التفكر في القرآن (سورة المائدة) المجلد 6

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر في القرآن (سورة المائدة) المجلد 6 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دار الفكر، 1439ق = 1397ش.

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن

--------------------

آية اللّه السيّد جعفر الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1439ه.ق

ص: 1

اشارة

التفكر في القرآن

سورة المائدة

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدين

الإطار العام للسورة

لعلّ محور هذه السورة المباركة هو الطهارة والنزاهة والتي منها الوفاء بالعهود والمواثيق سواء كانت مع اللّه سبحانه أم مع الناس، فلا بد مِن صحة المعتقد وصحة العمل في كل شيء، سواء في العبادات أم في المعاملات أم في المأكل والمشرب أم في الارتباطات الاجتماعية، وتتضمن السورة أمثلة من نقض العهد مع اللّه ومع الأنبياء ومع الناس، بذكر الكتب السابقة والهداية فيها، والنهي عن اتّباع الكفار والمنافقين والتحذير منهم ومن الارتداد، مع مناقشة العقائد الباطلة لليهود والنصارى ومخالفتم للكتب والرسل، مع التذكير بنعم اللّه سبحانه، ثم الحث على تبليغ الدين وإقامة الكتاب، والتحذير من تحليل الحرام وتحريم الحلال، ثم بيان جملة من عهود اللّه تعالى في أحكامه من حلال وحرام، كالقتل والسرقة والخمر وأكل المال بالباطل، وكذا أحكام القسم وكفارته، وأحكام الصيد والوصية والشهادة،

ص: 5

ثم الحث على الطاعة وترك المعصية، ثم الوعد والوعيد، وبيان مصير المؤمنين والكفار في الآخرة.

والحاصل: يكون المحور هو الوفاء بالعهود مطلقاً، والذي من أهم مصاديقه صحة العقيدة وطهارة ونزاهة العمل.

ص: 6

الآيتان 1-2

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ 1 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَٰئِدَ وَلَا ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 2}

{بِسْمِ اللَّهِ} الابتداء والاستعانة باسمه، {الرَّحْمَٰنِ} برحمة عامة للجميع، {الرَّحِيمِ} بالمؤمنين برحمة خاصة.

1- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الخطاب لهم؛ لأنهم المنتفعون بهذه الأحكام مع عموم الحكم للجميع {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} أي العهود التي بينكم وبين اللّه، كالإيمان به وبرسله وأوصيائهم وبالعمل بأحكامه، وكذلك بينكم وبين الناس، ومن جملة عهود اللّه تعالى الحلال والحرام في الطعام، فقد {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ} وهي الإبل والبقر والغنم وكذلك أجنّتها {إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} تحريمه في الآية الثالثة، حال كونكم {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي في حالة الإحرام، وهذا استثناء ثانٍ من الحليّة، فلا يجوز للمحرم

ص: 7

الاصطياد ولا أكل الصيد.

وإنما كان هذا الحكم في الحلال والحرام، حيث {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَايُرِيدُ} على حسب الحكمة في التحليل أو التحريم.

2- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لا تتهاونوا بحرمات اللّه ف- {لَا تُحِلُّواْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ} بأن تتعدوا عليها ولا تراعوها، {وَلَا} تحلّوا {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} بأن تقاتلوا فيه وقد نهاكم اللّه عنه، {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَٰئِدَ} أي لا تحلوهما بأن تمنعوا وصولها إلى محلّها في مكة أو منى، والهدي: ما يُهدى إلى الكعبة من الأنعام، والقلائد: ما جعل عليها علامة - كتقليدها بنعل في عنقها - ليُعلم أنها سيقت للبيت الحرام، {وَلَا} تحلّوا {ءَامِّينَ} أي قاصدين {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} للحج أو العمرة بأن تصدوهم عن بلوغه حال كونهم {يَبْتَغُونَ} يطلبون {فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ} بالثواب أو الرزق {وَرِضْوَٰنًا} رضىً من اللّه تعالى، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} خرجتم عن الإحرام بأداء مناسك الحج أو العمرة {فَاصْطَادُواْ} يجوز لكم الصيد في خارج الحرم.

{وَ} إذا خالف بعض الناس الأحكام الشرعية فلا يجوز الاعتداء عليهم إلاّ بمقدار العقوبة التي شرّعها اللّه تعالى، ف-{لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنّكم {شَنََٔانُ قَوْمٍ} البُغض الشديد لهم {أَن صَدُّوكُمْ} أي بسبب أن منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} على {أَن تَعْتَدُواْۘ} عليهم بخلاف حكم اللّه تعالى، بل عليكم أن تُعينوهم على طاعة اللّه بالحج أو العمرة {وَتَعَاوَنُواْ} أي عليكم التعاون {عَلَى الْبِرِّ} الطاعات {وَالتَّقْوَىٰ} ترك المعاصي، فاعفوا عن

ص: 8

هؤلاء وتغاضوا عنهم، {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ} المعصية {وَالْعُدْوَٰنِ} التعدي على الآخرين وظلمهم للتشفي منهم، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم عن غضبه بترك العصيان ف-{إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ}.

قد مرّ أن هذه العبارة يراد بها من أسلم بلسانه - سواء آمن بقلبه أم لا - ويقابله أهل الكتاب والمشركون، ومع أن الأحكام عامة للجميع إلاّ أن تخصيص هؤلاء بالخطاب؛ لأنهم المنتفعون به ولأنهم الملزمون بالعمل به، وأما الكفار فيتم إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم، ولا يجبرون على وظائف المسلمين إلاّ في الأمور العامة التي لا بد للجميع من الالتزام بها.

وفي تفسير العياشي عن ابن عباس قال: «ما أنزلت آية {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} إلاّ وعليّ شريفها وأميرها، وقد عاتب اللّه أصحاب محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) في غير مكان وما ذكر علياً (عليه السلام) إلاّ بخير»(1)، والمقصود أنه (عليه السلام) شريف المؤمنين وأميرهم فهو أشرف من خوطب بها من المؤمنين، لكنه (عليه السلام) غير مقصود بالآيات التي ذمّت المسلمين كقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(2) فإن أحكام الشريعة عامة للجميع إلاّ أن الذم في مخالفتها خاص بالمخالفين ولا يشمل المعصومين (عليهم السلام) .

الثاني: قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}.

ص: 9


1- تفسير العياشي 1: 289؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 280.
2- سورة الصف، الآية: 2.

وَفَى ووفَّى وأوفى بمعنى واحد بأن كان تاماً لا نقص فيه، والوفاء بالعقود هو الالتزام بها وبجميع لوازمها وعدم نقضها.

و(العقود) كل عهد بين طرفين، وأصله من عقد الحبل ونحوه حيثيرتبط الطرفان بإحكام، وشُبّه به المواثيق المعنوية للإحكام فيها وعدم جواز نقضها عقلاً وشرعاً.

وتشمل العقود العهود مع اللّه تعالى في الالتزام بها بأن يطيعوه سبحانه ويعوّضهم الجنة فهو عهد من الطرفين، قال سبحانه: {أَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}(1) في العقائد والأحكام، ومن العقائد الالتزام بولاية الأئمة (عليهم السلام) ، حيث أمر اللّه تعالى بها، وعن الإمام الجواد (عليه السلام) قال: «إن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عقد عليهم لعلي (عليه السلام) بالخلافة في عشرة مواطن ثم أنزل {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين (عليه السلام) »(2).

كما تشمل عقود الناس فيما بينهم فلا يجوز لأحد نقضها؛ لأن قوام الحياة الاجتماعية بالعهود والمواثيق ولولا وجوب الالتزام بها لم يستقر حجر على حجر ولعمّ الهرج والمرج حياة الناس، ولذا كان الأصل في المعاملات اللزوم، وقد يستثنى من ذلك بعض الحالات، كما لو اتفق الطرفان على الفسخ، أو دلّ الدليل الخاص على عدم لزوم عقد بعينه؛ لعدم توقف الحياة على الالتزام به، كالوكالة، حيث يجوز لكل واحد من الموكِّل أو الوكيل الخروج منها، وحيث لا ضرر في ذلك أجازه الشرع

ص: 10


1- سورة البقرة، الآية: 40.
2- تفسير القمي 1: 160؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 280.

بدليل خاص.

ولا يخفى أن العقد والعهد بمعنى واحد إلاّ أن الملاحظ في العهد المتعاهدان، والملاحظ في العقد عملهما.

الثالث: قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ}.

ابتدأ اللّه تعالى بذكر أحد عهوده مع خلقه وهو حفظ حرماته تعالى في حجّ بيته الحرام، ولعل سبب الشروع فيه هو أن الحج جامع للأصول والفروع، فيبدأ بالتلبية التي هي إجابة للّه تعالى في كل ما شرعه مع نفي الشريك عنه، مروراً بترك المحرمات أجمع، مضافاً إليها تروك الإحرام خاصة، مع اشتمال الحج على أهم الفروع كالصلاة والقربان والرمي ونحو ذلك.

ومن براعة الاستهلال أن قدّم اللّه تعالى ما أحلّه على ما حرّمه، فحيث أراد بيان تحريم الصيد في حالة الإحرام بيّن أنه تعالى أحلّ الأنعام بشكل عام إلاّ أنواعاً منها ذكرها في الآية الثالثة، مع بيان أن تحريم الصيد خاص بحالة الإحرام - التي هي فترة وجيزة - وبعد الخروج عن الإحرام يجوز الصيد، وهذا من عهود اللّه تعالى على الناس الذي لا بد لهم من الالتزام به، ثم أتبع ذلك بذكر مجموعة من الحرمات التي ترتبط بالحج غالباً وستأتي في الآية التالية.

ثم إن اللّه تعالى كلّما حرم شيئاً لحكمة، أحلّ شيئاً يماثله لحكمة أيضاً، فلمّا حرم الربا أحلّ البيع، ولمّا حرّم الزنا أحل النكاح، ولمّا حرّم طعاماً أحلّ غيره، نعم لو لم يكن للشيء نفع مطلقاً، بل كان فيه الضرر مطلقاً حرّمه بشكل عام كالقتل، أما ما كان للإنسان فيه حاجة فحرّم ما أضر منه وحلّل ما لم يكن فيه ذلك الضرر.

ص: 11

وقوله: {أُحِلَّتْ} بجواز جميع الانتفاعات والتي أهمها الأكل.

سؤال: إن البهائم تحب الحياة وتشعر بذلك، فكيف أجيز قتلها لانتفاع الإنسان وتلذذه مع إمكان اقتصاره على الأطعمة النباتية، ورحمة اللّه تعالىعامة، فكيف ينسجم ذلك مع رحمته؟

والجواب: إن الرحمة من صفات الفعل وهي محكومة بالحكمة التي هي من صفات الذات، فالحكمة مطلقة ودائمة، وأما الرحمة فهي تجري ما لم تكن خلاف الحكمة، فلذا لا رحمة في إنزال العقوبة بالمجرم؛ لأنها خلاف الحكمة حينئذٍ، وحيث إن اللّه تعالى خلق الكون لأجل الإنسان فقال: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(1) لذا كان من الحكمة خلق حيوانات ينتفع بها الإنسان بأكلها وباستخدامها، فقد خلقت لذلك فلا معنى للمنع عمّا خلقت له، وهكذا يقال في إجراء التجارب الطبيّة على بعض أنواع الحيوان مع أنه يتضمن إيلامها وقتلها، نعم لا يجوز القتل من غير سبب عقلائي وشرعي، كالصيد اللّهوي أو تعذيب الحيوانات والتمثيل بها من غير غرض عقلائي، فإن ذلك من الظلم المنهي عنه.

وقوله: {بَهِيمَةُ} من البهم وهو عدم التمييز، وهي كل ذات أربع من دواب البر والبحر، و{الْأَنْعَٰمِ} جمع نِعَم وهو جمع نعمة، وتطلق على البقر والإبل والغنم، ولا تطلق على البقر منفردة ولا على الغنم منفردة، والإضافة في {بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ} بيانية ولعلّ ذكر {بَهِيمَةُ} مع إمكان الاستغناء عنها لأجل بيان علة الحكم، أي أن اللّه تعالى إنّما أحلّها؛ لأنها لا عقل ولا تمييز

ص: 12


1- سورة البقرة، الآية: 29.

لها فلم تخلق لكمال آخر، وإنما خلقت لانتفاع البشر بها.

ولا يخفى أن {بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ} لفظ عام يشمل أجنّتها؛ لأنها أيضاً بهيمة ومن الأنعام، وما في بعض الروايات إنّما هو لبيان هذا المصداق الذيقد يخفى على البعض، فعن محمد بن مسلم قال: «سألت أحدهما‘ عن قول اللّه عزّ وجلّ {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ} فقال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه، فذلك الذي عنى اللّه عزّ وجلّ»(1).

وقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} أي ما يقرأ عليكم تحريمه، وذلك في الآية الثالثة من هذه السورة، فهي أنعام لم تُذكَّ بالتذكية الشرعية لذلك حرّمت، وهذا من عهود اللّه تعالى الذي لا بد لكم من مراعاته، كما أن تحليل بهيمة الأنعام يشمل كل أجزائها، فهي حلال إلاّ ما استثني منها كالدم المذكور في الآية الثالثة وبعض محرمات الذبيحة المذكورة في الروايات.

الرابع: قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ...} الآية.

بيان لعهد اللّه تعالى بحفظ حرماته في الحج والذي منه عدم الصيد في حال الإحرام، وهذا هو المقصود من تقديم حلية البهائم، وهذا الاستثناء الثاني بعد قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ}، فلا يجوز الصيد مادام مُحرماً، فإن الإنسان بالإحرام يخصص نفسه ووقته للّه تعالى، فلا ينشغل بالدنيا وإنما يأخذ منها في حالة الإحرام ما فيه الضرورة له، فلذا لم يُبَح له الصيد اكتفاءً بطعامه بالنباتات والبهائم، كما أنه نوع أمن للصيد فلا يصل إليه أذى ممّن اختص وقته وحالته للّه تعالى، كما يحرم بالإحرام زينة الدنيا من العطر

ص: 13


1- الكافي 6: 234؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 281.

والنساء والتمشط والنظر في المرآة وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب الفقهية لأجل ما ذكر، وأيضاً لامتحان الخلق في أيام معدودة لتروض أنفسهم للطاعة والابتعاد عن المعصية.

وقوله: {غَيْرَ} حال، أي أحلت الأنعام حال كونكم لا تحلّون الصيد، فكأنه نوع مقايضة، أي أحلّ هذا لتمتنعوا عن ذاك، وهو نفي بمعنى النهي.

وقوله: {مُحِلِّي} أي محليّن حذفت النون للإضافة، وعدم إحلال الصيد يشمل صيده وأكل لحمه والإمساك به ونحو ذلك مما هو مذكور في الكتب الفقهية.

وقوله: {الصَّيْدِ} هو الحيوان الممتنع غير الأهلي، ويراد به صيد البرّ، وأما صيد البحر فجائز كما سيأتي في الآية 96.

وقوله: {حُرُمٌ} جمع محرم، وهو الذي بدأ بالحج أو العمرة بالتلبية بشروطها المذكورة في الفقه.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} لبيان علة التحليل والتحريم، وهي إرادة اللّه تعالى، والتي لا تكون إلاّ بحكمة بأن تكون المصلحة في الحكم، فلا يصح أن يعترض أحد بأنه ما الفرق بين الصيد حال الإحرام وحال الإحلال، وأنه لماذا حُرّم الأول وأُحل الثاني؟، أو يقول: لماذا أحلت بهيمة الأنعام؟ أو غير ذلك من الاعتراضات على أحكام اللّه تعالى، فيجاب بأن اللّه تعالى هو المالك الحكيم فلا يسأل عن فعله - التكويني أو التشريعي - نعم يحق للإنسان الاستفهام ليزداد علماً ويقيناً والتزاماً، لكن إن لم يفهم الحكمة أو لم يقتنع بها فذلك لقصور فيه لا لإشكال فيها.

ص: 14

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰئِرَ اللَّهِ...} الآية.

لعل تكرار قوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لأجل الفرق بين سنخ الحكم،ففي الآية الأولى أمر بالوفاء بالعهد، وفي الثانية نهي عن نقض العهد، فاستدعى ذلك تجديد الخطاب تأكيداً.

وقوله: {لَا تُحِلُّواْ} أي تبيحوا لأنفسكم ما حرّمه اللّه تعالى، وحرمة كل شيء بحسبه، ففي الآية بيان مجموعة من عهود اللّه تعالى المرتبطة بالحج وإن كان الحكم عاماً للحج وغيره، وهي:

1- {شَعَٰئِرَ اللَّهِ} جمع شعيرة، وهي بمعنى علائم الشيء ومعالمه، وأصل اشتقاقها من الشَعر، فكأنها تلازم الشيء كتلازم الشعر للجسد، أو من الشعار وهو الثوب الذي يلي الجسم ويلتصق به، وكذلك علائم الشيء ومعالمه ملتصقة به ودالة عليه، وفي التقريب: «والشعائر - لكونها مطلقة - تشمل كل شيء كان أو أصبح من الأمور المرتبطة باللّه تعالى ما لم ينهَ عنه، فمعالم الحج من الشعائر، كما أن تشييد القباب على أضرحة الأئمة الطاهرين من الشعائر»(1).

وبعبارة أخرى كل ما دلّ عليه الدليل الشرعي - بنحو الخصوص أو بنحو العموم وكان مصداقاً له - وصار علامة للدين فهو من الشعائر، فالصلاة من شعائر الدين لدلالة الدليل الخاص عليه، وبناء القباب على الأضرحة من شعائر الدين؛ لأن اللّه تعالى أمر بمودّتهم وإحياء أمرهم وتعظيمهم، وهذه

ص: 15


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 597.

القباب من مصاديق ما أمر اللّه تعالى به.

2- {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} وإحلاله هو بانتهاك أمر اللّه تعالى حيث حرّم القتال فيه، والشهر هنا اسم جنس يشمل الأشهر الأربعة، وهي ذو القعدةوذو الحجة والمحرّم ورجب، وقد مرّ تفصيلها في سورة البقرة.

3- {وَلَا الْهَدْيَ} جمع (هَدْيَة) وهو ما يُهدى إلى الكعبة، وإحلاله هو المنع عن بلوغه إلى محلّه في مكة أو منى، قال سبحانه: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}(1).

4- {وَلَا الْقَلَٰئِدَ} جمع قلادة، ويراد بها - بعلاقة المجاورة - الإبل التي يعلّق على عنقها نعل علامة على كونها مخصصة للنحر في الحج، وهي بعد تقليدها تكون للّه تعالى فلا يجوز الرجوع فيها، نعم يجوز الانتفاع بركوبها وبلبنها إذا لم يكن مضراً بها، قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَٰفِعُ إِلَىٰ أَجَلٖ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(2).

5- {وَلَا ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (آمّين) جمع آمّ، أي القاصدين لمكة، وإحلالهم هو صدّهم عن المسجد الحرام أو مقاتلتهم ونحو ذلك، ولا يخفى أن المقصود بهم المسلمون بقرينة قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا} والمشرك وإن كان يبتغي ذلك أيضاً إلاّ أنه ليس من دأب القرآن التعبير عنهم هكذا، وأيضاً لأن هذه السورة نزلت بعد سورة التوبة، حيث نهى اللّه تعالى عن دخول المشركين إلى المسجد الحرام، قال سبحانه: {إِنَّمَا

ص: 16


1- سورة الفتح، الآية: 25.
2- سورة الحج، الآية: 33.

الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا}(1)، فلا يصح ما ذكره بعض المفسرين من أن قوله: {وَلَا ءَامِّينَ الْبَيْتَالْحَرَامَ} منسوخة بقوله: {فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ}، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة، نسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء»(2)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «إنما أنزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة»(3).

وقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا} حال وهو كالتعليل لعدم جواز الصد، فهؤلاء قصدوا اللّه تعالى إلى بيته فلا يجوز منعهم عنهم، وفي الآية إشعار بجواز صدّ من قصد مكة للإفساد فيها.

وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} بيان أن حرمة الصيد مؤقتة بمدة الإحرام، فإذا أحلّ جاز له الصيد في خارج الحرم، وأما الشعائر والشهر الحرام والهدي والقلائد وآمين البيت الحرام فحرمتها مستمرة غير موقتة بوقت، والأمر في {فَاصْطَادُواْ} للإباحة؛ لأن الأمر بعد الحظر لا يدل على أزيد من ذلك، وهو كما يدل على جواز الصيد يدل على حلية لحم المصيود إن كان من الحيوانات المحلّلة اللحم كالضبي والنعامة ونحوهما.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ...} الآية.

بيان أن حرمات اللّه تعالى لا بد أن تراعى، ولا يجوز للإنسان أن يُحكّم عواطفه ونفسياته في الأحكام الشرعية، فلا يجوز الانتقام اعتباطاً، وإنما

ص: 17


1- سورة التوبة، الآية: 28.
2- تفسير العياشي 1: 288؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 278.
3- تهذيب الأحكام 1: 361؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 278.

ضمن الدائرة التي حدّدها الشرع، ومن ذلك مشركو مكة حيث صدّوا المسلمين عن مكة في السنة السادسة في الحديبيّة، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(1)، ففعلتهم هذه لا تسوِّغ لكم التعدي عليهم بخلاف الحق، بل اللّه تعالى هو الذي يعيّن الاستحقاق للعقوبة ومقدارها.

والحاصل: أنه لا فرق في وجوب مراعاة هذه الحرمات بين من اعتدى عليكم وبين من لم يعتد!

وقوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} من الجُرم بمعنى الذنب، أي لا يحملنّكم الشنآن على ارتكاب الجريمة، وقيل: هو بمعنى القطع كأنّ عملهم قطعكم عنهم وقطعهم عنكم فانتقمتم منهم، والأول أقرب(2).

قوله: {شَنََٔانُ} هو شدة البغض، وقيل: أصله طلب العيب على فعل الغير لما سبق من عداوته، وليس هو من العداوة في شيء، وإنما أجري على العداوة لأنه سببه، وقد يسمّى المسبب باسم السبب(3).

وقوله: {أَن صَدُّوكُمْ} تعليل، أي سبب الشنآن هو الصدّ، فالمعنى البغض والعداوة للصد أو بسبب الصدّ.

وقوله: {أَن تَعْتَدُواْۘ} مفعول {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} فالمعنى لا يحملنّكم

ص: 18


1- سورة الفتح، الآية: 25.
2- راجع مفردات الراغب مع ملاحظات العاملي: 209.
3- معجم الفروق اللغوية: 353.

الشنآن على الاعتداء.

السابع: قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ...}الآية.

بعد أن نهى عن تحكيم العواطف والأمور النفسية لانتهاك حرمات اللّه تعالى يترقى بالأمر بالتعاون - حتى مع الذين تبغضونهم - على البر والتقوى، فما دام هؤلاء القوم قد قصدوا المسجد الحرام بنية صادقة حيث يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً فلا بد لكم أن تتعاونوا معهم على ذلك، ولا يخفى أن الآية عامة والتعاون مع هؤلاء مصداق لها، فمن البرّ العفو عنهم، ومن التقوى عدم صدّهم عن المسجد الحرام.

وقوله: {وَتَعَاوَنُواْ} أصل التعاون هو أن يعين كل طرف الطرف الآخر، لكنه يدخل فيه الإعانة عرفاً، وهي من طرف واحد، فلا فرق في المتفاهم العرفي بين التعاون والإعانة، وإن كان هناك فرق دقةً.

وقوله: {الْبِرِّ} هو التوسّع في عمل الخير سواء كان واجباً أم مستحباً ومن ذلك إطاعة اللّه تعالى.

وقوله: {التَّقْوَىٰ} هي حفظ النفس عن المعاصي فيعين بعضكم بعضاً في ترك المعاصي، ومن ذلك إيجاد الأجواء الملائمة للإيمان والعمل الصالح وترك السيئات، فهو نوع تعاون أيضاً.

وقوله: {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ} أيضاً يشمل الإعانة، ومن ذلك التعدّي على من قصد المسجد الحرام أو إحلال الشعائر والشهر الحرام والهدي والقلائد، والمراد بالإثم هنا مطلق العصيان، فقوله: {وَالْعُدْوَٰنِ} هو خصوص التعدي على الغير وظلمه فيكون تخصيصاً بعد تعميم، أو يخصّ

ص: 19

الإثم بما لا يتعدى على الغير والعدوان بما يتعداه.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} تحذير من عقابه تعالى، فمن أحلّ المحرمات وانتهكها وتعاون على الإثم والعدوان فهو يستحق العذاب واللّه سبحانه قادر عليه وقد أوعده، فلا بد من أن يتقيه بترك المعصية والتزام الطاعة.

ثم بيّن سبب التقوى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} عقاباً يساوي الجريمة، لذلك كان شديداً، فإنه مؤلم وطويل بقاؤه جزاءً وفاقاً، فقد يكون العمل قليلة مدته إلاّ أنّ عقابه بما يساوي الجرم يكون شديداً.

ص: 20

الآية 3

اشارة

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالْأَزْلَٰمِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثْمٖ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 3}

3- ثم يذكر اللّه تعالى عهدين من عهوده، أحدهما يرتبط بالفروع والآخر بالأصول.

أما الأول: فمحرمات البهائم التي تُتلى، وهي {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهي كل حيوان مات من غير تذكيته شرعاً، {وَالدَّمُ} سواء كان مسفوحاً أم لا، {وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} خصّه بالذكر لتعارف أكله وزعم الناس طيبه، {وَمَا أُهِلَّ} أي رفع الصوت بالتسمية {لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} بأن ذكرت الأصنام مثلاً، {وَالْمُنْخَنِقَةُ} التي ماتت خنقاً، {وَالْمَوْقُوذَةُ} التي ماتت بالضرب أو بمرض، {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} التي ماتت بالسقوط من جبل أو في بئر ونحوهما، {وَالنَّطِيحَةُ} ماتت بنطح حيوان آخر كما في تناطح الكباش، {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} افترسه ذئب ونحوه حتى مات، {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء من

ص: 21

المنخنقة فما بعد، أي التي أدركتموها ولها حياة كعين تطرف أو أذن تتحرك أو ذنب يمعص فأجريتم عليها التذكية الشرعية، ثم يكمّل اللّهسبحانه بقية المحرمات: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وهي أحجار كانوا يعبدونها ويقدسونها ويذبحون لأجلها ويلطخونها بدماء الذبائح، {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ} تطلبوا القسمة وإفراز النصيب {بِالْأَزْلَٰمِ} جمع زلم، وهي سهام كانوا يقامرون بها، وكانت عشرة أسهم لسعبة منها نصيب معلوم وثلاثة لا نصيب فيها، فكان أصحاب الثلاثة يدفعون ثمن الذبيحة، {ذَٰلِكُمْ} كل المذكورات من المحرمات {فِسْقٌ} خروج عن طاعة اللّه تعالى؛ لأنه نهى عنها.

وأما الثاني: وهو ما يرتبط بالأصول ف-{الْيَوْمَ} يوم الغدير {يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} لأنهم كانوا يتربصون المنون برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى يموت دينه بموته، فلما نصب علياً (عليه السلام) للخلافة من بعده بأمر اللّه تعالى يئسوا، حيث امتدت النبوة بالإمامة، {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} لا تخافوهم بأن يزول الدين بهم، {وَاخْشَوْنِ} خافوا اللّه تعالى بأن تكفروا بنعمته فتخالفوا أمره في الإمامة، فبعد يوم الغدير لم يكن خوف من الكفار، بل من المسلمين أنفسهم فعليهم أن يخشوا اللّه فيطيعونه ولا يعصونه. {الْيَوْمَ} يوم الغدير حيث يئس الكفار {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فالولاية كانت آخر فريضة ولم يُفرض بعدها شيء، وبذلك كمل الدين {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فقد أنعم اللّه عليهم بالرسالة وأتم النعمة بالولاية وما بينهما نعم كثيرة، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا} من بين جميع الأديان.

ص: 22

ثم يبين اللّه تعالى استثناء في العهد الأول - الذي كان في الفروع - ، ويلازمه عدم الاستثناء من العهد الثاني - الذي هو في الأصول - فقال: {فَمَنِاضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} مجاعة توجب خمص البطن وضموره، حال كونه {غَيْرَ مُتَجَانِفٖ} غير مائل ومنحرف {لِّإِثْمٖ} بالأكل التذاذاً وأكثر من الاضطرار {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لا يعاقب على هذا الأكل {رَّحِيمٌ} بالمؤمنين حيث أباح لهم ذلك.

بحوث

الأول: حيث ذكر اللّه تعالى في الآيتين الأوليين وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق والتي أهمها عهود اللّه سبحانه وتعالى، وهي عهود في العقائد وفي الأحكام، وذكر أن من عهوده حلية بهائم الأنعام إلاّ ما يتلى، ففي هذه الآية تُتلى موارد الاستثناء، وأيضاً الاستثناء من الاستثناء والتي تتضمن حالة الاضطرار، كما أنه تعالى يذكر عهداً من عهوده في العقائد وهو الولاية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) حيث أمر رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بإعلان خلافته في حجة الوداع وبأخذ البيعة له في يوم غدير خم، وبذلك تمّ جميع عهود اللّه تعالى مع هذه الأمة في الأصول والفروع وكمل الدين وتمت النعمة ورضي اللّه بالإسلام ديناً.

وبذلك يتضح سبب وضع آية الولاية في وسط آية أحكام اللحوم - من حرمة وحليّة - فإنه ابتدأ الآية بتتمة عهده في حكم بهيمة الأنعام وذلك حكم في الفروع ثم انتقل إلى بيان عهده في الولاية التي هي من أصول الدين، وإنما خصّها بالذكر دون سائر الأصول؛ لأن الخطاب للمؤمنين

ص: 23

الذين آمنوا باللّه ورسوله وباليوم الآخر فلم يبق من الأصول إلاّ الولاية فذكرت هيهنا، وبعد الانتهاء من ذكر عهده في الفروع والأصول يتم بيانالاستثناء في الفروع فقط دون الأصول إذ لا استثناء فيها.

هذا مضافاً إلى أن اللّه تعالى أراد حفظ كتابه من التحريف بطريق طبيعي، ولذا أنزل الآيات وعيّن مواطنها بحيث لا يكون للظالمين داع ٍ لتحريفها، مع وضوح المقصود بها عبر سياقها وعبر الروايات الدالة عليها لتتم الحجة على الناس أجمعين.

الثاني: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ...} الآية.

قال السيد الوالد رضوان اللّه عليه في موسوعة الفقه: «إن هناك [في اللحم] خمس ملاحظات:

الأولى: ملاحظة الطيب والخبث في ذات اللحم، حسب قوله سبحانه: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ}(1).

الثانية: ملاحظة الارتباط باللّه، وهو أمر نفسي، وذلك بالتسمية، مثل اشتراط الطهارات الثلاث بالنية، حيث إن طهارة الجسم تحصل بدون ذلك، وإن كان لا يبعد تأثير عدم النية في عدم النظافة أيضاً، وكذلك تأثير عدم البسملة في عدم الطيب، وذلك لاقتراب الشيطان الموجب لذينك الأمرين... .

الثالثة: ملاحظة الآداب الإنسانية، ولذا روي كثير من ذلك في الأكل والشرب والجلوس والمشي والنوم والنكاح وغيرها.

ص: 24


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

الرابعة: عدم المقارنات الضارة، أمثال الترف في صيد الفهد والعقاب وعدم إضرار الناس بسببهما... .

الخامسة: عدم أذية الحيوان بقتله بالسكين غير الحديدة أو بقتل الحيوانصيداً بما هو أكبر منه... الخ»(1).

والحاصل: أن التحريم قد يكون لأجل الضرر وقد يكون لأجل مراعاة القوانين العامة من عقائد وأحكام وآداب ونحوها.

وقوله: {حُرِّمَتْ} قد مرّ أن الحرمة في كل شيء بحسبه، فلذا لا بد من معرفة المنفعة التي تقصد من الشيء فتلك هي التي تراد بالتحريم، والمنفعة المقصودة من هذه المذكورات هي الأكل فهو المحرّم، وأما سائر الانتفاعات فلا يشملها التحريم إلا بدليل خاص، وبعبارة أخرى: متعلّق الحرمة هو فعل الإنسان؛ لأن التكليف عليه، فإذا أضيفت الحرمة إلى الأعيان كان لا بد من إضافة الفعل المقصود منها، فمثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ}(2) أي نكاحهن، و{حَرَّمَ الرِّبَوٰاْ}(3) أي أخذه، وهكذا {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...} أي أكلها.

وقوله: {الْمَيْتَةُ} كل حيوان حلال اللحم مات من غير تذكية شرعية، فلو ذبحت الإبل كانت ميتة؛ لأن ذكاتها نحرها، وكذا لو نحر الغنم وهكذا كل حيوان لم يذك تذكيته الشرعية، والتي هي النحر في الإبل، والإخراج من الماء حياً في السمك، وذكاة الأم في الجنين، والآخذ باليد في الجراد،

ص: 25


1- الفقه 75: 221-222.
2- سورة النساء، الآية: 23.
3- سورة البقرة، الآية: 275.

والصيد بالرمي أو بالكلب في المصيود، وبفري الأوداج الأربعة في سائر الحيوانات، كل ذلك بشروطه، والتفاصيل تطلب من الكتب الفقهية.

وقوله: {وَالدَّمُ} مطلقاً لا يجوز سواء كان مسفوحاً أم غير مسفوح، قليلاً أم كثيراً، نعم الدم الذي يتخلل في اللحم - بل لا ينفك منه اللحم عادة - جائز بالدليل الخاص، بل لولا حليته لم يكن معنى لتحليل لحم الأنعام أصلاً، وأما الدم المتبقى في الذبيحة فهو طاهر لكن لا يجوز شربه لو جمعه في إناء إلاّ المقدار المتخلل في اللحم والكبد ونحوهما.

وقوله: {وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} ذكر الخنزير بالخصوص مع تعدد الحيوانات المحرّمة، وكذلك ذكر خصوص لحمه مع حرمة جميع أجزائه لأجل تعارف أكل لحمه بين الناس وزعمهم طيبه، لذلك تمّ التأكيد على حرمته وخباثته.

وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الإهلال) هو رفع الصوت وكذلك ابتداء الشيء، والمراد رفع الصوت حين الشروع في الذبح أو النحر، وكانوا يذكرون أسماء أصنامهم وغيرها، فتمّ تحريم كل لحم ذُبح على غير اسم اللّه تعالى، وليس المهم الغرض من الذبح فقد يكون الغرض القربان للّه تعالى أو النذر له أو شكره تعالى على نعمه أو العقيقة أو احترام شخص أو سدّ جوع ونحو ذلك من الأغراض، إنما المهم أن يكون الذبح مصحوباً باسم اللّه سبحانه تعالى.

وقوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} كان من دأب الجاهليين وبعض الأديان الأخرى خنق الحيوانات وفي ذلك إيذاء لها مع بقاء الدم في جسمها فنهاهم اللّه عن

ص: 26

ذلك، وأحياناً كانت تُحشر بين أغصان ونحوها فتموت خنقاً، أو تختنق في حبالة الصائد، فلا فرق في كل ذلك في الحرمة.

وقوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ} وهي التي تموت بضربها أو برميها بالحجارة، ومن مصاديقها التي وقذها المرض حتى لم تكن بها حركة، ولا يخرج لها دم ولا تضطرب ولا تجد ألم الذبح كما في بعض الأحادث(1).

وقوله: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} أي ماتت بأثر السقوط من شاهق أو في بئر ونحو ذلك.

وقوله: {وَالنَّطِيحَةُ} كان من دأبهم إغراء الكباش بالتناطح فإذا مات أحدها أكلوه، وكذلك كل حيوان مات بأثر النطح.

وقوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي افترسه، وخاصة فرائس الذئب، حيث يدخل القطيع ويفترس كل الغنم، وكان من دأب الجاهليين إذا وجدوا سبعاً على فريسة هجموا عليه وابتزوه فريسته.

وقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء من قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ...} الخ، أما الميتة والدم والخنزير وما أهل لغير اللّه به فلا تذكية فيها؛ لأن الموت مانع عن قبول التذكية كما أنّ الخنزير لا تذكية له فهو نجس العين حياً وميتاً، وعدم التذكية في الدم واضح، وأما المنخنقة وما بعدها فإن لم تكن قد ماتت وبها حركة في عينها أو أذنها أو ذنبها فيمكن تذكيتها بحيث يكون موتها مستنداً إلى الذبح أو النحر، فتخرج عن كونها منخنقة وموقوذة ومتردية ومأكول السبع إلى كونها مذكاة، قيل: أصل التذكية هو تمام الشيء، وفي الحيوانات

ص: 27


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 286 و 289.

إجراء السنن الشرعية عليها.

وقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} إما مفرد جمعه أنصاب، أو جمعومفرده نصاب، وهي حجارة كانوا قد نصبوها قرب الكعبة ويقدّسونها ويعبدونها ويذبحون عليها ويلطخونها بدماء ذبائحهم، وقد يقال: إن المراد بذلك عموم الأصنام، حيث كانوا يذبحون أمامها كالقبلة، ومع عدمها يذكرون أسماءها، فالأول هو {مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} والثاني هو {مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.

وقوله: {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالْأَزْلَٰمِ} (الاستقسام) هو التقسيم وفرز نصيب كل شخص، و(الأزلام) جمع زلم وهو القدح، أي سهم القمار وكان من دأبهم أن يضعوا عشرة سهام في كيس، سبعة منها كتب عليها النصيب من واحد إلى سبعة، فلسهم نصيب، ولسهم ثان نصيبان، ولثالث ثلاثة أنصباء، إلى السابع فله سبعة أنصباء، وثلاثة سهام لا شيء عليها، وكانوا يقسمون الذبيحة إلى ثمانية وعشرين قسماً، فلكل سهم من السبعة نصيبه، ويدفع ثمن الذبيحة الثلاثة الذين لا نصيب على سهامهم.

وقد مرّ سبب تحريم القمار وأنه أكل للمال بالباطل بلا سعي له، وما يورثه من المشاكل والخلافات وانهيار الأسر، فراجع.

وقوله: {ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ} أي كل المذكورات من أكل الميتة إلى الاستقسام بالأزلام.

سبب يأس الكفار في يوم الغدير

الثالث: قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}.

هذا القسم الثاني من الآية المرتبط بعهد اللّه تعالى في أصل من أصول

ص: 28

الدين وهو الولاية، وهو يوم بعينه، وكان في الثامن عشر من ذي الحجة فيالسنة العاشرة من الهجرة حيث أخذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) البيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في غدير خم، وليس المراد يوم نزول آية تحريم الميتة والدم... الخ، فإن تحريمها قد نزل مرات متعددة في سور مختلفة وكان الكفار غير يائيسين ويحاولون إطفاء نور اللّه تعالى بعد ذلك، كما أن تحريم بعض الأطعمة بمجرده لا يوجب يأساً للكفار أصلاً كما هو أوضح من أن يخفى، قال سبحانه في سورة النحل وهي مكية: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1)، وفي سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2)، وفي سورة الأنعام: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3)،

وفي مكة وإلى فترة طويلة من المدينة لم يكن الكفار قد يئسوا من إطفاء نور اللّه، وعليه فمعنى الآية يقتضي أن لا يكون {الْيَوْمَ يَئِسَ...} مرتبطاً بتحريم اللحوم المذكورة، بل هو أمر آخر أهم وأجلى، ولا يكون ذلك إلاّ بأمر يوجب امتداد النبوة بعد رحيل

ص: 29


1- سورة النحل، الآية: 115.
2- سورة البقرة، الآية: 173.
3- سورة الأنعام، الآية: 145.

الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإن أقوى الحكام يموت منهجهم بموتهم إذا لم يكن لهم من بعدهم من يستمر عليه، وهكذا كان طمع الكفار في الإسلام حيث كانوايتربصون الموت برسول اللّه تعالى، حيث لا أولاد ذكور له من بعده، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}(1) وقال سبحانه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(2)، فلا يكون يأس للكفار إلا بنصب خليفة من أهل بيت الرسول يسير على منهجه وهذا ما حصل بالفعل.

وقوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} أي لا تخافوا من أن يظهروا على دينكم ويمحو أثره، والمعنى لا موجب للخشية منهم بعد يوم الغدير، حيث إن الدين يستمر ولو كره الكافرون.

وقوله: {وَاخْشَوْنِ} أي إن الإشكال سيكون منكم أيها المسلمون، حيث يمكن أن تنقلبوا على الأعقاب كما قال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(3)، فلذا عليكم أن تخافوا اللّه فلا تعصوه فيما أمر ونهى وترضوا بما حكم به من خلافة الإمام علي (عليه السلام) .

والحاصل: ليست الخشية من الكفار، بل منكم، فعليكم أن تخشوا اللّه وتراعوا أحكامه لتكونوا من الشاكرين له نعمته عليكم.

إكمال الدين بولاية علي (عليه السلام)

الرابع: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

ص: 30


1- سورة الطور، الآية: 30.
2- سورة الكوثر، الآية: 3.
3- سورة آل عمران، الآية: 144.

نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}.

هو نفس اليوم الذي يئس الكفار من دينكم، لتلازم الأمرين معاً؛ لأن إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب تلازم يئس الكفار عن الدين، ومن المعلوم أن إكمال الدين كان بعد حجة الوداع، حيث لم ينزل بعدها شيئ من الأصول والفروع سوى ولاية أمير المؤمنين وأخذ البيعة له (عليه السلام) . وفي الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ثم نزلت الولاية، وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة، أنزل اللّه عزّ وجلّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقال عند ذلك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : أمتي حديثو عهد بالجاهلية، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمّي يقول قائل ويقول قائل، فقلت في نفسي من غير أن ينطق لساني، فأتتني عزيمة من اللّه عزّ وجلّ بتلة أوعدني إن لم أبلّغ أن يعذبني، فنزلت: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}(1)، فأخذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بيد عليّ (عليه السلام) - إلى أن قال - ثم قال: يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدي فليبلّغ الشاهد منكم الغائب» ... الحديث(2).

والأخبار هنا كثيرة ومتعددة وكل واحد منها ذكر جانباً من القصة، ومقتضى الجمع بينها هو ما ذكرناه في شرح أصول الكافي(3)، وحاصله: أن

ص: 31


1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- الكافي 1: 290.
3- شرح أصول الكافي 4: 344-347.

رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ثم أنزل اللّه عليه{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ}(1) فأمر المؤذّنين أن يؤذّنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول اللّه يحج في عامه هذا، فعلم من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب واجتمعوا لحج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأما من بَعُد عن المدينة فقد كتب إليهم كتاباً يخبرهم بذلك، فاجتمع في الحج مائة وعشرون ألف أو أكثر، وكان الوحي قد نزل على رسول اللّه تعالى في يوم عرفة بأن ينصب أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير توقيت له، فقد أوكل اللّه زمانه إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليختار الزمان الأنسب، والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أخبر الناس في يوم عرفة بأنه على وشك الرحيل وأنه يخلّف فيهم الثقلين كتاب اللّه وعترته أهل بيته، وأخبرهم بمنزلة أمير المؤمنين (عليه السلام) كدأبه من يوم الإنذار وفي مواطن شتى في المدينة حيث كان يخبرهم من غير أخذ البيعة منهم، فلم يأخذ منهم البيعة في الحج؛ لخوفه من الاختلاف ولانشغالهم بأعمال الحج ولأن المهم كان أخذ البيعة من أهل المدينة وأطرافها حيث إنها العاصمة، وعليه فقد نزلت آية الولاية في يوم عرفة ولم يُعلن عنها الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ؛ لأن اللّه تعالى قد وسّع عليه ذلك وفوّض إليه اختيار الوقت المناسب لإعلانها، حتى إذا رجع من حجه ووصل في الثامن عشر من ذي الحجة إلى الجحفة انتهى الوقت فنزلت آية: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(2) فجمع الرسول جميع من بقى معه - وهم أهل

ص: 32


1- سورة الحج، الآية: 27.
2- سورة المائدة، الآية: 67.

المدينة وأطرافها ومن أهل مكة - وكانوا عشرةآلاف وروي اثنا عشر ألف - وتلا عليهم آية الولاية وأمرهم بالبيعة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، وقد عصمه اللّه تعالى من أن يتمكن المنافقون من التخريب، فتمت البيعة كما أراد اللّه تعالى ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فتمت الحُجّة عليهم مع عدم تمكن أحد من إنكار الواقعة؛ لأنها كانت خاصة لأخذ البيعة في منتصف الطريق.

وقوله: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الإكمال والإتمام متقاربا المعنى، والفرق بينهما أن الشيء ذا الأجزاء إن لوحظ بجميعه قيل: كامل وأكلمه، وإن لوحظ باعتبار الجزء الأخير منه قيل: تام وأتمّه، قال أبو هلال: الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به، والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف به(1)، والدين وحدة واحدة والولاية من أصوله فبأخذ بيعة يوم الغدير كمل الدين، وأما نعمة اللّه على الناس فهي كثيرة كما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(2)، لكنَّ جزءها الأخير كان في الولاية، ولذا تمت النعمة بها، ويا لها من نعمة عظيمة تستوجب شكراً عظيماً.

وقوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} والنعمة هي الخير الذي يلائم الطبع من غير امتناعه كما قيل، ونعمة الإسلام من غير نعمة الولاية ناقصة.

ثم إن الدين كما ينسب إلى اللّه تعالى باعتبار تشريعه له كذلك ينسب إلى أهله باعتبار التزامهم به، قال تعالى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ

ص: 33


1- معجم الفروق اللغوية: 15.
2- سورة إبراهيم، الآية: 34.

أَفْوَاجًا}(1)، وقال: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ}(2)، ولعل الإضافة إليهم هنا لأجل أن دين اللّه تعالى كامل - سواء أنزله إليهم أم لا - فلا يناسب القول بأنه تعالى أكمل دينه، وأما ما كانوا يلتزمون به فقد نزل عليهم بالتدريج فلذا ناسب أن يقول: و{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وأما النعمة فقد أخذ في مفهومها الفعليّة، فلا تكون نعمة إلاّ بإنزالها عليهم، ولا تنسب إلاّ إلى اللّه تعالى فلذا ناسب إضافته إليه فقال: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.

وقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا} رضاه سبحانه بمعنى ثوابه عليه، وهو نتيجة إكماله للدين، فلا تكرار بين الفقرة الأولى والثالثة، فالمعنى: حيث إنه أكمل الدين وأتم النعمة لذلك يثيبهم على الإسلام دون غيره، قال سبحانه: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ}(3)، وفي التقريب: «فإن الإسلام ذو درجات، واليوم رقيتم الدرجة القصوى، فرضي اللّه عن المسلمين بالحال التي وصلوا إليها، والرضى هنا ليس في مقابل السخط، بل مقابل النقص الأثري، كما أن من يريد بناء دار إذا بلغ منتصفها يقول: لم أرض بعد، أي لم يكمل رضاي، وإنما يقول: رضيت الآن إذا تم بناء الدار»(4).

ص: 34


1- سورة النصر، الآية: 2.
2- سورة البقرة، الآية: 217.
3- سورة الزمر، الآية: 7.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 603.

الخامس: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثْمٖ...}الآية.

استثناء من الاستثناء، فبعد أن ذكر عهده تعالى في حِليّة بهيمة الأنعام استثنى الميته والدم... الخ ثم أباحها للمضطر رحمة منه، إذ كان من الممكن أن يأمر الناس عن الامتناع عن الأكل حتى لو أدّى إلى هلاكهم، كما نهى عن الفرار عن الزحف حتى لو كان فيه الحتف، لكن حيث إن مصلحة حفظ الحياة أهم من مفسدة أكل المذكورات فلذا أباحها لهم برحمته تعالى، وقوله: {اضْطُرَّ} من الضرر بمعنى شدة الاحتياج إلى الشيء بحيث لو تركه كان عليه ضررٌ بالغٌ.

وقوله: {فِي مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة وأصلها من (الخمص) بمعنى ضمور البطن بسبب الجوع.

وقوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٖ} من (الجَنَف) أي الميل عن الحق والانحراف عنه.

وقوله: {لِّإِثْمٖ} بأن يأكل أكثر من المقدار الذي يرتفع به الاضطرار كأن يفرط في الأكل أو يمتلئ منه، وأن لا يكون باغياً ولا عادياً، كما مرّ في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1).

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الغفران كما يكون في ستر الذنب وعدم المؤاخذة عليه، كذلك يكون في عدم تشريع الحرمة فيما فيه المفسدة لحكمةٍ فينتفي العقاب على ارتكابها لانتفاء الحرمة، ومنشأ هذا الغفران

ص: 35


1- سورة البقرة، الآية: 173.

رحمته تعالى لذا أتم الآية بقوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

ومن كل ما ذكرنا يتبيّن أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} إلى قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا} كالجملة المعترضة بين تحريم المذكورات وبين استثناء حالة الاضطرار، نظير آيات البقرة والأنعام والنحل وقد مرّ ذكرها، واللّه العالم.

ص: 36

الآيتان 4-5

اشارة

{يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ 4 الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الْمُؤْمِنَٰتِ وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٖ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ 5}

4- ولمّا تلا عليهم ما حرّم سألوه عمّا أحل: {يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} في المأكولات {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ} وهو كل ما يلائم طبع الإنسان من غير ضرر ومنع وهذا يقابل تحريم الميتة والدم... الخ، {وَ} كذا أحلّ لكم صيد {مَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ} التي تجرح الصيد وهذا يقابل تحريم ما أكل السبع {مُكَلِّبِينَ} أي حال كون الجوارح كلاب صيد دون غيرها من الجوارح {تُعَلِّمُونَهُنَّ} تعلمون تلك الكلاب {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} أي الكيفية التي شرّعها اللّه تعالى للحليّة، بأن تعلّموا كلاب الصيد أن تسترسل حين إرسالها وتتوقف حين زجرها وأن لا تأكل من الصيد وسائر شروط

ص: 37

الحليّة، {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي صادوه لكم لا لأنفسهن، {وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} على الصيد حين إرسال الكلاب، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ}لئلا تنالوا من صيد محرّم أو لا يكن صيدكم لهواً وبطراً {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فيؤاخذكم بتناول المحرّمات.

5- وبعد ذكر محلّلات المأكولات يأتي التعميم ف-{الْيَوْمَ} الذي كمل فيه الدين {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ} عامة سواء في المأكل والمشرب والمنكح والعمل وغير ذلك، {وَ} حيث يئس الكفار من دينكم ولا خشية عليكم منهم فجاز لكم مخالطتهم بالأكل والنكاح ف- {طَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} غير اللحوم كالحبوبات {حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} أي يجوز لكم إطعامهم {وَ} كذا أحل لكم نكاح {الْمُحْصَنَٰتُ} العفيفات {مِنَ الْمُؤْمِنَٰتِ} المسلمات {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} أعطيتموهن {أُجُورَهُنَّ} مهورهن حال كونكم {مُحْصِنِينَ} بالزواج ثم أكد الإحصان بقوله: {غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ} والسفاح هو ما يُعلم كونه زنا كالزنا من غير انفراد بها {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٖ} والخدن الصديق والصديقة وذلك زنا قد يخفى على البعض لانفراده بها، ثم يحذرهم اللّه تعالى من انتهاك حرماته فيقول: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَٰنِ} أي بدلاً عن الإيمان، كفراً عملياً بالإصرار على المعاصي أو كفراً عقائدياً {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} لأنه غير متقٍ فعمله غير مقب--ول {وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِ-نَ الْخَٰسِرِينَ} حيث خس-ر نفس-ه ب--استحق-اق العذاب.

ص: 38

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ}.

دأب القرآن عادة هو أن يقرن المحرّمات بالمحلّلات، فكلّما ذكر حرامأردفه بذكر حلال من جنسه، وهذا مقتضى الشريعة السهلة السمحاء ليتسنى للناس الفرار من الحرام إلى الحلال، وتارة يبتدئهم بذلك، وأخرى يحفزّهم على السؤال ليكون الجواب أوقع في النفوس وأشدّ ظهوراً لمنته تعالى عليهم، فكأنه استجاب لطلبهم وسهّل عليهم وذلك أدعى للالتزام والطاعة، ولمّا حرّم تعالى في الآية السابقة من الحيوانات ما مرّ ذكره ومن ذلك ما أكل السبع، بيّن في هذه الآية حليّة كل طعام طيب من اللحوم وغيرها، كما بيّن حلية صيد الكلاب المعلّمة.

وقوله: {الطَّيِّبَٰتُ} المراد خصوص الطيبات في المأكولات؛ لأن سؤالهم كان في قبال تحريم بعضها في الآية السابقة، وأما التعميم لجميع الطيبات في كل شيء فسيأتي بيانه في الآية اللاّحقة، وفي ذلك إشعار بسبب تحريم المذكورات في الآية السابقة بأنها من الخبائث، وأن سبب حلية غيرها هو كونها من الطيبات، و(الطيّب) لغة هو كل شيء يلائم الطبع المستقيم من غير ضرر ولا عاقبة سيئة، ويقابله (الخبيث) الذي ينفر الطبع منه أو كان فيه ضرر أو عاقبة وخيمة كالطعام المسموم اللذيذ، والطيب والخبيث شرعاً هو بهذا المعنى، إلاّ أن الشرع قد يكشف عن ضرر أو وخامة قد لا يعلمها الإنسان كالخمر ولحم الخنزير.

والحاصل: أن بين الطيب واللذيذ عموماً من وجه فقد يكون طيباً غير

ص: 39

لذيذ كالأدوية المرّة، وقد يكون لذيذاً غير طيب كاللحوم المحرّمة، وقد مرّ بعض التفصيل في سورة البقرة والنساء فراجع.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ...}الآية.

أي وأحل لكم صيد الكلاب المعلّمة، وقيل {مَا عَلَّمْتُم} في قوة الشرط، وجزاؤه {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ...}، فلمّا حرّم تعالى ما أكل السبع لأنه لم يستند قتله إلى الإنسان ولا ذكر اسم اللّه عليه ولأنه رزق السبع فلا وجه لابتزازه رزقه ولجهات أخرى بعد ذلك بيّن حلية صيد الكلاب المعلّمة؛ لأن القتل مستند إلى الإنسان بإرساله الكلاب ولذكر اسم اللّه عليه وليس هو من رزق تلكم الكلاب؛ لأن صاحبها يطعمها أو يرسلها لتصيد لنفسها.

وقد ذكرت الآية أربعة شروط - جامعة لجميع الشروط - لحلية المصيود وهي: أن يكون الصيد بالكلب، وأن يكون معلّماً، وأن يمسك الصيد لصاحبه لا لنفسه، وأن يذكر اسم اللّه عليه.

وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُم} أي علّمتموهن على الصيد.

وقوله: {مِّنَ الْجَوَارِحِ} أي بعضها، والجوارح هي التي تجرح الحيوانات الأخرى عبر صيدها.

وقوله: {مُكَلِّبِينَ} حال من الجوارح وتقييد لها بكونها من الكلاب فلا يحلّ صيد غير الكلب كالفهد والصقر ونحوها حتى لو كانت معلّمة، و(كلّب) بمعنى علّم الكلب بتربيته على الصيد أو نحوه.

ص: 40

وقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} الظاهر أن المعنى أن يكون التعليم بالكيفيّة التي شرّعها اللّه تعالى، فإن الكلاب تتعلّم بما ربّاها عليه أصحابها، لكن الشرع اشترط كيفية خاصة وقد بينتها السنة، منها: أن يعلّمه أن يسترسل حين إرساله وأن يتوقف حين زجره فالتعليم هناتشريعي، وقيل: المعنى علّمكم اللّه بإلهامكم كيفية التربية فالتعليم تكويني، والأول أقرب.

وقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} بيان لشرط آخر من شروط الحلية وهو أن لا يأكل الكلب من الصيد بل يحفظه لصاحبه، فلو أكل منه لم يحلّ لأنه صاد لنفسه لا لصاحبه، و{مِّنَ} في قوله: {مِمَّا} للتبعيض فليس كل مصيد حلال بل لا بد أن يكون من الحيوانات المحلّلة اللحم، كما لا يحلّ كل أجزاء الصيد، بل ما كان حلالاً فلا يشمل الدم والمثانة والمرارة وسائر محرمات الذبيحة، ولعلّ فيه إشعاراً بأن لا يستأثر بكل الصيد بل يخصص قسماً منه للكلب، كما فيه دلالة على حليته لو مات بعقر الكلب، و{عَلَيْكُمْ} أي لأجلكم لا لنفسها.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} إذ يكثر الحرام في هذا النوع من الصيد، فتارة الصيد للّهو والترف وأخرى عدم استجماع شروط الحلية فيحرم الصيد، فكان لا بد من التحذير من مراعاة حرمات اللّه تعالى وعدم انتهاكها.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} علة للزوم التقوى فهو سبحانه يحاسبكم على جميع أعمالكم مع سرعة المحاسبة؛ لأن أيام الدنيا قصيرة جداً، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فكأنّهم لو يكونوا للدنيا عمّاراً وكأنّ الآخرة

ص: 41

لم تزل لهم داراً»(1).

الثالث: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} الآية.

الظاهر أن المراد بقوله: {الْيَوْمَ} هو نفس يوم إكمال الدين، إذ لمّا ذكر أنه في ذلك اليوم يئس الكفار من دينكم فلا داعي للخشية منهم، بيّن جواز الاختلاط مع أهل الكتاب في المأكل والمنكح وذلك لعدم الخشية منهم بل هذا النوع من اختلاط القوي بالضعيف يكون سبباً لهداية الضعيف إلى دين القوي وطريقته، كما يُرى من تأثر الأمم المغلوبة بثقافة الأمم الغالبة، ومن ذلك يتبين أن قوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} ليس تشريعاً لحكمٍ لأهل الكتاب كي يقال: هؤلاء لا يعترفون بالإسلام فلا معنى لتشريع حكم لهم، بل المقصود بيان الاختلاط بهم بحيث تأكلون من طعامهم ويأكلون من طعامكم.

وقوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَٰتُ} كالتمهيد والتوطئة لبيان حلية طعام ونكاح أهل الكتاب؛ لأن ذلك من الطيبات، مضافاً إلى أنه تعميم لحلية الطيبات سواء كانت في المأكل أم المنكح أم العمل أم أيّ شيء آخر.

حلية طعام أهل الكتاب

وقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} أي كل نوع من طعامهم الذي يعدّونه لأنفسهم، لكن بشرط أن لا يكون من المحرمات، كالميتة والخنزير والنجاسات وكذا اللحوم؛ لأن اللّه اشترط في حلية اللحوم شروط خاصة ذكرت في الكتاب والسنة كالتسمية والقبلة وإسلام الذابح وفري الأوداج

ص: 42


1- نهج البلاغة، الخطبة: 188.

الأربعة أو النحر وغير ذلك مما لا تتوفر في ذبائح أهل الكتاب، وليست هذه الآية ناسخة أو مخصصة لتلك الشروط ولا لتلك المحرمات.

ومن ذلك يتبيّن أن الروايات التي فسرت الطعام بالحنطة أو الحبوب أوالبقول كالحمص والعدس(1) أنما هي بيان لمصاديق الطعام المحلّل، فلا يشمل اللحوم والمحرمات والنجس ونحو ذلك مما دلت الأدلة الشرعية على عدم جواز أكلها أو شربها.

وقيل: الطعام منصرف إلى الحنطة، وعن لسان العرب: القمح خاصة(2)

ولحد الآن يقال لبائع الحنطة: بائع الطعام.

وما رجحناه أنسب وإلى الروايات أقرب.

ولا يخفى إشعار الآية بطهارة أهل الكتاب بالذات وإن كانوا يتنجسون بالعرض بعدم اجتناب النجاسات.

سؤال: الطعام الخالي عن المحرمات حلال من غير فرق بين كونه طعام أهل الكتاب أم طعام سائر الكفار والمشركين، فلماذا تمّ تخصيص طعامهم بالذكر؟

والجواب: يُعلم مما سبق حيث أراد اللّه بيان إباحة الاختلاط بأهل الكتاب مع طهارتهم فحلّ طعامهم، وأما سائر الكفار فليسوا بطاهرين ذاتاً ولا ينفك طعام يصنع من ملامسة يد الطباخ عادة، فطعامهم نجس عادة، أو يقال: إن الحكم وارد مورد الغالب لاختلاط المسلمين بأهل الكتاب عادة

ص: 43


1- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 330-332.
2- لسان العرب 12: 364.

ويقلّ اختلاطهم بسائر الكفار، فتأمل.

الرابع: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الْمُؤْمِنَٰتِ وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} الآية.أي وأحل اليوم لكم نكاحهن.

وقوله: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الْمُؤْمِنَٰتِ} أي العفيفات أو غير المتزوجات، وقد مرّ في سورة النساء أن المحصنة تطلق على المتزوجة وعلى العفيفة غير المتزوجة؛ لأنه من (الإحصان) بمعنى الحفظ، فالمتزوجة محفوظة بزوجها، وغير المتزوجة محفوظة بعفتها، وهذا أيضاً كالتمهيد والتوطئة لبيان حلية المحصنات من أهل الكتاب.

وقوله: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} سواء كانت حرّة أم أمة، وسواء بالعقد الدائم أو المنقطع، وبعض الفقهاء خصّ الجواز بالنكاح المنقطع، ولكن مقتضى الجمع بين الروايات هو حليّة النكاح الدائم مع كراهته لو لم يكن مضطراً أو خشي على ولده منها(1)، منها ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الرجل المؤمن يتزوج اليهودية والنصرانية؟ فقال: «إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية! فقلت له: يكون له فيها الهوى! قال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، واعلم أن عليه في دينه غضاضة»(2).

واعلم أن سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ولم ينسخ منها

ص: 44


1- راجع الروايات في وسائل الشيعة 20: 353-542.
2- وسائل الشيعة 20: 536؛ عن الكافي 5: 356.

شيء كما مرّ، فأما ما ورد من نسخ هذه الآية(1) بقوله: {وَلَا تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}(2) بقوله: {وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ}(3)، وهما آيتاننزلتا قبل هذه الآية فلعل المراد بالنسخ معناه اللغوي، أي التخصيص على نحو التنزيه لا على نحو الحرمة، والمسألة محل خلاف بين الفقهاء والاحتياط سبيل النجاة، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية(4).

وقوله: {إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، ولعل وجه ذكره هنا هو بيان أن كونهن من أهل الكتاب لا يعني غمطهن حقوقهن، وحتى لو لم يعتقدوا بالمهر في دينهم فإنه لا بد من إعطائهن ذلك ولا يجري فيه قاعدة الإلزام؛ لأن معنى القاعدة هو إلزام الكفار بما يعتقدون، لا التزام المسلم بأحكامهم بل على المسلم الالتزام بأحكام الإسلام والذي منه ثبوت المهر على الزوج في النكاح دائماً كان أم منقطعاً، ولا يخفى أن الأجر في القرآن أطلق على المهر في النكاح الدائم والمنقطع، وللحرة والأمة، فلا وجه لأخذه قرينة على أن المقصود في الآية النكاح المنقطع أو نكاح الإماء، كقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَٰجَكَ الَّٰتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}(5)، وكقوله: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(6).

ص: 45


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 332.
2- سورة الممتحنة، الآية: 10.
3- سورة البقرة، الآية: 221.
4- راجع الفقه 65: 91-101.
5- سورة الأحزاب، الآية: 50.
6- سورة النساء، الآية: 25.

وقوله: {مُحْصِنِينَ} تأكيد بأن يكون مباشرة المحصنات من أهل الكتاب بالنكاح لا بالسفاح أو الصداقة، ولعل ذلك لدفع توهم أن أهل الكتاب قد يجوز عندهم سفاح غير المتزوجة أو مباشرتها بالصداقة، فيقال: إن شريعتهم الفاسدة لا تجري عليكم، بل عليكم الالتزام بأحكام شرعالإسلام.

وقوله: {غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ} السفاح هو الزنا الظاهر سواء كان علناً أم كان سراً مع معلومية كونه زنا.

وقوله: {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٖ} جمع خدن وهو الصديق أو الصديقة، وقد يخفى على البعض كونه زنا باعتبار انفراد المرأة بالرجل وعدم زناها بغيره وعدم زناه بغيرها، إلاّ أنه لا فرق في الزنا بين السفاح أو الصداقة فكلاهما فاحشة نظير تزوج الجاهليين بزوجة الأب حيث قال: {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ...} الآية.

حيث إن الاختلاط بأهل الكتاب والنكاح بهن مظنة التأثر بهن سواء بالارتداد أو بعدم الالتزام بأحكام الشرع، حذّر اللّه تعالى من ذلك، فالغرض من الأحكام السابقة هو تقريب أولئك الكفار إلى الإسلام، لا العكس.

وقوله: {يَكْفُرْ} يشمل كفران نعمة الأحكام الشرعية وذلك بتركها وعدم الالتزام بها وهذا ما يعبّر عنه بالكفر العملي، وكذا يشمل الكفر الاعتقادي بالارتداد.

وقوله: {بِالْإِيمَٰنِ} الظاهر أن الباء للبدلية أي الكفر بدلاً عن الإيمان

ص: 46


1- سورة الأنعام، الآية: 151.

الذي كان عليه.

وقوله: {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} أي إسلامه وطاعاته السابقة تبطل، والحبط أنما يكون بالكفر أو بالإصرار على المعاصي، وأما ارتكابها أحياناً من غير إصرارفلا يوجب الحبط، بل قد تكفّر الحسنات تلك السيئات قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ}(1)، وقد مرّ بحث الحبط والتكفير مفصلاً فراجع.

وقوله: {وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ} وذلك نتيجة الحبط؛ لأنه خسر نفسه باكتسابه العذاب بسوء اختياره.

وقد بينت الروايات مصاديق لكلا الأمرين - الكفر الاعتقادي والعملي - فمنها: عن الإمام الصادق أو الباقر‘ في قول اللّه: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} قال: «هو ترك العمل حتى يدعه أجمع، قال: منه الذي يدع الصلاة متعمداً لا من شغل ولا من سكر» يعني النوم(2)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) تفسيرها في بطن القرآن: «ومن يكفر بولاية علي، وعلي هو الإيمان»(3)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى بخلاف الحق فيقيم عليه»، وقال: «الذي يكفر بالإيمان الذي لا يعمل بما أمر اللّه به ولا يرضى به»(4).

ص: 47


1- سورة هود، الآية: 114.
2- تفسير العياشي 1: 297.
3- بصائر الدرجات: 77؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 334.
4- تفسير العياشي 1: 297.

الآيتان 6-7

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 6 وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ 7}

6- ثم يذكر اللّه تعالى عهداً من عهوده في عبادته وهي الصلاة فيقول: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ} أي أردتم القيام {إِلَى الصَّلَوٰةِ} من النوم، فلكم حالات ثلاث:

الحالة الأولى: في الحدث الأصغر مع وجدان الماء {فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} كل الوجه {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وهو المفصل الجامع بين عظام الساعد والعضد، و«إلى» لتحديد المغسول أي حدّ اليد المغسولة هو المرفق، إذ اليد تطلق على ما دون الزند، وما دون المرفق، وما دون المنكب، فكان لا بد من تحديد اليد فليس هو تحديد للغسل بأن يكون نهاية الغسل

ص: 48

إلى المرافق، {وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ} أي بعضها {وَأَرْجُلَكُمْ} أي وامسحوا أرجلكم {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قبة القدم وهي العظم الناتئ في أعلى القدم.

الحالة الثانية: في الحدث الأكبر مع وجدان الماء {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًافَاطَّهَّرُواْ} بغسل الجنابة.

الحالة الثالثة: عدم وجدان الماء في الحدث الأصغر أو الأكبر {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ} حيث يضركم الماء، {أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ} حيث لا يوجد الماء، {أَوْ} كنتم أصحاء غير مسافرين لكن صدر الحدث الأصغر بأن {جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} وهو الأرض المنخفضة تقضى فيها الحاجة لسترها، {أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ} كناية عن الوطء {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} للوضوء أو الغسل {فَتَيَمَّمُواْ} أي أقصدوا {صَعِيدًا} ظاهر وجه الأرض {طَيِّبًا} بأن يكون طاهراً غير مغصوب، {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ} أي بعضها {وَأَيْدِيكُم} أي بأيديكم وهو بعضها {مِّنْهُ} أي من ذلك الصعيد بأن تضربوا يديكم عليه ثم تمسحوا الوجه والأيدي.

ثم يبين اللّه الحكمة في هذه التشريعات ف- {مَا يُرِيدُ اللَّهُ} في أمركم بالوضوء والغسل والتيمم {لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٖ} تضييق وتشديد، و«من» لتأكيد النفي، {وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} من الأقذار ومن الذنوب والأحداث، {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} لأن تشريعاته نعمة عليكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تلك النعم، حيث هداكم لما فيه مصلحتكم فتنالون بالشكر المراتب العالية.

ص: 49

7- ثم يؤكد اللّه تعالى على أن تشريعه هذا من عهوده ومواثيقه فقال: {وَاذْكُرُواْ} بالعمل لتشكروها {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بهدايتكم للإسلام {وَمِيثَٰقَهُ} أي اذكروا ميثاقه وهو عهده الأكيد {الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ} أي عاهدكم عليه بأن تطيعوه فيُثيبكم {إِذْ} في الوقت الذي {قُلْتُمْ سَمِعْنَاوَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ} فلا تخالفوا الميثاق ف- {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بنواياكم في الوفاء أو النقض، و«ذات» بمعنى صاحبة والمراد بها القلوب والنوايا.

بحوث

الأول: حيث كان الكلام في الوفاء بالعهود وقد ذكر اللّه تعالى بعض مصاديق عهوده التي يجب الوفاء بها، ذكر في هذه الآية عهداً آخر من عهوده في عبادته فذكر تفصيلاً في الطهارة للصلاة عبر الوضوء والغسل والتيمم، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى حيث ذكر الطهارة في المأكل والمنكح بذكر الطيبات والخبائث، أتمَّ ذلك بذكر طهارة الجسم والروح من القذارات المادية والمعنوية والتي تحصل بالحدث الأصغر والأكبر وذلك بالتطهر بالماء أو التراب.

ومن جهة ثالثة: حيث ذكر الطيبات الجسمانية، انتقل إلى ذكر الطيبات الروحية والتي من أهمها الصلاة ومقدماتها، ثم في نهايه الآية يبيّن أن الالتزام بذلك سهل لا حرج فيه وهو في صالحكم من كل الجهات، إذ هو تطّهر ونعمة فهو خير لكم تكويناً وتشريعاً.

ص: 50

كيفية الوضوء

الثاني: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ...} الآية.

تتضمن الآية بيان إحدى أهم مقدمات الصلاة وشرائطها وهي الطهارة، إذ إن الصلاة عمود الدين وهي وقوف بمحضر الرب تبارك وتعالى، فكانلا بدَّ من اجتماع الطهارة المادية والمعنوية لتكون للنفس قابلية العروج إلى قرب اللّه تعالى ومرضاته، وحيث إن الحدث أصغر وأكبر، والماء قد يوجد وقد لا يوجد فذكر اللّه تعالى حكم جميع هذه الحالات، فلرفع الحدث الأصغر لا بد من الوضوء، ولرفع الحدث الأكبر لا بد من الغسل هذان مع وجود الماء، وأما مع فقدانه فالتيمم بالتراب بدلاً عن الوضوء والغسل.

وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ} أي أردتم القيام إليها، فإنه يكثر استعمال الفعل بمعنى الإرادة وكذا العكس، ولعلّ النكتة في ذلك هو بيان شدة العزيمة بحيث يتحقق الفعل بمجرد إرادته من غير تردد أو تسويف، أو لجهة عدم انفكاك العمل الاختياري عن قصده فكأن العمل وقصده شيء واحد.

وفي بعض الروايات بيان أن هذا القيام هو من النوم(1)

وهو لا ينافي ما ذكرناه من أنّ القيام إلى الصلاة هو إرادتها؛ لأن الروايات ذكرت الشروع وهو القيام من النوم وقوله: {إِلَى الصَّلَوٰةِ} ذكر المنتهى والغاية التي هي الصلاة فيكون حاصل الآية والروايات: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة... .

وقوله {فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} (الغَسل) هو إجراء الماء على الشيء، و(الوجه) معروف وهو في الرأس ما يقابل به الإنسان غيره، وحدّه من

ص: 51


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 336 عن تهذيب الأحكام 1: 7؛ وتفسير العياشي 1: 297.

قصاص الشعر إلى الذقن طولاً، وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضاً، فليست الآذان وما استرسل من اللحية من الوجه، وأما شعر الحاجب والشارب والمقدار المتعارف من اللحية فهو داخل في الوجه، فيجب غسل ظاهرها، ولا يلزم تخليل الماء إلى البشرة إن كان الشعر كثاً، إذ بغسلهايصدق غسل الوجه، وحيث لم يحدّد اللّه تعالى الوجه لذلك يجب غسله كلّه ولا يكفي غسل بعض الوجه، وهذا هو الاستعمال المتعارف والمتبادر.

وقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي واغسلوها، وحيث إن اليد تطلق على ما دون المنكب وما دون المرفق وما دون الزند وما دون مفاصل الأصابع لذلك كان لا بد من تحديد المقدار اللازم غسله فقال: {إِلَى الْمَرَافِقِ} فالتحديد لليد وهو المغسول، وليس تحديداً للغسل حتى يكون نهاية الغسل إلى المرفق، كي يستفاد منه لزوم الابتداء من الأصابع والانتهاء إلى المرفق، وفي التقريب: «فإن الغسل يستثنى منه غسل العضد، ولذا لا يستفاد من {إِلَى} هذه كونها غاية للغَسل، بل المستفاد كونها غاية للمغسول، فإنك لو قلت لمصاب بالمرض: (ادهن رجلك إلى الركبة) لم يستفد منه عرفاً لزوم كون التدهين من الإصبع إلى الركبة، بل استفيد كون الفخذ خارجاً من التدهين»(1)، وعليه فالآية تدلّ على المقدار المغسول، وأما وجوب الابتداء من الأعلى فلأنّ الكلام مُلقى إلى العرف وهو حسب الطبيعة - لو خُلّي عن عادته ومذهبه - يغسل من الأعلى إلى الأسفل، فلو كان شخص يده قذره فأمره والده بأن يغسلها فلا تجده يغسل منكوساً بل

ص: 52


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 610.

يبدأ من الأعلى إلى الأسفل، هذا مضافاً إلى ما دلّت عليه السنة الصحيحة عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) (1).

وقوله: {وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ} المسح هو إمرار اليد على الشيء، وقددلت السنة على لزوم كونها مبلّلة بماء الوضوء من دون جريان الماء على الرأس فذلك غسل وليس بمسح، والباء في {بِرُءُوسِكُمْ} للتبعيض فلا يجب مسح كل الرأس بل بعضها فيكفي مُسمّى المسح، وقد دلت السنة على لزوم كونه في الناصية أي الربع المقدّم من الرأس، ولا يكفي مجرد وضع اليد على الرأس فإنه ليس بمسح، بل لا بد من إمراره قليلاً ليصدق المسح.

وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} عطف على رؤوسكم، أي وامسحوا أرجلكم والقراءة الصحيحة هي بفتح اللام في {أَرْجُلَكُمْ} وهو عطف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} لأنه مفعول للمسح، وإنما لم يعطفه على اللفظ لاستلزامه تكرار التبعيض، حيث إن الباء تدل على التبعيض، وقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أيضاً تحديد يدل على التبعيض فاستغني عن الباء وذلك لدلالة التحديد على التبعيض ولذا تم العطف على المحلّ، وأما ما رُوي من أن القراءة على الخفض(2)

- أي كسر أرجلكم - فهو إما بيان للمعنى أو للاحتجاج على العامة بهذه القراءة، وإلاّ فقد مرّ أن القراءة الصحيحة واحدة، وهي المشتهرة بين المسلمين قديماً وحديثاً وعليها رواية حفص عن عاصم، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «القرآن واحد نزل من عند الواحد ولكن

ص: 53


1- راجع وسائل الشيعة 1: 388 فما بعد.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 336؛ عن تهذيب الأحكام 1: 71.

الاختلاف يجيء من قبل الرواة»(1).

وأما ما تقوله العامة من عطف {أَرْجُلَكُمْ} على {وُجُوهَكُمْ} حتى يكون المعنى (وأغسلوا أرجلكم) فهو يستلزم ركاكة الكلام وعدم فصاحته، بل لوكان الواجب غسل الر ِجل للزم تكرار اغسلوا في اللفظ، ولذا اضطر بعضهم كالزمخشري(2) إلى تأويل المسح بما يشمل الغسل أيضاً! فأفسد اللفظ والمعنى، كما أن بعضهم اضطر أن يعترف بدلالة الآية على مسح الرجل إلا أنه ادّعى نسخها بالسنة! وهو كلام باطل، إذ لا ينسخ الكتاب بالسنة، لقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٖ مِّنْهَا}(3)، وليست السنة خيراً من الكتاب، مضافاً إلى أن سورة المائدة لم ينسخ منها شيء كما مرّ.

وقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الكعب هو قبة القدم، أي العظم المرتفع في ظاهر القدم، وهذا التحديد كتحديد اليد بقوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ}، لأن الر ِجل أيضاً تطلق على القدم وعلى ما دون الركبة وعلى ما يشتمل على الفخذ، وحيث كان الحكم المسح على ظاهر القدم فقط فلذا حدّده بقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ}. وأما التثنية في قوله: {الْكَعْبَيْنِ} دون الجمع كما في {الْمَرَافِقِ} فلعلّه لأجل أن لا يتوهم أن الكعب هو نهاية عظم الساق حيث عظمتان ناتئتان في طرف كل رِجل، فيكون لكل إنسان أربعة كعاب، فبقوله: {الْكَعْبَيْنِ} علمنا أن في كل رِجل كعب واحد فيكون هو قبة القدم كما ذكرنا، هكذا قيل.

ص: 54


1- الكافي 2: 630.
2- راجع الكشّاف 1: 597.
3- سورة البقرة، الآية: 106.

الوضوء في سورة النساء والمائدة

وقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} بيان للحالة الثانية وهي حالة الجنابة مع وجدان الماء فالواجب هو التطهر بالماء بقرينة التقابل مع قوله: {أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} وأيضاً لدلالة آية سورة النساء حيث قال:{وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ}(1)، و(الجنب) أصله بمعنى البعد على ما قيل؛ لأنه يبتعد عن الصلاة وعمّا يشترط فيه الطهارة، أو للبعد عن الطهارة فهو قذارة معنوية.

ويستفاد من الآية عدم لزوم الوضوء مع غسل الجنابة؛ لأن المعنى إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم جنباً فاطهروا وكذلك قوله في سورة النساء {حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ}.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم...} الآية.

قد مرّ توضيحها في سورة النساء الآية 43 فراجع، ولا تكرار بين الآيتين لاختلاف الغرض فيهما وإن كان اللفظ والحكم واحداً، ففي سورة النساء {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}(2).

فأما الفرق بين الآيتين فإن...

ص: 55


1- سورة النساء، الآية: 43.
2- سورة النساء، الآية: 43.

1- آية النساء ذكرت الجانب السلبي {لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ} لذا جعلت لعدم الاقتراب غاية، وأما آية المائدة ففي الجانب الإيجابي {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ} لذا لم يجعل غاية بل تفريع.

2- وإن آية النساء لم تذكر الوضوء أصلاً، بل ذكرت الغسل فقط، لكنفي التيمم أدخلت الحدث الأصغر عرضاً، وأما آية المائدة فعامة للوضوء والغسل فذكر التيمم لحالة الحدث الأصغر والأكبر بالأصالة لا بالعرض.

3- وفي آية النساء ذكر للجنابة الاغتسال، وفي آية المائدة ذكر التطهر.

4- وفي آية النساء المحور هو الصلاة وأهميتها لذلك نزهها عن السكر وعن الجنابة، وأما آية المائدة فالمحور تكليف المكلّف.

وحيث اتضح الفرق نقول: إن الغرض في الآيتين مختلف، فالغرض هو بيان أن التيمم كما هو نهاية النهي بعدم الاقتراب إلى الصلاة كما في سورة النساء، كذلك هو سبب طهارة العبد بحيث يؤهله للصلاة كما في سورة المائدة فاختلف الغرض، وباختلافه ينتفي التكرار؛ لأن مجرد التشابه ليس تكراراً إذا اختلف الغرض.

كما أنه في سورة المائدة تمّ التأكيد على الطهارة؛ لأن الغرض هو بيان تكليف المكلف فقال: {فَاطَّهَّرُواْ}، {لِيُطَهِّرَكُمْ} فناسب الآيتين كلمة {مِّنْهُ} لبيان أن الصعيد سبب الطهارة، أي فامسحوا مسحاً مبتدءاً وناشئاً عن الصعيد؛ لأن اللّه يريد أن يطهركم، وفي ذلك دلالة على أن الصعيد مطهّر عكس ما كان يتصوره بعض الناس، وعليه فكلمة {مِّنْهُ} وإن لم تزد شيئاً في الحكم الفقهي، إلاّ أنه جيء بها لبيان كون الصعيد طهوراً، وذلك

ص: 56

يناسب سياق آية المائدة دون آية النساء، فتأمل، واللّه العالم بحقائق كتابه.

علة الطهارات الثلاث

الرابع: قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٖ...} الآية.

تعليل لتشريع الطهارات الثلاث وهو الطهارة وإتمام النعمة، ثم بيان الغرض الأقصى وهو الشكر.إذ إن الحكمة تقتضي أن لا يكون هناك حكم إلاّ بغرض صحيح تارة في متعلّق الحكم، بأن يكون في الشيء مصلحة ملزمة فيجب، أو مفسدة ملزمة فيحرم، وتارة في الحكم نفسه كما في الأوامر الامتحانية، حيث إن المصلحة في امتحان العبد عبر تكليفه بشيء - ابتلاءً أو تمحيصاً أو تمييزاً - لينظر كيف يعمل.

والطهارات الثلاث تطهير للإنسان من القذارة المادية؛ لأنه بالوضوء والغسل يحصل التنظيف، كما أن التراب النظيف معقّم وقاتل للجراثيم، وكذلك تطهره من القذارة المعنوية، وهي الحدث الذي يحصل بأسبابه المعروفة المذكورة في الفقه، ولذا كانت الطهارات نوراً وتوجب طهارة باطن الإنسان مما يجعله قابلاً للتقرب إلى اللّه تعالى، وهذه إرادة تشريعيّة.

كما أنها من تشريعاته تعالى وكلها نعمة من اللّه تعالى للناس؛ لأنها تنظم حياتهم وتقرّبهم إلى الفضائل وإلى الجنة وتبعدّهم عن الرذائل وعن النار، فكل تشريع نعمة وكان تمام النعمة بتشريع يرتبط بأعظم الطاعات والعبادات ألا وهي الصلاة ومقدماتها، وإتمام النعمة أمر تكويني كسائر النعم التكوينية لكن يمكن للإنسان أن يكفر بالنعمة تكويناً بعدم شكرها كما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ

ص: 57

الْبَوَارِ}(1).

وإنما أراد اللّه هذين الأمرين - التطهير وإتمام النعمة - للغرض الأقصىوهو شكر الناس ليستحقوا بذلك الرحمة الخاصة التي خلقهم لأجلها، حيث قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(2).

وقوله: {مِّنْ حَرَجٖ} الحرج هو أشد الضيق، وأصل معناه الضيق في النفس وقد شاع استعماله في العسر والضرر البدني أيضاً، والحرج قسمان:

فقد يكون في ملاك الحكم بأن يكون تشريع الحكم موجباً للحرج، ففي هذه الحالة لا يشرّع اللّه هذا الحكم كقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(3)، فأصل تشريع الحكم فيه المشقة لذلك لم يصدر إلزام به، وقد لا يكون في تشريع الحكم حرج إلاّ أنه قد يبتلى بعض المكلفين بالحرج لبعض الأسباب الخاصة فهنا يتمّ تشريع الحكم لكن مِنّة على العباد يرتفع الحكم عن كل من كان عليه حرج فقط كتشريع الصوم لوجود مصلحة في التشريع من غير كون التشريع حرجياً، إلاّ أنه أحياناً يبتلى بعض الناس بالحرج أو الضرر فيرتفع الحكم عنهم مِنّةً.

ولا حرج في ملاك الوضوء أو الغسل لذا شرّعها اللّه تعالى، إلاّ أنه أحياناً يكون التكليف بهما حرجياً أو ضررياً كما لو لم يجد الماء أو كان في استعماله الضرر فحينئذٍ شرّع اللّه البدل وهو التيمم، فهو حكم واقعي لكنه

ص: 58


1- سورة إبراهيم، الآية: 28.
2- سورة هود، الآية: 119.
3- الكافي 3: 22.

ثانوي حين عدم وجدان الماء.

وقوله: {وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يدل على أن أصل التطهر لا حرج فيه لذلك أراده اللّه لعباده حيث إن فيه المصلحة لهم.

الخامس: قوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَٰقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ...} الآية.

لمّا بيّن في الآية السابقة أن الغرض الأقصى هو شكرهم فقال: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} حثّهم في هذه الآية على شكر النعمة عبر تذكيرهم بميثاقهم وتحذيرهم عن نقضه.

وقوله: {وَاذْكُرُواْ} بالشكر والعمل، فإن الإنسان إذا غمره اللّه بالنعمة وطال عليه الأمد نسي فضل اللّه عليه، فكان لا بد من تذكيره باستمرار.

وقوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} الظاهر أن المراد النعمة بهدايتهم إلى الإسلام وهي أعظم النعم عليهم.

وقوله: {وَمِيثَٰقَهُ} أي عهده الأكيد عليهم بالعمل بالأوامر والانزجار عن النواهي.

وقوله: {الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ} تذكير لهم بأنهم قبلوا الميثاق، فإن مواثيق اللّه يجب العمل بها سواء رضوا أم كرهوا، إلاّ أنه مع رضاهم ومعاهدتهم يكون وجوب الالتزام بها أشد ومخالفتهم أسوء، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) «المراد بالميثاق ما بيّن حجة الوداع من تحريم المحرمات وكيفية الطهارة وفرض الولاية»(1).

ص: 59


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 346؛ عن مجمع البيان.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} تحذير من نقض الميثاق، وحتى التبييت والنية في ذلك، إذ إنه تعالى {عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي القلوب لأن الصدور صاحبة القلوب، أو النوايا التي تستولي على قلوب الناس، وفي تفسير القمي: «لمّاأخذ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الميثاق عليهم بالولاية، قالوا: سمعنا وأطعنا، ثم نقضوا ميثاقهم»(1).

ص: 60


1- تفسير القمي 1: 163.

الآيات 8-11

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ 8 وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ 9 وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ 10 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 11}

8- بعد ذكر بعض عهود اللّه تعالى في الفروع والأصول يذكر عهداً آخر من أهم عهود اللّه تعالى وهو العدل فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ} مبالغة في القيام أي كونوا دائمي القيام {لِلَّهِ} لأجله تعالى وابتغاء مرضاته، حال كونكم {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} تشهدون بالعدل، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملكم {شَنََٔانُ} شدة بغض {قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ} تتركوا العدل بالنسبة إليهم فتعتدوا عليهم بما لا يجوز، بل {اعْدِلُواْ} فيهم، إذ {هُوَ} العدل {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} أي مخافة اللّه، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في سائر أموركم بالتزام طاعته وترك معصيته، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم عليه.

9- ومن جزائه أنه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} ويلازمه

ص: 61

ترك السيئات {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} من ذنوبهم {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} على طاعاتهم، وهو حتماً سيفي بوعده.

10- {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا وبراهيننا الواضحة {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ} ملازمون لها خالدون فيها.

11- ثم يحثّهم اللّه على الطاعة والوفاء بالعهد بتذكيرهم بنعمة عظيمة من نعمه فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ} ذكراً يستتبع عملاً {نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ} في الوقت الذي {هَمَّ} قصد {قَوْمٌ} الكفار {أَن يَبْسُطُواْ} يمدّوا {إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالفتك بكم {فَكَفَّ} منع {أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} فردّ ضررهم، بل نصركم عليهم، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} احذروا مخالفته {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي يكلوا أمورهم إليه، بأن يعملوا بتكليفهم ويعتمدوا على اللّه في أمورهم، وبذلك ينصرهم ويدفع الشرور عنهم.

بحوث

الأول: هذه الآيات تذكر عهداً آخر من عهود اللّه تعالى، وتحث على الوفاء به، ألا وهو العدل والذي من أصعب مصاديقه مراعاة العدل مع الأعداء وعدم تجاوز حدود اللّه تعالى فيهم، إذ من طبيعة الإنسان تجاوز الحدود مع أعدائه بالانتقام والتشفّي منهم، ثم يكمل اللّه تعالى ذكر هذه العهود بوعده المغفرة والجنة لمن التزم بها، ووعيده النار لمن خالف، مع تذكيره بنعمة اللّه عليهم، حيث ردّ كيد أعدائهم إلى نحورهم.

فيكون حاصل الآيات من أول السورة أنه تعالى يأمر المؤمنين بالوفاء بالعهود ثم يذكر عهوده في المأكل والمنكح، وعهوده في عبادته في الحج

ص: 62

والصلاة، وعهده في الولاية، ثم في هذه الآيات عهده في مراعاة العدل مع الناس وفي جميع الشؤون، ثم يبيّن أن العهد من الطرفين، ولذا وعدهمالثواب على الالتزام بعهوده كما حذّرهم من مغبّة المخالفة، وبيّن أنه قد أنعم عليهم بكفّ أعدائهم عنهم ليكون ذلك أدعى لوفائهم بعهوده سبحانه وتعالى.

الثاني: قوله تعالى: {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}.

