التفكر فی القرآن (سورة الأنعام) المجلد 7

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر فی القرآن (سورة الأنعام) المجلد 7 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دار الفكر، 1439ق = 1397ش.

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن

--------------------

آية اللّه السيّد جعفر الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1439ه.ق

ص: 1

اشارة

(7)

التفكر في القرآن

سورة الأنعام

تأليف: سيد جعفر الحسيني الشيرازي.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

الإطار العام للسورة

السورة المباركة بمجملها تتمحور حول العقيدة الحقة من التوحيد والنبوة والمعاد والآيات الدالة عليها، مع الاحتجاج على المشركين ودحض حججهم بالبراهين، مع تضمنها لجملة من الأحكام التي ترتبط بالأمور العقديّة كالأمر بالأكل من الذبائح التي ذُكر اسم اللّه عليها والنهي عن الأكل مما ذُكر اسم الأصنام عليها وكالنهي عن قتل الأولاد تقرّباً للأصنام وكبعض المحلّلات والمحرّمات من المأكولات وغير ذلك مما سيأتي تفصيله.

ص: 5

ص: 6

الآيات 1-3

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَٰتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 1 هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ 2 وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ 3}

1- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ} جنس الحمد له؛ إذ جميع الكمالات والمحامد ترجع إليه { الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} أوجدهما من العدم {وَجَعَلَ الظُّلُمَٰتِ وَالنُّورَ} المادية والمعنوية بالهداية والضلال، {ثُمَّ} بعد وضوح خلقه وتدبيره {الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} يساوون به الأصنام الحجرية والبشرية الفاقدة للقدرة على أيّ شيء.

2- ثم بعد خلق السماوات والأرض {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ} فمنشأ الإنسان من التراب والماء - مباشراً وغير مباشر - {ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} أي قدّر للإنسان أجلين: محتوم وموقوف، فالمحتوم هو الذي لا بداء فيه وقد سجَّله في اللوح المحفوظ، والموقوف هو الذي يزيد وينقص بالأسباب المختلفة ففيه البداء، والأجل هو نهاية المدة، {ثُمَّ أَنتُمْ} الخطاب للمشركين {تَمْتَرُونَ} تجادلون عن شك، فإنكاركم ليس مستنداً إلى علم ويقين أو حجة صحيحة.

ص: 7

3- {وَ} لكن لا يمكن إخفاء شيء منه ولا الفرار من حكومته ف{هُوَاللَّهُ} الرب والمعبود {فِي السَّمَٰوَٰتِ وَفِي الْأَرْضِ} فلا يمكن الخروج عن سلطانه، وهو {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} ما اخفيتموه في قلوبكم {وَجَهْرَكُمْ} ما أظهرتموه بلسانكم {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} من أعمال، فهو يعلم بقلوبكم وأقوالكم وأفعالكم فلا يمكنكم إخفاء شيء عنه.

بيان عظيم نعمة اللّه تعالى

بحوث

الأول: هذه الآيات الثلاث بيان لعظيم نعمة اللّه تعالى بحيث ترجع إليه كل نعمة وكل كمال، فالآية الأولى: في بيان خلقه للوجود بأسره - من سماوات وأرض - ، والآية الثانية: في بيان خلقه للإنسان والتنبيه على أن مدة بقائه معينة لها نهاية لكيلا يغترّ فهو يرجع إلى اللّه تعالى ليحاسبه ويجازية، والآية الثالثة: في بيان ألوهيته لكل شيء فلا يمكن لأحد أن يخرج عن سلطانه، كما أنه عالم بكل شيء حتى ما في القلوب فلا يمكن كتمان شيء عنه، وفي ذلك تحذير شديد للمشركين الذين يزعمون أنهم يتمكنون من الفرار من حكومته تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ}.

الابتداء بحمد اللّه تعالى لبيان أن جميع النعم والكمالات ترجع إليه فتنحصر فيه الألوهية والربوبية، وهو من براعة الاستهلال حين إرادة الاحتجاج على المشركين الذين يجعلون له أنداداً وأضداداً ويعبدون غيره مع أنها كلها مخلوقات له، والحاصل أنه هو الذي يستحق الحمد ولا شيء غيره يستحقه؛ لأنه أولاً خلق السماوات والأرض فجميع الأنداد مخلوقات

ص: 8

له، ثم ثانياً إنه خلق الإنسان وجعل له أجلاً ينتهى إليه فيرجع إلى اللّه تعالىليحاسبه على أعماله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فهذه نعمة عظيمة تستوجب شكره وطاعته، لا عبادة غيره ومعصيته تعالى، ثم ثالثاً هو عالم بكل شيء لا يمكن إخفاء الشرك والمعصية عنه فلماذا العناد والتمادي؟

وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري فيرتبط بأفعاله تعالى، وقد يتوسع في الحمد فيكون ثناءً على ذاته أو صفاته الذاتية كما في الدعاء: «الحمد للّه على علمه»(1) ولعل ذلك باعتبار أن ذاته وصفاته الذاتية منشأ أفعاله التي يحمد عليها.

وقوله: {خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} أي أوجدهما من العدم، وهما يشتملان على جميع مخلوقات اللّه تعالى من الإنس والجن والملائكة والنباتات والجمادات وغير ذلك، ويدخل العرش والكرسي في ذلك لأنهما محيطان بهما. ثم السماوات سبع والأرضون سبع أيضاً، فلعل إفراد الأرض باعتبار اشتمال السماوات على الأراضي الستة الأخرى فدخلت في خلق السماوات، وفي التقريب: «إشعاراً بأكثرية السماوات على الأرض»(2).

الثالث: قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَٰتِ وَالنُّورَ}.

الخلق والجعل متقاربا المعنى، إلاّ أن الخلق يستعمل عادة في الإيجاد والإحداث، والجعل يستعمل غالباً في التصرّف في الشيء الموجود، ولذا قيل: الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التصيير، والظلمات والنور

ص: 9


1- قرب الإسناد: 7.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 43.

تنشأ من الأجسام عادة فهي تصرف فيها.

ثم إن الآية جمعت بين الإيجاد والتدبير؛ لأن تدبير أمور المخلوقات اقتضى خلق الشمس والقمر وطلوعهما وغروبهما حيث بهما صلحت الحياة على وجه الأرض.

ويمكن أن يراد بالنور والظلمات الهداية والضلال، فتكون الآية جامعة بين الإيجاد والهداية.

ثم إن تقديم الظلمات لعله لأجل أن الأشياء حينما خلقها اللّه كانت في ظلمة ثم أوجد اللّه تعالى النور، ويقال في العلوم الطبيعية إن المادة كانت في ظلام حتى حدث الانفجار الكوني الذي أضاءها.

وأما جمع الظلمات وإفراد النور فلعلّه لأجل التناسب مع الفقرة السابقة في قوله: {السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ}، أو لأن الظلمة درجات فقد تكون شديدة وقد تكون خفيفة، وهذا وإن كان يستلزم درجات في النور أيضاً - حيث إن خفة الظلمة بسبب اختلاط النور معها وكلما كان النور أقل كانت الظلمة أشد - إلاّ أن المتعارف هو لحاظ الظلمة ودرجاتها دون النور ودرجاته، هذا في الظلمات والنور المادية، وأما الهداية والضلال فمن المعلوم أن الصراط المستقيم واحد وسبل الضلال متعددة.

وأما حقيقة الظلمة فهي مجهولة لنا، وقد يقال: إنها عدم النور فيكون جعلها باعتبار إيجاد النور فيها، وقد يقال: إن الظلمة ليست أمراً عدمياً وإنما هي أمر وجودي فهي ضد النور وهما ضدان لا ثالث لهما، فتأمل.

الرابع: قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.

ص: 10

هذا للتعجيب والذم، أي تعجبوا من الكفار الذين يعلمون بهذا ثميعدلون عن عبادة اللّه وطاعته إلى الشرك والمعصية، وإذا لا يعلمون وينكرون فذلك أشد تعجيباً وذماً لإنكارهم البديهي الواضح.

وقوله: {ثُمَّ} - وهي للعطف بالترتيب بانفصال - لأجل البُعد الشديد بين الحقيقة الواضحة وبين صنع هؤلاء الكفار.

وقوله: {بِرَبِّهِمْ} إما متعلق بقوله: {يَعْدِلُونَ} فالمعنى: يساوون غير اللّه - كالأصنام - باللّه تعالى، أو متعلق بقوله: {كَفَرُواْ} فالمعنى: الكفار باللّه يعدلون عن الحق الواضح إلى الباطل، بمعنى العدول.

والحاصل أن التعجب من هؤلاء الكفار لأجل أنهم يعترفون بالخالق ثم يعصونه ويعبدون غيره مما لا ينفع ولا يضر، بل ضرّه أقرب من نفعه.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «فكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف، لما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} فكان ردّاً على الدهرية الذين قالوا: إن الأشياء لا بدء فيها وهي دائمة، ثم قال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَٰتِ وَالنُّورَ} فكان ردّاً على الثنوية الذين قالوا: إن النور والظلمة هما المدبّران، ثم قال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فكان ردّاً على مشركي العرب الذين قالوا: إن أوثاننا آلهة»(1).

الخامس: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا...} الآية.

بيان أنه الخالق الذي يرجع الإنسان إليه فلماذا التمادي والعصيان والجدال والشك؟ فهو الذي خلق الإنسان من أبسط شيء على وجه الأرض وهو

ص: 11


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 527؛ عن تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) : 542.

التراب والماء، وأبقاه في الحياة الدنيا لفترة قصيرة، بعدها المرجع إليه ليحاسبهعلى أعماله، ثم يجازيه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فجمعت هذه الآية بين الحثّ على طاعته لأنه المنعم، والتحذير عن معصيته لأن المرجع إليه.

وقوله: {خَلَقَكُم مِّن طِينٖ} لأن آدم وحواء (عليهما السلام) خلقا منه فكان أصل كل الناس منه، ولأن جسم الإنسان يتكون من عناصر التراب والماء، فهما يتحولان إلى نبات وحيوان ثم طعام الأب والأم ثم نطفة ثم إنسان.

وقوله: {ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا} بيان لمحدودية مدة بقاء الإنسان في الأرض، فأصل (الأجل) هو بمعنى نهاية المدة، وقد يتوسع فيه فيطلق على المدة كلّها، و{قَضَىٰ} بمعنى الحكم التكويني، فلا خلود لأيّ إنسان كي يتوهم أنه لا يحاسب ولا يجازى، بل الأجل أمامه.

وقوله: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي هناك أجل ثانٍ أيضاً وهو الذي سمّاه في ليلة القدر أو لملك الموت.

الفرق بين الأجل والأجل المسمى

ثم إن أحد الأجلين هو الأجل المحتوم الذي شاءه اللّه تعالى من غير تغيير فيه، والآخر الأجل الموقوف والمعلّق الذي قد يزيد اللّه فيه وقد ينقص وهو الذي فيه البداء، كأجل قوم يونس (عليه السلام) الذي زاد اللّه فيه لمّا آمنوا وكشف عنهم عذاب الخزي ومتّعهم إلى حين.

والأجل المحتوم مكتوب في اللوح المحفوظ، والأجل الموقوف مكتوب في لوح المحو والإثبات قال تعالى: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَٰبِ}(1).

ص: 12


1- سورة الرعد، الآية: 39.

ثم إن كلا الأجلين بقضاء اللّه تعالى، كما أنه تعالى سمّى كلا الأجلينلمن يشاء من خلقه، فلذا صح إطلاق الأجل المقضيّ على كليهما كما صحّ إطلاق الأجل المسمّى على كليهما أيضاً، ومن ذلك تعرف معنى الروايات التي فسّرت {أَجَلًا} بالمحتوم وبالموقوف، والتي فسّرت {أَجَلٌ مُّسَمًّى} بهما أيضاً، ففي تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «الأجل المقضيّ هو المحتوم الذي قضاه اللّه وحتمه، والمسمّى هو الذي فيه البداء يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير»(1)، وفي تفسير العياشي عنه (عليه السلام) : «الأجل الذي غير مسمّى موقوف يقدم منه ما شاء، وأما الأجل المسمّى فهو الذي ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل، قال: فذلك قوله اللّه: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَْٔخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}»(2)(3).

ومن ذلك يتبيّن أن {أَجَلًا} و{أَجَلٌ مُّسَمًّى} بمعنى واحد ولكليهما مصداقان: محتوم وموقوف، وليس في ذلك تكرار بل بيان لأمرين، فالمعنى ثم قضى أجلاً - محتوماً وموقوفاً - وهذا الأجل الذي سمّاه لبعض خلقه هو عنده ومالكه لا عند الأصنام والأنداد، كما تقول: باع زيد طعاماً والطعام عنده لا عند غيره، ومن ذلك يتبيّن سبب رفع {أَجَلٌ} لأن {أَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} جملة حالية أي قضى الأجل والحال أن الأجل المسمّى عنده.

ص: 13


1- تفسير القمي 1: 194؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 528.
2- سورة النحل، الآية: 61.
3- تفسير العياشي 1: 354؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 529.

وقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} المرية هي الشك مع الجدال، والعاقل لا يشكفي الأمر الواضح، وإذا شك فلا يجادل بل يستفسر ليحوّل شكّه إلى يقين، وأما الممتري فهو الذي يريد الشك للشك فيبقى فيه ويجادل بالباطل ليدحض الحق.

فحاصل المعنى إن اللّه خلقكم لمدة معينة فلماذا تجادلون بالباطل فتنكرون نعمته وتعصونه وتتخذون أرباباً من دونه؟!

السادس: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ...} الآية.

بيان لعدم تمكنهم من إخفاء أمرهم عن اللّه تعالى، فكما لا تتمكنون من الخروج عن سلطانه بل ترجعون إليه، كذلك لا تتمكنون من إخفاء كفركم وعصيانكم عنه، فأولاً: هو الإله في السماوات وفي الأرض فأين تفرون منه، ولا يوجد مكان آخر لكم لتلجئوا إليه من بطشه.

وثانياً: هو العالم بنواياكم وأفعالكم، فإن الذين يفرون من عقوبة السلاطين إما يخرجون عن سلطانهم ويلجئون إلى سلطان غيرهم أو يخفون أفعالهم عنهم، وكلا الأمرين محال في حق اللّه تعالى.

وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ} أي هو الإله المعبود؛ لأن كلمة {اللَّهُ} هي الإله، وإله بمعنى المعبود أي هو إله السماوات والأرض، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ}(1).

ومن ذلك يتبيّن أن {فِي السَّمَٰوَٰتِ} متعلق ب{اللَّهُ} باعتبار أصله الذي هو بمعنى الإله أي المعبود.

ص: 14


1- سورة الزخرف، الآية: 84.

وقوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} أي ما أخفيتموه في قلوبكم.

وقوله: {وَجَهْرَكُمْ} أي ما اظهرتموه من الأقوال.

وقوله: {مَا تَكْسِبُونَ} أي ما فعلتموه.

فالآية شملت جميع الأفعال من نية وخاطرة أو قول أو فعل، ويحتمل أن يكون السر والجهر أعم من الأفعال والأقوال، وأمّا الكسب فهو ما يترتب على الأعمال، والحاصل هو العالم بكل شيء يرتبط بكم.

وسئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَفِي الْأَرْضِ}؟ قال: «كذلك هو في كل مكان. قلت: بذاته؟ قال: ويحك، إن الأماكن أقدار، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك، لكن هو بائن من خلقه، محيط بما خلق علماً وقدرةً وإحاطةً وسلطاناً وملكاً، وليس علمه بما في الأرض بأقل ممّا في السماء، ولا يبعد منه شيء، والأشياء له سواء علماً وقدرةً وسلطاناً وملكاً وإحاطةً»(1).

ص: 15


1- التوحيد للصدوق: 133؛ البرهان في تفسير القرآن 3: 531.

الآيات 4-6

{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٖ مِّنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ 4 فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ 5 أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٖ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَٰرَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ 6}

ثم يذكر اللّه تعالى التوحيد والنبوة والمعاد وامتراءهم فيها ويحاججهم وينذرهم، فقال:

4- {وَمَا تَأْتِيهِم} تظهر لهم بإنزال اللّه تعالى {مِّنْ ءَايَةٖ مِّنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِمْ} تدلّ عليه وعلى توحيده {إِلَّا كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} لا يلتفتون إليها ويغفلون عنها.

5- وسبب إعراضهم تكذيبهم {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ} القرآن الكريم والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا أدّى بهم إلى العناد عبر الإعراض عن كل آية {لَمَّا جَاءَهُمْ} ولكن لا ينفعهم الإعراض والتكذيب {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} حين نزول العذاب عليهم {أَنبَٰؤُاْ} أخبار {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} من الحق، ومجيء النبأ بمعنى ظهور الأمر لهم حين جزائهم بالعذاب.

6- ثم يذكرهم اللّه تعالى بأن ذلك سنته في الأقوام وهؤلاء أيضاً يجري

ص: 16

عليهم ما جرى في أولئك {أَلَمْ يَرَوْاْ} الاستفهام للتذكير والتوبيخ، والرؤيةبمعنى العلم أو مشاهدة الآثار {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٖ} الجماعة المقترنون في الزمان {مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي جعلنا لهم القوة والسيطرة فكانوا أغنياء مسلطين ذوي حضارة {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} من تلك النعم {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ} الغيث {عَلَيْهِم مِّدْرَارًا} أي بغزارة {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَٰرَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} تحت مساكنهم ومزارعهم، فعاشوا حياة مرفّهة بخصب، والحاصل إنهم سيطروا على الأرض وانتفعوا ببركات السماء بالمطر في وقته وبالأنهار في سائر الأوقات {فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ} أي بسببها، ولو كانوا يطيعون لاستمرت حضارتهم وخيراتها فيهم وفي ذريتهم {وَأَنشَأْنَا} خلقنا {مِن بَعْدِهِمْ} بعد إهلاكهم {قَرْنًا ءَاخَرِينَ} فلستم أنتم بعيدين عن عذاب اللّه تعالى لو استمررتم في عصيانكم.

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى نعمه التي تستوجب حمده حذّرهم من مخالفتهم للمعتقدات الصحيحة فذكر التوحيد في هذه الآيات، ثم النبوة والمعاد في الآيات اللاحقة.

فأما في التوحيد فذكر أنه أرسل الآيات لهم، لكنهم عتوا فكذبوا بالحق فصار ذلك سبباً لإعراضهم عن جميع الآيات وعدم الانتفاع بها، ثم أدّى بهم إلى الاستهزاء، لكن ذلك لا ينفعهم بشيء؛ لأنه سرعان ما تأتي ساعة الحساب والجزاء، ثم يذكرهم اللّه تعالى بما علموه وشاهدوه من آثار الأمم السابقة - كعاد وثمود - الذين كانوا أقوى وأكثر ثروة فلم تنفعهم قوتهم ولا

ص: 17

ثروتهم لما أهلكهم اللّه تعالى بسبب ذنوبهم، ولم تتوقف الحياة عليهم، بلإن اللّه خلق آخرين خلفوهم في أرضهم، فما بال هؤلاء لا يعتبرون.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٖ مِّنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِمْ...} الآية.

بيان لطف اللّه بهم حيث أنزل الآيات عليهم ليهديهم، إلاّ أنهم لم يعتبروا بها ولم يلتفتوا إليها، لا لقصور في تلك الآيات، بل لأنهم لم يريدوها، والسبب مذكور في الآية التالية وهو تكذيبهم بالحقّ، فإن الإنسان قد يتخذ موقفاً ثم لا يتراجع عنه مهما ظهر له بطلان موقفه، بل يحاول أن يخدع نفسه وذلك بعدم الالتفات وعدم القبول لأيّ دليل وبرهان ينقض موقفه، ففي الآية بيان عنادهم وعتوهم.

وقوله: {وَمَا تَأْتِيهِم} بيان لطفه تعالى حيث لم يكتف بالآيات التي تلازمهم كآيات الآفاق والأنفس، بل زادهم اللّه آيات متعددة وبالتدريج لتخشع قلوبهم.

وقوله: {مِّنْ ءَايَةٖ} حرف الجر للاستغراق، أي أعرضوا عن جميع الآيات التى أتتهم، و(الآية) هي العلامة التي تدل على الشيء، ويلازمها الظهور والوضوح عادة.

وقوله: {مِّنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِمْ} وحرف الجر هنا للتبعيض، فالذي جاءهم بعض آياته مما يتناسب معهم، وهذه الآيات تشمل آيات القرآن والمعاجز الأخرى والبراهين العقلية والفطرية وغيرها، و{رَبِّهِمْ} لبيان كمال لطفه، فإنه يرسل بالآيات لإصلاحهم.

وقوله: {مُعْرِضِينَ} من الإعراض بمعنى عدم الالتفات إليها وعدم

ص: 18

الاعتبار بها وعدم تأملها، والجامع هو الغفلة عنها.

الثالث: قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ...} الآية.

الفاء في {فَقَدْ} للترتيب، وقد تستعمل في مورد التعليل، فالمراد بيان سبب إعراضهم وهو أنهم كذبوا بالحق - وهو القرآن والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - لما لم ترض أنفسهم الأمّارة بالسوء للخضوع له، كما أن مصالحهم الماديّة حالت دون قبولهم له، وهذا التكذيب كان مصحوباً بالاستهزاء، ومن البلاغة ذكر التكذيب في أول الآية وذكر الاستهزاء في آخرها، فالمعنى لقد كذبوا واستهزؤوا بالحق وسيعاقبون على ذلك، أو المقصود بيان أن تكذيبهم لم يكن مجرد تكذيب قلبي، بل صاحبه تكذيب عملي بالاستهزاء.

وقوله: {بِالْحَقِّ} يتضمن برهان بطلان عملهم؛ لأن الذي كذبوا به كان الحق، وهو مما يقتضي بطبعه التصديق به لأنه الواقع الثابت، والظاهر أن المراد من الحق هنا القرآن والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأن تكذيبهما كان السبب في الإعراض عن الآيات الأخرى.

وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} وفي آية أخرى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(1)،

ولعل استعمال السين تارة وسوف أخرى لأن العقوبات مختلفة، فقد تكون معجّلة كقتلهم بيد المسلمين في بدر وغيره أو عذابهم في القبر، وقد تكون مؤجّلة كعذابهم في يوم القيامة.

وقوله: {أَنبَٰؤُاْ} جمع نبأ بمعنى الخبر، قيل: «النبأ لا يكون إلاّ للإخبار بما لا يعلمه المخبَر، وفي القرآن: {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَٰؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِ

ص: 19


1- سورة الشعراء، الآية: 6.

يَسْتَهْزِءُونَ}وإنّما استهزؤوا به لأنهم لم يعلموا حقيقته، ولو علموا ذلك لتوقّوه»(1)، وأما عظمة الخبر فتستفاد من القرائن كقوله: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}(2) لا من الكلمة نفسها فهي أعمّ.

والمقصود أنهم سيعلمون بحقيقة استهزائهم حينما يحاسبون ليعاقبوا عليه، وهذا تهديد لهم ووعيد.

وغير خفي أن من طبيعة وذات الحق الغلبة على الباطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَٰطِلُ إِنَّ الْبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(3)، وقال: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَٰفِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(4).

الرابع: قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٖ...} الآية.

نفي لاستبعادهم العذاب، فهو تذكير لهم بما جرى في الأمم السابقة الذين كانوا أقوى وأغنى وأكثر نعمة منهم، ليعتبروا بها، وإنما بيّن أوصاف تلك الأمم حتى لا يتوهموا أنهم استثناء؛ لأن الإنسان - لحبّه لذاته - قد يرى نفسه فوق الآخرين فلا يصيبه ما أصابهم، لكن يتم التذكير بأن المقتضي للإهلاك موجود وهو رفض الحق، والمانع مفقود؛ لأن القوة والثروة لا تغني عن عذاب اللّه شيئاً، كما أن اللّه لا يحتاج إليهم ليصرف النظر عن عذابهم، وقد بيّن اللّه تعالى أن أولئك الأقوام كانت السماء والأرض مسخرة لهم، فقد

ص: 20


1- معجم الفروق اللغوية: 529.
2- سورة النبأ، الآية: 2.
3- سورة الإسراء، الآية: 81.
4- سورة الأنفال، الآية: 7-8.

تمكنّوا في الأرض فتسلطوا عليها، وقد آتتهم السماء ماءها بغزارة بحيث ارتوت مزارعهم وجرت أنهارها، لكنهم لما أذنبوا أهلكهم اللّه تعالى، كما بيّن أنّه استخلف غيرهم مكانهم قال سبحانه: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٖ جَدِيدٖ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٖ}(1).

وقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ} استفهام للتذكير والتوبيخ، والرؤية هنا أعم من رؤية آثارهم عياناً، والعلم بما جرى عليهم بتواتر أخبارهم.

وقوله: {مَّكَّنَّٰهُمْ} التمكين هو السيطرة على الشيء بنحو يتمكن من التصرف فيه كما يشاء، وقيل: «هو إعطاء ما يصحّ به الفعل كائناً ما كان من الآلات والعدد والقوى»(2).

وقوله: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ} والسماء هنا بمعنى السحاب ولذا قال أرسلنا؛ لأن السحب تنتقل من البحار تسحبها الرياح بأمر اللّه تعالى فهو الذي يرسلها واستعمال السماء في السحاب مجاز بعلاقة الحال والمحل، ولعلّ اختيار هذا المجاز ليقابل به التمكين في الأرض.

وقوله: {مِّدْرَارًا} من الدَّر بمعنى امتلاء الضرع والثدي باللبن حتى جرى وسال، والمراد غزارة الأمطار الهاطلة، و(مدرار) على وزن مفعال إما للآلة أو للمبالغة.

وقوله: {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَٰرَ} بيان لاستمرار خير السماء، فليست المياه خاصة بوقت الأمطار، بل بركاتها تعمّ حتى مع انقطاعها بأن تجري أنهاراً.

ص: 21


1- سورة إبراهيم، الآية: 19-20.
2- معجم الفروق اللغوية: 142.

وقوله: {مِن تَحْتِهِمْ} لعلّه لأجل بيان خيرها؛ لأن الأنهار إذا فاضت تحولت إلى سيل مخرّب، أما جريانها من تحتهم ففيها الخير والبركة.

وقوله: {فَأَهْلَكْنَٰهُم} أي بإنزال العذاب عليهم وقطع آثارهم ونسلهم وفناء حضارتهم.

وقوله: {بِذُنُوبِهِمْ} أي بسببها، فإن الذنوب لها أثر معنوي في الإهلاك، تارة بسبب غيبي بأن ينزل اللّه عليهم العذاب من غير أسباب ظاهرية، وتارة بسبب طبيعي بمعنى أن يرتب اللّه الأسباب والمسببات الطبيعية بحيث يؤدي إلى هلاك القوم، وهكذا سائر أنواع العذاب والعقوبات قد تكون بسبب غيبي أو سبب طبيعي، وقد مرّ أن جميع الأمور مرتبطة باللّه تعالى، والأسباب الواقعية هي الأسباب الغيبيّة، إلاّ أن حكمة اللّه تعالى اقتضت جعل أسباب ظاهرية أيضاً بحيث يكون السبب الظاهري مقارناً للسبب الغيبي عادة، وقد تقتضي حكمته عدم وجود سبب ظاهري لتظهر قدرته وعذابه.

والحاصل: الآية تهديد للكفار في استمرارهم في العناد، بأن اللّه قادر على إهلاكهم وخلق آخرين.

ص: 22

الآيات 7-10

اشارة

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰبًا فِي قِرْطَاسٖ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ 7 وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ 8 وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ 9 وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ 10}

ثم يبين اللّه تعالى تكذيبهم للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال:

7- {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰبًا} خطاً مكتوباً {فِي قِرْطَاسٖ} ورقة {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} مضافاً إلى رؤيتهم بعيونهم، فهو أنفى للشك {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالتوحيد، فمن لا تنفعه دلائل التوحيد الواضحة لا تنفعه دلائل النبوة أيضاً {إِنْ} ليس {هَٰذَا} القرطاس المكتوب النازل {إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح، فيقلّبون ما هو واضح الدلالة على النبوة إلى زعم أنه واضح الدلالة على السحر.

8- {وَقَالُواْ} في احتجاجهم لإبطال النبوة {لَوْلَا أُنزِلَ} أي لماذا لم ينزل {عَلَيْهِ مَلَكٌ} ليكلمهم بتصديقه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويكون نذيراً معه، {وَ} لكن هذا الاقتراح لا ينفعهم؛ لأن الملك إذا شاهدوه إما ينزل للعذاب أو للتبليغ، ف{لَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا} للعذاب {لَّقُضِيَ الْأَمْرُ} أي انتهت مدّتهم وحان أجلهم

ص: 23

{ثُمَّ} بعد نزول العذاب {لَا يُنظَرُونَ} لا تعطى لهم مهلةليؤمنوا، كما في عذاب قوم لوط لما رأوا الملائكة.

9- {وَ} أما مَلَك التبليغ ف{لَوْ جَعَلْنَٰهُ} جعلنا الرسول {مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا} أي في صورة إنسان؛ لأن عين الناس لا تطيق رؤية الملك بصورته الأصلية {وَ} حينئذٍ {لَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} أي أبهمنا عليهم الأمر {مَّا يَلْبِسُونَ} أي ما يشكلونه في أمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حيث إنهم لو رأوا الملك بصورة إنسان وقال إني ملك كذّبوه حتى لو أراهم الآيات كما كذبوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما شاهدوا معاجزه.

10- واقتراحهم هذا لم يكن عن طلب هداية، بل كان للاستهزاء بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيسلّيه اللّه ويهدّدهم بقوله: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ} أي نزل وأصاب {بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم} من الرسل {مَّا} أي العذاب الذي {كَانُواْ بِهِ} بذلك العذاب {يَسْتَهْزِءُونَ}.

سبب عدم الاستجابة لاقتراح المشركين

بحوث

الأول: لما بيّن اللّه عتوّهم وعنادهم في أمر التوحيد وأنهم لا تنفعهم الآيات فيها عطف الكلام إلى عتوّهم في أمر النبوة وأنهم لا تنفعهم الآيات فيها أيضاً، فالآيات النازلة الدالة على التوحيد دلّت على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً لكنهم كذّبوها فأنكروا التوحيد والنبوة، وبدلاً من التصديق اقترحوا اقتراحات أخرى لا ليعلموا بالحق - فقد علموا به بالآيات التي رأوها - بل للاستهزاء والتعجيز.

وغير خفي أنه لو لم تكن آية سابقة وكان اقتراحهم معقولاً بحيث لا

ص: 24

ينافي الحكمة لكان اللّه يستجيب لهم ليكون حجة عليهم، كاستجابتهلاقتراح قوم صالح لما طلبوا خروج ناقة بفصيلها من الجبل؛ لأنه لم تسبقه آية وكان اقتراحهم معقولاً، وهكذا بالنسبة إلى مشركي مكة لما اقترحوا في بداية الأمر بعض المعاجز - كانشقاق القمر - استجاب اللّه تعالى لهم، وكان في ذلك كفاية لو تركوا العناد، لكنهم عاندوا فاقترحوا اقتراحات كثيرة لمعاجز أخرى من منطلق الاستهزاء والتعنّت فلم يستجب اللّه لهم؛ لأن المعاجز ليست ملعبة لمن يريد أن يستهزأ باللّه تعالى وبالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي هذه الآيات يبيّن اللّه تعالى اقتراحين من اقتراحاتهم ترتبط بالنبوة وسبب عدم استجابته تعالى لهم في ذلك؛ إذ لا بد من إبطال حجج أهل الباطل لئلا يغترّ بها الناس، ولإتمام الحجة عليهم، وقد مرّ بعض الكلام في سورة النساء(1).

الثاني: قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰبًا فِي قِرْطَاسٖ...} الآية.

هذا كان من اقتراحاتهم ففي سورة الإسراء: {أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًا نَّقْرَؤُهُ}(2)، وقد كرر اليهود الطلب نفسه قال تعالى: {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ}(3)، لكنهم يكذبون بهذه الآية حتى لو شاهدوها ولمسوها بأيديهم، فما أسهل تكذيب الآيات عبر زعم أنها سحر!

وقوله: {كِتَٰبًا} أي خطاً مكتوباً.

ص: 25


1- راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 500.
2- سورة الإسراء، الآية: 93.
3- سورة النساء، الآية: 153.

وقوله: {فِي قِرْطَاسٖ} أي ورقة، قيل: الكلمة معرّبة من القبطية، وقد مرّأن المعنى الذي لا يستعمل في قوم إذا جاءهم من أقوام أخرى جاء مع اسمه عادة، ولم يكن العرب أهل كتابة وصناعة الورق فكان يأتيهم من أماكن أخرى بأسمائه، فلمّا عُرِّب صار عربياً ومن لغتهم، فصحّ استعماله في الكلام الفصيح.

وقوله: {فَلَمَسُوهُ} أي لمسوا الكتاب، والمعنى أنهم جمعوا بين الرؤية وبين اللمس فهو أنفى للشك؛ إذ قد يشاهد الإنسان شيئاً فينسبه إلى خطأ الباصرة أو السحر - الذي هو تصرّف في العيون - لكن إذا لمسه بعد أن رآه لعلم أنه الحق.

وقوله: {بِأَيْدِيهِمْ} إضافة هذا القيد لتصوير الوضوح، فيكون تأكيداً للمس كما تقول: (رأيته بعيني وسمعته بأذني) حيث إنه تأكيد.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا...} الآية.

تتضمن هذه الآية والتي بعدها اقتراحاً آخر ذكروه استهزاءً، وهو أن ينزل ملك من السماء ليكون مع رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصدّقه، قال تعالى: {وَقَالُواْ مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}(1).

واللّه تعالى أولاً يبيّن سبب عدم الاستجابة لهذا الاقتراح، ثم يبيّن عاقبة استهزائهم، فإنهم كانوا يريدون مشاهدة الملك فيكلمونه ويسألونه عن صدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيقال لهم: إن الملك لا يظهر للناس إلا في حالتين:

ص: 26


1- سورة الفرقان، الآية: 7.

الحالة الأولى: حين العذاب، كالملائكة الذين جاؤوا لعذاب قوم لوطحيث شاهدهم الكفّار، ولكن اللّه تعالى لم يكن يريد إنزال العذاب على مشركي مكة؛ لأنه أرسل رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}(1).

الحالة الثانية: للتبليغ، وهذا إنما يكون لو نزلوا على صورة بشر وذلك لا ينفع المشركين؛ لأنهم لو رأوا الملائكة بصورة بشر لكذبوهم أيضاً، ولو قالوا إنا ملائكة لما صدّقوهم حتى لو جاؤوا بالآيات؛ لأنهم اعتادوا على تكذيب الآيات عناداً وعتواً، كقوم لوط لمّا رأوا الملائكة في صورة بشر هرعوا إليهم لقصدهم السيّء، وأما نزول الملائكة على صورتهم الأصلية فهذا ما لا تطيقه أعين عامة الناس إلاّ الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) حيث أعطاهم اللّه تعالى قوة مشاهدة العالم الآخر.

وبعبارة أخرى: إن عالم الغيب يختلف عن عالم الشهود، والملائكة من عالم الغيب فمشاهدتهم بصورتهم الأصلية تقتضي إما أن يعطي اللّه الإنسان القوة على مشاهدة الغيب، وإما انتقال الإنسان إلى عالم الغيب، والأول ليس من الحكمة لعامة الناس وإلاّ بطل الامتحان واختلت موازين الدنيا، والثاني يعني موت الإنسان حيث يشاهد العالم الآخر قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(2)، وقال: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَٰئِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٖ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا}(3)، والحاصل أن المعاجز إنما تكون

ص: 27


1- سورة الأنفال، الآية: 33.
2- سورة ق، الآية: 22.
3- سورة الفرقان، الآية: 22.

بحكمة وضمن السياق العام في التكوين ولا يراد منها إيجاد الخلل في نظامالتكوين أو تغييره.

وقوله: {لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي ملك نشاهده، وإلاّ فالملك الذي لم يشاهدوه كان ينزل باستمرار على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما أن الملك في صورة بشر قد شاهدوه في صورة دحية الكلبي لكن لم يعلموا بكونه ملكاً إلاّ بإخبار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم(1).

وقوله: {لَّقُضِيَ الْأَمْرُ} القضاء هنا بمعنى الانتهاء، والأمر بمعنى الأجل والمدة، أي لانتهى أمد بقائهم.

وقوله: {ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} أي لما يحين أجلهم المحتوم لا تعطى لهم المهلة للتوبة والإيمان، فالفرق بين المقطعين أن قضاء الأمر هو الحكم بانتهاء المدة، وعدم الإنظار هو تنفيذ الحكم بإهلاكهم.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا...} الآية.

أي لو جعلنا الرسول - الذي يكون مع رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ملكاً لكان لا بد من جعله في صورة بشر، ويحتمل أن تكون هذه الآية ردّاً لاشكالهم الآخر وهو: لماذا أرسل اللّه بشراً ولم يرسل ملكاً؟ والجواب: أنه لا بدّ من التشابه بين الرسول والمرسل إليهم ليكون قدوة لهم في كل الأمور، فمَلَك لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا ينام وغير ذلك من الأمور البشرية لا يمكن أن يكن أسوة للبشر، فحتى لو أراد اللّه إنزال ملك لجعله في صورة بشر.

ص: 28


1- الأمالي للطوسي: 41؛ مناقب آل أبي طالب 1: 199.

وقوله: {وَلَلَبَسْنَا} أصل اللَبس - بالفتح - الخلط والاشتباه، والمقصود هناالنتيجة أي إبهام الأمر؛ لأن الذي يشتبه لا يصل إلى حقيقة الأمر كذلك مع إبهام الأمر لا يعرف الحقيقة، فالمعنى أنهم يشكلون على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنه بشر ويقترحون إنزال مَلَك، لكن لو نزل المَلَك في صورة بشر لبقي إشكالهم على حاله؛ لأنهم لو رأوا مَلَكاً في صورة بشر لكذّبوه، فإن قال لهم إني ملك وأتى بالآيات لكذبوها أيضاً، كما كذّبوا رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا جاءهم بالآيات البينات.

وغير خفي أن تفسير اللَبس بالإبهام يدفع الإشكال بأن التلبيس أمر سلبي يتضمن معنى الخداع فكيف نُسب إلى اللّه تعالى، فالجواب أنه إبهام وليس خداع أي عدم ظهور الحقيقة لهم لا خداعهم بغيرها.

وقوله: {مَّا يَلْبِسُونَ} أي ما يلبسونه على أنفسهم، بأن محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشر فكيف صار رسولاً للّه تعالى، فهم بعدم تعقلّهم وعدم نظرهم في الآيات أوقعوا أنفسهم في الاشتباه والخلط مع أنهم لو كانوا يسمعون ويعقلون لقبلوا الحق ولم يعاندوا.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ...} الآية.

هذا بيان أن طلبهم كان للاستهزاء لا للواقع، كما أنه تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيقول اللّه تعالى: إن استهزاءهم سيكون وبالاً عليهم بالعذاب.

وقوله: {اسْتُهْزِئَ} لأن طبيعة الكفار والمعاندين واحدة وهي لا تنسجم مع الحق، وحيث لم يتمكنوا من دحض الحجج والبراهين والآيات التجأوا إلى الاستهزاء تغطيةً لفشلهم في الاحتجاج، ولأن الحق الذي كان يبيّنه

ص: 29

الأنبياء لم يكن مألوفاً لديهم لذا كان يسهل عليهم الاستهزاء به.

وقوله: {فَحَاقَ} في المقاييس: «هو نزول الشيء بالشيء»(1)، وقد يلازم ذلك الإحاطة، ولذا فُسر بالإحاطة أيضاً.

وقوله: {سَخِرُواْ مِنْهُم} السخرية والاستهزاء بمعنى واحد، وقيل: «إن أكثر استعمال السخرية في ذات الشخص، وأكثر استعمال الاستهزاء للعمل أو العقيدة»(2)، لذا يتعدي الأول ب(من) والثاني بالباء، والكفار كانوا يستهزؤون بالرسل وبما جاؤوا به من عقائد وأقوال وأعمال وقد جمعت هذه الآية الأمرين فقال: {بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}، وقيل: «الفرق أن الاستهزاء هو من غير أن يسبق منه فعل يستهزأ به من أجله، والسخرية تدل على فعل يسبق المسخور منه»(3)، والأول أظهر.

وقوله: {مَّا كَانُواْ بِهِ} أي العذاب الذي كانوا يستهزؤون به حيث نزل عليهم قال تعال: {وَحَاقَ بَِٔالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}(4).

ص: 30


1- مقاييس اللغة: 273.
2- راجع مفردات الراغب مع ملاحظات العاملي: 737.
3- راجع معجم الفروق اللغوية: 50.
4- سورة غافر، الآية: 45.

الآيات 11-13

اشارة

{قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 11 قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 12 وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 13}

ثم بعد ذكر التوحيد والنبوة يذكر اللّه تعالى المعاد، فقال:

11- {قُلْ} يا رسول اللّه لهؤلاء المشركين: {سِيرُواْ} سافروا {فِي الْأَرْضِ} لتروا آثار الأمم البالية {ثُمَّ انظُرُواْ} تفكروا في القرآن الذي بيّن أحوالهم {كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} الذين كذّبوا الرسل، وهذا السير والنظر سبب لاعتبارهم بهم وعدم تكذيبهم رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

12- ثم بعد هلاك المكذبين يكون مصيرهم إلى الحشر يوم القيامة؛ لأن القادر على الخلق والمالك لكل شيء قادر على البعث في يوم القيامة {قُل} لهؤلاء المشركين: {لِّمَن مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}؟ وحيث لا يتمكنون من أن يقولوا إنها لهم أو لأصنامهم ف{قُل} في جوابهم: إنها {لِّلَّهِ} وقد خلقها لا للعبث، بل {كَتَبَ} أوجب {عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} لذلك خلقها، ولذلك يبعثكم ف{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} حيث بدأ الجمع من موت أول إنسان ويستمر إلى موت آخر إنسان عند ذاك يبعثكم جميعاً {لَا رَيْبَ

ص: 31

فِيهِ} لوضوح آياته، فالخلق والبعث للرحمة لكن {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ}ضيّعوها بمخالفة الفطرة والعقل {فَهُمْ} بسبب هذا التضييع {لَا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدّقون بالحق.

13- {وَ} لا يتوهّمن أحد أنه يتمكن من إخفاء شيء عن اللّه؛ إذ {لَهُ} للّه تعالى {مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فهو الخالق له {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْعَلِيمُ} بأفعالكم ونواياكم.

بحوث

الأول: سياق الآيات: بعد ذكر التوحيد والنبوة جاء دور الكلام حول المعاد تخويفاً لهم من العذاب بسبب الكفر وترغيباً لهم في الثواب عبر الإيمان، ولمّا ذكر في الآية العاشرة أن المستهزئين حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، ذكر في هذه الآيات تفصيل ذلك العذاب بإهلاكهم أولاً، وخسرانهم لأنفسهم وإخراجها عن قابلية الرحمة ثانياً، ثم العذاب العظيم في الآخرة وقد ذكره في الآية 15.

والحاصل: إن الكفر يؤدي إلى الهلاك في الدنيا سواء بعذاب سماوي أو بقطع ذريتهم أو إبادة حضارتهم ونحو ذلك، ثم ذلك خسارة الإنسان لنفسه؛ لأنه أوصل نفسه بذلك إلى درجة الحيوانات - بل أضل منها - مع أنه كان يمكنه أن يسمو بنفسه إلى مراقي الإنسانية، ثم بعد ذلك ينتظره عذاب الآخرة وهو العذاب المبين الذي لا كاشف له.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ...} الآية.

بيان للمرحلة الأولى من عذاب الكفار وهو إهلاكم، وفي ذلك إثارة

ص: 32

لدفائن العقول لئلا يغترّوا بما هم عليه من القوة والمكنة؛ فإن الإنسانالساكن في مكانه قد لا يلتفت إلى حقائق كثيرة، لأن سكونه يجعل حوله حواجز فكرية وعملية فيؤدي به إلى تصورات غير صحيحة، لذا يكثر في الانعزاليين عدم الواقعيّة، لكن بالخروج من العزلة والنظر في الأمور يتهيأ للإنسان فهم الواقع وتصحيح التصورات، كما أنّ إدراك الإنسان للشيء بالرؤية البصرية أقوى من إدراكه إياها بالسمع، ومن هذا المنطلق كان الأمر بالسير في الأرض لرؤية آثار الأقوام البائدة للاعتبار بها.

وقوله: {سِيرُواْ} بمعنى السفر والذهاب.

وقوله: {ثُمَّ انظُرُواْ} أي لا تكن رؤيتكم للآثار رؤية ساذجة لا اعتبار فيها، بل انظروا إلى القرآن لتعلموا صدقه في ما أخبركم به لتعتبروا بذلك، وسُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية فقال: «عنى بذلك أي انظروا في القرآن فاعلموا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم، وما أخبركم عنه»(1).

الثالث: قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ...} الآية.

بيان للمرحلة الثانية في العذاب وهي خسارة النفس وإخراجها عن قابلية الرحمة، وذلك ببيان أن اللّه تعالى خلق السماوات والأرض للرحمة، وقدّر يوم القيامة للرحمة أيضاً، لكن مشكلة هؤلاء أنهم بسوء اختيارهم رفضوا تلك الرحمة وصنعوا ما أخرجهم عن القابلية لها؛ وذلك لأنهم خسروا أنفسهم عبر مخالفتهم لفطرتهم وعقلهم وأدى ذلك إلى عدم إيمانهم، فمنشأ عدم الإيمان هو تلك الخسارة.

ص: 33


1- الكافي 8: 249؛ عنه البرهان في تفسير القرآن 3: 533.

وقوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} سؤال تقريري بما يعلمونه من أن اللّه تعالى هو الخالق، لينتقل من ذلك إلى الاستدلال عليهم بأن القادر على الخلق قادر على البعث، قال سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}(1).

وقوله: {قُل لِّلَّهِ} أي لا تنتظر جوابهم بل أجبهم بما يعلمونه ويذعنون به ولا يتمكنون من إنكاره، وهو أن السماوات والأرض ملك للّه تعالى وهو خالقها، ولعل عدم انتظار جوابهم هو أن هذا كان مقدمة للاستدلال للمعاد، ولذا تمّ ذكره والانتقال إلى ذي المقدمة وهو الغرض الأصلي من الآية.

بين الرحمة والحكمة

وقوله: {كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} بيان أن ملكيته ليست بالبطش والنقمة بل بالرحمة، فهو لم يخلق الخلق إلاّ ليرحمهم قال تعالى: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(2)، وقد سبقت رحمته غضبه، فكلّما كان للرحمة مجال رحم إلاّ لو كانت خلاف الحكمة فحينئذٍ لا رحمة؛ لأنها من صفات الفعل، وأمّا حكمته فهي من صفات ذاته فهي الحاكمة على الرحمة، و{كَتَبَ} بمعنى قضاه قضاءً حتماً، وهذه كتابة تكوينية وتشريعية، لذلك تدبيره لأمور خلقه بالرحمة، وتشريعاته أيضاً للرحمة، فليست أوامره ونواهيه وسائر أحكامه اعتباطاً، وإنما رعاية لمصلحة العباد ولدفع المفاسد عنهم.

وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي كما خلقكم للرحمة، كذلك

ص: 34


1- سورة يس، الآية: 78-79.
2- سورة هود، الآية: 119.

يبعثكم للرحمة أيضاً، فأصل تقدير البعث لأجل الرحمة بالخلق، فأولاًليكون سبب طاعتهم في الدنيا؛ لأن الثواب والعقاب من أكبر المحرّكات للناس للطاعة، وثانياً لتكتمل رحمتهم فإن الرحمة الأخروية هي التامة من كل الجهات وبكل الجهات ولا يشوبها المصاعب والآلام والمنغّصات، وهذا نظير أن نقول إن المحاكم التي شرعتها الدول والقوانين الجزائية هي من مصلحة الناس ورحمة بهم؛ لأنها تصير سبباً لقلة الجرائم والتزام الناس بالقوانين، ولأنها تعيد الحقوق إلى أصحابها، وتزيد المحكمة الأخروية بأن فيها إثابة للمطيع الملتزم مما لا يوجد في محاكم الدنيا حيث إن الذي يلتزم بالقوانين لا يكافأ على التزامه عادة، و{لَيَجْمَعَنَّكُمْ} تأكيد للكلام بلام القسم ونون التأكيد، ثم زيادة التأكيد بقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ}.

وإنما قال: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} لأن الجميع يحشرون معاً في صعيد واحد وحساب الجميع ظاهر للجميع، وحتى السرائر تظهر، ولعل ذلك لارتباط كثير من الأعمال السابقة بالأعمال اللاحقة، مثلاً من سنّ سنة سيئة قبل ألف عام وقد عمل بها الناس إلى يومنا هذا لا بد أن يشاهد جميع ما أجرمه فيرى حساب من تبعه ويحاسب هو على عملهم لأنه كان السبب، كذلك هذا الحساب العلني بنفسه نوع ثواب للمطيع وعقاب للعاصي لما يعلم الناس أعمالهما، ولظهور عدله تعالى بالنحو الأتم، ولغير ذلك.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي جمعاً تدريجيّاً بمعنى أن الجمع يستمر إلى يوم القيامة حيث بدأ من موت أول إنسان ويستمر ذلك إلى آخر إنسان حيث من بعده تقوم القيامة، وفي نهج البلاغة: «فإنّما ينتظر بأولكم

ص: 35

آخركم»(1).

وقيل: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} بدل الرحمة، أي إن من رحمته إمهالكم وعدم أخذكم فوراً بذنوبكم، قال سبحانه {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٖ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَٰرُ}(2).

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي ليس محلاً للريب حتى وإن ارتاب المبطلون، كما تقول إن الشمس لا ريب فيها مع أن السوفسطائيين قد شكّوا فيها وفي كل شيء، فليس ريب هؤلاء معتنى به أصلاً.

وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} لمّا ذكر الرحمة بيّن أن البعض بسوء اختيارهم يخرجون عنها، فليست المشكلة في عموم تلك الرحمة، وإنما المشكلة في هؤلاء الذين منعوها عن أنفسهم، كالشمس التي تُشرق على جميع الأرض إذا حجب البعض عن نفسه نورها فإن ذلك لا يرتبط بعموم خيرها.

وخسران النفس هو إخراجها عمّا جُعلت له، بأن يخالف الإنسان فطرته وعقله ويخرج عن إنسانيّته إلى الحيوانية والهمجيّة، وهذا الخسران يؤدي إلى عدم الإيمان، ولذا عقّبه بقوله: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، ثم هناك خسران آخر يترتب على عدم الإيمان وهو استحقاق العقاب قال تعالى: {إِنَّ الْخَٰسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(3)، وبذلك يتضح أن

ص: 36


1- نهج البلاغة، الخطبة: 21.
2- سورة إبراهيم، الآية: 42.
3- سورة الشورى، الآية: 45.

هناك خسران هو سبب لعدم الإيمان ثم يتبعه خسران آخر هو العذاب الأخروي، كما أن هناك حفظ للنفس هو سبب للإيمان ثم يتبعه الفوز بالجنة والرضوان، واللّه العالم.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

كأنه تحذير لهؤلاء الخاسرين غير المؤمنين بأن لا يتوهموا تمكّنهم من إخفاء جريمتهم عن اللّه تعالى، فهو المالك لكل الأشياء والعالم بها كلّها، فحتى الأشياء الساكنة التي لا يلتفت إليها لسكونها، سواء كانت في ليل أو نهار فهو عالم بها، كذلك يعلم بكم فهو السميع لأقوالكم والعليم بأفعالكم ونواياكم.

وقيل: إن المراد عموم ملكيته لكل مكان وفي كل زمان، أما المكان فقد ذكر في الآية السابقة في قوله: {فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}، وأما الزمان ففي هذه الآية بقوله: {فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، فكل شيء ملك له في أي مكان كان وفي أي زمان حلّ.

ص: 37

الآيات 14-18

اشارة

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 14 قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ 15 مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٖ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ 16 وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٖ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 17 وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 18}

ثم جمع اللّه التوحيد والنبوة والمعاد في الآيات التالية:

14- أما ما يرتبط بالتوحيد ف{قُلْ} لهؤلاء المشركين: {أَغَيْرَ اللَّهِ} من الأصنام ونحوها، والاستفهام إنكاري {أَتَّخِذُ وَلِيًّا} رباً يلي شؤوني وأعبده؟ مع أن الخلق والتدبير بيد اللّه تعالى وحده، و{فَاطِرِ} صفة للّه، أي هو خالق {السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فالولي المزعوم مخلوق له، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أي اللّه تعالى يدبر أمور الخلق فكلّهم محتاجون إليه وهو لا يحتاج إلى أحد، فجمع هذا المقطع برهان الخلق والتدبير، فهذا ما يرتبط بالتوحيد، وأما ما يرتبط بالنبوة ف{قُلْ}: إن اللّه أمرني ونهاني، أما أمره ف{إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي خضع للّه وصدّق بكلماته وأطاعه، وهذا بمعنى نبوته؛ لأن اللّه يوحي إلى النبي فيتبعه الناس، {وَ} أما نهيه فقد قال لي: {لَا

ص: 38

تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

15- وأما ما يرتبط بالمعاد ف{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} بالشركومخالفة أوامره ونواهيه {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}، وهذا تأكيد على أن لا أحد مستثنى من وجوب الطاعة وحرمة المعصية.

16- {مَّن يُصْرَفْ} يُزاح ويُبعّد العذاب {عَنْهُ يَوْمَئِذٖ} أي في يوم القيامة {فَقَدْ رَحِمَهُ} أي أتمّ الرحمة عليه {وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} الظاهر الواضح الذي لا فوز مثله.

17- {وَ} لا يتوهمنّ أحد أن الأصنام تشفع له ف{إِن يَمْسَسْكَ} يُصبك {اللَّهُ بِضُرّٖ} بليّة سواء في الدنيا أو الآخرة {فَلَا كَاشِفَ} لا دافع ولا مزيل {لَهُ إِلَّا هُوَ} وحتى الشفعاء لا يشفعون إلاّ بإذنه، {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٖ} دنيوي أو أخروي {فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}.

18- {وَ} سبب ذلك أن اللّه {هُوَ الْقَاهِرُ} الغالب فكل شيء مسخّر له {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقهم بالرتبة فهو الخالق وهم المخلوقون، وليس قهره كقهر الناس بعضهم بعضاً؛ لأنهم متساوون في كونهم مخلوقين، {وَهُوَ الْحَكِيمُ} فلا يكون قهره إلا بحكمة، {الْخَبِيرُ} العالم بدقائق الأمور فيقدّر لمخلوقاته ما هو الأصلح، وعليه فثواب المطيع وعقاب العاصي بحكمته وخبرته.

احتجاجات في العقائد

بحوث

الأول: هذه الآيات تتمة للآيات السابقة بإضافة احتجاجات أخرى لإثبات التوحيد والنبوة والمعاد.

ص: 39

أما في التوحيد: فإن اللّه هو الخالق وهو المدبّر، وأصنامهم مخلوقة له تعالى ولا يمكنها تدبير أيّ شيء، فما الذي جعلها شركاء للّه سبحانه وتعالى عمّا يصفون.

وأما في النبوة: فإنه لا بدّ من وجود شخص يتبعه الناس في الخضوع للّهتعالى ليكون مقتدى وأسوة لهم، فلا تصح نبوة جميع الناس لعدم الحكمة في ذلك ولعدم قابليتهم لها، وأما دليل نبوته فمعجزاته، وسيأتي بيانها.

وأما المعاد: فإن النفع والضرر بيد اللّه تعالى، وهو سبحانه قادر على كل شيء وإرادته نافذة على عباده، فكان من الحكمة إثابة المطيع وعقاب العاصي، وبعبارة أخرى: المقتضي موجود والمانع مفقود، أما وجود المقتضي: فهو رحمته وقدرته وعلمه، وأما فقدان المانع: فهو قهره لعباده بحيث لا يتمكن أحد من دفع ضرر أراده، أو منع خير قدّره.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}.

استفهام إنكارى لإثارة عقولهم بأنكم إن أردتم النفع فهو من اللّه تعالى وإن أردتم دفع الضرر فكذلك عند اللّه، وأما أصنامكم فلا تنفع ولا تضر ولا تقدر كشف الضر، فلماذا تعبدونها وتشركون بها من بيده كل النفع وكل الضر؟! ففي هذا المقطع بيان الدليل العقلي على التوحيد.

وقوله: {أَتَّخِذُ} أي أجعله لنفسي معتقِداً به، مع أن الاعتقاد به لا يغيّر من الواقع شيئاً.

وقوله: {وَلِيًّا} من الولاية بمعنى المتولي للشأن والمقصود هنا الرب.

ص: 40

وقوله: {فَاطِرِ} أي خالق، وأصله من الفطر بمعنى الشقّ، فإن الخلق شق للعدم بالوجود.

وقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} المراد أنه الرازق المدبر للأمر والذي يحتاج إليه كل شيء وهو الغني عن كل شيء، وذكر الإطعام من بابالمثال، والحاصل إنه تعالى الخالق والمدبر فلذا يستحق العبادة دون غيره.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ...} الآية.

أي حيث كان اللّه تعالى هو الخالق المدبّر حصراً وكل الأمور بيده فلا بد من الخضوع له وعدم الشرك به، وليس أحد مستثنى عن ذلك فأشرف المخلوقات عبد مربوب للّه تعالى، ولأنه رسول اللّه فلذا كان لا بد أن يكون أول الخاضعين للّه لتكون له قابلية حمل الرسالة وليكون أسوة للناس، وهذا المقطع دليل نقلي على التوحيد، فكما أن العقل يدل عليه كذلك الوحي يدل عليه، وأما دليل نبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فسيأتي في الآية 19.

وقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إمّا عطف على {قُلْ} أي ليكن قولك الخضوع للّه وعملك عدم الشرك، وإمّا استئناف للتأكيد أي كن في زمرة المسلمين ولا تكن في زمرة المشركين، كما نقول: كن عالماً ولا تكن جاهلاً، وإمّا استئناف ليكون مقدمة للآية التالية، فالمعنى: لا تكن من المشركين لأنه عصيان للّه تعالى وعذاب العصيان بالشرك عظيم.

الرابع: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ}.

(الخوف) قد يكون من خطر مجهول وقد يكون من خطر معلوم، وهنا الخطر معلوم لأن الشرك غير مغفور قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن

ص: 41

يُشْرَكَ بِهِ}(1)، وغير خفي أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) معصوم وهو يعلم بأنه لا يعصي وبأنه لا يُعذَّب، لكن صدق الجملة الشرطية لا يتوقف على تحقق طرفيها،ولذا من الصدق قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(2)؛ لأن الآية في مقام بيان ارتباط الفساد بتعدد الآلهة وهذا صدق حتى لو لم يتحقق الشرط ولا الجزاء، وهكذا في هذه الآية فالغرض من ذكرها هو بيان أن العذاب مرتبط بالعصيان كائنا من كان العاصي، كيلا يزعم أحد أنه استثناء وأنه من أحباء اللّه فلا يعذب كما كانت اليهود تزعم ذلك.

وقوله: {عَصَيْتُ} لعل تبديل الشرك إلى العصيان لدحض مزاعمهم بأنهم يعبدون الأصنام لتكون شفيعة لهم وتقرّبهم إلى اللّه تعالى قال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ}(3)، فيقال لهم إن شرككم عصيان والمعصية مبعّدة وعليها استحقاق العذاب، وفي الآية بيان أن العذاب بسبب سوء اختيارهم مع أن اللّه خلقهم ليرحمهم، بل كما هيّأ اللّه في الدنيا أسباب الرحمة عبر الهداية بالفطرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب، كذلك هيّأ أسباب الرحمة في الآخرة فكل إنسان عيّن اللّه له مكاناً في الجنة إلاّ أن الكفار بسوء اختيارهم فرّطوا بذلك ورفضوا تلك الرحمة(4).

وقوله: {رَبِّي} الإتيان بكلمة الرب هنا أبلغ؛ لأن عصيان من يدبر أمر

ص: 42


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- سورة الأنبياء، الآية: 22.
3- سورة الزمر، الآية: 3.
4- راجع البرهان في تفسير القرآن 7: 15 عن تفسير القمي.

الإنسان ويصلح شأنه أشد وعقوبته آكد.

الخامس: قوله تعالى: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٖ فَقَدْ رَحِمَهُ...} الآية.

بيان أن النجاة من النار لا يكون إلا بفضل اللّه تعالى ورحمته؛ لأن الهداية منه والإضلال منه، بمعنى أن اللّه تعالى يُري الجميع طريق النجاة فمن استجاب زاده اللّه هدى وأوصله إلى المطلوب، ومن رفض الهداية لا يتركه اللّه إلاّ بعد أن يفقد القابلية للّهداية فيطبع على قلبه ويتركه وشأنه فيضلّ ولا يهتدي، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُوْلَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}(1)، وقد مرّ الكلام في ذلك.

وقيل: لا يخلو عامة الناس من الذنوب - ولو صغائرها - إلاّ المعصومون(عليهم السلام) ومن تلا تلوهم، والأخذ بالذنب من العدل، فلو كان اللّه تعالى يريد أخذ الناس بعدله لم ينجُ أحد قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٖ}(2)، وقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٖ}(3)، لكنه برحمته شرّع باب التوبة، وكفّر عن الصغائر لمن ترك الكبائر، وجعل الحسنات يذهبن السيئات، وأذن للشفعاء أن يشفعوا وغير ذلك، فحينئذٍ نجاة من نجا إنما هو برحمته تعالى، وحتى المعصومون إنما عصمهم اللّه تعالى واصطفاهم فبرحمته وفضله تركوا الذنوب، فرجع صرف العذاب عنهم إلى فضله ورحمته أيضاً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ

ص: 43


1- سورة الأنبياء، الآية: 101.
2- سورة فاطر، الآية: 45.
3- سورة النحل، الآية: 61.

رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}(1)،أي لازماً لا ينفك عن الإنسان.

وقوله: {وَذَٰلِكَ} أي صرف عذاب جهنم.

وقوله: {الْفَوْزُ الْمُبِينُ} غير خفي أن النجاة من النار ونيل الجنة كلاهما فوز عظيم، بل هما معاً الفوز العظيم لذلك استعمل الفوز المبين أو العظيم فيها، قال سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}(2)،

فليس معنى الآية أن صرف العذاب أهم من نيل الثواب، بل هما ككفتي الميزان متساويان، فتأمل.

السادس: قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا...} الآية.

كأنه لردّ زعمهم بأن الأصنام تشفع لهم، فبيّن اللّه تعالى القاعدة العامة بأن الضر والخير بيد اللّه تعالى ولا غالب لإرادته، فإن أراد بشخص ضراً لا مزيل له، وإن أراد نفعاً قدر عليه ولا مانع منه.

وقوله: {بِضُرّٖ} الضر - بالضم والفتح - مصدر، قال الخليل: «الضُرّ والضَرّ لغتان، فإذا جمعت بين الضر والنفع فتحت الضاد، وإذا أفردت الضر ضممت الضاد إن لم تجعله مصدراً»(3).

وقوله: {كَاشِفَ} من الكشف بمعنى الإزالة، كأن الضرر يحيط بالإنسان كالغطاء وإزالته كشف له.

ص: 44


1- سورة الفرقان، الآية: 65.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.
3- كتاب العين 7: 6.

وقوله: {فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} أي إن أرادك بخير فلا مانع عنه؛ لأنه تعالى على كل شيء قدير، فجعل السبب مكان المسبّب.

السابع: قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}.

كأنه تعليل لكل ما مضى من العذاب ومسّ الخير ومسّ الضر، فهو القاهر من (القهر) وهو الغلبة من غير إرادة أو رضا من المقهور(1)، لكن قهره بحكمة وخبرة، فيضع الأشياء - من عذاب أو ثواب أو نعمة أو نقمة - في مواضعها مع علمه بدقائق الأمور فلا خطأ في حكمه تعالى.

ويحتمل كون هذه الآية كالتعليل لقوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} لأنه القاهر، كما أن مس الخير لأنه القادر، وكل ذلك بحكمة وخبرة.

وقوله: {فَوْقَ عِبَادِهِ} أي ليست قهاريته كقهارية الحكام حيث إنهم قد يقهرون من هو أعلى منزلة منهم أو من هو مساو لهم، كقهر الحكام الظلمة للناس المظلومين، بل قهاريته تعالى لعلّو ذاته وكون جميع الموجودات مخلوقات له.

ص: 45


1- راجع كتاب العين 3: 365.

الآيات 19-24

اشارة

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 19 الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُۘ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ 20 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ 21 وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ 22 ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ 23 انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ 24}

ثم يذكر اللّه دليل نبوة رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال:

19- {قُلْ} في الاستدلال على نبوتك: {أَيُّ شَيْءٍ} أي شاهد {أَكْبَرُ شَهَٰدَةً} أي أعظم من حيث الشهادة، وكان ذلك بعد إنكار أهل الكتاب نبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ! {قُلِ} في الجواب: {اللَّهُ شَهِيدُ} وذلك بإجراء المعاجز على يدي الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالنبوة ويشهد عليكم بالتكذيب، فهذا الدليل العقلي، {وَ} أما الدليل النقلي فقد {أُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْءَانُ} وهو شاهد صدق وحجة {لِأُنذِرَكُم بِهِ} بهذا القرآن، فالقرآن جامع بين كونه شاهداً على صدق النبي وبين كونه منذراً لهم، {وَمَن بَلَغَ}

ص: 46

تفسيره: لأنذر بالقرآن كل من بلغه من الأجيال القادمة، وتأويله: وكذا ينذركم بالقرآن من بلغ مبلغ الإمامة بعد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم كيف تنكروننبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أن شاهده اللّه تعالى، لكنكم تشهدون بالباطل الذي هو تعدد الآلهة؟! {أَئِنَّكُمْ} استفهام إنكاري لإبطال زعمهم {لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ} من غير برهان، {قُل} رداً لشهادتهم {لَّا أَشْهَدُ} بما تشهدون من تعدد الآلهة {قُلْ} دخصاً لكلامهم أي فلا تقتصر بعدم الشهادة فقط، بل أضف بيان الحق والبراءة عن باطلهم: {إِنَّمَا هُوَ} الإله {إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} من شرككم أو من الأصنام التي تشركونها مع اللّه سبحانه.

20- وأما إنكار أهل الكتاب لنبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا تضرّ؛ إذ {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ} اليهود والنصارى أو علماؤهم {يَعْرِفُونَهُ} يعرفون محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالرسالة {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُۘ} معرفة لا شك فيها وذلك لما وجدوا أوصافه في كتبهم، لكنهم هم {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} لأنهم لم يعطوها حقها من الإنسانية {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} صارت خسارتهم لأنفسهم سبباً لعدم إيمانهم.

21- {وَمَنْ أَظْلَمُ} أكثر ظلماً {مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بجعل الشريك له {أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ} القرآن والمعاجز الدالة على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ} لا في الدنيا ولا في الآخرة، فكيف بالأظلم؟!

22- ثم بين اللّه عدم انتفاعهم بالشركاء {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} مجموعين

ص: 47

يوم القيامة {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} توبيخاً لهم ومقدمة لعذابهم: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} بأنهم شركاء وأنهم ينفعونكم؟

23- {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ} أي اعتذارهم عن كفرهم الذين فتنوا به أنفسهم {إِلَّا أَن قَالُواْ} كذباً وزوراً {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} في دار الدنيا.

24- {انظُرْ} تأمل في كلامهم {كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} والاستفهام للتعجيب {وَضَلَّ عَنْهُم} ابتعد وفارق فلم ينفعهم {مَّا} الأصنام التي {كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يفترونها على اللّه بأنها شركاء له.

برهان النبوة

بحوث

الأول: لما ذكرت النبوة في الآيات السابقة أريد بيان البرهان عليها، فذكرت هذه الآيات برهانين: برهاناً عقلياً بشهادة اللّه تعالى على صدق رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عبر المعجزات التي حباها إياه، وبرهاناً نقلياً بالوحي الذي أنزله اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في القرآن، فإنه شاهد صدق على نبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي ذلك دحض لحجة من حجج المشركين بأن أهل الكتاب لا يعرفونه، فيقال لهم: إنهم يعرفونه حق المعرفة لكن نفسهم الأمارة بالسوء منعتهم عن إظهار ما في كتبهم من أوصافه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولذا قد خسروا أنفسهم وصار ذلك سبباً لعدم إيمانهم، ثم يبين اللّه تعالى عاقبة أمرهم بعدم الفلاح وباضطرارهم التبرؤ من شركائهم في الآخرة، لكن لا ينفعهم ذلك حيث لم يتبرؤوا منهم في دار الدنيا.

معنى شهادة اللّه تعالى

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.

ص: 48

بيان دليل نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عقلاً، ويبتدأ الكلام بأسلوب بديع، وهو أنكم تريدون شاهد صدق على نبوته، فأيّ شاهد هو أعظم الشهود عندكم؟ وذلك لما قالوا: «ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنهليس لك ذكر عندهم، فاتنا بمن يشهد أنك رسول اللّه»(1).

والجواب صادم لهم: بأن اللّه تعالى هو الشهيد، وفي ذلك تبكيتهم، وأما كيفية شهادته فهي عبر المعجزات التي أجراها على يد رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {أَيُّ شَيْءٍ} أي أيُّ شاهد فعمّم الكلام لكلّ شيء، وهذا أوقع في النفوس حيث شهادة أعظم الأشياء، وفي الآية دلالة على جواز إطلاق (شيء) على اللّه تعالى، فإنه شيء لا كالأشياء؛ لأن كلمة الشيء تعمّ جميع الموجودات، واللّه تعالى وإن كان يختلف عن سائر الموجودات بالذات إلاّ أنه موجود وإن كنا لا ندرك كنه وجوده.

وقوله: {أَكْبَرُ شَهَٰدَةً} أي الأعظم من جهة الشهادة، وغير خفي أن قوة الشهادة وضعفها ترتبط بعدة عوامل منها الشاهد والمشهود به والمشهود له والمشهود عليه وغير ذلك، وأيّ شهادة أعظم من كون الشاهد هو اللّه، والمشهود له هو رسوله، والمشهود عليه هو التوحيد والنبوة، فهذه الشهادة أعظم من شهادة أهل الكتاب فلا يضر إنكارهم.

وقوله: {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي في ما تنازعنا فيه من التوحيد والنبوة، فيشهد لي ويشهد عليكم.

الثالث: قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}.

ص: 49


1- تفسير القمي 1: 194؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 3: 534.

بيان دليل النبوة نقلاً، وذلك بما ورد في القرآن الكريم؛ لأن القرآن لا ريب في صدقه قال تعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَۛ فِيهِۛ}(1)،فما ورد فيهصدق، وفيه تصريح بنبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل نفس نزوله عليه دليل على نبوته.

وبعبارة أخرى: القرآن معجز فيدل على نبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وحيث كان معجزاً فكل ما فيه صدق لا ريب فيه، ومن الأمور التي أثبتها القرآن هو نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

من جهات القرآن الكريم

ثم إن القرآن له جهات متعددة، فمنها إعجازه ليثبت به نبوة الرسول، ومنها مضامينه التي جائت لإنذارهم عن عاقبة كفرهم وشركهم، وكان الغرض الأصلي هو الإنذار لذلك جعله علة لإنزاله.

وبعبارة أخرى إن الغرض من إنزال القرآن هو هداية الناس بما تضمنه من تعاليم عالية، وفي الوقت نفسه جعل اللّه تعالى القرآن معجزة النبي الخالدة إثباتاً لصدقه؛ لأن سائر المعاجز هي وقتيّة لمن حضرها وشاهدها، وحيث أراد اللّه للإسلام أن يكون خاتمة الشرائع وأراد أن يكون رسوله خاتم الأنبياء جعل معجزته خالدة لكل الناس في جميع الأعصار حتى يلمس المعجزة من في العصور المتأخرة كما لمسها من هو في عصر النزول، مع ما تضمنته هذه المعجزة من الهداية.

وقوله: {لِأُنذِرَكُم} اللام للتعليل، أي سبب وحيه هو إنذاركم، وغير خفي أن سياق هذه الآيات في تحذير الكفار من مغبّة كفرهم، ولذا ناسب ذكر الإنذار دون التبشير.

ص: 50


1- سورة البقرة، الآية: 2.

وقوله: {وَمَن بَلَغَ} لهذا تفسير وتأويل.

أما التفسير: فهو أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما ينذر الذين عاصروه من مشركي مكة ومن شاهدوه كذلك ينذر جميع الناس في جميع الأماكن والأعصارممّن بلغهم القرآن، وعليه ف{وَمَن بَلَغَ} عطف على {كُم} فالمعنى لأنذركم أنتم وأنذر من بلغه القرآن.

وأما التأويل: فهو أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينذرهم بالقرآن مادام حياً، ومن بعد الرسول من بلغ مرتبة الإمامة ينذرهم به وهم الأئمه من أهل البيت(عليهم السلام)، وعليه ف{مَن بَلَغَ} عطف على ضمير الفاعل في {لِأُنذِرَكُم}، فالمعنى لأنذركم أنا ولينذر من بلغ مرتبة الإمامة بعدي، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «من بلغ أن يكون إماماً من آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو يُنذر بالقرآن كما أنذر به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(1).

الرابع: قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ...} الآية.

بيان لسخافة عقولهم حيث يشهدون على ما هو باطل من غير برهان، ثم ينكرون ما هو الحق الذي قام عليه البرهان؟!

