التفكر فی القرآن (سورة الأعراف) المجلد 8

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر فی القرآن (سورة الأعراف) المجلد 8 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن (8)

سورة الأعراف

--------------------

السيّد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الناشر: دار العلم

الطبعة الأولی - 1443ه.ق - 2021 م

عدد النسخ: 1000 نسخة

المطبعة: إحسان

--------------------

شابك: 7-628-204-964-978

--------------------

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

(8)

التفكر في القرآن

سورة الأعراف

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

الإطار العام للسورة

هي سورة تدعو إلى الإيمان ونبذ الشرك، فافتتاحها بهذه الدعوة وبالإنذار بعذاب الدنيا والآخرة وثوابهما (الآيات 2-9)، ثمّ بيان قصّة آدم والشيطان وإغوائه له تحذيراً للناس (الآيات 10-35)، ثمّ الإنذار بالنار وتفاصيل يوم القيامة (الآيات 36-53)، ثمّ التذكير باللّه تعالى ونعمه (الآيات 54-58)، ثمّ بيان قصص الأنبياء وما آل إليه مصير المكذّبين والمؤمنين من أممهم: نوح وقومه (الآيات 59-72)، صالح وثمود (الآيات 73-79)، لوط وقومه (الآيات 80-84)، شعيب ومدين (الآيات 85-93)، ثمّ تلخيص عمل الأمم وتقدير اللّه فيهم (الآيات 94-102)، ثمّ بيان قصة موسى وبني إسرائيل (الآيات 103-176)، وأخيراً خلاصة السورة وخاتمتها (الآيات 177-206).

ص: 5

ص: 6

الآيات 1-9

اشارة

{بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ * المص 1 كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ 2 ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ 3 وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَٰتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ 4 فَمَا كَانَ دَعْوَىٰهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ 5 فَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ 6 فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ 7 وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ 8 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَظْلِمُونَ 9}

1- {بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} الابتداء والاستعانة باسمه تعالى {المص} لعلّ الحروف المقطّعة رمز بين اللّه ورسوله، أو إشارة إلى أنّ القرآن مركّب من الحروف المستعملة ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله، كما مر.

2- هذا القرآن {كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أنزله اللّه تعالى، وحيث إنّ اللّه حكيم {فَلَا يَكُن} يا رسول اللّه {فِي صَدْرِكَ} قلبك {حَرَجٌ} ضيق {مِّنْهُ} من الكتاب حيث يكذّبك الناس، وإنّما أنزله اللّه تعالى {لِتُنذِرَ بِهِ} العصاة والكفّار {وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} لتذكّرهم به.

3- وحيث علمتم أيّها الناس الغرض من إنزال الكتاب ف{ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} في العقيدة والعمل وبذلك تدخلون في ولاية اللّه تعالى،

ص: 7

{وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} من غير اللّه {أَوْلِيَاءَ} بحيث تطيعونهم في عصياناللّه، {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} أي لكن اتعاظكم قليل، وهذا حث على التذكّر.

4- {وَ} يحذّرهم اللّه تعالى مغبّة اتّباع أولياء من دونه ببيان مصير الأمم السالفة بالعقاب، أمّا في الدنيا: ف{كَم} للتكثير {مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا} أي أهلكنا أهلها، أو دمّرنا القرية فهلك أهلها معها {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} بعذاب الاستئصال {بَيَٰتًا} أي حال كون أهلها بائتين في استراحتهم الليليّة {أَوْ هُمْ} أهلها {قَائِلُونَ} في استراحة القيلولة وسط النهار، وهذا أشد أنواع العذاب حيث أخذهم في وقت الدعة والاستراحة.

5- {فَمَا كَانَ دَعْوَىٰهُمْ} أي دعاءهم واستغاثتهم {إِذْ} في الوقت الذي {جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا} الاعتراف والتحسّر ب{أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} لأنفسنا بالذنوب وللأنبياء بالتكذيب.

6- وأمّا في الآخرة: {فَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي الأمم التي بعثنا فيهم أنبياء والسؤال عن إجابتهم للرسل، {وَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ} الأنبياء ليشهدوا على أممهم.

7- {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} ما فعلوه {بِعِلْمٖ} فليس السؤال إلاّ للتقرير وتقريع الكفّار والثناء على الأنبياء وأتباعهم، {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} لأنّ اللّه تعالى محيط بكل شيء علماً، وأيضاً رسله وأوصياؤهم والملائكة الكتبة حاضرون.

8- {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ} أي ما يوزن به أعمال الخلائق في يوم القيامة هو {ٱلْحَقُّ} لا زيادة ولا نقصان فيه بل يكون بالعدل، وذلك الوزن هو الأنبياء

ص: 8

والأئمة (عليهم السلام) وكل ما قدّره اللّه تعالى، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ} إمّا جمع ميزانفلكل عمل ميزان خاص، أو جمع موزون أي أعماله الصالحة {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالنجاة والثواب.

9- {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ} لأنّ أعماله الباطلة تصبح هباءً منثوراً لا وزن لها {فَأُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} حيث بذلوا أنفسهم - التي هي رأس مالهم - ولم يكتسبوا إلاّ النيران {بِمَا} أي بسبب أنهم {كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَظْلِمُونَ} أي يظلمون الآيات بتكذيبها وعدم العمل بها.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ...} الآية.

هذه الآية بيان ارتباط الكتاب بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث إنّه نزل على قلبه ليكون حلقة الوصل بين اللّه تعالى وبين خلقه عبر الإنذار والتذكير، كما أنّ الآية التالية بيان تكليف الناس.

وقوله: {أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي أنزله اللّه، وحيث إنّ المخاطب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يذكر الذي أنزله - وهو اللّه تعالى - تعظيماً له وللكتاب لعلم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذلك، لكن في الآية التالية لمّا كان المخاطب الناس صرّح بأنّه من اللّه تعالى دفعاً لتكذيبهم له.

وقوله: {فَلَا يَكُن...} هذا إرشاد للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتثبيت له، وليس فيه دلالة على أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان في حرج منه. نعم، لو لا تثبيت اللّه تعالى له

ص: 9

لكان يشعر بالحرج منه.وقوله: {حَرَجٌ مِّنْهُ} الحرج هو الضيق النفسي، وهذا إنّما ينشأ من ثقل الملقى كما قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}(1)، ومن الآثار المترتبة عليه تكذيب الناس له، فأراد اللّه تعالى تثبيت الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهذا الكلام.

وقوله: {لِتُنذِرَ بِهِ} الإنذار هو التخويف من أمر مستقبلي، وهو وإن كان عاماً إلاّ أنّه يراد به عادة إنذار الكفّار والعصاة.

وقوله: {وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} عطف على {لِتُنذِرَ} أي ولتذكير المؤمنين كما قال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(2)، والذكرى وإن كانت عامة لأنّها تذكير بالفطرة وبتعاليم الأنبياء السابقين إلاّ أنّ المنتفع بها هو المؤمن كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(3)، وقال: {وَذِكْرَىٰ لِأُوْلِي ٱلْأَلْبَٰبِ}(4).

الثاني: قوله تعالى: {ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ...} الآية.

بعد بيان وظيفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدم الحرج وبالإنذار والتذكير، يأتي بيان وظيفة الناس وهو اتّباع الكتاب الذي أنزل والدخول في ولاية اللّه تعالى، وعدم اتّباع غيره والدخول في ولايتهم.

ص: 10


1- سورة المزمل، الآية: 5.
2- سورة الذاريات، الآية: 55.
3- سورة ق، الآية: 37.
4- سورة ص، الآية: 43.

وقوله: {ٱتَّبِعُواْ} تفصيل للإنذار والذكرى، أي حيث علمتم بذلكفعليكم الاتّباع؛ لأنّ الغرض من الإنذار والذكرى هو الاتّباع، وذلك عبر الاعتقاد بما يلزم الاعتقاد به والعمل بما يلزم العمل به.

وقوله: {مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} لأنّ الغرض من الإنزال هو هدايتكم، فهو قد أنزل إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليكون واسطة في التبليغ، وأنزل إليكم لتهتدوا به.

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} في الآية اختصار بليغ، أي اتّبعوا ما أنزل إليكم وادخلوا في ولاية اللّه، ولا تتّبعوا غير ما أنزل ولا تدخلوا في ولاية غير اللّه تعالى، فذكر في الأوّل الملزوم - وهو الدخول في ولاية اللّه - ، وفي الثاني اللازم - وهو عدم الدخول في ولاية غيره - ؛ لأنّ الدخول في ولاية أحد يلزمه اتّباعه، أو العكس أي الاتّباع يلزم منه الدخول في الولاية.

وغير خفي أنّ الدخول في ولاية اللّه يلزمه ولاية أوليائه لأنّه تعالى أمر بولايتهم، وهم يدعون إليه وإلى ولايته، و(الأولياء) هنا بمعنى المتبوعين الذين يطيعهم التابع.

وقوله: {قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} إخبار يراد به الإنشاء أي الحث على التذكّر؛ وذلك تنبيهاً على أنّ من طبع الإنسان الميل إلى الهوى ونسيان الذكرى، قال تعالى: {لَقَدْ جِئْنَٰكُم بِٱلْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَٰرِهُونَ}(1)، وقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}(2)،وقال: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}(3).

ص: 11


1- سورة الزخرف، الآية: 78.
2- سورة العنكبوت، الآية: 63.
3- سورة فصلت، الآية: 4.

الثالث: قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَٰتًا أَوْ هُمْقَائِلُونَ}.

إنذار بعذاب الدنيا، وبيان أنّه ليس مجرد تهديد بل قد وقع العذاب على من قبلهم فلا يأمنوا أن ينزل بهم إن لم يؤمنوا، و(كم) للتكثير.

وقوله: {مِّن قَرْيَةٍ} أي أهل قرية، وقيل: لا يلزم تقدير الأهل؛ لأنّ إهلاك القرية بتدميرها يلازم إهلاك أهلها.

وقوله: {أَهْلَكْنَٰهَا} أي أردنا إهلاكها؛ إذ قد يستعمل الفعل والمقصود إرادته، وكذا العكس، ويمكن أن يراد من الإهلاك معنى الفعل فيكون عطف {فَجَاءَهَا...} لبيان كيفية الإهلاك وتفسيره.

وقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا...} البأس هو الشدة في الحرب أو العقاب و(البيات) هو وقت الراحة ليلاً، ويستعمل في أخذ العدو ليلاً كأنّك أخذته في بيته(1)، و{قَائِلُونَ} أي مستريحون في وقت القيلولة وهي منتصف النهار، والمعنى جاءهم بأسنا وقت البيات وهم بائتون أو وقت القيلولة وهم قائلون، فاستعمل في أحدهما الوقت وفي الآخر الداخل في الوقت اختصاراً، و{أَوْ} للتنويع وبيان قدرة اللّه تعالى في الأخذ بالعذاب متى شاء، ولعلّ تخصيص هذين الوقتين لأنّهما وقت الراحة، فيكون الأخذ بالعذاب أشدّ.

الرابع: قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَىٰهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُواْ...} الآية.

أي إنّ العذاب لم يدع لهم مهرباً سوى الاعتراف، لأجل الدهشة التي

ص: 12


1- معجم مقاييس اللغة 1: 325.

أخذتهم، وفي ذلك دليل على أنّهم كانوا معاندين يعلمون الحق ويجحدونه، ولذا ظهر ذلك على لسانهم حين الاضطرار من حيث لا يشعرون، أو هو استغاثة منهم حين لا ينفع الندم ولا التوبة، وفي مجمع البيان: «فيه دلالة على أنّ الاعتراف والتوبة عند معاينة البأس لا ينفع»(1)، أو هو تحسّر منهم على ما فرّطوا فيه.

وقوله: {دَعْوَىٰهُمْ} أي كلامهم إمّا معترفين أو مستغيثين.

وقوله: {إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا} كأنّه تأكيد على أنّ هذا الكلام كان حين لا ينفع الندم، وأمّا لو كان قبل مجيء البأس - حتى وإن لاحت علائمه - فهو ينفع، كما في قوم يونس (عليه السلام) لمّا شاهدوا أمارات العذاب سارعوا إلى التوبة والتضرّع فكشف اللّه تعالى عنهم العذاب عكس سائر الأقوام المعذّبة، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2)، وقال: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {فَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ}.

لمّا هدّدهم بعذاب الدنيا عقّبه بالإنذار بعذاب الآخرة؛ وذلك لأنّ عذاب الدنيا لا يفي بعقابهم، بل هو إمّا جزء من عقابهم أو ليس عقوبة وإنّما تطهير الأرض من لوثهم وتعجيل موتهم بميتة سوءٍ تأخذهم جميعاً، فلا يفي

ص: 13


1- مجمع البيان 4: 310.
2- سورة الأحقاف، الآية: 24.
3- سورة الأنعام، الآية: 43.

بعقوبتهم كل أنواع العذاب في الدنيا، وفي الحديث: «أنّ اللّه عزّ وجلّ لميجعل الدنيا ثواباً لمؤمن ولا عقوبة لكافر»(1)، وفي الآخرة يكون الحساب، وهو يتضمّن مراحل متعدّدة:

مراحل الحساب في الآخرة

فمنها: سؤال الناس عن أعمالهم التي ارتكبوها، فتارة ينكرون ذنوبهم، وتارة يضطرون إلى الإقرار بها.

ومنها: إقامة الشهود عليهم من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والملائكة وجوارحهم وغير ذلك.

ومنها: إخبار اللّه إيّاهم بأعمالهم.

ومنها: إقامة الميزان وتجسيم أعمالهم، وغير ذلك.

وهذه الأمور تمّ بيانها في هذه الآيات.

وقوله: {فَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي الأمم عن إطاعتهم وامتثالهم لما جاء به الأنبياء (عليهم السلام) من اللّه تعالى؛ وذلك إظهاراً لعدل اللّه سبحانه وأنّهم لا يعاقبون إلاّ بعد فسح المجال لهم للدفاع عن أنفسهم، وبعد إقرارهم باستحقاقهم العقاب، وبذلك يزداد غمّهم وحزنهم، كما تظهر طاعة من أطاع وذلك نوع مثوبة لهم فيزدادون سروراً وبهجة، وغير خفي أنّ الآخرة مراحل: فتارة يُسئلون، وتارة يختم على أفواههم لتشهد عليهم أعضاؤهم، وتارة في جهنّم يهملون فلا يسألهم أحد، قال: {ٱلْيَوْمَ نَنسَىٰكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا}(2).

ص: 14


1- الكافي 2: 259.
2- سورة الجاثية، الآية: 34.

أو يقال: إنّ السؤال المنفي - في بعض الآيات - هو سؤال الاستعلام، وأمّاالسؤال الثابت فهو سؤال التقريع والتبكيت.

وقوله: {وَلَنَسَْٔلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ} أي الأنبياء (عليهم السلام) وإنّما يسئلون لأداء الشهادة على أممهم، قال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيدٖ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا}(1)، كما أنّ في سؤالهم بياناً لتقصير الكفّار وعنادهم حيث قد بلّغ الأنبياء بأحسن تبليغ لكنّهم عصوهم عن عناد بعد إتمام الحجة عليهم.

السادس: قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}.

وهذا أيضاً من مراحل حسابهم والشهادة عليهم، بأن يخبرهم اللّه تعالى بما فعلوه حيث إنّ علمه تعالى محيط بكل شيء، وقيل: إنّ هذا تتمة للآية السابقة، أي إنّ السؤال لم يكن للاستعلام وإنّما للتقرير أو التقريع! ولكن الأقرب ما ذكرناه وأنّه بيان لمرحلة أخرى من حسابهم.

وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ} القص هو تتبّع الأثر، ومنه القصة لأنّها سرد ما حدث فكأنّ القاصّ تتبّع ما حدث، والمعنى سنخبرهم بما عملوا، وليس الإخبار بالظن أو الاحتمال بل {بِعِلْمٖ} أي حال كوننا عالمين بأحوالهم ونواياهم.

وقوله: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} أي علمنا لم يكن بحدس بل بإحاطة، قال سبحانه: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(2)، وقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا

ص: 15


1- سورة النساء، الآية: 41.
2- سورة المجادلة، الآية: 7.

يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}(1).

السابع: قوله تعالى: {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ...} الآية.

بيان لمرحلة أخرى من الحساب وهو وزن الأعمال بميزان العدل حيث إنّ الأعمال الصالحة توجب ثقلاً في الميزان، والأعمال القبيحة توجب خفة فيه.

معنى الوزن في القيامة

ثمّ إنّ في الوزن يوم القيامة كلاماً نشير إليه باختصار:

وهو أنه لا شك في أنّ الوزن والميزان حق، قال سبحانه: {وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ}(2)، ولا كلام في ذلك.

إنّما البحث حول حقيقة هذا الميزان، والظاهر أنّه موازين متعددة:

فمنها: ميزان مادي يوزن به أعمال العباد حيث تتجسم الأعمال، ولا محذور في ذلك، بل قد أثبت العلم التجربي تحول الطاقة إلى مادة وبالعكس، ولو قيل باستحالة تجسّم الأعمال لأنّها أعراض فيستحيل تحولّها إلى جواهر، لأمكن أن يقال: إنّ الأعمال تمثّل بشكل صور وأجرام أو بأيّة طريقة أخرى تناسبها، أمّا الحسنات فلها ثقل وأما السيّئات فلا ثقل لها، وأمّا كيفية الثقل فيمكن أن يكون للميزان كفة واحدة توضع الأعمال كلّها - حسنها وقبيحها - فيه ويتبيّن وزن المجموع، أو يوزن كل عمل بانفراد ثم يجمع المجموع حتى يتبيّن ثقل المجموع أو خفته، ويمكن أن يكون له كفتان توضع في إحداهما الحسنات وفي الأخرى السيّئات وحينئذٍ يكون

ص: 16


1- سورة النساء، الآية: 108.
2- سورة الأنبياء، الآية: 47.

المناط هو الثقل والخفة باعتبار كفّة الحسنات.

ومنها: ميزان معنوي، وهو الحق في كل شيء، فالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) هم الميزان الذي يميّز الحق عن الباطل فكل من طابقت عقيدته وعمله عقيدتهم وعملهم فقد فاز، والثقل في الميزان معنوي أيضاً بمعنى القدر والمنزلة، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا} (1) قال: «الأنبياء والأوصياء»(2)، وفي زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) : «السلام على ميزان الأعمال»(3)، وفي الاحتجاج عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أنّه سأله الزنديق فقال: أو ليس يوزن الأعمال؟ قال (عليه السلام) : «لا، إنّ الأعمال ليست بأجسام، وإنّما هي صفة ما عملوا، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها وخفّتها، وإنّ اللّه لا يخفى عليه شيء». قال: فما معنى الميزان؟ قال: «العدل». قال: فما معناه في كتابه: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَٰزِينُهُ}؟ قال: «فمن رجح عمله»(4).

وفي الصافي: «وسر ذلك أن ميزان كل شيء هو المعيار الذي به يُعرف قدر ذلك الشيء، فميزان الناس يوم القيامة ما يوزن به قدر كل إنسان وقيمته على حساب عقيدته وخلقه وعمله لتجزى كل نفس بما كسبت، وليس ذلك إلاّ الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ؛ إذ بهم وباتّباع شرائعهم واقتفاء آثارهم

ص: 17


1- سورة الأنبياء، الآية: 47.
2- الكافي 1: 419.
3- بحار الأنوار 97: 287.
4- الاحتجاج 2: 350.

وترك ذلك، وبالقرب من سيرتهم والبُعد عنها يعرف مقدار الناس وقدرحسناتهم وسيّئاتهم، فميزان كل أمّة نبي تلك الأمّة ووصي نبيّها والشريعة التي أتى بها»(1).

وغير خفي أنّ هذا الحديث لا ينفي الميزان المادي، وإنّما يدل على أنّ الأعمال بنفسها لا توزن لأنّها ليست بأجسام، وهذا لا ينافي وزن مثال الأعمال أو تحوّل الأعمال إلى أجسام ثم وزنها، فتأمّل.

قوله: {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ} (الوزن) مبتدأ، و(الحق) خبره، والمعنى إنّ المقياس هو الحق حيث توزن به الأشياء، وهذا الحق في كل شيء بحسبه، فالصلاة الصحيحة الكاملة هي المقياس لكل الصلوات، وهكذا سائر العبادات، والأنبياء والأوصياء هم الحق فكل من اتّبعهم ثقلت كفّة أعماله الحسنة؛ لأنّ الأعمال مع عدم الاعتقاد بهم وعدم اتّباعهم تكون هباءً منثوراً لا وزن لها.

وقوله: {مَوَٰزِينُهُ} إمّا جمع الميزان والجمع باعتبار تعدد الموازين فلكل عمل ميزانه الخاص وللمجموع ميزان آخر، وإما جمع موزون أي أعماله الحسنة.

وقيل: يمكن أن يكون {ٱلْوَزْنُ} هو الثَقَل الذي يوضع في كفّة وتوضع الأشياء في الكفّة الأخرى فتعادله إن كان لها ثقل، أو لا تعادله إن لم يكن لها ثقل، فهذا الثقل هو الحق في كل شيء.

ص: 18


1- تفسير الصافي 3: 145.

الثامن: قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَٰزِينُهُ فَأُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم...}الآية.

أي لم تكن له أعمال صالحة لكي تثقل الميزان، أو أحبطت وصارت هباءً منثوراً لا وزن له.

وقوله: {خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} لأنّ النفس رأس مال الإنسان ليكسب بها الجنان، فإن اكتسب بها النيران فقد خسرها، أو لأنّ النفس مرهونة فإن عمل بالصالحات فقد فك رهنها وربحها، وإن لم يعمل بالصالحات لم يتمكّن من فكّها فأخذت إلى النار.

وقوله: {بِمَا كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَظْلِمُونَ} بيان عدله تعالى، وأنّ خسارتهم إنّما كانت بسوء عملهم فقد ظلموا أنفسهم ببخسهم حقّها في نجاتها، كما أنّهم ظلموا المرسلين حيث كذّبوهم ولم يعطوهم حقّهم في طاعتهم.

ص: 19

الآيات10-18

اشارة

{وَلَقَدْ مَكَّنَّٰكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ 10 وَلَقَدْ خَلَقْنَٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَٰكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِأدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ 11 قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٖ 12 قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ 13 قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ 14 قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ 15 قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ 16 ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ 17 قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ 18}

10- بعد ذكر نعمة الهداية يتم ذكر نعمة الحياة {وَلَقَدْ مَكَّنَّٰكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ} أي سلّطناكم عليها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ} وسائل العيش من المأكل والمشرب وغيرهما {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} فكما أنّ القليل يتذكّرون كذلك القليل يشكرون النعم.

11- {وَلَقَدْ خَلَقْنَٰكُمْ} من تراب ثم من نطفة {ثُمَّ صَوَّرْنَٰكُمْ} في الأرحام بأنّ شققنا لكم أذناً وفماً وعيناً وغيرها {ثُمَّ} للترتيب في الذكر، أو يراد من خلقناكم وصوّرناكم خلق آدم وإعطائه الصورة حيث صار منشأ

ص: 20

لخلقكم وتصويركم، {قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ} والأمر شمل إبليس لأنه كان معهم وإن لم يكن منهم: {ٱسْجُدُواْ لِأدَمَ} تعظيماً له أو كان قبلة لهم {فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ} الذي كان من الجنّ {لَمْ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ} تكبّراً على آدم واستكباراً على أمراللّه تعالى.

12- {قَالَ} اللّه تعالى توبيخاً وتقريعاً: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} أي أن لا تسجد، و«لا» للتأكيد أي ما منعك عن السجود، أو بتضمين المنع معنى الحمل أي ما حملك على عدم السجود {إِذْ أَمَرْتُكَ} حينما أمرتك بالسجود مع الملائكة؟ {قَالَ} إبليس: {أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ} لأنّك {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٖ} حيث زعم أنّ النار أفضل من الطين فلا بد أن يكون المخلوق منها أفضل من المخلوق منه! لكن قياسه باطل حيث إنّ الطين الذي خلق منه آدم خير من النار التي خلق منها إبليس، وقد نفخ اللّه في آدم من روحه وخلقه بيديه، مضافاً إلى أنّه الأفضل بالطاعة والعلم.

13- {قَالَ} اللّه تعالى: {فَٱهْبِطْ مِنْهَا} من المنزلة والمكان الذي أنت فيه {فَمَا يَكُونُ لَكَ} ليس لك الحق ولا يمكن {أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} لأنّها ليست مكاناً للعصاة بل مكانهم جهنّم {فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ} ذليل بصغر القدر والمنزلة عقوبةً على تكبّرك.

14- {قَالَ} إبليس: {أَنظِرْنِي} أمهلني فلا تعاجلني بالعقوبة {إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يوم بعثهم للجزاء وهو يوم القيامة.

15- {قَالَ} اللّه سبحانه: {إِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ} ولعلّ سائر المنظرين هم

ص: 21

الملائكة حيث علم إبليس أنّ اللّه يمهلهم، لكن اللّه وعده بالإمهال إلى يوم الوقت المعلوم.

16- {قَالَ} إبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} أي لأنّك صرت سبباً لضلالي حيثأمرتني بالسجود لآدم فعصيتك، ولولا هذا الأمر لم أكن لأعصيك {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي سأتربص بهم كاللص يتربص في الطريق {صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ} أي كما أغويتني لأغوينّهم، لكن قياسه باطل لأنّ اللّه لا يرضى بالكفر لكنه كفر بسوء اختياره فأراد أن ينتقم من آدم وذريته.

17- {ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي أمامهم بتهوين أمر الآخرة لينسوها {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} بإغوائهم ليجمعوا الأموال للورثة مع منع حقوقها الواجبة {وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ} بإفساد دينهم وتزيين الضلالة وتحسين الشبهة {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} بتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ} قاله بالظن ولقد صدّق عليهم ظنّه، أو قد علم ذلك بإخبار الملائكة أو غير ذلك.

18- {قَالَ} اللّه تعالى: {ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا} والذأم أشد العيب {مَّدْحُورًا} مدفوعاً بهوان وإذلال، مطروداً من الجنة، {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} من بني آدم {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ} من إبليس وأتباعه {أَجْمَعِينَ}.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّٰكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَٰيِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}.

ص: 22

لمّا ذكر اللّه تعالى نعمة الهداية عبر إنزال الكتاب وأمر باتخاذ اللّه وليّاً ونهى عن الأولياء من دونه وحذّر من مغبة المخالفة وبشّر العاملين، أتبع ذلك بنعمة الخلق والرزق التي تستوجب شكراً لا تكذيباً، وحذّر منالشيطان الذي يريد الإغواء عبر ذكر قصّة آدم (عليه السلام) وما آل إليه أمره، فاتخاذ الشيطان وليّاً سبب لسوء العاقبة.

وقوله: {مَكَّنَّٰكُمْ} التمكين هو التسليط عبر إعطاء وسيلة السيطرة ورفع الموانع، قال سبحانه: {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ}(1)، وقد يستعمل بمعنى التهيئة أي هيّئناها لكم، والحاصل أنّ اللّه سبحانه خلق الأرض وخلق الإنسان بكيفية يمكنه الحياة فيها، ومن مصاديق التمكين القدرة على إعمارها والزراعة فيها واستخراج معادنها ونحو ذلك.

وقوله: {مَعَٰيِشَ} جمع معيشة، أي وسائل العيش من المأكول والمشروب ونحوهما من أنواع الرزق.

وقوله: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} أي كما أنّ القليل ينتفع بنعمة الهداية كذلك القليل يشكر النعمة المادّية والتي هي التمكين وجعل المعايش، وهذا أيضاً يراد به الإنشاء أي الحث على الشكر.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَٰكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِأدَمَ...} الآية.

ص: 23


1- سورة الملك، الآية: 15.

المعنى خلقنا آدم وصوّرناه ومنه نشأت الذرية ولذا استعمل ضمير الجمع في {خَلَقْنَٰكُمْ} و{صَوَّرْنَٰكُمْ}، فأمّا خلق آدم فبخلق التراب ثمّ تصوير ذلك التراب بصورته ونفث الروح فيه، وأمّا خلق ذريته فبخلق التراب والنطفة،وأمّا تصويرهم ففي الأرحام بشق العين والأنف والأذن وسائر الأعضاء، ويحتمل أن تكون الآية إشارة إلى بدأ الخلق حيث خلق اللّه تعالى جميع الناس في عالم الذر أو قبله وأعطاهم الصورة ثمّ جعلهم في صلب آدم (عليه السلام) ، أو إشارة إلى خلق الأرواح قبل عالم الذر، والتصوير للأجسام حين نفخ الروح فيها في عالم الذر، وقد ذكرنا التفصيل في شرح أصول الكافي، فراجع(1).

ويحتمل أن تكون {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ} للترتيب في الكلام وليس للترتيب في الزمان، وإنّما قدّم الخلق والتصوير لأنّه تعالى كان يعدّ النعم بالتمكين وجعل المعايش والخلق والتصوير، ثمّ انتقل الكلام إلى قصّة آدم وإبليس.

وقوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ} الأمر إمّا كان واحداً عاماً للملائكة ولإبليس لكن لم يذكر إبليس في الأمر لأنّ ذكر عصيانه دليل على شمول الأمر له فيكون الاستثناء متّصلاً فالمعنى أمرنا الملائكة وإبليس فأطاعوا وعصى، أو أنّ الأمر كان للملائكة وحيث إنّ إبليس كان معهم شمله الأمر، ولعلّه كانت هناك أوامر سابقة في أمور شتّى للملائكة ولمن معهم فعلم إبليس أنّ

ص: 24


1- شرح أصول الكافي، للمؤلف 8: 11-13.

كل أمر لهم يشمله أيضاً، وحينئذٍ فالاستثناء منقطع.

وقوله: {ٱسْجُدُواْ لِأدَمَ} كان سجودهم له تعظيماً، وغير خفي أنّ سجودهم بقصد التعظيم لم يكن شركاً وإنّما كان توحيداً لكونه امتثالاً لأمر اللّه تعالى،وقد سجد إخوة يوسف وأبواه له، لكن في هذه الشريعة نسخ هذا السجود لغير اللّه تعالى، وقيل: جُعل آدم قبلة لهم مع كون سجودهم للّه تعالى.

وكان هذا أمراً تشريعياً يمكنهم إطاعته وعصيانه؛ لأنّ الملائكة مختارون وليسوا بمجبرين، وهم معصومون - والعصمة لا توجب جبراً - فلا يعصونه بحسن اختيارهم، أمّا إبليس فعصى بسوء اختياره.

وقوله: {إِبْلِيسَ} سُمّي بذلك لإبلاسه أي يأسه من رحمة اللّه، وعادة في القرآن حينما يذكر أمام اللّه تعالى يستعمل لفظ إبليس، وحينما يذكر أمام الإنسان يستعمل لفظ الشيطان لمحاولته الإغواء والشيطنة.

وقوله: {لَمْ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ} ولم يقل (لم يسجد) لبيان أنّه لم يكن من سنخهم في الخضوع للّه تعالى بل كان كافراً في قرارة نفسه فأظهر اللّه تعالى خبث ذاته عبر هذا الأمر، كما قال: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ}(1).

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ...} الآية.

السؤال إنّما هو لتقريعه وتوبيخه وبيان سوء نيته بإقراره وبطلان حجّته،

ص: 25


1- سورة البقرة، الآية: 34.

ومن دأب اللّه تعالى أن لا يأخذ العاصي بذنبه إلاّ بعد إعطائه المجال ليحتج بما شاء ليدحض حجته وليتم الحجة عليه.

وقوله: {أَلَّا تَسْجُدَ} (لا) للتأكيد أي ما منعك عن السجود، كما قال: {مَامَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}(1)، ويمكن تضمين المنع معنى الحمل فتكون لا نافية أي ما حملك على عدم السجود، واستعمال (لا) للتأكيد في المحاورات العرفيّة كثير.

وقوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} لأنّ الأمر العام كان شاملاً له، ولعلّ في ذكر {إِذْ أَمَرْتُكَ} بيان عدم وجود عذر له في المخالفة لأنّ الأمر من اللّه تعالى وهو حكيم لا يأمر بشيء جزافاً فاجتمع في أمره شيئان، أحدهما: إنّ له حق الطاعة في كل ما أمر ولا يحق لأيّ شخص عصيانه ولا عذر له في ذلك، والآخر: إنّ أمره لحكمة فلا اجتهاد أمامه، وهذا كالتمهيد على أن تكبّره على آدم بترك السجود كان تكبّراً على اللّه تعالى حيث رأى نفسه أعلى من أن يمتثل أمره عز وجل.

مغالطات إبليس

وقوله: {قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ} كأنّ في هذا إشعاراً بأنّ آدم (عليه السلام) لم يكن مجرّد قبلة وإنّما كان السجود تعظيماً له، وفي كلامه مغالطتان:

1- إنّ الإشكال عليه هو عدم امتثاله أمر اللّه تعالى، وحيث لم يتمكن من أن يقول إنّه أعلى من اللّه سبحانه ومن أمره، حوّر الكلام إلى أنّه خير من آدم (عليه السلام) .

ص: 26


1- سورة ص، الآية: 75.

2- إنّه ادّعى أنّه خير منه لأجل المادة التي خلق منها! مع أنّ الطين خير من النار لما فيه من خيرات ومنافع أكثر من النار، كما أنّ طينة الأنبياء من عليين وهي خير من النار التي لا مجال لها في موضع القدس، ولأنّ آدم قدنفخ اللّه فيه من روحه فصار أشرف منه، مضافاً إلى ما روي من أنّ طين آدم كان فيه النور، ونار إبليس كان ظلمانيّاً لا نور فيه(1).

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ}.

هذا دحض لكلامه لأنّه تكبّر على أمر اللّه تعالى، وهذا يؤدّي به إلى الصغار، فلا مكان له في الجنة التي هي منزلة المطيعين؛ لأنّ مقياس الخير هو طاعة اللّه تعالى وهي التي ترفع المخلوق وتجعله يليق بالجنّة، قال سبحانه: {سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}(2)، وقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}(3).

وقوله: {فَٱهْبِطْ مِنْهَا} الهبوط هو الانحدار من فوق، وقيل: هو نزول يعقبه إقامة(4)، وهو كما يطلق على النزول المادي كذلك يطلق على النزول المعنوي، وكأنّ المراد هنا هو الهبوط المادي بالخروج من الموضع الذي كان فيه؛ لأنّه عقبّه بقوله تعالى: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} لأنّها موضع

ص: 27


1- الكافي 1: 58؛ الهداية الكبرى: 437؛ علل الشرائع 1: 86.
2- سورة الأنعام، الآية: 124.
3- سورة الزمر، الآية: 60.
4- معجم الفروق اللغوية: 555.

القرب وليست مكاناً للمتكبّرين فلذا لزم إخراجه، فيكون قوله: {فَٱخْرُجْ} تمهيداً لقوله: {إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ}.

وقوله: {فَمَا يَكُونُ} بمعنى امتناع ذلك تكويناً، فلا يمكن في الحكمةبقاء العاصي في الجنة، ولذا قال بعد ذلك: {أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} حيث يمكن بقاء العاصي في الدنيا، وأمّا مكانة القرب فلا؛ ولعلّه لذلك قيّده بقوله: {فِيهَا}.

ثمّ اعلم أنّه ليس في الآيات بيان لمرجع الضمير، وإن أرجعه بعض المفسّرين إلى الجنّة، والأقرب أنّ المراد المكان الذي كان فيه مع الملائكة في موضع كرامة اللّه تعالى، ولذلك أهبطه اللّه منه ولم يكن ممنوعاً عن الجنّة ولذلك دخلها ووسوس لآدم (عليه السلام) وزوجته، ثم أمرهم اللّه جميعاً بالهبوط من الجنّة إلى الدنيا، حيث إنّ مكان الملائكة ليس الجنّة - لا قبل الآخرة، ولا فيها - وإنّما مكانهم في الآخرة حول العرش يسبحون بحمد اللّه، وقبل الآخرة في السماوات وحيث أمرهم اللّه تعالى، وبذلك يجاب عن السؤال بأنّه كيف أخرجه اللّه منها مع تمكّنه من الدخول إلى الجنّة للوسوسة، فتأمّل.

وقوله: {إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ} الصغار هو الذلّة بصغر القدر، وهذا عقوبة له على تكبّره، فهو وإن تكبّر لكنه صاغر ذليل لا منزلة له، وحينذاك لم يكن عاص ٍ غيره لكن علم اللّه بأنّ هناك من الجن والإنس من سيكونون مثله في التكبّر فيكونون مثله في الصغار فلذا قال: {مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ}.

ص: 28

علّة طلب إبليس المهلة

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ}.

كأنّ إبليس علم مِن طرده أنّ اللّه تعالى لا يريد تعجيل عقوبته فلذا طمعفي البقاء طول عمر الدنيا وإلى قيام الساعة، واللّه سبحانه أمهله بحكمته ليتمّ اختبار بني آدم من جهة، ولما روي أنّه عبد اللّه تعالى قبل ذلك فأراد أن يكون التأخير أجر عمله من جهة أخرى، فقد قيل للإمام الصادق (عليه السلام) : جعلت فداك بماذا استوجب إبليس من اللّه أن أعطاه ما أعطاه؟ فقال: «بشيء كان منه شكره اللّه عليه»، فقيل: وما كان منه جعلت فداك؟ قال: «ركعتين ركعهما في السماء أربعة آلاف سنة»(1).

وفي مجمع البيان: «وأمّا الوجه في مسألة إبليس الإنظار مع علمه بأنّه مطرود ملعون، فعلمه بأنّه سبحانه يظاهر إلى عباده بالنعم ويعمّهم بالفضل والكرم، فلم يصرفه ارتكابه المعصية عن المسألة والطمع في الإجابة»(2).

وقيل: (الإنظار) الإمهال مع كونه تحت النظر، حيث كان يعلم أنّ تصرّفاته كلّها بعلم اللّه تعالى لكنّه أراد أن يكون طليقاً في عصيانه لا يؤاخذه اللّه عليه إلاّ يوم القيامة، فلم يطلب مهلة لإصلاح نفسه ولا مهلة لا يتمكّن من فعل شيء فيها، بل مهلة يستمر فيها في عصيانه.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} كأنّه علم قبل ذلك أنّ الجميع يموتون ثمّ يبعثهم اللّه تعالى، إمّا بإلهام أو سماع من ملك أو بغير ذلك، واللّه العالم.

ص: 29


1- تفسير القمي 1: 42.
2- مجمع البيان 4: 324.

وقوله: {مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ} أي أمهلناك وقد بيّن اللّه تعالى في سورة ص أنّ المهلة {إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ}(1).السادس: قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ...} الآية.

لمّا اطمئن إبليس بالإمهال صرّح بمكنون قلبه، فإنّ تكبّره ساقه إلى الحسد فأراد سلب بني آدم نعمة الهداية بإضلالهم ليعاقبوا كما عوقب.

وقوله: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} أي صرتَ سبباً لغوايتي وضلالي حينما أمرتني بالسجود لآدم (عليه السلام) ؛ إذ لولا هذا الأمر لما كان يُظهر مكنون قلبه وكان يستمر في عبادته للّه تعالى وطاعته، ولكن اللّه تعالى يختبر خلقه ليظهر ما أكنّوه في نفوسهم أو يصلحوها، وقد مرّ أنّ الهداية والضلال من اللّه تعالى لكنه سبحانه يُضِل من ظلم بسوء اختياره، ويهدي من اتقى بحسن اختياره، وهذا نظير ما لو امتحن المعلّم تلاميذه فلم يتمكن أحدهم من الإجابة لأنّه بسوء اختياره لم يقرأ الدرس، فحينئذٍ يسقط في الامتحان ثم يقول الطالب لقد اسقطني المعلّم.

وقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي كما أغويتني فإنّي سأغويهم! وكان قياسه باطلاً؛ لأنّ اللّه أمره بما هو صلاحه لكنه عصى بسوء اختياره فلا عذر له في محاولته إغواء بني آدم إلاّ الحسد الذميم، و(قعد له) أي تربّص به.

وقوله: {صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ} ظرف، أو منصوب بنزع الخافض أي على

ص: 30


1- سورة ص، الآية: 81.

صراطك المستقيم، وكأنّه يصرف جهده لإغواء المؤمنين، أمّا الكفّار والمنافقين فقد فرغ منهم ولذلك يتركهم وشأنهم إلاّ لو أرادوا الرجوع إلى الصراط المستقيم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «يا زرارة، إنّما صمد لكولأصحابك، فأمّا الآخرون فقد فرغ منهم»(1)، وفي رواية أخرى: «إنّما عَمَدَ لك ولأصحابك»(2).

وقوله: {ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم...} أي من جميع الجهات فلا يقتصر في محاولته على إضلالهم بشيء دون شيء، كاللص الذي يتربص في الطريق ثمّ يحاول السرقة كلّما وجد ثغرةً ومجالاً من أيّ جهة، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «{مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أهوّن لهم أمر الآخرة، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم، {وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ} أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة، {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} بتحبيب اللذّات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم»(3).

وقوله: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ} قد يقال: إنّه قاله تظنّياً، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(4)، أو لمّا طلب الإنظار فأنظره اللّه تعالى علم أنّ في ذلك حكمة، أو علم بعدم عصمة أكثر بني آدم، أو غير ذلك، واللّه العالم.

ص: 31


1- الكافي 8: 145.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 100.
3- البرهان في تفسير القرآن 4: 100.
4- سورة سبأ، الآية: 20.

السابع: قوله تعالى: {قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}.

فلا يتوهمنّ أنّ الإنظار يعني بقاءه في كرامة اللّه تعالى، وإنّما يعني إبقاءهحيّاً، لذلك كرّر الأمر بالخروج مع بيان عدم كرامته وأنّه مذءوم مدحور، كما بيّن اللّه تعالى أنّ قصد إبليس الانتقام من بني آدم بمحاولته إضلالهم لا يضرّ اللّه تعالى شيئاً ولا أولياءه فاللّه تعالى كما يُلقي إبليس في جهنّم كذلك يُلقي من تبعه من بني آدم.

فتحصّل أنّ اللّه تعالى أمره بالهبوط من مكانه بما يتضمّن ذلك من سقوطه من منزلته التي كان فيها، وأنّه تكبّر فأمره بالخروج لصغاره وحقارته بعد عصيانه، وأنّه لمّا سأل اللّه الإنظار أمهله اللّه تعالى في بقائه حيّاً لكنّه بدلاً من أن يتوب ويشكر اللّه تمادى في غيّه فصرّح بأنه يريد إغواء الناس كما غوى، فأجابه تعالى بأنّ إنظاره لا يعني كرامته ولا بقاءه في الجنّة وإنّما يطرد منها بهوان وذل وأنّ مصيره إلى جهنّم هو ومن اتّبعه من بني آدم وذلك لا يضر اللّه تعالى شيئاً.

وقوله: {مَذْءُومًا} من الذأم وهو أشد العيب والحقارة.

وقوله: {مَّدْحُورًا} من الدحر بمعنى الدفع والطرد على جهة الهوان والذل.

ص: 32

الآيات 19-25

اشارة

{وَئََٰادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ 19 فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَٰلِدِينَ 20 وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ 21 فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ 22 قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ 23 قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ 24 قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ 25}

19- {وَ} قلنا: {ئََٰادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ} أي ولتسكن زوجتك {ٱلْجَنَّةَ} وكانت من جنان الدنيا تطلع عليها الشمس والقمر {فَكُلَا} من ثمارها {مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} من أيّ مكان منها {وَلَا تَقْرَبَا} بالأكل {هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ}، الحنطة وكان نهياً إرشاديّاً لا مولويّاً {فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ} لأنفسكما أي تحرمونها عن الجنّة فيكون ذلك بخساً لحقّها.

20- {فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ} أي ألقى كلاماً خفيّاً وأوهم أنّه ناصح {لِيُبْدِيَ} أي ليُظهر، واللام للعاقبة {لَهُمَا مَا وُرِيَ} أي ما سُتر {عَنْهُمَا مِن

ص: 33

سَوْءَٰتِهِمَا} أي فرجهما؛ وذلك لأنّ الإخراج عن الجنّة يلازم الخروج عن كل ما يتعلّق بها ومنه ثوبها {وَقَالَ} الشيطان للإ غواء: {مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْهَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّا} كراهة {أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَٰلِدِينَ} فإن أكلتما صرتم من الملائكة ولا تموتون أبداً.

21- {وَقَاسَمَهُمَا} حلف لهما أيماناً غليظة مؤكّدة: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ} والنصح هو الإخلاص في القول والعمل أي لا نفع لي في هذا الكلام وإنّما هو بصالحكما.

22- {فَدَلَّىٰهُمَا} أي أنزلهما من مرتبة الطاعة إلى الزلل {بِغُرُورٖ} أي خدعهما، {فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ} وجدا طعمها بأن أكلا شيئاً يسيراً {بَدَتْ} ظهرت {لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا} بأن سقطت ثيابهما {وَطَفِقَا} أسرعا {يَخْصِفَانِ} يجمعان ويرقعان {عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ} من أوراق أشجارها. {وَنَادَىٰهُمَا} نداء عتاب {رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَ} ألم {أَقُل لَّكُمَا إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة فلماذا اغتررتما به؟

23- {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} أي بخسناها حقها حيث أوجبنا المشقة على أنفسنا {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} تستر هذه الزلّة بالعفو {وَتَرْحَمْنَا} بنعمك {لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ} خسران بعض الدرجات.

24- {قَالَ} اللّه تعالى: {ٱهْبِطُواْ} من الجنّة إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فالعداوة تستمر في الدنيا أيضاً {وَلَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} محل استقرار {وَمَتَٰعٌ} ما تتمتعون به من

ص: 34

الملذات {إِلَىٰ حِينٖ} الموت أو البعث.

25- {قَالَ} اللّه تعالى: {فِيهَا} في الأرض {تَحْيَوْنَ} تعيشون أو يحيىلآدم نسل {وَفِيهَا تَمُوتُونَ} جميعاً {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} للجزاء يوم القيامة.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَئََٰادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلَا...} الآية.

قد مر بعض الكلام في سورة البقرة(1)، وظاهر الترتيب أنّ اللّه تعالى خلق آدم في مكان آخر ثمّ أمر الملائكة بالسجود له ثمّ أسكنه الجنّة، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما أخرج منها أبداً آدم، ولم يدخلها إبليس»(2).

وقوله: {مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} أي من أيّ موضع من الجنّة، ولم يقل: (ممّا شئتما) لعلّه للمقابلة مع {وَلَا تَقْرَبَا} فكأنّه لمّا أراد المبالغة في النهي عن الأكل من تلك الشجرة عبرّ عنه بالنهي عن الاقتراب، ولذا حينما أباح الأكل من سائر الثمار عبّر عنه ب{حَيْثُ شِئْتُمَا}.

وقوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ} لأنّ الإنسان كلّما ابتعد عن موضع المعاصي كان أبعد عن الوقوع فيها؛ لأنّ سهولة ارتكاب المعصية أدعى للنفس لارتكابها وفي الحديث: «كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه»(3).

ص: 35


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 1: 84-93.
2- تفسير القمي 1: 43.
3- مستدرك الوسائل 17: 323.

وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ}، (الظلم) هو بخس صاحب الحق حقّه، وكان من حق آدم (عليه السلام) أن يبقى في الجنّة حيث الراحة وعدم الصعوبة،وأمّا الدنيا فمكان الكدح والمشقة والتعب والنصب، كما قال تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ}(1)، وغير خفي أنّ الأمر كان إرشاديّاً لا مولويّاً بمعنى أنّ اللّه تعالى بيّن لآدم نتيجة الأكل وهو الخروج من الجنّة والوقوع في المشقة، ونتيجة عدم الأكل وهو البقاء فيها مرتاحاً، كقول الأب الشفيق لابنه: إن بقيت في الدار سأعطيك ما تحتاجه، وإن خرجت منها فعليك أن تعمل لتكسب ما تحتاجه، فإنّ كلامه إرشاد إلى النتيجة حتى لو صاغه بصيغة الأمر كأن يقول: ابق في الدار ولا تخرج منها، وكقول الطبيب للمريض: إنّك مخيّر بين أن تتداوى فيكون شفاؤك في يوم أو أن تترك الدواء فيكون شفاؤك في يومين مع بعض الحمّى، ولو صاغ ذلك في صيغة أمر أو نهي.

قال الوالد رضوان اللّه عليه في تقريب القرآن: «وهنا سؤال: كيف يمكن لمثل آدم النبي المعصوم (عليه السلام) أن يترك قول اللّه سبحانه ويأخذ بقول الشيطان؟!

والجواب: إنّ الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ولعلّ آدم وحواء ظنّا أنّ المراد بالظلم أن يكونا ملكين، وبالأخص لمّا حلف الشيطان لهما، فإنّهما لم يكونا يحتملان أنّ أحداً يحلف باللّه كاذباً - كما في الحديث - .

ص: 36


1- سورة طه، الآية: 117-119.

وقد تكرّر استعمال الظلم لوضع الشيء في غير موضعه، وإن لم يكن فيهغضاضة أصلاً، كما قال اللّه سبحانه حكاية عن موسى: {ظَلَمْتُ نَفْسِي}(1)، ولعلّهما ظنّا أنّ الأصلح بحالهما أن يبقيا بشراً - حسب كلام اللّه - لكنهما شاءا الجائز، كما يترك الإنسان كثيراً ما الأصلح لمّا يجده أوفق بحاله، وهذا مما لا ينافي مقام العصمة إطلاقاً»(2).

الثاني: قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَٰتِهِمَا...} الآية.

وقد قال تعالى في سورة طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ}(3) في الصافي: الفرق بين (وسوس إليه) و(وسوس له) أنّ الأوّل: بمعنى ألقى في قلبه المعنى بصوت خفي، والثاني: أنّه أوهمه النصيحة له بذلك، والوسوسة في الأصل: الصوت الخفي(4)، فإنّ صح هذا الفرق فلعل الشيطان استعمل الأسلوبين معاً ليضمن نجاح إغوائه.

وقوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا...} اللام للعاقبة أي لمّا علم الشيطان أنّ اللّه تعالى نهاهما عن تلك الشجرة وبيّن عاقبة المخالفة بأن يكونا من الظالمين أراد أن يتسبب في خروجهما من الجنّة عبر المخالفة، كما قال تعالى: {فَقُلْنَا ئََٰادَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ}(5)، والشقاء هنا

ص: 37


1- سورة القصص، الآية: 16.
2- راجع تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 165.
3- سورة طه، الآية: 120.
4- راجع تفسير الصافي 3: 153.
5- سورة طه، الآية: 117.

بمعنى التعب والنصب، فعاقبة المخالفة هي انتهاء الراحة في الجنّة والخروج منها،ومن تلك الراحة ثياب الجنّة التي كساهما ربّهما منها من غير عمل منهما، فأراد الشيطان الأمرين معاً: تعبهما وكشف ما يستقبح إظهاره، ولذا بمجرد الأكل سقطت ثياب الجنّة وظهرت السوأة وبدأ التعب والنصب بأن اضطرا أن يسترا العورة بالأوراق التي خصفاها.

وقوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا} أي ليظهر لكل واحد منهما سوأة الآخر، وروي أنّ السوأة كانت قبل ذلك داخلة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «كانت سوءاتهما لا تبدو لهما فبدت، يعنى كانت من داخل»(1).

وقوله: {سَوْءَٰتِهِمَا} السوأة كل ما يسوء الإنسان ظهوره، ويراد بهما هنا العورة.

قوله: {وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا...} لعلّه لمّا علم الشيطان أنّ النهي إرشادي يجوز لآدم مخالفته حيث كان مخيّراً بين اختيار ما فيه الراحة وهو عدم الأكل مع البقاء في الجنّة، أو الأكل مع الخروج عن الجنّة بتعب ونصب، أراد تزيين الأكل والخروج من الجنّة بأن أخبرهما كذباً بأنّ الأكل والخروج من الجنّة يلازم صيرورتهما من الملائكة والخلود وعدم الموت، وغرّهما بأن تحمّل التعب والنصب مع كونهما ملكين خالدين خير لهما من الراحة في الجنّة مع كونهما بشرين غير خالدين، ومن المعلوم أنّ الخلود مع بعض التعب خير من الراحة الزائلة.

ص: 38


1- تفسير العيّاشي 2: 11؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 105.

و{أَوْ} في قوله: {إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَٰلِدِينَ}: إمّا بمعنىالواو كما في قوله: {وَأَرْسَلْنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}(1)، وهذا ما يظهر من قوله تعالى في سورة طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ ئََٰادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٖ لَّا يَبْلَىٰ}(2).

وإمّا للترديد أي إمّا تكون مَلَكاً أو تكون خالداً، ولعلّ اختيار آدم لاحتمال صيرورته ملكاً - مع علمه بأنّه أفضل من الملائكة حيث علّمه اللّه الأسماء كلّها - لأجل أنّه أراد أن يجمع بين فضائله وبين خصائص الملائكة.

وبذلك يجاب عن سؤال أنّ الأنبياء (عليهم السلام) أفضل من الملائكة، فكيف غرّه الشيطان بأنه لو أكل من الشجرة صار مَلَكاً أو خالداً، وهل يُخدع الأفضل بأنّه لو خالف نزل عن رتبته إلى الأدون؟!

والجواب: لعلّه غرّه بالجمع بين الأمرين؛ إذ الأنبياء لهم فضلهم وللملائكة خصائصهم، والجمع بينهما جمع بين الفضلين! فتأمّل.

وقيل: إنّه يمكن أن يكون الشيطان غرّه بأنّ المَلَك أفضل منه.

وقيل: قد لا يراد بالمَلَك هنا معناه المعروف لقوله تعالى في سورة طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ ئََٰادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٖ لَّا يَبْلَىٰ}(3)، لكنه احتمال بعيد لأنّ العطف بالواو هناك وب(أو) في ما نحن فيه دليل على أنّ شجرة الخلد وملك لا يبلى هو أحد الشقّين وهو {أَوْ تَكُونَا مِنَ

ص: 39


1- سورة الصافات، الآية: 147.
2- سورة طه، الآية: 120.
3- سورة طه، الآية: 120.

ٱلْخَٰلِدِينَ}، وأمّا الشق الآخر وهو {أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} فلم يذكره في سورة طه، فتأمل.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ}.

أي أقسم لهما، ولعل استعمال باب المفاعلة لأجل بيان إصراره وتأكيده وتغليظه الأيمان، فإنّ الأصل في باب المفاعلة وإن كان اشتراك الطرفين في الفعل - مع ملاحظة أحدهما بالأصالة فيرتفع بكونه فاعلاً، والآخر بالتبع فينتصب بكونه مفعولاً مثل ضارب زيد عمراً - إلاّ أنّه قد يستعمل في ما لو كان الفعل من طرف واحد مع كون المفعول قد شارك في تحقق المعنى ولو بالعناية، وفي قصّة آدم كان القسم من طرف الشيطان دون آدم (عليه السلام) إلاّ أنّه لمّا كان قسماً مغلظاً استجاب له آدم فكأنّه شاركه في القسم.

وقوله: {لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ} النصح هو إخلاص العامل باطنه بأن يتطابق مع ما يظهره من عمل، فالنصيحة للّه تعالى ولرسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي إخلاص القلب والعمل لهما، والنصيحة في الوعظ أن لا يكون الناصح أراد نفعاً لنفسه بل أراده للمنصوح له خالصاً.

الرابع: قوله تعالى: {فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا...} الآية.

(التدلية) بمعنى إرسال الدلو في البئر، ثمّ استعمل في الإلقاء في المعصية والزلل لأنّه إهباط من مقام الطاعة الشامخ إلى مرتبة المخالفة.

وقوله: {بِغُرُورٖ} هو الخداع بجهالة؛ لأنّهما لم يظنّا أن يحلف أحد باللّه

ص: 40

كاذباً، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «لما أخرج آدم (عليه السلام) من الجنّة نزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا آدم، أليس خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك منروحه، وأسجد لك ملائكته، وزوّجك حوّاء أمته، وأسكنك الجنّة، وأباحها لك، ونهاك مشافهة أن لا تأكل من هذه الشجرة، فأكلت منها وعصيت اللّه؟ فقال آدم (عليه السلام) : يا جبرئيل، إنّ إبليس حلف لي باللّه إنّه لي ناصح، فما ظننت أنّ أحداً من خلق اللّه يحلف باللّه كاذباً»(1).

وقوله: {ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ} الذوق هو الشعور بطعم الشيء، وكأنّ المراد أنّه فور الابتداء بالأكل ظهرت آثار المخالفة، أو أنّه ندم فوراً فلم يأكل إلاّ يسيراً فكأنّه ذاق، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ آدم (عليه السلام) لمّا أكل من الشجرة ذكر أنّه نهاه اللّه عنها فندم فذهب ليتنحّى عن الشجرة...»(2).

وقوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا} أي سقطت عنهما ملابس الجنّة؛ وذلك لتبدّل المصلحة، فإنّه كانت المصلحة في بقائهما في الجنّة بما يلازمه من نعيمها والذي منه لباس الجنّة بلا مشقّة، ولكن بعد الأكل من الشجرة تبدّلت المصلحة إلى الخروج من الجنّة بما يلازم ذلك من المشقّة في تحصيل الحوائج، ومن ذلك المشقّة في الكسوة، ثمّ إنّ قوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا} ليس تكراراً لقوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا...}؛ فإنّ ذاك لبيان ما قصده الشيطان، وهذا لبيان تحقق مقصوده.

وقوله: {يَخْصِفَانِ} من الخصف بمعنى الجمع والترقيع، كأنّهما ألصقا

ص: 41


1- تفسير القمي 1: 225؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 102-103.
2- تفسير العيّاشي 2: 10؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 105.

الأوراق بعضها ببعض لتكون ساتراً، وكان هذا بداية المشقة بالكد والعمل.

وقوله: {وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَا...} نداء تنبيه، ولعلّ ذلك لكي يتوبا إليه تعالى،وليحذرا في مستقبل أمرهما من الشيطان وعداوته.

الخامس: قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ}.

تضرّع وإنابة واعتراف بالظلم، وهذا دعاء بعد نداء اللّه تعالى لهما، ولا بد في كل توبة من إقرار يعقبه الدعاء بالغفران والرحمة، فلا توبة من غير ندم وإقرار ومسألة العفو، فكأنّهما قالا إنّهما ظلما أنفسهما ومن ثَمّ عرّضاها للخسران الدائم لولا غفرانه ورحمته.

وقوله: {ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} ببخسها حقّها في الطاعة والراحة.

وقوله: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} الغفران بستر الذنب عبر العفو، والرحمة بتجديد النعمة - ولو بنعمة أخرى - لأنّ مجرد العفو لا يرفع الخسارة، بل هو عدم الأخذ بالذنب فقط، فلا بد من رحمة إلهية بالإرجاع إلى منزلة الطاعة وثوابها لترتفع الخسارة، كمن كانت له منزلة عند السلطان فخالف فيسقطه السلطان من منزلته ويعاقبه، وترك العقاب بالعفو وعدم إرجاعه إلى منزلته خسارة لها، وفي الحديث: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(1).

عصمة آدم (عليه السلام) والأمر الإرشادي

وقال السيد الوالد رضوان اللّه عليه في التقريب: «وحيث تقرر عقلاً ونقلاً أنّ الأنبياء معصومون كان اللازم القول بعدم كون أكل الشجرة معصية

ص: 42


1- الكافي 2: 435.

إطلاقاً، وإنّما كان النهي للإرشاد، كما يقول الطبيب للمريض: لا تشرب هذا المائع فيطول مرضك، فإنّه نهي للإرشاد، ويكون ارتكابه موجباً لطولالمرض فقط، وليس هذا مما يوجب العقاب، وكذلك كان النهي بالنسبة إلى أكل الشجرة؛ لأنّه كان لإرشادهما إلى البقاء في الجنّة أبداً، كما قال سبحانه: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ}(1)، وكان الأكل موجباً للخروج من الجنّة ولقاء مشاكل الدنيا.

و(الظلم) - كما تقدم - هو وضع الشيء في غير موضعه ويلائم النهي إرشاداً كما يلائم القبيح، كما أنّ (الغفران) هو الستر وهو يلائم العصيان ويلائم ارتكاب المنهي الإرشادي، و(الخسران) يلائم عدم الربح المتوقع ولذا يقول التاجر: خسرت، في ما إذا لم يربح المتوقّع، ألا ترى أنّ المريض إذا ارتكب ما يسبب طول مرضه يقول الطبيب: اشتبهت فتدارك الأمر وإلاّ خسرت صحتك في هذه المدّة ولم يكن عصياناً إطلاقاً، ومن هنا اشتهر في تسمية هذا النوع من الخلاف ب(ترك الأولى) أي أنّ الأولى كان عدم الارتكاب»(2).

سؤال: «كيف يصدر مثل هذا الترك من الأنبياء ولهم المقام الرفيع؟»

والجواب: «إنّ ذلك لئلا يعتقد البشر ألوهية الأنبياء، فإنّ عادة البشر الغلو في القدّيسين، وذلك ضد الغلو، وإن غالى بعض الضعاف أيضاً»(3).

السادس: قوله تعالى: {قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ

ص: 43


1- سورة طه، الآية: 118-119.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 166.
3- راجع تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 167.

مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِين}.

كأنّه تسلية لآدم (عليه السلام) بأنّ بقاءه في الأرض إنّما هو لفترة محدودة ثمّ يرجعه اللّه تعالى إلى جنّةٍ خير من جنّته التي فقدها، وأنّه لا يخلو من بعض الراحة واللّذة فيها، كما حذّره من استمرار عداوة الشيطان له لئلا يغتر به مرّة أخرى.

وقوله: {ٱهْبِطُواْ} كأنّه هبوط مادي من مكان عالٍ إن كانت جنّته التي أخرج منها في غير الأرض، أو هبوط معنوي من مكان راقٍ إلى مكان دونه في الفضل، والخطاب لآدم وحواء وإبليس، ويحتمل أن يكون الخطاب لهم ولجميع ذرّية آدم وذرّية الشيطان.

وقوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} أي الشيطان عدو لهما، وهما عدوان له.

وقوله: {مُسْتَقَرٌّ} إمّا اسم مكان أو مصدر ميمي.

وقوله: {مَتَٰعٌ} أي تمتع أو ما به التمتع، فالدنيا لا تخلو من راحة ولذّات مشروعة.

وقوله: {إِلَىٰ حِينٖ} أي حين البعث إذا كان المقصود مجموع الناس، أو إلى حين الموت إن كان المقصود آدم وحواء والشيطان، ويحتمل شموله لعالم البرزخ أيضاً حيث يتنعّم المؤمنون فيه.

السابع: قوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}.

إن كان الخطاب للثلاثة - آدم وحواء وإبليس - فالمعنى تحيى لكم ذرّية، أو تضمين {تَحْيَوْنَ} معنى استمرار الحياة، وإن كان الخطاب للأعم

ص: 44

فالمعنى أن التناسل والحياة سيكون في الأرض.

وقوله: {وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} للحساب يوم القيامة وفيه إشعار بأنّ ساحة المحشر تكون على هذه الأرض، كما فيه دلالة على المعاد الجسماني.

ص: 45

الآيات 26-30

{يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 26 يَٰبَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَٰتِهِمَا إِنَّهُ يَرَىٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ 27 وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 28 قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ 29 فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ 30}

بعد ذكر قصّة آدم (عليه السلام) يتم بيان جهة الاعتبار بها، فقال تعالى:

26- {يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ} دبّرنا وقضينا ثلاثة أنواع من الألبسة: {لِبَاسًا يُوَٰرِي} يستر {سَوْءَٰتِكُمْ} ما يسوءكم إظهاره، {وَ} أنزلنا {رِيشًا} الذي يكون منه لباس التجمّل وأصله من ريش الطائر وهو زينة له، {وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ} حيث تستر التقوى الشر والقبائح الكامنة في النفس {ذَٰلِكَ} أي لباس التقوى {خَيْرٌ} من لباس الستر والتجمل لأنّه ينفع الدنيا والآخرة، {ذَٰلِكَ} الإنزال {مِنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ} الدلائل عليه لأنّها تدل على فضله

ص: 46

ورحمته، وإنّما أنزلناه {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يذكرون نِعم اللّه فيتّعظون.

27- وحيث علمتم نعمة اللّه في اللباس فاعلموا أنّ الشيطان يريد بكم منالشر ما أراده بآدم وحواء فكما أخرجهما من الجنّة كذلك يريد أن يمنعكم عنها، وكما أظهر سوءاتهما كذلك يريد إظهار قبائحكم ف{يَٰبَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ} يلقيكم في الفتنة أي لا يخدعكم {ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ} أي صار سبباً لإخراجهما، حال كونه {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَٰتِهِمَا} فجمع لهما الحرمان من الجنّة وإظهار ما يستقبح إظهاره، ولا تستهينوا بالشيطان ف{إِنَّهُ يَرَىٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} جنوده وذريته من الشياطين {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} والتحذر من العدو الذي لا تراه أشد وأوجب، ومنفذه إليكم الكفر حيث {إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ} متبوعين {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وذلك الجعل بقضاء اللّه وتمكينه سبحانه.

28- {وَ} نتيجة ولايتهم للشياطين أنّهم {إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً} المعصية الشديدة القبح برّروا فعلتهم الشنيعة بأن {قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} مع أنّ آباءهم أيضاً كانوا مخدوعين بالشيطان، وهم يفترون على اللّه بنسبة الأمر إليه {قُلْ} في ردّهم: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاءِ} لأنّه منبع القدس والطهارة {أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}؟ استفهام للإنكار والتقريع.

29- {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ} بالعدل لا بالفحشاء {وَ} أمر بالعبادة والإخلاص ف{أَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} أي توجهوا إلى عبادته {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ}

ص: 47

أي قبلة ومكان السجود وزمانه، لا كما فعل الشيطان حيث تمرّد عن السجود هذا في العبادة، {وَ} أمّا في الإخلاص ف{ٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُٱلدِّينَ} لا كالمشركين الذين أخذوا دينهم عن آبائهم المشركين.

{كَمَا بَدَأَكُمْ} أي كما ابتدأ خلق الإنسان حيث كانت الهداية والضلال فكذلك {تَعُودُونَ} أي تعودون إلى الهداية أو الضلال، أو كما أنشأكم من الأرض وخلقكم فكذلك يبعثكم بعد موتكم فاحذروا الآخرة.

30- {فَرِيقًا هَدَىٰ} وفقهم للّهداية بحسن اختيارهم {وَفَرِيقًا حَقَّ} ثبت {عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ} بسوء اختيارهم حيث {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ} متبوعين فأطاعوهم في ما دعوهم إليه {مِن دُونِ ٱللَّهِ} فلم يتخذوا اللّه وليّاً مطاعاً {وَيَحْسَبُونَ} يظنون {أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي على هداية فلذلك لم يتوبوا عكس من يعلم بأنّه على ضلال فقد يوفّق للتوبة إن لم يكن معانداً.

بحوث

الأوّل: إنّ اللّه تعالى لا يذكر القصص إلاّ للاعتبار، كما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي ٱلْأَلْبَٰبِ}(1)، وحيث ذكر قصّة آدم (عليه السلام) والشيطان بيّن وجه العبرة فيها، وصدّر الآية بقوله: {يَٰبَنِي ءَادَمَ} إلفاتاً لهم بأنّكم أبناء ذاك الذي أضرّه الشيطان فعليكم بالحذر والاعتبار.

فأوّلاً: التحذير من أن يمنعكم دخول الجنّة كما حرم أبويكم من البقاء فيها.

ص: 48


1- سورة يوسف، الآية: 111.

وثانياً: التحذير من أن يُظهر قبائحكم بالعصيان كما أظهر سوءاتهما بالأكل من الشجرة المنهي عنها.

وثالثاً: التحذير من الافتراء على اللّه لتبرير القبائح كما كذب الشيطان على اللّه بأنّه {مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَٰلِدِينَ}.

ورابعاً: الاستدلال بفعل الآباء باطل؛ إذ لا يصح اتّباعهم في باطلهم، وآدم (عليه السلام) من آبائكم لكن أضرّه الشيطان.

وخامساً: إنّه كما كانت هداية وضلال وغواية واهتداء في بدأ الخلق كذلك يستمر الأمر، وكما كان مهتدون وضالون في السلف كذلك سنّة اللّه جرت في الخَلَف.

وسادساً: كما انخدع آدم بالشيطان حيث حسب أنّه ناصح كذلك ينخدع به كثير من بني آدم فيحسبون أنّهم على هداية.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا...} الآية.

لعلّ التركيز على اللباس وإظهار السوءة - حيث ذُكرا في هذه الآيات أربع مرّات - هو تصوير بشاعة إغواء الشيطان وسوء عاقبته، فكل إنسان يدرك بفطرته بشاعة ظهور السوءة وحسن سترها، فيقال: إنّ اللّه سترها لكن اتّباع الشيطان يظهرها فاحذروه.

وقوله: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ} بيان عظيم مِنّة اللّه على الإنسان، حيث قدّر بحكمته الثياب فخلق مادتها - من القطن والصوف وغيرهما - وعلّم الإنسان

ص: 49

ما لم يعلم بحيث تعلّم الحياكة والخياطة، ورزقه الفطرة كي يدرك قبح إظهار السوءة، وحكم تشريعاً بوجوب سترها.

وكأنّ الإنزال هنا مجازي لبيان ارتفاع قدر المعطي، كما يقال: رفعت عريضتي إلى الأمير، يراد به تعظيم قدره وأنّه أعلى منزلة من صاحبها، أو باعتبار أنّ التقدير في السماء، أو باعتبار أنّ غالب الألبسة إمّا من النباتات أو الحيوانات وحياتهما بالمطر فكأنّ المعنى أنزلنا الأمطار التي صارت سبباً لتكوّن مادة الملابس.

ثمّ إنّ اللّه تعالى قسّم اللباس إلى أنواع ثلاثة وإن كان المقصود الأساسي هو الثالث:

1- قوله: {يُوَٰرِي سَوْءَٰتِكُمْ} وهو لباس الستر.

2- وقوله: {وَرِيشًا} الذي يكون منه لباس التجمّل والزينة، والريش هو للطائر وحيث إنّه زينة له فاستعير للباس الزينة، والريش هنا يعم كل مال ومتاع، كما روي ذلك عن الإمام الباقر (عليه السلام) (1) فيشمل لباس الزينة وغيره مما يتمتع به.

3- وقوله: {وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ} ومنه العفاف؛ لأنّ التقوى تستر قبائح النفوس، بل لا تدع الإنسان يعمل القبائح فكأنّها سترته عن ارتكابها وعن النار.

وقوله: {ذَٰلِكَ خَيْرٌ} أي لباس التقوى أفضل من لباس الستر والتجمّل؛

ص: 50


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 106 عن تفسير القمّي 1: 225.

وذلك لأنّ القبائح في الدين والخُلُق والنفس أبشع من القبائح في الجسم، فإنّها إذا ظهرت بارتكابها أوجبت الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.

وقوله: {ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ} أي إنزال اللباس من الدلائل على اللّه تعالى؛ وذلك لأن تقدير اللباس وتقدير مادّته وتمكّن الإنسان عبر العلم والعمل من صناعته وأيضاً تشريع ما يؤدّي إلى التقوى دلائل على خالق حكيم مدبّر.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فقد جعل اللّه آياته في كل شيء، والغرض من ذلك هو أن يرى الإنسان تلك الآيات ويتذكّر منسي فطرته ويتّعظ بكلام الأنبياء والرسل (عليهم السلام) فيجتنب الآثام والخطايا والقبائح.

الثالث: قوله تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ...} الآية.

الآية السابقة كانت تذكيراً بفضل اللّه تعالى، وهذه الآية تحذير عن الانخداع بالشيطان حيث يريد حرمان الإنسان من فضل اللّه تعالى عداوةً له، وبيان ترصّده للإنسان من حيث لا يراه، مع بيان أنّه لا يتمكّن من إغواء الإنسان إلاّ لو كفر، ف{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(1).

وقوله: {لَا يَفْتِنَنَّكُمُ} أي لا يوقعكم في الفتنة وذلك بمنعكم عن الجنّة بتسويلاته التي تلقيكم في المعاصي، والمقصود بالنهي هم بنو آدم، وفي

ص: 51


1- سورة النحل، الآية: 99-100.

مجمع البيان: «وإنّما صحّ أن ينهى الإنسان بصيغة النهي عن الشيطان؛ لأنّه أبلغ في التحذير من حيث يقتضي أنّه يطلبنا بالمكروه ويقصدنا بالعداوة،فالنهي له يدخل فيه النهي لنا عن ترك التحذير منه»(1).

وقوله: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم} أي كما فتن أبويكم فصار سبباً لإخراجهما من الجنّة، فكما تمكّن من منعهما عن الجنّة كذلك يتمكّن من خداعكم ومنعكم عن دخولها.

وقوله: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} أي كان إخراجه لهما بشعاً فكذلك يريد أن يمنعكم عن الجنّة ويدخلكم النار حيث إنّ المنع عن الجنّة يلازم عادة الإدخال في النار.

وقوله: {إِنَّهُ يَرَىٰكُمْ هُوَ...} تأكيد للتحذير عن فتنته، وأنّه عدو يراكم ولا ترونه، وهكذا عدو لا بد من أخذ الحيطة والحذر منه بنحوٍ أشدّ من سائر الأعداء.

وقوله: {وَقَبِيلُهُ} أي ليس هو وحده بل له قبيل يعاونونه ويأتمرون بأوامره، وهم فسقة الجن من ذرّيته، قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّ بِئْسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلًا}(2)، قيل: «القبيل: هو الجماعة من قبائل شتى فإذا كانوا لأب وأم واحد فهم قبيلة»، فإن صح هذا فلعلّ بعض أعوانه من ذريته وبعضهم من سائر فسقة الجن.

وقوله: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} أي من المكان الذي لا ترونهم لأنّهم

ص: 52


1- مجمع البيان 4: 340.
2- سورة الكهف، الآية: 50.

يجرون في الدم ويوسوسون في القلب، قال تعالى: {ٱلَّذِي يُوَسْوِسُ فِيصُدُورِ ٱلنَّاسِ}(1)، ولأنّ الجن عنصر لا كثافة له فهو جسم لطيف لا يمكن إحساسه بالحواس الخمس وإنّما يدرك بآثاره ومنه الوسوسة، وهذا لا ينافي رؤية الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) له؛ لأنّ اللّه تعالى حباهم بقوى إدراكيّة أكثر من سائر البشر، وذلك فضل من اللّه لهم ولا ينافي كونهم بشراً.

وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ...} الجعل بمعنى التمكين وعدم المنع أي لم نمنع عن ذلك قهراً، حيث إنّه تعالى أراد للإنسان أن يكون مختاراً فقدّر وسائل الاختيار والذي منها عدم المنع قهراً عن ارتكاب القبائح، ومن القبائح ولاية الشياطين.

وقوله: {أَوْلِيَاءَ} بمعنى المتبوعين؛ لأنّ مادة (و ل ي) بمعنى القرب(2)، وقد يكون القرب بالاتّباع وقد يلزم منه المحبّة والنصرة والسلطة، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ}(3).

وقوله: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} أي إن سوء عملهم بالكفر صار سبباً لولاية الشيطان عليهم؛ إذ اللّه تعالى قدّر النتائج على الأفعال، فالكفر يترتب عليه ولاية الشيطان، والإيمان ينتج ولاية الرحمن تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا...} الآية.

ص: 53


1- سورة الناس، الآية: 5.
2- راجع مقاييس اللغة 6: 141.
3- سورة الحجر، الآية: 42.

هذا تحذير لهم كي لا يسلكوا مسلك الشيطان حينما افترى على اللّه بأنّنهيه لم يكن إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وكذب عليهما بأنّه ناصح لهما، كذلك هؤلاء المشركون بتسويل من الشيطان يفترون على اللّه بأنّه أمر بالفحشاء وأنّ الآباء علّموهم ذلك والأب لا يغش ابنه بل يكون ناصحاً له.

فتبرير فعلتهم الشنيعة بارتكاب الفاحشة بأمرين:

1- الاقتداء بالآباء، وكأنّهم زعموا حق التشريع للآباء، أو زعموا رجاحة عقولهم بحيث لا يفعلون إلاّ ما كان حقاً، وقد دحض اللّه حجتهم في آيات أخرى كقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَئًْا وَلَايَهْتَدُونَ}(1)، وأمّا في هذه الآيات فدحض كلامهم في آخر الآية 29 حيث قال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} وسيأتي قريباً بيانه.

2- أمر اللّه بها، وقد دحض اللّه كلامهم بحجّتين، أحداهما: قوله: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاءِ} وهذا وجه عقلي، حيث إنّ اللّه هو الحق المنزّه، وما كان حقاً منزّهاً لا يعقل أن يأمر بالقبيح؛ لأنّ الأمر بالقبيح قبيح وهو من الباطل.

والأخرى قوله: {أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وهذا وجه نقلي حيث إنّهم لا يوحى إليهم، ولم يخبرهم بذلك الأنبياء السابقون كإبراهيم (عليه السلام) فمن أين علموا بأمر اللّه تعالى؟! وهذا يتضمّن تقريعاً وتوبيخاً لهم أيضاً.

ص: 54


1- سورة البقرة، الآية: 170.

وقوله: {فَٰحِشَةً} الفحش هو تجاوز الحد في القبح، ولها مصاديق متعدّدة فمنها ما كان حين نزول الآية كالشرك والجور والطواف عارياً، ومنهامصاديق أخرى كاتّباع أئمة الجور والضلال.

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ}.

لمّا دحض كلامهم وفعلهم بيّن وجه الصواب:

1- قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ} أي العدل، لا الفحشاء التي هي تجافٍ وتباعد عن الحق، ويدرك حسن القسط كل ذي فطرة بسليم فطرته.

2- قوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ} أي توجهوا إلى القبلة وفي كل مكان سجود وزمانه، لا كإبليس الذي رفض السجود لآدم (عليه السلام) مع أنّه كان يسجد للّه، فعبد اللّه على حرف وعصى حينما كان السجود يخالف هواه.

