا تعليل لحصر الأصناف في هذه الثمانية؛ لأن الغرض كان إخراج الأغنياء الذين يلمزون في الصدقات فلا يجوز إعطاؤهم منها لأن اللّه حصرها في هذه الثمانية وهم ليسوا منهم، واللّه هو الذي فرض ذلك فلا يحق لهم الاعتراض على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا لمزه ولا السخط عليه.

ص: 286


1- ([1]) الكافي 2: 411.
2- ([2]) راجع موسوعة الفقه 30: 342-352.
3- ([3]) راجع موسوعة الفقه 30: 370-380.
4- ([4]) تفسير القمي 1: 299؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 478.

الآيات 61-63

اشارة

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 61 يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ 62 أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدًا فِيهَا ذَٰلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ 63}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى صنفاً ثالثاً من المنافقين فقال:

61- {وَمِنْهُمُ} من المنافقين {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} بأقوالهم وأفعالهم {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} يقبل كل كلام يقال له من غير تمييز، {قُلْ} في ردّهم: أمّا الأذن فهو {أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ} أي هو مستمع بما فيه خيركم، حيث إنه {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} أي يعتقد به فيصدّقه في ما أنزله عليه، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يقبل كلامهم فيرتب الأثر عليه، {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ} أي للمجتمع الإسلامي فإن الاستماع وقبول الأعذار في الظاهر يوجب تماسك المجتمع، {وَ} أمّا أولئك المنافقون الكاذبون فإن اللّه سينتقم منهم ف{الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} بكلامهم وعملهم {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا والآخرة.

62- وهؤلاء المنافقون لتغطية سوء أعمالهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} كذباً {لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} أي لترضوا عنهم بقبول كلامهم {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن

ص: 287

يُرْضُوهُ} أي يُرضوا اللّه فيرضى الرسول، أو يرضوا كل واحد منهما، وذلكبالإيمان الحق وعدم النفاق والإيذاء {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} إيماناً حقاً.

63- ثمّ يوبخهم اللّه قائلاً: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} هؤلاء المنافقون {أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ} يخالف {اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدًا فِيهَا} في النار أو في جهنم {ذَٰلِكَ الْخِزْيُ} أي الذل بفضيحة {الْعَظِيمُ} الذي لا خزي فوقه.

الصنف الثالث من المنافقين وأوصافهم

بحوث

الأوّل: هذه الآيات بيان لصنف آخر من المنافقين وهم الذين يؤذون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكلامهم وأفعالهم، مع أن ما ينقمون من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما هو بصالحهم، ودرءاً للفضيحة ينكرون ما فعلوه مع أنه كان الأجدر بهم أن يصحّحوا أفعالهم وأقوالهم ليرضى عنهم اللّه ورسوله، لا أن يكذبوا ليغطّوا على سوء أعمالهم، ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إن لم يعاقبهم وأعرض عنهم فإن اللّه سبحانه سيفضحهم بعذاب جهنم، فضلاً عن نزول القرآن بفضيحتهم، كما سيأتي في الآيات اللاحقة.

وقد كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يداري الناس، ومن مداراته أنه كان يواجههم بأخلاق حسنة، وبتلك الأخلاق كان يمنعهم عن بعض المساوئ، فلا يترك الأمور من غير معالجة.

ومن ذلك أن بعض المنافقين كان ينمّ على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يجلس في مجلسه ثمّ ينقل بعض الأمور لسائر المنافقين قاصداً بذلك إفساد الأمر على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأخبر اللّه تعالى رسوله بذلك، فطلب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذلك المنافق وذكر له ما أخبره اللّه تعالى، فأنكر المنافق ذلك، فسكت

ص: 288

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يقل شيئاً، وهذا الموقف من جهة كان تحذيراً لذلكالمنافق بأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد علم بفعله وهذا يكفي في ردعه، ومن جهة أخرى حفظ ماء وجهه فلم يفضحه وسكت حينما أنكر، لكن هذا المنافق أبى إلاّ أن يفضح نفسه، فلما رجع إلى شياطينه من المنافقين قال لهم إن النبي أذن، يعني به ساذج يصدّق كل ما يقال له فلا فطنة له ليميّز الصحيح من السقيم! فأنزل اللّه تعالى هذه الآيات لبيان أن موقف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الصحيح.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ...} الآية.

الإيذاء قد يكون نفسياً وقد يكون جسمياً، وهو فعل أو قول يوجب كراهة شخص دون الضرر.

وقوله: {يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} كان الإيذاء بالنميمة وبغيرها.

وقوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} كان هذا تابعاً للإيذاء، أو هو عطف تفسيري لبيان الإيذاء المقصود، و(الأذن) الجارحة التي يكون بها السمع، واستعمل بمعنى ساذج سريع التصديق.

وقوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٖ لَّكُمْ} أي نعم النبي أذن لكن لا بالمعنى الذي قصده ذلك المنافق، بل هو (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مستمع جيّد واستماعه لكلامهم فيه خيرهم، ولو كان مستمعاً سيئاً لعاقب ذلك المنافق مرتين مرّة لسوء عمله بالنميمة، وأخرى لكذبه بإنكاره جريمته.

ثمّ إن اللّه تعالى فسر الأذن الخير بأمور ثلاثة وهي:

ص: 289

1- قوله تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الإيمان إذا تعدّى بالباء كان معناه الاعتقادبه، ولازمه التصديق ويقابله الكفر به أي عدم الاعتقاد به ولازمه التكذيب، كقوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ}((1))، ولذا لمّا أخبر اللّه نبيّه بما يصنعه ذلك المنافق صدّقه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لاعتقاده باللّه تعالى.

2- وقوله تعالى: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} الإيمان إذا تعدى باللام كان معناه الوثوق والقبول، والمراد من {لِلْمُؤْمِنِينَ} هنا المؤمنون واقعاً الذين آمنوا بقلوبهم وألسنتهم، فالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يثق بهم ويقبل منهم، وأحياناً يُضَمّن (آمن له) معنى الانقياد والتسليم كقوله تعالى: {فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٖ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِمْ}((2)) أي قبلوا منه منقادين ومسلّمين له.

فتحصل أن الفرق بين (آمن به) و(آمن له) أن الأوّل الاعتقاد به ويلازمه التصديق، والثاني الوثوق به والقبول منه وقد يلازمه التسليم والانقياد.

3- وقوله: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ} أي آمنوا بألسنتهم سواء آمنوا بقلوبهم أم لا، فإن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين، فمن تلك الرحمة حفظه لتماسك المجتمع الإسلامي وحل المشاكل بالتي هي أحسن ولذلك سكت عن ذلك المنافق حينما أنكر جريمته.

وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بيان أن سكوت الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عنهم وعدم عقابهم لا يمحو جرمهم بل اللّه سينتقم له منهم، والعذاب الأليم عام يشمل الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بالخزي وافتضاحهم

ص: 290


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 150.
2- ([2]) سورة يونس، الآية: 83.

ولو بعد حين أو الضنك في عيشهم أو غير ذلك، وفي الآخرة بعذاب النار.

الثالث: قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}.

بيان حالتهم وهو يتضمن موعظة لهم ولغيرهم، فإن المؤمن الحق هو من يطيع اللّه ورسوله فيأتمر بأمره وينزجر بنهيه فيرضى اللّه ورسوله عنه، أمّا هؤلاء المنافقون فيؤذون اللّه ورسوله لكن يحاولون إرضاء الناس ليقبلوا عذرهم وذلك عبر الحلف باللّه كاذباً.

وقوله: {لَكُمْ} أي حلفهم ليس لأجل إثبات حق بل لأجل خداعكم.

وقوله: {لِيُرْضُوكُمْ} بقبول عذرهم حين حلفهم.

وقوله: {أَن يُرْضُوهُ} بالإيمان الصحيح وبعدم الإيذاء، وتوحيد الضمير لتلازم رضا اللّه تعالى ورضا رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكأنه رضىً واحد، وإنّما كان أحق إذ لا قيمة لرضا المسلمين من دون رضا اللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كانوا مؤمنين لكان رضا اللّه ورسوله أحق عندهم، أو لعلموا أن رضاهما أحق.

الرابع: قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ...} الآية.

هذا كالتعليل للآية السابقة لأن عدم إرضاء اللّه ورسوله يلازم مخالفتهما وتلك الفضيحة المذلّة، فهم يحلفون كذباً لتجنب الفضيحة عند المؤمنين لكن عاقبتهم فضيحة أشد وأسوء بالخلود في نار جهنم.

وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} استفهام إنكاري، أي كيف لا يعلمون بهذه الحقيقة

ص: 291

مع وضوحها، أو بمعنى كيف لا يعملون بما علموا؟!

وقوله: {يُحَادِدِ} بمعنى مجاوزة الحدّ في المخالفة، قيل: هو من الحديد بمعنى المحاربة.

ص: 292

الآيات 64-66

{يَحْذَرُ الْمُنَٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ 64 وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَٰتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ 65 لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٖ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ 66}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى حذر المنافقين عن افتضاحهم مع عدم نفع هذا الحذر فقال:

64- {يَحْذَرُ الْمُنَٰفِقُونَ} أي يحترزون عما يخافونه وهو {أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} في شأنهم {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم} تخبرهم فيفتضحوا {بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الكفر، {قُلِ اسْتَهْزِءُواْ} هذا تهديد في صورة أمر {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} باستهزائكم {مَّا تَحْذَرُونَ} من ظهور نفاقكم فإنهم كانوا يحذرون ظهور نفاقهم لكن استهزاؤهم يكشف عنه، فالمعنى إن اللّه أضلهم فاستهزؤوا فانكشف المستور.

65- {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} عن هذا الاستهزاء {لَيَقُولُنَّ} بعد أن لم يتمكنوا من إنكاره: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} في الحديث {وَنَلْعَبُ} نمزح لا عن جدّ، لكن هذا العذر لا يقل قبحاً من الذنب ف{قُلْ} مستنكراً عليهم: {أَبِاللَّهِ وَءَايَٰتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}.

ص: 293

66- {لَا تَعْتَذِرُواْ} بهذا العذر ف{قَدْ كَفَرْتُم} بهذا الخوض واللعب {بَعْدَإِيمَٰنِكُمْ} إسلامكم فاستحققتم العقاب، ف{إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٖ مِّنكُمْ} حيث تابت وأصلحت {نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {كَانُواْ مُجْرِمِينَ} لم يتوبوا فأصرّوا على جرمهم.

بحوث

الأوّل: لما بيّن اللّه تعالى إيذاءهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحلفهم الكاذب لتغطية جرمهم بيّن أنهم يحذرون نزول آيات من القرآن تفضحهم، فكانوا يبالغون في كتمان نفاقهم، إلاّ أن اللّه فضحهم بأن جعل علامة على نفاقهم من حيث لا يشعرون، فقد كانوا يستهزؤون تحت غطاء المزاح واللعب، لكن هذا الاستهزاء بنفسه علامة نفاقهم، فإن تابوا عن كفرهم فهو خير لهم وإلاّ فإن مصيرهم إلى العذاب.

الثاني: قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَٰفِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ...} الآية.

الحذر هو التحرز عن الأمر المخيف أو عن الضرر، فالمعنى أنهم يحتاطون لئلّا يظهر نفاقهم كي تنزل سورة بفضحهم، ولعل سبب حذرهم هو نزول آيات سابقة في سائر المنافقين في أفعالهم الظاهرة.

وقوله: {أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي على المنافقين فإن الآيات أنزلها اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليتلوها على الجميع فلذا صحّ أن يقال: نزلت على الرسول أو نزلت على المؤمنين أو على المنافقين أو على المشركين، وإنّما خصّهم هنا بالذكر لأن السورة في شأنهم.

ص: 294

وقوله: {تُنَبِّئُهُم} أي تخبرهم بنفاقهم، أي تظهره وتفضحهم، أو بمعنىأنهم كانوا يخفون نفاقهم كأنهم لا يعلمون به فتخبرهم السورة به فيكون كناية عن شدة حذرهم وكتمانهم لنفاقهم.

وقوله: {قُلِ اسْتَهْزِءُواْ} أمر يراد به التهديد، والمعنى إنهم كانوا يستهزؤون غير ملتفتين إلى أن هذا الاستهزاء هو مظهر لنفاقهم.

وقيل: {اسْتَهْزِءُواْ} بمعنى نافقوا حيث إن النفاق استهزاء كما قال: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}((1))، لكن هذا لا يناسب السياق ولا الآية التالية.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} أي مظهر نفاقكم بهذا الاستهزاء من حيث لا تشعرون، فإن اللّه خلق الإنسان بكيفية يظهر ما في قلبه حتى لو بالغ في كتمانه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»((2))، فالمعنى: فاللّه مظهر النفاق الذي كانوا يكتمونه ويحذرون عن ظهوره.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ...} الآية.

بيان أن اللّه تعالى أخرج ما يدل على نفاقهم بكيفية لا يتمكنون من إنكاره ولذا يحاولون التبرير لعملهم.

وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} بيان أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفسح المجال لهم فيسألهم عن سبب استهزائهم، ولعلّ ذلك ليتوبوا أو ليتوقفوا عن الاستهزاء أو لكي

ص: 295


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 14.
2- ([2]) نهج البلاغة، الحكمة: 26.

يظهر للمسلمين نفاقهم عبر ما يعتذرون به، وعلى كل حال فإنه من إنصافالإسلام حيث فسح المجال ليدافع الإنسان عن نفسه حتى من عُلم إجرامه لتتم الحجة، ولئلّا يقال: أخذوا البريء فلعله كان له عذر مقبول لم يسمعوه!

وقوله: {نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} أي نتحدث ونمزح، وأصل الخوض: هو التوسط في الماء ونحوه، ثمّ استعير في الغور في الكلام فكأن الكلام أحاط بهم، وغالب استعماله في الكلام الباطل، واللعب: هو الفعل الذي لا غرض فيه، فالمعنى إن ما قلناه لم يكن لسبب إلاّ أن الحديث أخذنا فانجرفنا فيه ومزحنا من غير قصد المعنى الدال على الكفر.

وقوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَٰتِهِ...} ردّهم بأن الخوض واللعب في آيات اللّه هو الاستهزاء بعينه، فاعتذارهم كشف عن حقيقة نفاقهم.

وقيل: استهزاؤهم كان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ أن الاستهزاء به استهزاء باللّه وبآياته! لكن الأصح أن المنافقين لا حريجة لهم من الاستهزاء باللّه سبحانه وبالقرآن الكريم وسائر آيات اللّه، وفي كلامهم المنقول عنهم الكثير من ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٖ مِّنكُمْ...} الآية.

هذا حث لهم على التوبة، ببيان أن عليهم أن يتوبوا لا أن يعتذروا بالأعذار الكاذبة، وبالفعل قد تاب بعضهم فعفا اللّه عنه، أمّا من لم يتب فقد حق عليه كلمة العذاب.

وقوله: {قَدْ كَفَرْتُم} أي بسبب الاستهزاء، فإن كثيراً من المنافقين لم

ص: 296

يكن إسلامهم عن نفاق وإنّما تأثروا بالجوّ العام فأسلموا لكنهم لم يلتزموا بعدذلك بلوازم الإسلام ودبّ الكفر في قلوبهم فنافقوا.

وقوله: {بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ} أي بعد إسلامكم بإظهار الشهادتين.

وقوله: {إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٖ مِّنكُمْ} لأنهم تابوا حقيقة فاستحقوا العفو بفضل اللّه تعالى.

وقوله: {نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} هم الذين لم يتوبوا، وذكر سبب العذاب بقوله: {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}.

سؤال: عذاب الطائفة المجرمة لا يرتبط بالعفو عن الطائفة التائبة، فكيف جعل جزاءً له؟

والجواب: أن الجميع استحق العذاب بكفرهم، وتوبة البعض والعفو عنهم لا يكون سبباً لرفع العذاب عن الباقين الذين لم يتوبوا.

ص: 297

الآيات 67-70

اشارة

{الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ 67 وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ 68 كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَٰلًا وَأَوْلَٰدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَٰقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَٰقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ 69 أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ وَأَصْحَٰبِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَٰتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 70}

ثمّ يذكر اللّه تعالى بعض صفات المنافقين وقد تكون كالتعليل لأفعالهم وأقوالهم المذمومة المذكورة في الآيات السابقة فقال:

67- {الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ} فكلهم من طبيعة واحدة ويتشابهون في اجتماعهم على الكفر والعصيان، ولذلك فهم {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ} وهو ما أنكره الشرع والعقل من الكفر والمعاصي، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} وهو ما عرف الشرع والعقل حسنه من الإيمان والطاعة، {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن الإنفاق في سبيل اللّه تعالى، وهم بأفعالهم وأقوالهم هذه {نَسُواْ اللَّهَ} أي غفلوا عن ذكره {فَنَسِيَهُمْ} أي تركهم فلم يهدهم

ص: 298

بسبب سوء عملهم ف{إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} الخارجون عن طاعة اللّه تعالى.

68- وحيث كانوا فاسقين فقد {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْكُفَّارَ} وذكر الكفّار لبيان وحدة حال المنافقين معهم وعدم الفرق بينهم في الكفر {نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} أي تكفيهم جزاءً وعقاباً، {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم عن رحمته فلا يدخلهم جنته، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} لا ينقطع، فعذابهم لا ينحصر في الخلود في نار جهنم بل هناك أنواع أخر من العذاب.

69- وحال هؤلاء المنافقين {كَالَّذِينَ} أي كحال المنافقين {مِن قَبْلِكُمْ} في الأمم السابقة، فهم مثلهم في النفاق ومثلهم في العذاب مع أن أولئك {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً} ماديةً وبدنية {وَأَكْثَرَ أَمْوَٰلًا وَأَوْلَٰدًا} لازدهار العمران والتجارة وخصوبة النسل {فَاسْتَمْتَعُواْ} طلبوا اللذة فقط {بِخَلَٰقِهِمْ} نصيبهم الذي خلقه اللّه لهم ولم يشكروا المنعم تعالى {فَ} أنتم {اسْتَمْتَعْتُم بِخَلَٰقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ} أي مثل استمتاع {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَٰقِهِمْ} بدون اعتبار بمصيرهم، هذا في الأفعال، {وَ} أمّا في الأقوال ف{خُضْتُمْ} تكلّمتم بالباطل {كَالَّذِي خَاضُواْ} أي مثل خوضهم أو مثل الكلام الذي خاضوا فيه. {أُوْلَٰئِكَ} المنافقون {حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَٰلُهُمْ فِي الدُّنْيَا} فلم ينالوا خيرها {وَالْأخِرَةِ} فلا ثواب لهم عليها {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ} بالخسران المبين لأنهم خسروا الدنيا والآخرة.

70- ثمّ يوبّخ اللّه تعالى المنافقين بذكر مصير الأمم الكافرة وذلك لئلّا يأمنوا مغبة نفاقهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} الاستفهام إنكاري {نَبَأُ} خبر الكفّار

ص: 299

{الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كيف أخذهم اللّه بذنوبهم، مثل {قَوْمِ نُوحٖ} (عليه السلام) حيث أغرقوا بالطوفان، {وَعَادٖ} قوم هود (عليه السلام) حيث أهلكوا بالريح، {وَثَمُودَ}قوم صالح (عليه السلام) حيث أهلكوا بالرجفة، {وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ} (عليه السلام) حيث سلب اللّه نعيمهم وسلط عليهم عدوّهم، {وَأَصْحَٰبِ مَدْيَنَ} قوم شعيب (عليه السلام) حيث أهلكوا بنار يوم الظلة، {وَالْمُؤْتَفِكَٰتِ} أي المنقلبات وهم قوم لوط (عليه السلام) حيث قلبت قراهم {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ} الدلائل والحجج الظاهرة لكنهم عاندوا فلم يؤمنوا وعصوا {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بعذابهم {وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بتمردهم وعصيانهم فبخسوا أنفسهم حقّها.

بعض صفات المنافقين

بحوث

الأوّل: هذه الآيات كالتعليل للآيات السابقة، وذلك بذكر مجموعة من صفات المنافقين والتي صارت سبباً لإيذائهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحلفهم الكاذب ومحادّة اللّه ورسوله واستهزائهم بآيات اللّه وغير ذلك من مذموم أفعالهم وأقوالهم، فمن تلك الصفات: نهيهم عن المعروف، وأمرهم بالمنكر، وبخلهم عن الإنفاق في سبيل اللّه، وغفلتهم عن ذكر اللّه تعالى.

ونتيجة أفعالهم تلك أن اللّه يتركهم فلا يلطف بهم لطفاً يوجب هدايتهم ثمّ مصيرهم في الآخرة إلى النار.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى تشابه هؤلاء المنافقين بالكفّار والمنافقين من الأمم السابقة في التمتع كالأنعام والغفلة عن اللّه والكلام الباطل، لكنهم خسروا في الدارين فقد انقضت تلك الملذات وبقيت تبعتها.

ثمّ يحذرهم اللّه تعالى عن العذاب في الدنيا بتذكيرهم بعذاب الأمم

ص: 300

السابقة لما كفروا بآيات اللّه تعالى فلا يأمننّ هؤلاء من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك.

الثاني: قوله تعالى: {الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ...} الآية.

بيان تشابه حال المنافقين، فالطبيعة واحدة والنتيجة متماثلة.

وقوله: {وَالْمُنَٰفِقَٰتُ} أضافهن لبيان أنهنّ كالمنافقين من غير فرق فلا عذر لهن في نفاقهن، بل قد تكون المنافقة أكثر تأثيراً من المنافق، أو المنافقة تجرّ غير المنافق إلى النفاق.

وقوله: {بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ} هذا التعبير لبيان كمال المشابهة واتحاد النفسيات ممّا يؤدّي إلى تشابه الأفعال، وهذا كالدليل على كذبهم في ادعائهم أنهم منكم كما قال تعالى قبل آيات: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ}((1))، ثمّ يذكر اللّه تعالى ثلاث علامات على النفاق يجمعها نسيانهم اللّه تعالى:

1- قوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ} وهو ما أنكره الشرع والعقل فلم يعرفا حسنه بل رفضاه، وفعل المنكر سيّء والأمر به أسوء؛ إذ فعل المنكر قد لا يكون عن نفاق بل عن عصيان وغلبة هوى، لكن الأمر به علامة النفاق.

2- وقوله: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} وهو ما عرفه الشرع والعقل بالحسن، وتركه سيّء والنهي عنه أسوء، وهو آية أخرى على النفاق.

3- وقوله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} كناية عن شدة البخل، أو عن تركهم

ص: 301


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 56.

جميع أعمال الخير، وذلك من علائم النفاق.

وقوله: {نَسُواْ اللَّهَ} أي غفلوا عنه، وهذا جامع للأوصاف الثلاثة حيث إنمن يذكر اللّه تعالى وثوابه وعقابه لا يأمر بالمنكر ولا ينهى عن المعروف ولا يبخل عن الإنفاق الواجب وعن فعل الخير.

وقوله: {فَنَسِيَهُمْ} أي فعل بهم فعل الناسي بأن تركهم فلم يلطف بهم جزاءً لهم على سوء عملهم بنسيانهم اللّه سبحانه، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : «إن اللّه تبارك وتعالى لا ينسى ولا يلهو وإنّما ينسى ويسهو المخلوق المحدَث، ألاّ تسمعه عزّ وجلّ يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}((1))، وإنّما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم كما قال عزّ وجلّ: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَىٰهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ}((2))، وقوله عزّ وجلّ: {فَالْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا}((3)) أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا»((4))، وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : «إنّما يعني أنهم نسوا اللّه في دار الدنيا لم يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئاً فصاروا منسيّين من الخير»((5))، وعنه (عليه السلام) : «فإنّما يعني أنهم نسوا اللّه في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله، فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيباً فصاروا منسيين من الخير»((6)).

ص: 302


1- ([1]) سورة مريم، الآية: 64.
2- ([2]) سورة الحشر، الآية: 19.
3- ([3]) سورة الأعراف، الآية: 51.
4- ([4]) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 125؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 504.
5- ([5]) توحيد الصدوق 1: 254.
6- ([6]) تفسير العياشي 2: 96.

وقوله: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} أي هم في غاية التمرد والخروج عن الطاعة فكأنه لا فاسق غيرهم، وهذا كالتمهيد للآيه التالية.

الثالث: قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْمُنَٰفِقَٰتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا...} الآية.

بيان نتيجة نسيانهم اللّه تعالى وفسقهم وهو خلودهم في نار جهنم، مع أصناف أخرى من العذاب الذي لا ينقضي عنهم، وطردهم عن رحمة اللّه تعالى.

وقوله: {وَالْكُفَّارَ} الكلام حول المنافقين فذكر الكفّار هنا إمّا لبيان عدم الفرق في عذاب الآخرة بين الكفّار والمنافقين، فكلمة الإسلام تنفعهم في الدنيا لكن تسلب عنهم في الآخرة فلا تغني عنهم من عذاب اللّه شيئاً، وإمّا للتمهيد لما سيذكره اللّه تعالى من العذاب الدنيوي للأمم الكافرة تهديداً للمنافقين، أو لغير ذلك، واللّه العالم.

وقوله: {هِيَ حَسْبُهُمْ} أي تكفيهم جزاءً أو عقاباً، فإن أريد الكفاية من جهة الجزاء فهذا لبيان عدله تعالى بأن الجزاء مثل الجريمة لا أزيد، وإن أريد الكفاية من جهة العقاب فهو لبيان عظمة هذا العذاب وشدته.

وقوله: {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} اللعن هو الطرد عن الرحمة، ومعنى ذلك منعهم عن جنته ورضوانه، أو أنه لا يوجد في جهنم أي نوع من أنواع الرحمة.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي أصناف أخرى من العذاب غير نار جهنم وهو عذاب دائم كما قال: {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ}((1)).

ص: 303


1- ([1]) سورة البقرة، الآية: 162؛ سورة آل عمران، الآية: 88.

الرابع: قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَٰلًا وَأَوْلَٰدًا...} الآية.

أي حال منافقي هذه الأمة كحال منافقي الأمم السابقة في الأفعال والأقوال وفي خسارة الدنيا والآخرة، مع أن أولئك كانوا أقوى منكم وأكثر نعمة وقد خسروا الدنيا والآخرة، ويمكن تعميم الآية للكفّار من الأمم السابقة أيضاً، فكذلك حال منافقي هذه الأمة.