فيقال لهم: إن زعم تعدد الآلهة لا برهان له، فالشهادة له من سخافة العقول، بل البرهان دل على بطلان التعدد؛ لأنها مخلوقات اللّه فكيف تكون شركاء له؟ وكذا الرسول الذي ثبت صدقه لا يشهد للأصنام بل يتبرأ منها، وذلك دليل آخر على بطلانها.

وقوله: {أَئِنَّكُمْ} استفهام إنكاري وفيه إبطال لمزاعمهم بأن للّه شريك

ص: 51


1- الكافي 1: 416؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 536.

فيقال لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ولا برهان لهم.

وقوله: {قُل لَّا أَشْهَدُ} لأنه أمر باطل ولا يعقل شهادة رسول اللّه به.

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} كأنه سبب عدم الشهادة لهم، أي حيثكان الإله واحداً فلا وجه للشهادة الباطلة بتعدده.

وقوله: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ...} هو شهادة بالعدم أيضاً، أي يشهد بأن تلك الآلهة المزعومة ليست شركاء للّه تعالى، والحاصل: إنه يبدأ بعدم الشهادة لهم، ثم ببيان الحق، ثم بالشهادة عليهم، وهو من أساليب الاحتجاج بل من طرق معرفة الحق، فأولاً لا يشهد الإنسان بما لا برهان له، ثم يبيّن الحق، ثم يتبرأ من ذلك الباطل بعد ثبوت الحق.

الخامس: قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُ...} الآية.

لمّا رفض أهل الكتاب الشهادة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث كتموا ما في كتبهم، يقال لهم: إن إنكارهم لا يضر بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنه الحق الذي يعرفونه يقيناً كما يعرفون ابنائهم، لأن أوصاف الرسول في كتبهم كانت أوصافاً دقيقة لا تنطبق إلّا على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فكما لا يخطئ الإنسان في معرفة أولاده كذلك هؤلاء لم يخطئوا في معرفة الرسول لكنهم كتموا ذلك، وكتمانهم لم يضرّه لأن اللّه شهد له، لكن يضرهم أنفسهم؛ لأن ذلك خروج عن مقتضى العقل والفطرة وخروج عن الإنسانية، فبذلك خسروا أنفسهم، والنفس الخاسرة لا قابلية لها لكي تؤمن.

وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بدل عن {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ}، وكأن اللّه تعالى يقول قد رحمناهم وفضلناهم بالكتاب لكنهم بدلاً من أن

ص: 52

يربحوا بالعمل به وإظهاره قد خسروا أنفسهم بسبب نبذه وراء ظهورهم وكتمان ما فيه، وقد مرّ بعض الكلام في الخسارة في الآية 12، والظاهر أن هذا خاص بخسارة أهل الكتاب كما أن الآية 12 خاصة بخسارة المشركين.السادس: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا...} الآية.

أشد الذنوب هو الاستكبار على اللّه تعالى ومحاربته لذا كان أشدها ظلماً، وقد وردت عبارة {أَظْلَمُ} في عدة ذنوب كلها من مصاديق الاستكبار عليه تعالى، ومنها الافتراء على اللّه سبحانه وتكذيب آياته، وقد جمعت الآية ما صنعه المشركون من الشرك وإنكار نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} والافتراء هو الكذب في حق الغير بما لا يرتضيه(1)، والمقصود هؤلاء المشركون الذين جعلوا للّه شريكاً بما لا يرضاه اللّه سبحانه.

وقوله: {أَوْ كَذَّبَ بَِٔايَٰتِهِ} قيل: «إنما ذكر {أَوْ} وهم قد جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كلاً منهما وحده بلغ غاية الإفراط في الظلم»(2)، وتكذيب آياته عام يشمل تكذيب القرآن وسائر الكتب - التي فيها وصف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - والمعاجز الأخرى الدالة على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ} بيان سوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة، والفلاح والفوز والظفر متقاربة المعنى، وقيل: «الفلاح هو نيل الخير والنفع الباقي أثره»(3)، كأن هؤلاء باتخاذهم الشريك يريدون نيل الخير

ص: 53


1- معجم الفروق اللغوية: 449.
2- تفسير الصافي 3: 20.
3- معجم الفروق اللغوية: 321.

بالتقرب إلى اللّه وشفاعته وكذا بتكذيبهم آيات اللّه يريدون الحفاظ على مصالحهم، إلاّ أنهم يحصدون عكس النتيجة المرجوة فلا ينالون الخيرأبداً، فلذا يوم القيامة حين تنكشف الحقائق بالشكل الأتم تراهم ينكرون شركهم ويتبّرأون من أصنامهم إلاّ أن ذلك لا ينفعهم ويكون مصيرهم إلى النار.

السابع: قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ...} الآية.

أي واذكر اليوم الذي نجمعهم وهو يوم القيامة ثم تبدأ محاسبتهم توبيخاً لهم ومقدمة لعذابهم، وتبتدأ المحاسبة من أصول الدين حيث يُسألون عن الشركاء الذين اتخذوهم، وهذا السؤال مضافاً إلى كونه توبيخاً لهم فإنّه من ضمن محاسبتهم وفسح المجال لهم للاحتجاج أو الإنكار؛ لأن ذلك اليوم هو يوم العدل التام، فلذا فيه مواقف متعددة، فتارة يفسح لهم المجال لما شاؤوا أن يقولوه حتى لو كان بالكذب، ثم يؤتى بالأشهاد ومنها أعضاؤهم وجوارحهم، ثم يؤتى بأعمالهم حاضرة يرونها عياناً - بناءً على تجسم الأعمال - ، ويؤتى بالشركاء، ثم يضطرون إلى الاعتراف بجرمهم وأنه يستحقون العذاب على ذلك، ثم لا يؤذن لهم في الكلام، وفي الحديث أن رجلاً جاء أمير المؤمنين شاكاً فقال (عليه السلام) له: «هات ما شككت فيه؟» فقال: لأن اللّه يقول: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَٰئِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا}(1)، ويقول: حيث استنطقوا قال اللّه: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، ويقول: {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٖ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم

ص: 54


1- سورة النبأ، الآية: 38.

بَعْضًا}(1)، ويقول: {إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}(2)، ويقول: {لَاتَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ}(3)، ويقول: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(4)، فمرةً يتكلمون ومرّة لا يتكلّمون، ومرة يُنطق الجلود والأيدي والأرجل، ومرّة لا يتكلمون إلاّ مَن أذن له الرحمن وقال صواباً، فأنّى ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال له علي (عليه السلام) : «إن ذلك ليس في موطن واحد، وهي في مواطن في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة، فجمع اللّه الخلائق في ذلك اليوم في موطن يتعارفون فيه فيكلّم بعضهم بعضاً... ويلعن أهل المعاصي بعضهم بعضاً... ثم يجمعون في موطن يفرّ بعضهم من بعض... ثم يجمعون في موطن يبكون فيه... ثم يجتمعون في موطن يستنطقون فيه فيقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ولا يقرّون بما عملوا، فيختم على أفواههم وتستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتنطق، فتشهد بكل معصية بدت منهم، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم وأيديهم وأرجلهم: {لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا}؟ فتقول: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٖ}(5)، ثم يجمعون في موطن يُستنطق فيه جميع الخلائق، فلا يتكلّم أحد {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا}(6)،

ص: 55


1- سورة العنكبوت، الآية: 25.
2- سورة ص، الآية: 64.
3- سورة ق، الآية: 28.
4- سورة يس، الآية: 65.
5- سورة فصلت، الآية: 21.
6- سورة النباء، الآية: 38.

ويجتمعون في موطن يختصمون فيه، ويدان لبعض الخلائق من بعض، وهو القول، وذلك كلّه قبل الحساب، فإذا أخذ للحساب شُغل كل امرئ بما لديه، نسأل اللّهبركة ذلك اليوم»(1).

الثامن: قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.

لمّا يرون الخطر المحدق بهم بسبب شركهم وتكذيبهم يبدأون بإنكار كونهم مشركين وأنهم يعترفون بأن اللّه ربهم.

ومن الواضح أن ذلك في الموقف الذي يسمح لهم فيه بالدفاع عن أنفسهم بما شاؤوا ولو بأن يكذبوا، فلا معنى للسؤال عن أنهم كيف يكذبون مع عدم إمكان الكذب في يوم القيامة! بلى، إنّ من عدل اللّه تعالى السماح لهم بأن يقولوا ما يشاؤون دفاعاً عن أنفسهم، وفي ذلك أيضاً بيان بطلان الشركاء وعدم نفعهم، فيكون أجلى للحق وأظهر لدحض الباطل حيث يتبرأ منه من كان يعتقد به ويستميت للدفاع عنه، ويذعن بالحق الذي كان ينكره.

وقوله: {فِتْنَتُهُمْ} أي اعتذارهم عن الكفر الذي فتنوا به أنفسهم فجعل السبب مقام المسبب؛ لأن تلك الفتنة صارت سبباً لهذا العذر.

وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا} وصفوا اللّه بأنه ربّهم زيادةً في إنكار شركهم وذلك بأنهم يذعنون بأن ربهم اللّه تعالى لا الأرباب المتفرقة.

وقوله: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أما تفسيرها: فادعاؤهم عدم الشرك باللّه تعالى،

ص: 56


1- تفسير العياشي 1: 357؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 540-541.

وأما تأويلها: فادعاء عدم الشرك بالولاية كما في بعض الأحاديث(1)؛ لأنالآية وإن كانت نازلة في شركهم في التوحيد إلاّ أنها تشمل سائر من أنكروا أصلاً من أصول الدين حيث أشركوا في الولاية من لا يستحقها فخلطوا بين ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وولاية الظالمين.

التاسع: قوله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.

استفهام للتعجيب بأنهم كيف يضطرون للكذب تخليصاً لأنفسهم، ثم كيف خاب ظنهم بالشركاء الذين كانوا يرجون نفعهم وشفاعتهم، مع أن هؤلاء لو كانوا يؤمنون في الدنيا ولا يكذبون بآيات اللّه لتفاخروا يوم القيامة بإيمانهم ولنفعهم ذلك الإيمان في الفوز والفلاح.

وقوله: {كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} نتيجة كذبهم في الدنيا على اللّه تعالى وتكذيبهم لآياته.

وقوله: {وَضَلَّ} من الضلال بمعنى المفارقة والبطلان.

وقوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي الأصنام التي كانوا يرجون شفاعتها أنظر كيف فارقوها وتبرؤوا منها، فقد ظهر في المحشر بطلانها وعدم نفعها، بل أنها جرّت عليهم وبالاً وعقاباً.

وقد يُتسائل بأنه لماذا يكذبون وهم يعلمون بعدم نفع كذبهم؟

والجواب: أنهم قد يظنون النفع لمّا يرون عظيم عفو الرب تبارك وتعالى حيث يرون أنه تعالى يعفو لأدنى سبب فيطمعون في العفو، كمن يكذب

ص: 57


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 539 عن تفسير القمي 1: 199؛ والكافي 8: 287.

على كريم مع علمه بأن الكريم يعلم بكذبه لكنه مع ذلك يكذب طمعاً في كرمه وإغضائه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه يعفو يوم القيامةعفواً لا يخطر على بال أحد، حتى يقول أهل الشرك: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}»(1).

ص: 58


1- تفسير العياشي 1: 357؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 539.

الآيات 25-28

اشارة

{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ 25 وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنَْٔوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ 26 وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 27 بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ 28}

25- {وَ} القرآن وإن نزل لإنذارهم لكن بعضهم لا ينتفع به لسوء اختياره، ف{مِنْهُم} من المشركين {مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} حين تتلو القرآن {وَ} لكنه لا ينتفع به بسوء اختياره فقد {جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية، وذلك كراهية {أَن يَفْقَهُوهُ} وهذا كناية عن منع اللطف عنهم، {وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} ثقلاً فهو كمن لا يسمع، كناية عن عدم انتفاعه بالسمع، {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤْمِنُواْ بِهَا} فعلى أبصارهم أيضاً غشاوة، ثم مضافاً إلى عدم انتفاعهم بالقلوب والسمع والأبصار يأتون للجدال لدحض الحق {حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ} لم يكن مجيئهم للاستماع لطلب الحق {يُجَٰدِلُونَكَ} أي حال كونهم جاؤوا للجدال {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي هؤلاء الذين على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم غشاوة: {إِنْ هَٰذَا} القرآن {إِلَّا أَسَٰطِيرُ

ص: 59

الْأَوَّلِينَ}.

26- {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي يأمرون بالمنكر ويمنعون الناس عنالاهتداء بالقرآن {وَيَنَْٔوْنَ عَنْهُ} أي هم أيضاً يبتعدون عن القرآن {وَإِن} نافيه أي لا {يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} فلا يضرّون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا القرآن، بل يهلكون أنفسهم حيث استحقوا بكفرهم خزي الدنيا وعذاب الآخرة {وَمَا يَشْعُرُونَ} حيث يتوهمون انتفاعهم بكفرهم.

27- {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمني أي نحبّ أن تراهم يوم القيامة {إِذْ} في الوقت الذي {وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ} اطّلعوا عليها حينما سيقوا إلى حافة جهنم {فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ} يرجعنا اللّه إلى الدنيا {وَلَا نُكَذِّبَ بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي يتمنون الردّ وعدم التكذيب وكونهم على الإيمان.

28- ثم يبين اللّه تعالى عدم صدقهم في ما تمنوه فليس كما قالوا {بَلْ بَدَا} ظهر {لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} من أمر نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد ظهرت حقيقة صدقه وصدق ما أنذرهم به {وَلَوْ رُدُّواْ} إلى دار الدنيا {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من التكذيب والشرك {وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ} في أنهم لو رجعوا لصدّقوا وآمنوا، والمعنى أن التمني ليس لأجل أنهم يريدون الإيمان، بل ذلك لأنهم يريدون التخلّص من العذاب فقط.

سبب عدم الانتفاع بالآيات

بحوث

الأول: لمّا بين اللّه تعالى أن القرآن نزل لإنذارهم، وأن اللّه تعالى شهيد عليه، بل القرآن بنفسه شاهد على نفسه، وأن أهل الكتاب يعرفونه حق

ص: 60

المعرفة، بعد ذلك بيّن سبب عدم انتفاعهم به وبقائهم على كفرهم، وهو أنهم أغلقوا باب الفهم على أنفسهم، فلا يؤثّر فيهم ما سمعوه من القرآن وما شاهدوه من الآيات، فلمّا عاندوا صار عنادهم سبباً لفقدانهم قابلية الهدايةفقطع اللّه حينئذٍ عنهم ألطافه، بل ختم على قلوبهم وسمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة جزاءً لعنادهم وعتوّهم، وحتى أنّهم عندما يرون عذابهم عياناً حينما يوقفون على جهنم لا يصير ذلك سبباً لترك العناد عندهم، بل يتمنّون الإيمان، لا لأجل الإيمان بل لأجل التخلّص من العذاب، وحينئذٍ لو تخلّصوا من العذاب لرجعوا إلى كفرهم وتكذيبهم؛ إذ ندمهم لم يكن لأنهم علموا بالحق - بل كانوا يعلمون به حين تكذيبهم - بل لإرادتهم التخلّص من العذاب فإذا تخلصوا انتهى الندم.

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً...} الآية.

أي المشركون المعاندون قسمان: فقسم لا يستمع أصلاً بل يجعل أصابعه في آذانه كفراً وعناداً، وقسم آخر يستمع لكن لا لأجل الاهتداء بل لأجل الجدال ليجد ثغرة بزعمه في كلام اللّه سبحانه فيأتي منها لإبطال الحق وللتكذيب به ونسبته إلى خرافات السابقين.

وقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} أي يختم اللّه على قلوبهم لما فقدت قابلية الهداية، ولذا قيل: إن اللّه تعالى خلق الإنسان بكيفية بحيث إذا أصرّ على شيء صار ملكة له فيتطبّع به حتى لو كان خلاف العقل والفطرة، وحيث كانت هذه الطبيعة من تقدير اللّه تعالى لذا كانت منه تعالى جعلاً وختماً

ص: 61

وغشاوة على العبد، بل يضيف اللّه إلى ذلك ختماً يشاهده أولياء اللّه من الملائكة والرسول والأئمة، وقد مرّ بحثه(1).

وقوله: {أَكِنَّةً} جمع كِنان وهو الغطاء الذي يستر به الشيء.

وقوله: {أَن يَفْقَهُوهُ} أي كراهية أن يفقهوه، أو لئلا يفقهوه، و(الفقه) الفهم، وهو العلم بمقتضى الكلام على تأمّله، وتقول لمن تخاطبه: تفقّه ما أقوله، أي تأمّله لتعرفه (2).

وقوله: {وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} أي وجعلنا في آذانهم ثقلاً، كناية عن عدم انتفاعهم بالسماع، فهم والصُم سواء.

وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ...} كأن المقصود وجعلنا على أبصارهم غشاوة فلا يرون الآيات؛ لأن رؤيتهم تشترك مع عدم الرؤية في عدم الانتفاع بها.

وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ} (حتى) هنا حرف ابتداء وتفيد معنى الغاية، فالمعنى إنهم لا يؤمنون بكل آية يرونها حتى إنهم يجادلونك في أوضح الآيات وهو القرآن الكريم، والحاصل أن مجيئهم للجدال وليس للفهم والاهتداء.

وقوله: {يُجَٰدِلُونَكَ} حال، أي جاؤوا حال كونهم يريدون الجدال.

وقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} جزاء {إِذَا} وقيل: إظهار الفاعل - وهو {الَّذِينَ كَفَرُواْ} - مع إمكان الاستغناء عنه بالضمير، لأجل بيان سبب قولهم إن القرآن أساطير؛ إذ لو لم يكونوا كفاراً لاهتدوا به، وكأنّ الكفر هنا

ص: 62


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 1: 25-26.
2- راجع معجم الفروق اللغوية: 412.

بمعنى الستر فهؤلاء الذين ستروا الحقيقة قالوا هذا الكلام.

وقوله: {أَسَٰطِيرُ} جمع أسطورة، وتستعمل عادة في الخرافات والأكاذيب عن السابقين.

الثالث: قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنَْٔوْنَ عَنْهُ...} الآية.

أي تحمّلوا جريمتين: جريمة منع الناس عن الهداية، وجريمة عدم إيمانهم، فكفروا وأمروا بالمنكر، فكانوا أئمة ضلالة ورؤساء في الكفر، ولكن وبال ذلك يرجع عليهم، فهذا لا يضرّ القرآن في شيء لأنه الحق الصراح، ومن أنكر الحق هلك هو، مثلاً من ينكر وجود الشمس ولا يقي نفسه منها فعمله يهلكه ولا يضرّها شيئاً.

وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} جملة حالية، أي يجادلون ويقولون بأنه أساطير في حال كونهم يمنعون الناس ويمتنعون هم بأنفسهم، وضمير {عَنْهُ} للقرآن كما هو الظاهر من سياق الآيات.

وقوله: {وَإِن يُهْلِكُونَ...} كأنهم يريدون إبطال أمر القرآن لكنهم في الواقع يهلكون أنفسهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة كما بينته الآية اللاحقة.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ...} الآية.

{لَوْ} للتمني، والمعنى محبوبية ذلك، فإن اللّه يحب أن تراهم في تلك الحالة، وعليه فلا تحتاج إلى جواب مقدّر.

وقوله: {فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا} يتمنون ثلاثة أمور: الردّ إلى الدنيا، وعدم تكذيب الرسول، والكون من المؤمنين، وذلك لمّا علموا أن الجزاء إنما هو للعمل في الدنيا، فلا ينفع الإيمان حين الموت أو بعده فلذا يتمنون الردّ

ص: 63

لكي يصدّقوا ويؤمنوا حتى ينجوا من العذاب.

وقوله: {إِذْ وُقِفُواْ} أي اطّلعوا وأشرفوا عليها قبل إلقائهم فيها، ولعلّ هذا التمني لا يكون بعد إلقائهم في جهنم فإنهم فيها يائسون وأقصى أملهم هوالقضاء عليهم قال تعالى: {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ}(1)، وقال: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}(2)، وأما قبل ذلك فيكون لهم أمل قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}(3)، واللّه العالم.

وقوله: {يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ...} أي يرجعنا اللّه تعالى إلى الدنيا، وهذا التمني يلازمه الوعد بالتصديق والإيمان ولذلك كذّبهم اللّه تعالى في وعدهم، وبذلك يظهر جواب سؤال: أن التمني إنشاء وهو لا يحتمل الصدق والكذب فكيف كذّبهم اللّه في تمنّيهم؟! حيث الجواب: إن الإنشاء قد يتضمن إخباراً أو يلازمه إخبار، فالتصديق أو التكذيب لذلك الإخبار كالسائل بالكف يقال عنه صادق إذا كان فقيراً حقاً، وكاذب إذا كان غنياً، فالتصديق أو التكذيب ليس لقوله أعطوني بل لما يلازمه.

وقولهم: {وَلَا نُكَذِّبَ...} جمعوا بين عدم التكذيب وبين الإيمان؛ لأن عدم التكذيب قد يجتمع مع عدم الإيمان كما في الشاك الذي لا يصدِّق ولا يكذِّب، أو إن عدم التكذيب بالنبوة والإيمان بالتوحيد.

ص: 64


1- سورة الزخرف، الآية: 77.
2- سورة الزخرف، الآية: 75.
3- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.

الخامس: قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ}.

أي تمنيهم ليس في محلّه؛ لأنه حين رؤيتهم النار لم يتغيّر يقينهم، فهم كانوا متيقّنين بصدق الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن مصالحهم واتّباعهم للآباءوحسدهم ونحو ذلك كان يمنعهم عن الإيمان كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(1)، وفي القيامة يرون ما كانوا يعلمون به، فندمهم لا يرتبط بشيء كانوا يجهلونه كي يحتمل في حقهم إصلاح أنفسهم بعد العلم، بل ندمهم وتمنيهم يرتبط بأنهم يريدون تخليص أنفسهم من العذاب لا أكثر، وأما نفوسهم فهي كما كانت معاندة مستكبرة رافضة للحق.

وقوله: {بَلْ} إضراب لإبطال تمنيهم، بأنه تمنٍ لا أساس له من الواقع فلا ينطلق من نفس مشتاقة إلى الإيمان والتصديق، فليس مثل قول الشاعر: (فيا ليت الشباب يعود يوماً) حيث إنه يشتاق إلى الشباب واقعاً.

وقوله: {بَدَا لَهُم} أي ظهر لهم عياناً.

وقوله: {مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} أي ما كانوا يعلمونه ويعرفونه لكنهم كانوا يكتمونه من العقائد الحقة كالتوحيد ونبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمعاد بعذابه وثوابه.

وقوله: {مِن قَبْلُ} أي في دار الدنيا.

السادس: قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}.

لعلّ فيه إشعاراً بأنه لو كانوا صادقين لردّهم اللّه تعالى إلى الدنيا ليصلحوا ما أفسدوه؛ وذلك لأن رحمة اللّه تعالى سبقت غضبه، فلو كانت لهم قابلية

ص: 65


1- سورة النمل، الآية: 14.

الرحمة لرحمهم اللّه تعالى، لكنهم فقدوا القابلية لها بسوء اختيارهم حيث عاندوا حتى صار العناد والتكذيب ملكة ملازمة لهم بحيث لو أرجعوا إلى الدنيا لعادوا إلى تكذيبهم وكفرهم، وهذا ما يشاهد في بعض المجرمينالمحترفين الذين يظهرون ندمهم في المحكمة ويطالبون بالعفو عنهم ويعدون بأنهم يصلحون أنفسهم، لكن بمجرد إطلاق سراحهم يرجعون إلى الجريمة وكأنهم نسوا كل ما تمنوه وقالوه.

ويؤيد ذلك ما ورد من إعفاء الكفار في عالم الذر، لكنهم لم يرتدعوا، فقد خلق اللّه ناراً وأمر أهل المعصية بدخولها فلم يدخلوها، ثم أمر أهل الطاعة أن يدخلوها فدخلوها وخرجوا منها سالمين، فلما رأى أهل المعصية ذلك طلبوا الإقالة، فأقالهم اللّه تعالى وأمرهم بالدخول في النار فلم يدخلوا(1)،

ففي عالم الذر لم يفقدوا القابلية فلذلك أقالهم اللّه تعالى لكنهم رجعوا إلى عصيانهم، ولو كانوا في الآخرة صادقين فلعلّ اللّه كان يقدّر إرجاعهم، ولكنهم كاذبون.

ص: 66


1- راجع الحديث بطوله في البرهان في تفسير القرآن 3: 544؛ عن تفسير العياشي 1: 358.

الآيات 29-32

اشارة

{وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ 29 وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ 30 قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ 31 وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 32}

29- {وَقَالُواْ} قال الكفار: {إِنْ هِيَ} أي ليست الحياة {إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} القريبة {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} فلا حياة أخرى بعد الموت.

30- ولكن سيتبيّن لهم كذب قولهم في الآخرة {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمني وهو لبيان محبوبية الرؤية {إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ} أي علموا بالحساب عياناً وسمعوا كلام اللّه تعالى {قَالَ} اللّه لهم توبيخاً وتقريعاً وردّاً لكذبهم: {أَلَيْسَ هَٰذَا} الذي تشاهدونه من القيامة وجزائها {بِالْحَقِّ} خلافاً لما كنتم تكذبون به وتزعمونه أساطير الأولين؟! {قَالُواْ} مقرّين مذعنين: {بَلَىٰ وَرَبِّنَا} إضافة «وربنا» لعلّه استعطاف منهم، {قَالَ} اللّه تعالى: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب كفركم فهو جزاء عليه وليس اللّه بظلام للعبيد.

31- {قَدْ خَسِرَ} خسروا أنفسهم وخسروا النعيم الأبدي في الجنة {الَّذِينَ

ص: 67

كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ} لقاؤه باعتبار كلامه معهم أو لقاء جزائه، {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} تأتيهم القيامة فجأة؛ لأن القيامة بالنسبة إلى كل إنسان تبدأمقدماتها بموته {قَالُواْ يَٰحَسْرَتَنَا} والحسرة شدة الندم {عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا} قصّرنا وضيّعنا {فِيهَا} في الساعة وذلك بعدم الاستعداد لها، {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} ذنوبهم {عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ} بتجسّم الأعمال أو يشعرون بثقلها، {أَلَا} للتنبيه {سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي بئس الوزر ما يزرونه ويحملونه.

32- {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ} وهو الذي لا غرض عقلائي فيه، {وَلَهْوٌ} وهو ما أوجب غفلة الإنسان، والمقصود الحياة التي لم تجعل طريقاً إلى الآخرة {وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، أما العصاة فهي شر لهم بسبب سوء أعمالهم {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بأنها خير فتؤمنوا بها وتعملوا لها.

دحض إنكارهم للمعاد

بحوث

الأول: هذه الآيات تتضمن دحض إنكارهم للمعاد، وذلك ببيان سوء موقفهم عند ربهم أولاً، وبيان الحكم بعذابهم ثانياً، ثم خسرانهم لأنفسهم وللجنة ثالثاً، وبيان حسرتهم رابعاً، وبيان حملهم لأوزارهم خامساً، بترتيب لطيف لا باعتبار الترتيب الزماني، بل باعتبار الأهمية والشدة، فأسوء موقف لهم هو موقفهم عند اللّه تعالى حيث موقف الذلّ والخزي والعار لهم، ثم عذابهم بعد ذلك، - وهذا نظير ثواب المؤمنين فأعظم ثواب لهم هو رضوان اللّه تعالى ثم الجنة ونعيمها - ، ثم يلي ذلك خسرانهم لأنفسهم وللثواب فإنه ليس للنفس ثمن إلاّ الجنة وقد خسرت صفقتهم بكفرهم وعصيانهم، ثم يليه الحسرة وهو عذاب نفسي لهم، ثم حملهم لذنوبهم على ظهورهم حيث

ص: 68

الفضيحة والخزي من جهة والعذاب بها من جهة أخرى.

ثم إن ذكر العذاب مرتين لعله لأن قوله: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْتَكْفُرُونَ} هو حكمه تعالى بعذابهم، وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} تنفيذ ذلك الحكم بعذابهم، أو إنه تعالى قسّم عذابهم إلى قسمين فالأول عذابهم على كفرهم، والثاني عذابهم على معاصيهم العملية، كما يحتمل أن الأول لبيان العذاب الذي ينالهم والثاني لبيان أمر آخر غير العذاب وهو عدم غفرانهم بحيث تكون ثقل ذنوبهم على ظهورهم.

وبعد ذلك كلّه يبيّن اللّه تعالى حقيقة الحياة الدنيا بأنها لهو ولعب، وكأنّه إشعار بدليل الحياة الأخرى، فإن حصر الحياة بالدنيا التي هي لهو ولعب خلاف الحكمة وهو من العبث، واللّه تعالى منزه عن ذلك كلّه، فلا تكون الحياة الدنيا إلاّ مقدمة للحياة الأخرى لمن عقل، وسيأتي مزيد توضيح.

الثاني: قوله تعالى: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.

هذا بيان لتكذيبهم بالآخرة، فقد سبق ذكر الآخرة لكن لم يسبق ذكر تكذيبهم لها، وتأتي هذه الآيات لبيان تكذيبهم بالآخرة بعد أن سبق ذكر تكذيبهم بالتوحيد وبالنبوة، وكأن فيها إشعاراً بأنهم لا حجة لهم في هذا التكذيب سوى الاستبعاد، وهو لا يصلح دليلاً؛ إذ الكثير من الحقائق لا يألفها الإنسان، لأنه لا يحسّ بها فيستبعدها مع أنها حقائق ثابتة، ولذا كانوا يأتون بالعظام البالية ويقولون: {مَن يُحْيِ الْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٌ}(1) استبعاداً لإحيائها، وقد أجابهم اللّه تعالى في القرآن بعدة أجوبة، منها: قدرة اللّه تعالى

ص: 69


1- سورة يس، الآية: 78.

الذي أنشأها أول مرّة، ومنها: مثل مادي يرونه من حياة الأرض بالمطر بعد موتها، ومنها: ما في الآية 32 من هذه السورة كما سيأتي.

وقوله: {إِنْ هِيَ} «إن» نافية، و«هي» ضمير يرجع إلى الحياة، أي ليست الحياة إلاّ الحياة الدنيوية.

وقوله: {الدُّنْيَا} أي القريبة التي نشاهدها؛ لأن الآخرة بعيدة عن أذهانهم باعتبار عدم تصديقهم لها.

وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} تأكيد لحصر الحياة في الدنيا، فإن قولهم {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} تصريح بانحصار الحياة فيها وذلك بالملازمة يدل على نفيهم للحياة الأخرى، فأرادوا التأكيد عبر التصريح بعدم البعث.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ...} الآية.

تبدأ هذه الآية ببيان عاقبتهم وهو أن تكذيبهم لا يغيّر من الواقع شيئاً، فالحقائق ثابتة لا تغيّرها توهمات الناس وتصوراتهم، كما أن الحق لا يتبع أهواءهم بل يبيّن اللّه لهم الحقائق حتى يتّبعوها، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَٰهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ}(1).

فأشد المواقف وأسوؤها عليهم هو موقف الذل والخزي عند اللّه تعالى، كالمجرم الذي يقف أمام وليّ نعمته بعد أن خان تلك النعمة فيقرّع ويوبّخ على خيانته، فلا موقف أشد منه.

ص: 70


1- سورة المؤمنون، الآية: 71.

وقوله: {وَلَوْ تَرَىٰ} «لو» للتمنّي والمقصود بيان محبوبية ذلك؛ لأن التمني محال على اللّه تعالى كما مرّ، وما يحبه اللّه تعالى يقع لا محالة فإنحبّه فعله وليس كحبّنا للشيء؛ لأنه سبحانه ليس محلاً للحوادث ولا للكيفيات النفسانية، فدلت الآية على أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يشاهد ذلك الموقف.

وقوله: {وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ} (وقف عليه) بمعنى علم به تقول: وقفت على هذا الأمر أي علمت به، والمعنى عاينوا حسابه وسمعوا كلامه، و{رَبِّهِمْ} لبيان عظم جرمهم؛ لأنه الذي هيّأ كل شيء لإصلاح أمرهم، لكنهم بسوء اختيارهم رفضوا ذلك فكفروا بالنعمة.

وقوله: {قَالَ أَلَيْسَ...} تقريع وتوبيخ لهم وهو أشد عقاب ينالهم، فإن عذاب النار دون هذا الموقف وهذا التقريع.

وقوله: {قَالُواْ بَلَىٰ} أي اضطروا بأن يقرّوا، وما أسخف عقولهم حيث جحدوا في الدنيا حينما كان ينفعهم الإذعان ويُعزّهم ويجعلهم في محلّ الكرامة عند اللّه تعالى، مع اضطرارهم إلى الإقرار حينما لا ينفعهم ذلك مع كون إقرارهم في موقف الذل والخزي والتقريع، والحاصل أن الإنسان لا بد له من الإقرار والإذعان، فإن أقر في الدنيا ربح، وإلاّ سيقرّ حينما لا ينفعه.

وقوله: {وَرَبِّنَا} كأنه استعطاف منهم وطلب الرضا.

وقوله: {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} أي حيث علمتم وأقررتم بأنه حق فلا مناص عنه؛ لأنهم لو كانوا ينجون من العذاب لم يكن العذاب حقاً وكان الإخبار به كذباً، وقد تعالى اللّه سبحانه عن ذلك، فلا يقول إلاّ الحق ولا يقضي إلّا بالحق.

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي إن العذاب إنما هو بسبب كفركم،

ص: 71

وحيث إن اللّه تعالى حكيم فإنه يرتب النتائج على المقدمات.

الرابع: قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا...} الآية.

بيان لأمور أخرى تترتب على تكذيبهم للبعث - إضافة إلى موقف الخزي والعذاب - وهو خسرانهم وحسرتهم وحملهم للأوزار.

وقوله: {قَدْ خَسِرَ} أي خسروا أنفسهم؛ لأنها جُعلت ثمناً للجنة، لكنهم بسوء اختيارهم أعطوها ثمناً للنار، وأيضاً خسروا الثواب.

وقوله: {بِلِقَاءِ اللَّهِ} لقاء اللّه هو الموقف الذي يخاطب اللّه تعالى به الناس مباشرة بخلق الصوت، وهو في الآخرة عام لجميع الناس - مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم - قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَٰمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}(1)، وقال سبحانه: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}(2)، وقال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَٰقِيهِ}(3)، ثم إنه يلازم هذا الموقف حكمه تعالى بالثواب أو العقاب فلذا يمكن تفسير لقاء اللّه بلقاء ثوابه أو عقابه من باب التفسير باللازم، وليس هذا اللقاء لقاء ماديّاً كالتقاء شخصين فإن اللّه تعالى أجلّ من ذلك؛ لأنه ليس بجسم ونسبة الأشياء إليه نسبة واحدة في جميع المواقف، إذ هو المحيط بها علماً وقدرة، فلا فرق بين المواقف والعوالم من هذه الجهة أصلاً.

قوله: {جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} أي القيامة، والمراد جاءهم الموت وعبّر عن

ص: 72


1- سورة الأحزاب، الآية: 44.
2- سورة التوبة، الآية: 77.
3- سورة الانشقاق، الآية: 6.

الموت بالساعة؛ لأنه من مقدماتها فلا تقوم الساعة إلاّ على الأموات حيث يبعثون، ويمكن أن يكون المراد القيامة بنفسها وإنما وصف مجيئها بكونهبغتة باعتبار عدم استعدادهم لها وعدم إمهالهم ليتوبوا.

وقوله: {بَغْتَةً} أي فجأةً؛ لأن الذي ينكر الشيء ولا يصدق به ولا يستعد له إذا جاءه ذلك الشيء فاجأه، عكس المنتظِر له.

وقوله: {يَٰحَسْرَتَنَا} (الحسرة) شدة الندم على التفريط، والنداء مجازي كأنه يقال: يا حسرة احضري فهذا أوانك.

وقوله: {فَرَّطْنَا} التفريط هو التقصير وأصله بمعنى التقدم، فالتفريط هو التقدم في التقصير، والإفراط هو التقدم في التكثير، والمعنى أنهم قصرّوا في الدنيا فضيعوا أعمارهم في المعصية وترك الطاعة، وهذا قولهم وهو عذاب نفسي لهم.

وقوله: {فِيهَا} أي في الساعة وذلك بعدم الاستعداد لها، و«في» للظرفية المجازية كأنّ الساعة ظرف للتفريط.

وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} وهذا عملهم وهو عذاب جسدي لهم، و(الأوزار) جمع وِزر وهو الثقل، والمعاصي ثقيلة، ثم إن حملهم الوزر هو بمعنى حملهم لذنبوهم التي حضرت بناءً على تجسّم الأعمال، كما أن نفوسهم تعبة وفي حرج لذلك يكون ثقلاً معنوياً أيضاً، فجمع حملهم بين الحمل المادي والمعنوي.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ...} الآية.

ص: 73

كأنّه ردّ على قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} فيقال لهم بأنه لا يعقل أن يكون اللّه تعالى قد خلقكم لأجل اللعب واللّهو فهذا عبث واللّه سبحانهمنزه عنه قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَٰلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}(1)، فإن الحياة الدنيا مجردة عن الآخرة عبث؛ لأنها في نفسها - لولا الآخرة - مجرد لعب ولهو، إلاّ أن الآخرة تعطي للحياة الدنيا معناها وذلك بجعلها مزرعة للآخرة.

وقوله: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ} واللعب: كل ما لا غرض صحيح فيه، واللّهو: كل ما يشغل الإنسان عمّا يُعنيه فيوجب الغفلة عنه، والمقصود أنّ الحياة الدنيا بما هي هي لا تكون إلاّ لعباً ولهواً، أو المقصود أنّ حياة الكفار الذين أنكروا المعاد لا تكون إلاّ كذلك.

وقوله: {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي يحفظون أنفسهم عن العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة، أو يحفظونها عن العقاب وفيه إشعار بأن دنيا المؤمنين خير إلّا أن آخرتهم خير من دنياهم.

وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بأن الآخرة خير؛ لأن من يرجّح الفاني الذي لذّاته مشوبة بالكدر على الباقي الذي لا يشوبه سوء لغير عاقل، وفي الوافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لاختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني»، كيف والأمر بالعكس(2).

ص: 74


1- سورة المؤمنون، الآية: 115 و 116.
2- الوافي 1: 100.

الآيات 33-36

اشارة

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 33 وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِيْ الْمُرْسَلِينَ 34 وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بَِٔايَةٖ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَٰهِلِينَ 35 إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ 36}

ثم يسلّى اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على تكذيبهم، فقال:

33- {قَدْ نَعْلَمُ} «قد» للتحقيق، أي إنه بعلمنا {إِنَّهُ} الضمير للشأن {لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} فيك كقولهم إنه ساحر أو اكتتب أساطير الأولين {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} أي لا يأتون بباطل يكذّبون به حقك {وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} بغير حجة، أي ينكرونها مع علمهم بصدقها.

34- {وَ} لست أنت ببدع من الرسل ف{لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ} على تكذيب الناس إياهم، فاصبر كما صبروا {وَأُوذُواْ} بسبب ذلك التكذيب؛ لأن الصبر لا ينافي التأذي في النفس

ص: 75

{حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا} على المكذبين بظهور الحق وزهوق الباطل في الدنيا والآخرة {وَ} هذا النصر من سنن اللّه ف{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ} أي: وعوده، فلا هو تعالى يبدلها لعدم الحكمة في التبديل، ولا غيره يبدّلها لعجزهم{وَلَقَدْ جَاءَكَ} من الآيات النازلة في ما مضى {مِن نَّبَإِيْ الْمُرْسَلِينَ} بعض أخبارهم وكيف نصرناهم.

35- {وَإِن كَانَ كَبُرَ} عظم وشقّ {عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} لأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان حريصاً على هدايتهم {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} أن تهديهم بفعل المستحيل فافعل ذلك، مثل {أَن تَبْتَغِيَ} تطلب وتتخذ {نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} كناية عن فعل كل شيء {فَتَأْتِيَهُم بَِٔايَةٖ} توجب إيمانهم، والمقصود أنهم لا يهتدون حتى لو أتيت بكل آية؛ إذ لو كانوا قابلين للّهداية لاهتدوا بالآيات التي أريتهم إياها، {وَ} لكن ذلك لا يعني استحالة هدايتم بالإلجاء؛ إذ {لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ} فهو قادر على ذلك لكن لا يفعله لعدم الحكمة فيه؛ إذ به يبطل الامتحان، وحيث علمت حكمة اللّه في عدم إلجائهم {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَٰهِلِينَ} الجازعين، والجهل هنا مقابل الحِلم، أي كن حليماً عليهم وهذا تأكيد على أمره بالصبر.

36- ثم يبين اللّه أن هؤلاء كالموتى ف{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} لنداء الإيمان فيؤمن {الَّذِينَ يَسْمَعُونَۘ} يعقلون ويفهمون {وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وهؤلاء كالموتى لا يسمعون لكن بعد البعث والرجوع إليه سيسمعون حيث لا ينفعهم السمع.

ص: 76

الحزن على الكفار

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى عدم إيمانهم حتى لو رأوا كل آية وجدالهم بأن القرآن أساطير الأولين وإنكارهم للبعث... بعد ذلك بيّن أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يحزن لعدم إيمانهم ولتكذيبهم فيسلّيه اللّه تعالى بأنحقيقة تكذيبهم راجعة إلى جحد آيات اللّه مع علمهم بأنها حق فهذا نوع تسلية، وأنهم ظالمون لأنفسهم ببخسهم حقها فليس تكذيبهم من منطلق واقعي وهذا نوع تسلية أخرى، ثم يذكر أن هذا هو دأبهم مع الأنبياء وهذا تسلية ثالثة، وأنه بالصبر سيأتي النصر وهذا تسلية رابعة، وأنه لا يوجد طريق آخر ليهتدوا باختيارهم وهذا تسلية خامسة، وأن اللّه لا يلجؤهم إلى الإيمان لعدم الحكمة فيه وهذا تسلية سادسة، وأنهم لا يستحقون حزنك عليهم لأنهم كالموتى وسيحاسبهم اللّه على أعمالهم وهذا تسلية سابعة، وتضمنت الآيات أمر الرسول بالصبر والحلم، ووعدته بالنصر المحتوم الذي لا بداء فيه.

الثاني: قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ...} الآية.

«قد» للتحقيق، أي نعلم حزنك بسبب كلامهم، وهذا الحزن من جهتين: حزن عليهم حيث إن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان شفيقاً عليهم ويحب أن يؤمنوا، فهو وإن كان مأموراً بالتبليغ ولم تكن من وظيفته اهتداؤهم إلاّ أن الإنسان قد يحب شيئاً ليس من مهامّه، وخاصة إذا كان ذلك الشيء يترتب على وظائفه، كالناصح الشفيق الذي يحب استماع المنصوح لنصحه ويتألم عليه إذا لم يستمع هذا من جهة، ومن جهة أخرى حزنه لتكذيبهم له حيث قابلوا

ص: 77

إحسانه بالإساءة، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بشر يحزن على ما يصيبه من الشر والأذى، فيأمره اللّه تعالى بأن لا يحزن عليهم قال سبحانه: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُفِي ضَيْقٖ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}(1)، وقال: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ}(2).

وبعبارة أخرى: كان حزن الرسول عليهم حسناً مادام اللّه لم يختم على قلوبهم، فيخبره اللّه بأنه ختم عليها فلا وجه للحزن عليهم بعد ذلك، فكلتا الحالتين حسنة: الحزن قبل الختم وعدم الحزن بعده، وأما حزنه على نفسه وعلى تكذيب الآيات فهو حسن ويشفيه اللّه تعالى بنصره عليهم وبإهلاكهم.

وقوله: {لَا يُكَذِّبُونَكَ} من باب التفعيل ولكن المقصود منه معنى الثلاثي المجرد، فما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أنها مخفّفة»(3)، يراد به أن معناها معنى المخفّفة - بدون تشديد الذال - وليس ذلك بمعنى أنّ قراءته كانت بالتخفيف، وقد مرّ أن هذه القراءة المشهورة بين المسلمين هي قراءة أهل البيت(عليهم السلام)، لا قراءة لهم غيرها، وقد قرأ على طبقها حفص عن عاصم عن السلمي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، فقد قرأ رجل على أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الآية فقال (عليه السلام) : «بلى واللّه لقد كذّبوه أشد التكذيب، ولكنها مخففة: لا يكذبونك، أي لا يأتون بباطل يكذبون به حقك»(4)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لا يستطيعون إبطال قولك»(5)، ويمكن أن تكون هذه

ص: 78


1- سورة النحل، الآية: 127.
2- سورة فاطر، الآية: 8.
3- البرهان في تفسير القرآن 3: 547.
4- الكافي 8: 200.
5- تفسير العياشي 1: 359.

الروايات في تأويل الآية فيكون تفسيرها: إن التكذيب ليس راجعاً لك؛ لأنهم يعلمون صدقك ولكن التكذيب راجع إلى جحد آيات اللّه.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ} أي لكنهم لظلمهم جحدوا آيات اللّه، فوضع الظاهر - الظالمين - موضع الضمير ليتبيّن سبب جحدهم، فهم ظلموا أنفسهم بالكفر حيث بخسوها حقها - لأن حقها كان الإيمان والجنة - وظلموا غيرهم بمنعهم عن الهداية، وظلموا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدم الإيمان به.

وقوله: {يَجْحَدُونَ} الجحد هو الإنكار عن علم كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(1)، وبذلك ظلموا أنفسهم وغيرهم، فكان كفرهم عن عناد.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ...} الآية.

حضّ للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يقتدي بهداهم كما قال: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ اقْتَدِهْ}(2)، وليس اقتداءً بهم بل اقتداء بهداهم فإن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أفضل منهم ولا وجه لاتّباع الأفضل للمفضول، لكن هداهم هو هدى اللّه، والاقتداء به، وقد مرّ أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان تابعاً لملة إبراهيم (عليه السلام) لا لشخصه.

وقوله: {رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} مرّ في الآية 10 استهزاؤهم برسل من قبله، وفي هذه الآية بيان تكذيبهم بهم، والتكذيب والاستهزاء وإن كانا متلازمين عادة، لكن كل واحد ذكر في مورده المناسب له، وتنكير (رسل) تارة

ص: 79


1- سورة النمل، الآية: 14.
2- سورة الأنعام، الآية: 90.

وتعريفه أخرى لعلّه لأن في التعريف بيان أن التكذيب والاستهزاء نال جميعهم بلا استثناء، وفي التنكير الدال على الجنس إشعار بأن سبب التكذيب والاستهزاء هو كونهم رسلاً للّه تعالى لا لشيء آخر!

وقوله: {مَا كُذِّبُواْ} «ما» مصدرية أي صبروا على التكذيب.

وقوله: {وَأُوذُواْ} الظاهر أنه عطف على {كُذِّبَتْ} أي كان تكذيباً مصحوباً بالإيذاء، وهذا تعميم بعد تخصيص؛ لأن كل تكذيب يتضمن إيذاءهم، و(الأذى) هو المكروه دون الضرر سواء كان في النفس أو الجسم، وكأن ذكر الأذى لتخفيف وقع التكذيب على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما قال: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}(1).

وقوله: {حَتَّىٰ أَتَىٰهُمْ} غاية للصبر والأذى، فإنه بالنصر يزول سبب الصبر كما أنه ينتهي الأذى عادة بخضوعهم أو استئصالهم.

وقوله: {نَصْرُنَا} عام شامل للنصر في الدنيا بالغلبة على المكذِّبين، وفي الآخرة بعذابهم قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ}(2).

وقوله: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ اللَّهِ} مثل وعوده قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ}(3)؛ وذلك لأنها حق ولا تبديل للحق إلى الباطل أبداً، قال سبحانه: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ وَلَوْ

ص: 80


1- سورة آل عمران، الآية: 111.
2- سورة غافر، الآية: 51.
3- سورة الصافات، الآية: 171-172.

كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(1)، وقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَٰطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ}(2)، ومن هذا تتبيّن أمور:

معنى تبديل الآيات

أولاً: لا نسخ في التلاوة - وهي حذف آيات من القرآن فلا تتلى - لأنه من التبديل الذي نفاه اللّه تعالى، قال سبحانه: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ}(3).

وثانياً: إن نسخ الأحكام ليس من التبديل؛ لأن النسخ هو بيان انتهاء أمد الحكم لا تبديل له، كما لو قلت: (أطعم الضيف مادام في دارك) فإذا خرج لا يجب إطعامه وليس ذلك من تغيير الحكم أصلاً، وقد مرّ الكلام حول النسخ.

ثالثاً: إن البداء ليس من تبديل كلمات اللّه؛ وذلك لأن ما هو مكتوب في لوح المحو والإثبات إنما هو مشروط بشروط، فإذا لم تتحقق الشروط صدر تقدير جديد، وذلك ليس من تبديل التقدير السابق في شيء، بل بيان عدم تحقق شروطه.

وأما قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٖ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(4)، فهو بمعنى نسخ الأحكام ببيان انتهاء أمدها، ولذا كان الناسخ والمنسوخ كلاهما حقّاً، ولذا أتمّ الآية بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ

ص: 81


1- سورة يونس، الآية: 82.
2- سورة شورى، الآية: 24.
3- سورة الكهف، الآية: 27.
4- سورة النحل، الآية: 101.

لِلْمُسْلِمِينَ}(1).الرابع: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ...} الآية.

بيان لعدم انتفاعهم بالآيات حتى لو أكثر منها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فالعاقل غير المعاند تكفيه آية واحدة، فكيف بمن شاهد آيات متعددة وهو مُصرّ على التكذيب فهذا لا تنفع معه أيّة آية أخرى، ولذلك لم يستجب اللّه تعالى لاقتراحاتهم ليروا آيات أخرى حينما كانت تلك الاقتراحات عن عناد، وعليه فلا يتمكن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هدايتهم - بمعنى إيصالهم إلى المطلوب - لمّا عاندوا، لكن اللّه يتمكن من سلب اختيارهم وإلجائهم إلى الإيمان لكن ليس ذلك من الحكمة فلا يفعله اللّه تعالى مع قدرته عليه، قال سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(2)، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(3).

قال السيد الوالد رضوان اللّه عليه في التقريب: «وهنا نكتة بلاغية لا بأس ببيانها: وهي أن الألفاظ والجمل وضعت للمعاني الخاصة لكنها كثيراً ما تستعمل لإنشاء مفهومها الموضوع له، لكن يراد غير ذلك، كما يستعمل الاستفهام والتعجب بالنسبة إليه سبحانه، مع العلم أنه لا يجهل شيئاً، ولا

ص: 82


1- سورة النحل، الآية: 102.
2- سورة القصص، الآية: 56.
3- سورة يونس، الآية: 99.

يتعجب من شيء، وإنما استعمال الاستفهام والتعجب بداعي التحريض أو الردع أو نحوهما، وهكذا الخطاب الغليظ أو الرقيق لأحد قد يراد به المعنىالموضوع له، وقد يراد به داع ٍ آخر يفرغ في مثل هذا القالب، فإنك إذا أردت تنبيه أحد من جيرانك تغلظ لولدك في الخطاب مع أنك لا تريده بالذات، فمثلاً تقول: (لو أنك ألقيت النفاية بباب الدار لحبستك) فإنك لا تريده، بل تنشئ هذا الكلام بداعي زجر الجار عن القيام بمثل هذا العمل، بل قد يكون عملٌ يستفاد منه شيء - حسب المتعارف - يأتي به الإنسان لغرض آخر، كما لو أردت تأديب ولدك لِما اقترفه من عمل سيّئ فإنك تعمد إلى خادمك وترفسه برجلك - في هدوء - قائلاً: (لماذا فعلت هذا الفعل) وإنك لا تريده إطلاقاً وإنما تريد إفهام ولدك أن هذا العمل له هذا الجزاء. وعلى هذا الوجه جرى الكلام في هذه الآية الكريمة {وَإِن كَانَ كَبُرَ...} إنه سبحانه يريد بيان غلظة قلوب الكفار وعنادهم، لكنه يصوغه في أسلوب خطاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : بأنك لو توسلت بكل الوسائل من الصعود في السماء وجعل النفق في الأرض - مما يتوسل الناس بهما في مآربهم - فإن الكفار لا يؤمنون، كما أن قصة موسى (عليه السلام) : {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}(1) من هذا القبيل أيضاً»(2).

وقوله: {إِعْرَاضُهُمْ} الإعراض هو الانصراف عن الشيء رغبة عنه والمقصود إعراضهم عن آيات اللّه أو عن الإيمان أو عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 83


1- سورة الأعراف، الآية: 150.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 64-65.

وقوله: {تَبْتَغِيَ} من البغي قيل: هو بمعنى شدة طلب الشيء، وقيل: هو الطلب، وأمّا شدته فمستفادة من بنائه على باب الافتعال.

وقوله: {نَفَقًا فِي الْأَرْضِ...} هذا تعبير كنائي يراد به صنع المستحيل للحصول على النتيجة، كما نقول: (اصعد إلى السماء أو انزل إلى الأرض فلا تتمكن من كذا).

وقوله: {فَتَأْتِيَهُم بَِٔايَةٖ} أي بآية يقبلونها فيؤمنوا بها، أما الآيات التي لا توجب إيمانهم فكانت كثيرة وقد شاهدوها لكن لم يؤمنوا بها، وأعظم آية هو القرآن لا شيء أعظم منه، لكنهم لم يؤمنوا به عناداً، فليس من طبيعة المعاجز إكراه الناس على الإيمان.

بين الإرادة التكوينية والتشريعية

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} أي مشيئة تكوينيّة بإيمانهم، فإن ما شاء اللّه يكون حتماً، فقد أراد اللّه التكوينيات فكانت، وقد أراد التشريع فصدرت الأحكام، لكنه لم يُرد صدور الإيمان عن إلجاء لهم.

وقد مرّ أن التفريق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية بالفرق بين الإرادتين! لا وجه له، بل كل ما أراده اللّه من التكوين أو التشريع يقع حتماً ولا تتخلّف الإرادة عن المراد، لكن متعلّق الإرادة يختلف، فمتعلّق الإرادة التكوينية هو تحقق الشيء خارجاً فيتحقق فوراً، ومتعلَّق الإرادة التشريعية هو صدور الحكم والتشريع فيتحقق أيضاً، وليس متعلقها صدور الفعل عن العبد حتى يقال كيف أراد اللّه الطاعة ولكن أراد العصاة المعصية وقد تحقق ما أراده العصاة!! فهذا كلام غير صحيح من أساسه؛ إذ قد أراد اللّه الطاعة بمعنى صدور الأمر بها لا إرادة فعل الناس. نعم، حينما يريد المؤمن الطاعة

ص: 84

ويريد الفاسق المعصية فحينئذٍ يريد اللّه تحقق ما أراداه، فكل عمل يصدر من الناس يكون صدوره بإرادتهم وبمشيئة اللّه، فيتحقق، فلو لم يريدوه ماكان اللّه ليشاءه، ولو أرادوه ولم يشأه اللّه لم يتحقق، لكن لو أرادوه وشاءه اللّه تحقق، ومشيئة اللّه وإن لم تكن من صنعهم لكن لا يضر ذلك باختيارية العمل؛ لأن إرادتهم من مقدماته، وإذا كان للعمل ألف مقدمة وكانت كلها بغير اختياره إلّا مقدمة واحدة كانت النتيجة اختيارية.

وقوله: {لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ} لكنه لا يشاء ذلك الجمع لئلا يبطل الامتحان فلا حكمة في الإلجاء أبداً.

وقوله: {مِنَ الْجَٰهِلِينَ} الجهل قد يكون مقابل العلم، وقد يكون مقابل الحلم، والظاهر أن الثاني هو المراد هنا، وهو دعوة إلى الحلم، أو هو دعوة إلى معرفة عدم الحكمة في الإلجاء، فالعالم يعرف ذلك والجاهل لا يعرفه.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ...} الآية.

كأنّه تكميل للآية السابقة وبيان سبب عدم إيمانهم بكل آية لو أتيتهم بها وهو أن قلوبهم ميتة، فكما أن الميت لا يستجيب للحي إذا دعاه إلى شيء مع أن الميت يسمع كلام الأحياء، فكذلك هؤلاء لا يستجيبون إذ قلوبهم ميّتة.

وقوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} أي يجيب الدعوة، فيؤمن.

وقوله: {الَّذِينَ يَسْمَعُونَۘ} أي يسمعون سماع تفهم وتعقل، لا مجرد قرع الصوت في آذانهم، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ * يَسْمَعُ ءَايَٰتِ اللَّهِ

ص: 85

تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا}(1)، وقال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِءَايَٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا}(2)، وقال: {وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}(3)، وقال: {أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}(4)، وغيرها آيات كثيرة.

وقوله: {وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} الظاهر أن المراد هنا الميت الحقيقي ولكن المقصود تشبيه هؤلاء الكفار بالأموات.

وقوله: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} ليحكم بينهم.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} للجزاء، فحينئذٍ يسمعون ويُقرّون حيث لا ينفعهم ذلك السمع، وكأن المقصود بيان أن الجميع يذعن لكن إن أذعن في دار الدنيا وأقر نفعه ذلك، وإلّا فسيذعن حين الموت وبعده ولات حين مندم ولا نفع، إلاّ أنه بإقرارهم تطيب قلوب أصحاب الحق.

ص: 86


1- سورة الجاثية، الآية: 7-8.
2- سورة لقمان، الآية: 7.
3- سورة الأعراف، الآية: 100.
4- سورة الأعراف، الآية: 195.

الآيات 37-41

اشارة

{وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 37 وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ 38 وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَٰتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ 39 قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ 40 بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ 41}

ثم يدحض اللّه تعالى حجة من حججهم بأنه لماذا لا يستجيب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما يقترحونه من آيات طلبوها عناداً، فقال:

37- {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ} لماذا لا تنزل آيات اقترحوها، قالوا ذلك لعدم اعتنائهم بالآيات التي رأوها عناداً {قُلْ} في جوابهم {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً} أي الآيات التي اقترحوها {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بأنها لا تنفع المعاندين، فقد رأوا أعظم الآيات فنسبوها إلى السحر ولم يؤمنوا.

38- ثم يذكر اللّه تعالى شاهداً على قدرته في خلق الموجودات الحيّة وأن الكفار أسوء منهم، فقال: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ} تتحرّك عليها {وَلَا

ص: 87

طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وطيرانه بالجناحين من أعظم آيات اللّه التي يشاهدونها {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} في كونها خلقاً مثلكم ولا فرق بينها وبينكمفي أيِّ شيء سوى العقل، لكن لهم نوع شعور وإدراك ولذا يكون أيضاً حساب عليهم بمقداره، {مَّا فَرَّطْنَا} ما قصرنا {فِي الْكِتَٰبِ} التكويني والتشريعي {مِن شَيْءٖ} ففي الكتاب التكويني - وهو اللوح المحفوظ - قدّر اللّه كل ما فيه مصلحة فخلق هذه الأمم، وفي التشريعي - وهو القرآن - ذكر كل ما يوجب الهداية في ظاهره، وكل شيء في باطنه، {ثُمَّ} هذه الأمم {إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} لجزاء الظلم الواقع بينهم.

39- {وَ} لكن المكذبين أضل من هذه الحيوانات؛ إذ {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} التي أنزلناها عليهم تكذيباً عن عناد {صُمٌّ} جمع أصم، أي صم عن الهداية فلا يسمعون الحق {وَبُكْمٌ} جمع أبكم فلا يتكلمون بخير؛ وذلك لأنهم {فِي الظُّلُمَٰتِ} ظلمات الجهل والكفر والعناد وسائر الرذائل؛ وإنما كانوا في الظلمات لأن اللّه خذلهم لمّا أساؤوا ف{مَن يَشَإِ اللَّهُ} إضلالَه {يُضْلِلْهُ} يخذله حتى يضلّ {وَمَن يَشَأْ} اللّهُ هدايتَه لأنه أحسن ولم يعاند {يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}.

40- ثم يبين اللّه عموم قدرته سواء بتنزيل آية أو بغيرها، فقال: {قُلْ} يا رسول اللّه لهؤلاء المكذبين {أَرَءَيْتَكُمْ} أخبروني {إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} في الدنيا، {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} القيامة - بحسابها وعقابها - {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ليكشف العذاب والعقاب عنكم {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في شرككم واتخاذ الآلهة وإنكار الآيات؟ والمعنى أنهم ليسوا صادقين في ذلك.

ص: 88

41- {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} بيان لحقيقة يدركونها بفطرتهم {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ} اللّه {إِلَيْهِ} من المكاره {إِن شَاءَ} فهو القادر على الكشف فقديستجيب دعاءكم وقد لا يستجيب {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} لأنكم تعلمون أنها لا تنفعكم.

دحض حجج المشركين

بحوث

الأول: هذه الآيات تتمة لبيان أحوال المشركين ودحض حججهم، فتارة يجادلون في القرآن بأنه أساطير الأولين، وتارة ينكرون البعث من غير برهان، وتارة يكذبون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتارة أخرى يقترحون الآيات عناداً مع أنهم رأوا الآيات التي كانت كافية لهدايتهم لو أحسنوا ولم يتكبروا عليها، فيقال لهم إن اللّه قادر على كل شيء فهو القادر على خلق مختلف أصناف الأمم من الحيوانات، وهو القادر على كشف البلايا والعذاب وهم قد يشاهدون أصناف الموجودات الحية بأعينهم، وأيضاً يدركون بفطرتهم أن اللّه هو الملجأ حين تنقطع السبل وتنزل البلايا، وذلك دليل على قدرته على تنزيل الآيات التي يقترحونها، لكنه لا يشاء ذلك لعدم المصلحة فيه، فليست المعاجز والآيات ملعبة وإنما لأجل الهداية وهؤلاء لا يريدونها إلاّ ملعبة؛ لأنهم لو شاهدوها لاستمروا في عنادهم ولقالوا إنها سحر فأيّة فائدة في الاستجابة لهم، هل لإثبات صدق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ والآيات السابقة كافية لإثباته وهم يعلمون به حق المعرفة، أو لإثبات قدرة اللّه تعالى؟ وهو ثابت لديهم من غير ريب.

الثاني: قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ...} الآية.

ص: 89

دحض لحجة أخرى من حججهم وهي أنهم كانوا يطلبون المعاجز باستمرار فلما لم يكن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستجيب لهم كانوا يأخذون ذلك ذريعةًفي الطعن والتكذيب، لكن لو كان يستجيب لهم كانوا يقولون إنه سحر ثم يطلبون معجزة أخرى، مضافاً إلى أن بعض طلباتهم لم تكن معقولة لاستحالتها أو لأنها تخالف السنن العامة القائمة على المصلحة، كأن يأتي اللّه إليهم بنفسه! أو أن يشركهم في النبوة! فيأتي الجواب بأن اللّه تعالى قادر على الاستجابة لطلباتهم، لكن عدم الاستجابة ليس لعدم القدرة بل لعدم الحكمة.

وقوله: {نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ} أي غير الآيات التي أنزلت سابقاً، فإنهم لم يكونوا يعترفون بها، بل كانوا ينسبونها إلى السحر، فكأنهم زعموا أنه لم تنزل عليه آية لتشهد على صدقه!

وقوله: {مِّن رَّبِّهِ} كأن في كلامهم استخفاف بالرب تبارك وتعالى، فكأنه ربّه وليس ربهم، ولذا لما دحض حجتهم بدل كلمة (الرب) إلى كلمة {اللَّهَ} لبيان أن ربّه هو اللّه الذي يضطرون إلى الاعتراف بعموم قدرته.

وقوله: {أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون بعدم انتفاع هؤلاء المعاندين بتنزيل تلك الآيات المقترحات، أو لا يعلمون بقدرة اللّه تعالى حيث إن شركهم سبب اختلال موازين الفكر لديهم، فلعلّهم تأثروا بما قالته اليهود {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ}(1).

ص: 90


1- سورة المائدة، الآية: 64.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ...} الآية.

كأن هذه الآية للاستدلال على عموم قدرة اللّه تعالى بما يشاهدونه عياناً من عجيب قدرته ولطيف صنعه في خلق الحيوانات المختلفة، فخلقها وحركتها من أعظم الآيات على قدرة اللّه تعالى، ومن قدر على خلقها ودبّر أمرها لا يعجز عن الإتيان بالآيات المختلفة.

وقوله: {دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ} الدابة كل موجود حيّ يدب - أي يتحرك - على الأرض، ولعلّ ذكر {فِي الْأَرْضِ} ليتقابل بالطائر الذي يطير في الهواء فهو تعميم لما في الأرض وما في السماء، فيكون أوقع في الإرشاد إلى عموم قدرته تعالى.

وقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وصف الطائر بهذا الوصف مع أنه من الواضح أنّ الطائر يطير بالجناحين لعلّه لأجل التنبيه على قدرة اللّه تعالى حيث إنه جعل طيران الطائر عبر الجناحين وهما لحم وعظم وريش، ثم لعل عدم ذكر الموجودات البحرية لأجل أنها لا ترى بالعين عادة فلا يرى الإنسان عجائب صنع اللّه تعالى فيها، فلا تناسب المقصود من الآية بإرشادهم إلى التفكر في آيات اللّه في مخلوقاته الحيّة، أو لأن الدواب والطيور يراها كل الناس باستمرار، أما الأسماك فهي خاصة بالمناطق التي تقع على البحار.

وقوله: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} في بديع صنعها ودلالتها على قدرة خالقها، فالحيوانات كالإنسان في كل شيء إلاّ في العقل فقد ميّز اللّه الإنسان به، وليست هي تعقل ولكن مع ذلك فلها شعور وإدراك دون العقل وبذلك صحّ

ص: 91

جزاؤها، ودونك هدهد سليمان ونملته.

وقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ} جملة معترضة لبيان أن اللّهتعالى هيّأ كل شيء لهداية الناس، فهذه الدواب والطيور خلقها للإنسان لينتفع بها ويتعظ بها، فليس عدم الاستجابة لاقتراحاتهم في المعاجز تفريطاً؛ لأنه تعالى لم يفرط في شيء، و{فَرَّطْنَا} من التفريط بمعنى التقصير و{الْكِتَٰبِ} أعم من الكتاب التكويني والتشريعي، فهذه الحيوانات خلقت للإنسان قال تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(1)، وقال: {وَالْأَنْعَٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ}(2)، وهذا الكتاب التكويني هو اللوح المحفوظ التي كتب اللّه تعالى فيه جميع ما قدّره، كما أنه تعالى في القرآن ذكر كل شيء، ففي ظاهره كل ما ينفع في هداية الناس، وفي باطنه كل الأمور من رطب ويابس، لكن خص علم الباطن بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه(عليهم السلام).

بعث الحيوانات بعد موتها

وقوله: {إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} بيان لبعثها بعد موتها؛ وذلك لأن إدراكها وشعورها - مع إلهامها بطلان ظلم بعضها بعضاً - وإن لم يكن يجعلها مكلّفة، إلاّ أنه يمنعها عن الظلم، فإن خالفت كان لا بد من الانتصاف للمظلوم منها، وفي الحديث «إن اللّه ينتصف للجماء من القرناء»(3)، كما أنه بعد الانتصاف ينتهى أمرها فيحوّلها اللّه تعالى إلى تراب؛ لأنها لا تستحق ثواباً لعدم عمل منها يقتضي ذلك، ولا عقاباً لعدم تكليفها بشيء، سوى الانتصاف من الظالم

ص: 92


1- سورة البقرة، الآية: 29.
2- سورة النحل، الآية: 5.
3- الكافي 2: 443.

للمظلوم وهذا يتحقق في حشرها فلم يَعُد من الحكمة إبقائها، إلاّ المعدود منها حيث وردت روايات أنها تكون من نِعَم الجنة.

الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ...} الآية.

كأنه بيان لعدم نفع إنزال آيات أخرى عليهم، وأيضاً بيان أنهم أسوء من الأنعام؛ لأنهم في ظلمات الجهل والضلال وصار ذلك سبباً لعدم سماعهم الحق وعدم نطقهم به.

وقوله: {كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} عام يشمل جميع الآيات، ومن الآيات: الأوصياء(عليهم السلام)، فقد كذبوهم مع ظهور حجتهم وبرهانهم.

وقوله: {فِي الظُّلُمَٰتِ} لعلّه لم يذكر (العُمي) لأن وجودهم في الظلمات يغني عنه، فالذي في الظلمات لا يرى حتى لو كان ذا بصر، ولم يعطف الظلمات على الصم والبكم؛ لأنها سببهما، فكأنه قال هؤلاء في الظلمات لذلك صاروا صماً بكماً.

وقوله: {مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} أي هؤلاء إنما ضلوا لأن اللّه شاء ضلالهم وأولئك إنما اهتدوا لأنه شاء هدايتهم، ولكن مشيئته تعالى ليست اعتباطاً بل بحكمة، فمن عاند ختم اللّه على قلبه فخذله فيضل، ومن استجاب للّه وللرسول هداه اللّه وزاده هدى. وقد مرّ كراراً حديث إضلاله وهدايته فليس هناك جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين.

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ...} الآية.

هذا استدلال فطري على قدرة اللّه تعالى كما أن ما سبق كان استدلالاً

ص: 93

عقلياً فطرياً، وحاصل هذا البرهان هو أنهم بفطرتهم وحين البلايا الشديدة يعلمون بأنه لا أحد يقدر على نجاتهم سوى اللّه تعالى، وعليه فهم يدركونبفطرتهم قدرته تعالى على الإتيان بالآية.

وقوله: {أَرَءَيْتَكُمْ} استفهام تقريري، والمعنى أخبروني حين أسألكم.

وقوله: {عَذَابُ اللَّهِ...} المراد به العذاب الدنيوي بقرينة المقابلة بالساعة، أي حين انقطاع كل الأسباب بحيث تعلمون بأنه لا منجي لكم ولا سبب يساعدكم، فحينئذٍ تظهر الفطرة من ركام الجهل والعادات والتقليد، فإن الفطرة وإن أمكن التغطية عليها إلاّ أنه لا يمكن إزالتها قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(1)، ولعل القصد في الآية هو تذكيرهم بهذه الفطرة، وحينئذٍ لا معنى للإشكال بأن هؤلاء لا يعترفون بالساعة فكيف يقال لهم: إنكم في الساعة لا تدعون غير اللّه تعالى؟! وذلك لأن الكلام في واقعه جملة شرطية ولا يعتبر في صدق الجملة الشرطية تحقق طرفيها أو العلم بالتحقق، فهنا يقال لهم إن قامت الساعة وصرتم في أهوالها فمن الذي ينجيكم؟! هل هناك غير اللّه تعالى؟!

وقوله: {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} هذا راجع إلى قوله: {أَرَءَيْتَكُمْ} أي أجيبوني الجواب الحق؛ إذ يمكن أن يكابروا فيكذبوا فيقولوا بل ندعو الأصنام مثلاً، وفي هذا نوع تبكيت لهم بحيث يتلعثم مَن أراد أن يكذب.

السادس: قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ...} الآية.

ص: 94


1- سورة الروم، الآية: 30.

بيان للجواب؛ إذ قد يكذبون أو يسكتون حينما لا يريدون الاعتراف بالحق فيقال لهم: إنكم في الحالتين - العذاب الدنيوي والساعة - تدعون اللّهوحده لا شريك له وتنسون شرككم.

وقوله: {إِيَّاهُ تَدْعُونَ} تقديم إياه للدلالة على الحصر مثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(1).

وقوله: {إِن شَاءَ} أي لا يوجد وعد بالكشف بل هو مرتبط بمشيئة اللّه سبحانه وتعالى، فأما في العذاب الدنيوي فقد تكون المصلحة في نجاتهم فيستجيب اللّه دعاءهم كقوم يونس حيث كشف اللّه عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، وقد لا تكون المصلحة في الاستجابة لفوات وقتها فينزل عليهم العذاب فيستأصلهم.

وأما في العذاب الأخروي فلا كشف لعذابهم أصلاً كما قال: {قَالُواْ أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَٰتِ قَالُواْ بَلَىٰ قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَٰؤُاْ الْكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ}(2)،

وإنما علّق كشف العذاب حينئذٍ على المشيئة لبيان أن قضاء الحتم ليس بمعنى عدم قدرته سبحانه، بل لو شاء لغيّر القضاء الحتم، لكنه لا يفعل ذلك لعدم الحكمة فيه، ولذا صحّ تعليق كل الأمور المحتومة المعلومة الوقوع على مشيئة اللّه تعالى كقوله: {خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}(3)، مع أن خلود أهل الجنة فيها وخلود

ص: 95


1- سورة الحمد، الآية: 5.
2- سورة غافر، الآية: 50.
3- سورة هود، الآية: 107-108.

أهل النار فيها من المحتوم الذي لا خلف فيه، وكقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}(1)، مع أن اللّه قضى قضاءً حتماً بعصمته وعدم نسيانهللآيات، والحاصل أن التقدير والقضاء لا يُحدِّدان قدرة اللّه تعالى حتى في القضاء المحتوم.

وقوله: {وَتَنسَوْنَ} بمعنى الترك، أي في تلك الحالة تتركون الشركاء، بل وأكثر من ذلك تتبّرؤون منهم وتلعنونهم فإنه في القيامة يشاهدون الشركاء ويُقرِّون بعدم نفعهم لهم.

ص: 96


1- سورة الأعلى، الآية: 6-7.

الآيات 42-45

اشارة

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٖ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ 42 فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 43 فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ 44 فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ 45}

ثم يحذّر اللّه تعالى هؤلاء المشركين، فقال:

42- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} رسلاً {إِلَىٰ أُمَمٖ مِّن قَبْلِكَ} فكذبوهم {فَأَخَذْنَٰهُم بِالْبَأْسَاءِ} ما يوجب البؤس كالفقر {وَالضَّرَّاءِ} ما يوجب الضرر كنقصان الأنفس والأموال {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} يتخشعون إلى اللّه تعالى بالإقبال عليه وتصديق الرسل؛ وذلك لأن المبتلى أقرب إلى القبول والطاعة.