3- قوله: {وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ} بأن تأخذوا دينكم من اللّه فقط، لا كهولاء المشركين الذين جعلوا آباءهم في عرض اللّه تعالى فيطيعونهم ويقتدون بهم في ما فيه معصية اللّه تعالى وكذلك جعلوا الأصنام شركاء للّه فيعبدونهم كي يعبدوا اللّه تعالى، وكذلك أطاعوا الشيطان في ما سوّل لهم، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِي ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُواْ ٱلشَّيْطَٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(1)، و(الدين) الطريقة.

السادس: قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ

ص: 55


1- سورة يس، الآية: 60-61.

عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ...} الآية.

كأنّ المعنى أنه في بدء خلق الإنسان كان هناك فريقان: آدم وحواء منجهة، والشيطان من جهة أخرى، وحاول الشيطان إغواءهما وأضرّهما بالإخراج من الجنّة، كذلك يعود الأمر في ذرية آدم، فالمؤمنون هم في حزب آدم والكفّار والمنافقون في حزب إبليس، فالمعنى كما بدأكم فريقين كذلك تعودون فريقين؛ ولذا بيّن الفريقين بقوله: {فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ}.

ويحتمل أن يكون قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} بمعنى كما خلقكم في الدنيا فإنّكم ستبعثون في الآخرة حيث يعيدكم اللّه تعالى إلى الحياة ويعيد أرواحكم إلى أجسادكم للحساب، فيكون هذا تحذيراً لهم بأنّ ارتكاب الفحشاء والافتراء على اللّه لا يمر من غير جزاء، كما أنّ العمل بالقسط وإقامة الوجه عند كل مسجد والإخلاص في الدين لا يكون بدون ثواب.

وقوله: {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُ} إنّما أضلهم اللّه تعالى لأنّهم أعرضوا عن الهداية بسوء اختيارهم، وهذا ما بيّنه اللّه تعالى في قوله: {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} فالمعنى أنّ اللّه لم يظلمهم بأن أضلّهم من دون مخالفة منهم، بل إنّ اللّه تعالى رزقهم الفطرة والعقل وأرسل الرسل إليهم لكنّهم أعرضوا عن كل ذلك واتبعوا الشياطين فجزاهم اللّه على عصيانهم بأن خذلهم حتى ضلّوا، ومن الشياطين أئمة الجور، كما في الحديث(1).

ص: 56


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 111.

وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي يظنّون أنّهم على هداية، ومن كان هكذا فلا ترجى هدايته، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا *ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(1).

والحاصل أنّ الضلالة قد تكون عارضة فهي تزول بالتنبّه والإيمان والعمل الصالح، وقد تكون ثابتة وثبوتها بأمرين: ولاية الشيطان وحِسبان الضلال هداية، واللّه العاصم.

ص: 57


1- سورة الكهف، الآية: 103-104.

الآيات 31-34

{يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ 32 قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلْإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 33 وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ 34}

بعد بيان فضل اللّه تعالى في الملبس وبعد التحذير من الافتتان بالشيطان، بيّن اللّه تعالى الحلال عن الحرام في الملبس والمأكل وغيرهما، فقال:

31- {يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} ما تتزينون به ومنها الثياب {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ} يشمل جميع المساجد بما فيها المساجد المستحدثة {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ} الأمر للإباحة، {وَلَا تُسْرِفُواْ} والإسراف هو تجاوز الحد من الحلال إلى الحرام وكذلك الإفراط والإتلاف، {إِنَّهُ} إنّ اللّه {لَا يُحِبُّ} أي يبغض {ٱلْمُسْرِفِينَ}، فكما حلّل وحرّم لآدم (عليه السلام) كذلك حلّل وحرّم لكم.

32- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ} الاستفهام للإنكار والنفي {زِينَةَ ٱللَّهِ} والإضافة تشريفيّة {ٱلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} أي خلقها لهم فلا يحق لأحد منعهم عنها {وَٱلطَّيِّبَٰتِ} ما يستلذه الإنسان {مِنَ ٱلرِّزْقِ} مما رزقه اللّه {قُلْ هِيَ} الزينة

ص: 58

والطيّبات {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي خلقها اللّه للمؤمنين لكن الكفّار شاركوهمفيها {فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} فيتمتع بها الكفّار والمؤمنون، حال كونها {خَالِصَةً} للمؤمنين {يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ} وإلى الأبد، حيث كانت الدنيا دار امتحان فلذا اشترك الجميع في خيراتها مع أنّ الغرض من تلك الخيرات المؤمنون، وأمّا الآخرة فهي دار جزاء فلذلك كانت للمؤمنين خالصة من غير مشاركة الكفّار لهم، {كَذَٰلِكَ} أي كما فصّلنا هذا الحكم {نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ} دلائل اللّه تعالى {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} حيث يخشى من العباد العلماء، أمّا الجاهلون فلا ينفعهم البيان لسوء اختيارهم.

33- ولما بيّن اللّه الحلال وأنّه زينة اللّه وبيّن الطيّبات من الرزق عقّبه ببيان الحرام وأنّه القبيح الخبيث {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ} جمع فاحشة {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما أعلن عنه ومنه نكاح امرأة الأب، {وَمَا بَطَنَ} ما أخفي منها ومنه الزنا، {وَٱلْإِثْمَ} ومنه الخمر، {وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} أي طلب الفساد، {وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ} أي وحرّم الشرك {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا} أي دليلاً، وهذا قيد توضيحي للتهكم فليس هناك شريك أصلاً كي يدل عليه الدليل، {وَ} حرّم {أَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} بالافتراء عليه.

34- {وَ} لا يغر هؤلاء عدم أخذ اللّه لهم بأفعالهم فإنّه {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي نهاية المدّة المعيّنة لهم، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} المحتوم {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} لا يتمكّنون من تأخيره {سَاعَةً} أي مقدار ساعة من ذلك الوقت وهي القطعة من الزمان {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} لا يتمكّنون من تقديمه حيث كانوا يقولون إن

ص: 59

كنت صادقاً فأنزل علينا العذاب، فكانوا يستعجلون به.

بحوث

الأوّل: الخطاب في هذه الآيات امتداد للاعتبار بقصّة آدم (عليه السلام) حيث زيّنه اللّه بلباس الجنّة وأباح له الأكل منها رغداً ومنعه من الأكل من شجرة واحدة، فلمّا أكل منها أخرجه اللّه من الجنّة، كذلك أمر اللّه بأخذ الزينة - من اللباس وغيره - في كل مسجد، وأباح الأكل والشرب من الطيّبات ونهى عن تجاوز الحد فيهما، كما نهى عن القبائح الاعتقاديّة والعمليّة، وكما كان لآدم أجل في الجنّة وفي الدنيا كذلك لبني آدم أجل في الدنيا، وكان أجل آدم في البقاء في الجنّة هو إلى حين الأكل من الشجرة، وأجل الأمم قد قدّره اللّه تعالى، والأجل المحتوم المسمّى عنده لا يتمكّن الناس من تقديمه ولا تأخيره.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ...} الآية.

وقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أخذ الزينة هو التجمّل، و(الزينة) ما به الجمال والحُسن، وله مصاديق كثيرة منها: لباس التزيّن والبذلة والتمشط والغسل وغير ذلك.

وقوله: {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ} زمان ومكان السجود، وأبرز مصاديقه المكانيّة: المسجد الحرام وسائر المساجد حتى المستحدثة منها، ومن مصاديقه الزمانيّة: العيدين والجمعة وعشيّة عرفة، وفي التأويل: الغسل عند

ص: 60

لقاء كلإمام، وفي بيان هذه المصاديق روايات كثيرة راجعها في تفسير البرهان(1).

ولعلّ سبب الأمر بالتزيّن فيها لأجل أنّه نوع احترام وتعظيم وتحبيب، ولذا ترى الناس عادة يتجمّلون حينما يذهبون إلى لقاء عظيم أو يذهبون إلى المجالس العامّة وما يحبونه من الأماكن.

وقوله: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ} الأمر للإباحة أي إنّ اللّه تعالى قد أباح الأكل والشرب مِنّة منه على عباده لأنّ حياتهم بذلك، وهذا كالتوطئة لتحريم الإسراف ولتقريع من حرّم المحلّلات.

وقوله: {وَلَا تُسْرِفُواْ} الإسراف هو تجاوز الحد في كل شيء، ولكن أكثر استعماله في الأكل والشرب والأموال، والإسراف يكون تارة بالتعدّي من الحلال إلى الحرام، وتارة: بالإتلاف، وتارة: بالإفراط في تناول الشيء.

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ} كالتعليل للنهي عن الإسراف، فإنّ اللّه لا يحب ما فيه المفسدة للخلق، وحيث كان الإسراف مفسدة بنفسه وسبباً للمفسدة أيضاً لذلك أبغضه اللّه تعالى وأبغض مرتكبه وهذا كاف في النهي عنه، وقد مر أنّ اللّه تعالى ليس محلّاً للحوادث ولا تغيّر في ذاته، فعدم حبه يعني عقابه أي إنّه تعالى يعاقب المسرفين.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ...} الآية.

ص: 61


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 111-113.

تقريع وإنكار لمن حرّموا الزينة المباحة وحرّموا الطيّبات، مع أنّ اللّهتعالى خلقها وقدّرها لأجل انتفاع عباده.

ثمّ بيّن أنهما عامتين للجميع - مؤمنهم وكافرهم - في الدنيا كما قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِۧمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْأخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ}(1).

وقوله: {زِينَةَ ٱللَّهِ} الإضافة للتشريف ولتأكيد أنّها من اللّه تعالى فلا وجه لتحريمها، فالتحليل والتحريم بيد اللّه تعالى وهو قد أباحها.

وقوله: {ٱلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} كأنّه تأكيد للإباحة وتشديد على قبح التحريم حيث إنّ اللّه قدّر هذه الزينة وهيّأ أسبابها فأخرجها إلى عباده لينتفعوا ويتمتّعوا بها، والإخراج إمّا بمعناه الحقيقي أي أخرجها من الأرض كالنباتات والمعادن التي تصنع منها الزينة، أو بالمعنى المجازي أي قدّرها لهم وأوجدها.

وقوله: {وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ} الطيب هو كل ما يستلذّه الإنسان مما يتلائم مع الطبع، وفي الآيات والأحاديث قد يستعمل في كل حلال كقوله: {يُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ}(2)، وقد يستعمل في ما يُستلذ به، والمراد هنا الثاني؛ لأنّ الرزق لا يكون إلاّ من حلال - كما مر - فالطيّبات من الرزق هي المستلذّات وهي بعض المحلّلات التي رزقها اللّه تعالى للناس.

ص: 62


1- سورة البقرة، الآية: 126.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.

وقوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي الغرض من خلقها هم المؤمنون، وأمّاالكفّار فهم أهون على اللّه تعالى من أن يخلق لهم ذلك، لكن لمّا كانت الدنيا دار امتحان ولا يتم الامتحان إلاّ بتمكّن الجميع من كل شيء لذا شارك الكفّار المؤمنين في هذه الطيّبات وإن كانت مشاركتهم بالتعدّي وسيحاسبون عليها في الآخرة، إلاّ أنّه في الدنيا لا يحق للمؤمنين انتزاعها منهم بالقهر، ويجوز لهم التعامل معهم فيها وشراؤها ونحو ذلك فالنفع للمؤمن والوزر على الكافر.

وقوله: {فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} يتعلّق بما تعلّق به {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} فالمعنى هي كائنة في الحياة الدنيا للمؤمنين، فقد خلقها اللّه تعالى لهم.

وقوله: {خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ} حال، والمقصود أنّ اللّه تعالى وإن خلقها في الدنيا للمؤمنين لكنه لم يمنع الكفّار منها لا تكويناً بالقهر ولا تشريعاً حيث حكم بعدم جواز انتزاعها منهم، لكن في الآخرة منع الكفّار منها قهراً.

وقيل: {فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} يتعلّق بقوله: {ءَامَنُواْ} فالمعنى إنّ الذين آمنوا في الحياة الدنيا ستكون الزينة والطيّبات خالصة لهم يوم القيامة، ولكنّه خلاف ظاهر الآية المباركة.

الرابع: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلْإِثْمَ...} الآية.

بعد أن بيّن أنّ اللّه أحل الزينة والطيّبات بيّن أنّه حرّم القبائح والخبائث، فمنها: اعتقادي أو قولي أو عملي، ومنها: الظاهر أو الخفي، ومنها: ما يرتبط

ص: 63

بالإنسان نفسه أو ما يتعدّى إلى غيره، ومنها: ما يرتبط باللّه تعالى أو ما يرتبطبالناس، وقد تضمّنت الآية سبب تحريمها من كونها متجاوزة الحدّ في القبح، أو مبطّئة عن الخير، أو أنّها بغير حق، أو أنّها لا سلطان عليها، أو أنّها جهل، والمحرّمات كلّها محصورة في المذكورات في هذه الآية ولذا صدّرها بقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ}، وقد مر بعض الكلام في بعض هذه المحرّمات في الآية 151 من سورة الأنعام(1):

1- قوله: {ٱلْفَوَٰحِشَ} جمع فاحشة أي كل ذنب تعدّى الحدود في قبحه، ومن مصاديقه الزنا، وقوله: {مَا ظَهَرَ} أي ما أعلن عنه، كنكاح امرأة الأب، وقوله: {وَمَا بَطَنَ} أي ما أخفي، كالزنا، ويمكن أن يراد بالظاهر ما كان قبحه مكشوفاً لهم كالزنا، وبالباطن ما كان قبحه غير معلوم لهم كنكاح امرأة الأب، وبكليهما ورد الأثر(2)، وورد تأويل الباطن بأئمة الجور، والظاهر بما ذكر في القرآن(3).

2- وقوله: {وَٱلْإِثْمَ} سائر الذنوب الكبيرة، ومن ذلك الخمر كما قال تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}(4)، وأصل الإثم هو الأفعال المبطّئة عن الخير فسبب تحريمها هو منعها عن الخير والثواب.

ص: 64


1- التفكر في القرآن، سورة الأنعام: 346-350.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 124.
3- راجع تفسير العيّاشي 2: 16؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 125.
4- سورة البقرة، الآية: 219.

3- وقوله: {وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} أصل البغي هو طلب الفساد، ومنمصاديقه ظلم الغير، ومنها: الزنا سرّاً كما في الخبر(1)، وقيد {بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} توضيحي؛ إذ لا يكون بغياً إلاّ بغير الحق، وإنّما ذكره لبيان علة التحريم كما ذكرنا.

4- وقوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ} بيان المحرّم الاعتقادي، وقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا} قيد توضيحي لبيان علّة التحريم، والمعنى أنّه لا حقيقة للشرك ولذا لم يأمر اللّه به ولم ينزل عليه دليلاً؛ إذ اللّه تعالى يقول الحق ويجعل الدلالة عليه، والشرك باطل فلذا لم يجعل عليه دليلاً بل أقام الأدلة على بطلانه.

5- وقوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} بيان للحرام القولي وهو الافتراء على اللّه تعالى بنسبة أحكام وعقائد وغيرهما إليه عن جهل وعدم حجة.

فتحصّل أن اللّه أحل ما فيه الزينة وما هو طيّب، وحرّم القبيح والخبيث وقد جمعت هاتان الآيتان كلا الأمرين.

الخامس: قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.

وهذا أيضاً من الاعتبار بقصّة آدم فكما كان له أجل في الجنّة وفي الدنيا، فكذلك لكل أمّة أجل فلا يغرّنّهم عدم أخذ اللّه تعالى لهم بذنوبهم

ص: 65


1- الكافي 6: 406؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 126.

فوراً، بل إنّما يملي لهم اللّه تعالى ويستدرجهم ثمّ يأخذهم بعذابه إلاّ أنيتوبوا قبل فوات الأوان.

وقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} والأجل هو نهاية المدّة المعيّنة، والمراد به الأجل المحتوم وقد مر الكلام فيه في الآية الثانية من سورة الأنعام(1)، وقوله: {أُمَّةٍ} كأنّه أراد به أجل المجموع لا أجل كل فرد فرد، فمثلاً أمّة الشرك كان لها أجل وهو فتح مكّة، أو المراد به كل مجموعة من الناس يقترنون في الزمان حيث بعد مضي مدّة ينقرضون كلّهم ويأتي آخرون بدلهم، وقيل: في هذا تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن لا يضيق صدره بفعل الكفّار، فإنّ لهم أجلاً لا يتمكّنون من الفرار منه.

وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} أي حان وقته ونزل التقدير الحتمي، وفي الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «هو الذي سُمّي لملك الموت ليلة القدر»(2)، ومن ذلك يتّضح جواب أنّه كيف يمكن أن يتقدّم الأجل حين مجيء وقته مع استحالة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء؟! فإنّ مجيء الأجل هو نزوله ليلة القدر وأخذهم خلال تلك السنة فيمكن تقديمه أو تأخيره لكن حيث كان محتوماً وقع في وقته المعيّن فقط.

وقوله: {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي لا يمكنهم طلب تأخيره لأنّه يأتيهم بغتة، أو بمعنى أنّهم لا يطلبون طلباً مستجاباً لهم فلو طلبوا التأخير لا يستجاب لهم.

ص: 66


1- التفكر في القرآن، سورة الأنعام: 12-13.
2- تفسير العيّاشي 1: 354.

وقوله: {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يمكنهم طلب تقديمه، حيث إنّ المشركينكانوا يستعجلون بالعذاب تكذيباً منهم لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال سبحانه: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}(1)، وقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(2).

ص: 67


1- سورة الشعراء، الآية: 204.
2- سورة العنكبوت، الآية: 53.

الآيات 35-37

اشارة

{يَٰبَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِي فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 35 وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ 36 فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ أُوْلَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ 37}

35- وكما أوحينا إلى آدم تكليفه كذلك أوحينا إليكم عبر الرسل ف{يَٰبَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} «إن» الشرطيّة، و«ما» لتأكيد معنى الشرط أي إن أتتكم {رُسُلٌ مِّنكُمْ} من جنسكم فهم بشر مثلكم {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ} يخبرونكم {ءَايَٰتِي} دلائل اللّه تعالى {فَمَنِ ٱتَّقَىٰ} حفظ نفسه عن المعاصي {وَأَصْلَحَ} عمله أي عمل عملاً صالحاً {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب اللّه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من أمر الدنيا.

36- {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} جحدوها {وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا} رأوا أنفسهم فوقها فلم يقبلوها {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ} الملازمون لها {هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

37- {فَمَنْ} استفهام تقريري أي هل هناك {أَظْلَمُ} أشد ظلماً {مِمَّنِ

ص: 68

ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا} تقوّل على اللّه ما لم يقله تعالى {أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ} جحد ما قاله اللّه تعالى {أُوْلَٰئِكَ} المفترون والمكذِّبون {يَنَالُهُمْ} يصل إليهم فلاينقطع عنهم {نَصِيبُهُم} ما قسّمه اللّه لهم {مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ} مما كتب لهم من الأعمار والأرزاق فكفرهم لا يمنع من تمتعهم في الدنيا ولكن له غاية، {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} ملك الموت أو أعوانه {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي لأجل أن يقبضوا أرواحهم {قَالُواْ} الرسل وقولهم للتوبيخ والتقريع: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} أين أصنامكم لتدفع العذاب عنكم؟! {قَالُواْ} المفترون والمكذّبون: {ضَلُّواْ} أي غابوا وبطلوا {عَنَّا} عن نصرتنا، {وَشَهِدُواْ} اعترفوا {عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ} حيث لا محيص لهم عن إنكار جريمتهم.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {يَٰبَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِي...} الآية.

بعد بيان فضل اللّه تعالى في المقطع الأوّل بقوله: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا...} الآية، وبعد التحذير من الشيطان في المقطع الثاني بقوله: {لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ...} الآية، وبعد بيان ما أحلّه اللّه وما حرّمه في المقطع الثالث بقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ...} الآية، بيّن اللّه في هذا المقطع الرابع لزوم اتّباع الرسل وعاقبة التقوى والتكذيب، فإنّ اللّه تعالى أوحى إلى آدم (عليه السلام) مباشرة لكونه نبيّاً، ويوحي إلى بني آدم عبر

ص: 69

الأنبياء (عليهم السلام) ، مع وجود دلالة على صدقهم بأنّهم يبينون آيات اللّه تعالى للناس وبذلك تمييزهم عن المدّعين زوراً وكذباً، فالرسل يقصّون آيات اللّه ممّا يدركهاالناس بفطرتهم وعقولهم وأمّا الأدعياء فيحكون الباطل وكفى به دليلاً على كذبهم وافترائهم.

وقوله: {رُسُلٌ مِّنكُمْ} بيان كون الأنبياء من جنس البشر، وأمّا الملائكة فلا يوحون إلى عامّة الناس وإنّما يرسلهم اللّه تعالى لقبض الأرواح حين مجيء أجل كل إنسان.

وفي تقريب القرآن: «لا يقال: لا رسول بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فما معنى ذلك؟

قلت: إنّ الشرط قد يصاغ لإفادة التحقيق، فهو إنشاء مفهوم الشرط لغرض آخر، كما ينشأ مفهوم التعجّب والأمر والاستفهام لأغراض أخرى، فالمراد هنا أنّ الرسل تأتي لتبيّن للناس، فمن أطاع سعد ومن خالف شقي»(1).

وقوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ} القص هو تتبّع الأثر سواء بقول أم بفعل، فمن القول الإخبار عن اللّه تعالى بما يدل عليه، ومن الفعل إظهار المعاجز، ولذا بيّن أنّ المقصوص هو آياته تعالى.

وقوله: {فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ...} بيان الجانب السلبي عبر ترك المعاصي ووقاية النفس منها، والجانب الإيجابي عبر العمل الصالح.

وقوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب اللّه تعالى، والخوف إنّما هو من

ص: 70


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 176.

الأهوال في المستقبل.

معنى عدم حزن المؤمنين

وقوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من الدنيا، والحزن إنّما هو علىأمر قد فات في الماضي.

وهذا لا ينافي خوفهم من الظالمين ومن بلايا الدنيا، وكذلك حزنهم على بعض ما فقدوه من دنياهم؛ لأنّ المقصود هو الخوف والحزن في الآخرة حيث إنّ المؤمن يبشر بالجنّة حين موته وبذلك يرى أنّ تجارته كانت رابحة فلا يحزن على ما فاته من الدنيا، قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(1)، كما لا ينافي خوف المؤمن من عدم قبول عمله أو من سوء عاقبته، بل المؤمن دائماً بين الخوف والرجاء كما في الأحاديث؛ وذلك لأنّ خوفه هذا إنّما هو في الدنيا، فإذا حان موته اطمئن بالقبول وحسن العاقبة حينما تبشره الملائكة، بل حينما يحضره رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ليبشراه بالجنّة كما في الأحاديث.

الثاني: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

كأنّ التكذيب قولي، والاستكبار قلبي وعملي، أو هذه الآية مع الآية السابقة متقابلتان: فأولئك اتقوا التكذيب وهؤلاء كذّبوا، وأولئك أصلحوا قلوبهم وأعمالهم وهؤلاء أفسدوهما بالاستكبار، ثمّ إنّ أولئك لا خوف

ص: 71


1- سورة فصّلت، الآية: 30.

عليهم ولا يحزنون وهؤلاء في خوف وحزن دائمين لأنّهم ملازمون للنار مع أهوالها وحسرتهم على ما فرّطوا في جنب اللّه تعالى.

وقيل: إدخال الفاء في قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} دون قوله: {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ} للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد(1).

الثالث: قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ}.

كأنّه تعليل لخلود المكذّبين المستكبرين في النار، بأنّهم أكثر الناس ظلماً، حيث ارتكبوا أشنع الأعمال وهو افتراء الكذب على اللّه تعالى وتكذيب آياته، فجرمهم مضاعف في الشناعة.

والافتراء على اللّه تعالى ملازم عادة للاستكبار عن آياته سبحانه، فالمعنى إن الذين كذّبوا بالآيات والذين استكبروا عنها فافتروا على اللّه الكذب هؤلاء هم أشد الناس ظلماً.

وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} قد مر أنّ كلمة (أظلم) استعملت في توصيف عدّة من الأعمال وكلّها ترجع إلى الاستكبار على اللّه تعالى وتكذيب آياته، وذلك أشنع الأعمال، وفي التقريب: «إخبار في صورة استفهام ليكون أبلغ؛ إذ السامع يُعد نفسه ليجيب بجواب يُرضي المتكلّم، فهو إخبار مع أخذ الموافقة من السامع»(2).

ص: 72


1- راجع تفسير الصافي 3: 169.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 177.

وقوله: {كَذِبًا} تأكيد لقوله: {ٱفْتَرَىٰ} لأنه لا يكون افتراءً إلاّ إذا كان كذباً، فهو تشديد التشنيع عليهم.

وقوله: {أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ} لعلّ استعمال (أو) مع تلازم الافتراء والتكذيبعادة لأجل بيان أنّ كل واحد منهما يكفي في أن يكون مرتكبه أشد الناس ظلماً، فكيف بمن جمع بين الرذيلتين!

الرابع: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا...} الآية.

بيان أنّ اللّه قدّر لهم أعماراً وأرزاقاً في الدنيا فيُمهلهم ليتمتّعوا بها كما تتمتّع الأنعام فلا يأخذهم فوراً؛ إذ لولا ذلك لبطل الامتحان ولآمن الجميع اضطراراً، مع أنّ اللّه لا يريد إلاّ إيمانهم اختياراً، فلا ينفع الإيمان اضطراراً نظير إيمان أهل النار حيث إنّهم في ندم واصطراخ ليرجعهم اللّه إلى الدنيا حتى يعملوا صالحاً.

وقوله: {يَنَالُهُمْ} النيل - إذا أطلق - كان بمعنى وصول النفع، فالمراد هنا التمتع في الدنيا كما قال تعالى: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ}(1).

وقوله: {نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ} أي ما قسمه اللّه وقدّره لهم.

وقوله: {مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ} أي لوح التقديرات، أو بمعنى ممّا كتبه اللّه تعالى لهم.

ص: 73


1- سورة البقرة، الآية: 126.

وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ...} أي غاية النصيب هو لحظة الاحتضار حيث تحضر ملائكة الموت.

وقوله: {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي لأجل أن يقبضوا أرواحهم، فإنّ التوفّي هو أخذالشيء وافياً كاملاً.

وقوله: {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} (الضلال) هو ضياع الشيء وذهابه في غير حقه(1)، فهو ذهاب بمعناه السلبي، والمراد هنا غيابهم لعجزهم ولكونهم باطلاً لا حق فيه.

وقوله: {وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ...} كأنّ الغرض من سؤال الملائكة إضافةً إلى تقريعهم هو أخذ الإقرار منهم ليكون العدل في عقابهم أظهر وأبين، فإنّ المجرم المعترف لا مجال لتوهم الظلم فيه، واللّه العالم.

ص: 74


1- مقاييس اللغة 3: 356.

الآيات 38-41

اشارة

{قَالَ ٱدْخُلُواْ فِي أُمَمٖ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ فِي ٱلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَىٰهُمْ لِأُولَىٰهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فََٔاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلّٖ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ 38 وَقَالَتْ أُولَىٰهُمْ لِأُخْرَىٰهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٖ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ 39 إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ ٱلسَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ 40 لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٖ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّٰلِمِينَ 41}

ثمّ يأتي ذكر حال الفريقين - المؤمنين والكافرين - في الآخرة، وحيث انتهت الآية السابقة إلى الكفّار حين موتهم بدأ بذكر سوء عاقبتهم في الآخرة:

38- {قَالَ} اللّه سبحانه يوم القيامة: {ٱدْخُلُواْ فِي أُمَمٖ} أي مع أقوام كفّار {قَدْ خَلَتْ} مضت وسبقت {مِن قَبْلِكُم مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ} وقوله: {فِي ٱلنَّارِ} متعلّق ب«ادخلوا» {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} في النار {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} أي الأمّة التي مثلها في الكفر، عكس أهل الجنّة التي تحيّتهم فيها سلام {حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ} أي تداركوا واجتمعوا {فِيهَا} في النار {جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَىٰهُمْ} المتأخّرة زماناً أو رتبةً لكونها التابعة {لِأُولَىٰهُمْ} المتقدّمة زماناً أو رتبةً

ص: 75

لكونها المتبوعة، أي قالت للّه حولهم: {رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} وبقولهم هذايريدون الإفلات من العذاب بإلقاء الذنب على المتبوعين {فََٔاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ ٱلنَّارِ} فعذاب لأنّهم كانوا ضالّين وعذاب آخر لأنّهم أضلّونا وبذلك ننجو نحن من العذاب حيث لا ذنب لنا! {قَالَ} اللّه سبحانه: {لِكُلّٖ ضِعْفٌ} أما الأمّة الأولى وهم المتبوعون من الرؤساء والسلف الماضي فلضلالهم وإضلالهم، وأما الأمّة الأخرى وهم التابعون فلضلالهم وتقويتهم أولئك حيث اتّبعوهم وصاروا سبباً لاستمرار الإضلال للأجيال اللاحقة، {وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ} لأنّكم تشاهدون شدّة العذاب ولا تعلمون أنّه مضاعف.

39- {وَقَالَتْ أُولَىٰهُمْ لِأُخْرَىٰهُمْ} إنّ دعاءكم بمضاعفة العذاب علينا لتفلتوا لا ينفعكم؛ إذ {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٖ} أي اتّباعكم لنا صار ضرراً علينا - بتضاعف عذابنا - فأيّ مِنّة لكم علينا كي نتحمل نحن عنكم العذاب وتنجوا أنتم؟ {فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} فعذابكم المضاعف نتيجة عملكم.

40- ثمّ بيّن اللّه تعالى عدم نجاة أيٍّ منهم من العذاب فقال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا} رفضوها وتكبّروا عن الإيمان بها {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ ٱلسَّمَاءِ} لرفع أعمالهم ولصعود أرواحهم {وَلَا يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ} أبداً {حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ} ثقب {ٱلْخِيَاطِ} أي الإبرة، فكما يستحيل هذا كذلك يستحيل دخولهم الجنّة أيضاً، {وَكَذَٰلِكَ} أي هكذا بمنعهم عن الجنّة {نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ} فبالإجرام يستحيل دخول الجنّة.

ص: 76

41- {لَهُم} لهؤلاء المكذّبين المستكبرين {مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} فراش {وَمِنفَوْقِهِمْ غَوَاشٖ} أغطية من نار، والمراد أنّ النار محيطة بهم من كل الجهات {وَكَذَٰلِكَ} أي هكذا بإدخالهم النار {نَجْزِي ٱلظَّٰلِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم وظلموا أولياء اللّه وظلموا أتباعهم ومتبوعيهم.

بحوث

الأوّل: بعد ذكر أنّ الكفّار لهم نصيب من الكتاب ليتمتعوا في الدنيا وأنّ الملائكة يوبّخونهم حينما يتوفونهم، يذكر اللّه تعالى مصيرهم في الآخرة، وأنهم يلعن بعضهم بعضاً رغم المودّة والاتّباع بينهم في الحياة الدنيا كما قال: {وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَٰنًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٖ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّٰصِرِينَ}(1)، وأنّ التابعين يريدون الفرار من العذاب بإلقاء الذنب على المتبوعين، كما كان يزعم المتبوعون في الدنيا، قال تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَٰيَٰكُمْ وَمَا هُم بِحَٰمِلِينَ مِنْ خَطَٰيَٰهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسَْٔلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(2)، ثمّ يبيّن اللّه تعالى استحالة إدخالهم الجنّة وأنّ جهنّم محيطة بهم من فوقهم ومن تحتهم وأنّ عذاب كل من التابع والمتبوع ضعفٌ لتضاعف جرم كل واحد منهم، وعلى عكسهم المؤمنون فهم متحابون في الجنة حتى لو كانوا متباغضين في الدنيا

ص: 77


1- سورة العنكبوت، الآية: 25.
2- سورة العنكبوت، الآية: 12-13.

حيث ينزع اللّه الغل من قلوبهم وفوقهم أشجار الجنّة وتحت أرجلهم أنهارها، وسيأتي بقية الكلام.

الثاني: قوله تعالى: {قَالَ ٱدْخُلُواْ فِي أُمَمٖ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِفِي ٱلنَّارِ...} الآية.

الظاهر أنّ تكليمهم إمّا بالمباشرة أو بواسطة الملائكة وفي هذا الكلام زيادة إذلال لهم، ويحتمل أن يكون القول هنا بمعنى الإرادة.

وقوله: {فِي أُمَمٖ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم...} (في) بمعنى (مع) أي مع تلك الأمم الذين كنتم تقلّدونهم وتتّبعونهم وقد ذكرهم تعالى قبل آيات فقال: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا}(1).

وقوله: {مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ} أي الشياطين السابقين الذين أضلّوا آباؤكم، والآباء والأمم الذين اتّبعتموهم، وفي ذلك دلالة على أنّ الموعود بالبقاء إلى الوقت المعلوم هو إبليس، وأمّا جنوده وذرّيته فمنهم من يموت قبل ذلك، ولعلّ تقديم الجن لأنّ الضلال يبدأ من إبليس وجنوده ثمّ يتّبعهم فريق من الناس فيضلّون غيرهم.

وقوله: {أُخْتَهَا} أي الأمّة التي مثلها في الضلال، أو التابع والمتبوع، كل منهم يلعن الآخر ويتبرأ منه، قال تعالى: {إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ}(2)، وقال: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم

ص: 78


1- سورة الأعراف، الآية: 28.
2- سورة ص، الآية: 64.

بِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا ٱلْمُجْرِمُونَ}(1).

وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا} «ادّاركوا» هو تداركوا أي اجتمعوافي جهنّم وأدرك بعضهم بعضاً حيث يحتج بعضهم على بعض، ومن هذا يظهر أنّهم قبل ذلك وفي المحشر لم ير بعضهم بعضاً فلكل منهم شأن يغنيه إلاّ أنّهم يطلبون من اللّه تعالى أن يريهم من أضلّهم كما قال: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلْأَسْفَلِينَ}(2)،

فلمّا يدخلون جهنّم جميعاً يبدأ التخاصم بينهم.

وقوله: {قَالَتْ أُخْرَىٰهُمْ لِأُولَىٰهُمْ...} اللام في {لِأُولَىٰهُمْ} بمعنى (عن) أي قالت أخراهم حول أولاهم حيث إنّ المخاطَب هو اللّه سبحانه، وقيل: في الكلام اختصار بليغ أي قالت أخراهم لأولاهم أنتم أضللتمونا ثمّ يدعون اللّه تعالى بقولهم: {رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} ولكن ما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال.

و{أُولَىٰهُمْ} هم السابقون بالرتبة حيث كانوا الرؤساء والمتبوعين، والسابقون بالزمان حيث كانوا الآباء، ومن أبرز مصاديق الصنفين أئمّة الكفر والنفاق والضلال، و{أُخْرَىٰهُمْ} هم المتأخّرون رتبة أو زماناً وهم الأتباع.

وقوله: {فََٔاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ ٱلنَّارِ} يقولون هذا الكلام للتخلّص من العذاب أي حمّل عذابنا عليهم لأنّهم كانوا السبب في إغوائنا، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «برئ بعضهم من بعض ولعن بعضهم بعضاً، يريد بعضهم أن يحج بعضاً رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، وليس بأوان بلوى

ص: 79


1- سورة الشعراء، الآية: 96-99.
2- سورة فصلت، الآية: 29.

ولا اختبار ولا قبول معذرة ولات حين نجاة»(1).

وقوله: {قَالَ لِكُلّٖ ضِعْفٌ} أي كون أولئك سبباً لضلالكم لا يخلّصكم من العذاب بل على العكس يضاعفه عليكم؛ فكما أنّ جرمهم متعدّد كذلك جرمكم، فالمتبوعون كانوا ضالين ومضلّين فلكل واحد من الجريمتين عذاب، وأمّا التابعون فكانوا ضالّين وصاروا سبباً لتقوية أولئك الرؤساء ونفوذ كلمتهم وضلالهم، فكذلك لكل واحد من الجرمين عذاب.

سبب تضاعف العذاب

وقوله: {وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ} أي لا تعلمون تضاعف عذاب كل صنف، ولعلّ ذلك لأنّهم محاطون بالعذاب الأليم فلا يعلمون أنّه عذاب مضاعف، أو لأنّ درجات العذاب متفاوتة حسب كثرة وشدّة الجرائم فلذا لا يمكنهم قياس كل عذاب بالآخر ليعلموا بتضاعفه، فمثلاً أحد المتبوعين كان جرمه ألف سيّئة وصار سبباً لألف سيّئة فعذابه مضاعف بمقدار ألفي سيّئة، والآخر جرمه عشرة آلاف سيّئة وصار سبباً لعشرة آلاف سيئة فعذابه مضاعف بمقدار عشرين ألف، وهكذا الأمر في التابعين حيث إنّ درجات سيّئاتهم وتقويتهم للمتبوعين مختلفة.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَتْ أُولَىٰهُمْ لِأُخْرَىٰهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٖ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}.

هذا ردّ من المتبوعين على التابعين، وحلقة في سلسلة تخاصمهم، حيث إنّ التابعين أرادوا إلقاء ذنبهم على المتبوعين فطلبوا من اللّه تضاعف

ص: 80


1- الكافي 2: 31.

عذابهم، لكن لمّا علم المتبوعون أنّ كلا الفريقين عذابه ضعف فهنا يحتج المتبوعون ويقولون بأنّ اتّباعكم لنا لم يكن فضلاً منكم علينا بل كان نقمة علينا - حيث ضاعف عذابنا - فلأيّ وجه كنتم تريدون إلقاء عذابكم علينا؟!والحاصل أنّ التابع لم يخدم المتبوع حتى يريد أجر خدمته بنقل عذابه إلى المتبوع بل كان اتّباعه ضرراً ووبالاً عليه.

وقوله: {فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ...} ظاهره أنّه من تتمة كلام الطائفة الأولى المتبوعة، فكما أولئك طلبوا مضاعفة عذابهم، هؤلاء يقولون لهم ذوقوا العذاب، قالوه شماتة وتشفّياً وانتقاماً.

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} لأنّ أحداً لم يكرهكم على اتّباع الضالّين، بل أنتم بسوء اختياركم اتبعتموهم فذنبكم ثابت لا محالة.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ ٱلسَّمَاءِ...} الآية.

بيان استحالة دخول المكذّبين المستكبرين إلى الجنّة وذلك لأنّهم مجرمون، ودخول المجرم الجنّة خلاف الحكمة، كما أنّ الآية اللاحقة تبيّن دخولهم إلى النار وذلك لأنّهم كانوا ظالمين، فجرمهم صار سبباً لحرمانهم عن الجنّة، وظلمهم صار سبباً لدخولهم النار، وغير خفي أنّ كلّاً من الإجرام والظلم كما هو مانع عن الجنّة كذلك هو مقتض ٍ للنار، إلاّ أنّ توزيعه بين الآيتين للتأكيد على سوء عاقبة هؤلاء.

وقوله: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَٰبُ ٱلسَّمَاءِ} السماء تفتح ليصعد إليها العمل

ص: 81

الصالح كما قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُ}(1)، كما أنها تفتح ليعرج إليها روح المؤمن، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «أمّا المؤمنونفترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها، وأمّا الكافر فيُصعد بعمله وروحه حتّى إذا بلغ السماء نادى منادٍ: اهبطوا به إلى سجين وهو واد بحضرموت يقال له برهوت»(2).

وقوله: {وَلَا يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ...} الجنّة وإن كانت في السماء السابعة - كما في بعض الأحاديث - إلاّ أنّ دخولها يقتضي فتح أبواب السماء لرفع العمل الصالح وعروج المؤمن أوّلاً، وهكذا بالنسبة إلى الكافر فغلق أبواب السماء يقتضي عدم دخوله الجنّة، ولذا عطف عدم دخول الجنّة على عدم فتح أبواب السماء.

وقوله: {حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ} (السم): الثقب، و(الخياط): الإبرة. وفي مجمع البيان: «تعليق الحكم بما لا يتوهّم وجوده ولا يتصوّر حصوله تأكيد له وتحقيق لليأس من وجوده»(3)، فالمعنى كما يستحيل دخول الجمل في ثقب الإبرة كذلك يستحيل دخول المجرمين الجنّة، حيث إنّ الجنّة ثواب ولا وجه لثواب المجرم على إجرامه.

الخامس: قوله تعالى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٖ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّٰلِمِينَ}.

ص: 82


1- سورة فاطر، الآية: 10.
2- التبيان 4: 400؛ البرهان في تفسير القرآن 4: 129.
3- مجمع البيان 4: 364.

أي لا يقتصر جزاؤهم بمنعهم عن الجنّة فقط، بل يتعدّى ذلك إلى دخولهم النار وإحاطتها بهم.

وقوله: {مِهَادٌ} اسم جمع من المهد وهو الموضع يهيّأ لينام فيه الصبي(1)، وكأنّه لبيان عدم راحتهم لأنّ المهد مكان الراحة، فإذا كان المهد جهنّم فمعنى ذلك عدم الراحة والعذاب الدائم.

وقوله: {غَوَاشٖ} جمع غاشية وهو ما يغطّي الشيء ويستره كاللحاف، فالمراد أنّ جهنّم محيطة بهم من كل الجهات.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّٰلِمِينَ} بيان لعدله تعالى وأنّهم إنّما استحقوا ذلك بظلمهم أنفسهم وظلمهم غيرهم.

ص: 83


1- كتاب العين 4: 31.

الآيات 42-45

اشارة

{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ 42 وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلّٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلْأَنْهَٰرُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 43 وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ 44 ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِٱلْأخِرَةِ كَٰفِرُونَ 45}

لمّا ذكر اللّه تعالى أحوال أهل النار لتكذيبهم واستكبارهم، قابله بذكر أحوال أهل الجنّة لإيمانهم وعملهم الصالح، فقال:

42- {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ} فلم يكذّبوا {وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ} فلم يستكبروا، ولا يراد عملهم بجميع الصالحات؛ إذ {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي نكلّفهم ما يقدرون عليه دون طاقتهم {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ} ملازمون لها {هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

43- {وَنَزَعْنَا} أخرجنا {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلّٖ} حقد وعداوة لتصفو لهم اللذّة حيث إنّ الجنّة لا مكان للقبائح فيها {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلْأَنْهَٰرُ}

ص: 84

عكس أهل النار حيث كانت جهنّم مهاداً لهم {وَقَالُواْ} شاكرين: {ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا} أرشدنا طريق هذا النعيم {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} بما يوصلناإلى الجنّة {لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ} فالفضل له سبحانه حيث وفّقنا للّهداية {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ} فاهتدينا بإرشادهم ولم نكذّبهم، {وَنُودُواْ} النداء من اللّه تعالى أو ممّن يأمرهم اللّه بذلك: {أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ} التي كنتم توعدون بها فهي هذه {أُورِثْتُمُوهَا} صارت إليكم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} جزاءً لأعمالكم الصالحة.

44- {وَ} لمّا علم كل من المؤمنين والكفّار منزلتهم حصل الحوار التالي بينهم ف{نَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ} نداء توبيخ وتقريع: {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} من الثواب والجنّة {حَقًّا} وها نحن قد دخلنا الجنّة {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ} من البعث والنشور والحساب والنار وغيرها من المواعيد {حَقًّا}؟ {قَالُواْ} الكفّار أصحاب النار: {نَعَمْ} حيث لا يمكنهم الإنكار، {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ} أي نادى منادٍ وهو أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حيث أذّن بالبراءة في الدنيا ويؤذن باللعنة في الآخرة فيقول: {أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ} بيان وجه استحقاقهم النار بظلمهم.

45- والظالمون هم {ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ} يمنعون ويضلّون {عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} وهو الصراط المستقيم بالإيمان والعمل الصالح {وَيَبْغُونَهَا} يطلبون السبيل {عِوَجًا} منحرفاً عن الصراط المستقيم {وَهُم بِٱلْأخِرَةِ كَٰفِرُونَ} منكرون جاحدون.

ص: 85

سهولة الدين

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر مصير أهل النار وما يجري عليهم فيها، قابله بنعيم أهلالجنّة وما يجري عليهم فيها، وقابل كل فعلة وقولة لأولئك بفعلة وقولة لهؤلاء، فقابل بين: كذّبوا وآمنوا، وبين استكبروا وعملوا الصالحات، وبين لعنت أختها ونزعنا ما في صدورهم من غلّ، وبين غواش جهنّم وظلال الجنّة، وبين مهاد جهنّم وأنهار من تحتهم، وبين هؤلاء أضلّونا والذي هدانا لهذا، وبين تبرّي التابعين من المتبوعين وجائت رسل ربنا بالحق، وبين العذاب بما كنتم تكسبون والجنّة بما كنتم تعملون، وبين المجرمين الظالمين والمهتدين، وبين استحالة دخولهم الجنّة حتّى يلج الجمل في سم الخياط وسهولة التكاليف الموجبة لدخولها.

الثاني: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...} الآية.

بيان أنّ في طريق الجنّة يُسر وسماح--ة لأنّ التكاليف - وإن كان فيها نوع مشقة - إلاّ أنّها دون طاقة الإنسان، فقد كلّف اللّه الإنسان بما يسعه ولم يكلّفه أزيد من ذلك مع تمكّن الإنسان من الأزيد، فقد كلّفه الصلاة سبع عشرة ركعة في كل يوم وهو يتمكّن أكثر منه، وكلّفه صيام شهر واحد في السنة وهو يستطيع أزيد منه، وكلّفه الحج مرّة واحدة لو كان مستطيعاً وهو قادر على الأكثر، وكلّفه من المال قليلاً ويسعه أكثر وهكذا، وفي الحديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «بعثت بالحنيفيّة السهلة السمحاء»(1).

ص: 86


1- بحار الأنوار 30: 548.

وقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} جملة معترضة وقيل: إنّ الصالحات جمع محلّى باللام يفيد العموم، وقلّما إنسان يتمكن من العمل بجميعها فلذاأراد اللّه تعالى تقويّة الرجاء فيهم ودعوة العصاة للإنابة والتوبة ببيان أنّ التكاليف تسعهم، و(التكليف) من الكلفة التي هي بمعنى المشقّة حيث إنّ الطاعات تخالف الهوى والشهوات عادة لذا كان فيها نوع صعوبة، لكن لا بد في كل نتيجة عاليّة من صعوبة في الوصول إليها، وغاية الغايات الجنّة وهي أعلى المقاصد فكان لا بد من صعوبة فيها لكن اللّه تعالى بلطفه وفضله يسّرها ووسّع فيها.

الثالث: قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلّٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلْأَنْهَٰرُ}.

لأنّ النعمة لا تكمل إلاّ بصفاء القلوب وخلوها من الضغائن، ولأنّ الجنّة دار سلام لا قبائح فيها فلذا ينزع اللّه كل غل من قلوب أهل الجنّة؛ وذلك لأنّ الناس حتى المؤمنين منهم حينما يعيش بعضهم مع بعض - لاختلاف أذواقهم وأفهامهم وأفعالهم - قد ينصدم بعضهم ببعض فتُثار الضغائن كزوج لا يتفق مع زوجته فيطلقها فيورث ذلك غلّاً بينهما وبين أهليهما وأمثاله كثير، والمؤمنون وإن كانوا لا يظهرون هذا الغل عادة إلاّ أنّه يلازم القلب، فينزعه اللّه تعالى يوم القيامة نزعاً، وهذا بخلاف أهل النار حيث إنّهم حتّى المتوادّين منهم يتبرّأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً ويحقد بعضهم على بعض يوم القيامة، قال تعالى: {ٱلْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلْمُتَّقِينَ}(1).

ص: 87


1- سورة الزخرف، الآية: 67.

وقوله: {وَنَزَعْنَا} النزع هو قلع الشيء(1)، وفيه إشعار بلصوقه.

وقوله: {مِّنْ غِلّٖ} هو حقد يتخلل القلب وفي المقاييس: «يدل على تخلّل شيء وثبات شيء كالشيء يُغرز»(2)،

فكأنّ الحقد لاصق لا يزول إلاّ بالقلع، وهذا ما يشاهد في أحقاد الناس في الدنيا حيث لا تزول عادة مهما يكن.

الرابع: قوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ...} الآية.

قد مرّ أنّ الهداية تارة هي إراءة الطريق، وأخرى الإيصال إلى المقصود، وكأنّهم جمعوها هاهنا، فقد أوصلهم اللّه تعالى إلى الجنّة بعد أن أراهم طريقها عبر أنبيائه ووفّقهم إليها بحسن اختيارهم، كما أنّه قد مرّ أنّ كل كمال من اللّه تعالى ومنه الهداية، إلاّ أنّ للإنسان دخلاً فيها لمّا يُحسن النيّة والعمل، وهو معنى الأمر بين الأمرين الذي بيّنه الأئمة (عليهم السلام) .

وقوله: {وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ} بيان لشكرهم نعمة اللّه عليهم بهدايتهم عكس أهل النار حيث قالوا: {رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا...}.

وقوله: {ٱلَّذِي هَدَىٰنَا لِهَٰذَا} أي أوصلنا إلى الجنّة كما قال: {وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}(3).

وقوله: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ} لمّا ذكروا أنّ اللّه تعالى هو الذي

ص: 88


1- مقاييس اللغة 5: 415.
2- مقاييس اللغة 4: 375.
3- سورة محمّد، الآية: 4-5.

هداهم بيّنوا أنّ من طريق هدايته أن أرسل الرسل فجاءوا بالحق من عند اللّه تعالى ولولا إرسالهم لم يكن المؤمنون ليهتدون، وفي ذلك بيان شكرهم للرسل الذين هدوهم، عكس أهل النار الذين يدعون لتضاعف عذاب متبوعيهم الذين أضلّوهم، و{بِٱلْحَقِّ} بمعنى مجيئاً بالحق أو مع الحق الذي هو تعاليمهم من العقائد والأعمال.

وقوله: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ...} وهذا النداء من اللّه أو ممّن يأمره، وذلك قبل دخولهم الجنّة حسب ما يقتضيه السياق، عكس أهل النار الذين كان يقال لهم: {قَالَ لِكُلّٖ ضِعْفٌ}، وفي هذا النداء نوع ثواب للمؤمنين؛ لأنّ الفائز حينما ينال جائزته يُمدح ويبيّن له ولغيره سبب نجاحه فيزداد سروراً.

وقوله: {تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ} الإشارة بالبعيد لأجل تعظيمها ورفعتها، نظير قوله تعالى: {ذَٰلِكَ ٱلْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ}(1)، وقيل: لأنّهم وُعدوا بها في الدنيا، وظاهر السياق أنّه قبل دخولهم فلذلك أشار بالبعيد.

وقوله: {أُورِثْتُمُوهَا} أصل الإرث هو أن يكون شيء لشخص ثمّ بموته ينتقل إلى غيره، وهذا تشبيه أي أ ُعطيتم إيّاها سائغة كما يصير الميراث لأهل الميّت، أو الجنّة كانت في معرض أن ينالها الكفّار أيضاً لو كانوا يؤمنون ويعملون الصالحات فلمّا كفروا وكذّبوا نالها كلّها المؤمنون فكأنّهم ورثوها، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «ما خلق اللّه خلقاً إلاّ جعل له في الجنّة منزلاً، وفي النار منزلاً» - إلى أن قال - «ثمّ ينادي منادٍ: يا أهل النار

ص: 89


1- سورة البقرة، الآية: 2.

ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها». قال: «فلو أنّ أحداً مات حزناً لمات أهل النار حزناً، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء ويورث هؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول اللّه: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْوَٰرِثُونَ * ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}»(1).

أقسام الاستهزاء

الخامس: قوله تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا...} الآية.

هذا من ضمن عقاب أهل النار وجزائهم على تكذيبهم للمؤمنين وسخريتهم منهم وبذلك يتم سرور المؤمنين لمّا يروا إقرار المكذّبين على كونهم على حق، وفي المجمع: «وإنّما سألوهم هذا السؤال لأنّ الكفّار كانوا يكذّبون المؤمنين في ما يدّعون لأنفسهم من الثواب ولهم من العقاب، فهو سؤال توبيخ وشماتة يراد به سرور أهل الجنّة وحسرة أهل النار»(2).

مضافاً إلى أنّه لطف بالعباد في الدنيا لأنّ نقل هذه المحاورة قد توجب ارتداع بعض الكفّار والعصاة عن غيّهم، وأيضاً قد يكون الغرض منه بيان شدّة عدل اللّه تعالى وصدق ما قالته رسله.

ثمّ الاستهزاء والتوبيخ إذا كان في حق وبغرض حق فلا قبح فيه بل هو حسن، وإنّما القبيح منه ما كان بغير الحق أو لغرض باطل، كاستهزاء الكفّار

ص: 90


1- تفسير القمي 2: 89؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 7: 15؛ والآية في سورة المؤمنون: 10-11.
2- مجمع البيان 4: 371.

بالأنبياء والمؤمنين، أو استهزاء الأغنياء بالفقراء لفقرهم مثلاً، قال سبحانه: {وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}(1).

وقوله: {وَنَادَىٰ} إنّما استعمل صيغة الماضي لأنّه متحقق الوقوع فلا ريب فيه كالشيء الذي وقع في الماضي حيث لا ريب فيه، وفي الجمع: «إنّما ذكره بلفظ الماضي لتحقيق المعنى وجعل ما سيكون كأنّه قد كان لأنّه كائن لا محالة وذلك أبلغ في الردع»(2)، أو هو إخبار باعتبار ظرف الحكاية كما يقال: سيجيء زيد بعد شهر معه صقر صائداً به حمامة.

وقوله: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} وقوله: {مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ} نسب المؤمنون الوعد إليهم ولم ينسبوه إلى الكفّار إمّا لتشريف المؤمنين وتحقير المكذّبين،

أو لأنّ الموعود الذي ساء الكفّار - من البعث والحساب ونحوهما - لم يكن خاصاً بهم بل وعده اللّه لكلا الطائفتين من المؤمنين والكفّار، فهم قصدوا بالنسبة إلى أنفسهم الجنّة التي وعدها اللّه للمؤمنين فهم كانوا موعودين بها دون غيرهم، وقصدوا بالنسبة إلى الكفّار جميع المراحل التي يمرّ بها الناس من حين الموت وفي كلّها رأى الكفّار ما يسوؤهم، وفي التقريب: «والوعد وإن كان بالنسبة إلى كلا الطائفتين، إلاّ أنّ انحراف العاصين وإعراضهم واهتداء المطيعين إلى الطريق أورث توجّه الوعد إلى أهل الجنّة والوعيد

ص: 91


1- سورة هود، الآية: 38.
2- مجمع البيان 4: 370.

إلى أهل النار»(1).

وقوله: {قَالُواْ نَعَمْ} اعترافهم وإقرارهم اضطراري حيث يشاهد كلا الطرفين مصير الآخر فلم يكن لهم بد إلاّ من الاعتراف، ولعلّ في الاعتراف طمعاً أيضاً كما سيأتي في الآية 50.

وقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ} الأذان هو الإعلام، ولعلّ الغرض منه هو بيان عدل اللّه تعالى حيث إنّ أهل النار أ ُخذوا بظلمهم فلذا استحقوا لعنة اللّه بالنار، وهذا المؤذن هو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كما ورد بذلك مستفيض الروايات من الشيعة وغيرهم(2)، فقد كلّفه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه تعالى بإعلام البراءة في الحج الأكبر، قال تعالى: {وَأَذَٰنٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلْأَكْبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}(3) بعد أن كلّف أبا بكر بها فأوحى إليه اللّه تعالى أن لا يؤدّيها إلاّ أنت أو رجل منك فعزل أبا بكر وأمر عليّاً (عليه السلام) بإبلاغها(4)، وكذلك سيكلّفه اللّه تعالى يوم القيامة بإعلام اللعنة على الظالمين.

السادس: قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِٱلْأخِرَةِ كَٰفِرُونَ}.

بيان لوجه ظلمهم الذي استحقوا به اللعنة ففي مجال العقيدة هم كافرون

ص: 92


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 183.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 133-134.
3- سورة التوبة، الآية: 3.
4- معاني الأخبار: 298؛ نهج الحق: 204.

بالآخرة، وفي مجال العمل هم يصدّون عن سبيل اللّه ويطلبون السبيل المنحرفة، وكل كافر يصدّ عن سبيل اللّه سواء كان من الرؤساء الذين يسوقون الناس إلى الباطل، أم كان من الأتباع الذين يقوّون أولئك في باطلهم فلولا الأتباع لما تمكّن الرؤساء من إضلال الناس.

وقوله: {وَيَبْغُونَهَا} الضمير يرجع إلى (السبيل) أي يطلبون السبيل العوجاء المنحرفة عن الصراط المستقيم، أو يرجع إلى (سبيل اللّه) فالمعنى يحاولون تحريف سبيل اللّه عبر تحريف الدين والأحكام فيكون صدّهم عن السبيل بطلب التحريف، والأوّل أظهر حيث إنّهم يصنعون أمرين: المنع عن سبيل اللّه، والتوجيه إلى سبيل الباطل.

وقوله: {وَهُم بِٱلْأخِرَةِ كَٰفِرُونَ} لعلّ إفراد ذكر الآخرة مع أنّها داخلة في سبيل اللّه وهم كانوا يصدّون عنها لأجل بيان وجه أخذ الاعتراف منهم بأنّهم هل وجدوا ما وعد ربّهم حقّاً؟ فهؤلاء كانوا كافرين بالآخرة لكنّهم في النار يعترفون بها، وكانوا يصدّون عن سبيل اللّه الموصلة إلى الجنّة فكان مصيرهم إلى النار ولعنة اللّه سبحانه.

ص: 93

الآيات 46-49

اشارة

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَىٰهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ 46 وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَٰرُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَٰبِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ 47 وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَىٰهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ 48 أَهَٰؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ 49}

46- {وَبَيْنَهُمَا} بين أهل الجنّة وأهل النار {حِجَابٌ} فاصل وستر يمنع وصول أثر أحدهما إلى الآخر {وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ} مرتفعات ذلك الحجاب {رِجَالٌ} لهم مكانة ومنزلة وهم آل محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام ف{يَعْرِفُونَ كُلَّا} من أهل الجنّة وأهل النار {بِسِيمَىٰهُمْ} أي علائم في وجوههم وكأنّ المراد أشكالهم وصورهم التي كانوا عليها في الدنيا، {وَ} لأصحاب الأعراف نداءان أحدهما لأهل الجنّة والآخر لأهل النار ف{نَادَوْاْ} نادى أصحابُ الأعراف {أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ} قائلين لهم: {أَن سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ} يبشرونهم بفوزهم بالجنّة، وهذه البشارة حال كون أهل الجنّة {لَمْ يَدْخُلُوهَا} لم يدخلوا الجنّة بعدُ {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} والطمع شدّة الرغبة، فتأتي البشارة لتطمئنهم.

ص: 94

47- {وَ} أصحاب الأعراف لا يرغبون في النظر إلى أهل النار لكنحيث لا بد من ذلك ف{إِذَا صُرِفَتْ} توجّهت {أَبْصَٰرُهُمْ تِلْقَاءَ} جهة {أَصْحَٰبِ ٱلنَّارِ} ابتدأوا كلامهم بالاستعاذة ف{قَالُواْ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا} في النار {مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ}.

48- {وَ} بعد الاستعاذة يأتي نداؤهم لأهل النار ف{نَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَىٰهُمْ} صورهم التي كانوا عليها في الدنيا {قَالُواْ} لهم: {مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ} والاستفهام للتقريع والتوبيخ أي هل نفعكم {جَمْعُكُمْ} ما جمعتموه في الدنيا من السلطة والمال والأتباع وغيرها {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أي استكباركم على المؤمنين حيث كنتم تستضعفونهم؟

49- {أَهَٰؤُلَاءِ} استفهام للتقرير أي هل هؤلاء المؤمنون هم {ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} حلفتم في الدنيا بأنّه {لَا يَنَالُهُمُ} لا ينزل عليهم ولا يعطيهم {ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ}؟ لكن انظروا إلى رحمة اللّه إليهم، فيتوجّه أصحاب الأعراف إلى المؤمنين قائلين لهم: {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَىٰهُمْ}.

حيث إنّ الآيات حول الجنّة والنار وأهلهما، فلذا بيّن اللّه تعالى في هذه الآيات الآمرين بدخولهما وهم أصحاب الأعراف حيث يكلّفهم اللّه تعالى بتقسيم الجنّة والنار بين من يستحقهما فيأمرون أهل الجنّة بدخولها وأهل

ص: 95

النار بدخولها؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى قدّر للدنيا والآخرة أسباباً فلذا يحضر فيالآخرة الأشهاد والكتب والميزان وغير ذلك، وكذلك في الدنيا كلّف الملائكة بتدبير أمر الكون والحفظ وكتابة الأعمال وغير ذلك.

معاني الأعراف

ثمّ اعلم أنّ الأعراف:

1- إمّا جمع (عُرف) وهو المرتفع من الشيء، ومنه عُرف الديك للتاج على رأسه، وعرف الضبع للشعر الذي يعلو على رقبته.

2- وإمّا جمع (عارف) - كأنصار جمع ناصر - وهو الذي له المعرفة بالشيء بأن يعلمه بأوصافه وخصوصياته.

3- وإمّا جمع (عريف) - كأشراف جمع شريف - وهو السيد المعروف الذي يعرف الناس ويعرفونه.

فعلى الأوّل: فالأعراف مرتفعات بين الجنّة والنار، ولعلّها السور المذكور في قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٖ لَّهُ بَابُ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَٰهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ}(1).

وعلى الثاني: يكون المقصود أنّ العارفين مجموعة من الناس وعلى رأسهم هؤلاء الرجال، كما يقال: على الناس أمير، فهؤلاء الرجال يعرفون اللّه تعالى، وعن طريقهم يعرف الناسُ اللّهَ تعالى، فمن عرفهم عرف اللّه ومن جهلهم جهل اللّه تعالى، وهم يميّزون الناس حيث إنّ المؤمنين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، والمنافقين لا نور لهم، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ

ص: 96


1- سورة الحديد، الآية: 13.

وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم} إلى قوله: {يَوْمَ يَقُولُٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}(1).

وعلى الثالث: يكون المعنى يعرفهم من حضر المحشر، وهم يعرفون الكل، فمن عرفوه بالإيمان أدخلوه الجنّة ومن عرفوه بالكفر أو النفاق أدخلوه النار، كل ذلك بإذن اللّه تعالى.

الرجال الذين على الأعراف

ثمّ اعلم أنّ هؤلاء الرجال هم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) كما ورد في ذلك مستفيض الروايات(2)، ويمكن إرادة كل المعاني الثلاثة إمّا من باب أنّها مصاديق للمعنى الجامع بينها، أو يراد أحدها تفسيراً والآخران تأويلاً، وهذا لا ينافي وجود جماعة أخرى على الأعراف وهم المؤمنون الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم فإن أدخلهم اللّه الجنّة فبرحمته وإن أدخلهم النار فبذنوبهم كما في بعض الروايات.

روى الكليني رضوان اللّه عليه في الكافي بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «جاء ابن الكّوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين {وَعَلَى ٱلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَىٰهُمْ} فقال: نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذين لا يُعرف اللّه عز وجل إلاّ بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف يُعرِّفنا اللّه عز وجل يوم القيامة على الصراط فلا يدخل الجنّة إلاّ من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار إلاّ من أنكرنا وأنكرناه،

ص: 97


1- سورة الحديد، الآية: 12-13.
2- راجعها في البرهان في تفسير القرآن 4: 134-150؛ وبحار الأنوار 8: 335-341.

إنّ اللّه تبارك وتعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه، ولكن جعلنا أبوابهوصراطه وسبيله والوجه الذي يُؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا فإنّهم عن الصراط لناكبون، فلا سواء من اعتصم الناس به، ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربّها لا نفاد لها ولا انقطاع»(1).

وروى بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: - في حديث ذكر فيه أصحاب الأعراف - قال: «قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم، فإن أدخلهم اللّه النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته»(2).

وقيل: إن الأعراف محل خلود مؤمني الجن وكذلك من نجح من القاصرين والمستضعفين في امتحان الآخرة، ونعيمهم فوق نعيم الدنيا ودون نعيم الجنّة، وقد يستفاد ذلك من بعض الأخبار(3)، واللّه العالم بحقيقة الحال.

وقوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} ظاهره أنه بين أهل الجنّة وأهل النار، وقيل: بين الجنّة والنار، والمآل واحد، و(الحجاب) ما يستر بين شيئين وكأنّه يستر النعيم والعذاب بينهما ولا يستر الرؤية؛ لأنّ الكفّار والمنافقون يرون المؤمنين ويطلبون منهم أن ينظروا إليهم ليقتبسوا من نورهم.

وقوله: {رِجَالٌ} نص في كونهم من البشر فلا وجه لتأويله من غير دليل بالملائكة وزعم أنّهم تمثّلوا بشكل رجال، وهؤلاء إمّا كلّهم رجال أو

ص: 98


1- الكافي 1: 184، وراجع شرح الحديث في كتاب شرح أصول الكافي، للمؤلّف 3: 115-118.
2- الكافي 2: 381.
3- راجع بحار الأنوار 8: 335 و 341.

الغالب منهم الرجال وهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من آل محمد (عليهم السلام) ومعهم فاطمة وخديجة (عليهما السلام) كما في الخبر(1).

وقوله: {بِسِيمَىٰهُمْ} السيماء العلامة في الوجه، فيمكن أن يراد بها هنا صورتهم التي كانوا عليها في الدنيا حيث يحشرون بها، ويمكن أن يراد به سيماء المطيعين والعصاة، فيعلو المؤمنين النور، ويرهق الكفّار والمنافقين الظلمة والغبرة والزرقة، قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٖ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ}(2)، وقال: {يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَٰهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلْأَقْدَامِ}(3)، وقال: {وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٖ زُرْقًا}(4).

الثاني: قوله تعالى: {وَنَادَوْاْ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}.

هذا نداء لهم قبل أن يأمروهم بدخول الجنّة، ولعلّ سبب ذلك أنّ الناس في المحشر في اضطراب وهول وقد يطول بهم الحساب، فيبشرونهم في بداية الأمر بأنّهم سالمون من المشاكل والمصاعب والعذاب لتطمئن قلوبهم، كما قال تعالى: {لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلْأخِرَةِ}(5)، وقال:

ص: 99


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 138؛ عن بصائر الدرجات.
2- سورة عبس، الآية: 38-42.
3- سورة الرحمن، الآية: 41.
4- سورة طه، الآية: 102.
5- سورة يونس، الآية: 64.

{بُشْرَىٰكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ}(1).

وقوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا} حال أي نادى أصحاب الأعراف أهل الجنّة بقول سلام عليكم حال كون أهل الجنّة لم يدخلوها.

وقوله: {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} الطمع هو شدّة الرغبة في الشيء فإن كان لأمر الآخرة كان حسناً، قال: {وَٱلَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ}(2)، وقال: {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّٰلِحِينَ}(3)، وقال: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَٰيَٰنَا أَن كُنَّا أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(4)، وحال هؤلاء عكس حال الكفّار حيث إنّهم يائسون مبلسون من رحمة اللّه، قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(5).

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَٰرُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَٰبِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ}.

كأنّ هذا كالمقدمة للنداء الثاني وهو نداء أصحاب الأعراف أهل النار، فكأنّهم لا يرغبون في النظر إليهم استحقاراً لشأنهم، أو لإرادتهم الاستمرار في رؤية أصحاب الجنّة سروراً بهم، كمن يطيل النظر إلى وليّه ولا يصرف بصره إلى عدوّه، أو لبشاعة ما هم عليه من الصورة والشقاء، ولعلّه لذلك

ص: 100


1- سورة الحديد، الآية: 12.
2- سورة الشعراء، الآية: 82.
3- سورة المائدة، الآية: 84.
4- سورة الشعراء، الآية: 51.
5- سورة العنكبوت، الآية: 23.

قال: {صُرِفَتْ} بالمجهول للدلالة على كراهتم لذلك فكأنّ هناك من صرفهم إلى النظر إليهم.

وقوله: {تِلْقَاءَ} هي جهة اللقاء وهي الجهة المقابلة.

وقوله: {قَالُواْ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا...} هذا تعوّذ منهم باللّه تعالى من النار وعذابها وإن كانوا يعلمون بأنّهم لا يصيبهم من عذابها شيء كما قال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}(1)، لكنّهم يدعون بهذا الدعاء طلباً لاستمرار لطف اللّه بهم وتضرّعاً إليه تعالى لعلمهم بأنّه هو الذي وقاهم منها كما قال: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ}(2)، وقال: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ}(3)، أو حيث إنّ اللّه تعالى كلّفهم بتقسيم الجنّة والنار وأمر أهل كل منهما بدخوله سألوه أن يستمر في توفيقهم في العدل والائتمار بأوامره لئلا يكونوا من الظالمين، فالدعاء للاستمرار في الهداية.

الرابع: قوله تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَىٰهُمْ قَالُواْ...} الآية.

هذا هو النداء الثاني الخاص بأهل النار، ولعلّ الابتداء بنداء أهل الجنّة للتسريع في تبشيرهم.

وقوله: {مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} قيل: فيه دلالة على أنّ المنادى هم

ص: 101


1- سورة الأنبياء، الآية: 101-102.
2- سورة المؤمنون، الآية: 93-94.
3- سورة الأعراف، الآية: 150.

الرؤساء، لكن الأقرب وبقرينة السياق إرادة جميع الكفّار والمنافقين؛ لأنّ الأتباع هم من ضمن الجمع أيضاً حيث يستقوون برؤسائهم وأقرانهم، وكلّهم كانوا يستكبرون، وهذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع، وأيضاً هو مقدمة لبيان انتفاع المؤمنين بإيمانهم وعملهم الصالح، فيكون حاصل المعنى: أنتم لم تنتفعوا بما كان لكم لكن هؤلاء المؤمنين انتفعوا بما كان معهم.

وقوله: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} الظاهر أنّ المراد هو الاستكبار على المؤمنين حيث كانوا أقلية مضطهدة لا يتمكّنون من فعل شيء تجاه الكفّار والمنافقين، وكان من مصاديق استكبارهم هو زعمهم أنّ المؤمنين لا تنالهم رحمة اللّه تعالى لأنّهم ليسوا على خير! قال تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {أَهَٰؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ...} الآية.

الاستفهام تقريري كأنّهم يقولون لهم انظروا إلى هؤلاء الذين كنتم تستضعفونهم وتزعمون أنّهم لا ينالون رحمة اللّه، انظروا كيف أنعم اللّه عليهم، فإنّ درجات الآخرة ليست بالمال والسلطة والجمع في الدنيا.

وقوله: {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ...} الخطاب لأهل الجنّة، فبعد أخذ الإقرار من المستكبرين يتوجه الخطاب إلى أهل الجنّة فيقول لهم أصحاب الأعراف: {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ...}.

ص: 102


1- سورة الأحقاف، الآية: 11.

وفي الآية اختصار بليغ إذ المراد أن أصحاب الأعراف يخاطبون أهل النار قائلين لهم: ادخلوا النار فأنتم خائفون مغمومون فيها، ويفهم هذا من السياق وكذلك قولهم: {مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}.

وقد روت الخاصّة والعامّة أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاطب أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) فقال: «لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق»(1)، وبذلك يتميّز أهل الجنّة عن أهل النار، وفي مستفيض الروايات أنّ عليّاً (عليه السلام) قسيم الجنّة والنار فعنه (عليه السلام) أنّه قال: «أنا يعسوب المؤمنين، وأنا أوّل السابقين، وخليفة رسول رب العالمين، وأنا قسيم الجنّة والنار، وأنا صاحب الأعراف»(2)، وعنه (عليه السلام) أنّه قال: «نحن نقف يوم القيامة بين الجنّة والنار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار»(3).

ص: 103


1- من العامّة مسند أحمد 1: 95؛ سنن النسائي 8: 116؛ فتح الباري 7: 58؛ ومن الخاصّة: الأمالي للشيخ الصدوق: 134؛ الإرشاد 1: 40؛ الأمالي للشيخ الطوسي: 78؛ الغدير 3: 184.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 144.
3- مجمع البيان 4: 375؛ شواهد التنزيل 1: 263.

الآيات 50-53

{وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ 50 ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ 51 وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ 52 هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ 53}

ثمّ يذكر اللّه تعالى حال أهل النار وكيف ذلّوا بعد الاستكبار، فقال:

50- {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ} بعد دخول كل من الفريقين إلى مكانهما {أَنْ أَفِيضُواْ} صبّوا {عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاءِ} لنروي عطشنا أو لنبرّد حرّ جهنم {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ} من الطعام ونحوه، {قَالُواْ} أهل الجنّة: لا يمكننا ذلك حيث {إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا} حرّم الماء والرزق {عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ} لعلّهم قالوا ذلك لئلا يتوهم بخلهم، وإنّما هنالك مانع هو الكفر.

51- وأما تحريم اللّه فعقوبة لهم، فهم {ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} أي بدّلوا دين الحق باللّهو وهو فعل ما يشغل الإنسان عما يهمّه، وباللعب وهو فعل ما لا غرض فيه، أو بمعنى سخروا من الدين الحق، {وَغَرَّتْهُمُ}

ص: 104

خدعتهم بجهالة {ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا} بزخارفها وشهواتها، {فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ}نتركهم ولا نعتني بشأنهم فلا ماء ولا رزق لهم {كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا} بأن لم يستعدّوا له، {وَمَا كَانُواْ} أي وكما كانوا {بَِٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ} فجمعوا بين عدم الاستعداد للآخرة وجحدها وجحد سائر الآيات.

52- {وَ} ليس لهم في ذلك عذر حيث أتممنا الحجّة عليهم ف{لَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ} جعلناه فصولاً في المواعظ والأحكام وسائر ما فيه الهداية فلم يكن مبهماً {عَلَىٰ عِلْمٍ} أي كنا عالمين بكيفيّة التفصيل بحيث كان ميسّراً حكيماً نافعاً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد حال كونه {هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} فإن كان هؤلاء آمنوا فقد اهتدوا ورحمهم اللّه تعالى لكنهم رفضوا الإيمان بسوء اختيارهم.

53- ف{هَلْ} استفهام إنكاري بمعنى النفي {يَنظُرُونَ} ينتظرون {إِلَّا تَأْوِيلَهُ} تأويل الكتاب أي ما يؤول إليه أمر القرآن بانكشاف حقائقه عياناً ومنه العذاب، والمعنى إنّ هؤلاء لا يقبلون الآيات والدلائل الواضحة إلاّ حين رؤية العذاب، لكن {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} وهو يوم القيامة يقرّون به لكن لا ينفعهم ذلك؛ إذ {يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ} تركوه {مِن قَبْلُ} في دار الدنيا: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ} الذي كنا نكذّب به {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا} لنتخلص من العذاب {أَوْ} هل {نُرَدُّ} إلى دار الدنيا {فَنَعْمَلَ} عملاً صالحاً {غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} من اتخاذ الدين لهواً ولعباً والجحد بالآيات وغير ذلك؟ لكن لا شفعاء ولا ردّ بل {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ}

ص: 105

صرفوا حياتهم في ما أورثهم النار بدلاً عن الجنّة {وَضَلَّ عَنْهُم} غاب وبطل {مَّا كَانُواْيَفْتَرُونَ} من الشركاء فلا يشفعون لهم.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات تخبرنا عن حوار سيدور بين أهل الجنّة وأهل النار حيث إنّ أهل النار كانوا يستكبرون على المؤمنين ويستضعفونهم فكانت عاقبة أمرهم التذلّل لهم وإظهار الافتقار إليهم، ولعلّ طلبهم الماء والرزق لفرط الحاجة والاضطرار مع علمهم بعدم نفع الطلب، أو لعلّهم لمّا يرون كرامة المؤمنين على اللّه يستشفعون بهم، أو لعلّهم يرون طيب المؤمنين وعلو أنفسهم وقدرهم فيريدون الانتفاع بهم، والظاهر أنّ المؤمنين لا مانع لهم من إسعافهم إلاّ أن عذابهم كان عقوبة لهم على سوء أعمالهم مع إتمام الحجّة عليهم بحيث لم يبق لهم عذر فلم تكن المصلحة في تخفيفه عنهم فلذا حرّمهما اللّه عليهم، والمؤمنون كما يطيعون اللّه في الدنيا كذلك لا يخالفونه في الآخرة، فإنّ الآخرة وإن لم تكن دار تكليف لكنها دار كمال والمؤمنون هنالك كاملون فيعملون بما يريده اللّه تعالى من غير أمر ولا نهي، فحيث إنّ اللّه منعهما عن الكافرين فلا وجه لإفاضتهما عليهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا...} الآية.

يبدو أنّ هذا بعد دخول كلا الطائفتين إلى مواضعهما من الجنّة والنار، ويحتمل أن يكون قبل ذلك وفي المحشر؛ لأنّ المؤمنين يرتوون فيه من

ص: 106

حوض الكوثر - بما فيه من الماء والطعام - ويحرم ذلك على الكافرين،والأوّل أقرب.

وقوله: {أَفِيضُواْ} أصل الإفاضة بمعنى امتلاء الإناء ونحوه بالماء وسيلانه منه لشدّة امتلائه، ومنه فاض الدمع حينما تمتلأ العين فيجري منها، ولعل استعمال هذه الكلمة لأنّهم يرون كثرة نعيم أهل الجنّة بحيث يمكنهم الاستغناء عن بعضه والتصدّق به، وفيه دلالة على أنّ الجنّة فوق النار لأنّ الإفاضة إنّما تكون من العلو إلى السفل.

وقوله: {مِنَ ٱلْمَاءِ} قيل: قدّموا الماء لأنّ الحاجة إليه أشد حيث اشتدّ عطشهم من حر جهنّم، أو ليخففوا من حرارته.

وقوله: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ} وهو الطعام أو مطلق الرزق فيشمل الألبسة وغيرها من النعيم فيكون ذكر الماء تخصيصاً قبل تعميم لأهمّيّته لهم.

ثمّ إنّ طلبات أصحاب النار متعددة وعلى مراحل، ففي البداية يطلبون الإرجاع إلى الدنيا ليصحّحوا ما اقترفوه، ثمّ يطلبون الماء والرزق، ثمّ يطلبون تخفيف العذاب ولو يوماً، ثمّ يطلبون الموت، لكن لا بد من عقوبتهم بمقدار جرمهم وهي خلودهم في النار من غير تخفيف، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}(1)، وقال: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ ٱلْعَذَابِ}(2)، وقال: {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم

ص: 107


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
2- سورة غافر، الآية: 49.