بيان لعهده في مراعاة العدل مع الناس بأن لا تكون عداوتهم سبباً لتجنب مراعاة العدل معهم وعدم إعطائهم حقوقهم، وهذا كالتتمة لما مرّ في الآية الثانية حيث قال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْۘ} فهناك نهي عن الاعتداء عليهم، وهنا أمر بملازمة العدل مع الأعداء، وهذه الآية تشبه قوله تعالى في سورة النساء: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ} إلى قوله: {فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ}(1) ففي تلك الآية حذّر اللّه من ترك العدل لحبّ النفس والأقرباء، وفي هذه الآية حذّر من تركه لبغض الأعداء، فإن العدل مطلوب مطلقاً والظلم مذموم دائماً، والقيام للّه هو دائماً بالقسط، كما أن الشهادة للّه هي دائماً بالقسط، إلاّ أنه في هذه الآية لما كان الغرض الوفاء بعهد اللّه تعالى ومتعلقهُ شهادة العدل لذلك قال: {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}، وأما في آية النساء فحيث كان محور الكلام مراعاة العدل لذلك قال: {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}، فتأمل.

ص: 63


1- سورة النساء، الآية: 135.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ...} الآية.

قد مرّ شبيه هذه الآية في الآية الثانية، وكان الكلام هناك في عهده تعالى في الحج، وكان سبب البغض هو صدهم عن المسجد الحرام فنبّه اللّه تعالى المؤمنين على أن جريمة الكفار بصدكم عن المسجد الحرام لا تكون مبرّراً للتعدي عليهم، وفي هذه الآية الكلام عام حول العدل وسبب البغض غير منحصر في أمر معين، فالمعنى أن أيّ عداوة يجب أن لا تمنع عن العدل و(يَجرم) يتعدى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه وتارة بحرف الجر، ولذا في الآية الثانية عدّاه بنفسه وفي هذه الآية عدّاه بحرف الجر (على).

وقوله: {اعْدِلُواْ} تأكيد لتحذيره من عدم العدل عبر الأمر بالعدل، ولعلّه لبيان أنه لا يكفي ترك الظلم فقط بل لا بد من ضمّ العمل بالعدل إليه أيضاً.

وقوله: {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} أفعل التفضيل هنا منسلخ عن معنى التفضيل والمقصود منه أن مراعاة العدل تقربكم إلى تقوى اللّه تعالى، أو يقال: إن التقوى مجموعة التزامات والعدل من أهم تلك الالتزامات فكل التزام يقرب الإنسان إلى التقوى، والعدل أكثر الأعمال تقريباً إليها من سائر الطاعات، ولذا أكمل الكلام بقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي في سائر أحكامه فكون العدل أقرب لا يعني ترك سائر الطاعات.

وقوله: {خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ} كالتمهيد للآيتين اللاحقتين حيث الوعد والوعيد، فالمعنى إنه يعلم بأعمالكم فيجازيكم عليها.

الرابع: قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...}

ص: 64

الآيتين.

الإيمان قلبي بالاعتقاد بأصول الدين، والعمل الصالح جوارحي بالعملبالفروع، ويلازمه ترك السيئات؛ لأن العامل بها غير عامل بالصالحات، وحيث إن عهود اللّه - والتي ذكرت الآيات الماضية بعضها - كانت في الأصول وفي الفروع لذا بيّن تعالى أن هذه العهود من الطرفين فأنتم تلتزمون بالطاعات وفي المقابل يغفر اللّه لكم ويرزقكم الجنة، وأما إذا نقضتم العهد فتستحقون العقاب، ويكون نقض العهد بالكفر - سواء بالكفر الاعتقادي أو بكفران النعمة بالعصيان - وبالتكذيب لآيات اللّه تعالى، قيل ضمّ التكذيب إلى الكفر لإخراج المستضعفين الذين كفرهم ليس عن تكذيب، بل عن قصور حيث لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك أمرهم إلى اللّه تعالى فعسى أن يعفو عنهم إن نجحوا في امتحان الآخر أو يعذّبهم إن سقطوا فيه، وقد مرّ تفصيله، وقيل: التكذيب بالآيات معناه الجحود عن علم وعمد؛ لأن الآيات دلائل واضحة دليلها معها فمن شاهدها يعلم بصدقها فلا موجب للتكذيب إلاّ العناد، والمعاند لا يستحق إلاّ الخلود في النار.

وقوله: {أَصْحَٰبُ} بمعنى الملازمين، وهو يفيد معنى الخلود.

وقوله: {الْجَحِيمِ} من الجُحمة وهي شدة تأجح النار، وتستعمل في شدة الغضب وشدة الحرب، يقال: جحم وجهه من شدة الغضب، ويقال: جحمت الحرب أي مركز شدتها، واستعملها القرآن في نار جهنم لشدة حرارتها وسعيرها(1).

ص: 65


1- راجع مفردات الراغب: 187؛ ومفردات الراغب مع ملاحظة العاملي: 202.

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ...} الآية.

بيان لجانب من وفاء اللّه تعالى بعهده حيث وعدهم النصر والتأييد، وفي ذلك تأكيد لهم وحث على وفائهم بعهود اللّه تعالى بالطاعة وترك المعصية لينالوا المزيد، ويحتمل أن يكون الغرض بيان أن وعده لهم بالمغفرة والأجر العظيم لا خلف فيه؛ لأنه سبحانه يبتدؤهم بالنعم من غير استحقاق ومن دون وعد، فكيف إذا وعد فهو أحق بالتنفيذ والوفاء؛ لأنه سبحانه لا يخلف الميعاد.

وقوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} قيل: الآية عامة تشمل جميع الحروب والمؤامرات التي شنّها المشركون والكفار ضد المسلمين، وما ذكره المفسرون هنا لعلّه بيان لبعض المصاديق أو لشأن النزول حسب زعمهم.

ويحتمل أن يكون المقصود ما حصل في صلح الحديبيّة - كما في تفسير القمي(1) - لأن قوله: {قَوْمٌ} ظاهره أنهم أناس بعينهم، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}(2).

وقوله: {أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} (البسط) هو المدّ، وبسط الأيدي بالأذية والقتال، وبسط الألسن بالسب ونحوه قال تعالى: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ

ص: 66


1- تفسير القمي 1: 163.
2- سورة الفتح، الآية: 24.

تَكْفُرُونَ}(1).

وقوله: {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ} أي منعها اللّه تعالى عنكم تارة بالطرق الغيبيّةكإرسال الملائكة في بدر وإرسال جنود لم تروها في الأحزاب، وإلقاء الرعب في قلوبهم وغير ذلك. وأخرى بالطرق الطبيعية عبر شدّ عزيمتكم بالقتال وعبر حُسن تخطيط الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في الحرب وفي السِلم ونحو ذلك.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي حيث علمتم بفضله عليكم بكف أيدي أعدائكم فاتقوه بترك عصيانه وبطاعته.

وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوكل) هو الاعتماد على اللّه تعالى في الأمور، وفي المقاييس: «هو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك»(2)، ومعناه أن يعمل الإنسان بتكليفه ويلتجئ إلى اللّه تعالى فيما هو خارج عن قدرته، قيل: التوكل يشمل الأمور التشريعيّة والتكوينية جميعاً، أو ما يختص بالتشريعات، بمعنى أن اللّه يأمر المؤمنين بأن يطيعوا اللّه ورسوله في أحكامه الدينية وما آتاهم به وبيّنه لهم رسوله، ويكلوا أمر الدين والقوانين الإلهية إلى ربّهم ويكفّوا عن الاستقلال بأنفسهم، كذلك يأمرهم أن يطيعوه فيما سن لهم من الأسباب والمسببات فيجروا على هذه السنة من غير اعتماد عليها وإعطاء استقلال لها، ومن ثَمّ ينتظرون ما يريده اللّه ويختاره لهم من النتائج بتدبيره ومشيئته(3).

ص: 67


1- سورة الممتحنة، الآية: 2.
2- مقاييس اللغة: 1063.
3- انظر: الميزان في تفسير القرآن 5: 344.

الآيات 12-14

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ 12 فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٖ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 13 وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ 14}

12- ثم يذكر اللّه تعالى أمثلة من العهود التي أخذها من الأمم السابقة وعاقبة نقضهم لها تحذيراً للمؤمنين فقال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} عهدهم الأكيد، {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ} أمّرنا عليهم {اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} كفيلاً، لكل سبط كفيل ليراقبهم على عهودهم، {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أي عالم بأعمالكم ونواياكم في الوفاء أو النقض:

أما مع الوفاء بالمواثيق: ففي الفروع {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوٰةَ} وهما أهم فروع الدين، {وَ} في الأصول ف-{ءَامَنتُم بِرُسُلِي} الذين يأتون

ص: 68

من بعد كعيسى (عليه السلام) ورسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} بالتعظيم والتوقير أو بمنع الأعداء عنهم {وَ} كذا ترك شح النفوس بأن {أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ} أي أنفقتم في سبيل اللّه {قَرْضًا حَسَنًا} لا مَنّ ولا أذى ولارياء فيه، وإنما ذكره بالخصوص؛ لأن أهم سبب لانحرافاتهم هو بخلهم وحبهم للمال، فإن التزمتم بهذه المواثيق {لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ} بمحوها {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}.

وأما مع نقض المواثيق: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ} بعد أخذ الميثاق {مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي الطريق السويّ وهو الصراط المستقيم، فيكون مصيره يوم القيامة إلى النار.

13- لكن نقض أكثرهم الميثاق فعاقبهم اللّه تعالى {فَبِمَا} أي بسبب {نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ} فلم يعملوا به وذلك بترك الصلاة والزكاة وعدم الإيمان بالرسل وعدم نصرهم {لَعَنَّٰهُمْ} طردناهم من رحمتنا، بالمسخ وبالتشتيت في الأرض وبالذلة والمسكنة وغير ذلك، {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً} أي قطعنا ألطافنا عنهم فلم نهدهم حتى قست قلوبهم فلا تخشع لذكر اللّه ولا تقبل الحق، ومن مصاديق قساوة قلوبهم: أنهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} كلمات اللّه في التوراة وغيرها {عَن مَّوَاضِعِهِ} عن أماكنها التي جعلها اللّه فيه، مع أنه كان في تلك الكلمات هدايتهم فأبدلوها بما فيه ضلالهم، {وَ} نتيجة ذلك أنهم {نَسُواْ حَظًّا} نصيباً وافراً {مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} مما أنزله اللّه عليهم ليكون تذكرة لهم إذ بالتحريف تُهمل الحقائق وتترك حتى تُنسى، {وَ} هذه الحالة مستمرة فيهم ف-{لَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٖ مِّنْهُمْ} أي نفس خائنة

ص: 69

حيث كانوا يهمّون بنقض عهودهم من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) {إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} ما داموا في عهدك، والعفو هو عدم المؤاخذة، والصفح هو الإعراض، فذلك إحسان و{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

14- {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ} كاليهود بالصلاةوالزكاة والإيمان بالرسل {فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} تركوا العمل بالإنجيل وحرّفوه حتى نسوه {فَ-} عاقبناهم بأن {أَغْرَيْنَا} ألزمنا وحرّضنا {بَيْنَهُمُ} بين النصارى {الْعَدَاوَةَ} في الأفعال {وَالْبَغْضَاءَ} في القلوب {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي ماداموا موجودين وهم على نصرانيتهم، ثم يشير اللّه إلى مصيرهم في الآخرة فيقول: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ} يخبرهم للمجازاة {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} من الكفر والمعاصي.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أن اللّه تعالى بعد أن ذكر جملة من مواثيقه مع المسلمين ووعده الجنة لمن وفى والنار لمن نقض، أتبع ذلك بذكر مثالين من الأمم السابقة من الذين نقضوا عهود اللّه تعالى وبيان الضرر الدنيوي الذي ابتلوا به نتيجة ذلك النقض، حثاً للمؤمنين على الوفاء بالعهد.

والعاقبة التي يشاهدها الإنسان أوقع في نفسه من بيان عاقبة غائبة عن حواسه، فلذا تم التركيز في هذه الآيات بما يراه المسلمون من مصير أهل الكتاب المناقضين للعهد.

الثاني: قول-ه تعال-ى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ...} الآية.

ص: 70

في البداية يتم ذكر الميثاق إجمالاً، ويذكر أن اللّه أكّد الميثاق بأن جعل نقباء يراقبون أعمالهم، ثم ذكر أهم تلك المواثيق، ووعد اللّه لهم إن وفوا بها، ووعيده إن نقضوا، ثم في الآية التاليه يتم بيان أنهم نقضوها عملاً مع بيان عاقبة أمرهم.

وقوله: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ} بيان أن اللّه تعالى هو الذي اختار النقباء، وأنهم كانوا منهم ليكون أدعى للوفاء.

وقوله: {نَقِيبًا} أي كفيلاً، وأصله من «النقب» وهو الكشف أو الثقب في الأرض أو الجدار، فكأنّ النقيب يكشف عن ضمائرهم ليسير بهم بالسيرة المحمودة، وكان نقباء بني إسرائيل من خيارهم لكل سبط من أسباطهم الاثني عشر نقيباً، لا ما قاله بعض المفسرين من أن أكثر أولئك النقباء خالفوا أمر موسى (عليه السلام) ! فإن هذا لا ينسجم مع سياق الآية؛ لأن الآية في مقام بيان توكيد الميثاق لئلا يبقى لهم عذر في نقضه فكان لا بد من كون النقباء الذين يراقبونهم في أعمالهم من أخيارهم، وفي بعض الأحاديث تشبيه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بنقباء بني إسرائيل، فكما جعل اللّه تعالى نقباء في بني إسرائيل يحفظون المواثيق ويحثونهم على الالتزام بها ويبيّنون الحق كذلك جعل في هذه الأمة الأئمة (عليهم السلام) حفظة للدين(1).

وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} الظاهر أن المعيّة هنا بمعنى العلم والاطلاع كما في قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ}(2)، وقال:

ص: 71


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 517.
2- سورة النساء، الآية: 108.

{وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ}(1)،وذلك لأن الآية فرّعت على هذه المعية الوعد والوعيد حيث قال: {لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ...} وقوله: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ...}.ويحتمل أن تكون المعيّة معية نصرة كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}(2) فترتبط بالشق الأول، أي الوعد، فيكون الغرض حينئذٍ الحث والتحريض على الوفاء بأن يقال لهم: إن اللّه ناصركم إن وفيتم بالميثاق.

وقوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوٰةَ} لعلّه لم يذكر عهوده بأصول الدين؛ لأنهم كانوا قد أقرّوا بها، وإنما كان اللازم عليهم الالتزام العملي، فذكر أهم عبادة في تطهير النفس وهي الصلاة، ثم أهم عبادة في تطهير المال وهي الزكاة، وهذا ما كان محل ابتلائهم حين أخذ الميثاق، وأما الإيمان بالرسل فكان تكليفهم اللاحق حين بعثهم فتم مراعاة الترتيب الزماني في المواثيق - هكذا قيل - ، أو نقول: إنه كما ذكر في صدر الآية المواثيق مع المسلمين في بعض الفروع ثم عقبها بالميثاق بالولاية كذلك بالنسبة إلى ميثاق بني إسرائيل.

وقوله: {ءَامَنتُم بِرُسُلِي} أي صدقتموهم أو اعتقدتم بهم، والظاهر أن المراد الرسل اللاحقين كعيسى (عليه السلام) والنبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ويمكن أن يكون ميثاقاً عاماً بالإيمان بجميع الرسل حتى موسى وهارون‘، والأول أقرب.

ص: 72


1- سورة المجادلة، الآية: 7.
2- سورة النحل، الآية: 128.

قوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} التعزير هو التعظيم والاحترام، وقد يكون بمعنى التأديب كتعزير العصاة عقوبة لهم، ولعلّه يرجع إلى تعظيم الدين وأحكامه عبر عقوبة من انتهكها، وليس معناه النصرة للعطف في قوله تعالى: {فَالَّذِينَءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ}(1)، نعم التعظيم والتوقير يلازم النصرة عادة، وقيل: هو بمعنى المنع فتعزير الرسل هو منع الناس من أذاهم وتعزير العصاة منع لهم ولغيرهم من ارتكاب المعاصي.

وقوله: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي أنفقتم في سبيل اللّه، وإنما سمّاه قرضاً لأن اللّه تعالى يُرجعه بالثواب الجزيل، وكونه حسناً بأن يكون خالياً عن المنّ والأذى والرياء ونحو ذلك من مبطلات الصدقة، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}(2).

ولا يخفى أن الصدقة مستحبة، فذكرها في مواثيقهم لأجل بيان وعده لثوابها، فإن المواثيق قد تكون في الواجبات والمحرمات فيكون للوفاء بها الثواب وفي مخالفتها العقاب، وقد تكون في المستحبات فتكون في الثواب فقط، ويحتمل وجوب القرض الحسن في شريعتهم.

ولعل ذكر القرض الحسن من دون سائر الأحكام لوجود حالة الشح في أنفسهم ولأن الكثير من المعاصي التي ارتكبوها كانت لأجل المال، والتعود على الإنفاق يزيل هذه الحالة، واللّه العالم.

ص: 73


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة البقرة، الآية: 264.

وقوله: {لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ} التكفير هو التغطية والمراد محوها، وإنما قدّمها على دخول الجنة؛ لأنه لا بد من قابلية الإنسان للجنة، ولا يكون مؤهلاً لها إلاّ بعد تصفيته من كل القبائح والقذارات.

وقوله: {بَعْدَ ذَٰلِكَ} أي بعد الميثاق، والكفر قبله وإن كان ضلالاً إلاّ أن الكفر بعد الميثاق إنما هو عن عناد وإصرار فيكون أقبح وأشد عقوبة، وأما الكفر قبل الميثاق فلعلّه لا يمنع النفس عن قبول الإيمان وقد يكون عن قصور أو شبهه وفي مثله يرجى الرجوع إلى طريق الهداية.

وقوله: {سَوَاءَ السَّبِيلِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الطريق السوي الذي هو الصراط المستقيم، قال اللّه تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}(1)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة عليها باقي الكتاب وآثار النبوة ومنها منفذ السنة وإليها مصير العاقبة»(2).

الثالث: قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً...} الآية.

بعد ذكر الميثاق والوعد والوعيد عليه، ذكر أنهم نقضوا الميثاق فعاقبهم اللّه بعقوبات مختلفة ذكرت الآية بعضها، ثم بيان أن هذا النقض مستمر فيهم ولذا يتم بيان في كيفية التعامل معهم.

وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم} (الباء) سببيّة، و(ما) للتأكيد ولتقوية الكلام، أي

ص: 74


1- سورة الأنعام، الآية: 153.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 16.

وبسبب نقضهم.

وقوله: {مِّيثَٰقَهُمْ} هو ميثاق اللّه معهم؛ لأن الميثاق من الطرفين، ولعل إضافته إليهم لبيان شناعة عملهم؛ لأنهم وافقوا على الميثاق ثم نقضوه.وقوله: {لَعَنَّٰهُمْ} واللعن هو الطرد من الرحمة، وقطع الرحمة عنهم هي أساس كل شرّ ابتلوا به؛ لأن كل نقمة هي نتيجة عدم الرحمة، وكان اللعن بمسخهم قردة، وبإنزال العذاب عليهم، وبالذلة والمسكنة، وتقطيعهم في الأرض، وغير ذلك.

وقوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً} أي غير رقيقة، فلا تنفذ فيها المواعظ والإنذار ولا تخشع لذكر اللّه تعالى، والمعنى عاقبناهم بقطع ألطافنا عنهم مما سبّب عدم قبول قلوبهم للّهداية؛ لأن الهداية من اللّه لا يمنحها للمعاند، وهذا أمر غيبي كما أنه طبيعي؛ لأن الإنسان إذا عاند وخالف الحق تعوّد عليه وتطبّع به، ومن تعوّد على شيء استساغه حتى لو كان عقله وفطرته على خلافه فيصعب عليه تركه، ونتيجة قساوة القلب عدم الخشوع، قال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ}(1).

وقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} هذا من مصاديق قسوة القلب، والتحريف هو التبديل بالزيادة أو النقيصة تارة، وبالتأويل الباطل تارة أخرى، و{الْكَلِمَ} هو كلام اللّه تعالى، والمقصود التوراة التي أنزلها اللّه

ص: 75


1- سورة الحديد، الآية: 16.

تعالى على موسى نوراً وهدى، قال سبحانه: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَٰبَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}(1). وفي آية أخرى: {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}(2).

وقوله: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} هذا كالنتيجة للتحريف فإنهم لمّا حرّفوا تركوا الأحكام التي حرفوها ثم نسوها بطول الزمان، فالنسيان هنا يشمل كلا المعينين، أي تركوا حتى نسوا، و(الحظ) هو النصيب وتنكيره لتعظيمه، أي حظاً عظيماً، و{مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي من الأحكام والعقائد التي علمهم اللّه تعالى، و(من) في {مِّمَّا} للتبعيض لأنهم تركوا ما لا يوافق هواهم، وأما الأحكام التي فيها مصالحهم فتمسكوا بها لا لكونها أحكام اللّه تعالى، بل لأجل تأمينها للمصالح!

وقوله: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٖ مِّنْهُمْ} أي حالة نقض العهود حالة مستحكمة في نفوسهم ولذا استمرت مع أجيالهم، فلذا حرفوا التوراة في أوصاف رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقوله: {خَائِنَةٖ} الأظهر أنها وصف لنفوسهم أي نفس خائنة؛ لأن ذلك أنسب لقوله: {تَطَّلِعُ} لاشعاره بأمر مخفي، ولقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}، وأما الذين نقضوا العهد عملاً فلا معنى للعفو عنهم، بل تمّت معاقبتهم بالإجلاء تارة كبني النضير، قال اللّه تعالى: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا}(3)، وبالسبي

ص: 76


1- سورة الأنعام، الآية: 91.
2- سورة المائدة، الآية: 41.
3- سورة الحشر، الآية: 3.

والقتل أخرى كبني قريظة، قال تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}(1).

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ} الظاهر أنه استثناء من قوله: {خَائِنَةٖ مِّنْهُمْ} أيأكثرهم ذو نفوس خائنة يهمّون بنقض العهود إلاّ القليل الذين استسلموا لواقعهم ولم تحدّثهم أنفسهم بالخيانة.

وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} أي ما داموا على العهد فلا تعاقبهم بتحريفاتهم في الكتاب ولا بما يهمّون من الخيانة، ومن ذلك يتبيّن أن الآية ليست منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}(2)، إذ المعنى لا يقتضي النسخ، كما أن سورة المائدة لا منسوخ فيها كما مرّ، إلاّ لو أريد من النسخ التخصيص، وقد مرّ أن (العفو) هو عدم المؤاخذة، و(الصفح) هو الإعراض عنهم وأصله من صفحة الوجه كأنه يحوّلها عنهم بالإعراض.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} تعليل للعفو والصفح بأنه إحسان وإن اللّه سيجازي على الإحسان.

الرابع: قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ...} الآية.

مثال ثانٍ من نقض الأمم السابقة للعهود ومعاقبة اللّه لهم على ذلك.

وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ} قيل لم يقل (من النصارى) مع أنه أوجز؛ لأن النصارى مشتقة من النصرة حيث قال اللّه تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ

ص: 77


1- سورة الأحزاب، الآية: 26.
2- سورة التوبة، الآية: 5.

نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1)، فيقال للنصارى أنتم الذين تزعمون أنكم أنصار اللّه ولذا تسمّون أنفسكم بالنصارى فلماذا تنقضون عهد اللّه تعالى؟! فذلك أشنع.

وقد يقال: إن النصارى مشتقة من (الناصرة) مدينة في فلسطين، فلعل الوجه في التعبيرين هو أن كونهم من بني إسرائيل بالنسب فلا يحتاج إلى قولهم بأنهم من بني إسرائيل، وأما النصارى فلا يكون الرجل نصرانياً إلاّ باتباعه ذلك الدين فلا بد من تصريحه بأنه من النصارى، فتأمل.

وقوله: {أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ} لم يذكر تفاصيل ذلك الميثاق؛ لأنه كالميثاق من بني إسرائيل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة... الخ.

وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ...} الإغراء هو الإلزام والإلصاق، ويكون ذلك بالحثّ والتحريض عادة، فالمعنى عاقبناهم في الدنيا بأن ألقينا بينهم العداوة والبغضاء ماداموا على نصرانيتهم ونقضهم للعهد، وإلقاؤهما غيبي بقضاء اللّه ذلك، وطبيعي لأن من طبيعة أهل الباطل الاختلاف فيما بينهم؛ لأن المهمّ عندهم الدنيا ومصالحها وهي مفرِّقة بين الناس دائماً، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضَا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(2)، وعن بعض المفسرين المراد إغراء العداوة بين اليهود والنصارى! وهذا بعيد عن سياق الآية، و{الْعَدَاوَةَ} في العمل و{وَالْبَغْضَاءَ} في القلب.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي إنّ هذا التقدير مستمر ماداموا على

ص: 78


1- سورة آل عمران، الآية: 52.
2- سورة الأنعام، الآية: 129.

نصرانيتهم، فهو أثر لا يتغير بمرور الزمان.

وقوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ...} بيان موجر لعقوبتهم في الآخرة جرّاء نقضهم للميثاق، والإنباء هو الإخبار وذلك لأجل المحاسبة ومن ثَمّ العقاب بالنار.ومن ذلك يتم تحذير المسلمين من هذه العواقب إن نقضوا عهودهم مع اللّه تعالى، لذلك نجد من نقض العهد منهم ملعوناً قاسي القلب، ولئن لم يتمكن من تحريف ألفاظ الكتاب إلاّ أنه حرّف المعاني وحرّف في السنة وأورث العداوة بين المسلمين وما جرّته من ويلات عليهم، وبهذا يتضح جواب سؤال أن المسلمين أيضاً مبتلون بهذه الأمور فيقال: إنه نتيجة نقضهم عهود اللّه ورسوله إلاّ القليل منهم، وإليه يشير حديث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) «ستفرّق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة»(1).

ص: 79


1- بحار الأنوار 28: 13.

الآيات 15-19

اشارة

{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ 16 لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 17 وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ 18 يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٖ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 19}

15- لما بيّن اللّه تعالى نقض أهل الكتاب للميثاق، فتح الطريق أمامهم للتوبة والرجوع فقال: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ} عبر التحريف أو الكتمان فيُذكِّركم بحظكم الذي نسيتموه {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ} أي لا يُبيّنها

ص: 80

لكم لنسخها أو لأنه يكفي في الاحتجاج والدلالة بيان البعض، وكان هذا البيان في القرآن ف- {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ} هو الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ} يبيّن الحقائق وهو القرآن الكريم وبذلك سنحت لكم الفرصة للتوبة والوفاء بالمواثيق.

16- {يَهْدِي بِهِ} أي بكل واحد من النور والكتاب {اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ} بالإيمان فاللّه لا يكره الناس على الهداية، وإنما يهدي من أرادها، ويُضِلُّ من رفضها {سُبُلَ السَّلَٰمِ} مفعول يهدي، أي يهديهم اللّه إلى طرق السلامة في الدين والدنيا والآخرة {وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ} ظلمات الكفر والضلال والعصيان {إِلَى النُّورِ} نور الإيمان والعمل الصالح {بِإِذْنِهِ} أي بلطفه وإرادته وقدرته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} فكل سُبل السلام تصب في الصراط المستقيم الذي لا انحراف فيه.

17- وبعد الدعوة إلى اتباع رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه يهدى إلى الصراط المستقيم يتم بيان لزوم اتِّباعه؛ لأن عقائدهم باطلة خارجة عن الصراط المستقيم ومثّل مثالين، المثال الأول قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وهذا عقيدة بعضهم حيث ينفون التثليث ويزعمون اتّحاد المسيح مع اللّه سبحانه وتعالى، وهؤلاء يزعمون أنه مادام المسيح هو اللّه فلا يعذب أحداً؛ لأنه رحمة فقط! {قُلْ} في إبطال زعمهم: إنكم تزعمون أن المسيح قد صلب ونحن نقول بأنه سيموت فليس هو اللّه، بل اللّه مالك المسيح وخالقه وهو قادر على إهلاك الجميع {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا} أي من يتمكن من منعه عن قدرته وإرادته {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ

ص: 81

الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} فكلّهم يهلكهم اللّه وهذا دليل على اشتراك المسيح وغيره في كونه مخلوقاً مربوباً، {وَ} ذلك لأنه {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فكلهم مخلوقون مقهورون، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} لذلك خلق المسيح من غير أب وأعطاه المعاجز، كما خلق آدم من غير أبوين، وكما يخلق سائر الناس من أب وأم، وكذلكأعطى سائر الأنبياء المعاجز، فذلك ليس دليلاً على ألوهية عيسى (عليه السلام) {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} ومن قدرته خلق المسيح ومعاجزه.

18- المثال الثاني: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ} أي زعموا أن فيهم أبناء اللّه، حيث قالت طائفة أخرى من النصارى بأن المسيح ابن اللّه سبحانه، وطائفة من اليهود بأن عزيراً ابن اللّه تعالى، وزعموا أن جميعهم أحباء اللّه ولذلك لا يعذبون على نقضهم للمواثيق! {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} حيث يعترفون بإنزال العذاب الإلهي على مجموعات منهم بالمسخ وغيره كأصحاب السبت؟ {بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} لا فرق بينكم وبين غيركم فيجري على الجميع حكمه على السواء، {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} ممّن آمن، {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} ممّن كفر أو عصى لا كما تشاؤون حسب أمانيكم الباطلة، {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فلا ابن له، بل الجميع عباد له، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فيحاسب الجميع على حدّ سواء لا كما تزعمون.

19- ثم يبيّن اللّه تعالى أن الحجة قد كملت عليهم بإرسال رسوله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فلا يمكنهم ادعاء القصور وعدم العلم ف- {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ

ص: 82

جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فهو رسول من اللّه يلزمكم اتباعه {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٖ} أي فتور وانقطاع {مِّنَ الرُّسُلِ} إذ لا رسول بين عيسى (عليه السلام) وبين محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {أَن تَقُولُواْ} أي كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا يوم القيامة {مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖ} تحتجون بذلك! {فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} هو رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فتمت الحجة عليكم، {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} ومن قدرته إرسال الرسول بعد الفترة وبذلك تدحض حججهمبأنه لا نسخ لشريعتهم، حيث إن اللّه كما هو قادر على إنزال شريعة وإرسال رسول كذلك قادر على نسخ الشريعة وإرسال رسول آخر.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أنه تعالى بعد أن بيّن نقض اليهود والنصارى للمواثيق وأن اللّه تعالى عاقبهم في الدنيا بما ذكرته الآيات السابقة وأنه سيحاسبهم يوم القيامة على ما اقترفوه، بعد ذلك أراد بيان أنهم يتمكنون من تدارك ما فات بالتوبة والإيمان بالرسول وبالقرآن والالتزام بتعاليمه، فإنه الصراط المستقم، وأما عقائدهم الباطلة فهي خارجه عن الصراط المستقيم ومن ذلك زعمهم أنهم لا يعذبون حتى وإن نقضوا المواثيق لأنهم أحباء اللّه! فإن الأدلة تدحض عقائدهم الباطلة وأمانيهم الزائفة، وقد تمت عليهم الحجة بإرسال رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بالمعاجز والبراهين التي جاء بها.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ...} الآية.

ص: 83

حث وتحريض لهم بالإيمان برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ؛ لأنه:

أولاً: يبيّن كثيراً من حقائق التوراة والإنجيل مما كانوا يخفونها خوفاً على مصالحهم أو تهرباً من الأحكام وصعوبتها، وفي ذلك إتمام للحجة على عوامهم الذين لم يكونوا يعلمون الكتاب إلا أماني، فلئن لم يكونوا يعلمون ذلك فيما سبق لكنهم علموه ببيان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلا يبقى لهم عذر.

وثانياً: لأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) دلائل صدقه معه فهو نور ظاهر بنفسه وهادٍلغيره، كما أن معه القرآن الكريم الذي هو واضح الدلالة والإعجاز، وبهذين الأمرين تتم الحجة على جميع أهل الكتاب.

وقوله: {رَسُولُنَا} إضافة الرسول إلى ضمير المتكلم مع الغير تأكيد على أن اللّه تعالى هو المرسل مع تفخيم شأن الرسول بجمع الضمير، فإنه كما يكون تعظيم للّه تعالى بجمع الضمير كذلك هو تعظيم للرسول حيث أضيف إليه.

وقوله: {كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَٰبِ} تذكير لهم بالمواثيق التي واثقهم اللّه تعالى عليها حيث ذكر نسيانهم لها في قوله: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} فأراد بيان تذكيرهم بتلك المواثيق عبر بيان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ} أي لا يُبَيِّنُها لهم لعدم الحاجة إلى بيانها لنسخها؛ لأنهم كانوا يخفون بعض ما ليس بصالحهم من الأحكام، لكنها نسخت في الشريعة الإسلامية فلم يكن هناك داع ٍ لبيانها، ولأن الحجة تتم عليهم بتذكيرهم بالأحكام التي استمرت في هذه الشريعة أيضاً.

وقوله: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ} ظاهر العطف أن الجائي

ص: 84

من اللّه شيئان فالنور هو الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، والكتاب هو القرآن، والغرض بيان صدق مقالة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأن آثار الصدق لائحة من قوله وفعله، كما أن القرآن دليل صدقه معه فهو الكتاب المعجز المبيّن للحقائق، وقد أطلق النور على الرسول في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(1) كما أن الأئمة (عليهم السلام) امتداد لنورالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فهم نور من نوره لذا تنطبق الآية عليهم تأويلاً أو مصداقاً.

وقوله: {مُبِينٌ} أي واضح الدلالة تام الحجة ظاهر الإعجاز.

مراحل الهداية الثلاث

الثالث: قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ سُبُلَ السَّلَٰمِ...} الآية.

أي يكفيكم الرسول والكتاب لهدايتكم إن اخترتموها، فإن الهداية من اللّه لمن أرادها، وأما من يرفض الهداية بعناد فلا يهديه اللّه تعالى كما قال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(2)،

وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَٰذِبٌ كَفَّارٌ}(3)، وقال: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}(4)، وقد مرّ تفصيل بحث الهداية.

ثم تبيّن الآية أن المراحل في الهداية ثلاث:

المرحلة الأولى: الهداية إلى سبل السلام، أي الطرق التي تؤدي إلى

ص: 85


1- سورة الأحزاب، الآية: 45-46.
2- سورة المائدة، الآية: 108.
3- سورة الزمر، الآية: 3.
4- سورة الرعد، الآية: 27.

السلامة في الدنيا والآخرة، وهي الطرق التي شرّعها اللّه تعالى، كالصلاة والصوم وأداء الأمانة ونحوها قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(1)، وقال: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنَا سُبُلَنَا}(2).

المرحلة الثانية: الإخراج من ظلمات الكفر والجهل والعصيان إلى نور الإيمان والعلم والطاعة.المرحلة الثالثة: الإيصال إلى المطلوب من الجنة والرضوان وهو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.

وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} الضمير يرجع إلى النور والكتاب المبين، وإفراده باعتبار كل واحد منهما، أو لاتحاد حقيقتهما في جانب الهداية، ولذا عُبّر عن الرسول وأوصيائه بأنهم القرآن الناطق، وفي ذلك بيان أن الهداية إنما هي من اللّه وحده، وإنما الرسول والقرآن وسيلة وسبب أراده اللّه تعالى، كما قال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(3).

وقوله: {اتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُ} أي كان هدفه كسب رضا اللّه تعالى لا أهوائه وشهواته ومصالحه، بأن كان طالب حقيقة قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَاهُمْ}(4) وقال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ

ص: 86


1- سورة العنكبوت، الآية: 69.
2- سورة إبراهيم، الآية: 12.
3- سورة القصص، الآية: 56.
4- سورة محمد، الآية: 17.

وَكَرِهُواْ رِضْوَٰنَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ}(1) وقال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٖ}(2).

وقوله: {سُبُلَ السَّلَٰمِ} مفعول يهدي، أي الطرق التي توجب السلامة في الدين لا البدع والأباطيل، والسلامة في الدنيا بحياة سعيدة خالية عن الضنك، وبالسلامة في الآخرة عن النار والعذاب بل الجنة والرضوان.وإنما جمع (السُبل) لأن مصاديق طاعة اللّه تعالى كثيرة فالصلاة سبيل، والصوم سبيل آخر، والحج سبيل ثالث، وهكذا، وكلّها جميعاً تصب في الصراط المستقيم، فلا يصح زعم البعض أن جميع العقائد والأعمال صحيحة؛ لأنها سبل إلى اللّه! فهو من زخرف القول غروراً، فلا سبل إلاّ ما شرّعها اللّه تعالى، ولا عقيدة إلاّ ما قرّرها اللّه سبحانه.

وقوله: {بِإِذْنِهِ} أي بلطفه التكويني، أو بإرادته وقدرته التكوينية.

وقوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} تكرار الهداية لاختلاف الهداية إلى سبل السلام عن الهداية إلى الصراط المستقيم، فتلك هداية في الفروع وهذه هداية في الأصول، وقيل: إن الأولى سبب الثانية، وقيل: إنه لما تمّ الفصل بين الهدايتين بالإخراج من الظلمات لزم تكرار الهداية ليستقيم اللفظ.

الرابع: قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ...} الآية.

بيان لزوم اتّباع رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنه لا ينفعهم نقضهم للمواثيق

ص: 87


1- سورة محمد، الآية: 28.
2- سورة الروم، الآية: 29.

باعتقادهم عقائد باطلة تؤدي إلى زعمهم أنهم لا يعاقبون على نقضهم الميثاق، نظير قوله تعالى: {وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

ولعلّه في هذه الآية يذكر اللّه تعالى انحرافهم عن الصراط المستقيم، باعتقاد مجموعة من النصارى بأن عيسى هو اللّه تعالى وأنه جاء إلى الأرض بصورة بشر ليخلّص الناس من العذاب! وعليه فلا يرون عذاباً كي يتحذّرواعن القبائح والتي منها نقض العهد!

أو لعلّه لمّا ذكر الهداية إلى الصراط المستقيم أراد بيان مثال من أهل الكتاب في الانحراف عنه مع دحض حجتهم في ذلك.

ولا يخفى أن النصارى طوائف، فمنهم: من يقولون بأن المسيح هو اللّه تعالى، ومنهم: من يقولون بالتثليث، أي الأب والابن وروح القدس، وقد ردّ اللّه على كلا الطائفين في الآيات 72-74 من هذه السورة، وهذه الآية تردّ الطائفة الأولى، والآية التالية ترد الطائفة الأخرى وكذا اليهود.

وقوله: {ابْنُ مَرْيَمَ} بيان لعدم ألوهيته؛ لأنه ابن مريم (عليها السلام) فلا يكون إلا بشراً من نوعها.

وقوله: {يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا} أي من يتمكن من منعه عمّا يريد ولو بمقدار بسيط ضئيل؟ لأن من يقدر على المنع فقد ملكه، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

وقوله: {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ} هذا جواب لهم بما يعتقدون وبما

ص: 88


1- سورة فصلت، الآية: 23.

هو الواقع، فالمسيح قد صُلب بزعمهم، وفي الواقع إنّه سيموت بعد نزوله من السماء وصلاته خلف المهدي، فكيف يكون من يجري عليه الموت إلهاً؟ فمقتضى الألوهية هو القدرة على كل شيء، فإرادته التكوينية نافذة في كل شيء ولا أحد يتمكن من مخالفة إرادته التكوينية، فلا أحد يتمكن من إهلاكه، وهذا غير موجود في المسيح (عليه السلام) لأنه هلك بزعمكم، وسيموت حسب الواقع الذي نقول به.

وقوله: {وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} لبيان عدم الفرق بين المسيحوغيره من الناس في أنهم يموتون، فكيف صار المسيح من بينهم إلهاً؟ مع أن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

وقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ...} بيان لألوهية اللّه تعالى حصراً دون غيره؛ لأن جميع الكون ملكه ومخلوقات له، فلا يعقل ألوهية غيره ولا يمكن الشريك له.

وقوله: {مَا بَيْنَهُمَا} قيل: لأن المسيح ليس من السموات ولا هو الأرض، بل هو على الأرض تحت السماء فكان بينهما.

وقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} كأنّه رد لزعمهم أن المسيح لو لم يكن إلهاً فكيف وُلد من غير أب؟ والجواب: أن اللّه يخلق من دون أبوين كآدم (عليه السلام) ، ويخلق من أم من غير أب كعيسى (عليه السلام) ، كما يخلق عامة الناس من الأبوين، قال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(1).

ص: 89


1- سورة آل عمران، الآية: 59.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} كأنّه ردّ لما زعموه من أن معاجز عيسى (عليه السلام) دليل ألوهيته! فيقال لهم: إن اللّه قادر على أن يعطي أحد خلقه المعجزات كما أعطى أنبياء آخرين كموسى (عليه السلام) المعجزات الباهرات باعتراف النصارى أنفسهم.

الخامس: قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ...} الآية.

بيان بطلان مزاعم طائفة أخرى من النصارى - وهي أكثرهم - الذينزعموا أن المسيح ابن اللّه تعالى وكذلك اليهود الذين زعموا أن عزيراً ابن اللّه، وأنهم أتباع لهما فهم أحبّاء اللّه، فلذا لا يعذّبهم اللّه وحتى لو عذّبهم فإنما هو أياماً معدودات، لأن الحبيب لا يعذب حبيبه مع كونهم متَّصلين بأبنائه!!

وقوله: {نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ اللَّهِ} الظاهر أن مرادهم البنوة الحقيقة لعزير وللمسيح وهم أشياعهما وأتباعهما، فقولهم: {وَأَحِبَّٰؤُهُ} أرادوا بهم أنفسهم، وهذا أسلوب متعارف بأن ينسب الناس إلى أنفسهم أمراً يكون في أحدهم أو بعضهم، كقول أفراد من القبيلة لم يشاركوا في القتال: لقد غلبناهم أو انتصرنا عليهم، وقد مرّ بعض الكلام في قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...}(1)، بأن المراد الأئمة (عليهم السلام) وإنما كان الكلام حول الجميع لاشتمال الأمة الإسلامية عليهم (عليهم السلام) .

ص: 90


1- سورة البقرة، الآية: 143.

وقيل: هو على المعنى المجازي للبنوة، أي أبناء بالكرامة والعز فلا يعذبنا اللّه تعالى!

وقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم...} ردّ لزعمهم، فإنّ عذابكم دليل على عدم كونكم أحبّاءَهُ وذلك باعترافكم.

والظاهر أن المراد عذاب الدنيا، حيث يعترفون هم بزوال العذاب على أمم منهم كأصحاب السبت حيث مسخوا قردة، أو بما يشمل عذاب الآخرة أيضاً حيث يعترفون بعذاب قليل لهم كما قال: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّاأَيَّامًا مَّعْدُودَةً}(1) وقد مرّ أن كتبهم خالية عن ذكر الحياة الآخرة - على ما قيل - إلاّ أنهم بفطرتهم يعتقدون بها فلذا كانوا يقولون لا يمسّهم العذاب إلاّ قليلاً، واعترافهم هذا يكفي في بطلان زعمهم بأنهم أحباء اللّه تعالى.

ولا يخفى أنّ الآية في مقام بيان العذاب عقوبةً، فلا ترتبط بالابتلاءات التي يبتلى بها المؤمنون أيضاً كي نحتاج إلى بيان الفرق بين العذاب عقوبةً وبين ابتلاءات المؤمنين التي هي لرفع الدرجات أو للتمحيص ونحوه، كما صنعه بعض المفسرين!

وقاله: {بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} بعد أن أبطل كونهم أبناء اللّه وأحباءه بإثبات عذابهم، أثبت عدم الفرق بينهم وبين الآخرين، فالكل بشر مخلوق للّه تعالى لا نسب بينهم وبينه، وإنما ينظر إلى أعمالهم فمن آمن وعمل الصالحات غفر له، ومن كفر وعصى عذّبه، قال سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا

ص: 91


1- سورة البقرة، الآية: 80.

وَلَا نَصِيرًا}(1).

وقوله: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} في مجمع البيان: «وإنما علّق العذاب بالمشيئة مع أنه سبحانه لا يشاء العقوبة إلاّ لمن كان عاصياً، لما في ذلك من البلاغة والإيجاز بردّ الأمور إلى العالم الحكيم يجريها على وجه الحكمة»(2).

وقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ...} كالتعليل بأنه لا بنوة بين اللّه وبين خلقه؛وذلك لأن الجميع ملك للّه تعالى، ونسبته إليهم واحدة بأنهم المخلوقون وهو الخالق.

وقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} بيان أن الآخرة بيده، لا بيد غيره، فلا مرجع سواه، فالجزاء عنده، وهو كما عذب المخالفين منكم في الدنيا كذلك يعذبكم في الآخرة إن لم تؤمنوا.

السادس: قوله تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٖ...} الآية.

بيان لإكمال الحجة عليهم فلا عذر لهم في نقض عهد اللّه تعالى، حيث إنه تعالى قد أرسل رسوله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) بالآيات وبالكتاب المبين، فبشّر المطيعين وأنذر الكفار والعصاة فلم يبق لكم عذر في مخالفته.

وقوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ} لم يذكر المفعول؛ لأنه قد ذكره في الآية 15 في قوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ}، أو بمعنى يبيّن لكم ما يحتاج

ص: 92


1- سورة النساء، الآية: 123.
2- مجمع البيان 3: 437.

إلى البيان.

وقوله: {عَلَىٰ فَتْرَةٖ مِّنَ الرُّسُلِ} أي فتور وانقطاع، إذ لم يكن بين عيسى (عليه السلام) وبين رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) رسولٌ، وإنما استمرت الحجة بالأوصياء وبقليل من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلاً، وهؤلاء كانوا مغمورين، ولذلك شاع الكفر والتحريف والانحراف، فلئن كان هناك عذر لأهل الفترة لمن كان قاصراً منهم، إلاّ أنه لا عذر لمن عاصر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وشاهد الآيات، وفي التقريب: «ولعلّ سرّ تبيين الأمر وبوضوح أن الدنيا لا تستقيم إلاّ بهدي السماء، فإنه لمّا انقطع الوحي في الفترة ساد العالم خرابوفوضى لا مثيل لها وبذلك تكون تجربة عملية»(1).

وقوله: {أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا...} أي إنما أرسلنا رسولنا محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) لإتمام الحجة عليكم كما قال: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}(2) وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(3)، وفي ذلك دلالة على أن من كان في الفترة أو غيرها وكان جاهلاً قاصراً فهو معذور، وقد دلت الأحاديث على أنه يمتحن في الآخرة وقد مرّ بيانه، و{أَن تَقُولُواْ} أي كراهية أن تقولوا، أو لئلا تقولوا والمقصود حتى لا يبقى لكم عذر وحجة على كفركم.

وقوله: {فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} تأكيد وحث على اتّباعه، وذكر أن

ص: 93


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 624.
2- سورة النساء، الآية: 165.
3- سورة الإسراء، الآية: 15.

بيان الرسول يشتمل على البشارة والإنذار.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} تعليل لإرساله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإنه سبحانه قادر على إرسال الرسل بمصلحة، فلا يبقى وجه لاعتراض أحد.

ص: 94

الآيات 20-26

{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ 20 يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ 21 قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ 22 قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 23 قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَا إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ 24 قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ 25 قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ 26}

20- ثم يذكر اللّه تعالى قصة من قصص بني إسرائيل في نقضهم للعهد وما ابتلوا به عقوبة لذلك، حثّاً للمسلمين على الوفاء بالعهد وتسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من نقص أهل الكتاب عهودهم معه فقال: {وَإِذْ} أذكر الوقت الذي {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ} وكان ذلك بعد نجاتهم من فرعون {اذْكُرُواْ} وذكرها هو مقابلتها بالإطاعة، وكان ذلك تمهيداً لأمرهم بدخول الأرض المقدسة، {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ} يهدوكم إلى سواء السبيل وهذا أعظم

ص: 95

النعم، {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} أي مالكين أمر أنفسكم بعد أن كنتم رعايا وعبيداً لدى آل فرعون، {وَءَاتَىٰكُم} من الكرامات {مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ} من بدأالخلق إلى زمانكم، كالمن والسلوى وتظليل الغمام وغير ذلك.

21- وبعد التمهيد بذكر نعمه تعالى عليهم أمرهم بقوله: {يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} التي باركها اللّه باختيارها لأنبيائه وطيّب ماءها وهواءها وزراعتها {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قضاها لكم تشريعاً وتكويناً، {وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ} عن دينكم بعصيان أمر اللّه تعالى في قتال الجبابرة {فَتَنقَلِبُواْ} ترجعوا {خَٰسِرِينَ} من غنيمة الدنيا وثواب الآخرة.

22- {قَالُواْ} معترضين ومظهرين العصيان: {يَٰمُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} شديدي البأس والبطش فلا نقدر على قتالهم، {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا} أي الأرض المقدسة {حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا} من غير قتال منّا، كأنهم أرادوا إخراجهم بالإعجاز! {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ} فيها!

23- {قَالَ رَجُلَانِ} من النقباء وكانوا {مِنَ} المجموعة {الَّذِينَ يَخَافُونَ} اللّه تعالى وقد {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بأن هداهما ووفّقهما إلى العمل الصالح وإطاعة اللّه ورسوله: {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ} على الجبارين {الْبَابَ} باب مدينتهم، أي باغتوهم، أو بمعنى أن تكون الحرب في المدينة لا في الصحراء، {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ} دخلتم الباب {فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ} لأن الغلبة عادة لمن أغار، ولصعوبة الكرّ عليهم، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ} فلا تعتمدوا على خطّتكم وقوتكم فقط {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

ص: 96

24- لكن القوم اعرضوا عن الرجلين ووجهوا الخطاب لموسى (عليه السلام) ف-{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا} فخافوا الجبارين ولم يثقوا بوعد اللّه بنصرهم! {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَا} قالوه استخفافاً واستهانةباللّه ورسوله {إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} لعلّهم أرادوا بذلك قطع الموعظة والحوار وإيجاد حالة اليأس في موسى من دعوتهم.

25- فلما يئس موسى (عليه السلام) منهم التجأ إلى اللّه شاكياً ومعتذراً {قَالَ} موسى: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ} لنصرة دينك وتطبيق أوامرك {إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} وهذا لا يكفي لفتح المدينة {فَافْرُقْ} أي افصل واحكم {بَيْنَنَا} أنا وأخي {وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ} الخارجين عن طاعتك.

26- {قَالَ} اللّه تعالى: ما دامهم قد عصوا {فَإِنَّهَا} الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ} لا يتمكنون من دخولها ولا يملكونها {أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ} حال كونهم {يَتِيهُونَ} يتحيرون ضائعين {فِي الْأَرْضِ} الصحراء بين مصر وفلسطين، {فَلَا تَأْسَ} لا تحزن {عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ} لأن التيه كان عقوبة لهم على خروجهم عن الطاعة.

بحوث

الأول: يبيّن اللّه تعالى ميثاقاً من مواثيقه في بني إسرائيل وعصيانهم وعقوبتهم عليه، وذلك تحذيراً لأهل الكتاب من مخالفتهم أمر اللّه تعالى في التصديق برسوله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنه سيعاقبهم إن رفضوا هذه النعمة، كما أن في ذلك تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كي لا يحزن على تكذيبهم إياه، وكتمانهم صفاته في كتبهم، وإثارتهم المؤامرات والحروب عليه، ونقضهم لعهودهم

ص: 97

معه، فإن نقض العهد صفة ملازمة لهم حتى مع أنبيائهم الذين شاهدوا معاجزهم والذين أنقذهم اللّه بهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِعَلَيْكُمْ...} الآية.

إن موسى (عليه السلام) لمّا أراد أمرهم بدخول الأرض المقدسة مع استلزام ذلك للحرب مع الجبابرة، مهّد لذلك بيان ثلاثة من أعظم نعم اللّه عليهم، حيث شاهدوها بأعينهم، مما تستدعي إطاعة اللّه تعالى وعدم عصيانه، بل أراد بيان نعمة رابعة لهم - وهي كتابة الأرض المقدسة لهم - إن أطاعوا، وقد ذكر اللّه تعالى تلك النعم إجمالاً في قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَٰرِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}(1)، وبيّنها في هذه الآية تفصيلاً، وتلك النعم هي:

1- {جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ} وهذه أعظم النعم المعنوية؛ لأنها هداية إلى الطريق القويم بما يضمن سعادة الدنيا والفوز بالجنة، وفي التقريب: «سبعون نبيّاً في عهد موسى (عليه السلام) ، ولعل سرّ كثرة الأنبياء (عليهم السلام) في تلك الأزمنة كون البشر في مثل حال الأطفال الذين يحتاجون إلى عدد من المربين، بخلاف عهدي عيسى (عليه السلام) والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث نضج البشر أكثر فأكثر، كالكبار الذين لا يحتاجون إلاّ إلى مرشد واع ٍ»(2).

ص: 98


1- سورة القصص، الآية: 5-6.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 625.

2- {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} وهذه أعظم النعم المادية، حيث يكون الإنسان حراً طليقاً مالكاً لأمر نفسه، وكان ذلك بعد طول العبودية لآل فرعون، حيث يسومونهم سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فبنوإسرائيل بأجمعهم ملكوا أمر أنفسهم وسادوا بعد الخروج من مصر ولذا قال: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا} ولم يقل: «وجعل فيكم ملوكاً»، وأما النبوة فكانت خاصة بالبعض ولذا قال: {جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ}.

وقال بعض المفسرين: إن المعنى جعل فيكم الملوك ولكن عمّم ذلك باعتبار اشتمال بني إسرائيل على الملوك!

لكن هذا المعنى لا ينسجم مع حالة بني إسرائيل حين قال لهم موسى (عليه السلام) هذا الكلام، إذ كانوا في الصحراء ولم يكن عليهم ملك، بل كان موسى (عليه السلام) يسير فيهم بالعدل من غير أن يكون ملكاً، فالصحيح ما ذكرناه أولاً من أن المعنى أنكم نلتم الحرية فلم تعودوا رعايا لغيركم.

3- {وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ} أي الكرامات التي نلتموها حيث لم يقدرها اللّه لغيركم إلى زمانكم، كالمن والسلوى وتظليل الغمام والحجر التي انبجست منها اثنتا عشرة عيناً وغير ذلك، و{الْعَٰلَمِينَ} أي الناس إلى زمانهم؛ لأن ظاهر أمثال هذا الكلام هو ذكر ما تحقق منذ الماضي إلى الحال الحاضرة فلا يكون ناظراً إلى المستقبل.

الثالث: قوله تعالى: {يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ...} الآية.

بعد التمهيد بذكر النعم الثلاث الماضية يذكر نعمة رابعة، وهي أنه تعالى

ص: 99

قدّر وقضى لهم الأرض المقدسة، ونيلهم هذه النعمة كان بحاجة إلى جهاد منهم، وحيث كان موسى (عليه السلام) يعلم تمردّهم وجبنهم لذلك حذّرهم من أن عصيان أمر اللّه تعالى سبب الخسارة لهم؛ لأنهم إن جاهدوا ملكوا الأرضالمقدسة بما فيها من الخيرات، لكن إن عصوا عوقبوا في الدنيا وفي الآخرة، فإن اللّه قد قضى لهم هذه النعمة مشروطة بالصبر على الطاعة وعن المعصية، فحينما يطيعون ينالونها، وماداموا عصاة لا يصلون إليها، فوعده تعالى كان بشرط، كما دلّ على الشرط قوله تعالى: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(1) إلى قوله: {قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}(2)، فلما خالفوا الشرط ابتلاهم اللّه بالتيه كما أخبرهم موسى (عليه السلام) في هذه الآية حيث قال: {وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ}، ثم لما أطاعوا أنجز اللّه ما وعدهم حيث قال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَٰرِقَ الْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا الَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ}(3).

فاتضح بذلك أنه لا منافاة بين قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وبين قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ} بل الثانية تؤكد الأولى، حيث إن الخطاب للأمة، فقد كتبها وأنجز وعده بعد أربعين سنة لما وفوا بالشرط.

كما اتضح أن ما ورد في بعض الروايات من البداء في كتابة الأرض

ص: 100


1- سورة الأعراف، الآية: 128.
2- سورة الأعراف، الآية: 129.
3- سورة الأعراف، الآية: 137.

المقدسة لهم يراد به ما ذكرناه من عدم تحقق الوعد لعدم تحقق شرطه، أو يقال: إنه كان التقدير أن يكون وعداً بلا شرط ثم محا اللّه تعالى التقدير السابق وقدّره وعداً بشرط، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «كتبها لهم ثممحاها، ثم كتبها لأبنائهم فدخلوها، واللّه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب»(1).

وقوله: {الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} هي بيت المقدس وما حوله، وإنما كانت مقدسة - أي طاهرة - لأن اللّه بارك فيها كما قال: {سُبْحَٰنَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَٰرَكْنَا حَوْلَهُ}(2) وقال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَٰرِقَ الْأَرْضِ وَمَغَٰرِبَهَا الَّتِي بَٰرَكْنَا فِيهَا}(3)، وهذه القداسة والبركة معنوية باختيارها محلاً للأنبياء، ومادية بالخيرات المختلفة فيها من طيب مائها وهوائها وزراعتها قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}(4).

وقوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} الكتابة هي قضاؤه تعالى تكويناً كما قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي}(5)، أو تشريعاً كما قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}(6)، والظاهر أن المراد هنا الكتابة التكوينية والتشريعية، أي

ص: 101


1- تفسير العياشي 1: 304؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 354.
2- سورة الإسراء، الآية: 1.
3- سورة الأعراف، الآية: 137.
4- سورة الأعراف، الآية: 58.
5- سورة المجادلة، الآية: 21.
6- سورة البقرة، الآية: 183.

قدّرها وأباحها لكم.

وقوله: {وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ} الظاهر أن المراد هو التحذير من العصيان فإنه نكوص بعد طاعة ورجوع عنها بالعصيان، وحيث إن الأمر كانبدخول الأرض المقدسة فالارتداد بعدم الطاعة كان بعدم دخولها.

وقوله: {فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ} بيان لنتيجة العصيان وهو الخسارة في الدارين، وكانت خسارتهم الدنيوية هي ابتلاءهم بالتيه أربعين سنة حيث مات أكثرهم، بل جلّهم من غير أن يتنعموا بسكن الأرض المقدسة.

الرابع: قوله تعالى: {قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا...} الآية.

قولهم هذا كان عن اعتراض وتمرّد على أمر اللّه تعالى، كما أنه يكشف عن ضعف إيمانهم وجبنهم، حيث رفضوا الدخول لاستلزامه الحرب مع الجبارين فخافوهم، وأما ضعف إيمانهم فلأنّ موسى (عليه السلام) أخبرهم بأن اللّه كتبها لهم ومعنى ذلك غلبتهم عليهم، كما أن العصيان يكشف عن قلة الإيمان.

وقيل: إنهم كانوا يتوقعون الإعجاز في إخراج الجبارين لينالوا الأرض المقدسة من غير عناء حرب!

وقوله: {جَبَّارِينَ} أي شديدي البأس والبطش، وأصله من الجبر بمعنى الإكراه - لا الجبر بمعنى سدّ الخلة - لأن ذا البطش يجبر الآخرين على ما يريد، وهو صفة ذم للإنسان، لكنه صفة مدح للّه تعالى، فمن أسمائه الحسنى الجبار؛ لأن إرادته غالبة على كل إرادة وبما فيه المصلحة وإذا كان الجبر

ص: 102

كذلك كان ممدوحاً.

وقولهم: {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا} ثم تكرار هذا المعنى بقولهم: {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ} لعلّه للتأكيد على عدماستعدادهم للحرب، أو أرادوا بيان طاعتهم المشروطة تخفيفاً من وقع رفضهم لأمر اللّه ورسوله!

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ...} الآية.

بيان أن القليل من بني إسرائيل كانوا مؤمنين مطيعين للّه ولرسوله وهؤلاء هم الذين كانوا يخافون اللّه تعالى لا الجبارين، لكن هؤلاء لم يكونوا بالمقدار الكافي لفتح المدينة، فلذا انتصروا لموسى (عليه السلام) ببيان سهولة الغلبة على الجبارين بالكيفية التي بيّنوها، وهؤلاء كانوا مجموعة - من النقباء وغيرهم - لكن اثنين منهم تكلّما؛ لأنّ الأمر بالمعروف واجب كفائي إذا قام به البعض ممّن فيه الكفاية سقط عن الباقين.

وقوله: {رَجُلَانِ} كانا من النقباء، وهما يوشع بن نون وصيّ موسى (عليه السلام) وكالب بن يافنا كما في بعض الأحاديث(1).

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} (من) للتبعيض، ومتعلق يخافون هو اللّه تعالى، فالمعنى أن هناك كانت مجموعة يخافون اللّه وهم النقباء وغيرهم، لذا أطاعوا اللّه ورسوله لكن لم يكن في عددهم الكفاية لفتح المدينة، فانبرى اثنان منهم لوعظ الناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر،

ص: 103


1- تفسير العياشي 1: 303؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 353.

ولعلّه لم يذكر المتعلّق اكتفاءً بقوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا}.

وقوله: {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ} إما بمعنى باغتوهم بالدخول من الباب عليهم، وفي ذلك دلالة على ضعف الجبارين وأن خوف بني إسرائيل منهملم يكن في مورده، أو بمعنى عدم محاربتهم في الصحراء، بل في المدينة لئلا تكون لهم قدرة المناورة، أو لأن الغلبة عادة هي لمن أغار.

وقوله: {فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ} إما بيان للسبب الطبيعي؛ لأن من هاجم وملك باب المدينة يتمكن من فتحها، أو لأنهم علموا من وعد اللّه ذلك، أو لأن موسى (عليه السلام) أخبرهم بذلك، أو لأن اللّه أوحى لهما، أو لغير ذلك.

وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ...} هذا لإزالة الخوف عنهم، بأنكم تأخذون بالسبب الطبيعي وهو الهجوم عليهم من الباب، وبالسبب الغيبي عبر التوكل على اللّه تعالى.

السادس: قوله تعالى: {قَالُواْ يَٰمُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا...} الآية.

كأنهم أعرضوا عن جواب الرجلين إلى خطاب موسى بخطاب تعنّتي، إما لأنهم توهموا أن موسى (عليه السلام) هو الذي بعث الرجلين لوعظهم، أو لأنهم جعلوا كلامهم هذا تمهيداً إلى قولهم: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَا} وفي ذلك بيان زيادة عنادهم وتعنّتهم.

قوله: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ} هذا استهانة بموسى (عليه السلام) وقلة مبالاة بأمر اللّه تعالى وذلك من ضعف إيمانهم، كأنهم يريدون أن يقولوا: مادام ربك هو أوحى لك الأمر بالقتال فلماذا لا تذهبان أنتما إلى القتال! بل تريدان منّا

ص: 104

أن نقاتل!، ولا يخفى شدة تأكيدهم على عصيانهم بنفي التأبيد ب-{لَن} والتأكيد بقولهم: {أَبَدًا} وكذلك بتوجيه الخطاب إلى اللّه ورسوله {أَنتَ وَرَبُّكَ} وبقولهم: {إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ}!السابع: قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا...} الآية.

لمّا يئس موسى (عليه السلام) منهم توجّه إلى اللّه تعالى شاكياً قومه ومعتذراً عن عدم تمكنه من تنفيذ أمر اللّه تعالى؛ لأنهم عصوه ولا رأي لمن لا يطاع.

وقوله: {لَا أَمْلِكُ} أي لا أملك التصرف، بمعنى أني لا أتمكن من جبر وإكراه الآخرين على إطاعة أمرك.

وقوله: {إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} الظاهر عطف (أخي) على (نفسي) فالمعنى لا أملك إلا اثنين هما نفسي وأخي، وأما ما قيل من عطف (أخي) على الضمير في (إني) حتى يكون المعنى: أني لا املك إلا نفسي، وإن أخي لا يملك إلا نفسه! فبعيد عن ظاهر الآية.

سؤال: الرجلان - يوشع وكالب - كانا مطيعين أيضاً، كما أن سائر النقباء وجملة من بني إسرائيل كانوا مطيعين ينفذون أمر موسى (عليه السلام) فلماذا لم يذكرهم، بل حصر الأمر في نفسه وأخيه؟

والجواب: لعلّه لأجل أن هارون (عليه السلام) لعصمته كان من المؤكد إطاعته لأمر موسى (عليه السلام) ، فكان يمكنه أن يقول بضرس قاطع إنه يملك أخيه، وأما سائر المؤمنين فكان يمكن انقلابهم على الأعقاب فلذا لم يكن قاطعاً بملكه أمرهم.

ص: 105

أو لأن أولئك المؤمنين كانوا عاجزين عن القتال فكانوا معذورين فلم يكن موسى (عليه السلام) يملك أمرهم بالقتال لعدم استطاعتهم.

أو في الكلام اختصار لأن قوله: {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} دليل علىإطاعتهم لموسى (عليه السلام) ، وأما هارون (عليه السلام) فلم يتم ذكره في الآيات السابقة فناسب ذكره هنا. أو لغير ذلك، واللّه العالم.

وقوله: {فَافْرُقْ} لعلّ المقصود هو عدم عقوبتنا بفعلة الفاسقين نظير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّٰيَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}(1)، وذلك لأنا قد فعلنا ما بوسعنا لتنفيذ أوامرك، لكن عدم تمكننا إنما هو لأجل خذلان هؤلاء الفاسقين فلسنا مقصرين في ذلك، أو لعلّه لما علم موسى أن اللّه سيعاقبهم بعصيانهم تضرّع إلى اللّه تعالى أن لا تشمله هذه العقوبة، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}(2)، ولذا قيل: إنه من الممكن أن اللّه تعالى قد سهّل عليهما الحياة فترة التيه فكانا مع بني إسرائيل لكن لم يقاسيا ما قاسوه من صعوبات التيه وكذلك المؤمنون المطيعون، كما أن اللّه جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم.

وفي تفسير القمي: «فلمّا أراد موسى أن يفارقهم فزعوا، وقالوا: إن خرج موسى من بيننا نزل علينا العذاب، ففزعوا إليه وسألوه أن يقيم معهم ويسأل اللّه أن يتوب عليهم، فأوحى اللّه تعالى إليه: أني تبت عليهم على أن يدخلوا مصر، وحرمتها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض عقوبة لقولهم:

ص: 106


1- سورة الأعراف، الآية: 155.
2- سورة الأنفال، الآية: 25.

{اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَا}(1).

ويحتمل أن يكون معنى {فَافْرُقْ} أعم من الدنيا والآخرة فيكونالمعنى احكم بيننا وبينهم، وبذلك يفترق المطيعون عن العاصين. فتحكم عليهم بما يستحقون بعدلك وتحكم علينا بما نستحق بفضلك.

وقوله: {الْفَٰسِقِينَ} الفسق هو الخروج عن الطاعة، وكأنّ وصفهم بذلك لبيان إطاعته لأمر اللّه تعالى وسعيه لتنفيذ أمره لولا عصيانهم وعدم تمكنه من حملهم على الطاعة.

والظاهر أن موسى (عليه السلام) لم يكن في مقام الدعاء عليهم ليعاقبهم اللّه على عصيانهم، بل كان في مقام الاعتذار لنفسه وتضرعه إلى اللّه؛ لئلا يصيبه من عقابهم أو فتنتهم شيئاً، ويشعر بهذا قوله تعالى في الآية التالية: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ} فكأنه كان يعزّ عليه عقوبتهم وكان يحزن عليهم وهذا لا يناسب دعاءه عليهم بالعقوبة.

الثامن: قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

بيان لعقوبتهم على عصيانهم واستهانتهم باللّه ورسوله، وحيث إن اللّه كان يريد تربيتهم؛ لأنه اختارهم ليكونوا حملة دينه لذلك عاقبهم بعقوبة تتناسب مع معصيتهم ومع تربيتهم، وهي التحيّر والضياع في الصحراء، فإنها من جهة تناسب عصيانهم بعدم دخول الأرض المقدسة التي فيها راحتهم ورفاههم واستقرارهم، فعوقبوا بالضياع في الصحراء وعدم استقرارهم، فكانوا أسوأ

ص: 107


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 356؛ عن تفسير القمي 1: 165.

حالاً من البدو الرُحّل؛ لأنهم يصنعون ذلك باختيارهم عكس من يريد أن يصل إلى المدينة ويتحرك باتجاهها في الصحراء، لكنه لا يصل إليها، ومن جهة أخرى تربية لهم ليعلموا عياناً نتيجة عصيانهم، وأما اختيار أربعين سنة فلعلّه لأجل أن يتبدّل الجيل إلى جيل آخر فتتغيّر طباع الأمة، فإن الذينخرجوا مع موسى (عليه السلام) من مصر ماتوا في التيه إلا القليل منهم وحلّ محلّهم من ولدوا في التيه من أبنائهم وأبناء أبنائهم(1)، وهؤلاء نشأوا في ظل الحرية وتعاليم موسى (عليه السلام) لذلك اختلف حالهم عن حالة آبائهم من التمرد وضعف الإيمان، لذلك دخلوا مع يوشع (عليه السلام) الأرض المقدسة ونجّز اللّه لهم ما وعده.

وقوله: {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْۛ} أي تكويناً بأن منعهم اللّه عن دخولها ثم بيّن كيفية التحريم بقوله: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}.

وقوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةًۛ} متعلّق بقوله: {مُحَرَّمَةٌ} أي مدة التحريم كانت أربعين سنة.

وقوله: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} من (تاه) بمعنى ضل وتحيّر، فلم يهتدِ إلى الطريق، وهو حال من {مُحَرَّمَةٌ} فالمعنى محرمة عليهم حال كونهم يتهيون.

وقوله: {فَلَا تَأْسَ} أي لا تحزن على ما أصابهم؛ لأن موسى (عليه السلام) كان شفيقاً عليهم فكان يحزن لما أصابهم، وهذا نظير قوله تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا يَصْنَعُونَ}(2)، وقد بيّن اللّه سبب عدم الحزن عليهم بقوله: {عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ}.

ص: 108


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 352؛ عن تفسير العياشي 1: 304 وغيره.
2- سورة فاطر، الآية: 8.

الآيات 27-32

اشارة

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 27 لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ 28 إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ 29 فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَٰسِرِينَ 30 فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَٰرِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَٰوَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ 31 مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ 32}

27- ثم يذكر اللّه تعالى عهداً من أهم عهوده وهو النهي عن القتل، ويتبعه بنقض أهل الكتاب له، فيقدّم له بذكر قصة ابني آدم فقال: {وَاتْلُ} اقرأ يا رسول اللّه {عَلَيْهِمْ} على أهل الكتاب؛ لأن حال أكثرهم كحال قابيل {نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ} هابيل وقابيل، {بِالْحَقِّ} أي اتل تلاوةً بالحق، أو النبأ بالحق، {إِذْ} في الوقت الذي {قَرَّبَا} للّه تعالى {قُرْبَانًا} وهو ما يُهدى للّه

ص: 109

تعالى بقصد التقرب إليه، {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} وهو هابيل؛ لأنه أخلص النية والعمل فقدّم أحسن ما عنده، {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ} وهو قابيل؛ لأنه لم يخلص النية ولا العمل فقدّم أسوأ ما عنده، {قَالَ} قابيل:{لَأَقْتُلَنَّكَ} حسداً، ف-{قَالَ} هابيل: لا ذنب لي في عدم قبول اللّه عملك؛ لأنه كان بسبب عدم تقواك و{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وهذا حثّ له على التقوى ليتقبل اللّه منه، ولم يكن تبجحاً بأني متقٍ!

28- ثم قال له: {لَئِن بَسَطتَ} مددت {إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} ظلماً {مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} ظلماً {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ} وليس معناه أني لا أدافع عن نفسي ولكن معناه أني لا أقتلك ظلماً أو قصاصاً قبل الجناية.

29- ثم حذّره من عاقبة القتل فقال: {إِنِّي أُرِيدُ} بعدم قتلي لك مع قتلك إياى {أَن تَبُوأَ} ترجع {بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} فجميع ذنوب المقتول تسجل في أعمال القاتل عقوبة له على القتل مضافاً إلى آثام القاتل نفسه والذي منها القتل {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَٰبِ النَّارِ} الملازمين لها {وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ} فهو عقاب بعدل لا اعتباط وتجاوز للحدّ.

30- لكن لم تنفعه الموعظة {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} أي حملته نفسه الأمّارة بالسوء على الانقياد لها بأن سوّلت له {قَتْلَ أَخِيهِ} فأطاعها {فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَٰسِرِينَ} في الدنيا بطرده وندمه وفي الآخرة بعذاب النار.

31- ثم أراد اللّه أن لا تبقى جثته من غير دفن كرامةً له {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} أي يحفرها كمن يبحث فيها {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَٰرِي} يستر {سَوْءَةَ أَخِيهِ} أي جثته؛ لأنه ساءه أن يراه قتيلاً، {قَالَ

ص: 110

يَٰوَيْلَتَىٰ} «الويلة» الهلاك وهي كلمة تقال عند التعجب أو الندم {أَعَجَزْتُ} استفهام للتعجب {أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ} على قتله، وندمه لم يكن عن توبة، بل لعلّه عن هول الجريمة.

32- {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ} أي بسبب شناعة القتل وكونه ظلماً وأنه يؤدي إلى خسارة الدارين {كَتَبْنَا} شرّعنا أيضاً {عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} المنع عن القتل وتحريمه وبيّنا لهم {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي لم يكن قصاصاً {أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ} بمحاربة اللّه ورسوله {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} وهذا تشنيع للقتل؛ لأن القتل قتل - سواء قتل واحداً أم قتل الكل - وإن كان العقاب يتضاعف بتكرار القتل، وتأويل ذلك بالإضلال، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} بأن أنقذها من الهلكة {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} لبيان أهمية إنقاذ النفس، وإن كان الثواب يتضاعف بتكرار الإنقاذ، وتأويل ذلك بالهداية، {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ} جائت بني إسرائيل {رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَٰتِ} الآيات الواضحة يحذرونهم من القتل والحسد وغيرهما من نقض العهود {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ} بعد الكتاب ومجيء الرسل بالبينات {فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} متجاوزون الحد باستحلال المحارم وبسفك الدماء.

بحوث

حول القتل وعاقبته

الأول: هذه الآيات تذكر عهداً من أهم مواثيق اللّه مع بني آدم وذلك هو تحريم القتل ظلماً من غير سبب شرعي - كالقصاص والحدّ ونحوهما - مع

ص: 111

بيان عاقبة ذلك، ولمّا كانت الآيات السابقة حول بني إسرائيل ونقضهم لعهودهم ناسب تذكيرهم بحرمة الدماء، لكثرة هتكهم لها وكثرة قتلهم للأنبياء وأولياء اللّه تعالى ومؤامراتهم لقتل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، ولبيان شناعة القتل وشدة الميثاق فيه قدّم اللّه قصة ابني آدم التي احتوت على تعاليم مختلفة ترتبط بشرع اللّه وبالقتل.

فقد بينت الآيات أن أحد أهم أسباب القتل هو الحسد وحذرت منه، وأن المؤمن لا بد أن يجتنبه خوفاً من اللّه تعالى، وأنه لا ينفع أحد الاجتناب عن الحق وعدم اتباعه؛ لأن اللّه لا يتقبل إلاّ من المتقين الذين أطاعوه فامتثلوا أمره ونهيه، وأنه لا يشرع القتل ظلماً حتى لمن يريد القتل، نعم لا بد من ردعه لكن لا بقتله، وأن القتل يكون سبباً لخسارة الظالم في الدنيا والآخرة وأنه يورث الندم، ومن عقوبته أن تسجّل آثام المقتول في سجل أعمال القاتل، وأن من شناعة القتل أن قتل الواحد كقتل الجميع وعكسه في إنقاذ الواحد فإنه كإنقاذ الجميع.

ثم إن كلام هابيل يتضمن مقاطع ثلاثةً:

1- أن شرط قبول الأعمال التقوى، فلا عمل يقبل إذا لم يكن خالصاً لوجه اللّه تعالى خالياً عن مبطلات العمل.

2- أنه لا يجوز البغي على من يريد البغي، نعم يجوز ردعه، وأما ظلمه فلا، ولذا لم يشرّع القصاص قبل الجناية، ولا العقوبة قبل الجريمة.

3- بيان عاقبة القاتل فهو يعاقب بأمرين:

أ: كتابة جميع ذنوب المقتول عليه مضافاً إلى ذنوبه نفسه، وذلك من العدل لأنه جزاء ظلمه.

ص: 112

ب: خسارته في الدنيا والآخرة.

حول القربان وسببه

الثاني: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا...} الآية.

أي اقرأ على اليهود هذه القصة تحذيراً لهم؛ لأن فيها يتبيّن شناعة القتلوأسبابه وعاقبته، عسى أن يتعظوا بذلك فيرتدعوا، فإن لم يرتدعوا يتبين للجميع سوء أعمالهم ليحذروهم.

وقوله: {نَبَأَ} النبأ والخبر بمعنى واحد، وليس في معناه العظمة كما قاله البعض، بل هو الخبر وإنما سُمّي نبأ ً لأنه ينقل من مكان إلى مكان كما في المقاييس(1) وأما عظمة النبأ كما في قوله تعالى: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}(2) فإنما استفيدت من الوصف لا من كلمة النبأ.

وقوله: {بِالْحَقِّ} إما متعلق بالتلاوة أي قراءة القصة بغرض صحيح لا بغرض باطل، أو متعلق بالنبأ، أي القصة الصحيحة لا بالخرافات والباطل؛ لأن من عادة الناس إضافة الخرافات والأساطير إلى القصص فيخرجونها عن واقعها.

وقوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} والقربان هو ما يُهدى بقصد التقرب إلى اللّه تعالى، وقد يكون بالأعمال الصالحة كالصلاة، وفي الحديث: «الصلاة قربان كل تقي»(3)، أو بتقديم الهدايا والتي ينتفع بها عباد اللّه تعالى، لكن قصد بها

ص: 113


1- مقاييس اللغة: 973.
2- سورة النبأ، الآية: 2.
3- الكافي 3: 265.

اللّه تعالى كهدي الحج حيث قال سبحانه: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}(1)، وقال: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}(2)، ثم قال: {لَنيَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ}(3)، وأما في زمان ابني آدم فلم يكن هناك فقير لذلك جعل اللّه تعالى علامة القبول ناراً تأكل القربان وجرت على ذلك السنة قبل نسخه في الإسلام قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٖ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(4).

وكان سبب القربان أن آدم أراد جعل الوصية في أحدهما فأمرهما بذلك ليجعل الوصية فيمن يقبل اللّه قربانه، وسأل سليمان بن خالد الإمام الصادق (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك، إنهم يزعمون أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما! فقال له: «يا سليمان تقول هذا؟! أما تستحيي أن تروي هذا على نبيّ اللّه آدم»؟! فقلت: جعلت فداك، ففيم قتل قابيل هابيل؟ فقال: «في الوصية»، ثم قال لي: «يا سليمان، إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم اللّه الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل فغضب، فقال: أنا أولى بالكرامة والوصية، فأمرهما أن يقرّبا قرباناً بوحي من اللّه إليه، ففعلا، فقبل اللّه قربان هابيل، فحسده قابيل، فقتله»(5).

ص: 114


1- سورة الحج، الآية: 28.
2- سورة الحج، الآية: 36.
3- سورة الحج، الآية: 37.
4- سورة آل عمران، الآية: 183.
5- تفسير العياشي 1: 312؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 370-371.

وقوله: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} لأنه أخلص النية وظهر ذلك في أنه قدّم خير غنمه للقربان.

وقوله: {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ} لأنه لم يخلص النية ولذلك ظهر ذلك فيعمله حيث قدّم أردأ زرعه، وفي الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «ثم إن آدم (عليه السلام) أمر هابيل وقابيل أن يقربا قرباناً، وكان هابيل صاحب غنم، وكان قابيل صاحب زرع، فقرّب هابيل كبشاً من أفاضل غنمه، وقرّب قابيل من زرعه ما لم يُنَقّ»(1).

وقوله: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} أوعده بالقتل حسداً منه، ولعلّه لم يتمكن من إخفاء قصده لشدة غيظه وحسده.

معنى القبول من المتقين

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.

هذه الموعظة الأولى من مواعظ هابيل الثلاث، وليس قول هابيل هذا تبجّحاً بأنه متقٍ وذماً بأن قابيل ليس بمتقٍ، ولعلّه قصد بذلك أمرين:

1- أنه لا ذنب له في قبول اللّه عمله، فلذلك لا مبرّر لقتله؛ لأن أفعال اللّه تعالى ليست من مسؤولية الناس.

2- حث قابيل على التقوى ليتقبل اللّه منه أعماله الآتية؛ لأن عدم القبول مرة لسبب معلوم لا يعني عدم القبول مرات أخرى لو زال السبب، فإن جاهد نفسه وروّضها على التقوى ثم أخلص النية والعمل قبل اللّه تعالى منه أعماله الآتية.

ولا يخفى أن التقوى درجات، كما أن القبول درجات أيضاً، وظاهر

ص: 115


1- الكافي 8: 113.

الآية أن عدم التقوى في عمل سبب لعدم قبول ذلك العمل، وهذا لا ينافي قبول أعمال المذنبين إذا كانت بإخلاص وصحة، كغالب عصاة المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة قربة إلى اللّه تعالى، ومع ذلك لا تخلوأعمالهم من الذنوب، فهؤلاء متقون بدرجة معينة لذا قد تقبل أعمالهم تلك، نعم لو خلا من الذنوب أجمع لكانت تقواه في الدرجة العالية فيكون القبول بدرجة أرفع، وقد تكون الذنوب كثيرة جداً بحيث تحيط به فلا يكون متقياً أصلاً فلا قبول لأي عمل من أعماله، وقد مرّ في بعض بحوث الحبط أن الكفر يُحبط جميع الأعمال، كما أن التوبة تكفّر عن جميع الذنوب، وأن المؤمن الذي جمع بين الطاعات والذنوب يجازى بطاعاته ويستحق العقوبة بذنوبه، فراجع.

الرابع: قوله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ...} الآية.

هذه الموعظة الثانية لهابيل، بأن عليه أن يترك القتل مخافة اللّه تعالى الذي حرّم القتل.

وليس معنى الآية عدم دفاعه عن نفسه وعدم تحذّره من ذلك كما زعمه بعض المفسرين؛ لأن ذلك لا يظهر من الآية ولا من الروايات، بل في رواية دلالة على أن القتل كان غيلة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «فلم يزل يرصده ويتبع خلواته حتى ظفر به متنحياً عن آدم (عليه السلام) فوثب عليه فقتله»(1).

فقول هابيل: {مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} يتضمن الوعظ لذلك

ص: 116


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 364؛ عن تفسير العياشي 1: 306.

أتمّه بقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَٰلَمِينَ}، بل لعلّ هكذا تعبير هو تحريك لعاطفة الأخوة بأني لا أريد شرّك ولا أهمّ بضررك، وهكذا تعبير يتضمن الجانب العاطفي مضافاً إلى الجانب الشرعي، كما يقول أحدهم لأخيه وهويريد ضرره: لماذا تريد أن تضرني مع أني لا أريد ضررك بل أريد خيرك.

فحاصل معنى الآية: أني لا أريد قتلك ظلماً حتى وإن كنت أنت تريد قتلي ظلماً فلا دلالة لها على عدم جواز الدفاع عن النفس حين اعتداء المعتدي كي نحتاج إلى تأويل ذلك بأنه لعلّه كان كذلك في شريعة آدم!

من الآثار الوضعية للقتل

الخامس: قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ...} الآية.

هذه الموعظة الثالثة من مواعظ هابيل وهي تتضمن بيان عقوبة من عقوبات القاتل وهي جمعه بين آثام المقتول وآثام نفسه، ومن ثَمَّ عقوبته في الآخرة بالنار.

أما العقوبة الأولى: فهي تحصل فور تحقق القتل، بأن تنتقل جميع ذنوب المقتول إلى صحيفة أعمال القاتل، فيلقى المقتول ربه تعالى طاهراً خالياً من الذنوب، ويلقى القاتل ربّه بذنوب نفسه وذنوب المقتول جميعاً، وهذا لا ينافي قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}(1)، وقوله: {وَمَا هُم بِحَٰمِلِينَ مِنْ خَطَٰيَٰهُم مِّن شَيْءٍ}(2). وذلك لأن القتل يجعل ذنوب المقتول أعمالاً للقاتل ثم يعاقب القاتل عليها لكونها أعماله، وهذا نظير عدم منافاة قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا

ص: 117


1- سورة الأنعام، الآية: 164.
2- سورة العنكبوت، الآية: 12.

سَعَىٰ}(1)، مع ثبوت الدية على الجاني والضمانات على المعتدي؛ لأن العامل الذي عمل لسنين طويلة حتى جمع أموالاً من سعيه إذا جنى علىأحد لزمته الدية، فتنقل منه إلى المجني عليه أو ورثته، كذلك إذا أتلف مال الغير لزمه الضمان فتنتقل أمواله إلى المضمون له، فتصير تلك الأموال أموال المجني عليه أو المضمون له حقيقة، وبعبارة أخرى من طبيعة القتل نقل ذنوب المقتول إلى القاتل فتصير أعماله حقيقة فيعاقب عليها، كما أن طبيعة الجناية وإتلاف مال الغير نقل أموال الجاني والمتلِف إلى غيره حقيقة فيملكها ويتصرف فيها تصرف المالك، وقد مرّ شطر من الكلام في بحث الحبط فراجع، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «من قتل مؤمناً متعمداً أثبت اللّه على قاتله جميع الذنوب وبرّأ المقتول منها»(2).

وأما العقوبة الثانية: فهي العقوبة في الآخرة، وهو أن يكون من الخالدين في النار، قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(3).

وأما العقوبات التشريعية بالقصاص وغيره فلم يذكرها هابيل، إما لأنها لم تشرّع حينذاك، أو لأنه لم يكن لذكرها فائدة لعدم احتمالها الرادعيّة، ولذا ذكرها اللّه تعالى بعد آيات في الآية 45 من هذه السورة فكأنها تتمة لبيان العقوبات في هذه القصة.

ص: 118


1- سورة النجم، الآية: 39.
2- المحاسن 1: 105.
3- سورة النساء، الآية: 93.

وقوله: {إِنِّي أُرِيدُ} الظاهر أن هنا تقدير، أي لو قتلتني فإني أريد، كما لو هدَّدك أحد بالقتل فتقول: إذاً أريد قصاصك، وقيل: الإرادة هنا مجازية للمقابلة كما يقال: أردت أن يفعله غيري لا أنا، وقيل: حينما يدور أمران بينشخصين يقول أحدهما: إني أريد كذا، كناية عن اختياره.

وقوله: {أَن تَبُوأَ} من باء بمعنى رجع، كأنه يذهب إلى القتل فيرجع بالإثم.

وقوله: {وَذَٰلِكَ جَزَٰؤُاْ الظَّٰلِمِينَ} يتضمن بيان أن رجوعه بالإثمين ليس ظلماً له، بل هو جزاء له على ظلمه فهو من العدل.

السادس: قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَٰسِرِينَ}.

أي لم تنفعه المواعظ؛ لأن نفسه الأمّارة بالسوء قد تحكّمت عليه فحملته على القتل فاستجاب لها، فلم تنفعه تلك النفس ولا نفعه التنفيس عن حسده، بل أصبح خاسراً في دنياه وآخرته.

أما خسارته الدنيوية: فإن معصية القتل جرّته إلى معاصٍ أخرى إلى أن انتهى به المطاف إلى الكفر، كما أن أباه طرده، ونفسه اللوامة أوخزته، وقد بينت الروايات جانباً من الخسارات التي مُني بها.

وأما خسارته الأخروية: فهي ما ذكرته الآيات السابقة، وفي بعض الروايات بيان جانب من عقوبته البرزخية كتعليقه من قرونه في عين الشمس(1) ونحو ذلك، ولا وجه لإنكارها ورميها بالوضع! لأن كيفية عذاب

ص: 119


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 363-370.

البرزخ من الغيب الذي لا طريق له إلا الوحي، ومجرد استبعاد كيفيته لا يكون دليلاً على عدم صحتها، قال تعالى: {وَحَاقَ بَِٔالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(1).

وقوله: {فَطَوَّعَتْ} مادة (ط و ع) تدل على الانقياد، والمعنى حملته نفسه على الانقياد لها وإطاعتها، ولذا فسرها البعض ب-(سهّلت) أو (شجّعت) ونحو ذلك، فالمعنى أن نفسه الأمارة بالسوء حملته على الانقياد لها وإطاعتها، كما يقال في عكسه: (أبت نفسه كذا) أي منعته عنه، فكأن المراد أن هذه المواعظ كانت كافية لتحجزه عن القتل، إلاّ أن نفسه غلبته فسهّلت له أمر القتل.

وقوله: {فَقَتَلَهُ} أي نتيجة تطويعها أنه ارتكب المعصية بالقتل، وفي ذلك تحذير من الاستجابة للنفس ولزوم ترويضها والحذر منها.

السابع: قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

الظاهر أن سبب بعث الغراب هو كرامة هابيل على اللّه تعالى، فما أراد أن يبقى جثمانه على الأرض، ولعله أراد أيضاً بيان خسة قابيل بحيث لم يكن قابلاً لأن يلهمه اللّه تعالى ذلك، بل ألهمه اللّه للغراب ثم بعثه إلى حيث يراه قابيل ليتعلم منه الدفن.

وقوله: {يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} البحث والفحص متقاربا المعنى إلاّ أن الأصل في البحث أن يكون في التراب عادة(2)، والغراب يحفر برجله

ص: 120


1- سورة غافر، الآية: 45-46.
2- راجع مقاييس اللغة: 99 عن الخليل: «البحث طلبك شيئاً في التراب».