43- لكنهم لم يتضرعوا واستمروا في العناد، {فَلَوْلَا} للتوبيخ {إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا} عذابنا بالبأساء والضراء {تَضَرَّعُواْ} إلى اللّه، وفي ذلك دلالة على عدم وجود عذر لهم على ترك التضرع مع وجود المقتضي له! ثم بين اللّه سبب عدم تضرعهم بعامل داخلي وخارجي {وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} عن قبول الحق {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فرأوا أعمالهم حسنة فلم يتوبوا عنها.

ص: 97

44- {فَلَمَّا نَسُواْ} تركوا {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} تذكير الرسل لهم، عند ذاك{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ} من النعم، كناية عن التوسعة عليهم في كل نعمة وذلك ليشكروا اللّه عليها فيؤمنوا {حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} فلم يتوبوا ولم يشكروا {أَخَذْنَٰهُم} بإنزال العذاب عليهم {بَغْتَةً} فجأة من غير مقدمات {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} يائسون من رحمة اللّه؛ إذ قد انتهت مهلتهم فلا توبة لهم.

45- {فَقُطِعَ} عبر الأخذ بالعذاب {دَابِرُ} أثر {الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} وهذا بيان سبب إهلاكهم وهو ظلمهم، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ} فهو لم يظلمهم ولذا كان محموداً في صنعه بهم.

مصير الأمم المكذبة

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى الدلائل والحجج، يبيّن سبحانه مصير الأمم التي كذبت الرسل، وفي ذلك تهديد لهؤلاء بأن مصيرهم سيكون كمصير أولئك إن استمروا في التكذيب، فالآيات 34-41 تسلية للرسول، وهذه الآيات تهديد للمشركين، مع بيان أن اللّه تعالى للطفه بالعباد يمهلهم فلا يأخذهم بالعذاب بسرعة وإنما يضيّق على المكذبين ليتعظوا فيستغفروا، فإن لم ينفعهم ذلك يوّسع عليهم ليشكروا، وبذلك يهدي اللّه من كان قابلاً للّهداية، ويتمّ الحجة على من رفض الهداية بسوء اختياره، وبعد ذلك تنتهي المهلة فيأتيهم العذاب بغتة حيث لا ينفع الندم والتوبة، وليس ذلك بظلم منه سبحانه فهو المحمود في أفعاله، بل بظلمهم أنفسهم حيث بخسوها حقها من الإيمان.

ص: 98

الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٖ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم...} الآية.بيان أن حال هؤلاء كحال أولئك الأمم، فإن الطبيعة البشرية واحدة وسنة اللّه أيضاً واحدة، فكما كان هناك معاندون في الأمم السابقة كذلك هناك معاندون في قوم رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكما كانت سنة اللّه في عدم قطع اللطف عنهم فوراً، بل وعظهم بالصعوبات تارة وبالنعم تارة أخرى لعلّهم يهتدون، كذلك كانت سنته تعالى في قوم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال تعالى: {وَبَلَوْنَٰهُم بِالْحَسَنَٰتِ وَالسَّئَِّاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(1).

وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} لم يذكر الرسل واكتفى بالتقدير لعلّه لأن محور الكلام في هذه الآيات الأمم وما يجري عليهم، وليس الرسل وصبرهم، فقد ذكر حال الرسل في الآيات 35 فما بعد.

وقوله: {مِّن قَبْلِكَ} متعلق ب{أَرْسَلْنَا} أي أرسلنا من قبلك إلى الأمم.

وقوله: {فَأَخَذْنَٰهُم} أي فلم يؤمنوا فأخذناهم، و(الأخذ) بمعنى العقاب، فبلاياهم لم تكن إلّا عقوبة لهم، لا كالمصائب التي يبتلى بها المؤمنون حيث إنها للتمحيص أو التمييز أو رفع الدرجات ونحوه.

وقوله: {بِالْبَأْسَاءِ} من البؤس الذي هو سوء الحالة النفسية بسبب الشدة في العيش كالفقر، وليست من البأس الذي هو الشدة في الحرب وغيره.

وقوله: {وَالضَّرَّاءِ} ما يوجب الضرر وهو النقص في النفس أو المال ونحوهما، فالبأساء عدم النفع والضراء وقوع الضرر، كما أن البأساء في النفس والضراء في البدن والمال ونحوهما.

ص: 99


1- سورة الأعراف، الآية: 168.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} بيان أن هذه العقوبة ليست لمجرد العقوبة،بل هي للتنبيه وذلك ليؤمنوا باللّه ويتخشعوا له بالطاعة وترك المعصية، كالأب الشفيق الذي يعاقب ولده على خطئه تأديباً له، وفي قوله: {لَعَلَّهُمْ} بيان أن المقتضي للتضرع موجود، فإن الأخذ بالبأساء والضراء سبب للتنبيه لولا الموانع، وهذا من لطف اللّه بهم حيث هيّأ أسباب الإيمان حتى في حالة أخذهم بالذنوب.

الثالث: قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن...} الآية.

تقريع وتوبيخ لهم بأن مقتضي التضرع كان موجوداً لكنهم أوجدوا المانع فلم يؤثر المقتضي أثره، والمانع أمران:

أحدهما: قساوة قلوبهم بحيث لم تنفذ المواعظ والعِبر إليها، حيث لم يتفكروا ولم يتدبروا وركنوا إلى باطلهم، فقساوتها بسوء اختيارهم، وهذا عامل داخلي.

والآخر: تزيين الشيطان أعمالهم لهم، لذلك رأوها حسنة، وهذا عامل خارجي.

وقوله: {فَلَوْلَا} لولا إذا دخلت على الماضي أفادت التقريع والذم، وإذا دخلت على المستقبل أفادت الحث والتحريض، وجيء ب(لولا) هنا للدلالة على عدم العذر لهم في ترك التضرع إلاّ العناد حيث قلوبهم قاسية والشيطان مزيّن لهم أعمالهم.

وقوله: {بَأْسُنَا} أي كان ما جرى من تشديد اللّه عليهم، والبأس هو الشدة في الحرب وغيره.

ص: 100

والحاصل إنهم كانوا معاندين لم تنفعهم الآيات ولا التشديد عليهم،كقوم فرعون، قال تعالى: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٖ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَٰمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}(1).

الرابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ...} الآية.

أي لمّا لم ينفعهم الأخذ بالبلايا، فعند ذاك لطف اللّه تعالى بهم بطريقة أخرى وهي الرخاء، وذلك أيضاً مما يوجب التنبّه والشكر، لولا الاستكبار الذي يمنع عن تأثيره.

وقوله: {نَسُواْ} أي تركوا لأن التارك كالناسي ولذا كثر التعبير عن الترك بالنسيان.

وقوله: {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي ما ذكرّهم الرسل به، وهو إما تذكيرهم بما في فطرتهم من التوحيد ووجوب طاعة اللّه تعالى، وإما تذكيرهم بأن البأساء والضراء هي بسبب أعمالهم، والأول أنسب للسياق.

وقوله: {فَتَحْنَا} كأنّ النعم في خزائن مغلقة، وإنزالها عليهم فتح لتلك الخزائن، وذلك لأجل أن يشكروا، قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا

ص: 101


1- سورة الأعراف، الآية: 132-135.

خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعْلُومٖ}(1).

وقوله: {أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ} أي كل نعمة، وهذا كناية عن التوسعة وإغداق النعم عليهم بحيث غمرهم بها.

وقوله: {فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} المقصود أنهم لم يشكروا النعمة، بل ركنوا إليها واشتغلوا بها، قال تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(2)، وقال: {ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ}(3).

وقوله: {أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً} إنما كان بغتة مع أنه تعالى أمهلهم مدة طويلة لأجل أنهم لم يكونوا يتوقعونها ولم يتهيأوا لها، ولذا تأتي القيامة بغتة مع بُعد أجلها.

وقوله: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} بيان أن هذا الأخذ لا كاشف له وليس كأخذهم بالبأساء والضراء حيث كشفها عنهم؛ وذلك لأن مهلتهم قد انتهت فلا حكمة لإمهالهم بعد ذلك بعد فقدانهم لقابلية الهداية ورفضهم لكل لطف من اللّه بإيجاد الموانع عنه، و(الإبلاس) شدة اليأس.

الخامس: قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}.

بيان أن عذابهم إنما كان لظلمهم، وليس اللّه قد ظلمهم بل ما صنعه بهم مطابق للحكمة ولذا استوجب حمداً للّه تعالى، كما يكال الثناء للحاكم

ص: 102


1- سورة الحجر، الآية: 21.
2- سورة الرعد، الآية: 26.
3- سورة غافر، الآية: 75.

العادل حينما يعاقب المجرم على جريمته.

وقوله: {فَقُطِعَ} أي استؤصل بحيث إن العذاب لما نزل بهم أبيدواجميعاً ولم يبق لهم نسل على وجه الأرض.

وقوله: {دَابِرُ} أصله من الدبر بمعنى العقب والخلف، فالمعنى أهلكوا عن آخرهم ولم يبق لهم أثر من ذرية.

وقوله: {الَّذِينَ ظَلَمُواْ} وضع الظاهر مكان المضمر لأجل بيان أن سبب إهلاكهم هو ظلمهم.

وقوله: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ} حمد اللّه نفسه على فعله، وفيه إشعار بأنه لا بد من حمد اللّه تعالى على استئصالهم فتلك نعمة توجب حمداً.

وقوله: {رَبِّ الْعَٰلَمِينَ} في تدبيره لأمرهم حيث هيّأ لهم كل طريق للّهداية ثم لما عاندوا أبادهم وذلك من حسن تدبيره تعالى حيث لم تكن مصلحة في بقائهم.

ثم إن هذه الآيات وإن نزلت في شأن الأمم السابقة، إلاّ أن المقصود منها وعظ الناس عامة بأن ذلك من سنة اللّه تعالى في الذين خلوا، فلذا تجري في اللاحقين أيضاً فلو صنعوا مثل صنيع أولئك عاقبهم اللّه بمثل ما عاقبهم وأبادهم مثل ما أبادهم، وقد ورد في عدة روايات تطبيق الآية - مصداقاً أو تأويلاً - في طغاة هذه الأمة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «أما قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} يعني فلمّا تركوا ولاية علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أمروا بها، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَيْءٍ} يعني دولتهم في الدنيا وما بسط لهم فيها، وأما قوله: {حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم

ص: 103

مُّبْلِسُونَ} يعني بذلك قيام القائم (عليه السلام) حتى كأنّهم لم يكن لهم سلطان قط،فذلك قوله: {بَغْتَةً} فنزلت بخبره هذه الآية على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) »(1).

ص: 104


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 554؛ عن تفسير القمي 1: 200؛ وقريب منه ما في بصائر الدرجات: 78؛ ودلائل الإمامة 1: 468؛ وتفسير العياشي 1: 359.

الآيات 46-49

اشارة

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَٰرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ 46 قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّٰلِمُونَ 47 وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 48 وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ 49}

ثم يستدل اللّه تعالى على بطلان الشركاء بعدم قدرتهم مع قدرته تعالى، فقال:

46- {قُلْ} يا رسول اللّه {أَرَءَيْتُمْ} أخبروني {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ} أزاله عنكم فكأنّه أخذه {سَمْعَكُمْ وَأَبْصَٰرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم} بحيث لا تفقهون شيئاً {مَّنْ} استفهام إنكارى، أي لا يوجد {إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} أي بما أخذه اللّه من السمع والبصر والفهم، فهؤلاء يعترفون بعجز أصنامهم وسائر الشركاء عن ذلك، فما الذي جعلها آلهة؟ {انظُرْ} للتعجيب، أي تعجّب منهم {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ} نبيّنها بطرق مختلفة لإفهامهم {ثُمَّ هُمْ} هؤلاء الكفار {يَصْدِفُونَ} يُعرضون عنها.

47- وحيث ثبت عجز شركائكم فاعلموا أنه لا منجى من عذاب اللّه

ص: 105

ف{قُلْ} لهم {أَرَءَيْتَكُمْ} أخبروني {إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} بعد عنادكم وتكذيبكم {بَغْتَةً} فجأة وهو ما يكون من دون أمارة سابقة فيكون مخفيّاًكعذاب قوم لوط {أَوْ جَهْرَةً} علانية بأن تسبقه أمارة واضحة كعذاب ثمود {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّٰلِمُونَ} فإن اللّه ينجّي المؤمنين منه بإخراجهم من منطقة العذاب، والاستفهام تقريري يراد به تنبيههم وإيقاظهم.

48- وحيث إن اللّه هو الإله لا شريك له وهو القادر على كل شيء ولا أحد يمكنه معارضته فرسله أيضاً لا يتمكنون من إنزال العذاب أو كشفه، بل مهمتهم التبليغ {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ} بالخبر السار بالثواب {وَمُنذِرِينَ} بالتحذير من العقاب {فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ} عملَه {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب اللّه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على فوات ثوابه، بل وعدهم اللّه به فينالونه.

49- {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَمَسُّهُمُ} يصل إليهم {الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} يخرجون عن الطاعة، فالعذاب سببه فسقهم وليس اللّه بظلام للعبيد.

الاستدلال على عدم الشركاء بعجزهم

بحوث

الأول: كأنّ هذه الآيات في سياق نفي الشركاء عبر الاستدلال بعجزهم، فيقال للمشركين كيف تتخذونهم آلهة وهم عاجزون عن دفع الضرر عنكم، ولا قدرة لهم أمام قدرة اللّه تعالى، فإن قالوا بأن اللّه أعطاهم القدرة فذلك يلازم عبوديتهم وربوبيتهم؛ لأن اللّه أعطى القدرة لكل موجود حيّ مختار لكن ضمن حدود معينة حسب حكمته ولم يستلزم ذلك ألوهية كل قادر على شيء، فحتى الأنبياء في معاجزهم إنما تمكنوا منها؛ لأن اللّه

ص: 106

منحهم القدرة عليها أو أجراها على أيديهم فلذا كانوا عبيداً للّه سبحانه، كما أنه ليس من وظيفة الأنبياء اهتداء الناس ولا تعذيبهم، وإنما وظيفتهم هيالتبليغ الذي يكون بالتبشير والإنذار، وأما ما يترتب على ذلك فهو فعل الناس بالإيمان أو الكفر، قال تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(1)، ثم الجزاء هو صنع اللّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ...} الآية.

سؤال لتبكيتهم وأخذ الإقرار منهم بعجز الشركاء.

وقوله: {أَخَذَ اللَّهُ} الأخذ كناية عن الإزالة؛ لأنها نِعَم اللّه تعالى أعطاها إياهم وهو قادر على سلبها منهم فكأنه استرجعها منهم.

وقوله: {سَمْعَكُمْ وَأَبْصَٰرَكُمْ} السمع والبصر يطلقان على العين والأذن وعلى القوة السامعة والباصرة، وكأنّ المراد هنا بالسمع القوة لذا ذكرها مفردةً، وبالأبصار العين لذا جمعها؛ وذلك لأن المراد عدم إدراكهم للمسموعات والمبصرات وهو في السمع لا يرتبط بالأذن ظاهراً فيمكن صلم الأذن وبقاء السامعة ويمكن وجود الأذن وعدم وجود القوة السامعة، بعكس العين؛ إذ لو فُقئت لزالت القوة الباصرة حتماً، واللّه العالم.

وقوله: {وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم} بإزالة الإدراك والفهم أو العقل.

وقوله: {يَأْتِيكُم بِهِ} الضمير يرجع إلى المأخوذ، أي من يُرجع لكم هذا المأخوذ من السمع والأبصار والقلوب؟

وقوله: {انظُرْ} توجيه الكلام عنهم إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذلك للتعجيب

ص: 107


1- سورة الكهف، الآية: 29.

من فعلهم بعدم تعقل هذه الآية، أو كأنّه قيل: قد أخذها اللّه منكم فلا تعقلون ما أقول لكم ولا تسمعونه ولا ترون آياته فلذا غيّر الخطاب منهمإلى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ} التصريف هو تقليب الشيء وتبديله، والمراد هنا هو بيان الدلائل بمختلف الوجوه الممكنة ليعقلوها لكنهم لا يعقلون بسوء اختيارهم.

وقوله: {يَصْدِفُونَ} أي يعرضون عن الآيات، وأصل الصدف هو الميل عن الشيء كما قيل.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَىٰكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً...} الآية.

كأنّه تكميل للاستدلال في الآية السابقة، فحيث ثبت عجز شركائكم عن دفع الضرر عنكم فكيف يتمكنون من دفع عذاب اللّه إذا جاءكم؟!

وقوله: {بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} أي فجأة من دون علائم، أو جهرة علناً مع علائم سابقة، وكأنه إشارة إلى أنواع عذاب الأمم السابقة المكذِّبة، فبعضهم جاءهم عذاب الخزي من دون علامة سابقة كقوم لوط حيث استأصلهم وهم نيام، وبعضهم جاءهم العذاب علانية بحيث رأوه كثمود حيث نظروا إلى العذاب، وكقوم نوح حيث شاهدوا الفيضان وكان يمكن لابن نوح الإيمان حينئذٍ وكان ينفعه كما نفع قوم يونس لكنه تمادى في غيّه فأخذه العذاب مع سائر المغرَقين.

وقوله: {هَلْ يُهْلَكُ...} بيان أن هكذا عذاب لا يصيب المؤمنين، بل

ص: 108

ينجيهم اللّه تعالى ثم يصبّ العذاب على الظالمين صبّاً، قال سبحانه: {وَلَمَّاجَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ}(1)، وقال: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(2)، وقال: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِ بَِٔيسِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(3).

وأما الفتنة التي تعم الجميع في قوله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}(4) فهي المصائب والبلايا الطبيعية التي تعمّ الجميع من غير تمييز كما لو خرق بعضهم السفينة غرقت بكل من فيها حتى لو لم يكن لهم ذنب، فالغرق ليس عذاباً، بل نتيجة طبيعية لسبب طبيعي.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ...} الآية.

كأنّه بيان أن رسل اللّه تعالى لا يقدرون على شيء من غير إذنه ولا يملكون صَرف العذاب ولا يتمكنون على اهتداء الناس، بل مهمتهم هي التبليغ، وأما الثواب والعقاب فهو صنع اللّه سبحانه وتعالى، فهنا مراحل ثلاث:

1- إرسال الرسل، ووظيفتهم التبليغ بالتبشير والإنذار دون أن تكون من وظيفتهم اهتداء الناس.

2- عمل الناس، وهو وجوب الاستجابة للرسل من غير إكراه، فكل أحد

ص: 109


1- سورة هود، الآية: 58.
2- سورة يونس، الآية: 102-103.
3- سورة الأعراف، الآية: 165.
4- سورة الأنفال، الآية: 25.

مخيّر بين القبول أو الرفض.

3- صنع اللّه تعالى، وهو إثابة من آمن وأصلح وعقاب من كذّب.

و(البشارة) هي الخبر بما فيه المسرّة وقد تستعمل للعذاب تهكّماً، و(الإنذار) هو التحذير عمّا فيه المضرّة، و(الإيمان) في القلب، و(الإصلاح) في النية والعمل، و(الخوف) من مكروه مستقبلي هو العذاب، و(الحزن) من فوات شيء وغالب استعماله على فوت شيء في الماضي، والمراد هنا الحزن على عدم الثواب، وقد مرّ الكلام في هذه المفردات سابقاً، فراجع.

وفي تقريب القرآن: «وأما في الدنيا فلأن الخوف والحزن الحقيقيين ما كانا مع الانقطاع عن العِوض والثواب وما أشبهها، وليس المؤمن كذلك، فإنه يعلم أن ما يصيبه يعقبه الثواب والأجر، ولذا قال الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء: هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين اللّه»(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}.

مسّ العذاب إصابته، قيل: كأنه فرض أن العذاب حيّ لذلك عبرّ عنه بأنه يمسّهم، وفي الكشاف: «جعل العذاب ماسّاً، كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام»(2)، بل قد يقال: إن للنار حياة وإدراكاً وشعوراً فخطابها خطاب حقيقي، وتنفيذها لأمر اللّه إطاعة له وليس مجرد مجاز لأمر تكويني، واللّه العالم.

ص: 110


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 73.
2- الكشاف 2: 25.

الآيات 50-55

اشارة

{قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ 50 وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 51 وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوٰةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّٰلِمِينَ 52 وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٖ لِّيَقُولُواْ أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّٰكِرِينَ 53 وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَِٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءَا بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 54 وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ 55}

ثم ينقض اللّه حججهم المانعة عن إيمانهم ويؤكّد على أن رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كسائر الأنبياء في كون مهمته التبليغ فليس إلهاً ولا ملكاً، فقال:

50- {قُل} لهؤلاء المشركين الذين يريدون منك الآيات: بأني لست إلهاً ف{لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ} أي مقدوراته {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} بنفسي إلاّ بالمقدار الذي يُقدرني ربّي ويعلّمني، {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ

ص: 111

إِنِّي مَلَكٌ} حتى تنكرون مني الأعمال البشرية كأكل الطعام ونحوه، والحاصل إني لم أدّعِ الألوهية حتى تطلبون مني الآيات التي هي بقدرة اللّه تعالى، كما أني لم أدّعِ بأني مَلَك حتى تنقضون كلامي بأن أعمالي بشرية، {إِنْ} نافية، أي لا{أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ} فهذا هو الذي ادّعيته من النبوة وقد أقمت عليه الأدلة فعليكم اتّباعي، ف{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ} الذي لا يعلم {وَالْبَصِيرُ} الذي يعلم؟ كلا لا يستوون، بل لا بد من أن يتبّع الجاهل العالم، فعليكم باتّباع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأن اللّه أوحى إليه فهو يعلم وأنتم لا تعلمون {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} لتهتدوا إلى الدين ولتعلموا أن ما طلبتموه لا يرتبط بمقام النبوة.

51- وحيث علمت بأن هؤلاء معاندون فلا تيأس من التبليغ؛ إذ هناك ناس غير معاندين {وَأَنذِرْ بِهِ} بما أوحي إليك من القرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ} أي يخافون من البعث يوم القيامة فهم يعلمون به أو يحتملونه، وهذا الخوف يصير سبباً لقبولهم الهداية، فيخافون والحال أنه {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ} دون اللّه {وَلِيٌّ} يلي أمرهم، {وَلَا شَفِيعٌ} يشفع لهم، وإنما تنذرهم {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.

52- ومن موانع إيمانهم استكبارهم على ضَعَفَة المؤمنين {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} يعبدونه وينادونه {بِالْغَدَوٰةِ} طرف الصباح {وَالْعَشِيِّ} طرف العصر كناية عن دوام ذلك {يُرِيدُونَ} بذلك الدعاء {وَجْهَهُ} وجه اللّه تعالى، أي مخلصين له في العبادة {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ} فليس حسابهم عليك حتى تجازيهم بالطرد {وَمَا مِنْ

ص: 112

حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ} حتي تخشى منهم فتدفع ضررهم بالطرد {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ} بطردهم {مِنَ الظَّٰلِمِينَ} لهم ولنفسك.

53- ثم يبين اللّه تعالى أن اختلاف الناس بالغنى والقوة والفقر والضعف إنما هو امتحان إلهي لا بد أن يقبلوه لا أن يستكبروا {وَكَذَٰلِكَ} كاختلافهؤلاء المؤمنين الضعفة والكفار المستكبرين {فَتَنَّا} امتحنّا {بَعْضَهُم بِبَعْضٖ} وعاقبة هذا الامتحان هو سقوط البعض ونجاح آخرين {لِّيَقُولُواْ} اللام للعاقبة، أي عاقبة المستكبرين أنهم يقولون {أَهَٰؤُلَاءِ} الضعفاء والاستفهام إنكاري للاستهزاء {مَنَّ} أنعم {اللَّهُ عَلَيْهِم} بالهداية {مِّن بَيْنِنَا}؟! قل في جوابهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ} استفهام تقريري {بِأَعْلَمَ بِالشَّٰكِرِينَ} فهؤلاء لأنهم شكروا نعمة اللّه ببعث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيهم وفّقهم اللّه تعالى للّهداية وأما المستكبرون فلم يشكروا فأضلّهم اللّه سبحانه.

54- وبعد أن ذكر اللّه خوف الذين يخافون أن يحشروا أراد بشارتهم ليجتمع الخوف والرجاء فيهم قال: {وَإِذَا جَاءَكَ} يا رسول اللّه {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَِٔايَٰتِنَا} القرآن وسائر الآيات {فَقُلْ} إكراماً لهم وتبجيلاً {سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ} أنتم في سلامة {كَتَبَ رَبُّكُمْ} أوجب بحسب حكمته {عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فالرحمة هي الأصل عنده فيرحم كلّما كان للرحمة مجال في الحكمة، ومن مصاديق رحمته {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءَا} ذنباً يسوء به {بِجَهَٰلَةٖ} أي سفاهة ناشئة عن الجهل {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} بعد عمل السوء {وَأَصْلَحَ} نفسه وما أفسده من عمله {فَأَنَّهُ} فربكم {غَفُورٌ} يستر السوء {رَّحِيمٌ} يتعامل معكم بالفضل.

ص: 113

55- {وَكَذَٰلِكَ} كما بينا الدلائل على التوحيد والنبوة وغيرهما {نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ} نوضّحها ونرفع الإبهام والإجمال، وإنّما نفصل لأجل الهداية {وَلِتَسْتَبِينَ} ليتّضح {سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} عن سبيل المؤمنين فيظهر من عاند ومن شكر.

دحض حجج المشركين لإنكار النبوة

بحوث

الأول: كأن هذه الآيات لدحض ثلاث حجج من حجج المشركين في إنكارهم نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

منها: أنّه كيف يكون رسولاً مع عدم تمكنه من الإتيان بالآيات المقترحة وعدم علمه بالغيب؟!

ومنها: أنّه لماذا له حالات بشرية كأكل الطعام والمشي في الأسواق؟!

ومنها: أن اتباعه الفقراء والمستضعفون ولو كان نبياً ودينه الحق ما سبقونا إليه!

والجواب عن الأول والثاني: هو أن رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكذلك سائر الأنبياء لم يكن ادّعاؤهم أنهم آلهة حتى يستنكر عليهم عدم امتلاكهم صفات الإله - من القدرة على كل شيء والعلم بكل شيء بالذات - ، بل ادعاؤهم أن اللّه قد أرسلهم وعلّمهم العقائد والأحكام وغير ذلك ومن الواضح أنه لا بد من اتّباع الجاهل للعالم.

وعن الثالث: أن المقياس عند اللّه تعالى ليست القوة والمال والشرف الظاهري، بل المقياس هو شكره تعالى - عبر الإيمان والعمل الصالح - وليس الرسول مكلّفاً بمحاسبتهم حتى يجازيهم بالطرد مثلاً، فيكون طردهم من

ص: 114

الظلم، وقد تنزه رسل اللّه عن ذلك.

الثاني: قوله تعالى: {قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ...} الآية.

أي لست إلهاً لأقدر على كل شيء ولأعلم كل شيء، كما أني لست من الملائكة حتى لا تعرضني الحالات البشرية؛ إذ ليس الرسول إلاّ بشراً وإنكان له شيء فإنما هو من اللّه تعالى، فإن قدر على معجزة فإنما لأن اللّه أعطاها إياه، وإن أخبر عن شيء من الغيب فلأنّ اللّه أخبره به قال: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}(1).

وقوله: {لَّا أَقُولُ لَكُمْ} أي ليس من ادّعائي ذلك حتى تطالبوني بالدليل عليه.

وقوله: {خَزَائِنُ اللَّهِ} كناية عن مقدورات اللّه تعالى من خلق ورزق وغير ذلك، وفي الحديث: «إنما خزائني إذا أردت شيئاً أن أقول له كن فيكون»(2)، فلذا لا تنفذ خزائنه ولا ينقص منها شيء وذلك لأن قدرته لا حدود لها.

وقوله: {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} أي ما غاب عن الحواس ولم يكن في حيطة المدارك الجسمانية ولا العقلية، فلا طريق للإنسان إليها لأنه محدود، فلا يعلم الغيب إلاّ المحيط بكل شيء وهو اللّه سبحانه وتعالى، وأما غيره فلا إحاطة له بها بذاته. نعم، يمكن أن يعلمها لكن بتعليم من اللّه تعالى، قال تعالى: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن

ص: 115


1- سورة يوسف، الآية: 102؛ سورة آل عمران، الآية: 44.
2- التوحيد للصدوق: 133.

رَّسُولٖ}(1)، وفي تقريب القرآن: «الكفار كانوا يستعظمون كيف يمكن أن يكون الإنسان رسولاً بدون أن يكون له مال عريض أو علم غيب ذاتي يعينه في أموره وحوائجه! ويردّ اللّه عليهم ذلك بأن الرسالة لا ترتبط بهذه الأمور وإنما هي هداية ونور»(2).

ثم إن اللّه تعالى جمع بين امتلاك الخزائن وعلم الغيب لأنهما من صفات الإله، فالمعنى لا أقول لكم إني إله أملك الخزائن وأعلم الغيب، كما لا أقول لكم إني ملك ليست لي عوارض البشر.

وقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ} بيان أنه بشر لكن اللّه فضّله بأن أوحى إليه، أي علّمه العقائد والأحكام وغير ذلك مع إيجاد القابلية له في تحمل ذلك عبر الاصطفاء.

وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي...} دليل على إمكان النبوة وصحتها للبشر عقلاً فلمّا علّمه اللّه ولم يعلّم غيره كان لا بد لهم من اتّباعه، ككل جاهل حيث عليه أن يتبع العالم، فلا يصح أن يقال: إن الجاهل والعالم متساوون فلا يلزم اتّباع الجاهل للعالم! كلّا بل العالم أعلى وأفضل لأجل علمه، كالأعمى الذي لا بد له من اتّباع البصير وإلاّ لم يهتد إلى سواء الطريق.

وقوله: {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} إرشاد لهم بأن النبوة يدل عليها العقل قبل الشرع لكن لا بد من إعمال الفكر لئلا يغفل الإنسان عن هذه الحقيقة.

الثالث: قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَىٰ...} الآية.

ص: 116


1- سورة الجن، الآية: 26-27.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 74.

كأنه جواب عن سؤال وهو أن هؤلاء معاندون ولا تنفعهم الآيات فلماذا ينذرهم الرسول؟ فالجواب إن الإنذار ينفع غير المعاندين فلا يصح حرمانهم عن الهداية بسبب عناد البعض، أو لمّا أمره اللّه تعالى باتّباع ما يوحى إليه أمره بأن يبلغه للجميع لكن حيث إن المنتفع غير المعاندين لذلك خصّهم اللّه تعالى بالذكر.

وقوله: {الَّذِينَ يَخَافُونَ...} غير خفي أن الخوف قد يكون مع العلم أومع الاحتمال، فالإنسان مثلاً يعلم بأنه يموت ومع ذلك يخاف من الموت، كما يحتمل أنه قد يبتلى بالأمراض المستعصية ويخاف منها، وفي هذه الآية بيان أن الخوف من الحشر والجزاء قد يكون سبباً لقبول دعوة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاتقاء من المحرمات والمعاصي.

وقوله: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ} حال، أي يحشرون حال كونهم لا ولي ولا شفيع لهم من دون إذن اللّه تعالى، فحتى الشفعاء والأولياء في القيامة إنما يتولون أمر العباد ويشفعون لهم إذا أذن اللّه تعالى لهم، فإذا خاف الإنسان من الحشر وعلم أن الأمر كله بيد اللّه فقد ينفعه الإنذار فيتقي، قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}(1)، وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ}(2).

وقوله: {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بيان فائدة الإنذار.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوٰةِ وَالْعَشِيِّ

ص: 117


1- سورة البقرة، الآية: 255.
2- سورة الأنبياء، الآية: 28.

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.

ردّ طلب المشركين بطرد الضعفاء

كان من طلبات بعض الأشراف والرؤساء لكي يؤمنوا أن يطرد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الضعفاء الفقراء، فكانوا يستنكفون أن يساويهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهم، بل كانوا يزعمون أنهم كما لهم الرئاسة والشرف بالمال والاعتبار كذلك لا بد أن يكون لهم التفضيل في الدين! مع أن الجميع متساوون في الإنذار والتبليغ، فالدين للجميع ولا تمييز فيه بين غني وفقير ولا رئيس ومرؤوس.

وقال العم الشهيد (رحمه اللّه) : ولا تطرد أفراد الطبقة الثالثة من ذوى الدخل المحدود من وجهك وقلبك وبالتالي من الإسلام، تزلفاً إلى أفراد الطبقة الأولى والثانية - من أصحاب السلطة والمال والجاه - فالطبقة الثالثة مادة كل حركة نامية أو مستمرة، بينما الطبقتان الأولى والثانية عالة على كل حركة نامية أو مستمرة.

لأن الطبقة الثالثة لا تجد في تركيبها السلبيات الثلاث، فهي:

1- لا تجد العمل الذي يملأ فراغها الفكري ويستنزف قدراتها الجسدية، فتبحث عمّا يملأ فراغها الذهني ويعبّر عن قدراتها الجسدية المعطلة.

2- لا تجد الترف الذي يرهّلها ويخملها، فتبقى قادرة على ممارسة طاقاتها الوفيرة.

3- لا تجد العلاقات المكثفة التي تؤثر عليها أيّة كلمة وأيّة حركة حتى تبخل بها وتحتاط لها بالابتعاد عن المجالات التضحوية.

وتجد في تركيبها الإيجابيات الثلاث، فهي:

ص: 118

1- تجد الطموح العفوي إلى الظهور والإعلان عن كيانها المستقل تجاه الذين طالما استعلوا عليها وأنكروا مواهبها وقدراتها.

2- تجد الاضطهاد من الطبقتين الأولى والثانية، الذي يدفعها إلى التوسل بكل الوسائل الممكنة لإلقاء الكابوس عن صدرها.

3- تجد التعاطف بين أفرادها - نتيجة الاشتراك في المأساة والمصير - فيكونون قريبين من بعضهم، فيعد بعضهم بعضاً، وتستجر فئة منهم الفئات الأخرى.

في ما الطبقتان الأولى والثانية بعكسها تماماً فتجدان السلبيات الثلاث ولا تجدان الإيجابيات الثلاث، فتجدان المانع عن العمل دون المقتضي.

صحيح أنهما يجدان السلطة والمال والجاه وهي عناصر فعالة في مضاعفة نتائج الحركة، لكن من الصحيح أيضاً أن الطبقة الأولى لا يتحرك حتى الواحد منها، في ما الطبقة الثالثة تتحرك برمّتها، ولذلك كان الطبقة الثالثة تؤلف المادة البشرية العضوية لكل الحركات في التاريخ، بينما الطبقة الأولى تخلي مواقعها دائماً بدون مقاومة تذكر(1).

وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُم} يعبدونه وينادونه فالدين لربهم وهؤلاء يدعونه فلا معنى لطردهم.

وقوله: {بِالْغَدَوٰةِ وَالْعَشِيِّ} كناية عن الدوام، وقيل: أراد به صلاة الصبح وصلاة العصر.

وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي مخلصين في دعائهم، و(الوجه) هو ما

ص: 119


1- خواطري عن القرآن 1: 431-432.

يقابَل به الشيء ويعرف الشخص به، وحيث إن اللّه يعرف عبر صفاته وأوليائه فلذا كان وجه اللّه صفاته والأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، فالإنسان يعرف اللّه تعالى عبر معرفته بصفاته فمن أنكر علمه أو قدرته أو حكمته وسائر صفاته فقد جهله تعالى، ومن لم يأخذ دينه عن الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) بل أخذه عن غيرهم فقد جهله سبحانه، ولذا ورد في روايات كثيرة أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) وجه اللّه تعالى حيث إنهم الطريق إليه.

معنى عدم محاسبة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس

الخامس: قوله تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ...} الآية.

لعلّه بيان سبب النهي عن طردهم، فإن سبب الطرد أحد أمرين:

1- إمّا أن تلحقه تبعة أعمالهم، فيقال: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ} فأعمالهم هم يحاسبون عليها ولا تحاسب أنت عليها بعد أن أدّيت وظيفتك بالتبليغ كاملة غير منقوصة، فلست مسؤولاً عن سوء أعمالهم إن كانت أعمالهم سيئة، كيف وأعمالهم حسنة بدعاء اللّه دوماً بإخلاص، أو المعنى أنت لست مسؤولاً عن محاسبتهم حتى تعاقبهم بالطرد.

2- وإمّا أن يخاف منهم أن يحاسبوه فيؤذوه بمحاسبتهم إياه فيتخلص من محاسبتهم عبر طردهم، فيقال: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ} فليست من مسؤولياتهم أن يحاسبوك على أعمالك؛ لأنك رسول اللّه ومعصوم ولا تتّبع إلاّ ما يُوحى إليك.

وغير خفي أن الآية وغيرها تدل على أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس مكلّفاً بمحاسبة الخلق على الإيمان أو الكفر لا في الدنيا ولا في الآخرة وأن الحساب على اللّه تعالى، وهذا لا ينافي قضاءه بين الناس وتنفيذ الأحكام

ص: 120

عليهم وإجراءه الحدود الشرعية، كما لا ينافي أن يأمر اللّه تعالى يوم القيامة الأئمة(عليهم السلام) بمحاسبة الخلق بإذنه، فهم ينفذون ما أمرهم اللّه تعالى به من محاسبة الخلق بإذنه تعالى كما دلت عليه الروايات الصحيحة، كما أن الأرواح يقبضها اللّه تعالى وذلك لا ينافي أمره ملك الموت بقبضها.

وقوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} ليس تأكيداً وتكراراً لما ذكر في صدر الآية في قوله: {وَلَا تَطْرُدِ}، وذلك للاختلاف في النفي والإثبات، فلو كان تأكيداً- جيء به لطول الفاصل بين النهي وجوابه - لزم تكراره مع حرف النفي، بل الغرض بيان نتيجة مخالفة النهي كأنه قال ولا تطردهم؛ إذ ليس بينك وبينهم حساب حتى تطردهم، فيكون نصب {فَتَطْرُدَهُمْ} على كونه جواب النفي في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم...}.

وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّٰلِمِينَ} بيان نتيجة الطرد، وفي هذا تشديد في النهي عن طلب الأشراف طرد الضعفاء.

السادس: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٖ لِّيَقُولُواْ أَهَٰؤُلَاءِ...} الآية.

بيان أن اختلاف أحوال الناس في الدنيا بالغنى والفقر والرئاسة والمرؤوسية وغير ذلك هو امتحان إلهي، فعلى الإنسان أن يحسن التعامل لينجح في الامتحان؛ إذ الموازين الإلهية لا تقاس بالأمور المادية، بل الميزان هو الطاعة فهي التي توجب الأفضلية، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1) فربّ فقير خير من غني، وربّ مرؤوس أقرب إلى

ص: 121


1- سورة الحجرات، الآية: 13.

اللّه تعالى من الرئيس.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كما صار الفقراء عند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فتنة للأشراف، كذلك سائر أحوال الناس في الدنيا فاختلافها بينهم فتنة وامتحان.

وقوله: {فَتَنَّا} أي ذلك فتنة للجميع، للضعيف ليُرى كيف صبره على ضعفه، وللقوي ليُرى كيف تعامله مع الضعيف.

وقوله: {لِّيَقُولُواْ} اللام للعاقبة، أي عاقبة هذا الابتلاء هو سقوط بعضالأشراف في الامتحان فيعترضوا على إيمان الضعفاء أو يستهزؤوا به.

وقوله: {أَهَٰؤُلَاءِ} استفهام إنكاري أو للاستهزاء، أي لو كان الدين صحيحاً لأنعم اللّه علينا بقبوله، ولكن حيث قبله الفقراء فهذا دليل على عدم صحته! قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}(1).

وقوله: {أَلَيْسَ} استفهام للتقرير لبيان أن اللّه لا ينظر إلى الأمور المادية، بل ينظر إلى كيفية الطاعة، وهذا جواب لقولهم: {أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ...}.

وقوله: {بِأَعْلَمَ بِالشَّٰكِرِينَ} أي إن اللّه يعلم بالشاكر لذلك وفّقه للّهداية دون الكافر حيث يخذله فيضلّ، وطاعة اللّه - بالإيمان والعمل الصالح - هي شكر لأنعم اللّه تعالى.

السابع: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَِٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ...} الآية.

بعد أن وصف اللّه المؤمنين في الآيات السابقة بأنهم {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن

ص: 122


1- سورة الأحقاف، الآية: 11.

يُحْشَرُواْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ...} وأنهم {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم}، وأنهم شاكرون، بعد ذلك أراد بشارتهم، ولعله ليكونوا بين الخوف والرجاء، فهم يخافون اللّه ولكن في الوقت نفسه يرجون رحمته وفضله، فلذا أمر اللّه تعالى رسوله أن يسلّم عليهم، وأن يخبرهم بأن اللّه تعالى أوجب على نفسه الرحمة فلا ييأسوا إن أذنبوا بجهالة، بل عليهم أن يتوبوا ويصلحوا أنفسهم وعملهم كي ينالوا تلك الرحمة، فهو تعالى كما مَنّ عليهم بالإسلام كذلك يَمُنّ عليهم بالغفران.

قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ...} لعله في مقابل إعراض المعاندين المذكورين في الآية 35 حيث قال: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ}، فأولئك يعرضون عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن الإيمان، لكن هؤلاء يُقبلون إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مؤمنين.

وقوله: {سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ} مادة (س ل م) بمعنى البراءة من الآفات - مادية أو معنوية - ، وهذا دعاء لهم وتطييب لخاطرهم وتبجيل لهم من تحقير المكذّبين لهم.

وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ...} فيه تأكيد شديد على الرحمة، فالكتابة أثبت للشيء، فلذا الوعد المكتوب أسكن للخاطر، والمراد أوجب على نفسه، ولعلّه بالكتابة في اللوح المحفوظ أيضاً.

وقوله: {عَلَىٰ نَفْسِهِ} هذا تأكيد للوعد، أي أثبت حقاً وكان غير ثابت إلاّ برحمته وفضله؛ إذ لا حق لأحد على اللّه تعالى لولا وعده.

وقوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ...} بدل عن {الرَّحْمَةَ} وبيان لها.

وقوله: {بِجَهَٰلَةٖ} أي سفاهة ناشئة عن الجهل؛ وذلك لأن المؤمن لا يذنب عن عناد وإنما لغلبة شهوة أو غضب، وفي الدعاء: «لم أعصك حين

ص: 123

عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخفّ، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغَرّني سترك المرخى عليّ»(1)، وإنما سميت هذه السفاهة جهالة لأن العالم التارك لعلمه كالجاهل.

وقوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في التقريب: «كأنّ الإتيان برحيم بعد غفور غالباً لإفادة الفضل في لطفه وإحسانه»(2).

الثامن: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}.

أي كما فصلّنا هنا في أمر التوحيد والنبوة وذكرنا أوصاف المهتدين والضالين كذلك تفصيلنا في سائر الكتاب، والغرض منه هو الهداية وتمييز طريق المجرمين عن طريق المؤمنين، لكي يتّبع الإنسان طريق الهداية ويجتنب طريق الغواية، وليتعامل مع كل من الضال والمهتدي بما يناسبه.

وقوله: {كَذَٰلِكَ} إشارة إلى كل ما مرّ في الآيات السابقة.

وقوله: {نُفَصِّلُ} من الفصل وهو إبانة أحد الشيئين عن الآخر، وحيث إن رفع الإبهام والإجمال يفصل بين الحق والباطل لذلك عبّر عن التوضيح والبيان بالتفصيل.

وقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ} عطف على {نُفَصِّلُ} أي وضّحنا الآيات وتوضّحت سبيل المجرمين.

وغير خفي أن الآيات هي طريق الهداية والرشد فهي طريق المؤمنين،

ص: 124


1- فقرة من دعاء أبي حمزة الثماني عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ، الدعاء والزيارة: 321.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 78.

فقوله: {نُفَصِّلُ الْأيَٰتِ} يعني بيّنا طريق المؤمنين، وبذلك يتبيّن طريق المجرمين ولذا عطف عليه بقوله: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} ولم يذكر هنا سبيل المؤمنين حيث إنه مضمَّن في تفصيل الآيات.

وقوله: {سَبِيلُ} يذكر ويؤنث كما قال: {هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللَّهِ}(1)ولذا جاء بالفعل مؤنثاً فقال: {لِتَسْتَبِينَ} أي لتتّضح.

ص: 125


1- سورة يوسف، الآية: 108.

الآيات 56-59

اشارة

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُهْتَدِينَ 56 قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَٰصِلِينَ 57 قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّٰلِمِينَ 58 وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ 59}

بعد نفي الشركاء يأتي الكلام في النهي عن عبادتها، فقال:

56- {قُلْ} يا رسول اللّه {إِنِّي نُهِيتُ} نهاني اللّه {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون وتنادون {مِن دُونِ اللَّهِ} من غيره، فإن هذه العبادة لا دليل عليها إلاّ الهوى ف{قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} ولو فعلت مثلكم ف{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} حين عبادتها {وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي لا أكون مهتدياً حين عبادتها، وفيه تعريض بهم بأنهم ضالون غير مهتدين.

57- {قُلْ} إن عبادتي للّه وحده لا شريك له ممّا دلّ عليه البرهان ف{إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ} حجة واضحة أتتني {مِّن رَّبِّي} ولست مثلكم تابعاً للّهوى {وَكَذَّبْتُم بِهِ} كذبتم بربي حيث اتخذتم الشركاء، أو بالقرآن الذي هو

ص: 126

البينة، {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي ليس العذاب بيدي حتى استجيب لكم حين طلبتم تعجيله، بل هو بيد اللّه، ف{إِنِ} نافية أي ليس{الْحُكْمُ} في عذابكم {إِلَّا لِلَّهِ} وحده {يَقُصُّ الْحَقَّ} أي يفصل بالحق بياناً وجزاءً {وَهُوَ خَيْرُ الْفَٰصِلِينَ} فليس فصله إلاّ عن حكمة فقد تقتضي حكمته التأخير وقد تقتضي التعجيل.

58- {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي} تحت قدرتي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من عذابكم {لَقُضِيَ الْأَمْرُ} انقطع ما {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} عبر إنزال العذاب عليكم {وَ} لكن الأمر بيد اللّه {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّٰلِمِينَ} متى يستحقون إنزال العذاب عليهم ومتى يُمهلون.

59- ولمّا نفى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علمه بالغيب بيّن اللّه تعالى أن القدرة على الغيب والعلم به وكذلك العلم بالشهود كلّه للّه، وذلك من أدلة وحدانية اللّه تعالى وكون الحكم له وحده؛ لأنه يعلم كل شيء، والشركاء المزعومون لا يعلمون بأيّ شيء {وَعِندَهُ} تحت قدرته وعلمه {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} أي خزائن الغيب أو مفاتيح تلك الخزائن {لَا يَعْلَمُهَا} لا يعلم تلك المفاتح {إِلَّا هُوَ وَ} كما يعلم بالمغيبات كذلك يعلم بكل شيء آخر ف{يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} سواء كانت غيباً أم شهوداً، {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} من الأشجار {إِلَّا يَعْلَمُهَا} وهي حركة الشيء من الحياة إلى الموت، {وَلَا حَبَّةٖ} تسقط {فِي ظُلُمَٰتِ الْأَرْضِ} في جوف الأرض وهي حركة الشيء من الموت إلى الحياة، {وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ} أي جميع الأشياء {إِلَّا}

ص: 127

يعلمه اللّه وقد سجله {فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} هو اللوح المحفوظ.

بحوث

الأول: لما نفى في الآيات السابقة وجود الشريك للّه تعالى وبيّن أنالخزائن والغيب للّه تعالى وأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه لا قدرة له ولا علم إلاّ بالمقدار الذي يعطيه اللّه تعالى، بعد ذلك في هذه الآيات ينهى عن عبادة غير اللّه تعالى، فليس هناك مجرد نفي، بل نفي مع نهي؛ لأن عبادة غير اللّه ليست عن برهان، بل اتّباع للأهواء مما ينتج عنه الضلال وعدم الاهتداء، وأما الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلم يدَّع ِ الألوهية حتى يُطالَب بإنزال العذاب أو بأن يعلم الغيب، بل هو رسول من اللّه وقد أقام على ذلك البرهان الواضح الجلي بالمعجزة التي جرت على يديه، وأما العذاب فهو بحكم اللّه تعالى وهو الحكيم في ما يقضي إن شاء قدّم العذاب وإن شاء أخره وذلك بحكمته، وأما الغيب فهو خاص باللّه تعالى إلاّ لو شاء أن يُعلّم منه من شاء، وهو تعالى كما يعلم الغيب كلّه يعلم الشهادة كلّها من غير فرق عنده بين الغيب والشهادة فهما عنده سيّان.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ...} الآية.

فنفي الآلهة بالبرهان استتبع النهي عن عبادتها، وقيل: ضم الدليل النقلي إلى الدليل العقلي.

وقوله: {قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} تعريض بهم وبيان أن عبادتهم لغير اللّه لا برهان لهم فيها كما قال: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَٰنَ لَهُ بِهِ

ص: 128

فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَٰفِرُونَ}(1).

وقوله: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} تعريض آخر بهم، وبيان أن عبادة غير اللّه منغير برهان ضلال، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(2)؛ لأن ملاك الهوى ليس الحق بل الشهوات والتي غالباً تتصادم مع الحق، قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}(3).

وقوله: {وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} تأكيد للضلال، وإنما جاء بهذا التأكيد لبيان أنه مهتدي، فالمعنى أنه لو اتّبع أهواءهم لضَلَّ ولم يهتدِ، ولكنه حيث لم يتبع أهواءهم بل اتّبع ما يوحى إليه فلم يضل بل اهتدى.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ...} الآية.

تصريح بأنه مهتدٍ لأنه يتّبع البينة عكس أولئك الذين يتبعون الأهواء، لكن كونه على بينة لا تعني كونه إلهاً بل تعني صحة معتقده وصحة نبوته.

وقوله: {بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي} البينة هي الدليل الواضح الفاصل حين الاختلاف، وتلك البينة هي البراهين الدالة على التوحيد والمعاجز الدالة على النبوة وخاصة القرآن الكريم.

وقوله: {وَكَذَّبْتُم} أي بربي؛ لأن تكذيب الرسول والآيات هي تكذيب للمرسِل، أو كذبتم بالقرآن الذي هو البينة أو أظهر البينات.

ص: 129


1- سورة المؤمنون، الآية: 117.
2- سورة ص، الآية: 26.
3- سورة المؤمنون، الآية: 71.

وقوله: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} بيان أن العذاب بيد اللّه تعالى؛ لأنه الإله القادر على كل شيء، وليس ذلك في حيطة قدرة النبي إلاّ لو شاء اللّه، وقيل: ما تريدونه ليس عندي، وما عندي لا تريدونه!

وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} دليل على أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا يملك العذاب بنفسه؛ لأن الحكم بيد اللّه سواء الحكم التكويني أم التشريعي، والعذاب إنما هو بحكم اللّه فلا يكون من غيره.

وقوله: {يَقُصُّ الْحَقَّ} من القص بمعنى القطع، أي يقضي بالحق فلا يكون قضاؤه اعتباطاً، فهو ينزل العذاب بحكمه حتى لو لم يستعجل به المجرمون، ويؤخره بحكمه حتى لو استعجلوا به.

وقوله: {وَهُوَ خَيْرُ الْفَٰصِلِينَ} لأنه العالم القادر الحكيم، فلا فصل أفضل من فصله، بل إن فصل الآخرون من غير إذنه ففصلهم باطل، وإن فصلوا بإذنه فهذا يرجع إلى فصله تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ...} الآية.

كأنّ المعنى أن اللّه لو أذن لي في عذابكم لكان ذلك وقت نهاية أمدكم؛ لأن اللّه لا يأذن اعتباطاً، وإنما يأذن بحكمة، فإذنه دليل على حلول وقت العذاب عليكم، وأما ما ذكره البعض بأنه لو كان العذاب بيده لأهلكهم غضباً لربه! فغير سديد؛ لأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حكيم ولا يتصرف إلاّ بإذن اللّه تعالى، فلا معنى لإنزاله العذاب من غير حكمة وإنما لمجرد الغضب أو طلب الراحة منهم، فالأقرب هو ما ذكرناه بأن اللّه تعالى لا يأذن إلاّ لو أراد العذاب فلا فرق حينئذٍ في أن ينزل العذاب مباشرة أو يأمر أحد أوليائه

ص: 130

بعذابهم كما حدث في قوم لوط (عليه السلام) حيث أهلكهم جبرئيل بإذن اللّه تعالى.

وقوله: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ...} أي نزل العذاب عليكم وانتهى أمدكم وانتهت المجادلة بيني وبينكم.

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّٰلِمِينَ} كأنه استدراك، أي لكن الأمر بيد اللّه تعالى وهو أعلم بالظالمين وبكفية عقابهم وزمانه ومكانه وخصوصياته.

الخامس: قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ...} الآية.

وهذا من أدلة وحدانيته؛ لأنه خالق الأشياء فلا محالة يكون عالماً بها وبتفاصيلها، وأما الأصنام فلا علم لها بإذعان عبدتها، وحيث لا علم لها فلا معنى لكونها شريكة له، فأيّ فرق بينها وبين سائر الجمادات! كما أن ذلك تأكيد لنفي علم الغيب عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بذاته إلاّ بما شاء اللّه تعالى فليس إلاّ بشراً رسولاً وليس إلهاً، وفي الآية بيان لعلمه تعالى بالغيب وعلمه بكل شيء حتى الشهود.

وقوله: {وَعِندَهُ} أي في ملكه.

وقوله: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} مفاتح جمع مَفتح - بفتح الميم - وهي الخزائن أو مِفتح - بكسرها - بمعنى المفتاح، أي الخزائن أو مفاتيحها تحت قدرة اللّه تعالى لا أحد يقدر عليها.

وقوله: {لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} أي كما لا يقدر عليها غير اللّه كذلك لا يعلم بها غيره، ومن الغيب ومفاتيحه عذابهم فلا أحد يقدر عليه إلاّ اللّه، ولا أحد يعلم به وبزمانه إلاّ اللّه تعالى.

ص: 131

وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي يعلم بكل شيء؛ لأن الأشياء لا تخلو من كونها في البر أو البحر، والجو ملحق بالبرّ، وهذا تعميم لعلمه بكل شيء حتى لو لم يكن غيباً.

ويمكن أن يراد بالغيب ما ليس بموجود فهو قادر على خلقه ويعلمه، ويراد بما في البر والبحر ما هو موجود مخلوق، فإن اللّه عالم بما كان وبما لم يكن ولا حدود لعلمه تعالى.

وقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ...} هذا تعميم لعلمه بالتغيّر في الأشياء فكما يعلم أصل وجودها كذلك يعلم حركتها وتغيراتها.

وقوله: {وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ الْأَرْضِ} أي وما تسقط من حبة في جوف الأرض، وفي التقريب: «وكان التقابل بين {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} وبين {وَلَا حَبَّةٖ} لطيفاً جداً، حيث إن الأول حركة من الحياة إلى الموت، والسقوط الثاني حركة من الموت إلى الحياة والارتفاع»(1).

وقوله: {وَلَا رَطْبٖ وَلَا يَابِسٍ} تعميم بعد ذكر الورقة الساقطة التي هي يابسة عادة والحبة في الأرض التي هي رطبة عادة، فيقال: ليس حركة الورقة والحبة في علمه فحسب بل حركة كلّ شيء في علمه.

والحاصل أن علم اللّه تعالى شمل كل شيء، فهو يعلم بالمغيبات غير الموجودة، ويعلم بكل شيء في البر والبحر، ويعلم بكل حركة سواء كانت في ورقة أو حبة أو في أيّ رطب أو يابس، فعمّ علمه تعالى كل شيء.

وقوله: {إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} عبارة أخرى عن علمه تعالى بها، أي

ص: 132


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 81.

يعلمها لذلك سجلها في اللوح المحفوظ.

وأما تأويل الآية: فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «الورقة: السقط، والحبة: الولد، وظلمات الأرض: الأرحام، والرطب: ما يحيا من الناس،واليابس: ما يقبض، وكل ذلك في إمام مبين»(1).

وقال العم الشهيد في الخواطر:

أولاً: فصل الغيب: الغيب ضد الشهود، والشهود كل ما يشهد، أي يدرك سواء بالمشاعر الظاهرة كالحواس الخمس، أو بالمشاعر الباطنة كالعقول.

فرق الغيب عن الشهود

والغيب لا يعني المغيّب، فلعلّ اللّه لا يغيّب شيئاً عن أحد لأنه ليس بخيلاً أو فقيراً حتى يستأثر{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٖ}(2).

وإنما الغيب مباح تماماً كالشهود، ولكن استيعاب الغيب لا يتم إلّا لمن تتوفر لديه القدرة المناسبة، تماماً كالشهود: فأنت لا ترى ما وراء الحواجز والمسافات، لا لأن اللّه استأثر به، وإنما لأن قدرتك البصرية محدودة بمدى معيّن وهي لا تخترق الحواجز والمسافات، فإذا انتقلت إليه رأيت ما هناك، كما أن الأميّ لا يستطيع أن يقرأ، لا لأن اللّه استأثر بقدرة القراءة دونه، وإنما لأنه لم يتزوّد بالقدرة لها.

وهكذا الغيب مباح، ولكن الاطلاع عليه يحتاج إلى القدرة المناسبة، فمن تزوّد بشيء من القدرة، توسعت دائرة وعيه بقدرها، وتتسع دوائر الوعي بارتفاع درجات القدرة حتى تصل إلى درجة أولي العزم من الرسل

ص: 133


1- الكافي 8: 248؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 563.
2- سورة التكوير، الآية: 24.

الذين تحدث عنهم القرآن: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}(1)، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَيَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ}(2)، كما تتضيق دوائر الوعي بانخفاض درجات القدرة، حتى تصل إلى درجة: {أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(3)، بسبب التقصير أو القصور، أو بسبب أمر آخر بين الأمرين.

ثانياً: فصل العلم الشمولي بالأشياء الظاهرة: البشر قد يتعلم شيئاً أو أشياء ولكنه يتعلّمها مفردات، كما يرى الأشياء فتنطبع منها في ذاكرته لقطات، ولا يحيط حتى بالأشياء الموجودة حوله إحاطة شاملة، بل ربما لا يحيط حتى بوحدة وجودية إحاطة شاملة... ومظاهر النقص في علم الإنسان كثيرة، أما علم اللّه تعالى فهو علم شمولي لا نقص فيه ولا فراغ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ} كل البرّ سواء في ذلك البرّ على كرة الأرض أو على سائر الكرات {وَالْبَحْرِ} سواء أبحر الأرض وسائر الأبحر بدليل الإطلاق في كلمتي البر والبحر.

ثالثاً: فصل العلم الشمولي بالحركات: والتفاعلات المستمرة - البسيطة منها والمعقدة - التي تحدث في الكون كلها تحت علم اللّه: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}، وذكر سقوط الورقة من غصنها، مَثَلٌ لأدنى التفاعلات، ولنبدأ منها ونرتفع إلى التفاعلات التي تحدث في أجسام الإنسان والحيوان وفي النبات والجماد، في كرة الأرض وفي الفضاء وفي الأجرام الفضائية،

ص: 134


1- سورة الجن، الآية: 26-27.
2- سورة آل عمران، الآية: 179.
3- سورة الأعراف، الآية: 179.

وفي ما وراء الفضاء... .

رابعاً: فصل العلم الشمولي بالأشياء الباطنة: وما في الأعماق منالوحدات الثابتة والمتحركة، كم حبة رمل في بطن الأرض؟ وكم قطعة ماس؟ وكم لحمة معدن؟ وبأيّ الأحجام؟ وبأيّ الأوزان...؟ إلى آخر ما في باطن الأرض بكمياتها وكيفياتها {وَلَا} توجد {حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ} بواطن {الْأَرْضِ} إلاّ يعلمها اللّه.

خامساً: فصل العلم العام: {وَ} باختصار لا يوجد شيء {رَطْبٖ} وهو السائل، أي: غير متماسك الأجزاء {وَلَا} يوجد {يَابِسٍ} وهو الجامد، أي متماسك الأجزاء {إِلَّا} يعلمه اللّه بكل خصوصاته وتطوراته، ولا ينتهي الأمر عند علم اللّه به، وإنما كل شيء من ذلك مدروس وخاضع للإحصاء والتسجيل و{فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ}(1).

ص: 135


1- خواطري عن القرآن 1: 433-438، باختصار.

الآيات 60-62

اشارة

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 60 وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ 61 ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَىٰهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ 62}

ثم يذكر اللّه تعالى أن تأخير العذاب وعدم الاستعجال فيه؛ لأنه سبحانه كتب الآجال فلا إهلاك قبلها، فقال:

60- {وَهُوَ} اللّه {الَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِالَّيْلِ} بالمنام، فإن في النوم قبض للروح لكن مع بقاء تعلق لها بالجسم، {وَ} الحال أنه {يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم} عملتم واكتسبتم {بِالنَّهَارِ}.

{ثُمَّ} بعد التوفي في النوم {يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} يوقظكم في النهار، وهكذا يستمر الأمر {لِيُقْضَىٰ} ليكمل {أَجَلٌ مُّسَمًّى} نهاية المدة التي قدرها لكم، {ثُمَّ} بعد انتهاء المدة {إِلَيْهِ} إلى حكم اللّه وحسابه {مَرْجِعُكُمْ} رجوعكم، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم} يخبركم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ليجازيكم عليها.

61- {وَ} ليس إعطاء المهلة إلاّ لكونه قاهراً لعباده ف{هُوَ الْقَاهِرُ} القادر الذي يَغلِب بقدرته {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقيّة بالرتبة فهو المستعلي عليهم

ص: 136

فيتصرف في شؤونهم كما يشاء، {وَ} لأنه ضرب مدة معلومة فلذلك يمنعجميع المُهلكات ف{يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} جمع حافظ، أي ملائكة يحفظون الإنسان عن الأخطار، ويستمر حفظهم {حَتَّىٰ إِذَا} انتهت المدة ف{جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} حان وقت موته {تَوَفَّتْهُ} أماتته {رُسُلُنَا} ملك الموت وأعوانه {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} لا يقصِّرون في المهمة الموكلة إليهم.

62- {ثُمَّ} بعد الموت {رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ} إلى حسابه ومن ثَم جزائه {مَوْلَىٰهُمُ} الذي يتولى أمرهم {الْحَقِّ} الذي هو الحق وحكمه الحق، لا كالأصنام التي هي مولاهم بالباطل لعدم توليها أمرهم إلاّ حسب زعمهم، {أَلَا} للتنبيه {لَهُ الْحُكْمُ} لأنه العالم القادر الحافظ القاهر، {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ} لا تواني في حسابه؛ لأنه لا يشغله حساب عن حساب.

عدم الاستعجال في عذابهم

بحوث

الأول: بعد ذكر علمه وقدرته تعالى وأن العذاب بأمره، يأتي ذكر أن اللّه تعالى هو الذي يتوفى الناس، ولا يستعجل لعجلة هؤلاء في إنزال العذاب عليهم، فهو في كل يوم يتوفى النائمين - مع علمه بما فعلوه - ثم يبعثهم مرّة أخرى وهكذا دواليك، إلى حين حلول أجلهم الذي كتبه لهم، وأما قبل حلوله فيمنع عنهم المُهلِكات عبر ملائكة حافظين، فإذا جاء الأجل تركته الملائكة الحفظة إلى ملائكة الموت - وهم عزرائيل وأعوانه - يتوفونه، وهم لا يتوانون في تنفيذ أمر اللّه تعالى، وحينذاك يكون المرجع إلى حساب اللّه تعالى؛ لأنه المتولي للأمور بالحق، لا كالأصنام المزعومة التي لا حول لها ولا قوة، فإن الحكم للّه وحسابه سريع لا يسقط منه شيء؛ وذلك لأنه لا

ص: 137

يشغله شيء عن شيء، بل يحاسب الخلق كلهم معاً.الثاني: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ...} الآية.

(التوفي) هو القبض الكامل، وروح الإنسان ترتبط بالجسم ولها عملان، فعمل يرتبط بالحواس الخمس وآخر يرتبط بالحياة، وفي حالة النوم يتم قبض الروح كاملاً بالنسبة إلى العمل الأول فلذا بمجرد النوم لا يحس الإنسان بشيء مما كان يحسه في اليقظة، وفي حالة الموت يتم قبض الروح كاملاً بالنسبة إلى العمل الثاني فتبطل حينئذٍ حياة الجسم.

ثم إن الآية جرت مجرى الغالب حيث إن غالب الناس يخلدون إلى النوم في الليل ويقومون إلى العمل في النهار.

وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} أي ما كسبتم، وأصل الجرح هو الفعل الدامي على الجسم، وحيث يكون هذا باليدين عادة لذلك سميت اليد بالجارحة، ثم عُمّم إلى سائر الأعضاء الظاهرة، ثم استعمل في كل كسب.

وكأنّ قوله: {وَيَعْلَمُ...} جملة حالية، أي يتوفاكم بالليل بالنوم مع علمه بما عملتموه بالنهار لكنه لا يحاسبكم على تلك الأعمال ويترككم تستريحون في منامكم، ثم يوقظكم ليوم جديد وأعمال أخرى وهكذا حتى يحين الأجل الذي عيّنه لكم.

وقوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي في النهار، وكأن ذكر التوفي والبعث كالمقدمة والإشارة إلى الموت والنشر، فالقادر على هذا قادر على ذاك.

وقوله: {لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى} (القضاء) هو فصل الأمر على النحو التام

ص: 138

وهو يتضمن الانتهاء من الشيء، فالمعنى إنما يوقظكم ولا يحاسبكم على ماجرحتم؛ لأنه كتب لكم أجلاً لا بد أن تبلغوه، و(المُسمّى) الذي سمّاه اللّه تعالى وكتبه وقد مرّ الكلام فيه في الآية 2.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي بعد انتهاء الأجل يكون رجوعكم إلى اللّه تعالى، وليس انتهاء كل شيء كما كان يزعم المشركون.

وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم...} أي يخبركم بكل الأعمال التي اجترحتموها وهذا مقدمة للحساب والجزاء.

الثالث: قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ...} الآية.

كأنه ردّ على استعجال المشركين بالعذاب، فالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس عنده ذلك العذاب، وأما اللّه تعالى فعنده العذاب لكن لا يستعجل لعجلتهم بل عمله بحكمة، فليس تأخير العذاب عنهم لعجز - تعالى اللّه عن ذلك - ، بل الأمر بالعكس، فاللّه هو الذي يحفظهم من الهلكات وذلك ليستوفوا آجالهم؛ كل ذلك لأنه القاهر فوق عباده.

وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ} أي القادر الغالب الذي يُخضع كل شيء لما يريده بحكمته، وقد مرّ بعض الكلام في الآية 18، فراجع.

وقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} جمع حافظ، أي ملائكة يحفظون الناس من المهالك حتى هؤلاء المشركين الذين استعجلوا بالعذاب، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَٰتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}(1)،

والظاهر أن هؤلاء الملائكة ليسوا الكتبة الذين يكتبون أعمال العباد في قوله

ص: 139


1- سورة الرعد، الآية: 11.

تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ * كِرَامًا كَٰتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}(1)، فأولئك حفظة الأعمال بكتابتها، وأما هؤلاء المذكورون في هذه الآية فهم حفظة الناس عن المهالك.

وقوله: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ...} أي حفظهم مستمر إلى هذه الغاية وهي مجيء الموت الذي هو الأجل المسمّى.

وقوله: {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} من التفريط بمعنى التقصير عبر التواني والبطء، بل هؤلاء كما قال تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(2)، وقد قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}(3).

الرابع: قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَىٰهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ}.

أي بعد الموت يكون المرجع إلى اللّه تعالى؛ وذلك لأنه سبحانه هو المولى أي الذي يتولى أمور الناس فهو الذي خلقهم ورزقهم وأمرهم ونهاهم وإليه المرجع؛ إذ هو الحق وله الحكم لا لغيره.

وقوله: {مَوْلَىٰهُمُ} تفنيد لزعم المشركين بألوهية الأصنام فيقال لهم إنها لا تتولى أموركم في الدنيا ولا في الآخرة فما فائدتها؟ وأما اللّه تعالى فهو الذي خلقكم وخلق كل شيء، ومنه رزقكم، وهو الذي يحييكم ويميتكم، فلا تنكروا قدرته على بعثكم وقد رأيتم نموذجاً عن البعث باليقظة بعد

ص: 140


1- سورة الانفطار، الآية: 10-12.
2- سورة النحل، الآية: 50.
3- سورة الأعراف، الآية: 34.

المنام، كما أن قوله: {مَوْلَىٰهُمُ} كالعلة لجميع ما تمّ ذكره من النوم واليقظة والموت والحشر وغير ذلك.

وقوله: {الْحَقِّ} فهو تعالى حق بذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فهو مولاكم بالحقيقة لا غيره من الأصنام، وإذا كان هناك مولى آخر - تكويناً أو تشريعاً - فإنما هو لأن اللّه أذن له في الولاية.

وقوله: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ} سواء في الأمور التكوينية أم بين العباد تشريعاً أم في يوم القيامة.

وقوله: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَٰسِبِينَ} إنهم استعجلوا العذاب فيقال إن اللّه هو أسرع الحاسبين فلماذا تستعجلون بالعذاب، ومعنى سرعة حسابه هو إحاطته بأعمالهم فيمكنه محاسبة كل شيء وهذا ما لا يقدر عليه غير اللّه تعالى، كما أن حسابه لكل شيء يكون سريعاً جداً فيمكنه حساب الجميع في الوقت نفسه وفي كل شيء.

قيل: إنّما جعل الأجل المسمى غاية؛ لأنه لولا هذا القضاء لأخذهم بالسيئات التي ارتكبوها؛ إذ هو أسرع الحاسبين، قال تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ}(1).

ص: 141


1- سورة الشورى، الآية: 14.

الآيات 63-65

اشارة

{قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَىٰنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّٰكِرِينَ 63 قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٖ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ 64 قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ 65}

ثم إن اللّه تعالى يبيّن دليلاً آخر على التوحيد هو دليل الفطرة، فقال:

63- {قُلْ} يا رسول اللّه للمشركين {مَن يُنَجِّيكُم} ينقذكم {مِّن ظُلُمَٰتِ} شدائد {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} حينما تتقطّع بكم الأسباب المادية، أليس اللّه حال كونكم {تَدْعُونَهُ} تنادونه في الشدة {تَضَرُّعًا} بتخشّع على ألسنتكم {وَخُفْيَةً} في قلوبكم وحينئذٍ يتوافق الظاهر مع الباطن، ودعاؤكم هو هذا القول: {لَّئِنْ أَنجَىٰنَا} اللّه تعالى {مِنْ هَٰذِهِ} الشدّة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّٰكِرِينَ} نشكر اللّه بالإذعان له قلباً وبالإقرار به لساناً وبطاعته عملاً؛ لأن شكر المنعم هي معرفته ثم أداء حقه.

64- {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا} من هذ الشدائد {وَمِن كُلِّ كَرْبٖ} وهو شدة الحزن والهمّ، والمقصود أنه قادر على ذلك، {ثُمَّ أَنتُمْ} بعد نجاتكم {تُشْرِكُونَ} تنقضون العهد، وهذا تقريع وتوبيخ لهم على العناد بعد الحجة

ص: 142

وبعد الوعد.

65- لكن لا يضرّه شرككم حتى بعد نقضكم الوعد ولا أمان لكم من عذابه مرّة أخرى ف{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ} يرسل {عَلَيْكُمْ عَذَابًا} أيّاً كان نوعه، فتارة العذاب تكويني، وتارة العذاب اجتماعي، كأن يكون العذاب {مِّن فَوْقِكُمْ} كالصواعق، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كالخسف والمقصود تعميم العذاب من كل جهة ومن حيث يتوقعون النعمة بالمطر والزرع، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ} يخلطكم {شِيَعًا} فِرقاً مختلفة، والمعنى أن يفرّقكم جماعات متناحرة {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} أي يقتل بعضكم بعضاً في حروب مستمرة، {انظُرْ} متعجباً {كَيْفَ نُصَرِّفُ} نكرّر {الْأيَٰتِ} الدلائل على التوحيد {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} يفهمون الحق فيتبعونه.

من أدلة التوحيد الفطرة

بحوث

الأول: هذه الآيات تتضمن دليل آخر على التوحيد وهو برهان الفطرة، وهي وإن كانت تدفن تحت ركام من العادات والتقاليد إلاّ أنه لا يمكن إزالتها أبداً، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(1)، وهذه الفطرة تظهر من تحت ذلك الركام حينما تنقطع بالإنسان السُبل الطبيعيّة، فهنا يشعر تحت هول صدمة الانقطاع بأن له خالقاً قادراً على إنقاذه فيذعن به بل يستغيث به بلسانه، وحينئذٍ يظهر له عدم نفع الشركاء الذين كان يزعم أنهم شركاء للّه تعالى، لكن مشكلة هؤلاء أنهم معاندون، لذلك لو ارتفعت الشدة تركوا التوحيد ورجعوا إلى شركهم، لكن اللّه تعالى

ص: 143


1- سورة الروم، الآية: 30.

يهدّدهم بأنه وإن استجاب لهم دعاءهم وأنقذهم من الشدائد لأندعاءهم كان خالصاً لوجهه إلاّ أن رجوعهم إلى الشرك لا ينفعهم في خلاصهم من عذاب لاحقٍ في الدنيا قبل الآخرة، وهذا العذاب تارة يكون تكوينياً كما عذّب اللّه قوم نوح وهود وصالح ولوط(عليهم السلام) وغيرهم، وتارة يكون اجتماعياً بالفتن التي تمزّق المجتمع وتؤول به إلى القتال والمحاربة.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ...} الآية.