مَّٰكِثُونَ}(1).

وقوله: {قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا...} لعلّ هذا في مقابل منع الكفّار في الدنيا كثيراً من الأمور عن المؤمنين، حيث كانوا يستأثرون بالمال والسلطة ويجعلونها دولة بينهم وبين أتباعهم ويمنعون المؤمنين حقوقهم، ويستكبرون عليهم، لكنّهم في الآخرة يقفون أمامهم أذلّاء يطلبون منهم ما ليس للكفّار حق فيه، فتارة يطلبون اقتباس النور منهم، وأخرى الماء والرزق، والمؤمنون لا يفعلون ذلك لأنّ اللّه تعالى حرّم كل ذلك على الكافرين.

الثالث: قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا...} الآية.

بيان أنّ تحريم اللّه تعالى إنّما هو عقوبة لأعمالهم وأنّه لا مصلحة في العفو أو تخفيف العذاب عنهم، وقد جمعت الآية - على إيجازها - أربعة أسباب للكفر مما صارت سبباً لهذا الحرمان:

1- قوله: {ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} إمّا بمعنى أنّ دينهم كان اللّهو واللعب بدلاً من التديّن بالدين الحق، فأشركوا باللّه وأحلّوا الحرام وحرّموا الحلال، ولم يكن ذلك ببرهان ودليل بل مجرد لهو ولعب، فدينهم اللّهو فغفلوا عن الدين الحق، واللعب فانشغلوا بما لا نفع لهم فيه، وإمّا بمعنى أنّهم سخروا من الدين الحق الذي أنزله اللّه عليهم فاتخذوه مرمى لعبهم ولهوهم، والأوّل أظهر.

ص: 108


1- سورة الزخرف، الآية: 77.

2- وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا} الغرور هو الخداع بجهالة، فالدنيا بشهواتها وزخارفها وزبرجها خدعتهم عن الآخرة فاتّبعوها بسفاهة.

3- وقوله: {فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا} بيان السبب الثالث وهو نسيان الآخرة بعدم العمل لها، مع بيان عقوبتهم بتركهم وعدم الاعتناء بشأنهم، والنسيان هو محو صورة الشيء عن الذهن بعد أن كان فيها، وقد يستعمل بمعنى الترك مجازاً لأنّ التارك يفعل كفعل الناسي، فهم تركوا الآخرة مع تذكيرهم بها، واللّه تعالى - عقوبةً لهم - يتركهم في جهنّم مع استغاثتهم فيها.

4- وقوله: {وَمَا كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ} أي وكما كانوا بآياتنا يجحدون، ولا يكون الجحد إلاّ عن عناد.

ثمّ اعلم أنّ هذه الأسباب صنفان ولعلّه لذلك فصل بينهما ببيان العقوبة بقوله: {فَٱلْيَوْمَ نَنسَىٰهُمْ}، فصنف يرتبط بالعقيدة والعمل الباطلين بالاتخاذ والغرور، وصنف يرتبط بالعقيدة والعمل الحقّين بالترك والحجود.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم بِكِتَٰبٖ فَصَّلْنَٰهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}.

بيان عدم عذرهم في كفرهم بحيث استحقوا الحرمان؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى أنزل عليهم الكتاب ميسّراً لا لبس فيه وقد فصّل فيه ما يوجب الهداية والرحمة، فأتم الحجّة عليهم، لكنّهم عاندوا فاستحقوا ذلك الحرمان.

وقوله: {وَلَقَدْ جِئْنَٰهُم...} حال، أي هؤلاء جحدوا ونسوا واغتروا واتخذوا... والحال أنّ اللّه قد بيّن لهم.

ص: 109

وقوله: {فَصَّلْنَٰهُ} أي جعلناه فصولاً في العقائد والمواعظ والأحكام وغيرها، أو ذا فصل بين الحق والباطل، وبذلك ظهر الحق بوضوح.

وقوله: {عَلَىٰ عِلْمٍ} أي عالمين بكيفيّة ذلك التفصيل، بحيث لا يبقى عذر لأيّ أحد.

وقيل: هذا يتضمّن احتجاجاً على حقيقة الكتاب، وتقديره: ولقد جئناهم بكتاب حق، وكيف لا يكون حقّاً وقد نزل على علم منّا بما يشتمل عليه من المطالب.

وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} أي حال كون المجيئ أو التفصيل أو القرآن هدايةً ورحمةً، فالهداية عن الضلال والرحمة بالنعمة في الدنيا والآخرة.

وقوله: {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} أي الكتاب نزل على الجميع إلاّ أنّ الهداية والرحمة إنّما هما للمؤمنين بحسن اختيارهم وأما المعاندون فنقمة عليهم، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}(1)، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}(2)، وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ

ص: 110


1- سورة الإسراء، الآية: 82.
2- سورة فصّلت، الآية: 44.
3- سورة التوبة، الآية: 124-125.

نَسُوهُ مِن قَبْلُ...} الآية.

إنكار عليهم بأنّهم لا يؤمنون مع ما يشاهدونه من الآيات الواضحة، ولكن حينما يلاقون عاقبة عملهم في الآخرة هناك يعترفون أوّلاً بأنّ الكتاب حق ثمّ يبحثون عن مخرج للنجاة إمّا عبر الشفعاء أو عبر رجوعهم إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، لكن هيهات فلا شفعاء لأنّ شركاءهم بطلوا عنهم فلا يستطيعون الشفاعة، وأولياء اللّه لا يشفعون إلاّ لمن ارتضاه اللّه تعالى، ولا رد لأنّهم خسروا أنفسهم في الدنيا حيث باعوها بالعذاب.

وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ} الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، والنظر بمعنى الانتظار أي هل يؤخِّرون إيمانهم إلى يوم القيامة؟

وقوله: {إِلَّا تَأْوِيلَهُ} التأويل من الأوْل أي ما يؤول إليه الشيء ويرجع إليه، وتأويل القرآن هو الحقائق المقصودة فيه، وهذه الحقائق تظهر عياناً في الآخرة، فآيات العذاب مثلاً تدل على حقيقة هي مئآل ومرجع هذه الآيات، وهناك يذوقون العذاب فتظهر لهم الحقيقة بحق اليقين، وقد مر بعض الكلام حول التأويل في سورة آل عمران(1)، والحاصل: يرون في القيامة ما حذّر القرآن منه وما وعدهم عليه من سوء العاقبة، وضمير {تَأْوِيلَهُ} يرجع إلى الكتاب.

وقوله: {يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ...} هذا اعتراف منهم، لكنه جاء متأخّراً حيث اضطروا إليه، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا *

ص: 111


1- التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 32-34.

هَٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَٰذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ}(1)، وكأنّ اعترافهم مقدمة لاسترحامهم واستغاثتهم، وهنا يبحثون عن أحد مخرجين:

1- إما شفعاء ليشفعوا لهم من غير عمل منهم، وجوابهم بأنّه ضل عنهم شركاؤهم الذين كانوا يفترونهم، قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ}(2).

2- وإمّا الرجوع إلى الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً ينجيهم من النار، وجوابهم بأنّهم قد خسروا الصفقة فلا رد ولا إقالة.

وقوله: {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} هذا جواب طلبهم فقد كان ثمن أنفسهم الجنّة كما قال: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ}(3)، لكنّهم بسوء اختيارهم اشتروا بأنفسهم النار فخسرت صفقتهم، قال سبحانه: {بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ}(4).

ص: 112


1- سورة الطور، الآية: 13-15.
2- سورة يونس، الآية: 18.
3- سورة التوبة، الآية: 111.
4- سورة البقرة، الآية: 90.

الآيات 54-58

اشارة

{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ 54 ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ 55 وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ 56 وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلْنَا بِهِ ٱلْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 57 وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِ--دًا كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَشْكُرُونَ 58}

بعد أن ذكر اللّه تعالى - في الآيات السابقة - تكذيب المشركين بالآيات واستكبارهم عليها، بيّن في هذه الآيات أدلة توحيد اللّه تعالى وأنّه المالك لكل شيء فلا بد للناس من عبادته وطاعته، فقال:

54- {إِنَّ رَبَّكُمُ} الخالق والمدبّر هو {ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ} أوجد {ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ} ستة أوقات ومراحل {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ} توجّه واستولى {عَلَى ٱلْعَرْشِ} أي زمام أمور السماء والأرض بيده، وللعرش مصاديق: فمنها: الجسم المحيط بالعالَم يصدر اللّه منه التدبيرات، ومنها: العلم، ومنها: الملك والسلطة، {يُغْشِي} اللّهُ {ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ} أي يستر اللّهُ تعالى ضوء النهار

ص: 113

بواسطة ظلمة الليل {يَطْلُبُهُ} أي يطلب الليل النهار طلباً {حَثِيثًا} بإصرار،وهذا كناية عن تعاقب الليل والنهار باستمرار فكأنّ كل واحد منهما طالب للآخر. {وَ} خلق {ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ} حال كونها {مُسَخَّرَٰتِ بِأَمْرِهِ} خاضعات ومذلَّلات بإرادة اللّه تعالى في دورانها وطلوعها وغروبها وغير ذلك. {أَلَا} للتنبيه أي انتبهوا {لَهُ} للّه تعالى وحده لا شريك له {ٱلْخَلْقُ} إيجاد الأشياء {وَٱلْأَمْرُ} التدبير، فلم يشرك أحداً لا في الخلق ولا في التدبير. {تَبَارَكَ ٱللَّهُ} دام خيره {رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ} أجمع.

55- وحيث علمتم هذه الحقيقة ف{ٱدْعُواْ} اعبدوا {رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} أي بإظهار الضراعة وهي الاستكانة والتذلّل {وَخُفْيَةً} أي بالخفاء، ولا تدعوا غيره إذ ذلك تجاوز للحدود، و{إِنَّهُ} تعالى {لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} يبغضهم فيعاقبهم، فهذا من جهة العبادة وما هو مأمور به.

56- {وَ} أما من جهة العمل وما هو منهي عنه ف{لَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} بالمعاصي {بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والوصي (عليه السلام) . {وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي في حالة الخوف منه تعالى وفي حالة الرغبة إلى رضوانه، فالنفع والضرر بيده لا بيد الشركاء المزعومين، ثم إنّ الدعاء وعدم الإفساد إحسان و{إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ} فهو يحبّهم ويرحمهم عكس المعتدين فهو لا يحبّهم ويعاقبهم.

57- {وَ} كما أنّ الخلق له فكذلك العود بالبعث إليه ف{هُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشْرَا} جمع بشيرة فهي سبب سرور الناس {بَيْنَ يَدَيْ} أي قبل إنزال

ص: 114

{رَحْمَتِهِ} المطر، {حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ} حملت الرياح {سَحَابًا ثِقَالًا} بالماء{سُقْنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ} لا زرع فيه {فَأَنزَلْنَا بِهِ} بسبب ذلك السحاب {ٱلْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بذلك الماء {مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ} جميع أنواعها ولكل بلد ما يناسبه منها، وكما أحيينا الأرض {كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْمَوْتَىٰ} وإنّما ضربنا لكم هذا المثل {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون بأنّ القادر على ذاك قادر على هذا.

58- {وَ} البعض ينتفع بهذا التذكّر والبعض لا ينتفع فمثلهم كمثل الأراضي المختلفة ف{ٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ} الصالح التربة {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} كثيراً حسناً {بِإِذْنِ رَبِّهِ} تعالى، {وَٱلَّذِي خَبُثَ} البلد السيّء التربة كالأرض السبخة {لَا يَخْرُجُ} نباته {إِلَّا نَكِدًا} قليلاً من غير نفع. {كَذَٰلِكَ} أي مثل هذا المثل {نُصَرِّفُ ٱلْأيَٰتِ} نكرّرها ونقلّبها {لِقَوْمٖ يَشْكُرُونَ} هم الذين ينتفعون بها.

بحوث

الأوّل: بعد أن ذكر اللّه تعالى حقائق التوحيد والإيمان، والشرك والكفر، وعاقبة كل منهما في الدنيا والآخرة، بيّن بعض الدلائل على التوحيد والمعاد والدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح، فبيّن أنّ الخالق والمدبّر هو اللّه تعالى واستدل بخلق السماوات والأرض وبتدبير الأمر، والجميع يذعن بأنّه ليس للشركاء المزعومين شيء من ذلك. فلذا تكون العبادة له وحده، وعبادة غيره اعتداء وتجاوزاً للحدود، كما أنّ التشريع له وحده ففي تشريعه الإصلاح وفي سائر التشريعات الإفساد؛ لأنّ الخالق هو العالم بكل الخصوصيات فشرّع للناس ما يناسبهم بعلمه، ومن أصلح كان محسناً فتشمله رحمة اللّه تعالى.

ص: 115

ثمّ بعد ذلك بيّن أنّ العود إليه بالبعث والنشور، ومثّل بالأرض الميتة التييحييها بالمطر فيُخرج الثمار المختلفة التي كانت كامنة في تلك الأرض الميتة، وكذلك البعث حيث يخرج اللّه تعالى الأموات كلّهم من الأرض، وإنّما ذكر هذا المثل لأجل التذكر فيرجعوا إلى فطرتهم الدالة على قدرته على كل شيء وحكمته حيث لم يخلق الخلق عبثاً، ولولا البعث كان الخلق عبثاً وقد تعالى اللّه عن ذلك.

ثمّ بيّن أنّ المنتفع من هذه الدلائل والتذكّر هو الإنسان الشاكر لأنعم اللّه تعالى حيث بشكره صار قلبه صالحاً لقبول الوعظ كالأرض العذبة الصالحة للزراعة، عكس الكافر الذي بكفرانه صار قلبه قاسياً عن قبول الحقائق كالأرض السبخة.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ}.

بيان أنّ الخلق والتدبير من اللّه تعالى وحده لا شريك له.

قوله: {ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ} إفراد الأرض مع أنّ الأرضين سبعة كما قال: {ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٖ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}(1)، لعلّه لأجل أنّ السماوات تتضمّن سائر الأرضين، فيكون ذكر الأرض بخصوصها لأنّها هي مسكن الناس ومحل قرارهم.

وقوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ} أي خلقهما بالتدريج وفي ستّة أيّام، وهذه الأيام

ص: 116


1- سورة الطلاق، الآية: 12.

إمّا هي بمقدار أيّام أرضنا، أو هو كناية عن ستّة مراحل؛ وذلك لأنّ أيّامالكون تختلف طولاً وقصراً حسب سرعة الحركة وبُطئها، فلذا أيّام بعض الكواكب أطول من أيّام الأرض وبعضها أقصر، وحكمة اللّه تعالى اقتضت التدرّج في عامة أمور الكون مع قدرته على الخلق دفعة فللجنين مراحل، وللنبات مراحل، وللحياة مراحل وهكذا، ولعلّ من الحكمة ظهور قدرته آناً فآناً للملائكة وللناس وغيرهم، واللّه العالم.

معاني العرش

وقوله: {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ} كأنّ المقصود أنّه بعد الخلق لم يتركها سُدىً كما زعمت اليهود بأنّه استراح في اليوم السابع، وأنّه لا يقدر على تدبيرها تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً، أو كما يزعم المشركون من أنّ التدبير صار بيد الشركاء المزعومين، بل كما تفرّد هو بالخلق كذلك تفرّد بالسلطة والتدبير.

ثمّ إنّ للعرش مصاديق متعدّدة كما في الروايات(1):

فمنها: جسم مادّي محيط بكل الأجسام، وهو المحل الذي تصدر منه التقديرات والأوامر والنواهي وغيرها، فهو جسم عظيم خصّه اللّه بنفسه تشريفاً كما أنّ اللّه شرّف الكعبة بأن جعلها بيته.

ومنها: السلطة والملك، ومرجع ذلك إلى قدرته تعالى، وهذا معنى مجازي له.

ومنها: العلم الذي حمّله اللّه تعالى بعض أوليائه (عليهم السلام) ، وهذا تأويل له.

ص: 117


1- راجع شرح أصول الكافي، للمؤلّف 2: 325-346.

ثمّ إنّ النسبة بين العرش والكرسي قد مرّ في آية الكرسي، فراجع(1).

معنى الاستواء على العرش

وأما {ٱسْتَوَىٰ} فهو من الاستواء بمعنى الاستقامة وانتظام الأمر، ويلازم ذلك كون نسبة الأشياء إليه متساوية فلا فرق عنده بين الذّرة والمجرّة، ولا في البعد والقرب لأنّه سبحانه ليس بجسم فلا معنى للقرب والبعد المكاني بالنسبة إليه بل كل الوجود تحت قبضته وبعلمه، كما لا فرق بين الأشياء في قدرته سبحانه وتعالى.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «يعني استوى تدبيره وعلا أمره»(2)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «استوى على كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء»(3).

الثالث: قوله تعالى: {يُغْشِي ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِ بِأَمْرِهِ}.

هذا بيان بعض مصاديق استوائه على العرش، وهو تدبيره أمر الليل والنهار عبر خلق الشمس والقمر والنجوم، فكلّها مسخّرات بأمر اللّه تعالى وتجري بكيفية يظهر بها الليل والنهار، ولولاهما لم ينتظم الأمر في الأرض ولا ظهرت الحياة فيها، واللّه سبحانه ذكر نعمته في الخلق مع نعمته في تقدير الليل والنهار في آيات متعددة قرنهما معاً كقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ...} الآية(4)، وقال: {إِنَّ فِي ٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ

ص: 118


1- التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 203-304.
2- الاحتجاج 1: 250.
3- الكافي 1: 127.
4- سورة البقرة، الآية: 164؛ سورة آل عمران، الآية: 190.

وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ}(1)، وقال: {إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَأيَٰتٖ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ * وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مِن رِّزْقٖ فَأَحْيَا بِهِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(2).

وقوله: {يُغْشِي} من الغشيان والغشاوة والغِشاء وهو التغطية والستر والإلباس، وقال أيضاً: {يُكَوِّرُ ٱلَّيْلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيْلِ}(3)، وقال: {يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيْلِ}(4)، والمقصود هو لحوق الليل بالنهار وبالعكس في حركة منتظمة مستمرّة دائبة لا انقطاع لها إلاّ حينما يشاء اللّه تعالى، وبذلك انتظمت الحياة على الأرض وهو معنى قوله: {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا}(5) أي مسخّرة لمنافعكم، والإغشاء والتغشية يتعدّيان بمفعولين فالمعنى يغطي بالليل النهار.

وقوله: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} تشبيه التعاقب المستمر بالطلب الحثيث وهو الطلب الأكيد الشديد فكأنّهما لا يفتران.

ثمّ إنّه كما يغشي الليل النهار كذلك يغشي النهار الليل ولم يذكره بلاغةً لأنّه يُعلم من المذكور في الآية.

وفي الآية دلالة على استمرار تدبيره لأنّ الليل والنهار مستمران واللّه تعالى

ص: 119


1- سورة يونس، الآية: 6.
2- سورة الجاثية، الآية: 3-5.
3- سورة الزمر، الآية: 5.
4- سورة فاطر، الآية: 13.
5- سورة الملك، الآية: 15.

يغشي أحدهما الآخر باستمرار، وكذا تسخير الشمس والقمر والنجوم باستمرار.

وقوله: {مُسَخَّرَٰتِ} أي حال كونها مذلّلات وخاضعات، وفي المفردات: «التسخير: سياقة إلى الغرض المختص قهراً»(1).

وقوله: {بِأَمْرِهِ} أي بإرادته ومشيئته.

الرابع: قوله تعالى: {أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

تنبيه وتأكيد واستنتاج ممّا سبق، فهو الخالق، وهو المدبّر، وهو الدائم الخير، وهو رب كل شيء، وحده لا شريك له في كل ذلك.

وقوله: {لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ} (الخلق) الإيجاد، و(الأمر) هنا يُراد به التدبير، ويدخل فيه التشريع لأنّ من تدبير أمور خلقه أن شرّع لهم الشرائع، ثمّ إنّ (الأمر) قد يكون بمعنى الشأن، وقد يكون بمعنى الطلب بأن يبعث نحو الشيء، والأوّل يجمع على أمور، والثاني على أوامر، وذكرنا بعض الكلام في كتاب نبراس الأصول(2)، فراجع.

عدم الفرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة

والحاصل: كل شيء بيد اللّه تعالى، ولا يتمكّن أحد من التصرّف إلاّ لو أذن اللّه تعالى ل--ه، قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}(3)، وقال: {إِنَّ ٱلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}(4)، وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُ}(5)،

ص: 120


1- المفردات للراغب: 402.
2- نبراس الأصول، للمؤلّف 1: 247-249.
3- سورة آل عمران، الآية: 128.
4- سورة آل عمران، الآية: 154.
5- سورة هود، الآية: 123.

وغير خفى أنّ أمر اللّه نافذ دائماً ولا يتخلّف عن المراد كما قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَئًْا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(1)، إلاّ أنّ متعلّق الأمر قد يكون التكوين فيوجد الشيء فور إرادة اللّه تعالى، وقد يكون التشريع فيصدر الحكم فور إرادته، فلا فرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة من حيث تحقق متعلّقهما فوراً، وليس فعل العبد هو المراد في الإرادة التشريعيّة حتى تتخلّف الإرادة عن المراد حين عصيان العبد أو نسيانه، بل في أحكامه تعالى إرادتان: تشريعيّة بصدور الحكم، وتكوينيّة بأن يكون الإنسان مختاراً، وقد تحقق كلا الأمرين دائماً وفوراً.

وقوله: {تَبَارَكَ ٱللَّهُ} البركة هي الخير الثابت و{تَبَارَكَ} هو استمرار ودوام الخير، فالمعنى إنّ خلقه وتدبيره هو خير دائم، وإن كان هناك شر فهو تقدير خير من اللّه لكنّه صار شراً على العبيد بما كسبت أيديهم، وقد مر الكلام فيه.

وقوله: {رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ} مادة (ر ب ب) بمعنى إصلاح الشيء، واللّه تعالى رب لأنّه مصلح أحوال خلقه(2)، وهو قريب من معنى التربية مع اختلاف مادتيهما لفظاً، فكل الشركاء المزعومين إنّما هم عبيده ومربوبون له لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضرراً إلاّ بما شاء اللّه سبحانه.

الخامس: قوله تعالى: {ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ}.

هذا كالنتيجة لكون اللّه تعالى الخالق المدبّر، فلا بد من عبادته لأنّا

ص: 121


1- سورة يس، الآية: 82.
2- راجع مقاييس اللغة 2: 381.

مسخّرون لأمره فلا بد من دعائه، والدعاء قد يكون بعبادة وقد يكون بالاستغاثة كالنداء، ولعلّ ما في هذه الآية بالمعنى الأوّل، وما في الآية التاليّة بالمعنى الثاني، فالمعنى حيث علمتم بأنّه الخالق والرب فاعبدوه ثمّ نادوه واطلبوا حوائجكم منه.

وقوله: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} حالين، والتضرّع من الضراعة وهي الاستكانة والتذلّل، ولعلّ استعمال باب التفعّل لأجل أنّ المراد الجهر بعبادته حيث إنّ الإظهار من معاني باب التفعل مثل تشجّعَ وتحلّمَ أي أظهر الشجاعة والحلم وفي المفردات: التضرّع: إظهار الضراعة(1)، و{خُفْيَةً} من الخفاء، فالمعنى دعاء اللّه تعالى في كل الحالات سواء في العلن أم في الخفاء.

وبهذا يتبيّن أن اللّه تعالى لم يحصر الدعاء في حالة الخفاء بل عمّمه لكلا الحالتين، ولذا دعا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والصالحون ربّهم تعالى في العلن كدعائهم له في السِر.

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} معناه إن تركتم دعاءه كنتم معتدين واللّه يبغض المعتدين فيعاقبهم، أو بمعنى لا تدعو غيره فإنّه اعتداء وتجاوز للحدود وفيه العقوبة.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا...} الآية.

إمّا هذه الآية في العمل كما كانت الآية السابقة في العقيدة، أي لا

ص: 122


1- المفردات للراغب: 506.

ترتكبوا المعاصي بل ادعوا اللّه في كل الحالات فذلك إحسان واللّه يحب المحسنين، وإمّا هذه الآية تتمّة للآية السابقة فالمعنى ادعوا اللّه تضرّعاً وخفية وادعوه خوفاً وطعماً فذلك إحسان واللّه يحب المحسنين، ولا تعتدوا ولا تفسدوا فاللّه لا يحب المعتدين، وحينئذٍ فتفريق الكلام في آيتين ليكون أوقع في النفوس ففي الأولى أمر بالدعاء ونهي عن الاعتداء، وفي الثانية نهي عن الفساد وأمر بالإحسان.

وقوله: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} الإفساد في الأرض بالمعاصي والظلم.

وقوله: {بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} أي بعد أن أصلحها اللّه بأن أتقن الخلق وأحسن التدبير ومن ذلك بيان العقائد والأحكام والأخلاق، وقد أصلح اللّه أمر هذه الأمة برسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبأمير المؤمنين علي والأئمة (عليهم السلام) لكن الناس أفسدوا فيها بعد هذا الإصلاح.

وقوله: {خَوْفًا وَطَمَعًا} حال أي ادعوه في حال الخوف وحال الرغبة، وليس المعنى كون الدعاء أو العبادة لأجل الخوف والطمع، فهذه وإن كانت صحيحة لكنّها عبادة العبيد أو التجّار، بل دعاؤه في حالة الرهبة والرغبة لأجل كونه أهلاً للعبادة حبّاً له، والخوف والطمع يتعلّقان بالعقاب والثواب، وبالرد والإجابة، وبالعدل والفضل، وبالنار والجنّة وبغير ذلك.

وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ...} هذا كالتعليل، أي إن لم تفسدوا وعملتم بالصلاح ودعوتم اللّه في حال الرهبة والرغبة فذلك إحسان منكم لأنفسكم فصرتم من المحسنين وحينئذٍ تكون رحمة اللّه قريبة منكم، ورحمته هذه تشمل الدنيا والآخرة باستجابة الدعاء والإثابة وعدم الضلال وعدم الشقوة

ص: 123

وغير ذلك.

وقوله: {قَرِيبٌ} قيل: هو ترجيح جانب الطمع وتنبيه على ما يتوصّل به للإجابة.

السابع: قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ...} الآية.

لمّا ذكر اللّه تعالى البدء بالخلق والتدبير في الآيات السابقة، أتمّه بذكر المعاد في هذه الآية، ومثّل له بالأرض الميتة التي يحييها بالمطر ويخرج منها النبات مع أنّ موادّه كانت متفرقة في الأرض لكن اللّه تعالى جمعها وأحياها فأظهرها بشكل مختلف الثمرات، وهي وإن كانت أسباباً طبيعيّة إلاّ أنّ الذي يقدّرها ويسيّرها هو اللّه عز وجل، وليست تلك الأسباب إلاّ أسباباً ظاهريّة والأمر كلّه بيد اللّه تعالى، كما أنّ هذا المثل يناسب الآية السابقة أيضاً حيث نهى عن الفساد بعد الإصلاح كالأرض الميتة التي أحياها بعد موتها وجعل فيها الرحمة.

وقوله: {ٱلرِّيَٰحَ} جمع ريح، قيل: كلّما أراد اللّه الرحمة استعمل الجمع، وكلّما أراد النقمة استعمل المفرد! لكن هذا حسب الغالب حيث قال: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ}(1).

وقوله: {بُشْرَا} جمع بشيرة أي حينما يشعر الإنسان بالرياح يستبشر بقرب نزول الغيث، قال سبحانه: {ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِيٱلسَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَٰلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ

ص: 124


1- سورة يونس، الآية: 22.

مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَٱنظُرْ إِلَىٰ ءَاثَٰرِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(1).

وقوله: {رَحْمَتِهِ} لأنّ الغيث رحمة من اللّه تعالى وبه يظهر اللّه نعمته في الزرع والضرع.

وقوله: {أَقَلَّتْ} من الإقلال وهو الحمل.

وقوله: {ثِقَالًا} جمع ثقيل؛ لأنّ السحاب إذا خف لا يُمطر، وإذا ثقل بالماء أمطر.

وقوله: {سُقْنَٰهُ} أي سقناه عبر الرياح وهي تدفع السحاب من خلفه فكان سوقاً؛ لأنّ السياقة من الخلف، والقيادة من الأمام.

وقوله: {مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ} أي جميع الثمرات في العالم تنبت بماء المطر - لأنّ سائر المياة أيضاً نشأت من الأمطار - ، فكل أرض حسب صلوحها وهوائها تنتج أنواعاً من الثمرات التي تناسبها.

وقوله: {كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْمَوْتَىٰ} هذا تمثيل، وأيضاً بيان حقيقة وهو أنّ اللّه يبعث الموتى يوم القيامة بإنزال الماء عليهم فتنمو أجسادهم، ثمّ ينفخ في الصور فيخرجون من الأجداث سراعاً، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إذا أراد اللّه عز وجل أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحاً فاجتمعتالأوصال ونبتت اللحوم»(2).

ص: 125


1- سورة الروم، الآية: 48-50.
2- بحار الأنوار 7: 33؛ عن الأمالي للشيخ الصدوق: 107.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي ذكرنا هذا المثل لتذكّركم، أو قدّرنا إنبات الزرع هكذا لتتذكّروا، فإنّ اللّه تعالى يتطابق تكوينه وتشريعه، ولذا قد يقدّر من التكوين ما ينفع للتشريع.

الثامن: قوله تعالى: {وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا...} الآية.

في تفسير الصافي: «قيل: الآية مثل لمن تدبّر الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأساً ولم يتأثّر بها»(1)،

فكأنّ المقصود الحث على إصلاح النفس كي يتذكّر الإنسان بالآيات، وإلاّ فلا تؤثّر فيه لا لقصور فيها بل لخبث ذاته كما قال: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ}(2).

وقوله: {وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ} أصل (الطيّب) هو الملائم للطبع والذي تستلذ به الحواس، ثمّ عُمّم لكل ما طابق العقل والشرع، وكذا (الخبيث) كل منافر للطبع، ثمّ عمّم لكل ما خالف العقل والشرع، فالبلد الطيب هو الزكي التربة الصالحة للزراعة.

وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي يخرج نباته طيّباً، إلاّ أنّه استبدل ذلك بقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} للدلالة على أنّ اللّه يأذن للطيّب في إنبات الطيّب مع أنّ كلشيء بإذنه إلاّ أنّه خص البلد الطيّب بذلك تشريفاً له، وفي مجمع البيان: «أجرى العادة بإخراج النبات من الأرض الطيّبة ليكون ذلك باعثاً للإنسان

ص: 126


1- تفسير الصافي 3: 191.
2- سورة الأعراف، الآية: 79.

على طلب الخير من مظانه، ودلالةً على وجوب الاجتهاد في الطاعات، فإذا حمل نفسه على ابتغاء الخير اليسير الذي لا يدوم وربّما لا يحصل فأن يبتغي النعيم الدائم الذي لا يفنى ولا يبيد بالأعمال الصالحة أولى»(1).

وقوله: {نَكِدًا} أي قليل العطاء لا يهنأ من يُعطاه، وفي العين: «النكد اللؤم والشؤم، وكل شيء جر على صاحبه شرّاً فهو نَكَد، وصاحبه أنكد ونَكِد، ورجال نكدى ونُكْد، والنكد: قلة العطاء وأن لا يُهَنّئهُ من يُعطاه»(2)، وقد يكون في النكد معنى العسر(3).

وقوله: {نُصَرِّفُ} التصريف هو الترديد والتقليب، فالمعنى نكررها لهم، فالقلوب الرقيقة تقبل المواعظ، والقلوب القاسية ترفضها.

وقوله: {لِقَوْمٖ يَشْكُرُونَ} أي هم الذين ينتفعون بها، وفي ذلك حث الناس على الشكر لتلين قلوبهم فتكون قابلة للّهداية بإذن اللّه تعالى، أو أنّ تصريف الآيات وإن كان عاماً للجميع إلاّ أنّ الغرض منه هم الشاكرون، كالمعلّم الذي يدرّس صفّاً فيه طلاب أذكياء وكسالى فهو يدرّس الجميع بنشاط إلاّ أنّ غرضه الأذكياء دون الكسالى.

ص: 127


1- راجع مجمع البيان 4: 396.
2- كتاب العين 5: 331.
3- الصحاح 2: 545.

الآيات 59-64

اشارة

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ 59 قَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ 60 قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ 61 أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 62 أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 63 فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ 64}

ثمّ يذكر اللّه تعالى قصص مجموعة من الأنبياء وما آل إليه أمر أقوامهم لمّا كذّبوهم، تحذيراً للمكذّبين برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من أن تكون عاقبتهم كعاقبة أولئك، فقال:

59- {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ} فكان أوّل رسول بعد آدم وصاحب أوّل شريعة ومن أنبياء أولي العزم {فَقَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ} وحده واتركوا عبادة الأصنام؛ إذ {مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ} معبود {غَيْرُهُ} فالأصنام مخلوقات مثلكم وليست آلهة، {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تؤمنوا {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ} أي الآخرة.

60- {قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف الذين يملأون القلوب هيبة والعيون جمالاً {مِن قَوْمِهِ} مكذِّبين له: {إِنَّا لَنَرَىٰكَ} نعتقد أنّك {فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} واضح

ص: 128

وبيّن.

61- {قَالَ} نوح (عليه السلام) : {يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَٰلَةٌ} واحدة فكيف بالضلال! {وَلَٰكِنِّي} على غاية الهدي لأنّي {رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} رب كل شيء، ومن كان كذلك لا يحتمل فيه الضلال.

62- ووظيفتي أوّلاً: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي} فكل وحي رسالة ومجموعه رسالات، {وَ} ثانياً: {أَنصَحُ لَكُمْ} النصح الإخلاص أي أقوله بإخلاص لأجلكم ولا غرض لي سوى ذلك، {وَ} ثالثاً: {أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ولا بد لكم من اتّباعي لأنّ الجاهل لا بد أن يستمع إلى العالم ويتّبعه.

63- ولا وجه لتكذيبكم إيّاي {أَوَعَجِبْتُمْ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو عاطفة على مقدّر أي هل كذّبتم وعجبتم مِن {أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ} ما يذكّركم بفطرتكم {مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ} من جنسكم، أي نازلاً على رجل أو على لسانه، فلا عجب في ذلك إذ عرفتم السبب وهو: {لِيُنذِرَكُمْ} وبال الكفر، {وَلِتَتَّقُواْ} المعاصي، {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بثواب اللّه في الجنّة.

64- فآمن قليل وكذّب الأكثر {فَكَذَّبُوهُ} في ما دعاهم إليه {فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ} أي كانوا معه في الإيمان، والنجاة كانت {فِي ٱلْفُلْكِ} السفينة، وهذا نتيجة البصيرة والإيمان {وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا {إِنَّهُمْ} إنّ المكذّبين {كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ} لا بصيرة لهم، والعَمِي في القلب كالأعمى في البصر.

ص: 129

بحوث

الأوّل: لمّا ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة دلائل التوحيد وحذّر من الشيطان وإغوائه وبيّن أنّ عاقبة المكذّبين هي العقاب، شفع ذلك بقصص مجموعة من الأنبياء الذين دعوا إلى اللّه فكذّبهم قومهم إلاّ القليل منهم فأنزل اللّه عذابه في الدنيا عليهم، وفي ذلك إنذار للمشركين المكذّبين برسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما أنّ فيه تثبيتاً وتسلية للرسول بأنّ حاله مع قومه كحال الأنبياء السابقين وأقوامهم فليس هو بدعاً من الرسل، مضافاً إلى تكميل بحث أصول الدين بعد ذكر التوحيد والمعاد عبر ذكر النبوّة والأنبياء ودحض الحجج التي كان مشركو مكّة يستندون إليها في جحد نبوّة رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

قصة نوح (عليه السلام) وقومه

وقد ذكر اللّه تعالى قصّة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى (عليهم السلام) مع التركيز على أصل التوحيد وعلى عذاب الكافرين مع تضمين هذه القصص أموراً توحيديّة متعدّدة، ودعوة لأحكام مختلفة، ودحض حجج متفاوتة للمشركين، وعذاب متنوّع للمكذّبين، فخصّ كل قصّة بزاوية من الزوايا كما سيأتي بيانه متدرّجاً.

الثاني: قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ...} الآية.

دعاهم نوح إلى الأصول الثلاثة: التوحيد والنبوّة والمعاد، فدعاهم إلى توحيد اللّه بعبادته إذ لا إله غيره، وحذّرهم من عذاب اللّه في الآخرة إن لم يؤمنوا وإنّما قال لهم ذلك لأنّ اللّه أرسله.

ص: 130

وقوله: {لَقَدْ} (اللام) جواب قسم مقدّر و(قد) للتأكيد.

وقوله: {فَقَالَ} بيان أنّ قوله هذا كان مباشرة بعد إرساله إليهم، فإنّه وإنكان نبيّاً من قبل إلاّ أنّه لم يقل لهم شيئاً قبل إرساله إليهم.

وقوله: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} هذا بيان لحصر العبادة في اللّه فإنّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام مع عبادتهم للّه تعالى، فبيّن لهم أنّه لا بد من حصر العبادة في اللّه مع ذكر الدليل بأنّه لا إله غير اللّه تعالى، فما بالهم يعبدون مخلوقاً مثلهم بل أدون منهم حيث إنّ الأصنام لا شعور ولا حياة لها.

وقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} هذا كالسبب لقوله ودعوته إيّاهم إلى التوحيد ببيان أنّ الشرك عاقبته العذاب، فهو يقوله مشفقاً عليهم حيث إنّهم قومه ويريد الخير لهم، والخوف يطلق عادة في الضرر المحتمل، فخوفه عليهم لعلّه لأجل احتماله اهتداءهم قبل أن يخبره اللّه بقوله: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ ءَامَنَ}(1)، أو هو لبيان مجرد الشفقة عليهم إذ قد يستعمل الخوف في ذلك مجرّداً عن معنى التوقع.

وقوله: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ} أي عذاب الآخرة، وكما هي يوم عظيم كذلك عذابها عظيم أيضاً، ولذا ورد تارة قوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2)، وأخرى {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}(3) ولكن هنا حيث كان الغرض الأساسي بيان الآخرة لذلك وصف اليوم بالعظيم، وفي ذلك إشعار بعظمة العذاب أيضاً.

ص: 131


1- سورة هود، الآية: 36.
2- راجع من باب المثال سورة البقرة، الآية: 7 و 14؛ سورة آل عمران، الآية: 105 و 176.
3- راجع سورة الأنعام، الآية: 15؛ سورة الأعراف، الآية: 59 و... .

وقيل: اليوم العظيم هو الطوفان وعذابه الغرق، لكن السياق والنظائر في الآيات الأخرى تدل على أنّه عذاب الآخرة، ولعلّ نوحاً (عليه السلام) في بدايةدعوته لم يكن يعلم بعذابهم في الدنيا.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}.

{ٱلْمَلَأُ} هم الأشراف، وإنّما سمّوا ملأً لأنّهم يملئون العيون والقلوب جمالاً وهيبة، والعادة هي أنّ الذين يعارضون الحق والتغيير هم الكبراء حيث إنّهم المنتفعون من استمرار الوضع على ما هو عليه، مع خشيتهم من أنّ التغيير يفقدهم مصالحهم ومنزلتهم، ولذا اتهموا المؤمنين بنوح (عليه السلام) بأنّهم أراذل، قال: {وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ}(1)، وقال: {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلْأَرْذَلُونَ}(2)، كما أنّهم يحسدون الرسل لما خصّهم اللّه من المنزلة، قال: {أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(3)، وقال: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَٰئِكَةُ}(4).

وقوله: {فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} أي انحراف واضح حيث تَرَكَ المعتقدات السائدة ودعاهم إلى ما لا يرونه، وأخبرهم بالآخرة التي لم يروا مثلها، وادّعى الرسالة وهو بشر مثلهم، فادعاء أعظم منصب وهو الرسالة وإنكار

ص: 132


1- سورة هود، الآية: 27.
2- سورة الشعراء، الآية: 111.
3- سورة البقرة، الآية: 90.
4- سورة الفرقان، الآية: 21.

أعظم معتقداتهم في عبادة الأصنام والإخبار بأعظم يوم في الآخرة كان عندهم عجيباً جدّاً وضلالاً واضحاً.

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

رد عليهم كلامهم، فحيث بالغوا في تضليله بقولهم: {إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} أكّد على أنّه ليس به ضلالة فضلاً عن الضلال، و(الضلالة) بتاء الوحدة نفي لأدنى درجات الضلال وهو يستلزم نفي سائر درجاته.

وقوله: {وَلَٰكِنِّي} قيل: الاستدراك لأنّ من يملك الصفة التالية - بأنّه رسول الرب - ليس ضالاً، فإنّ اللّه لا يختار أحداً للرسالة إلاّ بعد أن يصطفيه ويجتبيه ويعصمه فلا وجه لزعم الضلال فيه.

وقوله: {مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} دفع لاستبعادهم رسالته؛ إذ إنّ اللّه رب الجميع وهو يصلح أحوالهم، فلا عجب في أن يرسل رسولاً لكي يهدي الضالّين إلى الطريق القويم.

الخامس: قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

بيان سبب إرسال الرسول إليهم وذلك ثلاثة أمور:

1- قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي} فالأنبياء يوصلون للناس ما يريده اللّه تعالى منهم؛ إذ ليس من الحكمة الوحي مباشرة إلى كل إنسان، إذ لا بد من قابليّة القابل ولا قابليّة إلاّ بعد الاصطفاء، وليس من المصلحة اصطفاء

ص: 133

الجميع، فكان إرسال الرسول من الحكمة.

وجمع (رسالات) باعتبار أنّ كل حكم ووحي رسالة، وكان نوح (عليه السلام) أوّل أنبياء أولى العزم وأوّل صاحب شريعة فكانت أحكاماً متعددة عبّر عنها بالرسالات.

2- وقوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} النصح هو الخلوص من الشوائب والأغراض الفاسدة، ويتعدّى بنفسه، وتعديته باللام للتأكيد، والمراد أنّه يبلّغ الرسالات مع إشفاقه عليهم لذا يبيّنها باستمرار وبمختلف المواعظ، فليس مجرد ساعي بريد يوصل رسالته ويتركهم.

3- وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} لعلّه يريد شدّة بطش اللّه تعالى بالكافرين المعاندين، وكأنّ هذه الأمور الثلاثة إشارة إلى أنّ اللّه عليه البيان بالرسالة، والنبي عليه النصح، والقوم يجهلون فلا بد من تنبيههم، أو لمّا زعموا ضلاله بيّن أنّه يعلم ما لا يعلمون ومن كان كذلك ليس ضالاً وفيه إشعار بأنّهم هم الضالّون لا هو.

السادس: قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ...} الآية.

بيان سبب رسالة اللّه تعالى، وأنّه لماذا أرسل اللّه رسولاً إليهم، وحيث عُلم السبب بطل العجب، فينتفي سبب التكذيب لو كانوا يعقلون.

وقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ} الهمزة للاستفهام الإنكاري إبطالاً لزعمهم، وهي بمعنى النفي أي لا عجب في ذلك، والواو للعطف على مقدّر استغني عن ذكره لكونه معلوماً أي هل كذّبتم وعجبتم.

ص: 134

قوله: {ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي تذكير لكم بما أودعه في فطرتكم وهو ربكم يريد إصلاح أمركم فلا عجب.وقوله: {عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ} إمّا بتقدير لسان أي الذكر على لسان رجل، أو بتضمين {جَاءَكُمْ} معنى أنزل.

وأمّا الأسباب فثلاث:

1- قوله: {لِيُنذِرَكُمْ} الإنذار من عذابه تعالى، قدّمه في الذكر لأنّه المقدّم خارجاً حيث بدأ دعوته إلى اللّه بالإنذار من العذاب، كما مر في الآية 59.

2- وقوله: {وَلِتَتَّقُواْ} أي يبيّن لكم المعاصي لتتجنّبوها وتحفظوا أنفسكم منها.

3- وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} عسى أن تشملكم رحمة اللّه تعالى بالثواب في الدنيا والآخرة، وهذا تبشيره لهم.

وقيل: الأوّل عمل الرسول بالإنذار، والثاني عمل الناس بالتقوى، والثالث عمل اللّه بالرحمة.

السابع: قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ...} الآية.

بيان عدم انتفاع الأكثر بمواعظه فأصابهم عذاب اللّه في الدنيا بالغرق وأمّا من انتفع بموعظته فآمن فقد أنجاه اللّه من عذاب الدنيا في السفينة.

وقوله: {وَٱلَّذِينَ مَعَهُ} أي الذين آمنوا معه، فالمؤمنون هم مع الأنبياء، والكفّار ليسوا معهم بل مع أعدائهم.

ص: 135

وقوله: {فِي ٱلْفُلْكِ} متعلّق بقوله: {فَأَنجَيْنَٰهُ} أي أنجينا في السفينة نوحاً والمؤمنين الذين كانوا معه، و{ٱلْفُلْكِ} يستوى فيه الجمع والمفرد، وجذره اللغوي بمعنى الدوران فكأنّ السفينة مدوّرة أو هي تدور في البحر ذهاباًوإيّاباً.

وقوله: {عَمِينَ} العَمِي هو الفاقد للبصيرة، والأعمى هو الفاقد للبصر، فقومه لم يتبصّروا بالدلائل الواضحة والبراهين الساطعة التي أبداها لهم نوح (عليه السلام) فكان ذلك سبب تكذيبهم ومن ثَمّ عذابهم.

ص: 136

الآيات 65-72

اشارة

{وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ 65 قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَةٖ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ 66 قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ 67 أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ 68 أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٖ وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْۜطَةً فَٱذْكُرُواْ ءَالَاءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 69 قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ 70 قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَٰدِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٖ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَٰنٖ فَٱنتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ 71 فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٖ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ 72}

65- {وَ} أرسلنا {إِلَىٰ} قبيلة {عَادٍ أَخَاهُمْ} في النسب {هُودًا} ليكون معروفاً لديهم بحيث لا تبقى حجّة لهم في مخالفته، {قَالَ} هود: {يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} فحيث إنّ اللّه إله فلا بد من عبادته، وحيث إنّ الأصنام ليست آلهة فلا تجوز عبادتها، {أَفَلَا تَتَّقُونَ} الاستفهام للعرض والتقرير، أي هل تحفظون أنفسكم من العذاب بعبادته وترك عبادة غيره؟

66- {قَالَ} في جوابه {ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} أي الملأ

ص: 137

الكافرون لا الذين آمنوا منهم: {إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَةٖ} قِلّة عقل بهذه الدعوة! {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ} في دعواك بأنّه لا إله غير اللّه.

67- {قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} لأنّ مخالفة الباطل والدعوة إلى الحق ليس من السفاهة {وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} وهذا دليل على كمال العقل.

68- {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي} ما أوحاه إليّ، فهذا رد لدعواهم الأولى بأنّه في سفاهة، وأمّا دعواهم الثانية بكونه كاذباً فردّهم بقوله: {وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} فقلبي يريد خيركم وأؤدّي رسالتي بأمانة تامّة، ومن كان كذلك لا يكون كاذباً.

69- {أَوَعَجِبْتُمْ} تعجّباً كان سبباً للتكذيب، والاستفهام إنكاري أي لا عجب في ذلك {أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} يخوفكم العذاب أوّلاً، ويذكّركم بالنعم ثانياً، ويأمركم بالإيمان ثالثاً، فجاء {عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَٱذْكُرُواْ} تذكروا {إِذْ} حينما {جَعَلَكُمْ} اللّه تعالى {خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٖ} أي ورثتم الأرض وما فيها منهم فخلفتموهم فيها {وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ} أي في خلقة أجسامكم {بَصْۜطَةً} قوة وقامة فكنتم أقوى وأكبر، وحيث تذكّرتم ما حباكم اللّه به {فَٱذْكُرُواْ} بالشكر وذلك بالإيمان {ءَالَاءَ ٱللَّهِ} نِعمه العظيمة {لَعَلَّكُمْ} بالذكر {تُفْلِحُونَ} تفوزون بالثواب والجنّة.

70- وحيث نَقَصَتْهم الحجّة استندوا على فعل آبائهم ف{قَالُواْ أَجِئْتَنَا} والاستفهام للتقريع {لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ} نترك {مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا}

ص: 138

من الأصنام فهذا لا يكون! وأمّا العذاب فأنكروه ولذا استعجلوه {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ}!

71- {قَالَ} هود (عليه السلام) في ردّهم: أمّا العذاب ف{قَدْ وَقَعَ} ثبت ولزم {عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} حكم بأنّكم أرجاس {وَغَضَبٌ} تقدير العذاب، فالمعاند يحكم عليه بالخبث أوّلاً ثمّ يقدّر عليه العذاب ثانياً، وأمّا اتّباعكم للآباء ف{أَتُجَٰدِلُونَنِي} تتخاصمون معي، والاستفهام للإبطال {فِي أَسْمَاءٖ} أي الأصنام حيث ليست آلهة فلا واقع لها وإنّما هي مجرد أسماء تتوهّمونها لها {سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ ٱللَّهُ بِهَا} بتلك الأسماء {مِن سُلْطَٰنٖ} حجّة وبرهان، وهذا بمعنى أنّها باطلة؛ إذ لو كانت حقّاً لكان لها برهان وكان اللّه يأمر بها، {فَٱنتَظِرُواْ} العذاب الذي استعجلتموه {إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ} حيث إن وقت العذاب يختاره اللّه تعالى وليس لي من الأمر شيء سوى الانتظار.

72- {فَأَنجَيْنَٰهُ} لمّا جاء العذاب {وَٱلَّذِينَ مَعَهُ} في الدين {بِرَحْمَةٖ مِّنَّا} عليهم لمّا آمنوا، {وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} كناية عن استئصالهم بأجمعهم بحيث لم يبق لهم امتداد وذرّية، والدابر هو ما يتبع الشيء {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} كي ننجّيهم من العذاب، عكس هود ومن معه حيث نجّيناهم لإيمانهم.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ

ص: 139

إِلَٰهٍ غَيْرُهُ...} الآية.

دعوة هود شابهت دعوة نوح والحوار الذي دار بينه وبينهم كالحوار الذيدار بين نوح وقومه إلاّ أنّ اللّه ذكر زوايا أخرى من الحوار واحتجاجات أخرى من هود للتوحيد ومن قومه لشركهم مع دحضها، فأصل الدعوة ذكرت في هذه الآية بالدعوة إلى التوحيد والتحذير من العذاب.

قصة هود (عليه السلام) وقوم عاد

قوله: {عَادٍ} هم من القبائل العربيّة التي سكنت جنوب جزيرة العرب في حضرموت.

وقوله: {أَخَاهُمْ هُودًا} هو أخوهم في النسب بأن كان من قبيلتهم نفسها فإنّ ذلك أقرب إلى القبول لمعرفتهم به وبتاريخه ولميل الناس إلى قومهم فتكون الحجة تامّة على الكفّار منهم.

وقوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} الاستفهام للعرض وليس للإنكار أو التقريع؛ لأنّ بداية التبليغ تكون بدعوتهم، فالمعنى أدعوكم لتتّقوا العذاب بأن تحفظوا أنفسكم منه عبر عبادة اللّه وترك عبادة غيره وهذا بمعنى ما مرّ من قول نوح: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}.

الثاني: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَةٖ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ}.

وهذا نظير ما قاله قوم نوح: {إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}، وقد ردّوا دعوته باتهامه بالسفاهة والكذب، فأمّا السفاهة فهي قلّة العقل حيث زعموا أنّ مفارقة دينهم سفه، فإنّ العقل هو الملكة التي عبرها يحافظ الإنسان على المنافع ويتجنّب الشرور، ومفارقة طريقة القوم تجلب الضرر فلذلك اعتبروه

ص: 140

سفاهة، مع أنّ اجتناب باطل القوم هو العقل بعينه، وأمّا اتهامه بالكذب فلأنّه بيّن لهم بأن لا إله غير اللّه تعالى وأنّ عبادة غيره تجر عليهم العذاب،فكلامه تضمن خبرين وقد كذّبوه فيهما.

وقوله: {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} قيل: تقييد الملأ في قصّة هود بالكافرين وإطلاقه في قصّة نوح لأجل أن جميع ملأ قوم نوح كانوا كافرين، وأمّا الملأ من قوم هود فقد آمن بعضهم ولم يكونوا يخالفون هوداً (عليه السلام) ، وقيل: هو مجرّد وصف ذم.

وفي تقريب القرآن: «التعبير ب{كَفَرُواْ} إمّا لتجريد الفعل عن معنى الحدوث، أو باعتبار الفطرة الإيمانيّة... ، وإمّا باعتبار المجموع فإنّ قومه - إذا اعتبروا من زمان نوح (عليه السلام) - كان فيهم بعض المؤمنين»(1).

وقوله: {فِي سَفَاهَةٖ} ولم يقولوا سفيهاً لعلّه لأنّهم زعموا أنّه منغمس فيها فلا سفاهة عندهم أشد من إنكار الآلهة المزعومة ومن الإنذار بالمعاد بعد الموت.

وقوله: {لَنَظُنُّكَ} الظن قد يستعمل بمعنى العلم كقوله: {ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(2)،

فكأنّهم قالوا إنّا نقطع بكذبك، ويحتمل أن يكون استعمال كلمة الظن هنا لأجل بيان واقع قلوبهم بأنّه كان ظنّاً من غير يقين.

وقوله: {مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ} قيل: كانت لعاد رسل قبل هود كما قال سبحانه:

ص: 141


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 196.
2- سورة البقرة، الآية: 46.

{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ}(1).

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

رد لاتّهامهم الأوّل، وقد أجابهم بغاية الأدب بنفي السفه عن نفسه ودليل ذلك أنّه رسول من اللّه تعالى، واللّه بحكمته لا يبعث إلاّ من يصطفيه فيكون أعقل الناس، فكأنّ المعنى: ليس بي سفاهة وذلك لأنّي رسول رب العالمين.

وقوله: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} هم زعموا أنّه منغمس فيها حيث قالوا {فِي سَفَاهَةٖ} وهو نفى أيّ نوع ومقدار منها بقوله: {لَيْسَ بِي}.

وقوله: {رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} يتضمّن التعليل فهو سبحانه يريد إصلاح أمركم لذلك أرسلني لأبيّن لكم الحقائق وأدعوكم إليها.

الرابع: قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.

رد لاتّهامهم الثاني بالكذب، فهو يوصل إليهم رسالات اللّه سبحانه، وهي الصدق الذي لا كذب فيه، ودليل كونه صادقاً أنّه ناصح لهم وأمين، وهل يكذب الناصح الأمين؟!

ثمّ إنّه في قصّة نوح قال لهم: {وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وفي قصّة هود قال: {أَمِينٌ} وكأنّ ذلك لأنّ الضلال ينشأ عن الجهل فلمّا اتهموا نوحاً (عليه السلام) بالضلال أجاب بأنّه على علم، وأمّا الكذب فينشأ من عدم الأمانة فلمّا اتهموا هوداً (عليه السلام) بالكذب أجاب بأنّه أمين.

ص: 142


1- سورة هود، الآية: 59.

الخامس: قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمْلِيُنذِرَكُمْ...} الآية.

بيان أحد أسباب التكذيب مع دحضه، فهم كانوا يتعجبون من إرسال اللّه رسولاً إليهم ومن جنسهم، فأجابهم بأنّه لا وجه للعجب لأنّ اللّه تعالى أنعم عليهم بنعم جسام عظام في الأمور المادّية فكذلك ينعم عليهم بهدايتهم عبر إرسال رسول إليهم، مع تذكيرهم بما جرى على قوم نوح وأنّ اللّه أهلكهم وأنجى من آمن، وعاد من ذرّية من آمن، فليعتبروا بما جرى على أجدادهم.

وقوله: {ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي ما يوجب تذكّر الفطرة المنسيّة وما يدعو إليه العقل من التوحيد والطاعة.

وقوله: {لِيُنذِرَكُمْ} ذكر الإنذار أوّلاً ثمّ اتبعه بالبشارة في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لأنّ الإنذار كان بسبب ما هم عليه من عبادة الأصنام فكان لا بد من تحذيرهم أوّلاً من عاقبة هذا الباطل، ثمّ بعد ذلك دعوتهم إلى ما هو الحق وبيان حسن عاقبة ذلك، وهذا كالمريض الذي ينهى أوّلاً عن أكل ما يضرّه ثمّ يأمر بأكل ما ينفعه، ولذا ابتدأت كلمة التوحيد بنفي جميع الآلهة ثمّ إثبات الإله الواحد.

وقوله: {وَٱذْكُرُواْ} عطف على {لِيُنذِرَكُمْ} فكأنّ المعنى لينذركم وليذكّركم بنعم اللّه عليكم.

وقوله: {خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٖ} الخليفة هو الذي يخلف مَن قبله بعد ذهابه، فهم ورثوا الأرض بعد قوم نوح، وهذا تذكير بنعمة اللّه عليهم مع تذكيرهم بأنّ إيمان أجدادهم الذين آمنوا مع نوح هو الذي أنقذهم بحيث

ص: 143

بقوا على الأرض وتناسلوا فيها حتى وصلت الذرّية إلى قوم عاد.

وقوله: {وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْۜطَةً} أي زادكم على قوم نوح بأن جعل أجسامكم أقوى وأكبر، و{بَصْۜطَةً} من البسط، قيل: كانوا أطول من قوم نوح بمقدار بسط اليد فوق الرأس أي ما يقارب النصف متر تقريباً، والأقرب كون المقصود بيان كونهم أقوى وأقدر على عمارة الأرض والاستفادة من خيراتها، واللّه العالم.

وقوله: {فَٱذْكُرُواْ ءَالَاءَ ٱللَّهِ} المراد من الذكر هنا الإيمان؛ لأنّ من يذكر نعمة اللّه تعالى يؤمن به، أو المراد ذكر يؤدّي إلى الإيمان، و(الآلاء) جمع إلْي وهو النعمة العظيمة لا مطلق النعمة، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه تلا هذه الآية فقال: «أتدري ما آلاء اللّه؟» قلت: لا، قال: «هي أعظم نِعَم اللّه على خلقه، وهي ولايتنا»(1)، فقد فسّر (عليه السلام) الآلاء بأعظم النِعم ثمّ بيّن تأويلها في هذه الأمة.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لو ذكرتم آلاء اللّه بالإيمان والعمل الصالح كان ذلك سبباً لفوزكم في الدنيا والآخرة.

السادس: قوله تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا...} الآية.

لمّا لم يتمكّنوا من مقارعة حجّته، استدلوا بتقليد آبائهم، ثمّ قطعوا الجدال بطلب إنزال العذاب عليهم، وذلك تكذيباً منهم به؛ لأنّ من يصدّق

ص: 144


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 154.

بالعذاب يهرب منه لا أنّه يطلبه، وفي تفسير الصافي: «استبعدوا اختصاصاللّه تعالى بالعبادة والإعراض عمّا أشرك به آباؤهم انهماكاً في التقليد وحبّاً لما ألفوه»(1).

وقوله: {أَجِئْتَنَا} استفهام إنكاري، وهو تكرار لتكذيبهم بأنّه جاء من عند نفسه لا أنّ اللّه أرسله! وكأنّهم استصغروا سبب الإرسال فهل اللّه يرسل لكي نترك عبادة ما عبده آباؤنا؟!

وقوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} وهذا أيضاً استمرار تكذيبهم؛ لأنّهم زعموا أن العذاب يأتي من طرف هود، مع أنّه عذاب اللّه سبحانه، نظير قوله: {قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدْ جَٰدَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَٰلَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ ٱللَّهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}(2).

السابع: قوله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَٰدِلُونَنِي...} الآية.

جواب عن الأمرين، أمّا طلبهم العذاب فقد وعدهم به بأنّهم بعنادهم صاروا أرجاساً وبذلك قدّر اللّه عليهم العذاب فعليهم أن ينتظروه، وأمّا احتجاجهم بفعل آبائهم فباطل؛ لأنّ الآباء أيضاً لم يكن في عملهم برهان وقد عبدوا الأصنام من غير سلطان.

قوله: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم} أي ثبت ولزمكم، والمعنى أنّكم بعنادكم وطلبكم العذاب حقّ عليكم أمران:

ص: 145


1- تفسير الصافي 3: 197.
2- سورة هود، الآية: 32-33.

1- قوله: {رِجْسٌ} كأنّ المقصود أنّكم صرتم أرجاس وقد حكم اللّهعليكم بذلك، حيث بعنادكم فقدتم قابليّة الهداية، قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(1)، وقال: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ}(2)، وقال: {وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}(3).

2- قوله: {وَغَضَبٌ} كأنّ المقصود تقدير العذاب وقد وعدهم به مع أمرهم بالانتظار في آخر الآية حتى يستكملوا أجلهم.

وقيل: {وَقَعَ} يراد به سيقع لكن حيث كان متحقّق الوقوع استعمل لفظ الماضي، و{رِجْسٌ} العذاب، و{غَضَبٌ} تأكيد للعذاب، أو هو أعم من الرجس، وما ذكرناه أوفق للسياق.

وقوله: {أَتُجَٰدِلُونَنِي...} رد لاحتجاجهم بفعل الآباء وبيان أنّ الآلهة المزعومة مجرد تسمية لا واقع لها فلذا لا دليل عليها، ولو كانت حقّاً لأمر اللّه بها، و(الجدال) المخاصمة والمناظرة وهؤلاء حيث عجزوا عن مقارعة حجة هود (عليه السلام) جادلوا بالباطل وهو صنع الآباء، وقد دحض حجّتهم بأمرين:

أحدهما: أنّ مجرّد تسمية الصنم إلهاً لا يجعله إلهاً واقعاً، فالاسم مجرد اعتبار لا يغيّر الواقع فلو سمّى أحدهم الليل نهاراً فذلك لا يغيّر حقيقة الليل، والصنم حجر لا يشعر ولا يضر ولا ينفع فنحته وتسميته إلهاً لا يجعله سميعاً بصيراً نافعاً ضاراً، كما لا فرق بينكم وبين آبائكم فكما لا حجّية في

ص: 146


1- سورة الأنعام، الآية: 125.
2- سورة التوبة، الآية: 95.
3- سورة يونس، الآية: 100.

أفعالكم كذلك لا حجّية لأفعالهم.

والآخر: إنّ الأصنام لا دليل على كونها آلهة، وعدم الدليل هنا دليل على العدم؛ لأنّ الحقيقة لها نور وبرهان، ولو كان كذلك لأمر اللّه تعالى بها وبيّن دليلها، أو بمعنى كيف اتبعتم آباءكم وتركتم براهين ربكم؟!

وقوله: {مِن سُلْطَٰنٖ} أي حجّة تتسلّط على سائر الحجج فتدحضها، وهذا نظير قوله: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْعَٰبِدِينَ}(1).

وقوله: {فَٱنتَظِرُواْ...} حيث إنّه وعدهم بالعذاب بيّن لهم أنّ اللّه تعالى بحكمته يأتي به في وقته فلا بد أن لا يستعجلوه كما قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}(2)، والأمر بالانتظار قطع لتكذيبهم وتصبير للمؤمنين؛ لأنّه لولا الأمر بالانتظار لما لم يحن وقته كان عدم نزوله تصديقاً لهم في مقالتهم، إلاّ أنّ الأمر به قطع لجدالهم وتكذيبهم.

وقوله: {إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ} حيث إنّ مرحلة التبليغ انتهت بعنادهم وبقيت مرحلة نزول العذاب، وحيث إنّ ذلك بيد اللّه سبحانه كان النبي هود (عليه السلام) منتظراً لتنجّز ما وعده اللّه تعالى.

الثامن: قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٖ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا...} الآية.

أي لمّا حل الموعد أنزلنا العذاب عليهم مع إنجاء المؤمنين.

ص: 147


1- سورة الزخرف، الآية: 81.
2- سورة العنكبوت، الآية: 53.

وقوله: {بِرَحْمَةٖ مِّنَّا} الباء للسببية أي كانت النجاة بسبب الرحمة، وفيقصّة نوح لم يذكرها وإنّما ذكر مصداقها بقوله: {فِي ٱلْفُلْكِ}، وقد قال سبحانه: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ ٱلْمُؤْمِنِينَ}(1).

وقوله: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ...} الدابر على وزن فاعل بمعنى المتأخر والذي يلي الشيء من بعده، وهو كناية عن إهلاكهم جميعاً بحيث لم تبق لهم ذرّية من بعدهم، وفي المقاييس: «وقطع اللّه دابرهم: أي آخر من بقي منهم»(2).

وقوله: {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} عطف على {كَذَّبُواْ}، ولعلّه هنا أريد التكذيب باللسان وعدم الإيمان بالقلب، نظير ما مر في قصّة نوح: {وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا عَمِينَ}.

وقيل: المعنى ولم يكونوا سيؤمنون فقد طبع على قلوبهم فقد علمنا حالهم ونواياهم وضمائرهم ومستقبلهم، أي لو كان هناك رجاء اهتدائهم لأمهلناهم ليهتدوا كما قال: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ}(3).

ص: 148


1- سورة يونس، الآية: 103.
2- مقاييس اللغة 2: 324.
3- سورة الأعراف، الآية: 101.

الآيات 73-79

اشارة

{وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ ٱللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٖ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 73 وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا فَٱذْكُرُواْ ءَالَاءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعْثَوْاْ فِي ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 74 قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَٰلِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ 75 قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِٱلَّذِي ءَامَنتُم بِهِ كَٰفِرُونَ 76 فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَٰصَٰلِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ 77 فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ 78 فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ 79}

73- {وَ} أرسلنا {إِلَىٰ ثَمُودَ} قبيلة كانوا يسكنون في الحِجر بين الحجاز والشام {أَخَاهُمْ} في النسب {صَٰلِحًا قَالَ} صالح لهم: {يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ} وحده {مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ} معبود {غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ} معجزة ظاهرة {مِّن رَّبِّكُمْ} ثمّ أشار إليها قائلاً: {هَٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ} والإضافة تشريفيّة {لَكُمْ} لأجلكم حيث شاهدتموها عياناً {ءَايَةً} علامة ودليل صدق لما أقوله {فَذَرُوهَا} اتركوها {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ ٱللَّهِ} الأراضي المباحة التي لا

ص: 149

يملكها أحد وكأنّ ذلك للدلالة على عدم ضررها عليهم {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٖ} لا تسيئوا إليها {فَيَأْخُذَكُمْ} يصيبكم {عَذَابٌ أَلِيمٌ} موجع.

74- {وَٱذْكُرُواْ} نعمة اللّه عليكم {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ} ورثتم الأرض {مِن بَعْدِ عَادٖ} تذكير لهم بمصير عاد، {وَ} من نعمه عليكم أن {بَوَّأَكُمْ} مكّنكم {فِي ٱلْأَرْضِ} بحيث {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا} الأراضي المستويّة {قُصُورًا} قيل هذا كان لصيفهم {وَتَنْحِتُونَ} تصنعون بالنحت - وهو حفر الصخر - {ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا} قيل: كان هذا لشتائهم، فجمع لكم الخلافة والتمكّن وهذه نعمة كبرى، وحيث علمتم ذلك {فَٱذْكُرُواْ} بالشكر وذلك بالإيمان {ءَالَاءَ ٱللَّهِ} نِعمه العظيمة {وَلَا تَعْثَوْاْ} أي لا تسرعوا في الفساد {فِي ٱلْأَرْضِ} وقوله: {مُفْسِدِينَ} حال للتأكيد، فأمرهم بالإيمان ونهاهم عن الكفر.

75- {قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان بأن ترفعوا عنه وأنفوا عن اتّباع صالح {مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ} عَدّوهم ضعفاء وقوله: {لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} من المستضعفين بدل عن «الذين استضعفوا»، قالوا لمؤمنيهم لا لكفّارهم: {أَتَعْلَمُونَ} الاستفهام للإنكار والاستهزاء {أَنَّ صَٰلِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ} ولم يقولوا: «ربّنا» استخفافاً به! {قَالُواْ} المؤمنون المستضعفون: نعم، إنّه مرسل من اللّه ولذا {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ} من التوحيد ونفي الشرك {مُؤْمِنُونَ} مصدّقون.

76- {قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِٱلَّذِي ءَامَنتُم بِهِ} ما جاء به صالح

ص: 150

{كَٰفِرُونَ} جاحدون.

77- {فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ} العقر هو الجرح القاتل أي اشترك جميعهم فيقتلها إمّا مباشرة أو بفعل بعض ورضى الآخرين {وَعَتَوْاْ} تمرّدوا {عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي عن امتثاله وذلك لمّا أمرهم بالتوبة بعد العقر {وَقَالُواْ} مكذّبين: {يَٰصَٰلِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ}.

78- {فَأَخَذَتْهُمُ} أصابتهم {ٱلرَّجْفَةُ} فقد صعقتهم الصيحة فانخلعت قلوبهم أو الزلزلة مصاحبة للصاعقة والصيحة {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} محلّهم وبلدهم {جَٰثِمِينَ} صرعى لا حراك لهم.

79- {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ} خرج عن تلك القرية أو عن مساكنهم {وَقَالَ} مخاطباً لجثثهم متحسّراً عليهم: {يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أخلصت في الموعظة {وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ} حكاية حال ماضية أي لكنّكم لم تكونوا تحبّونهم.

قصة صالح (عليه السلام) وثمود

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ...} الآية.

صالح (عليه السلام) كنوح وهود (عليهما السلام) بيّن لهم التوحيد ونفى الشريك وحذّرهم من عذاب اللّه سبحانه، وهذه الآية بيّنت المعجزة التي جاء بها، وأنّ العذاب الدنيوي سينالهم لو اعتدوا على المعجزة، وقد ربط اللّه العذاب بالتكذيب في قصّة نوح، وباستعجالهم العذاب في قصّة هود، وبعقر الناقة في قصّة

ص: 151

صالح، والفحشاء في قوم لوط، والصد عن سبيل اللّه في قصّة شعيب؛ ولعلّ ذلك لبيان أنّ كل واحد منها استكبار وعتو على أمر اللّه تعالى وعلى رسله،فكل واحد منها يكفي في استحقاق عذاب الدنيا والآخرة.

وقوله: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ} قبيلة ثمود وكانوا في الحِجر بين الشام والحجاز، قيل تسميتهم باسم جدّهم ثمود، وقيل: لأنّهم كانوا قليلين من الثَمَد وهو الماء القليل.

وقوله: {بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} البينة هي الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر، ولذا قيل في تعريفها: إنّها العلامة الفاصلة بين الحق والباطل من جهة شهادتها به.

وقوله: {نَاقَةُ ٱللَّهِ} الإضافة تشريفيّة، فإنّ اللّه جعلها الآية وخلقها من غير واسطة أب وأم حيث أخرجها من بطن الجبل، ولذلك كانت معجزة تمت بها الحجّة.

وقوله: {لَكُمْ} قيل: «و(لكم) بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود؛ لأنّهم عاينوها وسمع غيرهم خبرها، وليس الخبر كالمعاينة»(1).

وقوله: {ءَايَةً} نصب على الحال والعامل فيها ما دلت عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، فكأنّه قيل: أشير إليها حال كونها آية - هكذا قيل - .

وقوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ ٱللَّهِ} كأنّه بيان أنّها لا تزاحمهم في

ص: 152


1- جوامع الجامع 1: 447.

حياتهم فأكلها من أرض اللّه المباحة لا من أملاكهم أو نفقاتهم، وأمّا شربها فمن ماء الوادي وقد كان ذلك بمنفعتهم حيث كانت تترك يوماً فيشربونمن ماء الوادي، وتشرب يوماً فيشربون جميعاً من لبنها، قال سبحانه: {قَالَ هَٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٖ مَّعْلُومٖ}(1).

الثاني: قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٖ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ...} الآية.

بعد أن أراهم الآية ذكّرهم بنعم اللّه تعالى عليهم ومن أعظمها استخلافهم في الأرض وتمكينهم منها، فقد أهلك اللّه سبحانه عاداً إلاّ المؤمنين منهم، وكانت ثمود من ذرّيتهم أو من ذرّية غيرهم لكنّهم كانوا يعلمون بأخبارهم وإهلاكهم، فمَنّ اللّه على ثمود بأن أورثهم الأرض وذلّلها لهم بحيث عمّروا البيوت في السهل والجبل لحرّهم وبردهم.

وقوله: {فَٱذْكُرُواْ ءَالَاءَ ٱللَّهِ} وهذا ليس تكراراً لقوله: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ...} بل الظاهر أنّ ذاك في التذكير بالنعمة، وهذا دعوة إلى الإيمان أي وحيث تذكرتم نعمه عليكم فعليكم أن تشكروا آلاءه عليكم، فالمعنى فاذكروها عبر الإيمان باللّه تعالى.

وقوله: {وَلَا تَعْثَوْاْ} في العين: «عاث يعيث عيثاً أي أسرع في الفساد، تقول: إنّك لأعيث في المال من السوس في الصيف»(2)، وعليه فيكون قوله:

ص: 153


1- سورة الشعراء، الآية: 155.
2- كتاب العين 2: 231.

{مُفْسِدِينَ} تأكيداً.

وقد جمع صالح (عليه السلام) لهم الموعظة حيث أمرهم بذكر آلاء اللّه عبرشكرها وذلك إصلاح في الأرض، ونهاهم عن الكفر والمعاصي التي هي إفساد فيها.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ...} الآية.

بيّن في قصّة ثمود وصالح حواراً بين الكفّار والمؤمنين وهي جهة أخرى من جهات قصص الأنبياء، فالقصص في هذه السورة للتركيز على التوحيد والنبوّة والتحذير من العذاب، مع بث القضايا في هذه القصص لتكون لكل قصة خصوصيتها وتأثيرها في الهداية.

وقوله: {لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} بدل عن قوله: {لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ} بدل بعض عن الكل فإنّ بعض الضعفاء آمن وبعضهم لم يؤمن فكان الخطاب لمن آمن منهم، وقيل: المراد من المستضعفين خصوص المؤمنين وإنّما ذكر {لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} حتى يتبيّن بأنّ الاستضعاف يراد به في الدين.

وقوله: {أَتَعْلَمُونَ...} الاستفهام إنكاري أي كيف علمتم بأنّ صالحاً مرسل؟ وقد يراد به الاستهزاء، أو يراد به تحذيرهم وتهديدهم، وكأنّهم بقولهم ذلك أرادوا إضلالهم.

وقوله: {قَالُواْ إِنَّا...} في جوابهم إيجاز بليغ، فالمعنى: نعم، نعلم أنّه مرسل ولذا آمنّا بما بلّغه عن اللّه من التوحيد ونفي الشريك وغير ذلك.

ص: 154

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِٱلَّذِي ءَامَنتُم بِهِ كَٰفِرُونَ}.

لعلّ غرضهم من ذكر كفرهم للمستضعفين هو إرعابهم وتحذيرهم، فمعوضوح إيمان المستضعفين وكفر المستكبرين إلاّ أنّهم سألوهم ثمّ بيّنوا كفر أنفسهم، ولم يقولوا كفرنا بما أرسل به صالح بل قالوا: {بِٱلَّذِي ءَامَنتُم بِهِ كَٰفِرُونَ} أي نحن نعارض معتقدكم أنتم، هذا مضافاً إلى أنّهم لم يكونوا يعترفون برسالة صالح (عليه السلام) فكان تعبيرهم كما بيّنه اللّه تعالى.

الخامس: قوله تعالى: {فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَٰصَٰلِحُ...} الآية.

لمّا ضاقوا بوجود الناقة - وهي آية ماثلة أمامهم باستمرار - أرادوا التخلّص منها ليسهل تكذيبهم، أو لإرعاب المؤمنين فلذلك قتلوا الناقة.

وقوله: {فَعَقَرُواْ} العقر هو الجرح الذي يستأصل فيقتل، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «وأقبل قوم صالح فلم يبق أحد منهم إلاّ شركه في ضربته، واقتسموا لحمها في ما بينهم، ولم يبق منهم صغير ولا كبير إلاّ أكل منها»(1).

وقوله: {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} كأنّ المراد أنّهم بعد قتلها تمادوا في غيّهم فلم يتوبوا مع أنّ صالحاً (عليه السلام) أخبرهم بأنّهم إن تابوا تاب اللّه عليهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى صالح (عليه السلام) أنّ قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثتها إليهم حجّة عليهم، ولم يكن عليهم

ص: 155


1- الكافي 8: 188.

فيها ضرر، وكان لهم منها أعظم المنفعة، فقل لهم: إنّي مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيّام، فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم وصددت عنهم،وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث... فلمّا قال لهم ذلك كانوا أعتى ما كانوا وأخبث»(1).

وقوله: {وَقَالُواْ يَٰصَٰلِحُ...} قالوه استهزاءً به لأنّ المصدّق لا يستعجل بالعذاب وإنّما يفر منه، وأمّا المكذّب فهو يريد إثبات كلامه وصدق مقالته ولذلك يستعجل به زاعماً أنّه لا عذاب؛ إذ لو كان صدقاً لأتاه! قال في الكشّاف: «استعجالهم له هو لتكذيبهم به، ولذلك علّقوه بما هم به كافرون وهو كونه من المرسلين»(2).

والحاصل: أنّهم ارتكبوا جرائم ثلاث: عقر الناقة، والعتو عن أمر اللّه، والتكذيب بالعذاب، فاستوجبوا بذلك نزول العذاب عليهم.

السادس: قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ}.

كان عذابهم بالصاعقة والصيحة والرجفة، وقد ذكر كل ذلك في آيات متعددة كقوله: {وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ}(3)، وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ}(4)، وهذه الثلاثة إمّا عذاب واحد له أوصاف متعدّدة فهو صاعقة لها صوت أرجفت قلوبهم فخلعتها فماتوا، وإمّا عذابات ثلاث

ص: 156


1- الكافي 8: 189.
2- الكشّاف 2: 124.
3- سورة هود، الآية: 67.
4- سورة الذاريات، الآية: 44.

جمعها اللّه عليهم بالصاعقة والصيحة والزلزلة، وإمّا الصاعقة هي الصيحة صعقتهم فجأة فأهلكتهم.