وقوله: {أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً...} القوة في الجسم، وفي سائر الأمور المادّيّة، وهذه الثلاثة هي النعم التي توجب بطر الكفّار والمنافقين غالباً، قال تعالى: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْۜطَةً}((1))، وقال: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}((2))، وقال: {أَلْهَىٰكُمُ التَّكَاثُرُ}((3)).

وقوله: {فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمْ} هذا في عملهم، أي طلبوا المتعة واللذة بالنصيب الذي قدّره اللّه سبحانه لهم - من القوة والمال والأولاد - ، والمقصود أنهم صرفوا تلك النعم في شهواتهم دون أن يشكروا اللّه بالطاعة وهو الذي أنعمها عليهم، و(الخلاق) هو الخير الذي خلقه اللّه تعالى أي قدّره لهم، ويقال له: قسمة؛ لأن اللّه قسمه لهم، ويقال له: نصيب؛ لأن اللّه نصبه أي أثبته لهم.

ثمّ إن قوله: {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَٰقِهِمْ} ليس تكراراً لقوله:

ص: 304


1- ([1]) سورة الأعراف، الآية: 69.
2- ([2]) سورة الهمزة، الآية: 2-3.
3- ([3]) سورة التكاثر، الآية: 1.

{فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمْ}؛ وذلك لأن اللّه تعالى في البداية بيّن سوء صنيع أولئك بقوله: {فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمْ} ثمّ بيّن مشابهة فعل هؤلاء بأولئك فقال: {كَمَااسْتَمْتَعَ...}، وفي الكشّاف: «فائدته أن يذم الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به، ثمّ يشبّه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله»((1)).

وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ} هذا في أقوالهم، فقد تكلموا بالباطل في آيات اللّه ورسله كتكذيبهم والاستهزاء بهم ونحو ذلك.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} والحبط هو بطلان العمل بحيث لا يبقى له أثر، و{أَعْمَٰلُهُمْ} هي استمتاعهم بخلاقهم، وقيل: هو أعمالهم الحسنة التي تقع طاعة من المؤمنين ويثابون عليها، والأوّل أنسب.

وقوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ} أمّا في الدنيا فلأن الاستماعات تنقضي فكأنها لم تكن لأن ملذات الدنيا تنتهي بانتهائها، وأمّا في الآخرة فلا ثواب لها عكس المؤمن الذي يتمتع في الدنيا ويطيع اللّه تعالى بما رزقه من نصيب فيثيبه اللّه عليها.

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ} وهذا نتيجة حبط العمل فقد خسروا أنفسهم من غير ثواب في الدنيا ولا في الآخرة، وأمّا المؤمن فإن اللّه تعالى

ص: 305


1- ([1]) الكشّاف 2: 288.

يزكي عمله وبذلك يربح الدنيا والآخرة.

الخامس: قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ...}الآية.

كأنّ هذا تهديد لهم بعذاب دنيوي لئلّا يأمنوا عسى أن يرعوي بعضهم ويتوب، فإن أولئك الأقوام الكافرة قد تمّت الحجة عليهم حيث جائتهم رسلهم بالبينات وهي الدلائل والحجج الواضحة لكنهم كفروا عناداً فعذبهم اللّه تعالى في الدنيا بأصناف متعددة مختلفة من العذاب جزاءً على سوء أعمالهم فلم يكن ظلماً منه سبحانه بل هم الذين بخسوا أنفسهم حقها فعرضوها للعذاب.

وقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَٰتِ} جمع مؤتفكة بمعنى المنقلبة، وهي قرى قوم لوط (عليه السلام) التي قلبها اللّه تعالى رأساً على عقب.

ص: 306

الآيتان 71-72

اشارة

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 71 وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 72}

لما ذكر اللّه المنافقين وعقابهم أردفه بذكر المؤمنين وثوابهم ترغيباً لهم في التوبة وليعدل الخوف بالرجاء فقال:

71- {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} ولاية بالنصرة والمحبة والسلطة لأنهم من جذر واحد وعقيدتهم واحدة، وأمّا صفاتهم فهي عكس صفات المنافقين فهم {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وهو ما حسّنه الشرع والعقل، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو ما قبّحه الشرع والعقل، {وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ} بالمداومة عليها، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} من أموالهم، {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في سائر الأوامر والنواهي، {أُوْلَٰئِكَ} المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} في الدنيا والآخرة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} غالب على أمره فيمكنه تنفيذ ذلك {حَكِيمٌ} في تقديره الرحمة لهم.

72- {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ} بساتين متشابكة الشجر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} تحت أشجارها {الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً} أي

ص: 307

يطيب العيش فيها، وتلك المساكن {فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ} أي إقامة دائمة، {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ} أي رضاه عنهم {أَكْبَرُ} من جميع تلك الجنّات بما فيها، وذلك لأن رضاه كرامته وهي أعظم أصناف الثواب، وسائر النعم إنّما تهنأ برضاه، {ذَٰلِكَ} الرضوان أو الجنّة والرضوان {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا فوز فوقه.

من أوصاف المؤمنين وثوابهم

بحوث

الأوّل: من دأب القرآن الكريم أن يقرن الخوف بالرجاء، والعذاب بالرحمة، حتى لا ييأس الناس من رحمته ولا يأمنوا سخطه، وحيث ذكر أوصاف المنافقين وعاقبتهم قابله بأوصاف المؤمنين وثوابهم، فأولئك {بَعْضُهُم مِّن بَعْضٖ} وهؤلاء {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}، وأولئك يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وهؤلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك يقبضون أيديهم وهؤلاء يؤتون الزكاة، وأولئك نسوا اللّه وهؤلاء يقيمون الصلاة، وأولئك هم الفاسقون وهؤلاء يطيعون اللّه ورسوله، ثمّ إن اللّه وعد أولئك نار جهنم خالدين فيها ووعد هؤلاء جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأولئك لعنهم اللّه وهؤلاء سيرحمهم اللّه، وأولئك لهم عذاب مقيم ولهؤلاء الفوز العظيم، وأولئك حسبهم جهنم ولهؤلاء رضوان من اللّه تعالى أكبر.

الثاني: قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ...} الآية.

أي يتولى بعضهم أمر بعض بالسلطة والنصرة والمحبة وغير ذلك، وإنّما

ص: 308

كان بعضهم أولياء بعض لأنهم خلقوا من طينة واحدة وتجمعهم العقيدة الحقة وكلّهم يطيع اللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، و{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} في علاقتهم مع دينهم، و{يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ} في تزكيتهم أنفسهم، و{وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} في علاقتهم مع الناس، و{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في علاقتهم بربهم ونبيّهم، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إطاعة قولية وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إطاعة عملية، ذكرت هذه الأربعة لأهميتها ولأنها أبرز صفاتهم ثمّ عمّم بقوله: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} قيل: هي رحمة الآخرة ولذا جيء بالسين ثمّ فصّلها في الآية التالية.

وقيل: هي رحمة الدنيا والسين للتأكيد أو للتراخي لأن اللّه تعالى قد يختبر المؤمن بالصعوبات ثمّ يفتح عليه رحمته، والأوّل أظهر.

الثالث: قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ...} الآية.

كأنّ الجنّة وحدة واحدة فوقها أغصان الأشجار المتشابكة وتحتها الأنهار فالنعمة قد أحاطت بهم من جميع أطرافهم، وقد مرّ الكلام فيه.

وقوله: {طَيِّبَةً} أي يستلذ العيش فيها، وأصل الطيب ما يلائم ذوق الإنسان، والطيّب شرعاً هو ما لم يكن من حرام، وفيه تلميح إلى الحور العين وسائر النعم؛ إذ لا يطيب المنزل إلاّ بوجود الزوجة الصالحة وباقي النِعم.

وقوله: {جَنَّٰتِ عَدْنٖ} الظاهر أنه عَلَم لأفضل الجنان، فلا تكرار، فلهمجنات يتنزهون فيها، ولهم قصور في مكان آخر وهو جنة عدن، كما تقول:

ص: 309

لفلان بستان خارج المدينة وله بيت في أرقى منطقة من المدينة هو بستان أيضاً، و{عَدْنٖ} بمعنى الإقامة الدائمة، سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) : أين يسكن نبيكم من الجنّة؟ فقال: «في أعلاها درجة وأشرفها مكاناً في جنات عدن»((1)).

وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «من سرّه أن يحيى حياتي ويموت موتي ويسكن جنتي التي وعدني ربيّ جنات عدن - قضيبٍ غرسَهُ اللّه بيده ثمّ قال له كن فكان - فليوال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وذريته من بعده»((2)).

وقوله: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي أعظم من الجنّة ونعيمها؛ وذلك لأن الكرامة أعظم من كل ثواب، ولأن سائر النعم لا تهنأ إلاّ برضا المولى تعالى، ولأن رضا اللّه تعالى أجلّ من رضا النفس، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة؛ فإن الجلسة [الجنّة] فيها رضا نفسي والجامع فيها رضا ربّي»((3)).

ص: 310


1- ([1]) الخصال 2: 477؛ الاحتجاج 1: 226.
2- ([2]) الخصال 2: 558.
3- ([3]) عدة الداعي: 208.

الآيتان 73-74

اشارة

{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 73 يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلَّا أَنْ أَغْنَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْاْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ 74}

73- وحيث قد علمت بصفاتهم الذميمة ف{يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ} كل واحد منهما حسب ما تقتضيه المصلحة فجهاد كل بحسبه، والجهاد بذل غاية الجهد، وهذا في العمل، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وهذا في القول {وَمَأْوَىٰهُمْ} محلهم ومصيرهم {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

74- وذلك لمقابلتهم بالمثل لعلهم يرتدعون، فمن أقوالهم أنهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} كذباً {مَا قَالُواْ} الكلام الباطل في الدين واتهام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} في تكذيب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وغير ذلك، {وَ} من أفعالهم أنهم {كَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ} أي أعلنوا كفرهم الباطني، {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} أي حاولوا أمراً لم يتيسر لهم حيث أرادوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقبة.

ثمّ يذمهم اللّه تعالى بأنهم قابلوا الإحسان بالإساءة وكفران النعمة {وَمَا نَقَمُواْ} أي ما أنكروا وما عابوا {إِلَّا أَنْ أَغْنَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} أي من فضل اللّه تعالى حيث كانوا فقراء فاستغنوا بعد الإسلام بالغنائم وغيرها،

ص: 311

فكان الواجب عليهم الشكر لا الكفران، {فَإِن يَتُوبُواْ} عن كفرهم وأعمالهمالسيئة {يَكُ} أي يكن توبتهم {خَيْرًا لَّهُمْ} في الدنيا والآخرة، {وَإِن يَتَوَلَّوْاْ} بأن يعرضوا عن التوبة ويصرّوا على الكفر والنفاق {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} بالمعيشة في ضنك وفضحهم ومجاهدة المسلمين لهم وغير ذلك {وَالْأخِرَةِ} بعذاب النار وغيره، {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} بعد أن لم يكن لهم في السماء {مِن وَلِيّٖ} يتولى أمورهم {وَلَا نَصِيرٖ} ينصرهم من عذاب اللّه.

كيفية التعامل مع المنافقين

بحوث

الأوّل: بعد أن فضح اللّه تعالى المنافقين الذين يؤذون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعد أن أوعدهم بعذاب جهنم وبعد أن قرنهم بالكفّار وحذرهم عن مصيرهم، بعد ذلك يبيّن كيفية تعامل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معهم، وذلك بالقول والفعل كما كفروا بالقول وبالفعل؛ لأن تركهم من غير علاج لمفاسدهم فيه مضرّة عظيمة على المسلمين، وفي نهج البلاغة: «ومن كلام له - لمّا أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال - : واللّه لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً حتى يأتي عليّ يومي»((1)).

فأمر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يجاهدهم كما همّوا بما لم ينالوا، وأن يغلظ عليهم في القول كما كفروا وحلفوا كذباً.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى عدم عذرهم في ما قاموا به حيث قابلوا الإحسان

ص: 312


1- ([1]) نهج البلاغة، الخطبة: 6.

بالإسائة، ثمّ يعرض عليهم التوبة ويهددهم بالعذاب في الدنيا والآخرة إن لميتوبوا.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ جَٰهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

يبيّن اللّه تعالى الموقف العملي والقولي منهم لدفع شرّهم وقطع خطرهم:

أمّا الموقف العملي: فبالجهاد، و(الجهاد) هو بذل الجهد في الشيء، وقد يكون بالنفس عبر القتال وقد يكون بالمال عبر الإنفاق وقد يكون بغيرهما، وجهاد كل بحسبه، فقد يكون بالسيف أو بإلزامهم الحجة أو بالمقاطعة والهجران أو بإلزامهم الفرائض.

وإنّما ذكر الكفّار مع أن الآيات في المنافقين لأنه تعالى بيّن كفر المنافقين باطناً، وقد يكفرون ظاهراً فيحكم عليهم بالارتداد، كما أنه تعالى حذّرهم في الآيات السابقة من أن يكون مصيرهم كمصير كفّار الأمم السابقة.

وأمّا الموقف القولي: فبالغلظة عليهم بالكلام الخشن لردعهم.

سؤال: قد أمر اللّه تعالى رسوله بالمداراة حيث قال: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}((1)).

والجواب: أن المداراة كانت الحالة العامة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع كافة المسلمين وخاصة ضعاف الإيمان منهم لتحبيب الإسلام إليهم، وهذا لا

ص: 313


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 159.

ينافي عقوبة العصاة بالحدّ أو التعزير أو التشديد عليهم، وهذا ما بينته هذه الآية حيث كفروا بعد إسلامهم وحاولوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقبة، وهنا لا بدّ من إيقافهم عند حدّهم عبر الجهاد والغلظة معهم، فاللام في قوله: {الْكُفَّارَ وَالْمُنَٰفِقِينَ} للعهد لا للجنس.

وقوله: {وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ...} لعل المقصود بيان أن عقوبتهم الدنيوية بالجهاد والغلظة لا ترفع عقوبتهم الأخروية، نعم المؤمن إذا عوقب على معصية في الدنيا رفع اللّه عنه عقوبة الآخرة لأنه تعالى أكرم من أن يجمع عقوبتين على المؤمن كما في بعض الأحاديث((1))، فتكون العقوبة الدنيوية تطهيراً له فيأتى الآخرة من غير ذنب.

أو المقصود أن من كان مصيره النار حري بأن يُجاهَد ويغلظ عليه.

الثالث: قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ...} الآية.

بيان سبب جهادهم والغلظة عليهم، ففي أقوالهم قد قالوا كلمة الكفر وحلفوا باللّه كذباً، وفي أفعالهم قد كفروا باللّه وتآمروا على قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قوله: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} الآية عامة فتشمل كل كلمة تدل على كفرهم، فمنها: قول عبد اللّه بن أ ُبي {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}((2)).

ص: 314


1- ([1]) راجع تحف العقول: 214، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما عاقب اللّه عبداً مؤمناً في هذه الدنيا إلاّ كان أجود وأمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة».
2- ([2]) سورة المنافقون، الآية: 8.

ومنها: تكذيبهم لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم غدير خم لما نصب علياً (عليه السلام) منبعده، ومنها: ما قالوه في غزوة تبوك، ومنها غير ذلك كما في الروايات((1)).

وقوله: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ} أي لم تكن مجرد كلمة من غير قصد لمدلولها، بل كانت كلمة أظهرت كفرهم الباطني، فقد أسلموا ظاهراً فحكم عليهم بالإسلام، لكن بكلمة الكفر ظهر كفرهم الباطني فارتدوا عن الإسلام، وإنّما لم يجر عليهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حدّ الارتداد لأن إنكارهم لما قالوا وحلفهم عليه كذباً هو بمنزلة التوبة الظاهرية، وتوبة المرتد الملي ولو كانت ظاهرية مقبولة في رفع الحدّ عنه حتى مع العلم بكذبه، ولعل سبب ذلك الترغيب في التوبة الواقعية وأيضاً تحذير سائر المنافقين لئلّا يظهروا كفرهم الباطني.

وقوله: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} هذا جريمتهم العملية التي استوجبت جهادهم، فقد حاولوا قتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك حينما مرّ راكباً بالعقبة التي كان أحد طرفيها جبلاً وكان الطرف الآخر وادياً سحيقاً فدحرجوا دباباً بعد أن قطعوا حبل رحل الرسول وكان غرضهم أن تنفر الناقة فيسقط الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الوادي، لكن محاولتهم بائت بالفشل وافتضحوا بعد أن عرفهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعض من كان معه، و(الهمّ) ليس مجرد التمني بل محاولة تنفيذ الفعل من غير التمكن منه.

وقوله: {وَمَا نَقَمُواْ} النقمة هي إنكار من يريد العقوبة، والغرض بيان حقارة نفوسهم حيث أنعم اللّه عليهم ورسوله لكنهم بدل الشكر كفروا

ص: 315


1- ([1]) راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 4: 509-512.

بالنعمة، ولذا قيل: «اتق شر من أحسنت إليه»((1))، فالمعنى أنهم لحقارة أنفسهم صار الإنعام عليهم سبباً لنقمتهم، حسداً وبغياً منهم على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلى المسلمين.

وقوله: {مِن فَضْلِهِ} الضمير يرجع إلى اللّه تعالى لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واسطة في إيصال فضل اللّه تعالى إليهم، فكل الفضل له تعالى.

وقوله: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ} سؤال: بعض هؤلاء المنافقين نالوا الدنيا والرئاسة والسلطة والمال فكيف عذّبهم اللّه في الدنيا؟

والجواب: إن عذاب الدنيا قد يكون نفسياً أو بسوء ذكرهم في الأجيال اللاحقة أو بلعن المؤمنين لهم، مضافاً إلى أن هذا بيان الحالة العامة وهي لا تنافي الاستثناء في بعضهم لمصلحة الاستدراج والإملاء وغير ذلك، أو يقال: إنه وعيد بعذاب الدنيا ولا يجب الوفاء بالوعيد أحياناً، وأمّا عذاب الآخرة فهو وعيد وإخبار ولا يجوز التخلف في الخبر لأنه يكون كذباً يتعالى اللّه عنه، وقد مرّ تفصيل الكلام فيه.

وقوله: {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} لم يذكر السماء لوضوح أن أهل السماء لا يتولونهم ولا ينصرونهم، وأمّا أهل الأرض فقد يكون بعضهم منافقاً أو يجهل حالهم فيريد تولّيهم أو نصرتهم لكنهم عاجزون عن ذلك، و(الولي) من يتولى أمورهم بإصلاح شأنهم، و(النصير) يدفع الضرر عنهم، واللّه العالم.

ص: 316


1- ([1]) مَثَل مشهور، روض الجنان 9: 299.

الآيات 75-80

اشارة

{وَمِنْهُم مَّنْ عَٰهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَىٰنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّٰلِحِينَ 75 فَلَمَّا ءَاتَىٰهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ 76 فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ 77 أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَىٰهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ 78 الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَٰتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 79 اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ 80}

ثمّ يذكر اللّه تعالى طائفة رابعة من المنافقين وهم الذين خالفوا عهد اللّه تعالى ويعيبون على الذين يفون بالعهد في الأمور المالية فقال:

75- {وَمِنْهُم} من المنافقين {مَّنْ عَٰهَدَ اللَّهَ} أعطاه العهد قائلاً: {لَئِنْ ءَاتَىٰنَا} اللّه {مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} نعطي الصدقة {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّٰلِحِينَ} في ما آتانا بلا إفساد وإسراف.

76- {فَلَمَّا ءَاتَىٰهُم مِّن فَضْلِهِ} الذي عاهدوه عليه {بَخِلُواْ بِهِ} فلم يتصدقوا خلافاً لما عاهدوا {وَتَوَلَّواْ} انصرفوا {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} عن طاعة اللّه تعالى.

77- {فَأَعْقَبَهُمْ} أي أورثهم بخلهم ونقضهم للعهد {نِفَاقًا} استقر {فِي

ص: 317

قُلُوبِهِمْ} إذ العصيان يؤدّي إلى الكفر والنفاق {إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي إلى حين الموت حيث لقاء اللّه تعالى {بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} أي بسببنقضهم العهد {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}.

78- ثمّ يوبخهم اللّه تعالى فيقول: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} ما أضمروه في أنفسهم {وَنَجْوَىٰهُمْ} ما يقوله بعضهم لبعض خفية {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} ولو كانوا يعلمون لخشوا اللّه وأطاعوه.

79- وهؤلاء لا يمتنعون عن الصدقة فحسب بل هم {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} يعيبون {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَٰتِ} الذين يأتون بالصدقات من غير صعوبة لأنهم أغنياء، {وَ} أيضاً يلمزون المتصدقين {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أي طاقتهم وهم الفقراء الذين يتصدقون على جهد {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} يستهزء المنافقون بالمتصدقين أغنياء كانوا أم فقراء {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} من هؤلاء المنافقين أي جازاهم على سخريتهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

80- وهؤلاء تمكّن النفاق منهم ف{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي لا فرق سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فلا ينفعهم ذلك ف{إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} كناية عن الكثرة {فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} حيث إن المغفرة خاصة بالمؤمنين فلا تشمل المنافقين، {ذَٰلِكَ} أي عدم مغفرة اللّه لهم {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وبذلك خرجوا عن الطاعة {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} الخارجين عن الطاعة، والمغفرة هداية فلا تشملهم.

الصنف الرابع من المنافقين وصفاتهم

بحوث

الأوّل: هذه الآيات حول طائفة رابعة من المنافقين، وهم الذين يخالفون

ص: 318

عهد اللّه في الأمور المالية، فقد وعدوا اللّه تعالى إن أغناهم أن يتصدقوا وأن يكونوا صالحين، لكنهم نقضوا العهد فلم يتصدقوا ولم يصلحوا، وهذا أورثهمالنفاق في قلوبهم لأن المعاصي سلسلة مترابطة كما قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}((1))، وهؤلاء لم يكتفوا ببخلهم بل عابوا المتصدقين، فالمكثر لمزوه بالرياء، والمُقلّ طعنوا عليه وشككوا في نيته وسخروا منه، ونظيره قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}((2)).

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أنّه يعذبهم ولا ينفع الاستغفار لهم وذلك بسبب سوء أعمالهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَٰهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَىٰنَا مِن فَضْلِهِ} إلى قوله: {وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}.

كان وعدهم في أمرين: دفع الصدقة، والصلاح في سائر أمورهم المالية؛ إذ يوجد تكليفان في المال وسائر عطايا اللّه تعالى وذلك بأن يعطي الحق الثابت فيه وبأن لا يصرفه في المحرمات، فمن رزقه اللّه المال عليه أن يدفع الحقوق الواجبة وأن لا يسرف فيه ولا ينفقه في المعصية.

وقوله: {عَٰهَدَ اللَّهَ} أي أعطاه العهد، ولعل الإتيان بباب المفاعلة لأن العبد يعد واللّه يجازي، أو كأنّ اللّه وعده بإعطاء المال وهو وعد بالوفاء بالحق، وكان وعدهم أمرين: الصدقة والصلاح.

ص: 319


1- ([1]) سورة الروم، الآية: 10.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 37؛ سورة الحديد، الآية: 24.

وقوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ} من باب التفعّل وأصله لنتصدّقن.

وقوله: {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّٰلِحِينَ} بعدم الإسراف والإفساد في المال، وفيسائر الأمور.

وقوله: {بَخِلُواْ بِهِ} نقض لوعدهم الأوّل بالتصدق، فبدلاً من أن يتصدقوا بخلوا.

وقوله: {وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} نقض لوعدهم الثاني وهو أن يكونوا من الصالحين، فبدلاً من ذلك أعرضوا عن طاعة اللّه، و{تَوَلَّواْ} أي انصرفوا وذهبوا {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} أي عن طاعة اللّه تعالى، أو تولوا عن الطاعة وهم معرضون عن دين اللّه، أو التولي عملاً والإعراض قلباً.

الثالث: قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ}.

بيان أن مخالفة عهد اللّه تعالى والكذب على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤدّيان إلى النفاق الدائم.

وقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ} أي أورثهم، وأصل الكلمة بمعنى جاء عقبه وبعده، فكأن المقصود أن هؤلاء لم يكونوا منافقين، لكن سوء عملهم أورثهم نفاقاً دائماً.

وقوله: {فِي قُلُوبِهِمْ} لعل ذكر هذا مع وضوح أن النفاق إنّما يكون في القلب لبيان تمكّنه ولزومه في قلوبهم.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} الظاهر أن الضمير يرجع إلى اللّه تعالى، ولقاء اللّه تعالى بمعنى لقاء جزائه، والظاهر أنه الموت إذ به ينكشف كل شيء فلا

ص: 320

إضمار للكفر حينئذٍ بل كفرهم يكون ظاهراً علناً وتسلب منهم كلمة الإسلام الذي كانوا في الدنيا يُعاملون بسببها معاملة المسلمين.

وقيل: الضمير للبخل أي يلقون جزاء البخل أو نفس البخل بناءً على تجسّم الأعمال! لكنه خلاف الظاهر.

وقوله: {بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} الفرق بينهما:

إمّا بأن الوعد كان على التصدق والصلاح فأخلفوا، وكذبهم كان بأضمارهم عدم الوفاء بالوعد من الأوّل.

وإمّا الوعد في الصدقة فبخلوا فأخلفوا فوعدهم بالكلام وبخلهم بالقلب وخُلفهم في العمل، والكذب في الصلاح فقد وعدوا الصلاح لكنهم كذبوا والكذب فساد وليس صلاحاً.

وإمّا خُلفهم لعهد اللّه، وكذبهم على رسول اللّه، أو كذبهم بادعاء الإسلام مع عدم طاعتهم أو كذبهم بقولهم إن الزكاة أخت الجزية، أو غير ذلك، واللّه العالم.

وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَىٰهُمْ} إنكار عليهم بأنهم كيف لم يخشوا اللّه تعالى فأخلفوا الوعد وكذبوا مع أن اللّه يعلم ما يدور في قلوبهم وما يتناجون به بينهم خفية ويعلم كل غيب آخر، والمقصود أن نفاقهم وعصيانهم لا يخفى على اللّه تعالى فيعاقبهم عليه، فكان عليهم أن يخشوه فيطيعوه لا أن يعصوه.

الرابع: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ...} الآية.

أي إنهم لم يكتفوا بالعصيان وعدم الوفاء بالوعد، بل يعيبون على

ص: 321

المطيعين ويسخرون منهم أيضاً، وهذا من فروق المنافق والمؤمن العاصي، فإن المؤمن العاصي يغبط المؤمن المطيع بل يمدحه ويذم نفسه وهذا آيةعدم نفاقه وقد يوفّقه اللّه تعالى للتوبة، أمّا المنافق فيذم ويستهزأ بالمؤمن المطيع وهذا من علائم نفاقه.