سؤال لإثارة الفطرة؛ لأن الكثيرين قد لا يقعون في تلك الشدائد أو لم يقعوا فيها سابقاً قبل سماع هذه الآية، لكن حينما يتوجهون إلى أنفسهم يعرفون الجواب؛ لأن الفطرة تظهر نفسها حين التأمل.

وقوله: {ظُلُمَٰتِ} المقصود الشدائد، وإنما سميت الشدة ظلمة لأن الشدة تكون أكبر إذا كانت مع الظلمة، أو لأنّ كليهما - الشدة والظلمة - يوجبان هولاً شديداً مع عدم معرفة الإنسان لمصيره.

وقوله: {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} للتعميم، ولأجل بيان انقطاع الأسباب الظاهرية.

وقوله: {تَدْعُونَهُ} حال، أي من ينجيكم حال كونكم تدعون اللّه تعالى، وفي هذا بيان للجواب أيضاً.

وقوله: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (التضرع) هو التخشع والاستكانة وعادة يكون ذلك ظاهراً، فالمعنى تدعونه بلسانكم مستغيثين به، وأما (الخفية) فهو تعلّق القلب باللّه تعالى والإذعان له، ولعل هذا بيان لحالتين فابتداءً في أول ظهور أمارات الخطر يتعلّق القلب باللّه تعالى، فلمّا يحدق الخطر يتحول ذلك إلى

ص: 144

استغاثة باللسان وبصوت عالٍ عادة.

وقوله: {لَّئِنْ أَنجَىٰنَا} متعلق بقوله: {تَدْعُونَهُ} لأنه بمعنى القول، أي حال كونكم داعين بهذا الدعاء أن نجنّا يا اللّه ونحن نتوب إليك.

وقوله: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّٰكِرِينَ} هذا وعدهم بالتوبة مقابل نجاتهم، والشكر قد يكون بالقلب وقد يكون باللسان وقد يكون بالعمل، أما بالقلب فهو عرفان المنعم والإذعان به، وأما بالعمل فطاعته وعدم معصية، وأما باللسان فواضح.

الثالث: قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٖ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}.

بيان لتجذّر العناد والشرك في قلوبهم، وأنهم سوف لا يفون بوعدهم، كما مرّ في أصحاب جهنم حيث قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1)، وهكذا وهم في الدنيا يعدون عند الشدة وينسون ما وعدوه عند الفرج.

وقوله: {يُنَجِّيكُم} كأنّه جملة شرطية فليس المقصود الإخبار كي يقال: كيف ذلك ونحن نشاهد عدم نجاة الكثيرين من الحوادث رغم دعائهم مخلصين؟

بل المقصود بيان رجوعهم إلى شركهم حين نجاتهم، فالمعنى إن نجاكم اللّه من تلك الشدة ومن كل كرب آخر لرجعتم إلى شرككم، واللّه العالم.

وقوله: {كُلِّ كَرْبٖ} الكرب هو شدة الغم والهم، والنجاة برفع سببه.

ص: 145


1- سورة الأنعام، الآية: 28.

وقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} بيان للحالة العامة لهؤلاء لأنهم معاندون، وهذالا ينافي اهتداء القليل بعد رفع تلك الشدة أو ذلك الكرب.

الرابع: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ...} الآية.

كأنه تهديد لهم بأنّا وإن أنجيناكم من تلك الظلمات والكروب إلاّ أن ذلك لا يعني عدم عذابكم مرّة أخرى لو عاندتم وبقيتم على التكذيب.

وقوله: {هُوَ الْقَادِرُ} تهديد بعذاب تكويني وعذاب اجتماعي، وليس هو مجرد تهديد، بل إن العذاب التكويني سيقع، ففي الروايات دلالة على تحقق الصيحة والخسف عند ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) (1)، وأما العذاب الاجتماعي فقد وقع وسيقع ماداموا مشركين - سواء بالشرك الجلي المخرج عن الملة أم بالشرك الخفي بخلط ولاية الظالمين بولاية الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) - ، ومن ذلك يعلم شمول هذه الآية لهذه الأمة أيضاً إن كذبت ببعض ما أنزل اللّه تعالى.

وقوله: {مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} وهما الجهتان اللتان يتوقع الإنسان منهما الخيرات والنعم فمن فوقه الغيث وفواكه الأشجار، ومن تحت أرجله العيون والزرع، لكن بعناده بالشرك ينزل العذاب عليه منهما، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}(2)، وقال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا

ص: 146


1- الكافي 8: 310.
2- سورة الأحقاف، الآية: 24.

وَفَارَ التَّنُّورُ}(1)، وقد يشمل ذلك العذاب الاجتماعي أيضاً عبر السلطان الجائر من فوقهم، والسفلة ومن لا خير فيهم من تحتهم، كما هو المروي(2).

وقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} بيان للعذاب الاجتماعي، وهو تمزقهم إلى فرق متناحرة وقتل بعضهم بعضاً، و{يَلْبِسَكُمْ} من اللَبس بمعنى الخلط والاشتباه، و{شِيَعًا} جمع شيعة وأصلها من المتابعة والمطاوعة، ويكثر استعماله بمعنى الفرقة من الناس، وهذا هو المقصود هنا، أي يجعلكم فرقاً مختلفة متناحرة؛ وذلك لأن من لم يتبع الحق اتبع الهوى، والأهواء مختلفة فتكون سبباً لتفرق الناس، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(3).

وغير خفي أن مجرد الاختلاف في اللون أو اللسان أو الأفكار ونحوها لا يوجب التناحر بل هو من آيات اللّه تعالى كما قال: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ}(4)، وإنما التناحر ينشأ من دخول الهوى والعصبية.

وقوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} هذا بيان لعذاب اجتماعي آخر وهو مما ينتج من التفرق إلى فرق، وذلك هو العداء المستمر بأن يقتل بعضهم بعضاً أو يسيء بعضهم جوار بعض كما هو المروي(5)، و(البأس)

ص: 147


1- سورة هود، الآية: 40.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 566 عن مجمع البيان.
3- سورة الأنعام، الآية: 129.
4- سورة الروم، الآية: 22.
5- البرهان في تفسير القرآن 3: 566 عن مجمع البيان.

الشدة وكثيراً ما يطلق على الحرب.

وقوله: {انظُرْ} للتعجيب، أي تعجّب من هؤلاء المشركين حين بينّا لهم مختلف الأدلة لكنهم بقوا على عنادهم.

وقوله: {نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ} أي نكرّرها ونردّدها بمختلف الأساليب.

ص: 148

الآيات 66-70

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٖ 66 لِّكُلِّ نَبَإٖ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 67 وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَٰنُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ 68 وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 69 وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسُ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٖ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ 70}

66- وقد يتسائل البعض بأن اللّه القادر على عذابهم لماذا لم يمنعهم من أول الأمر، فيقال في الجواب: {وَكَذَّبَ بِهِ} بالقرآن أو بتصريف الآيات {قَوْمُكَ وَ} لا عذر لهم في تكذبيه؛ لأنه {هُوَ الْحَقُّ} ولكن لا جبر عليهم من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا من اللّه تعالى {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٖ} حفيظ أدفع الضرر عنكم ولو بالجبر، بل أنا مبلّغ.

67- كما أن اللّه لا يكرههم على الإيمان؛ إذ {لِّكُلِّ نَبَإٖ} كخبر عذاب المكذبين في المستقبل {مُّسْتَقَرٌّ} وقت استقرار وتحقق، فكان من الحكمة تأخير الأمور إلى أوقاتها وليس من الحكمة الجبر على الإيمان بحيث ينتفي

ص: 149

العذاب من أصله، {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} به عند وقوعه لكن حينذاك لا ينفعكم التصديق.

68- {وَ} وحيث إن القوم قد كذبوا به فلا بد من عدم مشاركتهم في تكذيبهم، بل لا بد من نهيهم ف{إِذَا رَأَيْتَ} الخطاب للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمقصود به الأمة {الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا} في القرآن، أي يدخلون فيه بالكلام بقصد الطعن والاستهزاء {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تجالسهم واتركهم حالة خوضهم {حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غير القرآن من الكلام المباح، {وَإِمَّا} «إن» شرطية و«ما» للتأكيد {يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَٰنُ} بأن جلست مع الخائضين حال خوضهم {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ} بعد أن ذكرت الحكم الشرعي بالنهي {مَعَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ} أي معهم، وإنما وضع الظاهر موضع الضمير تنبيهاً على ظلمهم وعلى سبب النهي عن مجالستهم، والمقصود بالكلام غير الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنه لا ينسى الحكم الشرعي أبداً، والجملة الشرطية صادقة حتى مع عدم تحقق طرفيها.

69- {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي ليس على المؤمنين الذي يرفضون مجالسة هؤلاء {مِنْ حِسَابِهِم} من حساب الخائضين {مِّن شَيْءٖ} والمعنى ليس على المؤمنين حساب هؤلاء الخائضين {وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ} أي على الذين يتقون أن يذكّروا الخائضين بقبح عملهم {لَعَلَّهُمْ} لعلّ الخائضين {يَتَّقُونَ} الخوض، أي لعلهم يتركونه، فإن النهي عن المنكر قد يؤثر أثره حتى في المعاند.

70- ثم يبيّن اللّه تعالى أن المكذبين والخائضين لم يستندوا على أساس

ص: 150

صحيح وأن عاقبتهم سيّئة فقال لنبيّة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {وَذَرِ} اترك وأعرض عن {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} فاستبدلوا الدين الحق بالدين الباطل فخاضوا في آيات اللّه تعالى {وَغَرَّتْهُمُ} خدعتهم {الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} لهوهاولعبها وغير ذلك، {وَذَكِّرْ بِهِ} بالقرآن، أي ليكن إعراضك مع تذكيرهم، وذلك كراهية {أَن تُبْسَلَ} أي تمنع الثواب وتطرد من الرحمه {نَفْسُ بِمَا كَسَبَتْ} أي بسبب ما عملته من سيئات الأعمال والذي منه الخوض في الآيات، حال كونها {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ} يتولّى أمرها فينصرها {وَلَا شَفِيعٌ} فيشفع لها عند اللّه {وَإِن تَعْدِلْ} تدفع الفدية لإنقاذها من العذاب {كُلَّ عَدْلٖ} كل فداء {لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا} إذ لا بيع في الآخرة وإنما يُجازى كل إنسان بما عمله في الدنيا {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ} منعوا عن الثواب {بِمَا كَسَبُواْ} بسبب سيئات أعمالهم، ثم إضافة إلى المنع عن الثواب {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٖ} ماء يغلي {وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.

بحوث

الأول: كأنّ هذه الآيات بيان لسبب تأخير العذاب عن المكذِّبين مع كمال قدرته على عذابهم، وعلى منعهم عن التكذيب بإكراههم على الإيمان، فيقال: أما النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فليست مهمّته إكراههم بل مهمته التبليغ وإراءة الآيات وبيانها وهو قد صنع ما أُمر به بأحسن وجه، وأما اللّه سبحانه وتعالى فلأنَّ حكمته اقتضت إمهالهم وعدم إكراههم، لكن ذلك لا يعني إهمالهم، بل حينما يحين وقت عذابهم أخذهم اللّه بذنوبهم بغتة.

ثُمّ يتم بيان أنه لا يقف المؤمنون مكتوفي الأيدي أمام تكذيب أولئك

ص: 151

المكذِّبين، بل عليهم أولاً: عدم الجلوس في مجلس التكذيب، وثانياً: تذكير المكذبين ليتركوا تكذيبهم، فإن هؤلاء المكذبين خدعتهم الحياة الدنيا ولذلك اتخذوا الدين لعباً ولهواً، وإنما يتم تذكيرهم لتخويفهم عنعاقبة عملهم حيث لا ناصر ولا شفيع ولا فدية في يوم القيامة، بل يهلكون بسوء أعمالهم في العذاب الأليم.

الثاني: قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٖ}.

وقوله: {كَذَّبَ بِهِ} بالقرآن، أو بما نصرّفه من الآيات، أو بالعذاب، والأول أقرب.

وقوله: {قَوْمُكَ} قريش أو العرب، وكأنّه خصّهم بالذكر لشناعة تكذيبهم وهم يرون الآيات ويعرفون النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حق المعرفة.

وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} بيان أن تكذيبهم لم يستند على برهان؛ إذ القرآن هو الحق، وما كان حقاً كان ثابتاً وعليه البراهين، فما يخالفه يكون باطلاً لا محالة، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَٰلُ}(1)، وقال: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(2).

وقوله: {بِوَكِيلٖ} وهو الذي يتولى الأمور فيحفظ ما وُكّل به من المكاره والأسواء، فهو القائم على الشيء بحفظه ودفع الضرر عنه، والمعنى لست حفيظاً عليكم لأمنعكم عن التكذيب ولو بالقهر والإكراه، فأنتم مختارون

ص: 152


1- سورة يونس، الآية: 32.
2- سورة الأعراف، الآية: 118.

في قبولكم بالآيات أو رفضها، قال تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(1)، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(2)، وقال: {أَنَّمَاعَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(3).

الثالث: قوله تعالى: {لِّكُلِّ نَبَإٖ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.

بيان أن تأخير العذاب إنما هو بحكمة ومصلحة، لكنه لا محالة واقع بالمكذّبين؛ إذ من المحال الكذب أو الخطأ في أخباره سبحانه وتعالى فما دام اللّه قد أخبر بالعذاب فلا محالة سيقع، لكن حيث لم تكن من الحكمة تعجيله لذلك أخّره اللّه تعالى إلى وقته المناسب له.

وقوله: {لِّكُلِّ نَبَإٖ} أي خبر، ومنه الخبر بعذابهم.

وقوله: {مُّسْتَقَرٌّ} أي زمان استقرار وتحقق، فلا يضرّ تكذيبهم أبداً، بل الضرر سيتوجه إليهم حيث لم يحذروا ولم يرعووا فكذّبوا.

وقوله: {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} حيث تضطرون إلى التصديق لمّا تشاهدون ذلك العذاب، لكن في الوقت الذي لا ينفعكم ذلك التصديق، وإن كان ولا بدّ من التصديق فلماذا يختار الإنسان الوقت غير المناسب؟! فالعاقل إذا علم بأنه لا بدّ له من فعل شيء - عاجلاً أم آجلاً - يفعله في أحسن الأوقات حيث النفع وعدم الضرر.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا...} الآية.

ص: 153


1- سورة الكهف، الآية: 29.
2- سورة النور، الآية: 54.
3- سورة المائدة، الآية: 92.

قد مرّ بعض الكلام في سورة النساء في الآية 140 حيث قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ...} الآية(1)،

فلا بد للمؤمن أنيكون قوياً فلا يسمح بالاستهزاء بآيات اللّه، وإن لم يتمكن من المنع فلا أقل من عدم حضور تلك المجالس أو قطع المشاركة فيها مع تذكير أولئك ونهيهم؛ لأن حضوره قد يكون نوع تأييد، وحتى لو لم يكن تأييداً فإن استماع الباطل من غير ردّ أو من غير اعتراض قد يكون سبباً لتأثّر الإنسان بذلك الباطل وخاصة إذا كان أصحاب الباطل أقوياء بالسلطة والمال، فلا بد من اعتزالهم حين خوضهم.

وفي التقريب: «إن أول حركة لا بد أن يختلط المؤمنون بها والمناوؤن لها، ولا بد أن يكون ضعاف النفوس من المؤمنين يكتسبون من المعاندين بعض الأفكار المعادية، ولا أقل من أن يجبنوا عن الاستمرار والتظاهر، ولذا فمن اللازم أن يجنّب القادة أتباعهم من الاختلاط خصوصاً حالة التهجم من المعاندين»(2).

وفي مجمع البيان: «لأنّ من حاجّ مَن هذا حاله فقد وضع الشيء غير موضعه وحطّ من قدر البيان والحِجاح»(3).

وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ} الخطاب وإن كان للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ أن المقصود به الأمة، ويصح التكليف العام للجميع حتى وإن علمنا أن البعض لا يبتلى

ص: 154


1- راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 469.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 86.
3- مجمع البيان 4: 116.

بذلك التكليف، فالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكلّف بجميع الأوامر والنواهي مع العلم بأنه لا يرتكب المنهيات القبائح حتى لو لم يكن هناك نهي عنها.

وقوله: {يَخُوضُونَ} (الخوض) هو التوسط في الماء ونحوه يقال:خضت الماء وغيره، وتخاوضوا في الحديث والأمر، أي تفاوضوا وتداخل كلامهم(1)، وكل استعمالات هذه الكلمة في القرآن بالمعنى السلبي، كأنه أخذ في الخوض التخبّط.

وقوله: {فِي ءَايَٰتِنَا} القرآن وغيره من الآيات، وفي الأحاديث بيان مصاديق لها كالكلام في اللّه والجدال في القرآن وسبّ الإمام (عليه السلام) (2).

وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي قم من ذلك المجلس كما يدل عليه آخر الآية حيث يقول: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ}، وقوله في آية النساء: {فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ}(3).

وقوله: {حَتَّىٰ يَخُوضُواْ} انتهاء غاية الإعراض، ومفهوم ذلك جواز مجالستهم إذا خاضوا في أحاديث أخرى مباحة.

وقوله: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَٰنُ...} الجملة الشرطية صادقة حتى مع استحالة طرفيها، كما في قوله: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ الْعَٰبِدِينَ}(4)، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(5)، فلا نسيان

ص: 155


1- راجع مقاييس اللغة: 317.
2- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 568-569.
3- سورة النساء، الآية: 140.
4- سورة الزخرف، الآية: 81.
5- سورة الأنبياء، الآية: 22.

للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا قعود له معهم حين خوضهم أبداً، لكن الغرض بيان الحكم الشرعي والذي لا بدّ للجميع من تنفيذه، فمن نسي حراماً فارتكبه لا شيء عليه مادام ناسياً فإن تذكّر فلا بدّ من تركه فوراً.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن...} الآية.

كأنّ المقصود أن عمل المؤمنين بالإعراض عن الخائضين ليس محاسبة للخائضين - إذ حسابهم على اللّه تعالى - بل الغرض منه هو تذكيرهم بقبح عملهم عسى ولعلّ أن يتركوه.

وقوله: {مَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي المؤمنين، وكأن المراد من تقواهم هنا إعراضهم؛ لأن في ذلك وقاية لأنفسهم عن التأثر بأباطيل المكذبين المستهزئين، كما أنه وقاية لها عن الحرام.

وقوله: {وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ} أي ليس محاسبة ولكن تذكيراً لهم، وإنما قال {ذِكْرَىٰ} لأن الخائض بفطرته يعلم قبح عمله لكنه غافل عنه فكان لا بد من تذكيره.

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي لعل الخائضين يجتنبون الخوض، فالتقوى هنا بمعنى منع النفس عن الخوض، ويحتمل أن يكون المراد لعلّهم يؤمنون؛ لأنّ ترك قبيح ٍ قد يؤدي إلى ترك سائر القبائح، كما أن فعل قبيح ٍ قد يجرّ الإنسان إلى التمادي في سائر القبائح، والأول أظهر.

السادس: قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ...} الآية.

بيان أن عمل الخائضين باطل لا برهان لهم عليه قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ

ص: 156

مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَٰنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَٰفِرُونَ}(1)، بل منطلقهم الهوى.

وقوله: {وَذَرِ} أي اتركهم وأعرض عنهم، وكأن المراد هو إعراض إنكار لا إعراض مقاطعة كما قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ}(2).

وكأنّ هذا تعميم، أي كما عليك أن تعرض عن الخائضين كذلك أعرض عن كل مخدوع بالدنيا.

قوله: {اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ} إما بمعنى الدين الباطل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب والخوض ونحو ذلك فهذا كله لعب ولهو، وإما بمعنى أن الدين الحق الذي أنزله اللّه عليهم جعلوه مرمى لاستهزائهم ولهوهم ولعبهم، وأقرب إلى السياق.

وقوله: {لَعِبًا وَلَهْوًا} قد مرّ أن اللعب هو العمل الذي لا غرض فيه واللّهو هو ما يسبب غفلة الإنسان وانشغاله عن مهماته.

وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} كأن هذا تعليل لاتخاذ دينهم لعباً ولهواً؛ إذ خدعتهم الدنيا فشغلتهم عن أمر دينهم الحق.

وقوله: {وَذَكِّرْ بِهِ} أي بالقرآن، فالمعنى لا يكن إعراضك إعراض مقاطعة، بل عليك التذكير عسى أن ينفعهم.

وقوله: {أَن تُبْسَلَ} من البَسل والبسالة وهو المنع، ويطلق على الحرام لأنه ممنوع، وعلى الشجاع لامتناع إصابته بمكروه في الحرب، وعلى إيقاع

ص: 157


1- سورة المؤمنون، الآية: 117.
2- سورة النساء، الآية: 63.

النفس في الهلاك لأنه منع عن الثواب والجنة، فالمعنى أن تذكيرك بالقرآن تحذير لهم من منعهم عن الثواب إن استمروا على كفرهم وإثمهم.

وقوله: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ...} بيان عدم تمكنهم من فك أنفسهم منعذاب اللّه تعالى؛ إذ لا يأذن اللّه بأن ينصرهم أحد أو يشفع لهم كما أنه لا يقبل فدية منهم.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ} أي مُنعوا بسبب سوء أعمالهم؛ لأن اللّه تعالى ليس بظلام للعبيد.

وقوله: {لَهُمْ شَرَابٌ...} أي عذاب في داخلهم بشراب الحميم، وعذاب في خارجهم يمس جلودهم وهو العذاب الأليم، وسبب ذلك العذاب كفرهم فقد نالوا عقابه.

ثم إنه لا تكرار في قوله: {أَن تُبْسَلَ نَفْسُ بِمَا كَسَبَتْ} وقوله: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ}؛ إذ الأول إنذار وتهديد ليتركوا غيَّهم والثاني إخبار عن حالهم بعد استمرارهم في غيّهم، فليس مجرد وعيد قد يتغاضى عنه.

كما أن الفرق بين قوله: {الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} وقوله: {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، أن الإبسال هو الطرد من الرحمة ومنع الثواب، وشراب الحميم والعذاب هو العقاب.

ص: 158

الآيات 71-73

اشارة

{قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰنَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَٰطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَٰبٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ 71 وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 72 وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَٰلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ 73}

ثم يبين اللّه بطلان الشركاء بعجزهم عن كل شيء واستدل للتوحيد بقدرة اللّه على النفع والضرر، فقال:

71- {قُلْ} يا رسول اللّه لهؤلاء المشركين المكذبين {أَنَدْعُواْ} الاستفهام إنكاري، أي هل نعبد {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {مَا لَا يَنفَعُنَا} إن عبدناه {وَلَا يَضُرُّنَا} إن رفضناه {وَنُرَدُّ} بعبادتنا لغير اللّه {عَلَىٰ أَعْقَابِنَا} نرجع إلى الوراء القهقرى {بَعْدَ إِذْ هَدَىٰنَا اللَّهُ} إلى دينه، فالذي يهتدي يتقدم فإن ضلّ انتكس وارتكس، فحينئذٍ مَثَله {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} خدعته وأغوته {الشَّيَٰطِينُ} مَرَدة الجن {فِي الْأَرْضِ} في الصحارى {حَيْرَانَ} ضال عن الطريق {لَهُ أَصْحَٰبٌ} رفقاء {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} الطريق

ص: 159

الواضح الموصل إلى النجاة قائلين له: {ائْتِنَا} تعال إلينا، لكنه لم يستمع إلى أصحابه فاتّبع الشياطين ثم تاه في الأرض وهلك، وحيث عرفتم المَثَل ف{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} دينه الذي دلّ عليه بالتوحيد والعمل الصالح {هُوَ الْهُدَىٰ} وحده وليس الشرك إلاّ الضلال، واتّباع من يدعو إليه كاتّباع الشياطين في الصحراء يُردي الإنسان إلى الهلاك، {وَ} هذا بدلالة العقل، كما أن اللّه تعالى أرشدنا إليه فقد {أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} نخضع {لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ} الذي يربينا ويصلح أمرنا كما أصلح أمر كل شيء، هذا في العقيدة.

72- {وَ} أما في العمل فقد أمرنا ب{أَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} وذلك أهم طاعاته {وَ} أمرنا بأن {اتَّقُوهُ} وذلك بتجنب معاصيه، {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازي كلاً على عمله، فالنفع والضرر عنده لا عند الشركاء المزعومين.

73- ثم يبيّن اللّه تعالى الدليل على كون هداه هو الحق بأن أصل الخلق حق، فقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} لا باطل فيه، وبأن تدبيره وتصرفه حق فقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ} للشيء لتدبير أمره {كُن فَيَكُونُ} كما أراده اللّه تعالى ف{قَوْلُهُ} هذا {الْحَقُّ} أيضاً، {وَ} بأن القيامة بيده ف{لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} وهو ابتداء القيامة، وبأنه {عَٰلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ} ما غاب عن الحواس وما حضرها {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في أفعاله {الْخَبِيرُ} العالم بحقائق الأشياء، ومن كانت هذه صفاته فهداه هو الحق الذي لا بدّ أن يتّبعه الناس.

ص: 160

برهان للتوحيد عبر بيان عجز الشركاء

بحوث

الأول: تتضمن هذه الآيات الاستدلال على التوحيد عن طريق بيان عجز الشركاء المزعومين، فلا يقدرون لا على نفع ولا على ضرر، وأما اللّه تعالىفهو الذي بيده كل نفع وكل ضرر، فتركه ضلال.

ثم يذكر اللّه مَثَلاً مما يعرفه الناس في من يسير مع قافلة ثم يأتيه شياطين يخدعونه فيترك رفقائه الذين هم على الجادة ولا يصغي إلى دعوتهم له، بل يتّبع الشياطين فيضل في القفر ويهلك.

وبعد هذا المَثَل يبين اللّه أن الهداية من اللّه دلّ عليها العقل، وهو سبحانه أرشدنا إليها عبر الأمر بالخضوع للّه وطاعته بإقامة الصلاة وترك المعاصي، وأن الحشر إليه فيجازي على الاهتداء والطاعة وترك المعصية، فهو النافع الضار دون شركائهم.

ثم بعد ذلك يستدل اللّه على أن هداية اللّه هي الهداية الحق؛ وذلك لأنها متطابقة للواقع حيث إن اللّه هو الخالق بالحق وهو المدبّر بالحق، وهو مالك يوم الجزاء، وهو العالم بكل شيء بحكمة وخبرة، ومن كان هذا شأنه فلا شك في كون هدايته هي الحق لا حق سواها.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰنَا اللَّهُ}.

استفهام إنكاري لإبطال الشركاء عبر بيان عجزهم، وهو الذي يقرّ به المشركون أيضاً، بل كانوا يزعمون أن لها مجرد الشفاعة.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} من دون إذنه، فليس لها الشفاعة المزعومة ولا

ص: 161

يتمكن المشركون من إثبات ذلك ببرهان سوى أنهم وجدوا آباءهم على هذه الضلالة، وحتى الشفعاء الذين أذن اللّه تعالى لهم كالملائكة والأنبياء والأئمة(عليهم السلام) فإنما تمكّنوا من الشفاعة لأن اللّه أذن لهم وذلك دليل علىعبوديتهم؛ إذ لو كانوا آلهة لما احتاجوا إلى إذن أحد.

وقوله: {وَلَا يَضُرُّنَا} هي بنفسها لا تتمكن من الإضرار لكن اللّه تعالى يعاقِب من عَبَدها، ولذا قد ينسب الضرر إليها مجازاً كقوله: {يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ}(1).

وقوله: {وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا} أي نرجع إلى الشرك كالذي يرجع القهقرى على رجله.

وغير خفي أن كل كمال من اللّه تعالى، وأن اللّه تعالى لمّا خلق النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خلقه مهتدياً، فكان خلقه من اللّه وهدايته أيضاً منه، فلو فرض - فرضاً محالاً - شركه فإنما يكون رجوعاً عن هذه الهداية التي لم تكن باقتضاء ذاته وإنما بفضل من اللّه تعالى، ولذا صحّ التعبير بقوله: {وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰنَا اللَّهُ} فإن منع استمرار أيِّ كمال - حتى لو كان من حين أصل الخلق - إنما هو ردّ للشيء إلى حالته الأصلية من الفقر، حيث إن الناس حتى الأنبياء فقراء إلى اللّه في كل شيء، وبهذا يتبيّن بطلان زعم من زعم أن الأنبياء كانوا مشركين قبل نبوتهم - والعياذ باللّه - مستدلاً بكلمة الردّ التي تعني الرجوع حيث لا رجوع إلاّ لما كان موجوداً من قبل!! فإن هذا من أجلى مصاديق سوء الفهم للآيات، نستجير باللّه منه.

ص: 162


1- سورة الحج، الآية: 13.

والردّ على العقب هو أسوء أنواع التراجع؛ لأن الذي يرجع القهقرى يضع عقب قدمه أولاً، فهو مع أنه يرى الطريق أمامه يُعرض عنه فلا يكون ذلك إلاّ عن سفاهة.

الثالث: قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَٰطِينُ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

هذا مَثَل للذي يضلّ بعد الهداية، وهو مَثَل من صميم الواقع وليس تخييلاً أو مجاراة للمشركين كما زعمه البعض، فالقرآن يَجلُّ عن التخييل والمجاراة، ولا يحتاج إلى ذلك لإثبات الحقائق.

وذلك أن الناس حينما كانوا يسيرون في قافلة على الطريق ومعهم أدلّاء كان يعرض على بعضهم الصرع بمسّ من الشيطان فيخدعه بأن رفقاءه في القافلة يسيرون نحو المتاهة وأنهم سيهلكون، ثم يصوّر له الشيطان طريقاً موهوماً يزعم أنه الجادة التي توصل إلى المقصد، وحينئذٍ كان يسير في الطريق المزعوم ولا يلتفت إلى نداء رفقائه وبذلك يضلّ الطريق ولا يهتدي ويبقى حائراً إلى أن تأتيه المنيّة، فهذا كان في الطريق الصحيح إلاّ أنه بإغواء الشيطان ضل، وهكذا من ارتد بعد هدايته، وقد مرّ بعض الكلام(1) في مس الشيطان في قوله تعالى: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَٰنُ مِنَ الْمَسِّ}(2).

وقوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} إما من (الهَوى) أي الميل إلى الشيء بشهوة، وإما من (الهُوِيّ) بمعنى السقوط، فالمعنى على الأول كالذي أغوته، وعلى الثاني كالذي أسقطته، والمعنييان متقاربان.

ص: 163


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 406.
2- سورة البقرة، الآية: 275.

وقوله: {حَيْرَانَ} أي لا يدري هل يتّبع رفقاءه أم يتّبع الشيطان، أو بمعنى أنه بعد انخداعه يتحيّر في الصحراء حيث تتركه الشياطين ويفقد الرفقة فلا يدري إلى أين يسير ويبقى هكذا حتى يهلك.

وقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ...} أي بعد أن عرفتم المَثَل وأدركتم الأمر بواسطته فاعلموا أن الهداية للدين القويم إنما هي من اللّه تعالى وليس فيها عبادة الأصنام والشرك والكفر، فاللّه يدعوكم إلى الهدى والشياطين تدعوكم إلى الضلال، وهذا ما يدل عليه العقل السليم، وأما ما يدل عليه النقل ففي الآية التالية.

الرابع: قوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ...} الآية.

أي كما دلّ العقل على أن الهداية من اللّه تعالى لا من غيره، كذلك دلّ الشرع حيث أرشدكم اللّه عبر أوامره إلى حكم العقل.

وأما أوامر اللّه تعالى فهي:

1- قوله: {لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ} أي أمرنا لكي نخضع له، ونسلّم أمرنا إليه، لا إلى الأصنام والشياطين الداعية إليها، هذا في مجال العقيدة.

2- قوله: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} هذا في مجال الطاعة، وذكر الصلاة من باب أهم مصاديق العبادة الجامعة للعقائد والتخشّع.

3- قوله: {وَاتَّقُوهُ} هذا في مجال ترك المعصية بأن يخاف الإنسان فيحفظ نفسه عن سخط اللّه بترك المعصية.

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} عطف على قوله: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ

ص: 164

الْهُدَىٰ} فالمعنى الهداية منه والحشر إليه فيجازي المهتدي والضال، فلا بد من قبول هدايته لجلب النفع بالثواب ودفع الضرر بالعقاب.

الخامس: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّوَيَوْمَ...} الآية.

كأنّ هذه الآية للاستدلال على أن الهداية من اللّه تعالى حصراً؛ وذلك لأن اللّه هو الحق وأوصافه حق وأفعاله حق وهو المالك ليوم الجزاء، ومن كانت هذه صفاته فهداه حق فلا بد من اتّباعه.

وقوله: {بِالْحَقِّ} أي خلقاً حقاً لا باطل فيه فلم يخلق للّهو واللعب والعبث تعالى اللّه عن ذلك، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَٰعِلِينَ}(1).

وقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} كأنّ هذا لبيان أن تدبيره وتصرفه في الكون هو حق أيضاً، ف{يَوْمَ} يتعلّق بقوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ} فالمعنى إن قوله الحق حينما يقول كن فيكون، وقيل: {وَيَوْمَ} عطف على {السَّمَٰوَٰتِ} أي خلق السماوات والأرض بالحق وخلق يوم القيامة الذي يقول فيه كن فيكون بالحق أيضاً. والأول أقرب وأنسب بالسياق.

وقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ...} أي في يوم القيامة هو المالك لكل شيء، وملكيّته لكل شيء وإن كانت دائمة، إلاّ أنه في يوم القيامة تبطل الملكيات الاعتبارية التي كانت في الدنيا، وحينئذٍ تظهر الملكية الحقيقية للّه تعالى ولجميع الناس.

ص: 165


1- سورة الأنبياء، الآية: 16-17.

وقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} ظرف لقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ}، كما قال تعالى: {يَوْمَ هُم بَٰرِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِالْوَٰحِدِ الْقَهَّارِ}(1)، و{الصُّورِ} هو البوق ينفخ إسرافيل فيه مرتين، الأولى لإهلاك جميع الخلائق والثانية لإحيائهم في يوم القيامة، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَٰبُ وَجِاْيءَ بِالنَّبِیِّینَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(2).

وقوله: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ} فهدايته عن علم لأنه العالم بكل شيء.

وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فهدايته بحكمة - التي هي الإحكام ويلازمه وضع الشيء في موضعه - ، كما أنه خبير بما يصلح الإنسان عمّا يفسده، فهدايته متلائمة مع خلقه الإنسان، فتطابق التكوين مع التشريع.

والحاصل: إنه لا بد من قبول هدايته؛ لأنه الخالق لكل شيء بالحق، والمدبّر لكل شيء بالحق، وهو مالك يوم الجزاء يثيب من اهتدى ويعاقب من ضلّ، وهدايته عن علم لأنه عالم بكل شيء كما أنها بحكمة وخبرة.

ص: 166


1- سورة غافر، الآية: 16.
2- سورة الزمر، الآية: 68-69.

الآيات 74-79

اشارة

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً إِنِّي أَرَىٰكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ 74 وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 75 فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْأفِلِينَ 76 فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ 77 فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 78 إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 79}

وكان من حجج المشركين اتّباعهم لآبائهم، فيذكر اللّه تعالى توحيد إبراهيم (عليه السلام) وحججه فيه وهو الذي يفخرون بالانتساب إليه، فقال:

74- {وَإِذْ} أي اذكر الوقت الذي {قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ} وكان عمّه أو جدّه لأمه والعرب تسميهما أباً: {أَتَتَّخِذُ} استفهام للتعجب {أَصْنَامًا ءَالِهَةً} فقد كان ينحتها ويبيعها فكيف يكون المصنوع إلهاً لصانعه؟! {إِنِّي أَرَىٰكَ وَقَوْمَكَ} الذي يعبدونها مثلك {فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} واضح الضلالة؛ لأن الإله هو الخالق الرازق لا المصنوع العاجز.

75- {وَكَذَٰلِكَ} أي وبمثل هذه الفطرة السليمة التي علم بها قبح اتخاذ الأصنام آلهة {نُرِي إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} ملكهما العظيم،

ص: 167

أي أريناه آياتنا في السماوات والأرض ليكون دليلاً آخر يضاف إلى فطرته فيستدل بها للآخرين {وَلِيَكُونَ} في نفسه {مِنَ الْمُوقِنِينَ} يقيناً بالرؤية بعدأن كان يقيناً بالفطرة.

76- ولمّا علّمناه حاجج قومه {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ} أظلم وستر بظلامه كل شيء {رَءَا كَوْكَبًا} وهو الزهرة {قَالَ} في صورة استفهام وكان قصده الإنكار: هل {هَٰذَا رَبِّي}؟ لعلّه كان يريد منهم بيان الدليل لكنهم عجزوا عن إقامة الدليل فنقض ربوبية الكوكب في الوقت المناسب {فَلَمَّا أَفَلَ} غرب الكوكب {قَالَ لَا أُحِبُّ الْأفِلِينَ} فالرب لا يأفل عن المربوب وإلاّ لم يكن ربّاً، وكأنه استدل ببرهان الحركة والتغيّر الذي هو صفة الممكن المخلوق دون الرب الخالق، وعدم الحب يلازم عدم اتخاذه ربّاً، وفي ذلك نوع تدرّج في إبطال عقيدتهم.

77- {فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا} آخذاً في الطلوع {قَالَ} مستفهماً بإنكار: هل {هَٰذَا رَبِّي}؟ حينما شاهدهم يعبدونه بعد الكوكب، {فَلَمَّا أَفَلَ} غرب القمر {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} تعريض بهم بأنهم ضالون غير مهتدين وأن هناك رب آخر غير القمر، فتدرّج بعد بيان عدم حب الآفل إلى التعريض بضلال عبدة الآفلين.

78- {فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً} مبتدأة في الشروق {قَالَ} مستفهماً بإنكار: هل {هَٰذَا رَبِّي}؟ ثم طعن في حجتهم على ربوبيتهما بأن {هَٰذَا أَكْبَرُ} من الكوكب والقمر، {فَلَمَّا أَفَلَتْ} الشمس {قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} فبعد عدم الحب والتعريض بضلالهم بيّن براءته من شركهم.

ص: 168

79- ثم بيّن أن المستحق للربوبية هو الخالق لها ولكل شيء قائلاً: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي قصدت بإخلاص وإقبال {لِلَّذِي فَطَرَ} خلق {السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} مائلاً من باطلهم إلى الحق {وَمَا أَنَا۠ مِنَالْمُشْرِكِينَ} فكما اتّخذتُه إلهاً كذلك اتّخذتُه ربّاً.

من أدلة إبطال الشركاء

بحوث

الأول: بعد أن بيّن اللّه تعالى مجموعة من أدلة التوحيد، بيّن قصة إبراهيم (عليه السلام) مع قومه واحتجاجاته في التوحيد، وكأنّ ذلك لدحض حجة من حجج المشركين بأنهم على دين آبائهم؛ إذ كانوا يقولون: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ}(1)، فيقال لهم إن خير آبائكم إبراهيم (عليه السلام) كان موحداً غير مشرك فلماذا تتركون اتّباعه؟! مضافاً إلى بيان استدلاله على بطلان الشركاء، فقد أبطل اتخاذ الكوكب والشمس والقمر آلهة مع أن لها نفعاً للناس وهي متحركة، فكيف بالأصنام التي لا تنفع ولا حركة لها؟!

وحاصل الكلام أن اللّه أرى إبراهيم (عليه السلام) فطرته التي تأبى اتّخاذ الأصنام آلهة، كما أراه ملكوت السماوات والأرض ليرى آيات صنع اللّه تعالى وبذلك يكون موقناً، فيجادل أهل الباطل بالحق عن يقين وجزم، لا كمجادلتهم لدحض الحق بالظن والشك.

ثم يستدل على بطلان ألوهيتها بأفولها، وتدرّج في تقرير هذا البرهان أولاً: بأنه لا يحب الآفلين، وثانياً: بأن اتخاذها آلهة ضلال، وثالثاً: بأنه برئ

ص: 169


1- سورة الزخرف، الآية: 22.

من شركها، وبعد ذلك يستدل على أن الربوبية منحصرة في الخالق لكل شيء الذي لا أفول له.

والظاهر أن عبدة الأصنام والكوكب والقمر والشمس جماعة واحدة،وهم قومه، كما ينقل ذلك عن علماء الآثار بأنهم كانوا يعبدونها جميعاً، وقد تدرّج معهم في إبطال ربوبيتها بالطريقة المذكورة لتكون الحجة أوقع في نفوسهم ولعدم إثارتهم من البداية لئلا يغلقوا عقولهم على سائر كلامه كما هو المشاهد في تعصب أهل الباطل على باطلهم إذا جُوبهوا بالعنف والتسخيف في أول المحاججة، فالأسلوب الأمثل هو التدرج معهم بالبرهان حتى تنفذ الحجة في قلوبهم.

نسبة إبراهيم (عليه السلام) إلى آذر

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ}.

لم يكن آزر والداً لإبراهيم (عليه السلام) وإنما تربّى إبراهيم في بيته، فإما كان عمّه أو كان جدّه لأمه، وقيل: كان زوج أمّه بعد وفاة أبيه في صغره، وكل هؤلاء تسميهم العرب وغير العرب بالأب، فمثلاً أطلق الأب على إسماعيل (عليه السلام) بالنسبة إلى أولاد إسحاق (عليه السلام) ، قال تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَائِكَ إِبْرَٰهِۧمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ}(1)، ولعلّه لذلك ذكر اسم (آزر) مع أنه لا غرض في ذكر اسمه لو كان والداً لإبراهيم (عليه السلام) فكان يكفي أن يقول: قال إبراهيم لأبيه أتتخذ...، بل كان اسم والد إبراهيم (عليه السلام) تارخ أو تارح، ويدل على ذلك أن اللّه تعالى نهى إبراهيم (عليه السلام) عن الاستغفار للمشركين وأن إبراهيم (عليه السلام) تبرأ من آزر، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ

ص: 170


1- سورة البقرة، الآية: 133.

إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٖ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}(1)، ومع ذلك في أواخر حياته استغفر لوالده مما يدل على أن آزر لميكن والده، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} إلى قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَٰلِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}(2)، استغفر له وعبر عنه بالوالد ولم يعبر عنه بالأب؛ لأن الوالد لا يطلق على غير من ولد الإنسان.

وفي مجمع البيان: «قال أصحابنا: إن آزر كان جدّ إبراهيم لأمّه، أو كان عمّه، من حيث صحّ عندهم أن آباء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى آدم كلهم كانوا موحدين، واجتمعت الطائفة على ذلك، وروي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: لم يزل ينقلني اللّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني في عالمكم هذا، لم يدنسني بدنس الجاهلية، ولو كان في آبائه كافر لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}(3)، ولهم في ذلك أدلة ليس هنا موضع ذكرها»(4).

الثالث: قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً إِنِّي أَرَىٰكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}.

الاستفهام للتعجب وكأنّه لإيقاظ فطرته؛ لأن آزر كان ينحت الأصنام ويبيعها، فكيف يكون المصنوع إلهاً لصانعه، وهو لا يتمكن من النفع

ص: 171


1- سورة التوبة، الآية: 114.
2- سورة إبراهيم، الآية: 39-41.
3- سورة التوبة، الآية: 28.
4- مجمع البيان 4: 128-129.

والضرر، وقد فصلّت آيات أخرى احتجاجه هذا، منها قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَٰهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْيَضُرُّونَ}(1)،

وقال: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}(2)، ولعل عدم التفصيل في هذا البرهان - وهو برهان الفطرة - هنا لأنه قد تمّ بيانه مفصلاً في الآيات السابقة، فلذا تمّ بيانه إجمالاً ثم انتقلت الآيات إلى برهان آخر وهو برهان الأفول ففصّلت فيه لعدم ذكره سابقاً.

وقوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً} قيل: تنكير الأصنام لتحقيرها، مع فقدانها لكل صفات الإله، فلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا خلق، بل هي مصنوعة بيد مصنوع آخر!

وقوله: {فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} إذ من الضلال الواضح تخشّع الأعلى - بالحياة والقدرة والعلم - للأسفل الفاقد لجميعها.

الرابع: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}.

هذه مقدمة لبيان حجته التالية في أفول ما اتّخذوه أرباباً؛ لأن من رأى الملكوت وأيقن بربوبية اللّه تعالى يعلم ببطلان كل إله وربّ غير اللّه ويمكنه جدالهم ودحض حججهم.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كما أريناه بفطرته السليمة كون عبادة الأصنام

ص: 172


1- سورة الشعراء، الآية: 69-73.
2- سورة الصافات، الآية: 95-96.

ضلالاً، أريناه الملكوت.

وقوله: {مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} الملكوت على وزن فعلوت يدل على الكثرة والمبالغة، والمقصود هنا الملك العظيم، الدال على الخالق، أماالأصنام والكواكب وسائر الآلهة فهي عاجزة عن خلق وتدبير هذا الملك العظيم.

ورؤية الملكوت على قسمين: فتارة ما يراه عامة الناس لكن يغفل عنه الأكثر فإن التفتوا وتأمّلوا ظهر لهم ذلك الملك العظيم واهتدوا بذلك إلى خالقه العظيم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٖ}(1).

وتارة رؤية إعجازية بكشف الغطاء عن البصر، وذلك خاص بالمعصومين(عليهم السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «كشط لإبراهيم السماوات السبع حتى نظر إلى ما فوق العرش، وكشط له الأرضون السبع، وفعل بمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل ذلك، وإني لأرى صاحبكم والأئمة من بعده قد فعل بهم مثل ذلك»(2).

وقوله: {وَلِيَكُونَ} كأنه عطف على مقدّر، أي ليستدل وليوقن، فالاستدلال لغيره واليقين لنفسه، والترتيب هو اليقين ثم الاستدلال، وإنما عكس لأن الكلام في الأدلة على التوحيد، فلذا أريناه ليستدل وليوقن.

وقوله: {مِنَ الْمُوقِنِينَ} (اليقين) هو القطع المطابق للواقع سواء أذعن

ص: 173


1- سورة الأعراف، الآية: 185.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 572؛ عن بصائر الدرجات: 107.

الإنسان له أم جحده، وفي الروايات يستعمل اليقين - كاصطلاح - في العلم المستتبع للعمل، وقيل: المراد اليقين العيني بعد أن كان يقيناً نظرياً، فإن اليقين العيني لا يزول أبداً بخلاف اليقين النظري حيث يمكن زوالهبالتشكيكات، وقد مرّ بعض الكلام(1) في قوله تعالى: {قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}(2).

الخامس: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي...} الآية.

روي أن ذلك كان في أول ظهور له في قومه بعد أن كان مخفياً عنهم من ولادته حذراً من قتله(3)، حيث كان قومه عبدة أصنام وكواكب وغيرها، وهذا حال الكثير من المشركين وخاصة في بداية أمرهم حيث كانوا يتصورون آلهة مزعومة ثم ينحتون لها صوراً في مجسمات ثم بمضيّ الزمان تتحول عقيدتهم إلى ألوهية تلك الأصنام، كما أنهم يتوهمون ألوهية كل ظاهرة طبيعية لا يتمكنون من الوصول إليها ومن أبرزها الشمس والقمر والكواكب.

وقوله: {جَنَّ} بمعنى أظلم وأرخى ستره، وأصل مادة (ج ن ن) بمعنى الستر ومنه الجنين والجنون والجنة والجن.

وقوله: {رَءَا كَوْكَبًا} أي رآه ورأى عباداً له، فاستفهم منهم بأنه هل هذا

ص: 174


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 341.
2- سورة البقرة، الآية: 260.
3- راجع في البرهان في تفسير القرآن 3: 577.

هو الربّ، وهذا في ظاهره استفهام وفي باطنه إنكار، وحذف همزة الاستفهام شائع في لسان العرب وغيرهم، وهذا الكوكب هو الزهرة كما فيالروايات(1)، ويؤيده الاعتبار فإن الزهرة تظهر في أول الليل، وبعد منتصف الشهر القمري تظهر ثم تغيب وبعد ذلك يطلع القمر.

وقوله: {هَٰذَا رَبِّي} كأنّ أولئك الأقوام لم يكونوا يقولون بألوهية الكوكب وإنما كانوا يعتبرونه المدبّر لأمر الخلق ولذا قال {هَٰذَا رَبِّي} ولم يقل هذا إلهي، وهذا الزعم استمر في كثير من الأمم حتى وصل إلى البعض ممّن يظهرون الإسلام حيث يزعمون النجوم والكواكب تدبّر أمر العالم! وبذلك أشركوا مع اللّه تعالى مخلوقاته.

وقوله: {أَفَلَ} الأفول هو الاستتار وراء الشيء، ولا يستعمل إلاّ في الشمس والقمر والكواكب والنجوم، واستعماله في غيرها مجاز.

وقوله: {لَا أُحِبُّ الْأفِلِينَ} أي لا أحبها من جهة العبادة، وهذا لا ينافي حبّها من جهة كونها مخلوقات للّه تعالى نافعة، أي كيف يكون ربّاً ومدبراً مع أنه غاب، والمدبّر لا بد من حضوره دائماً، وإلاّ انقطع تدبيره؟!

وقد يقال: إنه استدلال بالحركة والتغيّر، فإن ذلك شأن المخلوق لا الخالق.

وقد يقال: إنه استدلال بعدم الحب؛ لأن الإنسان يحب ربّه لمّا يرى أنه ينفعه ويدفع الضرر عنه، فإذا أفل الشيء انقطع نفعه ودفعه للضرر فلا وجه لحبّه! وما ذكرناه أظهر وأنسب لسياق الآيات.

ص: 175


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 571؛ عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 197.

السادس: قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا...} الآية.أيضاً استدلال على بطلان ربوبيته بالأفول، ولعله كرّره لأجل التدرج الذي ذكرناه حيث بيّن لعبّاد الكوكب أنه لا يحب الآفلين وكان في ذلك إلقاء الاستدلال بالأفول في فكرهم، ثم تدرّج إلى أن عبادة الآفل ضلال، ولا بد من أن يكون الرب غيره ولذا لا بد من دعائه ليهدي الإنسان إليه.

وقوله: {بَازِغًا} البزوغ أول الطلوع، وهو أيضاً خاص بالشمس والقمر والكواكب والنجوم.

وقوله: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي...} أظهر لهم أن اتخاذه رباً وعبادته ضلال لأنه آفل، وأنه لا بد من التوجه إلى الرب الحقيقي للّهداية إليه، وهذا أيضاً ضمن التدرّج في إرشادهم بأن لهم ربّاً غير هذا الذي يعبدونه وأنه لا بدّ لهم من دعائه ليهديهم إليه، ومراعاةً للتدرّج لم يقل لهم إنكم ضالون بل قال إن عبادته تجعل الإنسان من الضالين.

وقد مرّ الكلام في أن الهداية من اللّه تعالى، والضلال بمعنى الخذلان أيضاً منه حينما يُسيء الإنسان العمل.

السابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ...} الآية.

بعد أواسط الشهر يغرب القمر في أواخر الليل بحيث تطلع الشمس بعد أفوله بفترة وجيزة، وقد رآهم يعبدونها فكرّر عليهم السؤال كما فعل معهم حينما رآهم يعبدون الكوكب والقمر، لكن ذكر ما يمكن أن يكون دليلاً لهم وهو أن الشمس أكبر، حتى يكون نقض الحجة أوقع، بحيث لما غابت

ص: 176

قال هذا الذي هو أكبر ولا شيء أكبر منه في تصوركم لا يصلح للربوبيّةلأنه آفل، فلا بد أن يكون الرب أكبر من أن يوصف بأوصاف المخلوقين وأعظم، وبعبارة أخرى: إن كان المنطق في عبادة الشمس كونها أكبر فحقُّ العبادة لا بد أن يكون للّه تعالى؛ لأنه الكبير المتعال وهو أكبر من أن يوصف بمقدار أو حجم أو صورة.

وقوله: {بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} هنا وصل إلى الغاية في التدرّج فبيّن لهم أنه يتبرأ من شركهم لبطلان ربوبية الأرباب المتفرقين.

فحاصل البرهان في هذه الآيات هو بطلان ألوهية وربوبية الآفل الزائل فلا يصح اتّخاذه شريكاً للّه.

و(ما) في قوله: {مِّمَّا} إما مصدرية أي بريء من شرككم، أو موصولة، أي بريء من الأشياء التي تشركون بها، والأول أنسب.

الثامن: قوله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ...} الآية.

بعد أن أبطل ألوهية وربوبية الأصنام والأجرام السماوية، أثبت التوحيد الخالص للّه تعالى، فهو الإله وهو الرب، فتكون هذه الآيات بمنزلة التفصيل لكلمة (لا إله إلاّ اللّه)، فالإله والرب هو الذي خلق السماوات والأرض وهو الذي يدبّر أمرها، وذلك يستلزم قدرته وعلمه وحياته وحكمته وسائر الأسماء الحسنى، فلذا لا بد من عبادته وحده لا شريك له، وفي مجمع البيان: «في هذه الآيات دلالة على حدوث الأجسام وإثبات الصانع، وإنما استدل إبراهيم بالأفول على حدوثها لأن حركتها بالأفول أظهر ومن الشبهة

ص: 177

أبعد، وإذا جازت عليها الحركة والسكون فلا بد أن تكون مخلوقة محدَثة،وإذا كانت محدَثة فلا بد لها من مُحدِث، والمحدِث لا بد أن يكون قادراً ليصحّ منه الإحداث، وإذا أحدثها على غاية الانتظام والإحكام فلا بد أن يكون عالماً، وإذا كان قادراً عالماً وجب أن يكون حياً موجوداً»(1).

وقوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي أخلصت للّه، وأراد من الوجه الذات؛ وذلك لأن الإنسان حينما يخلص للشيء يستقبله بوجهه ويعرض عن غيره.

وقوله: {فَطَرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ} أي خلقهما بما فيهما الشمس والقمر والكواكب وموادّ الأصنام، فهو الأحق بالعبادة دونها، وأصل (الفطر) الشقّ واستعمل في الخلق لأنه إظهار الحادث بإخراجه من العدم إلى الوجود كأنه شق عنه فظهر(2). أو كأنّ العدم كتلة واحدة فشقه بإيجاد الشيء.

وقوله: {حَنِيفًا} الحَنَف هو الميل من الباطل إلى الحق، أي مخلصاً ومائلاً عن الشرك إلى الإيمان وعكسه الجَنَف.

وقوله: {وَمَا أَنَا۠ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تأكيد لقوله: {حَنِيفًا} وكأنه بيّن أنه في عقيدته مائل من الباطل إلى الحق وبذلك لم يكن من زمرة المشركين.

ص: 178


1- مجمع البيان 4: 146.
2- راجع معجم الفروق اللغوية: 407.

الآيات 80-83

اشارة

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَئًْا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ 80 وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 81 الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ 82 وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَٰهَا إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ 83}

وبعد أن ذكر اللّه تعالى حجج إبراهيم (عليه السلام) ذكر دحضه لحجة قومه المشركين، فقال:

80- {وَحَاجَّهُ} جادله وخاصمه {قَوْمُهُ} المشركون بأن خوّفوه من بطش آلهتهم {قَالَ} في جوابهم: {أَتُحَٰجُّونِّي فِي اللَّهِ} الاستفهام إنكاري، أي كيف تجادلوني في ربوبية اللّه وحده {وَقَدْ هَدَىٰنِ} أي والحال أنه تعالى هداني للتوحيد بما بيّنه لي من الحجج والتي سُقتها لكم حيث إن التخويف بالآلهة لا تنقض تلك الحجج التي بيّنتها لكم، {وَ} إنّما يخوّف مِن الشيء مَن يجهل ضرره، وأمّا العالم بعدم ضرره فلا معنى لتخويفه ف{لَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} فهي بين أصنام لا حركة لها ولا يمكنها دفع الضرر عن نفسها وبين أجرام سماوية تأفل {إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَئًْا} الاستثناء

ص: 179

منقطع، أي ولكن أخاف الضرر الذي شاءه اللّه تعالى؛ وذلك لأنه {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فهو يعلم بكل أحوالي وحينئذٍ قد يشاء ضرّي لعلمه بمصلحة فيذلك أو لعلمه بذنبي فيعاقبني عليه، {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} ليكون جوابي تذكرة لكم بعدم صحة حجتكم.

81- ثم يقلب إبراهيم حجتهم عليهم بأنهم لا بد أن يخافوا من شركهم لا أن يخاف إبراهيم من توحيده فقال: {وَكَيْفَ} استفهام إنكاري وللتقريع {أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} مع أنها لا تضرّ ولا تنفع {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ} المالك لكل ضرّ ونفع {مَا لَمْ يُنَزِّلْ} اللّه {بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا} دليلاً؛ إذ لا دليل لكم على أنها شركاء للّه تعالى، وعدم الدليل هنا دليل على العدم، وحينئذٍ {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} من الموحدين والمشركين {أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} فلا يخاف الضرّ؟ أجيبوني {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تتركون جهلكم وتحكّمون عقولكم لتعلموا جواب السؤال.

82- ثم أجاب إبراهيم (عليه السلام) عن سؤاله بعد إبكاتهم وبهتهم فقال: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} باللّه {وَلَمْ يَلْبِسُواْ} لم يخلطوا {إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ} كالشرك ونحوه {أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} فلا خوف عليهم {وَهُم مُّهْتَدُونَ} أي وقد هُدوا إلى الحق.

83- ثم يبين اللّه تعالى أن احتجاجات إبراهيم (عليه السلام) هي ممّا علّمه اللّه تعالى فقال: {وَتِلْكَ} ما ذكرناه {حُجَّتُنَا} تفخيم لها بأنّها حجة من قِبل اللّه تعالى {ءَاتَيْنَٰهَا} ألهمناها {إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ} حتى غلبهم بالحجة فكانت حجة عليهم، وقد رفعناه بهذه الحجة وبغيرها؛ إذ {نَرْفَعُ} في العلم

ص: 180

والحكمة وغيرهما {دَرَجَٰتٖ} متفاوتة، فالبعض أفضل وأرفع من بعض {مَّن نَّشَاءُ} كما شئنا رفع إبراهيم (عليه السلام) {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في رفعه وخفضه{عَلِيمٌ} يعلم مَن يرفع ومَن يخفض.

طريقة استدلال إبراهيم (عليه السلام) على قومه

بحوث

الأول: هذه الآيات لبيان حجة قوم إبراهيم (عليه السلام) عليه في عبادة غير اللّه تعالى، وحيث لا دليل لهم على ذلك التجأوا إلى التخويف من شركائهم فكانت حجتهم أنّ تركها يوجب الضرّ وفوات النفع فكان جواب إبراهيم (عليه السلام) لهم:

أولاً: بأن بيّن لهم أن لا وجه للخوف من الأصنام والأجرام السماوية وغيرها من معبوداتهم بعد قيام الدليل والبرهان على بطلانها، ذلك البرهان الذي ذكره (عليه السلام) في الآيات السابقة، والعاقل لا يخاف من الباطل الثابت بطلانه فمن رأى تمثالاً لأسد وهو يعلم بأنه حجر منحوت على صورته فلا معنى لتخويفه منه، وعليه فلا بد أن يكون الخوف من اللّه العالم بكل شيء والذي يعترف به المشركون أيضاً، فحيث يعلم الذنوب ولا يمكن إخفاؤها منه فلا بد من الخوف منه.

وثانياً: بقلب الحجة عليهم، فإن ما استدلوا به من التخويف حجة عليهم، حيث إنكم تفترون على اللّه بما لا دليل لكم عليه فلا بد أن تخافوا اللّه؛ لأن من ينسب أمراً إلى العالم القادر لا بد أن يكون له برهان فلو نسب إليه شيئاً من غير دليل فقد افترى عليه فلا بد أن يخشى العقوبة.

ثم بعد ذلك يبين أن المؤمن غير الظالم هو أحق بالأمن؛ لأنه يسير على

ص: 181

الهدى وله البرهان، عكس المشرك الذي ظلم نفسه بالشرك وغيره من المعاصي.الثاني: قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَٰجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ}.

يظهر من آخر الآية أن حجتهم كانت عبر تخويفه بآلهتهم المزعومة، وجوابه (عليه السلام) : إنه مع العلم بحقيقتها لا وجه للخوف منها، فقوله: {أَتُحَٰجُّونِّي...} ليس إعراضاً عن جوابهم، وإنما هو الجواب بعينه، فاللّه قد هداني إلى عدم الشرك وأن الشركاء المزعومين لا يضّرون ولا ينفعون ولذا لا وجه لخوفي، كما قد ذكرت لكم ما هداني اللّه به فلا وجه لخوفكم من تلك الآلهة المزعومة أيضاً.

وقوله: {حَاجَّهُ} (الحجّة) هي الدلالة المبيِّنة للمحجّة - أي الطريق المستقيم(1) - وقد تطلق على ما يستدل به سواء كان حقاً أم باطلاً، و(المحاجة) ردّ الحجة، فمعنى (حاجه) أي نقضوا حجته بما زعموه من البرهان.

وقوله: {فِي اللَّهِ} أي في توحيده وعبادته.

وقوله: {وَقَدْ هَدَىٰنِ} أي والحال أنه قد بيّن لي الحق، وقد ذكرتُه لكم في الآيات السابقة.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَئًْا...} الآية.

أي وحيث هداني اللّه إلى التوحيد وبطلان الشركاء المزعومين فلا معنى لخوفي منها؛ لأن المهتدي عالم بعدم كونها شركاء وعدم تمكنها من

ص: 182


1- راجع مفردات الراغب: 219.

الإضرار بغيرها ولا نفعه.

وقوله: {مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} (ما) موصولة والضمير للموصول، أي لا أخافالشركاء الذين تشركون بهم، ولا وجه لكون ما مصدرية؛ لأن المقام في نفي ضرر تلك الآلهة وليس في بيان نفي محاسبته بشركهم.

وقوله: {إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَئًْا} الاستثناء منقطع، أي لا أخاف آلهتكم ولكني أخاف اللّه حيث يمكن أن يشاء ضرري؛ لأنه المالك للنفع والضرّ لا الآلهة المزعومة التي لا تملك ضراً ولا نفعاً ولا أيّ شيء آخر.

وقوله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} كالدليل على الخوف من اللّه تعالى؛ إذ لا يمكن للإنسان إخفاء معاصيه عن اللّه تعالى، فلا يأمن عقوبته تعالى.

وقوله: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} استنكار وتقريع بأنّ ما ذكرته من الأدلة مع نقض حجتكم كافية في تذكر كل عاقل، فلماذا لا تتذكرون بها فتميّزون الحق عن الباطل؟!

الرابع: قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم...} الآية.

هذا من قلب الحجة عليهم، فهم قد استدلوا بشيء هو عليهم لا لهم، وهذا من لطائف وجوه الاحتجاج؛ إذ كان يمكن لإبراهيم (عليه السلام) أن يجعله دليلاً من أدلته من البداية لكن ذلك كان يجعل الدليل في معرض إنكارهم وجحدهم، كما جحدوا سائر البراهين الواضحة، لكن حيث استدلوا به فلا يبقى لهم مجال لإنكاره بعد قلبه عليهم.

وقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ} فيه إشارة بأن البراهين التوحيدية

ص: 183

وغيرها هي مما علّمها اللّه تعالى الإنسان فتارة بجعلها في فطرته، وأخرى بإلهامها، وثالثة ببيان رسله، فإن لم تكن من اللّه فهي باطلة حتماً.

وقوله: {سُلْطَٰنًا} من التسلط بمعنى القهر، والمراد هنا الحجة الغالبة؛ لأنها تقهر كل زعم باطل، أو لأنها تتسلط على القلوب بما لا مجال لرفضها، وغير خفي أن عدم البرهان على عقيدةٍ دليلٌ على بطلانها؛ لأن اللّه أودع البراهين على الحق في فطرة الإنسان وعقله، فإذا لم يكن لها دليلٌ كشف ذلك عن عدم كونها حقاً؛ وذلك لتطابق التكوين في خلق السماوات والأرض وفي خلق الإنسان، فعدم الدليل هنا هو دليل على العدم؛ لأن برهان العقائد لا يضيع بحيث لا يمكن الوصول إليه أبداً.

وقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} استفهام تقريري، وهو من باب إنصاف الخصم وإعطاء المجال له ليتفكر ويبتعد عن العصبية، نظير قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(1)، قيل: إنما عبرّ عنهما بالفريقين ليدل على تفرقهما بحيث لا يمكن ائتلافهما، فإن التوحيد هو أصل الأصول، ويتفرع عليه سائر الأصول والفروع، فالافتراق فيه افتراق في كل شيء.

وقوله: {أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} وهو الطمأنينة في النفس وعدم الخوف من الضرر، فهل الأمن للفريق الموحِّد الذي كان توحيده عن برهان أم الفريق المشرك الذي كان شركه من غير سلطان.

وقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} كأنه تعريض بهم بأنهم لم يستعملوا عقولهم ليعلموا بالبراهين الدالة على الفريق الذي هو أحق بالأمن.

ص: 184


1- سورة سبأ، الآية: 24.

الخامس: قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ...} الآية.

هذا من تتمة كلام إبراهيم (عليه السلام) في احتجاجه؛ وذلك لأنه لمّا نقض دليلهم وقلبه عليهم توجه إليهم بالسؤال بقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ...} لكنهم بهتوا ولم يحيروا جواباً حيث لم يمكنهم جحد الحجة وهم قد استدلوا بها، كما أن عنادهم لم يدع لهم مجالاً للإذعان؛ لذلك أجابهم إبراهيم (عليه السلام) بهذا الجواب إتماماً للحجة عليهم، وهو بيان لقاعدة عامة، والتوحيد والشرك من مصاديقها.

وقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَٰنَهُم} أي لم يخلطوه، فكثير من الناس يؤمنون باللّه لكن مع خلط الأصنام ونحوها، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}(1).

وقوله: {بِظُلْمٍ} والظلم هو بخس الحق عمداً إما على الغير كغصب ماله، وإمّا على النفس بحرمانها عن الثواب وجلب العقاب عليها، فإن لم يكن بخساً للحق كأخذ الحق الشرعي من المالك لم يكن ظلماً، وكذا لو لم يكن عمداً كمن اشترى شيئاً وهو لا يعلم بأن البائع كان قد سرقه، فتصرُّف المشتري ليس بظلم، لا أنه ظلم معذور فيه؛ إذ لا عذر في أيّ ظلم، ولا يقع الظلم على اللّه حتى مع بخس حقه في العبادة والطاعة؛ لأنه عزّ وجلّ أعلى وأجل من ذلك.

والظلم هنا عام، وما في الروايات بيان لبعض مصاديقه ومنها: مورد احتجاج إبراهيم (عليه السلام) وهو الشرك، ومنها: الشك، ومنها: الضلال، ومنها:

ص: 185


1- سورة يوسف، الآية: 106.

خلط ولاية الظالمين بولاية محمد وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام)(1)،والحاصل إن إبراهيم (عليه السلام) بيّن القاعدة العامة والتي يكون التوحيد والشرك من مصاديقها.

معنى للمؤمنين الأمن

وقوله: {لَهُمُ الْأَمْنُ} أي من جمع الوصفين: الإيمان وعدم الظلم، هذا له الأمن فلا يخاف ضرراً يتوجه إليه من اللّه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأما من لم يؤمن، أو آمن لكنه ظلم سواء في الأصول أم في الفروع فلا أمن له؛ إذ إن مات مشركاً فلا يغفر اللّه تعالى له، وإن مات مؤمناً عاصياً فلا وعد له بعدم العقاب، بل هو في المشيئة إن شاء اللّه غفر له وإن شاء عذبه فلا يكون في أمن من جهة ذنبه، فالعفو والغفران محتمل، ومع الاحتمال لا أمن.

سؤال: ورد في الروايات أن المؤمن لا بد أن يكون بين الخوف والرجاء، فكيف ينسجم هذا مع الأمن؟

والجواب: إن المؤمن يخاف أن يكون قد ارتكب ذنباً حين الغفلة فنسيه كما أنه يخاف عن الضلال بعد الهداية، كما يخاف من اختلاط طاعاته بما يفسدها من الرياء ونحوه، فهو خائف لكن اللّه يعده بأنه إن استمر على الإيمان ولم يكن له ظلم واقعاً فلا عقاب عليه بل له الأمن، والحاصل أن خوف المؤمن لأجل عدم علمه بأنه لم يلبس بظلم حالاً أو في مستقبل أمره.

سؤال: كثيراً ما يصاب المؤمنون - حتى الأنبياء والأئمة - بمصائب وبلايا ولا يأمنون على أنفسهم وما يرتبط بهم؟

والجواب: أن المراد الأمن من جهة عقوبة اللّه تعالى؛ لأن الكلام في

ص: 186


1- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 588-590.

الاحتجاج حول الخوف من مخالفة الشركاء أو الخوف من مخالفة اللّه تعالى فيقال: إن المؤمنين غير الظالمين لا خوف عليهم من جهة إيمانهمورفضهم للشركاء، وهذا لا ينافي خوفهم من الظالمين أو من الآفات والبلايا، كما أن المشركين عليهم الخوف من جهة شركهم؛ لأن اللّه سيعاقبهم عليه، وهذا لا ينافي أمنهم في الدنيا من البلايا، وقيل: المراد الأمن التام الذي هو الجنة والرضوان.

السادس: قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَٰهَا إِبْرَٰهِيمَ...} الآية.

فإبراهيم (عليه السلام) لم يتعلم عند أحد وإنما ألهمه اللّه تعالى هذه الحجج إلهاماً؛ لأن اللّه تعالى اختاره للرسالة ولهداية الناس سواء المعاصرين له ولمن بعده ولذلك جهّزه بالبراهين الساطعة.

وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَٰتٖ} بيان أن هذا العلم كان من أسباب تفضيل إبراهيم (عليه السلام) ، وهذه قاعدة عامة فالعالم أفضل من الجاهل، ومن أهم أسباب التفاضل العلم، وكان هو سبب تفضيل آدم (عليه السلام) على الملائكة، وقد قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقد مرّ بحث التفاضل.

وهذه الدرجات في الدنيا وفي الآخرة، وسيأتي في الآيات اللاحقة بيان بعض درجات إبراهيم (عليه السلام) .

وقوله: {مَّن نَّشَاءُ} إما تقييد للتفضيل بأن يكون العلم مع تقوى فقد شاء اللّه تفضيل العالم المتقي، وأما العالم غير المتقي فلا، ويمكن أن يقال: إن

ص: 187


1- سورة الزمر، الآية: 9.

العالم منحصر في المتقي، وأما غير المتقي فليس بعالم بل جامع معلومات،قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

أو هو بيان أن اللّه تعالى اختار إبراهيم (عليه السلام) وغيره لأنه شاء ذلك ولا رادّ لمشيئته، وغير خفي أن مشيئته تعالى قد تكون ابتداءً كما شاء تفضيل الذهب على التراب، والأنبياء والأئمة(عليهم السلام) على سائر الناس، وقد تكون إثابة لعمل الإنسان فمن آمن واتقى يشاء اللّه ثوابه، ومن كفر وعصى يشاء عقابه، فتكون الآية حثاً على طلب الحق؛ لأن التفاضل به.

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} أي إعطاء الحجة لإبراهيم، وأيضاً رفع درجات من يشاء اللّه تعالى لم يكن اعتباطاً بل بعلم وحكمة، فقد أراد اللّه هداية الناس عبر الأنبياء ولذلك من حكمته وعلمه أن أوحى إليهم الحجج والبراهين، كما أن الحكمة تقتضي التفاوت في كل شيء والتفاضل بين الناس لذلك فضّل اللّه بعضهم على بعض، تارة من غير اختيارهم بأن خلق الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) من طينة أعلى وعصمهم وفضّلهم بفضائل كثيرة، وتارة باختيارهم حيث إن اهتدوا زادهم اللّه هدىً.

ص: 188


1- سورة فاطر، الآية: 28.

الآيات 84-90

اشارة

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 84 وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّٰلِحِينَ 85 وَإِسْمَٰعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ 86 وَمِنْ ءَابَائِهِمْ وَذُرِّيَّٰتِهِمْ وَإِخْوَٰنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَٰهُمْ وَهَدَيْنَٰهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ 87 ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 88 أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ 89 أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَٰلَمِينَ 90}

ثم يبيّن اللّه تعالى أن هدايته مستمرة وأنه أكرم إبراهيم (عليه السلام) لمّا اهتدى، فقال:

84- {وَ} بعد نعمة الهداية والرفع فقد {وَهَبْنَا لَهُ} لإبراهيم (عليه السلام) {إِسْحَٰقَ} ابنه، {وَيَعْقُوبَ} حفيده {كُلًّا} منهما {هَدَيْنَا} لنجعل النبوة في أهل بيته فتستمر الهداية، {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} فالهداية متصلة من قبل إبراهيم، {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} ذرية كل من إبراهيم ونوح (عليهما السلام) {دَاوُدَ وَسُلَيْمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَ} وهؤلاء كان لهم الملك أو

ص: 189

السيادة في قومهم {وَكَذَٰلِكَ} أمثال هذا التكريم حيث جعلنا في ذريته النبوة والملك والسيادة {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} الذين يحسنون في أعمالهم.

85- {وَ} كذا من ذريته {زَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ} وهؤلاء ظهر فيهم شدة الزهد عن الدنيا وزخارفها {كُلٌّ مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} كل واحد منهم من الذين صلحوا.

86- {وَ} من ذريته {إِسْمَٰعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} وهؤلاء امتازوا بشدة البلاء والامتحان {وَكُلًّا} كل واحد منهم {فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ} التفضيل بالنبوة وما يلازمها.