وقوله: {فِي دَارِهِمْ} يراد به الجنس، أو كناية عن البلد، وفي آية أخرى {دِيَٰرِهِمْ} باعتبار كل بيت بيت، وكأنّه إشارة إلى أنّهم كانوا في وقت راحة في بيوتهم، قال سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ}(1).

وقوله: {جَٰثِمِينَ} أي ساكنين لا حركة لهم، وفي العين: «جثم يجثم جثوماً أي لزم مكاناً لا يبرح... والجثمان بمنزلة الجسمان»(2)، وكأنّ ذكر جثومهم لبيان أنّهم لم تنفعهم قصورهم ولا بيوتهم التي كانوا ينحتونها في الجبال فلم تمنعهم من عذاب اللّه تعالى.

السابع: قوله تعالى: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ...} الآية.

الظاهر أنّ كلامه هذا كان مع جثثهم الهامدة، قاله تحسّراً عليهم حيث خسروا الدنيا والآخرة، كما خاطب رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قتلى قريش في بدر فقال: «يا فلان ويا فلان إنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً فهل وجدتّم ما وعد ربّكم حقّاً»(3).

وقوله: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم فإنّه إنّما كان يُقبل عليهم

ص: 157


1- سورة الحجر، الآية: 83.
2- كتاب العين 6: 100.
3- راجع من لا يحضره الفقيه 1: 180؛ مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 1: 60؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 47؛ بحار الأنوار 19: 346.

ليدعوهم إلى الإيمان أما وقد ماتوا كفّاراً فلا فائدة في الإقبال عليهم لانقطاع عملهم، وقيل: المعنى أنّه خرج من تلك البلاد وسكن في بلد آخرهو ومن آمن معه.

الكلام مع الموتى

وقوله: {وَقَالَ يَٰقَوْمِ...} الموتى يسمعون ويبصرون بأرواحهم، بل هم أبصر وأسمع بعد زوال الحجب عنهم، قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ} (1)، وفي الحديث: «ما أنتم بأسمع منهم»(2)، وأمّا قوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٖ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ}(3) فمعناه أنت لا تهديهم وذلك لانقطاع عملهم، فالإسماع بمعنى الهداية والفهم كما قال: {إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ}(4)، وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ}(5)، أي لأفهمهم الحق، لأنّهم كانوا يسمعون الكلام إذ التبليغ عام للجميع لكنهم ما كانوا يعونه، وقوم صالح بعد نزول العذاب ندموا كما قال: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَٰدِمِينَ}(6)، ولعلّهم استغاثوا به حين نزول العذاب أو بعد موتهم فأجابهم بهذا الكلام، أو أنّه قال هذا الكلام تحسّراً عليهم.

ص: 158


1- سورة ق، الآية: 22.
2- بحار الأنوار 19: 346.
3- سورة فاطر، الآية: 22.
4- سورة الروم، الآية: 53.
5- سورة الأنفال، الآية: 22-23.
6- سورة الشعراء، الآية: 157.

وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا فتولّى عنهم وقال ما قال فأخذتهم الرجفة! لكنّه خلاف الظاهر.

وقوله: {وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ} قيل: هو حكاية حال ماضية فالمعنى كنتم لا تحبّون الناصحين فلذا لم تقبلوا النصح ولم تؤمنوا، ومن أحب إنساناً قبل عنه.

ص: 159

الآيات 80-84

اشارة

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ 80 إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ 81 وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ 82 فَأَنجَيْنَٰهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَٰبِرِينَ 83 وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ 84}

80- {وَ} اذكر {لُوطًا إِذْ} أرسلناه ف{قَالَ لِقَوْمِهِ} مستنكراً عليهم: {أَتَأْتُونَ ٱلْفَٰحِشَةَ} العمل الشديد القبح {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ} فحتى آباؤكم لم يفعلوها كي تستندوا عليهم! وهذا دليل عقلي على كونها خلاف الفطرة.

81- ثم فسّر الفاحشة فقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً} أي لأجل الشهوة فلا يوجد داع عقلي له وهذا صفة البهائم {مِّن دُونِ ٱلنِّسَاءِ} حيث تركوا نساءهم وهو ما يأمر به العقل والفطرة {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} متجاوزون الحد في المعاصي ولذا ارتكبتم الفاحشة.

82- {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ} أي لم يكن لهم جواب لكلامه ولذا أعرضوا عن جوابه وقال بعضهم لبعض: {أَخْرِجُوهُم} لوطاً وأهله {مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قالوه للسخريّة به وافتخاراً برجسهم.

ص: 160

83- {فَأَنجَيْنَٰهُ} لمّا نزل العذاب {وَأَهْلَهُ} بناته المؤمنات {إِلَّا ٱمْرَأَتَهُ}الكافرة ف{كَانَتْ مِنَ ٱلْغَٰبِرِينَ} الباقين في ديارهم فهلكت معهم.

84- {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا} بحجارة من سجيل {فَٱنظُرْ} نظرة اعتبار {كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ} مرتكبي السيّئات.

قصة لوط (عليه السلام) وقومه

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

بعد ذكر الدعوات التوحيديّة لنوح وهود وصالح (عليهم السلام) ذكر اللّه تعالى قصّة لوط وشعيب (عليهما السلام) ودعوتهما الشرعيّة الفطريّة في أهم أمرين ينتظم بهما حياة الإنسان - المال والزواج - حيث خالف قومهما الفطرة والعقل والشرع بارتكاب الفاحشة وبأكل المال بالباطل والإفساد في الأرض.

وهذه الآيات حول قوم لوط خلت عن ذكر دعوته (عليه السلام) إلى التوحيد وترك عبادة غير اللّه، وهكذا سائر الآيات المرتبطة بقصّة لوط وقومه في سائر سور القرآن كسورة هود والحجر والشعراء والنمل والعنكبوت والقمر والصافات وغيرها، مع تركيز هذه الآيات على أفعالهم الشنيعة بارتكاب الفاحشة وتكذيبهم نبيّهم لوطاً (عليه السلام) واقترافهم لآثام أخرى، فلعلّهم لم يكونوا مشركين لكنهم أجرموا وكفروا بتكذيب رسولهم وارتكاب الموبقات! واللّه العالم.

قال السيد الوالد رضوان اللّه عليه: «ولعلّ اختلاف السياق هنا عمّا سبقه حيث كان يقول: {وَإِلَىٰ}، تنبيه عدم التعرّض لمن توسطهما من الأنبياء

ص: 161

كإبراهيم (عليه السلام) الذي كان معاصراً للوط، وإنّما لم يذكر إبراهيم (عليه السلام) لعلّهلعدم نزول عقاب على قومه كما نزل على قوم لوط وقوم الأنبياء السابقي الذكر»(1).

وقوله: {وَلُوطًا} أي واذكر لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً، والأوّل أحسن لأنّ نظائره في القرآن كثيرة.

وقوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} قيل: إنّه لم يكن منهم وإنّما هو من قوم إبراهيم (عليه السلام) من بابل، وإنّما هاجر لوط إليهم وتزوّج منهم فعُدّ منهم، والأظهر أنّهم كانوا من قوم واحد سكن بعضهم بابل في العراق وآخرون منهم سدوم في فلسطين، فكانت هجرته من قومه في بابل إلى قومه في سدوم، واللّه العالم.

وقوله: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٖ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ} كأنّ كلامه يتضمّن بطلان عملهم من جهة الفطرة والعقل حيث لم يرتكبها أحد من السابقين، كما لا يمكنهم الاستناد على فعل الآباء كسائر المشركين من عبدة الأوثان، حيث إنّهم استحدثوا تلك فاحشة.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}.

تفسير للفاحشة التي كانوا يرتكبونها وبيان سبب ذلك مع بيان بطلان عملهم في عبارة وجيزة بليغة.

ص: 162


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 205.

وقوله: {شَهْوَةً} مفعول له أي لأجل الشهوة، أو حال بجعل المصدربمعنى اسم الفاعل أي مشتهين، وهذا دليل بطلان عملهم لأنّ الشهوة التي لا غرض فطري أو عقلي فيها أمر باطل؛ وذلك لأنّ اللّه سبحانه نظّم حياة الإنسان بحيث يشتهي ما يحتاجه ويلتذ به لكي لا يعزف الناس عمّا يحتاجونه فتختل أمورهم، فالنسل لا بد منه ولولا الشهوة الجنسيّة لترك الناس الزواج وانقطع النسل، وهكذا الطعام وغيره، ولكنّه سبحانه جعلها في الإطار الصحيح بحيث تقضى الحاجة بالشهوة، وقد مضى شطر من الكلام في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَٰمِ وَٱلْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلْمََٔابِ}(1)، أمّا إذا كانت الشهوة مجرّدة عن الحاجة في الحياة دائماً فهي مذمومة، ومن ذلك إتيان الرجال.

وقيل: أتى بهذا القيد - شهوة - لأنّ أصل الإتيان بمعنى المجيء فأراد أن يبيّن أنّ المقصود هو المعنى الكنائي.

وقوله: {مِّن دُونِ ٱلنِّسَاءِ} أي ترتكبون الحرام وتتركون الحلال، وفي ذلك دلالة على أنّهم تركوا مباشرة النساء كاملاً وهذا ذم آخر لهم حيث إنّ ترك الزوجات مذموم لحاجتهن، مع أنّ اللّه خلقهّن للرجال وخلق الرجال لهن، قال سبحانه: {أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَٰلَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}(2)، وقد قال: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ

ص: 163


1- سورة آل عمران، الآية: 14.
2- سورة الشعراء، الآية: 165-166.

لَكُم مِّنْأَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(1).

وقول--ه: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضراب للترقي والتعليل، أي أنتم قوم تتجاوزون الحدود في الفساد والمعصية ولذا ارتكبتم الفاحشة، و(الإسراف) تجاوز الحد المسموح به، وهذا الإسراف هو المذكور في سورة الشعراء {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}، وفي الكشّاف: «أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعو إلى اتّباع الشهوات وهو أنّهم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثَمّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد»(2).

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.

أي لم يكن عندهم جواب لكلامه فلذا انتقلوا إلى التهديد، ونظير هذا يقع للمبطلين حينما تبهتهم الحجّة حيث ينتقلون إلى التهديد أو الاستهزاء والافتخار بباطلهم ونحوهما، فالمعنى لم يكن جوابهم إلاّ التهديد والافتخار بقذارة أنفسهم.

وقوله: {أَخْرِجُوهُم} أي لوطاً وأهله؛ لأنّه لم يؤمن له أحد سواهم، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٖ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ}(3).

ص: 164


1- سورة الروم، الآية: 21.
2- الكشّاف 2: 125.
3- سورة الذاريات، الآية: 35-36.

وقوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ} أي إنّ لوطاً وأهله - وهنّ بناته - ولعلّ ذلك لما روي من أنّ قوم لوط اكتفى الرجال بالرجال فاكتفت النساء بالنساء(1).

وقوله: {يَتَطَهَّرُونَ} أي يتركون القبائح ويتحرّجون عنها، عابوهم بما هو حسن فيهم، وهذا إمّا استهزاء بهم كقول الكافر المعاند: هذا مسلم! أو إنّهم انتكست عقولهم فافتخروا بقذارتهم واعتبروا التطهّر ذمّاً، كما يذم الفسقة المؤمنين بتركهم المحرّمات؛ وذلك لأنّه إذا شاعت فاحشة واستساغها الناس زعموا أنّها الحق وأنّ خلافها الباطل، أو إنّهم كانوا يعلمون بخباثة عملهم وطهارة لوط (عليه السلام) وأهله فذكروا ما عرفوه بفطرتهم إلاّ أنّ شقاوتهم منعتهم عن ترك عملهم، وهذا كقول اللصوص: إنّ فلاناً ليس لصّاً فلا بد من طرده، وذلك لئلا يُنغّص عليهم شهواتهم.

الرابع: قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَٰهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَٰبِرِينَ}.

أي لمّا حان موعد العذاب أنجينا المؤمنين وهم لوط وأهله، إلاّ امرأته كانت كافرة فأصابها العذاب، قال تعالى: {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٖ وَٱمْرَأَتَ لُوطٖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَٰلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَئًْا وَقِيلَ ٱدْخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ}(2).

وقوله: {إِلَّا ٱمْرَأَتَهُ} استثناء منقطع لأنّها وإن كانت زوجته إلاّ أنها لم تكن من أهله كما قال تعالى في ابن نوح: {قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ

ص: 165


1- الكافي 5: 545.
2- سورة التحريم، الآية: 10.

إِنَّهُعَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ}(1).

وقوله: {مِنَ ٱلْغَٰبِرِينَ} أي من الباقين في القرية، يقال: غَبَر إذا بقي(2)، وقد أهلك اللّه كلّهم من رجال غابرين ونساء غابرات فقوله: {غَٰبِرِينَ} للتغليب، وذلك بعد أن انقطع نسلهم بفاحشتهم فلم يكن فيهم أطفال.

الخامس: قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ}.

كان عذابهم بالحجارة ثمّ بعد إهلاكهم قلب اللّه تعالى مدينتهم رأساً على عقب كما قال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ}(3)، والمطر هو الماء النازل من السماء، ثمّ استعير لكل ما ينزل منها، وعامة استعماله في القرآن في العذاب أو ماء السماء المؤذي، وأمّا إذا كان نافعاً فالتعبير بالغيث غالباً ونحوه.

وقوله: {فَٱنظُرْ} الخطاب للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أي فاعلم لكي تبلّغ، أو الخطاب لمن يستمع إلى الآيات أي فانظروا كيف جرمهم أودى بهم فاعتبروا.

وقوله: {ٱلْمُجْرِمِينَ} الجرم هو الذنب العظيم، ولا يطلق على الذنوب الصغيرة.

ص: 166


1- سورة هود، الآية: 46.
2- راجع مقاييس اللغة 4: 408.
3- سورة هود، الآية: 82.

الآيات 85-87

اشارة

{وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 85 وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ 86 وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ 87}

85- {وَ} أرسلنا {إِلَىٰ مَدْيَنَ} قبيلة وسمّيت مدينتها باسمها {أَخَاهُمْ} في النسب {شُعَيْبًا} فدعاهم في البداية إلى التوحيد ف{قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ}، ودليل صدقي أنّه {قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ} معجزة لها دلالة واضحة {مِّن رَّبِّكُمْ}، ثم دعاهم إلى الطاعة وعدم المعصية، قائلاً: {فَأَوْفُواْ} أي أتمّوا {ٱلْكَيْلَ} أي المكيال {وَٱلْمِيزَانَ} وفي ذلك إعطاء الناس كامل حقّهم وهذا في البيع، {وَلَا تَبْخَسُواْ} أي لا تنقصوا {ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} وهذا في الشراء، {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} بالعصيان {بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} بإرسال الرسول إليكم أو بالأنبياء الماضين أو بإهلاك قوم نوح وعاد وثمود، {ذَٰلِكُمْ} الذي أمرتكم به من الوفاء وعدم البخس

ص: 167

وعدم الإفساد {خَيْرٌ لَّكُمْ} أنفع وأحسن {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لأنّ الالتزام بالأحكام من دون إيمان خيرهقليل وأمّا الالتزام بها مع الإيمان ففيه خير الدنيا والآخرة.

86- {وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ} طريق، فقد كانوا يترصدون من يدخل المدينة ليحذّروهم عن شعيب والاستماع إليه {تُوعِدُونَ} تهددون {وَتَصُدُّونَ} تمنعون {عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} فكانوا يستعملون التهديد تارة وإلقاء الشبهات والأكاذيب تارة أخرى {مَنْ ءَامَنَ بِهِ} أي من آمن فعلاً ومن يريد الإيمان {وَتَبْغُونَهَا} تريدون السبيل {عِوَجًا} منحرفة، والمعنى إنّهم كانوا يعارضون سبيل اللّه ويريدون السبيل الأعوج بالكفر والعصيان، {وَٱذْكُرُواْ} نعمة اللّه عليكم {إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا} عدداً {فَكَثَّرَكُمْ} اللّه بالنسل الخصب، {وَٱنظُرُواْ} نظرة اعتبار {كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ} من قبلكم كقوم نوح وهود وصالح (عليهم السلام) كيف أهلكهم اللّه تعالى لمّا عصوا رسله.

87- {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ} فصدّقوني {وَطَائِفَةٌ} منكم {لَّمْ يُؤْمِنُواْ} فكذّبوني {فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ} يتبيّن الحق حينما {يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا} بإنجاء المحق وإهلاك المبطل {وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ} لأنّه يحكم بالعدل ولا يجور، وقادر على إثابة المحق وعقاب المبطل.

قصة شعيب (عليه السلام) وقومه

بحوث

الأوّل: تتضمّن دعوة شعيب (عليه السلام) مضافاً إلى الأمر بعبادة اللّه وحده لا شريك له، مجموعة أمور أخرى ترتبط بأحكام الدين وهي: 1- وفاء

ص: 168

المكيال والميزان، 2- وعدم بخس الناس حقوقهم، 3- وعدم الفساد في الأرض، 4- وعدم تهديد من يريد الإيمان، 5- وعدم الصد عن سبيل اللّه،6- وعدم اتخاذ الطريق المنحرف، 7- وتذكّر نعم اللّه تعالى، 8- والاعتبار بعاقبة المفسدين، 9- والصبر حتى يحكم اللّه بينهم، وقد بيّنها اللّه تعالى بإيجاز بليغ في آيات ثلاث، ويجمعها كلّها أمران: أحدهما أداءحقوق الناس الماديّة والدينيّة، والآخر: تذكّر نِعم اللّه تعالى وعاقبة المفسدين.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ...} الآية.

ابتدأهم بالدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك بعبادة اللّه سبحانه وتعالى وحده.

قوله: {قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي معجزة تدل على صدقه، ولكل نبي معجزة لتمييز أنبياء اللّه تعالى عن الأدعياء الكذبة، ولم يذكر اللّه تعالى في القرآن ماهيّة معجزة شعيب ولا وجدنا ذلك في شيء من الأخبار، ولعلّه لم يكن هناك غرض بذكر خصوص معجزته بتفصيلها، والقرآن لا يذكر شيئاً إلاّ وله غرض في الهداية لا لمجرد سرد قصّة.

ثمّ بعد الدعوة التوحيديّة أمرهم في هذه الآية بثلاثة أمور ترتبط بحقوق الناس:

1- قوله: {فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ} (الوفاء) هو الإتمام إلى حد الحق فيه، فلو أدى دينه كاملاً قالوا أوفاه ووفّاه، وهكذا لو أعطاه بمقدار ما شراه، ووفاء الكيل والميزان هو أن يتم وضع السلعة فيهما من غير نقصان،

ص: 169

و(الكيل) مصدر لكن أريد به هنا آلة الكيل أي المكيال وهو مقياس بالحجم لا بالوزن، و(الميزان) أداة الوزن، ويمكن أن يكون الميزان والكيلمصدرين فالمعنى لا تخونوا في عمليّة الكيل والوزن، وهذا في البيع إلى الناس.

2- وقوله: {وَلَا تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} وهذا في الشراء من الناس، و(البخس) هو نقص الشيء على سبيل الظلم كما في المفردات(1) وذلك حينما يأتي الناس ببضاعتهم لبيعها فيقلل البائع من وزنها أو كيلها ليدفع أقل، وممّا ذكرنا يتبيّن أنّ عطف {وَلَا تَبْخَسُواْ} على (أوفوا) ليس للتأكيد بل كل واحد منهما بيان لحالة مختلفة.

3- وقوله: {وَلَا تُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} كأنّه بيان للنهي عن سلب الناس سائر حقوقهم عبر الإفساد، و(الفساد) خروج الشيء عن حد الاعتدال(2) سواء بإفراط أم تفريط، والمعصية فساد لأنّها خروج عن الدين القويم، و{بَعْدَ إِصْلَٰحِهَا} أي بعد تطهيرها عن المعاصي بإرسال الأنبياء أو بإهلاك الأقوام الكافرة، وهذا تأكيد لأنّ كل فساد منهي عنه إلاّ أنّ الفساد بعد الإصلاح أسوء.

وقوله: {ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي الوفاء بالكيل والوزن وعدم البخس وعدم الإفساد أفضل لكم إن جمعتموه مع الإيمان؛ إذ المجتمع المبتني على الإيمان والعدل والإصلاح خيره المادي والمعنوي أكثر من المجتمع المبني

ص: 170


1- المفردات للراغب: 110.
2- المفردات للراغب: 636.

على الجور والفساد كما هو واضح، ومن ذلك يتبيّن أنّ قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} شرط لقوله: {خَيْرٌ لَّكُمْ}؛ وذلك لأنّ في الجمع بين الإيمان والعمل بالصالحات خير الدنيا والآخرة، وأمّا العمل بالصالحات من غير إيمان ففيه قليل من خير الدنيا دون خير الآخرة، وأمّا تركهما معاً فلا خير فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن هذا يتبين أيضاً أنّ {ذَٰلِكُمْ} ليس إشارة إلى {ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ...} فما بعده لاستلزامه التكرار والإبهام في قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}.

كأنّ هذا المقطع من هذه الآية يرتبط بالنهي عن منعهم حقوق الناس الدينيّة - كما أنّ الآية السابقة كانت حول حقوقهم الماديّة - حيث كانوا يترصّدون في الطرق لمنع الناس عن الوصول إلى شعيب (عليه السلام) لئلا يهتدوا به أو ليرتد المؤمنون عنه.

وقوله: {وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ} كأنّ المراد به الطرق المنتهيّة إلى شعيب، كما كان يفعل ذلك مشركو مكّة حيث كانوا في الطرق ينهون الحجاج والمعتمرين والغرباء عن الاستماع إلى رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وكان عملهم في الطريق ثلاثة أمور:

1- قوله: {تُوعِدُونَ} تهديد الناس وتخويفهم، ولعلّ هذا يرتبط بأسلوبهم مع عامة الناس غير المؤمنين الذين كانوا يحتملون إيمانهم إذا استمعوا إلى شعيب (عليه السلام) ، فيكون التهديد مانعاً لهم عن الإيمان.

ص: 171

2- وقوله: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ} ولعلّ طريقتهم في صد المؤمنين عن طريق إلقاء الشبهات والتضييق عليهم بالاستهزاء وغير ذلكليضجروا من الإيمان ويرتدّوا على أدبارهم القهقرى إلى الكفر، أو صدّهم عن العمل بوظائف الإيمان من العبادات وسائر الطاعات.

ويحتمل أن يكون الإيعاد والصد بالنسبة إلى المؤمنين أي توعدون المؤمنين وتصدّوهم عن سبيل اللّه، فكان تارة تهديداً وأخرى صدّاً عملاً، كما يحتمل أن يكون قوله: {مَنْ ءَامَنَ بِهِ} أعم ممّن آمن فعلاً ومن يريد الإيمان.

3- وقوله: {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي تطلبون السبيل الأعوج المنحرف عن سبيل اللّه فضمير {تَبْغُونَهَا} يرجع إلى السبيل، فلم يكن عملهم مجرد الصد عن سبيل اللّه بل أضافوا إلى ذلك الدعوة إلى الباطل، وهذه جريمة مضاعفة، فالمبطل تارة لا يريد اهتداء الناس ولا يهمّه ماذا يختارون، وتارة يريد إضلالهم إلى دين باطل.

وقيل: الضمير يرجع إلى {سَبِيلِ ٱللَّهِ} فالمعنى تريدون إيهام الناس بعدم صحة سبيل اللّه تعالى حيث ترونهم أنّها عوجاء!

الرابع: قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ}.

كأنّ هذا المقطع من الآية المباركة يدعوهم إلى الإيمان عبر تذكيرهم بنعمة اللّه عليهم وتذكيرهم بمصير الأقوام المكذّبين الذين أهلكهم اللّه تعالى.

ص: 172

وقوله: {وَٱذْكُرُواْ} أي تذكّراً يقودكم إلى الإيمان والعمل الصالح.

وقوله: {فَكَثَّرَكُمْ} الظاهر أنّ المراد أنّ عددهم كان قليلاً فزاد نسلهم،وكأنّ ازديادهم كان أكثر من سائر الأقوام فكانت نعمة ظاهرة لهم بخصوبة النسل، لذلك ذكّرهم بهذه النعمة، أو هم نسل المؤمنين الذين أنجاهم اللّه تعالى من عذاب أقوامهم الكافرين، فكانوا أقليّة والكفّار أكثريّة ثمّ أهلك اللّه الكفّار وتناسل المؤمنون فصاروا كثيراً إلاّ أنّ ذرّيتهم أشركوا وانحرفوا فبعث اللّه إليهم شعيباً ليذكرهم، واللّه العالم.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ...} الآية.

كأنّ هذا من تتمة الآية السابقة، فحيث نهاهم عن أن يصدّوا المؤمنين عن سبيل اللّه، بيّن لهم أن يتركوهم وشأنهم حتى يحكم اللّه بينهم.

ويمكن أن يراد ما في تقريب القرآن: «ولا يغرّنكم أيّها القوم تفرّق الناس عنّي بين مؤمن وكافر، فإنّ المصلحين يتفرّق الناس عنهم فرقتين دائماً، وقبل شروعهم في الإصلاح يكون الناس حولهم فرقة واحدة موالية، ولا يخفى أنّ هذا لا يكون سبباً لأن يزعم كل من تفرّق الناس عنه فرقتين أنّه مصلح وأنّه على حق، فإنّ العاقبة للحق، والضمائر تشهد بالصدق والكذب، وهاتان علامتان مميّزتان بين المحق والمبطل؛ ولذا تمسّك شعيب (عليه السلام) بقوله: {فَٱصْبِرُواْ}»(1).

ص: 173


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 209.

وقيل: هو وعد ووعيد، أي كلا الطائفتين - المؤمنة والكافرة - سيلاقون جزاء عملهم، فالمؤمنة بالثواب والكافرة بالعقاب، لكن عليهم الصبر إلى أنيحين وقت ذلك.

وقوله: {يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا} بإنجاء المحق، وإهلاك المبطل.

وقوله: {خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ} لأنه العالم بكل شيء الذي لا يسهو ولا يغفل، وهو العدل الذي لا يجور، وهو القادر الذي لا يفوته شيء.

ص: 174

الآيات 88-93

{قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَٰرِهِينَ 88 قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَٰتِحِينَ 89 وَقَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَٰسِرُونَ 90 فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ 91 ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ ٱلْخَٰسِرِينَ 92 فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٖ كَٰفِرِينَ 93}

88- ولمّا لم يتمكن الكفّار من مجاراة شعيب بالحجّة هددوه ف{قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ} عن قبول الحق ولم يقبلوا أن يصبروا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا} نسبوا القرية إلى أنفسهم دون المؤمنين بخساً وتكبّراً {أَوْ لَتَعُودُنَّ} أي إلاّ أن تعودوا {فِي مِلَّتِنَا} طريقتنا بالكفر والمعصية، فخيّروهم بين أحد الأمرين. {قَالَ} شعيب (عليه السلام) في جوابهم: {أَوَلَوْ كُنَّا كَٰرِهِينَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو حالية، أي كيف تتمكّنون من إخراجنا من القرية أو إعادتنا في ملتكم

ص: 175

والحال أنّا كارهون لكلا الأمرين فلا نريد أن نخرج ولا نريد أن نكفر.

89- ثمّ بيّن سبب رفضه لكلا الأمرين، أمّا عدم العود إلى ملتهم ف{قَدِٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم} لأنّ الشرك والمعاصي كذب ونسبتها إلى اللّه افتراء عليه، {بَعْدَ إِذْ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنْهَا} فإن الارتداد أسوء من الكفر الأصلي، {وَمَا يَكُونُ لَنَا} يستحيل علينا {أَن نَّعُودَ فِيهَا} في ملتكم المشركة {إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا} بأن يخذلنا ويقطع لطفه عنّا فحينئذٍ نضلّ ونرجع إلى الشرك، ومشيئته ليست اعتباطاً، بل {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي علمه أحاط بكل شيء فلا يشاء إلاّ بحكمة. وأمّا سبب عدم الخروج من القرية فلأنّا {عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا} فلا نخاف من تهديدكم، ثمّ توجه شعيب إلى اللّه بالدعاء قائلاً: {رَبَّنَا ٱفْتَحْ} أي احكم واكشف الحقيقة {بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَٰتِحِينَ} لأنّك عدل لا جور فيه وعلم لا جهل معه.

90- {وَ} لمّا يئسوا من شعيب ومن آمن معه {قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} لمن لم يؤمن، أو قالوه للمؤمنين: {لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} آمنتم به أو بقيتم على الإيمان به {إِنَّكُمْ إِذًا} حين اتباعكم له {لَّخَٰسِرُونَ}.

91- {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ} عذّبوا بسحابة أرعدت بالصحية وأبرقت بالنار فارتجفت الأرض منها أو ارتجفت قلوبهم فانخلعت فماتوا {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ} صرعى لا حركة لهم.

92- {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} وهددوه بإخراجه من القرية {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ

ص: 176

فِيهَا} أي كأنّهم لم يسكنوها لأنّهم وذرّيّتهم انقطعوا عنها، {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ ٱلْخَٰسِرِينَ} خسروا الدنيا والآخرة عكس ما زعموا من خسران المؤمنين.

93- {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ} أعرض عن جثثهم الميتة {وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي} فكلّ حكم رسالة {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أخلصت في وعظكم، لكنّكم عاندتم بعد الحجة {فَكَيْفَ} استفهام بمعنى النفي {ءَاسَىٰ} أحزن {عَلَىٰ قَوْمٖ كَٰفِرِينَ}.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَٰشُعَيْبُ...} الآية.

قد أراهم شعيب (عليه السلام) البيّنة من ربّه وأمرهم ونهاهم وذكّرهم فلم يتّعظوا، ثمّ طلب منهم أن يصبروا حتّى يحكم اللّه بينهم، فلم يقبلوا، وخيّروا شعيباً والمؤمنين به بين أمرين إمّا الخروج من المدينة أو الرجوع إلى الكفر، وكان ذلك بعد أن عجزوا عن قتله لوجود من يدافع عنه كما قال: {قَالُواْ يَٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَٰكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٖ}(1)،

فأرادوا بتخييره أن تصفو لهم القرية من غير وجود من ينهاهم عن المنكر ويأمرهم بالمعروف، وهذا هو دأب المبطلين حيث لا يتمكّنون من مقارعة الحجّة أو حينما تُدحض حجّتهم، قال تعالى: {وَقَالَ

ص: 177


1- سورة هود، الآية: 91.

ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ ٱلْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَوَعِيدِ}(1)، وقال: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلْأَعَزُّ مِنْهَا ٱلْأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(2)، أو أرادوا الضغط على المؤمنين للرجوع إلى الكفر فإنّ ترك الوطن من أصعب الأمور ولذا كانت الهجرة في سبيل اللّه من أعظم القربات.

وقوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ} شعيب (عليه السلام) كان موحّداً منذ أن خلقه اللّه تعالى، وهكذا جميع الأنبياء (عليهم السلام) ، فالتعبير بالعود - الذي هو الرجوع إلى الشيء بعد أن كان - إمّا من باب التغليب لأنّ المؤمنين معه كانوا قد أسلموا عن كفر كلّهم أو أكثرهم، وإمّا لأنّهم لم يكونوا يعلمون بإيمانه قبل رسالته، وإمّا بسلخ العود عن معناه بأن يكون بمعنى الصيرورة.

وقوله: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَٰرِهِينَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو حاليّة فالمعنى لا تتمكّنون من أيٍّ من الأمرين لأنّا كارهون لهما فلا نريد الخروج ولا الكفر.

الثاني: قوله تعالى: {قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ...} الآية.

تعليل لكراهة شعيب ومن معه للكفر وللخروج.

وقوله: {قَدِ ٱفْتَرَيْنَا...} فإنّ المشركين يزعمون أنّ اللّه أمرهم بالشرك

ص: 178


1- سورة إبراهيم، الآية: 13-14.
2- سورة المنافقون، الآية: 8.

حيث يزعمون أنّه اتخذ الشركاء، والشرك كذب لا يطابق الواقع، ونسبته إلى اللّه افتراء عليه لأنّه لم يأمر به فقوله: {كَذِبًا} ليس تأكيداً لقوله: {قَدِ ٱفْتَرَيْنَا} بلهو مفعول به فالمعنى لو أشركنا الكذبَ الباطل فقد نسبناه إلى اللّه زوراً.

وقوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنْهَا} بالهداية وإيضاح الحق، وهذا القيد لتأكيد الافتراء بالعود إلى الشرك؛ لأنّ المشرك الأصلي قد يكون جاهلاً قاصراً فيكون شركه باطلاً لكن مع زعمه أنّه الحق إلاّ أنّ الذي عرف الإيمان لا يكون شركه إلاّ عن عمد وعلم ببطلانه فكان افتراءً، أو هو بمعنى أنّ اللّه قد نجّانا من الكفر فكيف نقابل إحسانه بالإساءة عبر الافتراء عليه بالباطل؟!

وقوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا...} كأنّ المعنى أنّه يستحيل رجوعنا إلى ملّتكم الباطلة، و{مَا يَكُونُ} وأمثاله قد يكون بمعنى لا يجوز تكليفاً، أو لا ينبغي أخلاقاً، أو لا يمكن تكويناً، أو لا يتحقّق عادة، وكأنّ الأخير هو المقصود هنا.

وقوله: {إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا} كأنّ المقصود هو إلاّ أن يخذلنا اللّه تعالى فيتركنا ويقطع ألطافه عنّا فحينئذٍ نضل ونعود إلى ملّتكم، واللّه لا يخذل المؤمن إلاّ لو ارتكب بعض الذنوب التي تستوجب خذلانه.

وقوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} قيل: إنّما قالوا هذا لبيان أنّهم لا يعلمون الغيب وأنّ اللّه هل سيخذلهم فيكفروا أم يستمر في هدايتهم فيبقون على الإيمان، قال سبحانه: {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ}(1).

ص: 179


1- سورة الأعراف، الآية: 175-176.

ويمكن أن يكون المعنى إنّنا لا نعود إلى ملّتكم إلاّ لو أمرنا اللّه بها، لكن اللّه لا يأمر بها لأنّه بكل شيء عليم فلا يكون نهيه عن ملّتكم إلاّ لعلمه ببطلانها.

وقوله: {عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا} بيان رفضهم للخروج فإنّهم يتوكّلون على اللّه في بقائهم فلا يخافون تهديداً، أو هو من تتمّة قوله: {إِلَّا أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا} أي لو خذلنا اللّه لرجعنا إلى الشرك لذا نتوكّل عليه تعالى لئلا يخذلنا ولنبقَ على الإيمان دائماً.

الثالث: قوله: {رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَٰتِحِينَ}.

كأنّه قال هذا لمّا يأس عن إيمانهم فدعا اللّه بإنزال العذاب عليهم.

وقوله: {ٱفْتَحْ} في المقاييس: «فتح أصل صحيح يدل على خلاف الإغلاق، يقال: فتحت الباب وغيره فتحاً، ثمّ يحمل على هذا سائر ما في هذا البناء، فالفتح والفتاحة: الحكم، واللّه تعالى الفاتح أي الحاكم»(1)؛ وذلك لأنّ في الحكم الفصل فتح باب الحق وكشف الحقيقة، فكأنّه قال ربّنا اكشف الحق.

وقوله: {بِٱلْحَقِّ} قيد توضيحي للتأكيد لأنّه تعالى لا يحكم إلاّ بالحق.

وقوله: {خَيْرُ ٱلْفَٰتِحِينَ} لعلمه وعدله وقدرته، وأمّا سائر الفاتحين فقد يخطئ أحدهم حتى لو أراد عدلاً، وقد يحكم بالعدل لكنه لا يتمكّن من تنفيذه لضعفه أو لقوّة المبطل أو لوجود مانع.

ص: 180


1- مقاييس اللغة 4: 469.

الرابع: قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَٰسِرُونَ}.

الظاهر أنّ خطابهم كان للمؤمنين من قومهم، فالمعنى إنّا نعلم أنّ شعيباً لا يتنازل عن كلامه فلا هو يخرج من البلد ولا هو يرجع إلى الكفر، لكنكم أيّها المؤمنون به عليكم ترك اتّباعه وإلاّ كان مصيركم إلى الخسران، ولعلّهم أرادوا إنزال عقوبة وضرر عليهم، ويحتمل أن يكون المخاطب من لم يؤمن به لكنّهم كانوا يحتملون إيمانه فهددوهم بالخسارة ليمنعوهم عن الإيمان، أو هو إخبار بأنّ ترك التطفيف وترك دين قومهم ضرر عليهم.

الخامس: قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَٰثِمِينَ}.

حيث أظلتهم سحب أرعدت بالصيحة وأبرقت بالنار فإما ارتجفت قلوبهم وانخلعت من الصيحة فماتوا ثمّ احرقتهم النار، أو تلك الصيحة لقوتها زلزلت الأرض، قال سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(1)، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ}(2)، وحيث إنّ اللّه تعالى بيّن في كل سورة جانباً من جوانب القصّة ذكر العذاب الذي يناسب ذلك الجانب، فهنا في سورة الأعراف نقل تهديدهم لشعيب بالخروج من القرية فناسب ذكر عذاب الرجفة، وفي سورة هود ذكر أنّهم لا يفقهون كثيراً مما يقوله شعيب لهم فناسب ذكر عذاب الصيحة، وفي سورة الشعراء حيث

ص: 181


1- سورة الشعراء، الآية: 189.
2- سورة هود، الآية: 94.

طلبوا أن يسقط عليهم كسفاً من السماء ناسب ذكر عذاب الظلّة حيث أظلتهم سحابة العذاب، واللّه العالم.

السادس: قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ ٱلْخَٰسِرِينَ}.

بيان عذاب الاستئصال حيث لم تبق لهم باقية؛ فإنّ الأقوام يبقون ببقاء ذرّيّتهم، أمّا لو ماتوا جميعاً ولم تبق لهم ذرّيّة انقطعت آثارهم فكأنّهم لم يسكنوا تلك الديار. وكأنّ هذا جواب على تهديدهم بإخراج شعيب والمؤمنين، لكن هم الذين غادروا المكان ولم يبقوا فيه.

وقوله: {لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} يقال: غني بالمكان إذا طال مقامه فيه مستغنياً به عن غيره(1).

وفي تكرار قوله: {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} تأكيد وتغليظ الأمر عليهم، وبيان أنّ تكذيبهم هو الذي أضرّهم.

وقوله: {كَانُواْ هُمُ ٱلْخَٰسِرِينَ} عكس ما كانوا يزعمونه من خسارة المؤمنين، فهم قد خسروا الدنيا والآخرة، وأمّا المؤمنون فربحوهما.

السابع: قوله تعالى: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي...} الآية.

مرّ بيان نظير صدر الآية في قصّة قوم صالح الآية 79، فراجع.

وقوله: {فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٖ كَٰفِرِينَ} يدل على عدم مطلوبيّة الحزن

ص: 182


1- المفردات للراغب: 616.

على المعاند الذي أخذه اللّه بالعذاب كما قال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}(1)، بلالعكس هو المطلوب كما قال: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٖ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}(2). نعم، قد تكون الحسرة على عدم إيمانهم كما قال: {يَٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(3)،

والحاصل إنّه لا حزن على الكافر المعاند الذي عاقبه اللّه تعالى، وإنّما الحزن على عدم إيمانه وهو في الحقيقة حزن على غربة الإيمان وقلّة أنصاره، فتأمّل.

وحاصل المعنى: إنّي لا أحزن عليهم لأنّهم كانوا معاندين حيث بلّغتهم الرسالات ونصحت لهم فلم يؤمنوا، ومن هذا يتبيّن وجه التفريع في قوله: {فَكَيْفَ ءَاسَىٰ...}، واللّه العالم.

ص: 183


1- سورة الحجر، الآية: 88؛ سورة النمل، الآية: 70.
2- سورة التوبة، الآية: 14-15.
3- سورة يس، الآية: 30.

الآيات 94-99

اشارة

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَاءِ وَٱلضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ 94 ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا ٱلضَّرَّاءُ وَٱلسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ 95 وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 96 أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَٰتًا وَهُمْ نَائِمُونَ 97 أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ 98 أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْخَٰسِرُونَ 99}

94- ثمّ يلخّص اللّه القصص السابقة ببيان سنّته تعالى مع المكذّبين، موعظةً للناس فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ} «من» للتعميم {إِلَّا} هيّئنا لهم ما يتذكّرون به ليؤمنوا ف{أَخَذْنَا أَهْلَهَا} الكافرين {بِٱلْبَأْسَاءِ} وهي ما توجب الشدّة النفسيّة كالفق--ر {وَٱلضَّرَّاءِ} وهي ما توجب الضر في البدن والمال ونحوهما كالمرض {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} يخضعوا للّه ويتذلّلوا له ولا يستكبروا.

95- {ثُمَّ} لمّا لم ينفعهم ذلك {بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ} وهي ما تسوؤهم من البأساء والضرّاء {ٱلْحَسَنَةَ} وهي ما يستحسنونه من السرّاء والرخاء والصحّة ونحوها، ونمهلهم لكي يؤمنوا {حَتَّىٰ عَفَواْ} أي تركوا التضرّع {وَّ} زعموا أنّ تبدّل الحالات ليس للابتلاء والإيقاظ ف{قَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا

ص: 184

ٱلضَّرَّاءُ} ما يضرّهم {وَٱلسَّرَّاءُ} ما يسرّهم فهذه سنة الحياة دائماً، فحينذاك يفقدونقابليّة الهداية فلم يبق إلاّ استئصالهم {فَأَخَذْنَٰهُم} بالعذاب {بَغْتَةً} فجأةً بدون إمهال لأنّ زمن الإمهال قد ولّى {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بالعذاب قبل حلوله.

96- {وَ} لو كانوا يؤمنون من حين بعث الرسل لم نكن لنأخذهم بالبأساء والضرّاء ف{لَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ} بدلاً عن كفرهم {وَٱتَّقَوْاْ} المعاصي بدلاً عن ارتكابها {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ} هي الخيرات الثابتة الناميّة {مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ} أي من كل جهة فكأنّها في مخازن مغلقة تفتح بالإيمان والتقوى، {وَلَٰكِن كَذَّبُواْ} الرسل فلم يؤمنوا ولم يتّقوا {فَأَخَذْنَٰهُم} بالعذاب {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بسبب ما اقترفوه ولم يكن ذلك ظلماً لهم بل عقوبةً لسوء أعمالهم.

97- ثمّ يوبّخهم اللّه تعالى - عِبرة لمن يرى مصيرهم - فقال: {أَفَأَمِنَ} الهمزة استفهام توبيخي والفاء عطف على «فأخذناهم بغتة» أي كيف أمِن {أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ} التي أهلكت {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَٰتًا} في وقت البيات في الليل {وَهُمْ نَائِمُونَ} مرتاحون باطمئنان؟!

98- {أَوَ أَمِنَ} الهمزة للتقريع والواو عاطفة أي وكيف أمن {أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى} وقت النهار حين ارتفاع الشمس {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} غافلون مطمئنّون؟!

99- ثمّ قال تأكيداً وتلخيصاً: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ} أي كيف غفلوا عن

ص: 185

تدبير اللّه تعالى بما يخفى عليهم حيث أمهلهم واستدرجهم؟! وحيثاتّضحت عاقبتهم {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْخَٰسِرُونَ} خسروا أنفسهم واشتروا لها العذاب بدلاً عن الثواب.

سنن اللّه تعالى العامة في المكذبين

بحوث

الأوّل: لمّا قص اللّه تعالى قصص القرى التي أهلكها حينما عصوا رسله (عليهم السلام) لخّص الأمر وبيّن السنة العامة في الآيات 94-102 ليكون ذلك موعظة وعبرة للناس، فالسنة العامة هي أنه حينما يرسل اللّه تعالى رسولاً إلى قرية إن آمنوا له فتح اللّه عليهم الخيرات من كل جهة، وإن كذّبوا به أخذهم اللّه في البداية بالشدّة في أنفسهم وما يرتبط بهم عسى أن يخضعوا ويتوبوا، فإن لم ينفعهم ذلك ابتلاهم بالنعمة عسى أن يشكروا، لكنّهم إن تركوا التوبة ولم يتّعظوا بالشدّة والرخاء حينذاك يطبع اللّه على قلوبهم، ثمّ يأخذهم بالعذاب من حيث لم يكونوا يتوقّعونه وفي كل ذلك موعظة لسائر الناس بأنّ اللّه قد يطبع على قلوبهم ويأخذهم بالعذاب كما أخذ القرى الهالكة.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَاءِ...} الآية.

السنّة الإلهية هي إن آمنوا فتح عليهم البركات وإن كفروا أخذهم بالسيّئة، ولكن في الواقع العملي أهل القرى كانوا من القِسم الثاني ولذا أخبر عمّا حل بتلك القرى.

وقوله: {بِٱلْبَأْسَاءِ} من البؤس وهو الشدّة في نفس الإنسان، وقد يكون

ص: 186

سببها خارجياً كالفقر، فإنّه يوجب شدّة نفسيّة بالغم والهم والقلق ونحوها.

وقوله: {وَٱلضَّرَّاءِ} من الضرر وهو النقص في المال أو البدن وغيرهما وذلك بالمرض والجدب وأمثالهما.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} التضرّع هو إظهار الذل والمسكنة والخضوع، ولعلّ تقديم البأساء والضرّاء على الرخاء لأجل أنّ الإنسان في وقت الحاجة تتيقّظ فطرته ويرجع إلى جذوره عكس حالة الغنى، قال تعالى: {إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّءَاهُ ٱسْتَغْنَىٰ}(1)، وقال: {وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٖ}(2).

الثالث: قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ...} الآية.

أي وحيث لم تنفعهم البأساء والضرّاء فلم يتضرّعوا كما قال: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(3)، لذا بدّلنا الضرّاء والبأساء إلى السرّاء والرخاء لعلّهم يشكرون، قال سبحانه: {وَبَلَوْنَٰهُم بِٱلْحَسَنَٰتِ وَٱلسَّئَِّاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(4)، وقال: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ}(5).

وقوله: {ٱلسَّيِّئَةِ} أي ما كان يسوؤهم، فالبأساء والضرّاء تسوء صاحبها.

وقوله: {ٱلْحَسَنَةَ} أي ما كان إحساناً إليهم، فالرخاء والسرّاء تفرح

ص: 187


1- سورة العلق، الآية: 6-7.
2- سورة فصّلت، الآية: 51.
3- سورة الأنعام، الآية: 43.
4- سورة الأعراف، الآية: 168.
5- سورة الأنعام، الآية: 44.

صاحبها.

وقوله: {حَتَّىٰ عَفَواْ} الظاهر أنّ العفو هنا بمعناه وهو الترك، أي حتى تركوا الشكر، وفي التقريب: «العفو هو الإغضاء عن الذنب، أي فعلوا الذنوب غاضين عنها تاركين أنفسهم وشهواتها»(1)، وقيل: العفو هنا بمعنى الكثرة، أي كثروا في أولادهم وأموالهم.

وقوله: {قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا...} أي بدلاً عن أن ينتبهوا، زعموا أنّ تداول الضرّاء والسرّاء هي عادة الدهر فتارة يُحسن وتارة يُسيء، فهكذا كان آباؤنا وهكذا نحن!

وقوله: {ٱلضَّرَّاءُ وَٱلسَّرَّاءُ} فيه إيجاز بليغ أي الضرّاء والبأساء، والرخاء والسرّاء، فالضراء يلازمها البؤس، والرخاء يلازمه السرور، فذكر من أحدهما اللازم ومن الآخر الملزوم.

وقوله: {فَأَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً} أي بعد أن لم تنفعهم الشدّة ولا الرخاء، يأتيهم العذاب فجأة من دون إنذار سابق، وهذا بالنسبة إلى من طبع اللّه على قلوبهم كما سيأتي في الآية 102، وأمّا من لم يطبع اللّه على قلوبهم فيحتمل توبتهم فلذلك قد يأتيهم العذاب تدريجاً ليتوبوا كما حصل لقوم يونس (عليه السلام) .

سبب إمهال ثمود ثلاثة أيام

ثمّ إنّه قد استثنى اللّه تعالى من عذاب الفجأة ثمود قوم صالح حيث قال: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٖ}(2)، ولعلّ هذا الاستثناء لبيان أنّ المطبوع على قلوبهم بسوء أعمالهم لا ترجى توبتهم

ص: 188


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 217.
2- سورة هود، الآية: 65.

حتى لو أمهلهم اللّه تعالى، بل حتى لو أرجعهم اللّه إلى الدنيا كما قال: {وَلَوْرُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1)، فلعلّه أراد تعالى أن يكون هناك مثل لهم في عذاب الدنيا تأكيداً لسنّته في الأخذ بغتة، فإنّ الاستثناء قد يكون لغرض تأكيد المستثنى منه.

وقوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} إمّا لا يشعرون بالعذاب إلاّ حين حلوله فيكون تأكيداً لقوله: {بَغْتَةً}، وإمّا لا يشعرون أنّ الشدّة للضراعة والرخاء للشكر، أي جاهلون بالأسباب والمسببات الغيبيّة لذلك لم يهتموا بها.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا...} الآية.

بيان أنّ سنّته تعالى هي أنّ الإيمان بالرسل سبب البركة من كل الجهات، في الدنيا والآخرة، كما قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}(2).

وقوله: {وَلَوْ} بيان أنّهم لم يلتزموا بهذا الأمر - لأنّ (لو) لما لم يكن - فليس هناك ظلم من اللّه لهم ولا تشديد، فاللّه تعالى قدّر الرخاء لهم شرط الإيمان والتقوى وقدّر الشدّة والعذاب لو كفروا وعصوا، لكنّهم بسوء اختيارهم اختاروا الثاني.

وقوله: {أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ} أي القرى التي أهلكناها فالألف واللام في {ٱلْقُرَىٰ} للعهد، ويمكن أن تكون للجنس حيث إنّ الحكم عام لجميع

ص: 189


1- سورة الأنعام، الآية: 28.
2- سورة المائدة، الآية: 65-66.

القرى.

وقوله: {لَفَتَحْنَا} كناية عن التيسير والتوسعة عليهم غيبيّاً وطبيعيّاً، فإنّ جميع الأسباب بيد اللّه تعالى فيقدر ما يشاء بحكمته سواء بطريقة غيبيّة لا نعرف كيفيّتها، أم بطريقة طبيعيّة علّمنا اللّه السببيّة فيها؛ وذلك لأنّ خزائن كل شيء ومفاتيحه بيده، قال سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ}(1)، وقال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ}(2)، وقال: {لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}(3).

وقوله: {بَرَكَٰتٖ} البركة هي الخير الثابت والنامي، وبركات السماء الماديّة الغيث وطيب الهواء والرياح اللواقح ونحو ذلك، وبركاتها المعنويّة رفع العمل الصالح وصعود الكلم الطيّب وأمثاله، وبركات الأرض أيضاً ماديّة ومعنويّة كالنباتات والأنهار والخصب والأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وعبادة اللّه فيها ونحو ذلك.

قال السيد الوالد رضوان اللّه عليه في التقريب: «وهذا إلى جنب كونه معنويّاً بلطفه سبحانه، كذلك يكون بالأسباب الظاهرة، فإن الإيمان والتقوى يوجبان سيادة مناهج اللّه تعالى وهي توجب الأخوّة والتعاون ممّا يسبّبان ازدهار الحياة وتعميم الرفاه والأمن، كما أنّ الكفر والعصيان سببان لعكس ذلك»(4).

ص: 190


1- سورة المنافقون، الآية: 7.
2- سورة الأنعام، الآية: 59.
3- سورة الشورى، الآية: 12.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 218-219.

سؤال: فكيف نرى الكفّار في رخاء والمسلمين في شدّة؟

والجواب: أمّا الكفّار فقد أخذوا ببعض الأسباب الظاهريّة فأثّرت أثرها موقّتاً وقد قال اللّه تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ} وقد يأخذهم اللّه ولو بعد حين بسائر ذنوبهم، وأمّا المسلمون فقد تركوا كثيراً من الأسباب التي أمر اللّه بها فلا يتوقعُنّ النتائج بالإعجاز وقد قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}(1)، وقال: {وَمَا أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ}(2).

الخامس: قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا} إلى قوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ}.

توبيخ لهم بأنّهم أمنوا من العذاب مع أنّهم أوجدوا أسبابه بسوء اختيارهم، كمن يأتي بالذئب إلى خيمته ثمّ ينام عنده، فإذا افترسه كان مذموماً بأمنه مضافاً إلى هلاكه.

فمعنى الآيتين هو الإنكار عليهم بأنّهم أمنوا العذاب مع أنّ العذاب يأتيهم بغتةً في أوقات اطمئنانهم وغفلتهم، وفي هذا تنبيه للناس على أن لا تغرّنّهم الحالة التي هم عليها من الأمن والأمان لأنّها قد تزول بلحظة واحدة، بل عليهم أن يحذروا أسباب العذاب ويصلحوا شأنهم، ونظير هذا أنك قد ترى دولة تنعم بالأمن وأهلها غافلون فلا يعلمون بما يخطّطه أعدائها وإذا بهم يرون الفوضى والفتن وعدم الأمن بين عشية وضحاها، وما ذلك إلاّ للغفلة

ص: 191


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة الشورى، الآية: 30.

عن الأسباب.

وقوله: {بَيَٰتًا} ظرف أي وقت البيات حين طمأنينتهم ولذلك كانوا نائمين، عكس الخائف غير الآمن فإنّ النوم يفارق جفونه.

وقوله: {ضُحًى} ظرف أي وقت ارتفاع الشمس في النهار.

وقوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} واللعب هو الفعل الذي لا غرض فيه، وإنّما يلعب الإنسان لو اطمئن، فالمضطرب الخائف لا يشغل نفسه باللعب، وفي ذلك أشد الذم لأهل هذه القرى فإنّهم بين نوم ولعب، وقيل: يلعبون بمعنى يعملون أعمالهم التجاريّة ونحوها ومن اشتغل بدنياه وأعرض عن آخرته فهو كاللاعب! وما ذكرناه أنسب بالسياق.

السادس: قوله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْخَٰسِرُونَ}.

تأكيد لما في الآيتين السابقتين، وبيان أنّهم إنّما أمنوا عذاب اللّه فارتكبوا موجباته وبذلك خسروا الدنيا والآخرة.

وقوله: {مَكْرَ ٱللَّهِ} (المكر) هو العلاج الخفي لما يسوء الممكور، وقد يكون حقّاً إذا استحقّه الممكور به، وقد يكون باطلاً إذا لم يستحقّه، ومكر اللّه لا يكون إلاّ بعدله لمّا استحقوا العذاب بسوء أعمالهم فكان من الحكمة معاقبتهم، ومكر اللّه هو استدراجهم بالنعم وتقديره العذاب بغتة وسُمّي العذاب مكراً لنزوله بهم من حيث لا يعلمون.

وقوله: {ٱلْقَوْمُ ٱلْخَٰسِرُونَ} الذين خسروا أنفسهم فخسروا الدنيا والآخرة، حيث لم يتّعظوا وتركوا الاعتبار، وأمّا المؤمنون فهم بين الخوف والرجاء لا

ص: 192

يزيد خوفهم على رجائهم ولا رجاؤهم على خوفهم، فلرجائهم يعملونولخوفهم يتورّعون، وفي هذا تنبيه على الطاعة لئلا يكون المصير الخسران.

سؤال: الأنبياء (عليهم السلام) يعلمون بمنزلتهم عند اللّه ونجاتهم في الآخرة فهل قد أمنوا مكره وفازوا؟

والجواب: إمّا إنّه تعالى لا يمكر بهم فلطاعتهم الدائمة فلا يوجد مكر بالنسبة إليهم أصلاً كي لا يأمنوه أو يأمنوه من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

أو إنّ المكر أعم من أن يكون بالإنسان أو بغيره، والأنبياء لا يأمنون نزول العذاب على الناس العصاة.

أو باعتبار احتمال صدور ترك الأولى من بعض الأنبياء (عليهم السلام) فيكون المكر حينئذٍ بمعنى عدم بلوغ بعض المراتب العالية، هذا بناءً على ما هو المشهور من صدور ترك الأولى منهم (عليهم السلام) ، وفي ذلك إشكال، بل عصمتهم تمنع عن صدور ترك الأولى منهم أيضاً.

ثمّ إنّ في تكرار قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ} و{أَفَأَمِنُواْ} ثلاث مرّات تأكيداً شديداً على لزوم الحذر وعدم الأمن، فإنّ العلاج الخفي إذا كان من اللّه تعالى فلا بد أن يصيبهم ولا يخطأهم وفي ذلك الخسارة الكاملة.

ص: 193

الآيات 100-102

{أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ 100 تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ 101 وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٖ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ 102}

100- وحيث تبيّن مصير تلك الأمم التي أهلكها اللّه بظلمهم فلماذا لا يعتبر بهم أخلافهم؟ {أَوَ لَمْ يَهْدِ} الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة، أي لماذا لم يتبيّن {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْأَرْضَ} يملكونها ويحلّون فيها {مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} الهالكين، وقوله: {أَن لَّوْ نَشَاءُ} فاعل «يهد» أي لم يتبيّن لهم بأنّا قادرون على إهلاكهم ف{أَصَبْنَٰهُم} أخذناهم {بِذُنُوبِهِمْ} كما أصبنا أسلافهم {وَ} إنّما لا يتبيّن لهم لأنّا {نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} بسبب ذنوبهم {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} مواعظ أنبيائهم سماع تعقّل.

101- ثمّ يلخّص اللّه تعالى حال القرى الهالكة بقوله: {تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ} التي ذكرناها {نَقُصُّ عَلَيْكَ} نخبرك {مِنْ أَنبَائِهَا} بعض أخبارها ليعتبر الناس بهم {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ} الدلائل الواضحة كالمعجزات والبراهين {فَمَا كَانُواْ} بعد مجيء الرسل {لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} أي

ص: 194

قبل مجيئهم؛ وذلك لأنّهم معاندون والمعاند لا تفرق حالته بين قبل الآياتوبعدها فهو مكذّب على كل حال، وكما طبع اللّه على قلوب أولئك الهالكين {كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ} فهي سنّة عامّة بالطبع على قلوب المعاندين.

102- {وَ} هؤلاء عاندوا مع أنّه قد أخذ منهم العهد ف{مَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٖ} المودع في فطرتهم والمأخوذ عليهم في الميثاق {وَإِن وَجَدْنَا} «إن» للتأكيد مخفّفة من المثقّلة {أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ} خارجين عن الطاعة، وأمّا الأقل فهم الذين آمنوا بالرسل فوفوا بالعهد وأطاعوا فأنجاهم اللّه تعالى من الهلاك.

بحثان

الأوّل: قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا...} الآية.

حث على الاعتبار بمصير القرى الهالكة وتجنّب أسباب الهلاك، فكما أهلك اللّه أولئك فكذلك هو قادر على إهلاك أخلافهم، ولكن مشكلتهم عنادهم الذي حجب عنهم الاعتبار فلذلك طبع اللّه سبحانه على قلوبهم فلا يعتبرون بما يتلى عليهم من آيات اللّه تعالى ويكذّبون بها.

وقوله: {أَوَ لَمْ يَهْدِ} الهمزة للاستفهام الإنكاري، و{يَهْدِ} من الهداية وضُمّن معنى التبيّن ولذلك عدّاه باللام فقال: {لِلَّذِينَ}، والفاعل قوله: {أَن لَّوْ نَشَاءُ...} فالمعنى: وكيف لا يتبيّن لهم قدرةُ اللّه بحيث إذا شاء إهلاكهم لأهلكهم؟

ص: 195

وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} استئناف لبيان سبب عدم اهتداءهم وهو أنّ اللّه طبع على قلوبهم فلذا لا يعتبرون.

وقوله: {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} أي حيث طبعنا على قلوبهم لذلك لا يسمعون الآيات التي تتلى عليهم سماع تعقّل بل يمرّون عليها معرضين، فهي تقرع أسماعهم ويعرفون معناها لكن لا يتعقّلونها، قال سبحانه: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ}(1).

وقيل: {وَنَطْبَعُ} عطف على {أَصَبْنَٰهُم} أي كيف لا يتبيّن لهم أنّا لو نشاء عاقبناهم بالهلاك والطبع، والأوّل أظهر.

الثاني: قوله تعالى: {تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا} إلى قوله تعالى: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ}.

هذا كالتلخيص والاستنتاج من نقل قصص تلك القرى مع أنبيائهم ليكون عبرة لمن يستمع إلى هذه الآيات، ولكن الأكثر لا ينتفع بها كما لم تنتفع القرى الهالكة بالبيّنات التي أراهم إيّاها أنبياؤهم.

وقوله: {تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ} الإشارة إلى الآيات السابقة أي قرى نوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهم السلام) ثمّ يذكر اللّه تعالى خمس أمور ترتبط بتلك القرى في آيتين:

ص: 196


1- سورة الأنعام، الآية: 25.

1- قوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ} والمعنى أنّ اللّه تعالى أتم الحجّة عليهم فلم يكن إهلاكهم بعد ذلك ظلماً لهم، بل حتى لو كان اللّه سبحانه يهلكهم قبل إرسال الرسل لم يكن ظلماً لأنّهم خالفوا حجة اللّه تعالى الباطنة وهي العقل والفطرة، لكن حينذاك كان يمكنهم الاحتجاج فلذلك أرسل اللّه الرسل لطفاً بمن هو قابل للّهداية حيث لم ينفعه عقله قبل الرسل ولكن نفعه بعدهم، وإتماماً للحجّة ودحضاً لكل احتجاج لمن عاند وتكبّر قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ}(1)، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(2).

2- وقوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} أي قبل مجيء الرسل بالبيّنات، فهم إمّا كذّبوا الرسل في البداية ثمّ عاندوا في تكذيبهم بعد مجيء المعجزات، وإمّا كذّبوا قبل الرسل ما تقتضيه فطرتهم وعقولهم وكذلك يستمرّون في التكذيب بعد مجيء الرسل لما جبلوا عليه أنفسهم من العناد والتكذيب، والثاني أظهر.

3- وقوله: {كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ} أي سبب عدم إيمانهم بما كذّبوه من قبل هو أنّ اللّه طبع على قلوبهم، وذلك بأن قطع لطفه عنهم وتركهم وشأنهم حتى إذا استمكن الضلال في قلوبهم بحيث لا يرجى هدايتهم طبع على قلوبهم، و{ٱلْكَٰفِرِينَ} هنا يراد بهم المعاندون منهم، فالمعنى فطبع اللّه على قلوبهم لأنّ سنّة اللّه تعالى هي الطبع على قلوب

ص: 197


1- سورة طه، الآية: 134.
2- سورة الإسراء، الآية: 15.

الكافرين.

4- وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٖ} أي هؤلاء لم يفوا بالعهد الذي عاهدوا اللّه عليه، وهذا العهد:

إمّا أمر اللّه تعالى وهو عهده إليهم سواء قبلوه أم لم يقبلوه كما مر.

وإمّا العهد الذي أخذ من آبائهم بواسطة الأنبياء، والأبناء ملزمون بالوفاء بعهد الآباء.

وإمّا الاتفاق بين الطرفين، وهو ما أودعه اللّه تعالى في فطرتهم وأخذ عليهم المواثيق عليه في عالم الذر، وليس هذا تأويلاً للآية بل هو بيان مصداقها؛ لأنّ الآية بيّنت العهد ولم تبيّن متى أخذ ذلك العهد ولا كيفيّته فيكون بيان زمانه وكيفيّته من التفسير لا التأويل.

روي العيّاشي عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) : «إنّ اللّه خلق الخلق وهم أظلّة فأرسل إليهم رسوله محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فمنهم من آمن به ومنهم من كذّبه، ثمّ بعثه في الخلق الآخر فآمن به من آمن في الأظلة وجحده من جحده يومئذٍ، فقال: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ}»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الآية: «بعث اللّه الرسل إلى الخلق وهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فمن صدّق حينئذٍ صدّق بعد ذلك، ومن كذّب حينئذٍ كذّب بعد ذلك»(2).

ص: 198


1- راجع تفسير العيّاشي 2: 126، والآية في سورة يونس، الآية: 74.
2- تفسير العيّاشي 2: 126.

وقد ذكرنا تفصيل معنى هذه الأحاديث في شرح أصول الكافي(1)، فراجع.

وإنّما قال: {لِأَكْثَرِهِم} لأنّ الأقل منهم آمن فأنجاه اللّه مع الرسل.

والحاصل: إنّ أخذ العبرة بقصص القرى الهالكة هو في أن لا يكرر أخلافهم فعل أسلافهم حيث جاءتهم الرسل بالبيّنات فكذّبوا وخالفوا العهد وفسقوا فطبع اللّه على قلوبهم فأصابهم بذنوبهم بعذاب الدنيا ثمّ عذاب الآخرة.

5- وقوله: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ} أي تحقق ما علمناه فيهم من كونهم خارجين عن الطاعة، وهذا تعميم بعد تخصيص، فإنّ عدم الوفاء بالعهد فسق وخروج عن الطاعة، وكذلك ترك سائر الطاعات فسق.

ص: 199


1- شرح أصول الكافي، للمؤلّف 8: 9-74.

الآيات 103-112

اشارة

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ 103 وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ 104 حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ 105 قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بَِٔايَةٖ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ 106 فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ 107 وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّٰظِرِينَ 108 قَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ 109 يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ 110 قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَائِنِ حَٰشِرِينَ 111 يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَٰحِرٍ عَلِيمٖ 112}

ثمّ يذكر اللّه تعالى قصّة موسى (عليه السلام) مع فرعون ومع بني إسرائيل في ما يرتبط بالبيّنات التي جاءتهم وتكذيبهم لها وعذابهم في الدنيا بالهلاك وغيره، فقال:

103- {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} بعد الأنبياء التي ذكرت اسماؤهم وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهم السلام) ، أو بعد الأمم الهالكة {مُّوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا الواضحة {إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ} أشراف قومه، وموسى بعث للجميع لكن خصّ هؤلاء المكذّبين بالذكر لأنّهم المقصودون بالكلام هنا {فَظَلَمُواْ بِهَا} بالآيات أي كذّبوها وكفروا بها وذلك ظلم {فَٱنظُرْ} نظرة اعتبار {كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ} حيث كان تكذيبهم لها وعدم إطاعة

ص: 200

موسى (عليه السلام) إفساداً.

104- {وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} لأنّ فرعون كان يزعم أنّه رب أهل مصر الأعلى فقال له موسى: إنّ رب الجميع وهو اللّه قد أرسلني إليك.

105- وقال موسى: أنا {حَقِيقٌ} جدير {عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ} وذلك لأنّي {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٖ} دلالة واضحة {مِّن رَّبِّكُمْ} ومن أعطاه اللّه المعجزة لا يمكن أن يكذب {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} أطلق سراحهم بعد استعبادك لهم بأن تسمح لهم بالهجرة أو بمعنى تحرّرهم لأهديهم.

106- {قَالَ} فرعون: {إِن كُنتَ جِئْتَ بَِٔايَةٖ} حجة تدل على صدقك {فَأْتِ بِهَا} أي أظهرها لنا {إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ} في ادّعائك.

107- {فَأَلْقَىٰ} موسى {عَصَاهُ} أي طرحها أرضاً {فَإِذَا} فجأة {هِيَ ثُعْبَانٌ} أعظم الحيات {مُّبِينٌ} واضح لا لبس فيه أي لا يشك في أنّه ثعبان.

108- {وَنَزَعَ} أي أخرج من جيبه {يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} مُشرقة {لِلنَّٰظِرِينَ} أي بياضها سبب الرؤية كنور الشمس وليس بياضاً من سوء كالبرص.

109- {قَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ} لمن دونهم ولسائر الناس: {إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ} وكان هذا الكلام ألقاه فرعون لهم لينشروه بين الناس.

110- {يُرِيدُ} موسى بإرسال بني إسرائيل أن يتقوى بهم فيثور ضدّكم

ص: 201

فهو يريد {أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ} مصر حيث إنّ الغالبين كانوا يطردونالمغلوبين بعد احتلال بلادهم {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي ماذا تشيرون، وهذا أيضاً كلام ألقاه فرعون إليهم فألقاه بعضهم إلى بعض.

111- {قَالُواْ} قال الملأ: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أي أخّر أمرهما ولا تبتّ فيه {وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَائِنِ} مدن مصر {حَٰشِرِينَ} أي جامعين أي ليجمعوا لك السحرة.

112- {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَٰحِرٍ عَلِيمٖ} حاذق حتى يظهروا سحرهم فيقال سحر كسحر موسى! وبذلك أرادوا إبطال معجزته.

قصة موسى (عليه السلام) وفرعون

بحوث

الأوّل: لمّا كان الغرض من هذه السورة هو الدعوة إلى التوحيد أوّلاً، وإلى الطاعة ثانياً، وبيان عاقبة المكذّبين العصاة بالهلاك في الدنيا بعذاب اللّه ثالثاً، لذلك ذكر اللّه من قصّة موسى ما يرتبط بهذا الجانب، وكان من براعة الاستهلال اختصار الأمر في الآية الأولى (الآية 103) بأن موسى جاء بالبيّنات فكذّبوه فساءت عاقبتهم فانظر إليها نظرة اعتبار.

1- ثمّ فصّل اللّه في القصّة بأنّه كيف حاول فرعون إبطال آية موسى (عليه السلام) عبر جمع السحرة، لكنّه لم يتّعظ هو وملؤه فزادوا من ضغطهم على موسى وقومه، فأخذهم اللّه بالقحط فلم يتّعظوا، ثمّ أخذهم بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم لكنّهم استكبروا، وحيث انتهت مدّتهم عذّبهم اللّه تعالى بأن أغرقهم نتيجة تكذيبهم لآيات اللّه وغفلتهم عنها.

2- ثمّ بيّن إنّ بني إسرائيل رغبوا في جعل أصنام لهم ليعبدوها فنهرهم

ص: 202

موسى (عليه السلام) ، ولكنّه لمّا غاب عنهم اتخذوا عجلاً فعبدوه، فمن تاب منهم غفر اللّه له، ومن تمادى في غيّه ناله غضب وذلّة في الدنيا وكان ذلك جزاء افترائهم.

3- ثمّ ذكر قصّة سبعين رجلاً من بني إسرائيل عذّبهم اللّه تعالى فأهلكهم بالرجفة لمّا سفهوا، حيث زعموا أنّ اللّه تعالى جسم فأرادوا رؤيته.

4- ثمّ قصّة بني إسرائيل وكيف عذّبهم لمّا سخروا من حكم اللّه في دخول القرية.

5- ثمّ قصّة أصحاب السبت الذين خالفوا أمر اللّه فعذّبهم بأن مسخهم قردة.

6- ثمّ قصّة عتو بني إسرائيل حيث عاقبهم اللّه في الدنيا بالذل والتشتت في الأرض.

وكما يلاحظ فإنّ الغرض من بيان هذه القصص هو ذكر عذاب اللّه الدنيوي على المكذّبين والعصاة الذين خالفوا أمر نبي اللّه موسى (عليه السلام) سواء من آل فرعون أم من بني إسرائيل.

الثاني: قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بَِٔايَٰتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ...} الآية.

موسى (عليه السلام) من أنبياء أولي العزم الذين أرسلوا إلى البشريّة كافّة كما مر، فدعوته كانت أوّلاً لبني إسرائيل وآل فرعون جميعاً ثمّ لسائر الناس، فقوله تعالى: {إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ} إمّا لبيان أنّ شروع الدعوة كان بهؤلاء وكيفيّة مواجهة موسى (عليه السلام) لهم، أو لأنّ جميع من كان مع فرعون كان من الملأ وأمّا سائر الناس فكانوا طوائف مستضعفة، أو لأنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى

ص: 203

طائفتين جماعته الأقباط وهم كانوا مواطنين من الدرجة الأولى، وسائر الناس الذين جعلهم طوائف شتّى كانوا مواطنين من الدرجة الثانيّة وكان منهم بنو إسرائيل كما قال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}(1).

وقوله: {فَظَلَمُواْ بِهَا} تعديّة الظلم بالباء إمّا لتضمين الظلم معنى التكذيب والكفر لأنّهما ظلم كما قال: {إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(2)، وإمّا بمعنى ظلموا أنفسهم بسبب تلك الآيات لأنّ نزولها صار سبباً لتكذيبهم إيّاها وكان ذلك ظلماً منهم كما قال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} إلى قوله: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ}(3) أي زادتهم تكذيباً فازدادوا رجساً، وإمّا الظلم بالآيات نفسها فالتعبير مجازي لأنّ حقها التصديق لكنّهم لم يؤدوا حقّها فظلموها، وظلم كل شيء بحسبه.

وقوله: {فَٱنظُرْ} المخاطب إمّا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمراد كل الناس الذين يمكنهم النظر، أو انظر أيّها السامع، و(النظر) هو نظر فكر وتدبّر ليتّعظوا.

وقوله: {ٱلْمُفْسِدِينَ} لأنّ التكذيب هو بنفسه فساد ويؤدّي إلى الفساد.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىٰ يَٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

ابتدأ كلامه بأنّه رسول فلا يقول ما يقوله من نفسه، ثمّ وصف اللّه تعالى بأنّه رب العالمين؛ لأنّ فرعون كان يعتقد بآلهة وكان يعبدها كما قال سبحانه: {وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَيَذَرَكَ

ص: 204


1- سورة القصص، الآية: 4.
2- سورة لقمان، الآية: 13.
3- سورة التوبة، الآية: 125.

وَءَالِهَتَكَ}(1) لكنّه كان يزعم أنّه الرب الأعلى والإله على أهل مصر كما قال سبحانه: {فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ}(2) وقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي}(3)، فجبههم موسى (عليه السلام) بأنّه رسول من رب العالمين أجمع فهو وآلهته كلّهم مربوبون له سبحانه وتعالى.

الرابع: قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ...} الآية.

قوله: {حَقِيقٌ} الكلمة مشتقة من الحق وتستعمل بمعنى الجدير واللازم والواجب ونحوها، وتتعدّى ب(على) و(الباء) فالأوّل هو من يصدر منه الفعل والثاني هو الفعل اللائق، كما تقول: حقيق على زيد بأن يصلّي، وهنا دخلت (على) على الفعل، فقيل: هو من القلب فأصله حقيق عليّ أنا بأن لا أقول إلاّ الحق، وقيل: المعنى أنّه اللائق بهذا القول أن لا يصدر إلاّ من أمثالي، وقيل: هو بتضمين حقيق معنى حري.

ولعلّ موسى (عليه السلام) قال هذا الكلام لأنّ فرعون كان يعرفه حيث تربّى في قصره كما قال: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}(4) فكان يعلم بصدقه وأمانته، ومن عُرف بالصدق فالجدير اللائق به أن لا يقول إلاّ الحق، أو لأنّه أردف كلامه بأنّه قد جاء ببيّنة، ومن يدّعي هكذا ادعاء لا يمكن أن يكذب لأنّه يفتضح فور طلبهم الآية منه، أو بمعنى أنّ عظمة اللّه

ص: 205


1- سورة الأعراف، الآية: 127.
2- سورة النازعات، الآية: 23-24.
3- سورة القصص، الآية: 38.
4- سورة الشعراء، الآية: 18.

تعالى تمنع من الكذب عليه فالجدير الحق أن لا يقال على اللّه إلاّ الحق.

وقوله: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} لعلّ الأقرب أن يكون معنى الإرسال هنا هو إطلاق السراح وتحريرهم؛ لأنّ فرعون كان قد استعبدهم وسخّرهم للأعمال الشاقة فقوله: {مَعِيَ} لأجل أن يكون موسى (عليه السلام) واعظاً وموجّهاً لهم، ويمكن أن يكون معنى الإرسال هو تركهم ليخرجوا من مصر إلى الأرض المقدّسة.

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بَِٔايَةٖ} إلى قوله: {بَيْضَاءُ لِلنَّٰظِرِينَ}.

ليس في قوله: {إِن كُنتَ جِئْتَ} وقوله: {فَأْتِ بِهَا} تكرار بأن يكون الجزاء هو الشرط، بل {إِن كُنتَ جِئْتَ} أي إن كانت عندك آية، و{فَأْتِ بِهَا} أي فأظهرها لنا.

وقوله: {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} الثعبان هو أعظم الحيّات، وهذه العصى كانت تتحول تارة إلى حيّة صغيرة وأخرى إلى كبيرة على حسب مقتضى الحال، ففي طريق موسى إلى مصر حينما أوحى اللّه إليه أن يلقي عصاه حوّلها إلى حيّة صغيرة ثمّ أمر موسى بأن يأخذها وذلك لتعليمه ولئلا يخاف منها وهناك لم يكن داعياً لزيادة كبرها ليخاف موسى كثيراً، قال تعالى: {فَأَلْقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ}(1)، وحينما أراها فرعون أرادها اللّه أن تكون ثعباناً لزيادة تخويفه ولئلا يشك أحد فيها، ولذا وصفه بقوله: {مُّبِينٌ} أي ظاهر للجميع

ص: 206


1- سورة طه، الآية: 20.

بحيث رآه كلّهم ولم يشك أحد في كونه ثعباناً.

وقوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ} أي الآية الثانية كانت اليد البيضاء وكان طريقة إراءتها أن كان موسى (عليه السلام) يدخل يده في جيبه تحت إبطه ثمّ يخرجها، قال تعالى: {وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ءَايَةً أُخْرَىٰ}(1)، وقال سبحانه: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ}(2).

وقوله: {بَيْضَاءُ} أي مشرقة، ولعلّ وصفها بالبيضاء للدلالة على أنّها لم تكن محرقة فالنور الأبيض كنور القمر لا حرارة فيه وأمّا النور الأصفر كنور الشمس فهو حار محرق، ولمّا استعملت البيضاء في البرص أيضاً لذلك قيّدها اللّه تعالى بما يمنع هذا التوهّم فتارة قيدها بقوله: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وهنا قيّدها بقوله: {لِلنَّٰظِرِينَ} كأنّ المراد به أنّها كانت مشرقة بحيث كانوا يتمكّنون من النظر إلى الأشياء بنورها، واللّه العالم.

السادس: قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ} إلى قوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}.