وقوله: {يَلْمِزُونَ} قد مرّ أن اللمز هو أن يعيب أحداً في وجهه علناً.

وقوله: {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَٰتِ} أي المتطوعين، قد مرّ أن التطوع في اللغة هو الإتيان بالطاعة فيشمل الطاعة الواجبة والمستحبة، وأمّا تخصيص التطوع بالعمل المستحب فهو اصطلاح متأخر لا تحمل ألفاظ القرآن عليه، والمتطوع في الصدقة غني لذا وجبت عليه الزكاة.

وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أي يلمزون الفقراء الذين ليس لهم إلاّ المال القليل حصلوا عليه بجهد فأنفقوا بعضه في سبيل اللّه تعالى.

والحاصل: هؤلاء المنافقون يعيبون الأغنياء في الزكاة ويتهمونهم بالرياء، ويعيبون الفقراء في الإنفاق في سبيل اللّه تحقيراً لما انفقوه ويتهمونهم بأنهم لا يريدون وجه اللّه تعالى مثلاً.

وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي أضافوا إلى اللمز السخرية منهم.

وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} إمّا دعاء عليهم بمعنى جزائهم على سخريتهم، أو إخبار بأن اللّه يستهزء بهم حيث عاب عليهم نفاقهم وعصيانهم فأنزل آيات تتلى أبد الدهر فيها فضيحتهم.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب آخر غير جزائهم على سخريتهم، وذلك على سائر جرائمهم من النفاق والعصيان.

ص: 322

الخامس: قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ...} الآية.

بيان أن هؤلاء المنافقين حقت عليهم كلمة العذاب بسوء أعمالهم فلا يستحقون المغفرة فلذا لا يستغفر لهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأنه لا يخالف اللّه تعالى ولا يفعل اللغو أبداً.

وقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ} أمر ونهي، بمعنى عدم الفرق بين الفعل والترك في عدم غفرانهم، فهذا التعبير هو للمبالغة في الإياس، ولعل المقصود تحذيرهم بأن لا مجال لغفرانهم فعذابهم لا بدّ من تنفيذه، وليس المقصود التخيير بين الاستغفار وعدمه كي يقال إن الآية تدل على جواز ذلك ثمّ نسخ! بل الآية في مقام بيان لغوية الاستغفار لهم وهو لا ينافي حرمته.

وقوله: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} تأكيد لعدم نفع الاستغفار لهم، والسبعين مبالغة في الكثرة وليس المقصود العدد المخصوص.

وقوله: {فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لأن مغفرتهم خلاف الحكمة، واللّه لا يفعل خلاف الحكمة حتى لو فرض محالاً أن رسوله طلبها منه، وفي تقريب القرآن: «فلن يغفر اللّه لهم لأنهم جبلوا على النفاق، والجَبل عليه لا يفيده الاستغفار. وهذا ليس إهانة للرسول - كما زعم - بل أفرغ التوبيخ لأولئك في هذا القالب»((1)).

وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ...} أي عدم مغفرتهم وعدم الفائدة في الاستغفار لهم لأن المغفرة هداية من اللّه تعالى إلى طريق الجنّة، وهؤلاء

ص: 323


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 434.

فاسقون لا يستحقون الهداية فلذا لا يهديهم اللّه تعالى، وكما قيل: فعدم المغفرة ليس بخلاً من اللّه سبحانه ولا لقصور في النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإنّما لعدمقابلية المنافقين، وإلاّ فإن اللّه تعالى خلق الناس ليرحمهم والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دعاؤه مستجاب قطعاً إلاّ أن المانع من المنافقين أنفسهم بسبب سوء عملهم.

فيكون حاصل الكلام أن المغفرة هداية، والهداية لا تنال الفاسق، وحيث إن النفاق فسق فلا تنال المغفرة المنافقين.

نعم، لو فرض أن منافقاً تاب وأطاع اللّه ورسوله فقد خرج عن الفسق بحسن اختياره فيصبح محلاً قابلاً للّهداية فيستغفر له الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيغفر اللّه له، وقد مرّ قوله تعالى: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ}((1))، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}((2)).

السادس: شأن نزول هذه الآيات في قضايا جمع من المنافقين منها: قصة ثعلبة بن حاطب: حيث قال للنبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ادعُ اللّه أن يرزقنى مالاً، فقال: يا ثعلبة، قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه، أما لك في رسول اللّه أسوة حسنة؟! والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت، ثمّ أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول اللّه، ادعُ اللّه أن يرزقني مالاً والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّهم ارزق ثعلبة مالاً، قال: فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها، ثمّ كثرت نمواً حتى تباعد عن

ص: 324


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 74.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 64.

المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة، وبعث رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليهالمصدّق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل وقال: ما هذه إلاّ أخت الجزية، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة، وأنزل اللّه الآيات»((1)).

ومنها: عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «فجاء سالم بن عمير الأنصاري بصاع من تمر فقال: يا رسول اللّه، كنت ليلتي أجيراً لجرير حتى نلت صاعين تمراً، أمّا أحدهما فأمسكته، وأمّا الآخر فأقرضه ربي، فأمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينبذه في الصدقات، فسخر منه المنافقون وقالوا: واللّه إن اللّه لغني عن هذا الصاع، ما يصنع اللّه بصاعه شيئاً، ولكن أبا عقيل أراد أن يذكر نفسه ليُعطى من الصدقات»((2)).

ومنها: عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «ذهب علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فآجر نفسه على أن يستقي كل دلو بتمرة يختارها، فجمع تمراً فأتى به النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعبد الرحمن بن عوف على الباب فلمزه - أي وقع فيه - فأنزلت هذه الآية: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...}»((3)).

ص: 325


1- ([1]) مجمع البيان 5: 131-132.
2- ([2]) تفسير القمي 1: 301؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 515.
3- ([3]) تفسير العياشي 2: 101.

الآيات 81-85

اشارة

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ 81 فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 82 فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٖ مِّنْهُمْ فَاسْتَْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَٰلِفِينَ 83 وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَٰسِقُونَ 84 وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ 85}

ثمّ بعد ذكر أصناف من المنافقين يرجع السياق إلى قصة غزوة تبوك فقال:

81- {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} الذين خلّفهم الشيطان أو خلّفتهم أنفسهم في ديارهم {بِمَقْعَدِهِمْ} أي قعودهم عن الجهاد {خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ} أي بعده بعدم السير معه أو لمخالفتهم أمره في غزوة تبوك، وكان فرحهم بنجاتهم من المشقة والأخطار {وَكَرِهُواْ أَن يُجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وذلك لعدم اعتقادهم ولترجيحهم الدعة والراحة، ولم يكتفوا بذلك في أنفسهم بل ثبّطوا الآخرين أيضاً {وَقَالُواْ} للمجاهدين ولإخوانهم المنافقين {لَا تَنفِرُواْ} لا تخرجوا إلى الجهاد {فِي الْحَرِّ} حيث كان وقت غزوة تبوك صيفاً {قُلْ}

ص: 326

ردّاً عليهم: {نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} فهي أولى بالاحتراز من حرارة الصيف {لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ} أي يفهمون عبر إعمال فكرهم، فلوكانوا يفقهون لعلموا أنهم رجّحوا جهنم على حرّ الصيف.

82- {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا} فرحاً بعدم وقوعهم في مشقة الجهاد وهذا الفرح في الدنيا وهو قليل، {وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} في الآخرة حيث عملوا ما استوجبوا به الخلود في جهنم {جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الكفر والعصيان.

83- ثمّ إنّ هنا عقوبة دنيوية أخرى {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} عن غزوة تبوك حيث تخلّفوا عنها {إِلَىٰ طَائِفَةٖ مِّنْهُمْ} وهم الذين لم يتوبوا عن نفاقهم وتخلّفهم {فَاسْتَْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} إلى غزوة أخرى بعد تبوك {فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا} هذا إخبار بمعنى النهي أي لا تأذن لهم أبداً في الخروج إلى الجهاد {وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا}، وسبب النهي عن الخروج والقتال: {إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ} عن الجهاد {أَوَّلَ مَرَّةٖ} في غزوة تبوك فلا تليقون بالجهاد بل مشاركتكم ضرر لأنكم انهزاميون لا تزيدون المسلمين إلاّ خبالاً وفساداً {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَٰلِفِينَ} وهم النساء والصبيان والعجزة الذين يتركهم الإنسان خلفه حينما يذهب إلى الجهاد.

84- {وَلَا تُصَلِّ} صلاة الرحمة {عَلَىٰ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} لعدم استحقاقهم المغفرة، {وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ} وقوف احترام ودعاء حتى يدفن، والسبب {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا في الاعتقاد {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَٰسِقُونَ} خارجون عن الطاعة وهذا في العمل، ومن كان كذلك فلا يستحق طلب الرحمة والدعاء له.

ص: 327

85- {وَ} أمّا ما رزقهم اللّه من أموال وأولاد فليس لكرامتهم عليه ف{لَا تُعْجِبْكَ} إعجاباً مستلزماً للتكريم {أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَٰدُهُمْ} لأنها وبال عليهمف{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا} بالمشقة والتعب فيها {وَ} هي استدراج لهم وإملاء تمنعهم عن الإيمان فيريد اللّه أن {تَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ} جزاءً لسوء عملهم.

المتخلفون عن غزوة تبوك

بحوث

الأوّل: كان سياق الآيات من الآية 38 حول غزوة تبوك، ثمّ ذكر أحوال المنافقين فيها، فناسب ذكر أصناف أخر من المنافقين، بأفعال فعلوها قبل خروج المسلمين إلى الغزوة أو بتوقعات مالية مع أنهم لم ينفقوا للجهاد في تبوك أو لم يشاركوا فيه، ثمّ من الآية 81 يرجع السياق إلى غزوة تبوك وأحوال المنافقين فيها، فالآيات 81-85 تدلّ على أنهم رضوا وفرحوا بعصيانهم فلم يتوبوا منه، بل حاولوا تثبيط سائر الناس بأعذار واهية كشدة الحرّ.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى جزائهم بعقوبات تكوينية وتشريعية: أمّا العقوبة التكوينية فبنار جهنم، وأمّا التشريعية فبمنعهم عن الجهاد لاحقاً وبالنهي عن صلاة الرسول عليهم وقيامه على قبرهم.

ثمّ يبيّن أن كثرة أموالهم وأولادهم ليس لكرامتهم على اللّه تعالى بل هي ضرر عليهم في الدنيا والآخرة، وما كان كذلك لا إعجاب فيه.

الثاني: قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَٰهِدُواْ...} الآية.

ص: 328

بيان تمكن النفاق في قلوبهم، حيث فرحوا بالمعصية وكرهوا الطاعة ونهوا الآخرين عن المعروف.

وقوله: {الْمُخَلَّفُونَ} اسم مفعول من باب التفعيل أي المتروكون خلف من خرج إلى الجهاد، والذي خلَّفهم هو الشيطان أو نفسهم الأمارة بالسوء.

وقوله: {بِمَقْعَدِهِمْ} مصدر ميمى أي بقعودهم وعدم خروجهم.

وقوله: {خِلَٰفَ رَسُولِ اللَّهِ} إمّا حال أو مفعول له بمعنى لأجل مخالفتهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعصيانهم له، وإمّا ظرف بمعنى قعودهم خلفه وعدم سيرهم معه، وهذا فرح بالمعصية.

وقوله: {وَكَرِهُواْ أَن يُجَٰهِدُواْ} هذا كراهة الطاعة.

وقوله: {وَقَالُواْ} لإخوانهم المنافقين أو لعموم المسلمين تثبيطاً لهم عن الجهاد مع ذكرهم ما يحرّك حب الراحة والدعة، فإن النهي المجرد قد لا يؤثر لكن إذا قرن بسبب يثير الشهوة وحب الدعة فقد يكون مؤثراً أو أكثر تأثيراً.

وقوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} هذا نقض حجتهم بنفس الكيفية، حيث إنهم تعلّلوا بالحر فردّهم بحرّ أشد منه، وعليه فإن كان احتراز الحرّ سبباً لمنع الإنسان عن عمل فإن احتراز حرّ جهنم أولى لأنه أشد من حيث الحرارة ومن حيث الدوام.

وقوله: {لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ} الفقه هو فهم الشيء على تأمله، فالمعنى لو كانوا يفهمون ويتأملون لعلموا أن نار جهنم أشد فتركوا موجباته.

الثالث: قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ

ص: 329

يَكْسِبُونَ}.

إمّا يراد به الأمر لكن على نحو التبكيت والهوان، وإمّا يراد به الخبر أيهؤلاء يفرحون لكن ضحكهم أياماً معدودة يعقبه بكاء طويل، وذلك الفرح مدة حياتهم القصيرة في الدنيا والبكاء في الآخرة أبداً، أو الفرح والضحك في أيام غياب المسلمين في الغزوة ثمّ بعد رجوعهم وانتهاء المشقة تنزل آيات في فضيحتهم وأحكام في شأنهم توجب كآبتهم وكمدهم، وفي تفسير الصافي: «إمّا على ظاهر الأمر، وإمّا إخبار عمّا يؤول إليه حالهم في الدنيا والآخرة يعني فيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً، أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغم»((1)).

الرابع: قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٖ مِّنْهُمْ فَاسْتَْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل...} الآية.

بيان لعقوبة تشريعية عليهم وهي منعهم عن الجهاد لاحقاً وفي ذلك فضيحتهم وبيان غنى اللّه ورسوله عنهم وحرمانهم عن منافعه من الغنائم ونحوها.

وقوله: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ} نزلت الآية والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك ولعل التقييد بالرجوع لإخراج من التحق بالمسلمين بعد أن تخلّف لأن تخلّفه لم يكن عن إصرار فالتحاقه كان توبة، ففي تفسير القمي: «وتخلّف عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أهل ثبات وبصائر لم يكن يلحقهم شك ولا ارتياب

ص: 330


1- ([1]) تفسير الصافي 3: 444.

ولكنهم قالوا نلحق برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، منهم: أبو خيثمة وكان قوياً وكان له زوجتان وعريشتان، فكانت زوجتاه قد رشّتا عريشتيه، وبرّدتا له الماء، وهيّأتاله طعاماً، فأشرف على عريشتيه فلما نظر إليهما قال: واللّه ما هذا بإنصاف، رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر قد خرج في الصخ والريح وقد حمل السلاح مجاهداً في سبيل اللّه، وأبو خيثمة قوي قاعد في عريشته وامرأتين حسناوتين! لا واللّه ما هذا بإنصاف، ثمّ أخذ ناقته فشدّ عليها رحله فلحق برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »((1)).

ونسبة الإرجاع إلى اللّه تعالى إمّا من باب أن كل شيء بقضائه وقدره، وإمّا لأن الرجوع من غزوة تبوك لم يكن معلوماً؛ إذ لعله لو كان يحدث قتال مع الروم لتغلبوا على المسلمين وأبادوهم إلاّ أن اللّه ألقى الرعب في قلوبهم فلم يخرجوا لقتال المسلمين، وإمّا لأن اللّه تعالى حفظ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقبة حينما أراد المنافقون قتله.

وقوله: {طَائِفَةٖ مِّنْهُمْ} أي مجموعة من المخلّفين، ولعل قوله: {طَائِفَةٖ} إمّا لإخراج من كان ذا عذر صحيح، أو تاب كالثلاثة الذين خلفوا وسيأتي في الآية 118، وإمّا لأنّ بعضهم لشدة نفاقه لم يستأذن للغزوات اللاحقة أيضاً ولم يرد الخروج إليها واللّه العالم، وإمّا الضمير للمنافقين فطائفة خرجت مع النبي وأرادوا قتله في العقبة فهؤلاء لم يعرفهم غالب الناس فالحكم لا يشملهم لأنهم أطاعوا في الظاهر الأمر بالخروج.

وقوله: {فَاسْتَْٔذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} في غزوات أخرى ولعلّه لا خطر فيها ولا

ص: 331


1- ([1]) تفسير القمي 1: 294.

مشقة.

وقوله: {فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا} إخبار يراد به النهي للمبالغة فكأنالحكم بالنهي مفروغ عنه وقد تمّ تنفيذه.

وقوله: {وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا} والفرق أن الخروج قد يكون من غير مقاتلة كما حدث في غزوة تبوك حيث رجع المسلمون من غير قتال، ومقاتلة العدو قد تكون من غير خروج كما لو داهم العدو المدينة فقاتلوه فيها.

وقوله: {إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ} هذا تعليل لمنعهم عن الجهاد؛ إذ لم يكن تخلفهم مجرد عصيان وإنّما رضا بالعصيان وهو يكشف عن الإصرار والنفاق، فإن المسلم قد يرتكب معصية لكنه بعد انجلاء الشهوة يندم ولا يرضى بما فعله، كما قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}((1)).

وقوله: {فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَٰلِفِينَ} والخالفون هم النساء والصبيان والعجزة أو العصاة الذين يخالفون اللّه ورسوله، وهذا أمر لتبكيتهم واستصغار شأنهم، وفي تقريب القرآن: «إن الذي يترك الإنسان في ساعة العسرة لا يصلح أن يكون معه، فطبعه طبع انهزامي مخلد إلى الدعة، ولو خرج لم يزد إلاّ خبالاً وخذلاناً، فلذا كان اللازم أن يجتنب عنه إطلاقاً، بالإضافة إلى أن الإسلام في غنى عنه، وهو لا يستحق شرف الجهاد فليبق في بيته ويكن مع الخالفين»((2)).

ص: 332


1- ([1]) سورة آل عمران، الآية: 135.
2- ([2]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 437.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ...} الآية.

عقوبة أخرى لهم بحرمانهم عن صلاة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عليهم واحترامه لهم بوقوفه على قبورهم؛ وذلك لعدم استحقاقهم الرحمة والاحترام وليحذر غيرهم عن النفاق.

وقوله: {وَلَا تُصَلِّ} أي لا تدعو لهم بالرحمة، وليس المراد عدم إقامة صلاة الميت عليهم، بل صلاة الميت واجبة على كل من أظهر الإسلام حتى لو كان منافقاً، وإنّما في صلاة الميت يُدعى للمؤمن ويلعن المنافق، كما صنع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على جنازة عبد اللّه بن أ ُبي حيث صلّى عليه ولعنه في صلاته، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لابن عبد اللّه بن أبي: إذا فرغت من أبيك فأعلمني - وكان قد توفي - فأتاه فأعلمه، فأخذ رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نعليه للقيام، فقال له عُمر: أليس قد قال اللّه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ}؟! فقال له: ويحك - أو ويلك - إنّما أقول: اللّهم املأ قبره ناراً، واملأ جوفه ناراً، وأصله يوم القيامة ناراً»((1)). وقد وردت روايات كثيرة في اعتراضه على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بغلظة وخشونة، ولذا وضعت روايات كثيرة لتبرير موقفه حتى ادعوا أن اللّه وافق موقفه وقوله! وهي روايات متناقضة تخالف القرآن وسيرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.

وقوله: {وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ} أي لا تقم للدعاء له، فإن القيام على قبر

ص: 333


1- ([1]) تفسير العياشي 2: 101؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 517.

الميت والدعاء له نوع احترام له.

وقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ...} تعليل لهذه المناهي فإن كفرهم القلبيوفسقهم العملي متجذّر في قلوبهم إلى حين الموت ومن كان كذلك فلا يستحق ترحماً ولا دعاءً.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}.

الخطاب للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمراد الأمة، أي لا يزعمَنّ أحد أن لهم عند اللّه كرامة حيث أغدق عليهم الأموال ورزقهم الأولاد، بل هو شر لهم لأنهم يقعون في مشقة تلك الأموال، ومن أشق الأمور عليهم حينما ينفقون أموالهم في ما لا يعتقدون به من الزكاة ونحوها، كما أنهم في مشقة من الأولاد لأنهم يورثونهم التعب والهم والغم، ثمّ تلك الأموال والأولاد استدراج وإملاء لهم حيث توجب غرورهم وتمنعهم عن الإيمان والعمل الصالح، فهي شر لهم في الدنيا وفي الآخرة.

ثمّ إنه قد مرّ في الآية 55 نظير هذه الآية باختلاف كلمة حيث اختلف الغرض من الآيتين، ففي تقريب القرآن: «ولعل المقصود من تكرار الآية النهي عن هذا النوع من التكريم اللاشعوري للكفّار والمنافقين، فإن نظر الإعجاب هو نظر تكريم، فيختلف المقصود هنا من المقصود هناك»((1)). أو الآيتين للتحذير من ترك حكم اللّه تعالى فهناك استأذنوا لترك الجهاد فقد يكون الإعجاب بأموالهم وأولادهم سبب الإذن لهم فنهى اللّه عنه، وهنا نهى

ص: 334


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 438.

اللّه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم حتى لا يكون الإعجاب بأموالهم وأولادهم سبباً لمخالفة نهي اللّه تعالى فلذلك حذّر عن ذلك الإعجاب،ومن هنا يتبين أن زعم بعضهم أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أقام على قبره طمعاً في إسلام قومه! لا أساس له من الصحة لأنّ ذلك مخالفة صريحة للقرآن، والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أجلّ من أن يخالف أمر اللّه تعالى، واللّه المستعان.

ص: 335

الآيات 86-89

اشارة

{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَْٔذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَٰعِدِينَ 86 رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ 87 لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ جَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 88 أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 89}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى تمرّد هؤلاء المنافقين على أحكامه الواضحة فقال:

86- {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن {أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ} باستمرار المؤمن على إيمانه وبتبديل النفاق إلى الإيمان الحق {وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} لحفظ الإيمان أو نشره أو دفع المعتدي {اسْتَْٔذَنَكَ} في ترك الجهاد بالمال والنفس من غير أن يكون لهم عذر صحيح {أُوْلُواْ الطَّوْلِ} أصحاب الثروة والجاه {مِنْهُمْ} من المنافقين {وَقَالُواْ ذَرْنَا} أتركنا {نَكُن مَّعَ الْقَٰعِدِينَ} الذين قعدوا عن الجهاد لعذر كالنساء والصبيان والعجزة.

87- ثمّ يذمهم اللّه تعالى بأنهم رضوا بالقبيح وخذلهم اللّه بقوله: {رَضُواْ} هؤلاء المنافقون {بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} جمع خالفة أي النساء اللاتي يتخلفن عن الجهاد لأنه ليس من تكليفهن، فكيف يرضى أصحاب الجاه بذلك؟ {وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} بسبب نفاقهم {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمون العز والكرامة وقبح عملهم.

ص: 336

88- {لَٰكِنِ} عدم جهادهم لا يضر الدين شيئاً ف{الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْمَعَهُ} إيماناً حقيقياً {جَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَٰتُ} أي المنافع {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ينالون خيراً دائماً، وأمّا طول أولي الطول فهو عرض زائل لا قيمة له.

89- ومن تلك الخيرات أنه قد {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا} دائمة ولا زوال لنعيمها {ذَٰلِكَ} كسب الخيرات والجنات {الْفَوْزُ} النجاة من الهلكة {الْعَظِيمُ} لدوامه وللكرامة فيه.

مخالفة المنافقين لأوامر اللّه تعالى

بحوث

الأوّل: الآيات تتضمن بيان أن هولاء المنافقين لا تنحصر مخالفتهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أوامره ونواهيه فحسب بل يخالفون اللّه تعالى في أحكامه حتى وإن نزلت سورة صريحة في الجهاد، فتارة يستأذنون في مخالفة حكم اللّه تعالى من غير عذر، وتارة مع أعذار كاذبة.

فمنهم أصحاب مال وجاه، لكن ذلك لم ينفعهم فقد رضوا لأنفسهم الهوان ليكونوا مع الخوالف كما أن اللّه أخزاهم فطبع على قلوبهم بسبب سوء أعمالهم.

والإسلام لا يحتاج إليهم لأن في الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمؤمنين معه كفاية فهم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم، فهؤلاء لهم العزة والكرامة ولهم الجنّة.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ...} الآية.

السورة تشمل كل السورة وبعضها، كالقرآن الذي هو اسم جنس يشمل

ص: 337

الكل والبعض، والآيات التي نزلت في الإيمان والجهاد عامة تشمل جميع من أسلم.

وقوله: {أَنْ ءَامِنُواْ} أمّا المؤمن فيراد منه الاستمرار في إيمانه نظير {اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ}((1)

وأمّا المنافق فيراد منه توبته ودخوله في الإيمان الحقيقي، وهذا يرتبط بالقلب.

وقوله: {وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} يرتبط بالعمل، ولعل إضافة {مَعَ رَسُولِهِ} لبيان وجوب الجهاد حتى على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكيف يتوقع هؤلاء رفع التكليف عنهم؟ أو لمّا ذكر الإيمان باللّه ناسب ذكر الجهاد مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {اسْتَْٔذَنَكَ} دليل عدم إيمانهم ومخالفتهم لأمره ولذا يريدون التهرب من حكم اللّه تعالى.

وقوله: {أُوْلُواْ الطَّوْلِ} الطَول - بالفتح - هو ما يرتفع به الإنسان على غيره فيدخل فيه الثروة والقدرة والجاه، ولعلّ ذكرهم بالخصوص لأن غيرهم إمّا اشتركوا في الجهاد أو قعدوا من غير استئذان؛ وأصحاب الجاه والمال قد يشعرون بالحاجة إلى تبرير تهرّبهم وإيجاد عذر له حفظاً لمكانتهم الاجتماعيّة عكس الضعفاء.

وقوله: {وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن...} لعل ذكر هذا المقطع لبيان أنه لم يكن لهم أيّ عذر يعتذرون به، وإنّما أرادوا رفع التكليف عنهم لجاههم ومالهم؛ لأن بعض أصحاب الطَول يزعمون أن طولهم يميّزهم عن غيرهم فيحق لهم أن

ص: 338


1- ([1]) سورة الفاتحة، الآية: 6.

يفعلوا أو أن يتركوا ما شاؤوا!

وقوله: {مَّعَ الْقَٰعِدِينَ} وهم الذين لم يذهبوا للجهاد لسبب شرعي إمّا لعجزهم أو لعدم تكليفهم بالجهاد أو لكون الجهاد واجباً كفائياً وقد خرج من فيه الكفاية، كما قال: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ}((1)).

الثالث: قوله تعالى: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}.

بيان أن طولهم إنّما هو في الظاهر وإلاّ فهم أذلاّء؛ لأن نفوسهم حقيرة، ولأن اللّه أخزاهم بالطبع على قلوبهم.