87- {وَ} فضلنا {مِنْ ءَابَائِهِمْ وَذُرِّيَّٰتِهِمْ وَإِخْوَٰنِهِمْ} فالنبوة كانت متصلة من إبراهيم وما قبله وما بعده {وَاجْتَبَيْنَٰهُمْ} جمعناهم كلهم على الاصطفاء الخاص وكأنّه تفضيلهم على سائر الأنبياء {وَهَدَيْنَٰهُمْ} أي خلقناهم مهتدين فلا سبق للضلال فيهم {إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} في العقيدة والقول والعمل.

88- {ذَٰلِكَ} الهدى الذي كان عليه هؤلاء {هُدَى اللَّهِ} منه تعالى وهو الذي هدى إليه هؤلاء الأنبياء {يَهْدِي بِهِ} بذلك الهدى {مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ} هؤلاء الأنبياء على عظمتهم وفضيلتهم {لَحَبِطَ} بطل وذهب {عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الصالحات، فلا ينفع شيء مع الشرك.

89- ثم يسلي اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائلاً {أُوْلَٰئِكَ} الأنبياء المذكورون {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ} الكتب السماوية بعضهم أنزل عليهم مباشرة

ص: 190

كموسى (عليه السلام) وبعضهم أمر بالعمل بكتاب غيره كهارون (عليه السلام) {وَالْحُكْمَ} بين الناس في قضاء وغيره {وَالنُّبُوَّةَ} وهو منصب خاص فيه إخبار عن اللّه تعالى {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} بالنبوة، ويلازم الكفر بها الكفر بالكتاب والحكم {هَٰؤُلَاءِ} القوم {فَ} لا ضرر على الدعوة؛ إذ {قَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي جعلنا لمراعاتهاوالإيمان بها والدفاع عنها {قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ} بل يقومون بالواجب تجاهها خير قيام ومنهم أصحاب المهدي (عليه السلام) .

90- وحيث علمت أن {أُوْلَٰئِكَ} الأنبياء السالف ذكرهم {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ} أي بهدى اللّه إياهم {اقْتَدِهْ} فاعمل كما عملوا وبلّغ كما بلّغوا واصبر كما صبروا، ومن جملة هداهم عدم طلب الأجر من الناس ف{قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ} على التبليغ {أَجْرًا} من جهتكم، بل أطلب الأجر من اللّه تعالى {إِنْ هُوَ} ليس تبليغي {إِلَّا ذِكْرَىٰ} تذكير وموعظة {لِلْعَٰلَمِينَ} أجمع، فالإسلام عام للجميع لا يستثنى منه أحد.

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى رفع إبراهيم (عليه السلام) درجات حيث قال: {نَرْفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَاءُ} وإراءة اللّه تعالى له ملكوت السماوات والأرض وهدايته إلى التوحيد، بعد ذلك بيّن أنه سبحانه أنعم عليه بأنبياء من ذريته يحملون رآية التوحيد، وهذا مضافاً إلى كونه تكريماً لإبراهيم (عليه السلام) يتضمن بيان أن اللّه تعالى قد جعل الهداية إلى التوحيد مستمرة بين الناس من زمان نوح (عليه السلام) إلى زمان رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم تنقطع، وأما قبل نوح فإنّ وصيّ آدم (عليه السلام) التجأ إلى جزيرة وبقي الناس في حيرة لا هم على الإيمان ولا هم

ص: 191

على الكفر بل كانوا على الضلال، فراجع ما مرّ(1) في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ...}(2).

أصناف الأنبياء(عليهم السلام) من ذرية إبراهيم (عليه السلام)

ثم يذكر اللّه تعالى ثلاثة أصناف من الأنبياء من ذرية نوح وإبراهيم (عليهما السلام) ويصفهم بالإحسان والصلاح والتفضيل والاجتباء والاهتداء، ويأمر رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاقتداء بهداهم فإن طريقتهم من اللّه تعالى فلا بد أن تكون هي طريقة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً، ومنها عدم طلب أجر من الناس، ويسلّي اللّه رسوله بأن تكذيب الكفار له لا يضرّ بالدعوة؛ إذ إن اللّه تعالى وكّل بها أناساً آخرين لا يكفرون بها.

الثاني: قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا} إلى قوله: {فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ}.

(الواو) إما عاطفة، أي آتينا إبراهيم الحجة ووهبنا له الذرية الطيبة لبيان استمرار الدعوة، وإما استئناف لبيان جزاءه على دعوته إلى التوحيد بأن وهب له هذه الذرية، والتي كان لإبراهيم (عليه السلام) عناية خاصة بها فلذا أكثر الدعاء لها فاستجاب اللّه له دعاءه وجزاه بذلك على تضحياته.

وقوله: {وَوَهَبْنَا} الهبة العطية بغير عوض، فإن ذلك كان فضل اللّه تعالى عليه لا عن استحقاق بالذات، فلا أحد يستحق على اللّه شيئاً، وكل أعمال العباد لا تكون عوضاً عن نِعَمه التي أغدقها عليهم إلاّ بفضل اللّه تعالى ورحمته، كما مرّ.

ص: 192


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 66-68.
2- سورة البقرة، الآية: 213.

وقوله: {كُلًّا هَدَيْنَا} أي هديناهما لنجعل الوصية في أهل بيت إبراهيم (عليه السلام) ، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «كلاً هدينا لنجعلها في أهل بيته»(1)، والظاهر أن هذه هداية خاصة تجعل الشخص قابلاً للنبوة.

وقوله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} إضافة ذكر نوح (عليه السلام) هنا مع أن الكلام حول إبراهيم لأجل بيان استمرار الهداية الخاصة - عبر النبوة والتبليغ - من زمان نوح (عليه السلام) وعدم انقطاعها، وهذا ما تحقق أيضاً في نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث اتصلت نبوته بنبوة الأنبياء من قبله، واستمرت الهداية في ذريته الأئمة(عليهم السلام) من بعده، وكما كان نوح على فترة من الرسل بعد آدم مع وجود أوصياء مخفيين كذلك كانت نبوة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على فترة من الرسل مع وجود أوصياء مخفيين لعيسى وإبراهيم (عليهما السلام) .

وقوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} عطف على قوله: {نُوحًا} فالمعنى وهدينا من ذريته داود وسليمان... إلى آخرهم، كما أنّ الظاهر أن مرجع الضمير هو كلٌ من إبراهيم ونوح (عليهما السلام) فالمعنى ومن ذرية كل ٍ منهما، وليس الضمير لإبراهيم (عليه السلام) وحده؛ لأن لوطاً (عليه السلام) لم يكن من ذريته بل كان ابن أخته، ولا لنوح وحده لأن الكلام حول إبراهيم وليس حول نوح وإنما ذكر نوح لأجل بيان اتصال الهداية، وبذلك يتضح عدم منافاة الروايات التي أرجعت الضمير إلى نوح والروايات التي أرجعته إلى إبراهيم (عليه السلام) (2).

وقيل: إن اللّه تعالى صنف الأنبياء من ذريته إلى ثلاثة أصناف كل صنف

ص: 193


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 594؛ عن تفسير العياشي 1: 367.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 591-595.

ذكرهم في آية ولعل ذلك لاختلاف خصوصياتهم، ولذا لم يذكروا بالترتيب الزماني ولا بالترتيب حسب الفضيلة.

فالقسم الأول: داود إلى هارون، وهؤلاء الذين جمعوا بين النبوة والرئاسة الدنيوية فكانوا ملوكاً أو وزراء أو سادة لقوهم، ولذا أتَمّ الآية بقوله:{وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} حيث إن إبراهيم أحسَنَ فجمع اللّه لبعض ذريته النبوة والملك.

والقسم الثاني: زكريا إلى إلياس، وهؤلاء امتازوا بالزهد الشديد والإعراض عن الدنيا ولذّاتها، ولذا عبر عنهم بقوله: {كُلٌّ مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} لأن ظهور الصلاح في الزهاد أوضح.

والقسم الثالث: إسماعيل إلى لوط، وهم كانوا أنبياء بين المنزلتين فكانت حياتهم حياة طبيعية.

أو لأنهم ابتلوا ببلايا عظيمة نجحوا فيها فكانت سبباً لتفضيلهم، ولذا عبر عنهم بقوله: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ} واللّه العالم.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} هذا راجع إلى إبراهيم أو نوح (عليهما السلام) ، أي لمّا أحسنا جزيناهما بذرية جمعت بين النبوة والملك.

وقوله: {كُلٌّ مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} أي كانوا صالحين في أنفسهم، وصالحين لتبوّء منصب النبوة؛ لأن الصلاح درجات وأعلى درجاته ما كان عليه أولو العزم من الرسل، ولذا دعا يوسف (عليه السلام) فقال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّٰلِحِينَ}(1)، وكأنّ المعنى هديناهم لكونهم صالحين.

ص: 194


1- سورة يوسف، الآية: 101.

وقوله: {فَضَّلْنَا عَلَى الْعَٰلَمِينَ} تفضيل الأنبياء على العالمين غير الأنبياء والأوصياء، وهذا لا ينافي تفضيل بعض الأنبياء على بعض حتى في زمان واحد كتفضيل موسى على هارون (عليهما السلام) ، كما قال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلَىٰ بَعْضٖ}(1)، وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۘ}(2)، كما لا ينافي تفضيل الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) على الأنبياء باستثناء جدهم رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ وذلك لأن تفضيلهم إنما هو بالهداية الخاصة - التي تكون مع النبوة أو الإمامة - وهذه الهداية الخاصة لا تكون في سائر الناس وبذلك فضّل اللّه الأنبياء والأوصياء على عموم الناس، وليست الآية في مقام التفاضل بينهم، كما تقول الأتقياء أفضل من غير الأتقياء وهذا لا ينافي التفاضل في الأتقياء أنفسهم، وبما ذكرناه يتبيّن أنه لا حاجة إلى تقييد {الْعَٰلَمِينَ} بعالمي زمانهم فإنه يستلزم التخصيص في الأنبياء المعاصرين كإبراهيم ولوط (عليهما السلام) ، وكموسى وهارون (عليهما السلام) .

الثالث: قوله تعالى: {وَمِنْ ءَابَائِهِمْ وَذُرِّيَّٰتِهِمْ وَإِخْوَٰنِهِمْ وَاجْتَبَيْنَٰهُمْ وَهَدَيْنَٰهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}.

عطف على {كُلًّا} في قوله: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا...}، والمعنى أن الأنبياء ليسوا منحصرين في هؤلاء المذكورين وإنّما ذكروا كمثال ولكونهم أعرف من غيرهم حيث ورد اسمهم في الكتب السابقة، ولعل الغرض هو بيان اتصال الهداية؛ إذ الأنبياء المذكورون زمان بعضهم غير متصل بالآخرين فبين نوح

ص: 195


1- سورة الإسراء، الآية: 55.
2- سورة البقرة، الآية: 253.

وإبراهيم (عليهما السلام) فاصل زمني، وبين يوسف وموسى (عليهما السلام) فاصل وهكذا، فيقال إن هؤلاء كان لهم آباء وإخوان وذرية كانوا أنبياء أيضاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْنَقْصُصْ عَلَيْكَ}(1).

من أوصاف الأنبياء(عليهم السلام)

ثم إن الآية بينت ثلاثة أوصاف لهم:

1- التفضيل على العالمين: فكل نبي أفضل من الناس العاديين وإلاّ لم يكن وجه لجعله نبياً عليهم إذا تساووا، وحتى الأنبياء في العصر الواحد لا يكون المفضول إماماً على الفاضل، بل الأمر بالعكس، ولذا كان إبراهيم (عليه السلام) إماماً على لوط (عليه السلام) ، وكان لوط رسولاً إلى قومه لكنه كان تابعاً لإبراهيم وشريعته، وقد ذكرنا تفصيله في شرح أصول الكافي(2)، فراجع.

2- الاجتباء، وأصل الجبي هو الجمع(3) ولذلك يقال للحوض: جابية، أي الجامع للماء، ويقال لجمع الضرائب: جباية، واللّه سبحانه جمع الأنبياء على طريق الاصطفاء(4)، فيكون معنى الاجتباء قريباً من معنى الاصطفاء - الذي هو أخذ صفو الشيء - وإن كانت استعمالاتهما مختلفة، وقيل: قد يستعمل الاجتباء في اختيار النخبة من النخبة، كقوله تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ}(5).

ص: 196


1- سورة غافر، الآية: 78.
2- شرح أصول الكافي 3: 50-59.
3- مقاييس اللغة: 217.
4- مفردات الراغب: 186.
5- سورة آل عمران، الآية: 179.

3- الهداية: وهي هنا بمعنى الإيصال إلى المطلوب؛ لأنها قد تكون بمعنى إراءة الطريق سواء سار فيه الشخص أم لم يَسِر، كقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْفَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ}(1)، والمقصود هنا الهداية الخاصة التي بها صلحوا للنبوة عن طريق إراءة ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ...} الآية.

كأنّ الغرض من هذه الآية بيان أن كل ما لهؤلاء الأنبياء من الفضل لا ينفعهم مع الشرك، بل يكون الشرك مبطلاً لجميع أعمالهم الصالحة؛ إذ إن هذا التفضيل لا يسلب منهم الاختيار فيمكنهم اختيار الشرك لكنهم لن يفعلوا ذلك، كما أن العصمة كذلك فليست جبراً لهم بل إعطائهم ملكة نفسية وعلماً بالحقائق يكونان سبباً للامتناع عن ارتكاب القبائح باختيارهم، وفي هذا تحذير لعامة الناس الذين هم دون الأنبياء والأوصياء بأنه لا تساهل في الشرك مع أيِّ أحد كان.

وقوله: {ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ} لبيان أن طريقة الأنبياء لم تكن من عند أنفسهم، بل ألهمهم اللّه بها وأوحاها إليهم.

وقوله: {يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} إمّا بمعنى الهداية الخاصة بالأنبياء والأوصياء(عليهم السلام)، وقد جعلها اللّه تعالى في بعض خلقه؛ إذ ليس من الحكمة خلق جميع الناس أنبياء، وإما الهداية العامة بالإيصال إلى المطلوب فهي خاصة لمن كان قابلاً لها غير معاند، فإن عاند ختم اللّه على قلبه وتركه حتى يضلّ، وأما الهداية العامة بمعنى إراءة الطريق فهي للجميع حتى

ص: 197


1- سورة فصلت، الآية: 17.

المعاندين، وذلك بتهيأة الأسباب الطبيعية لوصولها إليهم عبر الأنبياء وأوصيائهم، وليس من الواجب عقلاً إيصالها للجميع بلا استثناء كي يقال:إن هناك ناساً عاشوا في فترة من الرسل أو في الأماكن النائية وهم جهّال قاصرون فكيف لم يريهم اللّه تعالى الطريق؟

إذ نقول في الجواب: إن الغرض من الخلقة يحصل بإراءة الطريق في الجملة واهتداء مجموعة من الناس ولا دليل على وجوب إراءة الطريق للجميع. نعم، لا يصح عقاب القاصر وهذا شيء آخر، مضافاً إلى تحقق الهداية الفطرية في الجملة حتى للقاصرين؛ لأن فطرتهم تدلهم على وجود خالق لهم وعلى لزوم عبادته وعلى حسن بعض الأمور وقبح بعض آخر.

وقوله: {لَحَبِطَ عَنْهُم} الحبط البطلان، وقيل: ضُمنّ معنى الزوال ولذلك تمت تعديته ب(عن)، وقبول العمل مشروط بالإيمان والاستمرار عليه فمن علم اللّه تعالى بأنه سيرتد لا يقبل عمله من الأول، كما يمكن تقدير قبوله حين إيمانه ثم تقدير إبطاله حين ارتداده، فإن التقدير فعل من أفعال اللّه تعالى وهو القادر على تقدير شيء لمصلحة ثم تغيير ذلك التقدير لمصلحة أخرى مع علمه بهما من الأزل، كما أنه يأمر بشيء لمصلحة ثم ينسخ ذلك الحكم لمصلحة أخرى كما في أمر إبراهيم بذبح إسماعيل (عليهما السلام) ، وقد مرّ بحث النسخ والبداء والحبط، فراجع.

الخامس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ...} الآية.

كأنّ الغرض بيان أن هؤلاء مع فضلهم وعطايا اللّه تعالى لهم قد كذّبهم

ص: 198

الناس لكن لم يضرهم التكذيب؛ وذلك لاستمرار خط التوحيد بأنبياء آخرين، وفي ذلك تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن تكذيب قومه لا يضرّ به ولابرسالته؛ إذ قيّض اللّه مؤمنين يحملون لواءها.

وقوله: {الْكِتَٰبَ} إيتاؤهم الكتاب تارة مباشرة من غير واسطة كالتوراة لموسى (عليه السلام) ، وتارة بواسطة نبيّ آخر كالتوراة لهارون (عليه السلام) حيث نزلت عليه بواسطة موسى (عليه السلام) ، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَىٰةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ}(1)، وإنزال لفظ الكتاب وإن كان عاماً لجميع الأمة إلاّ أن كل تفاصيله وحقائقه لم ينزل إلاّ على الأنبياء والأوصياء، قال تعالى: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ}(2).

وقوله: {وَالْحُكْمَ} للحكم مصاديق متعددة منها الحكمة والشريعة والنبوة والقضاء والسلطة، إلاّ أن الظاهر أن المراد هنا: الحكم بين الناس سواء عبر القضاء أو الإفتاء.

وقوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ} الضمير في {بِهَا} للنبوة؛ لأنها الأقرب لفظاً ويلازم الكفر بالنبوة كفرهم بالكتاب والحكم، فكأنه قال: فإن يكفر بجميعها، ويمكن أن يكون مرجع الضمير (هذه) المصطيدة من ذكر الكتاب والحكم والنبوة، فكأنّه أشار إليها فقال: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا...}، و{هَٰؤُلَاءِ} أهل مكة، أو جميع الكفار المعاصرين للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا} الوكيل هو من يقوم برعاية الشيء، فالمعنى إنّ كفر

ص: 199


1- سورة المائدة، الآية: 44.
2- سورة القصص، الآية: 52.

هؤلاء لا يضر لأن اللّه تعالى قيّض أناساً آخرين يراعون شأن النبوة بالاحترام والتبجيل والتبليغ والدفاع؛ لأن الغرض من الخلق الرحمة والتي تكون عنطريق العبادة والتي لا بد من معرفتها بوحي من اللّه تعالى، فلا يعقل أن تضيع المعرفة بشكل كامل؛ لأن ذلك نقض لغرض الخلقة، ولذا هيّأ اللّه أسباب بقاء الدين أبداً حتى في أحلك الظروف إلى أن يغلب على جميع الأديان، قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1)،

وقال تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَٰلَكُم}(2).

وقوله: {قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ} يراد منهم الناس الذين علم اللّه تعالى ثباتهم على الإيمان إلى يوم موتهم، فلا يشترط كون هؤلاء أنبياء أو أوصياء، بل كما يشمل المعصومين ومن تلا تلوهم كذلك يشمل المؤمنين العاديين، وقد ذكرت الروايات بعض المصاديق، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن تكفر به أمتك فقد وكلتُ أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلتك به فلا يكفرون به أبداً»(3)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن صاحب هذا الأمر محفوظ له أصحابه لو ذهب الناس جميعاً أتى اللّه له بأصحابه، وهم الذين قال اللّه عزّ وجلّ: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ}(4)، وهم الذين قال اللّه فيهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى

ص: 200


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- سورة محمد، الآية: 38.
3- الكافي 8: 119.
4- سورة الأنعام، الآية: 89.

الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(1)»(2).

معنى اقتداء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهدى الأنبياء(عليهم السلام)

السادس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ اقْتَدِهْ}.

بعد أن بيّن أن هناك أناساً يؤمنون بالإسلام والقرآن يأمر اللّه تعالى رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين في التوحيد والدعوة إليه والصبر على أذى المشركين وتكذيبهم.

وغير خفي أن اللّه لم يأمر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالاقتداء بهم، بل أمره بالاقتداء بالهدى الذي أنزله عليهم؛ إذ لا يصح اقتداء الأفضل بالمفضول، واللّه تعالى كما أوحى ذلك الهدى إلى الأنبياء الماضين كذلك أوحاه إلى رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولذا لم يأمر اللّه نبيّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باتّباع إبراهيم (عليه السلام) بل أمره باتّباع مِلة إبراهيم، فلم يأخذ الرسول تلك الملة عن إبراهيم بل أوحاها اللّه إليه كما أوحاها إلى إبراهيم.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} كُرّرت هداية اللّه لهم لأنه كالمقدمة لأمره بالاقتداء بهداهم، وقيل: ما مضى هو الهداية إلى التوحيد، وهذا هداية إلى الصبر.

وقوله: {فَبِهُدَىٰهُمُ} من إضافة المصدر إلى المفعول، فالمعنى فبهدى اللّه إياهم اقتده، وبذلك يتضح وجه إضافة الهدى إلى الأنبياء مع أنه من اللّه تعالى، والمصدر كما يضاف إلى الفاعل كذلك يضاف إلى المفعول كثيراً.

وقوله: {اقْتَدِهْ} الاقتداء هو أخذ الغير أسوة واتّباعه، والهاء للوقف،

ص: 201


1- سورة المائدة، الآية: 54.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 594.

ولعل الإتيان بها هنا للإشارة إلى أنه لا شيء وراء الاقتداء بهدى اللّه تعالى، فعليك أن تقتدي وحسب.

السابع: قوله تعالى: {قُل لَّا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰلِلْعَٰلَمِينَ}.

كأنّ المقصود اقتدِ بهدى الأنبياء وبلّغه للناس ولا تطلب منهم أجراً؛ إذ ذلك من هدى الأنبياء حيث لم يطلبوا من أقوامهم الأجر، وقد ذكر اللّه تعالى في سورة الشعراء وغيرها مقولة الأنبياء: {وَمَا أَسَْٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(1).

وقوله: {إِنْ هُوَ} أي القرآن أو تبليغ الوحي.

وقوله: {ذِكْرَىٰ لِلْعَٰلَمِينَ} أي تذكير وموعظة لجميع الناس، والآية تدلّ على عموم رسالة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لجميع الناس، بل وغيرهم من العوالم.

الأئمة(عليهم السلام) أبناء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

فذلكة: لطالما أراد المناوؤن لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) جحد كونهم أبناء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إلاّ أنهم(عليهم السلام) استدلوا بجملة من آيات القرآن الكريم لإثبات كونهم(عليهم السلام) من ذريته وأبناءه(2)، منها: آية المباهلة حيث قال: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ...}(3) ولم يكن مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الأبناء يوم المباهلة إلاّ الحسن والحسين (عليهما السلام) ، ومنها: هذه الآية التي دلّت على أن عيسى (عليه السلام) من ذرية إبراهيم ونوح (عليهما السلام) مع أنه ينتسب إليهما عن طريق أمّه

ص: 202


1- سورة الشعراء، الآية: 109، 127، 145، 164، 180.
2- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 591-595.
3- سورة آل عمران، الآية: 61.

مريم (عليها السلام) ، ومنها: آيات الإرث حيث يدخل أبناء البنت في قوله: {يُوصِيكُمُاللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ}(1) إذا لم يكن للميت أبناء مباشرين، ومنها: قوله تعالى: {وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ}(2)

حيث تحرم حليلة ابن البنت بهذه الآية، وذلك يدلّ على أن ابن البنت من صلب الإنسان.

نعم، لما كان العرب قبل الإسلام ينفون بنوة أبناء البنت جائت هذه الشبهة والتي كانت تروق للحكّام الظلمة الذين ما كانوا يطيقون انتساب الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 203


1- سورة النساء، الآية: 11.
2- سورة النساء، الآية: 23.

الآيتان 91-92

اشارة

{وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلَا ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 91 وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ 92}

لمّا بيّن إتيان الأنبياء الكتب ردّ على من زعم عدم نزول كتاب على الأنبياء ليكذّب بالقرآن والنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال:

91- {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ} لم يعظّموه ولم يعرفوه {حَقَّ قَدْرِهِ} ما يليق به من التعظيم والمعرفة {إِذْ} حينما {قَالُواْ} قاله بعض أحبار اليهود: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ} لم ينزل كتاباً ولا وحياً، وهذا من الجهل بحكمة اللّه ورحمته؛ إذ بعث الرسل وإنزال الكتب من الحكمة والرحمة، {قُلْ} في جوابهم: إن اللّه أنزل التوراة وأنزل على الأنبياء غيرها مما فيه العلم ف{مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ} وهو التوراة وهذا إلزام لهم بما يلتزمون به {نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} أي هو نور في نفسه كما أنّه ينوّر الطريق للناس، كما أن النور ظاهر بنفسه ومظهر لغيره.

ص: 204

ثم يبين اللّه أن الكذب دأبهم فلا يُستبعد منهم التكذيب بالقرآن وبالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيخاطبهم قائلاً: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} أوراق متناثرة، حالكونكم {تُبْدُونَهَا} إن لم تعارض مصالحكم {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} مما يعارض مصالحكم {وَعُلِّمْتُم} بواسطة الأنبياء {مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلَا ءَابَاؤُكُمْ} فكيف تقولون بأن اللّه لم ينزل على بشر من شيء؟

وحيث أبهتهم الجواب {قُلِ اللَّهُ} هو الذي أنزلها وأنزل ذلك العلم، {ثُمَّ} إنهم قد يغالطون في الجدال ويعاندون ف{ذَرْهُمْ} اتركهم {فِي خَوْضِهِمْ} باطلهم من التكذيب وغيره {يَلْعَبُونَ} فإن جدال المعاند بعد إتمام الحجة عليه لا وجه له.

92- {وَ} كما أن التوراة فيها هدى ونور كذلك {هَٰذَا} القرآن {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ} خيره كثير غير زائل ومن كل الجهات {مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي الذي قبله فهو يصدّق الكتب السماوية السابقة، وبركته وتصديقه دليلان على أنه منزل من اللّه تعالى {وَلِتُنذِرَ} عطف على «مبارك»، أي أنزلناه للبركة والتصديق ولإنذار {أُمَّ الْقُرَىٰ} مكة المكرمة {وَمَنْ حَوْلَهَا} في المشارق والمغارب، أي أهل العالم أجمع، {وَ} لا يضر تكذيب من كذّب بالقرآن؛ إذ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ} أي يؤقنون بها وبحسابها {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي ينفعهم الإنذار فيؤمنون بالقرآن أو بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَهُمْ} ملتزون عملاً بالأحكام ف{عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} وذكرها لأنها أهم الأحكام الشرعية والتي تحتوي على جميع المعتقدات أيضاً.

ص: 205

بحوث

الأول: الآيتان وما بعدهما في سياق الآيات السابقة التي دلت على نبوة الأنبياء من ذرية إبراهيم (عليه السلام) وأن الحجة متصلة لا انقطاع فيها، حتى آلالأمر إلى أن بعث اللّه تعالى رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنزل عليه القرآن الكريم وقد كذبوا بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالقرآن عبر إنكار أصل الرسالة، وكان ذلك من بعض أحبار اليهود، فيكون جوابهم:

أولاً: النقض عليهم بأنهم يؤمنون بنبوة موسى (عليه السلام) وبالتوراة النازلة عليه.

وثانياً: بأن إنكار النبوة والكتاب هو بسبب عدم معرفتهم للّه تعالى وعدم تعظيمه؛ إذ الخلق من غير هداية عبث ويخالف الحكمة، ولولا الهداية لما كان معنى للمعاد، حيث لا يحاسب الإنسان إلاّ على مخالفاته فلو لم تكن الهداية لم تكن مخالفة، ثم لولا المعاد لم يكن معنى لأصل الخلق، بل كان عبثاً ولعباً وقد تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَٰلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}(1)، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ}(2)، وقد مرّ الكلام في ذلك، وعليه فالحكمة والرحمة يقتضيان بعث الرسل وإنزال الكتب، فمن أنكرهما فقد جهل اللّه ولم يعظّمه التعظيم اللائق به، ثم يبيّن اللّه تعالى أن القرآن نازل من عنده؛ لأنه مبارك ويصدّق الكتب السالفة ويتضمن الإنذار، كما سيأتي توضيحه.

ص: 206


1- سورة المؤمنون، الآية: 115-116.
2- سورة الدخان، الآية: 38.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ}.

أصل (القدر) بمعنى ما عليه الشيء من الواقع، فالمخلوقات قدرها هوحجمها وكمّيتها وكيفيتها، وقدر اللّه تعالى هو مكانته اللائقة به، وذلك عبر معرفته ووصفه بما وصف به نفسه من غير تشبيه ولا تعطيل وتعظيمه وتبجيله، فالمعرفة الصحيحة والوصف الصحيح والتعظيم اللائق به كل ذلك من قدر اللّه تعالى، فقوله: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ} أي لم يعرفوه ولم يعظموه ولم يصفوه، وقوله: {حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما هو من حقه تعالى.

وقوله: {إِذْ قَالُواْ...} بيان مصداق عدم تقديرهم حق قدره؛ لأن كلامهم يستلزم إنكار الآيات التي أنزلها، كما أن ذلك يستلزم إنكار حكمته ورحمته، إذ إرسال الرسل وإنزال الكتب هي رحمة للعباد ولطف بهم، كما أنها مقتضى حكمته تعالى حيث لم يخلق الخلق عبثاً.

وقائل القول هم المشركون واليهود جمع كلامهم ثم ردّ عليهم بالتفصيل بعضه ردّ على المشركين وبعضه ردّ على اليهود، ولا يلزم انطباق الجواب بكلّه على كلام المشركين كي يقال إن الآية خاصة باليهود لأنهم هم الذين جعلوا التوراة قراطيس وأخفوا بعضاً منها وأظهروا بعضاً وليس المشركون كذلك! وذلك لما عرفت من جمع كلامهم ثم ردّهم بردّ عام كل جزء منه ينطبق على بعضهم، كما لو خاطبت اليهود والنصارى وقلت لهم: من بعث موسى وعيسى (عليهما السلام) ، فكلامك صحيح وبليغ مع أن اليهود ينكرون رسالة عيسى (عليه السلام) .

ص: 207

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى...} الآية.

كأنّه جوابان عن كلامهم حيث أنكروا الوحي وأنكروا الكتاب فقالوا:{مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ} سواء كتاب أم غيره، فيقال لهم: إن اللّه أنزل التوراة على موسى وفيها دلالة على صدقها بأنها نور وهدى أولاً، كما علّمكم أموراً من العقائد والشرائع وغيرهما ثانياً.

وقوله: {نُورًا وَهُدًى} كأن المقصود أنه نور بنفسه وينير الدرب للناس، أو الهداية هنا بمعنى الإيصال إلى المطلوب، فيقال إنه نور يراه الجميع ويوصل من اهتدى به إلى السعادة والجنة.

وأيضاً هذا يصلح بأن يوجّه إلى المشركين أيضاً، فيقال إن دليل صدق التوراة غير المحرفة معها حيث إنها نور وهدى.

وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} إمّا هذا تأكيد لكونه كتاباً منزلاً من اللّه تعالى، فيقال كيف تنكرون إنزال الكتاب على الرسل مع أن في بيوتكم التوراة مكتوبة في أوراق، وإمّا جملة معترضة لبيان سبب تكذيبهم لإنزال الكتب على الأنبياء بأنهم أناس لا يتورعون، بل يتبعون مصالحهم لذلك يخفون كثيراً من التوراة وخاصة التي هي في وصف النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن هكذا دأبه لا يستبعد منه التكذيب بالقرآن أو تكذيب الرسل والكتب جميعاً، وهذا أظهر، فعلى الأول يكون قوله: {تُبْدُونَهَا} استدلالاً على وجود الكتاب عندهم بحيث لا يتمكنون من إنكار ذلك، و{تُخْفُونَ} لتتمة الكلام ولبيان إخفائهم وصف الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعلى الثاني مجموع

ص: 208

{تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ...} لبيان كونهم غير ورعين ومصلحيين، وعلى كل حال فالجملة فيها إشعار بالتواء نفوسهم كي لا يستبعد أحد تكذيبهم بالقرآن وبالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من غير سبب حق.

وقوله: {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ...} كأنّ هذا وجه آخر يثبت أن اللّه أنزل شيئاً على بشرٍ، وهو العلوم التي تعلموها عن طريق الوحي من غير التوراة كالعلم الذي في الزبور أو الوحي الذي لم يكن في كتابٍ مثل الأحاديث القدسية والعلوم التي بثّها الأنبياء(عليهم السلام).

ويمكن أن يكون ذلك ردّاً على توهم المشركين واليهود بأن القرآن إن كان حقاً فلماذا لم ينزل على آبائنا، فيقال: إن التوراة كذلك لم تنزل على بني إسرائيل قبل موسى، وذلك لا يضر بكونها حقاً.

وقيل: إن المقصود أن هناك علوماً لا يمكن للإنسان أن يصل إليها إلاّ عبر الوحي كالعلوم المرتبطة بالعقيدة والشريعة، ومعرفتهم بها دليل على أن اللّه تعالى قد أنزلها على الأنبياء، مع أنهم وآبائهم بطبعهم لم يكونوا ليعلموا بها لولا هداية اللّه لهم بإنزالها عليهم!

الرابع: قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}.

إنما كلّفه بهذا القول لأنه بقوله: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ...} أخذهم بالحجة التي لا يتمكنون من ردّها، فحينئذٍ يبهتون فكان لا بدّ من ذكر الجواب وهو {قُلِ اللَّهُ} ليكون أقوى في أخذهم بالحجة، أو لأنهم حيث يحيرون في الجواب يبدأون بالمغالطة فلذا ينبغي أن لا يترك لهم مجال وذلك عن طريق الجواب ومن ثَمّ تركهم.

ص: 209

ترك المعاند بعد إلقاء الحجة عليه

وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ} أي اتركهم؛ لأن المعاند لا بدّ من أن تلقى وتتمّ عليه الحجة، ومن ثَمَّ لا وجه لاستمرار الجدال معه؛ لأنه يأتي بالمغالطات والمراء مما هو لعب لا جدّ فيه، فيكون ذلك تضييعاً للوقت وعبثاً، قال تعالى: {وَلَاتُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}(1)، وفي المجمع: «ليس هذا على إباحة ترك الدعاء والإنذار، بل ضرب من التوعد والتهديد، كأنّه قال: دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم»(2).

وقال العم الشهيد: إن كلمتك قوية فكن واثقاً منها، يكفيك أن تقول: (اللّه)، يكفيك أن تزرع كلمتك في المختبر وتتركها تنمو وتنتشر على غيرها بمقدار ما لها من الذاتيّة، وينحسر غيرها عن طريقها بمقدار ما يفتقر إلى الذاتيّة، يكفيك أن تطرح كلمتك في سوق الفكر وتدعها تتصارع وتتغلّب فقل أنت كلمتك وامش ِ، فكلمة (اللّه) قوية لا تحتاج أن تضفي أنت قوتك عليها لتنتصر فتلحّ على الناس بقبولها، فهي ليست كالكلمات العجفاء التي لا تستطيع الحراك وتكتسب حرارتها من حرارة قائلها... .

إن كلمتك ليست ترفاً ولا عبثاً، وإنّما هي حياتية تحاول تطوير سلوك الناس أفراداً ومجتمعات، وكل كلمة حياتية مهما كانت قوية لا يمكن أن تمتلك الآفاق فور إطلاقها، وإنما تستهلك مساحة زمنية قبل أن يطمئن إليها المجتمع، ومساحة زمنية قبل أن تنتصر في الصراع الذي هو طبيعي في كل تغيير، فللناس مصالح يحرصون عليها، والأفكار الرئيسية في المجتمع تنظم

ص: 210


1- سورة العنكبوت، الآية: 46.
2- مجمع البيان 4: 155.

مصالح الناس في مجاري معيّنة، ونقل تلك المصالح من مجاريها المألوفة إلى مجاري جديدة لا يكون إلاّ بعد التأكّد من أنها أيسر من المجاري السابقة، وهذا التأكّد لا يحصل إلاّ بعد تجارب عديدة متشابهة في الإنتاج،ولتكن التجارب كلّها ناجحة ومتشابهة في الإنتاج كما هو واقع تجارب الحق، ولكن جريان تلك التجارب على أرضية الأفراد وفحص الآخرين لها يستهلكان مساحة زمنية... فعلى أصحاب الأفكار الجديدة - إذا كانوا واثقين منها - أن لا يركضوا خلفها لاهثين، وإنما يكفيهم إطلاقها بصوت جهوري مفهوم للجميع ثم يعتزلوا حتى يفحصها الناس ويؤمن بها فئة وينشب بينها وبين الفئات الأخرى صراع ويمرّ الصراع طبيعياً وبأقل التضحيات ريثما يتم نقل المصالح من مجاريها المألوفة إلى المجاري التي تشقها الفكرة الجديدة ثم يعودوا لقيادة الناس بتوجيه الفكرة.

وهكذا فعل النبي الأكرم - وقد جاء بالإسلام - يوم هاجر إلى الشِعب، ويوم هاجر إلى الطائف، ويوم هاجر إلى المدينة المنوّرة، غير أن جذرية الإسلام، أدّت إلى عسر ولادة القناعة في النفوس فأحوجته إلى هذه الهجرات.

وهكذا فعل أمير المؤمنين - وقد جاء بفكرة التركيز - يوم اعتزل الخلافة خمساً وعشرين سنة.

وإذا استعجل صاحب الفكرة فإنه لا يستطيع طيّ الزمان، وإنما يمرّ كل شيء في مجراه الطبيعي وهو وحده الذي يدفع الثمن: من مجتمعه إذا كان في موقع القوة حيث يضحي بالكثير منه، ومن نفسه إذا كان من موقع

ص: 211

الضعف فيبعد أو يسجن أو يقتل حتى يتم نقل المصالح تدريجياً وكما لو لم يستعجل.

وبصيغة ثانية: إن اعتراف أيّ مجتمع من المجتمعات بفكرة حياتيةيتوقف على توفر أربعة عوامل على النحو التالي:

1- الإيمان بالفكرة من قِبل عناصر من صميم ذلك المجتمع.

2- الثقة في سلامة القرار بتنفيذ الفكرة، بمعنى الثقة بالقيادة المتولية لتنفيذ الفكرة.

3- الثقة في المنفذين بوجود أجهزة مقتدرة تمتلك حمل القرار من القيادة لوضعه على الواقع الذي يسعى إلى تغييره.

4- التطابق بين ثقل الفكرة وحجم القدرة بأن تكون العناصر المكلفة بالتغيير قادرة بالفعل على التغيير بالإمكانات أو بالتضحيات.

وأما تكليف مجتمع من المجتمعات بتنفيذ فكرة تفوق طاقاته يعني تحويل الكفاح إلى عملية إهدار للطاقة واستنزاف لوسائلها لتحقيق الهزيمة، انتهى(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ...} الآية.

بيّن اللّه تعالى في هذه الآية بعض صفات القرآن الدالة على كونه من اللّه تعالى:

1- قوله: {مُبَارَكٌ} أي خيره دائم وكثير ومن كل الجهات، ولا يكون كذلك إلاّ ما أنزله اللّه تعالى؛ لأن الكتاب المنتحل باطل فلا يكون دائماً

ص: 212


1- خواطري عن القرآن 1: 439-441، باختصار.

وكثير الخير، بل يكون شراً، وحتى لو كانت فيه بعض المنافع فإنها موقتة زائلة كالزبد الذي يذهب جفاءً.

2- وقوله: {مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} فإن التوراة وغيرها من الكتببشّرت بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبالقرآن، فكان هذا الكتاب تصديقاً لها، فصِدقُها يلازم صدقَه، كما أن القرآن يصدّق بها وتصديقه إياها دليل صدقه؛ لأن الأنبياء كلهم وكتبهم كلها من الواحد الأحد فلا اختلاف فيها ولا تفرّق، وكما أن القرآن لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً كذلك الكتب السماوية إذا كانت من عند غير اللّه لتناقضت في ما بينها، وهذا لا ينافي نسخ بعض الأحكام؛ لأنه ليس اختلافاً وتناقضاً، بل بيان انتهاء أمد بعض الأحكام.

وقوله: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا} عطف على {مُبَارَكٌ}، أي هو كتاب كثير الخير ويصدّق الأنبياء من جهة، ومن جهة أخرى فيه إنذار لأهل العالم، فليس الكتاب لمجرد البركة والتصديق، بل يضاف إلى ذلك وجوب عمل الناس به بواسطة إنذاره.

و{أُمَّ الْقُرَىٰ} مكة سُمّيت بذلك لأنها أصل الأرض حيث دُحيت من تحتها فهي أول بقعة خلقت - كما في الأحاديث(1)- ، و{وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني العالم أجمع فهي القرى التي أرسل الرسول إليها، ولعلّه للدلالة على عموم رسالته لم يعبر عنها باسمها مكة.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ...} كأنّه تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنّ

ص: 213


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 8.

تكذيبهم لا يضرّه ولا يضرّ بالدعوة؛ وذلك لوجود مؤمنين يعتقدون بالآخرة وبالقرآن ويلتزمون عملاً بالعبادات فجمعوا بين صحة العقيدة وحُسن العمل.وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ} أي يخافونها، وكأنّه تعريض بأولئك اليهود بأنهم غير متورعين فلا يخافون الآخرة لذلك كتموا بعض التوراة وأنكروا نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي تفسير الصافي: «فإن من صدّق بالآخرة خاف العاقبة، ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبّر حتى يؤمن به ويحافظ على الطاعة، وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعَلَم الإيمان»(1).

ص: 214


1- تفسير الصافي 3: 68.

الآيتان 93-94

اشارة

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَٰئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَٰتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ 93 وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰؤُاْ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ 94}

93- وكما يشركون في الألوهية كذلك قد يدّعون النبوة كذباً يريدون بذلك نقض نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأنكر اللّه عليهم ذلك قائلاً: {وَمَنْ أَظْلَمُ} أكثر ظلماً {مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأن غيّر في الآيات وحرّف فيها {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ} الحال أنه {لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} مثل عبد اللّه بن أبي سرح حيث كان يحرّف في كتابة القرآن وادّعى أنه أوحيت إليه آية من القرآن فعرفها قبل أن ينطق بها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} مثل القرآن، قال قولته هذا استهزاءً كالنضر بن الحرث أو ادعاءً للنبوة كمسيلمة، وظلمهم هذا لا يبقى بغير عقاب {وَلَوْ} للتمني {تَرَىٰ} والمراد حب رؤيتهم حال موتهم {إِذِ الظَّٰلِمُونَ} بالتكذيب والادّعاء

ص: 215

الباطل {فِي غَمَرَٰتِ الْمَوْتِ} شدائده التي تغشاهم {وَالْمَلَٰئِكَةُ} ملائكة قبض الروح أو العذاب {بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} أي يمدّون أيديهم لقبض روحهم أوعذابهم، قائلين لهم: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} لنقبضها، كأنه تغليظ وإهانة وتهكّم بهم، {الْيَوْمَ} حين القبض {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} عذاباً مع هوان شديد {بِمَا} بسبب الذي {كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ} تنسبونه إليه {غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَٰتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} فلا تؤمنون بها، فقولكم الباطل وعملكم الاستكبار.

94- {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} في الآخرة {فُرَٰدَىٰ} فلا الشركاء جاؤوا معكم لينصروكم، ولا الأموال والأولاد حملتموها معكم إلى الآخرة {كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٖ} حيث خُلقتم منفردين {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ} أي ما أعطيناكم من المال والولد والرئاسة ونحوها {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} لم تصحبوها معكم إلى الآخرة {وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} من الأصنام والآلهة {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} كذباً {أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰؤُاْ} أي زعمتم أنهم يشاركون اللّه في عبادتكم {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} انقطعت الأواصر بينكم وبينها فلا ينفعونكم {وَضَلَّ} بطل {عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} حيث تبين لكم عدم نفعها وعدم تمكنها من دفع الضرر عنكم.

بحوث

الأول: بعد ذِكر صنفين هم المؤمنون بالنبوة الذين وكلّهم اللّه بها، والذين ينكرون أصل النبوة زاعمين أن اللّه ما أنزل على بشر شيئاً... بعد ذلك

ص: 216

ذكر صنفاً ثالثاً من أدعياء النبوة والذين يدعونها كذباً أو يدعون بعض أمورها كالوحي، وهم بين محرّف في الكتاب ومغيّر فيه، وبين من يدعي أن آيات الكتاب نزلت عليه أيضاً كما نزلت على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبين منيدّعي النبوة وأن اللّه سيوحي إليه كتاباً، ثم يحذرهم اللّه تعالى من العذاب الشديد على هذه الافتراءات.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا...} الآية.

(الأظلم) هو الأكثر ظلماً وهو الذي يستكبر على اللّه تعالى سواء كان بادّعاء الألوهية، أم في اتخاذ الشريك، أم في الصدّ عن التوحيد، أم في الافتراء على اللّه بادّعاء النبوة أو بادّعاء آخر ليضل الناس عن سبيل اللّه، أم بالصدّ عن النبوة، أم بالإعراض عن آيات اللّه بعد التذكير بها، أم بمنع الناس عن ذكر اللّه في المساجد أو غيرها، كما ورد كل ذلك في آيات متعددة، ويجمعها الاستكبار على اللّه بآيّة كيفية كان، والآية هنا تذكر مصاديق ثلاث:

من مصاديق الأظلم

1- قوله: {افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بأن ينسب إلى اللّه شيئاً لم يقله سبحانه، ومصاديقه كثيرة إلاّ أن شأن النزول ابن أبي سرح الذي حرّف في القرآن الكريم(1).

2- وقوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} أي ادّعاء الوحي، وهذا أيضاً مصاديقه متعددة إلاّ أن شأن النزول ابن أبي سرح أيضاً الذي ادعى أنه قرأ آية من القرآن قبل أن يسمعها من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، مع أنه كان كاذباً في

ص: 217


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 10-14.

دعواه، وإنما أراد التبرير لارتداده واتهام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتكذيبه.

3- وقوله: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أيضاً له مصاديق كثيرة، فمنهم من هو مستهزء بالقرآن كالنضر بن الحارث، ومنهم مدّعي النبوةكمسيلمة الكذاب، قيل: لأن الأول والثاني كانا قول شخص واحد لذلك عطف بينهما من دون تكرار (مَن) الموصولة فقال: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ}، وأما الثالث فكان قول شخص آخر ولذا كرّر الموصول فقال: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ...}.

وقد ذكرت الروايات مصداقاً آخر لهؤلاء، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «من ادّعى الإمامة دون الإمام (عليه السلام) »(1).

الثالث: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَٰئِكَةُ بَاسِطُواْ...} الآية.

{لَوْ} للتمني ومعناها حب اللّه تعالى له، وذلك واقع حتماً لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحضر كل ميت كما في الأخبار المستفيضة فيبشّر المؤمن بالجنة، والكافر والمنافق بالنار(2)، والجزاء محذوف كأنّه قال: لرأيت أمراً فظيعاً وعذابهم شديداً.

وقوله: {الظَّٰلِمُونَ} اللام للعهد يعني هؤلاء المذكورين الذين هم أظلم الناس، أو للجنس، أي كل ظالم مصيره هكذا وهؤلاء أيضاً منهم.

وقوله: {غَمَرَٰتِ الْمَوْتِ} أصل الغمر بمعنى اشتمال الماء على الشيء

ص: 218


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 12؛ عن تفسير العياشي 1: 370.
2- راجع الروايات في الكافي 3: 128.

كاملاً، وشُبّه به ما يغشى الأشياء، وحيث إن المغمور في أشد الشدة ودونه الغرق، لذلك استعيرت الغمرة للشدة، فكأنّ شدة الموت أحاطت بالمحتضر من كل مكان.

وقوله: {وَالْمَلَٰئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بسط اليد بمعنى مدّها، وهؤلاء إما ملك الموت وأعوانه حيث يشدّدون على الكفار، وإما ملائكة العذاب ينتظرون موتهم ليبدأوا بعقوباتهم.

وقوله: {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} من المعلوم أن قبض الروح إنما يكون بواسطة الملائكة، فهذا القول لإذلالهم والتهكم بهم، وقيل: بل يؤمرون بأن يخرجوا هم أنفسهم زيادة في إيلامهم كما لو أمر الحاكم المحكوم بأن ينفذ العقوبة على نفسه بنفسه، والأول أظهر.

وقوله: {الْيَوْمَ} أي من هذه اللحظة التي هي لحظة قبض الروح يبدأ الجزاء، أو المراد الآخرة بمعناها الأعم، أي قد انتهت الدنيا حيث كنتم تُمهلون وبدأت الآخرة بموتكم حيث تُؤخذون بجريرتكم ولا إمهال بعدئذٍ.

وقوله: {عَذَابَ الْهُونِ} أي العذاب الجامع بين إيلامه الجسدي والنفسي بالهوان والذلة، و(هُون) شدة الهوان، وروي أنه عذاب العطش(1).

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ...} لبيان عدل اللّه تعالى، فإن هذا العذاب جزاء أعمالكم وهو الكذب على اللّه قولاً، والاستكبار عليه عملاً.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٖ

ص: 219


1- تفسير العياشي 1: 370.

وَتَرَكْتُم...} الآية.

بيان جزء من محاسبتهم حيث يظهر أنهم كانوا في غرور، وبذلك يتم تحذير الناس وإنذارهم بأن لا يعملوا كعمل هؤلاء من الافتراء على اللّهوالاستكبار عليه، وإلاّ كان مصيرهم كمصيرهم.

وقوله: {جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ} بيان عدم انتفاعهم لا بالشركاء ولا بما كانوا يملكونه في الدنيا من المال والولد.

وقوله: {كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٖ} أي في بطون أمهاتكم أو العوالم السابقة عليه كعالم الذر، ولعل الغرض من هذا هو تذكيرهم بأنهم كانوا فرادى ثم ملكوا واستقووا بالأموال والأولاد والأعوان، فلا يغترّوا بها لأنها أمور عارضة لم تكن ثم كانت ثم تسلب منهم.

وقوله: {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ} التخويل هو إعطاء الخَوَل - وهو المال ونحوه مما يتعهده الإنسان - ، وفي الآية إشعار بأنكم كفرتم بنعمة اللّه تعالى حيث خولكم المال والسلطة والأولاد ونحو ذلك لكنكم لم تقدّموا منها لآخرتكم ما ينفعكم فيها، والآن تركتموها لغيركم وحملتم وزرها وذنوبها.

وقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أي لم تتمكنوا من حمل شيء منها معكم.

وقوله: {وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} أي كما لم ينفعكم المال وغيره كذلك لم ينفعكم شركاؤكم المزعومون الذين عبدتموهم طلباً لشفاعتهم.

وقوله: {أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰؤُاْ} أي زعتم أن للّه نصيباً فيكم بعبادته، وللشفعاء المزعومين نصيباً فيكم بعبادتهم، وبعبارة أخرى زعمتم أن لهم فيكم حقاً كحق اللّه جلّ وعلا.

ص: 220

وقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي كانت هناك رابطة مودة بينكم وبين الشركاء المزعومين لكن الآن قد انقطعت تلك الرابطة فلا مودة بل بغضوبراءة، و(البين) هنا بمعنى الوصل والجمع(1)، فالكلمة من الأضداء قد تكون بمعنى الفرقة وقد تكون بمعنى الجمع(2).

وقوله: {وَضَلَّ عَنكُم} أي بطل وضاع، بمعنى تبيّن لكم بطلانه وعدم نفعه لكم.

ص: 221


1- راجع كتاب العين 8: 381.
2- راجع لسان العرب 13: 61.

الآيات 95-99

اشارة

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ 95 فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 96 وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ 97 وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَفْقَهُونَ 98 وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٖ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّٰتٖ مِّنْ أَعْنَابٖ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ انظُرُواْ إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ 99}

وكما أن الشركاء في الآخرة لا ينفعون كذلك في الدنيا، بل كل شيء بيد اللّه تعالى وقد بيّن ربوبيّته في كل شيء وذكر لذلك أمثلة، فقال:

95- {إِنَّ اللَّهَ} هو المحيي فهو {فَالِقُ} شاقّ {الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ} لينبت منهما؛ إذ هو الذي {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} فلذا أخرج الزرع من الحب وأخرج الأشجار من النوى، {وَ} كذلك اللّه تعالى هو المميت فهو {مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} كالحب والنوى من الزرع والشجر، فالحياة والموت بيده تعالى {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ} فهو الذي يفعل هذا دون شركائكم {فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ}

ص: 222

الاستفهام إنكارى، أي فكيف تُصرفون عن الحق الواضح إلى الباطل؟!

96- كما أن الليل والنهار إنّما هما بتقديره فهو {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} أي شاقّعمود الصبح عن ظلمة الليل وذلك لتعملوا وتبتغوا من رزقه {وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} هدوءاً للاستراحة، {وَ} جعل {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} حساباً للأوقات كالأيام والشهور والفصول والسنوات {ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ} اللّه {الْعَزِيزِ} الغالب في سلطانه {الْعَلِيمِ} بما هو الصالح، لا الشركاء التي لا تعي شيئاً.

97- {وَ} الأجرام السماوية إنما هي بتدبيره النافع لكم ف{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ} تعرفوا طريقكم {بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ} الليل في {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} لئلا تضلوا طريقكم {قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ} بيّناها فصلاً فصلاً لتستدلوا بها على توحيد خالقكم {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} لهم علم بأوضاع النجوم، أو إن المنتفع بهذه الآيات من يعلم بها دون الجاهل.

98- وكذلك أصل خلقكم وكيفيته إنما هما من اللّه تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم} خلقكم على كثرتكم {مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} آدم (عليه السلام) {فَمُسْتَقَرٌّ} أي موضع القرار {وَمُسْتَوْدَعٌ} أي محل الإيداع، والمعنى أنه كما أنشأكم كذلك أنشأ لكم مكان الاستقرار ومكان الإيداع الموقّت وهما الرحم والصلب، وتأويلهما بالإيمان الثابت والزائل، {قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ} بيناها بالتفصيل {لِقَوْمٖ يَفْقَهُونَ} يفهمون الأشياء ودلالاتها.

99- والأمطار والثمار أيضاً بتدبيره {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} جهة العلو {مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالمطر {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٖ} كل أنواع النباتات مع أن الماء واحد والأرض واحدة {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} من النبات {خَضِرًا} شيئاً

ص: 223

أخضر غضّاً {نُّخْرِجُ مِنْهُ} من الخضر {حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} بعضه على بعض كالحنطة في سنبلها، {وَ} أخرجنا {مِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا} وهو أول ما يظهر من ثمر النخل، و«من طلعها» بدل عن «من النخل»، أي أخرجنا منطلع النخل {قِنْوَانٌ} و«قنوان» جمع (قنو) وهو العِذق الذي يحمل التمر {دَانِيَةٌ} قريبة في متناول يد قاطفها، {وَ} أخرجنا {جَنَّٰتٖ} بساتين {مِّنْ أَعْنَابٖ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} أي أشجارها {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ} قد يتماثل بعضه مع بعض وقد لا يتماثل في الطعم والرائحة واللون وغير ذلك، {انظُرُواْ} نظر اعتبار {إِلَىٰ ثَمَرِهِ} ثمر كل واحد من هذه الأشجار {إِذَا أَثْمَرَ} حيث هو غير نافع {وَيَنْعِهِ} نضوجه حيث هو نافع ولذيد، {إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ} ما تقدم ذكره {لَأيَٰتٖ} دلالات على توحيد الخالق {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} ويتركون العناد.

من دلائل التوحيد تدبير أمور الخلق

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة أن شركاءهم المزعومين لا ينفعونهم في الآخرة، بيّن دلالة أخرى على توحيد اللّه تعالى بأن تدبير أمور الخلق كلها بيده وحده لا شريك له، وليس لشركائهم دخل في ذلك التدبير، وذلك عبر إرشادهم وتنبيههم إلى جليل صنع اللّه تعالى، وقد ذكر سبحانه خمسة أنواع من ذلك وهي: الإحياء والإماتة، ثم تقدير الليل والنهار ونفع الشمس والقمر، ثم تقدير النجوم بما ينفع الناس في الظلمات، ثم خلق الناس على كثرتهم من نفس واحدة وجعل المستقر والمستودع لهم، ثم نزول المطرو إنبات النباتات المختلفة مع أنها تسقى بماء واحد وعلى أرض واحدة.

ص: 224

وقيل: بيّن أولاً آيات أرضية كفلق الحبة، ثم آيات سماوية كالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، ثم أمور راجعة إلى الإنسان نفسه بإنشائه والمستقر والمستودع فيه، ثم تعميم الأمر إلى أمور مألوفة للجميع كإنزال المطر وإنباتالزرع والأشجار وما فيها من المنافع. وما ذكرناه أقرب للسياق.

فكل ذلك آيات على توحيده في الألوهية والربوبيّة، ولا شرك لأحد فيها أبداً، فما الذي جعل أصنامهم شركاء للّه؟ فلا هي تملك أمر الآخرة ولا أمر الدنيا، قال تعالى: {وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَئًْا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَوٰةً وَلَا نُشُورًا}(1)، وهناك آيات كثيرة في هذا المعنى.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ...} الآية.

ومن أعظم آيات اللّه تعالى الموت والحياة، ولعلّه لذلك قدّمه في الذكر.

وقوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ} بشقّهما لإخراج النبات منهما، فهما لا حياة فيهما لكن تخرج منهما الحياة، فالحب يخرج منه الزرع، والنوى يخرج منه الشجر، وفي بعض الروايات تأويلهما بطينة المؤمن والكافر(2)،

أو هو من الجري.

وقوله: {يُخْرِجُ...} بدل أو عطف بيان عن {فَالِقُ} لبيان أن هذا الفلق هو من مصاديق إخراج الحي من الميت.

ص: 225


1- سورة الفرقان، الآية: 3.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 15-16.

وقوله: {وَمُخْرِجُ...} عطف على {فَالِقُ} ولذا جاء به بصيغة اسم الفاعل، وليس عطفاً على {يُخْرِجُ} فالمعنى هو فالق يخرج الحي من الميت، وهو مخرج الميت من الحيّ.

وقوله: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ} أي الذي يصنع هذا هو اللّه لا شركاؤكم المزعومون.

وقوله: {تُؤْفَكُونَ} من الإفك، أي الصرف عن الحق إلى الباطل، تقريع لهم على عدم التدبر في هذه الآية الواضحة.

الثالث: قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ...} الآية.

هذه الدلالة لبيان تقدير اللّه تعالى ما ينظم حياة الناس وأوقاتهم.

وقوله: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} (الإصباح) مصدر صار اسماً للصبح، وكأنّ في الكلام تقديراً، أي فالق الظلمة بالإصباح؛ لأن الفجر يشق الظلام الدامس، والمراد فلقه لتتحركوا وتطلبوا من رزق اللّه تعالى.

وقوله: {وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} أي هدوءاً وللراحة، وهذا على الأعم الأغلب حيث يعمل الإنسان في النهار ويستريح في الليل غالباً.

وقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} عطف على {الَّيْلَ}، أي وجعل الشمس والقمر، و(حُسبان) بالضم مصدر حَسَب يحسِب بمعنى الحساب(1)، وحمل المصدر على اسم الذات لإفادة المبالغة مثل: زيد عدل، لأن حركتهما بحساب دقيق جداً وبذلك تُحصى الأوقات من أيام وشهور وسنوات

ص: 226


1- وأما الحِسبان - بالكسر - فهو مصدر حسِب يحسَب بمعنى الظن والوهم.

وفصول، وغير خفي أن للشمس والقمر فوائد كثيرة تكوينية واعتبارية، لكن محور الكلام هنا هو التوقيت بالليل والنهار والأيام والشهور والسنوات بما يشاهدونه عياناً ولا مجال لهم لإنكاره، وهكذا بالنسبة إلى الاهتداء بالنجوم في الآية التالية.

الرابع: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ...} الآية.

هذه الدلالة ترتبط باهتدائهم بالأجرام السماوية مما لا دخل للشركاء في ذلك أيضاً، فاللّه تعالى خلق النجوم بحكمته وفيها مصالح كثيرة، لكن الفائدة التي يلتفت إليها غالب الناس هو اهتداءهم إلى الطريق لئلا يتيهوا في البر أو في البحر، ولكن كيفية الاهتداء بها بحاجة إلى علم وخبرة، فالناس يعلمون بأنها يُهتدى بها لكن غالبهم لا يعلمون كيفية ذلك وهذا لا يضر بكونها آية عامة للجميع.

وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} ولم يقل: (خلق لكم) لأن الغرض من خلقها ليس الناس، وإنما خلق اللّه السماوات والأرض لأجل الصفوة من خلقه محمد وآله عليه وعليهم الصلاة والسلام، ولكن جعل في ذلك الخلق منفعة عامة لجميع الناس وذلك من البركة التي جعلها اللّه فيهم(عليهم السلام)، فتأمل.

وقوله: {ظُلُمَٰتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إما بمعنى ظلمات الليل في البحر والبر فنسب الظلمة إليهما اختصاراً، أو هو تشبيه الطرق المشتبه بالظلمة.

وقوله: {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} الظاهر أن قوله في هذه الآيات تارة {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ}، وتارة {لِقَوْمٖ يَفْقَهُونَ}، وتارة {لِّقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ} هو بيان

ص: 227

أوصاف القوم المهتدين - وهم جماعة واحدة - بأنهم يعلمون ويفقهون ويؤمنون، ولعلّه وزّع هذه الأوصاف في الآيات الثلاث ليكون أوقع في النفوس، وتدرّج من العلم إلى الفقه إلى الإيمان، فالآيات توجب علماً ثم فقهاً ثم إيماناً.

وقيل: ذكر مع ذكر النجوم {يَعْلَمُونَ} لأن أمرها ظاهر، ومع ذكر تخليق بني آدم {يَفْقَهُونَ} لأن إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ...} الآية.

هذه الدلالة ترتبط بخلق الإنسان وتصرفه، فإن ذلك آية عظيمة لا دخل للشركاء فيها، حيث إن اللّه تعالى خلق هذا الخلق الكثير من شخص واحد، بأن خلق آدماً (عليه السلام) وخلق من فاضل طينته حواء، ثم خلق منهما سائر الناس وجعل محل استقرارهم الأرض وهي محل دفنهم ومنها يبعثون، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}(2)، وقال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ}(3)، وقال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَٰكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ}(4).

ص: 228


1- نقله في تفسير الصافي 3: 75.
2- سورة النساء، الآية: 1.
3- سورة الأعراف، الآية: 24.
4- سورة طه، الآية: 55.

معنى المستقر والمستودع

و(المستقر) اسم مكان، أي محل الاستقرار وكذلك (المستودع) أي محل الإيداع الموقت كالوديعة، والظاهر أن المراد هنا في الآية هو المعنى اللغوي المتبادر، ولذلك مصاديق متعددة وقد بينت الروايات بعضها، وبعضها من التأويل.

فمن المصاديق: ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «مستقر في الرحم ومستودع في الصلب»(1)؛ لأن فترة البقاء في الصلب قليلة فكأنّ النطفة وديعة فيها وأما البقاء في الرحم فلأشهر فكأنّه مستقر لها، وأما ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في إنكار هذا المعنى فلعلّه أراد نفي حصر المعنى فيه، واللّه العالم.

ومن تأويل الآية: استقرار الإيمان في قلوب بعض فلا يزول عنهم أبداً، وإعارة الإيمان لبعض فإن شاء اللّه أتمّه فمات مؤمناً وإن شاء سلبه فمات كافراً، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلاّ أنبياء، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلاّ مؤمنين، وأعار قوماً إيماناً فإن شاء تمّمه لهم وإن شاء سلبهم إياه»، قال: «وفيهم جرت: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}» وقال لي: «إن فلاناً كان مستودعاً إيمانه، فلما كذب علينا سلب إيمانه ذلك»(2)، وفي الحديث وغيره دلالة على أن استقرار الإيمان أو سلبه يرتبط بعملهم، فإن أحسنوا أقرّ اللّه الإيمان في قلوبهم، وإن أساؤوا سلبه اللّه تعالى منهم.

وسئل الإمام الصادق (عليه السلام) : جعلت فداك إن شيعتك تقول إن الإيمان مستقر

ص: 229


1- تفسير العياشي 1: 371؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 19.
2- الكافي 2: 418.

ومستودع، فعلّمني شيئاً إذا أنا قلته استكملت الإيمان، قال (عليه السلام) : «قل في دبر كل فريضة: رضيت باللّه رباً، وبمحمد نبيّاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبالكعبة قبلة، وبعليّ ولياً وإماماً، وبالحسن والحسين والأئمة صلوات اللّهعليهم، اللّهم إني رضيت بهم أئمة، فارضني لهم، إنك على كل شيء قدير»(1)، وهناك روايات كثيرة في هذا المعنى راجعها في تفسير البرهان(2) وغيره.

السادس: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٖ...} الآية.

هذه الدلالة بإنزال المطر وإنبات الأشجار المختلفة، قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٖ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٖ يُسْقَىٰ بِمَاءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(3)، فأولاً رفع الماء من البحار على شكل بخار وغيوم وسحب، ثم إرجاع البخار ماءً مرة أخرى ليهطل مطراً هو من آياته تعالى ولا صنع للشركاء في ذلك أصلاً، وهذا الماء الواحد ينزل على أرض واحدة فيخرج منها أشكال وألوان من النباتات والفواكه وذلك آية أخرى من آياته تعالى، ثم مرور الفاكهة بمراحل من ظهورها إلى نضجها هذا أيضاً آية أخرى.

وقوله: {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٖ} أي جميع النباتات إنما تنبت بالماء حصراً، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}(4).

ص: 230


1- تهذيب الأحكام 2: 109.
2- البرهان في تفسير القرآن 4: 18-20.
3- سورة الرعد، الآية: 4.
4- سورة الأنبياء، الآية: 30.

وقوله: {خَضِرًا} النبات في بداية ظهوره يميل إلى البياض ثم يتفرّع منه ما هو أخضر.

وقوله: {حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} بعضه فوق بعض كالراكب، وذلك في أمثالسنابل الحنطة والشعير.

وقوله: {مِن طَلْعِهَا} بدل عن {مِنَ النَّخْلِ} والطلع هو أول ظهور الثمرة على الشجرة.

وقوله: {قِنْوَانٌ} جمع قِنو هو العِذق - بالكسر - وهو كالحبل الذي يجتمع التمر عليه، فإن النخل يتصل به العرجون، ثم يتفرع من العرجون العِذق كأمثال الحبال، ويتصل التمر بالعِذق، ومجموع الأعذاق تُسمى الشمراخ، وذلك من آيات اللّه تعالى حيث حوّل الخضر والطلع إلى فواكه لذيذة ونافعة.

وقوله: {دَانِيَةٌ} أي قريبة يتمكن جانيها من اقتطافها بسهولة، والنعمة في القريبة أظهر، قيل: اجتزأ بذكر الدانية عن البعيدة، أو لأن البعيدة كانت دانية في أول أمرها. والأول أحسن.

وقوله: {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ} الاشتباه والتشابه بمعنى واحد، أي تتماثل أو لا تتماثل، وسيأتي في الآية 141 قوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٖ}، وفي الكشاف «يقال: اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك استويا وتساويا، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً»(1)، وفي التقريب: «والاختلاف بين لفظي (مشتبه) و(متشابه) من أحسن أنواع

ص: 231


1- الكشاف 2: 52.

البلاغة، لتطابق اللفظ والخارج»(1).

وقوله: {إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} أي انظروا نظر اعتبار بحال هذه الثمرات منحين ظهورها حيث لا تصلح للأكل ولا نفع فيها غالباً إلى حين نضوجها واستوائها حيث تكون نافعة لذيذة، وستعملون أنه لا يرتبط ذلك بشركائكم المزعومين، بل هو صنع اللّه سبحانه وتعالى، والحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه.

ص: 232


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 108.

الآيات 100-104

اشارة

{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتِ بِغَيْرِ عِلْمٖ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ 100 بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 101 ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ وَكِيلٌ 102 لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 103 قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ 104}

ثم بعد الاستدلال بتدبير اللّه يأتي دور الاستدلال بأصل الخلقة، فقال:

100- {وَجَعَلُواْ} المشركون {لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} أي جعلوا الجن شركاء للّه تعالى {وَخَلَقَهُمْ} أي والحال أن اللّه تعالى خلق الجن فكيف يكون المخلوق شريكاً للخالق؟! {وَخَرَقُواْ لَهُ} اختلقوا بأوهامهم السقيمة {بَنِينَ وَبَنَٰتِ} جعلوهم شركاء للّه تعالى {بِغَيْرِ عِلْمٖ} فقولهم من غير برهان بل توهم {سُبْحَٰنَهُ} أنزهه تنزيهاً {وَتَعَٰلَىٰ} ترفّع {عَمَّا يَصِفُونَ} أي عن وصفه بالشركاء.

101- وكيف يكون له ولد مع أن الولد لا يكون إلّا عبر التزاوج، ولم يكن أحد قبل الخلق؛ إذ إن اللّه {بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} خلقهما بإبداع على غير مثال سابق، وحينذاك لم يكن أحد ف{أَنَّىٰ} متى {يَكُونُ لَهُ

ص: 233

وَلَدٌ} من البنين والبنات المزعومين؟ فهل قبل خلقهما {وَ} ذلك لا يصح؛ إذ {لَمْ تَكُن لَّهُ} قبل الخلق {صَٰحِبَةٌ} زوجة، أو بعد خلقهما، وذلك لا يصحأيضاً؛ إذ لا سنخية بين المخلوق والخالق ليكونا زوجين، {وَ} الحال أنه {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ومن كان خالقاً عالماً فلا يحتاج إلى شريك أو ولد يعينه في الخلق أو يخبره بما غاب عنه!

102- ومن كانت له تلك الصفات فلا ربّ غيره {ذَٰلِكُمُ} الضمير للخطاب تنبيهاً لهم، أي الموصوف بما ذكر هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ} فالربوبية منحصرة فيه، و{لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فالألوهية أيضاً منحصرة فيه، {خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ} فلا خالق غيره، وبذلك بطل كل الشركاء المزعومين، {فَاعْبُدُوهُ} لأنه المستحق للعبادة دون غيره {وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ وَكِيلٌ} أي يتولى أمره وحفيظ عليه فيحصى أعمالهم ويجازيهم عليها، فلا يحتاج إلى شريك أو ولد.

103- ومن كان الإله والرب ف{لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ} لا تراه، {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ} يراها، والشركاء المزعومون ليسوا كذلك {وَهُوَ اللَّطِيفُ} لا يُدرك بوهم {الْخَبِيرُ} العالم ببواطن الأشياء.

104- وحيث علمتم هذه الحقائق فإنما هي من اللّه تعالى ف{قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ} الدلائل والحجج التي تدركون بها الحقائق {مِن رَّبِّكُمْ} لهدايتكم من غير جبر، {فَمَنْ أَبْصَرَ} أدرك الحق فاهتدى {فَلِنَفْسِهِ} نفع ذلك يعود إليه، {وَمَنْ عَمِيَ} أعرض فغوى {فَعَلَيْهَا} ضرر ذلك يرجع إليه {وَ} قل يا رسول اللّه لهؤلاء: {مَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ} أحفظ قلوبكم وأعمالكم من الانحراف، بل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منذر، وإنما اللّه تعالى حفيظ

ص: 234

عليهم بإحصاء أعمالهم وجزائهم عليها.

من دلائل التوحيد أصل الخلقة

بحوث

الأول: بعد الاستدلال في الآيات السابقة على بطلان الشركاء بتدبير اللّه تعالى عبر فلق الحب والنوى والليل والنهار وفوائد الأجرام السماوية وتكثير الإنسان والإنبات عبر المطر... بعد ذلك يستدل على نفي الشركاء بأصل الخلقة، وأن اللّه خلق كل شيء قبل وجود الشركاء المزعومين، بل الشركاء بأنفسهم مخلوقات للّه تعالى، فما الذي جعلها شركاء؟! فلا التدبير منها، ولا الخلق منها، كما أنها لا تمتلك صفات الألوهية والربوبية، وإنما تلك الصفات تنحصر في اللّه سبحانه فهو الذي خلق السماوات والأرض وخلق كل شيء وهو العالم بكل شيء والجزاء عليه، وهو الذي ليس بجسم فلا يُرى مع أنه يَرى كل شيء.

الثاني: قول تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ...} الآية.

بيان بطلان نوعين من الشركاء قد شاع بين المشركين الاعتقاد بهما، فقد كانوا يزعمون أن الجن شركاء له تعالى، قال تعالى: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}(1)، وبعض المشركين كالمجوس كانوا يعتقدون بأن الشيطان إله الشر وهو خالق كل أمر سيّئ، كما أن المشركين كانوا يزعمون أن للّه سبحانه أولاداً فالعرب منهم اتخذوا اللات والعزّى ومناة بناتاً للّه سبحانه، والنصارى زعموا بأن المسيح (عليه السلام) ابن اللّه تعالى، فيقال لهم كيف تكون الجن شركاء وهي مخلوقة للّه تعالى كما أن

ص: 235


1- سورة سبأ، الآية: 41.

زعمهم بأن للّه بنين وبنات لا برهان لهم به، ثم في الآية اللاحقة يذكر الأدلة على بطلان ما اتّخذوه.

وقوله: {الْجِنَّ} عطف بيان على {شُرَكَاءَ} والمعنى جعلوا الجن شركاءله سبحانه، قيل: المراد بالجن هنا الملائكة وتسميتهم بالجن لاستتارهم! لكنه خلاف الظاهر من غير قرينة فلا يُصار إليه.

وقوله: {وَخَلَقَهُمْ} جمله حالية لإبطال شركهم، أي الجن مخلوقات للّه والمخلوق لا يكون شريكاً للخالق.

وقوله: {وَخَرَقُواْ} الخرق هو الاختلاق، كأنّه شقّ للحقيقة بالافتراء.