الظاهر أنّ هذا الكلام ألقاه فرعون إلى الملأ أوّلاً، ثمّ هؤلاء نشروه بين الناس، وأنّ فرعون استشار أصحابه في البداية ثمّ هم استشاروا في ما بينهم وصوّبوا رأي فرعون، فقد نسب اللّه هذا الكلام إلى الملأ تارة كهذه الآيات، وتارة إلى فرعون نفسه، قال سبحانه: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ

ص: 207


1- سورة طه، الآية: 22.
2- سورة النمل، الآية: 12.

*يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}(1).

وقوله: {لَسَٰحِرٌ عَلِيمٌ} أي حاذق في سحره ولذا لا تمكن مقابلته إلاّ بجمع كل السحرة الحاذقين في سحرهم، وفرعون وملؤه قد علموا بأنّ العصا واليد البيضاء معجزتان من اللّه وليستا سحراً كما قال: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(2)، وقال: سبحانه: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ بَصَائِرَ}(3)، لكنّهم أرادوا التلبيس على الناس لمّا يرون سحر السحرة الحاذقين ويرون معجزة موسى (عليه السلام) فيقولون لهم إنّها كلّها سحر ومن جنس واحد.

قوله: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ} أي يريد أن يستولي على الملك في مصر ويطرد أهلها منها ليحكم فيها، كما كان دأب الجبّارين إذا احتلّوا بلداً نكّلوا بأهله وطردوهم أو استعبدوهم ثمّ قاموا مقامهم، كما قال تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَاءُ فِي ٱلْأَرْضِ}(4).

وقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي ماذا تشيرون، قاله الملأ بعضهم لبعض بعد أن ألقاه فرعون إليه، أي هو استشارهم وهم استشار بعضهم بعضاً.

السابع: قوله تعالى: {قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} إلى قوله: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَٰحِرٍ

ص: 208


1- سورة الشعراء، الآية: 34-35.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- سورة الإسراء، الآية: 102.
4- سورة يونس، الآية: 78.

عَلِيمٖ}.

الإرجاء والإرجاي بمعنى التأخير، و{أَرْجِهْ} أصله أرجيه حذفت الياء للجزم لأنّه فعل أمر، والهاء ضمير المفعول يرجع إلى موسى، وهاء الضمير عادة مضمومة أو مكسورة وقد تسكن كأنّه الوصل بنية الوقف، وقيل: الهاء للسكت فيكون قوله: {وَأَخَاهُ} معطوفاً على مقدر.

وإنّما أشاروا بتأخير أمرهما لأنّهم لم يجدوا بُدّاً من ذلك؛ إذ علموا بأنّهم لا يتمكّنون من قتلهما أو حبسهما مع وجود الآيتين كما لم يكن لهم جواب مقنع لتكذيب الآيتين، فرأوا أن أحسن طريقة هي الإتيان بالسحرة وهذا يستغرق وقتاً، قال: {فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى}(1).

وقوله: {فِي ٱلْمَدَائِنِ} أي مدن مصر والمراد جميع بلادهم، وكأنّ كبار السحرة كانوا يسكنون في المدن الكبار.

وقوله: {بِكُلِّ سَٰحِرٍ عَلِيمٖ} أي كما وصفوا موسى (عليه السلام) بأنّه ساحر عليم كذلك أرادوا أن يقابلوه بمن هو كثير العلم بالسحر، مع أنّ عمل السحر جهالة وسفاهة.

ص: 209


1- سورة طه، الآية: 58-59.

الآيات 113-119

اشارة

{وَجَاءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُواْ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ 113 قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ 114 قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ 115 قَالَ أَلْقُواْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٖ 116 وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ 117 فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 118 فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَٰغِرِينَ 119}

113- {وَجَاءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} جاؤوا إليه بعد أن جمعوهم {قَالُواْ} مستفهمين: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ}؟ والاستفهام تقريري أي لا بد أن يكون لنا عوضاً عن عملنا.

114- {قَالَ} فرعون: {نَعَمْ} لكم أجر {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ} ويتضمن ذلك التقريب مزايا كثيرة.

115- فلمّا حان الموعد اجتمع السحرة وموسى (عليه السلام) في المكان المقرّر ف{قَالُواْ} السحرة - لشدّة اطمئنانهم بسحرهم - : {يَٰمُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ} عصاك أوّلاً ثمّ نحن نلقي سحرنا {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ} لسحرنا أوّلاً قبلك.

116- {قَالَ} موسى (عليه السلام) - لثقته بربّه واطمئنانه بالغلبة - : {أَلْقُواْ} أنتم أوّلاً، {فَلَمَّا أَلْقَوْاْ} حبالهم وعصيّهم {سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ} أوهموا الناس أنّ حبالهم وعصيّهم حيّات لأنّها تحركت في حرارة الشمس بسبب الزئبق

ص: 210

الذي كان فيها فموّهوا للناس بأنّها حيّات، {وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ} أخافوا الناس ولعل ذلك كان بكلام وأصوات يستعمله السحرة عادة لإضفاء نوع من الرهبة التي تمنع الناس من الفكر، {وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٖ} لكثرته أو لحذاقته في فن السحر.

117- {وَ} من عظمته خاف موسى (عليه السلام) على الناس بأن ينخدعوا ف{أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}، فألقاها فتحوّلت إلى ثعبان {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تلتقم بسرعة {مَا يَأْفِكُونَ} ما زوّروه للناس وقلّبوه عن حقيقته.

118- {فَوَقَعَ} حصل وثبت {ٱلْحَقُّ} وهو معجزة موسى (عليه السلام) {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من التمويهات بسحرهم الكاذب.

119- {فَغُلِبُواْ} انهزم السحرة وفرعون وملؤه {هُنَالِكَ} في ذلك المكان {وَٱنقَلَبُواْ} تحوّلوا من متكبّرين مستكبرين إلى {صَٰغِرِينَ} أذلاء مقهورين.

قصة موسى (عليه السلام) والسحرة

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَجَاءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} إلى قوله: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ}.

يتضمّن هذا المقطع جمع السحرة ومجيأهم إلى فرعون واتفاقهم معه ثمّ اجتماعهم مع موسى في مكان المنازلة بحضور جمع كبير من الناس، حيث إنّهم أرادوا استثمار حاجة فرعون إليهم بأخذ الأموال منه أجرةً على عملهم وليس نصرةً لدينهم الباطل، وهكذا دأب المبطلين دائماً، فاجتماعهم على

ص: 211

الباطل وتفرّقهم عن الحق إنّما هو للدنيا وزخارفها، وفي نهج البلاغة: «عجباً لابن النابغة... إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه آتية ويرضخ له على ترك الدين رضيخة»(1)، وهم كانوا يطمعون في الأجر إلاّ أنّ فرعون زادهم بأنّه سيجعلهم من المقرّبين إلى البلاط مع ما في القرب إلى الملوك من مزايا كثيرة جدّاً، أضاف ذلك تشويقاً لهم وحثّاً ليغلبوا في سحرهم.

وقوله: {وَجَاءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} يبدو أنّهم لم يرضوا بالاتفاق مع الملأ بل أرادوا الاتفاق مع فرعون بنفسه، أو أنّ فرعون هو الذي طلبهم ليحثّهم وليدير الأمر بنفسه مباشرة لأهمّيّة الموضوع بالنسبة إليه.

وقوله: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} بتقدير حرف الاستفهام، وقد صرّح به في سورة الشعراء، قال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ}(2)، والاستفهام هنا للتقرير، أي أرادوا الأجر وذكروا مطلبهم بصيغة الاستفهام.

وقوله: {إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ} قالوه من شدّة اطمئنانهم بغلبتهم، لكن حيث ذكروا الأجر بصيغة الاستفهام ذكروا الغلبة بصيغة الشرط.

وقوله: {وَإِنَّكُمْ} عطف على مقدر أي نعم لكم الأجر وإنّكم لمن المقرّبين.

الثاني: قوله تعالى: {قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ}.

ص: 212


1- نهج البلاغة، الخطبة: 84.
2- سورة الشعراء، الآية: 41.

في تفسير الصافي: «خيّروه مراعاة للأدب، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبّهوا عليه بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ»(1)، أو خيّروه اطمئناناً بغلبتهم حيث لا فرق عندهم بين أن يبتدؤوا هم أو يبتدأ هو، حيث إنّ الشاك في غلبته يحاول أن يكون هو البادئ لتكون المبادرة بيده فيسوق الحلبة إلى ما يريده هو، حيث إنّ السابق يبدأ بما يشاء ولكن اللاحق لا بد أن يكون عمله تابعاً وفي إطار عمل السابق، كما في المناظرة حيث إنّ الأوّل يلقي من الإشكال والدليل ما يشاء فيضطر الثاني إلى أن يواصل الحديث والكلام في ما بدأه الأوّل.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُواْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٖ}.

أي إنّ موسى (عليه السلام) ثقةً بربه تعالى وقلّة مبالاة بهم وبسحرهم طلب أن يبدأ السحرة بإلقاء سحرهم، وكان في ذلك التسديد الإلهي؛ إذ لو كان يبدأ موسى بالإلقاء لعلّهم كانوا يحجمون عن إلقاء سحرهم فتكون غلبته ناقصة، ولمّا بدأوا هم صنعوا ثلاثة أمور:

1- قوله: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ} أي موّهوا وخيّلوا للناس أموراً لا حقيقة لها؛ لأنّ السحر كما مر يعتمد على الحيلة التي تخفى أسبابها على الناس، فمنه: الشعبذة وهي التي تكون بحركات سريعة لا تجاريها العين فيظن الرائي تحقق أمر خارق للعادة مع أنّه بالأسباب المخفيّة الطبيعيّة، ومنه:

ص: 213


1- تفسير الصافي 3: 222-223.

إخفاء السبب وإراءة المسبب العجيب، ومنها غير ذلك.

2- وقوله: {وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ} أي أخافوا الناس، ولعلّ ذلك كان بأصوات أو حركات غريبة تثير الرعب في قلوب الناس حتى لا يفكّروا؛ إذ الخائف مشلول الفكر عادة، وباب الاستفعال لطلب الفعل أي طلبوا تخويف الناس، بحيث خاف موسى على الناس تصديق فعل السحرة كما قال سبحانه: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ}(1)، ولم يكن خوفه من سحرهم لأنّه كان يعلم أن اللّه يبطله كما قال: {فَلَمَّا أَلْقَوْاْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ}(2)، وإنّما كان خوفه من انخداع الناس بسحرهم.

3- وقوله: {وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٖ} أي بعد أن أخفوا الأسباب بأن سحروا أعين الناس وأخافوهم، رأوا الأرضيّة مناسبة والنفوس مهيّئة فأظهروا سحرهم، وعظمته كانت من جهة كثرته حتى ملؤوا الوادي بسحرهم(3)، ومن جهة إحكام فن السحر بأقصى درجة وشدّة الحيلة والتمويه فيه، والعظمة إنّما كانت عند الناس، وإلاّ فالباطل زاهق لا واقع له.

وقيل: إنّهم وضعوا الزئبق في حبالهم وعصيّهم - وكانت بألوان وأحجام مختلفة - والزئبق يتمدّد في الحرارة فإذا كان تمدّده أكثر من التجويف الذي وُضع فيه تحرّك ذلك الشيء بسبب تمدّده، والسحرة ألقوا حبالهم

ص: 214


1- سورة طه، الآية: 67.
2- سورة يونس، الآية: 81.
3- راجع تفسير الصافي 3: 223.

وعصيّهم في ضحوة وحرارة من الشمس فتحركت حتى علا بعضها على بعض وركب بعضها بعضاً.

الرابع: قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}.

لعلّ موسى (عليه السلام) انتظر الوقت المناسب لإلقاء العصى كي يكون وقعها وتأثيرها على الناس أكثر لذلك انتظر الوحي لتعيين الوقت، أو لأنّ موسى (عليه السلام) خاف على الناس فسدّده اللّه تعالى بأن أوحى إليه بالإلقاء كما قال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْأَعْلَىٰ * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ}(1).

وقوله: {مَا يَأْفِكُونَ} من (الإفك) وهو قلب الشيء وصرفه عن وجهه(2)، وهو أشد أنواع الكذب، فقد موّهوا وزوروا الحقائق فكان إفكاً.

الخامس: قوله تعالى: {فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَٰغِرِينَ}.

أي ظهر الحق للناس بعد أن أبطل اللّه سحرهم بعصى موسى، فلم يبق هناك مجال للتمويه وقلب الحقائق.

وقوله: {فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ} الوقوع هو السقوط من أعلى والثبوت في الأسفل، فكأنّ الحق نزل من فوق وغشّاهم جميعاً.

وقوله: {وَبَطَلَ} بطلانه بإفنائه وإبطال حيلته ودحض حجّته.

ص: 215


1- سورة طه، الآية: 67-69.
2- المقاييس اللغة 1: 118.

وقوله: {فَغُلِبُواْ} لأنّه كانت منازلة وكان السحرة يزعمون أنّهم هم الغالبون ولذا ربطوا أجرهم بغلبتهم اطمئناناً منهم بها، لكن خسروا المنازلة وغلبهم موسى (عليه السلام) ، قال سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ}(1)، وقال: {كَتَبَ ٱللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(2).

وقوله: {وَٱنقَلَبُواْ صَٰغِرِينَ} كأنّ المراد بالانقلاب هو الصيرورة والتحوّل أي صاروا أذلاء بعد تكبّرهم واستكبارهم، وقيل: رجوعهم عن ذلك المكان إلى فرعون أو إلى أماكنهم أو إلى ديارهم، والأوّل أنسب.

ص: 216


1- سورة الصافات، الآية: 173.
2- سورة المجادلة، الآية: 21.

الآيات 120-126

اشارة

{وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ 120 قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ 121 رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ 122 قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 123 لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَٰفٖ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ 124 قَالُواْ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ 125 وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ 126}

120- {وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ} لم يتمالكوا أنفسهم، فكأنّ الآيات ألقتهم لمّا عرفوا صدق موسى (عليه السلام) وأنّ عمله معجزة وليس سحراً.

121- {قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ} الذي دعا إليه موسى (عليه السلام) ، ويلازم ذلك إنكارهم ربوبيّة فرعون.

122- {رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ} الذي أعطاهما هذه الآيات، وهذا لبيان إيمانهم بنبوّتهما (عليهما السلام) .

123- ووجد فرعون في إيمانهم فرصة للمغالطة وتحوير الهزيمة ف{قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُم بِهِ} بتقدير أداة الاستفهام للإنكار أي هل آمنتم برب موسى وهارون {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} قاله استكباراً، {إِنَّ هَٰذَا} الذي فعلتموه من الانهزام أمام موسى وثمّ الإيمان بربّه {لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} خدعة اتفقتم مع

ص: 217

موسى عليها {فِي ٱلْمَدِينَةِ} أي قبل الخروج إلى الصحراء حيث كانالموعد، ومقصوده أنّ إيمانكم ليس لأجل ما شاهدتموه من الآيات وإنّما مؤامرة اتّفقتم عليها من قبل، {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} أي لتستولوا على السلطة فتطردوا أهل مصر الأقباط منها، قال هذا الكلام ليمنع إيمان الناس حيث إنّ الناس مع مصالحهم عادة فيقال لهم إن آمنتم خسرتم وطنكم، ثمّ هدّدهم فرعون قائلاً: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة مكركم، وهذا بيان لهم بأنّهم لا يصلون إلى مقصودهم، وهو يتضمّن تهديداً إجماليّاً.

124- ثمّ فصّل في التهديد قائلاً: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَٰفٖ} أي من كل طرف أقطع عضواً، اليد اليمنى والرِجل اليسرى أو بالعكس {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أرفعكم على الأعمدة لتكونوا عبرة لغيركم.

125- {قَالُواْ} السحرة الذين آمنوا: لا ضير علينا {إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} نرجع إلى ثوابه.

126- {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} والنقمة هي إنكار من يريد العقاب أي لا تنكر علينا ولا تريد عقابنا لجرم ارتكبناه فليس ذلك {إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا} معاجز العصا {لَمَّا جَاءَتْنَا} شاهدناها فاستيقنّا بها فلم يكن إيماناً عن ظن أو وهم، ثمّ توجّهوا إلى اللّه تعالى قائلين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي اعطنا صبراً كثيراً كأنّه إفراغ كل الصبر علينا وذلك لشدّة التهديد كي لا يضعفوا أمامه فيرتدّوا {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي أمتنا حال الإسلام بأن نستقيم عليه.

ص: 218

قصة إيمان السحرة

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ} إلى قوله: {رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ}.

لم يكن السحرة معاندين وإنّما كان السحر مهنة رائجة من ثقافة المجتمع، ولذا لمّا علموا بمعجزة موسى (عليه السلام) أدركوا عظمتها وأنّها ليست سحراً فلذلك دخل الإيمان في قلوبهم فلم يتمالكوا أنفسهم إلاّ بأن أظهروا إيمانهم باللّه سبحانه وتعالى.

وقوله: {وَأُلْقِيَ} بالمبني للمجهول مع أنّهم هم الذين ألقوا أنفسهم، للدلالة على كمال تأثير المعجزة فيهم فكأنّه ألقاهم ملقٍ من غير اختيارهم.

وقوله: {سَٰجِدِينَ} لعلّهم رأوا موسى وهارون (عليهما السلام) سجدا شكراً للّه فاتبعوهما، أو إنّها كانت بالفطرة، أو بإلهام اللّه تعالى لهم ذلك.

وقوله: {قَالُواْ ءَامَنَّا} أي نطقوا بلسانهم أيضاً الإيمان كما صنعوه بجوارحهم بالسجود.

وقوله: {رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ} لعلّهم ذكراهما إيماناً بهما وبرسالتهما، وقيل: قالوا ذلك لئلا يتوّهم أن سجودهم لفرعون حيث كان يزعم أنّه ربّهم الأعلى.

لم يعاند السحرة أجمعون وآمنوا وسجدوا للّه تعالى رغم عناد غالب الأمم وعدم إيمانهم بالمعجزات، مع أنّ عامة السحرة يتّخذون الكذب وخداع الناس وسيلة لجلب حطام الدنيا ومع أنّ اللّه تعالى يقول: {وَلَا يُفْلِحُ

ص: 219

ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ}(1)، ولعلّ سبب إيمانهم هو أن اللّه تعالى ألقى الهداية فيقلوبهم، ولولا ذلك لقال الناس: ساحر غلب سحرة! وذلك ليس بعزيز، فأراد اللّه إتمام الحجّة على الناس أجمعين، واللّه العالم.

الثاني: قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} إلى قوله: {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}.

بيّنت الآية الأولى ثلاثة مواقف لفرعون: استكباره واحتجاجه وتهديده:

1- قوله: {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ} واصل فرعون استكباره وزعمه أنّه ربّهم الأعلى بحيث لا يحق لهم فعل شيء إلاّ عن إذنه، وهذا دأب المستبدّين الذين يرون أنّ لهم الحق في أن يتّخذوا القرارات بدلاً عن الناس وأنّ على الناس اتّباعهم دائماً.

2- وقوله: {إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ...} هذا احتجاجه عليهم، وغرضه إبطال تأثير معجزة موسى (عليه السلام) وإيمان السحرة على الناس بالمغالطة بأنّه لم يكن هناك معجزة وإنّما مؤامرة بين موسى والسحرة ليظهروا انكسارهم ثمّ إيمانهم، ليتّبعهم الناس على ذلك فينتزعوا السلطة من فرعون وملئه.

وقوله: {فِي ٱلْمَدِينَةِ} أي كانت مؤامرة مبيّتة من قبل، فليس هو إيمان حين رؤية المعجزة، والمراد المدينة التي كان فيها فرعون حينما اجتمع السحرة فيها.

وقوله: {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} وفي هذا صد للناس عن الإيمان بموسى

ص: 220


1- سورة طه، الآية: 69.

بإيهامهم أنّ عاقبة استيلاء موسى على السلطة هو إخراجهم من وطنهم ومصادرة أموالهم وأملاكهم، وحيث إنّ الناس عبيد الدنيا يرجّحون دنياهمعلى دينهم الحق.

3- وقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} هذا تهديدهم بتهديد إجمالي، وغرضه من التهديد أوّلاً إرجاعهم إلى الكفر وليصرّحوا بما افتراه فرعون من أنّ ما حصل - من بطلان سحرهم - هو نتيجة مؤامرة، وثانياً تخويفاً للناس ليكونوا عبرة لهم حتى لا يفكّر أحد في الإيمان باللّه تعالى، أو هو بيان أنّهم لا يتمكّنون من تنفيذ المؤامرة المزعومة؛ لأنّ فرعون سوف ينكّل بهم، ولعلّه أخّر العقوبة إمّا لعدم تمكّنه حينذاك من التنكيل بهم حيث اجتماع الناس وهزيمة فرعون، فأراد تأخيرها إلى بعد تفرّق الناس ليتمكّن من الاستيلاء على الأمر ولعلّه لذا قال: {فَسَوْفَ}، أو لعلّه أراد أن يفكّر في كيفية عقوبتهم أو أن يستشير الملأ من قومه - كما استشارهم في أمور أخرى - ، ثمّ بعد ذلك استقر رأيه على القطع والصلب، أو أراد الضغط عليهم عبر السجن والتهديد ليرجعوا إلى دينه ولم يكن يريد قتلهم.

وقوله: {لَأُقَطِّعَنَّ...} تفصيل بعد إجمال، وهذا أفضع أنواع القتل لأنّه بعد تعذيب، وقد أكّد الكلام بلام القسم ونون التأكيد وذلك زيادة في التهديد.

الثالث: قوله تعالى: {قَالُواْ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا...} الآية.

ص: 221

كان جواب السحرة هو بيان صلابتهم في الإيمان وأنّهم لا يأبهون بتهديده، وإبطالهم لاحتجاجه حيث ادعى أنّها مؤامرة فأثبتوا أنّها آيات اللّهولذلك آمنوا بها، ثمّ توجّهوا إلى اللّه سائلين الثبات وعدم التزلزل.

وقوله: {قَالُواْ...} أي في جواب تهديده قالوا إنّهم لا يتضرّرون بتعذيبهم وقتلهم، وفي سورة الشعراء: {قَالُواْ لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ}(1).

وقوله: {إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} بيان اعتقادهم بالآخرة وأنّ عذاب فرعون بعد إيمانهم لا يقارن بعذاب اللّه لو كفروا، وكذلك أجره لا شيء أمام ثواب اللّه تعالى، وقد بيّن اللّه تعالى تفصيل هذا الحوار في سورة طه حيث قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ * قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا} إلى قوله: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلْعُلَىٰ}(2).

و(الانقلاب) صرف الشيء من وجه إلى آخر، ولذا كان الرجوع والتحوّل انقلاباً والمراد رجوعهم إلى ثوابه وجزائه.

وقوله: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} النقمة هي إنكار من يريد العذاب، وفي معجم الفروق اللغوية: «نقم منه يفيد أنّه أنكر عليه إنكار من يريد عقابه، ومنه قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ}(3)؛ وذلك أنّهم أنكروا منهم

ص: 222


1- سورة الشعراء، الآية: 50.
2- سورة طه، الآية: 71-75.
3- سورة البروج، الآية: 8.

التوحيد وعذّبوهم عليه في الأخدود»(1)، ولذا كان الانتقام هو سلب النعمة بالعذاب.

وقوله: {إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا} أي ليس كما تزعم بأنّنا تآمرنا ونريد إخراج أهل المدينة منها فتريد عقوبتنا على ذلك، بل عقوبتك بطش وظلم للصد عن سبيل اللّه تعالى، فإنكارك يرجع إلى إيماننا باللّه تعالى.

وقوله: {بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا} قيل في سبب الجمع - مع أنّ ما رأوه هو العصا - أنّ تحوّل العصى إلى ثعبان آية، ولقفها إفكهم وإفناءها آية أخرى، ورجوعها عصى كما كانت آية ثالثة، أو أنّهم مضافاً إلى العصا رأوا آيات أخرى في كلام موسى (عليه السلام) واحتجاجه، أو هو تعظيم للعصا فكأنّها آيات متعدّدة.

وقوله: {لَمَّا جَاءَتْنَا} لعلّهم يقصدون علموا بها عياناً غير قابل للشك.

وقوله: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} بعد انتهاء احتجاجهم مع فرعون لمّا رأوا عناده وعزمه على قتلهم وتعذيبهم توجّهوا إلى اللّه بالدعاء بأن يلهمهم صبراً يناسب ما عزم فرعون على عمله؛ لأنّ تحمّل التعذيب والصلب يحتاج إلى استقامة وثبات، و(الإفراغ) صب الماء عن الإناء بحيث لا يبقى فيه شيء فكأنّهم أرادوا إفراغ كل الصبر عليهم لعظم جريمة فرعون، وتنكير {صَبْرًا} لتعظيمه أي صبراً عظيماً.

وقوله: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي لنستمر على إيماننا حتى إذا متنا كانت وفاتنا مع الإسلام، وأن لا يتمكّن فرعون من إرجاعنا إلى الكفر بتهديده؛ إذ

ص: 223


1- معجم الفروق اللغوية: 83-84.

لو كفرنا متنا على الكفر وكنّا من الخاسرين.

ثمّ إنّ فرعون لم يقتلهم وإنّما حبسهم لفترة ثمّ أطلق سراحهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «فحبس فرعون من آمن بموسى في السجن حتى أنزل اللّه عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم، فأطلق فرعون عنهم»(1).

ص: 224


1- البرهان في تفسير القرآن 7: 218؛ عن تفسير القمي 2: 121.

الآيات 127-129

{وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَٰهِرُونَ 127 قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 128 قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 129}

127- {وَقَالَ ٱلْمَلَأُ} الأشراف {مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ} يريدون تحريض فرعون على موسى والمؤمنين، وذلك لمّا غلب موسى (عليه السلام) السحرة: {أَتَذَرُ} والاستفهام تحريضي أي كيف تترك {مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} بدعوتهم إلى ربّهم وإيمان الناس لهم {وَيَذَرَكَ} أي وليتركك فلا يطيعك {وَءَالِهَتَكَ} فلا يعبدهم، {قَالَ} فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} حتى لا تقوى شوكة موسى بعد كبرهم {وَنَسْتَحْيِ} نستبقي {نِسَاءَهُمْ} للخدمة وذلك إذلال لهم {وَ} أما الكبار فلا يتمكّنون من فعل شيء ف{إِنَّا فَوْقَهُمْ قَٰهِرُونَ} أعلى منهم شأناً وقوة ونقهرهم على ما نريد.

128- {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ} إرشاداً وتسكيناً لهم بعد أن نفّذ فرعون تهديده: {ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ} لينصركم {وَٱصْبِرُواْ} على أذاه فلا ترتدّوا عن دينكم الحق {إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا} يملّكها {مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهذا

ص: 225

تلميح بأنّهم سيرثون الأرض {وَٱلْعَٰقِبَةُ} المحمودة في الآخرة {لِلْمُتَّقِينَ}الذين اجتنبوا الكفر والمعاصي.

129- {قَالُواْ} قوم موسى شكايةً إليه واستعجالاً بتنفيذ الوعد: {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا} برسالتك لإنقاذنا {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} فلم ننتفع بمجيئك! {قَالَ} موسى (عليه السلام) : {عَسَىٰ رَبُّكُمْ} نرجو منه {أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فرعون فينجّيكم منه {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فليس استخلافكم إلاّ امتحاناً لكم فلا بد من أن تطيعوا اللّه تعالى وتشكروه لا أن تتجبّروا كفرعون وقومه.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ...} الآية.

لمّا غلب موسى (عليه السلام) السحرة فآمنوا وآمن معهم جمع من الناس أحس قوم فرعون بالخطر جرّاء اتجاه الناس إلى دين موسى (عليه السلام) وتركهم دين فرعون، فلذا أشار الملأ من قوم فرعون بأن يضغط على موسى والمؤمنين معه لكي لا يعلو شأنهم ولا يتبعهم الناس، فإنّ غالب الناس يرجّحون مصالحهم وراحتهم على الدين الحق، فأجابهم فرعون بإعادة إذلال بني إسرائيل لئلا يعلو شأنهم ولا يتبعهم الناس، وذلك بقتل الأبناء واستخدام النساء وقهر الكبار.

وقوله: {لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ} زعموا أن دعوة الناس إلى دين التوحيد واتّباع موسى (عليه السلام) فساد!

ص: 226

وقوله: {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ} عطف على ليفسدوا أي ويتركوا دين فرعون واتّباعه، فكانوا يرون أن موسى يدعو إلى اتّباع نفسه وترك اتّباع فرعون، وكذا يدعو إلى ديانة التوحيد ونبذ ديانة فرعون المشركة.

ثمّ إنّ هذه الآية مع قوله تعالى: {فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ}(1)، وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي}(2) تدل على أنّ فرعون كان يعبد آلهة وكان يقول للناس في مصر إنّه إلههم وإنّه ربّهم الأعلى، وهذا كان متعارفاً في الأديان الوثنيّة حيث كانوا يعتقدون بتعدّد الآلهة وبألوهيّة بعضها على بعض، ويبدو من بعض التواريخ أنّ فرعون كان يعبد بعض الكواكب فقد اتّخذها آلهة له وكان يرى نفسه الواسطة بينها وبين قومه فكان ربّاً وإلهاً لهم، وهكذا كان المشركون حيث كانوا يعتقدون باللّه خالقاً للسماوات والأرض وكانوا يعبدون الأصنام لزعمهم أنّها بنات اللّه وأنّها الشفعاء عنده سبحانه وتعالى عمّا يشركون.

والحاصل: أنّ الإفساد بزعمهم كان دين التوحيد واتّباع موسى (عليه السلام) ولذا قابلوه بقولهم: {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ}.

ثمّ إنّ فرعون أجابهم إلى ما طلبوه بأمور ثلاثة تمنع قوة وشوكة موسى (عليه السلام) وانتشار دينه:

1- قوله: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} وذلك لئلا يكبروا فيلتحقوا بموسى (عليه السلام) ، وهذا ضمان للمستقبل.

ص: 227


1- سورة النازعات، الآية: 24.
2- سورة القصص، الآية: 38.

2- وقوله: {وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} الاستحياء بمعنى إبقائهن أحياء، والمقصود هو إذلالهم عبر استخدام نسائهم.

3- وقوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَٰهِرُونَ} أي إنّ الكبار من بني إسرائيل هم ضعفاء لا يملكون العدد والعُدّة والمال والسلاح فنحن نقهرهم بقوتنا وسلاحنا وجنودنا، فلا يتمكّنون من صنع شيء يهدّد عرش فرعون، قيل: كان فرعون يصنع ذلك ببني إسرائيل لمّا علم أنّ زوال ملكه بأيديهم، ومن أمثلة الجاهليين: «لا تبقوا لهم عامر دار، ولا نافخ نار، ولا طالب ثار».

الثاني: قوله تعالى: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ...} الآية.

لمّا نفّذ فرعون تهديده وبدأ بالقتل والاستعباد والقهر قابله موسى بإرشاد قومه إلى الالتجاء إلى اللّه تعالى والصبر، ثمّ وعدهم النصر في الدنيا والآخرة.

وقوله: {لِقَوْمِهِ} قيل: إنّ هذه السورة ذكرت قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولذا أراد اللّه تعالى أن تكون قصّة موسى على نفس النسق ولذا لم يقل: لبني إسرائيل.

وقوله: {ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ} أي أطلبوا العون منه، ثمّ علّل هذا بقوله: {إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فحيث إنّ اللّه هو مالك الملك ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء فلا بد من دعائه ليزيل ملك فرعون ويستبدل به غيره، هذا في الدنيا.

وقوله: {وَٱصْبِرُواْ} بعدم الانهيار أمام ضغوط فرعون فابقوا على دينكم ثمّ علّل هذا بقوله: {وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} وكأنّ المقصود بذلك الآخرة، فبالصبر على دينكم تفوزون بالجنّة، وبالاستعانة باللّه تربحون الدنيا.

ص: 228

الثالث: قوله تعالى: {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا...} الآية.

لمّا أمرهم موسى بالصبر علموا أنّ البلاء يطول عليهم، وكان كلام موسى لهم مجملاً حيث قال: {ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} حيث لم يصرّح لهم بأنّهم هم الوارثون فلذلك استعجلوا تنفيذ الوعد عبر سؤال موسى عن فائدة بعثته ومجيئه إليهم فلم يفرق حالهم من حيث إيذاء فرعون لهم قبل مجيئه وبعده؟!

فكان كلامهم اشتياقاً لسرعة النصر نظير قوله تعالى: {مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَاءُ وَٱلضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ}(1).

ويمكن أن يكون كلامهم ضجراً واعتراضاً كما هو ليس ببعيد عن بني إسرائيل.

وقوله: {تَأْتِيَنَا} و{جِئْتَنَا} كأنّه تفنن في العبارة، وإن كان بينهما فرق في أصل اللغة، قيل: «إنّ قولك جاء فلان كلام تام لا يحتاج إلى صلة، وقولك أتى فلان يقتضي مجيئه بشيء»(2)، فلو كان هذا هو المقصود صار المعنى أوذينا من قبل أن تأتينا برسالتك وآياتك ومن بعد ما جئت أنت إلينا قادماً من مدين.

وقوله: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ...} تصريح بالوعد تثبيتاً لهم بأن اللّه سيهلك فرعون وأنّه يستخلفهم.

ص: 229


1- سورة البقرة، الآية: 214.
2- معجم الفروق اللغوية: 152.

وقوله: {فِي ٱلْأَرْضِ} كأنّ المراد بها أرض فلسطين لا أرض مصر، فاللام للعهد؛ وذلك لأنّ موسى (عليه السلام) طلب من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل ليرجعوا إلى الأرض المقدّسة.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون قوله: {إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ...} وعداً عاماً احتملوا أن لا يدركوه هم بل يكون من نصيب أبنائهم أو أحفادهم، ولكنّهم أرادوا أن يكون ذلك لهم بأن يعجّله اللّه إليهم فصرّح لهم موسى بأنّهم هم الذين يستخلفهم اللّه في الأرض، واللّه العالم.

وقوله: {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} تربية وإرشاد لهم بأنّ عليهم أن يحسنوا الصنع حينما يرثون الأرض، لا كغالب الناس حينما يكونون مستضعفين يدعون إلى العدل ويتمنّونه، فلمّا أن يصلوا إلى السلطة إذا هم يستكبرون في الأرض ويتجبّرون كمن سبقهم، و(نظره) تعالى بمعنى أن يظهر ما علمه أزلاً ليجازيهم، فإنّ الجزاء بالعمل لا بالعلم، وفي هذا رد على مزاعم اليهود بأنّهم أبناء اللّه وأحبائه وأنّه مسموح لهم أن يفعلوا ما يشاؤون لأنّهم شعب اللّه المختار! فيقال لهم أنتم بشر ممن خلقه اللّه وتُجازون بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر، قال سبحانه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(1).

ص: 230


1- سورة النساء، الآية: 123.

الآيات 130-137

اشارة

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 130 فَإِذَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَٰئِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 131 وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٖ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ 132 فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ 133 وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ 134 فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ 135 فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَٰهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ 136 وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ 137}

ثمّ عاقب اللّه فرعون وقومه بسبب عدم إيمانهم وجرائمهم، فقال:

130- {وَلَقَدْ أَخَذْنَا} عاقبنا {ءَالَ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وآله وهم قومه الذين يؤول أمرهم إليه {بِٱلسِّنِينَ} أي القحط والجدب فلم تنبت زروعهم {وَنَقْصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ} فلم تثمر أشجارهم إلاّ القليل، وإنّما فعلنا بهم ذلك {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتّعظون فيتركوا إيذاء موسى وقومه ويرجعوا إلى الإيمان.

ص: 231

131- لكنهم لم يتّعظوا {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ} كالخصب وسائر أنواع الخير وذلك بعد الشدّة لم يشكروا اللّه بل {قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِ} أي هذا هو حقّنا وهي مختصّة بنا، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} كالجدب وسائر أنواع البلاء{يَطَّيَّرُواْ} يتشاءموا {بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ} بأنّهم سبب السيئة، فيردّهم اللّه تعالى بقوله: {أَلَا} انتبهوا {إِنَّمَا طَٰئِرُهُمْ} ما يوجب شؤمهم وهو البلاء {عِندَ ٱللَّهِ} أي هو عذاب من عند اللّه سبحانه {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بأنّه نتيجة أعمالهم.

132- ثمّ تمادوا في غيّهم {وَقَالُواْ} لموسى (عليه السلام) : {مَهْمَا} أيُّ شيء {تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٖ} سمّوها آية استهزاءً {لِّتَسْحَرَنَا بِهَا} حتى نرجع عن ديننا إلى دينك {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} لا نصدّقك، قالوه لبيان إصرارهم على الكفر ولييأس موسى (عليه السلام) عن هدايتهم.

133- {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ} وهو طغيان الماء {وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ} وهي حشرة صغيرة تقع على الزرع فتهلكه {وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ} تحوّل ماؤهم دماً فلم يهنأوا بأكل ولا شرب، {ءَايَٰتٖ} دالة على صدق موسى (عليه السلام) لأنّه كان يخبرهم بها قبل وقوعها ويهدّدهم بها {مُّفَصَّلَٰتٖ} فُصّل بعضها عن بعض فكانت تأتيهم بالتدريج كل واحدة في سنة لتكون آية واضحة، {فَٱسْتَكْبَرُواْ} عن الإيمان {وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} عصاة يرتكبون الكبائر.

134- {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ} العذاب {قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بما جعله عندك من استجابة دعائك {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا

ص: 232

ٱلرِّجْزَ} العذاب {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} لنصدّقنّك في ما تقول {وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} لتخرجوا إلى الأرض المقدّسة.

135- {فَلَمَّا كَشَفْنَا} رفعنا {عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ} أي ليعيشواإلى أن يحين أجلهم المحتوم {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون العهد.

136- {فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أردنا عذابهم {فَأَغْرَقْنَٰهُمْ فِي ٱلْيَمِّ} البحر الذي لا يدرك قعره {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنّهم {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} بقولهم فلم يصدّقوها {وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ} لم يعملوا بها وبما تقتضيه من الإيمان والعمل الصالح كالغافل عنها.

137- {وَأَوْرَثْنَا} بعد إغراق آل فرعون {ٱلْقَوْمَ} أي بني إسرائيل {ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} يحسبونهم ضعفاء بالاستعباد والقتل والاستحياء {مَشَٰرِقَ ٱلْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا} أي كل أرض فلسطين {ٱلَّتِي بَٰرَكْنَا} جعلنا الخير الثابت {فِيهَا} معنويّاً بكثرة الأنبياء وماديّاً بالخصب وطيب الماء وكثرة الثمار، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} نفذ وعده تعالى {ٱلْحُسْنَىٰ} صفة الكلمة لأنّه كان وعداً بما يحبّون وبما فيه المصلحة {عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} بسبب صبرهم وتمسّكهم بالإيمان رغم الضغوط الهائلة، {وَدَمَّرْنَا} نسفنا وأهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من القصور والأبنية {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} بساتينهم التي كانوا يجعلون لها عريشاً كساباط العنب.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ

ص: 233

لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.

لمّا بدأوا بإيذاء قوم موسى وكانوا قد حبسوا السحرة أراد اللّه تنبيهه مفقدر عليهم القحط، وكان ذلك بجدب المزارع وقلّة ثمار الأشجار.

وقوله: {أَخَذْنَا} أي عاقبناهم لأنّ المجرم يؤخذ ليعاقب.

وقوله: {ءَالَ فِرْعَوْنَ} أي فرعون وآله، و(الآل) هم خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه، ويطلق على ذرّية الرجل لرجوعهم في النسب إليه، فآل إبراهيم هم إبراهيم وآله في قوله: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ}(1)، وكقوله: {إِلَّا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ}(2).

وقوله: {بِٱلسِّنِينَ} جمع سنة، والمقصود القحط، وأصلها سنة القحط ثمّ اختصرت بحذف القحط؛ وذلك لأنّ سنوات القحط قليلة إذا قيست إلى سنوات الرخاء والناس يذكرون البلاء القليل أكثر من ذكرهم للرخاء الكثير.

وقوله: {وَنَقْصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ} وفرق هذا عن سابقه أنّ القحط يهلك الزرع فلا يتمكّنون من زرع حنطة ولا شعير فهذا السنون، وكذلك تقل ثمار الأشجار لقلّة ما يصلها من الماء فهذا نقص الثمرات.

ثمّ إنّ جمع سنين يدل على أنّ القحط استمر عندهم لعدّة سنوات لكي يتذكّروا.

أنواع عذاب قوم فرعون

الثاني: قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ...} الآية.

الظاهر أنّ المقصود أنّه في سنوات الجدب وقلّة الثمار كلّما رأوا من خير

ص: 234


1- سورة آل عمران، الآية: 33.
2- سورة الحجر، الآية: 59.

نسبوه إلى أنفسهم، وكلّما رأوا من شر نسبوه إلى موسى وقومه، مثلاً حينما تثمر الشجرة قليلاً قالوا إنّ هذه الثمرات حقّنا وحظّنا، وأما قلّتها فهو بشؤم أولئك، فالقليل من الخير نسبوه إلى أنفسهم والكثير من الشر نسبوه إلى موسى (عليه السلام) وقومه.

وقيل: إنّ السنين كانت متقطّعة أي كانت بعض السنوات جدب وبعضها رخاء، وما ذكرناه أقرب إلى سياق الآية.

وفي الكشّاف: «فإن قلت: كيف قيل {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ} ب(إذا) وتعريف الحسنة، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} ب(إن) وتنكير السيّئة؟

قلت: لأنّ جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتّساعه، وأمّا السيّئة فلا تقع إلاّ في الندرة ولا يقع إلاّ شيء منها»(1).

وقوله: {لَنَا هَٰذِهِ} اللام للاختصاص والملك أي حقّنا هذه فنحن نستحق كل خير فنسبوه إلى أنفسهم ولم يشكروا اللّه تعالى عليها.

وقوله: {يَطَّيَّرُواْ} الطيرة هي التشاؤم، فقد كان العرب يتشاءمون ببعض الطيور كالغراب، وكذلك بكيفيّة طيرانها عن اليمين أو الشمال، كما كانوا يتفاءلون ببعض الطيور وبكيفيّة الطيران، ثمّ غلب استعمال التطيّر في التشاؤهم.

وقوله: {طَٰئِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ} بيان أنّ الشؤم الذي أصابهم هو عذاب من اللّه تعالى حيث قدّره عليهم ليتذكّروا، فلا يرتبط بموسى (عليه السلام) ومن معه، و{عِندَ ٱللَّهِ} بمعنى تقديره وحكمه ومشيئته عقوبة لهم كما قال: {قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا

ص: 235


1- الكشّاف 2: 144.

بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَٰئِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُمبَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}(1) أي أنتم سبب شؤمكم لكفركم.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أنّ اللّه هو الذي يقدّر ابتلاءهم بسبب سوء أعمالهم، فلذا يريدون ربط البلاء بغيرهم مع أنّهم هم السبب.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٖ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.

لمّا رأوا السنين ونقص الثمرات بعد ما شاهدوا العصا واليد البيضاء أصرّوا وعاندوا، وقالوا هذا الكلام، ولعلّهم علموا أنّ الغرض من هذه الآيات أن يتذكّروا فأرادوا قطع الآيات عن طريق إقناط موسى (عليه السلام) عن إيمانهم، زعماً منهم أنّه إذا يئس تركهم وما يعملون! أو كان كلامهم هذا تبريراً لعدم إيمانهم بأنّه سحر فلا يؤمنون به لأنّهم لا يتأثّرون بالسحر حسب زعمهم.

وقوله: {مَهْمَا} شرطيّة، أي: أيُّ شيء إذا أتيت به، قيل: هي في الأصل (ما) الشرطيّة زيدت عليها (ما) التأكيديّة فقلبت الألف الأولى هاءً.

وقوله: {لِّتَسْحَرَنَا} المقصود نتيجة السحر أي لتخدعنا، فالمعنى مهما أتيت بسحر لتموّه علينا كي نتبعك فلا يؤثّر فينا إذ لا نؤمن بك أبداً.

الرابع: قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ...} الآية.

أي بعد آية السنين حيث لم تنفعهم، أنزل اللّه عليهم كل سنة نوعاً من

ص: 236


1- سورة يس، الآية: 18-19.

أنواع البلاء كان يصيبهم دون من آمن بموسى (عليه السلام) ، وكان موسى (عليه السلام) يخبرهم بها قبل نزولها ولذلك كانت آية، وإلاّ فالآفات والبلايا طبيعيّة تصيب الناس أجمع، فكونها آية من ثلاث جهات:

1- إخبار موسى (عليه السلام) بها قبل مجيئها.

2- وإصابتها آل فرعون وعدم إصابتها المؤمنين مع أنّ بيوتهم كانت متشابكة وسكنهم قريب ومياههم واحدة ومزارعهم متجاورة.

3- وزوالها بدعاء موسى (عليه السلام) .

وقوله: {ٱلطُّوفَانَ} هو طغيان الماء، وقد كان مع ذلك الطوفان الطاعون - كما في بعض الروايات(1) - حيث إنّ الماء قد يحمل الوباء.

وقوله: {وَٱلْقُمَّلَ} ليست هي الحشرة التي تصيب رأس الإنسان وشعره؛ إذ تلك هي القَمل - بفتح فسكون - وإنّما القُمّل حشرة تهلك الزرع، ثمّ اختلف في وصفها قال الجوهري: «قُمّلة الزرع فدويبة أخرى تطير كالجراد في خلقة الحَلَم»(2)، وقال ابن السكيت: «شيء يقع في الزرع ليس بجراد فيأكل السنبلة وهي غضّة قبل أن تخرج فيطول الزرع ولا سنبل له»(3).

والحاصل إنّها آفة الزرع كالسوس أو نحوه.

وقوله: {وَٱلدَّمَ} كان ماؤهم يتحوّل إلى دم بحيث نغّص العيش عليهم.

وقوله: {ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ} المقصود إنّها آيات تلت بعضها بعضاً فكانت

ص: 237


1- تفسير العيّاشي 2: 25.
2- الصحاح 5: 1805.
3- لسان العرب 11: 569.

في كل سنة آية منها وكانت واضحة لا لبس فيها، فإنّ التفصيل هو التفريقبجعل الشيء أجزاء منفصلة لتكون أكثر وضوحاً، وروي أنّ اللّه ابتلاهم في كل سنة بآية وقيل: إنّ كل آية استمرّت أسبوعاً واحداً(1).

وقوله: {فَٱسْتَكْبَرُواْ} أي لم تؤثر فيهم تلك الآيات المفصّلة فلم يؤمنوا.

وقوله: {وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} كأنّه أراد عصيانهم عملاً، فاستكبارهم هو إظهارهم الكبر بعدم قبول الآية وعدم الإيمان، وإجرامهم كان بعصيانهم العملي في استمرار إيذائهم للمؤمنين.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ...} الآية.

قيل: كلّما نزل عليهم عذاب من هذه الآيات المذكورة كانوا يهرعون إلى موسى (عليه السلام) ويَعِدُونه بأنّهم سيؤمنون به ويطلقون سراح بني إسرائيل إن دعا اللّه، فكان موسى (عليه السلام) يستجيب لهم فيدعو فيرفع اللّه العذاب، لكنّهم كانوا ينكثون بالعهد ويستمرّون في ظلمهم وكفرهم، فيكون ما في هذه الآية وما بعدها (الآيتان 134-135) كالبيان للآية السابقة (الآية 133) حيث قال: {فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} فلا هم آمنوا لاستكبارهم ولا هم أرسلوا بني إسرائيل لإجرامهم.

لكن روي أنّ الرجز عذاب آخر أصابهم بعد الطوفان إلى الدم، وهو الثلج الأحمر ولم يكونوا قد رأوه من قبل فماتوا فيه وجزعوا وأصابهم ما لم

ص: 238


1- تفسير الصافي 3: 230.

يعهد قبله(1).

وقوله: {ٱلرِّجْزُ} قيل: الرجز والرجس مترادفان لكن يغلب استعمال الرجز في ما كان عذاباً إلهياً، والرجس في ما كان من فعل الإنسان وهو ما يستقذر ماديّاً أو معنويّاً.

وقوله: {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} وأصل العهد هو «الوصية والتقدّم إلى صاحبك بشيء»(2)، أي إنّ استجابة دعاء موسى (عليه السلام) هو ما تقدّم به اللّه تعالى إلى موسى (عليه السلام) ، فالمعنى إنّما نطلب منك دعاء ربك بسبب أنّه وعدك الإجابة، أو أنّهم لمّا رأوا معاجز موسى (عليه السلام) علموا أنّ ربّه يستجيب دعاءه إذا دعاه، أو (ما عهد) هو ما أعطاه من المعاجز فكما ينزل العذاب بطلب موسى كذلك يرفعه بطلبه، أو هو الاسم الأعظم فقد علموا أنّ اللّه علّمه موسى (عليه السلام) فأمكنه من إنزال العذاب ورفعه.

وقوله: {لَئِن كَشَفْتَ} أي إن كشف ربّك العذاب بدعائك، وحيث إنّ الكشف بدعاء موسى فكأنّه هو الكاشف.

وقوله: {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} الإيمان له بمعنى تصديقه، والإيمان به بمعنى الاعتقاد به، فالمعنى أنّهم يصدّقونه في ما يقول من طرف رب العزّة تعالى، والإيمان لموسى يلازم الإيمان باللّه تعالى.

السادس: قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}.

ص: 239


1- مجمع البيان 4: 486، وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 171.
2- كتاب العين 1: 102.

بيان سبب استجابة موسى لهم ودعائه لكشف الرجز مرّات متعدّدة مع نكثهم كل مرّة، وهو أنّ أجلهم لم يكن قد حان، وإنّما أراد اللّه تعالى إتمام الحجّة عليهم ولعلّه لتقوية إيمان المؤمنين المضطهدين حينما يرون المعاجز واضطرار آل فرعون إلى الالتجاء إلى دعاء موسى (عليه السلام) ، فإنّ شدّة الاضطهاد قد تخرج البعض عن الإيمان فرؤية الآيات كل عام تثبيت لهؤلاء كما كانت إتماماً للحجّة على أولئك، نظير ما قاله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ * أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}(1).

وقوله: {إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ} هو الأجل المحتوم أي فلمّا رفعنا عنهم العذاب إلى أجلهم المحتوم فبدلاً عن الإيمان نكثوا العهد.

وقيل: الأجل هو زمان وصول العذاب الآخر، فالمعنى رفعنا عنهم عذاباً - من العذابات المذكورة - وأخّرناهم إلى السنة التالية حيث ينالهم عذاب جديد فيها، والحاصل الأجل الذي يبلغوه إمّا موتهم وإمّا المدّة المحدّدة التي إذا بلغوها نزل عليهم العذاب مرّة أخرى.

وقوله: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} إذا حرف مفاجئة، و(النكث) هو نقض العهد، فكأنّ الذين رأوا العذاب يفاجأونهم بالنكث مع أنّ مقتضى القاعدة هو الوفاء بالوعد لأنّ الذي أنزل عليهم العذاب قادر على إنزاله مرّة أخرى،

ص: 240


1- سورة التوبة، الآية: 124-126.

فنكث العهد معه ليس مقتضى العقل، فيكون كالأمر المفاجئ.

السابع: قوله تعالى: {فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَٰهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ}.

أي فلمّا حان أجلهم وبلغوه انتهى الامتحان والتذكير فانتقمنا منهم وكان ذلك بإغراقهم في البحر، وهذا يدل على أنّ الآيات السابقة لم تكن انتقاماً وإنّما تذكيراً أو عقوبة محدودة.

وغير خفي أنّ الانتقام كان بإغراقهم فالعطف بالفاء في قوله: {فَأَغْرَقْنَٰهُمْ} إمّا لأجل حمل الانتقام على إرادته أي فأردنا الانتقام فنفّذناه بإغراقهم، وإمّا الفاء عطف تفسير، وإمّا بحمل الانتقام على معناه الأصلي وهو إنكار من يريد العذاب أي فأنكرنا عليهم نكثهم إنكار إرادة عذاب ثمّ عذّبناهم بالغرق.

وقوله: {ٱلْيَمِّ} قيل: هو البحر العميق الذي لا يدرك قعره.

وقوله: {بِأَنَّهُمْ} بيان السبب وأنّ اللّه لم يظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

وقوله: {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} يرجع إلى عدم اعتقادهم بها.

وقوله: {وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ} يرجع إلى عدم عملهم بما تقتضيه تلك الآيات، فلا يعملون بها كالغافل عنها، وقيل: غافلين عن عواقب هذه الآيات بنجاة المؤمن بها وعذاب المكذِّب لها.

الثامن: قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلْأَرْضِ

ص: 241

وَمَغَٰرِبَهَا...} الآية.

بعد أن ذكر اللّه عذاب آل فرعون نتيجة شركهم وسوء أعمالهم أتَم قصتهم ببيان نتيجة توحيد بني إسرائيل وحسن أعمالهم وذلك بأنّهم ورثوا الأرض بعد طول استضعاف لتكون قصّتهم ماثلة أمام المؤمنين المستضعفين بأنّ اللّه سينجّيهم ولو بعد حين.

وقوله: {ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} ولم يقل بني إسرائيل لتكون وراثتهم للأرض أوقع في النفوس، فأن يرث الأرض قوي عن قوي أمر متعارف في طول التاريخ إلاّ أنّ وراثة المستضعفين عن المستكبرين أمر نادر فأراد اللّه تعالى الحث على التوحيد والصبر عليه ببيان حسن عاقبته من حيث لا يحتسبون.

وقوله: {مَشَٰرِقَ ٱلْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا} بيان أنّهم ورثوا الأرض كاملة كلّها، والظاهر أنّ المراد بالأرض أرض فلسطين لأنّه وصفها بقوله: {ٱلَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا}، وهذا وصف تلك الأرض في القرآن كقوله: {إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ} (1)، وقوله: {وَنَجَّيْنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا لِلْعَٰلَمِينَ}(2).

وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (التمام) هو اسم للجزء والبعض الذي يتم به الموصوف بأنّه تام(3)، أي الجزء الأخير من الشيء، و(الكلمة) هي الوعد التي وعدهم اللّه تعالى أو التقدير الذي قدّره لهم كما قال: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ

ص: 242


1- سورة الإسراء، الآية: 1.
2- سورة الأنبياء، الآية: 71.
3- معجم الفروق اللغوية: 458.

أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلْأَرْضِ}(1)، وقال: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ}(2)، والحاصل أنّ الوعد يتم بالوفاء به، والتقدير يتم بتنفيذه.

وقوله: {ٱلْحُسْنَىٰ} صفة الكلمة مؤنّث أحسن، وإنّما كانت حسنى لأنّ فيها الخير والمصلحة ولأنّها كانت بما يحبّون.

وقوله: {بِمَا صَبَرُواْ} أي بسبب صبرهم وحفظهم دينهم الذي ارتضاه اللّه لهم.

وقوله: {وَدَمَّرْنَا} بيان نتيجة الكفر والعصيان والتكذيب بالآيات، والتدمير هو التخريب والنسف، وهذا التدمير إمّا كان بآية كزلزلة وصاعقة ونحوهما، وإمّا كان بسبب طبيعي لأنّ الديار إذا خلت من أهلها خربت والبساتين إذا تركت هلكت، فحيث إنّ اللّه أهلك آل فرعون فكان هو الذي دمّر أبنيّتهم وزروعهم، وإنّما أبقى منها ما فيه العبرة لمن اعتبر كما أنجى بدن فرعون ليكون لمن خلفه آية.

وبهذا ينتهي فصل الأمم المكذّبة التي عذّبها اللّه وأهلكها.

ص: 243


1- سورة الأعراف، الآية: 129.
2- سورة القصص، الآية: 5.

الآيات 138-141

اشارة

{وَجَٰوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 138 إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 139 قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ 140 وَإِذْ أَنجَيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ٱلْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ 141}

ثمّ يبدأ اللّه تعالى فصلاً آخر في الأمّة المؤمنة حينما انحرف بعض أهلها فعذّبهم اللّه تعالى، فقال:

138- {وَجَٰوَزْنَا} عبّرناهم بأن شققنا لهم طريقاً عبروا فيه {بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ} مرّوا {عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ} يُقبلون ويقيمون {عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ} على عبادتها، {قَالُواْ} قال بنو إسرائيل والمراد ضعفتهم وفسقتهم {يَٰمُوسَى ٱجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا} اصنع واختار صنماً مجسّداً ليكون إلهاً لنا {كَمَا لَهُمْ} لهؤلاء القوم {ءَالِهَةٌ} متعدّدة يعبدونها! {قَالَ} موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} قوم جهلة لا تعلمون أنّ الصنم لا يكون إلهاً، وتجهلون ربّكم ولا تعظّمونه بالتنزيه عن كونه صنماً.

139- {إِنَّ هَٰؤُلَاءِ} عبدة الأصنام {مُتَبَّرٌ} من «تبر» بمعنى السحق والكسر أو «التبار» بمعنى الهلاك {مَّا هُمْ فِيهِ} من عبادة الأصنام أي دينهم

ص: 244

زائل يهدمه اللّه تعالى {وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من صناعة الأصنام وعبادتهم،فدينهم هالك وعملهم باطل.

140- ثمّ استنكر عليهم طلبهم ف{قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ} أطلب لكم {إِلَٰهًا} يصلح أموركم؟! {وَهُوَ} اللّه {فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ} بأن اختاركم لدينه وجعلكم من ذرّيّة الأنبياء؟! فهذا من جهة التفضّل بالنعمة.

141- {وَ} أمّا من جهة دفع النقمة عنكم فاذكروا {إِذْ أَنجَيْنَٰكُم} أنجاكم اللّه {مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ} فرعون وآله وهم قومه {يَسُومُونَكُمْ} يلقونكم ويولّونكم {سُوءَ ٱلْعَذَابِ} أي العذاب السيّئ وذلك بأنّهم كانوا {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} يبقونهن أحياء للخدمة والاستعباد {وَفِي ذَٰلِكُم} القتل والاستحياء {بَلَاءٌ} امتحان {مِّن رَّبِّكُمْ} لأنّه لم يمنع فرعون قهراً {عَظِيمٌ} لتحمّل صعوبته، أو البلاء بمعنى النعمة فالمعنى: وفي ذلكم الإنجاء نعمة عظيمة من ربّكم لكم.

بحوث

الأوّل: كان ما مضى من الآيات قصص الأقوام الذين تمرّدوا على رسل اللّه تعالى وكذّبوا بآياته فأهلكهم اللّه تعالى وهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط ومدين وآل فرعون، ثمّ إنّ اللّه تعالى من هذه الآية فما بعد (الآيات 138-176) يذكر مجموعة من قصص الأمّة المؤمنة التي انحرفت إلى الشرك أو العصيان فأهلكهم اللّه بذنوبهم، ويذكر مجموعة من قصص بني إسرائيل، وهي قصّة طلبهم عبادة صنم، وقصّة عبادتهم العجل، وقصّة طلبهم

ص: 245

رؤية اللّه تعالى، وقصّة استهزائهم بباب حطّة، وقصّة أصحاب السبت، وقصّةبلعم بن باعورا، حيث كانوا مؤمنين موحّدين لكن بعضهم أشرك وبعضهم ارتكب الموبقات فعذّبهم اللّه تعالى إمّا بالهلاك أو بغيره.

قصة بني إسرائيل بعد عبور البحر

الثاني: قوله تعالى: {وَجَٰوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَٰءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٖ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٖ لَّهُمْ...} الآية.

هذه القصّة كالمقدمة لقصّة عبادتهم العجل، فإنّ عامة البشريّة في ذلك الوقت كانوا عبدة أصنام وكان التوحيد بعيداً عن قلوبهم ولمّا تنضج عقولهم، وكان بنو إسرائيل يعيشون سنوات طوال في مصر وقد كانوا يرون عبادة آل فرعون للأصنام مع ما لهم من سطوة، والضعيف يتأثّر بالقوي، فلذا أشرب في قلوب بني إسرائيل حب عبادة الأصنام رغم ما شاهدوه من آيات اللّه تعالى ونعمه عليهم ودفع النقمة عنهم، ولذا في بداية الأمر طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم صنماً يعبدونه، فنهرهم وذكّرهم بفضل اللّه تعالى عليهم.

وقوله: {وَجَٰوَزْنَا} الجواز والاجتياز: العبور وحيث إنّ اللّه ضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لذلك كان هو الذي نقلهم من ضفّة إلى أخرى.

وقوله: {يَعْكُفُونَ} العكوف هو الإقبال على الشيء والإقامة عليه فكأنّهم ملازمون له، فكأنّ المعنى هو إقبالهم على عبادة الأصنام بلهفة واشتياق.

وقوله: {ٱجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا...} ولعلّ طلبهم إلهاً واحداً مع أنّه كان لعبدة الأصنام آلهة متعدّدة هو لأجل أنّهم عرفوا الوصف بالتوحيد وجهلوا الموصوف وأنّه هو اللّه الذي ليس بجسم، وكل الأصنام وموادّها مخلوقات له.

ص: 246

وقوله: {تَجْهَلُونَ} أي جهلة وكأنّ المقصود قلّة العقل فإنّ الجهليلازمه، وأيّ سفه أعظم من طلب عبادة صنم لا يضر ولا ينفع بعد رؤية الآيات الباهرات التي أنزلها اللّه تعالى، وكان آخر ما شاهدوه آنذاك هو فلق البحر وعبورهم منه.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

بيان أنّ قياسكم أنفسكم بهؤلاء غير صحيح؛ لأنّهم على باطل وأنتم على حق، فكيف تقيسون أنفسكم بهم؟! وهل الأعلى الأفضل يتمنّى ما عليه الأدون الباطل؟!

وقوله: {مُتَبَّرٌ} من (تبر) بمعنى السحق والكسر أو (التبار) بمعنى الهلاك، ولذا يقال لتراب الذهب أو الذهب المكسّر: التِبر، و{مُتَبَّرٌ} على صيغة المفعول من باب التفعيل أي إنّ عقيدتهم فاسدة وإنّ اللّه سيهلكها كما قال: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ}(1).

وقوله: {مَّا هُمْ فِيهِ} من العقيدة.

وقوله: {وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي عملهم بعبادة الأصنام أيضاً باطل زائل لا ثبوت له، فجمعوا بين بطلان العقيدة والعمل، ويحتمل أن يكون المعنى إنّ حالهم هالك وماضيهم باطل.

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ}.

ص: 247


1- سورة التوبة، الآية: 40.

بعد أن أبطل موسى (عليه السلام) دين عبدة الأصنام بأنّه متبّر وباطل أراد تذكيرهم بعظمة اللّه تعالى، فعدّد أهم نعمه عليهم وفي ذلك دعوة لاستمرارعبادة اللّه تعالى من جهتين: إنّه القادر على ما يشاء فكيف تستبدلون به غيره، وإنّه أنعم عليكم فكيف تتركون شكره؟!

وقوله: {أَغَيْرَ ٱللَّهِ...} استفهام تقريع وتوبيخ وفيه تذكيرهم أيضاً.

وقوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ} بيان نعمته عليهم وهي من أعظم النعم حيث إنّ اللّه اختارهم لحمل دينه، فلو أطاعوه كان ذلك شكراً لهذه النعمة، وإن عصوه كان كفراناً يؤدّي بهم إلى أسفل سافلين فيكون رفضاً منهم لذلك التفضيل، كما في هذا بيان أنّه لا ينبغي لهم أن يفكّروا في اتّباع من هو دونهم، بل على العكس لا بد أن يكونوا قادة لهم يهدونهم إلى الرشاد.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ أَنجَيْنَٰكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ٱلْعَذَابِ...} الآية.

بيان أنّ اللّه تعالى دفع النقمة عنهم.

وقوله: {أَنجَيْنَٰكُم} هذا إمّا تتمة كلام موسى، فكأنّه يقول: أنا وأخي هارون أنجيناكم من آل فرعون بإذن اللّه تعالى فعليكم أن لا تعصوني، وأما التفضيل على العالمين فلم يكن موسى (عليه السلام) الواسطة فيه فلذا نسبه إلى اللّه سبحانه مباشرة، فالتفضيل من اللّه والإنجاء منّا بإذن اللّه تعالى!

وإمّا مع تغيير المتكلّم ففي الآية السابقة ينقل اللّه تعالى كلام موسى (عليه السلام) ، وفي هذه الآية يذكّرهم اللّه تعالى بفضله مباشرة.

ص: 248

وقيل: فيه التفات إلى اليهود المعاصرين للنبي محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جلباً لهم للإيمان، مع دلالته على ما قاله موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل.

وقوله: {وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ...} الإشارة في (ذلكم) إمّا إلى العذاب والقتل والاستحياء ف(البلاء) يراد به الامتحان، وعظمته باعتبار صعوبته وصعوبة تحمّله، وإمّا إلى النجاة ف(البلاء) بمعنى النعمة لأنّه كما يكون في الشر يكون في الخير، قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(1).

ص: 249


1- سورة الأنبياء، الآية: 35.

الآيات 142-144

اشارة

{وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ 142 وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَىٰنِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ 143 قَالَ يَٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ 144}

142- {وَوَٰعَدْنَا} جعلنا بيننا وبينه موعداً لإنزال التوراة عليه {مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً} هي ذو العقدة {وَأَتْمَمْنَٰهَا} زدنا الثلاثين {بِعَشْرٖ} من ذي الحجة {فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ} الوقت المعين لإنزال التوراة {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ولعل هذه المدّة ليتهيّأ موسى (عليه السلام) للكتاب حيث أمضى هذه الفترة بالعبادة والمناجاة وليعلم الناس أهميّة الكتاب.

{وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ} قبل أن يخرج إلى الموعد: {ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} كن خليفتي عليهم في دينهم ودنياهم {وَأَصْلِحْ} شؤونهم {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ} لا تتخذ طريقة {ٱلْمُفْسِدِينَ}.

143- {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا} المكان والزمان الذي عيّناه له {وَكَلَّمَهُ

ص: 250

رَبُّهُ} بأن خلق الصوت ليسمعه موسى (عليه السلام) {قَالَ} موسى: {رَبِّ أَرِنِي}نفسك لكي {أَنظُرْ إِلَيْكَ} إنّما قال ذلك مع علمه بأنّ اللّه تعالى لا يُدرك بالحواس وتستحيل رؤيته لأنّ القوم طلبوا منه ذلك فأراد جوابهم، {قَالَ} اللّه سبحانه: {لَن تَرَىٰنِي} والنفي للتأبيد أي إلى الأبد لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ وذلك لاستحالة رؤية اللّه تعالى لأنّه ليس بجسم، {وَلَٰكِنِ} أراه اللّه تعالى شيئاً من عظمته قائلاً: {ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} حينما أتجلى له {فَسَوْفَ تَرَىٰنِي} فقد علّق الرؤية على المحال؛ إذ استقرار الجبل حال التجلّي مستحيل فكذلك رؤيته تعالى، {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} بأن أظهر آية من آياته عليه وذلك بإظهار نور من عظمته {جَعَلَهُ} جعل الجبل {دَكًّا} مفتّتاً مدقوقاً {وَخَرَّ} سقط {مُوسَىٰ صَعِقًا} مغشيّاً عليه من هيبة ما رأى، {فَلَمَّا أَفَاقَ} من صعقته {قَالَ سُبْحَٰنَكَ} أنزّهك عن الرؤية {تُبْتُ إِلَيْكَ} توبة انقطاع وتضرّع ورجعت عن جهل قومي {وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ} بأنّك لا ترى فلم يكن طلبي إلاّ إبلاغ سؤال قومي لإجابتهم.

144- {قَالَ} اللّه: {يَٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ} اخترتك على وجه التفضيل {عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي} بأن جعلتك نبيّاً رسولاً {وَبِكَلَٰمِي} بأن كلّمتك فقد خصصتك بالرسالة والكلام دون سائر الناس، {فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ} لا تتوان فيه {وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ} لهذه النعمة.

قصة ميقات موسى (عليه السلام)

بحوث

الأوّل: هذه قصّة أخرى توحيديّة وفيها بيان أنّ للشرك عواقب وخيمة،

ص: 251

فحتى إبلاغ رسالة شركيّة لها آثار وضعيّة - وإن لم تكن عقوبة - ، كما أنّهذه القصّة كالمقدّمة لقصّة عبادة بني إسرائيل العجل وما عاقبه اللّه بهم في الدنيا من الغضب والذلّة، وقصّة السبعين رجلاً الذين طلبوا رؤية اللّه تعالى فعاقبهم بالرجفة، وليس في الآيات مذمّة ولا عقوبة لموسى (عليه السلام) لأنّه لم يفعل إلاّ ما ينبغي له حيث أوصل رسالة قومه لكن اللّه تعالى أراد أن يبيّن له ولهم ولمن تبلغة هذه القصّة عظمته وأنّه لا تمكن رؤيته وأنّ الأنبياء - فضلاً عن عامة الناس - لا يطيقون رؤية تجلّيه فكيف يريدون رؤيته؟!

الثاني: قوله تعالى: {وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.

كانت دعوة موسى (عليه السلام) في مصر دعوة توحيديّة لا تتضمّن شريعة خاصة ولا كتاباً خاصاً، لكن بعد خروجهم من مصر أراد اللّه أن ينزّل عليه الكتاب المتضمّن للشريعة وغيرها، فجعل له موعداً لتنزيل الكتاب دفعة واحدة - لا نجوماً - ، ولعلّ ذلك ليتهيّأ موسى (عليه السلام) للكتاب فإنّ اللّه تعالى يصطفي الرسل ويجعل فيهم القابليّة لحمل الرسالة والكتاب إلاّ أنّه تعالى ولمصالح يجعل فعليّة تلك القابليّة عبر العبادة والمناجاة، أو أراد اللّه تعالى بيان أهمية الكتاب لبني إسرائيل بحيث يحتاج تنزيله إلى فترة عبادة النبي، أو أراد اللّه امتحان بني إسرائيل فكان ذلك بغيبة موسى (عليه السلام) هذه الفترة، واللّه العالم.

وقوله: {وَوَٰعَدْنَا} المواعدة هي ضرب الوقت من الطرفين فكأنّ اللّه تعالى وعد موسى بتنزيل الكتاب، وموسى (عليه السلام) وعد بأن يأتي إلى الطور لتسلّمه.

وقوله: {ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً} في التقريب: «لعلّ ذكر ليلة دون اليوم لأجل أنّ

ص: 252

الليل أقرب إلى المناجاة، فإنّ الظلمة تشع في النفس الانقطاع والخوف والرجاء ممّا يجعل الإنسان أقرب إلى اللّه سبحانه من النهار ولذا كان العبّاد يتّخذونها ميقاتاً لعبادتهم»(1).

وقوله: {وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ} التمام هو الجزء الذي يتم به الشيء أي الأجزاء الأخيرة منه، فالثلاثين لم تكن كاملة إلاّ بإتمامها بالعشر؛ وذلك لأنّ الثلاثين كانت فترة عبادة ومناجاة ثمّ بعدها ينزّل الكتاب في عشرة ليال، فكان هناك أمران، وقد أخبره اللّه تعالى بالأوّل وسكت عن الثاني وذلك لمصلحة امتحان بني إسرائيل، فالمواعدة كانت بثلاثين ثمّ أضاف اللّه تعالى عشرة من غير مواعدة، وبعبارة أخرى: المواعدة كانت على أنّه يتسلم الكتاب بعد الثلاثين ولم يتم تعيين مدّة لهذا التسلّم.

وقوله: {فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} الميقات هو الوقت المعين للشيء سواء كان زماناً أو مكاناً، ولا بد أن يكون قد قدّر ليعمل فيه عمل من الأعمال(2)، وهذا المقطع لبيان أنّ الميقات المقدّر كان من الأوّل أربعين ليلة إلاّ أنّ المواعدة كانت ثلاثين، فليس هنالك بداء بالزيادة.

خلافة هارون (عليه السلام) ووصايا موسى (عليه السلام) له

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ}.

بيان أنّ موسى (عليه السلام) لم يترك بني إسرائيل من غير إمام يسوسهم رغم أنّ مدّة غيابه لم تكن طويلة؛ إذ لا يصلح أمر الناس إلاّ بإمام يسوسهم، ولذلك

ص: 253


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 238.
2- راجع مجمع البيان 4: 493.

لم يترك الأنبياء أممهم من غير وصي فيهم.

وقوله: {لِأَخِيهِ هَٰرُونَ} ذكر اخوّتهما - مع كون اخوّتهما النسبيّة معلومة - لعلّه للتنبيه على أنّ المهمّة لا يمكن أن يقوم بها إلاّ من هو أخو النبي، ليست مجرد أخوّة في النسب وإنّما الأخوّة في المنزلة، ولعلّه من هذا المنطلق بيّن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخوّة علي (عليه السلام) له متزامناً مع بيان خلافته له.

وفي الآية دلالة على أنّ الإمامة منفصلة عن النبوّة(1)؛ لأنّ هارون كان نبيّاً ولم يكن إماماً إلاّ أنّ موسى (عليه السلام) جعله إماماً حال غيابه، وقد مرّ أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان نبيّاً رسولاً من باكورة عمره إلاّ أنّ اللّه جعله إماماً في أواخر حياته.

ثمّ إنّ موسى (عليه السلام) أوصى هارون (عليه السلام) بثلاثة أمور:

1- قوله: {ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي كن خليفة لي عليهم بأن يقوم بما كان يقوم به موسى من تنظيم أمورهم وقيادتهم دينيّاً ودنيويّاً.

2- وقوله: {وَأَصْلِحْ} إمّا بمعنى أصلح بينهم لو تنازعوا، وإمّا بمعنى اعمل بالصلاح فيهم، فإنّ الرئيس قد يصلح وقد يترك شؤونهم، فأمره موسى (عليه السلام) بالإصلاح.

3- وقوله: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ} هذا إمّا تأكيد؛ إذ إنّ الإصلاح يلازم عدم الإفساد، وإمّا بمعنى أن يكون الإصلاح بطريقة صحيحة؛ إذ البعض يريد الإصلاح عن طريق الجور والفساد، لكن هذا مرفوض دينيّاً

ص: 254


1- مجمع البيان 4: 495.

لأنّ الغاية لا تبرّر الوسيلة، ولا يطاع اللّه من حيث يُعصى، ولعلّه إشارة إلىأنّ المفسدين يعملون أعمالاً للوصول إلى مبتغاهم وهي أعمال باطلة عادة كالتفرقة بين الناس وجعلهم شيعاً، فأنت يا هارون لا تتّخذ أساليبهم بل اتّبع الأساليب الحقّة حتى لو لم تصل إلى مبتغاك فإنّ الغرض هو إحقاق الحق لا عمل الباطل، ولذا كان من جواب هارون لموسى (عليهما السلام) : {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}(1)، وذلك بعد أن عمل ما باستطاعته لإرشادهم بعد أن تمرّدوا عليه، قال: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَٰرُونُ مِن قَبْلُ يَٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي}(2)، وكان هارون (عليه السلام) منزّهاً عن الفساد إلاّ أنّ قول موسى (عليه السلام) كان تذكيراً له وتنبيهاً للناس فكان ذلك إرشاداً لهم أيضاً.

استحالة رؤية اللّه تعالى

الرابع: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَىٰنِي}.

رؤية اللّه بالعين مستحلية؛ لأنّ المرئي لا بد أن يكون جسماً كثيفاً كي يصطدم النور به ويرجع عنه لتلتقط العين تلك الأمواج النوريّة، كما لا بد أن يكون محدوداً بحدود لكي تُمكن رؤيته، وأن يكون في الجهة المقابلة وغير ذلك مما ذكر في علم الفيزياء، واللّه تعالى منزّه عن الجسم والجهة والحد فلذا تستحيل رؤيته، وأمّا رؤية القلب فهي اليقين به وهذا أمر حاصل لأولياء اللّه تعالى في الدنيا والآخرة فهم يعلمون بوجوده يقيناً لا شك فيه.

ص: 255


1- سورة طه، الآية: 94.
2- سورة طه، الآية: 90.

نعم، لليقين درجات قابلة للزّيادة، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «لوكشف الغطاء ما ازددت يقيناً»(1)،

وهذه الدرجات إمّا في اليقين نفسه، وإمّا باعتبار قوة أسبابه، وإمّا لجهات أخرى.

وغير خفي أنّ موسى (عليه السلام) من أنبياء أولى العزم فمعرفته باللّه تعالى أكثر من سائر الناس فطلبه الرؤية لا يمكن أن يريد به الرؤية بالعين لنفسه، فقد قيل: إنّه طلب معرفة اللّه بكنه حقيقته، لكن هذا خلاف ظاهر الآية وسياقها مضافاً إلى أنّ الأنبياء يعلمون باستحالة إدراك كنه اللّه وحقيقته فلا يكون للطلب حينئذٍ معنى.

بل الصحيح أنّ قوم موسى (عليه السلام) هم الذين طلبوا منه أن يدعو اللّه ليُريه نفسه كما أسمعه كلامه، فأراد موسى (عليه السلام) جواباً من اللّه لطلبهم هذا، فكان الجواب باستحالة الرؤية وأنّه لا يطيق حتى التجلّي، فلمّا أجابهم موسى (عليه السلام) بذلك عاندوا وطلبوا أن يروا اللّه جهرة فعاقبهم اللّه بعذاب الصاعقة فأهلكهم ثمّ بدعاء موسى أحياهم كما سيأتي في الآية 155.

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) - في ما دار من حوار بين موسى وقومه - قال: «فقالوا إنّك لو سألت اللّه أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته؟ فقال موسى (عليه السلام) : يا قوم، إنّ اللّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفيّة له، وإنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه. فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله. فقال موسى (عليه السلام) : يا رب، إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم

ص: 256


1- عيون الحكم والمواعظ: 415.

بصلاحهم. فأوحى اللّه جل جلاله إليه: يا موسى، سلني ما سألوك فلنأؤاخذك بجهلهم. فعند ذلك قال موسى (عليه السلام) : {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ...}»، الحديث(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس، ولا يدرك بالحواس، ولا يشبّه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك اللّه لا إله إلاّ هو»(2).