وقوله: {رَضُواْ} أي استئذانهم إنّما هو بسبب رضاهم بالذل والهوان، وإلاّ فمن نفسه أبيّة لا يرضى بذلك.

وقوله: {مَعَ الْخَوَالِفِ} جمع خالفة وهم النساء الذين لا تكليف لهن بالجهاد فيتخلّفن في بيوتهن، و{مَعَ} أي في زمرتهن فيكون حكمهم كحكمهن، وقال الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا *** وعلى المحصنات جرّ الذيول((2))

أي تكليفهن رعاية العفة والاحتشام، وغالب الأحكام الشرعية مشتركة بين الرجال والنساء إلاّ أن بعض الأحكام خاصة بسبب الاختلاف في الخلق والمسؤولية، فتحميل المرأة تكليف الرجل إفساد، وتحميل الرجل تكليف

ص: 339


1- ([1]) سورة النساء، الآية: 95.
2- ([2]) شرح نهج البلاغة 3: 283.

المرأة هوان.

وقوله: {وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} أي أخزاهم اللّه تعالى فهو زيادة هوان على الهوان الذي رضوه لأنفسهم.

وقوله: {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} أي لا يفهمون العزة والكرامة والسعادة التي في الإيمان والجهاد، ولا الذلّ والطبع على القلوب الذي في العصيان؛ لأن من انغمس في الدنيا انقلبت الموازين عنده، كما قال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا}((1)).

الرابع: قوله تعالى: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ جَٰهَدُواْ} إلى قوله: {ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

بيان أن عصيانهم لا يضر الدين شيئاً لأن اللّه ينصر دينه برسوله وبالمؤمنين، كما قال: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ}((2))، وقال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَٰلَكُم}((3)).

فأولئك لم يؤمنوا واستأذنوا وهؤلاء آمنوا مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجاهدوا، وأولئك رضوا بالذل والهوان وهؤلاء لهم الخيرات، وأولئك طبع على قلوبهم وهؤلاء هم المفلحون.

وقوله: {لَهُمُ الْخَيْرَٰتُ} وهي المنافع، وكأنّ المراد هنا منافع الدنيا بالغنيمة والنصر والذكر الطيب ونحو ذلك، أو المراد بها النفسيّة الرفيعة والقلوب النزيهة ولذا أطاعوا اللّه ورسوله ولم يرضوا بالهوان والذل، أو أعم من منافع

ص: 340


1- ([1]) سورة فاطر، الآية: 8.
2- ([2]) سورة الأنعام، الآية: 89.
3- ([3]) سورة محمّد، الآية: 38.

الدنيا والآخرة.

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفلاح هو نيل النفع والخير الباقي أثره((1)).

وقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ...} قيل: عبّر بالإعداد دون الوعد لأن الأمور بخواتيمها وعواقبها، فلو كان وعداً لجميع من آمن مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجاهد معه لوجب الوفاء به حتى مع ارتدادهم بعد ذلك لأن اللّه لا يخلف الميعاد، ولذا كلّما وعد اللّه تعالى علّقه على شرط، فإذا لم يعلّقه على شرط عبّر عنه بالإعداد، وهو أعم من أن يناله الشخص إن بقي على إيمانه وعمله بالصالحات ومن أن يُحرم عنه إن ارتدّ فيقال له قد أعددنا لك لكنك بسوء عملك حرمت نفسك! فتأمل.

وقوله: {ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الفوز هو النجاة من الهلكة إلى حال نعمة، وعظمته لدوامه ورفعته والكرامة فيه، وكأن في هذا تعريضاً بأولي الطول المستأذنين بأن عدم جهادهم ليس فوزاً من الهلكة وإنّما الفوز هو نيل الجنّة.

ص: 341


1- ([1]) راجع معجم الفروق اللغوية: 321.

الآيات 90-93

اشارة

{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 90 لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٖ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 91 وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ 92 إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَْٔذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 93}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أصناف المتخلفين وهم بين مقبول العذر وغير مقبوله:

90- {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} من عذّر أي تكلّف العذر ولا عذر له {مِنَ الْأَعْرَابِ} البدو {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} ليأذن لهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في التخلّف عن تبوك، {وَقَعَدَ} بدون أن يأتوا للاعتذار {الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أخبروهما بخلاف الحقيقة في إظهار الإسلام وهم منافقون {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أمّا الذين لم يكفروا منهم بل تكاسلوا عن الخروج فقد يغفر اللّه لهم.

91- {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} وهم الذين لا استطاعة لهم لضعفهم كالهَر ِم والزَمِن والأعمى {وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ} الذين لا يستطيعون بسبب مرضهم {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} فليس لهم استطاعة مالية {حَرَجٌ} إثم

ص: 342

في عدم الخروج {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في حال قعودهم بأن أخلصواولم يدخلهم نفاق وعصيان وذلك لأنهم محسنون و{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} والإحسان هو إيصال النفع من غير قبح {مِن سَبِيلٖ} طريق إلى الذم والعقوبة، {وَاللَّهُ غَفُورٌ} فلذا يقبل عذرهم {رَّحِيمٌ} فلا يحمّلهم ما لا طاقة لهم به.

92- ثمّ خصّ بالذكر والمدح طائفة من الذين لا يجدون {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ} و«ما» للتأكيد والزينة أي جاؤوك {لِتَحْمِلَهُمْ} أي تعطيهم وسيلة السفر أو نفقته {قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ} انصرفوا {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} أي من حزنهم أو لأجل حزنهم {أَلَّا يَجِدُواْ} أي لأنهم لا يجدون {مَا يُنفِقُونَ} ليشاركوا في الجهاد.

93- {إِنَّمَا السَّبِيلُ} إلى الذم والعقاب {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَْٔذِنُونَكَ} للتخلّف عن الجهاد {وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} قادرون على الجهاد ونفقته لكنهم أذلاء إذ {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} النساء اللاتي لا يجب عليهن الجهاد {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} فأخزاهم بسوء أعمالهم {فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أضرار التخلف وما فاتهم من منافع الجهاد.

أصناف المتخلفين

بحوث

الأوّل: هذه الآيات لبيان أصناف المتخلفين؛ وذلك لإخراج من كان تخلفه بعذر مقبول، مع ردّ الأعذار الواهية للمتكاسلين والكاذبين، فصنف معذِّرون وهم الذين يتكلّفون العذر مع أنهم لا عذر لهم في الواقع، وصنف تخلفوا من غير أن يتكلّفوا العذر أصلاً، وقسم معذورون حقيقة فقد

ص: 343

يحاولون إزالة العذر ولا يتمكنون.

فالصنف الأوّل والثاني إن كانوا منافقين نالهم العذاب الأليم، وإن لم يكونوا منافقين بل تكاسلوا عصياناً فأمرهم إلى اللّه إن شاء غفر لهم بفضله وإن شاء عذّبهم بعدله، وأمّا الصنف الثالث فهم إن كانوا مؤمنين حقيقة فهم محسنون فلا سبيل إلى ذمّهم وعقابهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} الآية.

قوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ...} من عذّر من باب التفعيل وهو الذي يتكلّف العذر ولا عذر له، ولعل قوله: {مِنَ الْأَعْرَابِ} لئلّا يكون تكراراً للمذكورين في الآية 42، أو لكي لا يتوهم أحد أن صعوبة العيش في الصحراء سبب كاف لرفع الجهاد عنهم، وهؤلاء الصنف الأوّل.

قوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهم الذين تخلّفوا من دون أن يأتوا للاعتذار، وهؤلاء الصنف الثاني.

وقوله: {كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أخبروهما بالكذب والمقصود المنافقون الذين كذبوا في ادعاء الإيمان.

وقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} «من» إمّا تبعيضية؛ إذ إن بعض المعذرين من الأعراب لم يكونوا منافقين وإنّما تكاسلوا عن الجهاد، والمؤمن العاصي قد يغفر اللّه له، أو بيانية لبيان أن سبب إصابة العذاب هو كفرهم، والأوّل أظهر.

الثالث: قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا

ص: 344

يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ...} الآية.

بيان الصنف الثالث وهم ذوو الأعذار المقبولة، فهؤلاء لا تكليف عليهم بالجهاد ولا يحتاجون إلى اعتذار، وهم الذين لا استطاعة لهم، إمّا في البدن بالطبع وهم الضعفاء كالمقعد والهرم والأعمى، وإمّا في البدن عَرَضاً وهم المرضى الذين سلبهم مرضهم القدرة على الجهاد، وإمّا في المال بأن لا يستطيعون الخروج لعدم امتلاكهم نفقة السفر.

وقوله: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} إمّا بمعنى أنهم في حال قعودهم لم يخالفوا أمر اللّه تعالى بإثارة الفتن والقلاقل، أو بمعنى إذا كانوا مؤمنين أمّا الضعيف والمريض والفقير المنافق فإثم نفاقه أشد، أو بمعنى إذا كان عذرهم حقيقياً لا تظاهراً كاذباً فالشيخ قد يقوى على الجهاد، وكذلك المريض القادر، أو الفقير الذي يمكنه تحصيل النفقة، فإذا ادعوا العجز وعدم القدرة كان ادعاؤهم غشاً؛ لأن النصح هو الخلوص عن الشوائب ومنها الكذب والخداع.

وقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٖ} هذا تعليل لعدم الحرج عليهم، أي هؤلاء الناصحون هم محسنون، والمحسنون لا سبيل عليهم، وهذا التعليل أمر عام يشمل المورد وسائر الموارد، والسبيل أيضاً مطلق يشمل اللوم والعقاب والغرامة ونحوها، نعم لا بدّ أن يكون إحساناً حقيقياً، أمّا لو أراد الإحسان لكنه أخطأ فأساء فقد يكون عليه السبيل كالطبيب الذي يعالج المريض فيخطئ من غير تقصير فإنه أراد الإحسان لكنه أخطأ فأساء فهذا ضامن وعليه الدية إلاّ إذا أخذ البراءة قبل العلاج، والتفصيل يطلب في الفقه.

ص: 345

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَاأَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ...} الآية.

هؤلاء يدخلون في قوله في الآية السابقة: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} فلعلّ ذكرهم بالخصوص لمدحهم لأنهم وإن كانوا معذورين ومحسنين لكنهم يحاولون جاهدين المشاركة وإذا لم يتمكنوا يحزنون ويبكون، أو لأجل مقابلتهم مع الأغنياء الذين يتهربون بالأعذار الكاذبة، أو لأجل توضيح نصيحتهم للّه ورسوله، أو لغير ذلك.

وقوله: {لِتَحْمِلَهُمْ} أصل الحمل هو إعطاء المركوب من فرس ونحوه، لكن قد يستعمل بمعنى إعطاء نفقة السفر، وهذا هو المقصود هاهنا؛ لأن الجهاد لا يتوقف على الركوب، فقد روي أنه في غزوة تبوك كان المسلمون ثلاثين ألفاً، والفارس منهم عشرة آلاف((1))، وكان أكثرهم مشاة.

وقوله: {تَوَلَّواْ} جزاء {إِذَا مَا أَتَوْكَ...}.

وقوله: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} فاض بمعنى امتلأ حتى سال، وفي الكشّاف: «وهو أبلغ من يفيض دمعها؛ لأن العين جعلت كأن كلّها دمع فائض»((2)).

وقوله: {حَزَنًا} قيل الحَزَن والحُزن لغتان بمعنى واحد.

وقوله: {أَلَّا يَجِدُواْ...} بتقدير لام التعليل أي لأجل أن لا يجدوا ما ينفقون.

ص: 346


1- ([1]) راجع مجمع البيان 5: 148؛ عن مغازي الواقدي 3: 1002.
2- ([2]) الكشّاف 1: 301.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَْٔذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُرَضُواْ...} الآية.

أي عكس أولئك، هؤلاء الذين تجتمع فيهم أسباب الذم والعقاب، فهم يتهربون من حكم اللّه من غير عذر، ونفوسهم حقيرة فرضوا بالذل، وهم منافقون لذلك طبع اللّه على قلوبهم، وهم جهلة، فالغرض من هذه الآية يختلف عن الغرض من الآية 87، فهناك توصيف لحالهم، وهنا بيان سبب السبيل عليهم، وحيث اختلف الغرض فلا تكرار.

وقوله: {وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} ولم يذكر قدرتهم البدنية؛ لأن الغرض بيان مقابلة الفقير الذي يحاول جاهداً المشاركة والغني الذي يتهرب من الجهاد، ولأنهم لو كانوا معذورين بدنياً بمرض أو ضعف لم يكونوا بحاجة إلى الاستئذان بعد رفع التكليف عنهم.

وقوله: {فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون مغبّة تكاسلهم عن الجهاد من منافع فاتتهم ومن أضرار أوقعوا أنفسهم فيها، أو بمعنى أن اللّه طبع على قلوبهم فغفلوا عن الحق والطاعة.

ص: 347

الآيات 94-96

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لَّا تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 94 سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 95 يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ 96}

94- والمنافقون المتخلفون كما يختلقون الأعذار قبل الخروج كذلك يكذبون في إختلاقها بعد الرجوع ف{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ} من الجهاد {إِلَيْهِمْ} إلى بلدكم وهم فيه متخلّفون، {قُل لَّا تَعْتَذِرُواْ} الأعذار الكاذبة بل استغفروا وتوبوا فإنّا {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي لن نصدّقكم في أكاذيبكم؛ إذ {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} بعضها أي أخبرنا بما أوحاه إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومع إخبار اللّه تعالى وتصديقنا له فكذبكم معلوم {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي كما رأى اللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أعمالكم في الماضي كذلك يريان أعمالكم في المستقبل، {ثُمَّ} في يوم القيامة {تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ} ما غاب عن الحواس {وَالشَّهَٰدَةِ} ما كان محسوساً فاللّه عالم بكل شيء {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} إخباراً للتوبيخ والجزاء كما أنبأنا ببعض أخباركم.

ص: 348

95- وهؤلاء لا يكتفون بالاعتذار بل يضيفون الحلف الكاذب ف{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} لتقوية أعذارهم {إِذَا انقَلَبْتُمْ} رجعتم {إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أيلكي لا توبخوهم ولا تعاقبوهم {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} إعراض كراهة وإنكار لا إعراض صفح {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي قذر ونجس باطناً بسبب كفرهم وعصيانهم {وَمَأْوَىٰهُمْ} مستقرهم {جَهَنَّمُ جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.

96- ثمّ يحذر اللّه المؤمنين من الرضا عنهم، فهم {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} لتستمروا في العلاقة السابقة معهم {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} مجاملةً {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ} الخارجين عن الطاعة.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات في بيان إصرارهم على الكذب بعد رجوع المسلمين من الجهاد، فكما كانوا يستأذنون ويعتذرون كذباً ويحلفون عليه قبل الخروج إلى الجهاد، كذلك يفعلون بعده، لكن اللّه تعالى قد كان أخبر نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعض أخبارهم وقد أخبر الرسول المسلمين به فحينئذٍ لا معنى لتصديق أولئك المنافقين، وكما يعلم اللّه ورسوله بأعمالهم الماضية كذلك يريان أعمالهم المستقبلية، وسيخبرهم اللّه بها في يوم القيامة كما أخبر المسلمين ببعضها في الدنيا.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى أن غرضهم من حلفهم الكاذب هو أن لا يوبّخهم المسلمون ولا يعاقبوهم فيأمر اللّه المسلمين بأن يعرضوا عنهم بالمقاطعة، كما أنهم يريدون رضا المسلمين عنهم فيحذر اللّه تعالى بأنه غير راض عنهم فلا ترضوا عنهم.

ص: 349

الثاني: قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لَّا تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ...} الآية.

أي هؤلاء المنافقون مصرّون على الكذب، فبدلاً من أن يتوبوا ويستغفروا ويطلبوا الصفح يستمرون في اختلاق الأعذار، بل أرادوا إيجاد القلاقل والفتن في المدينة في حال غياب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين، ولذلك أبقى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإمام علياً (عليه السلام) في المدينة ليدير أمورها ويمنعهم عن الفتنة فيها وقال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي»((1)).

وقوله: {قُل لَّا تَعْتَذِرُواْ} نهي تبكيت وتوبيخ.

وقوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} علة النهي عن الاعتذار، وقد مرّ أن الإيمان إذا عُدّي باللام كان معناه التصديق.

وقوله: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ} علة عدم تصديقهم، فالمعنى لا تعتذروا لأنّا لا نصدقكم؛ إذ أخبر اللّه.

وقوله: {مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي بعضها ممّا يرتبط بكذبهم في أعذارهم وبنفاقهم.

وقوله: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} إمّا تحذير لهم بمعنى أن أعمالكم المستقبلية أيضاً - كأعمالكم الماضية - معلومة، وإمّا فتح باب التوبة لهم فاللّه ورسوله يريان أعمالكم القادمة هل تتوبون أو تصرّون على النفاق والعصيان، ويمكن أن تكون السين للتأكيد لا للاستقبال أي إن اللّه ورسوله يريان جميع أعمالكم في الدنيا، فيكون بمنزلة الدليل على صحة ما أنبأه اللّه

ص: 350


1- ([1]) الكافي 8: 107؛ مسلم 7: 20، والحديث متواتر بألفاظ متقاربة.

من أخبارهم، وهذا أظهر.

وقوله: {إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ} الغيب هو ما غاب عن الحواس ومنه مالم يكن أصلاً، والشهادة ما حضر لدى الحواس، فاللّه تعالى محيط بكل شيء سواء شاهده أحد أم لم يشاهده، وإنّما أقام الظاهر مقام الضمير فلم يقل (ثمّ تردون إليه) لأجل بيان أنه تعالى مطلع على ضمائرهم حتى وإن أخفوها عن الناس.

وقوله: {فَيُنَبِّئُكُم} أي يخبركم بالتوبيخ والذم ليجازيكم عليها، وقيل: معناه كما يعلم اللّه ورسوله بحقيقة أعمالكم كذلك أنتم ستعلمون بحقيقتها يوم القيامة حينما يخبركم اللّه بها، أمّا في الدنيا فلا تعلمون إلاّ الظاهر منها، كما قال: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ}((1)).

الثالث: قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ...} الآية.

كان المنافقون في قلق واضطراب من أن يعاقبهم المسلمون على تخلّفهم فأخبر اللّه رسوله بأنهم سيأتون ويحلفون لتقوية عذرهم، ثمّ أمر اللّه تعالى المسلمين ليعرضوا عنهم لكن ليس إعراض صفح بل إعراض إنكار، فقد أمن المنافقون العقوبة لكن ابتلوا بالمقاطعة الاجتماعيّة، فقد روي أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «لا تجالسوهم ولا تكلّموهم»((2))، ولذا كرروا حلفهم الكاذب ليرضى المسلمون عنهم، لكن اللّه تعالى أمرهم بأن لا يرضوا عنهم؛

ص: 351


1- ([1]) سورة الروم، الآية: 7.
2- ([2]) مجمع البيان 5: 150.

إذ إن اللّه ساخط عليهم وحينئذٍ لا وجه للرضا عنهم.

وقوله: {سَيَحْلِفُونَ...} نزلت الآية قبل وصول المسلمين إلى المدينةليكون المسلمون على استعداد تام لمقاطعتهم، وأمّا الآية التالية فالظاهر أنها نزلت بعد وصولهم ولذا جيء ب{يَحْلِفُونَ} بدون سين.

وقوله: {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} الإعراض هنا بمعنى عدم مؤاخذتهم والصفح عنهم.

وقوله: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} بمعنى مقاطعتهم، فهم كانوا يريدون إعراض صفح لكن ليكن إعراضكم إعراض كراهة وإنكار.

وقوله: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} بيان سبب إعراض الكراهة عنهم، ورجسهم بسبب نفاقهم في قلوبهم وعصيانهم في أعمالهم، فهم كالشيء القذر الذي إذا اقترب الإنسان منه تلوّث به أو برائحته.

الرابع: قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ}.

لمّا قاطعهم المسلمون بالإعراض عنهم أرادوا إرضاءهم عبر تكرار الحلف الكاذب، فحذّر اللّه المسلمين عن الرضا عنهم، وهدّدهم بأن رضا المسلمين عنهم لا ينفعهم مع سخط اللّه عليهم، وبيّن سبب عدم رضاه تعالى عنهم بأنهم فاسقون خارجون عن الطاعة، ولم يرجعوا عن النفاق، واللّه العالم.

ص: 352

الآيات 97-101

اشارة

{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 97 وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 98 وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَٰتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 99 وَالسَّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 100 وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ 101}

أصناف الناس في غزوة تبوك

ثمّ يصنّف اللّه تعالى الناس - من حيث مشاركتهم في غزوة تبوك أو تخلّفهم - ببيان الحالة العامة فيهم إلى أصناف:

الصنف الأوّل:

97- {الْأَعْرَابُ} سكان البادية من العرب {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من سكّان المدن، لبعدهم عن الحضارة والعلم ولقساوة طبعهم {وَأَجْدَرُ} أولى {أَلَّا} أن لا {يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا} أي تفاصيل الأحكام التي {أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ} بل عليهم أن يتعلموا الأحكام إجمالاً؛ إذ ليست لهم قابلية المعرفة التفصيلية، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بحقيقتهم {حَكِيمٌ} في ما كلّفهم به.

ص: 353

98- {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ} يحسب {مَا يُنفِقُ} من أموال الصدقة وغيرها {مَغْرَمًا} أي خسارة لأنه لا يصدّق اللّه ورسوله ولا يرجو ثواباً،{وَيَتَرَبَّصُ} ينتظر {بِكُمُ الدَّوَائِرَ} بأن ينقلب الزمان بكم بالهزيمة والذلة وذلك لكي يرجع إلى الشرك ويتخلص من الإنفاق، لكن {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} فالذلة والهزيمة عليهم لا على المؤمنين، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لما يقولونه نفاقاً {عَلِيمٌ} بما يضمرون فيجازيهم عليه.

الصنف الثاني:

99- {وَمِنَ الْأَعْرَابِ} بعضهم ليسوا كذلك بل {مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} إيماناً حقيقياً {وَيَتَّخِذُ} يحسب {مَا يُنفِقُ} من الصدقة وأموال الجهاد وغير ذلك {قُرُبَٰتٍ عِندَ اللَّهِ} أي سبب التقرب إلى اللّه تعالى {وَصَلَوَٰتِ الرَّسُولِ} أي سبباً لدعاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له لأنه كان يدعو ويستغفر للمتصدقين، ثمّ يخبر اللّه بقبولها: {أَلَا} انتهبوا {إِنَّهَا} نفقاتهم {قُرْبَةٌ لَّهُمْ} أي تقرّبهم إلى اللّه تعالى، ونتيجة ذلك {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} ثوابه والجنّة، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذنوبهم {رَّحِيمٌ} بهم لذا يقبل عملهم.

الصنف الثالث:

100- {وَالسَّٰبِقُونَ} إلى الإيمان والطاعة {الْأَوَّلُونَ} في أوّل الإسلام وذلك قبل ظهور عزّته في غزوة بدر {مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ} إلى الحبشة والمدينة {وَالْأَنصَارِ} أهل المدينة الذين نصروا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم} في الإيمان والطاعة اتّباعاً موصوفاً بأنه {بِإِحْسَٰنٖ} إلى يوم القيامة، هؤلاء كلهم {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بقبول طاعاتهم وإكرامهم بالثواب والجنّة،

ص: 354

{وَرَضُواْ عَنْهُ} في قضائه وما قدّره لهم، {وَأَعَدَّ} هيّأ {لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِيتَحْتَهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ} الرضوان والجنّة {الْفَوْزُ} النجاة من الهلكة {الْعَظِيمُ} لا ثواب فوقه، وعظمته بدوامه وكرامته.

الصنف الرابع:

101- {وَ} هم المنافقون الذين يظهرون الطاعة فلا يمكن تمييزهم وقد اشتركوا في غزوة تبوك ف{مِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ} سكان البادية {مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ} عتوا وتمهّروا {عَلَى النِّفَاقِ} ولذلك {لَا تَعْلَمُهُمْ} لشدة حذرهم إلاّ بوحي من اللّه تعالى يعرّفهم لك {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لأن اللّه مطّلع على كل خافية {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} قبل يوم القيامة {ثُمَّ يُرَدُّونَ} يوم القيامة {إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ}.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات وآيات بعدها في تصنيف عموم الناس من حيث الإيمان والكفر والطاعة والعصيان ومن ثَمَّ تطبيق ذلك على موقف المسلمين في غزوة تبوك، والأصناف هي: الأعراب الظاهرو النفاق، والأعراب المؤمنون، والسابقون الأوّلون إلى الإيمان والطاعة، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة، ومردة المنافقين الذين أخفوا نفاقهم فلا يعرفهم أحد إلاّ بوحي اللّه، وعصاة نادمون اعترفوا بذنوبهم، وعصاة كسالى لكنهم غير منافقين، وجواسيس للعدو.

الصنف الأوّل: الأعراب المنافقون

فأمّا الصنف الأوّل: فهم أعراب منافقون ظاهرو النفاق، فهؤلاء حين كفرهم كانوا أشد الناس كفراً وبعد إسلامهم يكونون أشد الناس نفاقاً، فلا ينفقون

ص: 355

إلاّ اضطراراً وينتظرون هزيمة المسلمين ليرجعوا إلى الشرك وليتخلصوا منالصدقة.

الصنف الثاني: الأعراب المؤمنون

وأمّا الصنف الثاني: فهم أعراب مؤمنون واقعاً وينفقون قربة إلى اللّه وليدعو لهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الصنف الثالث: السابقون الأوّلون

وأمّا الصنف الثالث: فهم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة قبل أن تظهر عزة الإسلام في غزوة بدر، ثمّ المؤمنون إلى يوم القيامة الذين اتبعوا السابقين وكان اتّباعهم بإحسان.

الصنف الرابع: المنافقون المحترفون

وأمّا الصنف الرابع: فهم المنافقون المحترفون الذين أخفوا نفاقهم بمهارة، فهم في الظاهر يطيعون وقد اشتركوا في غزوة تبوك.

وأمّا سائر الأصناف فستأتي تباعاً.

ثمّ يبيّن اللّه تعالى مصير كل واحد من هذه الأصناف في الدنيا أو الآخرة.