الأرض ويخزن فيها طعامه، وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: «فلما قتله لم يدرِ ما يصنع به، فجاء غرابان، فأقبلا يتضاربان حتى اقتتلا، فقتل أحدهماصاحبه ثم حفر الذي بقي الأرض بمخالبه، ودفن فيها صاحبه»(1)، وقد أثبت علم الحيوان الحديث أنه أحياناً تقتل الغربان أصحابها لخيانة ثم تدفنها في التراب.

وقوله: {سَوْءَةَ أَخِيهِ} أي جثته، والسوءة كل ما يكرهه الإنسان أو يكره ظهوره، وإنما سماه سوءة لأن الحي يسوؤه أن يرى الميت، وقابيل ساءه أن يرى هابيل مقتولاً.

وقوله: {يَٰوَيْلَتَىٰ} (الويلة) و(الويل) كلمة توجّع تقال لمن وقع في هلكة، وقيل: هي الهلكة، ثم أطلقت على وادٍ في جهنم، وقد تضاف إلى ياء المتكلم وقد تبدل الياء ألفاً، وتستعمل في التعجب والتفجّع والتحسر والتشنيع.

وقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّٰدِمِينَ} الظاهر أن الفاء ليست تفريعاً على عمل الغراب والتعلّم منه، بل على أصل القتل، فكأنّ المعنى فلمّا دفن أخاه ندم على قتله، وهذا دأب كثير من المجرمين يندمون بعد ارتكاب الجرم؛ لأنهم يرجعون إلى فطرتهم أو إلى عقولهم بعد زوال غشاوة الغضب أو الشهوة فيتنبهون إلى سوء صنيعهم، وأما الشيطان الذي أغواهم فإنه يخذلهم في هذه الساعات، وأما النفس الأمارة بالسوء فإنها بعد نيلها مبتغاها لا تهتم بصاحبها، بل تتحول إلى نفس لوّامة!

ص: 121


1- تفسير القمي 1: 165؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 361-362.

الثامن: قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا...} الآية.

أي بسبب سوء القتل وعاقبته الوخيمة - التي ذكرت في الآيات السابقة - شرّع اللّه على بني إسرائيل حرمة القتل وقدّر عقوبة شديدة له في الدنيا والآخرة، وبهذا يتبيّن أن معنى الآية واضح فلا حاجة لكثير من تكلفات بعض المفسرين في تفسيرها.

فقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ} (أجْل) بمعناه المتبادر وهو التعليل والتفريع، واسم الإشارة يعود إلى ما ذكر في الآيات السابقة، وليس إلى آية بحث الغراب، فليس معنى الأجل الجناية ولا الجزاء على الجريمة كما ذكره بعض اللغويين وتبعهم بعض المفسرين!

وقوله: {كَتَبْنَا} قد مرّ أن الكتابة قد تكون تشريعية وقد تكون تكوينية، وهنا أريد المعنيان، فقد كتب اللّه بشرعه حرمة القتل، وكتب بقضائه العقوبات الشديدة له بحيث ساوى قتل إنسان واحد قتل جميع الناس، وساوى إحياء واحد إحياء الجميع.

وقوله: {عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} إنما خصهم بالذكر؛ لأنهم مورد الخطاب في هذه الآيات والغرض هو وعظهم أولاً وبالذات ثم وعظ غيرهم، وللتشنيع عليهم بمخالفاتهم وقتلهم الأنبياء والأولياء، أو لأنهم كانوا أول أمة لها شريعة مكتوبة، عكس الشرائع السابقة التي كان يتبعها ناس محدودون، أو لغير ذلك.

وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ} لبيان استثناءين من حرمة القتل،

ص: 122

حيث يجوز القتل قصاصاً، كما يجوز القتل حداً؛ عقوبة لمن أفسد في الأرض، والإفساد في الأرض موارد خاصة بينها الكتاب والسنة،كالمحارب والباغي وقاطع الطريق ومرتكب بعض الجرائم الخاصة، ولا يجوز التعدي عن هذه الموارد المنصوصة فلا عموم للإفساد في الأرض، وسيأتي بحثه في الآية التالية.

وقوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} هذا تشنيع للقتل ببيان أن قتل الواحد كأنه قتل الجميع، وبالنتيجة بيان أن قاتل الواحد يعاقب بعقوبة قاتل الجميع، فلو قتل اثنين فكأنه قتل جميع الناس مرّتين، ولو قتل ثلاثة فكأنه قتل الجميع ثلاث مرات وهكذا، وسأل حمران الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «قلت: وكيف {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} فإنما قتل واحداً! فقال: يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعاً إنّما كان يدخل ذلك المكان. قلت: فإنه قتل آخر؟ قال: يضاعف عليه»(1).

وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) أنه قال: «له في النار مقعد لو قتل الناس جميعاً لم يرد إلاّ إلى ذلك المقعد»(2).

وقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي يعطى ثواب إحياء الجميع - حسب ما بيناه في المقطع السابق - فلو أحيا اثنين فكأنما أحيا جميع الناس مرتين فيعطى ثواب إحيائهم مرتين وهكذا، والمراد من (الإحياء) هو الإنقاذ من الموت بالحرق أو الغرق أو السبع أو العدو ونحو ذلك.

ص: 123


1- الكافي 7: 271.
2- الكافي 7: 272.

ثم إن للآية تأويلاً - هو التأويل الأعظم - وهو إهلاكها عبر إضلالها، وإحياؤها عبر هدايتها، وقد استعملتا بهذا المعنى في الآيات والأحاديث،كقوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا}(1)، وقال: {اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(2)، وقال: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٖ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٖ}(3)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تأويل هذه الآية قال: «من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها»(4)، وسأل فضيل بن يسار الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية فقال (عليه السلام) : «من حرق أو غرق، قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هُدى؟ قال: ذلك تأويلها الأعظم»(5).

التاسع: قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم...} الآية.

بعد ذكر تشريع حرمة القتل على بني إسرائيل وبيان عاقبة القتل، تمّ بيان أن اللّه تعالى لم يكتف بمجرد التشريع، بل أرسل رسلاً تترى من بعد موسى (عليه السلام) والتوراة، وأراهم الآيات والبينات الكثيرة؛ لئلا يبقى مجالٌ للاعتذار، لكنهم مع ذلك عتوا وخالفوا أوامر اللّه تعالى في القتل وغيره، بل تعدوا ذلك إلى قتل الأنبياء أنفسهم.

ص: 124


1- سورة الأنعام، الآية: 122.
2- سورة الأنفال، الآية: 24.
3- سورة الأنفال، الآية: 42.
4- الكافي 2: 210.
5- الكافي 2: 210.

وقوله: {بَعْدَ ذَٰلِكَ} أي بعد الكتابة وبعد إرسال الرسل بالبينات.

وقوله: {لَمُسْرِفُونَ} من الإسراف بمعنى تجاوز الحدّ، وعن الإمامالباقر (عليه السلام) : «المسرفون هم الذين يستحلون المحارم ويسفكون الدماء»(1).

ص: 125


1- مجمع البيان 3: 462.

الآيتان 33-34

اشارة

{إِنَّمَا جَزَٰؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 33 إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 34}

33- نهى اللّه تعالى في الآيات السابقة عن القتل وشنّع فيه وكان قد استثنى القتل قصاصاً أو للفساد في الأرض، ففي هذه الآية يتم بيان الاستثناء، فقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَٰؤُاْ} أي العقوبة الدنيوية {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} بمخالفة أحكامه {وَرَسُولَهُ} بمعارضة ولايته {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} بالإخلال بالأمن عبر شهر السلاح أن يعاقبوا بإحدى العقوبات الأربع المذكورة، وإلإمام مخير بينها، وإن كان الأفضل {أَن يُقَتَّلُواْ} إن قَتَلوا، {أَوْ يُصَلَّبُواْ} أي يشنقوا إن قَتَلوا وسَرَقوا، {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَٰفٍ} بقطع اليد اليمنى والر ِجل اليسرى إن نهبوا الأموال، {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ} بإبعادهم من بلدهم إلى بلد آخر إن شهروا السلاح فقط ولم يقتلوا ولم ينهبوا، {ذَٰلِكَ} الجزاء {لَهُمْ خِزْيٌ} أي ذُلّ بهوان {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لعظم جرمهم فلا يسقط عذاب الآخرة بعقاب الدنيا.

ص: 126

34- {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ} وهذا استثناء خاص بالحدّ الذي هو حق اللّهتعالى، وأما القصاص فهو موكول إلى أولياء المقتول {مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} قبل القبض عليهم، وفي ذلك حث لهم على ترك المحاربة والتوبة، {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لذا رفع الحدّ عنهم، وأما عذاب الآخرة فيرفع بالتوبة سواء كانت قبل اعتقالهم أم بعده.

بحوث

الأول: تضمت الآيات السابقة بيان شناعة القتل وأنه يوجب خسارة الدارين وشدة عقابه في الآخرة إذا كان {بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ}، فأراد اللّه بيان الاستثناء بجواز قتل من ارتكب أحد الأمرين فذكر جريمة جامعة بين الأمرين - أي القتل ظلماً والإفساد في الأرض - وهي جريمة قطع الطريق؛ لأنها إفساد يتضمن القتل كثيراً ما، وهذه الجريمة لها درجات من حيث الجرم، ولذلك تعددت العقوبة بحسب مقدار الجريمة وشناعتها، وحيث إن اللّه لم يشرّع الأحكام والعقوبات على مخالفتها إلاّ لتربية الناس وإصلاحهم وإصلاح شؤونهم ولأنه خلقهم ليرحمهم وقد سبقت رحمته غضبه لذلك يرحمهم كلّما لم يكن العفو والغفران على خلاف الحكمة، وقاطع الطريق إن كان يائساً عن العفو عنه استمر في جريمته، وكثيراً ما يصعب الوصول إليه والقضاء على شرّه لتحصنه بالجبال ونحوها، وفي ذلك نقض للغرض من إحلال الأمان للناس، لذا شرّع اللّه تعالى قبول توبته وإسقاط الحدّ عنه ليرجع عن غيّه فتأمن السبل للناس، مضافاً إلى نيله رحمة اللّه تعالى عبر تلك التوبة التي تجعله قابلاً لها فيرتفع

ص: 127

عنه عذاب الآخرة، هذا إذا لم يكن قد ارتكب قتلاً،فإنه حينئذٍ تعلق به حق الناس بالقصاص ولا مجال للتنازل عن حقوق الناس إلاّ أن يتنازلوا هم عنها، ويمكن إرسال وسائط بين أولياء المقتول وقاطع الطريق ليعفوا عنه أو ليرضوا بالدية فيكون ذلك جمعاً بين حقهم وبين فسح المجال له للتوبة وبين تأمين الطرق.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَٰؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا...} الآية.

ظاهر الآية أن اجتماع هذه الثلاثة معاً هي السبب لهذه العقوبات، فوجود أحدها لا يكفي فيها كما في كلّ جزاء كان شرطه مركباً من عدة أمور.

ومحاربة اللّه إنما تكون بمخالفة أحكامه، فكل معصية حرب له، كما قال في الربا: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٖ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}(1)، ومحاربة الرسول إنما تكون في مخالفة أوامره الولائية أو مخالفته فيما له الولاية فيه بنقضها، والإفساد في الأرض يتحقق عادة عبر الإخلال بالأمن وهو يلازم عادة شهر السلاح، فمن استجمع هذه الأمور الثلاثة كانت عقوبته ما هو مذكور في هذه الآية.

وقوله: {إِنَّمَا} للحصر، بمعنى أنه لا عقوبة أخرى، فلا يُعاقب بالسجن أو الغرامة أو نحو ذلك.

وقوله: {جَزَٰؤُاْ} يراد به الجزاء الدنيوي، وأما الجزاء الأخروي فمذكور في آخر الآية بقوله: {وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

وقوله: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} قيل: محاربة اللّه قد تكون بمحاربة أوليائه نظير

ص: 128


1- سورة البقرة، الآية: 279.

قوله: {يُؤْذُونَ اللَّهَ}(1)، لكن الظاهر أن محاربة اللّه هي بمعناها الحقيقي بمعنى نصب الحرب له بمخالفة أحكامه، وعدم قدرتهم وعجزهم وقدرة اللّه تعالى الغالبة لا يخرج عملهم عن معنى الحرب، نعم محاربة أولياء اللّه تستلزم محاربة اللّه تعالى؛ لأن اللّه أمر بموالاتهم فمعاداتهم مخالفة لأمره تعالى، ثم إن (المحاربة) مفاعلة، وباب المفاعلة وإن كان يستعمل أحياناً بين الاثنين إلاّ أن استعماله شائع فيما لو كان من طرف واحد، مثل سافر، وفي هذه الآية كلاهما ممكن، فهم الذين يحاربون اللّه، أو كما يحاربونه فإنّ اللّه يعاقبهم في الدنيا والآخره فذلك حربه لهم.

وقوله: {وَرَسُولَهُ} أي يحاربون الرسول، ومحاربة اللّه وإن كانت محاربةً للرسول أيضاً كالعكس، حيث إن محاربة الرسول محاربة للّه تعالى، إلاّ أن الظاهر أن في محاربة الرسول خصوصية لذلك عطفه على محاربة اللّه، وذلك بأن تكون مخالفة لما فوّض اللّه إليه من الولاية والسلطة، فإن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مفوّض من قبل اللّه في الحكومة والسلطة وإحلال الأمان فقطع الطريق محاربة له (صلی الله عليه وآله وسلم) من هذه الجهة أيضاً.

وقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} لعل اختيار هذه الجملة على (يفسدون في الأرض) مع أنها أكثر اختصاراً لأجل أنه يكفي قطع الطريق وشهر السلاح حتى لو لم يقتل ولم ينهب مالاً، فينطبق على المتمردين الذين يشهرون السلاح بوجه الحاكم العادل وبوجوه الناس حتى لو لم يفعلوا شيئاً سوى ذلك، فتأمل.

ص: 129


1- سورة الأحزاب، الآية: 57.

عقوبة المحارب

وقوله: {أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ...} باب التفعيل لأجل الحث والتحريض؛ لأن التفعيل يدل على التكثير، وقد يستعمل للتكثير بغرض الحث أو التشنيع كقوله: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَٰبَ}(1)، فكأن المقصود عدم الرأفة بهم نظير قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}(2)، أو المقصود قتلهم جميعاً حتى لو كانوا متعددين.

وقوله: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الْأَرْضِ} بالإبعاد من مدينتهم إلى مكان آخر لمدة سنة ويضيّق عليهم في مكان إبعادهم بنهي الناس عن مناكحتهم ومعاملتهم ومجالستهم ومواكلتهم ونحو ذلك كما في بعض الأحاديث(3)، ثم إنه قد ورد في رواية حبسهم، فعن الإمام الجواد (عليه السلام) : «فإن كانوا أخافوا السبيل فقط ولم يقتلوا أحداً ولم يأخذوا مالاً أمر بإيداعهم الحبس، فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل»(4)، ولعل ذلك فيما لو كان إبعادهم لا يردعهم فيحتمل رجوعهم إلى قطع الطريق مرّة أخرى.

ثم إنه قد وردت روايات في تخيّر الحاكم الشرعي بين هذه العقوبات الأربع، ودلت بعض الروايات على أن معنى ذلك هو التفويض إليه في أن يختار منها ما هو الأنسب إلى مقدار الجريمة؛ لأن قطع الطريق أنواع

ص: 130


1- سورة يوسف، الآية: 23.
2- سورة النور، الآية: 2.
3- راجع الكافي 7: 246؛ وتهذيب الأحكام 10: 134.
4- تفسير العياشي 1: 315؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 383-384، ويمكن حمله على التقية لموافقته العامة، وكان الكلام للمعتصم العباسي بمحضر فقهاء العامة.

ودرجات، وفي بعض الروايات تعيين نوع الجريمة مع عقابها، فمن قتل يقتَّل، ومن قتل ونهب يصلَّب، ومن سرق تقطَّع يده ورجله من خلاف، ومن شهر سلاحاً من غير قتل ولا نهب يُنفى(1)، ولذا اختلف الفقهاء في أن {أَوْ} في الآية للتخيير أو للترتيب حسب نوع الجريمة، وإن كان الأقرب هو كونها للتخيير حسب ظاهر كلمة (أو)، وأن الترتيب بالكيفية المذكورة مستحب إذا رآه الإمام صلاحاً، وسأل جميل بن دراج الإمام الصادق (عليه السلام) : «فقلت: أي شيء عليهم من هذه الحدود التي سمّى اللّه عزّ وجلّ؟ قال: ذلك إلى الإمام إن شاء قطع، وإن شاء صلب، وإن شاء نفى، وإن شاء قتل»(2)، وللتفصيل راجع موسوعة الفقه للسيد الوالد رضوان اللّه عليه(3).

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

أي إنّ هذا الجزاء هو خزي لهم في الدنيا، و(الخزي) هو ذلّ مع هوان، ولذا قيل: إنه ذل مع افتضاح، وقيل: هو الانقماع لقبح الفعل(4)، فهذه العقوبة خزي لهم، ولا يخفى أن هذا ليس علة تشريع الحكم، بل بيان عاقبته ومآله بالنسبة إلى المجرم، وأما سببها فهو الانتصار للمظلوم وتأمين الطرق وقطع شأفة المعصية وردع من تسوّل له نفسه بارتكاب مثله، لكن هذه العقوبة تلازم خزيه.

ص: 131


1- راجع الروايات في كتاب وسائل الشيعة 28: 307-313.
2- الكافي 7: 245.
3- الفقه 88: 227-232.
4- مجمع الفروق اللغوية: 215.

ثم إن غالب العقوبات الدنيوية هي كفارة للذنب وبذلك لا يعاقب عليه في الآخرة، وفي الحديث: «فاللّه أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين»(1)، وظاهره أنه كذلك حتى لو لم يتب، إذ لا إشكال في محو العقوبة الأخروية بالتوبة النصوح، إلاّ أن بعض الذنوب لبشاعتها وشناعتها لا يمحوها الجزاء الدنيوي، بل لا بد من ضميمة التوبة إليه، ومن ذلك قطع الطريق، ولذا أكمل الآية بقوله: {وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وكأنّ وصف العذاب بالعظمة للدلالة على شدة الجريمة وعدم كفاية الجزاء الدنيوي لمحوها.

الرابع: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

هذا فسح المجال لهم للتوبة؛ لأن المجرم الذي لا أمل له يستمر في جرمه بل قد يضاعفه، خلاف من فسح له المجال للرجوع، وهذه الحكمة تنحصر فيما لو جاء هو تائباً قبل اعتقاله، وأما لو اعتقل فلا تجري هذه الحكمة، بل كل مقبوض عليه يظهر الندم ظاهراً فراراً من العقوبة فلو قبلت منه لم يكن هناك معنى لتشريع العقوبات، وهكذا في الذنوب، فإن الإنسان مادام في الحياة الدنيا تقبل توبته فسحاً للمجال له للتوبة لئلا يقنط من رحمة اللّه فيتمادى في غيه، أما بعد موته وحين المعاينة فكل العصاة يندمون فلا يرتفع العقاب عنهم بذلك قال سبحانه: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَٰلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْيَعْمَلُونَ}(2).

ص: 132


1- الكافي 2: 443.
2- سورة سبأ، الآية: 33.

ولا يخفى أن قبول التوبة قبل الاعتقال حكم عام لجميع الجرائم وتسقط به الحدود التي هي من حقوق اللّه، وأما حقوق الناس فلا تسقط فلا بد من ردّ ما سرقه، وكذا لو كان قاتلاً لم يسقط حق أولياء الدم في القصاص، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «السارق إذا جاء من قبل نفسه تائباً إلى اللّه عزّ وجلّ ردّ سرقته على صاحبها فلا قطع عليه»(1).

وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ...} استثناء من العقوبتين - عقوبة الدنيا والآخرة - فإن التوبة قبل القدرة عليه حقيقية عادة لا صورية، وبذلك تسقط عقوبة الدنيا كما ذكرناه، وعقوبة الآخرة كما هو واضح وعليه فقوله: {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بيان سبب إسقاطه للعقوبتين وليس مجرد سبب لإسقاط الجزاء الدنيوي، فالخزي الدنيوي بالحد والعذاب الأخروي يسقطان بالتوبة قبل المقدرة بسبب أن اللّه غفور يستر ذنوب عباده، وفوق ذلك أنه يرحمهم بالثواب بسبب التوبة ولسائر أعمالهم الصالحة، أو يستر ذنوب عباده لرحمته بهم.

ص: 133


1- الكافي 7: 220.

الآيات 35-37

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 35 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 36 يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ 37}

35- لمّا ذكر القتل وحكم المحارب وتوبته، يتوجه الكلام إلى المؤمنين لوعظهم وإلى الكفار لتحذيرهم فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ} احذروه فاحفظوا أنفسكم من عقابه، {وَابْتَغُواْ} اطلبوا {إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وهي السبب الذي يقرّب إلى اللّه تعالى كالأعمال الصالحة والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، {وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} بمحاربة أعداء اللّه الخارجين عن طاعته سواء الأعداء الظاهرة أم الباطنة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تنالون الخير والنفع الباقي.

36- وفي المقابل {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فلم يتقوا ولم يبتغوا الوسيلة ولم يجاهدوا، فهؤلاء مصيرهم إلى النار و{لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} من الأمور المادية كالثروة والقدرة {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} هذا للتكثير {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} ليجعلوه فدية وبدلاً {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} كعادتهم في الدنيا بدفع الرشوة أو الغرامة {مَا تُقُبِّلَ} ذلك الفداء {مِنْهُمْ} والغرض بيان عدم

ص: 134

نجاتهم من العذاب، وفي ذلك دلالة على عظمة وأهمية الوسيلة فإنها المنجاة دون ما في الأرض ومثله، {وَ} بعد عدم قبول الفداء ف-{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} موجع.

37- {يُرِيدُونَ} يريد الذين كفروا أي يحاولون أو يتمنون {أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنْهَا} لا يتمكنون أو لا تتحقق أمنيتهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم لا يزول.

بحوث

الأول: لمّا ذكر القتل وآثاره وذكر المحاربين وعقوبتهم وذكر التوبة وشرطها، بعد ذلك يتوجه الكلام إلى المؤمنين والكفار موعظةً لهم وتحذيراً، وذلك لتربية الناس وتعليمهم كيفية الفوز والنجاة، كدأب القرآن في الموعظة والتحذير حين ذكرحالات الناس والأحكام، ففي البداية يتم الخطاب للمؤمنين بتعليمهم وموعظتهم بأن طريق الفلاح هو التقوى والوسيلة والجهاد، ثم تحذير الكفار من عذاب الآخرة وعدم نفع الأموال والماديات في النجاة منها، فقابل بين الوسيلة وبين ما في الأرض ومثله، فالوسيلة نيلها ليس بالأمر الصعب لكنها سبب الفلاح، وأمّا ما في الأرض ومثله فنيله مستحيل لكنه لو كان للإنسان فلا ينفعه في النجاة من النار، كما قابل بين الجهاد وبين إرادة الخروج من النار، فالجهاد أمر فيه صعوبة لكن نتيجته الفلاح، وأما ما يريده الكفار من الخروج من النار ففيه عظيم المشقة مع عدم نفعه، فكيف حال الكافر الذي يترك الأسهل المُنجي إلى الأصعب غير المُجدي، وهل ذلك من العقل في شيء، قال سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا

ص: 135

نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(1) كما أن في ذلك تعليم طرق إصلاح النفس والعمل لتحترم المواثيق مع اللّه تعالى.

من أسباب الفلاح

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ...} الآية.

في هذه الآية يتم بيان أن سبب الفلاح أمور ثلاثة:

1- {اتَّقُواْ اللَّهَ} وهذا في أصله أمر نفسي، أي خافوه واحفظوا أنفسكم من غضبه وعذابه، كما أنه شاع استعمال التقوى في ترك المعصية، وكذا في فعل الطاعات، إلاّ أن المراد هنا بقرينة المقابلة مع طلب الوسيلة والجهاد هو الأمر النفسي، فإن منطلق الطاعة أو المعصية هو النفس بترويضها وكبح جماحها، فمن كانت نفسه تقيّة ظهر ذلك في أعماله، وكذلك من لم تكن كذلك.

2- {وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} الابتغاء من البغي بمعنى الطلب، ومن معاني باب الافتعال المعاناة في تأثير الشيء والمبالغة والاحتيال فيه(2)، وفي المفردات: «وأما الابتغاء: فقد خُص بالاجتهاد في الطلب»(3).

الوسيلة هم الرسول وآله (عليهم السلام)

و{الْوَسِيلَةَ} السبب الذي يتخذ إلى الشيء، أصله من وسّل إلى كذا إذا تقرّب إليه، والوسيلة قد تكون بالعمل وهي طاعته سبحانه، وقد تكون بالشفعاء كما قال سبحانه وتعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ

ص: 136


1- سورة الملك، الآية: 10.
2- راجع شرح النظام: 151.
3- مفردات الراغب: 137.

الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}(1) حيث أراد بالوسيلة النبي والأئمة (عليهم السلام) ولذلك أرجع إليها ضمير ذوي العقول، ولو أريد بها الأعمال لقال: (أيّها)، ولو فرض أن الوسيلة منحصرة في العمل فيقال بأن ولاية الرسول والأئمة قلباً وإطاعتهم عملاً هي من أهم وسائل التقرب إلى اللّه تعالى؛ لأنه سبحانه قرن ولايتهم بولايته وطاعتهم بطاعته، وفي بعض الأحاديث: «إن الوسيلة هي درجة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في الجنة لها ألف مرقاة»(2)، وفي حديث آخر: «إن الوسيلة أعلى درج الجنة»(3)، ولعلّ هذا من إطلاق السبب على المسبب، أي أن الرسول وآله هم الوسيلة؛ لأن لهم أرفع الدرجات عند اللّه تعالى، وعن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية أنه قال: «الأئمة من ولد الحسين (عليهم السلام) ، من أطاعهم فقد أطاع اللّه، ومن عصاهم فقد عصى اللّه عزّ وجلّ، هم العروة الوثقى والوسيلة إلى اللّه عزّ وجلّ»(4)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الآية أنه قال: «أنا وسيلته»(5).

3- {وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} لما ذكر الأعمال الصالحة بذكر الوسيلة، ذكر ترك العصيان والانتهاء بنواهيه بالأمر بالجهاد، وهو جهاد النفس بمنعها عن المعصية وهي راغبة فيها، أو لما كانت الآيات السابقة حول حدّ المحاربين ذكر جهاد الأعداء بالخصوص لأهميته، ويمكن عموم الجهاد

ص: 137


1- سورة الإسراء، الآية: 57.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 388؛ عن معاني الأخبار: 116؛ وعلل الشرائع 1: 165.
3- الكافي 8: 24.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 3: 58.
5- البرهان في تفسير القرآن 3: 387؛ عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 3: 75.

لكلا المعنيين، جهاد النفس والأعداء.

ثم إن ضم {إِلَيْهِ} في قوله: {وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، وضم {فِي سَبِيلِهِ} في قوله: {وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} لأجل أن الوسيلة لا تنفع إلاّ إذا كانت إلى اللّه تعالى، فلا ينفع الغلاة مودتهم للرسول وآله؛ لأنهم لم يتخذوهم سبباً إلى اللّه تعالى، بل أشركوا فتبرّأ الرسول وآله منهم، وكذلك جهاد النفس وجهاد الأعداء لا بد أن يكون الغرض منه التقرب إلى اللّه، فلذا الرياضات غير المشروعة والأذكار المبتدعة هي جهاد في سبيل الطاغوت لا في سبيل اللّه، وكذلك مقاتلة الأعداء لا بغرض القرب إلى اللّه، بل بغرض الغنيمة مثلاً لا ينفع.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الرجاء إنّما هو باعتبار العامل، فإنه بعمله الصالحات يرجو الفلاح، أو هو من اللّه بمعناه المجازي بغرض حثّ المؤمنين على الصالحات، وأما الرجاء بمعناه الحقيقي فهو محال على اللّه تعالى لاستلزامه الجهل تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا...} الآية.

لما بين أن الوسيلة إلى اللّه هي النافعة في الفلاح قابله بأن وسيلة الكافر لا تعدو الماديات وهي لا تنفع في خلاصه من النار، فجميع ثروات الأرض لا تنفع في الفلاح والنجاة حتى لو ضم إليها مثلها، فالناس بثرواتهم وجاههم وقدرتهم قد يتخلصون من العقوبات الدنيوية بدفع رشوة أو غرامة، لكن ذلك لا ينفع في الآخرة؛ لأنهم أولاً: لا يملكون هناك شيئاً، إذ ملكيتهم في

ص: 138

الدنيا كانت اعتبارية وقد انقطعت عنهم بموتهم، وثانياً: لو فرض ملكهم للدنيا بأسرها فهي لا تعادل جريمة من جرائمهم والتي أشدها كفرهم وشركهم، وفي الآية تحذير شديد لهم بأن لا يستبدلوا بوسيلة اللّه السهلة شيئاً آخر فإنه لا ينفعهم قطعاً.

وقوله: {مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أعم من الثروات وسائر الأمور كالجاه والقدرة ونحوهما.

وقوله: {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} هذا للتكثير لا للتحديد، فالمراد لو كان لهم كل الأشياء المادية.

وقوله: {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} أي ليجعلوه فداءً لهم، أي بدلاً عن عذابهم.

وقوله: {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} لعدم صلاحيتهم وعدم صلاحية فدائهم للقبول، إذ إن اللّه يتقبل من المتقين وهم لم يكونوا بمتقين، كما أنه يقبل الأعمال الصالحة وليس هذه منها، فإن الإنفاق في الدنيا إنما يكون عملاً صالحاً إذا أريد به وجه اللّه تعالى، وهؤلاء في الآخرة لا يريدون وجهه، وإنما يريدون خلاص أنفسهم من مغبة جرائمهم التي لا بد أن يعاقبوا عليها.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هذا نتيجة عدم قبول الفداء منهم، كما كان الفلاح نتيجة قبول ابتغاء الوسيلة والتقوى والجهاد.

الرابع: قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنْهَا...} الآية.

الظاهر أن الإرادة هنا بمعنى القصد مع المحاولة أي يحاولون الخروج منها كما قال سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَىٰهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن

ص: 139

يَخْرُجُواْ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}(1)،

وقال: {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}(2)، وقد يكون من مصاديق إرادة الخروج هو استغاثتهم واصطراخهم قال سبحانه: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}(3)، وقال: {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ}(4)، وكأنّ ذكر إرادتهم الخروج من النار للمقابلة مع جهاد المؤمنين في سبيل اللّه، فالخروج للجهاد وإن كان شاقّاً لكنه وسيلة للفلاح، وهؤلاء تركوا الجهاد فابتلوا بعمل أشق مع كونه غير نافع لهم وهو محاولتهم الخروج من النار، وفي بعض الأحاديث دلالة على أن الكافر يلقى به في نار جهنم حتى إذا بلغ قعرها تحرك إلى أعلاها لينجو بنفسه وهو مع ذلك في عذاب شديد حتى إذا بلغ أعلاها قمع مرّة أخرى ليهوي إلى قعرها وهكذا حاله(5).

ص: 140


1- سورة السجدة، الآية: 20.
2- سورة الحج، الآية: 22.
3- سورة فاطر، الآية: 37.
4- سورة الزخرف، الآية: 77.
5- راجع البرهان في تفسير القرآن 5: 530؛ عن تفسير القمي 2: 81.

الآيات 38-40

اشارة

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 38 فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 39 أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ 40}

38- بعد ذكر عقوبة قطاع الطريق وهم الذين يسلبون الناس جهراً يتم ذكر حكم السرّاق وهم الذين ينتهبون الأموال سراً، فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} اليد اليمنى من أصول الأصابع، حال كون القطع {جَزَاءَ} أو لأجل الجزاء {بِمَا كَسَبَا} بما صنعا من السرقة {نَكَٰلًا} أي ردعاً له ولغيره {مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره لذا شرّع حكم القطع {حَكِيمٌ} فيما شرّعه لأنه مطابق المصلحة.

39- {فَمَن تَابَ} عن سرقته {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} عمله، ومنه ردّ المال المسروق إلى صاحبه {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} يقبل توبته ولذا يسقط عنه القطع لو تاب قبل اعتقاله، وكذلك يسقط عنه عقاب الآخرة بتوبته، وسبب قبول التوبة حيث {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يستر ذنوب عباده {رَّحِيمٌ} بهم.

40- وإنما شرّع اللّه هذا الحكم؛ لأنه مالك كل شيء فله الملك وإليه الحكم {أَلَمْ تَعْلَمْ} أيها السامع {أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}

ص: 141

يتصرف فيها كما يريد بحكمته {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} في الدنيا والآخرة ممناستحق العذاب {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} بفضله تعالى لمن كانت له قابلية المغفرة {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} سواء بتشريع الأحكام أم بالتكوين عبر الخلق والتصرف.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بِمَا كَسَبَا...} الآية.

سياق الآيات كان حول القتل وعقوبة المحارب وهو المستولي على أموال الناس جهراً، فأتم اللّه ذلك بحكم السارق وهو المستولي على أموالهم سراً، فجمع بين حكم النفوس والأموال، كما أن عدم التعدي على أموال الناس من مواثيق اللّه تعالى، كما أن حفظ النفوس وعدم التعدي عليها من مواثيقه.

وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} أضاف السارقة لتعميم الحكم ولئلا يتوهم أحد أن الحكم خاص بالرجال، وقد مرّ أن الأصل هو اشتراك الجميع في جميع الأحكام إلاّ ما دلّ الدليل على تخصيصه ببعضهم، قيل: إنما قدّم السارق لأن أكثر السراق من الرجال، عكس آية الزنا حيث قدّم الزانية لأجل امتهان الزنا عند البغايا، ولأن الزنا منهن أشنع.

وقوله: {فَاقْطَعُواْ} الخطاب وإن كان عاماً إلاّ أن المقصود منه الحكّام الذين يلون أمر الناس في القضاء، وهكذا في الأحكام الجزائية الأخرى.

وقوله: {أَيْدِيَهُمَا} لم يقل يديهما لأنه من البلاغة إذا أضيف التثنية إلى

ص: 142

مثلها أن يجمع المضاف، نظير قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}(1)، وقد حددَّت الأحاديث اليد هنا من مفاصل الأصابع مع ترك الإبهام والراحة، لأن الراحة من المساجد السبعة في السجود وقد قال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَٰجِدَ لِلَّهِ}(2) وما كان للّه لا يقطع.

ثم إن اللّه تعالى بين لحكم القطع سببين:

1- قوله: {جَزَاءَ بِمَا كَسَبَا} أي أنّ القطع إنما هو لأجل المكافاة، فهو يماثل الجريمة لذلك كان عقوبتها، وفي المفردات: «الجزاء ما فيه الكافية من المقابلة إن خيراً فخير وإن شراً فشر»(3)، وقد مرّ حديث أن اللّه أكرم من أن يجمع عقوبتين على عبد إلاّ فيما استثني مما لم تكن العقوبة الدنيوية مساوية للجريمة.

وقوله: {بِمَا كَسَبَا} الكسب والعمل والفعل والصنع متقاربة المعنى، ولعل اختيار كلمة الكسب على سواها؛ لأن الكسب يكثر استعماله في السعي لتحصيل المال.

2- قوله: {نَكَٰلًا مِّنَ اللَّهِ} والنكال هو العقوبة الرادعة، وأصلها بمعنى المنع قال الخليل: «والنكال: اسم لما جعلته نكالاً لغيره، إذا بلغه أو رآه خاف أن يعمل عمله»(4).

سبب التشديد في عقوبة السارق

فالغرض الثاني من تشديد هذه العقوبة هو ردع الآخرين عنها لمّا يرون

ص: 143


1- سورة التحريم، الآية: 4.
2- سورة الجن، الآية: 18.
3- مفردات الراغب: 195.
4- كتاب العين 5: 372.

شدة عقوبتها كما قال: {فَجَعَلْنَٰهَا نَكَٰلًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}(1).

وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وصف اللّه بهذين الوصفين عند العقوبة أنسب، فهو تعالى الذي حكم لعزته، وليس حكمه إلا طبق المصلحة وذلك بحكمته.

الثاني: قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ...} الآية.

فسح الطريق للسارق لكي يتوب مع وعده بقبولها، ولقبول التوبة مصداقان:

1- إسقاط العقوبة الدنيوية عنه، وذلك لو تاب قبل رفع أمره إلى الإمام واعتقاله، كما دلت عليه الأحاديث، وأما بعد اعتقاله فلا، نظير ما مرّ في حدّ المحارب.

2- إسقاط العقوبة الأخروية عنه فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

وقوله: {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي من بعد السرقة، فإنها ظلم للنفس بانتهاك الحرام وظلم لصاحب المال بسلبه ماله.

وقوله: {وَأَصْلَحَ} أي أصلح أمر نفسه وأصلح ما أفسده وذلك عبر إرجاع المال إلى صاحبه، ولا يخفى أن مفهوم التوبة يتضمن إصلاح ما أفسده، وقد مرّ أن التوبة وشروطها هي: الندم على الفعل، والعزم على عدم العود، وأداء حق اللّه وحق الناس إن كان، والاستغفار باللسان، فلذا تتضمن التوبة معنى الإصلاح، إلاّ أن ذكره بالخصوص تنبيه على لزوم إرجاع المال

ص: 144


1- سورة البقرة، الآية: 66.

وتأكيد عليه، أو الإصلاح هنا بمعنى ظهور الصلاح عليه بحيث يعلم بعدم عزمه على العود إلى السرقة، وفي الكافي عن الإمام الباقر أو الصادق‘ في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنا فلم يُعلم ذلك منه ولم يؤخذ حتى تاب وصلح؟ فقال: «إذا صلح وعرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحد»(1).

وحيث إن العقوبة هنا للتربية وللردع لذلك قبلت التوبة مع الإصلاح لتحقق الغرض حينئذٍ، فليس الحدّ في الدنيا والعذاب في الآخرة لمجرد التشفي، فإنّ اللّه منزه عن الكيفيات النفسانية، قال اللّه تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}(2).

الثالث: قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ...} الآية.

بيان أن التشريع للّه تعالى لأن التكوين له، فهو الخالق لكل شيء فله الحق في التصرف في مخلوقاته كما يشاء، ومن ذلك تشريعاته، ولذا قيد النكال في الآية السابقة بقوله: {نَكَٰلًا مِّنَ اللَّهِ} وقيد التوبة بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}، ولا معنى لأن يكون الخلق من اللّه والتشريع من غيره! وقد مرّ بحثه في أوائل سورة آل عمران، فراجع.

وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ} الخطاب لكل سامع يمكن أن يتلقى الخطاب، وهو استفهام تقريري لبيان انحصار التشريع وقبول التوبة به تعالى.

وقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} أي التصرف في كل شيء،

ص: 145


1- الكافي 7: 250.
2- سورة النساء، الآية: 147.

و(المِلك) بالكسر بمعنى الاستيلاء على الشيء، و(المُلك) بالضم بمعنى التصرف - كما قيل - وحيث إن المقصود بيان حقه في التشريع والتوبة لذلك ذكر تصرفه في كل شيء لأنها مخلوقاته.

وقوله: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} بحكمته سبحانه ممن استحق ذلك العقاب، ولذا شرّع قطع يد السارق جزاءً ونكالاً.

وقوله: {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} بفضله تعالى ممن له القابلية للمغفرة.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} تأكيد وتعليل لتشريعه وتكوينه، أي إنما شرّع هذه الأحكام لقدرته، كما أنه يتصرف في السموات والأرض بمشيئه لقدرته أيضاً، فهو الخالق لكل شيء المالك له، والجميع داخرون وخاضعون له سبحانه وتعالى.

ثم إن هناك تفاصيل كثيرة حول أحكام السرقة بينتها الأحاديث، فلإجراء حدّ السرقة شروط كثيرة، منها بلوغ المسروق ربع دينار - أي ربع مثقال شرعي من الذهب - وكونه من حرز، أي محفوظاً بحيث كسر السارق الحرز، وأن لا يكون في مخمصة، وغير ذلك من الشروط أنهاها السيد الوالد رضوان اللّه عليه في كتاب الصياغة إلى أربعين شرطاً.

ولا يخفى أن العقوبات هي آخر المطاف من الأحكام، بمعنى أن الإسلام يهيئ فرصة الحياة الكريمة للناس عبر أحسن القوانين فيهتمّ بالروح عبر تزكيتها وتربية الناس على ذلك، وعبر توفير فرص العمل مع رعاية الفقراء بحيث لا يبقى محتاج، وبعد ذلك لا يحتاج أحد إلى السرقة أصلاً، فمن يريد السرقة بعد ذلك فإنما هو لاعوجاج في نفسه، فلا بد من ردعه

ص: 146

وردع غيره بتشريع أشد العقوبات، ولذا في صدر الإسلام إلى فترة طويلة لم يطبق هذا الحكم إلا قليلاً؛ لقلّة السرقات جداً، ولمعرفة تفاصيل أحكام السرقة وحدها الشرعي وشروطه وغير ذلك راجع موسوعة الفقه للسيد الوالد أعلى اللّه درجاته(1).

ص: 147


1- الفقه 88: 55 فما بعد.

الآيات 41-43

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 41 سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُ-مْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَ-ن يَضُرُّوكَ شَئًْا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 42 وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ 43}

41- ومن مواثيق اللّه تعالى، الإيمان والعمل بالكتاب فقال: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ} لا يُسبّبوا حُزنك {الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي يبادرون إلى الأعمال الكفرية {مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَٰهِهِمْ} بألسنتهم {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْۛ} حيث بقيت على كفرها وهم النافقون {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْۛ} فكلا الصنفين يسارعون في الكفر وذلك دليل عدم إيمانهم، وهؤلاء المنافقون واليهود {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ} أي كثيرو الاستماع له بمعنى

ص: 148

قبولهم للافتراءات وخضوعهم لها، فهؤلاء لا يستمعون إليك بل هم {سَمَّٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ} وهم أحبار اليهود الذين {لَمْ يَأْتُوكَ} تكبراً وغيظاً وحسداً، والذين {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} كلام اللّه تعالى في التوراة {مِنبَعْدِ} أن وضع اللّه ذلك الكلم في {مَوَاضِعِهِ} أي أماكنه من التوراة فحرفوا بعض الأحكام بحذفها أو الزيادة والنقيصة فيها، وهم الذين {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا} أي إن حَكَم الرسول بهذا الحكم المحرّف {فَخُذُوهُ} اعملوا به، {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} أي حَكَم الرسول بخلاف هذا الحكم المحرّف {فَاحْذَرُواْ} عن قبوله، أي لا تقبلوه.

ثم يسلّي اللّه رسوله ببيان علّة النهي عن حزنه عليهم فقال: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} أي خَذَله اللّه بأن تركه حتى ضلّ بسبب سوء اختياره {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا} أي لا تقدر فعل شيء له، بل قضاء اللّه ماضٍ فيهم، {أُوْلَٰئِكَ} الأصناف الثلاثة وهم المنافقون واليهود السماعون واليهود المحرّفون {الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} عن دنس الكفر والنفاق؛ لأنهم رفضوا هداية اللّه بسوء اختيارهم فعاندوا بعد الدلائل، وعاقبة أمرهم {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي ذلّ بهوان حيث افتضح المنافقون لمّا بان للمسلمين نفاقهم وخسر اليهود أنفسهم وأهليهم وديارهم لمّا حاربوا المسلمين، {وَلَهُمْ فِي الْأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يوازي عظم جريمتهم.

42- ثم يبين اللّه لرسوله كيفية التعامل معهم فقال: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ} يقلبون الكذب دون الحق، {أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ} الحرام الشديد ممّا لا يحل أكله كالرشوة، وهذا كالمقدمة لبيان سبب عدم قبولهم لحكم

ص: 149

الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إذا خالف مصالحهم، {فَإِن جَاءُوكَ} لتحكم بينهم فأنت مخيّر وحسب المصلحة {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ} بحكم الشرع {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} بأن لا تحكم بينهم، {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَئًْا} لا في دينك ولا في دنياك، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} بالعدل لا بما تهوىأنفسهم وما حرّفوه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الذين يحكمون بالعدل.

43- ثم يبين اللّه أنهم لا يريدون حكمك بالقسط وإلاّ لعملوا بما في التوراة، {وَ} إنما جاؤوك لتحكم لهم بما يطابق هواهم، إذ {كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} والاستفهام للتعجيب فهؤلاء لا يؤمنون بك {وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} وهم يُقرّون بأنها أحكام اللّه تعالى ولو أرادوا العدل لعملوا بها من غير مراجعة من لا يؤمنون به، لكنهم إنما يريدون الفرار من حكم اللّه فيعلمون بأحكام التوراة {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} يعرضون عنها {مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ} الحكم المذكور فيها، {وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} بل إيمانهم كذب وإلاّ لعملوا بما في التوراة، فعُزوفهم عنها دليل على عدم إيمانهم وإنما هم يتبعون أهواءهم ومصالحهم حتى لو استلزمت تحكيم من لا يؤمنون به!