وقوله: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني نفسك لأنظر إليك، والإراءة هي رفع الحواجب عن الشيء المرئي ليتمكّن الناظر من رؤيته، ولذا يصح أن تقول: أريته فلم ينظر، وعليه فليس قوله: {أَنظُرْ إِلَيْكَ} تكراراً لقوله: {أَرِنِي}.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَىٰنِي...} الآية.

إنّ جواب القوم بأن اللّه تعالى قال: {لَن تَرَىٰنِي} لم يكن كافياً لهم ولا لغيرهم من ضعاف الإيمان.

ولذا أراد اللّه تعالى إقناعهم بطريقة تناسب عقول الجميع - عالمهم وجاهلهم - فإنّ بعض البراهين تنفع العلماء فقط ولا يدركها غيرهم، ولذا قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَٰؤُاْ}(3)، وبعضها على رغم دقّتها

ص: 257


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 200؛ التوحيد: 121؛ عنهما البرهان في تفسير القرآن 4: 182-183.
2- الكافي 1: 97.
3- سورة فاطر، الآية: 28.

وعمقها يفهمها الجميع - عالمهم وجاهلهم - ؛ لأنّ اللّه سبحانه يسّر فهمهاوألقاها في العقول والفطرة، ولذا تجد الآيات التوحيديّة قابلة لفهم من يعرف اللغة العربيّة على رغم عمق مطالبها، فالقرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق.

والطريقة التي أرادها اللّه تعالى في إفهامهم عدم إمكان رؤيته هي بيان عدم قابليّة المخلوق لرؤية بعض آيات اللّه الكبرى فكيف يريدون رؤيته سبحانه وتعالى؟! وذلك بأن أظهر اللّه جزءاً يسيراً من نور عظمته - وهو مخلوق له - فتدكدك الجبل وغشي على موسى (عليه السلام) .

وروى عاصم بن حميد، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ذاكرت أبا عبد اللّه (عليه السلام) في ما يروون من الرؤية، فقال: «الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزءاً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور الستر، فإن كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب»(1).

وقوله: {فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَىٰنِي} تعليق الرؤية على ما لا يمكن، فإنّ استقرار الجبل - بما هو جبل - حين التجلّي مستحيل فكذلك الرؤية، وهذا نظير ما مر من قوله: {وَلَا يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ}(2)، وقوله: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْعَٰبِدِينَ}(3).

وزعم بعض المجسّمة أنّ استقرار الجبل حين التجلّي ممكن إلاّ أنّ اللّه

ص: 258


1- الكافي 1: 98.
2- سورة الأعراف، الآية: 40.
3- سورة الزخرف، الآية: 81.

لم يرد استقراره! والجواب أنّ الجبل مع كونه جبلاً صخرّياً يستحيلاستقراره حينئذٍ إلاّ بأن يغيّر اللّه حقيقته فيخرج عن كونه جبلاً، كما أنّ ولوج الجمل في سم الخياط مع كونه سم الخياط محال إلاّ أن يوسّعه اللّه تعالى فيخرج عن كونه سم الخياط.

وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أي أظهر اللّه عظمته عليه وذلك بإظهار آية من آياته، و(الجلاء) بمعنى ظهور الشيء وانكشافه، وفي المفردات: «والتجلّي قد يكون بالذات نحو: {وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ}(1)، وقد يكون بالأمر والفعل نحو: {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}»(2).

وقوله: {وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا} الصعقة بمعنى الغشية أي وقع موسى مغشيّاً عليه، وقيل: مات، وهذه الآية كانت أعظم من معاجز موسى بالعصا واليد البيضاء ورفع الطور وفلق البحر وغيرها، ولذا تحمّل موسى تلك ولم يتحمّل هذه.

وقوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ} توبته لم تكن عن ذنب وإنّما هي رجوع إليه بالانقطاع والتضرّع، وفي التقريب: «ولم يكن ذلك توبة عن ذنب، بل إنّه على وجه الانقطاع والتخضّع، فإنّ الإنسان إذا رأى الأمور الجليلة يذكر اللّه بالتسبيح والتقديس والاستغفار، والسر أنّ هذه الألفاظ صارت إعلاماً للخضوع والخشوع، لكثرة ما استعملت فيهما، ومنه الحديث كان النبي يستغفر من غير ذنب(3)، وإن شئت قلت: إنّه إنشاء مفهوم التوبة بداعي

ص: 259


1- سورة الليل، الآية: 2.
2- المفردات للراغب: 200.
3- وسائل الشيعة 16: 85.

التعظيم، كما أن أدوات الاستفهام في كلامه سبحانه هي لإنشاء مفهوم الاستفهام بداعي آخر كالمفاضلة»(1).

وقوله: {وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ} إمّا حال أي تبت إليك حال كوني أوّل المؤمنين، أو عطف أي تبتُ وآمنت قبل غيري، ولعلّ هذا لبيان أنّ طلبه الرؤية لم يكن لنفسه كيف وهو أسبق من غيره في الإيمان.

السادس: قوله تعالى: {قَالَ يَٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي...} الآية.

كأنّه بيان أنّه يكفيك ما أعطيتك فاشكر اللّه عليه ولا تطلب المستحيل بالرؤية.

وقوله: {ٱصْطَفَيْتُكَ} الاصطفاء أخذ صفو الشيء بأن يكون خالياً من الكدر والنقص، واصطفاء اللّه تعالى هو خلقه له كاملاً بحيث كان محلّاً قابلاً للرسالة، وإذا تعدّى الاصطفاء ب(على) فمعناه التفضيل، فالمعنى اخترتك مفضِّلاً لك على الناس، وقد مر بيانه في سورة آل عمران(2).

وقوله: {بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي} الرسالة للناس، والكلام لنفسه، أي إنّ اللّه فضّل موسى بأن جعله رسولاً للناس ومن ذلك تنزيل الكتاب عليه ليتلوه على الناس، كما كلّمه تعالى ولم يكلّم غيره، ومن المعلوم أنّ المراد تفضيله على عامّة الناس بالأمرين، وهذا لا ينافي اصطفاء أنبياء آخرين بالرسالة في زمانه كهارون (عليه السلام) كما قال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَٰرُونَ

ص: 260


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 241-242.
2- التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 121.

بَِٔايَٰتِنَا وَسُلْطَٰنٖ مُّبِينٍ}(1)، كما لا ينافي كلامه تعالى مع رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في المعراج؛ إذ المراد من الناس عامة الناس غير الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) .

كلام اللّه تعالى بخلق الصوت

ثمّ إنّ كلام اللّه هو صوت يخلقه اللّه تعالى فيُسمعه من يشاء من خلقه، أمّا كيفيّة هذا الصوت وماذا يتضمّنه وكيفية فهمهم له فغير معلوم لنا وإن كانت الروايات أشارت إلى بعض جوانبه، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «فكلّمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام؛ لأنّ اللّه أحدثه في الشجرة ثمّ جعله منبعثاً منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه»(2)، وقيل: هو كلام من كل الجهات و بكل الجهات، وهذا الصوت يختلف عن الأصوات التي قدّرها اللّه في الأشياء كصوت ارتطام حجر بحجر فإنّها أصوات لا معاني لها وهي من عالم الشهود، وأمّا الكلام المخلوق فهو بكيفيّة خاصة وله معاني وهو من عالم الغيب.

وقوله: {فَخُذْ مَا ءَاتَيْتُكَ}، أي ما أنزلنا عليك من التوراة، والفاء للتفريع أي حيث اصطفيتك بالرسالة والكلام فعليك أن تقابل هذه النعمة العظيمة بأخذها وبشكرها، أمّا أخذها فهو قبول المهمة الملقاة على عاتقه والعمل حسب مقتضاها من تبليغها ومراقبة عمل الناس بها.

وقوله: {وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ} الشكر هو الإقرار بالنعمة وذلك بالقلب بعرفان المنعم، وباللسان بالثناء عليه، وبالجوارح بالعمل طبق تلك النعمة

ص: 261


1- سورة المؤمنون، الآية: 45.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 182؛ عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 200؛ والتوحيد: 121.

وعدم كفرانها.

والحاصل أنّ اللّه بيّن له أنّ تجليه للجبل وسقوط موسى (عليه السلام) مغشيّاً عليه، لا ينقص من قدره شيئاً؛ وذلك لأن اللّه اصطفاه على الناس ومن يصطفيه اللّه لا يكون فيه نقص، وبذلك يتبيّن أنّ طلب الرؤية لم يكن لنفسه وإنّما نقل سؤال الناس لها، وهذا الاصطفاء سبب لثقل المسؤوليّة وزيادة الشكر عليه.

ص: 262

الآيات 145-147

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ فَخُذْهَا بِقُوَّةٖ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَٰسِقِينَ 145 سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ 146 وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَلِقَاءِ ٱلْأخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 147}

ثمّ بيّن اللّه تعالى ما أنزله على موسى (عليه السلام) في الميقات الذي دام أربعين يوماً، فقال:

145- {وَكَتَبْنَا لَهُ} لموسى {فِي ٱلْأَلْوَاحِ} التي نزلت من السماء {مِن كُلِّ شَيْءٖ} ممّا يحتاجون إليه {مَّوْعِظَةً} وهو الكلام الذي يرق له القلب، والمعنى كتبنا الموعظة الناشئة من كل شيء، {وَ} كتبنا فيها {تَفْصِيلًا} توضيحاً {لِّكُلِّ شَيْءٖ}، فالمعنى إنّ التوراة تتضمّن الموعظة من كل شيء والتوضيح لكل شيء. {فَخُذْهَا} أي فقلنا لموسى خذ الألواح {بِقُوَّةٖ} بجد وعزيمة {وَأْمُرْ قَوْمَكَ} بني إسرائيل {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي أحسن ما فيها وهي فعل الواجبات وترك المحرّمات، أمّا سائر الأمور فهم في فسحة منها، ثمّ هدّد اللّه العصاة منهم فقال: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَٰسِقِينَ} هي جهنّم، أو

ص: 263

الدار كناية عن العاقبة في الدنيا والآخرة.

146- أمّا في الدنيا: ف{سَأَصْرِفُ} أبعّد وأردّ {عَنْ ءَايَٰتِيَ} بأن أطبع على قلوبهم فلا يفقهوا الآيات ولا يؤمنوا بها {ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} بأن تكبّروا على الأنبياء وعلى المؤمنين {وَ} هم معاندون؛ إذ {إِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ} معجزة {لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا} لا يصدّقونها، {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ} وهو طريق الهداية {لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} لهم فلا يسلكوه، {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَيِّ} وهو طريق الضلال {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} لهم فيسلكوه، وهذا دليل على شدّة عنادهم وجهلهم فاستحقّوا عقوبة الخذلان، {ذَٰلِكَ} الصرف عن الآيات {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنّهم {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} في معتقدهم ولسانهم {وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ} في عملهم فلا يتّعظون بها.

147- {وَ} أما عقوبة الآخرة: ف{ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَلِقَاءِ ٱلْأخِرَةِ} أي ملاقاة الحساب والجزاء فأنكروا البعث {حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَٰلُهُمْ} الحسنة، وذلك الحبط ليس ظلماً لهم؛ إذ {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي عملهم وهو التكذيب جزاؤه حبط أعمالهم فهم الذين ظلموا أنفسهم بسوء عملهم.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ...} الآية.

هذه الآيات تتمة لقصّة موسى (عليه السلام) في الطور حيث بقي أربعين يوماً

ص: 264

فأنزل اللّه تعالى عليه التوراة، وبيان أنّ التوراة تشتمل على المواعظوالأحكام وغيرها، وأنّ اللّه تعالى أمر موسى (عليه السلام) بأخذ التوراة بقوّة وذلك بتبليغها والعمل بها، وقال له أن يأمر بني إسرائيل بأن يعملوا بالأحكام الإلزاميّة التي فيها، ثمّ حذّر اللّه تعالى المخالفين بعقابهم.

وقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ} يدل على أنّ التوراة نزلت مكتوبة، فإمّا خلقها اللّه مكتوبة بقدرته، أو أمر بعض الملائكة بكتابتها.

وقوله: {ٱلْأَلْوَاحِ} اللوح هو قطعة مسطّحة من الخشب أو الحجر أو نحوهما، روي أنّها كانت من زمرّد أو زبرجد(1).

وقوله: {مِن كُلِّ شَيْءٖ} في محل مفعول {كَتَبْنَا} و«من» إمّا للتبعيض وكأنّ المراد القواعد العامّة والخطوط العريضة لكل ما يحتاجون إليه، أو ابتدائيّة فالمعنى وكتبنا له في الألواح المواعظ من كل شيء.

وقوله: {مَّوْعِظَةً} بدل عن {كُلِّ شَيْءٖ}.

وقوله: {وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ} عطف الجملة على الجملة فيكون معطوفاً على قوله: {مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْعِظَةً}، أي وكذلك كتبنا تفصيلاً لكل شيء، وقيل: {وَتَفْصِيلًا} عطف على {مَّوْعِظَةً} عطف الكلمة على الكلمة أي وكتبنا الموعظة والتفصيل، أو أن يكون {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا} حال أي كتبنا من كل شيء حال كونه موعظة وتفصيلاً لكل شيء، والأوّل أقرب.

ثمّ إنّ قوله: {مِن كُلِّ شَيْءٖ} وقوله: {لِّكُلِّ شَيْءٖ} هو بمعنى أنّا كتبنا بعض

ص: 265


1- بصائر الدرجات: 141؛ والبرهان في تفسير القرآن 4: 189؛ مجمع البحرين 2: 410.

الأمور التي تتضمّن تفصيلاً لكل شيء، فإنّ القواعد العامّة يستنبطمنها كل شيء.

وقوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٖ} أي خذ جميع الألواح فإنّك مأمور بتبليغها كلّها والعمل بما فيها كلّه، والأخذ بقوّة بمعنى الجد والعزيمة وعدم التواني.

وقوله: {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} فإنّ الناس ليسوا مأمورين بالعمل بكل ما فيها، بل يلزمهم العمل بالواجبات وترك المحرّمات الواردة فيها، وأمّا ما سوى ذلك فهم بالخيار، فأحسن ما في الكتاب هو الأحكام الإلزاميّة؛ لأنّ فيها المصلحة الملزمة وترك المفسدة الشديدة ويترتّب عليها الثواب الأكثر، كما قال سبحانه: {وَٱتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم}(1)، وقيل: أحسن ما فيها يقابل المباحات فإنّ الواجبات والمستحبات والفضائل وترك المحرّمات والمكروهات والرذائل أحسن من العمل بالمباحات.

وقوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَٰسِقِينَ} تحذير من عدم العمل بها؛ فإنّ الفاسق هو الخارج عن الطاعة، ودار الفاسقين إمّا جهنّم فالمعنى جميعكم سترون جهنّم فالمطيع ينجيه اللّه منها فلا يدخلها والفاسق سيلقى فيها فتكون داره كما قال: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ}(2)، وإمّا هو كناية عن دركاتهم ومكانهم في الدنيا والآخرة وحينئذٍ تكون الآيتان التاليتان بياناً لهذه الدار.

الثاني: قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ

ص: 266


1- سورة الزمر، الآية: 55.
2- سورة التكاثر، الآية: 5-7.

ٱلْحَقِّ...} الآية.

بيان عقوبة الرافضين للآيات في الدنيا، وذلك بالطبع على قلوبهم.

وقوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِيَ} الصرف هو الإبعاد والرد، فآيات اللّه تعالى تؤثّر في قلوب غير المعاندين، قال سبحانه: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ}(1)، وقال سبحانه: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(2)، وأمّا المعاندون فيطبع اللّه تعالى على قلوبهم فلا تنفذ فيها الآيات، عقوبةً لهم وتنزيهاً لتلك الآيات.

وقوله: {يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلْأَرْضِ} كأنّ المراد الإفساد في الأرض، أو التكبّر على المستضعفين مما يؤدّي بهم إلى عدم الإيمان بالرسل تكبّراً عليهم، أو الاستكبار على آيات اللّه تعالى بأن يروا أنفسهم أكبر وأعلى من الإيمان بها، وقيل: المعنى صرفهم عن النيل منها وإبطالها فلا يتمكّنون من ذلك لأنّ اللّه يحق الحق بكلماته ولو كرهوا، والأوّل أنسب.

وقوله: {بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ} قيد توضيحي لبيان شناعة عملهم وأنّ تكبّر الإنسان لا يكون إلاّ بالباطل.

وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ...} بيان عنادهم وسوء عملهم.

ص: 267


1- سورة المائدة، الآية: 82-83.
2- سورة الزمر، الآية: 23.

وقوله: {سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ} الرشد هو الطريق الموصل إلى الهداية، فإضافةالسبيل إليه إضافة بيانيّة أي سبيل هو طريق الهداية.

وقيل: الرشد هنا بمعنى النمو أي الطريق الموصل إلى النمو حيث إنّ الإيمان يوجب نمو الأعمال، والأوّل أقرب.

وقوله: {سَبِيلَ ٱلْغَيِّ} الغي هو طريق الضلال، والإضافة كذلك بيانيّة.

وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ...} أي ذلك الصرف عقوبة لتكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها.

وقوله: {وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَ} أي كالغافل لا يتفكّرون فيها ولا يتّعظون بها ولا يعملون بمقتضاها، وغير خفي أنّ الغفلة عنها من لوازم التكذيب بها.

الثالث: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَلِقَاءِ ٱلْأخِرَةِ حَبِطَتْ...} الآية.

بيان عقوبتهم في الآخرة وهو بطلان أعمالهم الحسنة بحيث لا يكون لهم ثواب عليها، وهذا الحبط هو جزاء عملهم وليس ظلماً لهم.

وقوله: {وَلِقَاءِ ٱلْأخِرَةِ} اللقاء هو مواجهة ومقابلة بين شيئين، ولقاء الآخرة إمّا من الإضافة إلى المفعول أي لقاؤهم الآخرةَ، أو بمعنى (في) أي لقاء أعمالهم في الآخرة، والحاصل كانوا يكذّبون بالنشور والبعث والجزاء.

وقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} الحبط هو البطلان وذهاب الأثر، وقد مرّ الكلام فيه.

وقوله: {هَلْ يُجْزَوْنَ} استفهام تقريري.

وقوله: {إِلَّا مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جزاؤهم موافق لعملهم فالحبط ليس

ص: 268

ظلماً لهم، قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءًمَّنثُورًا}(1)، وقال: {جَزَاءً وِفَاقًا}(2).

ص: 269


1- سورة الفرقان، الآية: 23.
2- سورة النبأ، الآية: 26.

الآيات 148-154

اشارة

{وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًاۘ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ 148 وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ 149 وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ 150 قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ 151 إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ 152 وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّئَِّاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ 153 وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ 154}

ثمّ بيّن اللّه تعالى قصّة انحراف بني إسرائيل عن التوحيد وعقاب اللّه تعالى لهم، فقال:

148- {وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ} صنعوا للعبادة {مِن بَعْدِهِ} بعد موسى حينما ذهب للطور وتأخّر عن الثلاثين ليلة إلى الأربعين {مِنْ حُلِيِّهِمْ} ما يتزيّنون به من الذهب والفضّة {عِجْلًا} صنماً على تمثال عجل {جَسَدًا} لا روح

ص: 270

فيه {لَّهُ خُوَارٌ} وهو صوت البقر، وكان هذا الصوت من التراب الذي قبضه السامري من تحت حافر فرس جبرئيل حين عبور البحر وهو تراب يتحرّك بطبعه فيحدث جلبة. {أَلَمْ يَرَوْاْ} استفهام إنكاري تقريعاً لهم على سفاهتهم{أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} غير قادر على الكلام فهو دون البشر فكيف اتخذوه إلهاً {وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًاۘ} لا ينفعهم مع أنّهم علموا أنّ اللّه تعالى كلّم موسى وهداهم إلى الصراط السوي فهو القادر النافع الضار، {ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ} لأنفسهم وواضعين الشيء في غير موضعه.

149- {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} كناية عن اشتداد ندمهم وكان ذلك بعد أن تفاجئوا بمجيء موسى {وَرَأَوْاْ} علموا {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} باتخاذهم العجل {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بقبول التوبة {وَيَغْفِرْ لَنَا} ذنبنا بعبادة العجل {لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ} الذين خسروا أنفسهم واستحقّوا العقاب.

150- {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ} من الطور {إِلَىٰ قَوْمِهِ} حال كونه {غَضْبَٰنَ} منهم {أَسِفًا} متحسّراً وحزيناً على فعلهم {قَالَ} لهم: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي} أي بئسما صنعتم خلفي {مِن بَعْدِي} أي بعد ذهابي {أَعَجِلْتُمْ} استفهام إنكاري أي كيف استعجلتم {أَمْرَ رَبِّكُمْ} في تنزيل الألواح حيث أردتم أن يكون بعد الثلاثين ليلة، وكان ذلك استعجالاً لوعد اللّه في تنزيلها مع أنّه أراد تنزيلها بعد الأربعين ليلة، {وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ} على الأرض لإظهار نفرته وانزجاره عن فعلهم وكان ذلك من شدّة حميّته على الدين، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} هارون {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} إظهاراً لبرائتهما منهم وأنّه ينبغي لهارون أن لا

ص: 271

يكون فيهم، {قَالَ} هارون بياناً لعذره: يا {ٱبْنَ أُمَّ} ذكر أمّهما استعطافاً وتسكيناً لغضب موسى {إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي} عدّوني ضعيفاً {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} لمّا شدّدتُ النكير عليهم {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ} أي لا تصنع بيما يوجب سرور أعدائنا {وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ} بأن تؤاخذني كما تؤاخذ {ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بعبادة العجل.

151- {قَالَ} موسى على وجه الانقطاع إلى اللّه سبحانه: يا {رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} استر علينا {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} بمزيد من الإنعام {وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ} فلذا تستجيب دعائي.

152- ثمّ بيّن اللّه عقوبة عبدة العجل فقال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ} إلهاً يعبدونه من دون اللّه {سَيَنَالُهُمْ} سيلحق بهم {غَضَبٌ} عقوبة {مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ} أي وكما جازيناهم بهذا الصنيع {نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ} الذين يتّخذون للّه شريكاً افتراءً عليه، ولم يذكر عذاب الآخرة لأنّ الغرض الأصلي في السورة بيان عذاب الدنيا.

153- {وَ} لكن إن تابوا تاب اللّه عليهم ف{ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّئَِّاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا} بعد السيئات {وَءَامَنُواْ} رجعوا إلى الإيمان كما تاب بعض عبدة العجل من عبادته ورجعوا إلى التوحيد ف{إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} بعد التوبة {لَغَفُورٌ} لذنوبهم {رَّحِيمٌ} يرحمهم بفضله بالثواب والجنّة.

154- {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ} أي سكن، فكأنّ الغضب كان يتكلّم على لسان موسى وذلك بعد أن تابوا وعوقبوا {أَخَذَ ٱلْأَلْوَاحَ} رفعها

ص: 272

عن الأرض وجعلها دستوراً لهم {وَفِي نُسْخَتِهَا} أي الكتابة التي في الألواح {هُدًى} هداية إلى الحق {وَرَحْمَةٌ} نعمة ومنفعة {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي يخشون اللّه وذلك بالعمل بها، وأمّا من لم يعمل بها فزادته خساراً.

قصة عبادة بني اسرائيل للعجل

بحوث

الأوّل: تتضمّن هذه الآيات قصّة توحيديّة أخرى مع بيان عقوبة المشركين الذين خالفوا رسل اللّه تعالى، فإنّ بني إسرائيل فترة غياب موسى (عليه السلام) صنعوا صنماً على تمثال عجل من زينتهم - من الذهب والفضّة - وقد خالفوا أمر اللّه تعالى حيث استعجلوا نزول التوراة فلمّا لم تنزل في الثلاثين يوماً بادروا إلى ترك التوحيد وعبدوا العجل، وأمّا مخالفتهم للرسل فقد خالفوا موسى (عليه السلام) أوّلاً حيث أساؤوا خلافته، وخالفوا هارون (عليه السلام) ثانياً حيث استضعفوه وكادوا أن يقتلوه، وأمّا عقوبتهم الدنيويّة فهي غضب اللّه عليهم بتشريعه قتل عبدة العجل وذلّتهم في الدنيا، ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّه يغفر ويرحم من تاب منهم وآمن، كما تتضمّن الآيات موقف موسى (عليه السلام) منهم بالغضب والأسف، وموقفه من هارون (عليه السلام) لتبرئته من فعلتهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ...} الآية.

وذلك لمّا أتم اللّه ميقاته أربعين ليلة وكانوا يظنّون أنّ موسى سيرجع إليهم بعد ثلاثين ليلة، فلمّا تأخّر عنهم زعموا أنّه مات فأظهروا الكامن في أنفسهم من حب عبادة الأصنام، وهذا دأب غالب الناس غير الكاملين عقلاً

ص: 273

وديناً حيث إنّ وجود سلطة قويّة على رؤوسهم تكون سبباً لالتزامهم بحيث لو زالت أظهروا فساد باطنهم، ولذا في الأماكن الذي تسقط الدولة نجدالكثير يشتغل بالنهب والقتل ومخالفة القانون ممّا لم يكن يفعله حين بسط السلطة، وأمّا العاقل الكامل فيلتزم بالمكارم والقانون سواء كانت هناك سلطة فوقه أم لم تكن، وبنو إسرائيل كانوا سنوات طوال تحت سيطرة آل فرعون الذين كانت لهم أصنام كثيرة كما كان عامّة الناس عبدة أصنام والضعيف يتأثّر بالقوي وخاصّة إذا كان القوي يملك السلطة والمال وسائر أنواع القوة، كما أنّ نفوسهم بسبب طول الاستعباد والذل صغرت ولأجل ذلك كانوا يطيعون موسى (عليه السلام) حينما كان قائماً عليهم رغم أنّهم كانوا يظهرون نوعاً من التمرّد والإشكال عليه، فلما غاب أظهروا مكنون نفوسهم.

وقوله: {مِنْ حُلِيِّهِمْ} حُلِيّ جمع حَلْي وهو ما يُتزيّن به من الذهب والفضّة.

وقوله: {جَسَدًا} الجسد هو جسم الحيوان ويقابله الروح، فالمعنى أنّ ذلك العجل لم يكن فيه روح وإنّما كان مجرد تمثال، فذكر كونه جسداً يفيد أنّ عجلهم لم يكن حيّاً، وفيه تسخيف لعقولهم حيث عبدوا جماداً.

وقوله: {لَّهُ خُوَارٌ} وهو صوت البقر، وهذا من تمويهات السامري - صانع العجل - عليهم فإنّه لمّا عبروا البحر رأى جبرئيل راكباً على فرس يمشي خلفهم ورأى أنّ الرمل الذي يضع الفرس حافره عليه يتحرّك ولا يسكن فقبض السامري قبضة منه، وكان هذا الرمل يتحرّك دائماً فوضعه في داخل العجل، ثمّ صنع العجل بكيفيّة بحيث إنّ أصوات حركة الرمل كانت تخرج

ص: 274

على نغمة خوار العجل، قال سبحانه: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُقَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(1).

وقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ...} استفهام إنكاري وذلك لأنّهم كانوا يعلمون أنّ اللّه تعالى كلّم موسى (عليه السلام) وأنّه هداهم إلى الصراط المستقيم، فكيف يكون العجل إلهاً وهو غير قادر على أن يكلّمهم وغير قادر على نفعهم فهو دونهم لأنّه تمثال لا حياة له بل دون الحيوانات العجماء فلئن كان له خوار فلها أصوات مع كونها حيّة، فلو كان إلهاً لم يكتف بالخوار بل كان قادراً على أن يكلّمهم.

فقوله: {لَا يُكَلِّمُهُمْ} بيان عدم قدرته، وقوله: {لَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًاۘ} بيان عدم نفعه لهم، فكيف يكون مَن شأنه هذا إلهاً؟! وفي سورة طه: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}(2).

وقوله: {وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ} أي عملهم هذا باتخاذ العجل كان ظلماً لأنفسهم ولغيرهم، وقيل: هذا بيان أنّهم كانوا ظالمين من قبل فلذا اتخذوه، فقد تعوّدوا على الظلم فلم تكن عبادتهم للعجل أوّل بدعة لهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ...} الآية.

بيان أنّهم ندموا على فعلتهم، وكان هذا بعد رجوع موسى (عليه السلام) وإحراقه العجل ونسفه، لكن قدّمه اللّه في الذكر لأنّه من تتمّة دليل عدم كون العجل

ص: 275


1- سورة طه، الآية: 96.
2- سورة طه، الآية: 88-89.

إلهاً حيث أوجب ضلالاً وخسراناً، وبيان أنّ الإله هو اللّه الذي بيده النفع والضر.

وقوله: {لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} كناية عن ظهور بطلان عملهم وانكشاف الحقيقة لهم بحيث بهتوا ولم يتمكّنوا من تبرير عملهم، وهذا مَثَلٌ سائر، قيل: أصله أنّ النادم يطأطئ رأسه ويضعها في يديه، أو أنّه يعض أصابعه فيؤثّر فيها.

وقوله: {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} أي علموا بضلالهم، وهذا شأن الحركات الغوغائيّة حيث ينساق الناس إليها تأثّراً بشهواتهم أو الجو العام فلمّا تخمد فورتهم يندمون، وفي المثل: ذهبت السكرة وجائت الفكرة.

وقوله: {لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} الرحمة هي إنزال النعمة وأمّا الغفران فهو ستر الذنوب بعدم المعاقبة عليها، فعدم قبول التوبة يؤدّي إلى العقاب، أمّا الرحمة بقبول التوبة فهي سبب عدم العقاب.

موقف موسى (عليه السلام) وتبرأة هارون (عليه السلام)

الرابع: قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفًا قَالَ...} الآية.

كان اللّه تعالى قد أخبر موسى - وهو في الطور - بفعلتهم، قال سبحانه: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ}(1)، فلذا كان موسى (عليه السلام) غضبان أسفاً عليهم قبل أن يلقاهم، وكان موقفه منهم:

أوّلاً: ذمّهم على سوء خلافتهم له وعلى استعجالهم نزول التوراة بحيث لمّا تأخّرت كفروا، وفي ذلك إرشاد للناس على أن يحسنوا خلافة الصالحين فيسيروا على ما كانوا عليه من الإيمان و الصلاح، وأن لا

ص: 276


1- سورة طه، الآية: 85.

يستعجلوا تنفيذ وعد اللّه بل عليهم أن يصبروا فإن اللّه سبحانه حكيم لا يقدّمولا يؤخّر إلاّ بمصلحة.

وثانياً: أراد تبرأة هارون (عليه السلام) عن فعلتهم لأنّه كان الخليفة عليهم فيكون مسؤولاً عن أفعالهم إلاّ لو عجر عن إرشادهم ومنعهم عن الباطل، حيث إنّ الأصل هو مسؤوليّة الرئيس عن أفعال مرؤوسيه، ولا فرق في ذلك بين الحاكم و المدير ورب الأسرة وحتى العالِم، وفي الحديث: «لأحملن ذنوب سفهائكم على علمائكم»(1)، وقال: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(2)، وفي الحديث: «ملعون ملعون من ضيّع من يعول»(3)، فلذا لا بد للرئيس من أن يقوم بواجباته من ردع الباطل والإرشاد إلى الحق، فإن لم يتمكّن كان لا بد من إظهار ذلك ليتبيّن عدم مسؤوليّته، ولذا تبرّأ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من فعل خالد بن الوليد لمّا قتل بني الجذيمة ظلماً فقال: «اللّهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد»(4)، ثمّ أرسل أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) ليصلح ما أفسده خالد فدفع ديّة القتلى، وعوّضهم الخسائر المادّية حتى ميلغة كلبهم، وزادهم عطاءً ليرضوا عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وحيث أراد موسى (عليه السلام) بيان براءة هارون (عليه السلام) عن شركهم كان لا بد من أن يصنع عملاً مثيراً جالباً للانتباه فلذا أخذ برأس أخيه ولحيته وجرّه إليه

ص: 277


1- الكافي 8: 162.
2- سورة التحريم، الآية: 6.
3- الكافي 4: 12.
4- الخصال 2: 562.

وعاتبه - عتاب من يريد ظهور الحق - وأيضاً أراد إظهار شدّة غضبه وحزنهعلى فعلتهم فقد يتعارف خطاب البريء بشدّة بغرض ذم المذنب، وفي تقريب القرآن: «إنّ هذا النحو من إظهار الغضب على الحبيب البريء لتنبيه العدو الآثم من أساليب البلاغة العمليّة، حيث إنّ الحبيب لا يحمل موجدة على حبيبه بسبب هذا العمل بخلاف ما لو عُمل بالآثم فإنّه يجعله أبعد من الصواب؛ إذ يسبّب مثل ذلك في نفسه بغضاً وعداوة زائدة، ومثل خطاب البريء ما يفعله الإنسان بنفسه عند إرادة إظهار الغضب من ضرب نفسه أو نتف شعره أو شق جيبه أو شبه ذلك»(1).

وقوله: {غَضْبَٰنَ أَسِفًا} الغضب معروف، والأسف هو الحسرة والحزن وهو غير الغضب ولذا قد يفترقان فقد يغضب من غير أسف كمن يغضب حينما يشتمه عدوه، وقد يأسف من غير غضب كتاجر يأسف على فوات منفعة تجاريّة له، وقد يجتمعان، وموسى (عليه السلام) غضب عليهم بسبب تمرّدهم، وتحسّر عليهم لأنّهم كانوا قومه وكان يريد هدايتهم وقد تحمّل المشاق في سبيل ذلك.

وقوله: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي} أي بئسما عملتم خلفي بعد ذهابي وغيابي، وأصل الجملة بئس الخلافة خلافتكم التي خلّفتموني، حذف الاسم والمخصوص بالذم اختصاراً ولدلالة {خَلَفْتُمُونِي} عليهما.

وقوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} الاستفهام إنكارى، وأمره تعالى في إنزال

ص: 278


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 249.

التوراة أي شأنه وفعله تعالى، والعجلة هي المبادرة إلى الشيء قبل أوانهووقته، عكس السبق الذي هو المبادرة إلى الشيء أوّل وقته، وكان وقت إنزال التوراة بعد الأربعين فاستعجلوه في الثلاثين فلمّا لم يجدوه كفروا، قال سبحانه: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}(1) وقال: {سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}(2)، وقال: {وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَاءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا}(3) حيث يسارع إلى ما يخطر بباله ولا ينظر إلى عاقبة أمره.

وقوله: {وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ} أي على الأرض؛ وذلك لإظهار شدّة غضبه على سوء صنيعهم، فأراد أن يجمع بين قوله الغاضب وبين عمله المظهر لشدّة غضبه ليكون أظهر وأردع لهم ليرجعوا بالتوبة، ولم يكن ذلك إهانة ولا استخفافاً بها في عرفهم، ولا يجوز أن يفعل ذلك بالقرآن مثلاً؛ لأنّ هذا في عرفنا إهانة حتى لو أريد به إظهار الغضب على العاصين.

وقوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي قبض شعره وكذلك لحيته وسحبه إلى نفسه، وهذا كما ذكرنا لبيان براءة هارون حينما يعتذر.

وقيل: إنّما فعل ذلك عتباً على هارون (عليه السلام) حيث لم يتركهم ولم يلحق نفسه بموسى (عليه السلام) في الطور كما قال: {قَالَ يَٰهَٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}(4)، واختلاف سلائق المعصومين في ما لم

ص: 279


1- سورة النحل، الآية: 1.
2- سورة الأنبياء، الآية: 37.
3- سورة الإسراء، الآية: 11.
4- سورة طه، الآية: 92-93.

يكن حراماً ليس مستبعداً كأن يكون هناك أمران حسنان فيختار أحدهما أحدالأمرين ويختار الثاني الأمر الآخر، أو يختار أحدهما الحسن فيعتب عليه الآخر لعدم اختياره الأحسن، نظير حكم داود وسليمان في الحرث حيث حكما بحكمين صحيحين لكن حكم سليمان كان أحسن، قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}(1).

وما ذكرناه أوّلاً هو الأنسب بمقام العصمة وهو الأظهر من سياق القصّة، وقد روي أنّ هارون (عليه السلام) لم يخرج منهم لأنه لو خرج لنزل العذاب عليهم(2)، وكان هارون يريد توبتهم شفقة عليهم.

وقوله: {قَالَ ٱبْنَ أُمَّ} بدأ هارون (عليه السلام) ببيان عذره باستعطاف موسى (عليه السلام) بذكر أمّهما حيث أراد أن يثير في نفسه العاطفة والحنان ليسكن غضبه، وقد بيّن أمرين وطلب طلبين، أمّا الأمران فهما:

1- قوله: {إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي} أي حسبوني ضعيفاً فلذلك تمرّدوا عليّ، فليس تمرّدهم بسبب سوء إدارتي لهم وسوء خلافتي لك بل بسبب خبث ضمائرهم حيث وجدوا القوّة في أنفسهم، ولعلّ ذلك لأنّه لم يكن لهارون (عليه السلام) معجزة مباشرة بل معجزته كانت نفس المعاجز التي كانت تظهر على يد موسى (عليه السلام) فلذا لم يهابوا جانبه.

2- قوله: {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} بيان أنّ هارون قام بوظيفة النهي عن المنكر وأدّى ما تمكن منه بحيث قاربوا أن يقتلوه كما قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ

ص: 280


1- سورة الأنبياء، الآية: 79.
2- علل الشرائع 1: 68.

هَٰرُونُ مِن قَبْلُ يَٰقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي *قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ}(1).

وأمّا المطلبان:

فأوّلهما: قوله: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ ٱلْأَعْدَاءَ} أي لا يكن عملك بأخذ رأسي وجرّه إليك ومعاتبتي سبباً لأن يشمت الأعداء بي، و(الشماتة) هي إظهار السرور بمصيبة الغير وخاصة العدو، وكأنّ المراد إنّك يا موسى وإن قصدت بفعلتك إظهار غضبك على عبادتهم العجل لكن لا يكن عملك سبباً لأن يتصوّر الأعداء أنّك تنهرني أنا أيضاً.

وثانيهما: قوله: {وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ} أي لا تغضب عليّ كما غضبت عليهم ولا تعاقبني كما تعاقبهم، والفرق أنّ الشماتة من الأعداء والعقوبة من موسى (عليه السلام) ، فإنّ المجرم يبتلى بأمرين: أحدهما نفسي وهو سرور الأعداء بمصيبته، والآخر عقوبته بواسطة من بيده الأمر.

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ}.

لمّا تبيّن لموسى (عليه السلام) ولسائر الناس عذر هارون (عليه السلام) وأنّه لم يكن مقصّراً حيث أدّى وظيفته بأحسن أداء، توجّه موسى (عليه السلام) إلى اللّه تعالى داعياً لهما، وذلك على سبيل الانقطاع والتضرّع إليه، فإنّ المؤمن إذا قام بوظيفته توجّه إلى اللّه تعالى لقبولها والثواب عليها.

ص: 281


1- سورة طه، الآية: 90-91.

وقوله: {ٱغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} استغفاراً من غير ذنب ارتكباه وإنّما لعدمتمكّنهما من منع عبادة العجل، وقد مر أنّ الإنسان إذا عجز عن القيام بما يليق فإنّه وإن كان معذوراً إلاّ أنّه يعتذر لعدم قدرته.

وقوله: {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} بمزيد من الإنعام واللطف وبالجنّة، فالغفران رفع نقص والرحمة إنزال نفع.

وقوله: {وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ} يقال هذا في آخر الدعاء استعطافاً وتضرّعاً.

السادس: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ...} الآية.

الظاهر أنّه بيان عقوبتهم في الدنيا - كعقوبة سائر الأقوام الكفرة المذكورين في هذه السورة - فقوله: {فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} يتعلّق بالغضب والذلّة كليهما.

فأمّا الغضب: فهو عقوبة اللّه تعالى عليهم وذلك بأن شرّع اللّه عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فلمّا بدأوا بذلك وقُتل البعض منهم رفع اللّه عنهم هذه العقوبة وقَبِل توبتهم.

وأمّا الذلة: فالظاهر أنّها ترتبط بمن لم يتب منهم كالسامري حيث أذلّه اللّه تعالى فقال: {قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ}(1).

ص: 282


1- سورة طه، الآية: 97.

وقيل: إنّ هذا القضاء بالغضب والذلّة جرى على نسلهم ممن رضيبعبادة العجل أو اتّبع عبدته في التمرّد على أحكام اللّه تعالى فيشمل اليهود من بعدهم حيث {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ}(1).

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ} أي العقوبة الدنيويّة بالغضب والذلّة سنة عامة لجميع من يفتري على اللّه تعالى، وأيّ افتراء أعظم من القول بأنّه دعى إلى الشرك وأنّ الأصنام آلهة الناس؟!

السابع: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّئَِّاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ...} الآية.

بيان أنّ اللّه لا يعذّب في الآخرة من تاب وآمن من عبدة العجل، وقد قبل توبتهم، قال سبحانه: {ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَٰلِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(2)، وأمّا العقوبة الدنيويّة بقتل بعضهم بعضاً فلم ترفع إلاّ عن بعضهم، وفي هذه الآية بيان القاعدة العامّة للغفران والرحمة لمن تاب عن ظلمه وآمن.

وقوله: {ثُمَّ تَابُواْ} التوبة عن ظلمهم كعبادة العجل، وهذا لوحده لا يكفي بل لا بد من أن يقترن بالإيمان باللّه تعالى ولذا عطف عليه قوله: {وَءَامَنُواْ}، فلا يكفي مجرّد نفي ألوهيّة غير اللّه تعالى بل لا بد من إضافة الإيمان باللّه تعالى ولذا كانت كلمة التوحيد هي (لا إله إلاّ اللّه).

وقوله: {تَابُواْ مِن بَعْدِهَا} أي بعد السيّئات، وفيه إشعار بأنّ شرط قبول

ص: 283


1- سورة البقرة، الآية: 61.
2- سورة البقرة، الآية: 51-52.

التوبة هو عدم الرجوع إلى السيّئة فلا تكون التوبة في وسط السيّئات بلبعدها، وأمّا من رجع إلى عمل السيّئات فقد أبطل توبته إلاّ أن يتوب من جديد.

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي بعد التوبة، وفيه إشعار بأنّ وعد الرحمة والغفران إنّما هو للتائب، أمّا غير التائب فلا وعد له، بل إن كان مشركاً فلا غفران له، وأمّا ما دون ذلك فهو في مشيّئة اللّه إن شاء غفر له بفضله وإن شاء عذّبه بعدله، قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1).

الثامن: قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلْأَلْوَاحَ...} الآية.

بيان أنّ التوراة كتاب هداية ونور وأنّ موسى (عليه السلام) لم يُلقها استخفافاً بها، وأنّ عبادتهم العجل لم تمنع من الاهتداء بها بعد توبتهم.

وقوله: {سَكَتَ} أي سكن، والسكوت مختص بترك الكلام(2)، وهذا تعبير كنائي فكأنّ الغضب كان هو المتكلّم، فالسكوت سكوته، وفي ذلك بيان شدّة غضب موسى (عليه السلام) ، وقيل: «عبّر عن سكون الغضب وإطفائه بالسكوت تنبيهاً على أنّ الغضب كان هو الحامل له على ما فعل والآمر له به والمغري عليه، وهذا من البلاغة في الكلام»(3).

وقوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا} أي ما كُتب فيها، وأصل النسخ الإزالة، يقال:

ص: 284


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- المفردات للراغب: 416.
3- التفسير الصافي 3: 249.

نسخت الشمس الظل أي أزالته، وأطلق على الكتابة لأنّها تبقى بعد زوالالحادثة التي كتبت أو زوال الكتاب المنقول عنه، وإطلاقه على التوراة لأنّها كتابة ولأنّها نسخت الشرائع السابقة.

وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةٌ} أي ما يوجب الهداية وسائر النِعم، فمن يعمل بها يهتدي ويتنعّم.

وقوله: {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي يرهبون ربّهم، فلمّا قدّم ربّهم أضيفت اللام لتقوية الكلام، والرهبة هي طول الخوف واستمراره، وقيل: هي خوف بشرط، أي العلم بوقوع الضرر بشرط حصول شيء وإن لم يحصل الشرط لم يقع الضرر(1)، والحاصل: أنّ الذين يخافون اللّه دائماً ويعلمون أنّ معصيته توجب استحقاق عقوبته هؤلاء هم الذين يهتدون بالألواح وينالون الرحمة التي تكون في العمل به.

ص: 285


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 261.

الآيتان 155-156

اشارة

{وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَٰتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَٰفِرِينَ 155 وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلْأخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ 156}

ثمّ يذكر اللّه تعالى قصّة توحيديّة أخرى حيث أصاب العذاب الدنيوي من شبّه اللّه تعالى، فقال:

155- {وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ} أي من قومه {سَبْعِينَ رَجُلًا} ممن كان ظاهرهم الصلاح {لِّمِيقَٰتِنَا} الموعد الذي واعدناه ليسمعوا تكليم اللّه إيّاه فيخبروا قومهم، لكنّهم سفهوا فطلبوا رؤية اللّه سبحانه فأهلكهم {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ} وهي الصاعقة التي أرجفت قلوبهم وأبدانهم {قَالَ} موسى متضرّعاً داعياً لإحيائهم: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ} أي قبل إتيانهم إلى الميقات {وَإِيَّٰيَ} أهلكتني معهم، وقد خشي موسى (عليه السلام) أن يتّهمه الناس بأنّه قتلهم فيرتدّوا، {أَتُهْلِكُنَا} الاستفهام بمعنى الاستعطاف والرجاء أي إهلاكنا خلاف رجائنا فيك {بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاءُ مِنَّا} حيث طلبوا

ص: 286

الرؤية وعاندوا، {إِنْ هِيَ} هذه الرجفة {إِلَّا فِتْنَتُكَ} امتحان للناس ليعتبرواوللّهالكين بعد إحيائهم {تُضِلُّ بِهَا} بهذه الفتنة {مَن تَشَاءُ} وهو الذي عاند ولم ينتفع بالهداية {وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ} ممّن أحسن ضميره وعمله، ثمّ تضرّع لإحيائهم قائلاً: {أَنتَ وَلِيُّنَا} مولانا القائم بأمورنا {فَٱغْفِرْ لَنَا} ذنوبنا {وَٱرْحَمْنَا} بالتفضّل علينا بالثواب والنِعم {وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَٰفِرِينَ} لأنّ غفرانك بمقتضى المصلحة ومن غير إذلال.

156- {وَٱكْتُبْ} قدّر واقض {لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً} بحسن المعيشة والتوفيق للطاعة، {وَفِي ٱلْأخِرَةِ} حسنة بالجنّة والرضوان، ثمّ علّل دعائه هذا بقوله: {إِنَّا هُدْنَا} رجعنا {إِلَيْكَ} بتوبتنا. {قَالَ} اللّه تعالى جواباً لموسى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} ممّن استحقه بالكفر أو المعصية {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ} في الدنيا من مؤمن وكافر، ومطيع وعاص وغيرهم ولذا تشمل هذه الرحمة العصاة، وفي ذلك تلويح باستجابة دعاء موسى بإحياء السبعين، لكن في الآخرة الرحمة خاصّة {فَسَأَكْتُبُهَا} الرحمة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} المعاصي {وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ} وهذا مَثَل لإطاعتهم الأوامر {وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ} فصحّت عقيدتهم، ومن الآيات دلائل التوحيد ونبوّة الأنبياء وإمامة الأئمة وما جاء في الكتب من المعاد وغير ذلك، والحاصل الرحمة في الآخرة خاصّة بمن آمن وعمل صالحاً.

قصة عذاب السبعين رجلاً من قوم موسى (عليه السلام)

بحوث

الأوّل: ظاهر السياق - والذي دلّت عليه الرواية أيضاً - أنّ هذه القصّة هي

ص: 287

جزء من قصّة مواعدة موسى (عليه السلام) لتسلّم الألواح، أي إنّ موسى (عليه السلام) لمّاأخبر بني إسرائيل بأنّ اللّه يريد أن ينزّل عليه التوراة وواعده ثلاثين يوماً طلبوا منه أن يصحبوه إلى الطور ليسمعوا كلام اللّه ويروا نزول الألواح، فاختار منهم سبعين رجلاً من أفاضلهم، فلمّا سمعوا كلام اللّه تعالى طلبوا أن يروه سبحانه! فأنكر عليهم موسى (عليه السلام) ذلك، لكن اللّه أجاز له أن يسأل مسألتهم، فلمّا قال: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} تجلّى اللّه تعالى للجبل فجعله دكّاً وأرسل صاعقة أرجفت قلوب السبعين فماتوا عقوبة لهم على تماديّهم في الغي وعنادهم وتجسيمهم اللّه سبحانه، فالقضيتان من قصّة واحدة، وإنّما فرّقهما اللّه تعالى لأجل أن كل قضيّة فيها عبرة وهداية مستقلّة، والقرآن كتاب هداية وليس مجرد كتاب قصّة، ولذا يذكر من القصص ما يكون فيه العبرة وما يناسب الموضوع الذي يراد بيانه في السورة، ولذا قد يذكر قصّة واحدة في عدّة سور بالإيجاز تارة وبالتفصيل أخرى، وقد يذكر جانباً في سورة وجوانب أخرى في سورة أخرى، وقد يجمع بين قصّتين مختلفتين، وقد يفرّق بين قصّة واحدة، كل ذلك بحكمة وبلاغة.

فعن الإمام الرضا (عليه السلام) - في حديث - أنّه قال: «ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى (عليه السلام) إلى الطور وسأل اللّه تعالى أن يكلّمه ويُسمعهم كلامه، فكلّمه اللّه وسمعوا كلامه... فقالوا: لن نؤمن بأنّ هذا الذي سمعناه كلام اللّه حتّى نرى اللّه جهرة، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث اللّه عليهم الصاعقة - يعني ناراً وقع من السماء - فأخذتهم الصاعقة بظلمهم

ص: 288

فماتوا، فقال موسى: يا رب، ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا:إنّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنّك لم تكن صادقاً في ما ادّعيت من مناجاة اللّه عز وجل إيّاك؟! فأحياهم وبعثهم معه، فقالوا: إنّك لو سألت اللّه أن يريك تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته! فقال موسى: يا قوم، إنّ اللّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفيّة له، وإنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله! فقال موسى: يا ربّ، إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى اللّه إليه، يا موسى، سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَىٰنِي...}(1)»، الحديث(2).

وهذه الرواية تفصيل لهذه الآية ولآيات أخرى حيث قال سبحانه في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(3)، وفي سورة النساء: {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا}(4).

ص: 289


1- سورة الأعراف، الآية: 143.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 195؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 181-183.
3- سورة البقرة، الآية: 55-56.
4- سورة النساء، الآية: 153.

الثاني: قوله تعالى: {وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَٰتِنَا...} الآية.

كان اختياره من أفاضلهم ليسمعوا كلام اللّه تعالى حين تكليمه موسى،فهؤلاء عاندوا ليروا اللّه سبحانه، والباقين كفروا فعبدوا العجل! ولم يبق إلاّ موسى وهارون وأقل القليل منهم على الإيمان، ثمّ تابوا بعد ذلك، وكان اللّه تعالى يربّيهم بالآيات المختلفة ويتجاوز عنهم لأنّه فضّلهم على العالمين فأراد أن يكونوا حملة التوحيد وواسطة لهداية سائر الناس.

وقوله: {قَوْمَهُ} منصوب بنزع الخافض أي من قومه.

وقوله: {لِّمِيقَٰتِنَا} هو الذي أشار إليه في الآية 142: {وَوَٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَٰهَا بِعَشْرٖ}.

وقوله: {ٱلرَّجْفَةُ} مر نظيره في قصّة قوم صالح وقوم شعيب، حيث نزلت صاعقة أرجفت قلوبهم أو أرجفت الأرض بالزلزال.

وقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ} قيل: (لو) هنا للتمنّي أي ليتك أهلكتهم حينما كانوا مع قومهم، وإنّما تمنّى ذلك لأنّه علم أنهم سيتّهمونه بقتلهم ويكذّبونه في تكليم اللّه إيّاه ويرتدّون عن الدين بذلك.

وقوله: {مِّن قَبْلُ} دليل على أنّ اللّه أهلكهم كما دلّت عليه الآية 55 من سورة البقرة، فلا يصغى إلى ما ذكره البعض من أنّهم لم يموتوا.

وقوله: {وَإِيَّٰيَ} أضاف نفسه - مع أنّه كان بريئاً من عملهم - تضرّعاً إلى اللّه تعالى وليكون مقدّمة لتضرّعه لإحيائهم حيث خلط نفسه بهم في التضرّع اللاحق.

ص: 290

وقوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاءُ} هذا استفهام يقصد به الرجاء والاستعطاف فالسبعون كانوا سفهاء، وموسى (عليه السلام) نبي اللّه الكامل العقل،فأراد التضرّع بأن لا يؤاخذ اللّه المجموع بفعل السفهاء فخلط نفسه بهم في قوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ} ثمّ تضرّع بقوله: {أَتُهْلِكُنَا} أي أنا والسبعين وقال: {بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاءُ مِنَّا} أي السبعين، فكأنّه جعل نفسه معهم ليرتفع عنهم العذاب بإحيائهم بشفاعته، وكأنّه طلب منزلة الرسول الأعظم محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث قال اللّه تعالى عنه: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}(1)، ويدل على أنّ اعتقاد إمكان رؤية اللّه والعناد عليه سفه يستوجب العذاب.

الثالث: قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ...} الآية.

أي إنّ الرجفة وإهلاكهم هو امتحان لبني إسرائيل، وهذا تتمّة تضرّع موسى (عليه السلام) وشفاعته لإحيائهم ببيان أنّ اللّه امتحنهم والهداية والضلال بيده سبحانه فهؤلاء ضلّوا في الامتحان لكن المغفرة والرحمة بيده أيضاً، وعليه فيتضرّع إليه ليهديهم ويغفر لهم ويرحمهم وهذا فيه تلويح بإحيائهم أيضاً؛ إذ لا هداية إلاّ في الدنيا وأمّا ما بعد الموت فهو حساب وجزاء إمّا إلى جنّة وإمّا إلى نار.

وقوله: {فِتْنَتُكَ} قد مرّ أنّ (الفتنة) هي إلقاء الذهب في النار ليتبيّن الخالص من المغشوش، قال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ}(2)، فالمعنى إنّ اللّه

ص: 291


1- سورة الأنفال، الآية: 33.
2- سورة الذاريات، الآية: 13.

قادر على إهلاكهم من قبل لكن أخّر إهلاكهم إلى الميقات ليكون ذلك امتحاناً؛ إذ لو هلكوا في ديارهم لكان موتهم كسائر الميتات لا امتحان فيه.

وقوله: {وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ} ولم يقل تهدي بها كما قال في الضلال {تُضِلُّ بِهَا} قيل: إنّ الإضلال إنّما يكون في الفتن دون غيره حيث يسقط البعض فيها بسوء اختيارهم، وأمّا الهداية فهي عامّة في كل وقت سواء وقت الفتنة أو في سائر الأوقات! ولكن الأقرب أنّ عدم ذكرها في الهداية اختصاراً وإيجازاً وهو أنسب بالبلاغة لأنّه يُعلم مما سبق؛ وذلك لأنّ الكلام في الفتنة حيث يسقط فيها البعض لإضلال اللّه سبحانه لهم بسوء اختيارهم ويهتدي فيها البعض لهداية اللّه تعالى لهم بحسن اختيارهم.

وقوله: {أَنتَ وَلِيُّنَا} الولي بمعنى الأولى بالتصرّف والمولى أي إنّ دعائي هو تضرّع لك وليس تعنّتاً وإنّ فعلك بإهلاكهم بسبب أنّك الولي الحميد، ولكن حيث كنت الولي فنستعطفك الرحمة والمغفرة.

وقوله: {فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا} أي اغفر لي وللسبعين وارحمنا جميعاً وذلك بإحيائهم وهدايتهم والعفو عنهم.

وقوله: {خَيْرُ ٱلْغَٰفِرِينَ} لأنّ مغفرته بحكمة ولطف مع قدرته على كل شيء تقتضيه المغفرة كالإحياء في هذا المورد.

الرابع: قوله تعالى: {وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلْأخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}.

لمّا دعا موسى (عليه السلام) لإحيائهم ومغفرتهم ورحمتهم أراد أن تستمر هذه

ص: 292

الرحمة ما داموا في الدنيا وفي الآخرة أيضاً، ولذا دعا بأن يقدّر اللّه تعالى له ولهم الحياة الطيّبة في الدنيا والآخرة ويعلّل ذلك بأنّهم رجعوا إلى اللّه تعالىبالتوبة فليزدهم من فضله بثباتهم عليها.

وقوله: {ٱكْتُبْ} أي قدّر لنا، وعبّر عنه بالكتابة لأنّها أثبت وأدوم فأراد تقديراً ثابتاً.

وقوله: {حَسَنَةً} جنس شامل لكل أنواع الخير ويجمعه حسن المعيشة والتوفيق للطاعة في الدنيا، وأمّا حسنة الآخرة فهي كل أنواع رحمته فيها وخاصّة الجنّة والرضوان.

وقوله: {هُدْنَا إِلَيْكَ} هاد بمعنى رجع بسلامة فالمقصود التوبة إليه، والعرب قد تصوغ الأفعال من بعض الأسماء كما أنّها قد تصوغ الأسماء الجامدة من بعض الأفعال أيضاً، واسم (اليهود) إمّا اشتق من هذا الفعل، أو إنّ فعل هاد هوداً صيغ من اسمهم.

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ...} الآية.

هذا بيان استجابة دعاء موسى (عليه السلام) بإحيائهم والمعيشة الحسنة لهم في الدنيا، وأمّا في الآخرة فلم يعد اللّه تعالى الحسنة لهم فيها إلاّ لو آمنوا وأطاعوا، فاستجابته للدعاء للآخرة مشروط.

وقوله: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} بيان أنّ عذابهم بإهلاكهم لأنّه تعالى شاء ذلك، ولا يشاء اللّه شيئاً عبثاً واعتباطاً سبحانه وتعالى، وإنّما لأنّهم استحقّوا ذلك العذاب بسوء اختيارهم حيث عاندوا وأساؤوا الأدب

ص: 293

واستهانوا بمقام اللّه سبحانه، فهذا جواب قول موسى: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ} ببيان أنّ إهلاكهم هذا كان على وجه العذاب ولذا أصابهم به،وأمّا إهلاكهم لو كان قبل ذلك فلم يكن عذاباً وإنّما ميتة بأجل ولم يكن أجلهم قد حان بعد.

وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ} فإنّ أصل خلق الأشياء وتدبير أمرها هي رحمة عظيمة من اللّه تعالى وقد شملت البر والفاجر والإنسان والحيوان بل حتى الجمادات فإنّها رحمة للأحياء، وفي هذا تلميح بأنّ اللّه سيحييهم لأنّها رحمة تنالهم.

وقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا} أي في الآخرة؛ وذلك لأنّ اللّه لم يمنع الكفّار من رحمته في الآخرة إلاّ لسوء اختيارهم، وإلاّ فالرحمة لا قصور فيها، بل مرّت الرواية بأنّ اللّه يخلق لكل إنسان مكاناً في الجنّة فإن آمن ناله بفضل اللّه تعالى وإن كفر منع عنه وأورثه اللّه سائر المؤمنين.

رحمة اللّه في الدنيا والآخرة وشروطها

وسيكتبها اللّه بثلاثة شروط:

1- قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي يتّقون المعاصي ولعلّ تقديمه لأنّ الكلام في عصيان وتمرّد السبعين فناسب تقديمه.

2- وقوله: {وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ} مثال للالتزام بالواجبات ومن أصعبها إعطاء الزكاة.

3- وقوله: {وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ} والآيات تشمل عامة أصول الدين ودلائلها، والمراد إيمانهم باللّه ورسله واليوم الآخر وسائر أصول الدين.

ص: 294

الآيتان 157-158

اشارة

{ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلْأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ 157 قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلْأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 158}

157- ثمّ بيّن اللّه تعالى «الذين بآياتنا يؤمنون» بقوله: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} بالتسليم والطاعة {ٱلرَّسُولَ} رسول اللّه إلى الناس {ٱلنَّبِيَّ} الذي أوحى اللّه إليه {ٱلْأُمِّيَّ} من أم القرى وهي مكة ولم يتعلّم عند أحد وإنّما علّمه اللّه تعالى كل شيء. وهذا النبي يدل على وجوب اتّباعه النقل والعقل، أمّا النقل: فهو {ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ} أي يجدون اسمه ووصفه {مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ} بشّر به اللّه تعالى فيهما، وأمّا العقل: فيدل على وجوب اتّباعه لأجل أفعاله؛ إذ {يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ} ما يعرفه العقل، {وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ} ما ينكره العقل، {وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ} ما حسن من المستلذّات، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ} ما تستقذره النفوس المستقيمة، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ

ص: 295

إِصْرَهُمْ} الحِمل الثقيل كالتكاليف الشاقّة {وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ماقيّدتهم كالعادات السيّئة، فهذا نعته وعليهم أن يتّبعوه، ثمّ بيّن الأتباع بقوله: {فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ} بنبوّته {وَعَزَّرُوهُ} عظّموه ووقّروه {وَنَصَرُوهُ} على الأعداء {وَٱتَّبَعُواْ} بالعمل {ٱلنُّورَ ٱلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} وذلك الثقلان: القرآن والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) {أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالخير في الدنيا والآخرة.

158- ثمّ عمّم الخطاب لكل الناس بعد أن كان موجّهاً إلى بني إسرائيل فقال: {قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ولا إله آخر لكم حتّى تزعموا أنّه لا يلزمكم إطاعة اللّه في اتّباع رسوله فهو {ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا شريك له ولا معبود سواه، وهو الذي {يُحْيِ وَيُمِيتُ} فهو الرب ورجوعكم يوم القيامة إليه، وحيث علمتم ذلك {فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ} الواحد من غير شريك {وَ} آمنوا ب{رَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلْأُمِّيِّ} فهو الذي بشّرت التوراة والأنجيل به، وهو {ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِ} كتبه وأنبيائه السابقين {وَٱتَّبِعُوهُ} فإنّ الإيمان من غير طاعة لا يكفي {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى طريق الجنّة والرضوان بهذا الإيمان والاتّباع.

بحوث

الأوّل: هاتان الآيتان تتمّة لأوصاف الذين وعد اللّه موسى (عليه السلام) بأن يكتب رحمته الخاصّة عليهم، وكان استجابة لدعاء موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل، فوصفهم اللّه بالتقوى وإيتاء الزكاة والإيمان بآياته، ثمّ وصفهم بوصف آخر

ص: 296

وهو اتّباعهم لرسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع ذكر أوصافه، ثمّ بعد ذلك يأمر اللّهعامّة الناس - من بني إسرائيل وغيرهم - باتّباعه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهاتان الآيتان كالجملة المعترضة في وسط قصص بني إسرائيل ولعل ذلك لأنّ الغرض من هذه السورة هو الدعوة إلى التوحيد واتّباع الرسل، فذكر قصص الأنبياء وأممهم وعذاب العصاة منهم كلّه لأجل أن يؤمن الناس باللّه وبرسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي التقريب: «وفي هذا الجو الرقيق الذي ترقّقت فيه قلوب بني إسرائيل، يشير سبحانه إلى النبي الأمّي ليتركز في قلوبهم، فإنّ الأمور تتركّز في القلوب أكثر إذا رقّت»(1).

أوصاف رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

الثاني: قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلْأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ}.

هذا عطف بيان على قوله: {وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ} فهو تتمّة لأوصاف بني إسرائيل ممّن وعدهم اللّه، فالمعنى الذين يؤمنون هم الذين يتّبعون رسول اللّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهؤلاء هم الذين ستكتب لهم الرحمة الخاصّة في الآخرة بالجنّة والرضوان.

وقوله: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ} غير خفي أنّ الذين لم يدركوا رسول اللّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان الواجب عليهم الإيمان به (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمّا عملهم فهو اتّباع شريعة موسى أو عيسى (عليهما السلام) ، وأمّا الذين أدركوه من بني إسرائيل فالواجب عليهم اتّباعه، فالتعبير بقوله: (يتّبعونه) لأجل أنّ الغرض في زمان نزول الآية

ص: 297


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 253-254.

هو اتّباعه أمّا الذين لم يدركوه فقد انقضى عهدهم وتكليفهم، فلذا تمتغليب جانب المعاصرين، ويمكن أنّ يقال: إن اتّباع كل شخص بحسبه، فالذي لم يدركه اتّباعه هو في الإيمان به فقط، والذي أدركه فاتّباعه هو بالإيمان به وطاعته.

وقوله: {ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ} الرسول هو الذي كلّفه اللّه بتبليغ شيء إلى الناس، والنبي هو الذي يوحي إليه اللّه تعالى مشتق من النبأ، وبعض الأنبياء لهم كلا المنصبين فيوحي اللّه إليهم ويأمرهم بتبليغ رسالة، وبعضهم يوحي إليهم من غير تكليفهم برسالة، وهناك فروق أخرى بين الصنفين ذكرت في الروايات(1)، وذكر الرسول وإن كان يُغني عن ذكر النبي لأنّ كل رسول نبي، إلاّ أنّ ذكرهما معاً تعظيم وتفخيم لشأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو لعلّ بني إسرائيل كانوا يزعمون أنّ هناك رسولاً غير نبي، أو لأجل بيان أنّه من جنس البشر لأنّ الملائكة قد يكونون رسلاً ولا يكونون أنبياء، قال سبحانه: {ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلَٰئِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ ٱلنَّاسِ}(2).

وقوله: {ٱلْأُمِّيَّ} بيان أنّه ليس من بني إسرائيل، وهو نسبة إلى أم القرى كما في بعض الأحاديث(3)، وأمّا من زعم بأن القاعدة هي النسبة إلى المضاف إليه لو كان المضاف أباً أو أماً، فعلى فرض صحة القاعدة إلاّ أنّ

ص: 298


1- راجع شرح أصول الكافي، للمؤلّف 3: 50-66، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة، وباب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث.
2- سورة الحج، الآية: 75.
3- تفسير العيّاشي 2: 31.

الاستثناءات في باب النسبة كثيرة ترتبط بالسماع وقد ذكرت في كتبالصرف فليكن الأمّي منها، كما أنّ الأمّي يطلق على من لم يتعلّم القراءة والكتابة عند أحد نسبة إلى الأم، فبهذا المعنى أيضاً كان الرسول أمّيّاً لأنّه لم يتعلّم عند بشر قط وإنّما اللّه علّمه كل العلوم بالوحي ومنها القراءة والكتابة رغم أنّ الرسول لم يستعملهما قط لا قبل البعثة ولا بعدها، قال سبحانه: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ}(1).

وقوله: {ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا...} وقد حرّفوا التوراة والإنجيل وكان من ضمن ما حرّفوه هو أنّهم أزالوا اسم النبي محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ومع ذلك ففي المحرّفة منهما قد بقيت بعض الإشارات إليه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد مر بعض الكلام في ذلك، وهذا دليل نقلي على وجوب اتّباعهم فإنّ بني إسرائيل يؤمنون بالتوراة، ومن آمن منهم بالمسيح (عليه السلام) يؤمنون بالإنجيل أيضاً، وقد بشّر الكتابان برسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمرا الناس بالإيمان به واتّباعه، فلا بد لهم من العمل بذلك.

الثالث: قوله تعالى: {يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ...} الآية.

كأنّه بيان الدليل العقلي على وجوب اتّباعه، فالعقل يدل على لزوم العمل بالمعروف وترك المنكر واستعمال الطيّبات وترك الخبائث ورفع الحمل الثقيل وترك الأمور التي تقيّد الإنسان، وحيث إنّ النبي محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يأمر

ص: 299


1- سورة العنكبوت، الآية: 48.

ويبيّن كل ذلك فلا بد عقلاً من اتّباعه، وفي ذلك حث لهم على اتّباعه لأنّه في مصلحتهم ويطابق عقولهم.

وقوله: {يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ} هو ما عرف حسنه العقل والشرع.

وقوله: {وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ} وهو ما لم يعرف العقل والشرع حسنه بل أنكراه، والحاصل إنّ أمر الرسول محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونهيه ليس بالهوى وإنّما هو بحكمة، عكس سائر القوانين التي قد تكون اعتباطية أو يجهل واضعوها سوءها وعبثها.

وقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ} الطيّب هو كل شيء حسن ملائم لذوق الإنسان ممّا لا تكون له عاقبة وخيمة، والطيّبات تشمل المأكل والمشرب والمنكح وغيرها، وحيث إنّ الإنسان يجهل الكثير من الحقائق فقد لا يعرف الطيّب الواقعي فلا بد له من أن يأخذ علمه من أهله وهم الذين علّمهم اللّه تعالى ولذا ورد تأويلها بأخذ العلم من أهله(1)، وهكذا قد لا يعرف الخبائث جهلاً بها فكان تأويل الخبائث بالأخذ من غيرهم، بل قد يكون هذا ذكر المصداق لأنّ الكلمة قد تكون طيّبة وقد تكون خبيثة كما قال: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ}(2)، وقال: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}(3).

وقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰئِثَ} وهي كل قبيح لا يلائم النفوس المستقيمة حتى وإن طابق الشهوات، فالطعام الحلو الذي يستلذّه الإنسان إذا

ص: 300


1- راجع الكافي 1: 429، عن الإمام الباقر (عليه السلام) .
2- سورة إبراهيم، الآية: 24.
3- سورة إبراهيم، الآية: 26.

كان مسموماً فهو خبيث، والخمر والخنزير وإن استلذ بهما أصحاب الشهوات إلاّ أنّهما من أخبث الخبائث.

وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} الإصر هو الحمل الثقيل، ولذا قيل فيه: هو الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحركة لثقله، ومنه التكاليف الشاقة، فالشريعة الإسلامية سهلة سمحاء، وإن منعت بعض الشهوات فإنّما هو لقبحها، والقبيح حمل ثقيل وإن استلذّه الإنسان الجاهل.

وقوله: {وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الغل هو القيد يوضع على اليد أو الرِجل فيقيّد حركة الإنسان، ومنه العادات والتقاليد السيّئة التي انتشرت بين الناس نتيجة جهلهم، والإسلام يمنع من العادات السيّئة ويطلق الحرّيات في كل شيء إلاّ القليل من المحرّمات التي هي أضرار، والقليل من الواجبات التي هي منافع ومصالح دنيويّة وأخرويّة.

الرابع: قوله تعالى: {فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ...} الآية.

بعد بيان أوصاف النبي محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يبق بد من لزوم الإيمان به واتّباعه، وقد بيّن اللّه أنّ الفلاح لهؤلاء.

وقوله: {وَعَزَّرُوهُ} أصل مادة (ع ز ر) بمعنى المنع، والمراد هنا توقيره وتعظيمه لأنّ ذلك سبب منع الاستهانة به.

وقوله: {وَنَصَرُوهُ} أي على أعدائه، ويمكن أن يكون العكس بأن يكون {عَزَّرُوهُ} بمعنى منع الأعداء عنه و{نَصَرُوهُ} بمعنى تقويته، وإنكان الأمران متلازمين.

ص: 301

وقوله: {وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ...} هذا النور هو الثقلان - كتاب اللّه وعترته أهل بيته (عليهم السلام) - والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر بالتمسّك بهما وبيّن أنّ من تمسّك بهما لن يضل أبداً، والحياة مظلمة فلا بد من نور ينيرها ويرفع الضلال، وقد جعل اللّه ذلك النور في القرآن وفي الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) ولذا ورد في الروايات تفسير النور بهما(1).

وأما قوله: {أُنزِلَ} فلأنّ اللّه تعالى يقدّر الأمور، فذلك من اللّه المتعال لذا كان إنزالاً حتّى لو لم يكن نزولاً مكانيّاً، وبعبارة أخرى إنّ النزول قد يكون مادّياً في المكان، وقد يكون معنويّاً من العالي المتعالي، ولذا كثر التعبير بالإنزال في خلقه وتقديره، وقد يكونان معاً، والقرآن أنزله اللّه من السماء كما أنّ الرسول والأئمة (عليهم السلام) خلقهم اللّه حول عرشه ثمّ أنزلهم إلى الأرض رحمة بخلقه.

وأما قوله: {مَعَهُ} فلأنّ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً أنزله اللّه رحمة للعالمين، أو (مع) بمعنى (على)، أو بمعنى مع نبوّته لأنّها نزلت عليه من اللّه تعالى.

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا...} الآية.

كانت الآية السابقة دعوة لبني إسرائيل لاتّباع رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأراد اللّه بيان عموم رسالته وأنّ على الناس جميعاً اتّباعه، وبيان سبب ذلكفاللّه هو إله الجميع وربّهم، ومقتضي ألوهيّته وربوبيّته هو أن يهدي جميع

ص: 302


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 200-203.

الناس فلذا أرسل لهم نبيّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولعلّ ذكر أوصاف اللّه تعالى هنا لبيان أن من له التكوين فله التشريع، وحيث إنّ التكوين له خاصة فهو الإله والرب فلذا يكون التشريع له خاصة، ولا وجه لأن يكون هو الخالق المدبّر ثمّ يكون التشريع لغيره!!

وقوله: {ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ} فهو الخالق لهما فكانت ملكيّته بالذات.

وقوله: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} لنفي الشركاء حتّى لا يزعم أحد أنّ هناك شركاء في الخلق أو التدبير فيكون التشريع لهم!

وقوله: {يُحْيِ وَيُمِيتُ} لبيان أنّه الرب الذي له التدبير وإصلاح خلقه فالحياة وما يستتبعها منه، والإماتة منه، ولعلّ فيه إشارة إلى البعث تحذيراً لهم بأنّه يحيي الموتى يوم القيامة للجزاء كما أحيى الجماد بأن نفخ فيه الروح.

وقوله: {فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ} هذا تفريع، أي وحيث إنّه المالك لكل شيء المدبّر للموت والحياة ولا شريك له وأنّه أرسل محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلذا عليكم أن تؤمنوا بهما.

وقوله: {ٱلنَّبِيِّ ٱلْأُمِّيِّ} هذا ليس تكراراً لما في الآية السابقة، وإنّما بيان انطباق تلك الأوصاف على رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقد قال في الآية السابقة أنّه كتب في التوراة وجوب اتّباع الرسول النبي الأمّي، فكأنّه قال في هذه الآية إنّ ذلك الرسول النبي الأمّي هو محمّد بن عبد اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو هوبيان سبب اتّباعه بأنّ كونه أمّيّاً دليل صحّة نبوّته ورسالته حيث جاء بالكتاب

ص: 303

المعجز الذي يعجز عن الإتيان بمثله أفصح الفصحاء.

وقوله: {ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ} في التقريب: «فإنّه آمن أوّلاً ثمّ أمركم بالإيمان، لا مثل كثير من الرؤساء الذين هم أنفسهم لا يطبّقون المبادئ التي يدعون إليها»(1).

وقوله: {وَكَلِمَٰتِهِ} يشمل القرآن والكتب السماوّية السابقة بل والأنبياء السابقين أيضاً.

وقوله: {وَٱتَّبِعُوهُ} إذ الإيمان القلبي مجرّداً عن الاتّباع غير كافٍ.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الإيمان والاتّباع هما عين الهداية، فقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إمّا بمعنى رجاء إصابة الواقع، فقد يتوهّم البعض أنّه آمن واتّبع وليس هو في الواقع كذلك، لكن من وطّن نفسه على الإيمان والاتّباع فيرجو أن يهديه اللّه بأن لا يخطئ، وإمّا بمعنى الهداية إلى طريق الجنّة كما قال: {وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}(2).

ص: 304


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 257.
2- سورة محمّد، الآية: 4-5.

الآيات 159-162

اشارة

{وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ 159 وَقَطَّعْنَٰهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَىٰهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَٰمَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 160 وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِئَٰتِكُمْ سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ 161 فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ ٱلسَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ 162}

159- ولمّا ذكر اللّه تعالى قصصاً من عتوّ بني إسرائيل ذكر إيمان بعضهم إنصافاً لمن أحسن منهم فقال: {وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ} جماعة ممدوحون لأنّهم {يَهْدُونَ} يدعون الناس ويرشدونهم {بِٱلْحَقِّ} بكلمة الحق أو إلى الحق {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي وبذلك الحق يحكمون بالعدل في ما بينهم.

160- ثمّ يذكر اللّه مجموعة من نعمه على بني إسرائيل مقدمةً لذكر العذاب الدنيوي للذين كفروا بها فقال: {وَقَطَّعْنَٰهُمُ} أي قسّمناهم رحمةً بهم {ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} والأسباط كالقبائل، كل سبط من ذرّيّة أحد أولاد يعقوب (عليه السلام) الاثني عشر {أُمَمًا} أي كل سبط أمّة وهذا دليل كثرتهم

ص: 305

وبركة نسلهم. {وَ} من النعم عليهم: أن {أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ} حينما{ٱسْتَسْقَىٰهُ قَوْمُهُ} طلبوا منه الماء في التيه {أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ} حجراً كان معه وهو حِمل بعير {فَٱنبَجَسَتْ} أي تشقق الحجر بالماء فخرجت {مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ} من الأسباط {مَّشْرَبَهُمْ} مكان شربهم، فلكل سبط عين. {وَ} من النعم عليهم: أن {ظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَٰمَ} لمّا اشتكوا حر الشمس. {وَ} من النعم عليهم: أن {أَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ} وهو مائع حلو يقع على الأشجار ومنه الكمأة {وَٱلسَّلْوَىٰ} وهو طير يعرف بالسماني، وقلنا لهم: {كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا} حينما كفروا وعصوا بأن عبدوا العجل وطلبوا الرؤية وغير ذلك {وَلَٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأنّهم بخسوها حقّها من خير الدنيا والآخرة.

161- {وَ} من النعم: {إِذْ قِيلَ لَهُمُ} قاله موسى (عليه السلام) عن اللّه تعالى {ٱسْكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ} بيت المقدس {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} من أيّ مكان منها حيث الخيرات تتوفّر في كل مكان منها {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي اللّهم حُطّ ذنوبنا حطةً {وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ} باب القرية {سُجَّدًا} حال كونكم ساجدين شكراً اللّه بأن أنجاكم من التيه، فإن فعلتم ذلك {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِئَٰتِكُمْ} ذنوبكم، ونضيف إليه أن {سَنَزِيدُ} رحمة وثواباً وفضلاً {ٱلْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا بالطاعة.