الثاني: قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

الأعراب هم سكّان البادية من العرب خاصة، أمّا غير العرب من البدو فلا يطلق عليهم الأعراب، وهؤلاء أغلظ وأقسى من أهل المدن؛ وذلك لبعدهم عن الحضارة والعلم من جهة، ولسراية قساوة الصحراء إلى طباعهم، فلذا إذا كانوا كفّاراً كانوا أشد في الكفر، وإذا أسلموا ونافقوا كانوا أشد في النفاق من أهل المدن، وهؤلاء بسبب خشونة طبعهم وقلة معرفتهم لا قابلية لهم لمعرفة تفاصيل الأحكام الشرعية، لأنهم لا يفهمونها بشكلها الصحيح فيحرفونها عن حدودها ويقلبونها رأساً على عقب، فلذا لا يُكلَّفون فوق

ص: 356

قابليتهم وطاقتهم فكان الأجدر بهم أن لا يعلموا إلاّ ما يطيقون وهو أصلالأحكام وكليّاتها.

وقوله: {وَأَجْدَرُ} أي أحق وأولى، وفي المقاييس: «هو جدير بكذا، أي حريّ به، وهو ممّا ينبغي أن يثبت ويبني أمره عليه»((1)).

وقوله: {حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} في تقريب القرآن: «إنّما قال: (حدود) لأن حدود الأحكام أدق من نفس الأحكام، ولذا كثيراً ما يعرف الناس الأحكام لكنهم لا يعلمون حدودها أي خصوصياتها وميّزاتها، حتى لا يدخل فيها شيء ليس منها ولا يخرج منها شيء هو منها»((2)).

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي هو يعلم بطبيعتهم وبحكمته لم يحمّلهم أكثر من قابليتهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ...} الآية.

بعض الأعراب المنافقون قد ينفقون من أموالهم رياءً أو خوفاً أو اضطراراً، لكنهم حيث لا يعتقدون باللّه ورسوله ولا يرجون ثواباً من الإنفاق يعتبرون ذلك الإنفاق خسارة، وينتظرون هزيمة الإسلام ليرجعوا إلى شركهم ويتخلصوا من إنفاقٍ لا يعتقدون به.

وقوله: {مَغْرَمًا} المغرم هو الخسارة، وأصله بمعنى اللزوم، وفي كتاب العين: «الغرم: أداء شيء لزم من قبل كفالة أو لزوم نائبة في ماله من غير

ص: 357


1- ([1]) مقاييس اللغة: 188.
2- ([2]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 450.

جناية»((1)).

وقوله: {وَيَتَرَبَّصُ} التربص هو طول الانتظار، فلو كان الانتظار قصيراً لا يسمى تربصاً»((2)).

وقوله: {الدَّوَائِرَ} جمع دائرة، وهو دوران الفلك من حال إلى حال أخرى، والمقصود يتربصون هزيمة المسلمين وانكسارهم وذلّتهم ليتخلصوا من الإسلام والإنفاق.

وقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} هذا إخبار لبيان عاقبة أمرهم بأن ما ينتظرونه على المسلمين سيقع عليهم، وقيل: هو دعاء عليهم، لكن الأوّل أنسب بسياق هذه الآيات حيث ذكرت الأصناف وعاقبة كل صنف.

الرابع: قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ اللَّهِ...} الآية.

هؤلاء مقابل أولئك، فإيمانهم حقيقي ولا يعتبرون إنفاقهم مغرماً بل مغنماً بالقربة إلى اللّه تعالى وبدعاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم.

وقوله: {قُرُبَٰتٍ عِندَ اللَّهِ} جمع قربة، أي يحتسب ما ينفقه سبباً مقرّباً له إلى اللّه تعالى، ولعلّ الجمع في قربات لأجل بيان أن جميع إنفاقهم كذلك، فكل إنفاق يحسبونه قربة، فإن البعض قد يخلط فيرائي تارة ويتقرب أخرى فيكون من الصنف الذين {خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا}((3))، لكن هؤلاء الأعراب كل عملهم قربة.

ص: 358


1- ([1]) كتاب العين 4: 418.
2- ([2]) راجع معجم الفروق اللغوية: 122.
3- ([3]) سورة التوبة، الآية: 102.

وقوله: {وَصَلَوَٰتِ الرَّسُولِ} أي وسبباً لدعاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما قال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}((1))، ومرجع هذا أيضاً إلى القربة إلى اللّه تعالى، وفي هذا دلالة على أن إتيان الطاعة قربة إلى اللّه تعالى لا ينافي قصد دعاء الرسول منها أيضاً.

وقوله: {أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} شهادة من اللّه تعالى بقبول عملهم.

وقوله: {فِي رَحْمَتِهِ} أي تغمرهم الرحمة من كل الجهات، ولذا جيء ب{فِي} الدالة على الظرفية، وهذه الرحمة هي الثواب والجنّة.

الخامس: قوله تعالى: {وَالسَّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ...} الآية.

هؤلاء هم المؤمنون حق الإيمان وهم طائفتان: السابقون والتابعون لهم.

وقوله: {وَالسَّٰبِقُونَ} أي الذين سبقوا غيرهم إلى الإيمان والطاعة، فلا تشمل الذين أظهروا الإسلام نفاقاً أو الذين ارتدوا منهم، نظير عبيد اللّه بن جحش حيث أسلم في مكة وهاجر إلى الحبشة ثمّ ارتد عن الإسلام إلى النصرانية ومات نصرانياً، أو عبد اللّه بن أ ُبي حيث كان من أوائل الذين أظهروا الإسلام من أهل المدينة لكنه كان رأس النفاق إلى أن مات.

وقوله: {الْأَوَّلُونَ} هذا القيد لبيان أن السبق هو السبق الحقيقي لا الإضافي، فالذين آمنوا في أواخر حياة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كانوا سابقين بالنسبة إلى من جاء بعدهم لكنهم ليسوا من السابقين الأوّلين.

ثمّ إن الظاهر أن المراد بهم الذين آمنوا قبل غزوة بدر؛ إذ قبلها كان

ص: 359


1- ([1]) سورة التوبة، الآية: 103.

المسلمون مستضعفين، وإنّما ظهرت عزّتهم بعدها، وقيل غير ذلك.

وقوله: {مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} (من) تبعيضيّة أي هؤلاء كانوا بعض المهاجرين والأنصار لا جميعهم؛ إذ ارتد بعضهم ونافق بعضهم كما ذكرنا.

وقد زعم البعض أن {مِنَ} بيانية والآية تشمل جميع الصحابة! وهذا لا يصح البتة، وهو مخالف للقرآن الكريم حيث صرّح بوجود منافقين كثيرين في زمن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودلّ على ارتداد بعضهم، مضافاً إلى أن المناط في القرآن هو الإيمان والعمل الصالح لا مجرد إظهار الإسلام ورؤية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد دلت الأحاديث الصحيحة بأن مبغض الإمام علي (عليه السلام) منافق حيث قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»((1))، ومن المعلوم أن بعض أولئك كانوا يبغضون الإمام علياً (عليه السلام) وحاربوه وسبّوه وسنّوا لعنه والنصب له ولأهل بيته (عليهم السلام) !

وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ} عطف على {وَالسَّٰبِقُونَ} أي سائر المسلمين الذين جاؤوا بعد السابقين الأوّلين فاتبعوهم على الإيمان والطاعة، فيشمل من آمن في أواخر حياة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن آمن بعد ذلك إلى يوم القيامة، وقيل: إنه قال: {بِإِحْسَٰنٖ} ولم يقل: (في الإحسان) للدلالة على أن الاتّباع موصوف بأنه بإحسان، أي اتبعوهم في عملهم ولم يتبعوهم بأشخاصهم، فتأمل.

وقوله: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} هذا خبر قوله: {وَالسَّٰبِقُونَ}، وحيث إن اللّه

ص: 360


1- ([1]) علل الشرائع 1: 145؛ وفي كتاب مسلم 1: 61: «قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى اللّه عليه [وآله] وسلم إليّ أن لا يحبني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق».

ليس محلّاً للحوادث وهو منزّه عن الكيف النفساني، فرضاه بمعنى نتيجة الرضا كقبوله لطاعاتهم وإكرامهم.

وقوله: {وَرَضُواْ عَنْهُ} أي رضوا بقضائه وما قدّره لهم وإن كان مصيبة وبلاءً، ودرجة الرضا بقضاء اللّه هي درجة الصديقين وهي فوق درجة الصبر والصابرين، وإنّما رضوا عنه لمعرفتهم بعظمته وحكمته ولما وعدهم من النعم في الدنيا والآخرة.

السادس: قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ...} الآية.

بيان صنف آخر وهم المنافقون المحترفون الذين يكتمون نفاقهم بمهارة بحيث لا يعلمه أحد إلاّ اللّه تعالى أو من أخبره اللّه بوحيه، فحتى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يعرفهم إلاّ بوحي اللّه تعالى له، وهؤلاء يظهرون الطاعة في كل شيء تغطيةً لنفاقهم، ولذا اشترك مجموعة منهم في غزوة تبوك ولم يستأذنوا ولم يتخلفوا، وقد تآمروا لقتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في العقبة بحيث لولا لطف اللّه تعالى بنبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لتمكنوا من الوصول إلى بغيتهم، لكن اللّه سبحانه أفشل مخططهم وفضحهم كما مرّ.

وقوله: {مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} أي عتوا ومهروا فيه بحيث أخفوه، فالنفاق متجذر في قلوبهم حتى طبع اللّه عليها.

وقوله: {لَا تَعْلَمُهُمْ} أي لا تعرفهم بأشخاصهم لشدة حذرهم وإخفائهم لنفاقهم، وهذا بيان شدة مهارتهم، وعدم معرفته بهم بذاته لا ينافي معرفته بهم بوحي من اللّه تعالى وفضحه لهم.

ص: 361

وقوله: {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} كالتهديد لهم بأنه لا يخفى على اللّه شيء.

وقوله: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} هذان عذابان قبل يوم القيامة، لكن متى هما؟ قال بعض المفسرين: إن المرّة الثانية هي عذاب القبر، وأمّا المرّة الأولى فقيل: هي فضحهم، وقيل: لحظة الاحتضار، وقيل: بيد المؤمنين.

ويحتمل أن يكون المراد بالمرّتين تضاعف العذاب عليهم لأن هؤلاء كانوا رؤوس النفاق فمرّة لنفاقهم ومرّة لإضلالهم غيرهم أو لمؤامراتهم، واللّه العالم.

وقوله: {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} في يوم القيامة بحيث لا يقاس به عذاب الدنيا والقبر، وعظمته لشدته ودوامه، وهو يساوي جرمهم فيدل على عظم جرمهم.

ص: 362

الآيات 102-106

اشارة

{وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 102 خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 103 أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 104 وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 105 وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 106}

الصنف الخامس: الذين خلطوا عملاً صالحاً وسيئاً

الصنف الخامس:

102- {وَءَاخَرُونَ} من الأعراب وأهل المدينة ليسوا منافقين ولا يعتذرون بالأعذار الكاذبة بل {اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} فقد {خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا} هو إيمانهم وطاعتهم {وَءَاخَرَ سَيِّئًا} بعض المعاصي كترك الخروج إلى تبوك، واعترافهم يتضمن توبتهم، {عَسَى اللَّهُ} أي الرجاء باللّه {أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} حيث {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لذا يتوب على المذنب التائب {رَّحِيمٌ} يرحمه بالثواب.

103- وحيث إن أموالهم كانت سبباً لتخلفهم فقد أرادوا التصدق بجميعها لكن {خُذْ} يا رسول اللّه {مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ} بعضها {صَدَقَةً} الزكاة الواجبة لا غيرها {تُطَهِّرُهُمْ} أنت أو تلك الصدقة عن الذنوب {وَتُزَكِّيهِم} تنميهم في الدين والمال والأولاد وغيرها {بِهَا} بتلك الصدقة، {وَصَلِّ

ص: 363

عَلَيْهِمْ} ادع لهم {إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} هدوء وسكينة لهم بقبول توبتهم، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لدعائك {عَلِيمٌ} بصدق نواياهم.

104- {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} الاستفهام للتنبيه والحث على التوبة والصدقة {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} فلا يأنفوا منها {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ} أي هو يقبلها وهذا تعظيم لها، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} كثير اللطف بعباده فيرجع إليهم {الرَّحِيمُ} بالتفضل عليهم.

105- {وَقُلِ} حيث علمتم بأن اللّه توّاب ويأخذ الصدقات ف{اعْمَلُواْ} الأعمال الحسنة ومنها التوبة والصدقة {فَسَيَرَى اللَّهُ} السين للتأكيد أي إن اللّه يرى {عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وهم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، {وَسَتُرَدُّونَ} يوم القيامة {إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم} يخبركم للجزاء {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

الصنف السادس: المرجون لأمر اللّه

الصنف السادس:

106- {وَءَاخَرُونَ} مستضعفون لا هم مؤمنين ولا هم كفّاراً وهؤلاء {مُرْجَوْنَ} مأخّرون وموقوف أمرهم {لِأَمْرِ اللَّهِ} لإرادته تعالى في شأنهم {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} لذنوبهم بعدله {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} لإسلامهم بفضله، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بهم وبأعمالهم {حَكِيمٌ} في ما يصنعه بهم من التوبة والعذاب.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا...} الآية.

صنف آخر من الناس وينطبق على جماعة ممن تخلّفوا عن غزوة تبوك،

ص: 364

فلم يكونوا منافقين ولا كذبوا في الاعتذار، بل أرادوا التوبة عبر اعترافهم بذنوبهم.

وتدل الآية على أن الذنب إن كان في الأمور العامة لزم تصحيح الذنب والتوبة علناً، فهؤلاء تخلّفوا علناً فكان لا بدّ لهم من الاعتراف علناً. نعم، لو كان الذنب في الأمور غير العلنيّة وفي حق اللّه دون حق الناس فالأولى أن يتوب الإنسان بينه وبين ربّه ولا يعترف به عند أحد غير اللّه تعالى، بل قد لا يجوز الإعلان عنه إذا كان إشاعة للفاحشة بين الذين آمنوا. نعم، لو كان فيه حق الناس فلا بدّ من استرضائهم، كمن قتل إنساناً عمداً خفية فلا بدّ له من تسليم نفسه إلى ذوي المقتول ليأخذوا حقهم من القصاص أو الدية أو العفو.

كما تدل الآية على أن بعض الذنوب لا تحبط جميع الأعمال الصالحة، بل يمكن للإنسان أن يكون مطيعاً من جهة له في ذلك الثواب وعاصياً من جهة أخرى يستحق بذلك العقاب، وقد مرّ الكلام في الحبط.

وقول--ه: {عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} هذا لإيجاد الرجاء فيهم لئلّا يقنطوا من رحمة اللّه تعالى، فالمؤمن لا بدّ أن يكون بين الخوف والرجاء.

وغير خفي أن شرط قبول التوبة هو الاستمرار على الإيمان إلى حين الموت، فمن أذنب ذنباً ثمّ تاب عنه لكنه ارتدّ بعد ذلك أو نافق فتوبته غير مقبولة ويعاقب على ذلك الذنب في الآخرة، حتى الكافر إذا أسلم ثمّ ارتد أو نافق أخذه اللّه بذنوب زمان الجاهلية أيضاً، فإن الإسلام يقطع ما قبله بشرط استمراره، قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن ناساً أتوا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد ما أسلموا فقالوا: يا رسول اللّه، أيؤخذ الرجل منا بما كان عمل في الجاهلية بعد

ص: 365

إسلامه؟ فقال لهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من حسن إسلامه وصح يقين إيمانه لم يأخذه اللّه تبارك وتعالى بما عمل في الجاهلية، ومن سَخُف إسلامه ولم يصح يقين إيمانه أخذه اللّه تبارك وتعالى بالأوّل والآخر»((1)).

الثاني: قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ...} الآية.

بيان أن مجرد الاعتراف القولي غير كاف بل لا بدّ من عملهم ومن شفاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم.

وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ صَدَقَةً} هذا في عملهم بأن يدفعوا الصدقة، وهي الزكاة الواجبة، حيث إن الأموال منعتهم عن الخروج إلى الجهاد، فلا بدّ لهم من التصدق ببعضها ليطهروا من دنس الذنب وليرتفعوا إلى قرب اللّه تعالى.

كيفية تطهيرهم

وقوله: {تُطَهِّرُهُمْ} الظاهر أن الضمير يرجع إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقرينة السياق حيث إن الضمير في {تُزَكِّيهِم} له (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فإن أخذ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو المطهّر، أمّا لو دفعوا الصدقة من غير إذنه فقد لا تكون مقبولة ولا مطهرة.

وقوله: {وَتُزَكِّيهِم بِهَا} الزكاة النمو أي بذلك تسمو نفوسهم وترتفع إلى درجات قرب اللّه تعالى، فالزكاة تجمع بين الثواب ومحو الذنب.

وقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} هذا في شفاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}((2)).

ص: 366


1- ([1]) الكافي 2: 461.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 64.

وقوله: {إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} لأن المذنب التائب مضطرب البال فشفاعة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) له توجب اطمئنان باله بقبول توبته، وقيل: هو جبر لما يشعر به من ألم فقد المال، فيكون الدعاء تعويضاً معنوياً يرضيه!

الثالث: قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ...} الآية.

لما أمرهم اللّه تعالى بالتوبة وبالزكاة أراد حثّهم عليهما؛ إذ قد يستنكف بعض الناس عن التوبة لأنها تتضمن اعترافاً بالخطأ، فيقال لهم: إن الذي تتوب إليه هو اللّه تعالى فلا وجه للاستنكاف عن الرجوع إليه، كما أنه تُعطى الزكاة غالباً للفقراء فقد يستعلي بعض الناس عليهم أو يعطي بإهانة أو عدم رغبة أو يقلّل من شأنها، فيقال لهم: إن آخذ الصدقة هو اللّه تعالى وكفى به فخراً لهم.

والحاصل: إن شأن التوبة والزكاة جليل لأنهما يرتبطان باللّه تعالى، وفي ذلك غاية الحث والتحريض.

قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} الاستفهام للتنبيه وليس للاستنكار؛ وذلك لأن اللّه تعالى أمر نبيّه بأن يأخذ الصدقات منهم، وقد يستصعب البعض دفعها فيتمّ حثّه بأنه يعطيها للّه تعالى، كما أن البعض قد يمتنع عن التوبة لعظم جرمه وييأس من رحمة اللّه تعالى فيقال له: إن الذنب مهما كان عظيماً فإن عفو اللّه أعظم منه.

وقوله: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} إن صحت تلك التوبة بأن استجمعت شرائط القبول وإلاّ لم تكن توبة.

وقوله: {يَأْخُذُ الصَّدَقَٰتِ} أي فكأنه هو الذي يأخذها، وعن الإمام

ص: 367

الصادق (عليه السلام) : «أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها»((1))، وعنه (عليه السلام) قال: «ما من شيء إلاّ وُكِّل به ملك إلاّ الصدقة فإنها تقع في يد اللّه»((2)).

الرابع: قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ...} الآية.

لما أمر اللّه تعالى بالتوبة والزكاة وذكر أنه تعالى هو الذي يقبلهما، بعد ذلك عمّم الأمر لجميع الأعمال الصالحة، وبيّن أن اللّه ورسوله والمؤمنين يرون تلك الأعمال في الدنيا وأن اللّه في الآخرة ينبئهم بها ليجازيهم عليها، وفي ذلك أكبر حث وتحضيض على العمل بالصالحات، فإن الإنسان لو علم بانكشاف أعماله للّه وللرسول وللمؤمنين فإنه يحاول أن لا يرتكب القبائح لئلّا يفتضح عندهم ويعمل بالصالحات لينال رضاهم.

وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ} الظاهر أن المراد هو الأمر بالعمل بالصالحات، وقيل: هو العمل خيراً وشراً كما قال: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}((3))، والأوّل أنسب بالسياق.

وقوله: {فَسَيَرَى} السين للتأكيد وليست للاستقبال؛ لأن اللّه تعالى عالم بالأعمال قبل تحققها وحينها وبعدها من دون تغيّر في علمه، بل التغيّر في المعلوم.

وقيل: السين لتوحيد السياق حيث إن علم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بالعمل يكون بوقوعه! والأوّل أصح، والرؤية هنا بمعنى العلم.

ص: 368


1- ([1]) توحيد الصدوق: 161؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 538.
2- ([2]) تفسير العياشي 2: 108.
3- ([3]) سورة فصلت، الآية: 40.

وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ} المراد بهم خصوص الأئمة (عليهم السلام) كما ورد في روايات كثيرة((1)).

أمّا غير الأئمة فأوّلاً: لا يرى الكثير من المؤمنين أعمال إخوانهم المؤمنين ولا غيرهم مع أن الآية تتضمن الإخبار عن رؤية المؤمنين لأعمالهم، وثانياً: انكشاف بعض الأعمال ليس خاصاً بالمؤمنين بل قد تنكشف الأعمال للمؤمنين ولغيرهم.

وعليه فالمراد الرؤية الكاملة وهي رؤية جميع الأعمال وبحقائقها لا بظاهرها، وذلك لأجل عطف الرسول والمؤمنين على اللّه تعالى، فالمعنى إن اللّه يرى أعمالكم كلها على واقعها، ثمّ بإرادته وإذنه يراها الرسول والأئمة على حقيقتها، ولذا سيشهدون بها يوم القيامة، كما مرّ تفصيله في الآية 143 من سورة البقرة((2))، وقد ذكرنا بعض التفصيل في شرح أصول الكافي((3))، فراجع.

ثمّ إنه قد مرّ في الآية 94 قوله: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ولم يذكر المؤمنون هناك، فقد قيل: إن تلك الآية الخطاب فيها للمنافقين وهم يحذرون من علم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا يبالون بعلم الأئمة (عليهم السلام) بهم، وأمّا هذه الآية فالمخاطب بها عموم المؤمنين وهم يهتمون بعلم الأئمة (عليهم السلام) بأعمالهم كاهتمامهم بعلم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، واللّه العالم.

وقوله: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي في يوم القيامة يخبركم بها

ص: 369


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 541-549.
2- ([2]) التفكر في القرآن، سورة البقرة 2: 108-109.
3- ([3]) شرح أصول الكافي، للمؤلّف 3: 149-151.

ليجازيكم عليها، وقيل: أي ستعلمون بحقيقة أعمالكم حينما يخبركم اللّه بها كما مرّ نظيره في الآية 94، واللّه العالم.

الخامس: قوله تعالى: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ...} الآية.

هؤلاء صنف آخر وهم المستضعفون، فقد أسلموا لكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم ولم ينافقوا، وبعض هؤلاء لم يخرجوا إلى غزوة تبوك تكاسلاً لا نفاقاً.

وقوله: {مُرْجَوْنَ} من الإرجاء بمعنى التأخير أي لم يعدهم اللّه بالمغفرة ولا بالعذاب مع علمه بما هو صانع بهم، ولم يخبر به إمّا لاختلاف صنعه فيهم، وإمّا لإرادة اللّه إبهام الأمر لئلّا يستهين الناس بالمعصية.

وقوله: {لِأَمْرِ اللَّهِ} أي لإرادته وقضائه فيهم، فلا يحكم فيهم إلاّ بعد انتهاء حساب سائر الخلق فيتأخر حسابهم عن غيرهم.

وقوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} لعدم دخول الإيمان في قلوبهم ولذنوبهم، فمن ضعف إيمانه كثرت ذنوبه.

وقوله: {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وذلك لإسلامهم وعدم نفاقهم، والحاصل: مقتضي العفو والعذاب موجود، وإن اللّه بعلمه وحكمته يقدر ويقضي فيهم ما يشاء.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ولم يقل غفور رحيم؛ إذ لا وعد لغفرانهم وثوابهم، بل عِلم بأحوالهم وحكمة في القضاء فيهم.

وفي مجمع البيان: «وهذا يدل على صحة مذهبنا في جواز العفو عن

ص: 370

العصاة؛ لأنه سبحانه بيّن أن قوماً من العصاة يكون أمرهم إلى اللّه تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء قبل توبتهم فعفا عنهم، ويدل أيضاً على أن قبول التوبة تفضل من اللّه سبحانه؛ لأنه لو كان واجباً لما جاز تعليقه بالمشيئة»((1)).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه الآية قال: «قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين، ثمّ إنهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا اللّه وتركوا الشرك، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار، فهم على تلك الحال إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم»((2)).

وقد ورد في بعض التفاسير أن شأن نزول الآية في الثلاثة الذين خلّفوا كما ستأتي قصّتهم في الآية 118، لكن الآية لا تنطبق عليهم بل هي في المستضعفين كما ورد في الروايات المتعددة((3))، واللّه العالم.

ص: 371


1- ([1]) مجمع البيان 5: 171.
2- ([2]) الكافي 2: 407.
3- ([3]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 534-536.

الآيات 107-110

اشارة

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ 107 لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ 108 أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ 109 لَا يَزَالُ بُنْيَٰنُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 110}

الصنف السابع: المنافقون المخرّبون

الصنف السابع:

107- {وَ} هم المنافقون المخربون، ومنهم {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا} لمضارّة المؤمنين {وَكُفْرًا} لإقامة وتقوية الكفر الذي كانوا يضمرونه {وَتَفْرِيقَا} أي لإيجاد الفرقة والشقاق {بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} لتختلف كلمتهم {وَإِرْصَادًا} مراقبة وإعداداً {لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بإيصال أخبار المسلمين إليهم {مِن قَبْلُ} أي قبل بناء المسجد، وهو أبو عامر الراهب عارض الإسلام من البداية ثمّ خطط مع هؤلاء المنافقين ليوصلوا إليه أخبار المسلمين وكان يريد تهييج الروم عليهم لكنه مات قبل الوصول إلى بغيته {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} لم نرد من بناء المسجد {إِلَّا} الفعلة {الْحُسْنَىٰ} بالصلاة والتوسعة على المصلين وتسهيل الأمر على الضعفاء،

ص: 372

{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} في حلفهم.

108- وحيث علمت سوء عملهم ونواياهم ف{لَا تَقُمْ} للصلاة {فِيهِ} في مسجد ضرار {أَبَدًا} حيث أرادوا إضفاء الشرعية لمسجدهم فطلبوا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يصلّي فيه {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ} أي لأجل تقوى اللّه وهو مسجد قبا {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي بداية هجرة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنوّرة {أَحَقُّ} أولى {أَن تَقُومَ فِيهِ} حين خروجك من المدينة إلى تلك المنطقة {فِيهِ} في مسجد قبا {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} من القذارات المادّيّة والمعنويّة {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} فالمسجد بني على التقوى وأهله يحبون التطهّر فهو أحق من مسجد بُني على النفاق وأهله منافقون كاذبون.