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى مجموعة من مواثيقه يبيّن ميثاقاً آخر منها، وهو ميثاقه بالعمل بأحكام الكتاب وعدم تحريفه، وذكر مثالاً من اليهود الذين يُعرضون عن أحكام التوراة لمخالفتها لمصالحهم مع أخذهم الرشوة لتحريفها، حتى إنهم مستعدون لتحكيم من لا يؤمنون به وقبول حكمه إذا

ص: 150

طابق هواهم، لكن اللّه تعالى يأمر رسوله بأنهم إن راجعوه فإمّا أن يعرض عنهم فلا يحكم في أمورهم، وإمّا إن أراد الحكم فليحكم بالعدل لا بما تمليه أهواؤهم، ثم يذكر اللّه تعالى مجموعة من أحكام التوراة غير المحرفة مما ترتبط بمباحث الآيات السابقة.

ثم إن هذه الآيات تقسّم المسارعين في الكفر إلى أصناف ثلاثة:

1- المنافقون وهم الذين لم يؤمنوا بقلوبهم، لذلك يرفضون الأحكام التي تخالف أهواءهم، بل يقبلون الافتراءات على اللّه فيما يتطابق مع مصالحهم.

2- عوام اليهود الذين هم كالمنافقين في قبولهم الكذب والأباطيل.

3- أحبار اليهود الذين يفترون على اللّه الكذب ويحرفون الكتاب ويخدعون الصنفين الأولين.

وفي الآيات تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبشارة له بعدم تمكن هؤلاء من الإضرار به، وتتضمن مجموعة تعاليم وإشارات للمسلمين.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ...} الآية.

المسارعة تتعدى ب-(إلى) و(في) فالمسارعة إلى الشيء هو طلبه لتحصيله، وأمّا المسارعة فيه فهي بمعنى شدة العمل بمقتضيات الشيء، فالمسارعة إلى الكفر هو طلب الكفر، والمسارعة في الكفر هو العمل بما هو مقتضى الكفر، فحاصل المعنى أنهم يبادرون إلى الأعمال الكفرية مع زعمهم أنّهم مؤمنون، كالمنافقين الذين يزعمون أنهم مسلمون، وكاليهود الذين يزعمون

ص: 151

إيمانهم بالتوراة مع عدم عملهم بها.

وقوله: {لَا يَحْزُنكَ} لم يذكر متعلق الحزن، فإمّا الحزن عليهم لأنهم يدخلون النار بسبب أعمالهم كما قال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا يَصْنَعُونَ}(1)، وإما الحزن بسبب المشاكل التي يثيرونها نظير قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(2)، والمعنى الأول أنسب بالتعليل في قوله: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ...} الخ.

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا...} أي المنافقين، وإنما ذكر هذه العبارة للدلالة على سبب مسارعتهم إلى الكفر وهو نفاقهم، كما أن قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْۛ} كذلك سبب مسارعة أولئك هو أنهم هادوا فصار الكفر والمسارعة إليه كالجِبِلّة والطبيعة فيهم، ومن هذا يتبيّن أن المراد من المسارعة في الكفر هي مخالفة أحكام اللّه تعالى.

وقوله: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ} وصف لكلا الصنفين، والسماع هنا بمعنى القبول، أي يكثرون قبول ما سمعوه من أكاذيب وافتراءات، وهذا نتيجة كفرهم ومسارعتهم إليه، وقد يكون العكس، أي كثرة استماع وقبول الكذب تؤدي إلى الكفر والمسارعة فيه.

وقوله: {سَمَّٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ} تفصيل لقوله: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ}،

ص: 152


1- سورة فاطر، الآية: 8.
2- سورة الأنعام، الآية: 33.

فالمعنى يستمعون إلى قول الأحبار الذين يحبكون الأكاذيب، وقد وصف اللّه أولئك الأحبار بمجموعة من الأوصاف هي:

1- {لَمْ يَأْتُوكَ} لشدة تكبرهم وغيظهم وحسدهم، أو لأنهم يكيدون المؤامرات في الظلام، وليسوا مستعدين لمقابلة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث يجبههمبالحجج والبراهين التي تقطع جميع احتجاجاتهم!

2- {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي يحرفون أحكام التوراة تارة بالزيادة أو النقيصة، وتارة بالتأويل الباطل، و{مِن بَعْدِ مَّوَاضِعِهِ} للتشنيع عليهم بأن اللّه وضعها في أماكنها من الكتاب، لكنهم يخالفون اللّه بتغييرها عن أماكنها.

3- {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا...} أي لا يكتفون بالتحريف، بل يضيفون إليه إضلال العوام، فيموّهون عليهم بأن هذا المحرّف هو حكم اللّه سبحانه ويحثونهم على قبوله وعلى رفض حكم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لو خالفه، ولعل قولهم: {فَاحْذَرُواْ} يريدون احذروا عقاب اللّه في العمل به.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا...} الآية.

كالتعليل للنهي عن الحزن في قوله: {لَا يَحْزُنكَ} أي إنما نهيناك عن الحزن عليهم لعدم نفع حزنك عليهم؛ لأنهم رفضوا الهداية التي تلطّف اللّه بها عليهم فاستحقوا الخذلان منه، فهم أرجاس لا سبب للحزن عليهم.

وقوله: {فِتْنَتَهُ} الظاهر أن المراد من الفتنة هنا العذاب، قال سبحانه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ

ص: 153

تَسْتَعْجِلُونَ}(1)، أي هؤلاء يريد اللّه عذابهم كما قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا}(2).وقيل: الفتنة هنا بمعنى الامتحان، أي أراد اللّه امتحانهم وذلك عبر تحكيمهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على أمل أن يحكم بأهوائهم ليظهر بذلك عنادهم وغيهم وكذبهم في ادعائهم الإيمان واتّباع الكتاب.

وقوله: {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَئًْا} أي لا تقدر أنت من فعل شيء لإنقاذه من العذاب، فلا سبب لحزنك عليهم؛ لأنه لا ينفعهم ولا ينجيهم من عذابه تعالى؛ لأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لا يريد شيئاً خلاف إرادة اللّه، بل ولا يشفع إلاّ لمن ارتضاه اللّه فأذن في شفاعته.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} كالعلة لإرادته عذابهم، أي إنّ اللّه أراد عذابهم لأنه لم يرد تطهير قلوبهم، وذلك بسبب سوء اختيارهم حيث عاندوا، قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(3) وقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(4)، وقد مرّ بحث الهداية والضلال، وأن الهداية من اللّه بمعنى إرائة الطريق للجميع، فمن قبلها زاده اللّه هداية، ومن رفضها وعاند حتى فقد القابلية تركه اللّه حتى يضل بنفسه، فعدم إرادة اللّه تطهير هؤلاء إنما هو لعنادهم وعتوّهم، وحيث لم يطهر القلب صار رجساً وسبباً لكل رجس.

ص: 154


1- سورة الذاريات، الآية: 13-14.
2- سورة التوبة، الآية: 85.
3- سورة المائدة، الآية: 108.
4- سورة البقرة: الآية: 258.

وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ...} بيان عاقبة أمرهم، فتحصّل أن الآية تبيّن سبب مسارعتهم إلى الكفر وهو عدم إيمان قلوبهم وكفرهم، مما ينتج عن ذلك قبولهم الكذب والافتراء، واللّه ينهى رسوله عن الحزن عليهم؛ لأنهسبحانه يريد عذابهم حيث لم يطهر قلوبهم، وذلك العذاب هو الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.

الرابع: قوله تعالى: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ}.

الغرض في هذه الآية بيان وظيفة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما لو جاؤوا يحكّمونه، فأراد اللّه تعالى تذكير الرسول بأن هؤلاء ناس يقبلون الباطل ويأكلون الحرام ولم يرجعوا إليه إلا ليحكم لهم بالباطل، فلا يفرح بتحكيمهم إياه، بل مادموا رجعوا إليه فليعمل بالمصلحة من القبول أو الرفض، وعليه فقوله تعالى: {سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ} ليس تكراراً لما في الآية الماضية مع إضافة {أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ} بل ذكره لغرض التذكير والتنبيه، وقد مرّ أنه لو اختلف الغرض فلا يكون في الكلام تكرار حتى لو تشابهت الكلمات.

وقيل: هذا جامع للأصناف الثلاثة فإن السّماعين هم المنافقون وعوام اليهود وإن الأكّالين هم الأحبار المرتشون.

وقوله: {لِلسُّحْتِ} السحت هو الحرام الشديد من المال، وأصله بمعنى الاستئصال، والمال الحرام لا بقاء له كما أنه يستأصل دين آكله، وللسحت مصاديق كثيرة، ومن أشده أخذ الرشوة لتحريف الكتاب وتغيير حكم اللّه.

كيفية الحكم بين أهل الكتاب

الخامس: قوله تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ...} الآية.

ص: 155

تخيير للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في قبول الحكم أو رفضه:

1- أما لو أراد الحكم بينهم فلا بد أن يحكم بالعدل، ولا يخفى أن هذا لا ينافي قانون الإلزام؛ لأن إلزام الكفار والمخالفين بالأحكام التي يعتقدونبها هو حكم بالقسط، وأما لو التزموا بشيء وأرادوا أن نحكم بخلاف حكم الشرع وبخلاف ما التزاموا به فليس هذا من القسط في شيء، وهنا هؤلاء اليهود كان الحكم في توراتهم بشيء فأرادوا مخالفته ورجعوا إلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على أمل أن يكون حكمه بما يتطابق مع هواهم!

2- كما له أن يختار عدم الحكم بينهم وذلك فيما لو رأى عدم المصلحة فيه ولم يكن ذلك الإعراض طمساً لحكم الشرع؛ لأنهم كانوا يعلمون بحكم التوراة كما أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كان قد بيّن الأحكام الشرعية، فلذا لم يكن إعراض الرسول عن الحكم بينهم مُخِلّاً ببيان الأحكام، كما أنهم لم يكونوا يريدون تطبيق حكم توراتهم فلم تكن فائدة في بيانه لهم إلاّ تنفيذ الحكم بالقهر والقوة وهو أمر مفوّض إلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إن رأى صلاحاً نفّذ الحكم فيهم بالقهر وإلاّ تركهم.

وقوله: {فَلَن يَضُرُّوكَ شَئًْا} لأن المسألة لم تكن مرتبطة بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لا من قريب ولا من بعيد، بل هي قضيّة داخلية بينهم احتاجت إلى تحكيم شخص وهم يتمكنون من تحكيم أحبارهم ولا أحد يجبرهم على الرجوع إلى غيرهم، فعدم قبول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الحكم بينهم لم يكن سبباً لضررهم عليه.

السادس: قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ

ص: 156

اللَّهِ...} الآية.

هذا تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن رفضهم لحكمك إنما هو بسبب عدم إيمانهم، ولذلك رفضوا حتى حكم التوراة التي يقبلونها، فإنهم لم يرجعوا إليك إلاّ فراراً من حكمها مع أنهم لا يعترفون بنبوتك، فالكفر فيهم مستحكم فلا تحزن عليهم ولا على رفضهم لحكمك.

وقوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} استفهام للتعجب، أي عملهم يثير التعجب برفضهم حكم ما يقبلونه ورجوعهم إلى من لا يؤمنون به، وكل ذلك بسبب عدم إيمانهم وإنما اتباعهم مصالحهم وأهوائهم.

وقوله: {يَتَوَلَّوْنَ} أي يعرضون فيرفضون.

وقوله: {مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ} أي بعد تحكيمك، أو بعد حكم اللّه في التوراة.

وقوله: {وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} لا هم مؤمنون بتوراتهم ولا هم مؤمنون بك!

وأما شأن نزول الآيات - والتي لا تحدّد مفهومها ولا مصاديقها - فهو أن بني النضير وبني قريظة - من اليهود - حكموا في الجاهلية على عقوبة القتل بخلاف حكم التوراة، حيث إن بني النضير كانوا أكثر عدداً ومالاً وكانوا حلفاء لعبد اللّه بن أبيّ، فغلبوا بني قريظة، فاتفقوا على أنه إن قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة فعقوبته أن يقعد على جمل معكوساً ويلطخ وجهه بالسواد ويدفع نصف الدية، ولو قتل رجل من بني قريظة رجلاً من بني النضير فعقوبته أن يدفع دية كاملة ويُقتل به.

فلما هاجر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة ودخلت الأوس والخزرج في

ص: 157

الإسلام ضعف أمر اليهود، فقتل رجل من بني قريظة رجلاً من بني النضير، فطالبت بنو النضير بالقاتل ليقتلوه وبدية كاملة، فقالت قريظة: ليس هذا حكم التوراة وإنما هو شيء غلبتمونا عليه، فإما الدية أو القتل، وإلاّ فهذامحمد بيننا وبينكم فهلّموا نتحاكم إليه.

فوسّطت بنو النضير عبد اللّه بن أبي، فقال لهم: إني ذاهب إلى محمّد وابعثوا معي رجلاً يسمع كلامنا، فإن حكم بما تريدون فاقبلوا منه، وإلاّ فلا ترضوا به، فنزلت هذه الآيات(1).

وروى الطبرسي في مجمع البيان شأن نزول آخر حيث أراد يهود خيبر تغيير عقوبة الزنا في التوراة فكتبوا إلى يهود المدينة أن يسألوا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عن ذلك طمعاً في أن يأتي لهم برخصة(2)،

ولا منافاة بين شأني النزول، إذ يمكن أن تنزل الآيات مرات متعدة بتعدد القضايا، أو تتعدد القضايا فتنزل الآيات دفعة في جميعها.

ص: 158


1- لتفصيل القصة راجع تفسير القمي 1: 168؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 395.
2- راجع مجمع البيان 3: 477.

الآيات 44-47

اشارة

{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُواْ بَِٔايَٰتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ 44 وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ 45 وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَءَاتَيْنَٰهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ 46 وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ 47}

44- بعد أن شنّع على اليهود إعراضهم عن حكم اللّه في التوراة، بيّن أوصافها وميثاق اللّه تعالى بالعمل فيها فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ} والمقصود التوراة غير المحرّفة {فِيهَا هُدًى} دلالة على الأحكام {وَنُورٌ} ضياء يكشف المبهمات وما اشتبه عليهم، {يَحْكُمُ بِهَا} بالتوراة {النَّبِيُّونَ} وهذا تعظيم لشأنها {الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} انقادوا للّه سبحانه وأذعنوا لحكمه، وكان حكمهم {لِلَّذِينَ هَادُواْ}، فما بال هؤلاء اليهود يعرضون عن حكمها؟

ص: 159

{وَ} من بعد الأنبياء يحكم بها {الرَّبَّٰنِيُّونَ} وهم الأئمة الأوصياء، ورباني منسوب إلى الرب والذي يربّي الناس بعلمه، {وَ} يحكم بها من بعد الربانيين {الْأَحْبَارُ} وهم العلماء، وإنما يحكم بها هؤلاء {بِمَااسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اللَّهِ} أي بسبب ما كلّفهم اللّه من حفظ كتابه؛ وذلك لأنه ائتمنهم عليه وأمرهم بأن يحكموا بحكمه، {وَكَانُواْ عَلَيْهِ} على الكتاب {شُهَدَاءَ} يشهدون بأنه حق وصدق فكانوا حافظين له بشهادتهم هذه.

وحيث علمتم منزلة التوراة غير المحرّفة وأهميتها {فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ} لا تخافوهم في إظهار أحكامها والعمل بها، {وَاخْشَوْنِ} فلا تبدلوا حكم اللّه أو تكتموه، فإن اللّه أحق أن يخشى منه، {وَلَا تَشْتَرُواْ بَِٔايَٰتِي} أي لا تستبدلوها {ثَمَنًا قَلِيلًا} عَرَض دنيوي من رشوة وجاه ونحو ذلك فهو قليل مقابل عذاب الآخرة وخسارة الجنة والثواب، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} سواء كتم الحكم أو حرّف وحكم بغير حكم اللّه {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ} إما بمعنى كفران النعمة، أو الكفر الاعتقادي إن كان عن جحود.

45- {وَ} حكم القصاص - الذي أرادوا تحريفه - هو مما ذكر في التوراة، فقد {كَتَبْنَا} فرضنا {عَلَيْهِمْ} على اليهود {فِيهَا} في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي تعادله وتقابله في القصاص، فمن قتل عمداً اقتص منه حتى لو كان القاتل شريفاً - نسباً ومالاً وجاهاً - وكان المقتول وضيعاً، {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إن فقأها، {وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ} إن جدعه، {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} إن صلمها، {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} إن قلعها، {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي ذات قصاص بمعنى أنها متقاصّة بعضها يقابل بعض، وفي هذا يدخل سائر

ص: 160

الأعضاء، {فَمَن} المجني عليه أو أولياؤه {تَصَدَّقَ بِهِ} بالقصاص أي أسقط القصاص وعفا عن الجاني {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي لذنوب من عفا، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ} يظلمون المجني عليه بغمطه حقه،وأحياناً يظلمون الجاني بزيادة العقوبة، بل والمجتمع بعدم العمل بما فيه المصلحة له، كما يظلمون أنفسهم بمعصية اللّه.

46- ثم يتبع اللّه ذكر الإنجيل فيقول: {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم} أي أرسلنا من بعد الأنبياء من بني إسرائيل {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} للكتاب الذي قبله، وبيّنه بقول: {مِنَ التَّوْرَاةِ} فهو (عليه السلام) صدّق بها وعمل بها إلاّ فيما نسخ منها، {وَءَاتَيْنَٰهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ} في الإنجيل {هُدًى} إراءة للطريق {وَنُورٌ} يجلو المبهمات والشبهات، {وَ} كما عيسى (عليه السلام) صدّق بالتوراة كذلك الإنجيل حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى} إيصال للمطلوب {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} فالهداية بمعنى إراءة الطريق عامة للجميع، وأمّا الهداية بمعنى الإيصال للمطلوب فهي خاصة بالمتقين.

47- {وَ} حيث علم أهل الإنجيل بمنزلته ف-{لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ} مَن نزل عليهم الإنجيل {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} مما لم ينسخ ومن ذلك البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والأمر باتّباعه، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} المتمردون الخارجون عن طاعة اللّه.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ...} الآية.

ص: 161

لما شنّع اللّه تعالى على اليهود تركهم لحكم التوراة في قصة القتل والزنا وإرادتهم تحريف أحكام اللّه تعالى فيها، بيّن وجوب عمل الجميع بكتب اللّه المنزلة، إلاّ المقدار الذي ثبت نسخه بحكم اللّه تعالى، فذكر في هذهالآيات الكتب الثلاثة - التوراة والإنجيل والقرآن - فإنها كتب منزلة من قِبل اللّه تعالى وقد عمل بها الأنبياء والأوصياء والعلماء فلا مهرب من العمل بها في زمانها وكذلك بعد زمانها في الأحكام التي لم تنسخ.

أما التوراة فيذكر اللّه أوصافها والحاكمون بها وسبب حكمهم بها وسبب عدم حكم البعض بها، ونتيجة عدم الحكم:

أوصاف التوراة

1- أما أوصافها: فهي أن اللّه أنزلها وأن فيها الهدى والنور... .

وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ} فهي ليست أهواء أو اجتهادات، فالتوراة الأصلية أنزلها اللّه على موسى (عليه السلام) ، لكن اليهود حرفوا في أجزاء منها بزيادة ونقيصة، إلاّ أن غير المحرّف منها واجب الاتّباع فيما لو لم ينسخ قال سبحانه: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٖ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٖ}(1).

وقوله: {فِيهَا هُدًى} أي إراءة للطريق الحق كما قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ}(2) أي أرشدناهم إلى الصراط المستقيم عبر النبي صالح (عليه السلام) لكنهم أبوا سلوك الطريق.

وقوله: {وَنُورٌ} الهداية والنور وإن كانا متلازمين الاّ أن الظاهر أن المراد

ص: 162


1- سورة الأعراف، الآية: 145.
2- سورة فصلت، الآية: 17.

من النور هنا هو رفع الشبهات والإشكالات، فإن الإنسان كما يحتاج إلى إراءة طريق الحق كذلك يحتاج إلى رفع الإشكالات التي تعرض على ذهنه، فلذا كان المسلمون يسألون الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عن مختلف جوانبالأحكام الشرعية والأمور العقدية لترتفع الإشكالات.

ويمكن أن يقال: إن الهداية هي العلم، والنور هو البصيرة.

الحاكمون بالتوراة

2- وأما الحاكمون بالتوراة: فهم الأنبياء والأوصياء والعلماء، وهذا تعظيم لشأنها.

وقوله: {الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} في وصف النبيين بمعنى انقادوا للّه تعالى وأذعنوا لحكمه، فهم على عظمتهم لم يخالفوا أحكامها فما بال هؤلاء اليهود يستكبرون على أحكامها؟! كما أن رسول اللّه محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) من النبييّن فلا معنى لأن يتوقعوا منه أن يخالف طريقتهم.

قيل: إن وصف النبييّن بالإسلام مدح لهم، وقيل: إن الإسلام صفة عامة وهو وإن كان من أجلّ الأوصاف لكن ليس من البلاغة المدح بوصف يعمّ الجميع، بل هو مدح للإسلام بأنه من الأهمية بحيث اتصف الأنبياء به، ومثّل له بعضهم بقول الشاعر:

فلئن مدحت محمداً بقصيدتي *** فلقد مدحت قصيدتي بمحمّد

وقوله: {لِلَّذِينَ هَادُواْ} أي كان حكم النبيين بين اليهود، وإنما خصوا بالذكر إمّا لأن غير اليهود لم يكونوا يراجعون أنبياء بني إسرائيل، أو تشنيع على اليهود المعاصرين للنبي حيث رفضوا حكم التوراة فيقال لهم: إن الأنبياء كانوا يحكمون بها بين أسلافكم!

ص: 163

وقوله: {وَالرَّبَّٰنِيُّونَ} (الرباني) نسبة إلى الرب بإضافة الألف والنونومادة (رب ب) بمعنى إصلاح الشيء والقيام عليه(1)، ولذا قد يفسّر بالتربية؛ لأن المعنى متقارب مع اختلاف المادة، والمراد بالربانيين في هذه الآية الأئمة الأوصياء فهؤلاء بعد الأنبياء أيضاً كانوا يحكمون بالتوراة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم، وأما الأحبار فهم العلماء دون الربانيين»(2)، قال سبحانه: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٖ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَٰهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(3).

وقوله: {الْأَحْبَارُ} جمع حبر - بفتح الحاء وكسرها - وأصله بمعنى الأثر في حسن وبهاء(4)، والعلم زينة وبه بهاء الإنسان وحسنه.

سبب حكمهم بالتوراة

3- وأما سبب حكمهم بها: فلأنّ اللّه أمرهم بحفظها وأمرهم بالشهادة عليها.

وقوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ اللَّهِ} أي أمرهم اللّه بحفظ كتابه، ومن المعلوم أن حفظ الكتاب إنما هو بالعمل به لا مجرد اقتنائه، ولذا لم يقل: (بما حمّلوا منه) لأن التحميل قد يكون مع عدم العمل كما قال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا}(5).

ص: 164


1- راجع مقاييس اللغة: 378.
2- تفسير العياشي 1: 322؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 406.
3- سورة السجدة، الآية: 23-24.
4- مقاييس اللغة: 273.
5- سورة الجمعة، الآية: 5.

وقوله: {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أي يشهدون بأنه الحق، وهو يتضمنمعنى الرقابة لئلا يُحرّف، فالأنبياء والربانيون والأحبار كما كانوا يحكمون بالكتاب كذلك كانوا رقباء على الناس لئلا يحرّفوه، وإنما استغلّ المحرّفون انقطاع الأنبياء والأوصياء وفساد الأحبار فحرفوا التوراة.

ثم إن قوله: {مِن كِتَٰبِ اللَّهِ} دون أن يقول: (من التوراة) أو (منها) لعلّه لأجل أن وظيفة هؤلاء الحكم بكل كتاب أنزله اللّه والشهادة عليه سواء من الكتب السابقة على التوراة، كصحف إبراهيم أو اللاحقة عليه كالزبور، فسبب حكمهم بالتوراة هو الأمر العام لهم بحفظ جنس الكتاب والذي منه التوراة.

سبب إعراض بعضهم عن التوراة

4- وأما سبب عدم حكم البعض بها: فهو إمّا الخوف من الناس، وإمّا طلب أمر دنيوي، فيحذّر اللّه من كلا الأمرين... .

وقوله: {فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ} بيان للسبب الأول، فإن البعض يخاف من سلطان أو ظالم أو قرابة أو جوّ اجتماعي ضاغط، فيحكم بخلاف حكم اللّه تعالى، فيقول اللّه تعالى: إن اللّه أحق بالخشية؛ لأنه النافع الضار، ولا يعدل الضرر الذي يتحمله الإنسان من الناس بالضرر الذي يلحقه بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة لمخالفة أحكام اللّه تعالى، وفي التقريب: «وحيث بيّن سبحانه أن التوراة يحكم بها أولئك الصفوة وأنهم محل وديعة والشهداء على صحته، بيّن أن مقتضى ذلك أن يكون الإنسان المتصف بهذه الصفات شجاعاً في إظهار أحكامه فلا يخون ولا يكتم ولا يخشى الناس»(1).

ص: 165


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 645.

وقوله: {وَلَا تَشْتَرُواْ...} بيان للسبب الثاني، حيث يخالف البعض حكم اللّه تعالى جلباً لمال أو جاه أو أيّ أمرٍ دنيوي آخر، فيقال له: إنه ثمن قليل زائل لا يعدل ثواب اللّه العظيم الدائم فيما لو حكم بالحق.

عاقبة عدم الحكم بما أنزل اللّه

5- وأما عاقبة عدم الحكم بما أنزل اللّه: فهو ما قاله سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ}، وعدم الحكم أعم من الكتمان أو الحكم بخلافه، كما أنه لو كان الحكم بخلاف حكم اللّه أو كتمانه مجرد عصيان لا عن عقيدة باطلة فهو كفران للنعمة - التي هي معرفة أحكام اللّه - وهي من أعظم المعاصي لكنها لا تخرجه عن الملّة، أمّا لو كان عن جحود وإنكار وتكذيب فهو كفر مخرج عن الملّة.

الثاني: قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ...} الآية.

لمّا كان شأن نزول الآيات هو قضية قتل أرادوا فيها مخالفة حكم اللّه تعالى في التوراة، لذلك في هذه الآية ذكر حكم القتل مثالاً لما كتبه اللّه تعالى مع بيان عاقبة المخالفة.

أما الحكم فهو القصاص إن أراد صاحب الحق ذلك، وأما المخالفة للحكم فهو ظلم وعاقبة الظلم معلومة.

وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} أي شرعناه لهم، والكتابة أبلغ في التأكيد على الحكم من أن يقول: (وأمرناهم)؛ لأنه إذا زاد الاهتمام بشيء تمت كتابته توثيقاً وتأكيداً.

وقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الباء للمقابلة، أي النفس بمقابلة النفس، فالقاتل يقتل مقابل قتله المقتول، لا فرق بين شريف ووضيع، ولا بين رجل

ص: 166

وامرأة، نعم لو قتل رجلٌ امرأةً اقتص منه بدلالة هذه الآية مع ردّ نصفالدية إلى أوليائه بدلالة السنة، ومن ذلك يظهر أن هذه الآية ليست منسوخة بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ}(1)، بل آية سورة البقرة مبيّنة وموضحة لآية سورة المائدة.

وقوله: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى قوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} لعلّه ذكر الجنايات على الرأس بالخصوص؛ لأنها أشنع ويصعب كتمانها، ثم أدرج سائر الجنايات بقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}؛ لأن قطع سائر الأعضاء من الجروح ففيها القصاص.

وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} القصاص إمّا مصدر بمعنى المفعول، أي الجروح متقاصَّة، ومادة (القصّ) بمعنى اتباع الأثر كأن المجروح يتبع أثر الجارح فيجرحه، وإمّا بتقدير مضاف، أي الجروح ذات قصاص، وهذا فيما يمكن فيه القصاص، وأما فيما لا يمكن - كالمأمومة، وهي الضرب بآلة حادة حتى تبلغ أمّ الرأس - فلا قصاص، بل الأمر ينحصر في الدية خوفاً من موت القاتل فيكون العقاب أكبر من الجناية، وتفاصيل أحكام القصاص تطلب من الكتب الفقهيّة.

وقوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} أي أسقط حقه في القصاص، تصديقاً لما حبّذ إليه اللّه تعالى كما قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَٰنٖ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}(2).

ص: 167


1- سورة البقرة، الآية: 178.
2- سورة البقرة، الآية: 178.

وقوله: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي عفوه سبب غفران ذنوبه، فعن الإمامالصادق (عليه السلام) أنه قال: «يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره»(1). وهذا نظير قوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(2).

الثالث: قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ...} الآية.

حول الإنجيل وأوصافه

بعد ذكر التوراة يأتي ذكر الإنجيل وبيان حقيقته وحث أهل الإنجيل على العمل به - إلاّ فيما نسخ منه - فيتم:

أولاً بيان أن عيسى (عليه السلام) رسول كالنبيين الذي أرسلهم اللّه تعالى إلى بني إسرائيل، وأنه ابن مريم فليس ابناً للّه كما تزعم النصارى، وأن عيسى (عليه السلام) يصدّق بالتوراة فكان يعمل بها ويأمر بالعمل بها، إلاّ فيما نسخ كما قال: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}(3).

وثانياً يتم بيان أن الإنجيل كتاب من عند اللّه لا بد من العمل به، فإن الشرائع والكتب السماوية كلّها من عند اللّه والدين واحد هو الإسلام، فلا بد من العمل بجميعها إلا المقدار الذي نسخ فلا بد من العمل بالناسخ دون المنسوخ، وهذا يجري حتى في الكتاب الواحد والشريعة الواحدة، فما جاء في القرآن وفي الشريعة الإسلامية إن نسخه اللّه لا بد من عدم العمل بالمنسوخ، وأما فيما سوى ذلك فيجب العمل به، ولذا ذكر بعض الأصوليين أنه لا حاجة إلى استصحاب

ص: 168


1- الكافي 7: 358؛ وتفسير العياشي 1: 325.
2- سورة النور، الآية: 22.
3- سورة آل عمران، الآية: 50.

أحكام الشرائع السابقة، بل الدليل القرآني يدل على استمرارها إلا بالمقدارالذي ثبت نسخه فلا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة.

وقوله: {قَفَّيْنَا} أي أرسلناه على قفاهم بمعنى من بعدهم، وأصل (التقفية) بمعنى اتّباع الأثر.

ثم إن اللّه تعالى يذكر مجموعة من أوصاف الإنجيل غير المحرّف، وهي:

1- {وَءَاتَيْنَٰهُ الْإِنجِيلَ} أي أعطيناه وأنزلنا عليه، نعم الأناجيل الأربعة الموجودة الآن ليست هي الإنجيل الذي أنزله اللّه سبحانه على عيسى (عليه السلام) بل هي كتابات بعض النصارى وقد تضمنت بعض مطالب الإنجيل المنزل ولكن كثيراً منها تحريفات كتّابها.

2- {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} مرّ بيانه في الآية 44، فالهدى إراءة للطريق، والنور رفع الشبهات والإشكالات.

3- {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} فهو مكمل لها وناسخ لبعض أحكامها حسب المصلحة، حيث إن اللّه أنزلهما فلا يعقل تكذيب أحدهما للآخر.

وقوله: {بَيْنَ يَدَيْهِ} أي يسبقه، هو تشبيه للسابق الزماني بالسابق بالمكان الذي هو مقابل الإنسان كذا قيل.

4- {وَهُدًى} ليس تكراراً لقوله: {فِيهِ هُدًى} بل الأول بمعنى إراءة الطريق ولذا قال: {فِيهِ هُدًى}، وأما هذا فبمعنى الإيصال إلى المطلوب نظير قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن

ص: 169

يَشَاءُ}(1)،وبعبارة أخرى: الهداية قد تكون شأنية وقد تكون فعلية، والإنجيل فيه هدى، بمعنى أنه يُري طريق الحق للناس أجمع، والإنجيل هدى بمعنى يهدي فعلاً ولذلك قيّده بقوله: {لِّلْمُتَّقِينَ}.

5- {وَمَوْعِظَةً} الوعظ هو الكلام الذي يرق له القلب، والموعظة المؤثرة فعلاً خاصة بالمتقين، وأما غيرهم فلا ترق قلوبهم؛ لأنها قاسية، نعم الموعظة الشأنية عامة للجميع كقوله: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(2).

الرابع: قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ...} الآية.

أي وحيث علمتم أنّ الإنجيل كتاب أنزله اللّه تعالى فلا بد لكم من العمل به ومن لم يعمل به فهو فاسق خارج عن طاعة اللّه؛ لأن اللّه أنزله ليعمل به.

وقوله: {أَهْلُ الْإِنجِيلِ} أي من نزل عليهم الإنجيل، وهم جميع الناس؛ لأن شريعة عيسى (عليه السلام) كانت شريعة عامة للجميع - كما مرّ - نعم خصوص النصارى حيث يدعون اتّباع عيسى فهم أولى بالعمل به، ومما أنزله اللّه في الإنجيل البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ}(3)، وقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٖ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا

ص: 170


1- سورة القصص، الآية: 56.
2- سورة الأعراف، الآية: 164.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.

جَاءَهُم بِالْبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(1).

وقوله: {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} أي الخارجون عن طاعة اللّه؛ لأن مادة الفسق هي بمعنى الخروج عن الشيء.

ثم إن التعبير عن من لم يحكم بما أنزل اللّه تارة بأنه كافر، وأخرى بأنه ظالم، وثالثة بأنه فاسق:

1- إمّا باعتبار اختلاف عدم الحكم، فتارة عن جحود فهو كفر، وتارة عن جهل تقصيري فهو ظلم، وتارة عن عمد من غير جحود فهو فسق.

2- وإمّا لاجتماعها فالذي لا يحكم بما أنزل اللّه هو كافر بالنعمة وظالم لنفسه وغيره وفاسق عن طاعة اللّه تعالى، فتفريق الثلاثة في آيات ثلاث أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً، كما لو قال المولى لعبيده: من لم يُطعني أضربه، ومن لم يطعني أحبسه، ومن لم يطعني أغرّمه.

3- وإمّا لأنه في الآية الأولى ذكر ما يستلزم الكفر، وهو الشراء بآيات اللّه ثمناً قليلاً فناسب ذكر أنهم كافرون، وفي الآية الثانية ذكر حكم فرعي هو القصاص في حق الناس ومن لم يودّ للناس حقوقهم فهو ظالم لهم، وفي الآية الثالثة لم يذكر شيئاً من الأصول والفروع، وإنما كان أمراً عاماً بالحكم بما في الإنجيل فناسب ذكر الفسق بالمخالفة؛ لأن كل من يخالف حكم اللّه فهو خارج عن الطاعة، فتأمل.

ص: 171


1- سورة الصف، الآية: 6.

الآيات 48-50

اشارة

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 48 وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَٰسِقُونَ 49 أَفَحُكْمَ الْجَٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ 50}

48- بعد ذكر التوراة والإنجيل يأتي ذكر القرآن فقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ} القرآن {بِالْحَقِّ} يتضمن الحق أو إنزالاً بالحق، حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ} الكتب السماوية السابقة {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} مسيطراً ورقيباً على الكتب السابقة بالتكميل وببيان مواضع التحريف، {فَاحْكُم} إن حكمت {بَيْنَهُم} بين الناس، ومنهم أهل الكتاب {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} في القرآن، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي ما يشتهون من أحكام باطلة تخالف حكم اللّه بدلاً {عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} في القرآن.

ص: 172

ثم يذكر اللّه تعالى سبب تعدد الشرائع والكتب المنزلة فيقول: {لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ} من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأنبياء السابقين (عليهم السلام) {شِرْعَةً} شريعة تتضمن الأحكام الفرعية {وَمِنْهَاجًا} طريقاً واضحاً ولعلّه الكتاب المنزلعلى نبيّ كل شريعة، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} بمشيئة تكوينية أو تشريعيّة {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً} بأن ينزل كتاباً واحداً وشريعة واحدة على الجميع ويجبرهم تكويناً على الإيمان بهما، {وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ} من الكتب المتعددة والشرائع المختلفة، وحيث علمتم أنه امتحان لكم اقتضاه التدريج {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ} بادروا إليها، ومن ذلك الإيمان برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والعمل بشريعته؛ لأنها نسخت الشرائع السابقة وكتابه مهمين على كل الكتب.

ثم بعد الامتحان {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} سواء استبقتم أم قصّرتم {فَيُنَبِّئُكُم} يخبركم إخبار من يريد الجزاء {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمر الكتاب والشريعة.

49- ثم يؤكد اللّه لزوم الحكم بما أنزل اللّه بقوله: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم} بين الناس، ومنهم أهل الكتاب {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} ما يشتهون خلاف الحق {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} يضلّوك ويصرفوك {عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} مما لا ينسجم مع مصالحهم وأهوائهم، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن حكمك طبقاً لما أنزل اللّه {فَاعْلَمْ أَنَّمَا} قد خذلهم اللّه فلم يهدهم بسبب ذنبوهم، ف-{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم} يعاقبهم {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} في الدنيا وأما العقاب على جميع الذنوب فالدنيا قاصرة عنه لذلك

ص: 173

يؤخرهم اللّه إلى يوم القيامة، {وَإِنَّ} سبب إرادتهم عقابهم؛ لأن {كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} خارجون عن الطاعة لذلك استحقوا العقاب في الدنيا والآخرة.

50- ثم يوبّخهم اللّه على توليهم وإعراضهم بقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَٰهِلِيَّةِيَبْغُونَ} يطلبون وحكمها بالأهواء والظلم، {وَمَنْ} استفهام إنكاري، أي لا يوجد أحد {أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} أي من جهة الحكم {لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ} لهم اليقين باللّه تعالى فيعلمون أن حكمه الحق الذي لا باطل فيه فيتبعونه.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ...} الآية.

لما ذكرت الآيات السابقة نبوة موسى وعيسى‘ وكتابيهما التوراة والإنجيل وأمرت أهل الكتاب بالحكم بما فيهما، تُبيّن هذه الآية أن محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) أيضاً رسول من اللّه سبحانه وأن القرآن كتاب منزل منه تعالى، مع إضافة أن القرآن مهمين على جميع الكتب السابقة، فهو يكملها ويبيّن مواقع تحريف اليهود والنصارى في كتبهم، فلذا لا بد لهم جميعاً من العمل بالقرآن فقط فيما نسخه من أحكام الكتب السابقة وأيضاً فيما بيّنه من التحريف فيما موجود بأيديهم، مع حث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن لا يحكم بأهوائهم، بل إذا أراد أن يحكم بينهم فليحكم بما أنزل اللّه تعالى.

أوصاف القرآن الكريم

ثم يذكر اللّه ثلاثة أوصاف للقرآن:

1- {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ} أي القرآن، واللام للعهد، كما أن اللام في

ص: 174

قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ} للجنس، أي جميع الكتب السماوية السابقة، فالقرآن كتاب أنزله اللّه تعالى، وهذا كالتعليل لوجوب العمل به.

2- {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ} وهذا دليل آخر على كونه حقاً؛ لأن الذي أنزل جميع الكتب السماوية هو اللّه العالم الحكيم القادر، فلايعقل التكاذب بينها، بل يبشّر اللاحق منها بالسابق، ويصدق اللاحق منها بالسابق، كما أن الأنبياء كذلك لا تفرقة بينهم ولا تناقض.

3- {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} والهيمنة بمعنى السيطرة، ولازم ذلك كونه مكمّلاً لتلك الكتب ناسخاً لبعض أحكامها ومبيناً التحريفات التي طالتها، فإن القرآن يبيّن الدين الذي هو أصول العقائد وكليات الأخلاق والأحكام - في العبادات والمعاملات وغيرها - ، وهذه أمور ثابتة لا تتغيّر، لذلك كان الدين واحداً كما مرّ، فكل ما خالفه باطل.

ولذا يتبيّن بذلك مواقع الباطل والتحريف من عقائد وأعمال أهل الكتاب وغيرهم، كما أن القرآن قد يشير إلى بعض تحريفاتهم بالخصوص.

مضافاً إلى أن بعض الأحكام الحقة انتهى زمانها فكان لا بد من بيان نسخها، وهذا نظير كتاب الصف الأول الابتدائي وكتاب الجامعة، فإن كتاب الجامعة يصدّق كتاب الصف الأول مع تكميل وزيادة وتغيير حسب تطور الإنسان من طفل جاهل إلى بالغ عالم.

وفي التقريب: «لما كان المقام يوهم اتحاد الديانات من جميع الحيثيات، حيث إنّ الآيات السابقة أفادت تصديق كل نبيّ وكتاب لما سبقه فأية حاجة إذاً لإيمان اليهود والنصارى بالنبي والقرآن؟! تعرّض السياق إلى

ص: 175

اختلاف الشرائع والمناهج في الخصوصيات والمزايا، وإن اتحد الجميع في الأصول والجوهر»(1).

وأما أصل كلمة (المهيمن) فقد قيل: إنها من الأمن قلبت الهمزة هاءً، لأنالمسيطر يوجب الأمن والأمان!

وقوله: {فَاحْكُم بَيْنَهُم} أي بين الناس لا خصوص اليهود، فإنه وإن كان شأن نزول الآيات في قضية قتل أو زنا راجع فيها اليهود رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) طمعاً في أن يحكم بما تهوى أنفسهم خلافاً لحكم التوراة كما مرّ، إلاّ أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد.

وقوله: {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي في القرآن، والمعنى إن أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل اللّه، ولذا فهي لا تنافي قوله في الآية 42: {فَاحْكُم بَيْنَهُ-مْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، كما لا وجه لتوهم نسخ هذه الآية لتلك؛ لمّا قد مرّ من أن سورة المائدة لا منسوخ فيها، كما أن هذه الآيات سياقها يدل على أنها نزلت دفعة واحدة فلا معنى للنسخ فيها.

وقول: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يدل على أن عدم الحكم بما أنزل اللّه هو حكم بالأهواء فإما حكم اللّه وإما حكم الهوى ولا شق ثالث، وأما ما شاع الآن عند البعض بأنه يحكم حسب العقل وإن خالف حكم اللّه فهذا من المغالطات المفضوحة، إذ العقل لا يخالف حكم اللّه، كيف والعقل حجة باطنة للّه تعالى، نعم قد تلبس الأهواء والاستحسانات الزائفة بلباس العقل فيختفي الهوى بظاهر من التعقل وحينذاك يغوي الشيطان أولياءه.

ص: 176


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 650.

وقوله: {عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي بدلاً عن الحكم النازل من اللّه تعالى والذي هو الحق، وفي ذلك بيان بطلان الحكم الذي لم ينزله اللّه، إذ لا واسطة بين الحق والباطل قال سبحانه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَٰلُ فَأَنَّىٰتُصْرَفُونَ}(1).

تعدد الشرائع والحكمة فيه

الثاني: قوله تعالى: {لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ...} الآية.

هذا كالتعليل لتعدد الشرائع والكتب.

فأولاً: يتم بيان تعدد الشرائع.

وثانياً: بيان قدرة اللّه على أن يجعل الجميع على نمط واحد، وإنما لم يفعل ذلك بحكمته.

وثالثاً: بيان الحكمة في التعدد وهو الابتلاء.

ورابعاً: الدعوة إلى اختيار الإسلام وقبول أحكامه؛ لأنه الناسخ للشرائع الماضية.

وخامساً: التحذير بأن مرجع الجميع إلى اللّه فيجازيهم على أعمالهم.

1- قوله: {لِكُلّٖ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أي من اليهود والنصارى والمسلمين، أو لكل من موسى وعيسى‘ ورسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، قال سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ}(2).

ص: 177


1- سورة يونس، الآية: 32.
2- سورة الشورى، الآية: 13.

وقوله: {شِرْعَةً} أصل الكلمة من شريعة الماء وكذا الطريق إليها، والشريعة هي موضع على شاطئ النهر يهيّأ للشرب، ثم شُبّه به أحكام الدين؛ لأنها المنهل العذب الذي يرتوي منه الناس طريقة عيشهم وفي ذلكحياتهم، ومنها أحكام القتل والزنا في شأن نزول هذه الآيات.

وقوله: {وَمِنْهَاجًا} وهو الطريق الواضح، والظاهر بقرينة السياق أن المراد بالمنهاج هو الكتاب؛ لأن الكتب السماوية واضحة تبين الطريق كما قال: {تِلْكَ ءَايَٰتُ الْكِتَٰبِ الْمُبِينِ}(1)،

وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(2)، فحاصل المعنى لكلٍ من الأنبياء أو الطوائف الثلاث جعلنا أحكاماً وجعلنا عليها منهاجاً هو الكتاب الدال عليها، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «والشرعة والمنهاج سبيل وسنة»(3)، والظاهر أن السنة شرح للشرعة، والسبيل بيان للمنهاج، من اللف والنشر غير المرتّب.

2- وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً} بيان أن اختلاف الشرائع والكتب إنما هو لحكمة وإلاّ فإن اللّه تعالى قادر على أن يجعل الناس كلهم على طريقة واحدة: إما تكويناً بأن يجبرهم على الإيمان كما قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(4)، وإما تشريعاً بأن كان ينزل شريعة واحدة وكتاباً

ص: 178


1- سورة يوسف، الآية: 1.
2- سورة الدخان، الآية: 58.
3- الكافي 2: 29.
4- سورة يونس، الآية: 99.

واحداً، لكن كانت الحكمة تقتضي اختيار الإنسان، لذا لم يجبر أحداً على الإيمان، ولما كانت تقتضي التدرج في الشريعة لذلك أرسل شرائع متعددة ثم نسخ كل سابقة بلاحقتها، بل حتى الشريعة الواحدة تدرج فيها فأنزل أحكاماً في البداية ثم نسخها لمّا انتهى أمدها، حتى كانت شريعة الإسلام خاتمة الشرائع، فلمّا أكملها بالولاية أنزل قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1).

ولا يخفى أن قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً} تكويناً وتشريعاً فيما يخص بالشريعة بالإكراه عليها أو بعدم تعددها، وهذا لا ينافي خلق الإنسان بكيفية واحدة وبتركيب جسدي ونفسي وعقلي واحد.

3- وقوله: {وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَىٰكُمْ} بيان وجه الحكمة في تعدد الشرائع والكتب وهو اختبار الناس.

فأولاً: الامتحان يقتضي أن يكون بما هو يناسب الإنسان فيحّمل ما له الطاقة فيه، وأما الامتحان في ما لا طاقة له فيه فليس من الحكمة.

وثانياً: يظهر بالتعدد المؤمن الذي يقبل الشريعة اللاحقة عن الفاسق الذي يرفضها، فكما أنّ كل حكم فيه اختبار كذلك مجموعة الشريعة فيها الاختبار.

4- وقوله: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ} أي وحيث علمتم أن اللّه يختبركم في الشرائع فبادروا إلى قبول الإسلام الذي يتضمن آخر الشرائع، لتنجحوا في الاختبار الإلهي، ولعل جمع الخيرات لأجل أنّ شريعة الإسلام كل حكم

ص: 179


1- سورة المائدة، الآية: 3.

منها خير.

5- وقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ...} لمّا أمر بالمبادرة إلى قبول الشريعة، وعد وأوعد ببيان أن الجميع مرجعهم إلى حكم اللّه تعالى فيجازيهم على أعمالهم.

وقوله: {فَيُنَبِّئُكُم} أي يخبركم إخبار من يريد الجزاء، وبذلك يفصل بين المبادر المحق والمقصّر المبطل.

الثالث: قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ...} الآية.

تكرّر الأمر بالحكم بما أنزل اللّه والنهي عن اتباع أهوائهم في هذه الآية والآية السابقة، قيل: لعل الفرق أنّ في الآية الأولى حثّاً على العمل بالشريعة الإسلامية؛ لأنها الخيرات التي لا بد من الاستباق إليها، وفي الآية الثانية بيان أن الذين يرفضون الشريعة الإسلامية إنما يضلّهم اللّه بسبب بعض ذنوبهم وفسقهم.

وقوله: {أَنِ احْكُم} استئناف، أو عطف على الكتاب في الآية السابقة، أي أنزلنا إليك الكتاب وأنزلنا إليك أن احكم بينهم، وقيل غير ذلك.

وقوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} أي أن يضلوك، ولا يخفى أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مكلّف بالعمل بجميع الأحكام - إلاّ فيما استثني من اختصاصاته - فأمر اللّه سبحانه ونهيه وتحذيره للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هو لبيان الحكم له، ولذا قيل: إن العصمة وعدم ارتكابه للذنوب لا تعني عدم قدرة المعصوم عليها وعدم تكليفه بتركها، كما أن بيان تكاليف المعصوم له ليس لغواً؛ لأنه

ص: 180

لولا البيان لم يكن هناك تكليف، كما أنه تعليم لسائر الحكّام ولجميع المسلمين الذين يشتركون مع المعصومين في جميع التكاليف، إلاّ فيما استثني بدليل خاص.

وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ...} هذا تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ولذا قال: {فَاعْلَمْ} أي إنّ إعراضهم عن حكمك الحق سببه أن اللّه أراد أن يعاقبهم ببعض ما ارتكبوه من الذنوب الموجبة لفسقهم، فلذا خذلهم ولم يلطف بهم لطفاً يهديهم ليعملوا بما أنزله، وكما قال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(1).

وقد مرّ مراراً أن الهداية من اللّه بألطافه بعباده، وأما الضلال فبسبب خذلانه وقطع ألطافه عمّن تمادى في غيّه وعاند، ولا أحد يهتدي من غير هداية اللّه كالأعمى في الطرق الجبليّة الوعرة يجيئه الدليل البصير ويقول له: اعمل كما أقول لك لكي لا تقع في المهالك، فإن أطاعه استمر معه إلى أن يوصله إلى برّ الأمان، وإن رفض الاستماع إليه حاول معه فإن عاند تركه، وبذلك يسقط بسوء اختياره في المهالك ولا ينجو قطعاً.

وقوله: {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} إما بمعنى أن بعض الذنوب كافية للخذلان نظير قوله: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَٰطَتْ بِهِ خَطِئَتُهُ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(2)، أو بمعنى أن الإضلال نتيجة بعض الذنوب الكبيرة لا كلّها، فإن الذنوب عن غير عناد قد لا توجب قطع ألطاف اللّه

ص: 181


1- سورة المائدة، الآية: 108.
2- سورة البقرة، الآية: 81.

تعالى، أو بمعنى أن سائر الذنوب عقابها في الآخرة والإضلال عقوبة دنيوية تستتبع عقوبات أخروية!

وقوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَٰسِقُونَ} بيان أن فسق هؤلاء هو سببإضلالهم، وأن المؤمنين قليلون، فلا ينبغي الأسف على الفساق كما قال تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ}(1).

الرابع: قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا...} الآية.

توبيخ لهم على توليهم وإعراضهم عمّا أنزل اللّه تعالى، ببيان أن الحكم لا يخلو عن أحد أمرين: إما حكم اللّه وإما حكم الجاهلية، فإذا رفضوا حكم اللّه الذي هو الأحسن فقد طلبوا حكم الجاهلية، وفي ذلك تشنيع لأهل الكتاب، فإنهم أولى الناس بترك الجاهلية إلاّ أن أهواءهم أنزلتهم إلى دركات الجهل والجاهلية، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا * أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}(2).

وقوله: {الْجَٰهِلِيَّةِ} أي الملّة الجاهلية؛ لأن الحكم الذي أنزله اللّه هو العدل الملائم لحياة الإنسان، فتركه من الجهل الذي يقدّم فيه القوي لقوته ويظلم فيه الضعيف لضعفه، وهكذا سائر المفاسد المترتبة على الأحكام

ص: 182


1- سورة المائدة، الآية: 26.
2- سورة النساء، الآية: 51-52.

المخالفة لحكم اللّه تعالى.

وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا...} استفهام إنكاري، أي لا حكم أحسن من حكم اللّه.

وقوله: {لِّقَوْمٖ يُوقِنُونَ} أي إنما يعلم الموقنون أن حكم اللّه أحسن الأحكام، وأما غيرهم فالأهواء غطّت على عقولهم فأعمت بصائرهم فيزعمون أن الأحكام التي تكون طبقاً لأهوائهم هي الأحسن، مع أن الأمر ليس كذلك، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(1)، وفي الآية تعريض بهم بأنهم ليسوا بمؤمنين ولذا لا يوقنون، و(اليقين) نقيض الشك كما أن العلم نقيض الجهل(2)، وأهل الجاهلية في شك من حكم اللّه ويقابلهم المؤمنون قال سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَٰبَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ مُرِيبٖ}(3)، ولذا قيل: إن غالب استعمال اليقين في الروايات يراد به العلم المستتبع للعمل دون ما لم يستتبعه، وإن كان المعنى اللغوي أعم.

ص: 183


1- نهج البلاغة، الخطبة: 15.
2- راجع لسان العرب 13: 457.
3- سورة الشورى، الآية: 14.

الآيات 51-53

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ 51 فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٖ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَٰدِمِينَ 52 وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَٰسِرِينَ 53}

51- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} حيث علمتم أن أهل الكتاب يبغون حكم الجاهلية وأنهم ضُلاّل فسّاق ف-{لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ} تحبونهم وتستنصرون بهم وتتبعونهم، إذ {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} في مقابل المسلمين، وإن كان بينهم أنفسهم عداوة وبغضاء، {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} من المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يعتبر منهم ويحشر معهم، وذلك ظلم و{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون المسلمين بمولاتهم للكفار.

52- والمنافقون كذلك {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {يُسَٰرِعُونَ فِيهِمْ} يبادرون إلى موالاة اليهود والنصارى، ويعتذرون بأنّهم {يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} من دوائر الدهر فتكون الدولة للكفار

ص: 184

فننتفع حينذاك بمولاة اليهود والنصارى!

لكن لا تنفعهم تلك المولاة {فَعَسَى اللَّهُ} وهذا إيجاد أمل في المؤمنين{أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} النصر للمؤمنين {أَوْ أَمْرٖ مِّنْ عِندِهِ} غير الفتح يُعز به المؤمنين كإجلاء اليهود {فَيُصْبِحُواْ} يصبح الذين في قلوبهم مرض {عَلَىٰ مَا أَسَرُّواْ} أخفوا {فِي أَنفُسِهِمْ} كتمني غلبة الكفار {نَٰدِمِينَ} ندماً على فوات مصالحهم، إذ فاتهم أولياؤهم من الكفار وقد افتضحوا بين المسلمين.

53- {وَيَقُولُ} حينذاك {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} إيماناً حقيقياً والاستفهام للتعجب: {أَهَٰؤُلَاءِ} المنافقون {الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} أي بالأيمان المغلّظة {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} مع المؤمنين، أي كيف يحلفون بأنهم مع المسلمين والحال أنهم يتولّون الكفار؟ {حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} موالاتهم للكفار لم تنفعهم في الدنيا وسائر أعمالهم بطلت بسبب نفاقهم في الآخرة {فَأَصْبَحُواْ خَٰسِرِينَ} في الدارين.

بحوث

معنى النهي عن ولاية غير المسلمين

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ...} الآية.

المعنى حيث علمتم أن هؤلاء لا يريدون الحكم بما أنزل اللّه، بل يطلبون حكم الجاهلية - والذي منه الحكم بصالح الأقوى حتى لو كان مبطلاً - فلذا عليكم الحذر منهم؛ لأنهم لا يريدون إلاّ مصالحهم، فلا يمنعهم مانع من الغدر بكم ونقض عهودكم، فلا تتولوهم قلباً وعملاً؛ لأن التولي القلبي يؤدي إلى التأثر بهم وبالمآل يقودكم إلى النفاق أو الكفر وإلى المعاصي

ص: 185

والفسق، وكذلك التولي العملي يؤدي إلى الخسارة وإلى الندم، فأي نفع فيموالاتهم؟

وهذا لا ينافي التعاهد معهم ضمن اتفاقيات ومواثيق واضحة بعدم التعدي، وكذلك قبولهم في ذمة الإسلام؛ لأن ذلك ليس من التولي الذي هو محبتهم قلباً والتحالف معهم عملاً، بل هو لدفع شرّهم مع كون اليد العليا للمسلمين، ولذا تعاهد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مع اليهود القاطنين في أطراف المدينة، وكذلك صالح المشركين في الحديبية، إذ للمعاهدة إحدى الحسنيين إما يوفون بها وبذلك يأمن شرّهم، وإما ينقضونها فتكون للمسلمين الحجة في إجلائهم أو قتالهم، كما حصل مع بني النضير وبني قريظة حيث نقضوا العهد فتم إجلاء الأولى ومقاتلة الثانية، وكذلك أقر الإسلام الذمة لهم؛ لأن السيطرة تكون للمسلمين مع إيجاد الأمان لأهل الذمة، وفي ذلك تقريبهم إلى الإسلام ولو بعد حين كما حصل لأكثر أهل الذمة حيث أسلموا بالتدريج من غير إكراه لمّا رأوا حسن الإسلام.

والحاصل: أن الولاية بالمحبة والاستنصار تختلف عن المعاهدة وقبول الذمة منهم.

وقوله: {لَا تَتَّخِذُواْ} الاتخاذ من باب الافتعال من الأخذ، فيدل على شدة الأخذ.

وقوله: {أَوْلِيَاءَۘ} أعم من الولاية القلبية ومن الولاية العملية بأن تكون لهم السيطرة والسلطة، وأصل الولاية من القرب، فالناصر والمحب والأقرباء في النسب والحاكم والصديق وأهل الدين الواحد كلهم قريبون للإنسان

ص: 186

من جهة النصرة أو المحبة أو النسب أو السلطة أو الصداقة أو الدين.وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ} أي في مقابلة المسلمين كلّهم يد واحدة مع شدة العداوة بين اليهود والنصارى من جهة وبين اليهود أنفسهم وبين النصارى أنفسهم من جهة ثانية، ولذا نشاهد اتحادهم الآن ضد المسلمين رغم اختلافاتهم الشديدة فيما بينهم.

وقوله: {يَتَوَلَّهُم} من التولي بمعنى أخذ الولي، فيتولاّهم بمعنى يتخذهم أولياء.

وقوله: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي يكون منهم عملاً ونتيجةً، أما عملاً فإنه لا فرق بين المنافق والكافر في كونهما خطراً على المسلمين بل المنافق أخطر؛ لأنه عدو باطني ينخر من الداخل، وكل من يتولى جمعاً فإن هواه معهم لا مع قومه ومجتمعه وأهل دينه، وأما نتيجةً فلأنه كافر باطناً ويحشر معهم إلى النار.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} بيان لأن هؤلاء بتوليهم ظلموا أنفسهم ببخسها حقها في الإيمان والجنة، وظلموا الآخرين بتوجيه الخطر إليهم، ولذلك فإن اللّه لا يهديهم بسبب سوء عملهم.

الثاني: قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}.

نقض لما يعتذر به الذين يتولون اليهود والنصارى! وبيان أن منشأ ذلك هو مرض قلوبهم وذلك بالشك والكفر، وفي ذلك تحذير للمؤمنين منهم وأيضاً تحذير من مرض القلب، فعلى الإنسان أن يراقب نفسه لئلا يبتلى به،

ص: 187

فإن الانحرافات العملية تنشأ من الانحراف في القلب، وأما عذرهم فهو أخذالحيطة بمصادقة كلا الطرفين حتى إذا تغلّب أحدهما كانوا في أمان، وأما نقضه فإنه لا معنى للمداهنة على حساب الحق، فعلى الإنسان أن يتبع الحق حتى لو كان فيه الضرر وأن يترك الباطل حتى لو كان فيه النفع، قال سبحانه: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(1)، هذا مضافاً إلى أن التذبذب سبب لفقدان المصلحة والخسارة قال تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}(2).

معنى مرض القلب

وقوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} وذلك المرض هو الشك أو الكفر، ويقابله القلب السليم قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٖ سَلِيمٖ}(3)، وقال: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٖ سَلِيمٍ}(4)، وكلّما أطلق مرض القلب أريد به المنافقون، وأحياناً يعطف المنافق على مريض القلب، فهناك يراد بالمرض ضعف الإيمان، وكأن المنافق ميّت القلب، قال سبحانه: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ}(5)، وقال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}(6).

ص: 188


1- سورة يونس، الآية: 35.
2- سورة النساء، الآية: 143.
3- سورة الشعراء، الآية: 89.
4- سورة الصافات، الآية: 84.
5- سورة الأنفال، الآية: 49.
6- سورة الأحزاب، الآية: 12.

وقوله: {يُسَٰرِعُونَ فِيهِمْ} لأنهم منهم فالمسارعة فيهم ولذا لم يقل(يسارعون إليهم)؛ لأن المسارعة إن كانت من الخارج كانت إليهم، وإن كانت من الداخل كانت فيهم، وفيه تأكيد لقوله: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.

وقوله: {يَقُولُونَ} أي هذا وجه اعتذارهم للمسارعة فيهم.

وقوله: {دَائِرَةٌ} أي دوران الحال وصروف الزمان، فقد تكون الدولة للكفار، سواء كانوا أهل الكتاب فنأمن جانبهم لأنا أولياؤهم، أم كانت الدولة لكفار آخرين فنستقوي بهؤلاء.

الثالث: قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٖ مِّنْ عِندِهِ...} الآية.

هذا نقض لعذرهم وإبطال له.

وقوله: {فَعَسَى} قد مرّ أن المعنى الحقيقي للرجاء يستلزم الجهل ولذا فاللّه تعالى منزه عنه، فلا يراد بالإرادة الجدية هذا المعنى الحقيقي، بل هو إبهام لغرض إيجاد الأمل في قلوب المؤمنين وتخويف المنافقين، ولعل الغرض من الإبهام هو أن لا تخور عزيمة المؤمنين فيتركوا العمل أو يتماهلوا فيه.

وقوله: {بِالْفَتْحِ} أي النصر للمسلمين على الأعداء، وهذا عادة يطلق فيما لو كان انتصاراً عسكرياً سواء بحرب أم باستسلام العدوّ، ومن مصاديقه فتح حصون بني قريظة وخيبر.

وقوله: {أَوْ أَمْرٖ مِّنْ عِندِهِ} أي من غير الفتح، كإعزاز المسلمين وتكثير عددهم بدخول الناس في دين اللّه أفواجاً وجلاء الكفار، ومن مصاديقه

ص: 189

إجلاء بني النضير من أطراف المدينة.

وقوله: {عَلَىٰ مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ} كأنّ المقصود موالاة الكفار قلباً؛ لأن هؤلاء المنافقين كانوا يتولونهم قلباً لكن يغلفون ذلك بأنهم يحتاطون خوفاً من أن تصيبهم دائرة، ككل مبطل يخفي في نفسه أموراً ولكي لا يفتضح يعتذر بأعذار واهية.

وقوله: {نَٰدِمِينَ} ليس ندماً عن توبة، بل ندماً لأنهم فاتتهم مصالحهم، فبانتصار المسلمين وعزتهم يخسر المنافقون الطرفين؛ لأن الكفار انهزموا، ولأن المسلمين عرفوهم بالنفاق.

الرابع: قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ...} الآية.

أي حين الفتح أو أمر من عند اللّه وافتضاح المنافقين حينذاك يقول المؤمنون هذا الكلام، ولعل غرضهم أولاً بيان أهمية اتّباع حكم اللّه تعالى حيث يتبيّن في الدنيا قبل الآخرة أنه كان صحيحاً ومطابقاً للحكمة، وثانياً: تقوية لإيمان المؤمنين وتضعيفاً لجانب النفاق، فإن الإيمان درجات كما أن النفاق دركات، فكلّما ظهرت صحة الأحكام ازداد المؤمنون إيماناً وهدى، ولعل بعض ضعاف الإيمان يزول الريب والشك من قلوبهم.

وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الظاهر أن هذا القول في ما بينهم، أي يقول بعضهم لبعض وكأنه من قبيل التواصي بالحق والتحدث بنعمة اللّه على أنفسهم.

وقوله: {أَهَٰؤُلَاءِ} الاستفهام للتعجب من سوء عاقبة المنافقين حيث

ص: 190

كان حتفهم في تدبيرهم، حيث أرادوا أن يأمنوا الجانبين فإذا بهم قد خسروهما،وكذلك جرأتهم على اللّه تعالى بالحلف الكاذب.

وقوله: {جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى أيمانهم المغلّظة، فالمنافقون يحلفون كذباً أنهم مع المؤمنين لكنهم قلباً وعملاً مع الكفار، وحين نصر المؤمنين يتبيّن كذب المنافقين على اللّه تعالى وأنهم كانوا مع الكفار.

وقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ} إما من تتمة كلام الذين آمنوا، فالمعنى توليهم للكفار لم ينفعهم في الدنيا، أو استئناف من اللّه تعالى، أي أعمال المنافقين تبطل في الآخرة بسبب نفاقهم.

وقوله: {فَأَصْبَحُواْ خَٰسِرِينَ} أما في الدنيا فبافتضاحهم، وأما في الآخرة فبالنار، ولا يخفى أن حبط العمل هو سبب تلك الخسارة ولذا استعمل فاء الترتيب، وبعبارة أخرى فإن حبط العمل وإن كان هو خسارة إلاّ أن الخسارة الكبرى هي ما يترتب على الحبط.

ص: 191

الآيات 54-56

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ 54 إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ 55 وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَٰلِبُونَ 56}

54- ثم يبيّن اللّه تعالى أن النهي عن موالاة اليهود والنصارى إنما هو إرشاد للمسلمين، وإلاّ فالدين لا يحتاج إليهم ف-{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ}يرجع وينقلب {عَن دِينِهِ} سواء ارتداداً بالكفر أم بالنفاق عبر تولي الكفار، فلا يضر دين اللّه شيئاً، إذ لا يخلي اللّه دينه عن أنصار ينصرونه {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ} جماعة موصوفين بالأوصاف التالية:

أ- {يُحِبُّهُمْ} اللّه تعالى بسبب طهارة قلوبهم وصحة أعمالهم.

ب- {وَيُحِبُّونَهُ} قلباً فيظهر ذلك في أعمالهم بطاعته.

ج- {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ذلّا ليس عن هوان وإنما عن تواضع وخفض الجناح.

د- {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ} أشداء عليهم لا يخضعون لهم.

ص: 192

ه- {يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لنصر دينه حتى مع قراباتهم الكفار فلا ولاية لهم مع الكفار تمنعهم عن جهادهم.

د- {وَلَا يَخَافُونَ} في اللّه ودينه والجهاد {لَوْمَةَ لَائِمٖ} بل يمضون في دينهم وجهادهم امتثالاً لأمر اللّه تعالى فلا يهتمون بما يثبّط عن ذلك.

{ذَٰلِكَ} أي الاتّصاف بهذه الصفات {فَضْلُ اللَّهِ} تفضّل عليهم وهداهم إليها {يُؤْتِيهِ} يؤتي اللّه ذلك الفضل {مَن يَشَاءُ} ممن اهتدى بحسن اختيار فأطاع اللّه فصار قابلاً لذلك الفضل، {وَاللَّهُ وَٰسِعٌ} عطاءً فلا تنقص خزائنه ليبخل بها {عَلِيمٌ} بالموضع الذي يجعل فضله فيه، فليس منعه بخلاً ولا عطاؤه اعتباطاً.

55- وحيث نُهيتم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ف-{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ} بالولاية التامة تكويناً وتشريعاً {اللَّهُ} فولايته بالذات {وَرَسُولُهُ} حيث إن ولايته بجعل من اللّه، {وَ} من بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} الإمام علي (عليه السلام) والأئمة من ذريته (عليهم السلام) وهم موصوفون بأنهم {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ} أي بإعطاء الصدقة في حال الركوع.

56- {وَمَن} يتخذهم الولي دون غيرهم ف- {يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} المذكورين في الآية السابقة {فَ-} هو من حزب اللّه و{إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} الجماعة المرتبطة باللّه {هُمُ الْغَٰلِبُونَ} على سواهم لا من اتخذ الكفار أولياء ليأمن؟!

بحوث

الأول: حاصل هذه الآيات أنه لما نهى اللّه تعالى عن اتخاذ اليهود والنصارى

ص: 193

أولياء بيّن أن من يخالف هذا النهي فإنما يضرّ نفسه فلا يتضرر دين اللّه بذلك؛ لأن اللّه ناصر دينه فإن رفضه هؤلاء فاللّه يقيّض أناساً آخرين يكونون حملةالدين وأنصاراً له كما قال: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ}(1) وقال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَٰلَكُم}(2)، ثم يذكر اللّه تعالى أوصاف أولئك القوم تحريضاً وحثاً للمؤمنين كي يتصفوا بها، وبعد ذلك يبيّن اللّه أن الولاية التامة له تعالى وقد جعلها لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وللإمام علي (عليه السلام) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، ثم يأمر باتخاذهم أولياء ليكونوا من حزب اللّه الغالب، إذ إنهم الذين يرثون الأرض ثم يرثون الفردوس، لا ما توهمه المنافقون من غلبة الكفار فتولّهم ليأمنوهم!

معنى الارتداد ومصاديقه

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}.

(الارتداد) من باب الافتعال من الرد، وهو بمعنى الرجوع عن الطريق الذي ذهب فيه، فالذي أظهر الإسلام دخل في الصراط المستقيم لكنه بالنفاق أو الكفر يخرج عنه ويرجع على قفاه، بل حتى بارتكاب المعاصي، قال سبحانه: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ}(3)، وقال سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَ-ن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ}(4).

ص: 194


1- سورة الأنعام، الآية: 89.
2- سورة محمد، الآية: 38.
3- سورة آل عمران، الآية: 149-150.
4- سورة آل عمران، الآية: 144.

وقال: {يَٰقَوْمِ ادْخُلُواْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ}(1)، وغير خفي أن الارتداد كما يحصل بالكفركذلك يحصل بالنفاق؛ لأن النفاق كفر باطني وإن كان المنافق محكوماً بالإسلام ظاهراً، وقد روى المسلمون حتى المخالفون في صحاحهم ارتداد الأصحاب، ففي البخاري في باب الحوض: أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى»(2)، فالارتداد معناه أعم كما ظهر من الآيات السابقة، نعم في عرف المتشرعة صار حقيقة متشرعية في الخروج عن الإسلام وإظهار الكفر، لكن لا تحمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات المتأخرة، وعليه فمفهوم هذه الآية المباركة أعم من الارتداد عن الإسلام إلى الكفر أو النفاق أو المعصية، وإن كان شأن النزول في من اتخذوا اليهود والنصارى أولياء وبذلك صار منهم.

الثالث: قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ}

هذا جزاء الشرط في قوله: {مَن يَرْتَدَّ}، وهو في الواقع تعليل للجزاء المقدّر، فالمعنى من يرتد فلا يضرّ اللّه شيئاً؛ لأنه القادر على نصر دينه بأن يأتي بقوم ينصرونه، فما دام التكوين بالخلق بيد اللّه تعالى ومادام الدين الذي ارتضاه اللّه هو الإسلام حصراً فلذلك كان من الحكمة نصر ذلك الدين بخلق ناس ينصرونه،

ص: 195


1- سورة المائدة، الآية: 21.
2- البخاري 7: 208.

قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1)، وقال: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ}(2)،وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَئًْا}(3).

الذين يأتي اللّه بهم بدلاً عن المرتدين

وقوله: {فَسَوْفَ} للمستقبل البعيد يدل على أن هناك فاصلة زمنية بين الارتداد وبين إتيان اللّه بالقوم، فلا تنطبق الآية على الحروب التي حدثت في زمن أبي بكر؛ لأنه تمت محاربة الذين ارتدوا وغيرهم فوراً ومن غير فاصل زماني، بل الآية أكثر انطباقاً على الارتداد الذي حصل عن ولاية الإمام علي (عليه السلام) ، بل السياق يدل عليه حيث اتبع هذه الآية بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ...}(4)، كما دلّ على هذا الارتداد حديث الحوض الذي ذكرناه قبل قليل، وبفاصل زمني جاء اللّه تعالى بقوم من المؤمنين نصروا الإمام علياً (عليه السلام) في الجمل وصفين والنهروان، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال يوم البصرة: «واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم»(5)،

وعن الإمام الباقر والصادق‘ أنهما قالا: «هم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين

ص: 196


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- سورة الصف، الآية: 8.
3- سورة النور، الآية: 55.
4- سورة المائدة، الآية: 55.
5- التبيان 3: 555-556؛ مجمع البيان 3: 513.

والمارقين»(1).

سؤال: إن بعض من قاتل مع أمير المؤمنين (عليه السلام) خالفه بعد ذلك،كالخوارج فلا تنطبق عليهم الأوصاف المذكورة في الآية؟

والجواب: إنّ الآية لا تدل على أن كل من حارب مع الإمام علي (عليه السلام) هو مؤمن مستجمع للصفات، بل ذكرت أن اللّه سيأتي بقوم يتصفون بهذه الصفات ويكفي في انطباق الآية وجود مجموعة مؤمنة مخلصة في أصحابه الذين قاتلوا معه، فالمعنى أنّ اللّه سيأتي بقوم هكذا أوصافهم ويكفي في صحة المعنى انطباق الأوصاف على مجموعة من أنصاره (عليه السلام) ، كما أن اللّه تعالى مدح أنصار النبي المتصفين بمجموعة من الصفات التي ذكرها مع وجود منافقين في المدينة فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...}(2)، فالآية لا تنطبق إلاّ على المؤمنين لا المنافقين فيهم.

ثم إن شأن نزول الآية في أنصار الإمام علي (عليه السلام) ، وهذا لا ينافي شمول الآية وعمومها، فكلّما ارتد الناس في زمان أتى اللّه تعالى بقوم ينصرون دينه في زمان آخر، ولذا كان من مصاديق الآية أنصار الإمام المهدي، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن صاحب هذا الأمر محفوظ له أصحابه، لو ذهب الناس جميعاً أتى اللّه له بأصحابه، وهم الذين قال اللّه عزّ وجلّ: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ}(3) وهم الذين قال اللّه عزّ

ص: 197


1- مجمع البيان 3: 512؛ التبيان 3: 555.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- سورة الأنعام، الآية: 89.

وجلّ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...}»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «الموالي» (2)، وهذا مصداق آخر فلمّا ارتد بعض العرب جاء اللّه بغيرهم لنصرة دينهم.

أوصاف المؤمنين

الرابع: قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ...} الآية.

هذا تعريض بأولئك المرتدين وبيان سبب ارتدادهم، كما هو توصيف للمؤمنين الحق وحث للناس على الاتصاف بأوصافهم وتلك الأوصاف هي:

1- قوله: {يُحِبُّهُمْ} وحب اللّه لهم وإن كان خارجاً عن اختيارهم، إلاّ أن أسبابه بيدهم، وذلك بصالح الأعمال، فإن اللّه لا يحب أحداً اعتباطاً وإنما يحبّه لحسن عمله قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين}(4)، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(5)، وقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ}(6)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(7)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(8) وغيرها، وفي المقابل إن اللّه لا يحب من

ص: 198


1- الغيبة للنعماني: 316؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 416.
2- تفسير العياشي 1: 327؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 417.
3- سورة البقرة، الآية: 195.
4- سورة البقرة، الآية: 222.
5- سورة آل عمران، الآية: 76.
6- سورة آل عمران، الآية: 146
7- سورة آل عمران، الآية: 159
8- سورة الحجرات، الآية: 9.

يتصف بصفات السوء قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٍ}(1)،وقال: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}(2)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(3)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}(4)، وقال: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(5)، ثم بيّن القاعدة العامة في حب اللّه فقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(6)، ولا يخفى أن اللّه ليس محلاً للحوادث ولا للكيفيات النفسانية، فحبُّه بمعنى تقريبه للعبد وإثابته كما مرّ مراراً.

2- قوله: {وَيُحِبُّونَهُ} محبتهم له في القلب ثم تظهر في العمل، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(7)، فراجع(8).

3- قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، الذل قد يكون عن هوان وذلك مرفوض للمؤمن مطلقاً، وقد يكون عن تواضع للمؤمنين وهو محبوب ومطلوب، قال سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}(9)، وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ

ص: 199


1- سورة الحديد، الآية: 23.
2- سورة الشورى، الآية: 40.
3- سورة القصص، الآية: 77.
4- سورة الأنفال، الآية: 58.
5- سورة الأعراف، الآية: 55.
6- سورة آل عمران، الآية: 31.
7- سورة البقرة، الآية: 165.
8- التفكر في القرآن 2: 204-206.
9- سورة الحجر، الآية: 88.

اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(1)، وقال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}(2)، والحاصل: هؤلاء يتواضعون للمؤمنين بالعطف عليهم واحترامهم وأداء حقوقهم.

4- قوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ} أي مترفعين عليهم لا يخضعون لهم، وهذا لا ينافي غلبة الكفار أحياناً واستهانتهم بالمؤمنين كقتلهم الأنبياء والأوصياء؛ لأن الانهزام لا يعني الذلة، ولذا يقال: قُتِل بعزة وكرامة حيث لم يخضع للظالمين.

قال سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(3)، وهذا لا ينافي المعاهدات مع الكفار ولا أداء حقوق أهل الذمة؛ لأن تلك المعاهدات التي تؤمّن مصالح المسلمين عزة لهم لا ذلة، كما أن أهل الذمة خاضعون للمسلمين، نعم المعاهدات التي تسلب المسلمين حقوقهم وتجعل للكفار سيطرة عليهم مرفوضة وباطلة.

5- قوله: {يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيل: إنما ذكر الجهاد بخصوصه مع كثرة الطاعات كالصلاة والزكاة بل هو داخل في {يُحِبُّونَهُ}، لأجل مناسبة الجهاد للمقام، حيث إنه بيان انتصار اللّه تعالى لدينه عبر هؤلاء، ولا يكون ذلك إلاّ بالجهاد عادة.

6- قوله: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٖ} الظاهر أنه راجع إلى كل الصفات

ص: 200


1- سورة الشعراء، الآية: 215.
2- سورة الإسراء، الآية: 24.
3- سورة الفتح، الآية: 29.

الماضية؛ لأن المثبّطين كثيرون وقد يلومون المؤمنين على طاعتهم للّه، إذ قد يكون في الطاعة تحمل المكاره وإنفاق الأموال والمخاطرة بالنفوس وخاصةفي الجهاد فالمثبّطون يلومون وخاصة حين الأضرار، وبعض الناس قد لا يهمّه صعوبة الطاعات لكن يتأثر بلوم الناس؛ لأن العامل النفسي قد يكون أكبر أثراً من العامل الجسدي والمالي، لكن الناجحين هم الذين يختارون الطريق الصحيح ثم لا يبالون بالقيل والقال وبالمثبطات التي لا منشأ لها إلاّ الخوف على المصالح الدنيوية مع عدم مراعاة الحقائق الشرعية، ثم إن هذا اللوم قد يكون من الكفار وقد يكون من المنافقين وقد يكون من المسلمين.

الخامس: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}.

بعد أن يبيّن أن اللّه تعالى ينصر دينه بهؤلاء يبين أنهم إنما اتصفوا بتلك الصفات لفضل اللّه عليهم لما أخلصوا النية وأحسنوا العمل، فإن كل خير منه تعالى إلاّ أنه قد اشترط بعضه بحسن الإنسان نفسه فيما جعله فيه مختاراً، بل كل نتيجة لا تترتب على مقدماتها إلاّ بإذن اللّه تعالى كما مرّ مراراً.

و{فَضْلُ} هو زيادة الخير، فإن للّه عطاءين: عطاء عام للجميع كأصل الخلق والرزق والسمع والبصر ونحو ذلك مما يشترك فيه عامة الناس، وعطاء خاص للبعض كزيادة الرزق والإيمان ونحو ذلك، وفضله في الإيمان والعمل الصالح يشترط بحسن اختيار الإنسان، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَاهُمْ}(1).

ص: 201


1- سورة محمد، الآية: 17.

وقوله: {وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} لبيان أن فضل اللّه غير منحصر ولا محدود فلا بخل فيه، وإنما حكمة اللّه تعالى اقتضت تخصيصه، فاللّه واسع عطاءً وهوكريم جواد ولا تنفد خزائنه؛ لأنه يخلق ما يشاء كيفما يشاء فقوله: {عَلِيمٌ} لبيان أنه يعلم موارد ذلك الفضل فيعطيه بحكمة، فإن منع فليس إلاّ لعدم قابلية الإنسان له، أو لعدم المصلحة.

المقصود بآية (إنما وليكم اللّه...)

السادس: قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ...} الآية.

لمّا نهى اللّه تعالى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وحذر عن الارتداد الذي من مصاديقه تولي الكفار، بعد ذلك بيّن أن الولي الحقيقي الذي هو أولى بالمؤمنين ويتولى شؤونهم تكويناً وتشريعاً هو اللّه سبحانه بولاية ذاتية، والرسول والأئمة بولاية من اللّه تعالى.

وقوله: {إِنَّمَا} للحصر فتدل على أن المقصود من الولاية في هذه الآية هي الولاية التامة من جميع الجهات، أي ولاية السلطة والنصرة والمحبة مجتمعة خاصة بهؤلاء، فلا بد للمؤمنين من اتخاذهم أولياء دون غيرهم، وأما الولاية الجزئية بالنصرة والمحبة فهي عامة لكل المؤمنين كما قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(1)، وق--ال: {وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(2)، وعليه فالحصر في الآية دليل على اختصاص اللّه ورسوله والأئمة بولاية لا توجد لغيرهم وليست إلا الولاية

ص: 202


1- سورة التوبة، الآية: 71.
2- سورة الأنفال، الآية: 72.

التامة كما ذكرنا.

الولاية التكوينية

ثم إن ولاية اللّه هي ولاية بالذات؛ لأنه الخالق المهمين فالجميع تحتسلطته من كل الجهات، فولايته تكوينية بمعنى خلقه وتدبيره بما يشاء، وتشريعية بمعنى إنزاله الكتب وإرساله الرسل وتقنين القوانين.

ثم إن اللّه سبحانه شاء أن يجعل ولاية لرسوله وللأئمة، فولايتهم إنما هي بإذن اللّه تعالى فهي في طول ولايته؛ لأنه عباد مكرمون، وقد جعل لهم الولاية التكوينية، بمعنى أنه أذن لهم في التصرف في الكون بإظهار المعاجز تارة وبغيرها أخرى، فإن كل قدرة لأي إنسان إنما هي من اللّه تعالى، إذ لا حول ولا قوة إلاّ باللّه، ولكن الحكمة اقتضت محدودية قدرة عامة الناس بالمقدار المعلوم إلاّ أنه أراد أن يعطي للرسول والأئمة قدرة في التصرف في الكون أكثر مما أعطاه لغيرهم، كما أنه تعالى جعل لهم الولاية التشريعية، أما الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد أدّبه اللّه بآدابه وعصمه وكشف له الحقائق ففوّض إليه التشريع تشريفاً له، وأما الأئمة (عليهم السلام) فحيث قد كمل الدين ولا تشريع بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فولايتهم التشريعية بمعنى التفويض إليهم في الحكم بظاهر الشريعة أو بعلمهم الذي ألهمه اللّه إليهم، كما فوّض إليهم بيان العلوم والأحكام بما أرادوا وحسب الحكمة والمصلحة، وقد ذكر تفصيل ذلك العلامة المجلسي رضوان اللّه عليه في مرآة العقول(1)، وقد أشرنا إلى شطر منه في شرح أصول الكافي(2)، فراجع.

ص: 203


1- مرآة العقول 3: 145-146.
2- شرح أصول الكافي، للمؤلف 4: 193-194.

التصدق بالخاتم

وقوله: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} شأن نزولها الإمام علي (عليه السلام) لمّا تصدّق وهو في الصلاة بحلّته مرّة وبخاتمه مرّة أخرى فنزلت هذه الآية، وقد تواتر حديث التصدق بالخاتم، فقد روته العامة والخاصة في أحاديث كثيرة(1)، منها: عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن رهطاً من اليهود أسلموا - وذكر بعضهم - فأتوا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا نبي اللّه، إن موسى (عليه السلام) أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيّك يا رسول اللّه؟ ومن وليّنا بعدك؟ فنزلت هذه الآية، ثم قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : قوموا، فقاموا فأتوا المسجد، فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل أما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم، قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلّي، قال: على أيّ حالٍ أعطاك؟ قال: راكعاً، فكبّر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وكبّر أهل المسجد، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : عليّ بن أبي طالب وليّكم بعدي، قالوا: رضينا باللّه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد (صلی الله عليه وآله وسلم) نبياً، وبعليّ بن أبي طالب صلوات اللّه وسلامه عليه ولياً، فأنزل اللّه {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} الآية(2).

وأما جمع {الَّذِينَ} مع أن شأن النزول واحد، فلأن الآية تشمل سائر الأئمة (عليهم السلام) من ذرية الإمام علي (عليه السلام) من الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الإمام المهدي فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآية، وصيّر نعمة أولاده بنعمته، فكلّ من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، فيتصدقون وهم راكعون»(3).

ص: 204


1- راجع روايات الشيعة في البرهان في تفسير القرآن 3: 418-435، وروايات غير الشيعة في الدر المنثور 2: 293.
2- أمالي الشيخ الصدوق: 124.
3- الكافي 1: 289.

شمول الآية لجميع الأئمة (عليهم السلام)

وأما إشكال البعض بأن علياً (عليه السلام) واحد والآية ذكرت {الَّذِينَ} فباطل... .أولاً: لكثرة استعمال الجمع مع إرادة الواحد تعظيماً أو لجهة أخرى كقوله: {فَإِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن تُرَابٖ}(1)، مع أنه لا خالق إلا اللّه قال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَٰلِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}(2)، وكقوله: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}(3) مع أن القائل واحد هو عبد اللّه بن أبيّ، وكقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}(4) والقائل واحد هم نعيم بن مسعود.

وثانياً: إنه شاع استعمال العام مع كونه ينطبق على واحد لغرض من الأغراض، هذا فضلاً عمّا ذكرناه من دخول سائر الأئمة في الآية تنزيلاً لا مجرد تأويل.

وقوله: {يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} إنما ذكرهما بالخصوص؛ لأن واقعة التصدق بالخاتم كانت في حال الصلاة، مع أنهما أفضل عبادتين قرنهما اللّه عادة معاً، فإحداهما تطهر النفس والأخرى تطهر المال، ثم إن قوله: {الزَّكَوٰةَ} لأن الإنفاق هو زكاة، فالزكاة في القرآن لا تختص بالزكاة المصطلحة، فإن القرآن أطلق عليها الصدقات فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا...} الآية(5)، بل الزكاة تشمل كل إنفاق سواء كان الزكاة المتعارفة أم الخمس أم الصدقات المستحبة، ولذا كثر ذكرها

ص: 205


1- سورة الحج، الآية: 5.
2- سورة فاطر، الآية: 3.
3- سورة المنافقون، الآية: 8.
4- سورة آل عمران، الآية: 173.
5- سورة التوبة، الآية: 60.

في الآيات المكية مع أن الزكاة المصطلحة لم تشرّع إلا في المدينةالمنوّرة، ولذا تجد الفقهاء الأوائل كانوا يدمجون بحث الخمس في كتاب الزكاة، وقد شاع بين الفقهاء قولهم ببدلية الخمس عن الزكاة، ولذا أجروا أحكام الزكاة على الخمس، إلاّ فيما استثني بالدليل الخاص.

وأما ما قيل من أن الإمام (عليه السلام) دفع الخاتم عن الزكاة الواجبة عليه فبعيدٌ جداً؛ لأنه آنذاك لم يكن له شيء من الأعيان الزكوية.

وقوله: {وَهُمْ رَٰكِعُونَ} حال عن {وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} أي إعطاؤهم الزكاة كان في حال الركوع.

وأما محاولة البعض صرف الآية عن ظاهرها - إنكاراً لفضل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وولايته - بجعل الواو عاطفة! فباطل جداً، إذ لا معنى لذكر الركوع بعد ذكر الصلاة مع وضوح أنه لم يشرع الركوع بنفسه ومنفصلاً عن الصلاة، كما أنه خلاف الظاهر وخلاف الأحاديث المتواترة في نزول الآية في تصدق الإمام علي (عليه السلام) بخاتمه في حالة الركوع.

السابع: قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَٰلِبُونَ}.

بعد أن ذكر في الآيات السابقة أن من يتول اليهود والنصارى يكون منهم وأنه ظالم وأنه يورث الخسارة حيث قال: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} وقال: {حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَٰسِرِينَ}، بعد ذلك يبيّن أن تولّي اللّه ورسوله والأئمة يكون سبباً لدخول الإنسان في حزب اللّه تعالى فلا يكون من الكفار ولا يكون ظالماً، وإن الدخول في حزب اللّه هو سبب

ص: 206

الغلبة فلا يكون خاسراً كأولئك.

وقوله: {يَتَوَلَّ} أي يتخذه ولياً من باب التفعّل الذي يدل على المطاوعة فإن اللّه ورسوله والأئمة هم الولي شاء الإنسان أم أبى، لكنه قد يقبل هذه الولاية قلباً وعملاً فهو تولّيهم، وقد يرفضها ويقبل ولاية غيرهم فهو تولّي أولئك.

وقوله: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} المذكورين في الآية السابقة الموصوفين بتلك الأوصاف.

معنى حزب اللّه

وقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} أي من يتولاهم فهو من حزب اللّه، وإن حزب اللّه هم الغالبون، ولذا لم يقل: (فإنهم الغالبون) بل أقام الاسم الظاهر مقام الضمير - إذ لو كان الخبر أو الجزاء جملة لزم اشتماله على ضمير يعود للمبتدأ أو الشرط - لأجل بيان العلة في الغلبة وللاختصار في الكلام، وتعظيماً لشأن هؤلاء بأنهم مرتبطون باللّه تعالى.