162- لكنّهم انقسموا قسمين: {فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم وعصوا فقالوا {قَوْلًا غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وكان قولهم

ص: 306

استهزاء {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا} عذاباً {مِّنَ ٱلسَّمَاءِ} من فوقهم قيل: هوالطاعون {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أي عقوبة على ظلمهم.

المؤمنون من بني إسرائيل

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.

لمّا ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة وسيذكر في الآيات اللاحقة عصيان بني إسرائيل ونزول العذاب عليهم، أراد بيان أنّ هناك محسنين منهم آمنوا وعملوا الصالحات فذكرهم إنصافاً لهم، فهؤلاء وإن كانوا أقليّة إلاّ أنّهم لم يغيّروا ولم يبدّلوا، وهذا دأب الأنبياء (عليهم السلام) حيث يكذّبهم أكثر الناس ويؤمن بهم البعض، والذين آمنوا بهم أيضاً صنفان: الأكثر منهم ضعاف الإيمان الذين يكفرون أو يعصون، والقليل منهم ثابتو الإيمان والعمل.

وقوله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ} بيان أنّهم ليسوا مجرد أفراد وإنّما جماعة كثيرة لكنّها إذا قيست بسائر قومه كانوا قليلين.

وقوله: {يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ} يدعون إلى الحق ويرشدون الناس إليه، قيل: ظاهر السياق أنّ المقصود بهم الذين كانوا معاصرين لموسى (عليه السلام) ، وقيل: يشمل ذلك بني إسرائيل في زمانه ومن بعده، وقيل: المقصود بهم أنبياء بني إسرائيل وأوصيائهم لأنّ الهداية المطلقة لا تكون إلاّ منهم وبواسطتهم.

وقوله: {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي يحكمون بين الناس بالحق، أو بواسطة الحق يكون حكمهم عادلاً بين الناس، وقيل: هدايتهم للحق لغيرهم، وحكمهم به في ما بينهم، لكن الظاهر عموم الأمرين لهم ولغيرهم.

ص: 307

الثاني: قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَٰهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا...} الآية.

الظاهر أنّ المقصود بيان نِعم اللّه تعالى عليهم ليتبيّن أن عذاب الظالمين منهم لم يكن ظلماً لهم تعالى اللّه عنه، فيقال: مع عظيم مَنّ اللّه عليهم واختصاصهم بالنعم العظيمة دون سائر الناس ظلم الكثير منهم فاستحقّوا عذاب الدنيا والآخرة، وقد مرّ بيان هذه النعم في سورة البقرة وإنّما ذكرت هنا مقدّمة لذكر استحقاقهم للعذاب بمخالفتهم وهو الغرض الأصلي في هذه السورة.

والنعم قسمان: قسم أعطاهم اللّه إيّاها ومع ذلك تمرّدوا فعاقبهم بالتيه، وقسم آخر وعدهم بشرط الطاعة فلم يطيعوا فعاقبهم بالرجز، وقد ذكر القسم الأوّل في هذه الآية، والقسم الثاني في الآية التالية:

1- قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَٰهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ...} في تقريب القرآن: «وهذا من نعم اللّه سبحانه على بني إسرائيل؛ لأنّ القبائل المتعدّدة تمشي أمورها بيسر، بخلاف ما لو كان الجميع قبيلة واحدة، فإنّ الرؤساء إذا تعدّدوا تنافسوا في المكارم وسهل مراجعة المرؤوسين إليهم، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ}(1)»(2)، ويضاف إلى ذلك أنّ كثرتهم نعمة من اللّه عليهم.

وقوله: {أَسْبَاطًا} قيل: هو بدل عن {ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ} والتمييز مقدّر أي اثنتي عشرة فرقة وهي أسباط، والسبط هو الحفيد سواء كان ابن الابن أو ابن البنت، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل.

وقوله: {أُمَمًا} صفة أسباط أي كل سبط أمّة، وهذا لبيان كثرتهم

ص: 308


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 258.

وخصوبة نسلهم.

2- {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ...} وذلك لمّا تاهوا في الصحراء وعطشوا سقاهم اللّه بطريقة إعجازيّة حيث كان هناك حجر وهو حمل بعير يضربه موسى (عليه السلام) بالعصى فيخرج منه الماء فيشربون إلى أن يرتووا فينقطع، وهكذا بشكل مستمر.

وقوله: {بِّعَصَاكَ} هي العصى نفسها التي تحوّلت إلى حيّة.

وقوله: {فَٱنبَجَسَتْ} قال الخليل: «البجس انشقاق في قربة أو حجر أو أرض ينبع منها ماء، فإن لم ينبع فليس بانبجاس»(1)، وكان خروج الماء بتدفق قوي ولذا عبّر عنه في آية أخرى بالانفجار، قال: {فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}(2).

وقوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشْرَبَهُمْ} أي مكان شربهم حتّى لا يتزاحموا ولا تقع بينهم مشاكل، فإنّ المعاجز نعمة ولذا هي كاملة من كل جهة لا تثير مشكلة إلاّ لو عاند وظلم بعض الناس فالمشكلة منهم لا منها.

3- وقوله: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَٰمَ} وقاية من حر الشمس، و(الغمام) هو ما يحيط بهم من السحب، وقيل: هو السحاب الأبيض الذي لا يمنع نور الشمس ولكن يمنع حرارته.

4- وقوله: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ} (المن) مائع حلو يقع على أوراق الأشجار وقد يتحوّل إلى صمغ شجرة أو الكمأة، وقد مرّ الكلام فيه

ص: 309


1- كتاب العين 6: 58.
2- سورة البقرة، الآية: 60.

في سورة البقرة، و(السلوى) طير السماني وهو لذيذ اللحم سهل التناول.

وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا...} بيان أنّ هذه النعم الجليلة لم تمنعهم عن العتو والتمرّد ولذا عاقبهم اللّه تعالى.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ...} الآية.

بيان الصنف الثاني وهي النعم الموعودة لهم لكنّهم ظلموا فمنعها اللّه عن الظالمين وعذّبهم بالرجز، والنعم هي:

1- قوله: {ٱسْكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ} بيت المقدس وذلك للخلاص من التيه.

2- وقوله: {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} بيان وفور النعم فيها وإباحتها لهم بحيث كانت متوفّرة في كل مكان من القرية، وهاتان نعمتان ماديّتان.

3- وقوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ...} وهذه نعمة معنويّة بأن يغفر اللّه لهم ويثيبهم زيادة إذا سجدوا شكراً للّه ودعوه بأن يحط ذنوبهم حطّاً.

الرابع: قوله تعالى: {فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ ٱلَّذِي...} الآية.

بيان أنّ الظالمين منهم استهزؤوا بما أمره اللّه من السجود والدعاء فبدّلوا حطّة إلى كلام آخر استهزاءً بحكم اللّه فعاقبهم.

وقوله: {رِجْزًا} الرجس والرجز مترادفان، وهو مطلق ما يستقذر مادّيّاً أو معنويّاً، قيل: هو من إبدال السين زاءً، وقيل: يغلب استعمال الرجز في العذاب الإلهي، وإن كان يستعمل في سائر القذارات أيضاً، والرجز الذي نزل عليهم قيل هو الطاعون فأبادهم.

ص: 310

الآيات 163-166

اشارة

{وَسَْٔلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ 163 وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 164 فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِ بَِٔيسِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ 165 فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ 166}

ثمّ بيّن اللّه تعالى قصة عذاب قوم آخرين من اليهود لمّا عتو، فقال:

163- {وَسَْٔلْهُمْ} أي اسأل اليهود سؤال تذكير وتقريع {عَنِ} خبر {ٱلْقَرْيَةِ} هي إيلة {ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ} مجاورة له قريبة منه، {إِذْ} حينما كانوا {يَعْدُونَ} يتعدّون حدود اللّه {فِي ٱلسَّبْتِ} حيث منعهم اللّه عن الصيد فيه، {إِذْ} في الوقت الذي كانت {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} سهلة التناول ظاهرة على سطح الماء، {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} أي سائر الأيام حيث لا يكونون في السبت {لَا تَأْتِيهِمْ} تلك الأسماك، وكان هذا أمراً خارقاً للعادة، {كَذَٰلِكَ} أي هكذا بهذه الحالة {نَبْلُوهُم} نمتحنهم {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي هذا الامتحان كان بسبب معاصيهم فأراد اللّه الانتقام منهم بهذا الامتحان حينما يسقطون فيه، ثمّ إنّ الفاسقين منهم احتالوا على

ص: 311

النهي بأن صنعوا أحواض وصلوها بالبحر عبر السواقي فكانت الأسماك تدخلها يومالسبت فيمنعون خروجها ثمّ يقبضونها يوم الأحد زاعمين أنّهم لم يصيدوا في السبت.

164- وأما الذين لم يصيدوا في السبت فسكت بعضهم ونهى عن المنكر آخرون منهم {وَإِذْ} أي اذكروا الوقت الذي {قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} من أهل القرية وهي الجماعة الساكتة قالوا للناهين عن المنكر: {لِمَ} لماذا {تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} في الدنيا بعذاب الاستئصال {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} في الآخرة، وذلك لتماديهم في غيّهم؟ {قَالُواْ} الأمّة الناهية عن المنكر: {مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ} أي نؤدّي فرضاً ليكون لنا عذر عند اللّه تعالى بطاعته {وَلَعَلَّهُمْ} لعل الصائدين {يَتَّقُونَ} يجتنبون الصيد فنحتمل تأثير وعظنا إذ قد يتوب العاصي.

165- {فَلَمَّا نَسُواْ} أي ترك الصائدون عمداً فكأنّهم نسوا {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} من حرمة الصيد في السبت {أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوءِ} وهم الواعظون الناصحون حيث لم يصيدوا ونهوا عن المنكر، {وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ} وهم الصائدون والذين لم ينهوهم عن المنكر {بِعَذَابِ بَِٔيسِ} الشديد البأس {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقهم حيث بعضهم صاد وبعضهم الآخر ترك النهي عن المنكر وثبّط الناهين عنه.

166- ثمّ يوضّح اللّه ظلمهم ونوعية عذاب الصائدين بالعطف التوضيحي فقال: {فَلَمَّا عَتَوْاْ} تمرّدوا ولم يطيعوا {عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} عن تركه {قُلْنَا

ص: 312

لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ} مطرودين عن الرحمة.

قصة أصحاب السبت

بحوث

الأوّل: هذا بيان قصّة أخرى من عذاب العاصين في الدنيا وذلك بمسخهم قردة خاسئين، وهم قوم من ثمود كما في الرواية(1) - من ذرّيّة من آمن مع صالح (عليه السلام) - كانوا قد دخلوا في شريعة اليهود لأنّها كانت الشريعة التي يلزم الناس الالتزام بها في ذلك الوقت، وكانوا يسكنون في إيلة - وتسمى الآن إيلات - ، وقد كثر فيهم العصيان فأراد اللّه تعالى أن يهلك العاصين فامتحنهم بامتحان صعب، كما قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا}(2).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إن اليهود أمروا بالإمساك يوم الجمعة فتركوا يوم الجمعة فأمسكوا يوم السبت»(3)، وفي تفسير القمّي: «وكانت العلّة في تحريم الصيد عليهم يوم السبت أنّ عيد جميع المسلمين وغيرهم كان يوم الجمعة، فخالفت اليهود وقالوا: عيدنا يوم السبت فحرّم اللّه عليهم الصيد يوم السبت»(4)، وهذا نظير عقوبتهم بظلمهم عبر تحريم بعض الطيّبات عليهم قال: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ...}(5).

ص: 313


1- راجع تفسير العيّاشي 2: 34؛ وتفسير القمي 1: 244؛ وعنهما البرهان في تفسير القرآن 4: 207 و 211.
2- سورة الإسراء، الآية: 16.
3- تفسير العيّاشي 2: 34.
4- تفسير القمّي 1: 244.
5- سورة النساء، الآية: 160.

وإمعاناً في الامتحان أظهر اللّه الأسماك يوم السبت وأخفاها سائر الأيام،فتجرّأ البعض منهم بالصيد يوم السبت بحيلة احتالوها بأن كانوا في يوم السبت يحبسون الأسماك في أحواض متّصلة بالبحر، ثمّ يقبضونها يوم الأحد زاعمين أنّهم لم يصيدوا في السبت! وكان هذا دأب أكثرهم، وكان القليل منهم من المؤمنين ينهونهم عن المنكر ثمّ اعتزلوهم وخرجوا عن المدينة، وكان البعض لا يصيدون ولكنّهم كانوا لا ينهون عن المنكر بل كانوا يثبطون الناهين، فأنزل اللّه عذابه على الصائدين والساكتين ثمّ أهلكهم عقوبة لهم وليكونوا عبرة لسائر الناس، وقد ذكرت الروايات تفصيل قصّتهم فراجعها في تفسير البرهان(1)، وقد مرّ بعض الكلام في سورة البقرة الآية 65-66(2).

الثاني: قوله تعالى: {وَسَْٔلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ...} الآية.

سؤال تذكير لهم وتقريع وتحذير، فإنّ أكثر اليهود زمان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خالفوا أمر اللّه في التوراة باتّباع رسوله محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقال لهم: إنّ أولئك لم يخالفوا أصلاً من أصول الدين لكنّهم عصوا في الفروع فعذّبهم اللّه تعالى بالمسخ فهل تكونون أنتم في أمان من عذابه وأنتم تكذّبون رسالة محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي من أصول الدين؟!

وقوله: {حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ} الحضور ضد الغياب، أي كانت على ساحل البحر ولم تكن بعيدة عنه.

ص: 314


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 206-213.
2- التفكر في القرآن، سورة البقرة 1: 154-157.

وقوله: {إِذْ يَعْدُونَ} من عدا يعدو ومنه الاعتداء، وهو تجاوز الحد، فقدتجاوزوا حد اللّه تعالى حيث نهاهم فارتكبوا المحظور.

وقوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} الظاهر أنّ ذلك كان أمراً خارقاً للعادة لأنّ اللّه كان يريد أن يمتحنهم كما قال: {كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم}، فإنّ من المستبعد أن يميّز الحيوان بين أيّام الأسبوع. نعم، قد يألف الحيوان مكان الأمن وينفر من مكان الصيد لكن أن يميّز زمان الصيد وزمان عدم الصيد فالظاهر عدم إمكانه.

وقوله: {شُرَّعًا} جمع شارع أي سهلة التناول، قيل أصل الكلمة من شريعة الماء وهي الأماكن الواسعة قليلة العمق بجنب النهر حيث يمكن تناول الماء منها بسهولة، ولذا استعملت المادة في كل ما يسهل تناوله كأحكام الدين ونحوه، وفي المقاييس: «حيتان شرع: تخفض رؤوسها تشرب»(1)، وكأنّ المراد عدم حذرها.

وقوله: {لَا يَسْبِتُونَ} أي لا يدخلون في السبت بأن كانوا في سائر أيّام الأسبوع، يقال: أسبت أي دخل في السبت، وأجمع دخل في الجمعة.

وقوله: {كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم} أي هكذا وبهذا الأمر، و(البلاء) من مادة (ب ل و) وهو بمعنى الظهور أي هكذا نخرج باطنهم ونظهره.

وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي هذا الامتحان الصعب كان نتيجة فسقهم حيث عصوا اللّه تعالى فأراد إهلاكهم عبر امتحان صعب، فقد يكون العاصي مستحقّاً للعقاب لكن الناس لا يعلمون التفاصيل فيكون أخذه بما يستحق

ص: 315


1- مقاييس اللغة 3: 262.

مثار سؤال واستنكار، فلذا الحكيم يظهر أوّلاً استحقاقه ثمّ لمّا لم يبق له عذرولا يعذره الناس أخذه بالعذاب.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ...} الآية.

بيان أنّ أهل إيلة انقسموا إلى ثلاث أقسام - تمهيداً لبيان عذاب طائفتين منهم - : الصائدين وقد ذكرهم في الآية السابقة، والذين ما صادوا وما نهوا عن المنكر، والذين لم يصيدوا ونهوا عن المنكر.

وفي الآية بيان سبب نهيهم عن المنكر بأمرين:

1- إطاعة اللّه تعالى حيث أوجب النهي عن المنكر.

2- احتمال التأثير في الصائدين أو بعضهم، لعدم علمهم بالغيب، وأحياناً يتّعظ العاصي ولو بعد تكرار نهيه عن المنكر، وقد شاهدنا أناساً داوموا على المعصية ولم تؤثّر فيهم المواعظ لكن موعظة واحدة في موقفٍ قلبتهم رأساً على عقب فتابوا وحسنت توبتهم، وهذا عادةً يكون في غير المعاندين الذين ينساقون إلى شهواتهم من غير عتو فقد يوفّقهم اللّه إلى التوبة وقد يكون ذلك التوفيق جزاءً لبعض أعمالهم الصالحة.

معصية الساكتين عن المنكر

وأما الساكتون فهؤلاء ارتكبوا معصيتين:

الأولى: عدم نهيهم عن المنكر.

والثانية: تثبيطهم الناهين عن المنكر.

وقوله: {لِمَ تَعِظُونَ} قالوه تثبيطاً، وإلاّ فلو كانوا يائسين حقيقة عن هدايتهم لما كان عليهم بأس في ترك النهي عن المنكر؛ إذ من شرائط

ص: 316

وجوبه احتمال التأثير - فيهم أو في غيرهم - فلو استيقن عدم تأثيره لميجب، وحيث إنّ اللّه عذّب الساكتين علمنا أنّهم كانوا يحتملون التأثير لكن تركوه كسلاً وعصياناً وزادوا عليه معصية التثبيط.

وقوله: {مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} إمّا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو كلاهما في الدنيا حيث إنّ اللّه عاقب أمماً سابقة تارة بالهلاك وتارة بالتضييق، كما أخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات والجراد والقمّل والدم وغيرها من الآيات، ثمّ أهلكهم بأن أغرقهم.

وقوله: {مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ} أي ليكون لنا عذر عند اللّه تعالى؛ وذلك لأنّ اللّه يأخذ العالم بذنب الجاهل إذا لم يمنعه ولم ينهه، وذلك لوجوب المنع عن المنكر بالقهر، فإن لم يتمكّن فبالموعظة التي يحتمل تأثيرها، فإن ترك ذلك لم يكن معذوراً، أو أنّ الذنب الذي يقع في الأرض يسأل الجميع عنه ولا عذر لمن أتى به أو لم يمنع عنه، وأمّا من نهى عنه فإنّه يكون معذوراً حيث حاول منعه لكنه لم يتمكّن، نظير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلى قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}(1).

وقوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بيان احتمالهم تأثير الكلام فيهم.

الرابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ

ص: 317


1- سورة المائدة، الآية: 116-117.

ٱلسُّوءِ...}.

أي لمّا عاند الصائدون فاستمروا في عصيانهم فحينذاك عذّبهم اللّه تعالى.

وقوله: {نَسُواْ} أي تركوا المواعظ فلم يعملوا بها، كالناسي الذي يترك الشيء، فكما أنّ الشيء لا يؤثّر في الناسي كذلك لم يؤثّر فيهم.

قيل: إنّ الناسي حقيقة لا عقاب عليه لأنّ النسيان مرفوع! وهذا الكلام وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه لا ينطبق على الذي أصر على المعصية ثمّ نسيها، كمن غصب داراً وسكنها عامداً عالماً ثمّ نسي أنّها مغصوبة، فهذا نسيان بسوء الاختيار ولا يشمله الرفع.

وقوله: {وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ} وهم الصائدون والساكتون، فكلاهما ظالم لنفسه عاص، أمّا قول بعض المفسّرين بأنّ الساكتين أيضاً كانوا ناجين لأنّهم لم يرتكبوا المنكر وكانوا يعلمون بأنّ اللّه سيغضب على الصائدين! فغير صحيح لأنّ قوله: {مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ} وقوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وقوله: {أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوءِ} وقوله: {وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ} فيها دلالة واضحة على إهلاك الساكتين حيث لم يكونوا معذورين، وكان احتمال تأثير النهي وارداً، وإنّ اللّه خص النجاة بالناهين، وعمّ العذاب للذين ظلموا ولم يخصّه بالصائدين.

وقوله: {يَفْسُقُونَ} يخرجون عن الطاعة إمّا بالصيد وإمّا بترك النهي وتثبيط الناهي.

الخامس: قوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}.

ص: 318

الآية السابقة دلّت على عذاب الظالمين بعذاب بئيس، وهذه الآية تدلعلى عذاب المسخ بعد العتو حيث قال: {فَلَمَّا عَتَوْاْ...} وقد اختلفت كلمات المفسّرين هنا فقال بعضهم: إنّ اللّه عذّبهم بعذابين والآية السابقة تدل على عذاب أصابهم دون الإهلاك ودلّت الآية اللاحقة على أنّهم لم يرتدعوا وعاندوا فمسخهم اللّه!

وقال بعضهم: إنّ إحدى الآيتين حول عذاب الصائدين والأخرى حول عذاب الساكتين!

والأقرب بسياق الآيات وما في الروايات أنّ اللّه عذّب الصائدين والساكتين جميعاً، والآية الأولى أجملت فذكرت عذاب الظالمين وأنّه كان عذاباً بئيساً، وأمّا الآية الثانية فهي عطف توضيحي لبيان خصوص عذاب الصائدين ونوعيّته حيث فصّلت في أنّ ظلمهم كان مصاحباً للعتو وأنّ ذلك العذاب البئيس كان مسخهم قردة.

وبعبارة أخرى: إنّ الآية الأولى في مقام بيان فارق الطوائف الثلاث، فقد أنجى اللّه طائفة لأنّهم أطاعوا اللّه فنهوا عن السوء، وأهلك اللّه الساكتين والصائدين لأنّهم خرجوا عن طاعة اللّه بالظلم، وأمّا الآية الثانية فهي في توضيح وشرح ظلم الصائدين ونوعيّة عذابهم، وهذا النوع من البيان متعارف في المحاورات بين الناس، فقوله: {فَلَمَّا عَتَوْاْ...} ليس تفريعاً على الآية السابقة وإنّما هو بيان لقوله: {فَلَمَّا نَسُواْ...}.

وقوله: {عَتَوْاْ} هو الاستكبار والتمرّد عن الطاعة.

وقوله: {قُلْنَا لَهُمْ} أي بإرادتنا التكوينيّة حوّلناهم إلى قردة، ف{قُلْنَا} إمّا

ص: 319

كناية عن الإرادة، أو إنّ اللّه تعالى جعل هذه الألفاظ سبباً.

وقوله: {خَٰسِِٔينَ} أي مطرودين عن رحمة اللّه، ولعلّ المقصود أنّ عذابهم الدنيوي لا يرفع عنهم العذاب الأخروي، فإنّ اللّه لا يجمعهما على مؤمن كما في بعض الأحاديث(1)، وأمّا الفاسق فهو أهون على اللّه من ذلك بل عقوبته الدنيويّة هي شروع جزائه على عمله وليست كل جزائه.

ويحتمل أن يكون المقصود هو أنّ العذاب لم يتوقّف على المسخ بل زاد اللّه عذاباً آخر بإهلاكهم، وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) - بعد أن ذكر حديث مسخهم - أنّه قال: «فما زالوا كذلك ثلاثة أيّام، ثمّ بعث اللّه عز وجل عليهم مطراً وريحاً فجرفهم إلى البحر، وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيّام، وإنّما الذين ترون من هذه المصوّرات بصورها فإنّما هي أشباحها، لا هي بأعيانها ولا من نسلها»، ثمّ قال (عليه السلام) : «إنّ اللّه مسخ هؤلاء لاصطياد السمك فكيف ترى عند اللّه عز وجل يكون حال من قتل أولاد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهتك حريمه؟ إنّ اللّه وإن لم يمسخهم في الدنيا فإنّ المعد لهم من عذاب الآخرة أضعاف هذا المسخ»(2).

ص: 320


1- راجع الكافي 7: 265.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 209-210.

الآيات 167-171

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ ٱلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ 167 وَقَطَّعْنَٰهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَوْنَٰهُم بِٱلْحَسَنَٰتِ وَٱلسَّئَِّاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 168 فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 169 وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ 170 وَإِذْ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 171}

ثمّ بيّن اللّه تعالى عقابهم لمّا خالفوا الميثاق وذلك بالذل والتفرّق، فقال:

167- {وَإِذْ} اذكر الوقت الذي {تَأَذَّنَ} أخبر وأعلم {رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ} يسلّط {عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ} مستمرّاً ماداموا ناقضين للميثاق {مَن يَسُومُهُمْ} يولّيهم ويذيقهم {سُوءَ ٱلْعَذَابِ} أي العذاب السيّء لشدّته، فإنّه نتيجة عمل كل جيل ورضاه بفعل آبائه، وسبب هذا التقدير {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ} لمن شاء عقابه في الدنيا {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب، فالمعنى إذا تابوا رفع اللّه عنهم هذا العقاب.

ص: 321

168- {وَ} من عقوبتهم أنّا {قَطَّعْنَٰهُمْ} فرّقناهم {فِي ٱلْأَرْضِ أُمَمًا} جماعات فلذا كانوا تحت سيطرة من يذلّهم لعدم اجتماعهم ولا اجتماعكلمتهم {مِّنْهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ} وهم الذين آمنوا بعيسى (عليه السلام) وبرسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَمِنْهُمْ} ناس {دُونَ ذَٰلِكَ} منحطّون عن الصلاح فهم مفسدون، {وَبَلَوْنَٰهُم بِٱلْحَسَنَٰتِ} ما يسرّهم كالخيرات {وَٱلسَّئَِّاتِ} ما يسوؤهم كالضرّاء {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن غيّهم فيشكروا عند النعم، ويتضرّعوا عند النقم، وهذا من لطف اللّه بعباده المذنبين ليتوبوا رحمة بهم.

169- لكنّهم لم يعتبروا {فَخَلَفَ} جاء {مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} هم خلف سوء لم يكن فيهم صالحون {وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ} وصلت إليهم التوراة حيث تلقّوها عن سلفهم لكنّهم لم يعملوا بها حال كونهم {يَأْخُذُونَ عَرَضَ} أي حطام {هَٰذَا ٱلْأَدْنَىٰ} الأقرب الأحقر، وهو عرض لا دوام له {وَيَقُولُونَ} كذباً وافتراءً {سَيُغْفَرُ لَنَا} أي لا يؤاخذنا اللّه على ما نعمله من الحرام وأكل السحت، {وَ} هم مع ذلك مصرّون على ذنبهم لا يحدّثون أنفسهم بالتوبة ف{إِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ} مثل العرض السابق {يَأْخُذُوهُ}، ثمّ ينكر اللّه عليهم ذلك بقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ} العهد الأكيد المذكور في التوراة، وذلك الميثاق {أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ} بأن يحلّلوا حلاله ويحرموا حرامه، فما بالهم يعصون ويفترون؟! {وَ} هم متذكّرون لما في الكتاب؛ إذ {دَرَسُواْ مَا فِيهِ} قرؤوه فهم عالمون به، ثمّ يدعوهم اللّه إلى إعمال عقولهم فيقول: {وَٱلدَّارُ ٱلْأخِرَةُ} أي ثوابها {خَيْرٌ} من عرض الدنيا

ص: 322

{لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} المعاصي {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} استفهام إنكاري أي لماذا لا تحكّمون عقولكم لتعملوا بهذا؟

170- {وَ} لكن إن تابوا تاب اللّه عليهم ف{ٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} تمسّكوا {بِٱلْكِتَٰبِ} بأن عملوا بالتوراة أو عموم الكتب السماوّية فوفوا بالميثاق ولم ينقضوه {وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ} فهؤلاء ينالون أجرهم؛ إذ {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ} الذين أصلحوا أنفسهم بالطاعة فصلحت بذلك البلاد والعباد.

171- {وَإِذْ} أي كما أخذنا عليهم الميثاق في الكتاب كذلك أخذنا الميثاق حينما {نَتَقْنَا} قلعنا {ٱلْجَبَلَ} من أصله ورفعناه {فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي ما يظلّهم كالسقيفة فوق رؤوسهم {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ} ساقط عليهم فقلنا إمّا تتعهّدوا بالعمل بالكتاب أو نسقط الجبل عليكم فأعطوا الميثاق، وقلنا لهم: {خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَٰكُم} الكتاب {بِقُوَّةٖ} بعزم في القلوب وجد واجتهاد بالجوارح {وَٱذْكُرُواْ} بالعمل {مَا فِيهِ} من الأحكام {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} عذاب اللّه تعالى الذي أعدّه للعصاة.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات بيان عقوبة دنيويّة أخرى نالتهم حينما خالفوا أمر اللّه وميثاقه حيث إنّ اللّه أنزل التوراة عليهم فلمّا رأوا صعوبة أحكامها رفضوها فحذّرهم اللّه تعالى من عقابه بأن قطع الجبل ورفعه فوق رؤوسهم وقال لهم: إمّا أن يتعهدوا بالعمل به وإمّا أن يعاقبهم اللّه على تمرّدهم بكبس الجبل عليهم فيهلكوا، فأعطوا الميثاق فرفع اللّه عقابهم، كما أنّ الكتاب بنفسه فيه

ص: 323

الميثاق بأن يعملوا به وهم قد تعهّدوا بذلك، مضافاً إلى أنّ الميثاق موجود في الفطرة وقد خالفوها وهذا ما يتم بيانه في آيات لاحقة.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه اختبرهم بالشدّة والرخاء عسى أن يعملوا بعهدهم ويرجعوا إلى فطرتهم، فأمّا الذين لم يخالفوا العهد فاللّه يغفر لهم ويرحمهم ولا يضيع أجرهم لأنّهم مصلحون، وأمّا الذين خالفوا العهد فاللّه عاقبهم بأن أذلّهم في الدنيا بأن أرسل عليهم من يسومهم سوء العذاب مع تفرّقهم وتشتّتهم بحيث لا يتمكّنون من دفع أذى الآخرين عن أنفسهم، وأمّا قوّتهم حاليّاً واجتماعهم في دولتهم الغاصبة فلم يرفع الذل عنهم وذلك لأنّهم اتخذوا حبلاً من الناس واستقووا بالقوى العظمى النصرانيّة فهم أذلاء عندهم يطبّقون ما يريده أولئك منهم، وهم مع ذلك في خوف وقلق دائمين، ومن المؤكّد أنّه لا تمضي إلاّ أيّاماً قلائل ويتبدّد جمعهم ويزولون ويعودون إلى الشتات والتفرّق، قال تعالى: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَٰفِرِينَ حَصِيرًا}(1).

وهذه الآيات قدّمت ذكر العذاب ثمّ بيّنت سببه بمخالفة الميثاق، ولعلّ ذلك مراعاةً للسياق مع الآيات السابقة حيث انتهت بذكر عذاب أصحاب السبت بمسخهم قردة خاسئين، وهؤلاء إنّما هم امتداد لأولئك، أو لأنّ ذلّهم مشاهد وليس مجرّد نقل قضيّة تاريخيّة فذكر اللّه ما يشاهده الناس أوّلاً ثمّ ذكر سببه، فتكون العبرة فيه أوضح.

ص: 324


1- سورة الإسراء، الآية: 8.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ...} الآية.

قوله: {تَأَذَّنَ} مثل أذّن والمعنى أنّه أخبر وأعلن ذلك، وفي هذا معنىالقَسَم ولذا كان جوابه بقوله: {لَيَبْعَثَنَّ} كجواب القسم.

وقوله: {رَبُّكَ} لم يقل ربّهم ولعلّه لأنّ الرب بمعنى المصلح كما مرّ، واللّه تعالى لم يصلحهم لسوء أعمالهم.

وقوله: {لَيَبْعَثَنَّ} البعث هو الإرسال، والمقصود هو أنّ اللّه يسلط عليهم وذلك بأن لا يمنع الظالمين عنهم.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ} لأنّ كل جيل لاحق يقفو الجيل السابق في نقض العهد وسوء الأعمال، فمادام السبب مستمراً فالعقوبة مستمرّة.

وقوله: {يَسُومُهُمْ} من السوم وهو الطلب والعلامة(1)، والمراد هنا يكلّفهم ويذيقهم ويولّيهم كأنّه الوسمة والعلامة عليهم.

وقوله: {سُوءَ ٱلْعَذَابِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف أي العذاب السيّء، وهو العذاب الشديد، وهذا تارة يكون بحق كإجلاء بني النضير، وقتل وسبي بعض بني قريظة، وأخذ الجزية منهم وهم صاغرون، وقد يكون بباطل كما قال سبحانه: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2).

وقوله: {لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ} أي عذابه الدنيوي فإنّه أسرع من عذاب الآخرة، وإمهال الظالم أيّاماً معدودة ثمّ أخذه لا ينافي سرعة العذاب، والمقصود بيان أنّ اللّه أحياناً يسرع في العذاب وهذا لا ينافي تأخير العذاب إلى الآخرة

ص: 325


1- للتفصيل راجع مقاييس اللغة 3: 118.
2- سورة الأنعام، الآية: 129.

أحياناً كثيرة.

وقوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فتح باب التوبة لهم بأنّهم إن تابوا وعملوابالميثاق الذي منه الإيمان بالأنبياء اللاحقين فإنّ اللّه يرفع عنهم هذا العذاب لأنّه غفور رحيم، وقيل: لمّا بيّن اللّه أنّه سريع العقاب أراد بيان أنّ السرعة هي أحياناً لا دائماً لذا عقّبه بقوله: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، والأوّل أظهر.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَٰهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ...} الآية.

هذا من تتمّة بيان عقوباتهم الدنيويّة، فإنّ التفريق والوقوع تحت سلطة الآخرين نوع إذلال لهم وهم الذين يزعمون أنّهم شعب اللّه المختار، والسبب أن اللّه تعالى أراد أن يتوبوا ويرجعوا إلى العمل بالميثاق.

وقوله: {وَقَطَّعْنَٰهُمْ} أي فرّقناهم إذلالاً لهم، والظاهر أنّ ذلك كان عبر الحكّام الظالمين كبخت النصر الذين طردوهم عن فلسطين فكل جماعة منهم ذهبت إلى طرف من الأرض.

وقوله: {أُمَمًا} بيان أنّهم خرجوا عن كونهم أمّة واحدة ففقدوا عنصر قوّتهم، كما أنّ قلوبهم متفرّقة، قال تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ}(1)، وقال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(2).

وقوله: {مِّنْهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ} هذا إنصاف لهم وبيان أنّ بعضهم كانوا

ص: 326


1- سورة المائدة، الآية: 14.
2- سورة الحشر، الآية: 14.

ملتزمين بالميثاق والذي فيه الإيمان بالأنبياء اللاحقين كعيسى (عليه السلام) ومحمّد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولكن بما أنّ الأكثر نقضوا العهد فالبليّة عمّتهم، قالسبحانه: {وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}(1)، أو هو تحريض للعصاة منهم بأن يصلحوا كما صلح بعض أسلافهم.

وقوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ} أي دون الصالحين وهم المفسدون الكفرة والفسقة منهم.

وقوله: {وَبَلَوْنَٰهُم...} بيان أنّ اللّه تعالى لم يقطع لطفه عنهم بل صنع بهم ما يرجى معه توبتهم، فتارة بالحسنات ليشكروا، وتارة بالمصائب ليتضرّعوا، وكلاهما - النعمة والنقمة - كانت رحمة لهم ليتذكّروا فيرجعوا عن غيّهم ويتّعظوا.

الرابع: قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلْأَدْنَىٰ...} الآية.

بيان أنّه كما كان في السلف الصالحون ودون ذلك، كذلك في الأجيال اللاحقة فمنهم من يأخذون عرض الدنيا، ومنهم من يتّقون.

فأمّا الصنف الأوّل - وهم الأكثر - فهم مصرّون على طلب الدنيا وترك الآخرة مع أنّ الكتاب بأيديهم ويعلمون ما فيه، وهم يمنّون أنفسهم بأنّ اللّه يغفر لهم ذنوبهم لذا لا يخافونه ولا يخافون عذابه.

وأما الصنف الثاني فيذكرهم في الآية 170 اللاحقة.

ص: 327


1- سورة الأنفال، الآية: 25.

وقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي جاء من بعدهم مكانهم، قيل: الخَلْف - بسكون اللام - هم بدل السوء، والخَلَف - بفتحتين - هم بدل الخير.

وقوله: {وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ} أي وصلت التوراة إليهم من أسلافهم فكأنّهم ورثوها؛ لأنّ الإرث هو ما كان للسلف ومن بعده انتقل للخلف.

وقوله: {يَأْخُذُونَ} حال أي لم ينتفعوا بهذا الميراث.

وقوله: {عَرَضَ هَٰذَا ٱلْأَدْنَىٰ} العَرَض هو الزائل الذي يقل لبثه ولا ثبات له، و{ٱلْأَدْنَىٰ} تذكير الدنيا، مقابل الآخرة، ودنوّه لقربه أو خسّته، والمقصود أنّ همّهم الدنيا فيأخذون منها ما وجدوه من غير مراعاة لما في الكتاب.

وقوله: {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} أي يفترون على اللّه بأنّه وعدهم الغفران فلا بأس عليهم بما يفعلوه من الحرام! وهذا تمنٍّ باطل، قال سبحانه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}(1)، وليس المؤمن هكذا فإنّه يرجو رحمة اللّه بعمله الصالح، قال سبحانه: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}(2).

وقوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} بيان إصرارهم على حطام الدنيا والعصيان فلا يكتفون بما كسبوه من حرام بل لهم الجشع والطمع فكلّما وقع بأيديهم من الدنيا حتّى من حرامها أخذوه حتّى وإن لم يحتاجوا إليه.

وقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم...} تذكير بأن اللّه قد أخذ منهم الميثاق في

ص: 328


1- سورة النساء، الآية: 123.
2- سورة الكهف، الآية: 110.

التوراة وهم قد وعدوا بالعمل بها، فما بالهم تركوها؟!

وقوله: {مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ} الإضافة بمعنى (في) أيّ الميثاق في الكتاب.

وقوله: {أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْحَقَّ} عطف بيان على {مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ}، أو مفعول لأجله أي أخذ الميثاق لئلا يقولوا إلاّ الحق، ولكنّهم نقضوا حيث افتروا على اللّه بأنّه سيغفر لهم! مع أنّه لم يَعِد اللّه العصاة بالغفران بل أوعدهم بالعذاب، وأمّا مغفرته فأخبر بعدم شمولها المشركين، وترك الباقي في المشيئة إن شاء غفر لهم بفضله وإن شاء عذّبهم بعدله.

وقوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} بيان أنّهم علموا بما في الكتاب، فليس مجرّد أوراق ورثوها عن أسلافهم لا يعلمون ما فيها كي يكونوا معذورين، بل درسوها في ما بينهم قراءة ومعرفة لكن من غير عمل.

وقوله: {وَٱلدَّارُ ٱلْأخِرَةُ...} بيان أنّ عرض الدنيا لا قيمة له لأنّه زائل ويستتبع عذاباً دائماً، وإنّما الخير في ثواب الآخرة لكن يشترط فيه التقوى بأن لا يقترب الإنسان من العَرَض الدنيوي الحرام حتّى وإن كان فيه شهوته.

الخامس: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ}.

الظاهر أنّه استيناف لبيان الصنف الثاني - وهم الأقل - وهم الذين وفوا بالعهد ولم ينقضوا الميثاق، وآية ذلك أنّهم تمسّكوا بالكتاب والتزموا الطاعة، وهكذا اتقوا المعاصي، ولم يكرّره لأنّه قد ذكره في الآية السابقة.

وقوله: {يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَٰبِ} أي يتمسّكون، وأصل المَسك الأخذ باليد،

ص: 329

والتمسّك شدّة الأخذ ولا يكون ذلك إلاّ بالاعتقاد والعمل، و(الكتاب) هو التوراة غير المحرّفة، وهي التي تدعو إلى عيسى (عليه السلام) ورسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا يمكن التمسّك بها إلاّ بالإيمان بهما واتّباعهما.

وقوله: {وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ} أي أتوا بالطاعات، وذكرت الصلاة مَثَلاً لأنّها أفضل الطاعات بعد أصول الدين ولأنّها تنهى عن الفحشا والمنكر إذا أتي بها صحيحة وعلى وجهها.

وقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ...} خبر قوله: {ٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} والمعنى إنّا لا نضيع أجرهم لأنّهم مصلحون، وقيل: {وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ} عطف على قوله: {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وعليه فقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ} استيناف، وأصل الضياع فقدان الشيء وفوته وهلاكه، والأجر محفوظ باق.

السادس: قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ...} الآية.

تذكير لهم بالميثاق الذي واثقوه على أنفسهم، وتذكير لهم بأنّ العذاب إنّما ارتفع عن أسلافهم لمّا واثقوا، وفيه تهديد لهؤلاء.

وقوله: {نَتَقْنَا} النتق هو قلع الشيء من أصله.

وقوله: {فَوْقَهُمْ} أي ورفعناه فوق رؤوسهم كما قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ}(1).

وقوله: {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} لعلّه إشارة إلى أنّه كان قريباً من رؤوسهم

ص: 330


1- سورة البقرة، الآية: 63.

كالسقيفة.وقوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ} لأنّهم علموا أنّ ذلك عقوبة على تمرّدهم، وهم قد علموا أنّ اللّه قد يعاقب المتمرّدين بعذاب من عنده، والظن هنا بمعنى العلم، وقيل: بل بمعنى الاحتمال الراجح أي رجح عندهم أنّ اللّه سيعذّبهم به، وقيل: إنّما أطلق الظن لأنّه لم يقع متعلّقه!

وقوله: {وَاقِعُ بِهِمْ} الباء للمصاحبة أي يقع ويُوقعهم، وقيل: الباء للسببيّة أي واقع عليهم بسبب سوء عملهم.

وقوله: {خُذُواْ مَا ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٖ} أي بعزم في القلوب وجد واجتهاد في العمل.

وقوله: {وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ} تأكيد حيث إنّ الأخذ بقوّة يدل عليه، أو بيان لزوم الاستمرار فيه.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي تتقون عذاب اللّه تعالى بهذا الأخذ والذكر.

ثمّ إنّه قد مرّ الكلام حول هذا الموضوع في الآية 63 من سورة البقرة فراجع(1)، والغرض هنا ليس التكرار وإنّما بيان أنّ عذابهم بالذل والتفريق هو نتيجة نقضهم لهذا الميثاق الذي أكّده اللّه على أسلافهم برفع الطور، وأكّده عليهم بما كتبه في الكتاب.

ص: 331


1- التفكر في القرآن، سورة البقرة 1: 149-153.

الآيات 172-174

اشارة

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ 172 أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ 173 وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 174}

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّه كما أخذ الميثاق منهم يوم رفع الطور فكذلك أخذ الميثاق منهم ومن غيرهم بالفطرة حيث ركّبها في عالم الذر، فقال:

172- {وَإِذْ} أي واذكر الوقت الذي {أَخَذَ} أخرج {رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} أي أصلابهم، و«ظهورهم» بدل بعض من الكل فالمعنى: أخرج من أصلاب بني آدم {ذُرِّيَّتَهُمْ} نسلهم وأولادهم، فالخلق للّه تعالى وحده، {وَ} الهداية منه أيضاً حيث {أَشْهَدَهُمْ} جعلهم شهوداً {عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} حيث إنّ فطرة الإنسان شاهدة عليه ولا يمكنه إنكارها، قائلاً لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؟ والاستفهام للتقرير، {قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا} فاعترفوا بربوبيّته تعالى فركّب الفطرة عليهم حينذاك، فهذه الشهادة دائماً موجودة معهم، وإنّما أشهدهم كراهيّة {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ} حين الاحتجاج معكم: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا} ربوبيّة اللّه {غَٰفِلِينَ} لم ننتبه له فلم تقم علينا حجة.

173- {أَوْ تَقُولُواْ} معتذرين عن شرككم: {إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ}

ص: 332

قبل أن نشرك نحن {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} فحيث لم يكن لنا طريق إلى الحق اتّبعناهم لأنّا ظننا أنّهم أعلم منّا وأنّ شركهم عن دراية {أَفَتُهْلِكُنَا} أي تعذّبنا يا رب {بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ} وهم الآباء المشركون؟ لكن حيث ركّبنا عليكم الفطرة في عالم الذر تمّت الحجّة عليكم فلم تكونوا غافلين، ولا عذر لكم حينئذٍ باتّباع الآباء المشركين، ولم يكن عذابكم إلاّ بما كسبت أيديكم.

174- {وَكَذَٰلِكَ} كما بيّنا هذه الآية الدالّة على التوحيد - وهي الفطرة - كذلك {نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ} نوضّحها ليعرفها كل الناس، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من الباطل والضلال إلى الحق والهداية، عطف على «أن تقولوا...» أي ركّبنا الفطرة لئلا تحتجّوا علينا يوم القيامة ولرجاء رجوعكم إلى الإيمان في الدنيا.

عالم الذر

بحوث

الأوّل: هذه الآيات من تتمّة آيات عذاب بني إسرائيل لمّا عصوا أمر اللّه تعالى؛ وذلك لأنّهم خالفوا الميثاق الذي كتبناه في التوراة والميثاق الذي أخذناه منهم لمّا رفعنا الطور فوقهم، وهكذا خالفوا فطرتهم وهي التي ركبّها اللّه على الناس أجمع في عالم الذر.

ثمّ إنّه قد تواترت الروايات حول عالم الذر فقد أحصينا أكثر من مائة حديث في مصادر كثيرة، إلاّ أنّ بعض المفسّرين أعرض عن هذه الروايات إمّا لعدم وصولها إليه إلاّ بعض ما سنده ضعيف، وإمّا بزعم عدم حجّيتها

ص: 333

لعدم تواترها أو مخالفتها لظاهر الآية أو مخالفة للعقل!

إلاّ أنّ الروايات لا تخالف ظاهر الآية بل هي تفسير أو تأويل لها، ولا محذور في عالم الذر عقلاً وقد ثبت بالنقل فلا بد من التصديق به، وقد ذكرنا بعض الكلام في شرح أصول الكافي(1) ونذكره هنا مختصراً في مطالب:

المطلب الأوّل: تركيب الفطرة في عالم الذر

المطلب الأوّل: إنّ ظاهر هذه الآيات هو أنّ تناسل الناس إنّما هو عبر الأصلاب، وأنّ اللّه جعل لهم فطرة تدل على ربوبيّته، وذلك لتكون له الحجّة عليهم يوم القيامة لئلا يقولوا: إنّا لم نكن نعلم بربوبيّتك، أو إنّ تربيتنا كانت على الشرك وآباؤنا هم السبب ولا ذنب لنا.

وأما الروايات فقد دلّت على وقوع هذه القضيّة في عالم الذر حيث أخرج اللّه جميع ذرّيّة آدم من ظهره كالذر وجعل فيهم الإدراك بحيث علموا أنّه ربّهم وأخذ إقرارهم على ذلك، وبهذا ركّب اللّه الفطرة على جميع الناس، ثمّ أرجعهم إلى صلب آدم وأخرجهم بعد ذلك بالتدريج إلى انقضاء الدهر.

وما في الروايات تفسير تفصيلي، أي إنّ الآية تضمّنت أمرين:

فأوّلاً: إنّ الخالق هو اللّه تعالى وطريقته في الخلق أن أخرج الذرّيّة من الأصلاب فالمرجع هو لا الآباء، فهو الإله وهو الرب لا رب سواه ولا شريك له، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ

ص: 334


1- شرح أصول الكافي، للمؤلّف 6: 385-404.

ذُرِّيَّتَهُمْ}، فالمعنى اذكروا أنّه لا شريك للّه لأنّه الخالق وحده.

وثانياً: إنّ اللّه هدى الناس بأن فطرهم على التوحيد أوّل خلقهم في عالم الذر قبل هذا العالم وهذا ما يدل عليه قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ...} الآية.

فالواو في {وَأَشْهَدَهُمْ} للعطف المطلق لا للتفريع والترتيب، وعليه فالروايات المفسّرة للآية إنّما هي لتوضيح المقطع الثاني منها، وبهذا يرتفع إشكال عدم انطباق ظاهر الآية مع عالم الذر لأنّ البعض أشكل بأن روايات عالم الذر دلّت على إخراج الذرّيّة من صلب آدم، مع أنّ الآية دلّت على أنّ إخراج الذرّيّة إنّما هو من ظهور بني آدم!

مضافاً إلى أنّ الآية لو كانت بمجموعها دالة على عالم الذر لم يكن هناك إشكال أيضاً؛ لأنّ الروايات حينئذٍ تكون تأويلاً للآية، ولا يشترط تطابق الظاهر مع التأويل، بل التأويل المصطلح هو ما لا يمكن استفادته من الظاهر؛ إذ لو كان كذلك كان تفسيراً لا تأويلاً، وبذلك يتّضح أنّ هذه الروايات لا تخالف القرآن؛ لأنّ المخالفة إنّما تكون بالتصادم والتعارض بحيث لا يمكن الجمع، وأمّا لو دل الظاهر على شيء ودل الباطن على شيء آخر وكانا كلاهما مرادين فليس ذلك من المخالفة للقرآن أصلاً، بل يكون شرحاً على نحو التأويل.

المطلب الثاني: دفع الإشكالات عن عالم الذر

المطلب الثاني: في الإجابة عن بعض الإشكالات:

الإشكال الأوّل: أنّ هذه الروايات أخبار آحاد وهي ليست حجّة في المسائل العقائديّة، وعالم الذر من الأمور العقائديّة.

والجواب: أوّلاً: أنّها فوق التواتر فقد فاقت المائة حديثاً فراجعها في

ص: 335

تفسير البرهان وبحار الأنوار وسد المفر(1).

والغريب أنّ البعض نظر إلى روايات تفسير البرهان فقط البالغة ستّة وثلاثين حديثاً، ثمّ قال: إنّ الصحيح منها تسعة، وخمسة منها في سندها زرارة فرجعت حديثاً واحداً، فمجموع الصحاح خمسة، والخمسة لا تكون تواتراً!

مع وضوح أنّ روايات عالم الذر غير منحصرة في ما جمعه السيد هاشم البحراني (رحمه اللّه) في تفسير البرهان، وأنّ التواتر هو إخبار جماعة كثيرة يمتنع تواطؤها على الكذب، ولا يشترط تواتر الصحاح!

والحاصل إنّ الروايات متواترة قطعاً لا إشكال في ذلك صغرىً وكبرىً.

وثانياً: إنّ المسائل العقائديّة قسمان: فقسم دل الدليل على لزوم العلم فيها - وهي ما يتوقّف الإيمان عليها كالتوحيد - فهذه لا يمكن الاعتقاد بها بخبر الواحد غير الموجب للعلم، وقسم آخر لا دليل على لزوم العلم فيها - لعدم اشتراط الإيمان بها كبعض تفاصيل المعاد وبعض صفات اللّه تعالى وبعض خصوصيّات الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) - فهذه يكفي في قبولها ورود الخبر الواحد المعتبر؛ وذلك لعموم دليل حجّيته لهذا القسم بعد عدم وجود دليل على لزوم العلم به.

الإشكال الثاني: إذا كان قد أخذ هذا الميثاق من بني آدم وهم في كامل

ص: 336


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 217-230؛ بحار الأنوار 5: 234 فما بعد؛ وفي كتاب (سد المفر) جمع 111 رواية، منها 68 تدل على التعريف وأخذ الميثاق، ومنها 31 تدل على أخذ العهد، ومنها 5 تدل على الذر الأوّل، ومنها 7 تدل على أخذ الميثاق في مرحلة الطينة.

وعيهم فلماذا لا يتذكّره أحد منّا؟ وما الفائدة في ذلك مع نسيان الجميع له مع أنّ الغرض من أخذ الميثاق هو العمل به؟

والجواب: إنّ هذا الميثاق موجود في باطن الإنسان ويعلم به وهو المعبّر عنه بالفطرة، فالمنسي هو التفاصيل من زمان الميثاق ومكانه وكيفية أخذه، لكن أصل الميثاق غير منسي، كما لو واعدنا شخصاً في زمان معيّن و مكان خاص وكيفيّة خاصّة، فنسينا الخصوصيات مع تذكّرنا لأصل الوعد، وبعبارة أخرى: إنّ الميثاق بنفسه موجود في أذهانهم وفطرتهم، وقد ثبت في علم النفس أنّ الحوادث التي تقع على الإنسان وخاصّة في طفولته تؤثّر على حياته وتسيّرها حتّى وإن لم يتذكّرها لكنّها موجودة في لا وعيه وقد يكون تأثيرها على الإنسان أكثر من تأثير ما في شعوره، وقد سأل ابن مسكان الإمام الصادق (عليه السلام) : قلت له: معاينة كان هذا؟ قال: «نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدرِ أحد من خالقه ورازقه»(1).

إن قلت: إنّ الميل الفطري كما يمكن أن يكون عبر هذا الميثاق كذلك يمكن أن يكون نتيجة بداهة وفطريّة وجود اللّه وربوبيّته؟

قلت: يكفي في إثبات الميثاق في عالم الذر الأخبار الكثيرة الدالة على أنّ هذه البداهة والفطرة إنّما هي نتيجة ذلك الميثاق؛ فإنّ الفطرة أمر حادث وإنّما قدّرها اللّه تعالى، وكان تركيبها في عالم الذر.

الإشكال الثالث: إنّ القول بعالم الذر يؤوّل إلى نوع من التناسخ الذي

ص: 337


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 222؛ عن تفسير القمي 1: 248؛ وقريب منه ما في المحاسن 1: 241؛ وتفسير العيّاشي 2: 40.

بطلانه من ضروريّات الدين.

والجواب: أنّ اللّه تعالى خلق طينة الإنسان، فكانت كالذر في عالم الذر، والطينة نفسها تكون في هذا العالم وإنّما اختلفت صورتها الظاهريّة وأمّا حقيقتها فهي هي، كما أنّ الإنسان بعد موته يتحوّل إلى تراب ثمّ يرجعه اللّه إلى شكله الأوّل حين البعث، وليس ذلك من التناسخ أصلاً، فالطينة كانت كالذر ثمّ تكون في رحم الأم بشكل نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ جنين كامل ثمّ طفل ثمّ شاب ثمّ شيخ ثمّ تراب، ومع كل هذه الحالات هو هو لم تتغيّر حقيقته وإنّما اختلفت الصورة.

وهناك إشكالات أخرى أعرضنا عن ذكرها لوضوح ضعفها ولأنّ ما ذكرناه يكفي في الجواب عنها.

المطلب الثالث: الميثاق بالألوهية والنبوة والإمامة

المطلب الثالث: دلّت الروايات المعتبرة على أنّ الميثاق بالربوبيّة أخذ من جميع البشر وأقروا به ووُضع في فطرتهم، وأمّا الميثاق بالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فلم يقر به إلاّ المؤمنون(1)،

فلذا كانت الفطرة دليلاً على الربوبيّة، وأمّا الأنبياء والأئمة فالدليل عليهم العقل والنقل القطعي، وأمّا أصل موضوع النبوّة والإمامة فهو فطري.

المطلب الرابع: الغرض من الميثاق

المطلب الرابع: الغرض من هذا الميثاق في عالم الذر هو إتمام الحجّة على الناس لئلا يكون لأحد على اللّه تعالى حجّة يوم القيامة، وهنا سؤالان:

السؤال الأول: إنّ وجود الفطرة يصحّح عقاب من لم تبلغه الدعوة؟!

ص: 338


1- راجع أصول الكافي 1: 636؛ باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية.

والجواب: في تقريب القرآن: «هو كذلك، إلاّ أنّ اللّه سبحانه بلطفه لا يعذّب حتى يُتم الحجّة الظاهرة كما قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(1)»(2).

السؤال الثاني: إنّ الفطرة سواء جُعلت أم لم تُجعل لم يصح احتجاج المشرك؛ إذ لولا الأنبياء لم يعذّب اللّه المشرك، ومع وجود الأنبياء يكون احتجاج اللّه على المشرك بأنّه لماذا لم يؤمن بهم؟

والجواب: في التقريب أيضاً: «إنّه تعليل بجزء العلّة، فإنّه لولا الفطرة لم يكن الإنسان عارفاً بصحة كلام الأنبياء؛ إذ ما لم يدل الباطن على شيء لا يُؤخَذ الإنسان بما قام عليه الدليل، ولذا ورد: أن للّه حجتين: ظاهرة هي الأنبياء، وباطنة هي العقول، وعليه فالتعليل إنّما هو بجزء العلّة، كما يقول القائل: هيّأت لك داراً لتسعد، مع العلم أنّ الدار بعض من علّة السعادة لا كلّها»(3).

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ...} الآية.

(الأخذ) له مصاديق متعدّدة وهو فعل مساعد يستعمل بمعنى عدّة من الأفعال، والمراد هنا الإخراج لأنّه نوع أخذ.

وقوله: {مِن ظُهُورِهِمْ} بدل البعض من الكل، مثل: أخذت زيداً يده،والمعنى أخذ من ظهور بني آدم، وحيث إنّ الكلام حول بني آدم

ص: 339


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 269.
3- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 270.

وإشهادهم كان المناسب جعلهم محور الكلام لذا ذكرهم أوّلاً ثمّ ذكر الظهور - بالبدل - ثانياً.

وقوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} أي أخذ منهم الإقرار، وحيث إنّه سيسألهم عنه يوم القيامة كان هذا الإقرار إشهاداً أي تحمّلاً للشهادة.

وقوله: {قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا} (القول) هنا بمعناه، أي تكلّموا بذلك، وأمّا من حمله على التمثيل فلأنّه أنكر عالم الذر فقال إنّ جعل الفطرة كالشهادة، وقد ذكرنا أنّه لا وجه لإنكار عالم الذر أصلاً، ومع إمكان حمل لفظ القول على معناه الظاهر لا وجه لحمله على التمثيل.

وقوله: {أَن تَقُولُواْ} أي كراهيّة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا، بمعنى أنا لم نُرد أن تكون حجّة للمشركين، كما قال: {فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَٰلِغَةُ}(1)، وقال: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ}(2).

ثمّ إنّ اللّه تعالى بالفطرة في عالم الذر أتَم الحجّة بحيث لا يبقى عذر للمشركين، ولولا ذلك لاحتجّوا بأمرين، أحدهما ما هو المذكور في هذه الآية، والآخر مذكور في الآية اللاحقة.

وقوله: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ} أي لم نعلم به ولم يكن هناك تنبيه لنا وإذا كان الإنسان غافلاً في باطنه فلا يمكن تنبيهه، فكان إرسال الرسل عبثاً، تعالى اللّه عن ذلك، وهذا ما نشاهده في من يقل عقله عن إدراك شيءفكلّما نَصَبْتَ له الأدلة وبيّنتها له لا يدركها ولا يفهمها، فلو لم تكن الفطرة

ص: 340


1- سورة الأنعام، الآية: 149.
2- سورة الشورى، الآية: 16.

لم يكن الإنسان ليدرك كلام الأنبياء ومعاجزهم.

الثالث: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ...} الآية.

عذر آخر كان يمكن أن يعتذروا به لو لم يأخذ اللّه الميثاق منهم في عالم الذر ويركّبه في فطرتهم، وهو أنّ الذي لا يدرك حقيقة عليه أن يتّبع غيره ممن أدركها، فمن طبيعة الإنسان أن يرجع الجاهل إلى العالم، ولذا تجد كل من ليس له خبرة في أمر يرجع إلى من له الخبرة فيه، كما تشاهد الطفل يقلّد أبويه في أفعاله وأقواله ولا يُلام هو عليها لقصور إدراكه، وإنّما يُلام الأبوان إذا كان العمل سيّئاً، فلو لم تكن الفطرة لم يكن الإنسان مُلاماً على اتّباع آبائه في الشرك وذلك لقصور عقله عن إدراك بطلانه، فحينئذٍ يعتذر بأنّه اتّبع آبائه على باطلهم من غير أن يدرك أنّه باطل! فأراد اللّه تعالى أن يدرك الناس بطلان الشرك حتى لا يتّبعوا آباءهم المشركين، وأن لا يكون لهم عذر لو اتّبعوهم.

وقوله: {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} بيان سبب اتّباعهم لأنّ اللاحق يتبع السابق عادة وخاصّة إذا كان طفلاً فيتعلّم العمل ويكبر عليه.

الرابع: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْأيَٰتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

مر أنّ التفصيل هو التفريق فصلاً فصلاً، وذلك طريق توضيح الآيات وبيانها بجلاء، فالمقصود نبيّن الآيات بجلاء ووضوح.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كما جعلنا لكم فطرة كذلك أرسلنا الرسل وبيّنوا لكم الأدلة والبراهين، أو بمعنى هكذا بالفطرة بيّنا لكم الآيات ولولاها لما علمتم بها.

ص: 341

وقوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قيل: العطف على المعنى المستفاد من قوله: {نُفَصِّلُ} أي ليعرفوها وليرجعوا، والأقرب أنّها عطف على قوله: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ} فالمعنى جعلنا لكم الفطرة لأجل أن لا يكون عذر للمشركين يوم القيامة، ولأجل رجاء رجوعهم إلى الإيمان، فالغرض الأساس هو رجوعهم إلى الفطرة بالإيمان في الدنيا، ثمّ إن لم يرجعوا فمنع حجّتهم في القيامة، واللّه العالم.

ص: 342

الآيات 175-178

اشارة

{وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176 سَاءَ مَثَلًا ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ 177 مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ 178}

ثمّ بيّن اللّه تعالى قصّة أخرى من قصص بني إسرائيل حيث عاقب اللّه تعالى العاصي، فقال:

175- {وَٱتْلُ} اقرأ {عَلَيْهِمْ} على بني اسرائيل أو على الناس {نَبَأَ} خبر {ٱلَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا} أظهرنا الآيات له ومن ذلك إعطاؤه الاسم الأعظم {فَٱنسَلَخَ مِنْهَا} رفضها فخرج منها كانسلاخ الجلد {فَأَتْبَعَهُ} أي لحقه وأدركه {ٱلشَّيْطَٰنُ} لأنّ من رفض الحق صار طعمة للشيطان {فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ} الذين ضلّوا طريق الهداية.

176- {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ} إلى قربنا وإلى منزلة الأخيار، إمّا مشيئة إكراه بأن نكرهه على قبول الآيات، وإمّا بمعنى لو قَبِل الآيات شئنا رفعه فرفعناه {بِهَا} بتلك الآيات، {وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ} لصق بها كناية عن ركونه

ص: 343

وميله إلى الدنيا {وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ} بدلاً عن اتّباع الحق، {فَمَثَلُهُ} أي وصفه{كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ} كوصف الكلب في أنّه {إِن تَحْمِلْ} تهجم {عَلَيْهِ يَلْهَثْ} يدلع لسانه ويعلو نَفَسُه {أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} وهكذا بلعم بن باعورا ضال سواء وعظته أم تركته، {ذَّٰلِكَ} المثل بالكلب اللاهث {مَثَلُ} صفة {ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} فهم معاندون على كل حال. {فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ} أي انقل قصّة الماضين {لَعَلَّهُمْ} لعل اليهود أو عامة الناس {يَتَفَكَّرُونَ} فيعتبرون ويتّعظون.

177- {سَاءَ مَثَلًا} أي مَثَل الكلب بئس المثل لهؤلاء وهم {ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} وذلك لأنّ سوء المثل يدل على سوء الممثّل له {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} فالضرر يعود إليهم فإنّ اللّه غني عن العالمين.

178- والهداية والضلال كلاهما من اللّه لكنه يهدي من لم يخلد إلى الأرض ولم يتّبع هواه، ويضل من أخلد إليها واتّبع هواه ف{مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي} إذ لا هداية سوى هدايته، {وَمَن يُضْلِلْ} أي يخذله حتى يضل {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ} فالضلال سبب الخسران، أي خسروا أنفسهم وخسروا الجنّة والرضوان.

قصة بلعم بن باعورا

بحوث

الأوّل: هذه قصّة أخرى في عقوبة من رفض آيات اللّه تعالى، عقوبةً دنيويّة بإضلاله، تستتبع عقوبة الآخرة، وهي قصّة عالم عاصر نبي اللّه موسى (عليه السلام) وقد آتاه اللّه الاسم الأعظم بحيث كان مستجاب الدعوة، لكنّه

ص: 344

لم يتّعظ بعلمه وبما آتاه اللّه فاتّبع هواه فصار قريناً للشيطان فمنع اللّه سبحانه عنه تلك الآيات، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إنّه أعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، وكان يدعو به فيستجاب له، فمال إلى فرعون، فلمّا مر فرعون في طلب موسى (عليه السلام) وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادعُ اللّه على موسى وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمر في طلب موسى وأصحابه - إلى أن قال - فانسلخ الاسم من لسانه»(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «الأصل في ذلك بلعم، ثمّ ضربه اللّه مثلاً لكل مؤثر هواه على هدى اللّه من أهل القبلة»(2).

الثاني: قوله تعالى: {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ}.

قوله: {ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا} الإيتاء هو الإعطاء ويكون تارةً بالإظهار والكشف وأخرى بالعطيّة، وقد جمع اللّه الأمرين لبلعم حيث كشف له الحجج وأعطاه الاسم الأعظم، وفي هذا دلالة على أنّ الوصول إلى الآيات والحصول عليها لا يكفي في هداية الإنسان، وإنّما هو لطف من اللّه مقدمةً للّهداية، فإن آمن بها وعمل بمقتضاها هداه اللّه فرفعه إلى قربه، وإن رفضها واتّبع هواه أضلّه اللّه سبحانه، فلا يغتر الإنسان بعلمه وتقواه وعمله بالصالحات، وإنّما يلزم أن يكون على خوف دائم ويراقب نفسه ويبتعد عن هواه.

وقوله: {فَٱنسَلَخَ مِنْهَا}، فإنّ الآيات لزمته لكنّه بسوء عمله رفضها،

ص: 345


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 231؛ عن تفسير القمّي 1: 248.
2- مجمع البيان 4: 560.

كالجلد الذي يلازم البدن ومن طبيعته فانفصاله هو خلاف الطبيعة، ولعلّهذا بيان أنّ التقصير من عنده وإلاّ فالآيات لوضوحها وقوتها لازمة له في نفسها لولا سوء عمله.

وقوله: {فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَٰنُ} أي لحقه الشيطان وأدركه بعد أن كان بعيداً عنه لا يصل إليه، وفي هذا بيان أنّ الشيطان إنّما يضل من رفض الآيات، قال سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(1)، وقال سبحانه: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَٰنًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}(2).

وقوله: {فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ} الغي وهو اتّباع طريق الضلال، أي نتيجة الانسلاخ عن الآيات ولحوق الشيطان هو الغي.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ...} الآية.

بيان أن ضلاله إنّما كان من نفسه وأنّ اللّه قادر على هداية من يشاء لكنّه لا يهدي من أساء وركن إلى الدنيا.

وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا} إمّا بمعنى مشيئة تكوينيّة بإجباره على الإيمان، فهو تعالى قادر عليه لكنّه لا يفعله لأنّه خلاف الحكمة، قال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(3)، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ

ص: 346


1- سورة النحل، الآية: 99-100.
2- سورة الزخرف، الآية: 36.
3- سورة السجدة، الآية: 13.

ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(1).

وإمّا ذكر اللازم وإرادة الملزوم أي لو لم يركن إلى الدنيا فشئنا رفعه لرفعناه بها، ولكنّه أخلد إلى الأرض فلم نشأ رفعه فصار كالكلب اللاهث.

وفيه بيان ارتباط كل شيء بمشيئة اللّه تعالى، فالأسباب لا تؤثّر أثرها من دون مشيئته سبحانه، بل قد مرّ أنّها أسباب ظاهريّة وإنّما السبب الواقعي هو إرادته تعالى.

وقوله: {لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا} أي رفع درجته إلى منازل الأبرار ومرتبة القرب إلى اللّه تعالى.

وقوله: {وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ} (الإخلاد) هو لزوم الشيء واللصوق به، فكأنّه ظن أنّ له الخلود فيها فأعرض عن الآخرة، و{ٱلْأَرْضِ} كناية عن الدنيا، والمعنى أنّه مال إلى الدنيا وركن إليها.

وقوله: {وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ} تشنيع عليه وبيان سبب ثانٍ على ضلاله فكما غرّته الدنيا كذلك غرّه هواه، أو هما طوليان أي حليت الدنيا في عينه فهواها فسار على هواه.

وقوله: {فَمَثَلُهُ...} كالجزاء فالمعنى لكنّنا لم نشأ رفعه فأخلد إلى الأرض واتّبع الهوى فصار مثله كمثل الكلب، والمَثَل هو الوصف كقوله: {مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ...}(2)، وقد مرّ بعض الكلام في سورة آل عمران(3).

ص: 347


1- سورة يونس، الآية: 99.
2- سورة الرعد، الآية: 35.
3- التفكر في القرآن، سورة آل عمران: 205.

وقوله: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ...} من الحملة بمعنى الهجوم، وهذا بيان وجه التشبيه، فإنّ من أوصاف الكلب اللُّهاث الدائم سواء هجمت عليه أو تركته بأن يُخرج لسانه ويتنفّس بصوت عال عكس سائر الحيوانات التي قد تلهث إن هجمت عليها وهي لا تلهث إن تركتها، وهذا الشخص ضال على كل حال سواء وعظته أم لا، وسواء عارضت مصالحه أم تركته كما قال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(1)، وقال: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَٰمِتُونَ}(2)، وفي هذا المثل تحقير لأمثاله من الذين باعوا آخرتهم بدنيا فانية مع علمهم بالحال لأنّهم عرفوا آيات اللّه ثمّ أنكروها.

وحال هذا أسوء من حال كثير من الناس الذين لا يعارضون الآيات إلاّ لو تعرضت مصالحهم إلى خطر، فإن لم تعارضها كانوا مع الدين.

وقوله: {ذَّٰلِكَ} أي المَثَل بالكلب اللاهث، وليس المراد هذه القصّة كما زعمه بعض بأنها ضرب للمثل مع عدم تحقق القصّة! وأيّ داع ٍ لضرب مثل مجرّد مع وجود الكثيرين ممن حالهم هذا، بحيث يكون ذكرهم مَثَلاً وعبرةً.

وقوله: {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} فهم معاندون لا ينفع معهم وعظ ولا إرشاد، قال سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ}(3).

الرابع: قوله تعالى: {سَاءَ مَثَلًا ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} إلى قوله:

ص: 348


1- سورة البقرة، الآية: 6.
2- سورة الأعراف، الآية: 193.
3- سورة يونس، الآية: 96-97.

{فَأُوْلَٰئِكَهُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ}.

لمّا بيّن أنّ ذلك مَثَل المكذِّبين ودعاهم إلى التفكّر، أراد تذكيرهم ببيان قبح الممثّل لهم - وهم المكذّبون - فإنّ وصفهم بالكلب اللاهث يكشف عن حقارة أنفسهم ورذالتها، فليس هو مجرد مَثَل يضرب بل بيان واقع، وهو في الأصل «ساء مثلُ القومِ الذين كذّبوا» فخذف المضاف - وهو مثل - وأقام المضاف إليه - وهو القوم - مقامه ثمّ جاء ب(مثلاً) للتمييز أي ساء هؤلاء القوم من جهة المثل المضروب لهم، فإنّ سوء المثل إنّما هو بسوء الممثل له، وإلاّ فضرب المثل في نفسه حسن ومن أساليب البلاغة، وقيل: ساء هنا بحكم بئس بتقدير المثل مرّتين أي بئس المثلُ مثلاً مثلُ القوم!

وقوله: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} فعدم مشيئة اللّه تعالى هدايتهم إنّما هو بسوء أعمالهم وليس ظلماً من اللّه تعالى لهم ولذا ألحق بهذه الآية قوله: {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي...} الآية، حيث إنّ الإنسان لمّا يُحسن كانت الحكمة في هدايته فيهديه اللّه، وحينما يُسيء كانت الحكمة في تركه حتى يضل فيضلّه اللّه تعالى، وليس ذلك بمعنى تبعيّة مشيئته تعالى للعباد وأعمالهم وإنّما بمعنى جزائه للمحسن والمسيء.

وقوله: {مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي} قيل: إنّ الغرض بيان أنّ إتيان الآيات وحسن الظاهر لا يكفي لوحده في الهداية والاستمرار عليها، بل لا بد من هداية اللّه تعالى وهي لا تكون إلاّ لمن لم يركن إلى الدنيا ولم يتّبع هواه.

وقوله: {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ} أي فأولئك هم الضالون، والضال خاسر لا محالة، فذكر النتيجة لأنّها هي الغرض الأساس في هذه الآيات، واللّه العالم.

ص: 349

الآيات 179-183

اشارة

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ 179 وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَٰئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 180 وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ 181 وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ 182 وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 183}

179- والمكذّبون كما يعاقبون في الدنيا كذلك في الآخرة، فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} خلقنا {لِجَهَنَّمَ} من يكون عاقبتهم جهنّم بسوء اختيارهم {كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ}، وسبب ذلك أنّهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ} لا يدركون الحق {بِهَا} بمعنى أنّهم لا يذعنون بالحق مع أنّهم يعرفون نعمة اللّه لكنّهم يعاندون بإنكارها، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ} آيات اللّه {بِهَا} فلا يعتبرون بما يرون من الآيات، {وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ} المواعظ والإنذار {بِهَا} أي لا يستجيبون لداعي اللّه تعالى، {أُوْلَٰئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ} في عدم الفهم والاعتبار وفي أنّ مشاعرهم وقواهم منحصرة في التمتّع بالماديّات، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من الأنعام؛ لأنّها لا تقدر وهؤلاء يقدرون، وهي تفر مما يضرّها وهم يلقون أنفسهم في سخط اللّه تعالى، {أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ}

ص: 350

حيث غفلوا عن الاستفادة من وسائل هدايتهم.

180- وسبب انحرافهم هو عدم معرفتهم باللّه تعالى فقال: {وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ} أي أحسن الأسماء {فَٱدْعُوهُ} نادوه وأعبدوه {بِهَا} بتلك الأسماء {وَذَرُواْ} اتركوا {ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ} يحرّفون {فِي أَسْمَٰئِهِ} إمّا بتسمية الأصنام والأوهام بتلك الأسماء، أو بتسمية اللّه سبحانه بما لا يليق به، فكان ذلك سبباً في ضلالهم وإغلاق قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم عن الحق، وهؤلاء مصيرهم أنّهم {سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي عملهم بالإلحاد.

181- {وَ} في مقابل الذين ذرأناهم لجهنّم هناك {مِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} مجموعة {يَهْدُونَ} غيرهم {بِٱلْحَقِّ} فهم مهتدون أوّلاً ثمّ هداة لغيرهم {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي يحكمون بالعدل، فالهداية قولاً والعدل عملاً.

182- {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} بأن كانوا معاندين {سَنَسْتَدْرِجُهُم} نقرّبهم إلى الهلاك وجهنّم درجة درجة {مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} وذلك بتواتر النعم عليهم بحيث ينشغلون عن الحق وينسون الاستغفار.

183- {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أمهلهم، وتأخير العقوبة سبب لزيادة جرمهم واستحقاقهم لزيادة العذاب، {إِنَّ كَيْدِي} وهو الاستدراج والإمهال {مَتِينٌ} قوي ومحكم ولا يمكن دفعه، وسمّاه كيداً لأنّ ظاهره نعمة وباطنه نقمة.

بحوث

الأوّل: لمّا قصّ اللّه تعالى قصص الأمم السابقة وبيّن عاقبة أمر المكذّبين

ص: 351

المعاندين بعذاب الدنيا أردفه ببيان عذابهم في الآخرة بجهنّم وبيان أنّ سببتكذيبهم أنّهم لم ينتفعوا بما حباهم اللّه من وسائل الهداية وهي السمع والأبصار والقلوب، فصرفوها في تمتّعهم فصاروا كالأنعام بل أسوء منها.

ومرجع ضلالهم إلى عدم معرفتهم باللّه تعالى إمّا بأن نسبوا صفاته إلى الأصنام أو إلى الموجودات الخياليّة التي اخترعوها بأوهامهم، وإمّا بأن نسبوا إلى اللّه ما لا يليق به كالزوجة والابن والشريك والظلم ونحو ذلك، فانحرافهم في التوحيد أدّى بهم إلى الانحراف في كل شيء.

فلذا من أراد الهداية فعليه أن يعرف اللّه بالأسماء الحسنى ولا يلحد فيها وحينئذٍ فيرى الآيات بنظر الاعتبار، ويسمع المواعظ بتفهّم، ويعقل قلبه ما رآه وما سمعه، وبذلك يهتدي.

ثمّ بيّن اللّه أنّه كما خلق لجهنّم أناساً كذلك هناك أناس مهتدون قولاً وعملاً، ثمّ بيّن أنّه يمهل المكذّبين لكن إمهاله لهم كيد وليس خيراً لهم فلا يغرّنّك تقلّبهم في البلاد.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ}.

(الذرء) هو الخلق، قيل: أصله الإظهار، ومعنى ذرأ اللّه الخلق: أظهرهم بالإيجاد بعد العدم(1).

وقوله: {لِجَهَنَّمَ} اللام للعاقبة فالمعنى خلقناهم وعاقبتهم ستكون جهنّم كقوله: {فَٱلْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}(2)، أي عاقبته ذلك مع

ص: 352


1- معجم الفروق اللغوية: 241.
2- سورة القصص، الآية: 8.

أنّهم التقطوه بغرض أن يكون قرّة عين لهم، واللّه تعالى خلقهم أجمعليرحمهم حينما يختارون عبادته، قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ}(3)، لكن حيث لم يكرههم على الإيمان والطاعة واختار كثير منهم الكفر والعصيان فكانت عاقبتهم جهنّم.

الغرض من خلق الناس

وبهذا يتّضح جواب السؤال بأنّ غرض الخلق إن كان الرحمة والعبادة فكيف الكثير من الناس لم يعبدوه ومن ثَمّ حرموا الرحمة الخاصّة؟ وذلك لأنّ اللّه أراد أن يعبدوه باختيارهم فينالون الرحمة الخاصّة حينئذٍ، نظير ما لو قال المعلّم أنا أدرّس الأولاد ليتعلّموا فينجحوا مع أنّه يعلم أنّ بعض الطلبة كسالى لا يتعلّمون ولا ينجحون وليس في ذلك إشكال في تدريسه ولا في غرضه.