109- {أَفَمَنْ} الاستفهام إنكاري أي هل الذي {أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ} أي بناءه المادي والمعنوي {عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ} لأجل التقوى باجتناب المحارم {وَرِضْوَٰنٍ} لطلب رضا اللّه بفعل الطاعات {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ} المادي والمعنوي {عَلَىٰ شَفَا} شفير وحافة {جُرُفٍ} جانب محفور تحته لا أرضية صلبة له، وأصل الجرف هو جانب الوادي الذي حفرت السيول تحته فله ظاهر لا أساس له {هَارٖ} متصدّع متداع للسقوط {فَانْهَارَ} ذلك البناء {بِهِ} بهذا الباني {فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} يتركهم ولا يلطف بهم لمّا عاندوا ونافقوا.

110- وهؤلاء قد تمكّن النفاق في قلوبهم فلم ينفعهم لا وعظ ولا إخبار اللّه بنفاقهم ولا تخريب مسجدهم ف{لَا يَزَالُ بُنْيَٰنُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ} ما بنوه في قلوبهم وبنوه من مسجدهم {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي نفاقاً، والريبة شك مع

ص: 373

تهمة، وهذا يستمر {إِلَّا} أي حتى {أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} كناية عن موتهم فهذه القلوب لا قابلية لها للّهداية {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بنياتهم وأعمالهم {حَكِيمٌ} في فضحهم وأمره بهدم مسجدهم.

بحوث

الأوّل: في هذه الآيات يذكر اللّه تعالى طائفة أخرى من المنافقين وهم الذين يتآمرون على المؤمنين داخلياً بالإضرار بهم والتفريق بينهم وبترسيخ النفاق، وخارجياً بتأليب القوى العظمى عليهم بالتجسس لهم، وهؤلاء للتغطية على أعمالهم يختارون عنواناً دينياً كالمسجد ويحاولون أن يكسبوا الشرعية من الإسلام والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لكن اللّه تعالى يأمر بهدم مقرهم الذي بني على النفاق وعدم إعطاء الشرعية لهم، بل لا بدّ من الاحتفاء بالمؤمنين وبمساجدهم التي أقاموها على التقوى، ثمّ يبيّن اللّه عاقبة كل من الطائفتين.

وكان شأن نزولها أن أبا عامر الراهب - وكان من الخزرج - قد التحق بالكفّار في مكة واشترك في حروبهم ضد المسلمين، فلما فتح اللّه تعالى مكة لرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هرب إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام، وقد اتفق مع مجموعة من المنافقين الذين كانوا في منطقة قبا قرب المدينة أن يبنوا مسجداً ليكون محلاً لمؤامراتهم، وأن يرصدوا المسلمين ويبعثوا بأخبارهم إليه، وكان يريد تحريك الروم ليهاجموا المدينة وليخرجوا منها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمين.

لكن خطتهم بائت بالفشل فقد خرج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى غزو الروم، فألقى اللّه تعالى الرعب في قلوبهم وفي فترة بقاء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تبوك فتح اللّه

ص: 374

تعالى له فتحاً مبيناً فقد دخل ملك دومة الجندل في ذمة المسلمين ودفع الجزية، ودخلت بعض القبائل في معاهدات مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثمّ أسلم بعضهم، وكان في ذلك نصر للمسلمين.

فلما رجع رسول اللّه تعالى إلى المدينة أنزل اللّه تعالى هذه الآيات تخبره بحال هؤلاء المنافقين ومسجدهم، فأرسل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هدم مسجد ضرار، وخذل اللّه سبحانه أبا عامر الراهب فألقى عليه أمراضاً أهلكته بعد عذاب شديد((1)).

سبب اتخاذهم مسجد ضرار

الثاني: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ...} الآية.

عطف على {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} وما قبله، و{الَّذِينَ} مبتدأ وخبره إمّا {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}، وإمّا مقدّر أي ومنهم الذين اتخذوا.

وقد اتخذوه لأجل أربعة أمور:

1- قوله: {ضِرَارًا} مصدر باب المفاعلة، وكأن المقصود به المؤامرات التي أرادوا أن يحيكوها تحت غطاء الصلاة في المسجد، لأنهم كانوا يحتاجون إلى مكان يجتمعون بشكل طبيعي فيه من غير أن يثير انتباه أحد.

2- وقوله: {وَكُفْرًا} أي تقويةً للكفر الذي كانوا يضمرونه في قلوبهم، بحيث يحافظون عليه وينشرونه بين الناس؛ لأن العمل الجمعي المنظم يحفظ المعتقد - حقاً كان أو باطلاً - ، فالإنسان إذا كان في مجتمع يخالفه في المعتقد فإنه يضمحل ويذوب فيهم بعد حين لو لم ينظّم أمره ولم

ص: 375


1- ([1]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 552-556؛ مجمع البيان 5: 178-179؛ تفسير القمي 1: 305.

يجتمع مع أمثاله.

3- وقوله: {وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} باختلاف كلمتهم وتنازعهم عبر إثارة الفتن بين المؤمنين، وفي شأن النزول أرادوا تفرق أهل مسجد قبا عن الاجتماع فيه حيث كان اجتماعهم قوة للإسلام والمسلمين.

4- وقوله: {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الرصد المراقبة، وأرصد له أي راقب لأجله فهو التجسس وإيصال الأخبار إليه، والذي حارب اللّه ورسوله هو أبو عامر الراهب، وذلك حينما أراد المنافقون أن يجعلوه واسطة بينهم وبين الروم، و{مِن قَبْلُ} يتعلق بحارب لأنه كان في صفوف المشركين في بعض حروبهم مع المسلمين.

وقوله: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ} أي باتخاذ المسجد لم نرد إلاّ الخصلة التي هي أحسن الأمور، حيث زعموا أنهم أرادوا إقامة الصلاة فيه، والتوسعة على المصلين في مسجد قبا، والتسهيل على الضعفاء الذين كان يبعد عنهم مسجد قبا.

الثالث: قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ...} الآية.

بعد انكشاف حقيقة مسجد ضرار ومؤسّسيه كان لا بدّ من اتخاذ موقف، فنهى اللّه تعالى رسوله عن إقامة الصلاة فيه، وحيث إن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسوة فالنهي يشمل جميع المؤمنين، ولذا أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهدم ذلك المسجد، وبه انفرط عقد أولئك المنافقين بعد فضحهم وتخريب محل اجتماعهم لمؤامراتهم، ثمّ يقارن اللّه تعالى بين مسجد ضرار ومسجد قبا ويصف

ص: 376

المؤمنين المصلين فيه.

وقوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ} أي لا تصل فيه، وهذا صار اصطلاحاً في الصلاة يقال: قائم ليله، أي بالصلاة فيه.

وقوله: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وهو مسجد قبا حيث إنه اتخذ مسجداً قبل وصول الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى المدينة حيث مكث في قبا أياماً منتظراً أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) والفواطم عليهن السلام، فكان أساسه على التقوى، عكس ذلك المسجد الذي كان أساسه على الكفر والعصيان.

وقوله: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} أي حين خروجك من المدينة إلى تلك النواحي.

وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} بالطهارة المادّيّة عن القذارات وبالطهارة المعنويّة عن دنس الذنوب والخطايا، فأولئك أحبوا الضرار والكفر والتفريق والإرصاد وهؤلاء أحبوا التطهّر وشتان ما بينها.

الرابع: قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ...} الآية.

هذا كالتعليل للنهي عن الصلاة في مسجد ضرار والأمر بالصلاة في مسجد قبا، وذلك ببيان الفرق بين الفريقين وبين أعمالهما.

وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ} الاستفهام إنكاري ومصبّه الفرق بين الفريقين عن طريق بيان الفرق بين أعمالهما.

وقوله: {بُنْيَٰنَهُ} يشمل بنيان المسجد وبنيان الدين.

وقوله: {عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ} كأن المراد بالتقوى هنا اجتناب

ص: 377

المعاصي والتي تقي الإنسان النار، وبالرضوان امتثال الأوامر التي تُدخل الإنسان الجنّة.

{شَفَا جُرُفٍ هَارٖ} هذا تشبيه العمل الباطل ببناء لا أساس له وهو معرَّض للانهيار كل لحظة، نظير قوله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ}((1))، و{شَفَا} الشفير والحافة، و{جُرُفٍ} هو جانب الوادي الذي حفر السيل تحته فلم يبق منه إلاّ الظاهر، و{هَارٖ} أصله هائر وهو المتصدع المتداعي للسقوط، و(الانهيار) هو السقوط والهوي، فكما أن البناء على هكذا أرض يذهب هدراً بانهيار البناء كذلك من كان دينه الباطل فهو يقف على حافة جهنم يسقط فيها بمجرد موته.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} بيان أن هؤلاء ظالمون وقد فقدوا القابلية للّهداية بعنادهم فخذلهم اللّه ولم يلطف بهم وتركهم في طغيانهم يعمهون.

الخامس: قوله تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَٰنُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

كأنه تعليل لعدم هداية اللّه لهم، أي إن ما بنوا أمرهم عليه من دينهم وما بنوه من مسجد ضرار يوجب استمرارهم في النفاق، وفي التقريب: «أي ما بنوا عليه حياتهم من النفاق {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} سبباً للتزلزل والشك في قلوبهم، فإن الإنسان كيفما بنى حياته وقرّر منهجه يكون معتقده وضميره، فهم مقسّمو القلوب بين المؤمنين والكافرين، لا إلى هؤلاء ولا إلى

ص: 378


1- ([1]) سورة إبراهيم، الآية: 26.

هؤلاء»((1)).

وقوله: {إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} كناية عن أن النفاق مستمر في قلوبهم إلى حين موتهم؛ لأن تقطع القلب يوجب الموت المحتم، أو كناية عن عذاب قلوبهم في جهنم حيث حينذاك يعلمون حقيقة نفاقهم والضرر الذي لحق بهم منه.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كالتعليل لكل ما مرّ، فإن اللّه تعالى عليم بنواياهم وأفعالهم، وبحكمته نهى عن إقامة الصلاة في مسجد ضرار وأمر بهدمه وفضح المنافقين بهذه الآيات ودفع شرّهم وخطرهم.

ص: 379


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 466.

الآيتان 111-112

اشارة

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 111 التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ السَّٰئِحُونَ الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 112}

الصنف الثامن: المؤمنون المطيعون

الصنف الثامن:

111- وهم المؤمنون المطيعون ف{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم} وذلك بأن يصرفوها في مراضيه تعالى دائماً {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الباء للمقابلة، وهذا تعبير مجازي لأنه تعالى ضمن الثواب على الطاعات فكأنه ثمنها، فمن ذلك الاشتراء: أنهم {يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا لغرض دنيوي {فَيَقْتُلُونَ} الكفّار {وَيُقْتَلُونَ} فيكونون شهداء، وثواب الجنّة وَعَدَه {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ثابتاً لا تخلّف فيه {فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ} فقد ذكر في الكتب السابقة أيضاً لأنه من الأحكام العامة التي لا نسخ فيها {وَمَنْ} استفهام تقريري للتأكيد {أَوْفَىٰ} أكثر وفاء {بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} لأنه العليم القادر أمّا غيره فقد يعجز عن الوفاء أو يجهل تحقق الشرط، وحيث علمتم بهذه المعاملة {فَاسْتَبْشِرُواْ} أظهروا الفرح {بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} لأنكم أعطيتم فانياً قليلاً وأخذتم باقياً كثيراً، مع أن النفس والمال للّه

ص: 380

تعالى أيضاً فأعطيتم ما ليس لكم وأخذتم المقابل {وَذَٰلِكَ} البيع {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}لأنه نجاة دائم.

112- ثمّ وصف اللّه أولئك المؤمنين فقال: هم {التَّٰئِبُونَ} الراجعون إلى اللّه من ذنب أو من غير ذنب {الْعَٰبِدُونَ} الذين لا يعبدون إلاّ اللّه ولا يشركون به شيئاً {الْحَٰمِدُونَ} الذين يحمدون اللّه على كل حال في الشدة والرخاء {السَّٰئِحُونَ} وهم الصائمون {الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ} الذين يواظبون على الصلوات الخمس {الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} والعاملون به {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} والمنتهون عنه {وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} في جميع أحكامه يأتون بها على وجهها، والمتصفون بهذه الصفات مؤمنون {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بثواب الجنّة، أمّا من قاتل ولم يتصف بهذه الأوصاف فليس بمؤمن ولا بيع وعهد معه ولا وعد له بالجنّة.

بحوث

الأوّل: لما ذكر اللّه تعالى أصناف المتخلفين أعقبه بوصف المؤمنين تمهيداً لتطبيق تلك الصفات على المجاهدين، فالمؤمنون هم الذين يطلبون مرضاة اللّه تعالى بأنفسهم فيطيعونه تعالى ولا يعصونه وبأموالهم فيؤدّون الحقوق الواجبة ولا يصرفونها في الحرام، وقد شبّه اللّه تعالى عملهم وما وعدهم بتجارة رابحة لهم، فالمشتري هو اللّه تعالى، والبائع هو المؤمنون، والمبيع هو أموالهم وأنفسهم، والثمن هو الجنّة، ووثيقة البيع هو آياته في الكتب السماوية، ثمّ يبيّن أن هذا الوعد شامل لمن استشهد ولمن بقي حياً، ثمّ يبيّن أوصاف أولئك المؤمنين المبايَعين ليخرج من قاتل لأجل الدنيا.

ص: 381

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُالْجَنَّةَ...} الآية.

هذا وصف عام لجميع المؤمنين لأن هذه الآيات تبين الصفات العامة لمختلف أصناف الناس والتي انطبقت عليهم في غزوة تبوك.

وقوله: {اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بأن يصرفوا أنفسهم وأموالهم في مرضاة اللّه تعالى، بل لعل ما يصرفونه من أموال في نفقاتهم الخاصة ومتعتهم المباحة يندرج في ما اشتراه اللّه تعالى منهم.

وقوله: {يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} استئناف لبيان المصداق المقصود بيانه في هذه الآيات وهو الجهاد.

وقوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} لبيان أن هذا الوعد ليس خاصاً بالشهداء بل يشمل حتى المجاهدين الذين رجعوا عن الجهاد سالمين غانمين.

وقوله: {وَعْدًا} مفعول مطلق للتأكيد، وفعله {اشْتَرَىٰ} لأنه يتضمن الوعد.

وقوله: {فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ} أي هذا الوعد مذكور في هذه الكتب السماوية، فإنه من الحقائق الثابتة التي لا تتغيّر بتغيّر الشرائع ولا نسخ فيها، وكأن الغرض التأكيد على الوعد حيث إنّه مذكور في مختلف الكتب السماوية.

وقوله: {وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} استفهام تقريري للتأكيد، أي لا تخشوا الجهاد مع مخاطره ولا تخشوا عدم الوفاء بالوعد؛ لأن عدم الوفاء بالوعد إمّا لخبث أو جهل أو عجز، واللّه سبحانه منزّه عن كل ذلك، فقد يَعِدُ

ص: 382

المؤمن لكنه لا يتمكن من الوفاء بوعده لأنه طرأ عليه العجز أو كان جاهلاً بعجزه أو يجهل بالتزام الآخر بما وعده.

وقوله: {فَاسْتَبْشِرُواْ} بمعنى شدة الفرح حيث يظهر الفرح على صفحات الوجه والبشرة، وكانّ المقصود بيان أن التجارة رابحة؛ إذ لعلّ البعض يحزن على نقصان ماله أو الخطر على حياته أو يستثقل ترك بعض المعاصي وامتثال بعض الأوامر، فيقال لهم: إن هذه التجارة رابحة جداً بحيث لا بدّ أن تفرحوا بها فرحاً شديداً يظهر على أسارير وجوهكم؛ وذلك لأن أنفسكم وأموالكم ليست لكم بل هي للّه ومع ذلك يشتريها منكم، كما أن الأموال والأنفس فانية فلا يبقى الإنسان حتى لو بخل بها فسيموت قريباً والأموال تنتقل إلى غيره فما هو أفضل من إعطاء القليل الفاني مقابل الكثير الباقي؟!

وقوله: {وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} مرّ أن الفوز النجاة من الهلكة، وكأن فيه بيان أنه لو لم تبايعوا لخسرتم وهلكتم.

الثالث: قوله تعالى: {التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ السَّٰئِحُونَ الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ...} الآية.

لمّا ذكر في الآية السابقة مبايعة اللّه المؤمنين، بيّن في هذه الآية الأوصاف التي تجعل الإنسان مؤمناً ليكون طرفاً للبيع موعوداً بالجنّة، وهذه الأوصاف فردية واجتماعية، أمّا الفردية فهي رجوعهم إلى اللّه وعبادته وعدم الشرك به، وحمده باللسان، والامتناع عما نهى عنه، والإتيان بما أمر به، وأمّا الاجتماعيّة فهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ حدود اللّه تعالى.

ص: 383

بيان أوصافهم

1- قوله: {التَّٰئِبُونَ} التوبة هي الرجوع، فأمّا من العبد فهي الرجوع إلىاللّه وطاعته، وأمّا من اللّه تعالى فهي الرجوع بلطفه ورحمته إلى العبد، وقد تكون توبة العبد عن ذنب وقد لا تكون عن ذنب، فتوبة اللّه على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بزيادة لطفه ورحمته، ومن النبي زيادة طاعته وخشوعه، ورفع {التَّٰئِبُونَ} بالقطع وللمدح.

2- وقوله: {الْعَٰبِدُونَ} بمعنى عبادته وعدم عبادة غيره، وهذان وصفان يرتبطان بالقلب ثمّ بالعمل.

3- وقوله: {الْحَٰمِدُونَ} وصف يرتبط باللسان بمدحه تعالى والثناء عليه على كل حال سواء في الشدة أم الرخاء.

4- وقوله: {السَّٰئِحُونَ} ورد في الروايات تفسيره بالصوم، وأصل السياحة هو السير في البلاد، وفي الكشّاف: «الصائمون شبّهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم»((1))، وهذا وصف يرتبط بترك المعاصي.

5- {الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ} أي المقيمون للصلوات، وهذا وصف يرتبط بامتثالهم الواجبات.

6- {الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} وصفان يرتبطان بالحالة الاجتماعيّة ممّا يرتبط بعمل غيرهم، وقد مرّ أن المعروف هو ما عرف حسنه العقل والشرع، والمنكر ما استقبحاه.

7- {وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} وصف يرتبط بالحالة الاجتماعيّة ممّا

ص: 384


1- ([1]) الكشّاف 2: 314.

يرتبط بعملهم أنفسهم كإجراء الحدود والتعزيرات الشرعية.

وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} تأكيد على أن هؤلاء الموصوفين بهذه الأوصاف هم مؤمنون فالبشارة بالجنّة تشملهم.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لقي عبّاد البصري عليّ بن الحسين (عليه السلام) في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينته، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم...}! فقال له علي بن الحسين (عليه السلام) : أتمّ الآية، فقال: {التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ...}، فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج»((1)).

ص: 385


1- ([1]) الكافي 5: 22.

الآيات 113-116

اشارة

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ 113 وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٌ 114 وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 115 إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ 116}

لما ذكر أصناف المسلمين أتبعه بذكر المشركين، وأنه كما يجب جهاد المشركين يجب التبرؤ منهم فقال:

113- {مَا كَانَ} أي لا يجوز {لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ} أي كان المشركون {أُوْلِي قُرْبَىٰ} أصحاب قرابة معهم {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ} للنبي والمؤمنين {أَنَّهُمْ} أن أولئك المشركين {أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ} إمّا بموتهم على الشرك أو بوحي من اللّه بأنهم لا يؤمنون أبداً، وأمّا قبل التبيّن فيجوز لأن الاستغفار حينئذٍ دعاء لهم بالهداية.

114- {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ} آزر وكان جدّه لأمه أو عمّه {إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا} وعد آزر {إِيَّاهُ} إبراهيم (عليه السلام) حيث وعد آزر أن يؤمن فاستغفر إبراهيم له ليهديه اللّه تعالى، {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} لإبراهيم (عليه السلام) {أَنَّهُ} أن آزر {عَدُوٌّ لِّلَّهِ} معاند ومصرّ على الشرك بأن مات على الشرك أو أخبره

ص: 386

اللّه بعدم إيمانه {تَبَرَّأَ مِنْهُ} فترك الاستغفار له وإنّما كان يستغفر له قبل ذلكحيث {إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ} كثير الدعاء والتضرّع {حَلِيمٌ}.

115- {وَ} أمّا الذين كانوا يستغفرون للمشركين قبل نزول هذا الحكم فلا بأس عليهم؛ إذ {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا} أي يحكم بضلالهم بأعمال ارتكبوها قبل الأمر والنهي {بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ} إلى الإيمان {حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} أي ما يجب عليهم أن يتركوه {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعلم بحالهم قبل نزول الأحكام وبعده.

116- فعليكم أن ترجحوا رضا اللّه بطاعته على قراباتكم ف{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ} يتولى شؤونكم {وَلَا نَصِيرٖ} ينصركم على أعدائكم.

أوصاف المشركين والتبرؤ منهم

بحوث

الأوّل: لعلّ وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها هو أن اللّه تعالى لما ذكر أصناف المسلمين من المؤمنين والمنافقين والعصاة أتبعه بذكر المشركين لتتمّ الأقسام، أو لمّا ذكر جهاد الكفّار والغلظة عليهم وهم أحياء أتبعه بذكر حالهم وهم أموات.

فبيّن اللّه تعالى عدم جواز الاستغفار لهم بعد تبيّن أنهم أصحاب الجحيم إمّا بموتهم على الشرك وإمّا بإخبار اللّه تعالى بالطبع على قلوبهم.

ثمّ يتم الجواب عن سؤال أن إبراهيم (عليه السلام) قد استغفر لآزر وكان مشركاً؟

والجواب: أن آزر كان قد وعد إبراهيم (عليه السلام) بأن يؤمن لذا دعا إبراهيم (عليه السلام) ليهديه اللّه تعالى فيغفر له، ولا بأس بالدعاء لهداية الكافر، ثمّ

ص: 387

لمّا تبيّن لإبراهيم (عليه السلام) إصرار آزر على الشرك - إمّا لموته مشركاً أو بوحيمن اللّه بعناده - ترك استغفاره وتبرأ منه.

ثمّ يجاب عن سؤال آخر أن المسلمين كانوا يستغفرون للمشركين قبل نزول هذا الحكم فكيف شأنهم؟

والجواب: أن اللّه لا يعاقب الناس على ما ارتكبوه قبل تشريع الأحكام عليهم، وإنّما يحكم بضلالهم إذا شرّع الأحكام فعصوه.

ثمّ يعظ اللّه تعالى المسلمين بأن يرجحوا رضاه على عاطفتهم؛ إذ لا ينفعهم أقرباؤهم المشركون، حيث إنّ اللّه تعالى مالك لكل شيء ولا ولي ولا نصير من دونه.

الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَىٰ...} الآية.

قوله: {مَا كَانَ} أي لا يجوز لهم، وفي التقريب: «فإن الاستغفار أي طلب غفران اللّه لعدو اللّه لا يصح؛ إذ هو غير قابل للمغفرة، وذكر بعض المفسرين: أن بعض المسلمين قالوا للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : هل لنا أن نستغفر لآبائنا الذين ماتوا على الكفر، فنزلت هذه الآية، لكن الظاهر أن ذلك غير طلب الغفران للكافر الحيّ، بمعنى طلب هدايته من اللّه ليستحق الغفران، فإذا قال: اللّهم اغفر له، عنى: اهده ليكون قابلاً للمغفرة...، كما أن الظاهر أن الخيرات للأقارب الكفّار الذين ماتوا لا بأس بها؛ فإن ذلك موجب لتخفيف العذاب، وهو غير الاستغفار بطلب المغفرة وقد ورد بذلك أحاديث كثيرة»((1)).

ص: 388


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 470-471.

وقوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ...} علمهم به إمّا لموت ذلك الكافر على الكفرأو بوحي من اللّه أنهم لا يؤمنون، وأمّا قبل التبيّن فلا بأس بالاستغفار، وأمّا وجه عدم جواز الاستغفار لهم لأنهم أعداء اللّه تعالى ولا يصح التودّد إلى أعداء اللّه سبحانه والاستغفار نوع تودّد إليهم.

سبب استغفار إبراهيم لآزر

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا إِيَّاهُ...} الآية.

في استغفاره له احتمالات:

إمّا كان دعاء ليهديه اللّه فإذا هداه غفر له ما سلف من ذنوبه.

وإمّا أنه لم يستغفر له وإنّما وعده بأن يستغفر له لو آمن، فلما تبين لإبراهيم (عليه السلام) إصرار آزر على الشرك لم يستغفر له - لأن وعده كان بشرط - بل تبرأ منه.

وإمّا كان استغفاره قبل نهيه عن الاستغفار له، والأوّل أظهر.

وقد مرّ أنه لم يكن آزر والد إبراهيم بل أطلق عليه الأب إمّا لكونه عمه أو جدّه لأمه.

وقوله: {إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} أي وعد آزر إبراهيم (عليه السلام) بالإيمان فلذا استغفر له، وقيل: وعد إبراهيم (عليه السلام) آزر بأن يستغفر له كما قال تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٖ}((1))، وقال: {قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}((2)).

ص: 389


1- ([1]) سورة الممتحنة، الآية: 4.
2- ([2]) سورة مريم، الآية: 47.

وقوله: {عَدُوٌّ لِّلَّهِ} فالكفر عن عناد وإصرار بعد تبيّن الحق هو عداوة للّهتعالى، بل حتى لو كان عن جهل وقصور فهو عداوة له تعالى وإن عبده المشرك.

وقوله: {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وذلك بقطع الاستغفار أو بالدعاء عليه، فإن التبرء هو المزايلة والابتعاد، وهو كما يتحقق بالدعاء عليه ولعنه يتحقق بترك الاستغفار له مع تبيّن حاله.

وقوله: {أَوَّٰهٌ حَلِيمٌ} كأن هذا تعليل لاستغفاره له، و{أَوَّٰهٌ} صيغة مبالغة من أوه، والمرادكثير الدعاء، و{حَلِيمٌ} بمعنى تحمل جهل الجاهل، فرغم أن آزر كان يخاشن إبراهيم (عليه السلام) إلاّ أن إبراهيم كان يحلم عليه، ولأن إبراهيم كان كثير الدعاء استغفر له.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ...} الآية.