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٖ} أي بغير حجة وبرهان يوجب العلم، بل بالظن واتّباع الآباء جهالةً وسفهاً.

وقوله: {سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ} هذا نفي للشركاء من جهتين: جهة تنزهه عن صفات النقص، وجهة علو ذاته، وكلا الأمرين يثبتان توحيده واستغناءه عن الشركاء.

وقوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} أي الأوصاف التي يلصقونها به، ومعنى الوصف وإن كان يشمل الوصف بحق أو بباطل إلاّ أن استعماله في القرآن بالمعنى السلبي أي الشريك والولد والكذب قال: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ}(1)، وقال: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ}(2)، وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف،

ص: 236


1- سورة النحل، الآية: 62.
2- سورة الأنعام، الآية: 139.

وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة»(1)، كأنه أراد نفي الشركاء عنه؛ إذ الاثنينية دليل على التعدد، ولا يصح قول النصارى بأنه واحد وثلاثة فيالوقت نفسه، ولا قول القائلين بوحدة الوجود بالوحدة في عين الكثرة.

الثالث: قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ...} الآية.

هذه الآية تتضمن البرهان على بطلان ما خرقوا له من بنين وبنات.

قوله: {بَدِيعُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} أي إن اللّه تعالى خلقهما بإبداع من غير مثال سابق، فلم يكن هناك شيء أصلاً قبل خلقهما، فلم تكن زوجة كي ينجب منها بنين وبنات.

قوله: {أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} (أنى) استفهام عن الزمان، وكأنّ المقصود متى كان الأولاد؟ هل قبل خلق السماوات والأرض أم بعده؟ فأمّا قبل خلقهما: فلا شيء كان سوى اللّه فلم تكن صاحبة لكي ينجب منها سبحانه وتعالى، وأما بعد خلقهما: فكل الأشياء لا تصلح لأن تكون صاحبته؛ إذ لا بد من سنخية بين الزوجين ولا سنخية بين الخالق والمخلوق.

وقوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَٰحِبَةٌ} كأنه نفي للولد قبل خلق السماوات والأرض؛ إذ لا صاحبة في ذلك الوقت.

وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٖ} كأنّه نفي للولد بعد خلق السماوات والأرض؛ إذ حينئذٍ كل الأشياء مخلوقة له فلا يصلح شيء منها ليكون صاحبته.

وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} كأنّه دليل آخر على نفي الولد والشريك عبر نفي الحاجة، فإن الإنسان يتخذهم ليكونوا أعواناً له ويخبرونه

ص: 237


1- نهج البلاغة، الخطبة: 1.

بما غاب عنه، واللّه تعالى لا حاجة فيه أبداً وهو عالم بكل شيء أزلاً.

ويحتمل أن يكون هذا نفياً للولد الاتخاذي، فإن الولد قد يكون حقيقياً وذلك بانفصال جزء من الأب فيتحول إلى ابن، وقد يكون ولداً اتخاذياً أيبالتبني بأن لا تكون رابطة بين الأب والابن إلاّ رابطة اعتبارية لا حقيقية، فيقال لهم: إن اتخاذه إما لحاجة الأب أو لتشريف الابن، ولا حاجة للّه تعالى؛ إذ هو عالم بكل شيء، ولا تشريف للمخلوق بأعظم من كونه عبداً للّه تعالى فلا يحتاج إلى تشريفه بغير ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ...}.

بيان أن من اتصف بالصفات المذكورة في الآية السابقة لا يشاركه أحد في أيّ شيء لا في الربوبيّة ولا في الألوهية ولا في الخلق ولا في العبادة ولا في الجزاء، فقوله: {رَبُّكُمْ} لحصر الربوبيّة فيه، وقوله: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} لحصر الألوهية فيه، وقوله: {خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ} لحصر الخلق - بمعنى الإيجاد من العدم - فيه، ومن جملة تلك الأشياء الشركاء المزعومون حيث إنها مخلوقات له تعالى، وقوله: {فَاعْبُدُوهُ} لحصر العبادة فيه فلا تجوز عبادة غيره، وقوله: {وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ وَكِيلٌ} كأنّه لحصر القيمومية فيه فهو القائم على كل نفس بما كسبت، وينتج من ذلك حصر الجزاء فيه أيضاً.

هل أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى؟

وقوله: {خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٖ} وقد يتسائل عن أن أفعال العباد - وفيها القبائح كالظلم - هل هي مخلوقة للّه تعالى؟ مع أنه سبحانه يقول: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}(1)، سؤال آخر: ألا يستلزم القول بأنه تعالى خالق

ص: 238


1- سورة السجدة، الآية: 7.

أعمال العباد الجبر؟

والجواب عن الأول: إن كل شيء يقع في العالم هو بقضاء وقدر من اللّه تعالى، وفي أفعال العباد الاختيارية القضاء والقدر معلّق على إرادة العبديعني إن أراد العبد شيئاً قضاه اللّه وقدّره، وليس ذلك بمعنى تبعية إرادته لإرادة العبد بل بمعنى أنّ من الحكمة إذا أراد العبد شيئاً أن يقدّره اللّه ويقضيه، كما أنه كان من الحكمة إرادة عقاب العبد عندما يعصي وإرادة إثابته لمّا يطيع، ومن الحكمة إرادة استجابة الدعاء لمّا يدعو.

وأما الأعمال القبيحة كالظلم فإن ما يخلقه اللّه تعالى ليس ظلماً فلا يكون قبيحاً، وإنما جهة الظلم ترتبط بالعبد، مثلاً من قتل إنساناً فإن القتل لا يتحقق إلّا بإرادة اللّه تعالى قبض روح المقتول، فهنا ما خلقه اللّه وهو قبض الروح لا قبح فيه، وإنما القبح في الجهة التي ارتبطت بالقاتل وهو سلب حق الحياة من المقتول، وبعبارة أخرى: أعمال العباد القبيحة لها جهتان: جهة ترتبط بتقدير وقضاء العمل وذلك لا قبح فيه وهو عمل اللّه تعالى، وجهة اعتبارية وذلك الذي فيه القبح وهو يرتبط بالإنسان، فتأمل.

نفي الجبر

والجواب عن الثاني: إن الجبر هو أن لا تكون في مقدمات العمل أيَّة جهة اختيارية كحركة يد المرتعش، وأما لو كان في المقدمات ما يرتبط باختيار العبد فلا جبر حينئذٍ، فلو أراد العبد عملاً - وهذه هي المقدمة الاختيارية - قدّر اللّه وقضى ذلك العمل.

التوافي لا ينافي قانون العليّة

ثم إن بعض المفسرين ذكر أن في القول بالتوافي - بأن يكون اللّه هو الذي يخلق المعلول حين تحقق عِلتّه من غير أن يكون ربط واقعي بين العِلة

ص: 239

والمعلول - إبطالاً لقانون العلية والمعلولية، وفي ذلك إبطال لإثبات الخالق؛ إذ الدليل على وجود الخالق هو تحقق المعلولات - مختلف المخلوقات - وكونه علة للعالم!

ويرد عليه: أن القول بالتوافي لا ينافي قانون العلية بل يُثبتها؛ وذلك لأنه على هذا القول يكون السبب لترتب المعاليل على عِللّها هو اللّه تعالى فهو الذي يرتب الحرارة على النار - مثلاً - لا أن النار هي التي تولّد الحرارة، بمعنى أن سنة اللّه جرت على خلق الحرارة حين وجود النار لا أن النار هي التي توجد الحرارة، وعليه فجميع العِلل هي ظاهرية بلا ربط واقعي وحقيقي بينها وبين معاليلها، لكن ذلك لا يعني وجود المعلول من غير علة، بل يعني أن سبب وجود المعلول هو اللّه تعالى، وبعبارة أخرى: الخلاف صغروي في تعيين العلة وأنها هل العِلل الطبيعية أم أنه اللّه تعالى، وليس في الكبرى بإنكار قانون العِليّة، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.

بيان أن اللّه تعالى ليس بجسم فلذا لا يتصف بصفات الأجسام، عكس الشركاء، فهم بين من يُرى بالعيون وبين جماد لا يَرى شيئاً، فالجامع بين الوصفين - لا يُرى وهو يَرى - لا يكون إلاّ اللّه تعالى.

استحالة رؤية اللّه في الآخرة

قوله: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ} الإدراك بالبصر بمعنى الرؤية عياناً، وليس الإدراك بمعنى الإحاطة كما زعم بعض المجسمة حيث توهم أن اللّه سبحانه يُرى بعضه ولا يمكن رؤية جميعه لضخامة وجوده! سبحانه وتعالى

ص: 240

عن ذلك علواً كبيراً؛ إذ ذلك عام لكثير من الأشياء فمن يرى إنساناً مقبلاً لا يرى خلفه لكنه أدركه ببصره ولا يصح أن يقال: إنه لم يدركه ببصره حيث لم يَر خلفه كما هو واضح، فالآية تدلّ على عدم تمكن الأبصار من رؤيتهتعالى وهذا عام للدنيا والآخرة، حيث إنه ليس بجسم ولا في جهة.

ثم إن بعض المجسمة زعموا أن المؤمنين يرون اللّه تعالى في الآخرة بقلوبهم، وهذا أيضاً باطل؛ لأنّ المراد من الرؤية القلبية إن كان المعرفة فذلك حاصل في الدنيا أيضاً فالأنبياء والأوصياء والمؤمنون يعرفون اللّه في الدنيا والآخرة، وإن كان مرادهم الرؤية عياناً لكن آلة الرؤية لا تكون العين بل القلب! فذلك شطط من القول؛ لأن هذا المعنى يستلزم التجسيم والجهة أيّاً كانت آلة الرؤية، ولذا ورد في بعض الأحاديث نفي هذه الرؤية أيضاً، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ} قال: «لا تدركه أوهام القلوب، فكيف تدركه أبصار العيون»(1)، وعنه (عليه السلام) أنه سئل عن اللّه هل يوصف؟ فقال: «أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: تقرأ قوله تعالى: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ}؟ قلت: بلى، قال: فتعرفون الأبصار؟ قلت: بلى، قال: ما هي؟ قلت: أبصار العيون، فقال: إن أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون، فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام»(2)، وهناك أحاديث أخرى راجعها في تفسير البرهان(3)، والمقصود منها هو بيان عموم مفهوم {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ} فكما يشمل نفي الرؤية

ص: 241


1- البرهان في تفسير القرآن 4: 28 عن أمالي الصدوق: 410.
2- الكافي 1: 98.
3- البرهان في تفسير القرآن 3: 22-29.

بالبصر، كذلك يشمل امتناع إدراكه بالقوى الباطنة.

وقوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَٰرَ} أي وهو يعلم بكل شيء، ولكن ذكر خصوص علمه بالأبصار للتجانس مع قوله: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَٰرُ}.

وقوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} اللطيف في اللّه بمعنى نفوذ علمه وقدرته في الأشياء، وبمعنى عدم إمكان إدراك أحد له بكنهه، وبمعنى بِرّه بعباده، والمناسب هنا المعنى الأول، والخبير هو العالم ببواطن الأشياء ودقائقها.

السادس: قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ...} الآية.

بيان أنه مع وضوح هذه الحجج والبراهين المذكورة فإن البعض يعاند ولا يذعن للحق، وهذا ليس لنقص في البراهين، بل لعمى في هؤلاء المعاندين، كمن يحجب نفسه عن نور الشمس فلا ينتفع بها فليس ذلك لنقص فيها، بل لنقص فيه.

وقوله: {بَصَائِرُ} جمع بصيرة، وهي في القلب كالبصر في الرأس، أي الدلالة التي يعلم بها الإنسان حقائق الأشياء.

وقوله: {وَمَا أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٖ} هذا المقطع عن لسان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتقدير: (وقل لهم)، أي ليست مهمّتي جبركم على الهداية بأن أحفظ عقائدكم وأعمالكم عن الانحراف والخطأ، بل مهمّتي هي إرشادكم وإراءة الطريق لكم ويبقى الاختيار لكم.

ص: 242

الآيات 105-108

اشارة

{وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ 105 اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 106 وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٖ 107 وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٖ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 108}

105- {وَكَذَٰلِكَ} بهكذا بيان واضح {نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ} نذكرها بوجوه متعددة، فأمّا المعاندون فذلك إتمام للحجة عليهم {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} أي قرأت هذه الآيات وتعلّمتها من آخرين، واللام للعاقبة، أي عاقبة تصريفنا هو قولهم هذا، {وَ} أما غير المعاندين فالغرض من التصريف لهم هو {لِنُبَيِّنَهُ} نبيّن القرآن بما فيه من الآيات {لِقَوْمٖ يَعْلَمُونَ} لأن العالم هو الذي ينتفع بالآيات لا المعاند الجاهل.

106- ولا يصدّك عن الآيات قول المعاندين بل {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} وذلك لأنّه {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا آلهة أخرى لكي تتخيّر بين اتّباع اللّه واتّباعها {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} لا تتبع أهواءهم ولا تهتم بأقوالهم، وهذا لا ينافي دعوتهم وقتالهم.

107- وإنما عليك الإعراض عنهم لأن اللّه تعالى خلق الناس مختارين

ص: 243

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ} فهو على كل شيء قدير لكن لم يشأ بحكمته،وأنت لا تتحسّر عليهم؛ إذ مهمتك التبليغ وقد أدّيتها بأتمّ وجه {وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظهم عن الشرك تكويناً، {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٖ} لتكرههم على الإيمان.

108- {وَ} عدم كونك حفيظاً ووكيلاً عليهم لا يعني أن تفعل ما يوجب زيادة كفرهم وعُتوّهم ف{لَا تَسُبُّواْ} الأصنامَ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} يدعونها المشركون {مِن دُونِ اللَّهِ} من غير إذنه {فَيَسُبُّواْ} يسب المشركون {اللَّهَ عَدْوَا} تعدياً على الحق {بِغَيْرِ عِلْمٖ} بجهالة، {كَذَٰلِكَ} كإرادة كل طرف سب معبود الطرف الآخر {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} فكل جماعة ترى نفسها على حق وترى أعمالها حسنة فلذلك لا تستفزوهم بسبّ آلهتهم {ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم} وهو رب جميعهم {مَّرْجِعُهُمْ} رجوعهم بعد هذه الحياة الدنيا {فَيُنَبِّئُهُم} اللّه تعالى {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لتظهر لهم الحقيقة وليجازيهم على أعمالهم.

بحوث

الأول: هذه الآيات تبيّن موقف المشركين من الآيات والموقف الذي ينبغي على المؤمنين اتخاذه تجاههم.

فالناس ينقسمون تجاه الدعوة إلى قسمين: فبعضهم معاندون ينكرون الآيات ويحجدون القرآن وينسبونه إلى أهل الكتاب وغيرهم، وآخرون يعلمون بأنه الحق فيتبعونه.

وعلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن لا يهتم بتكذيبهم، بل عليه أن يتبع ما أوحاه اللّه

ص: 244

إليه؛ إذ أن أسلوب المشركين باطل لم ينزله اللّه تعالى ولا يوجد إله آخر كي يزعموا أنه هو الذي أنزله عليهم، فعلى الرسول أن يعرض عنهم ولايهتمّ بأمرهم.

لكن الإعراض عنهم لا يعني استفزازهم عن طريق سب آلهتهم كي يتمادوا في غيّهم عبر سبّ اللّه تعالى، وليس اعتداؤهم هذا إلاّ لكونهم يرون أعمالهم حسنة وقد زُينت لهم، وهذه حالة عامة فالجميع زُينت لهم أعمالهم، لكن بما أن الحق واحد وهو ما أوحاه اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فحين القيامة تتبيّن الحقيقة لجميعهم ويُجازون على أعمالهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْأيَٰتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ...} الآية.

التصريف هو تقليب الشيء على وجوه مختلفة، وتصريف الآيات هو بيانها بصور مختلفة وبألفاظ متعددة، فإن الآية الواحدة يمكن النظر إليها من جهات متعددة، وفي ذلك تسهيل الفهم للناس وإتمام الحجة عليهم.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كالذي بيّناه في الآيات السابقة ببيان ميسّر وواضح.

وقوله: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} اللام للعاقبة، أي نتيجة هذا التصريف هو أن المعاندين يفترون على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نظير اللام في قوله: {فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}(1)، فإنهم التقطوا موسى (عليه السلام) ليكون لهم قرة عين لكن كانت العاقبة أن صار لهم عدواً وأوجب حزنهم، وهذا يرتبط بالمعاندين.

وقوله: {وَلِنُبَيِّنَهُ} هذا يرتبط بغير المعاندين الذين ينظرون في الآيات لمّا تلقى عليهم وتصرّف لهم فيعلمون الحق فيتّبعونه، وفي الكشاف: «فإن

ص: 245


1- سورة القصص، الآية: 8.

قلت: أيّ فرق بين اللامين في {لِيَقُولُواْ} و{لِنُبَيِّنَهُ}؟ قلت: الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صُرفت للتبيّين، ولم تصرفليقولوا درست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، شُبّه به، فسيق مساقه»(1).

الموقف من المشركين حين عنادهم

الثالث: قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ...} الآية.

بيان لوظيفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجاه المشركين حين عنادهم وجحدهم لآيات اللّه جلّ وعلا، وهي تتمثل في أمرين:

1- عدم التنازل عن الحق مهما كان الثمن؛ إذ لا يتغيّر الحق عما هو عليه، حتى لو كانت لهم السلطة والمال والسلاح، ولا بدّ من اتّباعه على كل حال، والحق لا يعدو ما أوحاه اللّه تعالى على رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكل ما سوى ذلك في أمور الدين فهو من الباطل، قال تعالى: {فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَٰلُ}(2)، وقال سبحانه: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(3).

2- والإعراض عنهم بمعنى عدم الاعتناء بهم، وفي التقريب: «وليس المراد عدم دعائهم إلى الإسلام، أو عدم القتال معهم، بل معناه: أعرض عن أقوالهم وطريقتهم، وهذا كما يقال: أعرض عن فلان، يراد عدم الاهتمام والاعتناء بشأنه، وأنه لا بد من سلوك الطريق المستقيم أحبّ أم كره»(4).

ص: 246


1- الكشّاف 2: 52.
2- سورة يونس، الآية: 32.
3- سورة سبأ، الآية: 24.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 112.

وقوله: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} كأنه دليل وجوب اتّباع ما أوحاه اللّه إليه؛ إذ هو إله لا إله غيره، فليس الأمر كما زعم المشركون بأنهم مع آلهتهم وهو معآلهته حتى إذا شاء أحدهم نقل ولاءه من إله إلى آخر! كلّا فلا إله إلاّ اللّه، ولا طريق إلاّ الصراط المستقيم الذي أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} والإعراض لا ينافي قتالهم إن اعتدوا أو استضعفوا الناس، فليست هذه الآية منسوخة بآيات قتال المشركين، فكأنه قال: أعرض عنهم وقاتلهم للدفاع أو للدعوة، كما هو واضح.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا...} الآية.

كأنه تعليل للإعراض عنهم وتسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ببيان أن اللّه خلق الناس أجمع مختارين، فقال: {وَهَدَيْنَٰهُ النَّجْدَيْنِ}(1)، وقال: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(2)، وهو سبحانه لم يكره أحداً على الإيمان أو الكفر مع قدرته التامة على ذلك لكن الحكمة اقتضت اختيارهم، فلذا على الرسول البلاغ وليس له إذن تكويني في تحويل قلوبهم إلى الإيمان، كما ليس له إذن تشريعي في إكراههم على إظهار الإيمان، قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(3).

قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} مشيئة تكوينية اضطرارية بأن يقلّب قلوبهم بقدرته

ص: 247


1- سورة البلد، الآية: 10.
2- سورة الكهف، الآية: 29.
3- سورة يونس، الآية: 99.

فيؤمنوا، وقيل: يشاء من غير جبرهم بأن يوفّقهم للإيمان باختيارهم كما وفق المؤمنين له!! وهو بعيد؛ لأن اللّه تعالى هيّأ الأسباب لهم كما هيّأها للمؤمنين،ولكن حيث كانوا مختارين اختار المؤمنون الإيمان واختار المعاندون الشرك، وحيث لم يكن طريق لدخول الإيمان إلى قلوبهم اختياراً فلذلك يطبع اللّه عليها، ففي القول بأنه (يشاء صدور العمل منهم اختياراً) تهافت، كتفسير بعضهم الإرادة التشريعية (بإرادة صدور الطاعة اختياراً) لأنه لو أراد فلا مجال للاختيار، ولو كان اختيار فلا يوجد هناك إرادة لصدور العمل، بل الإرادة التشريعية هي إرادة صدور الحكم، وقد صدر، فلا فرق بينها وبين الإرادة التكوينية في عدم تخلّف المراد إلاّ في أن متعلق أحدهما التكوين والآخر التشريع بمعنى صدور الحكم، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك.

وقوله: {وَمَا جَعَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} الحفيظ هنا بمعنى الذي يحفظهم عن الشرك، وكأنّ المراد حفظهم عنه تكويناً بقلب قلوبهم.

وقوله: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٖ} أي تتولى أمر دينهم بأن تكرههم على الدين؛ إذ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1)، فالفرق بينهما أن الحفيظ هنا بمعنى السلطة التكوينية عبر التصرف في قلوبهم، والوكيل هنا بمعنى السلطة التشريعية عبر إكراههم على قبول الإسلام في الظاهر، فاللّه تعالى لم يجعل للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيّاً من الأمرين، وهذا لا ينافي ولايته التكوينية والتشريعية في ما أعطاه اللّه تعالى.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ

ص: 248


1- سورة البقرة، الآية: 256.

عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٖ}.

بعد بيان عدم الاهتمام بشأن المشركين وبيان أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليسوكيلاً ولا حفيظاً عليهم، يبيّن اللّه تعالى أن ذلك ليس بمعنى فعل ما يوجب زيادة عتوهم واستكبارهم على الحق، ومن مصاديق ذلك سب آلهتهم بما يستفزّهم فينتقموا عبر سبّ اللّه تعالى.

سؤال: ورد في القرآن قدح كثير للأصنام، فكيف ينهى اللّه تعالى في هذه الآية عن سبّهم؟

والجواب: ما في التقريب: «إن الفرق بين سبّ الحكيم وسب الجاهل أن الأول يعرف موقع السب بخلاف الثاني، كما لو نهى القاضي عن ضرب الناس ورأينا أنه يضرب بنفسه لحدّ أو قصاص، فإن الأمرين لا يتنافيان»(1).

معنى عدم سبّ الذين يدعون من دون اللّه

ثم لا يخفى أن هذه الآية جارية في المسلمين أيضاً، فالمنحرفون وأهل الضلال من منتحلي الإسلام وإن لم يكونوا مشركين ويحكم عليهم بالإسلام ظاهراً إلاّ أنهم مشركون بالشرك الخفي، وهم يتّبعون أئمة الضلالة فكأنّهم اتخذوهم آلهة من دون اللّه، فلا يجوز سبّ أئمتهم إذا أدّى ذلك إلى سبّهم لأئمة الهدى(عليهم السلام) فإن من سبّهم فقد سب اللّه تعالى، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن هذه الآية فقال: «من سبّ وليّ اللّه فقد سب اللّه»(2)، وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) : «من سبّك فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ اللّه، ومن سبّ اللّه فقد كبّه اللّه على منخريه في نار جهنم»(3)، وقيل

ص: 249


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 113.
2- تفسير العياشي 1: 373؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 4: 31.
3- راجع كنز الدقائق 4: 422.

للإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّا نرى في المسجد رجلاً يُعلن بسب أعدائكم ويُسمّيهم، فقال: ما له لعنه اللّه يعرض بنا، قال اللّه: {وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَيَدْعُونَ}»(1). نعم، لو كان المجلس خاصاً أو لم يؤدّ إلى سبّ اللّه وأوليائه فلا بأس بسبّ آلهتهم المزعومة وسبّ أولياء الشيطان، بل يستحب، بل قد يجب.

سبب النهي عن السبّ

وقوله: {الَّذِينَ يَدْعُونَ} إمّا بمعنى لا تسبوا الأصنام والآلهة التي يعبدها المشركون، فالموصول للآلهة وضمير الصلة مقدّر لدلالة الكلام عليه، وإما بمعنى لا تسبوا المشركين فالموصول للمشركين والضمير العائد هو واو الجمع في الصلة.

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٖ} بمعنى الجهالة والسفاهة؛ وذلك لأن المشركين كانوا يعتقدون باللّه تعالى ولكنهم كانوا يشركون به، فلا وجه لسبّهم اللّه تعالى إلاّ السفاهة والجهالة.

قال العم الشهيد: أنتم مدعوون إلى تسفيه الآلهة وتحطيم الأصنام لكن لا تسبوها؛ لأن:

1- السب تنفيس عاطفي وليس عملاً يحقق هدفاً، والإسلام لا يريد المسلم عاطفياً يجيش فيبحث عن منفس يفرغ به عاطفة الكراهة التي تغلي في صدره، ثم يتصور أنه قد أدّى رسالته دون أن يكون قد عمل شيئاً، بل على العكس أسفّ إلى مستوى الرعاع.

فالإسلام يكره للمسلم، ويكره الإمام لأصحابه، أن يكونوا سبابين يلخصون رسالاتهم في ألفاظ نابية يقذفونها في الفراغ، وهم يحسبون أنهم

ص: 250


1- الاعتقادات في دين الامامية، للصدوق: 107.

أنجزوا كثيراً؛ لأنهم قالوا ما لم يقله غيرهم، أو ما لا يجرؤ عليه غيرهم.

2- السب بطبيعة كونه تنفيساً عاطفياً يخفف من زخم الاندفاع، فالذي لايسبّ يندفع بدافع العاطفة وبدافع الفكر في اتّجاه هدفه، والذي يسبّ يفرغ بالسباب طاقته العاطفية، فلا يبقى لديه من وقود يحرّكه نحو هدفه سوى الفكر، والفكر بدون عاطفة أضعف من الفكر مع العاطفة، فالسباب يستهلك من وقوده دون أن ينجّز شيئاً.

3- السب وإن وُجّه إلى الأصنام - التي تستحق أكثر من السب - إلاّ أن عدواه يسريه إلى غيره، فإن الإنسان إذا اعتاد عملاً مكرساً في اتجاه فإنه سرعان ما يحلّ الغضب رباط تكريسه، فيعدو به إلى غير ذلك، ومع تواتر الأحداث المثيرة يصبح سباباً يسب كل شيء وكل أحد، والإسلام يربأ بالمسلم عنه.

4- السب بطبع كونه تنفيساً عاطفياً يؤدي إلى ردّ فعل معاكس من الطرف الآخر، من باب المقابلة بالمثل وهذا غير صحيح لسببين:

أ- إن تعريض المؤمن مقدساته لإهانة الكفار من أجل التنفيس عن غيظه، إسفاف بها، وعلى المؤمن أن يبرّر كظم غيظه بصيانة مقدساته لا أن يبرّر تعريضها للإهانة بالتنفيس عن غيظه.

ب- أن المعارك الكلامية تهدر النشاطات التي لا بدّ من استثمارها في معارك عملية لأنها الفاصلة، وأما المعارك الكلامية فملهاة أو منساة تجهض المعارك العملية الهادفة(1).

ص: 251


1- خواطري عن القرآن 1: 449-451، باختصار.

السادس: قوله تعالى: {كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ...} الآية.

قد مرّ الكلام(1) حول التزيين في سورة البقرة الآية: 212، وسورة آل عمران الآية: 14، وقد ذكرنا أن الأشياء تزيينها من اللّه تعالى، وأما الأعمال فالحسنة منها بتزيين اللّه تعالى، والسيئة منها بتزيين الشيطان، وأما التزيين في هذه الآية فلعلّه بمعنى أن اللّه تعالى خلق الإنسان بكيفية لا يمتنع عليه رؤية عمله زيناً وحسناً سواء كان حقاً أم باطلاً، فالذي يستعمل عقله وعلمه فإنه يرى الأعمال الحسنة زينة له، والذي لا يستعملهما ويعاند يرى قبائحه حسنات، وحيث إن خلق الإنسان بهذه الكيفية من صنع اللّه تعالى لذلك نسب التزيين إلى نفسه.

ويمكن أن يقال: إن {زَيَّنَّا} له عرض عريض ومصاديق متعددة، فمصداقه في المؤمنين هو إرشادهم إلى فطرتهم وعقلهم ودينهم، ومصداقه في الكافرين هو تركهم وشأنهم وخذلانهم إلى أن يروا سيئاتهم حسنات.

وقوله: {ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ} لبيان أن اختلاط الحق بالباطل، وتزيين كل عمل لأصحابه حتى لو كان باطلاً، هو أمر موقت في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فيظهر الحق الصراح للجميع وذلك مقدمة لجزائهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ.

ص: 252


1- راجع التفكر في القرآن، سورة البقرة 3: 59-60؛ والتفكر في القرآن، سورة آل عمران: 54.

الآيات 109-113

اشارة

{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْأيَٰتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ 109 وَنُقَلِّبُ أَفِْٔدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ 110 وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٖ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ 111 وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ 112 وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفِْٔدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ 113}

109- المشركون لم تنفعهم الآيات التي صرّفها اللّه لهم لكنهم يقترحون آيات أخرى ويزعمون أنهم يؤمنون إذا جاءتهم لكنهم كاذبون، {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} أي جادّين في حلفهم، والمراد قسمهم بالأيمان المغلّظة {لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ} من المعجزات التي اقترحوها {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} بتلك الآية {قُلْ} في جوابهم {إِنَّمَا الْأيَٰتُ عِندَ اللَّهِ} وهو ينزلها حسب المصلحة لا حسب الأهواء {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} الخطاب للمسلمين الذين كانوا يطمعون في إيمانهم، و«ما» استفهام إنكارى، فالمعنى أنتم لا تعلمون {أَنَّهَا} الآيات المقترحة {إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} لكن اللّه يعلم بعنادهم

ص: 253

وعدم فائدة إنزال الآيات المقترحة، ولذلك لا ينزلها.

110- {وَنُقَلِّبُ أَفِْٔدَتَهُمْ} عطف على «لا يؤمنون» فالمعنى إنكم لا تعلمون أناننكّس قلوبهم بالطبع عليها لعنادهم {وَ} نقلّب {أَبْصَٰرَهُمْ} فلا يرون الحق، بمعنى جعل غشاء على عيونهم فهم لا يؤمنون حتى لو نزلت الآيات المقترحة {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ} بالقرآن أو بما نزل من الآيات {أَوَّلَ مَرَّةٖ} حينما أنزلنا عليهم الآيات السابقة، وتأويله بعالم الذر {وَنَذَرُهُمْ} أي ولا تعلمون أنا لم نلطف بهم الألطاف الخفية لعنادهم فنتركهم {فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ} يضلّون متحيّرين، وعليه فلا وجه للاستجابة لاقتراحاتهم.

111- إنكم لا تعلمون ذلك لكن اللّه يخبركم بعنادهم {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةَ} بحيث يرونهم يشهدون بنبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ} بأن أحياهم اللّه تعالى فشهدوا بصدق الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَحَشَرْنَا} جمعنا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٖ قُبُلًا} في مواجهتهم وقبالهم حتى رأوها فشهدت بالإسلام {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} لعنادهم {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} بجبرهم {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} عنادهم فيظنون أنهم سيؤمنون لو جائتهم الآيات المقترحة.

112- {وَكَذَٰلِكَ} كما جعلنا هؤلاء أعداءك فقد {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} بمعنى التخلية بينهم وبين اختيار العداوة {شَيَٰطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي} يوسوس {بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ} بعض الشياطين إلى بعضهم الآخر {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} الباطل المزخرف الذي ظاهره حسن وباطنه قبيح

ص: 254

{غُرُورًا} أي هذه الوسوسة لأجل الغرور والخداع، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} مشيئة تكوينية بمنعهم {مَا فَعَلُوهُ} لم يتمكنوا من عداوة الأنبياء، لكن الحكمة اقتضت عدم منعهم {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} اتركهم مع فريتهم، وهذا تهديد لهموبيان عدم تمكنهم من القضاء على الدين.

113- {وَلِتَصْغَىٰ} عطف على «جعلنا لكل نبي عدواً» أي وعاقبة عداوتهم ووسوستهم هو أن يميل {إِلَيْهِ} إلى زخرف قولهم {أَفِْٔدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ وَ} بعد ميلهم {لِيَرْضَوْهُ وَ} بعد رضاهم {لِيَقْتَرِفُواْ} يرتكبوا {مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} أي مرتكبون من الآثام.

بحوث

الأول: بعد أن بيّن اللّه تعالى أنه صرّف لهم الآيات يبيّن أنهم قد اقترحوا آيات أخرى ويحلفون باللّه بأيمان مغلّظة أن آياتهم المقترحة إذا جاءت سيؤمنون بها، ويجيبهم اللّه بأنهم معاندون لا تنفعهم الآيات، وإلاّ لكانوا قد آمنوا بمجيء أول آية، ثم يبين أنهم قد اقترحوا إنزال الملائكة وبعث الموتى وأمور أخرى، ولو استجاب اللّه لهم لم يؤمنوا بها، ولكانوا ينسبونها إلى السحر وغير ذلك، ثم يسلّي اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن هذا كان دأب المكذبين مع الأنبياء السابقين فلكل نبي عدوّ من شياطين الإنس والجن يلقون الكلام الباطل بظاهر جميل ليخدعوا الناس فتميل إليه قلوب الكفار الذين لا يخافون عذاب الآخرة، وهذا الميل يؤدي بهم إلى الرضا بالزخرف ثم العمل به واقتراف الآثام والسيئات.

الثاني: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ

ص: 255

بِهَا...} الآية.

سبق في الآية 37 اقتراحهم للآيات حيث قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ...} وبيان أنّ اللّه تعالى قادر عليها وقد أراهم مختلف الآياتولكنهم مكذّبون، وفي هذه الآية بيان سبب عدم إيمانهم لو نزلت الآيات المقترحة، بأن اللّه قد ختم على قلوبهم لعنادهم، وبأنهم أعداء للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث إن اللّه تعالى قد جعل لكل نبي أعداء مفترين ويخدعون أهل الضلالة، فكان ذلك سبب عدم إيمانهم حتى لو نزلت الآيات المقترحات.

وقوله: {جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} الجَهد بالفتح المشقة، وبالضم الطاقة(1)، والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف، والمقصود أنّ أيمانهم مغلّظة كأنهم أرادوا بيان صدقهم وإنصافهم.

وقوله: {لَئِن جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ} أي غير الآيات السابقة التي نزلت وإنّما الآيات المقترحة.

وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} التفات إلى المؤمنين الذين كانوا يطمعون في إنزال تلك الآيات على الكفار الذين اقترحوها، و(ما) استفهامية إنكارية فتفيد معنى النفي، فالمعنى إنكم لا تعلمون بأنهم سوف لا يؤمنون حتى لو نزلت عليهم الآيات المقترحة، لكن اللّه يعلم بعنادهم وعدم فائدة إنزال الآيات المقترحة، ولذا بحكمته لا ينزلها.

الثالث: قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفِْٔدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٖ...} الآية.

ص: 256


1- مقاييس اللغة: 210.

عطف على {لَا يُؤْمِنُونَ} أي إنكم لا تعلمون بأن اللّه يختم على قلوبهم ويجعل على أبصارهم غشاوة بسبب عنادهم فهم لا يؤمنون حتى لو نزلت الآيات المقترحة كما لم يؤمنوا حين نزول الآيات السابقة منذ بدأ الدعوة،وحيث لا تعلمون تطمعون في إيمانهم لو نزلت الآيات المقترحة.

وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفِْٔدَتَهُمْ...} أي ننكس قلوبهم فلا تفقه الحق ونُعمي أبصارهم فلا تراه، جزاءً على عنادهم.

وقوله: {كَمَا} متعلقة بقوله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، أي لا يؤمنون كما لم يؤمنوا منذ البداية.

وقوله: {أَوَّلَ مَرَّةٖ} أي الآيات التي أنزلها اللّه في بداية البعثة ابتداءً ومن غير اقتراح منهم، وتأويلها بعالم الذر كما في بعض الروايات(1)، ويمكن أن تكون بياناً لمصداق آخر.

وقوله: {وَنَذَرُهُمْ} أيضاً عطف على {لَا يُؤْمِنُونَ} وحاصل المعنى إنكم لا تعلمون أن الآيات إذا جاءتهم لا يؤمنون وأن اللّه تعالى ختم على قلوبهم وأبصارهم وأنه سبحانه يتركهم في ضلالتهم فلا يهديهم، وعليه فلا حكمة في إنزال الآيات المقترحة.

وفي التقريب: «فإنهم جُوزوا بإنكارهم أول الأمر - الذي استلزم عنادهم وتماديهم في غيّهم - بأن أزعجت نفوسهم، فجعلت قلوبهم تخفق، وأبصارهم تتحرك زائغة، كما هو شأن كل مبطل أمام الحق أنه لا يدري ما يصنع، وعينه تتلفت هنا وهناك تبحث في الأرض والسماء عن طريق

ص: 257


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 4: 31-32؛ عن تفسير القمي 1: 213؛ وتفسير العياشي 1: 374.

المهرب والخلاص من الأزمة التي وقع فيها»(1)، عكس المؤمن الذي هو مطمئن القلب بذكر اللّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَٰئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ...} الآية.

تنبيه للمؤمنين الطامعين في إيمانهم، وذلك ببيان عناد هؤلاء، فقد اقترحوا إنزال ملك يشهد على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما مرّ {وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}(2)، كما اقترحوا إحياء الأموات ليشهدوا فقالوا: {فَأْتُواْ بَِٔابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(3)، ثم يعمّم اللّه تعالى في اقتراحهم بأنه لو شهدوا كل شيء عياناً فلا يؤمنون لعنادهم.

وقوله: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٖ} هذا لم يكن من اقتراحاتهم، لكن اللّه تعالى أراد بيان عنادهم بأوضح صورة، و(الحشر) هو الجمع مع سَوق(4).

وقوله: {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} بجبرهم، والغرض بيان عدم خروجهم عن قدرة اللّه تعالى، فهم معاندون لكن اللّه يقدر على إدخالهم في الإيمان بالتصرف في قلوبهم، لكنه لا يفعل ذلك بحكمته تعالى.

وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أي أكثر المقترحين أو المؤمنين الطامعين في إسلامهم يجهلون عنادهم، وفي الصافي: «يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا، فيقسمون باللّه جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم، مع أن مطلق الجهل يعمّهم، ولكن أكثر

ص: 258


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 114.
2- سورة الأنعام، الآية: 8.
3- سورة الدخان، الآية: 36.
4- راجع مقاييس اللغة: 247.

المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون، فيتمنّون نزول الآية طمعاً في إيمانهم، كذا قيل»(1).

المعاند لا تنفعه الآيات

الخامس: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ...} الآية.

فيه تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبيان سبب آخر لعدم إيمانهم وهو عداوتهم للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأسباب العداوة متعددة ولكن أهم سبب هو الحسد والتكبّر، فالشيطان عادى آدم وذريته لأن اللّه تعالى فضّله عليه وأمره بالسجود له، وشياطين الإنس عادوا الأنبياء للسبب نفسه، قال تعالى: {قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}(2)، وقال سبحانه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(3).

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا...} بمعنى خلقنا من نعلم بأنه سيكون عدواً للأنبياء، أو بمعنى خلّينا بينهم وبين عداوتهم فلم نمنعهم عنها قهراً؛ وذلك لأن مقتضى خلق الناس مختارين هو تزويدهم بما يناسب الاختيار من نفس وهوى وعقل وفطرة، وتمكينهم على الفضائل والرذائل، وطبيعة الاختيار هو أن البعض يختارون الإيمان وآخرين يختارون الكفر، وأن البعض يزكي

ص: 259


1- الصافي 3: 86.
2- سورة الإسراء، الآية: 61-62.
3- سورة البقرة، الآية: 90.

نفسه والبعض لا يزكيها، قال سبحانه: {وَنَفْسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا}(1)، كما أنجعل الأعداء يستلزم مجاهدتهم والصبر على أذاهم وفي ذلك رفع لدرجات الأنبياء والأولياء.

وقوله: {شَيَٰطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ} بدل عن قوله: {عَدُوًّا}، والشيطان هو المارد الطاغي، واشتقاقه إما من شطن يشطن بمعنى تباعد، أو من شاط بمعنى احترق غضباً(2).

وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ...} الوحي هو إلقاء شيء بخفاء سواء كان همساً في كلام أو إلهاماً في روع أو التسخير أو نحو ذلك، قال تعالى: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}(3)، وقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ}(4)، وقال: {يَوْمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا}(5)، قال: {وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ}(6)، واستعمل في وحي اللّه تعالى لأنبيائه(عليهم السلام) كثيراً حتى صار حقيقة متشرعيّة فيه.

والمعنى في هذه الآية أن الشياطين يوسوس بعضهم إلى بعض كيفية إغواء الناس، وذلك عبر تعليم بعضهم بعضاً زخرف القول غروراً.

ص: 260


1- سورة الشمس، الآية: 7-10.
2- راجع مفردات الراغب: 454.
3- سورة النحل، الآية: 68.
4- سورة القصص، الآية: 7.
5- سورة الزلزلة، الآية: 4-5.
6- سورة الأنعام، الآية: 121.

وقوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} الزخرف هو الزينة المزوّقة، وزخرف القول هو الكلام الذي ظاهره جميل إما بمختلف صنوف البلاغة أو بمطابقته مع هوى النفس حيث يثيرها ويهيّجها ونحو ذلك.

وقوله: {غُرُورًا} مفعول لأجله، أي إنما يوحي بعضهم إلى بعض لأجل أن يتعلموا كيفية خداع بني آدم.

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي مشيئة جبر بأن يمنعهم عن ذلك قهراً، والغرض بيان عدم خروجهم عن سلطان اللّه تعالى، لكنّه لا يمنعهم قهراً بحكمته ليتم الامتحان على الخلق أجمعين.

وقوله: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} الأمر في (ذرهم) بداعي تهديدهم، كأنه قال: اتركهم مع فريتهم التي سيرجع وبالها عليهم وسنعاقبهم عليها، كما فيه بيان أن زخرفهم من القول هو الفرية على اللّه تعالى بتزيين عبادة الشركاء، ونحو ذلك.

السادس: قوله تعالى: {وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفِْٔدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ...} الآية.

عطف على قوله: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا...} أي جعلنا الشياطين أعداء الأنبياء وعاقبة ذلك هو انخداع الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة بهم، وقيل: هو عطف على {غُرُورًا} وما ذكرناه أنسب بالسياق، وفي الآية بيان سبب انحرافهم في مراحل ثلاث فيبدأ من الميل ثم الرضا ثم العمل بارتكاب الآثام.

قوله: {وَلِتَصْغَىٰ} اللام للعاقبة، أي عاقبة جعل الأعداء هو ذلك،

ص: 261

و(الصغو) هو الميل، وصغا بسمعه أي مال إليه ليستمع مقالته، وصغا قلبه زاغ وانحرف عن الحق، وقيل: أصل الكلمة هو الاستماع بميل ثم عُمّمت إلى ميل القلب ونحوه، وغالب استعمالها في الميل إلى الأمور السيئة.

وقوله: {وَلِيَقْتَرِفُواْ} أصل القرف هو مخالطة الشيء والالتباس به(1)، والاقتراف هو الاكتساب - حسناً كان أو سيئاً - قال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا}(2)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ}(3)، والمعنى أنهم بعد الميل والرضا يرتكبون الآثام كنتيجة محتومة للرغبة في الشيء.

وقوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ} بيان أن عدم الإيمان بالآخرة هو أهم سبب لارتكاب الآثام، أما من يؤمن بها ويخافها فإنه ينهى النفس عن الهوى، وأما عصاة المسلمين فإن إيمانهم بالآخرة ليس هو حق الإيمان فلا يمنعهم عن بعض الذنوب.

ص: 262


1- مقاييس اللغة: 851.
2- سورة الشورى، الآية: 23.
3- سورة الأنعام، الآية: 120.

الآيات 114-117

اشارة

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 114 وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 115 وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ 116 إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 117}

بعد عدم إيمانهم وعنادهم كأنهم طلبوا حَكَما يفصل بينهم وبين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمر التوحيد والشرك ونبوته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال اللّه تعالى:

114- قل {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} الاستفهام إنكاري {أَبْتَغِي} أطلب {حَكَمًا} يفصل بيني وبينكم، {وَ} الحال أن اللّه قد فصل بالحق ف{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا} قد بيّن فيه الفصل بين الحق والباطل، {وَ} إن أرادوا تحكيم أهل الكتاب فيقال لهم: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ} التوراة والإنجيل {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} القرآن {مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} لأنهم وجدوا أوصاف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كتبهم {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي مترددين في الشك؛ لأن الحق واضح لا لبس فيه، والخطاب موجّه إلى كل أحد.

115- {وَ} حكم اللّه واضح؛ إذ بتنزيل القرآن على رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 263

قد حكم اللّه للنبي بالصدق وحكم عليهم بالافتراء، فقد {تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} بلغت الغاية في الإحكام والأحكام فلا نقص ولا زيادة فيها {صِدْقًا وَعَدْلًا}كلمة ربك صادقة لا كذب فيها وعادلة لا جور فيها، وحيث كانت صدقاً وعدلاً ف{لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ} لا أحد يتمكن من أن يأتي بأعدل وأصدق منها {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوال الناس {الْعَلِيمُ} بنواياهم فيجازيهم على أعمالهم.

116- {وَ} حيث قد علمتَ بأن كلمات اللّه تامات لا نقص فيها ولا يمكن الزيادة عليها فقد علمتَ أن كلامهم باطل ف{إِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ} وهم كفار ومشركون {يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} لانحرافهم ولاتّباعهم الأهواء {إِن} نافية، أي لا {يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ليس لهم علم {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يكذبون في ادعائهم العلم أو في ما ينسبونه إلى اللّه تعالى بأنه هو الذي أمرهم بشركهم!

117- وجزاء الفريقين على اللّه تعالى، ف{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} أعلم بهم من غيره؛ لأنه يعلم بالنوايا والأعمال وجميع الخصوصيات {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} الذين سلكوا سبيل الهدى.

من يصلح ليكون حَكَماً بين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمشركين

بحوث

الأول: سياق هذه الآيات يدل على أن المشركين طلبوا تحكيم أحد بينهم وبين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليفصل بين الفريقين، فيقال لهم: إن هذا الأمر الجليل لا يصلح لأحدٍ أن يكون حَكَما فيه إلاّ اللّه تعالى، وهو سبحانه قد حَكَم بصالح رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث أنزل عليه القرآن يفصل فيه بين

ص: 264

الحق والباطل ببيان واضح، فهل يريدون حَكَماً آخر؟

ولا يصلح أهل الكتاب لأنْ يكونوا حَكَماً لأنهم أيضاً الخصم حيث عادوا الحق، مع أنّ هذا الحق مكتوب في كتبهم لذلك هم يعلمون به ولكنّهم يكتمونه حسداً وبغياً.

ولا يضرّ ذلك بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا بالقرآن؛ لأن كلمة اللّه قد تمت بالصدق والعدل ولا تغيير فيها، وأما أولئك فكلمتهم الظن والكذب وهذا لا ينفعهم، وسوف يجتمع الجميع عند اللّه تعالى في يوم القيامة فيفصل بينهم ويجازيهم حيث إنه أعلم بالضالّ عن المهتدي.

الثاني: قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَٰبَ مُفَصَّلًا}.

حيث إن الأمر يرتبط بأصول العقيدة فلا معنى لتحكيم أحد سوى اللّه تعالى وهو العالم القادر بكل شيء وهو الحق والحاكم بالحق، واللّه تعالى قد حكم بصالح النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن والإسلام، فلا معنى للرجوع إلى غيره ليحكم مرة أخرى.

وقوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} استفهام إنكاري وفيه التعجيب أيضاً.

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي...} جملة حالية لبيان أنه قد حكم بالحق عبر إنزال القرآن الذي فيه القول الفصل، فقوله: {أَنزَلَ إِلَيْكُمُ} لبيان علمهم بالقرآن ومشاهدتهم لدلائله وحينئذٍ طلب حَكَم آخر جهالة وعناد.

وقوله: {مُفَصَّلًا} أي إن اللّه قد فَصّل الكتاب بأن ميّز دلائله وأوضحها فلا يحصل خلط ولبس فيها، لكنهم معاندون.

ص: 265

الثالث: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ...} الآية.

لعلّهم طلبوا تحكيم أهل الكتاب في أمر نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن، ولعلّهم اتفقوا معهم ليحكموا بصالح المشركين وقد مرّ(1) قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٖ مِّن شَيْءٖ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ...}(2)، فيقول لهم اللّه تعالى إن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن يكتمونه فلا يصلحون لأن يكونوا حَكَماً.

وقوله: {بِالْحَقِّ} أي نزل القرآن مع الحق فكل ما فيه حق، أو نزل نزولاً بالحق حيث إن إنزال الكتاب كان بحكمة.

وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الخطاب وإن كان بظاهره موجهاً إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلاّ أن المراد به كل أحد، وقد مرّ أن أحكام اللّه تعالى عامة للجميع فتشمل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة(عليهم السلام) وسائر الناس حتى مع العلم بامتثالهم لها قطعاً، مثلاً الذي يكره أكل الميتة فلا يأكلها سواء كانت محرّمة أم لا هو مخاطب بالنهي عنها لأنه مكلّف والحكم شامل للجميع، فيكون توجيه الخطاب للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) ليكون أدعى للناس على الامتثال.

الرابع: قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ

ص: 266


1- مرّ في الآية 91، راجع الصفحة 207-208.
2- سورة الأنعام، الآية: 91.

وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

بيان أن اللّه تعالى قد حَكَم بصالح القرآن حينما أتمّه بالصدق والعدل وهذا ما بيّنه في هذه الآية، ثمّ في الآية التالية حَكَم ببطلان طريقتهم حيثلم تكن إلاّ الإضلال واتّباع الظن والكذب.

وقوله: {وَتَمَّتْ} التمام هو اسم الجزء الذي يتم به الموصوف به(1)، فكلمات اللّه تعالى بدأت من آدم (عليه السلام) لكنها لم تتم إلاّ بالقرآن الكريم الذي هو المهيمن على الكتاب كلّه، كما أن الشريعة قد تمت بالإسلام فحلال محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

وقوله: {صِدْقًا وَعَدْلًا} تمييز أو حال، وهذا كالدليل على الحكم بصالح القرآن وهو أنه صدق في أخباره وعدل في أحكامه، وما كان هذا صفته فهو الحق الذي لا ريب فيه وسواه باطل لا شك فيه، وقيل: صدقه مطابقته للواقع، وعدله تساوي كل ما فيه في الاستقامة وعدم الاعوجاج.

وقوله: {لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ} كأنه نتيجة لكونها {صِدْقًا وَعَدْلًا}؛ إذ لا أحد يقدر على تغيير كلمات اللّه لأن اللّه هو الغالب القاهر، كما أن اللّه تعالى لا يبدّلها لأنها صدق وعدل، واللّه منزّه عن تبديلهما إلى كذبٍ وظلم ٍ، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

كيف تمكن المحرِّفون من تحريف الكتب السماوية والعقائد والشرائع؟

سؤال: كيف تمكن المحرّفون من تحريف كلمات اللّه في التوراة والأنجيل كما تمكنوا من اختلاق أحكام وأحاديث مكذوبة نسبوها إلى اللّه تعالى؟

ص: 267


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 15.

الجواب: إن المقصود أن أحكام اللّه تعالى ودينه وقرآنه لا تتبدل بفعلهم فهي تبقى أحكام اللّه وكلماته شاؤوا أم أبوا وهي محفوظة عند أهلها، وأما تحريفاتهم واختلاقهم فهو لا يعدو عن افتراء على اللّه تعالى وليس تبديلاًلكلماته؛ لأن ما جاؤوا به من إفك وزور ليس كلمةً للّه تعالى.

وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وحيث إن الموضوع الكلمة والمؤمنون يتلونها ويعملون بها ناسب ذلك تمجيد اللّه تعالى بأنه سميع عليم، أو إنه يسمع كلام الذين يريدون التبديل وهو عليم بنواياهم.

وقد ورد في روايات كثيرة أن الإمام حينما يكون جنيناً ويبلغ أربعة أشهر وكذلك حينما يولد يبعث اللّه ملكاً يكتب على عضده الأيمن وبين عينيه وبين كتفيه هذه الآية، فراجع الروايات في تفسير البرهان(1)، وشرحنا على أصول الكافي(2) ولعلّها من مراحل الاصطفاء.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

بيان لحكم اللّه تعالى ببطلان طريقة المشركين حيث إنها ضلال ولا برهان لهم إلاّ الظن والكذب.

وقوله: {وَإِن تُطِعْ...} ليس الميزان في العقائد الحقة الكثرة أو القِلة، بل الميزان هو البرهان، وأما أكثر الناس فهم على ضلال وذلك لاتّباعهم الأهواء والشهوات وتعطيل العقل والتقليد الأعمى، قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ

ص: 268


1- البرهان في تفسير البرهان 4: 35-38.
2- شرح أصول الكافي 6: 15-16.

أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}(2)، وقال:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}(3)، وغيرها آيات كثيرة.

نعم، هناك أقلية مؤمنة ملتزمة اتّباعها رشد وهدى، قال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسَْٔلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ}(4)، وقال: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(5).

وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} دليل على ضلالهم وإضلالهم؛ لأنّ العقائد الحقة أقام اللّه عليها البراهين القاطعة من الفطرة والعقل والآيات البيّنات، وما لم يكن كذلك فهو باطل لا ريب فيه؛ إذ في العقائد لا يجوز الاعتماد إلاّ على العلم، فاتّباع الظن معناه عدم وجود علم وذلك يكشف عن عدم وجود برهان لها وإلاّ لذكروه، فتكون تلك العقائد من الضلال المبين.

وقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أصل الخرص هو الكذب(6)،

وقد يستعمل في التخمين بقرينة، والمعنى هؤلاء يكذبون في دعاويهم، مثلاً ينسبونها إلى اللّه تعالى كذباً من غير سلطان أتاهم، فالآية تبين وجهين لبطلان معتقدهم: عدم وجود دليل عليه إلاّ الظن، وكذبهم وافترائهم على اللّه بنسبتها إليه من غير دليل؛ إذ من له الدليل لا يكذب بل يظهر برهانه!

ص: 269


1- سورة الأعراف، الآية: 187.
2- سورة هود، الآية: 17.
3- سورة يوسف، الآية: 106.
4- سورة يس، الآية: 21.
5- سورة يونس، الآية: 35.
6- راجع كتاب العين 4: 183.

السادس: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.

بعد أن ذكر الفريقين وحكمه فيهما، يذكر أن اللّه تعالى هو أعلم منغيره بتفاصيل أحوالهم - من نواياهم وأقوالهم وأفعالهم - لا يعزب عنه شيء منهم؛ لأن علمه عين ذاته وهو محيط بكل شيء، أما علم غيره فهو معلومات عارضة وناقصة، وكأنّ المقصود بيان جزائه لكلا الفريقين لعلمه التام، وقد يقال: إن استعمال التفضيل بين اللّه وبين غيره مجاز؛ إذ لا نسبة بين الخالق والمخلوق ولا مقارنة بين صفاته وصفاتهم، فأفعل التفضيل يراد به كمال الصفة من غير نقص أو خلل فيها، فالأعلم فيه تعالى بمعنى العالم بكل التفاصيل، وإنما صحّ هذا المجاز لأن صفاته غير موجودة في مخلوقاته، وانسلاخ أفعل التفضيل عن التفضيل كثير كقوله تعالى: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}(1) فإن ما كانوا يدعونه إليه لم يكن محبوباً أصلاً.

وقوله: {أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ} بحذف الباء كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(2).

ص: 270


1- سورة يوسف، الآية: 33.
2- سورة القلم، الآية: 7.

الآيات 118-121

اشارة

{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بَِٔايَٰتِهِ مُؤْمِنِينَ 118 وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ 119 وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ 120 وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ 121}

118- ثم يبين اللّه تعالى أن الإيمان والشرك كما يؤثران في طهارة أو رجس الإنسان، كذلك يؤثران في حلية لحوم الأنعام، فقال: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} حين تذكيته لا الذي ذكر اسم الأصنام عليه {إِن كُنتُم بَِٔايَٰتِهِ مُؤْمِنِينَ} لأن الإيمان بالآيات يقتضي تحليل ما أحلّ اللّه تعالى.

119- {وَمَا لَكُمْ} الاستفهام إنكارى، والمعنى أيُّ شيء يحملكم على {أَلَّا} أن لا {تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ} الحال أن اللّه تعالى {قَدْ فَصَّلَ لَكُم} بيّن بياناً واضحاً {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} كالميتة وليس منها ما ذكر اسم اللّه عليه حين تذكيته {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} حيث أباح حين الاضطرار ما حرّمه، {وَ} أما الذين يلقون الشبهات في ذلك فلا تصغوا

ص: 271

إليهم ف{إِنَّ كَثِيرًا} من الناس {لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم} عبر تحريم ما أباحه اللّه تعالى متّبعين آراءهم الزائفة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} فكيف تتبعونهم؟! ثم يهدّدهماللّه تعالى قائلاً: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} الذين يتجاوزون الحق إلى الباطل بالإضلال وباتّباع المضلّين.

120- {وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الْإِثْمِ} أي الإثم الواضح {وَبَاطِنَهُ} الإثم الخفيّ، وهذا كالجواب عن شبهة عدم فرق المذكى وغير المذكى، فيقال: إن غير المذكى من باطن الإثم {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ} بالعمل بالمعاصي {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} يرتكبون.

121- {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} بأن ذكر اسم الأصنام عليه وكذا لو مات حتف أنفه {وَإِنَّهُ} إن أكله {لَفِسْقٌ} خروج عن طاعة اللّه فلذا كان إثماً {وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ} بالوسوسة وإلقاء الشبهات {إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ} أتباعهم {لِيُجَٰدِلُوكُمْ} كأن يقولوا أيّ فرق بين المذبوح بالتسمية والمذبوح بغير التسمية {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في تحليل الحرام وتحريم الحلال {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} مثلهم في الشرك.

تأثير الشرك في خبث المأكولات

بحوث

الأول: الأقرب في وجه تفريع حلية وحرمة الذبائح في قوله: {فَكُلُواْ} هو أن للشرك والإيمان تأثيراً في طيب وخبث الحيوانات فضلاً عن طهارة ورجس قلوب الناس، وبعبارة أخرى ليس الإيمان والشرك مجرد أمر قلبي وله جزاء في الآخرة، بل هما يؤثران في الأشياء وفي الأحكام الفرعية أيضاً، فهما يرتبطان بكل مناحي الحياة في الدنيا والآخرة.

ص: 272

وقيل: التفريع لبيان أنه كما يجب عليكم التوحيد ورفض الشرك قلباً كذلك يجب عليكم إطاعة اللّه ورفض ضلال المشركين.

وقيل: لما نهى عن إطاعة المشركين في الشرك بقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَمَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ}، أردفه بالنهي عن إطاعتهم في فروع الدين ومثاله ما يحرمونه ويحلونه من الذبائح.

ثم إن اللّه تعالى قدّم بيان حكمه بحلية الذبيحة التي ذكر اسم اللّه تعالى عليها مع بيان أن القبول بحكمه بتحليل الحلال هو من الإيمان بآياته، ثم بيّن أن المنع عمّا أحله اللّه تعالى هو ضلال ومنشؤه الأهواء والجهل والتعدي على حدود اللّه تعالى، ثم يدفع اللّه شبهة عدم الفرق بين المذكّى وغير المذكّى بأن غير المذكّى من الإثم الخفي لذلك كان فسقاً، ثم ينهى عن أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه لأنه خروج عن الطاعة، ثم يحثّ المؤمنين على عدم الإصغاء للشبهات التي يثيرها أولياء الشياطين بوسوستهم.

الثاني: قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بَِٔايَٰتِهِ مُؤْمِنِينَ}.

الأمر في {فَكُلُواْ} للإباحة؛ لأنه بعد توهم الخطر والمنع عبر الشبهات التي أثارها المشركون، والمقصود هو أحِلّوا ما أحلَّه اللّه تعالى، وقد أحلّ اللّه الذبيحة التي سُمّي اسمه حين ذبحها، وهذا يكشف عن الإيمان بآيات اللّه التي أنزلها لكم في حليتها، وأما من يرفض الآيات أو يشك فيها فيتأثر بالشبهات ويمتنع عن أكلها فهو غير مؤمن؛ إذ الإيمان هو الإذعان في القلب، ومن رفضها بقلبه وأظهر الإيمان بلسانه فهو منافق، ومن شك فيها

ص: 273

فهو غير مؤمن.

وقوله: {بَِٔايَٰتِهِ} أي آيات القرآن التي بيّنت حليتها.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَلَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ}.

استفهام إنكاري، وفيه أيضاً حثّ وتحضيض على قبول أحكام اللّه تعالى، والمعنى أيّ شيء يمنعكم عن أكله مع أن اللّه قد أوضح لكم الحلال عن الحرام؟!

والجواب: إنه لا شيء يمنع سوى عدم الإيمان بآيات اللّه تعالى واتّباع المضلّين الذين يلقون الشبهات بالجهل والأهواء والإعتداء.

وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم...} أي بيّن لكم المحرمات بشكل واضح وذلك في سورة النحل حيث نزلت قبل سورة الأنعام - وكلاهما مكّيتان - قال سبحانه: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1)، حيث حصر الحرام في المذكورات وليس فيها ما سُمّي اللّه حين ذبحه فهو داخل في الرزق الحلال الطيب الذي أحلّه، ومن هذا يتبين قوله: {فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} من دون ذكر ما أحلّه لكم؛ لأن آية سورة النحل حصرت المحرمات وأباحت ما سوى ذلك فكان التفصيل بذكر الحرام فقط، أو المقصود هو: (فصل ما حرم عليكم وما أحلّ لكم) لكن اكتفى بأحدهما إما

ص: 274


1- سورة النحل، الآية: 114-115.

لوضوح الآخر، وإمّا لأن محور الكلام في هذه الآية هو تحريمهم ما أحلّه اللّه فيقال لهم إن اللّه قد فصّل ما حرّم ولم يكن هذا منها.

وقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} كأنّ المقصود من ذكر هذا الاستثناء هوبيان أن اللّه تعالى ذكر المحرمات وذكر استثناء حالة الاضطرار، وليس المذكّى الذي سُمّي اللّه عليه من المحرمات المذكورة، ولا هو في الاستثناء حتى تنحصر حليته بحالة الاضطرار، بل هو حلال في الاضطرار وغيره.

أسباب مخالفة أحكام اللّه تعالى

الرابع: قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ...} الآية.

بيان لسبب مخالفة حكم اللّه وتحريم ما أحلّه وهو إضلال المضلين الذين يلقون الشبهات فيتأثر بها غير المؤمنين، لكن لا وجه لاتّباع ضلالاتهم لأنها لا تستند إلى شيء صحيح، بل منشؤها الأمور التالية:

1- الهوى، فقال: {بِأَهْوَائِهِم} أي شهواتهم وآرائهم الباطلة، حيث إن هؤلاء يسوقون الناس إلى حيث مالت إليه أهواؤهم.

2- الجهل، فقال: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بل بشبهات وسفاسف من القول زخرفاً وغروراً، ولعلّ ذكر الجهل بعد الأهواء لزيادة التشنيع عليهم، وعلى من يتّبعهم حيث تركوا آيات اللّه الواضحة واتبعوا جهالات هؤلاء المضلّين، ولأن الهوى قد يتطابق مع الحق قليلاً، كمن ينتقم من قاتل أبيه بقصاصه بحسب حكم الشرع، فأراد التأكيد بأن هواهم عن جهل لا عن علم.

3- الاعتداء، فقال: {بِالْمُعْتَدِينَ} وهو تجاوز الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام.

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} كأنّه تهديد لهم بأن إضلال

ص: 275

المضلّين واتّباع الضالين لهم هو في علم اللّه فيجازيهم عليه.

الخامس: قوله تعالى: {وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ...} الآية.

كأنّه جواب عن شبهة بأنه لا نرى فرقاً بين الذبيحة التي ذكر اسم اللّه عليها وبين الذبيحة التي ذكر اسم الأصنام عليها، فلماذا حلّت الأولى وحرمت الثانية؟

فيقال لهم: إن الإثم قد يكون ظاهراً للجميع كالسرقة وقد يخفى على الناس لكن ذلك لا يخرجه عن كونه إثماً، فكل إثم قبيح، فالطعام المسموم - حتى لو كان لذيداً - خبيث يجتنبه العاقل، ويستمع إلى كلام من أخبره بأنّه مسموم حتى لو لم يعلم هو ذلك، وهكذا الذنوب قد يخفى قبحها وخبثها على الناس لكن اللّه تعالى بلطفه ورحمته يخبرهم عن ذلك وعليهم إطاعته إن كانوا مؤمنين حقاً، فإن لم يطيعوه فذلك سفاهة تؤدي بهم إلى العقوبة.

وقوله: {ظَٰهِرَ الْإِثْمِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الإثم الظاهر، وهكذا {وَبَاطِنَهُ} أي الإثم الخفي، ومن مصاديقهما المعاصي التي هي من ظاهر الإثم، والشرك والشك اللذان هما من باطنه، وأمّا حمل الظاهر على الجهر والباطن على السرّ كالزنا جهراً وسراً، فخلاف سياق الآية، بل الباطن يشمل الإثم الخفي حتى لو جاهر به، قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}(1)، فقد كانوا يتجاهرون به ويعتبرونه نكاحاً مشروعاً مع أنه من

ص: 276


1- سورة النساء، الآية: 22.

الفاحشة واقعاً.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}.

بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم اللّه عليه، نهى عن الأكل مما لم يذكر اسم اللّه عليه؛ إذ كما تجب طاعة اللّه في أوامره بالائتمار، كذلك تجب طاعته في نواهيه بالانزجار، وكأنّ المقصود ما ذبح على الأنصاب وما ذكر عليه اسم الأصنام لقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وقد قال تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}(1)؛ وذلك لأن سياق الآيات بيان التوحيد والشرك وبيان تأثيرهما حتى على خبث أو طيب الذبائح، والميتة حتف أنفها وإن كان حكمها الحرمة أيضاً كما بينته آية النحل وآيات أخرى إلاّ أنها ليست المقصود في هذه الآيات.

وقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الضمير يرجع إلى المصدر المستفاد من الفعل المذكور، أي وإن الأكل، أو مرجعه إلى الذبيحة التي لم يذكر اسم اللّه عليها حيث جمعت بين خباثة الميتة وشرك المشركين فكأنّها صارت الفسق بعينه.

السابع: قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ...} الآية.

تحذير للمؤمنين من الإصغاء لشبهات المضلّين، بأن ما يقولونه من وساوس الشياطين لأجل الجدل وإلقاء الشك لا لأجل ظهور الحق؛ لأن المبطل الذي يعلم بأنه مبطل لا يجادل إلاّ للتشويش على الحق وإغواء الناس عنه، قال تعالى: {وَيُجَٰدِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ

ص: 277


1- سورة الأنعام، الآية: 145.

الْحَقَّ}(1)، وقال: {وَجَٰدَلُواْ بِالْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ}(2)، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنيُجَٰدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٖ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(3).

قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} حيث إن الكلام في هذه الآيات حول ذكر اسم الأصنام على الذبائح فمن استحل ذكرها خرج عن التوحيد إلى الشرك حقيقة. نعم، من أكلها غير معتقد بالأصنام كان عمله كعمل المشركين فيكون فاسقاً لا مشركاً، وقيل: الشرك هنا هو الشرك الخفي الذي لا يخرج عن الملّة كالرياء، وكل من عصى اللّه وأطاع غيره فقد أشرك به شركاً جلياً أو شركاً خفياً، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}(4)، وقيل: (مشركون) بمعنى إنكم مثلهم فقد اشتركتم معهم في العصيان.

ص: 278


1- سورة الكهف، الآية: 56.
2- سورة غافر، الآية: 5.
3- سورة الحج، الآية: 8-9.
4- سورة المائدة، الآية: 51.

الآيات 122-124

{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 122 وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ 123 وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ 124}

122- ثم يضرب اللّه تعالى مَثَلاً فقال: {أَوَ} الاستفهام للإنكار للدلالة على عدم تساوي الفريقين ف{مَن كَانَ مَيْتًا} جاهلاً عن أصول الدين {فَأَحْيَيْنَٰهُ} بالإيمان بها حيث وفقناه لذلك {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} منهاجاً لسعادته وإمام هدىً يأتم به {يَمْشِي بِهِ} بذلك النور {فِي النَّاسِ} فيرى مسيره في حياته، ليس {كَمَن مَّثَلُهُ} وصفه أنّه {فِي الظُّلُمَٰتِ} ظلمات الضلالة والجهل؛ إذ لا نور سوى المنهاج الذي شرّعه اللّه تعالى، {لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا} يتخبط فيها {كَذَٰلِكَ} نظير هذا المثل {زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ} الأتباع الضالين {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، زينها لهم كبراؤهم فهم في ضلال لا يخرجون منه.

123- {وَكَذَٰلِكَ} نظير هذا المثل أيضاً الكبراء المضلون فقد {جَعَلْنَا}

ص: 279

الجعل بمعنى تركهم وشأنهم وعدم منعهم قهراً {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ} جمع أكبر {مُجْرِمِيهَا} المضلّين للناس {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} اللام للعاقبة، أي عاقبةتركنا إياهم وعدم إكراههم على الإيمان أنهم مكروا ضد الرسل والمنهاج الصحيح فأضلّوا الناس، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ} أي وبال مكرهم يرجع إليهم فسوف يعاقبون على ضلالهم وإضلالهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} لا يدركون ذلك؛ لأن الهوى أعمى بصائرهم.

124- {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ} جائت الأكابر {ءَايَةٌ} دلالة على التوحيد والرسالة {قَالُواْ} تكبراً وحسداً وبغياً: {لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ} الرسالة {مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ} فيُوحى إلينا كما أوحي إليهم! لكن توقعهم باطل؛ إذ هم لا يليقون لمنصب الرسالة و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أي أعلم بالمكان القابل للرسالة، لكن وبال تكبرهم هذا يرجع إليهم ف{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ} بالعناد على الكفر وتكذيب آيات اللّه {صَغَارٌ} ذلّ {عِندَ اللَّهِ} في يوم القيامة {وَعَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} بسبب مكرهم.

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى المهتدين والضالين والمُضلّين ذكر مثالاً لهم، والمثال يقرّب المعنى إلى الذهن، وخاصة تشبيه الأمور المعنوية بالأمور المحسوسة؛ لأن الناس يألفون الماديات فيمكن جعلها قنطرة لفهمهم المعنويات، وقد مرّ أن المَثَل هو وصف الشيء، وغالباً يكون وصفه عبر ذكر شبيهه، فهنا يتمّ تشبيه المؤمن بالميت الذي أحياه اللّه وأنار الطريق له فهو ينفع وينتفع ويرى طريقه فلا يصطدم بالعقبات والمخاطر ويصل بذلك

ص: 280

إلى مقصوده، وتشبيه الكافر بالذي في الظلمات ولا يريد الخروج منها فهويتخبط في مشيه ويصطدم بالأخطار ولا يصل إلى مبتغاه، وحيث إن الكفار منقسمون بين أتباع ضالين وبين أكابر مُضلّين لذا ضرب اللّه المثل لكليهما، فأما الأتباع فهم لا يخرجون من ظلمات الجهل لأنه زُيّن لهم أعمالهم، وأما الأكابر فهم يمكرون فيها عبر نشر الظلام، لكنهم يتضرّرون بذلك الظلام فيرجع سوء مكرهم إليهم، فهؤلاء يعرفون النور لكنهم أعموا أبصارهم وبصائرهم لئلا يرونه.

الثاني: قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي...} الآية.

الهمزة للاستفهام الإنكاري، أي إنكار تساوي الفريقين، والواو استيناف.

قوله: {كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ} المَثَل للمؤمنين فالجاهل الذي لا يعرف شيئاً كالميت، فإذا علم واهتدى إلى الإيمان - والذي منه الولاية - فقد أُحيي.

وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} الإيمان - الذي منه الولاية والائتمام بأئمة العدل - كالنور الذي يرى الإنسان به طريقه في الظلمات.

وقوله: {يَمْشِي بِهِ} التبصّر في أسلوب الحياة كالمشي بهدي النور في الظلمات، حيث إن منهج الإنسان في فكره وقوله وعمله في حياته كالسير في الطريق.

وقوله: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَٰتِ} لا يخفى أنه شبّه المؤمن بالميت الذي أحياه وجعل له نوراً، لكن مثّل للكافر بالذي في الظلمات ولم يذكر الميت الذي بقي على موته؛ إذ حينئذٍ لا معنى لتمثيله بالذي في الظلمات لا

ص: 281

يخرج منها فلذا اقتصر في مَثَل الكافر بالظلمة.

وقوله: {لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَا} لأنه لا نور سوى ما نهجه اللّه تعالى، فإذا رفضه فهو باق في الظلمات، كلّّما خرج من ظلمة دخل في ظلمة أخرى ولعلّه لذلك جمع الظلمات وأفرد النور.

وقوله: {كَذَٰلِكَ زُيِّنَ...} هذا مَثَل الأتباع الضالين، وهؤلاء سبب بقائهم في الظلمات هو تزيينها لهم، ولعلّ المُزيِّن هنا الأكابر الضالون.

الثالث: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا...} الآية.

هذا مَثَل للمضلين، حيث إن مَثَل الظلمات للطائفتين: الضالة وقد ذكرها في الآية السابقة، والمضلّة وقد ذكرها في هذه الآية، ولذلك كررّ كلمة {وَكَذَٰلِكَ}، وقد ذكر بعض المفسرين وجوه أخرى في مرجع إسم الإشارة في الآيتين لكنها بعيدة عن سياق الآيات والأقرب ما ذكرناه، واللّه العالم.