وقيل: هناك غرضان لا تنافي بينهما أحدهما غرض أصلي والآخر غرض ثانوي، نظير الصائد الذي يلقي شبكته في البحر وغرضه الأساسي صيد الأسماك المحلّلة بحيث لولاها لما كان يذهب للصيد، ثمّ غرضه الثانوي هو إطعام حيواناته الأسماك المحرّمة، أو كالنجّار الذي يأتي بالخشب ليصنع باباً وهو يعلم أنّ هناك زيادة وفاضلاً منها لا يصلح في صنع الباب ولكنه يريدها للوقود مثلاً، فالغرض الأصلي صنع الباب والغرض الثانوي جعل الزائد منها وقوداً.

ص: 353


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة النساء، الآية: 64.

وفيه تأمل: لعدم انطباق المثل على محل الكلام؛ لأنّ ذلك من غرضالإنسان العاجز حيث يعجز عن صنع ما يريده أساساً إلاّ بما يفضل منه فيقصد بالفاضل غرضاً ثانويّاً، وليس كذلك اللّه القوي المتعال القادر على كل شيء، والصحيح ما ذكرناه من أنّ الغرض هو العبادة التي تستوجب الرحمة الخاصة باختيارهم، وحيث جاء الاختيار كانت الطاعة والمعصية وكان الإيمان والكفر، واللّه العاصم.

الثالث: قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا...} الآية.

لعلّه بيان أنّ كون عاقبتهم جهنّم إنّما هو بسوء اختيارهم، حيث إنّ اللّه تعالى زوّدهم بوسائل المعرفة لكنّهم لم يستعملوها.

وقوله: {لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا} الفقه: هو العلم بمقتضى الكلام على تأمّله، وتقول لمن تخاطبه: تفقّه ما أقوله أي تأمّله لتعرفه(1)، فالمعنى إنّهم لا يتأمّلون ولا يتفكّرون في الحقائق التي رأوها وسمعوها مع أنّهم قد يعلمون بها كما قال: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(2)، وهذا إن استمر معهم وعاندوا فيه طبع اللّه على قلوبهم.

وقوله: {لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا} إذ لا يعتبرون بها ويعرضون عنها فكانوا كأنّهم لا يبصرونها؛ لأنّ الذي يبصر ولا يعمل بمقتضى ما أبصره هو والأعمى سواء، ثمّ جعل اللّه تعالى الغشاوة عليها عقوبة لهم.

ص: 354


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 412.
2- سورة النمل، الآية: 14.

وقوله: {لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} أي سماع تفهّم، وإلاّ فهي تقرع أسماعهم لكنلا تؤثّر فيهم، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}(1).

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ} لأنّ حياتهم انحصرت في التمتّع بالحياة الدنيا وغفلوا عن الآخرة وطلبها، فالأنعام لا تعقل وهؤلاء لا يستعملون عقولهم فكانوا سواء.

وقوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} هذا ترقٍّ لزيادة المطلب، فهؤلاء من جهة كالأنعام في أنّ حياتهم للتمتع فقط، ومن جهة أخرى أسوء منها؛ لأنّ الأنعام تعمل حسب مقتضى ما خُلقت له، وهؤلاء لا يعملون لما خلقوا له وهي العبادة التي توصلهم إلى الرحمة الخاصّة، وأنّ الأنعام إذا أدركت ما يضرّها اجتنبته وهؤلاء لا يجتنبون ما علموا بضرره عليهم إيثاراً للّهوى على الدار الآخرة، ثمّ إنّ {أَضَلُّ} لا يراد به ضلال الأنعام وأنّ هؤلاء أكثر ضلالاً منها؛ إذ لا ضلال لها - فالضلال عدم ملكة الهداية في المحل القابل - بل المعنى أنّهم أحقر وأخس منها.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ} كأنّ المقصود بيان أنّ عدم انتفاعهم بقلوبهم وأعينهم وآذانهم أدّى بهم إلى الغفلة عن الآيات فصار ذلك سبباً لأن يكونوا أسوء من الأنعام.

الرابع: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَٰئِهِ...} الآية.

ص: 355


1- سورة الأنفال، الآية: 21.

كأنّه بيان سبب انحرافهم وتكذيبهم بآيات اللّه وعنادهم عنها بغلقأفهامهم وأسماعهم وأبصارهم وهو عدم معرفتهم باللّه حيث ألحدوا في أسمائه.

ثمّ إنّ الإلحاد فيها: قد يكون بنسبة ما لا يليق إلى اللّه تعالى كزعمهم عدم علمه بما يعملون كما قال: {وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ ٱلْخَٰسِرِينَ}(1).

وقد يكون بنسبة صفاته الخاصة إلى غيره كالأصنام وما يتخيّلوه بأذهانهم مما لا وجود له، فيزعمون أنّ الأصنام بنات اللّه سبحانه وأنّها الشفعاء ونحو ذلك. فعدم المعرفة باللّه أردتهم إلى مهاوي الضلال ومن ثَمّ الخسران، ولذا يأمر اللّه بدعائه بأسمائه الحسنى فهي التي تدل عليه وبها يهتدي الإنسان ومن ثَمّ يفوز بالآخرة.

وقوله: {وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَاءُ ٱلْحُسْنَىٰ} اللام في (للّه) للملك والاختصاص، و(الحسنى) من الأحسن، و(الأسماء) جمع اسم وهو ما يدل على الشيء.

معنى الأسماء الحسنى

فالمعنى إنّ اللّه مالك لأحسن الأسماء وهي التي تدل عليه، ولتلك الأسماء المملوكة للّه مصداقان:

1- صفات اللّه التي جعل لها دلالة لفظيّة، كالرحمن والرحيم والحي والعالم والقادر ونحوها، فهي أحسن الأسماء وتدل على اللّه تعالى، فهي أسماء خلقها لتكون الواسطة بينه وبين خلقه.

ص: 356


1- سورة فصّلت، الآية: 22-23.

وللتفصيل راجع شرحنا لأصول الكافي باب حدوث الأسماء(1).

2- رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) حيث إنّهم عبيد للّه مربوبون حسّن خالقهم خَلقهم وخُلقهم، فهم الأسماء الحسنى التي جعلها اللّه تعالى الوسيلة بينه وبين الناس، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُواْ إِلَيْهِ ٱلْوَسِيلَةَ}(2)، وفي الوافي: «كما أنّ الاسم يدل على المسمّى ويكون علامة له كذلك هم (عليهم السلام) أدلّاء على اللّه يدلّون الناس عليه سبحانه، وهم علامة لمحاسن صفاته وأفعاله وآثاره، فادعوه بها: أي فادعوا اللّه واطلبوا التقرّب إليه بسبب معرفتها، فإنّ معرفته تعالى منوطة بمعرفتهم (عليهم السلام) ، والعبادة غير مقبولة إلاّ بمعرفة المعبود المتوقّفة على معرفتهم»(3).

فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «نحن واللّه الأسماء الحسنى التي لا يقبل اللّه من العباد عملاً إلاّ بمعرفتنا»(4).

وقوله: {وَذَرُواْ} أي اتركوهم فإنّ حسابهم على اللّه تعالى.

وقوله: {يُلْحِدُونَ} اللحد والإلحاد هو الميل والانحراف، ومنه اللحد الذي يحفر بجانب القبر عكس الضريح الذي يحفر في وسطه.

وقوله: {سَيُجْزَوْنَ...} كأنّه بيان علّة تركهم أي ذروهم لأنّ اللّهسيجازيهم على إلحادهم الذي أدّى بهم إلى التكذيب بآيات اللّه تعالى فإنّه

ص: 357


1- شرح أصول الكافي، للمؤلّف 2: 233 فما بعد.
2- سورة المائدة، الآية: 35.
3- الوافي 1: 491.
4- الكافي 1: 144؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 233.

أسوء عملهم ولذا قال: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

الخامس: قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.

مرّ توضيحها في الآية 159، وكأنّ الغرض هنا هو المقابلة مع الكفّار في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ...} أي كما خلقنا من مصيرهم إلى جهنّم كذلك خلقنا جماعة هداة مهديين ينطقون بالحق ويحكمون به، وهذا يشمل المعصومين وسائر المؤمنين، فالهداية المطلقة والعدل المطلق من كل الجهات وبكل الجهات خاص بالمعصومين لا يقدر على ذلك غيرهم، لكن الهداية والعدل بما أمكن وما ظهر يمكن لغيرهم من المؤمنين، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «هم أنا وشيعتي»(1)،

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «هم الأئمة»(2).

السادس: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.

بيان كيفيّة عقوبة المكذّبين المعاندين وهو أنّهم لمّا عاندوا وطبع اللّه على قلوبهم لا يعاقبهم فوراً وإنّما يعمل بهم عملاً ليزدادوا إثماً حتى يزداد عقابهم؛ إذ كلّما كان الذنب أكثر كان العقاب أشد بما يتناسب مع ذنوبهم، وذلك عبر أمرين:

1- قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُم} وهو التقريب إلى العذاب درجة درجة،

ص: 358


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 237.
2- الكافي 1: 414.

ويكون عبر زيادة النعم عليهم بحيث يزدادوا إثماً وينسوا التوبة والإنابة عقوبة لهم على عنادهم، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إن اللّه إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شرّاً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة ليُنسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قوله عز وجل: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} بالنعم عند المعاصي»(1).

2- وقوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ} من الإملاء وهو الإمداد واستعمل في الإمهال والتأخير، وقد مرّ بعض الكلام في قوله سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(2)، فراجع(3).

وقوله: {إِنَّ كَيْدِي} قد مرّ أنّ الكيد هو العلاج الخفي، ويراد به هنا استدراجهم والإملاء لهم فإنّه يخفى عليهم أنّه نقمة فيحسبونه نعمة.

وقوله: {مَتِينٌ} أي قوي محكم لا يمكن دفعه بشيء، وأصل الكلمة من المتن وهو لحم جنب الإنسان أسفل الأضلاع وهو قوي فشبّه به كل أمر محكم.

ص: 359


1- الكافي 2: 327؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 238.
2- سورة آل عمران، الآية: 178.
3- التفكّر في القرآن، سورة آل عمران: 543.

الآيات 184-186

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ 184 أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٖ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثِ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 185 مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ 186}

ثمّ بيّن اللّه أنّ سبب تكذيبهم هو عدم تفكّرهم وعدم نظرهم، فقال:

184- {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} الواو للاستئناف والهمزة للاستفهام الإنكارى، أي لماذا لا يحرّكون فكرهم ليعلموا أنّه {مَا بِصَاحِبِهِم} رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد صحبوه منذ نشأته فيعرفونه حق المعرفة {مِّن جِنَّةٍ} أي جنون؟ فما يقوله ليس عن جنون، بل {إِنْ} ليس {هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ} ينذرهم من عذاب اللّه {مُّبِينٌ} يوضّح إنذاره بجلاء.

185- {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ} إنكار عليهم بعدم النظر بنظرة الاعتبار {فِي مَلَكُوتِ} أي الملك العظيم في {ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ} أي لماذا لا ينظرون إلى هذا الملكوت كي يتركوا التكذيب؟ {وَ} لماذا لا ينظرون في ملكوت {مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٖ} أي الملك العظيم في كل شيء؟ {وَ} لماذا لا ينظرون {أَنْ} أنّه {عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} حتى يستعدّوا للموت ويتركوا التكذيب لئلا يخسروا؟

ص: 360

فإن لم ينفعهم تذكيرهم في القرآن بالتفكّر والنظر {فَبِأَيِّ حَدِيثِ} كلام {بَعْدَهُ} بعد القرآن {يُؤْمِنُونَ}؟ الاستفهام للتوبيخ والتقريع، أي إن لم يهتدوا بالقرآن الذي هو المعجز الميسّر لهم فأيّ حديث ينفعهم؟ وفي هذا بيان شدّة عنادهم بحيث لم تنفعهم أوضح الأدلة.

186- وحيث أعرضوا عن الحق وعاندوا أضلهم اللّه {مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ} بأن يتركه حتى يضل {فَلَا هَادِيَ لَهُ} لأنّ الهداية من اللّه حصراً {وَيَذَرُهُمْ} أي يتركهم اللّه {فِي طُغْيَٰنِهِمْ} عن الحق {يَعْمَهُونَ} يتحيّرون، و«العمه» عمى القلب.

بحوث

الأوّل: كأنّ هذه الآيات تأكيد على ما مر من قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا...} الآية، وحث على التفكّر والنظر ليعلموا صدق رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ما أنذرهم به وتحذير لهم من القيامة وأنّه لا مجال آخر لهم للإيمان والتوبة.

فأوّلاً: يحثّهم على التفكّر ليعلموا أنّ ما يقوله رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما هو إنذار لهم وليس كلام مجنون كما كانوا يفترون، فهناك بون شاسع بين تحذير عاقل وبين سفسطة مجنون.

وثانياً: يأمرهم بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وفي جميع المخلوقات فإنّها تدل على اللّه الواحد الأحد، وتدل على بطلان الشركاء إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر.

ص: 361

وثالثاً: تحذيرهم من الآخرة وأنّ الوقت يمضي بسرعة وهم يقتربون من الموت فلا مجال لهم للتأخير والتسويف.

ورابعاً: أن القرآن هو البيان الواضح الجامع للدلائل والحجج فعليهم أن يؤمنوا به فلا حديث بعده ولا هداية بسواه.

وخامساً: بيان أنّهم إن بقوا على ضلالهم بعد هذا البيان الواضح فبسبب أنّ اللّه خذلهم وتركهم في طغيانهم وذلك لأنّهم رفضوا الهداية فأضلّهم اللّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.

استثارة لعقولهم لكي يتأمّلوا ويفكّروا ليلتفتوا إلى الفرق بين النذير والمجنون كي لا يفتروا على رسول اللّه محمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جزافاً.

وقوله: {يَتَفَكَّرُواْ} التفكّر هو إعمال الفكر من باب التفعّل، فإنّ اللّه حبا الإنسان بالقوة الفكريّة لكن عليه أن يحوّل هذه القوة إلى الفعل وإلاّ فلا ينتفع بها.

وقوله: {مَا بِصَاحِبِهِم} عبّر عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بصاحبهم لبيان معرفتهم به، فقد نشأ فيهم وعرفوه بالعقل والحلم والأمانة، قال سبحانه: {قُل لَّوْ شَاءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَىٰكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1).

ص: 362


1- سورة يونس، الآية: 16.

وقوله: {نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي ما جاء به إنذار واضح وهو دليل كمال العقلوالشفقة عليهم، ولعلّ عدم ذكر البشارة مع أن الرسول نذير وبشير لأنّ الكلام حول المعاندين المكذّبين فذكر إنذارهم أولى.

الثالث: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٖ...} الآية.

تقريع لهم على عدم استعمال عقولهم، وكأنّ هذا بيان أنّ الذي به جنون هم أنفسهم؛ لأنّ الذي لا ينتفع بعقله هو والمجنون سواء.

وقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ} المراد نظر اعتبار وفكر، وهو تقريع لهم على عدم إيمانهم مع وضوح الآيات في ما يرونه، فملكوت السماوات والأرض هو الملك العظيم الذي يشاهدونه، ويدركون أنّه ليس من صنع الشركاء الذين لا يضرّون ولا ينفعون بل لا يتمكّنون من الدفاع عن أنفسهم.

وقوله: {وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٖ} أي ملكوت جميع المخلوقات التي يرونها، فكما أنّ ملكوت السماوات والأرض دليل على الواحد الأحد كذلك ملكوت كل موجود - كبيره وصغيره - آية تدل على اللّه تعالى، ف{مِن شَيْءٖ} للتعميم لكل المخلوقات، قال تعالى: {فَسُبْحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٖ}(1).

وقوله: {وَأَنْ عَسَىٰ أَن...} عطف على {مَلَكُوتِ...} أي أو لم ينظروا إلى اقتراب أجلهم، و{أَنْ} مخففة عن الثقيلة، وهذا تحذير من عذاب

ص: 363


1- سورة يس، الآية: 83.

جهنّم بتذكيرهم بأنّ موتكم قريب فلماذا التسويف في الإيمان فهلتزعمون أنّكم خالدون فلا يلاقيكم عذاب اللّه تعالى؟!

وقوله: {أَجَلُهُمْ} أي أجل موتهم.

وقوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثِ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} بيان أنّه لا فرصة أخرى لهم بأن ينتظروا وحياً آخر أو نبيّاً آخر كي يزعموا أنّهم إن كفروا بهذا آمنوا بذاك فينجون! أو أن ينزل كتاب بما فيه هواهم ويصوّب أفعالهم وفواحشهم! قال سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(1).

وتسمية القرآن بالحديث دليل على كونه مخلوقاً كما قال: {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِيَ}(2)، وقال: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٖ مِّنَ ٱلرَّحْمَٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ}(3).

الرابع: قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ}.

هذا كالعلّة لعدم إيمانهم، فحيث قال: {فَبِأَيِّ حَدِيثِ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} بيّن أنّ عدم إيمانهم إنّما هو لأنّ اللّه أضلّهم، وقد مرّ مراراً أنّ اللّه مهّد لهم سبيل الهداية بما جعله في فطرتهم وركّبه في عقولهم وبإرسال الرسل وإيتائهم المعاجز، لكن هؤلاء رفضوا الهداية فعاقبهم اللّه بأن خذلهم وتركهم حتى ضلّوا.

ص: 364


1- سورة الزخرف، الآية: 31.
2- سورة الزمر، الآية: 23.
3- سورة الشعراء، الآية: 5.

وقوله: {فَلَا هَادِيَ لَهُ} لانحصار الهداية فيه، وإذا كان هناك من يهديإلى الحق فلأنّ اللّه هداه وأمره بتبليغ الهداية أو وفّقه إليه.

وقوله: {وَيَذَرُهُمْ} استئناف وهو تأكيد لإضلاله إيّاهم وبيان استمرار ضلالهم؛ لأنّ إعراضهم وعنادهم عن الحق مستمر فالخذلان يستمر فيهم حتّى يدخلهم العذاب الأليم في جهنّم.

وقوله: {طُغْيَٰنِهِمْ} الطغيان هو تجاوز الماء الحد، وهؤلاء طغوا فتجاوزوا حدودهم وحدود الحق إلى الباطل.

وقوله: {يَعْمَهُونَ} العمه - كما مرّ - هو عمى القلوب وعدم البصيرة.

ص: 365

الآيتان 187-188

اشارة

{يَسَْٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسَْٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 187 قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوءُ إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ 188}

وحيث ذكّرهم باقتراب أجلهم حذّرهم عن القيامة، فقال:

187- {يَسَْٔلُونَكَ} يا رسول اللّه {عَنِ ٱلسَّاعَةِ} يوم القيامة قائلين: {أَيَّانَ} متى {مُرْسَىٰهَا} ثبوتها ووقوعها؟ {قُلْ} في جوابهم: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} فقد استأثر بعلم زمان وقوعها ولم يكشفه لأحد؛ وذلك ليكون أدعى للطاعة وأزجر عن المعصية {لَا يُجَلِّيهَا} لا يُظهرها أي لا يأتي بها {لِوَقْتِهَا} في وقتها {إِلَّا هُوَ} فكما أنّ علمها خاص به كذلك بيده إقامتها، وهي أمر مهول فقد {ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ} أي عظم وقوعها على أهل السماوات والأرض لشدّتها وشدّة حسابها وجزائها {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} فجأة فاستعدّوا لها ولا تسوّفوا {يَسَْٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} عالم بها وأصل الحفاء الإصرار والمبالغة، وسُمّي العالم حفيّاً لأنّه يكثر التحقيق ليستوعب الشيء، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ} فهي من الغيب {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ

ص: 366

ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} بأنّ علمها خاص به تعالى.

188- {قُل}: عدم علمي بها لأنّي {لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ ٱللَّهُ} فأنا عبد مربوب وكل شيء بيد اللّه، ولا أعلم إلاّ ما شاء اللّه أن أعلمه {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ} بذاتي وبدون مشيّئة اللّه لكنت إلهاً و{لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ} أي جلبت لنفسي الكثير من الخير ومنه الصحة والسلامة {وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوءُ} أي ودفعت عن نفسي كل سوء ومنه الفقر، ولست كذلك لأنّي لست بإله، بل {إِنْ} نافية أي ما {أَنَا۠ إِلَّا} رسول من عند اللّه ف{نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} فهم المنتفعون بإنذاري وبشارتي.

سبب كتمان وقت القيامة

بحوث

الأوّل: لمّا دعاهم في الآيات السابقة إلى التفكّر والنظر وحذّرهم من اقتراب أجلهم وأنّه لا هداية أخرى تأتيهم وأنّ اللّه يملي لهم ويمهلهم، يحذّرهم في هاتين الآيتين من القيامة وأهوالها ويخبرهم بأنّه مع كونه رسولاً للّه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلاّ بمشيئة اللّه، فما بالهم لا يؤمنون لينجوا بأنفسهم، فالقيامة من اللّه وحده لا شريك له وحتّى زمان وقوعها علم استأثره اللّه لنفسه، ويحذّرهم شدّتها وأهوالها فهي شديدة على أهل السماوات والأرض ولا تأتي إلاّ فجأةً، فما بالهم غافلين عنها لا يعدّون العُدّة لها، ومن احتمل أمراً شديداً يتوقّع وقوعه في كل لحظة يهيّأ له نفسه.

الثاني: قوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي...} الآية.

ص: 367

المشركون كانوا يسألون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن زمان القيامة تارة استهزاءًوتكذيباً وتعنّتاً وتارة أخرى استفهاماً قلقاً منها؛ لأنّهم كانوا يعلمون أنّه صادق في ما يقول، قال سبحانه: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} أي يحرّكونها استهزاءً {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا}(1)، وقال: {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَٰحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}(2)، ولم يكن من المصلحة إخبارهم بزمان وقوعها فإنّهم إن علموا أنّها بعد فترة طويلة لترهلوا وسوّفوا وأمنوا العقاب، وفي التقريب: «وإنّما لم يكشف اللّه سبحانه عن وقتها لخلقه ليكون أدعى لهم إلى الطاعة واجتناب المعصية، فإنّ الإنسان إذا لم يعرف وقت البلاء يكون خائفاً دائماً، أمّا إذا عرف أخّر الطاعات وكان خوفه لقرب وقت الساعة»(3)، بل لو أخبرهم بوقتها لزاد تكذيبهم حيث يتّخذون وقوعها بعد آلاف السنين مثلاً ذريعة للطعن والتكذيب، أو لعل وقوعها بعد ملايين أو مليارات السنوات وهو رقم لا تستوعبه عقول أكثر الناس، قال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا}(4)، مع أنّها حتّى لو كانت بعد مليارات السنوات فهي قريبة إذا قيست بالخلود، وفي المثل: «كل آتٍ قريب».

ص: 368


1- سورة الإسراء، الآية: 51.
2- سورة يس، الآية: 48-50.
3- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 279.
4- سورة المعارج، الآية: 6-7.

وقوله: {ٱلسَّاعَةِ} هي قطعة من الزمان طال أو قصر، وسمّيت القيامةبالساعة حتّى صار علماً لها، وفي الكشّاف: «الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريّا» - يعني غلب إطلاق الاسم على مصداق حتى صار علماً له - «وسمّيت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنّها عند اللّه - على طولها - كساعة من الساعات عند الخلق»(1).

وقوله: {مُرْسَىٰهَا} الرسو هو الثبات والاستقرار، والآخرة حينما تأتي تثبت ولا تزول عكس الدنيا التي هي فانية زائلة.

وقوله: {لَا يُجَلِّيهَا} أي لا يوقعها ولا يُقيمها إلاّ اللّه تعالى، وإنّما عبّر عن إيجادها بالإجلاء لأنّه كتم زمانها فإذا حان وقتها وأوجدها فقد رفع الستار عنها وأظهرها.

وقوله: {لِوَقْتِهَا} أي في وقتها، ولعلّ الاتيان باللام لبيان أنّ الإخفاء مستمر إلى حين وقتها.

وقوله: {ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ} أي على أهلهما، فأمّا أهل السماوات وهم الملائكة فهم خائفون منها لعلمهم بشدّتها وأهوالها، وأمّا أهل الأرض فالمؤمنون مصدّقون بها فلذا هم خائفون منها، وأمّا الكفّار المكذّبون بها فإنّهم يستبعدونها ويثقل عليهم التصديق بها، قال سبحانه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ}(2)، أو هي تثقل على الكفّار حين

ص: 369


1- الكشّاف 2: 183.
2- سورة الشورى، الآية: 17-18.

وقوعها، قال سبحانه: {وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِوَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَىٰهَا}(1)، وقال سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}(2)، ومن ثقله أنّه يخبر عن حقائق لا يرغب الناس فيها.

وقوله: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} كأنّ المقصود أنّه ليس المهم علمكم بزمانها وإنّما المهم استعدادكم لها لأنّها تفاجؤكم، فيكون هولها أعظم.

الثالث: قوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ...} الآية.

هذا ليس تكراراً لما في صدر الآية حيث قال: {يَسَْٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَىٰهَا}، وإنّما هو بيان سبب سؤالهم، أي إنّما يسألونك عن زمنها ظنّاً منهم بأنّك تعلم - بنفسك - كل تفاصيل الآخرة، ووقتها من ضمن تفاصيلها، كما أنّ قوله في الجواب: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ} يراد به علم تفاصيل الساعة وما يرتبط بها، فليس تكراراً لقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} لأنّه يرتبط بخصوص زمانها، وبعبارة أخرى إنّ الآية - بصدرها وتتمّتها - تضمّنت صغرى وكبرى، فالصغرى: إنّهم يسألون عن زمان القيامة، والجواب إنّ علم زمانها عند ربّي، والكبري: إنّ سؤالهم لأجل أنّهم يظنّون أنّك عالم بتفاصيل القيامة، والجواب إنّ علم تفاصيلها عند اللّه، واللّه العالم.

ص: 370


1- سورة الكهف، الآية: 49.
2- سورة المزمل، الآية: 5.

وقيل: كرّره ليصل إلى قوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ولبيان عدمعلمه بالغيب بنفسه.

وقوله: {حَفِيٌّ} أصله الإصرار والمبالغة في الطلب، وإحفاء السؤال هو استقصاؤه والإلحاح في البحث والمطالبة، ويقال للعالم النحرير حفي باعتبار أنّه بكثرة السؤال استوعب الأمر تماماً وعلم الواقع، واللّه سبحانه حفي لأنّه يعلم كل ما جل ودق.

وقوله: {عَنْهَا} يتعلّق ب{حَفِيٌّ}، لا ب{يَسَْٔلُونَكَ} أي كأنّك استقصيت الأمر عنها فعلمت.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أنّ علمها خاص باللّه، أو أكثرهم يجهلون بالساعة، والأوّل أظهر.

الرابع: قوله تعالى: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ...} الآية.

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ علم زمان القيامة وتفاصيلها إنّما هو للّه تعالى وأما الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فليس حفيّاً عنها أراد بيان أنّ ذلك ليس نقصاً فيه؛ وذلك لأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على عظمته عبد مربوب للّه، لا يملك لنفسه شيئاً من النفع والضر ولا علم الغيب، إلاّ بالمقدار الذي شاء اللّه تعالى أن يملكه له وأن يعلم به، فكونه رسولاً لا يجعله مستغنياً عن اللّه ولا يجعله إلهاً بل هو بشر لكن أنعم اللّه تعالى عليه بأن شاء أن يعطيه أكثر مما أعطى سائر الناس فقد اصطفاه وعصمه وجعله نبيّاً وأرسله للناس وعلّمه من الغيب ما يشاء لكن ليس من ذلك علم الساعة، قال سبحانه: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ

ص: 371

يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ٱرْتَضَىٰمِن رَّسُولٖ}(1).

حول علم الغيب

1- «الغيب» هو ما غاب عن الحواس، ويقابله «الشهادة» وهو الحضور لدى الحواس، ثمّ إنّه غيب بالنسبة إلينا، وأمّا اللّه تعالى فهو عالم بذاته بكل شيء من غير أدوات، لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.

2- وكون الشيء غيباً: إمّا للافتراق في الزمان فالماضي والمستقبل غيب بالنسبة إلينا، وإمّا للافتراق في المكان فالبعيد غائب عنّا، وإمّا للجهل بالشيء كالعلوم النظريّة التي لا نعلمها أو نغفل عنها.

وكل ذلك مستحيل بالنسبة إليه تعالى، فهو سبحانه محيط - بعلمه وقدرته - بالمكان والزمان، وهو العالم بكل شيء المالك للغيب والشهادة، قال سبحانه: {وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُ}(2)، وقال: {عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ}(3).

3- كل ما في الكون للّه تعالى، وهو قد يأذن لمن يشاء في ما يشاء فيتمكّنون منه.

والعلم من الأمور التي شاء اللّه أن يجعل بعضه للناس، فجعل لهم أدوات علم الشهادة فأعطاهم حواساً يشعرون بها الأمور التي تقع في دائرة تلك

ص: 372


1- سورة الجن، الآية: 25-27.
2- سورة هود، الآية: 123.
3- سورة الأنعام، الآية: 73.

الحواس، وكذلك أعطاهم عقولاً يشعرون بها بعض الأمور النظريّة، فعلمالشهادة للّه أيضاً لكنّه أعطى خلقه وسائلها، وإذا أخذ اللّه بعض هذه الحواس فقد الإنسان علم الشهادة المرتبط بتلك الحاسة، قال سبحانه: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَٰرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ}(1).

4- إن اللّه أعطى عامّة الناس أداة بعض علم الغيب، وهي الفطرة والعقل حيث يعلمون بوجود اللّه - وهو من الغيب - عبرهما، وكذلك بعث رسلاً أخبروا الناس عن بعض الغيب، وأنزل كتباً فيها بعضه، فنحن نعلم بالقيامة وبعض ما يجري فيها - وكلّها من الغيب - لأنّ اللّه تعالى أخبرنا بها في القرآن، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حدّث ببعض ما يجري فيها، قال سبحانه: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}(2).

5- علم الغيب كلّه خاص باللّه تعالى، ولكنّه أخبر نبيّة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعلم ما كان وما يكون وما هو كائن - كما روته العامّة والخاصّة(3) - وهذا بعض الغيب لا كلّه، قال سبحانه: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ ٱللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ}(4).

وقيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : لقد أعطيت - يا أمير المؤمنين - علم الغيب - ! فضحك وقال للرجل - وكان كلبيّاً - : «يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب

ص: 373


1- سورة الأنعام، الآية: 46.
2- سورة يوسف، الآية: 102.
3- الكافي 1: 260؛ ومن العامة مسلم 8: 173.
4- سورة الأنعام، الآية: 50.

وإنّما تعلّم من ذى علم، وإنّما علم الغيب: علم الساعة وما عدّده اللّه سبحانه- إلى أن قال - وما سوى ذلك فعلم علّمه اللّه نبيّه، فعلّمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطّم عليه جوانحي»(1).

وهناك بحوث أخرى فراجع شرحنا لأصول الكافي.

وقوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ} أي لو كنت أعلمه بنفسي لكنت إلهاً، والإله كلّه خير ولا يلحقه ضرر، لكنّي قد أ ُصاب بالمرض والفقر ونحو ذلك فهذا دليل على أنّي لست بإله، وحيث إنّي لست بإله فلا أعلم الغيب بنفسي، وهذا من البرهان الاستثنائي، صورته: لو كنت أعلم الغيب لكنت إلهاً كثير الخير من غير سوء، لكنّي أ ُصاب بالسوء فلست إلهاً، فلست أعلم الغيب.

وقوله: {لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ} وذلك لأنّ من يعلم المستقبل ويعلم مواطن النفع طلبها ووصل إليها، والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن كان اللّه قد شاء أن يعلّمه ذلك لكنّه أمره أن يعمل بالوسائل الطبيعيّة وبالعلوم التي تحصل عن الطرق العاديّة، وأمّا علمه الخاص فغالباً لم يكن مأموراً بالعمل به إلاّ في حالات استثنائيّة، و{ٱلْخَيْرِ} هنا بمعنى النفع، ومنه الصحة والسلامة.

وقوله: {وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوءُ} لأنّ من يعلم مواطن السوء اجتنبها فلا تصيبه، و{ٱلسُّوءُ} هو ما يسوء الإنسان ويزعجه ويحزنه ومنه الفقر.

وقوله: {إِنْ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} بيان أنّه نبيٌ ينذر بالعقاب ويبشّر بالثواب،

ص: 374


1- نهج البلاغة، الخطبة: 128.

فنفي علم الغيب والألوهيّة لا تعني أنّه في منزلته كسائر الناس بل هو رسولمن اللّه يؤدّي مهمته - في الإنذار والبشارة - .

وقوله: {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} الإنذار والبشارة عامان لجميع الناس إلاّ أنّ المنتفع من ذلك المؤمنون فكأنّ ذلك كان لهم خاصّة.

ص: 375

الآيتان 189-190

اشارة

{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَٰلِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ 189 فَلَمَّا ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَىٰهُمَا فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 190}

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّ الشرك لم يكن في آدم وحوّاء وإنّما تسرّب إلى ذرّيّتهما، فقال:

189- {هُوَ} اللّه {ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} آدم (عليه السلام) {وَجَعَلَ مِنْهَا} من جنسه وفاضل طينته {زَوْجَهَا} حوّاء {لِيَسْكُنَ} يستأنس ويطمئن ويميل {إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا} قاربها {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} لأنّ النطفة خفيفة {فَمَرَّتْ بِهِ} استمرّت بالحمل لفترة على خفّته فلم يؤثّر على حركتها وذهابها وإيّابها {فَلَمَّا أَثْقَلَت} بنمو الحمل وكبره حتّى صعب عليها العمل والحركة {دَّعَوَا} دعا الزوجان {ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَٰلِحًا} وليداً سليماً من العيوب {لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ} على هذه النعمة.

190- {فَلَمَّا ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحًا} أولاداً أصحّاء خالين عن العيوب {جَعَلَا} جعل الصنفان من الأولاد - الذكور والأناث - {لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَىٰهُمَا} فالذّرّية خالفت الأبوين - آدم وحوّاء - فصاروا مشركين إلاّ القليل منهم

ص: 376

{فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ} هو أعلى وأجل {عَمَّا يُشْرِكُونَ} من أن يكون له شريك.

النفس الواحدة التي أشركت

بحوث

الأوّل: يمكن اعتبار هذه الآيات إلى آخر السورة كالخاتمة لسورة الأعراف وهي تتضمّن خلاصة ما بيّنته السورة المباركة، ففيها بيان البرهان على بطلان الشرك وأنّ الكثير من المشركين معاندون أغلقوا قلوبهم عن النظر في آيات اللّه والاستماع إلى دلائل التوحيد، مع أنّ الأبوين - آدم وحوّاء - دعوا اللّه تعالى ليرزقهما المولود السوي وأن يشكراه تعالى على هذه النعمة، لكن الكثير من المواليد أشركوا مع أنّ الخلق للّه تعالى وليس للأصنام شرك فيه، بل هي منحوتة عبّادها، بل هي عاجزة عن دفع الضرر عن نفسها، ولا تتمكّن من الإجابة لمن يدعوها، ثمّ يأمر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالإعراض عن المعاندين إلى آخر ما سيأتي بيانه.

الثاني: قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا...} الآية.

لمّا كان من المعلوم المجمع عليه عدم شرك الأنبياء (عليهم السلام) مع دلالة هذه الآية على أنّ اللّه خلق الناس من زوجين وأنّهما جعلا للّه شركاء، لذلك اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الآيات.

1- فقد قيل: إنّ آدم (عليه السلام) أشرك شركَ طاعة لا شرك عبادة!

وهذا لا يليق بالأنبياء (عليهم السلام) مضافاً إلى أنّ شرك الطاعة خلاف ظاهر الآية، والرواية الواردة في ذلك إمّا محمولة على التقيّة أو لا بد من رد علمها إلى

ص: 377

أهلها.

2- وقيل: إنّ النفس الواحدة هنا هو قصي بن كلاب والمخاطب به ذرّيّته من قريش!

وهذا أيضاً خلاف سياق الآيات؛ إذ لا خصوصيّة له مع كون الكلام حول شرك عامّة الناس، هذا فضلاً عمّا دلّ على إيمان آباء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى آدم (عليه السلام) .

3- وقيل: إنّه مَثَل، فليس المراد من النفس الواحدة آدم (عليه السلام) !

وهذا أيضاً خلاف المتبادر من الآية، مع كونها إخباراً عمّا حدث لا مجرّد ضرب للمَثَل، مضافاً إلى تصريح الروايات بأنّ النفس الواحدة هي آدم (عليه السلام) .

4- وقيل: المراد من النفس الواحدة الجنس أي كل إنسان خلقه اللّه من أب واحد وأم واحدة! ويرد عليه ما ورد على سابقه.

5- والأقرب أنّ الآية جزءان، والجزء الأوّل منها بيان أنّ اللّه خلقكم من آدم وحوّاء الموحدين الذين دعوا اللّه لأجل ذريتهما وهذا ما تضمّنته الآية الأولى (الآية 189)، وأمّا الجزء الثاني فهو بيان حال الذّرّية المشركة الذين خالفوا أبويهما - آدم وحوّاء - وأشركوا باللّه، وذلك:

إمّا بالاستخدام أي إرجاع الضمير إلى غير آدم وحوّاء، والاستخدام من المحسّنات البلاغيّة بأن يكون الاسم الظاهر لمعنى أو مصداق، ويكون الضمير الراجع إليه لمعنى آخر أو مصداق ثانٍ كقوله الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضاباً

فالسماء بمعنى المطر، وضمير رعيناه يرجع إليه لكن المقصود منه النبت، وهنا يُراد من النفس الواحدة وزوجها آدم وحوّاء، وأمّا الضمير

ص: 378

في {جَعَلَا}يرجع إلى سائر الأبوين.

وإمّا بتقدير مضاف فمعنى {جَعَلَا} هو جعل أولادهما للّه شركاء، ويؤيّده قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ولم يقل عمّا أشركا، واللّه العالم.

وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي خلق حوّاء من تلك النفس، أي من جنسه فهي أيضاً إنسان من نوعه وعلى صورته كما قال: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا}(1)، أو يراد به إنّها خلقت من فاضل طينة آدم (عليه السلام) ، وقد مرّ الكلام فيه في سورة النساء(2).

وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} من السكون وهو الطمأنينة والأنس والراحة؛ لأنّ النوع إلى نوعه أميل وأكثر ألفة وتفاهماً.

وقوله: {فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا} الغشيان والتغشّي بأن يكون كالغشاء والغطاء، وهي كناية، نظير الملامسة والإفضاء والمقاربة والرفث والجماع ونحوها من الألفاظ؛ إذ يستقبح ذكر الاسم الصريح.

وقوله: {حَمْلًا خَفِيفًا...} كأنّه بمعنى عدم الشعور به، قيل: كأنّ ذكر هذا لأجل أنّ الإنسان حينما لا يحس بالحمل لا يعلّق آمالاً عليه ولا ينذر له ولا يدعو لأجله ولذا عطف عليه قوله: {فَمَرَّتْ بِهِ} أي لم تلتفت إليه فكأنّها مرّت عليه، لكن حينما يكبر الحمل يصير ثقلاً عليها وتصعب حركتها فلا يمكنها أن تمر به فحينئذٍ تبدأ الآمال والنذور والأدعية.

وقوله: {صَٰلِحًا} الصلاح هنا - بمناسبة الموضوع وهو الجنين - السلامة

ص: 379


1- سورة النحل، الآية: 72.
2- راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 10.

من العيوب والآفات.

وقوله: {لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ} وشكر اللّه هو بأداء حقه من العبادة والطاعة.

الثالث: قوله تعالى: {فَلَمَّا ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَىٰهُمَا فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

أي فلمّا جاء الولد سليماً عن الآفات جعل ذرّيّتهما للّه شركاء، ففي ضمير {جَعَلَا} استخدام، أو تقدير مضاف كما ذكرنا قبل قليل، فالمعنى إنّ الذّرّية خالفت الأبوين - آدم وحوّاء - فجعلوا للأصنام نصيباً في أولادهم فلم يشكرا كشكر أبويهما بإخلاص، بل شكرا الأصنام أيضاً وذلك بعبادتها ودعائها وتقديم النذور إليها، وسمّوا أولادهم بأسماء الأصنام مثل عبد اللات وعبد مناة ونحو ذلك من الأسماء.

وقوله: {فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي إنّ اللّه أعلى وأجل من شركهم، ولا يضرّه فعلهم، بل هم الذين يتضرّرون؛ لأنّ اللّه تعالى غني عن العالمين فلا تنفعه عبادة من عبده، ولا يضرّه شرك من أشرك به، قال سبحانه: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}(1).

ص: 380


1- سورة إبراهيم، الآية: 8.

الآيات 191-198

اشارة

{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَئًْا وَهُمْ يُخْلَقُونَ 191 وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ 192 وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَٰمِتُونَ 193 إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ 194 أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٖ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ 195 إِنَّ وَلِِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ 196 وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ 197 وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُواْ وَتَرَىٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ 198}

ثمّ بيّن اللّه تعالى بطلان الشرك، فقال:

191- {أَيُشْرِكُونَ} استفهام إنكاري توبيخاً لهم {مَا لَا يَخْلُقُ شَئًْا} فالأصنام لا يقدرون على الخلق، {وَهُمْ} تلك الأصنام {يُخْلَقُونَ} مخلوقات للّه تعالى، كما أنّ هؤلاء صنعوها بالنحت.

192- {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أولئك الشركاء المزعومون {لَهُمْ} لعبّادها المشركين بها {نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فلا تقدر الأصنام في أن تدافع عن نفسها، فهي أعجز من عبدتها، فكيف يشركونها باللّه ويدعونها؟!

193- {وَإِن تَدْعُوهُمْ} أي إذا دعوتم المشركين {إِلَى ٱلْهُدَىٰ} بأن

ص: 381

يتركوا عبادة الأصنام فيعبدوا اللّه وحده {لَا يَتَّبِعُوكُمْ} لا يقبلون دعوتكمحيث إنّ الشيطان استحوذ عليهم {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} لا فرق في عدم هدايتهم {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} إلى التوحيد {أَمْ أَنتُمْ صَٰمِتُونَ} لا تنذرونهم، حيث إنّهم معاندون.

194- {إِنَّ} الأصنام {ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ} أي تدعونهم {مِن دُونِ ٱللَّهِ} فتجعلونهم آلهة وتعبدونهم {عِبَادٌ} مخلوقات {أَمْثَالُكُمْ} فهي طوع إرادة اللّه تعالى فكيف تكون شريكة له؟! ثمّ أمرهم تعجيزاً لهم لبيان بطلان معتقدهم: {فَٱدْعُوهُمْ} نادوهم أو اطلبوا حوائجكم منهم {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في كونها شركاء للّه، لكنّها لا تتمكّن من جواب عبدتها فليسوا بصادقين في كونها آلهة.

195- وهي لا حياة لها فكيف تكون شريكاً للّه سبحانه {أَلَهُمْ} استفهام إنكاري أي هل لهم {أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} في حوائج عبدتها أو حوائج أنفسهم؟ كلّا بل هي أدون من الحيوانات لأنّها قادرة على المشي والأصنام عاجزة، {أَمْ لَهُمْ أَيْدٖ يَبْطِشُونَ بِهَا} البطش هو الأخذ بشدّة، فهل تتمكّن الأصنام من الانتقام ممّن لا يعبدها أو يكسرها مثلاً؟ {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}؟ بل لا حواس لها، والحاصل إنّها نُحتت على شكل إنسان أو حيوان لكنّها جماد فأرجلها وأيديها وآذانها وأبصارها هي صورة لا واقع لها. {قُلِ} يا رسول اللّه متحدّياً لهم: {ٱدْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ} الأصنام فهي ليست شركاء للّه وإنّما هي شركاء لكم في الجسم فقط دون

ص: 382

الروح {ثُمَّ كِيدُونِ} بأن تتخلّصوا منّي {فَلَا تُنظِرُونِ} أي لا تمهلوني، فإنّهلا أثر لكيد أصنامكم لأنّها جمادات لا تضر ولا تنفع، ولا أثر لكيدكم لأنّ اللّه ناصري.

196- ف{إِنَّ وَلِِّۧيَ} الذي يتولّى أموري وينصرني ويحفظني {ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ} وهو المعجز الذي عجزتم من أن تأتوا بمثله {وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ} من عباده، وهذا لا ينافي غلبة الأعداء عليهم أحياناً لمصالح أخرى.

197- {وَ} أمّا وليّكم فهي الأصنام التي لا تنفع ف{ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فلا يتمكّنون من دفع الضرر عن أنفسهم.

198- {وَإِن تَدْعُوهُمْ} تدعوا المشركين {إِلَى ٱلْهُدَىٰ} بعد وضوح الأدلة {لَا يَسْمَعُواْ} سماع انتفاع لعنادهم، {وَتَرَىٰهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} إبصاراً نافعاً.

خلاصة توحيدية في بطلان الشرك

بحوث

الأوّل: هذه الآيات خلاصة توحيديّة في بطلان الشرك فهي تتضمّن:

1- عدم قدرة الأصنام على الخلق، بل هي مخلوقة.

2- وعدم تمكّنها من نصر عبادها، بل لا تتمكّن من نصر أنفسها بأن تدفع الضرر عنها.

3- ولا هداية لها، فعبّادها ضالون، لكنّهم معاندون فلا يستجيبون

ص: 383

لدعوتهم إلى الهداية لا لخلل في الهداية بل لأنّهم أغلقوا عقولهم وأدواتدركهم عن الحقائق.

4- وإنّها مخلوقة كما أن عبّادها مخلوقون، وفي الحوائج - التي يتوجّهون إليها - كما لا يقدرون هم على رفعها كذلك الأصنام لا تتمكّن من الاستجابة لهم فيها.

5- ولا حياة لها فهي على صورة مَن له رِجل ويد وعين وسمع لكنّها لا تشعر شيئاً.

6- وإنّها لا تتمكّن من أن تضر أعدائها.

7- وعلى العكس من ذلك اللّه تعالى فهو الذي ينصر ويحفظ ويتولّى شؤون المؤمنين به.

8- ثمّ التأكيد على عدم تمكّنها من نصر أنفسها ونصر عبدتها، وأنّ عبدتها معاندون لا يسمعون ولا يبصرون.

الثاني: قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَئًْا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}.

تقريع لهم وذم على شركهم، ببيان أنّ الأصنام مخلوقة غير خالقة، وأنّها لا تنصرهم بل لا تتمكّن من دفع الأذى عن نفسها، فكيف صارت آلهة؟! وكيف اتخذتموها شركاء للّه سبحانه؟!

وقوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} فقد خلق اللّه كل شيء بما فيها الأحجار التي صنعوا منها الأصنام، أو بمعنى أنّ الأصنام منحوتة - فالخلق هنا بمعنى

ص: 384

التقدير لا الإيجاد - فهؤلاء هم الذين نحتوا تلك الأصنام، فكيف صارتمعبودة لهم مع أنّهم هم الناحتون لها؟!

وقوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أي لا تتمكّن نصر عبّادها حينما يصابون بالمشاكل والأزمات، فما هو داعيهم إلى عبادتها؟ فلا هي خلقتهم ولا هي تنفعهم بالنصر ولا بغيره، بل يتمكّن أضعف الناس من كسرها أو حرقها أو إزالتها، وقد رأى أعرابي ثعلباً يبول على صنمه، فكسره وأنشأ يقول:

أرب يبول الثعلبان برأسه *** لقد ضل من بالت عليه الثعالب

الثالث: قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَٰمِتُونَ}.

عطف على قوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ...} فالمشركون ضالون بالشرك ولا يستجيبون للّهدى، وفي هذا بيان لعنادهم وتسخيف لعقولهم.

وقد يستشكل بعض الملحدين: بأنّ المؤمنين قد يدعون اللّه فلا يرون إجابة كعبدة الأصنام الذين لا يجدون إجابة من أصنامهم هذا في الظاهر، وأمّا في الواقع فكما أنّ المؤمنين يقولون بأنّ اللّه ينصرهم واقعاً كذلك يقول المشركون بأنّ الأصنام تنصرهم واقعاً؟!

والجواب كما في تقريب القرآن: «إنّ الأدلة لمّا دلّت على وجوده سبحانه كانت كافية للفرق في مرحلة الواقع، فلو كان هناك شخصان أحدهما يملك شهادة الطب والآخر جاهل، ولم ينفع الدواء الذي وصفه صاحب شهادة الطب للمريض، لا يمكن أن يقال بالتساوي مع الجاهل،

ص: 385

وإنّما يجب أن يعلّل بعلّة أخرى»(1).

وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ...} بيان أنّهم أغلقوا أفهامهم عليكم فلا فرق عندهم بين أن تتكلّموا أو تسكتوا، مع أنّ العاقل هو من يستمع إلى كلام غيره إذا كان في مقام تحذيره ثمّ إن كان حقّاً أظهر قبولاً، وإن كان باطلاً رفضه، قال سبحانه: {ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(2)، وقال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ...}(3).

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}.

بيان وجهين آخرين لبطلان الشرك، وهما: أنّ الأصنام مخلوقات كسائر المخلوقات، وأنّها لا تتمكّن من قضاء حوائج من يدعوها.

وقوله: {تَدْعُونَ} أي تدعونهم، حذف الضمير الراجع إلى الموصول لوضوحه إيجازاً.

وقوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} العبد هو المطيع، والجمادات طوع إرادة اللّه ومسخّرون له، ومنها الأصنام فتجري عليها القوانين التكوينيّة التي تجري على سائر المخلوقات، قال سبحانه: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(4)، وقال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا

ص: 386


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 285.
2- سورة الزمر، الآية: 18.
3- سورة نوح، الآية: 7.
4- سورة فصلت، الآية: 11.

تَفْقَهُونَتَسْبِيحَهُمْ}(1)، وفي قوله: {أَمْثَالُكُمْ} تسخيف لعقولهم.

وقوله: {فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} هذا للتعجيز بغرض بيان بطلان معتقدهم، كما تقول للأعمى الذي يدّعي البصر: إن كنت صادقاً في ادعائك فقل لي ماذا أحمل بيدي؟ وكأنّ المراد دعاؤهم في الحوائج واستجابتهم لهم فيها.

الخامس: قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٖ...} الآية.

بيان وجهين آخرين لبطلان الشرك، أحدهما: كونهم أمثالاً لكم في أنّهم مخلوقات وأجسام خاضعة للقوانين التكوينيّة، وإلاّ فأنتم أفضل منهم لأنّهم صورة لا روح لها وأنتم صورة لها روح، والآخر: أنّها لا تتمكّن من أن تضر أعدائها في شيء، فلا هي تنفع عبدتها ولا هي تضر من أراد بها سوءاً.

وقوله: {شُرَكَاءَكُمْ} الإضافة إليهم لبيان أنّهم ليسوا شركاء للّه حتى وإن زعم المشركون ذلك لأنّ زعمهم واتخاذهم لا يغيّر من الواقع شيئاً، وإنّما هم شركاء للمشركين لأنّهم أمثالهم فيشتركون معهم في المخلوقيّة وغير ذلك.

وقوله: {ثُمَّ كِيدُونِ} فيه تحدّي وبيان أمر مستقبلي بعدم تمكّن المشركين من أن يضرّوا رسول اللّه محمّداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنّه لا يبالي بهم لوثوقه باللّه وولايته.

السادس: قوله تعالى: {إِنَّ وَلِِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ}.

ص: 387


1- سورة الإسراء، الآية: 44.

بيان أنّ اللّه حافظه وناصره، قيل: خوّفوه بأصنامهم فأجاب بأنّ اللّه هوالذي يتولّى أمره فلا يخاف من أحد من بعده، وهذا نظير ما قاله نبي اللّه هود (عليه السلام) للمشركين، قال اللّه تعالى: {قَالُواْ يَٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٖ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعْتَرَىٰكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٖ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم...}(1).

وقوله: {إِنَّ وَلِِّۧيَ} الولي هو الأولى بالتصرّف فيكون ناصراً ومعيناً.

وقوله: {ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ} بيان معجزة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث جاء بالكتاب الذي عجزوا عن الإتيان بمثله، وقيل: المقصود أنّه كما أمرني بالرسالة كذلك ضمن لي النصرة.

وقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ} وهنا سؤال كيف يتولّاهم اللّه وقد قتل الكفّار الكثير من الأنبياء والأوصياء وحبسوهم وهجّروهم وغير ذلك؟

والجواب: إنّ اللّه ينصرهم لكن قد تكون مصالح أخرى تقتضي تأخير النصر أو أن يكون النصر من جهة أو جهات متعدّدة، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ}(2).

السابع: قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلى قوله: {وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}.

ص: 388


1- سورة هود، الآية: 53-56.
2- سورة غافر، الآية: 51.

هاتان الآيتان تأكيد للآيتين 192 و 193، وقيل: تلك حول عبدة الأصناموهذه حول الأصنام نفسها، فهم لا يتمكّنون من نصر الأصنام ولا يتمكّنون من نصر أنفسهم من بطش اللّه تعالى، كما أنّها لا تتمكّن من نصر عبدتها ولا من نصر أنفسها، وأيضاً كما أنّ دعوة عبدة الأصنام للّهداية لا تُجدي لعنادهم كذلك دعوة الأصنام بنفسها للّهداية غير مجدية لأنّها لا تسمع ولا تبصر رغم أنّهم نحتوا لها آذاناً وأعيناً.

ويمكن أن يقال: إنّ الآيات بمعنى واحد لكن ذُكرت لغرضين مختلفين، فأمّا الأوليان فهما في مقام الدليل على عدم صحّة جعل الشركاء في الأولاد لأنّ الأصنام لم تخلقهم ولا تقدر على النصر ولكن المشركين لا يهتدون بهذا البرهان، وأمّا الأخريان ففي مقام المقارنة بين ولاية اللّه الهادي بالكتاب وبين ولاية الأصنام العاجزة ولكن المشركين لا يهتدون أيضاً.

ص: 389

الآيات 199-202

{خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ 199 وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 200 إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ 201 وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ 202}

ولمّا أمر اللّه تعالى نبيه بالتبليغ والدعوة إليه علّمه مكارم الأخلاق ليكون تبليغه أكثر تأثيراً، فقال:

199- {خُذِ ٱلْعَفْوَ} وهو ضد الجهد أي خذ الوسط وما تيسّر من الناس وهذا أمر بالمداراة، {وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ} وهو الأمور الحميدة التي يعرف الناس صوابها بعقولهم، {وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ} أحلم عنهم.

200- {وَإِمَّا} «إن» الشرطية و«ما» للتأكيد {يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ} «النزغ» هو الدخول في الأمر لإفساده، أي إذا أراد الشيطان أن يذهب بحلمك لتقابل سفه الجاهلين بسفه مثله، وذلك يكون في حالة الغضب عليهم عادة {فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ} التجئ إلى اللّه تعالى ليحفظك من شر الشيطان {إِنَّهُ} إن اللّه تعالى {سَمِيعٌ} لاستعاذتك فيستجيب لك ويُعيذك {عَلِيمٌ} بصلاح أمرك.

201- وكما أنت تستعيذ باللّه فيستجيب لك كذلك {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ} أي

ص: 390

اجتنبوا المعاصي {إِذَا مَسَّهُمْ} عرض عليهم {طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ} خاطرة من إلقاء الشيطان، أو طائف هو الشيطان يريد إغوائهم {تَذَكَّرُواْ} اللّه تعالى فأدركتهم ملكة التقوى الكامنة في نفوسهم {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} للرشد فلا يتّبعون ذلك الطائف ويتحرّزون عن المعصية.

202- {وَ} لكن {إِخْوَٰنُهُمْ} أي إخوان الشياطين وهم العصاة والفسقة {يَمُدُّونَهُمْ} يمدّون الشياطين ويسايروهم عبر اتّباع تلك الوسوسة {فِي ٱلْغَيِّ} وهو الجهل الناشئ عن الاعتقاد الفاسد {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} لا يكفّون بل يصرّون عليها عكس المتّقين إذا غفلوا وأذنبوا كفّوا عنه بالتوبة والإنابة.

بحوث

الأوّل: قوله تعالى: {خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ}.

لمّا أمر اللّه رسوله بالتبليغ وعلّمه الاحتجاج وآتاه الآيات المعجزات، بيّن له كيفيّة التعامل مع الناس سواء من آمن أو من عاند، فأمّا من آمن فلأجل أن يثبت الإيمان في قلبه، وأمّا من عاند فلعلّ اللّه يهديه بسبب أخلاقه إن لم يهتد بكلامه وبالمعجزات، قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ}(1).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «أمر اللّه نبيّه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها»(2)، وهي أمور ثلاثة:

ص: 391


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- جوامع الجامع 1: 491.

1- قوله: {خُذِ ٱلْعَفْوَ} في الكشّاف: «العفو ضد الجهد، أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهّل من غير كلفة ولا تداقهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتّى لا ينفروا»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «خذ منهم ما ظهر وما تيسّر، والعفو الوسط»(2).

فحاصل المعنى هو عدم إلقاء الناس في المشقّة والتيسير عليهم، وهذا المعنى يرجع إلى المعنى العام في كلمة العفو وهو الترك.

2- وقوله: {وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ} وهو ضد النكر، وهو ما يعرف العقلاء حسنه بعقولهم، فيشمل الأفعال الجميلة والأخلاق الحميدة، وذلك مما يسهل مهمة التبليغ لأنّ الناس يدركون حُسن ما يقال لهم فيميلون إليه وإلى قائله.

3- وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَٰهِلِينَ} أمر بأن يقابل سفههم بالحلم بأن لا يُماريهم ولا يصنع بهم مثل صنعهم، وهذا بعد إلقاء الحجّة عليهم وعنادهم، فإن الإعراض عنهم يمنع العدواة أو زيادتها وفي ذلك بقاء أمل باهتدائهم ولو بعد حين، وكذلك يمنع زيادة سفههم وجهلهم لأنّ الجاهل يزداد سفها وصلافة لو قابلته بالمثل، قال سبحانه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمًا}(3) أي عملوا بما يوجب سلامتهم، وهذا قد يكون بالإعراض عنهم أو قالوا قولاً فيه سلامتهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ

ص: 392


1- الكشّاف 2: 189.
2- تفسير العيّاشي 2: 43؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 245.
3- سورة الفرقان، الآية: 63.

عَلِيمٌ}.

بعد أن أمر اللّه تعالى نبيّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمكارم الأخلاق نهاه عن الأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة؛ وذلك لأنّ أفعال الناس قد تثير حفيظة الإنسان وتغضبه فيستغل الشيطان ذلك للإفساد بينهم، وحيث إنّ مهمّة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي تقريب الناس إلى الإيمان فلا بد أن يُداريهم أحسن مداراة، وقد يتصرّفون تصرّفات سفهيّة تثير الغضب، فهنا لا بد من الالتجاء إلى اللّه تعالى لإبطال كيد الشيطان ونزغه.

وقوله: {يَنزَغَنَّكَ} في المقاييس: «النزغ: إفساد بين اثنين»(1)، وفي المفردات: «دخول في أمر لإفساده»(2)، وليس الغضب داخلاً في معنى النزغ لكن النزغ يكون غالباً في حالة الغضب، قال سبحانه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}(3)، وقال تعالى: {ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} إلى قوله: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ}(4).

وقوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي يسمع استعاذتك، وهو يعلم بما في قلبك فلذا يستجيب لك، فإنّ الإنسان يغضب لسفه الجاهلين لكن من مكارم الأخلاق كظم الغيظ، فليس الغضب حين سفههم رذيلة بل هو أمر طبيعي

ص: 393


1- مقاييس اللغة 5: 416.
2- المفردات للراغب: 798.
3- سورة الإسراء، الآية: 53.
4- سورة فصّلت، الآية: 34-36.

كالإحساس بالجوع والعطش وكاحمرار الوجه عند الخجل والغضب، لكن الرذيلة هو إظهار الغضب بطريقة غير مناسبة، والفضيلة هو كظمه أو إظهاره بطريقة مناسبة مشروعة.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.

بيان القاعدة العامّة للمتّقين - والتي منها استعاذة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حين نزغ الشيطان - فكأنّ هذه الآية تعليل للآية السابقة، أو هي تعليم للمؤمنين باتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ} أي اجتنبوا المعاصي بحيث صارت طبيعة وملكة في نفوسهم فلذا يظهر أثرها حين وساوس الشيطان.

وقوله: {مَسَّهُمْ} كأنّه بيان أنّ قلوبهم طاهرة وبريئة من الشيطان فلذا لا يأتيهم الشيطان إلاّ في الظاهر ولا ينفذ في قلوبهم.

وقوله: {طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ} الطائف إمّا بمعنى الخاطرة تأتي إلى ذهن الإنسان فإن كانت سيّئة كانت من إلقاء الشيطان وإن كانت حسنة فهي من إلقاء الملك كما في الأحاديث(1)،

ف(من) ابتدائيّة نشويّة أي خاطرة تنشأ من الشيطان، وإمّا بمعنى من يطوف من الشياطين على قلوب بني آدم ف(من) بيانيّة أي طائف هو الشيطان.

وقوله: {تَذَكَّرُواْ} أي أدركتهم ملكة التقوى فتذكّروا اللّه تعالى؛ وذلك

ص: 394


1- الكافي 2: 266.

لأنّ الشيطان لا سلطة له عليهم.

وقوله: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} أي يبصرون رشدهم فلا يتّبعون الشيطان فهم غير غافلين، وفي الآية دلالة على أنّ الاستعاذة نوع ذكر للّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}.

أي ولكن الذين لم يتّقوا فهم إخوان الشياطين في الكفر والعصيان، فهؤلاء يسيرون في ركب الشياطين في طريق الضلال، ولا يرجعون عن غيّهم.

وقوله: {وَإِخْوَٰنُهُمْ} الضمير يرجع إلى {طَٰئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ} أي إخوان الشياطين وهم الكفرة والعُصاة، وأخوّتهم لهم في الكفر والعصيان، كما قال اللّه تعالى: {إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِ}(1).

وقوله: {يَمُدُّونَهُمْ} من الإمداد وهو الرفد والإعانة، فإنّ طائف الشيطان يلقون إليهم الغيّ وهؤلاء يعينونهم في فعل ذلك الغي، وفي عكسه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»(2).

وقوله: {فِي ٱلْغَيِّ} أصله بمعنى الفساد، ولا يستعمل إلاّ في الدِين(3)

وقيل: هو جهل من اعتقاد فاسد، وقد يستعمل في العذاب والعقاب باعتبار أن سببهما الغيّ(4).

ص: 395


1- سورة الإسراء، الآية: 27.
2- نهج البلاغة، الرسالة: 45.
3- راجع معجم الفروق اللغوية: 392.
4- راجع المفردات للراغب: 620.

وقوله: {لَا يُقْصِرُونَ} التقصير هو التواني عن الشيء والكف عنه، والمعنى ثمّ لا يكفّون عن ما أوحاه الشياطين إليهم، وفي ذلك إشعار بأنّ المتّقين إذا غفلوا فارتكبوا الذنب لا يمدّون الشياطين بل يكفّون عنه ويتوبون، قال سبحانه: {وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1).

ص: 396


1- سورة آل عمران، الآية: 135.

الآيات 203-206

اشارة

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بَِٔايَةٖ قَالُواْ لَوْلَا ٱجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ 203 وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 204 وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلْأصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلْغَٰفِلِينَ 205 إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ 206}

ثمّ بيّن اللّه تعالى أنّه قد أتم الحجّة عليهم بالقرآن، فقال:

203- {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم} يا رسول اللّه {بَِٔايَةٖ} معاجز يقترحونها لمجرّد المجادلة والمعاندة {قَالُواْ لَوْلَا ٱجْتَبَيْتَهَا} لماذا لم تُظهرها؟ والعجيب إنّك إن أتيتهم بالآية كذّبوها وإن لم تأتهم يقترحونها استهزاءً، {قُلْ} في جوابهم: ليس الأمر لي و{إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي} وهو حكيم يأتي بها حينما تقتضي الحكمة ولذا لا أقترح عليه.

ثمّ بيّن أنّ اللّه قد أنزل القرآن عليهم وفيه الكفاية ف{هَٰذَا} القرآن {بَصَائِرُ} براهين ودلائل ظاهرة {مِن رَّبِّكُمْ} للجميع لأنّه تعالى يريد إصلاحهم، {وَ} لكنّه {هُدًى} فيه الهداية {وَرَحْمَةٌ} لطف وترحّم من اللّه {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} لأنّهم هم الذين ينتفعون بالقرآن بحسن اختيارهم.

204- {وَ} إذا أردتم الاهتداء به ف{إِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ} وهو

ص: 397

صَرف السمع إلى الكلام لفهمه {وَأَنصِتُواْ} بالسكوت حين الاستماع{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي بذلك قد تهتدون فتنالكم الرحمة، ومن مصاديقه الاستماع لقراءة القرآن حين صلاة الجماعة.

205- {وَ} كما عليكم استماع القرآن كذلك عليكم ذكر اللّه ف{ٱذْكُر رَّبَّكَ} أيّها السامع أو الخطاب للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمراد به العموم {فِي نَفْسِكَ} سراً في قلبك {تَضَرُّعًا} بتذلّل واستكانة {وَخِيفَةً} في حال الخوف منه {وَ} كذا اذكره {دُونَ ٱلْجَهْرِ} الصياح {مِنَ ٱلْقَوْلِ} أي على لسانك، {بِٱلْغُدُوِّ} الصباح {وَٱلْأصَالِ} جمع الجمع لأصيل أي قرب غروب الشمس، {وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلْغَٰفِلِينَ} عن ذكره.

206- وإنّما تذكره كذلك حيث {إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} أي المقرّبين عنده كالأنبياء والأوصياء والأئمة (عليهم السلام) {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} فقلبهم خاضع لها، {وَيُسَبِّحُونَهُ} باللسان، {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} بجوارحهم.

بحوث

الأوّل: هذه الآيات كأنّها بيان أنّ اللّه تعالى قد أتم الحجّة عليهم بإنزال القرآن فهو معجزة تدل على صدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من جهة، وفيها هدايتهم بالبراهين والعقائد والأحكام والأخلاق والمواعظ وغير ذلك ممّا يحتاجون إليه من جهة أخرى، لكنّهم بدلاً من ذلك يقترحون معاجز مختلفة لا ليهتدوا وإنّما تعنّتاً وعناداً، ثمّ يأمرهم بأن يعيروا أسماعهم وقلوبهم إلى القرآن ليفهموه وليهتدوا به، والاستماع إلى القرآن لا بد أن يقترن بالعمل به

ص: 398

ولذا يأمرهم بذكر اللّه تعالى في مختلف الأوقات لئلا يكونوا من الغافلين فيضلّوا، بل ليكونوا من الذاكرين فيهتدوا لأنّ عباده المقرّبين يذكرون اللّه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بَِٔايَةٖ قَالُواْ لَوْلَا ٱجْتَبَيْتَهَا...} الآية.

كانوا يقترحون على رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المعاجز المختلفة، وقد مر أنّ القوانين التكوينيّة وضعها اللّه بحكمته، والمعاجز استثناء للدلالة على صدق مدعي النبوّة أو لأغراض أخرى وذلك من الحكمة أيضاً، وأمّا تعطيل القوانين التكوينيّة لمجرد اقتراح معاندين قد تمّت عليهم الحجّة بمعاجز أخرى فليس من الحكمة في شيء، ولذا لم يستجب اللّه تعالى لاقتراحاتهم اكتفاءً بما أنزله من المعاجز والتي أهمّها القرآن الكريم، قال سبحانه: {وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَٰهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ}(1)، والقرآن كان ينزل باستمرار وكل آية معجزة تتحدّاهم بأن يأتوا بمثلها وقد عجزوا فما الداعي لمعاجز أخرى؟!

وقوله: {بَِٔايَةٖ} مما اقترحوها باستمرار، مع أنّ اللّه تعالى أظهر على يد رسوله معاجز متعدّدة ذكرت في آيات أخرى وفي الروايات المعتبرة، لكن ليس كل اقتراح تعنّتي يستجاب.

وقوله: {ٱجْتَبَيْتَهَا} من جبي بمعنى جمع، والاجتباء هو استخلاص الشيء وهو قريب من الاصطفاء، كأنّ مقصودهم أن تأتي بها خالصة لك

ص: 399


1- سورة المؤمنون، الآية: 71.

دوننا لأنّها معجزة لا نقدر نحن عليها، وكأنّهم قالوه على سبيل الاستهزاء.

وقوله: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ...} أي لا أقترح على ربّي شيئاً وإنّما أنتظر أمره، وكان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا وعده اللّه بشيء ينتظر تنفيذه من دون اقتراح.

وقوله: {مِن رَّبِّي} بيان أنّ اللّه أصلح شأني وزوّدني بما فيه الحكمة فلا معنى للاقتراح عليه.

ما يتضمنه القرآن

ثمّ بيّن أنّ القرآن يكفيهم في إعجازه مع ما تضمّنه من البراهين والهداية والرحمة، ففيه أمور ثلاثة - مضافاً إلى جهة إعجازه - :

1- قوله: {بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ} جمع بصيرة وهي الدلائل التي تدركها العقول وتذعن لها إن ترك الإنسان العناد، وهنا قال: {مِن رَّبِّكُمْ} لأنّه أنزلها لإصلاح أمركم.

2- وقوله: {وَهُدًى} أي القرآن يتضمّن الهداية في كل شيء.

3- وقوله: {وَرَحْمَةٌ} هو رحمة وفيه الرحمة ويستتبع الرحمة.

وقوله: {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} أي هم الذين ينتفعون به فيتبصّرون ويهتدون ويجلبون الرحمة لأنفسهم، ولكن المعاندين بسوء اختيارهم جعلوه نقمة لأنفسهم، قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}(1)؛ لأنّهم رفضوه فاستوجبوا العذاب لأنفسهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

بيان أنّ الاهتداء بالقرآن ونيل الرحمة به تتوقّف على الاستماع إليه

ص: 400


1- سورة الإسراء، الآية: 82.

لفهمه، وأما عدم الاستماع إليه بجعل الأصابع في الآذان أو بعقد القلب علىرفضه فيكون سبباً لعدم الانتفاع به.

وهذا الاستماع واجب لأجل الاهتداء به، وكذلك يجب في صلاة الجماعة حينما يقرأ الإمام القرآن، ويستحب في سائر الأوقات، وما ورد في الروايات من الاستماع حين قراءة إمام الجماعة فهو بيان لمصداق من مصاديق ذلك ولا تنحصر الآية فيه.

وقوله: {فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ} الاستماع هو الإصغاء بأن يركّز الإنسان على الكلام ليفهمه.

وقوله: {وَأَنصِتُواْ} الإنصات هو السكوت حين الاستماع، فقد يستمع الإنسان بدقّة وهو يتكلّم، وهذا خلاف الأدب مع القرآن، كما أنّه قد يشتّت التركيز في الاستماع.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لعلّكم تهتدون فيرحمكم اللّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ...} الآية.

بما أنّ الاستماع والإصغاء لوحدهما لا يكفيان فلذا أمروا بذكر اللّه تعالى باستمرار وذلك كفيل بالالتزام العملي وعدم المعصية، ولذكر اللّه حالتان: حالة في القلب وحالة في اللسان، ولا بد أن يكون الذكر القلبي بخوف واستكانة، وأن يكون الذكر اللساني بأدب كي يكون مؤثّراً وإلاّ كان مجرّد خاطرة من غير أثر أو مجرّد لقلقة لسان.

وقوله: {فِي نَفْسِكَ} أي في قلبك، وهو أصل الذكر، فإنّ الذكر أن يكون الشيء في بال الإنسان ويقابله النسيان.

ص: 401

وقوله: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} أي حال كونك متضرّعاً وخائفاً فهذا الذكر هو الذي يؤثّر أثره، و(التضرّع): التذلّل والاستكانة، و(الخيفة): الحالة من الخوف.

وقوله: {وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ} بيان الحالة الثانية وهي الذكر باللسان لكن ينبغي أن لا يكون بصياح فذلك خلاف الأدب، وقد مرّ في قوله: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}(1)، وقال سبحانه: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا}(2).

وقوله: {بِٱلْغُدُوِّ وَٱلْأصَالِ} الغدو: الصباح، والآصال جمع الجمع لأصيل وهو بين العصر والغروب، وكأنّ المقصود استمرار الذكر ودوامه، أو في كل يوم بحيث لا يخلو اليوم عن ذكر اللّه ولا يضر الانشغال بأمور المعيشة ونحوها في بعض الوقت ممّا يغفل فيه الإنسان، لكن لا بد أن لا تكون غفلة مستمرّة ولذا قال: {وَلَا تَكُن مِّنَ ٱلْغَٰفِلِينَ} أي من الجماعة الذين نسوا اللّه باستمرار، والحاصل: أنه يجب على الإنسان أن يكون في ذكر اللّه تعالى كل يوم حتّى لا يكون غافلاً دائماً.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}.

هذا كالتعليل للآية السابقة، أي اذكر اللّه دائماً ولا تكن من الغافلين لأنّ المقربين إلى اللّه يذكرونه دائماً قلباً ولساناً وعملاً، فالإنسان يلحق بهم

ص: 402


1- سورة الأنعام، الآية: 63.
2- سورة الإسراء، الآية: 110.

بذكره وعدم غفلته.

وقوله: {ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} وهم المقرّبون عنده بالقرب المعنوي، وفي تفسير القمي: «يعني الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) »(1).

أمّا قلوبهم فهم {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}.

وأمّا في ألسنتهم فهم {يُسَبِّحُونَهُ} أي ينزّهونه عما لا يليق به، والتسبيح وإن كان أعم من اللسان إلاّ أنّ المراد به هنا - على الظاهر - الذكر اللساني.

وأمّا أعمالهم فهم {لَهُ يَسْجُدُونَ} وهو غاية الخضوع بالجوارح حتّى قيل إنّ السجود عبادة بالذات، اللّهم اجعلنا منهم.

خاتمة

عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإن قرأها في كل جمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة، أما إنّ فيها محكماً فلا تدعوا قراءتها فإنّها تشهد يوم القيامة لكل من قرأها»(2).

والمراد قراءتها مع العمل بما فيها.

28 / شهر رمضان / 1441ه

ص: 403


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 251؛ عن تفسير القمّي 1: 254.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 91؛ عن ثواب الأعمال: 105.

ص: 404

الفهرس

الإطار العام للسورة... 5

الآيات 1-9... 7

مراحل الحساب في الآخرة... 14

معنى الوزن في القيامة... 16

الآيات10-18... 20

مغالطات إبليس... 26

علّة طلب إبليس المهلة... 29

الآيات 19-25... 33

عصمة آدم (عليه السلام) والأمر الإرشادي... 43

الآيات 26-30... 46

الآيات 31-34... 58

الآيات 35-37... 68

معنى عدم حزن المؤمنين... 71

الآيات 38-41... 75

سبب تضاعف العذاب... 80

ص: 405

الآيات 42-45... 84

سهولة الدين... 86

أقسام الاستهزاء... 90

الآيات 46-49... 94

معاني الأعراف... 96

الرجال الذين على الأعراف... 97

الآيات 50-53... 104

الآيات 54-58... 113

معاني العرش... 117

معنى الاستواء على العرش... 118

عدم الفرق بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة... 121

الآيات 59-64... 128

قصة نوح (عليه السلام) وقومه... 130

الآيات 65-72... 137

قصة هود (عليه السلام) وقوم عاد... 140

الآيات 73-79... 149

قصة صالح (عليه السلام) وثمود... 151

الكلام مع الموتى... 158

الآيات 80-84... 160

ص: 406

قصة لوط (عليه السلام) وقومه... 161

الآيات 85-87... 167

قصة شعيب (عليه السلام) وقومه... 168

الآيات 88-93... 175

الآيات 94-99... 184

سنن اللّه تعالى العامة في المكذبين... 186

سبب إمهال ثمود ثلاثة أيام... 188

الآيات 100-102... 194

الآيات 103-112... 200

قصة موسى (عليه السلام) وفرعون... 202

الآيات 113-119... 210

قصة موسى (عليه السلام) والسحرة... 211

الآيات 120-126... 217

قصة إيمان السحرة... 219

الآيات 127-129... 225

الآيات 130-137... 231

أنواع عذاب قوم فرعون... 234

الآيات 138-141... 244

قصة بني إسرائيل بعد عبور البحر... 246

ص: 407

الآيات 142-144... 250

قصة ميقات موسى (عليه السلام) ... 252

خلافة هارون (عليه السلام) ووصايا موسى (عليه السلام) له... 253

استحالة رؤية اللّه تعالى... 255

كلام اللّه تعالى بخلق الصوت... 261

الآيات 145-147... 263

الآيات 148-154... 270

قصة عبادة بني اسرائيل للعجل... 273

موقف موسى (عليه السلام) وتبرأة هارون (عليه السلام) ... 276

الآيتان 155-156... 286

قصة عذاب السبعين رجلاً من قوم موسى (عليه السلام) ... 288

رحمة اللّه في الدنيا والآخرة وشروطها... 294

الآيتان 157-158... 295

أوصاف رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 297

الآيات 159-162... 305

المؤمنون من بني إسرائيل... 307

الآيات 163-166... 311

قصة أصحاب السبت... 313

معصية الساكتين عن المنكر... 316

ص: 408

الآيات 167-171... 321

الآيات 172-174... 332

عالم الذر... 333

المطلب الأوّل: تركيب الفطرة في عالم الذر... 334

المطلب الثاني: دفع الإشكالات عن عالم الذر... 335

المطلب الثالث: الميثاق بالألوهية والنبوة والإمامة... 338

المطلب الرابع: الغرض من الميثاق... 338

الآيات 175-178... 343

قصة بلعم بن باعورا... 344

الآيات 179-183... 350

الغرض من خلق الناس... 353

معنى الأسماء الحسنى... 356

الآيات 184-186... 360

الآيتان 187-188... 366

سبب كتمان وقت القيامة... 368

حول علم الغيب... 372

الآيتان 189-190... 376

النفس الواحدة التي أشركت... 377

الآيات 191-198... 381

ص: 409

خلاصة توحيدية في بطلان الشرك... 383

الآيات 199-202... 390

الآيات 203-206... 397

ما يتضمنه القرآن... 400

خاتمة... 403

الفهرس... 405

ص: 410

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.