لا بدّ للمؤمن أن يكون مؤتمراً بأوامر اللّه تعالى منزجراً عن نواهيه فتكليفه الطاعة، فإذا لم ينزل اللّه الحكم بحرمة شيء فلا غضاضة عليه لو ارتكب ذلك الشيء، وكذا لو لم يشرع وجوب شيء فلم يفعله، وهو مثاب إن عمل بالواجب قبل نسخه، قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}((1))، وقال: {لَّوْلَا كِتَٰبٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}((2))، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمْ}((3))، وكان المسلمون يستغفرون للمشركين

ص: 390


1- ([1]) سورة الإسراء، الآية: 15.
2- ([2]) سورة الأنفال، الآية: 68.
3- ([3]) سورة البقرة، الآية: 143.

قبل نزول النهي، فيقال لهم: إن اللّه لا يؤاخذكم بذلك لأنه كان قبل النهي.

وقوله: {لِيُضِلَّ قَوْمَا} أي ليحكم بضلالهم، أو يعاقبهم على تلك الأفعال بأن يخذلهم فلا يلطف بهم حتى يضلوا.

وقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ} أي حكم بإيمانهم، أو وفّقهم إلى الإيمان.

وقوله: {حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} أي ما يرضيه عما يسخطه من أوامره ونواهيه، و{حَتَّىٰ} لانتهاء الغاية بمعنى أنه إذا بيّن لهم فخالفوا يضلّهم.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ}.

كأنه تعليل لعدم جواز الاستغفار للمشركين حتى لو كانوا أقرباء، بأنكم لماذا تستغفرون لهم، هل ليتولوا أموركم، أم لينصروكم؟ وليس لهم من ذلك شيء، بل لا ولي ولا ناصر من دون اللّه؛ إذ هو المالك لكل شيء، وفي التقريب: «إن المؤمن الذي يبيع نفسه للّه قد ربح كل شيء وإن قطع صلته بأقرب الناس إليه حتى في الاستغفار»((1)).

وقد تضمنت هذه الآية أربعة أمور: مالكية اللّه تعالى لكل شيء، وأن الحياة والموت بيده، وأن النفع منه، وأن دفع الضرر منه، والحاصل: كل شيء له وأنتم عاجزون عن كل شيء من دونه، إلاّ لو وصلتم حبلكم به فيتولى أموركم وينصركم على أعدائكم.

ص: 391


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 474.

الآيات 117-119

اشارة

{لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ 117 وَعَلَى الثَّلَٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 118 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ 119}

ثمّ يبيّن اللّه تعالى جزاء المجاهدين والتائبين بلطفه عليهم فقال:

117- {لَّقَد تَّابَ} أي عطف ولطف {اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} من غير ذنب وإنّما زيادة لطف ورحمة {وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} بطاعتهم رسول اللّه {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} اتبعوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {فِي سَاعَةِ} أي وقت {الْعُسْرَةِ} أي الصعوبة والضيق في المسير إلى غزوة تبوك، وكانت توبته {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ} أي قرب أن ينحرف عن الثبات {قُلُوبُ فَرِيقٖ} جماعة {مِّنْهُمْ} من المهاجرين والأنصار لأجل صعوبة الموقف فأرادوا البقاء في المدينة أو بقوا لكنهم التحقوا بعد ذلك، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} بتسبيب ثباتهم {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} لذلك تاب عليهم.

118- {وَ} تاب اللّه {عَلَى الثَّلَٰثَةِ} وهم كعب وهلال ومرارة {الَّذِينَ خُلِّفُواْ} تُركوا في المدينة بإغواء الشيطان فخالفوا أمر اللّه ورسوله {حَتَّىٰ إِذَا

ص: 392

ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي بسعتها لأن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر بمقاطعتهم فلم يكلّمهم أحد {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بالوحشة والغم الذي أصابهم {وَظَنُّواْ} أي أيقنوا {أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} أي لا مفرّ من سخط اللّه {إِلَّا إِلَيْهِ} بأن يستغفروا حتى يغفر لهم {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي عطف اللّه عليهم {لِيَتُوبُواْ} ليرجعوا إلى طاعته فإنه لا يتوب الإنسان إلاّ بتوفيق من اللّه {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} كثير الرجوع والقبول للتوبة {الرَّحِيمُ}.

119- وحيث علمتم أن اتّباع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبب توبة اللّه عليكم ف{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} خافوا عقابه وذلك بالالتزام بأوامره والانتهاء عن نواهيه {وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ} معيّة عملية باتّباعهم، وهم آل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

جزاء المجاهدين والتائبين

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر اللّه تعالى مواقف مختلف الأصناف من الجهاد بين في هذه الآيات والتي بعدها جزاء المجاهدين في سبيل اللّه تعالى وكذا الذين عصوا لكنهم ندموا وتابوا توبة حقيقية، فاللّه تعالى يعطف عليهم، وكل مشقة نالوها في طريق الجهاد وكل ما أنفقوه في سبيل اللّه يكتب لهم بذلك عمل صالح ومن ثمّ الجزاء الحسن.

ثمّ يبيّن أنه كما يجب اتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك يجب اتّباع الصادقين وهم آل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الثاني: قوله تعالى: {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ...} الآية.

العبد يتوب إلى اللّه بطاعته وترك معصيته، واللّه يتوب على العبد بلطفه

ص: 393

وعنايته، وليست التوبة خاصة بالمذنب بل أعم فقد تكون توبة من غيرذنب.

ثمّ إن توبة العبد - ككل طاعة - إنّما تكون بتوفيق من اللّه تعالى، فلذا يتوب اللّه على العبد فيُوفّق العبد للتوبة إلى اللّه فيقبل اللّه توبته، فكل توبة من العبد تسبقها وتلحقها توبة من اللّه تعالى عليه.

وقوله: {تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} قيل: إنّما ذكر اسم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الافتتاح تحسيناً للكلام ولأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سبب توبتهم ولذا ورد: «لقد تاب اللّه بالنبي على المهاجرين والأنصار»((1))، وهذه التوبة الأولى حيث كانت السبب في توفيقهم للخروج إلى الجهاد.

وقوله: {وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} وهؤلاء بين من تاب اللّه عليه من غير ذنب بزيادة الفضل والرحمة عليه، وبين من تاب عليه بغفران معاصيه.

وقوله: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي اتّبعوا النبي في الإيمان والجهاد، فلا تشمل الآية المنافقين الذين أرادوا اغتيال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهم في معسكر المسلمين في غزوة تبوك وقد همّوا بما لم ينالوا، فالتبعية إنّما تكون في كل شيء وليس في مجرد الخروج إلى الجهاد.

وقوله: {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (الساعة) هي جزء من الزمان - قليلاً كان أو كثيراً - والمراد هنا مدّة غزوة تبوك من الخروج من المدينة إلى الرجوع إليها، و{الْعُسْرَةِ} أي الصعوبة والمشقة، فقد كانت عسرة من جهة المركب والزاد والماء والنفقة والحر والتعب وخوف الأعداء وغير ذلك.

ص: 394


1- ([1]) مجمع البيان 5: 196.

وقوله: {يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ} زيغ القلب انحرافه عن الحق، حيثأراد بعضهم البقاء في المدينة أو بقوا لفترة قصيرة لكن حملوا أنفسهم والتحقوا بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قصة توبة المتخلفين الثلاثة

وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} هذه توبة ثانية وكأنها خاصة بالذين كادت قلوبهم أن تزيغ ممّا سببت لهم الثبات وعدم اتّباع زيغ القلب، فالضمير في {عَلَيْهِمْ} للفريق الذي كاد أن يزيغ قلوبهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَٰثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ...} الآية.

أي تاب اللّه على ثلاثة أشخاص من الذين عصوا اللّه ورسوله فلم يخرجوا إلى تبوك لكنهم ندموا على فعلتهم، وقد أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمقاطعتهم اجتماعياً، فخرجوا إلى خارج المدينة نادمين مستغفرين مستقيلين عثرتهم، فعن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) : «أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا توجّه إلى غزاة تبوك تخلّف عنه كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الرافعي، تخلّفوا عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أن يتحوَّجوا ويلحقوه، فلهوا بأموالهم وحوائجهم عن ذلك، وندموا وتابوا، فلما رجع النبي مظفّراً منصوراً أعرض عنهم، فخرجوا على وجوههم وهاموا في البريّة مع الوحوش وندموا أصدق ندامة، وخافوا أن لا يقبل اللّه توبتهم ورسوله لإعراضه عنهم، فنزل جبرئيل (عليه السلام) فتلا على النبي، فأنفذ إليهم من جاء بهم، فتلا عليهم وعرّفهم أن اللّه قد قبل توبتهم»((1))، وفي تفسير القمي عن أحد

ص: 395


1- ([1]) البرهان في تفسير القرآن 4: 573.

الثلاثة - وهو كعب - قال: «فلما وافى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استقبلناه نهنئه بالسلامة، فسلّمنا عليه فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا، وسلّمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام، فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، وكنا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا أحد ولا يكلّمنا...، فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حلّ بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلّمنا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا إخواننا ولا أهلونا فهلمّوا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب اللّه علينا أو نموت...» الخ((1)).

وقوله: {الَّذِينَ خُلِّفُواْ} أي لم يكن تخلّفهم عن سبب مشروع بل عن مخالفة، والذي خلّفهم الشيطان، وما ورد في قراءته ب(خالفوا)((2)) فلعلّ المراد به التفسير.

وقوله: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} حيث قاطعهم الرسول والناس وأهلوهم، ومن كان كذلك يشعر بضيق الأرض عليه مع أنها وسيعة، فالشعور بالضيق نفسي.

وقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} كناية عن شدة الغم والوحشة، وروي أنهم حلفوا أن لا يكلّم بعضهم بعضاً((3)).

وقوله: {وَظَنُّواْ} الظن هنا بمعنى اليقين، ولعل استعمال الظن هنا باعتبار المتعلّق لأنهم كانوا يحتملون أن لا يقبل اللّه توبتهم، فكانوا يعلمون أنه لا ملجأ إلاّ إلى اللّه لكن من غير يقين بقبوله لهم.

ص: 396


1- ([1]) راجع التفصيل في تفسير القمي 1: 296؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 471-472.
2- ([2]) مجمع البيان 5: 192.
3- ([3]) راجع تفسير القمي 1: 298.

وقوله: {مِنَ اللَّهِ} أي من سخطه عليهم بتركهم الجهاد.

وقوله: {إِلَّا إِلَيْهِ} بأن يتوبوا إليه ويستغفروه حتى يرضى عنهم.

وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} أي لمّا علم اللّه تعالى صدق نياتهم عطف عليهم بعد إعراضه عنهم وبذلك وُفّقوا إلى التوبة.

فحاصل الآية أنّ هؤلاء ضاقت عليهم الأرض وأنفسهم فعطف اللّه عليهم بأن وفقهم للتوبة فتابوا فقبل اللّه توبتهم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تعليل لتوبته عليهم.

الكون مع الصادقين (عليهم السلام)

الرابع: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّٰدِقِينَ}.

لما ذكر اتّباعهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ساعة العسرة أمرهم باتّباع الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه الآية قال: «الصادقون هم الأئمة والصديقون بطاعتهم»((1))، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «مع علي بن أبي طالب»((2))، وعنه (عليه السلام) : «مع آل محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »((3))، وغيرها روايات كثيرة.

والمعيّة هنا بمعنى الاتّباع في كل شيء من العقائد والأقوال والأفعال، وليس المراد المعيّة في المكان، ولا المراد مجرد الانضمام والعمل كعملهم ولو كان المقصود ذلك لقال: وكونوا من الصادقين.

ثمّ إن اللّه لا يأمر باتّباع من يحتمل صدور المعصية عنه اتّباعاً مطلقاً، بل إذا أمر باتّباعه فإنّما يأمر بذلك مادام على طاعة اللّه؛ إذ لا طاعة لمخلوق

ص: 397


1- ([1]) الكافي 1: 208.
2- ([2]) أمالي الشيخ الطوسي: 255.
3- ([3]) مجمع البيان 5: 199.

في معصية الخالق، فإذا أمر اللّه بإطاعة شخص أو جماعة إطاعة مطلقة وفي كلالحالات دلّ ذلك على عصمتهم وعدم احتمال صدور المعصية أو الخطأ عنهم أبداً، وفي هذه الآية الأمر بالكون مع الصادقين مطلق شامل لكل الحالات والأزمنة، فدلّت الآية على عصمة هؤلاء الصادقين، وقد اتفقت الأمة على عدم عصمة أحد من الصحابة والتابعين، ولم يدّع أحد من الأمة عصمة أحد إلاّ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، فتنطبق الآية عليهم، ولولا ذلك لم يوجد مصداق للصادقين المذكورين في الآية.

وعن المحقق الطوسي: «وجه الاستدلال بها أن اللّه أمر كافة المؤمنين بالكون مع الصادقين، وظاهر أن ليس المراد به الكون معهم بأجسادهم، بل المعنى لزوم طرائقهم ومتابعتهم في عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم، ومعلوم أن اللّه لا يأمر عموماً بمتابعة من يعلم صدور الفسق والمعاصي عنه مع نهيه عنها، فلا بدّ أن يكونوا معصومين لا يخطؤون في شيء حتى تجب متابعتهم في جميع الأمور، وأيضاً اجتمعت الأمة على أن خطاب القرآن عام لجميع الأزمنة لا يختص بزمان دون زمان فلا بدّ من وجود معصوم في كل زمان ليصح أمر مؤمني كل زمان بمتابعتهم»((1)).

ص: 398


1- ([1]) بحار الأنوار 24: 33؛ وراجع كشف المراد: 503؛ والقول السديد: 353.

الآيتان 120-121

اشارة

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّٖ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَٰلِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 120 وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 121}

ثمّ بعد التوبة يأتي ذكر ثواب العمل بعدم التخلف فقال:

120- {مَا كَانَ} لا يحق وهو خبر يراد به النهي {لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ} خصّهما بالذكر لتوجيه الأمر بالجهاد إليهم غالباً {أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ} فلا يخرجوا معه إلى الجهاد {وَلَا} يحق لهم أن {يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي يؤثروا أنفسهم عليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يطلبوا الراحة والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مشقة {ذَٰلِكَ} النهي عن التخلف والرغبة {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} عطش {وَلَا نَصَبٌ} تعب {وَلَا مَخْمَصَةٌ} جوع شديد {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فالثواب لمن قصد القربة لا من قصد الدنيا {وَلَا يَطَُٔونَ} يضعون أقدامهم بمعنى لا يدخلون {مَوْطِئًا} موضعاً من بلاد العدو حيث {يَغِيظُ الْكُفَّارَ} والغيظ أشد الغضب {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّٖ نَّيْلًا} أي لا يصيبون الأعداء أمراً من قتل أو غنيمة منهم أو أسر ونحوها {إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ} بما أصابهم وما نالوه {عَمَلٌ صَٰلِحٌ} طاعة

ص: 399

مقبولة، وسبب الكتابة{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ} لا يهلك ولا يفني بل يبقي وينمي {أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا بالجهاد ومكابدة صعوباته.

121- {وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} أي قليلة أو كثيرة {وَلَا يَقْطَعُونَ} يعبرون {وَادِيًا} أرضاً {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} وإنّما يكتب {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جزاءً أحسن من أعمالهم.

ثواب المجاهدين وأصناف أعمالهم

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر اللّه تعالى توبته على المجاهدين وعلى الثلاثة، يذكر ثوابه لهم بأن يكتب كل أعمالهم التي عملوها في سبيل اللّه تعالى ليجزيهم بأحسن الجزاء، لكن ذلك بعد أن أمرهم بالطاعة ونهاهم عن التخلّف وترجيح الراحة.

وقد ذكر اللّه تعالى أصنافاً من أعمالهم، فمنها: صعوبات في أبدانهم كالعطش والجوع والتعب، ومنها: إيقاعهم بالعدو كدخول أراضيه وإغاظته والنيل منه، ومنها: إنفاقهم في الجهاد قليلاً كان أو كثيراً، ومنها: سائر أعمالهم التي كانت مقدمة للجهاد كالسفر وعبور الصحاري، كل ذلك مكتوب مثاب عليه بشرط أن يكون في سبيل اللّه.

وأمّا الثواب فهو أحسن من عملهم كما سيأتي.

الثاني: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ...} الآية.

{مَا كَانَ} خبر يراد به الإنشاء أي لا يحق لهم ولا يجوز، والآية عامة لكل سفر كما لو أمرهم بالحج معه إلاّ أن شأن نزولها وسياقها الجهاد، بأن

ص: 400

يخرج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الجهاد ويبقوا خلفه في موطنهم.

وغير خفي أن الحكم عام لجميع المسلمين إلاّ أن تخصيص أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب بالذكر لأن أكثر أوامر الجهاد تتعلق بهم، وأمّا غيرهم فقليلاً ما كانوا يؤمرون به، وهذا طبيعي لأن المدينة هي العاصمة ولأن إخراج هؤلاء حين خروج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أسهل وأقلّ كلفة ومؤونة، أو لأن الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا من هؤلاء فلذا توجه الكلام إليهم لئلّا يكرّروا فعلتهم.

وقوله: {وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} يقال: رغب عنه إذا أعرض عنه ولم يُرده، والباء سببيّة، والمعنى لا يرجحوا أنفسهم على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يكابد الرسول الصعاب والمشقّات وهم في راحة ورفاهية، بل عليهم أن يواسوه بل يدفعوا عنه الصعاب بتحملهم لها، وذلك لعظيم حقه عليهم فهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن اللّه تعالى، كما أنه أعزّهم وأمكنهم وأغناهم بالإسلام.

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

بيان سبب النهي عن التخلّف وعن الرغبة، بأن العمل عمل صالح وإحسان واللّه يجازي عليه فعليهم أن لا يتركوه.

ثمّ إن تلك الأعمال أنواع ذكرها اللّه تعالى في هذه الآية والآية التي تليها وهي:

1- قوله: {ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ} صعوبات في البدن، والظمأ هو

ص: 401

العطش، قيل: هو عطش ناشئ من قلة الماء أو عدم وجدانه، كما أن المخمصة جوع ناشئ من قلة الطعام، وأصل الخمص بمعنى ضمور البطن، والنصب هو العناء والإعياء ويدل على شدة التعب.

2- قوله: {وَلَا يَطَُٔونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} الوطء هو وضع الأرجل على الشيء، والموطئ هو الأرض توطأ بالأقدام والحوافر، والمراد دخول أراضي العدو وإغاظته بذلك، أو عموم الكفّار حيث كل تقدم من المسلمين يغيظهم، والغيظ أشد الغضب.

3- وقوله: {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّٖ نَّيْلًا} نال منه بمعنى أصابه بما يزعجه سواء بكلام أم فعل، والمراد هنا إصابة العدو بالقتل والأسر والغنيمة منه ونحو ذلك.

ولا يخفى لطف الترتيب بين هذه الثلاثة، فأوّلاً يتحركون للجهاد بصعوباته البدنية، ثمّ يغيظون الكفّار، ثمّ يقاتلونهم ويصيبونهم.

وقوله: {كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَٰلِحٌ} أي كل ذلك عمل صالح وهو مكتوب مذخور، فلماذا التخلّف؟!

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} تعليل للكتابة، وبيان أنهم محسنون بأعمالهم هذه، ولطف اللّه وفضله ورحمته سبب جزائهم، فلا تذهب أعمالهم هباءً منثوراً.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ...} الآية.

4- قوله: {نَفَقَةً} أي ما ينفقونه في فترة خروجهم إلى رجوعهم، ثمّ إنه

ص: 402

لم يذكر هنا في سبيل اللّه ولعل ذلك للتعميم لما ينفقونه على أنفسهم من مأكل وملبس ونحوهما فقد لا يقصد به الإنسان القربة لكن اللّه بفضله يكتبه لهم ويجازيهم عليه، ولعلّه لذلك لم يقل إنه عمل صالح، عكس الأمور الثلاثة المذكورة في الآية السابقة فأن يأكل الإنسان طعاماً إنّما هو لحاجته وللذّته ولدفع ألم الجوع عنه فلا يعبّر عنه بأنه عمل صالح، لكن اللّه تعالى بفضله يكتبه لهم ويجزيهم عليه.

5- وقوله: {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} الوادي هو المنخفض بين المرتفعات ويكون مسيلاً عادة، ثمّ استعمل في كل صحراء وبَرّ، فالمعنى أن في سفرهم أجراً حتى لو لم يكن فيه تعب.

وقوله: {أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إنّما يكتبها ليجزيهم عليها، وهو إمّا بمعنى أحسن الجزاء على عملهم، أو يجزيهم على أحسن أعمالهم، أو يجزيهم أحسن من أعمالهم لأن اللّه يضاعفها، أو هذا تعبير يتضمن غفران ذنوبهم أيضاً لأن الطاعات أحسن الأعمال والمعاصي أسوؤها فلا يجازيهم اللّه إلاّ على الطاعات التي هي أحسن أعمالهم أمّا الأسوء فيغفرها لهم، واللّه العالم.

ص: 403

الآية 122

اشارة

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ 122}

النفر لطلب العلم

وحيث أمر اللّه الجميع بالجهاد استثنى منهم المتفقّهين فقال:

122- {وَمَا كَانَ} خبر يراد به النهي {الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ} ليخرجوا إلى جهاد العدو {كَافَّةً} جميعاً {فَلَوْلَا} حث وتحريض {نَفَرَ} خرج مسرعاً إلى المدينة {مِن كُلِّ فِرْقَةٖ} الجماعة الكثيرة {مِّنْهُمْ} من المؤمنين المجاهدين {طَائِفَةٌ} جماعة قليلة {لِّيَتَفَقَّهُواْ} ليفهموا بدقة {فِي الدِّينِ} من عقائد وأحكام وأخلاق وكل ما يرتبط بالدين {وَلِيُنذِرُواْ} ليخوّفوا بعذاب اللّه {قَوْمَهُمْ} وهم النافرون للجهاد {إِذَا رَجَعُواْ} من المدينة بعد تفقههم {إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ} لعلّ قومهم {يَحْذَرُونَ} أي يتجنبون عمّا أنذروا فيه.

بحوث

الأوّل: ظاهر السياق ارتباط هذه الآية بما قبلها، فإن اللّه تعالى لمّا أمر الجميع بالجهاد استثنى منهم جماعة قليلة لكي لا يخرجوا إلى الجهاد بل ليخرجوا إلى طلب العلم، حيث إنه أهم من جهاد المجاهدين فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عزّ وجلّ الناس في صعيد واحد، ووضعت الموازين فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء،

ص: 404

فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء»((1)).

فهؤلاء لا يجب عليهم الجهاد لانشغالهم بالأهم، وإنّما يجب الجهاد على الباقين إمّا بنحو الفرض العيني إذا لم يوجد من فيه الكفاية، وإمّا الفرض الكفائي إذا لم يكن حاجة لجميعهم، والحاصل: أن وجوب الجهاد - عينياً أو كفائياً - مرفوع عن الذين ينفرون إلى طلب العلم بالدين، ثمّ بعد ذلك عليهم أن يرجعوا إلى قومهم النافرين للجهاد فيعلّمونهم ما تعلّموه؛ لأن الغرض من الجهاد إعزاز الدين ونشره ولا نفع في الجهاد مع جهل الناس بالدين وانحرافهم عنه.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ...} الآية.

أي لا يستقيم الأمر بخروج الجميع للجهاد، وقيل: الآية مستقلة لا ارتباط لها بما قبلها، بل بيان مطلب آخر أي كما يجب النفر للجهاد كذلك يجب النفر لطلب العلم لكن لا يجب ذلك على جميع المؤمنين بل على القليل منهم، وقيل غير ذلك، وما ذكرناه أنسب بالسياق وأوفق بعدم الحذف والتقدير.

وقوله: {لِيَنفِرُواْ} اللام لتقوية النفي في {مَا كَانَ} فهي للتأكيد.

وقوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ} قد مرّ أن النفر هو الخروج مسرعاً والمراد هنا الخروج لطلب العلم كما أن {لِيَنفِرُواْ} هو الخروج للجهاد.

وقوله: {فِرْقَةٖ} الفرقة هي الجماعة المستقلة عن الناس ولا تطلق إلاّ على الجماعة الكثيرة كالقبيلة ونحوها.

ص: 405


1- ([1]) من لا يحضره الفقيه 4: 398.

وقوله: {طَائِفَةٌ} في المقاييس: «ولا تكاد العرب تحدّها بعدد معلوم... ولا يكاد هذا يكون إلاّ في اليسير»((1))، وأمّا تحديدها بالثلاثة والعشرة والواحد ونحو ذلك فهي اصطلاحات متأخرة.

الغرض من النفر

ثمّ ذكر اللّه تعالى ثلاثة أغراض:

1- قوله: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} الفقه «هو العلم بمقتضى الكلام على تأمّله ولذا لا يقال: إن اللّه يفقه لأنه لا يوصف بالتأمل، وتقول لمن تخاطبه: تفقّه ما أقوله، أي تأمّله لتعرفه»((2))، وباب التفعل يدل على مشقة ومكابدة.

وقوله: {فِي الدِّينِ} كل ما يرتبط به سواء من عقائد أم أحكام أم أخلاق أم غيرها، ثمّ اصطلح الفقه على الأحكام الشرعية والتفقّه على تعلّمها لكنه اصطلاح المتشرعة.

2- وقوله: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} الإنذار هو إخبار فيه تخويف.

وفي تفسير الصافي: «فيه دلالة على أنه ينبغي أن يكون غرض المتفقه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد»((3)).

وقوله: {إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} يدل على أن إنذار قومهم إنّما يجب إن رجعوا إليهم، فإن ذهبوا إلى غيرهم أو استقروا في المدينة فلا، ويمكن أن يقال: إن فيه إشعاراً بأنه ينبغي لهم الرجوع إلى قومهم.

3- وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الحذر هو الاحتراز عن الشيء المخيف، وفيه دلالة على وجوب قبول قومهم لكلامهم، فهو ترجّي يراد به الأمر،

ص: 406


1- ([1]) مقاييس اللغة: 604.
2- ([2]) معجم الفروق اللغوية: 412.
3- ([3]) تفسير الصافي 3: 483.

واستعمال (لعلّ) لأجل أن البعض يعصي ولا يحذر، أو للدلالة على محبوبية الحذر، و(لعلّ) في أمثال هذه الموارد للدلالة على الوجوب، وفي هذه الآية بحوث متعددة ذكرها علماء الأصول، وقد ذكرنا طرفاً منها في كتاب نبراس الأصول((1))، فراجع.