وقوله: {جَعَلْنَا} لأنه تعالى خلقهم وقدّر قوّتهم، لكنهم أساؤوا، فلم يمنعهم قهراً بحكمته، ولذا عبر عنه بالجعل.

وقوله: {أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا} خصّهم بالذكر لأنهم منشأ الإضلال؛ حيث إنهم لو كانوا يؤمنون بما علموه حقاً لاتّبعهم عامة الناس، وإجرامهم هو كفرهم وصدّهم عن سبيل اللّه وإضلالهم للناس.

وقوله: {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} اللام للعاقبة، والمكر هو العلاج الخفي سواء كان حسناً أم قبيحاً لكن أكثر استعماله في المكر السيّئ، ومكرهم هو بمعارضة الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) وإلقاء الشبهات وإضلال الناس.

ص: 282

وقوله: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ} أي ضرر هذا المكر يرجع إليهم كماقال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}(1)، وقيل: كأنّ هذا وعد للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنصر الدين وعدم ضرر مكرهم عليه.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ...} الآية.

بيان أن الأكابر يعلمون بالحق فقد جاءتهم الآية وعلموا بها، لكن الذي منعهم عن قبولها هو التكبر والحسد، حيث تكبّروا عن قبول رسالة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحسدوه على ذلك، وفي مجمع البيان: «نزلت في الوليد بن المغيرة قال: واللّه لو كانت النبوة حقاً لكنتُ أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً، وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبيّ يوحى إليه، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه»(2).

وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فليست الرسالة بالعمر ولا بالمال ولا بالسلطة، بل هي تحتاج إلى قابلية، ولا تحصل تلك القابلية إلاّ باصطفاء اللّه تعالى واجتبائه، فهو أعلم بمن اصطفى فلذا يجعله نبياً ويرسله لهداية الناس، و{حَيْثُ} هنا اسم بمعنى المكان والمحل.

وقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ} هذا جزائهم، وكأنّه بيان لقوله: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ}.

ص: 283


1- سورة فاطر، الآية: 43.
2- مجمع البيان 4: 223.

وقوله: {صَغَارٌ} هو الذل والهوان وهذا جزاء تكبرهم واستكبارهم عن قبول الحق.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} المراد به في الآخرة حيث الحساب.

ص: 284

الآيات 125-127

{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ 125 وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَذَّكَّرُونَ 126 لَهُمْ دَارُ السَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 127}

125- ونتيجة الإحياء والنور من جهة وعدم الخروج من الظلمات من جهة أخرى هو شرح الصدر وضيقه {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} إلى الإيمان في الدنيا وإلى الجنّة ودار الكرامة في الآخرة {يَشْرَحْ} يوسّع {صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ} للتسليم للّه تعالى والثقة به والسكون إلى الآخرة {وَمَن يُرِدْ} اللّه سبحانه {أَن يُضِلَّهُ} حيث عاند {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا} بالكفر فلا ينفذ فيه الإسلام {حَرَجًا} لا يتغيّر عنه أبداً فلا يخرج كفر منه ولا يدخل إيمان فيه، ثم مثّل له بأمر غير ممكن فقال: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} فكما أن الصعود إليها في غاية الصعوبة بل غير ممكن {كَذَٰلِكَ} إيمان هذا القلب غير ممكن؛ إذ {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} القذر ومنه الشك وعدم اليقين {عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} عقوبة لهم على عنادهم.

126- {وَهَٰذَا} الإسلام {صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} لا اعوجاج فيه فهو حق ويوصل إلى الحق فلم يكن كفر المعاندين بسبب غموض الدين وعدم

ص: 285

فهمهم له وإنما بسبب عدم تذكرهم له ف{قَدْ فَصَّلْنَا} بيّنا {الْأيَٰتِ} الدالة على هذا الصراط المستقيم {لِقَوْمٖ يَذَّكَّرُونَ} هم المنتفعون به حيث تخرجهم الآيات عن الغفلة وتذكّرهم بفطرتهم وما يقضيه عقلهم.

127- {لَهُمْ} لهؤلاء المهتدين المتذكرين {دَارُ السَّلَٰمِ} الجنة السالمة من جميع الآفات المادية والمعنوية {عِندَ رَبِّهِمْ} عند كرامته {وَهُوَ وَلِيُّهُم} يتولّى أمرهم بالتوفيق والجزاء الحسن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بسبب أعمالهم الصالحة.

بحوث

الأول: لما ضرب اللّه تعالى في الآيات السابقة مَثَلاً للمؤمنين والكافرين بأن مَثَل المؤمنين كالميت الذي أحياه اللّه وجعل له نوراً، ومَثَل الكافرين كالذي هو في الظلمات، بعد ذلك فرّع عليه بأن حياة المؤمن ونوره هو باتساع صدره للإسلام، وظلمة الكافر هو بضيق صدره بحيث لا يتسع له، بل يكون محلّاً للرجس الذي هو الكفر، ثم يمثّل لعدم اتساعه للإيمان بأمر غير ممكن وهو الصعود إلى السماء فكذلك يستحيل دخول الإيمان في هذا القلب، ثم يبيّن اللّه تعالى بأن ضيق قلوبهم بسبب أنفسهم حيث لم يؤمنوا مع أن اللّه تعالى قد بيّن الصراط المستقيم للجميع إلاّ أنهم لم يتذكروا به، والمؤمنون هم الذين تذكروا به واتبعوا الصراط المستقيم ولذا جازاهم اللّه تعالى بالجنة.

الثاني: قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ...} الآية.

الفاء في قوله: {فَمَن} للتفريع، أي هذا هو نتيجة ما ذكر في الآيات

ص: 286

السالفة، فحياة المؤمن ونوره هو قبول قلبه للإسلام، وظلمة الكافر هي عدم قبول قلبه له.

قوله: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} وذلك لحسن صنيعه وعدم عناده، وهذه الهداية هي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى إراءة الطريق فهي عامة للجميع، وهي هداية تشريعية بقبول الإسلام قلباً وعملاً، وهداية تكوينية إلى الجنة والرضوان.

قوله: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَٰمِ} كناية عن قبوله للإسلام، فكما أن الشيء الواسع تنفذ الأشياء فيه كذلك قلب المؤمن ينفذ الإيمان فيه، فالصدر يتسع لأحد الأمرين: الإسلام أو الكفر، فإن لم يكن فيه كفر وسع للإسلام، وإن لم يكن فيه إسلام دخله الكفر فضاق عن الإسلام، قال تعالى: {وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}(1).

وقوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} أي ضيقاً على الإسلام؛ لأن الكفر قد نفذ في قلبه فلم يدع مجالاً للإسلام، وذكر وصف الضيق والحرج لعلّه لأجل التأكيد لعدم قبول هذا القلب للّهداية، أو أن الضيق في قبال الشرح، وكأنّه لكي لا يتوهم أنه ينفذ فيه شيء ولو قليل من الإسلام أضاف {حَرَجًا} الذي هو بمعنى عدم نفوذ أيّ شيء فيه وعدم تغيّره عما هو عليه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أتدري ما الحرج؟» قلت: لا، فقال بيده وضمّ أصابعه كالشيء المُصمَت لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء(2).

ص: 287


1- سورة النحل، الآية: 106.
2- تفسير العياشي 1: 377؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 45.

الثالث: قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}.

كأنّه ضرب لمَثَل آخر لأجل بيان استحالة إيمان هؤلاء المعاندين فكما أن الصعود إلى السماء من غير وسيلة محال كذلك إيمان المعاندين محال، قال تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}(1)، أي ليرتق ِ إلى السماء بحبل ويقطع المسافة، وفي تفسير الصافي: «مبالغة في ضيق صدره بتشبيهه بمن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء مَثَل في ما يبعد عن الاستطاعة ويضيق عند القدرة»(2)، وقيل: هو إشارة إلى قلة الهواء في الطبقات العليا من جو الكرة الأرضية، حيث كلّما ارتقى الإنسان شعر بضيق صدره لقلة الهواء كما يُلاحِظ ذلك الذين يتسلّقون الجبال العالية! لكنه بعيد لأن هذا لم يكن يعرفه أحد من المشركين، واللّه تعالى لا يذكر في ظاهر القرآن ما لا يفهمه عامة الناس، بل يذكر لهم ما يعرفونه ولا يتمكنون من إنكاره.

وقوله: {يَصَّعَّدُ} وأصله يتصَعّدُ، أدغمت التاء في الصاد، وهو من باب التفعّل ومن معاني هذا الباب: العمل المتكّرر في مهلة نحو: تجرّعته، أي شربته جرعة بعد جرعة، ومن معانيه: الاستفعال، أي طلب الشيء(3).

ص: 288


1- سورة الحج، الآية: 15.
2- تفسير الصافي 3: 97.
3- راجع شرح النظام على الشافية: 149.

وكلا المعنيين هنا ممكن، والأول أنسب، قيل: إن التعبير ب{فِي السَّمَاءِ} وليس (إلى السماء)، وهكذا اختيار باب التفعّل بدلاً عن المجرد لأجل تصوير الصعوبة والشدة بوضوح.

وقوله: {كَذَٰلِكَ} أي كما أن الصعود في السماء غير ممكن كذلك إيمان قلب المعاند.

وقوله: {الرِّجْسَ} هو القذر، والمراد بيان قذارة الكفر وقذارة قلوبهم به، ومن مصاديقه الشك الذي يوجب اضطراب القلب وعدم اطمئنانه.

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه سُئل عن هذه الآية فقال: «من يرد اللّه أن يهديه بإيمانه في الدنيا وإلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم للّه والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} حتى يشك في كفره ويضطرب من اعتقاد قلبه حتى يصير {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}»(1).

وقوله: {عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} بيان أن ما صنع بهم من إرادة اللّه إضلالهم وجعل الرجس على قلوبهم إنما هو بسوء اختيارهم حيث رفضوا الإيمان عناداً.

الرابع: قوله تعالى: {وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْأيَٰتِ لِقَوْمٖ يَذَّكَّرُونَ}.

ص: 289


1- التوحيد، للصدوق: 242-243.

كأنّه بيان لعدم عذر أولئك الكافرين في كفرهم، حيث إن اللّه سبحانه بيّن طريق الهداية بشكل واضح ومطابق لفطرتهم وعقلهم حيث ذكّرهم بهما إلاّ أنهم لم يتذكروا عناداً فليس الذنب إلّا ذنبهم.

و(الصراط) هو الطريق الواضح، وكونه مستقيماً بمعنى وضوحه؛ إذ لا اعوجاج يسبب الغفلة عنه، وقيل: المقصود من هذا هو سنة اللّه في الهداية والإضلال - المذكورين في الآية السابقة - فيكون المعنى هذه سنة اللّه وهي عادلة مطردة! والأول أصحّ.

وقوله: {لِقَوْمٖ يَذَّكَّرُونَ} أي إنّ ما بيناه مفصلاً هو تذكير لهم بما في فطرتهم وما يدل عليه عقلهم وقد كانوا غافلين عنه، لكن لا ينتفع بهذا التذكير إلاّ من يتذكر، أما من يصمّ سمعه ويعمي بصره فلا، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(1)، وقال: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(2)، وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

بيان جزاء المهتدين المتذكرين، وأما جزاء الضالين فسيأتي في الآيات التالية، ثم ذكر جزائهم في ثلاثة أمور:

1- قوله: {دَارُ السَّلَٰمِ} أي الجنة لسلامتها من جميع الآفات والنقائص

ص: 290


1- سورة الذاريات، الآية: 55.
2- سورة ق، الآية: 37.
3- سورة الأعلى، الآية: 10.

والمنغِّصات - مادية ومعنوية - .

2- وقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} عند كرامته، وقيل: المعنى أن ذلك في ضمانه لأنه وعد به فيوصلهم إليه حتماً.

3- وقوله: {وَهُوَ وَلِيُّهُم} أي يتولى أمورهم بإيصال النفع إليهم ودفع الضرر عنهم وإيصالهم إلى المطلوب، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(1)، وقال: {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}(2).

ص: 291


1- سورة البقرة، الآية: 257.
2- سورة الأعراف، الآية: 155.

الآيات 128-130

اشارة

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٖ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَىٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ 128 وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 129 يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ 130}

128- {وَ} أما الكفار القابعين في الظلمات فاذكر {يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} يجمعهم في يوم القيامة {جَمِيعًا} كلَّهم فلا يغادر منهم أحداً، قائلاً لهم توبيخاً: {يَٰمَعْشَرَ} جماعة {الْجِنِّ} الشياطين {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ} أي طلبتم كثرة جماعتكم عبر إضلالهم، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم} أتباعهم {مِّنَ الْإِنسِ} معتذرين عن اتّباع الشياطين: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٖ} أي أردنا الاستمتاع والالتذاذ {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا} نهاية مدة بقائنا في الدنيا {الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} فأنت الذي أمهلتنا فاستغللنا المدة في الاستمتاع!

{قَالَ} اللّه تعالى في جوابهم: أما جزاء استمتاعكم غير المشروع فهو {النَّارُ مَثْوَىٰكُمْ} مقامكم.

ص: 292

وأما الأجل فقد كان في الدنيا ولا أجل في الآخرة فأنتم {خَٰلِدِينَ فِيهَا} في النار {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} بيان قدرة اللّه تعالى على إخراجهم منها لكنه لا يفعل لعدم الحكمة في ذلك ف{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في تخلديهم في النار{عَلِيمٌ} باستحقاقهم ذلك.

129- {وَكَذَٰلِكَ} كاستمتاع الشياطين وأوليائهم من الإنس بعضهم ببعض {نُوَلِّي} نجعل الولاية والتبعية {بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا} فنتركهم ونكلهم إلى أنفسهم {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بسبب أعمالهم.

130- وأما اعتذارهم بأن اللّه أجّل لهم المدة فإنه أجّل وأرسل الرسل ليتم بذلك الامتحان فلا عذر لهم في مخالفتهم {يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} المذكورين وهم الشياطين وأولياؤهم من الإنس {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} استفهام تقريري {رُسُلٌ مِّنكُمْ} من المجموع فكأنّ الجن والإنس مجموعة واحدة وكانت الرسل من جنس هذا المجموع {يَقُصُّونَ} يبيّنون {عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِي} الحجج والدلائل {وَيُنذِرُونَكُمْ} يخوفونكم {لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا} القيامة؟

وهنا لا محيص لهم من الاعتراف والإقرار حيث دُحضت حجتهم ف{قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا} بإتيان الرسل وقصّهم وإنذارهم، {وَ} لكن {غَرَّتْهُمُ} خدعتهم {الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} فلذلك لم يستمعوا إليهم ولم يتّبعوهم {وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ} فشهادتهم الأولى على إتيان الرسل والشهادة الثانية على عدم اتّباعهم فكفروا.

ص: 293

عاقبة الضالين والمضلّين

بحوث

الأول: حاصل هذه الآيات هو بيان عاقبة الضالّين والمُضلّين المكذبين للآيات والرسل، بعد أن بيّن مصير المهتدين المتذكرين، وذلك إن اللّه تعالى يجمع في يوم القيامة الشياطين والكفار من الإنس حيث كان يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ويُضلّ بعضهم بعضاً وكانوا قد قبعوا فيالظلمات ولم يخرجوا منها، ويحاسبهم ليتبيّن لهم عدله وأن عقوبتهم إنما هي عن استحقاق بسبب ما أجرموا.

ففي البداية يفسح لهم المجال في الدفاع عن أنفسهم، ولا حجة لهم إلاّ أنهم أرادوا الاستمتاع وأن اللّه هو الذي أمهلهم، كالوصي إذا نهب مال اليتيم فلمّا يُحاسَب على فعله يقول إنه أراد الاستمتاع بتلك الأموال وأن الميت هو الذي جعله وصيّاً فكأنّ الذنب ذنبه حيث أوصى إليه!

ثم إن اللّه تعالى يدحض حجتهم كلمة كلمة... .

فأما استمتاعهم غير المشروع فيقابله العذاب الأليم.

وأما امهالهم في الدنيا بالأجل والمدة فيقابله الخلود في النار لاستحقاقهم لذلك.

وأما اعتذارهم بأن اللّه هو الذي أعطى المهلة ولم يمنعهم عن المعصية فيقال لهم: إنه لا عذر لكم في ذلك؛ لأنه بحكمته أراد اختباركم فأمهلكم وأرسل لكم الرسل ليبينوا لكم الدلائل ويخوفونكم مغبّة المعصية لكنكم تركتم قولهم اغتراراً بالحياة الدنيا.

وحينئذٍ لمّا دحض اللّه حجتهم يضطرون إلى الاعتراف بأن الذنب ذنبهم،

ص: 294

وأن اللّه قد أنذرهم عبر الرسل ولكنهم كانوا كافرين، فلذلك استحقوا العذاب، كل ذلك في قبال ما للمهتدين حيث قال: {لَهُمْ دَارُ السَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

الثاني: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم...} الآية.

إما بمعنى ويقول لهم اللّه في هذا اليوم، أو بمعنى واذكر اليوم الذي يقول لهم هذا الكلام وذلك حينما يجمعهم جميعاً: الشياطين المُضلّين والإنس الضالّين.

وقوله: {قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ} أي جعلتم أنفسكم كثيرين عبر إضلالكم الكثير من الناس حيث صاروا من حزبكم، فقد طلبتم الكثرة، أو صرتم كثرة بهم، فإن باب الاستفعال قد يكون لطلب الشيء وقد يكون لتحوّل الشيء مثل استحجر الطين، وإنما استكثروا منهم لأن إبليس أقسم على إضلالهم، قال سبحانه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ}(1).

وقوله: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم...} أي قالوه للاعتذار عن عملهم واحتجاجاً له.

وقوله: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٖ} الاستمتاع طلب المتعة، وأما استمتاع الشياطين فهو التذاذهم من إغواء بني آدم الذي أقسم إبليس عليه، قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}(2)، وهو استمتاع بالانتقام من

ص: 295


1- سورة الأعراف، الآية: 16-17.
2- سورة ص، الآية: 82.

آدم (عليه السلام) في ذريته، وأما استمتاع الإنس بالشياطين فلأنهم دلّوهم على مواطن اللذة غير المشروعة وحملوهم عليها بوسوستهم، وفي التقريب: «فإن الإنسان الذي لم يملأ فراغ قلبه الحق يطلب متعة يستمتع بها، وما أجدر بالإغواء والإيحاء أن يملأ ذلك الفراغ، وهذا كالاعتذار من الأتباع الإنسيين،كما يقول أحد الناس إذا سئل عن عمله الباطل: أنه أتخذه وسيلة للتسلية وسدّ الفراغ»(1).

وقوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} كأنّ هذا ضمن اعتذارهم بأن اللّه هو الذي أمهلهم ولم يمنعهم قهراً عن ارتكاب الجرائم، فالمعنى إنك قد قدّرت لنا أجلاً ولو لم تُر ِد ارتكابنا للمعاصي لعجّلت الأجل قبل ارتكابنا لها لكنك لم تفعل ذلك وأمهلتنا إلى نهاية المدة.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَىٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ...} الآية.

دحض لحجتهم، وكأنّ فيه مراعاة التسلسل حسب كلامهم، فهنا بيان جزاء الاستمتاع غير المشروع عبر النار الأليمة فهو عذاب مناسب للجريمة، فكما استمتعت بغير الحق فذق الألم باستحقاق.

وقوله: {مَثْوَىٰكُمْ} الثواء هو الإقامة، وقيل: هو طول المقام.

وقوله: {خَٰلِدِينَ فِيهَا} أي لا أجل هاهنا، فالآخرة دار مقرّ، وأما الدنيا فدار ممرّ؛ لأن الجريمة وإن كانت في مدة معلومة لكن العقاب الذي يناسبها هو النار بما لا نهاية له، كالقاتل الذي يرتكب القتل في بضع ثواني

ص: 296


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 128.

لكنه يُخلّد في السجن في بعض القوانين الوضعية.

وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الاستثناء - كما مرّ نظيره - لبيان قدرة اللّه على إخراجهم، فليس خلودهم باقتضاء طبعي بل بإرادة منه تعالى، وليس الكلام في هذه الآيات في عصاة المؤمنين كي يقال إن الاستثناء لأجلهم حيثيخرجون من النار بعد الشفاعة والغفران.

وقوله: {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} لبيان أن خلودهم فيها بمقتضى الحكمة وعلم اللّه تعالى بأعمالهم ونواياهم.

الرابع: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.

كأنّه جواب عن سؤال: بأن اللّه تعالى لماذا لم يمنع الشياطين عن الولاية على الإنس؟ فالجواب: إنهم ظالمون واللّه يخذل الظالمين فيولّي بعضهم على بعض بسبب ظلمهم وسوء أعمالهم، وتوليته بمعنى تركهم وشأنهم وحينئذٍ يستولي بعضهم على بعض، أو إنه لبيان القاعدة العامة فبعد أن ذكر ولاية بعض الإنس الشياطين يبيّن أن القاعدة العامة هي ولاية الظالمين بعضهم لبعضاً، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(1)، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَٰطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(2).

وقوله: {نُوَلِّي} بمعنى نتركهم وشأنهم حتى يستولي بعضهم على بعض، وإنما نسب ذلك إلى اللّه تعالى لأنه خلقهم بهذه الكيفية القابلة لذلك ثم لم

ص: 297


1- سورة الأنفال، الآية: 73.
2- سورة الأعراف، الآية: 27.

يمنعهم عنها بالقهر، ثم لمّا اختاروا العصيان قدّر اللّه ذلك وقضاه لأن كل ما يقع في الكون فإنما هو بقضاء منه وقدر ولا جبر فيه لأن من المقدمات ما هو باختيارهم، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(1)، ومن ذلك أن اللّهتعالى لمّا يريد الانتقام من الظالمين في الدنيا، يولّي ظالمين آخرين عليهم، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «ما انتصر اللّه من ظالم إلاّ بظالم» ثم تلا هذه الآية(2).

وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي بسبب أعمالهم كانت هذه العقوبة بتولية بعضهم على بعض.

الخامس: قوله تعالى: {يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ...} الآية.

كأنّه دحض لحجتهم بأن اللّه جعل لهم الأجل ولم يمنعهم عن ارتكاب المعاصي عبر تعجيل الأجل أو بالقهر، فيقال لهم إن اللّه أجّلكم لكن أرسل الرسل ليذكّروكم وكان من الحكمة خلقكم مختارين، فسبب ضلالكم هو انخداعكم بالحياة الدنيا وليس الذنب إلا ذنبكم.

قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ...} استفهام تقريري، أي بيان الحجة لأخذ الإقرار منهم بها، وهذا هو ما حصل حيث اضطروا إلى الاعتراف والشهادة على أنفسهم بما يستحقون معه العذاب.

وقوله: {رُسُلٌ مِّنكُمْ} حيث إن الخطاب للإنس والجن، فقد بحثوا في أنه هل من الجن رسلٌ؟

ص: 298


1- سورة الصف، الآية: 5.
2- الكافي 2: 334.

وأجيب تارة: بأن اللّه اعتبر الإنس والجن مجموعة واحدة ولذا قال: {يَٰمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} وحيث كان أنبياء الإنس من هذه المجموعة فلذلك قال: {رُسُلٌ مِّنكُمْ}.

هل هناك أنبياء من الجن؟

وتارة: بأن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أرسل إلى الجن منذرين منهم فكانوا رسلرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا أنهم أنبياء من اللّه، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}(1).

وتارة: بأن من الجن أيضاً رسل، وقد يستدل له بما رُوي أنه قد سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) : «هل بعث اللّه عزّ وجلّ نبياً إلى الجن؟ فقال: نعم، بعث إليهم نبياً يقال له يوسف، فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ فقتلوه»(2)، لكن لا دلالة له على أنه كان منهم، بل يدل على أنه أرسل إليهم فلعلّه كان من الإنس.

وعلى كل حال فإن رسالة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الثقلين من الإنس والجن دلت عليها الآيات والروايات كآية الأحقاف التي ذكرناها، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «إن اللّه عزّ وجلّ أرسل محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الجن والإنس»(3).

وقوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ...} أي لا عذر لكم في استمتاعكم غير المشروع؛ لأن الرسل قد ذكّروكم بالدلائل وخوفوكم عن عقاب يوم القيامة، ولكنكم خالفتموهم وعاندتم، فاستحققتم هذا العقاب.

ص: 299


1- سورة الأحقاف، الآية: 29.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 242.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 55.

وقوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا...} أي قالت الجن والإنس، ولا وجه لتخصيص هذا القول بالجن؛ لأن الخطاب موجّه لكليهما، وحيث استفهم استفهاماً إقرارياً بقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} اضطروا للاعتراف مرتين، مرة: بأن اللّه أرسل الرسل وبأن الرسل قصّوا وأنذروا، وحيث إن مئال هذه الشهادةإلى تضرّرهم لذلك قال: {شَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ}، ومرة أخرى: بأنهم خالفوا الرسل فكفروا بآيات اللّه تعالى.

وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} بيان سبب عدم إطاعتهم للرسل وعدم خوفهم من القيامة، وأن ذلك بسبب انخداعهم بملذّات الحياة الدنيا التي أورثت غفلتهم عن الآخرة.

ص: 300

الآيات 131-135

اشارة

{ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٖ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ 131 وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 132 وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ 133 إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأتٖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ 134 قُلْ يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ 135}

131- ثم يبيّن اللّه تعالى أن عذابهم ليس بظلم فيقول: {ذَٰلِكَ} العذاب بعد إرسال الرسل وإنذارهم {أَن} أي لأنّه {لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ} ليس من سنّته {مُهْلِكَ الْقُرَىٰ} بعذاب في الدنيا وبالنار في الآخرة {بِظُلْمٖ} بأن يظلمهم بالإهلاك {وَأَهْلُهَا} أي وحال كون أهلها {غَٰفِلُونَ} عن الدين وأحكامه.

132- {وَلِكُلّٖ} من الجن والإنس، أو من المهتدين والضالّين {دَرَجَٰتٌ} مراتب {مِّمَّا عَمِلُواْ} ناشئة عن أعمالهم.

ثم إن سبب الظلم إما الجهل أو الحاجة أو الخبث أو الضعف، واللّه تعالى منزّه عن كل ذلك، فهو العالم {وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} فكل شيء محفوظ عنده حتى بمثقال ذرّة.

ص: 301

133- {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} فلا يحتاج إلى الظلم ولا إلى أيّ شيء آخر، فهو الغني عن عباده لا تنفعه طاعة من أطاع ولا يضره عصيان من عصى.

وهو {ذُو الرَّحْمَةِ} فهو سبحانه خلق الخلق ليرحمهم فلا يعاقب إلاّ منلا يستحق اللطف به بالرحمة.

وهو القوي ف{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالإفناء والإهلاك {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ} يخلق آخرين مكانكم يخلفونكم فهو القادر على ذلك {كَمَا أَنشَأَكُم} أوجدكم {مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ} فأذهبهم واستخلفكم بدلاً عنهم.

134- ثم يؤكد اللّه تعالى المعاد بقوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} من القيامة وثوابها وعقابها {لَأتٖ} لا محالة {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بحيث تفوتونه فتهربون من حسابه.

135- {قُلْ} يا رسول اللّه مهدّداً لهم {يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ} أقصى ما تتمكنون به من العصيان {إِنِّي عَامِلٌ} بما استطيع من الطاعة {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة الحسنة في دار الآخرة وهو من أطاع اللّه تعالى، وأما من عصاه فعاقبته العذاب ف{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ} لا يفوز بالنجاة والثواب {الظَّٰلِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي وظلموا غيرهم بالصدّ عن سبيل اللّه تعالى.

بحوث

الأول: لمّا بين اللّه تعالى عقاب الكفار في الآخرة، بيّن أن ذلك بسبب سوء اختيارهم فهم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والعصيان،

ص: 302

وأن اللّه سبحانه لم يظلمهم لأن سنته جرت على عدم إهلاك قوم في حال غفلتهم، فلذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأن أعمال العباد تتجسم لهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

ثم يبين أسباب الظلم - وهي الجهل والحاجة والخبث والضعف - وينفيها كلّها عن اللّه تعالى، ثم يؤكد حساب وجزاء الجميع وعدم تمكنهم من الفرار منه لأن اللّه محيط بهم علماً وقدرة، ثم يهدِّدهم بأن الظلم منهم ووباله سيرجع إليهم.

الثاني: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٖ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ}.

{ذَٰلِكَ} تعليل وإشارة إلى ما ذكر في الآيات السابقة من عذابهم بعد مخالفتهم للرسل، فمحور الكلام هو العذاب، فليس هذا إشارة إلى علة بعث الرسل.

قوله: {أَن لَّمْ يَكُن} (أن) مخففة بتقدير لام التعليل، أي ليس من سنته تعالى عذاب الغافلين فإنه ظلم وهو سبحانه منزه عنه وعن كل قبيح، وسُننه تعالى كلّها حسنة حتى سننه في عقوبة المجرمين.

وقوله: {مُهْلِكَ الْقُرَىٰ} هلاكهم بعذاب دنيوي وبعقوبة في الآخرة، وأما البلايا كالسيل والزلزلة والطاعون ونحوها فقد لا تكون عذاباً ولذا تعمّ الجميع، وقد تكون عذاباً للظالمين وبلاءً رافعاً للدرجات وماحياً للسيئات للمؤمنين، أما الهلاك الدنيوي بعذاب فقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا * وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا

ص: 303

فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا}(1)، وقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةِ بَطِرَتْمَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَٰكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَٰرِثِينَ}(2)، وأما الهلاك الأخروي فواضح قال تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}(3).

ويمكن أن يقال: إن الهلاك في القرآن خاص بالعذاب الدنيوي لأنه هو الذي يستأصلهم، وأما في الآخرة فلا موت لهم في النار فلم يستعمل فيه كلمة الهلاك، واللّه العالم.

وقوله: {بِظُلْمٖ} أي يتعالى اللّه عن ظلمهم، وليس المراد ظلم أهلها لأن الظلم لا ينسجم مع الغفلة الحقيقية، فعمل الغافل ليس بظلم، وقد مرّ أنه لا محذور عقلاً من عقاب مَن خالف عقله وفطرته فظلم عمداً حتى لو لم يكن هناك رسل، وإنما لطف اللّه تعالى اقتضى عدم العذاب قبل إرسال الرسل، فتأمل.

الثالث: قوله تعالى: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ}.

بيان أن عقوبتهم ناشئة عن أعمالهم كما قال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَئًْا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(4)، وقال: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}(5)، فأعمالهم تتجسم بشكل ثواب أو عقاب أو إن الأعمال هي

ص: 304


1- سورة الإسراء، الآية: 15-16.
2- سورة القصص، الآية: 58.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- سورة يس، الآية: 54.
5- سورة يونس، الآية: 52.

سبب ذلك الجزاء.

وقوله: {وَلِكُلّٖ دَرَجَٰتٌ} الظاهر أن المراد عامة من يُجازى مؤمنهموكافرهم، والتعبير بالدرجات مع أن مصير الكفار إلى الدركات لعلّه لأجل تغليب جانب المؤمنين، وفي مجمع البيان: «وإنما سُمّيت درجات لتفاضلها كتفاضل الدرج في الارتفاع والانحطاط، وإنّما يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدرج، وعن تفاضل أهل النار بالدرك، إلاّ أنه لما جمع بينهم عبرّ عن تفاضلهم بالدرج تغليباً لصفة أهل الجنة»(1).

وقوله: {مِّمَّا عَمِلُواْ} (من) نشوية، أي درجات تنشأ من أعمالهم.

سؤال: قد ذكرتم إن ثواب أهل الجنة كلّه تفضّل من اللّه تعالى فكيف تتجسم الأعمال بشكل ثواب أو كيف يكون الثواب ناشئاً عن أعمالهم؟

والجواب: إن الثواب والعقاب كلّه بفعل اللّه تعالى لكنه لحكمته لا يتفضّل إلاّ لمن أحسن، ولا يعاقب إلاّ من أساء، فمن كفر وعصى استحق العقاب واللّه تعالى يعاقبه بسوء عمله، ومن آمن وأطاع وعده اللّه تعالى بأن يثيبه بفضله فلذا استحق الثواب بسبب الوعد، فالجزاء وإن كان فعلاً للّه إلاّ أن اللّه لا يجعله إلاّ في مستحقه.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ...} الآية.

بيان انتفاء أسباب الظلم عن اللّه تعالى، وهذا تعليل لعدم كون عقابهم ظلماً لهم، والأسباب هي:

ص: 305


1- مجمع البيان 4: 238.

أسباب الظلم

1- الجهل، وقد نفاه بقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}؛ لأن الجاهل قد يأخذ البريء بجريرة المجرم، وقد يعاقب على ما ليس بمحظور لجهلهبه، وأما اللّه تعالى فهو العالم بكل شيء من الأعمال الحسنة والأعمال السيئة، كما أنه عالم بمن ارتكبها وبنواياه، فلذا لا يعاقب إلاّ من استحقها.

2- الحاجة، وقد نفاها عنه بقوله: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ}؛ لأن المحتاج يريد رفع حاجته، وقد لا يجد وسيلة لرفعها إلاّ الظلم، كالذي يحتاج إلى مال ولا يجده من الحلال فيسرقه، وأما اللّه تعالى فهو الغني عن عباده وكل ما لهم فهو ملكه حقيقة، بل هو الكمال المطلق من كل جهة وهم الفقر من كل الجهات.

3- الخبث، واللّه تعالى منزه عنه فقد نفاه بقوله: {ذُو الرَّحْمَةِ}، فهو لطيف بارّ رحمن ولذا خلق الخلق ليرحمهم، وهيّأ لهم كل وسائل العيش الكريم برحمته، وحتى أوامره ونواهيه هي رحمة لهم لأنها ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم، ولا حدّ لرحمته إلاّ الحكمة، فلذا كلّما كانت الرحمة من الحكمة أنزلها اللّه تعالى، إلاّ لو لم تكن فيها الحكمة فلا وجه حينئذٍ للرحمة، وقد مرّ أن منشأ صفات الفعل - ومنها الرحمة - هي صفات الذات ومنها الحكمة، فلا يعقل تعارضهما أبداً، فلا معنى لرحمة غير حكيمة تعالى اللّه عن ذلك.

4- العجز، واللّه تعالى منزه عن ذلك فهو القوي من غير حدّ فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ...}، وأما المخلوق العاجز فقد يظلم تغطيةً لعجزه، كما يصنعه الطواغيت حينما يفشلون في بعض ما يريدون فيزيدون البطش بشعوبهم تغطية لفشلهم وانتصاراً لذاتهم العاجزة الفاشلة.

ص: 306

وقوله: {مَّا يَشَاءُ} كأنّ المقصود هو إفناء جنس البشر وخلق موجوداتأخرى مطيعة للّه تعالى غير عاصية، وقد تحقق نظير ذلك حينما أهلك النسناس الذين كانوا يفسدون في الأرض ثم خلق الإنسان، بل الناس يشاهدون ذلك في أسلافهم حيث بادوا وهلكوا وصاروا هم خلفاء لهم، فالقادر على إهلاك ناس واستخلاف ناس آخرين قادر على إهلاك نوع البشر واستخلاف نوع آخر، والحاصل إنه قادر فليست عقوبته ظلماً لأنه يتعالى عن وجود أسباب الظلم فيه.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأتٖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}.

كأنّه تأكيد للمعاد فهو ليس حديث خرافة، بل حقيقة آتية لا محالة، كما أنهم لا يتمكنون من الفرار عن عقوبته تعالى؛ إذ لا إله آخر ليكون ملجأهم، كما لا يتمكنون من الخروج عن سلطان اللّه تعالى، وهم العجز والفقر المطلق فلا محالة سيلاقون جزاءهم، قال تعالى: {يَقُولُ الْإِنسَٰنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}(1)، بل لا فرار إلاّ الفرار إلى اللّه تعالى بطاعته قال سبحانه: {فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ}(2)، وقال سبحانه: {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ}(3).

وقوله: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أعجزه بمعنى جعله عاجزاً، وتسمى الآيات معاجز لأنها نزلت للتحدي مع عجز الناس عن الإتيان بمثلها، ومن مصاديقه

ص: 307


1- سورة القيامة، الآية: 10.
2- سورة الذاريات، الآية: 50.
3- سورة هود، الآية: 43.

أن يفوته المجرم ويسبقه فلا يتمكن من أخذه وعقوبته، ولا أحد يفوت مناللّه تعالى.

السادس: قوله تعالى: {قُلْ يَٰقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ...} الآية.

كأنّه تهديد لهم، فقد يستعمل الأمر بداعي التهديد كقوله تعالى: {اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(1).

وقوله: {يَٰقَوْمِ} الكفار منهم؛ لأنه حين نزول سورة الأنعام في مكة كان عامّتهم كفاراً إلاّ القليل منهم، وهو تهديد لكل كافر وإن كان نزوله في قريش.

قوله: {مَكَانَتِكُمْ} المكانة قد تكون بمعنى المكان، وقد تكون مصدراً، فالمعنى على الأول اعملوا حسب منزلتكم وحالتكم التي أنتم عليها، وعلى الثاني اعملوا حسب أقصى ما تتمكنون عليه مما تُمليه أهواؤكم وتوسوس به شياطينكم.

وقوله: {إِنِّي عَامِلٌ} أي عامل بما أمرني اللّه تعالى بأقصى ما يمكن ولا أخضع لكم، قال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(2)، وقال: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(3).

وقوله: {عَٰقِبَةُ الدَّارِ} أي العاقبة الحسنة في دار الآخرة، فإن العاقبة وإن كانت تستعمل في الحسنة والسيئة وكذا الدار تستعمل في الدنيا والآخرة إلاّ

ص: 308


1- سورة فصلت، الآية: 40.
2- سورة التغابن، الآية: 16.
3- سورة آل عمران، الآية: 102.

أن إطلاقهما ينصرف إلى العاقبة الحسنة في دار الآخرة.

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّٰلِمُونَ} بيان أن الظالم منا أو منكم لا يفلح، وهذا نظير قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(1)، وليحكّموا عقولهم ليدركوا الظالم بين الذي يطيع اللّه والذي يتّبع الشهوات؟! أو هو تعليل لجملة مقدرة تستفاد من الكلام أي ستعلمون لمن تكون عاقبة الدار وهم نحن لا أنتم لأنكم ظالمون ولسنا كذلك.

ص: 309


1- سورة سبأ، الآية: 24.

الآيتان 136-137

اشارة

{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَٰمِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ 136 وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ 137}

136- ثم يبين اللّه مجموعة من أعمالهم الشركية التي افتروها، فقال: {وَجَعَلُواْ} بوصفهم وحكمهم {لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} أي خَلَق، فهو الخالق لكن أشركوا به غيره {مِنَ الْحَرْثِ} الزرع {وَالْأَنْعَٰمِ} الإبل والبقر والغنم {نَصِيبًا} قِسمةً، ونصيباً آخر لأصنامهم {فَ} كانت القسمة بأن {قَالُواْ هَٰذَا} القِسم {لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} أنه يكون للّه وليس كذلك لأنه لم يكن بأمره ولم يكونوا مخلصين فيه، {وَهَٰذَا} قِسم آخر {لِشُرَكَائِنَا} لأصنامهم {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} أي لا يتقبّله لأنه لا يتقبل إلاّ العمل الخالص، أو بمعنى لا يصرفونه في شؤون اللّه تعالى {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ} يكون كلّه باطلاً، أو بمعنى أنهم كانوا يصرفونه في شؤون الأصنام أيضاً {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} من عملهم غير المشروع ومن إيثار أصنامهم على اللّه تعالى.

ص: 310

137- {وَكَذَٰلِكَ} كهذا التزيين في تقسيم الحرث {زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَالْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} أي الشركاء زيّنوا لهم قتل أولادهم قرباناً للأصنام {لِيُرْدُوهُمْ} علة للتزيين أو عاقبة له، أي ليهلكوهم {وَلِيَلْبِسُواْ} ليخلطوا ويشوّشوا {عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} الحق من ملّة إبراهيم (عليه السلام) ، وهؤلاء غير خارجين عن قدرة اللّه وإنما يمهلهم ولا يمنعهم بحكمته {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} مشيئة قهر {مَا فَعَلُوهُ} لم يقتلوهم أو ما فعلوا التلبيس {فَذَرْهُمْ} أي اتركهم وهذا تهديد لهم {وَمَا يَفْتَرُونَ} حيث كانوا ينسبون أعمالهم الشركية إلى اللّه تعالى.

تأثير عقيدة الشرك في الأعمال

بحوث

الأول: إن عقيدة المشركين أثّرت في أعمالهم فلذا ارتكبوا مجموعة من الأعمال الباطلة وأشركوا فيها، ثم افتروا على اللّه سبحانه بأن نسبوها إليه، فمنها: في زرعهم وأنعامهم فيشركون بجعل نصيب للّه بزعمهم ونصيب للأصنام، ولم يكتفوا بذلك بل استخفّوا باللّه تعالى حيث آثروا الأصنام عليه.

ومنها: افتراؤهم على اللّه في تحليل وتحريم الزرع والأنعام مما سيأتي بيانه في الآيات اللاحقة - الآيات 136-147 - .

الثاني: قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَٰمِ نَصِيبًا...} الآية.

قوله: {وَجَعَلُواْ} أي وصفوا هكذا وحكموا به.

وقوله: {مِمَّا ذَرَأَ} أصل الذرء هو بذر الأرض(1)، وحيث كان ذلك

ص: 311


1- راجع مقاييس اللغة: 365؛ وكتاب العين 8: 193.

يستلزم ظهور الزرع لذلك تم تعميم الذرأ إلى الإيجاد من العدم، وهذا تشنيع عليهم بأن اللّه هو الذي خلق الزرع والحرث ولا شأن للشركاء فيذلك أبداً فكيف جعلوها شركاء للّه سبحانه في النصيب.

وقوله: {نَصِيبًا} أي قِسماً وجزءاً، مع أن كلّه للّه تعالى وكان يلزمهم أن يتصرفوا فيه بحكم اللّه تعالى لا بجعلهم!

ثم إنه لم يذكر في هذا المقطع أنهم جعلوا لشركائهم نصيباً آخر؛ وذلك لوضوحه واكتفاءً بما فرّعه عليه: {فَقَالُواْ هَٰذَا...}.

وقوله: {بِزَعْمِهِمْ} الزعم الاعتقاد، والغالب استعماله في غير الصواب، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أما علمت أن كل زعم في القرآن كذب»(1)، فالمعنى إنهم يزعمون أنه للّه وليس كذلك.

وقوله: {فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} هذا إمّا ردّ من اللّه عليهم بأن ما زعموه نصيباً للّه ليس بمقبول لأنه عمل غير صالح من أناس غير متّقين، وقد قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُ}(2)، وقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(3)، وإمّا هو نقل لقولهم وفعلهم ففي تفسير القمي: «إن العرب إذا زرعوا قالوا: هذا للّه وهذا لآلهتنا، وكانوا إذا سقوها فحرف الماء من الذي للّه في الذي للأصنام لم يسدّوه وقالوا: اللّه أغنى، وإذا خرق شيء من الذي للأصنام في الذي للّه سدّوه وقالوا اللّه أغنى، وإذا وقع شيء من الذي للّه في الذي للأصنام لم يردّوه وقالوا اللّه أغنى، وإذا وقع شيء من

ص: 312


1- الكافي 2: 342.
2- سورة فاطر، الآية: 10.
3- سورة المائدة، الآية: 27.

الذي للأصنام في الذي للّه ردّوه وقالوا اللّه أغنى»(1).

وقوله: {فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ} كذلك إمّا ردّ لهم وبيان أن عملهم كلّه باطل فيعتبر كلّه شركاً ولا شيء مقبول منه، وإمّا نقل لقولهم وفعلهم بأنهم يؤثرون الأصنام فيصرفون ما زعموه للّه في أصنامهم، وفي التقريب: «وهذا مجاز، أي إن الأصنام تنتفع بهذا النصيب من خلال ما يترسخ لها في قلوب المشركين من المكانة والاحترام»(2).

وقوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} لأنه اتخاذ شركاء للّه تعالى أولاً، ثم افتراء عليه في حكمهم ثانياً، ثم إيثار شركائهم عليه ثالثاً.

الثالث: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٖ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ...} الآية.

بيان شرك آخر لهم وهو تقديمهم أولادهم الأبرياء قرابين للأصنام.

وقوله: {وَكَذَٰلِكَ} أي كما زيّنوا لهم الشرك في الحرث والأنعام كذلك زينوا لهم الشرك في قتل الأولاد.

وقوله: {قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ} الظاهر أن المراد قتل الأولاد لأجل الأصنام، وأما وأد البنات وقتل سائر الأولاد فلم يكن للشرك وإنما لخوف العار أو الفقر، والكلام في هذه الآيات حول أعمالهم الشركيّة.

وقوله: {شُرَكَاؤُهُمْ} فاعل {زَيَّنَ}، أي الشركاء زينوا قتل الأولاد، وهؤلاء إمّا شياطين الجن لأنهم كانوا يعبدونهم، قال تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ

ص: 313


1- تفسير القمي 1: 217؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 48.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 132.

شُرَكَاءَ الْجِنَّ} (1)، وإمّا الأصنام نفسها فيكون الكلام على المجاز، أي شدةحبهم للأصنام أدّى بهم إلى أن يروا قربان الأولاد لهم حسناً.

وقوله: {لِيُرْدُوهُمْ} أصل الردى الرمي، والإرداء الإلقاء في الهلاك - فإن كان معنى الشركاء الشياطين فاللام للتعليل، أي إنما زينوا لهم ليهلكوهم، وإن كان معناها الأصنام فاللام للعاقبة، أي عاقبة التزيين هو الهلاك، والضمير يرجع للآباء، وقيل: لهم وللأبناء، فأما هلاك الآباء فبالعصيان وأما هلاك الأبناء فبالقتل، ويحتمل أن يكون ضمير {لِيُرْدُوهُمْ} للأولاد وضمير {لِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} للآباء، فيهلكوا الأبناء ويضلوا الآباء.

وقوله: {وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ} اللَبس - بالفتح - الخلط، أي يخلطوا الباطل بدينهم الحق، فإن أهل الباطل يخلطون الحق بالباطل لكي يميل الناس إليهم، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يَخْفَ على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه»(2).

وقوله: {دِينَهُمْ} أي الدين الحق الذي ينبغي أن يكونوا عليه أو ملّة إبراهيم (عليه السلام) .

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.

تأكيد على أن ما يفعلوه - من التزيين والقتل - ليس لغلبة قدرتهم، وإنّما

ص: 314


1- سورة الأنعام، الآية: 100.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 50.

لأنّ حكمة اللّه تعالى اقتضت اختيارهم وتزويدهم بأدوات الاختيار وإمهالهم وعدم منعهم قسراً، فقدرة اللّه غالبة لكنه لم يشأ المنع بحكمته.

وقوله: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي أتركهم مع افتراءاتهم على اللّه فإنها لا تنفعهم، وهذا تهديد لهم - كما مرّ نظائره - وليس المعنى عدم إنذارهم، كما أنه بيان افترائهم على اللّه بنسبة هذا التزيين إليه سبحانه وتعالى.

ص: 315

الآيات 138-140

اشارة

{وَقَالُواْ هَٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ 138 وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ 139 قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ 140}

138- {وَ} من افتراءاتهم في فروع الدين أنهم قسّموا الأنعام والحرث أقساماً وافتروا لكل قسم أحكاماً ف{قَالُواْ هَٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي ممنوعة ف{لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ} من سَدَنة الأصنام والرجال دون النساء {بِزَعْمِهِمْ} الكاذب بغير حجة، {وَ} قسم آخر {أَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} لا يمتطونها، {وَ} قسم ثالث {أَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} حين ذبحها {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} أي كل هذه الأحكام نسبوها إلى اللّه زوراً {سَيَجْزِيهِم} يوم القيامة بالعذاب {بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي بسبب افترائهم على اللّه تعالى.

139- {وَقَالُواْ} في حكم مفترىً آخر حول الأجنّة {مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَٰمِ} أجنتها إن ولدت حيّة فهي {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} خاص بهم {وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا} نسائنا، {وَإِن يَكُن} ما في بطونها {مَّيْتَةً} بأن وُلدت ميتة

ص: 316

{فَهُمْ} الذكور والنساء {فِيهِ} في الجنين الميت {شُرَكَاءُ} يحلّ لكل منهما، {سَيَجْزِيهِمْ} اللّه تعالى {وَصْفَهُمْ} بالكذب والافتراء{إِنَّهُ حَكِيمٌ} في جزائه {عَلِيمٌ} بالمفترين.

140- وهؤلاء بهذه الأحكام المفتراة يظنون أنهم قد ربحوا ولكن {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهَا} بعدم استعمالهم عقولهم {بِغَيْرِ عِلْمٖ} تلقّوه من الوحي عبر الرسل، فخسارتهم في الدنيا بموت أولادهم {وَ} أيضاً خسر الذين {حَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} وخسارتهم هي بعدم الانتفاع من رزقه في الدنيا، كل ذلك يضاف إلى عقابهم على افترائهم في الآخرة {قَدْ ضَلُّواْ} بسبب هذه الأحكام المفتراة {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} إلى الأحكام الشرعية التي أنزلها اللّه تعالى.

بحوث

الأول: بعد بيان شركهم في أعمالهم في الحرث والأنعام يأتي الكلام في افترائهم على اللّه تعالى بأحكام ما أنزل اللّه بها من سلطان.

فالآيتان 136-137 في افتراءهم العملي في أصول الدين حيث أشركوا في الحرث والأنعام والقربان، وفي الآيات 138-139 في افتراءهم العملي في فروع الدين، ثم بيان خسرانهم في الدنيا والآخرة، ثم إن تحريمهم ما أحلّه اللّه تعالى إما في الحرث والأنعام وهذا مذكور في الآية الأولى 138، وإما في الأجنة وهذا مذكور في الآية 139، ولعلّه لذلك كرّر {وَقَالُواْ}.

الثاني: قوله تعالى: {وَقَالُواْ هَٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ}.

ص: 317

قد مرّ في سورة المائدة قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٖ وَلَا سَائِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ}(1)، وفيه تفصيل ما اختصرته هذه الآية(2).

أنواع من إفتراءات المشركين

وقد ذكر اللّه تعالى ثلاثة أنواع من افتراءاتهم:

1- قوله: {أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} حرموها على بعض الناس دون بعض، وجعلوا التحليل والتحريم بيدهم، ثم افتروا بأنّ اللّه تعالى هو الذي خوّلهم هذا التحليل والتحريم، و(الحِجر) هو المنع والمراد هنا التحريم، وقوله: {لَّا يَطْعَمُهَا} أي لا يذوقها، وهذا مبالغة في منع الأكل، وهذه بعض أنواع البحيرة والوصيلة.

وقوله: {بِزَعْمِهِمْ} الظاهر أنه مرتبط بقولهم {مَن نَّشَاءُ}، فهؤلاء المشركون أولاً قد افتروا في أصل الحكم بالتحليل والتحريم كما افتروا في تحريم الظهور، وفي عدم التسمية عند الذبح وقد جمعها كلها في قوله: {افْتِرَاءً عَلَيْهِ}، كما أنهم ثانياً ربطوا التحليل والتحريم بمشيئتهم وقد ردّه اللّه تعالى بقوله: {بِزَعْمِهِمْ} ولعلّه لذا لم يكرر الزعم في الحكم الثاني والثالث.

2- وقوله: {وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} فلا يركبونها وهي السائبة والحامي.

3- وقوله: {وَأَنْعَٰمٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} عطف على {قَالُواْ هَٰذِهِ أَنْعَٰمٌ...} وهذا ليس مقولاً لقولهم وإنما هو افتراء عملي بأنهم كانوا يذبحون ولا يسمّون مع أن حكم اللّه تعالى هو أن الحلية ترتبط بالتسمية،

ص: 318


1- سورة المائدة، الآية: 103.
2- راجع التفكر في القرآن، سورة المائدة: 353.

ويحتمل عطفه على مقول القول مع كون قوله: {لَّا يَذْكُرُونَ} إلفاتاً.

وقوله: {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} ذكرنا أنه يرجع إلى الأحكام الثلاثة وبيان أنها مفتراة، وفي ذلك بيان أن الحرام هو أن يُنسب إلى اللّه تعالى حكم لم يشرّعه، وأما مجرد الامتناع عن المباحات من غير نسبتها إلى اللّه تعالى فلا محذور فيه، كمن لا يحب طعاماً فلا يأكله، وحينما يسئل عن امتناعه يعلّله بعدم حبّه لا بتحريم الشرع له، فذلك لا مانع منه، ومنه قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ}(1)، فالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) امتنع عن عمل حلال لأجل إرضاء زوجاته، هذا مع أن اللّه تعالى قد جعل للنبي الولاية التشريعية فكان من صلاحياته الإلهية إصدار الحكم بالتحريم لكنه لم يفعل ذلك، وإنما امتنع فقط.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا...} الآية.

هذا يرتبط بحكمهم المفترى في أجنّة الأنعام كما أن الآية السابقة كانت ترتبط بالأنعام، وفيه افتراءان، أحدهما: في تخصيص التحريم بالنساء دون الرجال في الجنين الذي يولد حياً، والآخر: في حلية الميتة من الأجنة للرجال والنساء.

وقولهم: {خَالِصَةٌ} خبر الموصول في قوله: {مَا فِي بُطُونِ...} وإنّما أنّثه باعتبار أن الموصول بمعنى الأجنّة، وقيل: التاء للمبالغة وليست للتأنيث مثل علّامة وراوية، وخالصة يراد بها الحلال المختص بالرجال.

ص: 319


1- سورة التحريم، الآية: 1.

وقولهم: {أَزْوَٰجِنَا} كأنّهم استنكفوا عن نسبة الإناث إليهم بأن يقولوا(ومحرم على إناثنا) ولعلّه لذلك أبدلوه بقولهم: {أَزْوَٰجِنَا} مع أن مقتضى المقابلة أن يقابلوا الإناث بالذكور.

الرابع: قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٖ وَحَرَّمُواْ...} الآية.

بيان أن هؤلاء مضافاً إلى العقوبة الأخروية، قد خسروا في دنياهم؛ لأن أحكامهم هذه لم تستند إلى عقل أو وحي، وكل حكم كان كذلك صار سبباً لخسارة من يعمل به.

ويحتمل تعميم الخسارة للدنيا والآخرة، فيكون بيان خسارة الدنيا تأسيساً وبياناً لأمر لم يبيّنه في الآيات السابقة، ويكون بيان خسارة الآخرة تأكيداً لقوله: {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} وقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ}.

وقوله: {قَتَلُواْ أَوْلَٰدَهُمْ} خسارتهم لأنهم فقدوا أولادهم الذين هم أعوان لهم وقرة أعين وامتداد لهم.

وقوله: {سَفَهَا} عن سفاهة وقلة عقل؛ لأنهم لو كانوا يستعملون عقولهم لعلموا بطلان ذلك.

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٖ} نازلٍ لهم عن طريق الوحي، قال سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(1).

وقوله: {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} خسرانهم هو أن اللّه رزقهم ذلك الحرث وتلك الأنعام لكنهم حرّموها على أنفسهم، ففاتتهم منافعها ولحقهم

ص: 320


1- سورة الملك، الآية: 10.

النقص في أموالهم.

وقوله: {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} عبرّ عن قتل الأولاد بقوله: {سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٖ} وعن تحريم ما رزقهم اللّه بقوله: {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} مع أن كليهما سفاهة وجهل وافتراء، ولعلّه نوع تفنّن في العبارة، ولزيادة التشنيع بأن يخصّ كل واحد منهما بوصف، أو لأن ظهور السفاهة والجهل في قتل الأولاد أشد، وظهور الافتراء على اللّه في تحريم الرزق أوضح.

وقوله: {قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} لعل ذكرهما معاً باعتبار أن هذه الأحكام المفتراة ضلال، وصارت سبباً لعدم معرفتهم بالأحكام الشرعية، فهؤلاء قد ضلوا بهذه الأحكام ولم يصيبوا أحكام اللّه تعالى.

ثم إنه تعالى ذكر في الآية 138 في تحريم الحرث والأنعام {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} ثم ذكر في الآية 140 {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} وذلك تأكيد وليس بتكرار؛ فإن الأولى ذكرت كمقدمة للجزاء في قوله: {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، والثانية ذكرت كعِلّة لتحريمهم رزق اللّه تعالى، فحاصل الآيتين أنهم حَرَّموا بسبب الافتراء، وهذا الافتراء سبب عقابهم.

ص: 321

الآيات 141-144

اشارة

{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعْرُوشَٰتٖ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٖ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٖ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 141 وَمِنَ الْأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 142 ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٖ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ نَبُِّٔونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ 143 وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّىٰكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ 144}

141- لما ذكر افتراء المشركين على اللّه في تحريم أنواع ٍ من الأنعام والحرث بيّن أن اللّه الذي خلقها قد أباحها {وَهُوَ} اللّه {الَّذِي أَنشَأَ} ابتدأ خلق {جَنَّٰتٖ} من الأعناب {مَّعْرُوشَٰتٖ} مرفوعات بالدعائم {وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٖ} ملقيات على وجه الأرض، {وَ} أنشأ {النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا} في الطعم واللون والرائحة وغيرها {أُكُلُهُ} أي ثمره الذي يؤكل منه، {وَ} أنشأ {الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} حال كونه {مُتَشَٰبِهًا} يشبه بعضه بعضاً في

ص: 322

الأغصان والأوراق ومنظر الفاكهة {وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٖ}، وحيث علمتم أن اللّه هو الذي خلقها فالحكم إليه ف{كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} ثمر كل واحد من المذكورات ولا تحرموا منه شيئاً {إِذَا أَثْمَرَ} ظهر الثمر فيجوز أكله قبلينعه، {وَءَاتُواْ حَقَّهُ} الحق الذي فيه وهو صدقة مستحبة {يَوْمَ حَصَادِهِ} معجلاً حينما تحصدونه وهذا هو الذي جعله اللّه تعالى لا النصيب للأصنام، {وَلَا تُسْرِفُواْ} بزيادة الأكل أو الإنفاق أو عدم إعطاء الحق؛ إذ {إِنَّهُ} إن اللّه {لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.

142- {وَ} هو الذي أنشأ {مِنَ الْأَنْعَٰمِ} البقر والإبل والغنم والمعز {حَمُولَةً} ما يصلح لحمل الأثقال {وَفَرْشًا} ما لا يصلح إلاّ للأكل، وحيث إنه الخالق فالحكم إليه ف{كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من الأنعام التي هي رزق اللّه لكم {وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ} الخطوات المؤدية إليه، والتي يسلكها وذلك بتحريم ما أحلّه اللّه تعالى، {إِنَّهُ} إن الشيطان {لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة.

143- ثم فصّل اللّه في أنواع الأنعام المحلّلة تقريعاً وذماً لمن حرّمها، فمن الأنعام {ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٖ} الزوج ما معه من جنسه ما يقارنه، {مِّنَ الضَّأْنِ} الغنم {اثْنَيْنِ} الأهلي والجبلي {وَمِنَ الْمَعْزِ} السخل {اثْنَيْنِ} الأهلي والجبلي {قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ} ذكر الضأن والمعز والاستفهام إنكارى {حَرَّمَ} اللّه {أَمِ الْأُنثَيَيْنِ} أنثاهما {أَمَّا} أي أم حرّم ما {اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ} من الأجنّة {نَبُِّٔونِي بِعِلْمٍ} أخبروني عمّا حرّمه بحجة وبرهان لا ظن وتقليد

ص: 323

أعمى {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في تحريم اللّه بعض أقسامها كما زعمتم.

144- {وَ} أنشأ {مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ} عراب له سنام واحد وبخاتي له سنامان {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} أهلي ووحشي {قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ} منهما {حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا} أم حرّم ما {اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ} أجنّتها، فهل لكمعلم - عن عقل أو نقل - بالتحريم {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ} حضور تسمعون {إِذْ وَصَّىٰكُمُ} أمركم {اللَّهُ بِهَٰذَا} التحريم؟ {فَ} حيث لم يكن علم ولا شهود فأنتم مفترون و{مَنْ أَظْلَمُ} أكثر ظلماً {مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبة التحريم إليه {لِّيُضِلَّ} واللام للعاقبة، أي عاقبة الافتراء هو إضلال {النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، ومن كان كذلك فاللّه لا يهديه؛ إذ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}.

حلية الأنعام من غير جعل نصيب للشركاء

بحوث

الأول: لما بيّن اللّه تعالى شركهم في الحرث والأنعام وتحريمهم لأصناف منها بغير علم، بعد ذلك بيّن أن اللّه - الذي خلقها والذي له الحكم - قد أحلّها ولم يجعل فيها نصيباً للأصنام كما أنه أحلّ كل طعام إلاّ بعض ما حرّمه، وليس أصنافهم المفتراة منها.

ثم يحتج عليهم بأن أحكامهم إنما هي اتّباع لخطوات الشيطان وليس لهم من اللّه تعالى دليل من عقل ونقل ولا هم سمعوها منه تعالى.

وقد بيّن اللّه تعالى أنواعاً من النبات وفصّل في أقسام الأنواع تأكيداً على تحليلها وأن الحكم للّه الواحد القهار.

الثاني: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعْرُوشَٰتٖ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٖ

ص: 324

وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ...} الآية.

بيان أن اللّه تعالى هو الخالق فلا محالة يكون الحكم له لا لغيره، ولا وجه من عقل ولا نقل أن يكون الحكم لغير الخالق، فالعقل والعقلاء على أن من يُنشئُ شيئاً يكون أولى من غيره في التصرف فيه بما يشاء، فما بالهميجعلون الحكم لغيره تعالى في مخلوقاته.

ثم لعلّه لما أراد التفصيل في ذكر صنع اللّه تعالى وخلقه قسم الحرث إلى ثلاثة أقسام: 1- الجنات 2- النخل والزرع 3- الزيتون والرمان، فالجنات لعلّه أريد بها بساتين العنب لأنها هي التي تجنّ وتغطي البستان عادة، وأما النخل والزرع فلعلّه أريد اختلاف الثمار من حيث الطعم والرائحة واللون، وأما الزيتون والرمان فلعله أريد تشابه الأشجار وعدم تشابهها من حيث الأشكال في الورق والغصن ونحو ذلك، واللّه العالم.

وقوله: {أَنشَأَ} الإنشاء هو الإحداث حالاً بعد حال من غير احتذاء مثال، ومنه يقال: نشأ الغلام وهو ناشئ إذا نما وزاد شيئاً فشيئاً(1).

وقوله: {جَنَّٰتٖ} البساتين المستورة لكثرة الأشجار، وهذا يكون في بساتين العنب عادةً.

وقوله: {مَعْرُوشَٰتٖ} أي مرفوعات ممسوكات بالدعائم، و{وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٖ} ملقاة على وجه الأرض، وقيل: قائمة على ساقها، وقيل: المعروشات ما غرسها الناس، وغير المعروشات ما أنبته اللّه في البراري والجبال.

ص: 325


1- معجم الفروق اللغوية: 80.

وقوله: {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} الأُكُل هو الثمر الذي يؤكل، والاختلاف في الأوصاف يدلّ على كمال قدرة اللّه تعالى حيث إن الأرض واحدة والماء واحد وأحياناً الشجر واحد ومع ذلك هذا التنوع.

وقوله: {مُتَشَٰبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٖ} الظاهر أن المراد تشابه المظهر وعدمتشابهه كما قال: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزْقًا قَالُواْ هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهًا}(1).

الثالث: قوله تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ...} الآية.

بعد بيان أن الخالق المنشئ هو اللّه تعالى، بيّن أنّ الحكم فيه للّه تعالى، وقد حكم فيه بثلاثة أحكام:

1- قوله: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} إباحة الأكل منه، ولا يشترط انتظار ينعه بل يباح قبل ذلك كأكل الحصرم والبُسر، كما لا يشترط اجتذاذه في إباحة أكله بل يجوز ذلك حتى وهو على الشجرة ولعلّه لذلك قيّده بقوله: {إِذَا أَثْمَرَ} كي لا يتوهم لزوم الانتظار، وقيل: إن هذا القيد لأجل دفع توهم أنه لا يجوز الأكل قبل أداء الحق منها، فيقال لهم إن اللّه لم يمنع من أكله حتى إذا لم يحن وقت أداء الحق الذي هو وقت الحصاد والصرم.

2- وقوله: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وهو التصدّق بقبضات وحفنات حين حصاد الحب وجذاذ التمر ونحوه، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في الآية قال: «هذا من الصدقة يُعطي المسكين القبضة بعد القبضة، ومن الجذاذ الحفنة بعد

ص: 326


1- سورة البقرة، الآية: 25.

الحفنة حتى يفرغ»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لا تصرم بالليل، ولا تحصد بالليل، ولا تضحّ بالليل، ولا تبذر بالليل، فإنك إن تفعل لم يأتك القانع والمعترّ. قلت: ما القانع والمعترّ؟ قال: القانع الذي يقنع بما أعطيته، والمعترّالذي يمرّ بك فيسألك، وإن حصدت بالليل لم يأتك السُؤّال، وهو قول اللّه: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} عند الحصاد، يعني القبضة بعد القبضة إذا حصدته، فإذا خرج فالحفنة بعد الحفنة، وكذلك عند الصرام...»(2).

قال الوالد رضوان اللّه عليه: «وهنا سؤال يفرض نفسه هو: أن المسكين كيف ينتفع بالقبضة وما أشبهها؟ ولِمَ لم يجعل الإسلام أكثر من حفنة حقاً للسائل؟ والإجابة على هذا السؤال: إن من يمرّ من السائلين كثيرون، ومن يصرم ويحصد ويبذر كثيرون أيضاً، فوزعت الحاجة على المالكين كي لا يتضرر المالك، ولا يبقى الفقير معوزاً، إن الفقير يجمع من بساتين متعددة ما يكفيه، والمالك يعطي للسائلين حفنات إذا جمعت صارت شطراً من ماله لا يستهان به، وهذا من حكمة الإسلام وكل الإسلام حكمة»(3).

وهذا الحق عام للفقراء حتى غير المسلمين منهم فعن الإمام: «تعطي منه المساكين الذين يحضرونك، ولو لم يحضرك إلاّ مشرك»(4).

والروايات في ذلك كثيرة فراجعها في تفسير البرهان(5).

ص: 327


1- تهذيب الأحكام 4: 106.
2- الكافي 3: 565.
3- الفضيلة الإسلامية: 195.
4- تفسير العياشي 1: 378.
5- البرهان في تفسير القرآن 4: 50-57.

ثم المشهور ان هذا الحكم مستحب وقيل بوجوبه، كما أن الصحيح عدم نسخه بالزكاة، بل شرّع اللّه إيتاء حق الحصاد في مكة ثم شرّع وجوب الزكاة في أعيان خاصة في المدينة، ولا منافاة بينهما.

وكأنّ بيان هذا الحكم هو في قبال ما جعله المشركون من النصيب لأصنامهم، فيقال لهم إن الحق فيه هو الصدقة للفقراء في يوم الحصاد.

ثم إن الحصاد يستعمل عادة في جزّ الحنطة ونحوها وأما اقتطاف ثمار الأشجار فيعبرّ عنه غالباً بالجذّ والصرم، إلاّ أنه في الآية جمعهما واكتفى بذكر الحصاد عبر تعميمه ليشمل قطع كل ثمرة.

والضمير في {حَقَّهُ} يرجع إلى الثمر فالإضافة بمعنى في، أي الحق الذي فيه، وقيل إلى اللّه تعالى فهي بمعنى اللام، أي الحق الذي له تعالى.

3- {وَلَا تُسْرِفُواْ} الإسراف هو الزيادة في الحق، وهو يشمل كل نوع من الإسراف في الثمر سواء في الأكل الزائد، أم الإنفاق الزائد، ومنه عدم إعطاء الحق، ومنه أيضاً الصرف غير المشروع على الأصنام وغيرها لأنه إسراف على النفس، قال اللّه تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ}(1)، وقال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}(2)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «كان فلان بن فلان الأنصاري - سمّاه - وكان له حرث، وكان إذا جذه تصدّق به، وبَقي هو وعياله بغير شيء، فجعل اللّه ذلك سرفاً»(3).

الرابع: قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ

ص: 328


1- سورة الأعراف، الآية: 31.
2- سورة الإسراء، الآية: 29.
3- تفسير العياشي 1: 379.

اللَّهُ...} الآية.

عطف على {جَنَّٰتٖ مَّعْرُوشَٰتٖ} أي وهو الذي أنشأ من الأنعام.

وقوله: {حَمُولَةً} في المقاييس: «هي الإبل تحمل عليها الأثقال»(1)، وكأنّ ذكرها بالخصوص مقابل (الحامي) الذي افتراه المشركون بعدم جواز الحمل والركوب عليه.

وقوله: {وَفَرْشًا} في المقاييس: «هو الذي لا يصلح إلاّ للذبح والأكل»(2)، وكأنّ هذا مقابل افتراء المشركين في تحريم بعض أصناف الأنعام والتي مرت في الآيتين 138-139، وفي سورة المائدة الآية 103.

وهذا المعنى أنسب بالسياق مما ذكره بعض المفسرين من أن الفرش صغار الأنعام أو ما يصنع من جلودها أو ينسج من صوفها أو شعرها أو وبرها.

وقوله: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} يفيد الإباحة لأنه بعد توهم الحظر، فهو رزق اللّه تعالى وقد أباحه لكم، ولا معنى لأن يرزق اللّه شيئاً ثم يحرّمه!

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ} بيان أن تحريم المشركين لبعض الأنعام هي اتّباع وساوس الشيطان، و{خُطُوَٰتِ الشَّيْطَٰنِ} هي الأعمال التي يعملها وكذا الأعمال التي توصل إليه، ومن ذلك الافتراء على اللّه تعالى.

الخامس: قوله تعالى: {ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٖ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ...} الآية.

عطف بيان على قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشًا} فالمعنى: وأنشأ لكم من الأنعام - التي

ص: 329


1- مقاييس اللغة: 265.
2- مقاييس اللغة: 811.

هي الحمولة والفرش - ثمانية أزواج.

وقوله: {أَزْوَٰجٖ} جمع زوج وهو الذي معه آخر من جنسه يقارنه، ويطلقالزوج على كليهما كما يطلق على الواحد منهما، والخروف الأهلي والجبلي زوجان، والمعز الأهلي والجبلي زوجان، والبعير البخاتي والعراب زوجان، والبقر الأهلي والوحشي زوجان، كذا تفسير الأزواج والاثنين في الروايات(1)، فهذه ثمانية أزواج وقد أحلّ اللّه الذكر منها والأنثى.

وقوله: {الضَّأْنِ} جمع ضائن، وقيل اسم جمع لا مفرد له، و{الْمَعْزِ} جمع ماعز.

وقوله: {ءَالذَّكَرَيْنِ} القاعدة هي سقوط الهمزة من التعريف في درج الكلام لأنها همزة وصل، إلاّ أنه حين الاستفهام بالهمزة تقلب همزة التعريف ألفاً، وقد تسهّل، وذلك حذراً من الالتباس.

وقوله: {نَبُِّٔونِي بِعِلْمٍ} حيث استفهم منهم استفهاماً إنكارياً بأنه هل اللّه حرّمها؟! بيّن أن الجواب لا بدّ أن يكون بعلم - من عقل أو نقل - ولا دليل من العقل على التحريم كما هو واضح، والمشركون لا يعتقدون بالرسالة فمن أين علموا بأن اللّه حرّمها؟!

وقوله: {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} أي صادقين في أن نسبة التحريم إلى اللّه تعالى لم تكن افتراء، وحيث لا علم تبيّن أنه افتراء.

السادس: قوله تعالى: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ...} الآية.

ص: 330


1- راجع الكافي 8: 283؛ والبرهان في تفسير القرآن 4: 58-60.

استنكار عليهم في تحريمهم ما أحله اللّه من الإبل والبقر، وقيل: إنه تعالى ذكر في الآية 142 إن اللّه أحلّ الأنعام، وتحريمها هو من خطوات الشيطان، ثمأراد زيادة التشنيع عليهم بالتفصيل وبأنهم لا حجة لهم لذلك ذكرها مفصلّة.

وقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّىٰكُمُ اللَّهُ بِهَٰذَا} هذا عِدل محذوف يُعلم من الآية السابقة حيث قال: {نَبُِّٔونِي بِعِلْمٍ} فالمعنى هل ادعاؤكم التحريم عن علم - عقلي أو نقلي - أم أنكم سمعتم من اللّه تحريمها؟ وهذا كالتهكّم بهم وبيان سخافة عقولهم، و(الشهادة) بمعنى الحضور، و(الوصية) هي العهد، ووصية اللّه فرضه وحكمه وعهده إلى الناس.

وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي وحيث لا حجة لهم من علم أو سماع فيُعلم أن تحريمهم هو افتراء على اللّه تعالى، وهو أشد الظلم، فكانوا أظلم الناس بفريتهم هذه.

وقوله: {لِّيُضِلَّ النَّاسَ} اللام للعاقبة، أي عاقبة هذا الافتراء هو الإضلال، ويحتمل أن يكون المراد ب{مَنْ أَظْلَمُ} هو الذي سنّ هذه السنن السيئة بين الناس بغير علم منه وأراد بذلك إضلالهم عن سبيل اللّه تعالى.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي...} بيان أنه حيث ظلموا بافترائهم على اللّه، فإنه لا يهديهم لأن القاعدة العامة هي عدم هداية الظالمين، وذلك بتركهم وشأنهم، وحيث لا هداية إلاّ من اللّه فتركهم يساوق ضلالهم وهلاكهم.