الثالث: ورد في روايات كثيرة تطبيق هذه الآية على مسألة من مسائل أصول الدين وهي معرفة الإمام بشخصه((2))؛ إذ إن الإمامة ومعرفة الأئمة (عليهم السلام) بأشخاصهم من أصول الدين فإنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية - كما رواه الفريقان بأسناد كثيرة((3)) - وميتة الجاهلية هي ميتة شرك وكفر.

منها: سأل محمّد بن مسلم الإمام الصادق (عليه السلام) : «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : أفيسع الناس إذا مات العالم ألاّ يعرفوا الذي بعده؟ فقال: أمّا أهل هذه البلدة فلا - يعني المدينة - ، وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم إن اللّه يقول: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً...}((4)) الآية، قال: قلت: أ رأيت من مات في ذلك؟ فقال: هو بمنزلة: مَن خرج {مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}...((5))»((6)).

ص: 407


1- ([1]) نبراس الأصول، للمؤلّف 3: 348-359.
2- ([2]) راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 579-584.
3- ([3]) من مصادر الشيعة راجع الكافي 1: 376؛ كفاية الأثر: 296؛ كمال الدين 2: 409؛ دلائل الصدق، المقدمة: 31؛ ومن مصادر غيرهم مسند أحمد 4: 96.
4- ([4]) سورة التوبة، الآية: 122.
5- ([5]) سورة النساء، الآية: 100.
6- ([6]) الكافي 1: 379.

الآيات 123-127

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ 123 وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ 124 وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ 125 أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ 126 وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٖ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ 127}

ثمّ في ختام السورة يبيّن اللّه تعالى كيفية القتال مع الكفّار وحال المنافقين والمؤمنين ويصف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال:

123- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم} يقربونكم في الأرض {مِّنَ الْكُفَّارِ} لكي تأمن بلاد الإسلام ولتتصل بعضها ببعض ولا يكون في وسطها عدو يخشى منه {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي شدة وذلك بالإقدام والصبر على القتال وبإجادة الضراب قتلاً وأسراً وغنماً وليس بالغدر والمثلة ولذا أتمّه بقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} معية نصرة، وهذا وعد بالنصر بشرط التقوى.

124- {وَ} لكن المنافقين ينزعجون من الآيات وخاصة آيات الجهاد ف{إِذَا مَا أُنزِلَتْ} «ما» للتأكيد {سُورَةٌ} في الجهاد {فَمِنْهُم} من المنافقين

ص: 408

{مَّن يَقُولُ} مستهزءاً ومنكراً: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ} السورة {إِيمَٰنًا}؟ وأجابهم اللّهتعالى بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} إيماناً حقيقياً بأن كانوا على يقين من دينهم {فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا} إذ ازدادوا علماً وطاعة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون فرحاً يظهر على وجوههم؛ وذلك لعلمهم بزيادة كرامة اللّه وثوابه لهم.

125- {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} بأن لم تؤمن قلوبهم {فَزَادَتْهُمْ} تلك السورة النازلة {رِجْسًا} شكاً ونفاقاً {إِلَىٰ رِجْسِهِمْ} الذي كانوا عليه قبل نزولها {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ} بإصرارهم على كفرهم ونفاقهم، والحاصل: أن ما أنزله اللّه تعالى لم ينفعهم لرجس أنفسهم.

126- كما لم تنفعهم سائر الآيات التي يرونها: {أَوَلَا يَرَوْنَ} الاستفهام للإنكار أي لماذا لا يرى المنافقون {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} يمتحنون بأمرهم بالجهاد والغزوات {فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} حيث ينصر اللّه المسلمين وتظهر آياته ويفضح اللّه المنافقين فيها {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} عن نفاقهم {وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} نِعم اللّه وآياته، والتوبة عمّا مضى، والتذكر لما سيأتي.

127- {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} كما تزداد قلوبهم رجساً كذلك عملهم ف{نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ} أي يتغامزون بينهم ليخرجوا ولا يستمعوا للسورة لأنهم لا يطيقون سماعها، ويقصدون بذلك النظر: {هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٖ} من المؤمنين؟ {ثُمَّ} لما علموا بأن لا أحد يراهم {انصَرَفُواْ} عن مجلس تلاوة السورة وهم بحال نفاقهم الأوّل وزيادة {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} دعاء عليهم أو إخبار بأن اللّه ختم عليها {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} لا يفهمون الآيات فيعاندون، لذلك طبع اللّه على قلوبهم ولم يلطف بهم جزاءً

ص: 409

على عملهم.

كيفية قتال الكفّار

بحوث

الأوّل: كأن هذه الآيات إلى آخر السورة هي كالخاتمة، حيث ذكرت الكفّار والمنافقين وذكرت المؤمنين وذكرت وصف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأمّا الكفّار فقد بين اللّه تعالى كيفية مقاتلتهم بالبدء بالأدنى وبالغلظة، وأمّا المنافقون فلا تنفعهم السور النازلة ولا الآيات التي يشاهدونها في كل عام مرّة أو مرتين، بل السور النازلة زادتهم رجساً بحيث لا يطيقون سماعها، وأمّا المؤمنون فكل سورة تنزل تزيدهم إيماناً وسروراً، وأمّا وصف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسيأتي لاحقاً.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ...} الآية.

تضمنت الآية ثلاثة أحكام في مقاتلة الكفّار:

1- قوله: {الَّذِينَ يَلُونَكُم} أي قاتلوا الأقرب فالأقرب مكاناً؛ إذ لا يصح الانتقال إلى الأبعد وترك الأقرب يكيد بالإسلام والمسلمين، بل تأمين بلاد الإسلام يستدعي تأمين الأطراف، لئلّا تبقى جيوب للكفّار في وسط بلاد المسلمين بحيث يمكن أن يتحركوا في حال غياب المجاهدين إلى المناطق البعيدة، وكلّما فتحت البلاد القريبة سهل جهاد المناطق التي تليها والتي كانت الأبعد قبل فتح القريبة.

2- وقوله: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي شدة، والمقصود الإقدام على القتال والثبات عليه من جهة وإجادة القتال بإثخانهم قتلاً ثمّ أسراً وغنماً؛

ص: 410

وذلك لاستئصال شأفة الكفّار لئلّا يتمكنوا من جمع فلولهم والعود لقتال المسلمينمرّة أخرى.

3- وقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} حث على التقوى في القتال ووعد بالنصر؛ وذلك لأن المقاتلين عادة يستولي عليهم الغضب والانتقام فيفتكون ويمثلون ويقتلون النساء والأطفال وغير ذلك من الجرائم الشنيعة التي ترتكب في الحروب عادة فيأمرهم اللّه تعالى بمراعاة التقوى وأنه ينصرهم إن اتقوا، وفي التقريب: «فلا تتركوا التقوى كما لا يرعوي المحاربون إذا فتحوا البلاد من كل إثم وشناعة، فإن الإسلام جاء محرِّراً لا فاتحاً، فليس للجيوش الإسلامية أن تفعل ما تشاء إذا غلبت، وقد زجر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بلالاً حين رأى من بعض النساء اليهوديات من أهل خيبر تغيّراً، فسألهن ما بالهن؟ فلمّا أجبن بأن بلالاً مرّ بهن على مصارع قتلاهن يعني يهود خيبر، قال الرسول لبلال زاجراً: كأنّ اللّه نزع الرحمة من قلبك»((1)).

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ} إلى قوله: {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}.

الظاهر أن المقصود سورة في الجهاد، ويمكن تعميمه لسائر السور في الأحكام وغيرها، وفي التقريب: «فإن المنافق إذا أنزلت سورة تريب نفسه وتحمل السورة إلى محامل بعيدة عن الحقيقة والواقع ليثلج صدره بالتكذيب، وطبق ما في نفسه يطفح كلام مريب على لسانه فيتسائل ممّن

ص: 411


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 484.

حوله عن وقع السورة في نفوسهم حتى يرتب الأثر، فإن جذبت السورة ناساًردّهم، وإن لم تجذبهم يزيدهم ريباً وشكاً، أمّا حركته فإنه ينزعج من الحضور في مجلس تتلى السورة فيه لأن قلبه لا يميل إليهم ولا إليها إذن فلينصرف عن المجلس متسلّلاً حتى لا يعلم نفاقه ويستريح إلى أقرانه»((1)).

وقوله: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا} لزيادة يقينهم وطاعتهم، فينضمّ ما علموه وما أطاعوا به إلى يقينهم وطاعاتهم السابقة، وتدل الآية على أن الإيمان درجات فيمكن أن يزيد وأن ينقص، فاليقين - باعتبار منشئه ومتعلقاته - يزيد وينقص، والطاعة تزداد كلما امتثل الإنسان الأحكام.

وقوله: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي يفرحون بما يظهر على أسارير وجوههم كما مرّ؛ وذلك لأنهم يجدون طاعة جديدة تزداد بها درجتهم وكمالهم وقربهم إلى اللّه تعالى، فإن من وجد في نفسه انزعاجاً من الأحكام الشرعية ليس بكامل الإيمان، قال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}((2)).

وقوله: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي انحراف فإنه مرض في القلب وهذا المرض يزداد حتى يتحول إلى نفاق، ولذا قد يعبّر عن المنافقين بأنهم في قلوبهم مرض، وقد يعطف أحدهما على الآخر كقوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}((3)).

ص: 412


1- ([1]) تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 484.
2- ([2]) سورة النساء، الآية: 65.
3- ([3]) سورة الأحزاب، الآية: 12.

وقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ} الرجس القذارة، والمراد هنا الشك،فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «شكاً إلى شكّهم»((1))، كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}((2)).

ثمّ إن اللّه تعالى قابل في الأوصاف بين الطائفتين، فأولئك هم الذين آمنوا وهؤلاء هم الذين في قلوبهم مرض، وأولئك زادتهم إيماناً، وهؤلاء زادتهم رجساً، وأولئك يستبشرون بالطاعة والثواب، وهؤلاء - كما سيأتي - نظر بعضهم إلى بعض وانصرفوا.

الرابع: قوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}.

استنكار عليهم بأن اللّه هيّأ وسيلة هدايتهم لكنهم رفضوها، وذلك بما يرونه من آيات اللّه تعالى في الغزوات المختلفة، حيث ينصر اللّه رسوله والمؤمنين ويخبرهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن أمور من الغيب أوحاها اللّه إليه وغيرها من الآيات.

وقوله: {يُفْتَنُونَ} أي يُمتحنون حيث إن غالب المسلمين كان يأمرهم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاشتراك في الغزوات والسرايا كل عام، وقد مرّ أن الفتنة هي الإلقاء في النار، وقد يلقى الذهب فيه ليصفو عن الغش الذي فيه، فكانت تلك الغزوات خير وسيلة لتطهير قلوبهم لكنهم رفضوا ذلك التطهير.

قوله: {مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} أي تارة كان يجب عليهم الجهاد مرّة في السنة

ص: 413


1- ([1]) تفسير العياشي 2: 118؛ وتفسير القمي 1: 308.
2- ([2]) سورة الأسراء، الآية: 82.

وتارة مرتين، أو بعضهم كان يجب عليه مرّة وبعضهم مرتين.

والحاصل: لا السور النازلة نبّهتهم ولا الآيات التي شاهدوها في الغزوات نفعتهم.

وقوله: {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} عن نفاقهم وكفرهم وهذا يرتبط بما مضى منهم.

وقوله: {وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتذكرون نعم اللّه وآياته ودلائله وهذا يرتبط بما كان يجب عليهم فعله بعد مشاهدة الآيات.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٖ...} الآية.

لعلّه لما ذكر في الآية 124 أن المؤمنين يستبشرون بنزول السورة، أراد أن يبيّن أن المنافقين ينزعجون من نزولها ويظهر ذلك الانزعاج في أعمالهم.

ويمكن أن تكون هذه الآية تتمة للآيتين 124-125 فقد ذكر فيهما قولهم وما في قلوبهم وأمّا هذه الآية فقد ذكرت فعلهم، وإنّما كرّر قوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} لطول الفصل فكان لا بدّ من التكرار ليعلم ارتباط الجزاء بالشرط.

وقوله: {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ} أي تغامز بعضهم مع بعض ومقصودهم من ذلك التغامز هو ما قاله: {هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٖ} أي إنهم يريدون الخروج من مجلس تلاوة السورة لكن لا يصرّحون بذلك مخافة افتضاحهم فلذا يتفاهمون بالإشارة، أو لعلّ السورة النازلة كانت في الجهاد فأرادوا الفرار من الطاعة بالخروج خفية.

ص: 414

وقوله: {ثُمَّ انصَرَفُواْ} أي تسلّلوا من مجلس التلاوة حينما اطمأنوا بأنه لايراهم أحد، ونظيره قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}((1)).

وقوله: {صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} دعاء عليهم بأن يصرف اللّه قلوبهم عن الإيمان فلا يؤمنوا أبداً حتى يروا العذاب الأليم جزاءً على نفاقهم وعصيانهم، ويمكن أن يكون خبراً بأن اللّه قد ختم على قلوبهم.

وقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} تعليل للدعاء أو الإخبار بصرف اللّه قلوبهم، فهم لا يتدبرون ولا يتفكرون في القرآن ولذا أغلقوا على أنفسهم الفهم فعاندوا فطبع اللّه على قلوبهم.

ص: 415


1- ([1]) سورة النور، الآية: 63.

الآيتان 128-129

اشارة

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ 128 فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 129}

لمّا ذكر كلاً من المؤمنين والمنافقين والكفّار ختم السورة ببيان وصف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأن جهاده ليس إلاّ لمصلحة الناس فقال:

128- {لَقَدْ جَاءَكُمْ} أيها الناس {رَسُولٌ} من اللّه تعالى هو {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنس البشر لا الملائكة والجن، وهذان وصفان حول ارتباطه باللّه وبالناس {عَزِيزٌ} أي صعب {عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} «ما» مصدرية أي عَنَتكم وهي المشقة التي يضيق بها الصدر {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} الحرص هو شدة الرغبة أي حريص على سعادتكم وهذا بالنسبة إلى عامة الناس، وهذان وصفان يرتبطان بصفاته النفسانية {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} والرأفة شدة الرحمة، ولذا فعليكم اتّباعه، وهذان وصفان يرتبطان بصفاته العملية.

129- {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عنك وعن الإيمان {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي يكفيني، فالنبي لا يحتاج إلى إيمان أحد بل يريد إسعاد الناس، وإنّما حسبي اللّه إذ {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا شريك له أرجوه وأخافه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدت في أموري {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ} أي الملك {الْعَظِيمِ} لأن كل شيء ملكه

ص: 416

ومن اعتمد عليه فلا يخشى أحداً حتى لو أعرض عنه الجميع.

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر حال المؤمنين والكفّار والمنافقين بيّن اللّه تعالى أوصاف رسوله، ولعل ذلك لأن السورة مليئة بالأمر بجهاد الكفّار والمنافقين وفيها أحكام شديدة وعبارات غليظة والمنفّذ لذلك كلّه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأراد اللّه بيان أن ما يفعله الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما هو لمصلحة الناس فهو لا يريد شقاوتهم بل يريد سعادتهم، لكن الكثير من الناس لشقائهم يرفضون ذلك، وهو لا يضر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شيئاً لأن اللّه ناصره ولا أحد يعارض اللّه في ملكه.

أوصاف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

الثاني: قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.

الآية تتضمن الأمر باتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتشتمل على الدليل في قالب بيان صفات الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمنها: ارتباطه باللّه وبالناس، ومنها: صفاته النفسية، ومنها: صفاته العملية، وقد ذكرت لكل واحد منها نموذجين:

1- قوله: {رَسُولٌ} أي هو رسول من اللّه تعالى لكم فلا بدّ من اتّباعه.

2- وقوله: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنسكم أيها البشر، فأنتم تعرفونه وتعرفون تاريخه وماضيه لأنه ولد ونشأ فيكم، فرأيتم منه الصدق وعلو المرتبة والخصال الحميدة والتنزه عن الرذائل الأخلاقية والعملية، كما يمكنكم التأسي به فليس هو من الجن أو الملائكة التي تختلف خلقتهم عنكم فلا تتمكنون من الاقتداء بهم.

ص: 417

3- وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يصعب عليه وقوعكم في المشقة، وفي مجمع البيان: «والعزة: امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه، وهو على ثلاثة أوجه: امتناع الشيء بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة، والعنت: لقاء الشدة والأذى الذي يضيق به الصدر»((1)).

4- وقوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} الحرص هو شدة الرغبة في الشيء، فإن كان في الفضائل وأمر الآخرة كان حسناً، وإن كان في الأمور الدنيوية كان قبيحاً، والمعنى إنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شديد الرغبة في إسعادكم.

5- وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي يتعامل مع المؤمنين برأفة ورحمة عكس الكفّار فهو شديد معهم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}((2))، وقال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}((3)).

ثمّ الرحمة قد تكون مع محبة أو كراهة، ولا يوصف بالرحيم إلاّ إذا كان منطلق الرحمة المحبة والعطف، فلا ينعت بالرحيم من عفا عن قاتل أبيه مع بغضه له مثلاً، وأمّا الرأفة فلا تكون إلاّ عن محبة وعطف.

وأمّا الفرق بين الرؤوف والرحيم فقد قيل: الرأفة أشد الرحمة، وقيل: «الرحمة أكثر من الرأفة، والرأفة أقوى منها في الكيفية؛ لأنها عبارة عن إيصال النعم صافية عن الألم، والرحمة إيصال النعم مطلقاً وقد يكون مع الكراهة والألم للمصلحة كقطع العضو المجذوم»((4))، وقيل: «الرحمة رقة

ص: 418


1- ([1]) مجمع البيان 5: 209.
2- ([2]) سورة آل عمران، الآية: 159.
3- ([3]) سورة الفتح، الآية: 29.
4- ([4]) معجم الفروق اللغوية: 246-247.

عامة، والرأفة رقة خاصة عند حضور موضوعها»((1)).

الثالث: قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.

تضمنت الآية السابقة الأمر باتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما يمتلك من صفات، وهذه الآية تبين حالة إعراضهم عن الإيمان به، وأنه لا يحتاج إليهم لأن اللّه يكفيه إذ لا إله غيره، ولذا يتوكّل عليه تعالى حيث إنّ كل شيء للّه تعالى، ومن كفاه اللّه المالك لكل شيء لا يضره كفر الناس وعدم إيمانهم به، وإنّما يرشدهم ويهديهم لمصلحتهم لا لمصلحته، وقد ذكرت الآية أمرين: أحدهما ما يصنعه اللّه تعالى وهو نصر رسوله، والآخر ما يفعله النبي وهو الاعتماد على اللّه تعالى.

قوله: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي يكفيني، والمعنى أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يحتاج إلى الناس؛ فإن اللّه فضّله عليهم جميعاً، وقد أدّى ما عليه من تكليف بالتبليغ والإرشاد واللّه يجازيه بأفضل الأجر، وبعد ذلك فأيّ حاجة إلى الناس؟ فاللّه ناصره في الدنيا والآخرة وفي ذلك الكفاية.

وقوله: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} كالدليل على كفاية اللّه تعالى، فهو الإله ولا إله غيره، فلا شريك يُرجى أو يُخاف منه.

وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي اعتمدت، وأصل التوكّل الاعتماد على الغير بجعله نائباً له في الفعل، فالمعنى إن عملي ووصوله إلى النتائج المرجوة إنّما هو بفضل اللّه تعالى ورحمته، وحينئذٍ لا يهمّ إعراض الناس مع قيام اللّه

ص: 419


1- ([1]) المفردات مع ملاحظات العاملي: 360.

تعالى بالعمل والنتيجة.

وقوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} كأنه حال، أي توكّلي عليه حال كونه هو المالك لكل شيء، فهو توكّل في محلّه ولمن بيده الأمر كلّه، و{الْعَرْشِ} هنا بمعنى الملك، وإنّما كان عظيماً لأنه يشمل الوجود بأسره، وأمّا الناس المعرضون فملكهم زائل قليل وليس بحقيقي بل عرضي.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلى اللّه على محمّد وآله الطاهرين.

29 / شهر رمضان / 1442ه ق

ص: 420

الفهرس

سورة الأنفال

الإطار العام للسورة... 5

الآيات1-4... 7

معنى الأنفال وشأن نزولها... 9

صفات المؤمنين... 12

نتيجة الإيمان... 14

الآيات 5-8... 15

سبب غزوة بدر... 21

الآيات 9-11... 23

عدد الملائكة في غزوة بدر... 25

سبب إرسال الملائكة... 27

من نِعم اللّه يوم بدر... 28

الآيات 12-14... 30

الآيات 15-18... 35

رمي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو رمي اللّه تعالى... 38

قصة غزوة بدر... 40

الآيات 19-23... 43

ص: 421

الآيات 24-26... 50

حيلولة اللّه بين الإنسان وقلبه... 54

الفتنة التي تعمّ الجميع... 56

الآيات 27-29... 59

من آثار التقوى... 62

الآيات 30-35... 64

مؤامرة المشركين لقتل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 67

الآيات 36-40... 74

جعل الخبيث بعضه فوق بعض... 78

معنى الإسلام يجبّ ما قبله... 80

متى يكون الدين كلّه للّه تعالى... 82

الآية 41... 84

كيفية تقسيم الغنائم... 85

معنى الغنيمة... 85

وجوب الخمس في كل فائدة... 86

تقسيم الخمس على ستة أقسام... 87

الآيات 42-44... 90

من مقدمات غزوة بدر... 91

الآيات 45-48... 98

الأوامر والنواهي التي توجب النصر... 99

الآيات 49-54... 105

ص: 422

المنافقون في غزوة أحد... 107

سبب عدم تغيير النعمة إلى نقمة... 111

الآيات 55-59... 116

أهل الكتاب الذين غدروا بالمسلمين في غزوة بدر... 117

الآيات 60-63... 123

كيفية القتال مع الكفّار... 124

الآيات 64-66... 132

أسباب غلبة المسلمين مع قلة عددهم... 133

الآيات 67-71... 138

حول أسرى المشركين في بدر... 140

الهاشميون الذين كانوا مع المشركين... 145

الآيات 72-75... 147

أصناف الناس من جهة الولاية... 149

أضرار ولاية الكفّار... 154

أولوية أولو الأرحام... 157

خاتمة: في ثواب قراءة سورة الأنفال والتوبة... 159

سورة التوبة

الإطار العام للسورة... 161

الآيات 1-4... 163

عدم بدأ سورة التوبة بالبسملة... 164

عزل أبي بكر عن تلاوتها في الحج... 165

ص: 423

لا يؤدّي عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ الإمام علي (عليه السلام) ... 165

وقت الحج الأكبر... 169

الآيتان 5-6... 173

الآيات 7-12... 178

سبب البراءة من المشركين... 180

سبب نقض المشركين للعهد... 182

كيفية قتالهم والغرض منه... 184

قتال أهل الجمل... 185

الآيات 13-16... 187

أسباب قتال المشركين... 189

فوائد قتالهم... 190

الآيات 17-22... 194

عمارة المسجد الحرام وخدمة زواره... 196

الآيتان 23-24... 202

موانع طاعة اللّه تعالى... 204

الآيات 25-28... 207

قصة غزوة حنين... 209

نجاسة المشركين... 213

الآيات 29-31... 216

قتال أهل الكتاب... 217

سبب قتال أهل الكتاب... 218

ص: 424

عدم قتال أهل الذمة... 220

من أسباب كفر أهل الكتاب... 223

الآيات 32-35... 226

أسباب أخرى لقتال أهل الكتاب... 227

غلبة الإسلام على كل الأديان... 229

الآيتان 36-37... 234

حكم الأشهر الحرم... 235

النسيء ونوعاه... 236

الآيات 38-40... 242

أسباب عدم خروجهم للجهاد... 245

آية الغار... 246

مدلول آية الغار... 248

الآيات 41-43... 251

سبب إذن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للتخلف عن الجهاد... 254

الآيات 44-48... 257

أوصاف المنافقين الذين يريدون الفرار من الجهاد... 261

سبب عدم توفيق اللّه لهم... 262

الآيات 49-52... 266

الصنف الأوّل من المنافقين وأوصافهم... 268

الآيات 53-57... 273

من طرقهم للفرار من الجهاد... 274

ص: 425

الآيات 58-60... 280

الصنف الثاني من المنافقين وأوصافهم... 281

بيان مصارف الزكاة... 284

الآيات 61-63... 287

الصنف الثالث من المنافقين وأوصافهم... 288

الآيات 64-66... 293

الآيات 67-70... 298

بعض صفات المنافقين... 300

الآيتان 71-72... 307

من أوصاف المؤمنين وثوابهم... 308

الآيتان 73-74... 311

كيفية التعامل مع المنافقين... 312

الآيات 75-80... 317

الصنف الرابع من المنافقين وصفاتهم... 318

الآيات 81-85... 326

المتخلفون عن غزوة تبوك... 328

الآيات 86-89... 336

مخالفة المنافقين لأوامر اللّه تعالى... 337

الآيات 90-93... 342

أصناف المتخلفين... 343

الآيات 94-96... 348

ص: 426

الآيات 97-101... 353

أصناف الناس في غزوة تبوك... 353

الصنف الأوّل: الأعراب المنافقون... 356

الصنف الثاني: الأعراب المؤمنون... 358

الصنف الثالث: السابقون الأوّلون... 359

الصنف الرابع: المنافقون المحترفون... 361

الآيات 102-106... 363

الصنف الخامس: الذين خلطوا عملاً صالحاً وسيئاً... 364

كيفية تطهيرهم... 366

الصنف السادس: المرجون لأمر اللّه... 370

الآيات 107-110... 372

الصنف السابع: المنافقون المخرّبون... 374

سبب اتخاذهم مسجد ضرار... 375

الآيتان 111-112... 380

الصنف الثامن: المؤمنون المطيعون... 381

بيان أوصافهم... 384

الآيات 113-116... 386

أوصاف المشركين والتبرؤ منهم... 387

سبب استغفار إبراهيم لآزر... 389

الآيات 117-119... 392

جزاء المجاهدين والتائبين... 393

ص: 427

قصة توبة المتخلفين الثلاثة... 395

الكون مع الصادقين (عليهم السلام) ... 397

الآيتان 120-121... 399

ثواب المجاهدين وأصناف أعمالهم... 400

الآية 122... 404

النفر لطلب العلم... 404

الغرض من النفر... 406

الآيات 123-127... 408

كيفية قتال الكفّار... 410

الآيتان 128-129... 416

أوصاف رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 417

الفهرس... 421

ص: 428

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.