ص: 331

الآيات 145-147

اشارة

{قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 145 وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٖ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ 146 فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٖ وَٰسِعَةٖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ 147}

145- وحيث علمت أن التحريم والتحليل من اللّه بوحيه ف{قُل} رداً على زعمهم تحريم بعض الأنعام {لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} وعدم الوجدان هنا يدلّ على عدم الوجود {مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ} على آكل يأكله {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} لم تُذَكّ بالطريقة الشرعية - سواء ماتت حتف أنفها أم بطريقة أخرى - {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} مصبوباً، أمّا ما يتخلل اللحم فلا بأس به {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ} وذكر اللحم من باب إعتياد أكله وإلاّ فكل أجزاء الخنزير محرّمة {فَإِنَّهُ} فإن كل المذكورات {رِجْسٌ} قذر خبيث {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ} رُفع الصوت عند ذبحه {لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} بأن ذكرت الأصنام عند ذبحه، وسُمّي هذا فسقاً لشدة خبثه فكأنّه صار الفسق بعينه، {فَمَنِ اضْطُرَّ} دعته الضرورة إلى أكل المذكورات {غَيْرَ بَاغٖ} لم يكن ظالماً

ص: 332

متجاوزاً عن الحدّ بأن لم يكن خروجه على الإمام المفترض الطاعةولم يأكل التذاذاً {وَلَا عَادٖ} لا يطلب العدوان بأن لم يكن خروجه لقطع الطريق ولا يتجاوز عن الحدّ في أكله، بل يأكل بمقدار سدّ الرمق {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ} لا يؤاخذه بأكلها {رَّحِيمٌ} أباح له الأكل.

146- وليس تحريم اللّه تعالى إلاّ بحكمة فقد تكون المصلحة في التحريم فيحرّم وقد ترتفع المصلحة فيحلّل، وكذا العكس {وَ} من ذلك أنه {عَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖ} من الطيور والسباع وغيرها، {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} كل الشحم {إِلَّا مَا} الشحوم التي {حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ} الشحوم التي حملت {الْحَوَايَا} أي الأمعاء {أَوْ مَا} أي الشحم الذي {اخْتَلَطَ بِعَظْمٖ ذَٰلِكَ} - التحريم وقد كان حلالاً قبل وبعد - {جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ} عقوبة على ظلمهم {وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ} في تحريمنا عكس المشركين الذين يفترون فيه.

147- {فَإِن كَذَّبُوكَ} في ما تلوته عليهم من الكتاب في التحريم {فَقُل} في جواب تكذيبهم: {رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٖ وَٰسِعَةٖ} لذا لا يجازيكم ببغيكم بتحريم الطيبات عليكم فوراً بل يمهلكم {وَ} لكن سيأتيكم العذاب؛ إذ {لَا يُرَدُّ بَأْسُهُ} عذابه إذا حان وقته {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} المكذبين المفترين؛ لعدم تنافي عقاب المجرمين مع الرحمة.

بحوث

الأول: بعد أن بيّن اللّه تعالى أن التحريم والتحليل بيده وحده لا شريك

ص: 333

له، وأن نسبة التحريم والتحليل إليه لا بد أن تكون بعلم، بعد ذلك بيّن أن اللّه تعالى أوحى إلى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حلية كل شيء من المأكولات إلاّ الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذكر اسم الأصنام عليه، وليس تحريمها اعتياطاً بل الثلاثة الأولى رجس والرابع فسق، ولكن مع ذلك من رحمته وغفرانه أحلّها للمضطر إن لم يكن باغياً ولا عادياً، فحليتها أيضاً لمصلحة هي الرحمة والغفران.

وأما تحريم بعض الطيبات على اليهود قبل نسخ شريعتهم فهو أيضاً لمصلحة وهي عقوبتهم على بغيهم.

إذن ما يحرّمه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما هو بوحي من اللّه تعالى وليس كتحريمهم بالافتراء، ولكن مع دلالة الآيات والحجج على رسالته هم معاندون يكذبونه، فيهددهم اللّه تعالى بأن رحمته وإن كانت واسعة لكن ذلك لا ينافي عقوبة المجرمين.

عدم جواز نسبة الأحكام إلى اللّه تعالى من غير علم

الثاني: قوله تعالى: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ}.

عدم وحي شيء للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمعنى عدم تشريعه؛ لأن اللّه تعالى لو شرّعه وكان الحكم فعلياً لأوحاه إلى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، إذ لم يجعل اللّه سبحانه مبلِّغاً لأحكامه غيره، فهنا عدم الوجدان يدل على عدم الوجود، وعليه فالآية في مقام بيان القاعدة العامة في حلية كل شيء من المأكولات، ثم يستثني اللّه تعالى منها في هذه الآية محرمات الأنعام والخنزير - الذي لولا تحريم اللّه تعالى له لكان من الأنعام عند الناس - ، وهذا لا ينافي تخصيصات أخرى

ص: 334

بأدلة أخرى، نظير كل عام قرآني يُذكر لضرب القاعدة وليكون المرجع في كل شيء، وهذا من دأب العقلاء حيث يجعلون قاعدة لتكون المرجع ثميستثنون منها ما شاؤوا، وقد دلت الأدلة على تحريم المسوخ والسباع من الحيوانات أجمع وكذا تحريم الحشرات، وكل طير صفيفه أكثر من دفيفه، وما لا فلس له من موجودات البحر، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية(1).

الثالث: قوله تعالى: {إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ...} الآية.

قد مرّ(2) في الآية 173 من سورة البقرة، والآية 3 من سورة المائدة تفصيل هذه المحرمات فراجع، وفي هذه الآية يتم بيان أن التحريم ليس اعتباطاً، وإنما لأنها رجس أو فسق، وكذا سبب تحليلها للمضطر بأنه لرحمته تعالى وغفرانه.

وقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} الظاهر أن الضمير يرجع إلى كل الثلاثة، وإنما أفرده باعتبار أن المرجع كل واحد منها، و(الرجس) هو كل ما يستقذر ويستقبح، فالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير كلّها قذرة ولذا حرّمها اللّه تعالى.

وقوله: {أَوْ فِسْقًا...} أي إن ما ذبح لغير اللّه صار وكأنه الفسق بعينه، فعملهم بالإهلال في الذبح بتسمية الأصنام خروج عن طاعة اللّه تعالى فأثر ذلك الشرك في اللحم فصار هو الفسق، وفي هذا تشنيع عليهم مع بيان شدة

ص: 335


1- راجع تفصيله في كتاب نبراس الأحكام، (للمؤلف).
2- راجع التفكر في القرآن سورة البقرة 2: 225-230؛ والتفكر في القرآن، سورة المائدة: 24.

التحريم، لأنه شرك إضافة إلى حرمته، والشرك أسوء أنواع الظلم.

وقوله: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عدم تحريمها على المضطر لأن اللّهغفور يستر القبيح، فأكل لحومها وإن كان قبيحاً في نفسه إلاّ أن غفران اللّه تعالى صار سبباً لرفع حرمتها، وكذا رحمته بعباده لئلا يهلكوا جوعاً.

سبب تحريم بعض الطيبات على اليهود

الرابع: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا...} الآية.

كأنّه دفع إشكال هو: كيف حرّم اللّه بعض الطيبات على اليهود؟ والجواب: إن في التحريم مصلحة هي عقوبتهم على بغيهم، فكما أحل اللّه الخبائث للمضطرين لمصلحةٍ هي غفرانه ورحمته، كذلك حرّم بعض الطيبات على الباغين لمصلحةٍ هي عقوبتهم.

وقوله: {كُلَّ ذِي ظُفُرٖ} الظفر معروف، وتفسيره بالإصبع أو الدابة غير مشقوقة الرجل لا وجه له بعد عدم دلالة نصٍ من المعصوم عليه، كما لا وجه لتفسيره بالإبل لأنها لم تكن محرمة عليهم وإنّما افتروا في تحريمها كما مرّ في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَىٰةُ}(1).

وقوله: {أَوِ الْحَوَايَا} جمع حاوية وهي الأمعاء، فالشحم المشتمل عليها لم يكن محرّماً عليهم أيضاً.

وقوله: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٖ} كذلك، ولعلّ عدم تحريم هذه الثلاثة لصعوبة فكّها عن اللحم، وتحريمها كان يؤدي إلى تحريم غالب لحومها،

ص: 336


1- سورة آل عمران، الآية: 93.

وإنما التحريم كان لسائر الشحوم كإلية الغنم.

وقوله: {ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم} أي ذلك التحريم كان عقوبة لهم بسبب تعديهمفي الظلم، قال تعالى: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}(1)، ثم نسخ اللّه ذلك الحكم بشريعة عيسى (عليه السلام) ، قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(2).

وقوله: {وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ} أي تحريمنا وتحليلنا مطابق للواقع والمصلحة الواقعية فلذا كان صدقاً، وأما ما يفعله المشركون فهو افتراء وكذب.

الخامس: قوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٖ وَٰسِعَةٖ...} الآية.

بعد بيان أن التحريم والتحليل لا بد أن يستند إلى حجة وبرهان من اللّه تعالى، وأن تحريم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحليله إنما هو بوحي من اللّه تعالى، بعد ذلك بيّن أنّ المشركين كذّبوه مع قيام الأدلة، فلا علاج لهم إلاّ بيان أن عقاب اللّه تعالى سينالهم، وهذا العقاب لا ينافي سعة رحمته؛ لأنه بحكمته، فرحمته تشمل كل شيء بما فيه المشركون ولذا يمهلهم اللّه تعالى ولا يؤاخذهم فوراً بجريرة افترائهم وتكذيبهم، حتى إذا انتهت المهلة أخذهم اللّه بعذابه جزاءً لجرمهم، قال تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٖ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ}(3).

ص: 337


1- سورة النساء، الآية: 160.
2- سورة آل عمران، الآية: 50.
3- سورة الأعراف، الآية: 156.

أو المعنى إنهم وإن كذبوك في حلية ما يحرمونه إلاّ أنها تبقى محلّلة لهم فلم يمنعها اللّه عليهم، ولم يعاملهم بما عامل بني إسرائيل حيث حرّمعليهم طيبات أحلت لهم ببغيهم؛ وذلك لسعة رحمته بحيث أبقاها محلَّلة عليهم، ولكن حينما يحين أجلهم وينقطع عملهم سيجزون بافتراءاتهم.

ص: 338

الآيات 148-150

اشارة

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٖ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٖ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ 148 قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ 149 قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ 150}

148- ثم يذكر اللّه تعالى احتجاجاً للمشركين في شركهم وتحريمهم، ويدحضه، فقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} مُحتجّين: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} عدمَ شركنا وعدمَ تحريمنا {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا} أشرك {ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٖ} من الأنعام والحرث وغيرها، وحيث لم يمنعنا اللّه فذلك دليل رضاه حسب زعمهم! لكنه كذب عليه تعالى وتكذيب بآياته و{كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} حيث نسبوا أباطيلهم إلى اللّه تعالى فكذّبوا آياته ورسله {حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا} عذابنا، وهذا تهديد للمشركين بأنهم لو استمروا في تكذيبهم سيكون مصيرهم كمصير أولئك في العذاب.

ثم يبيّن اللّه تعالى بأن حجتهم هذه لا تستند على أساس صحيح ف{قُلْ} لهم في دحض حجتهم: {هَلْ} استفهام إنكاري وتعجيزي {عِندَكُم مِّنْ

ص: 339

عِلْمٖ} برهان معلوم {فَتُخْرِجُوهُ} تظهروه وتستدلوا به {لَنَا}؟ لكن ليس لكم علم، بل {إِن} نافية أي لا {تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} بسبب اتّباع الآباءوالاعتياد على الشرك {وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} تكذبون على اللّه تعالى؛ إذ كل نسبة إليه من غير علم كذب عليه.

149- {قُلْ} إنّ ما احتججتم به هو حجة عليكم؛ إذ لو كان اللّه يجبر الناس على الدين لأجبرهم جميعاً لا أن يجبركم وحدكم {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ} الواضحة الواصلة {فَلَوْ شَاءَ} الجبر على دينه {لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ} أنتم ومن خالفكم، وحيث اختلفتم عُلم أن اللّه لم يجبر على دينه أحداً.

150- وحيث علمت أنهم لا علم لهم بما يدّعون فادعُ شهدائهم ليتبيّن بطلان تقليدهم أيضاً ف{قُلْ هَلُمَّ} أحضروا {شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا} من الأنعام والحرث وغيرهما، وحيث لا شاهد لهم على ذلك - لعدم اعتقادهم بالوحي - ثبت بطلان تقليدهم أيضاً، {فَإِن} فرض أنهم جاؤوا بالشهداء و{شَهِدُواْ} زوراً {فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي لا تصدّقهم، والمقصود بيّن بطلان شهادتهم وأن هؤلاء الشهداء كالمشهود لهم في اتّباعهم الظن والخرص، وحيث علمتَ أنه لا علم لهم ولا شهداء حق فاعلم أنهم يتّبعون أهواءهم وينكرون الآيات {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَ} لا تتبع أهواء {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ وَ} هؤلاء {هُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الأصنام وغيرها، أي يجعلون له عِدلاً ومِثلاً.

دحض حجج المشركين

بحوث

الأول: في هذه الآيات دحض لحجة من حجج المشركين حيث زعموا

ص: 340

أن اللّه لو لم يُرد شركهم وتحريمهم لمنعهم عنه قهراً، وحيث لم يمنعهم دلّ ذلك على رضاه، فيبيّن اللّه تعالى...

أولاً: بأن ذلك تكذيب باللّه وآياته وافتراء عليه فهذه الحجة لا تدلّ علىما زعموه، وعاقبة التكذيب هي العذاب.

وثانياً: إن ادّعاهم لا يستند إلى علم بل إلى ظن وكذب.

وثالثاً: إن حجتهم هذه هي عليهم؛ لأن اللّه لو كان يريد الجبر في الدين لأجبر الجميع عليه.

ورابعاً: يبيّن أنهم في عملهم لم يتبّعوا اتّباعاً بالحق فالذين يقلدونهم مثلهم لا علم لهم.

وخامساً: حيث لم يكن شركهم وتحريمهم بمشيئة جبر من اللّه فهي بسبب أهوائهم.

وسادساً: يبيّن سبب اتّباعهم للأهواء وهو أنهم كذبوا بالآيات ولم يؤمنوا بالآخرة ولم يخلصوا للّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا...} الآية.

أي يقولون: لو شاء اللّه إيماننا بالتوحيد لتحقَّقت مشيئته ولم نتمكن من الشرك ولا من تحريم ما حرّمناه، حيث زعموا أن اللّه تعالى يجبر الناس على الدين! مع أنه خلقهم مختارين ولم يجبرهم ولا أجاز إكراههم على الدين، وقد تحقق ما شاءه من اختيارهم، وهذا لا ينافي عدم وقوع شيء في سلطانه إلاّ بقضائه وقدره؛ إذ قد مرّ أن مشيئتهم من مقدمات تحقق الشيء

ص: 341

الاختياري، فإذا شاؤوا قدّره اللّه وقضاه، وإن لم يشاؤوا لم يقدّره ولم يقضه، وكلامهم هذا يشبه كلام المجبّرة من منتحلي الإسلام، وردّه ردّ لهم أيضاً.

قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ} أي مشيئة جبر، وهم بذلك استنتجوا رضاه بفعلهملأنه لم يمنعهم.

وقولهم: {وَلَا ءَابَاؤُنَا} كأنه تنزيه منهم لآبائهم وبيان صحة تقليدهم واتّباعهم.

وقوله: {كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي كلامهم كذب واتخذوه وسيلة لتكذيب آيات اللّه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهكذا فَعَل المكذّبون بالرسل، وأن هذه الحجة لا ربط لها بزعمهم.

وقوله: {حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا} أي لم تنفعهم حتى عذّبهم اللّه تعالى، وهذا تهديد للمشركين وبيان أن الحجة الباطلة لا تنفع في دفع عذاب اللّه تعالى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}(1).

وقوله: {هَلْ عِندَكُم...} استفهام إنكاري وتعجيزي، والمقصود دحض حجتهم ببيان أنهم لا يفقهون الحجة ولا يعرفون شيئاً عن معنى مشيئة اللّه تعالى، بل كلامهم عن ظن وكذب.

وقوله: {مِّنْ عِلْمٖ} أي أمر معلوم يصح الاحتجاج به للمدّعى، وقيل: هذا تهكّم بهم.

وقوله: {إِلَّا تَخْرُصُونَ} مرّ أن الخرص هو الكذب، فالمعنى إنّ من يتّبع

ص: 342


1- سورة الشورى، الآية: 16.

الظن في نسبة شيء إلى اللّه تعالى هو كاذب، حتى لو فرض أن رجمه بالغيب أصاب الواقع، وهذا نظير القاضي الذي يحكم بالحق وهو لا يعلم فهو في النار؛ لأن ذلك خلاف الموازين الشرعية في لزوم كون المعتقدوالحكم عن علم.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ}.

كأنّه بيان أن الحجة عليهم لا لهم ولذا جاء بفاء التفريع، أي حيث استدللتم بالمشيئة فاعلموا أنها تدل على الاختيار، والدليل على ذلك اختلاف أديان الناس، حيث إن اللّه لو كان يريد جبر الناس على دينه لأجبرهم جميعاً فاهتدوا إليه.

ويحتمل كونه تفريعاً على اتّباعهم للظن وكذبهم فذلك دليل على أن حجة اللّه بآياته ورسله حق لا مرية فيه ولذا كان ما خالفها ظناً وتخريصاً.

وقوله: {الْبَٰلِغَةُ} الواصلة والواضحة التي توجب العلم، فإن اللّه هو الحق ولا يحتج إلاّ بالحق وبما يؤدي إلى العلم، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : «الحجة البالغة: وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها على جهله كما يعلمها العالم بعلمه»(1)، وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) : «إن للّه على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة: فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول»(2)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «نحن الحجة البالغة على من دون

ص: 343


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 238.
2- الكافي 1: 16.

السماء وفوق الأرض»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدى أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن كان جاهلاً قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلكالحجة البالغة»(2).

وقوله: {فَلَوْ شَاءَ} الفاء للتفريع وتفيد التعليل، أي حجته في عدم جبركم هي اختلافكم وعدم اجتماعكم على الهداية، وذلك يدل على عدم مشيئة الجبر في الدين.

الرابع: قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا...} الآية.

بيان أن تقليدهم أيضاً باطل؛ إذ قد لا يكون للإنسان علم لكنه يتّبع ذي علم فيكون معذوراً، أما الجاهل الذي يتّبع جاهلاً مثله فلا عذر له أصلاً.

وقوله: {هَلُمَّ} اسم فعل بمعنى (أحضِر) وهو طلب المجيء بالشيء وقيل: هو مركب من (ها) التنبيه و(لُمّ) ثم حذفت الألف، وهي ممّا يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والتثنية والجمع، ومن العرب من يذكّر ويؤنث ويجمع ويُثنّي.

وقوله: {شُهَدَاءَكُمُ} طالبهم بالعلم فلم يكن عندهم، ثم طالبهم بالشهود ولا شهود لهم إلاّ شهود زور، وشهادتهم - ولو زوراً - تكشف عن زيف ادّعاءهم؛ لأنّ شاهدهم لا علم له أيضاً مثلهم فلو شهد افتضح وتبيّن

ص: 344


1- الكافي 1: 192.
2- أمالي الشيخ الطوسي: 9.

أنه تابع للّهوى.

وقوله: {فَإِن شَهِدُواْ} أي لو فرض أنهم جاؤوا بشهدائهم وشهدوا لهم، وقيل: فإن شهدوا هم بأنفسهم حيث لا شهداء لهم.

وقوله: {فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أراد لازم عدم الشهادة معهم، أي إن شهادتهمباطلة ولا يمكن تصديقها ويلزم دحضها.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ...} الآية.

أي كما لا تشهد لهم لفظاً، كذلك لا تتّبعهم عملاً، وسبب ذلك أنها أهواء وليست حقاً، ثم يبين ثلاثة أسباب لغلبة الهوى عليهم:

1- قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} فمن يرفض الآيات لا بديل له إلاّ اتّباع الهوى.

2- وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ} لأن من لا يحذر مغبّة جرمه لا مانع له عن ارتكابه، فلماذا لا يُعطي لنفسه هواها وهو لا يرى محذوراً في ذلك؟!

3- وقوله: {وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فلا فرق في نظرهم بين إطاعة الرب تعالى وبين إطاعة الشركاء، والأول يخالف هواهم فيختاروا الثاني!

والحاصل أن هذه أسباب ثلاثة لاتّباعهم الهوى في الشرك وتحريم ما أحلّه اللّه سبحانه.

ص: 345

الآيات 151-153

اشارة

{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 151 وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 152 وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 153}

بعد الرد على المشركين في تحريمهم بيّن أصول المحرمات، فقال:

151- {قُلْ تَعَالَوْاْ} احضروا {أَتْلُ} أقرأ {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} {أَلَّا} أن لا {تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا} ولو قليلاً فكل شرك منهي عنه، {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} أي أن لا تسيؤوا إليهما بل أحسنوا إليهما إحساناً، {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ} فقر وخشيته؛ إذ {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} فرزقكم جميعاً على اللّه تعالى فلا مبرّر للقتل، {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ} الذنوب المتجاوزة عن الحد في قبحها {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} جُهر بها {وَمَا بَطَنَ} أتي بها في الخفاء، {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} جعل لها حرمة {إِلَّا

ص: 346

بِالْحَقِّ} في قصاص أو حدّ أو دفاع أو جهاد {ذَٰلِكُمْ} المذكورات في هذه الآية {وَصَّىٰكُم بِهِ} عهد إليكم وأمركم به {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لأن العقول تدل على هذه أيضاًفالشرع يذكّر بها.

152- {وَ} من المحرمات: أن {لَا تَقْرَبُواْ} عدم القرب مبالغة في الاجتناب والاحتياط {مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي} بالطريقة التي {هِيَ أَحْسَنُ} الأساليب عبر حفظ الولي ماله واسترباحه والصرف عليه بما فيه مصلحته {حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} يستحكم بالبلوغ والرشد وحينئذٍ سلّموه أمواله ليتصرف هو فيها، {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} لا تنقصوا فيهما ولا تبخسّوا الناس أموالهم {بِالْقِسْطِ} بالعدل، وذلك بالتسوية بلا إفراط ولا تفريط، وكل ذلك تقدرون عليه؛ إذ {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الذي تقدر عليه، {وَإِذَا قُلْتُمْ} في الشهادات والتحاكم وغيرهما {فَاعْدِلُواْ} اشهدوا واحكموا بالعدل {وَلَوْ كَانَ} المقول فيه {ذَا قُرْبَىٰ} فلا تمنعكم قرابته من العدل، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ} كالنذر {أَوْفُواْ} فلا تحنثوا، {ذَٰلِكُمْ} المذكورات في هذه الآية {وَصَّىٰكُم} اللّه {بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون؛ لأن الإنسان قد ينسى ما في فطرته فاحتاج إلى التذكير.

153- ومن المحرمات اتّباع المذاهب الباطلة {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي} حال كونه {مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} سيروا عليه {وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} الطرق الأخرى {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} تفرق بينكم وبين سبيله، فتُبعدكم {عَن سَبِيلِهِ} تعالى؛ إذ لا تجتمع السُبل مع سبيله {ذَٰلِكُمْ} المذكور في هذه الآية {وَصَّىٰكُم بِهِ} عهد إليكم وأمركم به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

ص: 347

أصول المحرّمات وأصنافها

بحوث

الأول: يذكر اللّه تعالى في هذه الآيات أصول المحرمات والتي ترجع إليها سائرها، وذلك في سياق أن التحريم بيد اللّه تعالى وحده لا شريك لهولعلّه يصنفها في ثلاثة أصناف:

فمنها: ما يرتبط بحقوق اللّه في عدم الشرك به، وحقوق الوالدين بعدم الإساءة إليهما بل الإحسان إليهما، وحقوق الأولاد بعدم قتلهم خشية الفقر، وحقوق المجتمع بعدم ارتكاب الفواحش كالزنا، وحقوق الناس بعدم قتلهم إلاّ بالحق، ومن ذلك يعلم سبب ذكر القتل مرتين فإن الأول في سياق حق الأولاد والثاني في بيان حق عامة الناس.

ومنها: ما يرتبط بالأمور المالية، ويذكر منها عدم التصرف في مال اليتيم إلاّ بأفضل الصور، وعدم بخس الناس في الكيل والوزن، وعدم شهادة الزور أو الحكم بالباطل وهو غالباً يرتبط بالقضايا المالية، وبلزوم الوفاء بالنذر ونحوه لأنه صار حقاً للّه تعالى، وأيضاً ذكر الحق المالي للّه والأقرباء والأيتام وعموم الناس.

ومنها: ما يرتبط بالدين، وهو وجوب اتّباع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته(عليهم السلام) فإنهم الصراط المستقيم، وأما اتّباع غيرهم فهو انحراف عن الصراط المستقيم.

ثم إنه ختم الوصية في القسم الأول بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وفي الثاني بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، وفي الثالث بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وغير خفي أن العمل بكل واحد منها تعقل وتذكر وتقوى، فذكر كل

ص: 348

واحدة في آية تفنن في العبارة، وقيل: لعلّه خص الأول بالتعقل لأنها أمور يدركها العقل بوضوح وأكدها الشرع، وخص الثاني بالتذكر لأنها أمور يغفل عنها الناس فذكّرهم اللّه بها، وخص الثالث بالتقوى لأن التزامها يؤدي إلى ترك المحرماتوالعمل بالواجبات عامة، واللّه العالم.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا...} الآية.

قوله: {تَعَالَوْاْ} أصل تعالوا من العلو، فالآمر عالٍ ويطلب من المأمور أن يرتفع إليه، ثم استعمل في طلب الحضور مطلقاً.

وقوله: {أَلَّا تُشْرِكُواْ...} بدل عن {مَا حَرَّمَ} و(أن) مفسرة، فالمعنى تعالوا أقرأ عليكم النهي عن الشرك.

وقوله: {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} كأنّه في مقام النهي عن الإساءة إليهما لكن حيث لا يكفي ذلك بل يجب الإحسان إليهما بدّل صورة النهي إلى الأمر، فالمعنى: لا تسيئوا إلى الوالدين بل وأحسنوا إليهما.

وقوله: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٖ} وهو الإفلاس من المال والزاد - كما في مجمع البيان(1) - فكانوا يرون أن الوالد مالك لأولاده فيحق له أن يقتلهم خشية الذل بالفقر، فتارة كانوا يقتلون من الفقر، وأخرى من خشيته حتى لو لم يكن فقر، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَٰقٖ}(2).

وقوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} بيان أنه تعالى الخالق وأنه الرازق فليس

ص: 349


1- مجمع البيان 4: 272.
2- سورة الإسراء، الآية: 31.

الرزق منكم كي تكون المسؤولية عليكم في عدم الرزق حتى تتخلصوا منها بقتلهم، فالرزق منه تعالى فإن ضيّق عليكم وعليهم فهذا لا شأن لكم فيه، وغير خفي أن كون الرزق على اللّه تعالى لا ينافي وجوب طلبه، كما مرّ.

وقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ} الفاحشة هي كل قبيح متجاوز عن الحدّ، وفي ارتكابها وشيوعها انهيار لأسس المجتمع السليم وخاصة الزنا الذي ينهدم به أساس الأسرة، والنهي عن الاقتراب مبالغة في وجوب الاجتناب عنه وعن مقدماته القريبة والبعيدة؛ لأن «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» كما في الحديث الشريف(1)، ولذا حرم النظر بشهوة والخلوة بالأجنبية ونحو ذلك.

وقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما ارتكب جهراً، {وَمَا بَطَنَ} ارتكب خفية، وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الآية قال: «ما ظهر منها: نكاح امرأة الأب، وما بطن: الزنا»(2).

وقوله: {الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} أي جعل لها الحرمة والاحترام.

وقوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} وينحصر في القصاص وبعض الحدود وفي الجهاد والدفاع، وما سوى ذلك باطل لم يأذن اللّه به.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ...} الآية.

بيان الصنف الثاني من المحرمات وهي ما ترتبط بالأموال عادة.

ص: 350


1- مجمع البحرين 6: 53.
2- تفسير العياشي 1: 383؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 72.

وقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ} إنما خصه بالذكر مع أنه لا يجوز التصرف في أموال سائر الناس أيضاً؛ لأن اليتيم عادة في معرض أكل أمواله لضعفه وعدم علمه بماله.

وقوله: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بأن يكون في التصرف في ماله مصلحة له، كالإنفاق عليه بالمعروف من ماله، وكحفظ ماله وإنمائه، ولا يحق ذلك إلاّ للولي أو الوصي، وإذا دار الأمر بين حسن وأحسن لزم اختيار الثاني كتجارة بماله تَدُرّ ألفاً وأخرى تدرّ ألفين.

وقوله: {حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} هذا غاية لجواز التصرف بالتي هي أحسن، و(الأشد) من الاشتداد بمعنى القوة أو كمالها، ولا يكون ذلك إلاّ بالبلوغ والرشد بحيث يعرف مصالحه في ماله فحينئذٍ لا يجوز التصرف فيه بل يجب تسليمه إليه.

وقوله: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ...} من مادة الوفاء الذي هو بمعنى عدم النقص في الشيء، وقوله: {بِالْقِسْطِ} تأكيد؛ إذ لا يكون توفية إلاّ بالعدل، أو بمعنى التسوية فلا يجب الزيادة بحيث تتضرروا أنتم، فيكون عدلاً للمتعاملين.

وقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} تأكيد على لزوم التوفية في الكيل والوزن وكذا على لزوم مراعاة الحسنى في مال اليتيم، وذلك ببيان أن مراعاة هذا الحكم مقدور لكم لا حرج ولا عسر فيه.

وقد يكون ذلك تجويزاً للتخمين والخرص حينما لا يمكن الدقة كما في اليتيم الذي يعيش ضمن أسرة ويصرف عليه من ماله، وقد مرّ تفصيله في

ص: 351

سورة النساء(1) حيث يخمّن مقدار مصرفه ويخلط في مصرف الأسرة، وهكذا في بعض المعاملات التي لا يمكن معرفة الوزن بالدقة كخرصالثمر على الشجر فقد أباح اللّه التخمين هنا بالمعروف.

وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ...} نهي عن الجور في الحكم وعن شهادة الزور فإن الظاهر بقرينة السياق وبقرينة قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} أن المراد من القول هنا هو القول في الحكومة والشهادات وهي غالباً ترتبط بالنزاعات المالية، فلا بد من الحكم بالحق والشهادة بالحق، وأن لا يميل الإنسان إلى قرابته خلافاً للحق. أو هو يشمل كل قول فيكون التحاكم والشهادة مصداقه الأبرز.

وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ} الظاهر أيضاً بقرينة السياق أن المراد بالعهد هنا النذر وأمثاله حيث إن متعلقها عادة الأموال، أو العهد أعم والنذر ونحوه مصداق له.

الرابع: قوله تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ...} الآية.

بيان الصنف الثالث من المحرمات وهي اتّباع السُبل المفرّقة عن سبيل اللّه تعالى، ولكن كما في قوله: {وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} وفي {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ} وفي {فَاعْدِلُواْ} ذكر الواجب مع أنها معدودة في عداد ما حرّم اللّه، كذلك هنا قدّم الأمر باتّباع صراطه مع التصريح بحرمة اتّباع السبل المفرّقة؛ كل ذلك لأنه لا يكتفى في هذه الموارد بترك الحرام بل لا بد من ضميمة

ص: 352


1- راجع التفكر في القرآن، سورة النساء: 36 و 50.

الالتزام بالواجب، فلا يكتفى بعدم الإساءة للوالدين بل لا بد من ضمّ الإحسان أيضاً، ولا يكتفى بعدم البخس في الكيل بل لا بد من ضم الوفاء به، ولا يكتفى بعدم قول الزور حتى يضم إليه القول بالعدل، كذلك فياتّباع المنهج لا يكتفى بترك السبل حتى يضم إليه اتّباع الصراط المستقيم.

وقوله: {وَأَنَّ هَٰذَا...} قيل: هو عطف على محلّ {أَلَّا تُشْرِكُواْ} أو على {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} وحينئذٍ يدخل هذا في المتلوّ فالمعنى: قل تعالوا أتل اتّباع الصراط المستقيم، وقيل: هو استيناف بتقدير (واعلم) ونحوه، وقيل: غير ذلك.

قوله: {مُسْتَقِيمًا} حال، فهو الذي لا اعوجاج فيه ويهديكم إلى الحق وإلى الجنة، وأما الصراط المستقيم فقد قال عنه: {صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}(1)، ووضّح المنعم عليهم في قوله: {فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا}(2)، ولذا ورد في الأحاديث أن هذا الصراط هو صراط الأئمة(عليهم السلام)، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «أتدرى ما يعني ب{صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا}؟ قلت: لا، قال: ولاية عليّ والأوصياء(عليهم السلام)»(3)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصراط الذي دلّ عليه»(4).

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} أي التي لا تكون في الصراط المستقيم، وأما السبل التي في الصراط المستقيم فهي منه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا

ص: 353


1- سورة الحمد، الآية: 7.
2- سورة النساء، الآية: 69.
3- البرهان في تفسير القرآن 4: 73؛ عن تفسير العياشي 1: 384.
4- تفسير العياشي 1: 384.

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1)، وقال: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنَا سُبُلَنَا}(2).

ثم اعلم أن هذه المعتقدات والأحكام أمور ضرورية فلذا كانت فيجميع الشرائع ومن لدن آدم (عليه السلام) ، وهي غير قابلة للنسخ، وعن ابن عباس أنه قال: «هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وهي محرمات على بني آدم كلّهم، وهن أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار»(3).

ص: 354


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- سورة إبراهيم، الآية: 12.
3- مجمع البيان 4: 280.

الآيات 154-157

{ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 154 وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 155 أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَٰبُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَٰفِلِينَ 156 أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَٰبُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَٰتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ 157}

154- وهذه الأحكام أوحيت إجمالاً على جميع الأنبياء {ثُمَّ} فصلّها اللّه تعالى في التوراة والقرآن فقد {ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ} التوراة {تَمَامًا} أي لأجل تتميم النعمة {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي على الذين اتّبعوا تلك الأحكام وعملوا بها {وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ} في الأصول والفروع، فكانت مجملة وفصلناها، {وَهُدًى} دلالة على الحق {وَرَحْمَةً} لهم في الدنيا والآخرة {لَّعَلَّهُم} لعلّ الناس {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} جزائه {يُؤْمِنُونَ} عبر الإيمان به واتّباعه.

155- {وَهَٰذَا} القرآن {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ} كثير وثابت خيره {فَاتَّبِعُوهُ} آمنوا به واعملوا به {وَاتَّقُواْ} مخالفته {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

ص: 355

برجاء الرحمة، هذا في من يتبع.

156- وأما من يخالفون فإنزال الكتاب قاطع لعذرهم فإنما أنزل عليهمكراهية {أَن تَقُولُواْ} معتذرين عن شرككم {إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَٰبُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} اليهود والنصارى {وَإِن} مخففته من المثقلة، أي وإنّا {كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ} ما يقرؤونه في الكتاب {لَغَٰفِلِينَ} لا نعلم به فلم نتّبعه!

157- {أَوْ تَقُولُواْ} معتذرين عن مخالفتكم الأحكام {لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَٰبُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ} أطوع في العمل لأننا أفضل منهم!

فإن كنتم صادقين في ادعائكم {فَقَدْ جَاءَكُم} القرآن وهو {بَيِّنَةٌ} بيان واضح وحجة بالغة {مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى} يرشدكم إلى الحق {وَرَحْمَةٌ} في دنياكم وآخرتكم.

لكنهم ليسوا بصادقين فقد كذبوا وأعرضوا {فَمَنْ أَظْلَمُ} أكثر ظلماً لنفسه ولغيره {مِمَّن كَذَّبَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} أعرض عنها، ثم يهددّهم اللّه تعالى بالعذاب فقال: {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَٰتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} العذاب السيّئ الذي يستحقونه {بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} بسبب إعراضهم.

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى جملة من أصول العقائد والأحكام، والتي كانت عامة لجميع الشرائع من لدن آدم (عليه السلام) ولم ينسخ منها شيء بيّن أنها كانت مجملة فأراد تفصيلها، فقد أتمّ اللّه نعمته على المؤمنين المحسنين الذين كانوا يلتزمون بها فكانوا في نعمة الهداية والشريعة الإجمالية، فأتمّ اللّه هدايته وشريعته عليهم بإنزال التوراة مع ما فيها من الهدى والرحمة

ص: 356

أيضاً، ثم أنزل القرآن وفيه الشريعة المباركة التي لا تنسخ، وقد أكّد على تلك الأحكام وفصلّها، فلا بد من اتّباعه لينال الإنسان رحمة اللّه تعالى الخاصة وهي الجنة والرضوان، وبتنزيل القرآن انقطع عذر المشركين فيعدم إيمانهم بأنهم لم يكونوا يفهمون التوراة والإنجيل وأحكامها وأنه لو نزل بلغتهم لكانوا أهدى من اليهود والنصارى، فإن كانوا صادقين في كلامهم فعليهم باتّباع القرآن والعمل به، لكنهم كاذبون ولذا كذّبوا وأعرضوا عنه.

الثاني: قوله تعالى: {ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا...} الآية.

أي حرّم اللّه المذكورات على الناس من قبل موسى (عليه السلام) وكانت أحكاماً عامة، وبعد ذلك أنزل اللّه تعالى التوراة على موسى (عليه السلام) لتفصيلها وتتميمها، ومن ذلك يتبيّن أن {ثُمَّ} هنا للتراخي في الزمان؛ لأنه لفترة طويلة من لدن آدم (عليه السلام) إلى موسى (عليه السلام) كانت هذه الأحكام بهذه الكيفيّة حتى تمّ إنزال التوراة، ثم يبين اللّه تعالى الغرض من ذلك في أربعة أمور:

1- قوله: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي لإتمام النعمة على المؤمنين الذين أحسنوا بالالتزام بهذه الأحكام، فالموصول للجنس، أي على جميع من أحسنوا عبر العمل بهذه الأحكام، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ}(1).

2- وقوله: {وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ} أي لأجل تفصيل كل شيء من

ص: 357


1- سورة محمد، الآية: 17.

الأصول والفروع، فتلك الأحكام كانت مختصرة فجاءت التوراة مفصلّة لها ومكمّلة.

3- وقوله: {وَهُدًى} أي في التوراة هداية للناس إلى الصراط المستقيم.

4- وقوله: {وَرَحْمَةً} لأن فيها سعادتهم في الدنيا، والجنة والرضوان في الآخرة، وذلك من رحمة اللّه عليهم.

وقوله: {لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي إن أثر التمام والتفصيل والهداية والرحمة، هو أن بعض الناس يهتدي إلى الحق، فقوله: {لَّعَلَّهُم} لبيان أن إنزال الكتاب لا يجبرهم على الإيمان ولكنّه يوطّئ السبيل لإيمانهم بحيث لا يبقى عذر في مخالفته، وقد مرّ أن (لعلّ) لا يقصد به المعنى الحقيقي للرجاء فذلك محال على اللّه سبحانه، وإنما هو لبيان محبوبية الشيء، أو إيجاد الرجاء في المخاطب، أو لبيان لطف اللّه ورحمته.

وكأنّ ذكر خصوص الإيمان بلقاء اللّه تعالى لأجل أنه جامع لسائر العقائد، فلا يؤمن بالمعاد إلاّ من آمن باللّه ورسله وكتبه، أو لأن محلّ الكلام هو الالتزام بالمحرمات المذكورة ولا يلتزم بها إلاّ من خاف عذاب اللّه تعالى، وقيل: إن بني إسرائيل كانوا يتثاقلون عن الإيمان بالمعاد لذا أراد اللّه تأكيد ذلك بإنزال التوراة.

الثالث: قوله تعالى: {وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

لما ذكر اللّه تعالى إنزال التوراة على موسى (عليه السلام) فكأنّه جعله مقدمة لبيان تنزيل القرآن على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولعلّه لذلك لم يذكر الإنجيل

ص: 358

لأن الغرض حصل بذكر التوراة، أو لأن الإنجيل لم يكن يتضمن كثيراً من الأحكام التفصيلية وإنما أقرّ أحكام التوراة مع نسخ قليل منها، فقد قال عيسى (عليه السلام) {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَعَلَيْكُمْ}(1)، أو لأنه سيذكر الإنجيل في الآيات اللاحقة فاكتفى بذكره هناك!

وقوله: {مُبَارَكٌ} من البركة وهي الخير الثابت والكثير، وقيل: ثبوت الخير بزيادته ونمّوه.

وقوله: {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ} أي اعملوا به وخافوا من مخالفته، فأكّد وجوب الاتّباع بالتحذير من المخالفة وإن كانا متلازمين.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قيل: اتّقوا برجاء الرحمة لأنكم لا تدرون بما توافون في الآخرة، وهذا بيان سبب إنزال الكتاب على الذين يتّقون فإنهم بعملهم به ينالون رحمة اللّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَٰبُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا...} الآية.

وهذا بيان سبب إنزال الكتاب على الذين لا يتّبعونه، وهو أنه قاطع لعذرهم، ويتمّ الحجة عليهم، فلو كان اللّه يأمرهم باتّباع التوراة والإنجيل لكانوا يعتذرون بأنهم لا يعرفون لغتهما ولا يفهمون أحكامهما، وهذا وإن لم يكن عذراً حقيقياً؛ إذ يجب على الناس اتّباع الكتاب حتى لو لم ينزل بلغتهم بل عليهم أن يتعلّموا لغته وأحكامه أو يوسّطوا من يعرف اللغة

ص: 359


1- سورة آل عمران، الآية: 50.

ليترجم لهم الأحكام، لكنه مع ذلك أراد اللّه تعالى إتمام الحجة عليهم.

وقوله: {أَن تَقُولُواْ} بتقدير كراهية، أي لأنا كرهنا احتجاجكم بهذا فأردنا إتمام الحجة، وعليه فلا يقال لماذا أنزل اللّه الكتاب على من يعلم بأنهم لا يؤمنون؟ فالجواب إتماماً للحجة عليهم، وأيضاً لأن إنزال الكتابعام للجميع ويكفي في فائدته اهتداء البعض به.

وقوله: {طَائِفَتَيْنِ} أي اليهود والنصارى، ولعل عدم ذكر سائر الطوائف التي أنزل الكتاب عليها لأن المشركين لم يكونوا على علم بهم، أو لأن سائر الكتب لم تكن مفصلة كتفصيل التوراة والأنجيل، أو لعدم وجود أتّباع لهم حين نزول القرآن.

وقوله: {عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَٰفِلِينَ} أي عن قراءة الطائفتين للكتاب، وإنما كانوا غافلين لعدم معرفتهم بلغتهم، أو لأن علماءهم ما كانوا يرغبون في دخول العرب في دينهم ولذا حظروا الكتاب عليهم، أو لغير ذلك.

الخامس: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَٰبُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ...} الآية.

لعلّ الفرق بين هذا العذر والعذر في الآية السابقة، أن ذاك اعتذار عن شركهم بالغفلة عما في الكتاب، وهذا اعتذار عن مخالفتهم للأحكام بأنه كانوا أهدى وأطوع لو أنزل الكتاب عليهم.

ويمكن أن يكونا عذراً واحداً ولكن تمّ بيانه من جهتين تأكيداً على عدم العذر لهم، وهو أن الكتب السابقه لم يفهموها ولم ينزل عليهم كتاب يفهمونه ولذا أشركوا وخالفوا!

ص: 360

وقوله: {أَهْدَىٰ مِنْهُمْ} أي أكثر طاعة واتّباعاً، هذا شأن كل متكبر كذّاب يزعم أنه أفضل من غيره.

وقوله: {فَقَدْ جَاءَكُم...} جواب شرط مقدّر، أي إن كنتم صادقين في اعتذاركم فقد جاءكم القرآن وبيانه واضح أزال الغفلة عنكم وفيه الهدىوالرحمة وقد زعمتم أنكم أهدى وبذلك بطل الاعتذاران، فقوله: {بَيِّنَةٌ} إبطال للاعتذار بأنه {كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَٰفِلِينَ}، وقوله: {وَهُدًى} إبطال للاعتذار بأنه {لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ}، ولعل إضافة {وَرَحْمَةٌ} لأجل أنه لما ذكر التوراة وصفها بالرحمة فأراد أن لا يكون وصف القرآن بأقل منها، أو لأنهم لما اعتذروا بقولهم {لَكُنَّا أَهْدَىٰ} تمّ بيان أن القرآن فيه هداية وزيادة هي الرحمة.

وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ...} بيان عدم صدقهم في اعتذارهم أي بعد إزالة عذرهم وإتمام الحجة عليهم بقوا على شركهم ومعصيتهم فكذبوا بالآيات وأعرضوا عنها.

وقوله: {كَذَّبَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} الصدف بمعنى الإعراض، وحيث إن التكذيب يلازم الإعراض فقد قيل: إن المراد بالصدف عنها هو الصدّ عنها، ويمكن أن يكون التكذيب في أصول الدين والإعراض عن العمل بالأحكام.

ص: 361

الآيات 158-160

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَٰنِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ 158 إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ 159 مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ 160}

158- كيف هؤلاء لا يؤمنون بعد أن رأوا الآيات ف{هَلْ} استفهام إنكاري {يَنظُرُونَ} أي ينتظرون لكي يؤمنوا {إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} وهذا لا يمكن في حال التكليف، فإذا رأوا الملائكة حين الموت فقد ارتفع التكليف {أَوْ} ينتظرون أن {يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي يأتي أمره في يوم القيامة {أَوْ} ينتظرون أن {يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ} أي العذاب في دار الدنيا، لكن {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ} تلك النفس {ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ} وذلك لأن العذاب لا ينزل إلاّ بعد تمام الحجة ومخالفتهم، وعند ذاك قد انتهى وقت الاختبار وجاء وقت الجزاء {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَٰنِهَا خَيْرًا} أي أطاعت في إيمانها، وإلاّ فمجرد إظهار الإيمان من غير إقرار قلبي به يكون من النفاق، ومن المعلوم أن الإطاعة في

ص: 362

أصول الدين ومنها الإقرار بالأئمة(عليهم السلام) هو الخير الذي يكسبه الإنسان في إيمانه، {قُلِ انتَظِرُواْ} وهذا تهكّم بهم كأنّه قال انتظروا العذاب {إِنَّا مُنتَظِرُونَ}وحينذاك تكون النجاة لنا والهلاك لكم.

159- وليس على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حسابهم؛ إذ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} أي كان الباطل دينهم لأن الباطل يفرّق عكس الحق الذي يجمع {وَكَانُواْ شِيَعًا} جماعات مختلفة يتبعون سُبُل الباطل عكس أصحاب الحق فإنهم جماعة واحدة في الصراط المستقيم، هؤلاء {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} لا ترتبط بهم ولا تُسأل عن أعمالهم فقد أدّيت رسالتك وبلّغت بأحسن وجه وليس حسابهم عليك، {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ} بالحساب والجزاء {إِلَى اللَّهِ}، فيرجعون إليه {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} مقدمة لجزائهم عليه.

160- والقاعدة العامة في الجزاء أن العقاب بمثل العمل، والثواب بالتضاعف ف{مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} وهو الإيمان والعمل الصالح {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وكله فضل من اللّه تعالى وقد يزيده اللّه {وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} الشرك أو المعصية {فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا} وذلك لعدل اللّه سبحانه، وقد يتفضل اللّه عليه بالعفو {وَهُمْ} المحسن والمسيء {لَا يُظْلَمُونَ} فلا ينقص المحسن عمّا وعده اللّه عليه، ولا يزيد المسيء عن المِثل.

بحوث

الأول: يحثّهم اللّه تعالى على الإيمان قبل فوات الأوان؛ لأن الإيمان حين حلول الموت أو حين نزول العذاب لا ينفع، ومن ثمّ يبين اللّه تعالى أن حسابهم وجزائهم عليه لا على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأن اللّه لا يظلمهم بل إن

ص: 363

عاقب فيعاقب بمثل الجريمة، ثم في الآيات اللاحقة يبيّن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) دينه وطريقته وسيأتي تباعاً.

الثاني: قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ...} الآية.

(النظر) طلب إدراك الشيئ سواء بالبصر أم بالفكر أم بالصبر، والمعنى هل ينتظرون أحد الأمور الثلاثة حتى يؤمنوا:

1- قوله: {أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} كأنّ المراد رسل اللّه لقبض الروح، فالمعنى هل ينتظرون الموت كي يؤمنوا، وحينذاك لا ينفع الإيمان، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ}(1).

2- وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي يأتي اللّه بأمره، وكأنّ المراد لقاء اللّه في يوم القيامة، وهو تعبير مجازي لأنه تعالى يحاسبهم ويخاطبهم وهناك يبطل كل ملك سوى ملكه فكأنّه أتاهم وكأنّهم التقوا به، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}(2).

3- وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ} كأنّ المراد العذاب الدنيوي، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في معنى الآية قال: «هل ينتظر المنافقون والمشركون {إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ} فيُعاينونهم {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ} يعني بذلك أمر ربك، والآيات هي العذاب في دار

ص: 364


1- سورة النساء، الآية: 18.
2- سورة النحل، الآية: 33.

الدنيا كما عذّب الأمم السالفة والقرون الخالية»(1).

وقيل: المعنى إنهم ينتظرون أحد الثلاثة، ولكن يستحيل الأولان ولا ينفع الثالث، فمعنى أن تأتيهم الملائكة أن يوحى إليهم كما أوحي إلى رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا محال في الحكمة؛ لعدم قابليتهم لذلك، ومعنى أن يأتيهم اللّه أنهم كانوا ينتظرون أن يروا اللّه بنفسه فيخبرهم بأنه أرسل الرسول والكتاب، وهذا أيضاً محال لأن اللّه تعالى أجلّ من أن يرى لأنه ليس بجسم ولا له صفات الجسم من إمكان الرؤية والحركة فهو منزه عن ذلك، فلم يبق لهم إلاّ أن تأتيهم بعض آيات الرب تعالى بالموت أو العذاب وحينئذٍ لا ينفع الإيمان ولا العمل الصالح؛ إذ حينذاك يرتفع التكليف ولا تقبل التوبة.

الثالث: قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا...} الآية.

تهديد لهم بأن لا ينتظروا نزول العذاب ليؤمنوا؛ إذ لا ينفع الإيمان حينئذاك، وهذا حث لهم على الإيمان قبله وأن لا يطالبوا بنزول العذاب ليؤمنوا فذلك ضارّ لهم، وهذا العذاب قد يكون حين ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وكذا حين خروج دابة الأرض كما في الروايات(2).

وقوله: {لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا...} لأنه حين الجزاء يرتفع التكليف، كالمجرم في المحكمة لا ينفعه ندمه، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَٰنُهُمْ لَمَّا

ص: 365


1- الاحتجاج 1: 250.
2- راجع الروايات في تفسير الصافي 3: 130؛ والبرهان في تفسير القرآن 4: 76-79.

رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَٰفِرُونَ}(1).

قوله: {لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ} أي قبل إتيان بعض آيات الرب تعالى، وتأويله بالميثاق في عالم الذر كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) (2)، والمعنى أن من آمن في عالم الذر باختياره فإنه سيختار الإيمان في هذه الدنيا أيضاً، ومن اختار الكفر هنالك يختاره هنا أيضاً؛ إذ المتمرد المعاند عن الطاعة بسوء اختياره يسقط في كل الامتحانات، والمطيع بحسن اختياره ينجح في كلّها، وهذا نظير المدرسة التي فيها طلاب كسالى وطلاب مُجدّون، وكلّما جاء امتحان من بداية السنة سقط الكسالى فيه ونجح المجدّون، حتى إذا جاء امتحان آخر السنة يسقط الكسالى نهائياً، وينجح المُجدّون قطعياً.

وقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَٰنِهَا خَيْرًا} أي آمنت باللّه لكن لم تكسب في إيمانها خيراً، كمن لا يقرّ بأصل من أصول الدين كمن ينكر نبوة الأنبياء أو إمامة الأئمة مع إيمانه باللّه، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : في الآية قال: «الإقرار بالأنبياء والأوصياء وأمير المؤمنين خاصة»، قال: «لا ينفعها إيمانها لأنها سلبت»(3)، يعني أن من آمن باللّه تعالى من غير إقرار بالأنبياء والأوصياء لا يكون إيمانه مستقراً بل معاراً، والعارية تسلب.

وكذلك من يرتكب السيئة حتى تحيط به قال تعالى: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَٰطَتْ بِهِ خَطِئَتُهُ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(4)، وعن

ص: 366


1- سورة غافر، الآية: 84-85.
2- راجع الكافي 1: 355؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 4: 76.
3- الكافي 1: 428.
4- سورة البقرة، الآية: 81.

أحدهما (عليهما السلام) أنه قال في الآية: «المؤمن العاصي حالت بينه وبين إيمانه كثرةذنوبه وقلة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيراً»(1)، والظاهر أن المراد هو الذي تكثر سيئاته بحيث تؤدي به إلى الكفر قبل موته، فإن العاصي الذي يموت مؤمناً لا بد من نجاته بفضل اللّه تعالى حتى إذا لبث في جهنم أحقاباً، قال سبحانه: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ}(2)، وقال: {كَمَثَلِ الشَّيْطَٰنِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَٰنِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ}(3).

ويحتمل أن يكون المقصود عدم النفع في رفع العذاب، وهذا لا ينافي النجاة بعد استكمال عقابه.

وقوله: {انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أمرهم بالانتظار تهديد لهم، وأما انتظار المؤمنين فلأنّهم يشتاقون إلى رؤية تحقق مواعيد اللّه تعالى ونصر اللّه لهم، قال تعالى: {حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}(4) قالوه اشتياقاً إليه.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ...} الآية.

الدين الحق مجتمع بعضه يكّمل بعضاً قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(5)، ولكن الدين الباطل متفرق بعضه يناقض بعضاً قال تعالى:

ص: 367


1- بحار الأنوار 64: 32.
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- سورة الحشر، الآية: 16.
4- سورة البقرة، الآية: 214.
5- سورة المائدة، الآية: 3.

{وَلَاتُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(1)، أو {فَرَّقُواْ} بمعنى فارقوا، ولعل هذا هو المراد في ما روي أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) كان يقرأها فارقوا دينهم(2)، أي كان يفسّرها بذلك.

وقوله: {وَكَانُواْ شِيَعًا} لأنّ السبل التي تفرّق عن سبيل اللّه متعددة ولذلك من فارق الصراط المستقيم صاروا فِرقاً مختلفة، وأما الذين هم على الصراط المستقيم فهم شيعة علي (عليه السلام) وليسوا من الشيع.

وقوله: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أي لا ربط لك بهم سوى التبليغ، أما سائر الأمور فليست من شأنك، فالمعنى لستَ يا رسول اللّه من جهتهم ومن قبلهم في شيء من حساب وعذاب أو غيرهما.

وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} الأمر بمعنى الشأن، أي أمورهم مرتبطة باللّه تعالى ولذا هو الذي يأمر بمحاسبتهم.

وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم...} عطف على مقدّر، أي لما كان أمرهم إلى اللّه فإليه يرجعون فينبؤهم نبأ من يريد الجزاء.

الخامس: قوله تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ...} الآية.

أي وحيث كان أمرهم إلى اللّه تعالى فاللّه لا يظلمهم؛ لأن سنّته العامة هي التعامل مع المحسن بالفضل ولذا يضاعف جزاء عمله عشرة أضعاف على أقل تقدير، وأمّا المسيء فجزاؤه مثل عمله، وقد دلت الآيات الأخرى أن

ص: 368


1- سورة الكهف، الآية: 28.
2- راجع تفسير العياشي 1: 385.

اللّه قد يزيد من فضله على المحسن فيضاعف عمله إلى سبعمائة ضعف ويزيد لمن يشاء، وقد يتفضّل على المسيء بالعفو عنه.

ثم قد مرّ أن أصل الثواب تفضّل لا عن استحقاق، وإنّما صار حقاً لأن اللّه وعد به، فالمِثل والعشرة أضعاف والسبعمائة ضِعف والزيادة كلّها تفضّل منه تعالى.

وقوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} في أصل العقاب وفي مقداره، فأصل عقابهم لاستحقاقهم، ومقداره المِثل لا أكثر، وهذا لا ينافي العفو؛ لأن العفو عن الخاطئ ليس ظلماً بل هو فضل.

ص: 369

الآيات 161-165

اشارة

{قُلْ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 161 قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ 162 لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ 163 قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٖ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164 وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ 165}

161- ثم في ختام السورة يلخص اللّه تعالى ما فيها ف{قُلْ} يا رسول اللّه: {إِنَّنِي} في أصول الدين {هَدَىٰنِي} أرشدني بالوحي {رَبِّي إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ}، ثم وضّح ذلك الصراط بقوله: {دِينًا قِيَمًا} مخفف (قيام)، أي يقوم بمصالح العباد {مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ} طريقته حال كونه {حَنِيفًا} مائلاً عن الشرك ليس فيه عبادة الأوثان {وَمَا كَانَ} إبراهيم {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فقد كان (عليه السلام) عاملاً بملّته.

162- {قُلْ} إني عامل في الفروع بهذا الدين خالصاً للّه ف{إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} جمع نسيكة وهي الذبيحة {وَمَحْيَايَ} كيفية عملي طيلة حياتي {وَمَمَاتِي} أي الطريقة التي أموت عليها وهذا بمعنى استمرار ما كان عليه

ص: 370

في حياته إلى حين موته {لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ} خالصة له.

163- {لَا شَرِيكَ لَهُ} لا في صلاة ولا في قربان ولا في الحياة ولا فيالممات {وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ} أمرني اللّه تعالى به {وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} في العقيدة والعمل، فأول هذه الأمة في الدنيا، وأول جميع البشر في عالم الذر.

164- {قُلْ} محتجاً عليهم بتلخيص كل الحجج {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي} استفهام إنكاري، أي لا أطلب {رَبًّا وَ} الحال أنه تعالى {هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٖ} فالشركاء المزعومون مخلوقات له فكيف صاروا أرباباً؟!

{وَ} أيضاً حجة أخرى هي أن الحساب على اللّه لا على الشركاء المزعومين ف{لَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من طاعة أو معصية {إِلَّا عَلَيْهَا} فعقاب معصيتها عليها لا على غيرها وثواب طاعتها لها لا لغيرها فهي التي تحمل عملها، {وَلَا تَزِرُ} لا تحمل {وَازِرَةٌ} حاملة {وِزْرَ} إثم نفس {أُخْرَىٰ} فلا تحمل عملها نفس أخرى {ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم} إلى حسابه وجزائه {مَّرْجِعُكُمْ} رجوعكم في يوم القيامة {فَيُنَبِّئُكُم} يخبركم مقدمةً لجزائكم {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فيميّز الحق عن الباطل.

165- {وَ} أيضاً حجة أخرى: أن اللّه {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ} يخلف بعضكم بعضاً كلما مضت جماعة جاء بأخرى مكانها، أو جعلكم بدلاً عن النسناس، فهل لشركائكم صنع في ذلك؟! {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ} في العقل والجسم والمنزلة والرزق وكل شيء {فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ} ولذا اختار الأنبياء منكم ولم يجعلكم كلكم أنبياء، وإنّما أخلفكم

ص: 371

{لِّيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ} منها.

وحيث علمتم بهذه الحجج فلا تغرنكم الحياة الدنيا ف{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} لمن كفر {وَ} لكن فتح أمامهم باب التوبة ف{إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ}لمن شكر، فلا تفوّتوا الفرصة ولا تسوّفوا.

تلخيص ما في السورة المباركة

بحوث

الأول: في ختام السورة يلخّص اللّه الحجج التي وردت في هذه السورة:

فأولاً: يذكر أن هداية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنّما هي من اللّه تعالى؛ لأنها الطريق المستقيم ولأنها ملّة إبراهيم (عليه السلام) .

وثانياً: يذكر أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عامل بما يقول وذلك دليل صدقه؛ لأن أصحاب المناهج الباطلة لا يلتزمون بما يقولون.

وثالثاً: بيان الحجج وهي ترتبط بالمبدأ والمعاد والحياة في الدنيا.

ورابعاً: بيان أن اللّه يمهل للاختبار ولفترة قصيرة وقد فتح باب التوبة لهم فلينتهزوا الفرصة.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ...} الآية.

هذا يرتبط بأصول الدين، فاللّه تعالى قد أوحى إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فالهداية منه سبحانه، وهذا لدحض زعمهم بأن ما جاء به الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(1)، ثم ذكر أنه الصراط المستقيم، واستدل لذلك بأمرين هما:

ص: 372


1- سورة الفرقان، الآية: 5.

1- قوله: {دِينًا قِيَمًا} حيث إن من تأمل في الإسلام أصولاً وفروعاً علم أنه الحق؛ وذلك لعدم الاعوجاج والانحراف فيه، بل كل ما فيه إنما هو مطابق للواقع وفيه الحكمة، و{دِينًا} بدل أو عطف بيان عن محل {صِرَٰطٖمُّسْتَقِيمٖ}، و{قِيَمًا} مخفف قياماً وهو مصدر والمراد قائماً ومستقيماً، لكن الوصف بالمصدر يفيد المبالغة والتأكيد.

2- وقوله: {مِّلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ} أي طريقته التي كان عليها، حيث إن المشركين كانوا يقبلون إبراهيم (عليه السلام) ويفتخرون بأنهم من نسله، وقوله: {حَنِيفًا} أي حال كون إبراهيم مائلاً عن الباطل إلى الحق، ثم أكّده بقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فهي ملّته وقد عمل بها فما بالكم تركتموها إلى الشرك.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ}.

بيان أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عامل بما يقول في كل شيء، فصلاته للّه لا كالمشركين الذين يعبدون الأصنام، وقربانه للّه وليس مثلهم في ذبحهم للنصب وذكر أسماء أصنامهم على ذبائحهم، بل كل شيء في حياته ومماته طاعة للّه تعالى.

وقوله: {صَلَاتِي} خصّها من بين العبادات بالذكر لأنها أهم العبادات، ولأن المشركين كانوا يصلّون للأصنام ويسجدون لها فقابلهم بذلك.

وقوله: {وَنُسُكِي} جمع نسيكة، أي الذبائح والقرابين، خصّه بالذكر من بين الأعمال غير العبادية لمعارضة ذبح المشركين على الأنصاب وذكرهم

ص: 373

أسمائها عند الذبح.

وقوله: {وَمَحْيَايَ...} مصدر، أي كيفية حياتي في الفكر والعمل منطبقة مع الموازين الشرعية التي أمر اللّه بها، فتدخل الأعمال المباحة أيضاً كشربالماء فإن المباح هو ما أباحه اللّه تعالى.

وقوله: {وَمَمَاتِي} كذلك مصدر، ويراد به استمرار العمل بالمنهج الذي أمر به اللّه تعالى إلى حين الموت، كما قال: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(1)، أو يراد به العمل الذي يوجب الموت كالجهاد فإنه لا يكون مني إلاّ بإذن اللّه تعالى عكس المشركين الذين كانوا يقاتلون للغنائم ويقتلون أولادهم للأصنام أو من الفقر.

الرابع: قوله تعالى: {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.

وقوله: {لَا شَرِيكَ لَهُ} أي لا أشرك الأصنام في هذه الأعمال بل هي خالصة للّه تعالى.

وقوله: {وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ} أي أمرني اللّه بهذه الأمور فلا محيص لي عنها، وكأنّ هذا ردّ لزعم من زعم أن بعض الأعمال حسنة لكن لا ملزم للإنسان في فعلها، أو إن اللّه لا يأمر بشيء بل أوكل كل شيء إلى الإنسان، كمن زعم بأن اللّه أجلّ من أن يأمر العباد وينهاهم! فيقال لهم: إن اللّه لم يجبر أحداً تكويناً لكن أصدر أوامر إلزامية وأوعد من خالفها وأن اللّه جليل ومن جلاله أن أمر عباده ونهاهم فإن الجليل يلطف بالعباد ولا يتركهم سدىً، بل إنّ خلقهم من دون تكليف عبث واللّه تعالى أجلّ من ذلك.

ص: 374


1- سورة البقرة، الآية: 132.

وقوله: {وَأَنَا۠ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أما في هذه الأمة فكونه أولاً واضح فاللّه أنزل الإسلام - عقيدة وعملاً - وهو عام للجميع فكل الأحكام تجري على الجميع إلاّ في ما استثني لمصلحة عامة أو خاصة كجواز إفطار المريضوكعدم حصر الزوجات بأربع للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعليه فكان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أول من يعتقد ويعمل ولذا جعله اللّه تعالى أسوة للناس.

وأما في الأمم السالفة فإنّ كون رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أول المسلمين باعتبار المنزلة حيث إن الأنبياء(عليهم السلام) من نوح وإبراهيم وغيرهما كانوا مسلمين كما نصّ عليه القرآن إلاّ أن أرفعهم منزلة هو رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأيضاً باعتبار عالم الذر فإنه أول من أجاب اللّه تعالى فعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «إني كنت أوّل من آمن بربي وأوّل من أجاب حين {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ النَّبِیِّینَ}(1)،

{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ}(2) فكنت أوّل نبيّ قال بلى، فسبقتهم بالإقرار باللّه»(3).

الخامس: قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٖ...} الآية.

كأنّ هذه الآية والآية التي بعدها تلخيص لكل الحجج والبراهين التي أقامها اللّه تعالى في هذه السورة على دحض الشرك، وهو أن المبدأ منه والمرجع إليه وحياة الإنسان بينهما أيضاً منه، فما الذي جعل الأصنام شركاء ولا شيء من هذه يرتبط بها؟!

فقوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٖ} دليل على توحيده وأن لا شريك له

ص: 375


1- سورة آل عمران، الآية: 81.
2- سورة الأعراف، الآية: 172.
3- الكافي 1: 441.

سبحانه وتعالى، فكل الأرباب المتفرقين مخلوقات له، ولا شركة بين الخالق والمخلوق.

وقوله: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ...} بيان أن المعاد إليه وهو يجازي كل إنسان بعمله، وغير خفي أن الآية بينت أمراً واحداً ولكن من جهتين، فالإنسان يحمل أعماله وهو مسؤول عنها، ولا يحمل أعمال غيره وهو ليس مسؤولاً عنها ولا يحاسب عليها، فقوله: {وَلَا تَكْسِبُ...} بيان حمل الإنسان لأعماله، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ...} بيان عدم حمل الإنسان لأعمال غيره قال سبحانه: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(1).

وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} الوزر: الثقل، ويطلق على الذنب باعتبار ثقله على كاهل المذنب، فالمعنى لا تحمل نفسٌ حاملة إثمَ نفس ٍ أخرى، قال تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}(2).

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي يميّز الحق عن الباطل بحيث يظهر كل شيء للناس عياناً، فينصر اللّه المحق، ويتبيّن للمبطل ضلال ما كان فيه.

السادس: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ...} الآية.

بيان أن حياة الإنسان في هذه النشأة - كما قبلها وما بعدها - ترتبط باللّه سبحانه وتعالى لا بالأصنام فما الذي جعلها شركاء؟!

ص: 376


1- سورة المدثر، الآية: 38.
2- سورة الأنعام، الآية: 31.

وقوله: {خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ} جمع خليفة، أي خلائف في الأرض تخلفون من كان قبلكم - سواء من الموجودات الأخرى كالنسناس أم من أسلافكم الذين كانوا في قرن ثم انقرضوا - فأخلفكم بدلاً عنهم ثم ينقرض قرنكم ويأتي غيركم في موضعكم.

وقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ...} كأنّ المقصود أنه رفع الأنبياء لذا أوحى إليهم ولم يوح ِ إليكم، مع أن الآية تشمل جميع أنواع التفاوت قال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}(1).

وقوله: {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ} كأنّه علة لجعل الناس خلائف الأرض كما قال: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰئِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(2)، كما يصحّ أن يكون علة لرفع بعضهم على بعض حيث إن اللّه يختبر القوي بالضعيف والغني بالفقير والعالم بالجاهل وبالعكس كما يختبر سائر الناس.

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} بيان أن الاختبار لفترة محدودة تنقضي بسرعة ويأتيهم العقاب سريعاً، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ}(3).

وقوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ} كأنّ هذا لفسح باب التوبة لهم ولذا قيل: لم يقابل سرعة العقاب بالثواب وإنما قابله بالمغفرة والرحمة.

ص: 377


1- سورة الزخرف، الآية: 32.
2- سورة يونس، الآية: 14.
3- سورة يونس، الآية: 45.

خاتمة

عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «نزلت سورة الأنعام جملة واحدة وشيّعهاسبعون ألف ملك، لهم زَجَل بالتسبيح والتهليل والتكبير، فمن قرأها سبّحوا له إلى يوم القيامة»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيّعها سبعون ألف ملك، حتى أنزلت على محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فعظِّموها وبجّلوها، فإن اسم اللّه عزّ وجلّ فيها في سبعين موضعاً، ولو يعلم الناس ما في قرائتها ما تركوها»(2).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

1 / شوال / 1440

ص: 378


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 522 عن تفسير القمي 1: 193.
2- الكافي 2: 622.

الفهرس

الإطار العام للسورة... 5

الآيات 1-3... 7

بيان عظيم نعمة اللّه تعالى... 8

الفرق بين الأجل والأجل المسمى... 12

الآيات 4-6... 16

الآيات 7-10... 23

سبب عدم الاستجابة لاقتراح المشركين... 25

الآيات 11-13... 31

بين الرحمة والحكمة... 34

الآيات 14-18... 38

احتجاجات في العقائد... 39

الآيات 19-24... 46

برهان النبوة... 48

معنى شهادة اللّه تعالى... 49

من جهات القرآن الكريم... 50

الآيات 25-28... 59

ص: 379

سبب عدم الانتفاع بالآيات... 61

الآيات 29-32... 67

دحض إنكارهم للمعاد... 68

الآيات 33-36... 75

الحزن على الكفار... 77

معنى تبديل الآيات... 81

بين الإرادة التكوينية والتشريعية... 84

الآيات 37-41... 87

دحض حجج المشركين... 89

بعث الحيوانات بعد موتها... 92

الآيات 42-45... 97

مصير الأمم المكذبة... 98

الآيات 46-49... 105

الاستدلال على عدم الشركاء بعجزهم... 106

الآيات 50-55... 111

دحض حجج المشركين لإنكار النبوة... 114

ردّ طلب المشركين بطرد الضعفاء... 118

معنى عدم محاسبة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للناس... 120

الآيات 56-59... 126

فرق الغيب عن الشهود... 133

الآيات 60-62... 136

ص: 380

عدم الاستعجال في عذابهم... 137

الآيات 63-65... 142

من أدلة التوحيد الفطرة... 143

الآيات 66-70... 149

الآيات 71-73... 159

برهان للتوحيد عبر بيان عجز الشركاء... 161

الآيات 74-79... 167

من أدلة إبطال الشركاء... 169

نسبة إبراهيم (عليه السلام) إلى آذر... 170

الآيات 80-83... 179

طريقة استدلال إبراهيم (عليه السلام) على قومه... 181

معنى للمؤمنين الأمن... 186

الآيات 84-90... 189

أصناف الأنبياء(عليهم السلام) من ذرية إبراهيم (عليه السلام) ... 192

من أوصاف الأنبياء(عليهم السلام)... 196

معنى اقتداء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بهدى الأنبياء(عليهم السلام)... 201

الأئمة(عليهم السلام) أبناء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 202

الآيتان 91-92... 204

ترك المعاند بعد إلقاء الحجة عليه... 210

الآيتان 93-94... 215

من مصاديق الأظلم... 217

ص: 381

الآيات 95-99... 222

من دلائل التوحيد تدبير أمور الخلق... 224

معنى المستقر والمستودع... 229

الآيات 100-104... 233

من دلائل التوحيد أصل الخلقة... 235

هل أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى؟... 239

نفي الجبر... 239

التوافي لا ينافي قانون العليّة... 240

استحالة رؤية اللّه في الآخرة... 241

الآيات 105-108... 243

الموقف من المشركين حين عنادهم... 246

معنى عدم سبّ الذين يدعون من دون اللّه... 249

سبب النهي عن السبّ... 250

الآيات 109-113... 253

المعاند لا تنفعه الآيات... 259

الآيات 114-117... 263

من يصلح ليكون حَكَماً بين الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمشركين... 264

كيف تمكن المحرِّفون من تحريف الكتب السماوية والعقائد والشرائع؟... 267

الآيات 118-121... 271

تأثير الشرك في خبث المأكولات... 272

أسباب مخالفة أحكام اللّه تعالى... 275

ص: 382

الآيات 122-124... 279

الآيات 125-127... 285

الآيات 128-130... 292

عاقبة الضالين والمضلّين... 294

هل هناك أنبياء من الجن؟... 299

الآيات 131-135... 301

أسباب الظلم... 306

الآيتان 136-137... 310

تأثير عقيدة الشرك في الأعمال... 311

الآيات 138-140... 316

أنواع من إفتراءات المشركين... 318

الآيات 141-144... 322

حلية الأنعام من غير جعل نصيب للشركاء... 324

حق الحصاد... 326

الآيات 145-147... 333

عدم جواز نسبة الأحكام إلى اللّه تعالى من غير علم... 334

سبب تحريم بعض الطيبات على اليهود... 336

الآيات 148-150... 339

دحض حجج المشركين... 340

الآيات 151-153... 346

أصول المحرّمات وأصنافها... 348

ص: 383

الآيات 154-157... 356

الآيات 158-160... 362

الآيات 161-165... 370

تلخيص ما في السورة المباركة... 372

الفهرس... 379

ص: 384

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.