قال الخليل: «الحزب أصحاب الرجل على رأيه وأمره، والمؤمنون حزب اللّه، والكافرون حزب الشيطان، وكل طائفة تكون أهواؤهم واحدة فهم حزب»(1)، وليس في معنى الحزب الغلظة كما زعمه بعضهم.

ثم إن تولّي اللّه تعالى هو الاعتقاد به والائتمار بأوامره والانتهاء بزواجره، وتولي الرسول والأئمة (عليهم السلام) كذلك بإضافة التأسي بهم والقبول بسلطتهم وعدم منازعتهم فيها.

وقوله: {الْغَٰلِبُونَ} في الآخرة واضح، وفي الدنيا بكون العاقبة لهم،

ص: 207


1- كتاب العين 3: 164.

وهذا لا ينافي سيطرة الكفار أحياناً فإنها سيطرة ظاهرية زائلة قليلة المدة، قالسبحان-ه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفُِٔواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(1)، وقال سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(2)، وقال تعال-ى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}(3)، وقال سبحانه: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَٰنِ هُمُ الْخَٰسِرُونَ}(4).

ص: 208


1- سورة الصف، الآية: 8-9.
2- سورة المجادلة، الآية: 21.
3- سورة آل عمران، الآية: 12.
4- سورة المجادلة، الآية: 19.

الآيتان 57-58

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 57 وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ 58}

57- ثم ينهى اللّه تعالى عن اتخاذ المنافقين وسائر الكفار أولياء فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ} المنافقين {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا} فآمنوا بلسانهم وكفروا بقلوبهم، وذلك استهزاؤهم بالدين {وَلَعِبًا} بأن تهاونوا فيه واتخذوه ملعبة {مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ} أي كانوا أهل كتاب ثم أسلموا نفاقاً، {وَالْكُفَّارَ} أي لا تتخذوا سائر الكفار كالمشركين {أَوْلِيَاءَ} يتولون أموركم بالسلطة والنصرة وكذا المحبة، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في نهيه عن ولايتهم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حقاً، فاتخاذهم أولياء عدم تقوى يكشف عن عدم إيمان.

58- وكيف تتخذونهم أولياء مع أنهم يسخرون من أهم عباداتكم، بل لا بد من أن تقابلوا ذلك بمعاداتهم لا بولايتهم، {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ} أذّن المؤذنّ لها {اتَّخَذُوهَا} اتخذوا الصلاة أو النداء {هُزُوًا} يتغامزون ويتضاحكون منها {وَلَعِبًا} وسيلة للّعب فيما بينهم، {ذَٰلِكَ} الاستهزاء واللعب {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} أي سفهاء، وسفههم أدّى

ص: 209

بهم إلى الجهل بالحق، ولو كانوا ذوي عقول لمنعهم عقلهم عن ذلك، فكيفتتخذون السفيه ولياً؟!

بحوث

الأول: الظاهر أنّ هاتين الآيتين كالمكمّل للآيات السابقة، فإن تلك قد نهت عن ولاية اليهود والنصارى وحذرت من الارتداد وأمرت بتولي اللّه ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، فهاتان الآيتان تذكران المنافقين وسائر الكفار وتنهيان عن ولايتهم، وهذا هو الأقرب بقرينة وصفهم بالنفاق في الآية 61.

وقيل: هما تعميم بعد تخصيص، أي تمّ النهي عن تولي اليهود والنصارى في الآيات السابقة، وفي هاتين يتم النهي عن تولّي عموم أهل الكتاب حتى لو لم يكونوا يهوداً أو نصارى وكذلك عامة الكفّار.

ويحتمل أن تكون الولاية في الآيات السابقة هي ولاية السلطة، وأما الولاية هنا فولاية المحبة.

كما يحتمل أن يكون تأكيداً لما مضى بإضافة علة للنهي، وهي الاستهزاء واللعب بالدين والصلاة.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا...} الآية.

(الهزء) هو السخرية، سواء كان بقول أم فعل، في مزح أو جدّ، خفية أم علانية، وأما تعريف الراغب له بأنه: «مزح في خفية»(1)، فليس بصحيح البتة.

ص: 210


1- مفردات الراغب: 841.

و(اللعب) واللّهو متقاربا المعنى، إلاّ أن اللعب هو العمل الذي لا غرضعقلائي فيه وغالباً ما يؤتى للّذة، واللّهو هو العمل الموجب للغفلة فيشغل الإنسان عما يهّمه.

فالمعنى أن بعض أهل الكتاب أسلم نفاقاً، والمنافق لا يعتقد بالدين فيستهزئ به، كما أنه يتخذ إسلامه ملعبة، قال تعالى عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ}(1)، وهذا لعبهم بالدين لأن إسلامهم ليس لغرض صحيح عقلائي، وقال سبحانه: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}(2)، وذلك بإظهار الإيمان للمسلمين من دون واقع.

والحاصل: هؤلاء اتخذوا دينكم هزواً ولعباً فلا يستحقون منكم إلاّ البراءة منهم قلباً وعملاً لا التولي بالمحبة وقبول سلطتهم عليكم.

وقوله: {وَالْكُفَّارَ} بالفتح، أي لا تتخذوا سائر الكفار أولياء حتى لو لم يستهزؤوا بدينكم، إذ لا وجه لسيطرة كافر على مسلم وقد قال اللّه تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(3)، كما لا وجه لمحبة كافر يعاديكم ويعادي دينكم، نعم لو لم يعادِ الدين وأهله جازت محبته العاطفية، وهي لا يعبّر عنها بالولاية كما قال تعالى: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ

ص: 211


1- سورة البقرة، الآية: 8-9.
2- سورة البقرة، الآية: 14.
3- سورة النساء، الآية: 141.

إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَٰتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ}(1)، انظر إلى الآية الأولى حيث أجاز اللّه برّهم والعدل بالنسبة إليهم ولم يعبّر عنها بالولاية، ثم لمّا نهى في الآية الثانية نهى عن تولّي الأعداء منهم.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} تأكيد على مراعاة هذا الحكم، بأن يحفظ الإنسان نفسه من غضب اللّه وعذابه بعدم مخالفة نواهيه.

وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بيان أن غير المتقي ليس بمؤمن حقيقة، فمن يتولى الكفار فهو منهم كما قال في الآيات السابقة: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.

والحاصل: أن الدين مركب من الولاية والبراءة، الولاية للّه ولأوليائه والبراءة من أعداء اللّه وأعداء أوليائه، بل البراءة من أعداء الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من أصول الدين؛ لأن أصل النبوة والإمامة هما بمعنى الاعتقاد بنبوة رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ، مع البراءة من أعدائهم، نعم ولاية المؤمنين والبراءة من أعدائهم من فروع الدين، والمقصود ولاية المؤمنين بما هم مؤمنون والبراءة من أعداء المؤمنين بما هم أعداء للمؤمنين، وهذا لا ينافي العداوات الشخصية كبُغض قاتل أبيه حتى مع توبته والعفو عنه، وللكلام تفصيل لا يسعه المقام.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوٰةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}.

ص: 212


1- سورة الممتحنة، الآية: 8-9.

بيان لعلامة أخرى لنفاقهم أو لعداوتهم لكم، فكما اتخذوا دينكم هزواًولعباً، كذلك اتخذوا أهم عباداتكم هزواً ولعباً، ولعل ذكر هذا بالخصوص لأنه بتكرار الأذان والصلاة يتكرر استهزاؤهم ولعبهم وبذلك ينكشف نفاق المنافق منهم وعداوة الكافر منهم، قال سبحانه: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}(1)، أي تهاونوا به كأنه ألعوبة وأداة لهو، وقال سبحانه: {قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَٰفِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا}(2) كانوا يلهون باسم الدين ويجعلونه ألعوبة في أيديهم، بل حتى الجلوس معهم حين استهزائهم منهي عنه قال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}(3).

الرابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}.

أي سبب استهزائهم بالصلاة وبالمناداة بها هو سفههم، وعدم استعمالهم لعقولهم، فإن العقل هو القوة الباطنة التي تمنع الإنسان عن المضرّات وتدعوه إلى جلب المنافع، وعكسه السفه، وأيّ سفه أشد من اكتساب غضب اللّه والنار وخسران رضوانه والجنّه! قال سبحانه: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}(4)، وقال سبحانه: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ

ص: 213


1- سورة الأنعام، الآية: 70.
2- سورة الأعراف، الآية: 50-51.
3- سورة النساء، الآية: 140.
4- سورة البقرة، الآية: 130.

وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّافِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(2).

ص: 214


1- سورة البقرة، الآية: 13.
2- سورة الملك، الآية: 10.

الآيات 59-63

اشارة

{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَٰسِقُونَ 59 قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّٰغُوتَ أُوْلَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ 60 وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ 61 وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَٰرِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 62 لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ 63}

59- لما ذكر استهزاء أهل الكتاب بالدين والصلاة بيّن سبب ذلك فقال: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ هَلْ} استفهام إنكاري، أي لا {تَنقِمُونَ مِنَّا} والنقمة هي إنكار من يريد العقاب، فالمعنى ليس إنكاركم علينا قاصدين إيذائنا {إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} وأشركتم، {وَ} أمنا ب-{مَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} وكذّبتم، {وَ} آمنا ب-{مَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} التوراة والإنجيل، وقد حرفتم التوراة وكذبتم الإنجيل، {وَ} سبب هذه النقمة {أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَٰسِقُونَ} خارجون عن طاعة اللّه فلذا حسدتمونا على إيماننا وطاعتنا وما خصّنا اللّه به.

60- {قُلْ} إن إيماننا خير وكفركم هو الشر ف-{هَلْ أُنَبِّئُكُم} أخبركم

ص: 215

{بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ} أي أسوأ من نقمتكم علينا {مَثُوبَةً} أي جزاءً {عِندَ اللَّهِ} فبعض الذنوب أسوء من بعضها وأكثر عقاباً، فالأسوء هو {مَن لَّعَنَهُاللَّهُ} طرده من رحمته، {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} عذّبه، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} مسخهم على أشكالهما، {وَعَبَدَ الطَّٰغُوتَ} أي العجل، {أُوْلَٰئِكَ} اليهود المتصفون بهذه الصفات {شَرٌّ مَّكَانًا} في جهنم فمقعدهم أسوأ من مقاعد سائر العصاة {وَأَضَلُّ} أكثر ضلالاً {عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي وسط الطريق الذي هو الصراط المستقيم.

61- {وَ} من صفاتهم السيئة النفاق ف-{إِذَا جَاءُوكُمْ} أي منافقو اليهود {قَالُواْ ءَامَنَّا} ليأمنوا جانبكم، {وَ} الحال أنهم {قَد دَّخَلُواْ} مجلسكم {بِالْكُفْرِ} الذي في قلوبهم، {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} فلم ينتفعوا بمواعظ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد نافقوا بادّعاء أنهم آمنوا، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} من الكفر في قلوبهم، وهذا وعيد لهم.

62- {وَ} من صفاتهم أنك {تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَٰرِعُونَ فِي الْإِثْمِ} المعصية {وَالْعُدْوَٰنِ} التعدي على الآخرين بظلمهم {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} المال الحرام كالرشوة والربا، {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إذ هي أعمال توجب خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

63- {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ} أي لماذا لا ينهاهم {الرَّبَّٰنِيُّونَ} المنسوبون إلى الرب والمراد عبّادهم {وَالْأَحْبَارُ} أي علماؤهم {عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} النطق بالإثم كالشرك والتحريف {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ} هؤلاء الربانيون

ص: 216

والأحبار {يَصْنَعُونَ} بعدم نهيهم عن المنكر، فكلّهم سواء في الجريمة، وهي أسوأ الأمور، ومع ذلك يستهزؤون بالدين وعباداته وينقمون على أهله!

بحوث

الأول: لما نهى اللّه تعالى في الآيات السابقة عن اتخاذ أولياء من منافقي أهل الكتاب وبيّن أنهم يهزؤون بالدين وأهم عباداته التي هي الصلاة ويتخذونهما لعباً! أراد في هذه الآيات بيان سبب انحرافهم، وفي ذلك موعظة لهم عسى أن يرتدع البعض منهم أولاً، ولتسلية المؤمنين بأن هؤلاء المستهزئين هم شرّ الناس وأفعالهم أسوأ الأفعال في حين أن اعتقادات وأعمال المؤمنين هي أحسنها ثانياً، ولتحذير الناس عن الاتصاف بأوصافهم ثالثاً.

فأما المؤمنون فمن حُسن صنيعهم أن آمنوا باللّه وبالكتب التي أنزلها، وأما أهل الكتاب فأكثرهم خارجون عن طاعة اللّه، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بهم؟ كما أنهم ملعونون معاقبون منافقون يسارعون في المعصية والظلم وأكل السحت لا ينهون عن المنكر فهل هذه أمور توجب الاستهزاء أم قبول دين اللّه وعبادته بالصلاة له؟!

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ...} الآية.

(النقمة) هي إنكار من يريد العقاب(1) قال سبحانه: {وَمَا نَقَمُواْ إِلَّا أَنْ أَغْنَىٰهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}(2)، ولهذا سمي العقاب انتقاماً والعقوبة

ص: 217


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 84.
2- سورة التوبة، الآية: 74.

نقمة، فالمعنى لا تنكرون علينا ديننا وعبادتنا إلاّ لأنكم تريدون إيذاءنا بسبب حسدكم أن اختار اللّه تعالى محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) للرسالة وفضّلنا عليكم بذلك وأمرنا بالإيمان بجميع الكتب السماوية التي منها الإنجيل الذي تنكرونه بغياً!

أسباب النقمة على المسلمين

فما ينقمونه على المسلمين أمور ثلاثة:

1- {ءَامَنَّا بِاللَّهِ} إيماناً خالصاً من الشرك والتنقيص، وأنتم لا تريدون إلاّ الإيمان بإله تفصّلونه على مقياسكم فتنسبون إليه كل نقص! تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، أو بمعنى أنهم كانوا يرجحون بقاء المسلمين على الشرك حسداً وليكون الدين خالصاً لليهود قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا}(1)، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَٰنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }(2).

2- {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} القرآن الكريم، إذ لم يكونوا يريدون الإيمان برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ؛ لأنه لم يكن منهم، ولأن القرآن بيّن الحقائق وفضح تحريفاتهم ومنع أكلهم المال بالباطل فخافوا على دنياهم ورئاستهم، ولذلك أنكروه ونقموا على المسلمين إيمانهم بالقرآن، قال سبحانه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ}(3).

ص: 218


1- سورة النساء، الآية: 51.
2- سورة البقرة، الآية: 109.
3- سورة البقرة، الآية: 90.

3- {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} التوراة غير المحرفة، والإنجيل الذي أنزله اللّه على عيسى (عليه السلام) فلم يكونوا يريدون الإيمان إلاّ بالتوراة المحرفة، حيث إن التحريف أمّن مصالحهم وأهواءهم.

وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَٰسِقُونَ} كأنه للتعليل، أي سبب نقمتكم هوخروجكم عن طاعة اللّه تعالى، إذ لو كنتم تطيعونه لآمنتم كما آمنا ولم تنقموا بل تسلّمون، فيكون العطف على مقدّر كالحسد ونحوه كأنه قال: لحسدكم ولأن أكثركم فاسقون.

وقيل: هو عطف على قوله: {أَنْ ءَامَنَّا} أي لا تنقمون منا إلاّ إيماننا وفسقكم.

كما يقال: لا تغضب مني إلاّ لأني عفيف وأنت فاجر، أو إلاّ لأنّي كريم وأنت بخيل، فهو من باب الازدواج يحسن في الكلام لتعميم المقابلة.

وقيل: هو عطف على قوله: {اللَّهِ} فالمعنى لا تنقمون إلاّ إيماننا باللّه وإيماننا بفسقكم، أي اعتقادنا بذلك.

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ...} الآية.

لما ذكر فعل المسلمين وذلك بالإيمان باللّه وكتبه أراد أن يقابله بأفعالهم حتى يتبيّن أيّ الفريقين أهدى وأيهما أضلّ! فكان هنا مقايسة بين الفعلين مقايسة عقلية وبها يتّضح مَن يستحق عقاب اللّه تعالى، وكأنه جعل اللّه تعالى حاكماً بين الفريقين يجازي، فمن طرفٍ المسلمون الذين يؤمنون باللّه وبجميع ما أنزل من الكتب، ومن طرف آخر اليهود الذين عبدوا العجل

ص: 219

فعذبهم اللّه في الدنيا باللعن والغضب والمسخ، هذا مع نفاقهم ومسارعتهم في المحرمات وتركهم النهي عن المنكر!

وقوله: {بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ} (شر) هنا أفعل التفضيل.

و{ذَٰلِكَ} إما إشارة إلى نقمتهم فالتفضيل بمعناه الحقيقي، أي أن نقمتكمعلينا سيئة والأسوأ هو مَن لعنه اللّه... الخ.

وإما إشارة إلى الإيمان باللّه وكتبه المنزلة فهنا (شر) منسلخ عن معنى التفضيل، وهو استعمال شائع كما يقال: النار شر من الجنة، والإيمان خير من الكفر، وموسى (عليه السلام) أفضل من فرعون.

وقيل: هو من باب إنصاف الخصم بأن يقال له: إن كان عملنا سيّئاً فعملكم أسوأ.

وقيل: التفضيل هنا بمعنى الزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى المؤمنين.

وقوله: {مَثُوبَةً} من الثواب وأصله بمعنى الرجوع، فالثواب هو ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله، ويقال في الخير والشر لكن الأكثر المتعارف في الخير - كذا في المفردات(1)

- قال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(2)، وقال: {فَأَثَٰبَكُمْ غَمَّا بِغَمّٖ}(3)، وقيل: هو من باب المشاكلة كاستعمال البشارة في الإنذار.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} كأنه لجعل الحَكَم هو اللّه تعالى لا الناس الذين قد

ص: 220


1- مفردات الراغب: 180.
2- سورة المطففين، الآية: 36.
3- سورة آل عمران، الآية: 153.

تميل بهم الأهواء فيرجحون الباطل على الحق، فيقال: هاهنا الحاكم بيننا وبينكم هو اللّه ولننظر ماذا صنع بكم في الدنيا حتى يتبيّن من هو أحق بالنقمة وبالاستهزاء، والظاهر أن الأمور المذكورة كلّها عقوبات دنيوية أصابتهم وهم معترفون بها، وهي:

من عقوبات كفار أهل الكتاب

1- {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ} أي طرده من رحمته، كانت المقايسة بين العملين، لكن اللّه تعالى جعلهم طرفاً في المقايسة، فكأن المقصود أن شرور أعمالهم انتقلت إلى ذواتهم فجعلتها شراً محضاً، نظير قوله تعالى: {وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَالْمَلَٰئِكَةِ...} (1)، فأما لعنهم في الدنيا فعلى لسان الأنبياء كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ...}(2).

2- {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الغضب من اللّه بمعنى عقوبته، فاللعن منع رحمة والغضب إنزل عذاب، واليهود يعترفون بأن اللّه أنزل عليهم عذابه، قال سبحانه: {فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفًا} إلى قوله: {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي}(3).

3- {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} أي مسخهم على هذه الهيأة، وهذا وإن كان نوع غضب من اللّه إلاّ أنه خصّه بالذكر لزيادة التشنيع عليهم.

ومن الذين مسخوا قردة أصحاب السبت.

ص: 221


1- سورة البقرة، الآية: 177.
2- سورة المائدة، الآية: 78-81.
3- سورة طه، الآية: 86.

ومن الذين مسخوا خنازير بعض كفار بني إسرائيل بعد إنزال مائدة عيسى (عليه السلام) ، فإن جماعة انضموا إلى الحواريين عند سؤال المائدة، فأنزلها اللّه تعالى وأكلوا منها ثم كفر بعضهم فمسخوا خنازير(1).

وروي أن القردة والخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت(2)، وفي تفسير القمي حول كفّار المائدة: «ومسخوا قردة وخنازير»(3).

4- {وَعَبَدَ الطَّٰغُوتَ} عطف على {لَّعَنَهُ}، وقيل: عطف على القردة بتقدير (مَن) الموصولة، أي جعل منهم من عبد الطاغوت، وليس المعنى أنه أراد منهم عبادته أو أكرههم عليه قال اللّه تعالى: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(4)، بل بمعنى خلقهم مختارين فعبدوا الطاغوت بسوء اختيارهم، أما ما توهمته المفوّضة من تحقق ما لا يريده اللّه، وما توهمته المجبّرة من إرادة اللّه الكفر فلذلك تحقق فكلاهما باطلان، والسبب عدم معرفتهم الفرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية، وعدم معرفتهم بأنه لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين، وقد فصلنا في ما مضى ذلك فراجع، و{الطَّٰغُوتَ} صيغة مبالغة بمعنى كثير الطغيان، ويراد به العجل الذي عبدوه بتزيين من الشيطان فكأنهم عبدوا الشيطان بعبادتهم العجل.

وقوله: {أُوْلَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا} تأكيد وبيان لقوله: {بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً} أي مكانهم في جهنم، واستعمال أفعل التفضيل إما لبيان أن مكان هؤلاء في

ص: 222


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 509؛ عن تفسير العياشي 1: 351.
2- الكافي 6: 246.
3- البرهان في تفسير القرآن 3: 510؛ عن تفسير القمي 1: 190.
4- سورة الزمر، الآية: 7.

النار أسوأ من مكان بقية العصاة، أو أنها منسلخة عن معنى التفضيل، أي مكان هؤلاء هو الشر عكس مكان المؤمنين الذي هو الجنة، وهذا بيان دركاتهم في الآخرة، وقيل: الشرّ لأهل المكان وقد جعلت للمكان للمبالغة.

وقوله: {وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} وهذا لبيان منزلتهم في الدنيا، أيهم ضالون عن الصراط المستقيم عكس المؤمنين الذين هداهم اللّه للإيمان به وبكتبه.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ...} الآية.

بيان وصف آخر من صفاتهم إما لبيان كونهم الأشر، أو هو تعليل آخر للنهي عن اتّخاذهم أولياء.

وقوله: {وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ} أي دخلوا إلى مجلسكم متلبسين بالكفر كأن الكفر شيئاً يحملونه.

وقوله: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} أي لم تنفعهم مواعظ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ولا استماعهم لآيات اللّه تعالى؛ لأن على قلوبهم غشاوة وقد طبع اللّه عليها بعنادهم وفسقهم، فلذلك قولهم: {ءَامَنَّا} ليس إلا كذباً ونفاقاً، فكيف توالونهم والحال أن هذه صفتهم جمعوا كذباً إلى كفر.

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} هذا كالوعيد لهم بأن اللّه محيط بهم علماً وسيجازيهم على نفاقهم.

الخامس: قوله تعالى: {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَٰرِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ...} الآية.

ص: 223

كأن المقصود بيان علامة نفاقهم، فإن اللّه عالم بنواياهم لكنكم أيضاً تتمكنون من معرفة نفاقهم عبر أعمالهم؛ لأن هذه الأعمال ليست أعمال من يؤمن باللّه وباليوم الآخر، وإنما هي عمل من أنكر الإيمان بقلبه حتى لو تظاهر به بلسانه، وفي ذلك أيضاً تحذير للمسلمين من الاتصاف بهذهالصفات لئلا يدخلوا في زمرة المنافقين، كما أنه موعظة لمن يتصف بها من المسلمين ليحاول قلع النفاق عن قلبه.

وقوله: {يُسَٰرِعُونَ} يبادرون وبسرعة؛ لأن النفاق مستحكم في قلوبهم، عكس المؤمن إذ هو قد يعصي على تردد وخوف ووجل ثم يتوب إلى اللّه تعالى لما يتنبّه.

وقوله: {الْإِثْمِ} مطلق المعصية سواء كانت ظاهرة أم باطنة، قولية أم فعلية، قال اللّه تعالى: {وَذَرُواْ ظَٰهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}(1)، وقال: {فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ}(2).

وقوله: {وَالْعُدْوَٰنِ} أي التعدي على الناس وحقوقهم بظلمهم، لا يحجزهم عن ذلك مانع من تقوى وورع.

وقوله: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ}: أي يسارعون في أكل المال الحرام كالرشوة والربا ونحو ذلك.

وقيل: إنما ذكر هذه الثلاثة لأن ذنوبهم إما بالقول وهو الإثم، وإما بالفعل سواء بظلم الغير وهو العدوان، أم بأكل الحرام وهو السحت.

ص: 224


1- سورة الأنعام، الآية: 120.
2- سورة البقرة، الآية: 283.

السادس: قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ الرَّبَّٰنِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ...} الآية.

بيان أن عبّادهم وعلماؤهم مشاركون معهم في الجريمة بعدم النهي عن المنكر، فلذا لا فرق بينهم وبين العصاة منهم فكلاهما ظالم، ولذا في عذابأصحاب السبت عذب اللّه الصائدين والساكتين عنهم ونجّى الناهين عن المنكر.

وقوله: {لَوْلَا} أصلها للتحريض والحث إن دخلت على المضارع، والتقريع والذم إن دخل على الماضي، والإتيان بفعل المضارع هنا مع أن القصد التقريع لعلّه لفسح المجال لهم بالتوبة ولحثهم على القيام بفريضة النهي عن المنكر.

وقوله: {الرَّبَّٰنِيُّونَ} مرّ أنه منسوب إلى الرب بإضافة الألف والنون على غير قياس، والمراد منهم هنا عبادهم المتوقع منهم التقوى.

وقوله: {الْأَحْبَارُ} مرّ أنه جمع حبر - بالفتح والكسر - والمراد علماؤهم.

وقوله: {قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} في الآية السابقة أطلق الإثم، وفي هذه الآية خصّه بالإثم القولي، ولعل سبب ذلك أن اللّه تعالى أراد التشنيع عليهم بسكوتهم عن أبشع المعاصي، فيكون سكوتهم عن سائر المعاصي بطريق أولى؛ لأن قول الإثم يتضمن الشرك والتحريف والاستهزاء بالدين وبالصلاة وهذه من أسوأ المعاصي.

وأما ذكر العدوان في الآية السابقة وعدم ذكره في هذه الآية فلعلّه لأجل الأولوية أيضاً، فإنه لو وجب النهي عن القول الباطل فالنهي عن العمل

ص: 225

الباطل أولى، فكان في الآية إيجاز بليغ.

وقوله: {يَصْنَعُونَ} أي بئس العمل عدم نهيهم عن المنكر، وقيل: لمّا عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وعبر عن ترك الإنكار عليهم بالصناعة في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْيَصْنَعُونَ} كان هذا الذم أشد، لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء وحرفة لازمة هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم، فإن مرتكب المعصية له شهوة في ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة له في فعل غيره، فإذا أفرط في الإنكار كان أشد حالاً من مرتكب المعصية، واللّه العالم.

ص: 226

الآيات 64-66

اشارة

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 64 وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ النَّعِيمِ 65 وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ 66}

64- {وَ} كيف تتولونهم مع سوء عقيدتهم في اللّه وفي دينكم وسوء عملهم بإثارة الحروب وبالفساد؟

أما سوء عقيدتهم في اللّه: فقد {قَالَتِ الْيَهُودُ} تبريراً لبخلهم ونقضهم للمواثيق {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} مقبوضة فلا هو يتصرف في الكون بعد خلقه ولا ينسخ شريعة موسى ولا ينفق رزقاً! {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالذلة والمسكنة، {وَلُعِنُواْ} طردوا من رحمة اللّه {بِمَا قَالُواْۘ} أي بسبب هذه العقيدة الفاسدة التي فاهوا بها، فلا معنى لتوليهم بعد ذلك، إذ لا يرجى نفع لكم منهم، ويقال في ردّ زعمهم: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} كناية عن قدرته

ص: 227

التامة وكمال جوده، فالكون تحت تصرفه ويقدّر ما يشاء ويمحو ما يشاء و{يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} حسب الحكمة.

{وَ} أما سوء عقيدتهم في الدين: فإنه {لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم} أكثرهم {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} القرآن والآيات {طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا} أي كلّما نزلت آية زادوا في الطغيان والكفر؛ لأن حسدهم يزداد كلما زاد فضل اللّه على رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمين.

{وَ} أما سوء عملهم بإثارة الخلافات والحروب: فقد {أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} عقوبةً لهم {الْعَدَٰوَةَ} في العمل {وَالْبَغْضَاءَ} في القلب {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي ماداموا موجودين على كفرهم، ويترتب على ذلك {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ} أشعلوا {نَارًا لِّلْحَرْبِ} حرب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والإسلام {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} بغلبة الإسلام والمسلمين، {وَ} أما سوء عملهم بالإفساد فإنهم {يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} بالتحريف والتكذيب والمعصية ومحاولة طمس الدين وأهله، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لذا تذهب محاولاتهم للفساد أدراج الرياح فلا يجازيهم إلاّ شراً.

65- ثم يحثهم اللّه على الإيمان ليهتدي من هو قابل للّهداية ولتتم الحجة على الجميع فيقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَٰبِ} الأعم من اليهود والنصارى {ءَامَنُواْ} باللّه وبما أنزل {وَاتَّقَوْاْ} تجنبوا المعاصي {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ} أي محونا ذنوبهم السابقة {وَلَأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ النَّعِيمِ} فاللّه كريم يعفو عمن تاب وأصلح.

66- {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} غير المحرفين {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم

ص: 228

مِّن رَّبِّهِمْ} سائر الكتب المنزلة كالزبور، أي عملوا بما فيها؛ لأن الحقائق الإيمانية والأخلاقية وأصول الشرائع الموجودة فيها هي حقائق ثابةلا تنسخ، ومن ذلك أمرهم فيها بولاية رسول اللّه محمد وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام)، وإنما المنسوخ بعض أحكام الشريعة، فلو أقاموا كتب اللّه المنزلة {لَأَكَلُواْ} أي تنعّموا {مِن فَوْقِهِمْ} من خيرات السماء {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} خيرات الأرض، {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} لها استواء في عملها بلا إفراط وتفريط وهم الذين آمنوا برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ} قبح {مَا يَعْمَلُونَ} بعدم إقامة الكتب المنزلة إليهم.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ...} الآية.

بعد أن نهى اللّه تعالى عن اتخاذ منافقي أهل الكتاب أولياء؛ لأنهم يتخذون الدين والصلاة هزواً ولعباً وأنهم ينافقون حيث يقولون كذباً بأنهم آمنوا وتكشف كذبهم مسارعتهم إلى الموبقات، بعد ذلك يذكر ما هو كالعلة لجميع هذه المفاسد التي ارتكبوها، وهي فساد عقيدتهم في اللّه وفي الدين وسوء عملهم بإثارة الخلافات والحروب وبالإفساد في الأرض.

أما فساد عقيدتهم باللّه تعالى فإنهم يزعمون أن الأمر قد فرغ منهم فلا شريعة جديدة ولا كتاب جديد ولا تغيير لتفضيل اللّه تعالى لهم على العالمين، فلذا يرتكبون كل موبقة آمنين من سخط اللّه تعالى وعذابه.

لكن اللّه تعالى يبيّن أن الأمر لم يفرغ منه كما قال: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي

ص: 229

شَأْنٖ}(1)، ولذا الحكمة اقتضت نسخ الشرائع السابقة والإتيان بشريعة الإسلام وإرسال محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) رسولاً، واختيار المسلمين خير أمة أخرجتللناس، وكذلك إيجاد تقديرات جديدة وتغيير ما يشاء بالبداء منها كما قال: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَٰبِ}(2).

وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ...} أي زعموا أن اللّه لمّا خلق السموات والأرض قدّر كل شيء واستراح، فلا يرتبط استمرار الكون بوجوده وتدبيره ولا تغيير في شيء منه تكويناً ولا تشريعاً! ومن ذلك زعمهم أنه لا تنسخ شريعة موسى (عليه السلام) ! فلذا كذبوا بعيسى (عليه السلام) وبالنبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وزعمهم أنهم الشعب المختار أبداً ودائماً وأن اللّه لا يعذبهم، وإن عذّبهم فأياماً معدودة، وأنه لا يفضّل غيرهم عليهم وغير ذلك من المزاعم، وقد مرّ أن طريقة تفكير الإنسان ومعتقده يؤثر تأثيراً بليغاً على كيفية عمله، وهذا من أسباب التركيز على العقيدة والأهمية القصوى لها.

وقولهم {مَغْلُولَةٌ} أي مقبوضة كأنها أحكمت بالأغلال، ويلازمه العجز، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعا عليهم بأن يعجزوا عمّا يريدون من الباطل، وهو إنشاء بقصد الإخبار، أي أنّ اللّه أفشل مخططاتهم ومؤامراتهم سواء في إثارتهم الحروب أم في إفسادهم في الأرض، أو هو دعاء بعذابهم في جهنم.

وقوله: {وَلُعِنُواْ} أيضاً دعاء وإنشاء بقصد الإخبار، أي طردوا عن رحمة

ص: 230


1- سورة الرحمن، الآية: 29.
2- سورة الرعد، الآية: 39.

اللّه تعالى لذلك هم في ذلة ومسكنة دائماً، وبذلك يتبيّن الفرق بين الدعاءين، فغلّ أيديهم فشل لأعمالهم، ولعنهم طردهم عن رحمته، فالأول يرتبط بأعمالهم والثاني بأنفسهم.

وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ردّ لقولهم {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} و(اليد) في اللغة هي الجارحة ولكن شاع استعمالها مجازاً في القدرة والملك والحضور، وحيث إن اللّه تعالى منزّه عن الجارحة، فلذلك معنى يده قدرته، وقيل: إنهم استعملوا المفرد فقالوا: {يَدُ اللَّهِ} وردّهم اللّه بالتثنية فقال: {يَدَاهُ} ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدلّ على غاية قدرته ونفي العجز عنه، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له هو أن يعطيه بيديه جميعاً، فبُني المجاز على ذلك.

وقوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} لمّا كان المقصود هو بيان كمال قدرته وعدم تقييدها بشيء، ذكر مثالاً لذلك وهو إنفاقه كما يشاء، ولا يشاء إلا بحكمة، فإن منع فلا يمنع لعجز وإنما لحكمة، وبعبارة أخرى: إن الفيض من اللّه تعالى لا حدّ له لكن لا بد من قابلية القابل لذلك الفيض، فإن لم يكن قابلاً له فاللّه يقبضه لحكمته، فهو سبحانه الباسط القابض.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا}.

بيان سوء عقيدتهم في الدين وهو عدم اهتدائهم بالقرآن، بل ازدياد كفرهم وطغيانهم بنزوله؛ وذلك لأن اللّه طبع على قلوبهم بسبب سوء أعمالهم فخذلهم فضلّوا، قال سبحانه: {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا

ص: 231

يُؤْمِنُونَ}(1)، وقال: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَٰرَهُمْ}(2)؛لأن من أصرّ على الرذيلة استمكنت من نفسه فتورثه الحسد والبغي فلا يخضع للحق، وخاصة إذا رأى فضل اللّه على غيره فيزيده ذلك عناداً وبغياً، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}(3)، وقال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا} إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(4).

وقوله: {لَيَزِيدَنَّ} قيل: ذكرت هذه الكلمة لرفع الاستبعاد عن كلمتهم هذه.

وقوله: {كَثِيرًا مِّنْهُم} المفعول الأول ل- (يزيدن)، و{مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} الفاعل، و{طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا} المفعول الثاني، قيل: إنما قدّم المفعول على الفاعل لأن محور الكلام هو اليهود وحسب العادة يقدّم محور الكلام.

وقوله: {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي القرآن والأحكام.

وقوله: {طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا} والطغيان تجاوز الحدّ في العصيان، وهو عملي، والكفر قلبي، أي ازداد الرجس في قلوبهم وأعمالهم، وفي الصافي: «كلّما أنكروا آية أو حكماً ازدادوا كفراً وستراً للحق، كما يزداد المريض مرضاً

ص: 232


1- سورة البقرة، الآية: 88.
2- سورة محمد، الآية: 23.
3- سورة الإسراء، الآية: 82.
4- سورة التوبة، الآية: 124-125.

بأكل طعام الأصحاء»(1).

الثالث: قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِكُلَّمَا أَوْقَدُواْ...} الآية.

بيان للصفة الثالثة فيهم وهي إثارتهم الخلافات والحروب مع غيرهم.

وقوله: {وَأَلْقَيْنَا} بسبب غيبي وكذلك بسبب طبيعي؛ لأن اللّه هو الذي سبّب الأسباب، فمن فسدت عقيدته أورثته حب الذات وطلب تفوّقها على الغير في المال والجاه والمنصب حتى بالأسباب الباطلة، فيكون ذلك سبباً للنزاع وللحسد، وهما مما يورث العداوة والبغضاء قال سبحانه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}(2).

وقوله: {الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} العداوة: هي إرادة السوء بالغير، والبغضاء: نفرة وكراهة في القلوب، ولعلّ تقديم العداوة على البغضاء؛ لأنهم إن تمكنوا تعدّوا على أقرانهم وإلاّ أبغضوهم.

وقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} كناية عن استمرارها وعدم انقطاعها، وبعبارة أخرى ماداموا موجودين فالعداوة والبغضاء بينهم موجدتان.

وقوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ...} من غير واو عاطفة كأنه لبيان النتيجة، فالمعنى لأنهم أعداء متباغضون فلذلك مؤامراتهم فاشلة.

وقوله: {نَارًا لِّلْحَرْبِ} حرباً ضد الإسلام.

وقوله: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} وذلك بغلبة المسلمين عليهم، وخسارتهم.

ص: 233


1- تفسير الصافي 2: 443.
2- سورة الحشر، الآية: 14.

سبب اغتصاب فلسطين

سؤال: نشاهد غلبة اليهود في فلسطين في حروبهم ضد العرب والمسلمين منذ مدة طويلة فكيف ذلك؟!

والجواب:

أولاً: إنهم تمسكوا بحبل من الناس وهي القوى الغربية التي أسست دولتهم وعاونتهم منذ ذلك الوقت وإلى الآن، وقد قال اللّه تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}(1).

وثانياً: إنّ الأمور تنظر بعواقبها، وعاقبة دويلتهم اللقيطة هو الزوال، فالحرب سجال، كما أن المسلمين انهزموا في أحد، لكن لم يكن ذلك إلاّ فترة مؤقتة انتصروا بعدها على المشركين نصراً نهائياً.

وثالثاً: إنّ المسلمين ابتعدوا عن أحكام اللّه تعالى فلذا خرجوا عن مدلول هذه الآية، إذ معناها كلّما أوقدوا حرباً ضد الإسلام، ولذا هم فشلوا في حربهم ضد الإسلام وإن غلبوا في حربهم ضد المسلمين الذين ترك أكثرهم تعاليم الإسلام.

وفي التقريب: «كلما أرادوا محاربة المسلمين هزمهم اللّه ونصر المسلمين عليهم، وقد دلّ التاريخ على ذلك، فقد تغلّب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) على يهود بني قريظة والنضير وخيبر وفدك وغيرهم مع كثرة عَددهم وعُددهم، وبعد ذلك لم يتمكن اليهود من محاربة المسلمين، حتى في يومهم هذا في فلسطين إنما يستندون إلى «حبل الناس»، ثم ما هي إلاّ فترة تراها قد انقشعوا انقشاع الضباب»(2).

ص: 234


1- سورة آل عمران، الآية: 112.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 666.

الرابع: قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.

بيان لرابع صفاتهم السيئة التي تمنع من تولّيهم، وهي إفسادهم فيالأرض؛ وذلك لأن ما يريدونه من العلو والاستيلاء على الأموال لا يتسنى لهم إلاّ عبر الفساد بتكذيب الرسل وتحريف الكتاب ومعصية اللّه تعالى ونشر الفرقة والرذيلة ونحو ذلك مما هم معروفون به.

وقوله: {وَيَسْعَوْنَ} السعي هو المشي وقد يطلق على المحاولة الجادة أو سرعة المضي في الشيء، وقد مرّ أن الإفساد قد يكون بإفساد معيشة الناس الاقتصادية والاجتماعية، وقد يكون بارتكاب الذنوب والموبقات، وقد يكون بمحاربة الدين أو تحريفه، قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}(1).

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} معنى عدم حبه هو عقابهم أولاً بفشل إفسادهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}(2)، وثانياً سوء عاقبتهم في الدنيا، قال سبحانه: {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ فِي الْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْأخِرَةِ لِيَسُُٔواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا

ص: 235


1- سورة البقرة، الآية: 205.
2- سورة يونس، الآية: 81.

عَلَوْاْ تَتْبِيرًا}(1)، وأمّا عذاب الآخرة فواضح قال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2).الخامس: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَئَِّاتِهِمْ...} الآية.

لما ذكر في الآية السابقة أن كثيراً منهم طغاة كفرة، أراد حث الباقين على الإيمان والتقوى ببيان أن ذلك لصالحهم في الآخرة والدنيا، أما في الآخرة فما هو مذكور في هذه الآية بتكفير ذنوبهم أي محوها، فإن الإسلام حسنة تزيل جميع السيئات، وفي الحديث: «الإسلام يَجُبُّ ما قبله»(3)

أي يقطعه عن صاحبه فلا يلحقه مغبّته وعقوبته، وحيث محيت السيئات صار الإنسان أهلاً لأن يناله فضل اللّه بالجنة.

والوعد إنما هو لمن آمن واتقى، وأما من آمن ولم يتق ِ المعاصي فهو غير موعود بذلك وإن كان أمره معلقاً على المشيئة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(4)، نعم لو مات صحيح العقيدة فمآله إلى الجنة حتماً، إما بغفران يجنبه العذاب أو بعد أن يُصفّى من ذنوبه بعذاب القبر أو القيامة أو جهنم، وقد مرّ بحثه، أو يقال: إن الجنات متعددة كجنة الفردوس والخلد والنعيم والمأوى وعدن، وليست كلها لكل المؤمنين، فلعل جنة النعيم خاصة بالمتقين، فتأمل.

ص: 236


1- سورة الإسراء، الآية: 4-7.
2- سورة القصص، الآية: 83.
3- غوالي اللئالي 2: 54.
4- سورة النساء، الآية: 48 و 116.

وقوله: {النَّعِيمِ} هي النعمة الكثيرة(1)، والنعمة هي الحالة الحسنة.

السادس: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ...} الآية.هذا لبيان جزائهم في الدنيا لو آمنوا واتقوا.

وقوله: {أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ...} الإقامة بمعنى المحافظة، وذلك بأن يجعلوا هذه الكتب نصب أعينهم ويعملوا بها من دون تحريف ويذيعوها بين الناس، وغير خفي أن جميع الكتب السماوية تتضمن المعارف التوحيدية وأصول الدين والأخلاق وأصول الشريعة مضافاً إلى المواعظ والحِكم، وكل هذه حقائق ثابتة غير قابلة للنسخ، وأما المنسوخ منها فبعض أحكام الشريعة، ولذا فالدين واحد هو الإسلام، والشرائع متعددة مع اشتراك الشرائع في أصول الأحكام، ونسخ بعض الأحكام لا ينافي كون تلك الكتب هدىً ونوراً، كالقرآن نفسه فيه آيات منسوخة وذلك لا ينافي كونها نوراً وهدىً كسائر القرآن، وعليه فلو أن أهل الكتاب جاؤوا بالتوراة والإنجيل غير المحرفين وعملوا بما فيهما، والذي منه البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لكانوا من المؤمنين الأتقياء الموعودين بالجنة.

وقوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ} قيل: هو القرآن لأنه أنزل على المؤمنين، وأهل الكتاب إن آمنوا فهم من المؤمنين، فالكتاب نازل إليهم أيضاً، وقيل: هو سائر الكتب التي أنزلت عليهم كزبور داود (عليه السلام) ، وكل هذه الكتب أمرت بولاية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ، وذلك بالاعتقاد بهم

ص: 237


1- مفردات الراغب: 815.

وبطاعتهم وقبول سلطتهم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) في الآية قال: «الولاية»(1)، وهذا المصداق مناسب جداً لسياق الآيات، حيث إنها حول النهي عن ولايةالكفار والمنافقين والأمر بولاية الرسول والأئمة.

وقوله: {لَأَكَلُواْ} الأكل كناية عن الرفاه والتنعم والتوسعة في الأرزاق.

وقوله: {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} كأنه كناية عن غمرهم بالنعيم، كالذي له بستان يأكل من ثمار أشجاره من فوق، ويأكل من ثمار أرضه، ولعلّ منه نزول الأمطار وكثرة المياه وخصوبة الأرض، قال تعالى: {اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٖ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا}(2)، وفي مجمع البيان: «وقيل: المراد لأكلوا ثمار النخيل والأشجار من فوقهم، والزرع من تحت أرجلهم، والمعنى: لتركوا في ديارهم ولم يُجلوا عن بلادهم ولم يقتلوا، فكانوا يتمتعون بأموالهم وزروعهم وثمارهم وما رزقهم اللّه من النعم»(3)، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(4).

وقوله: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} القصد: استقامة الطريق(5)، والاقتصاد: هو

ص: 238


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 442؛ عن الكافي 1: 413؛ وبصائر الدرجات: 76؛ وتفسير العياشي 1: 330.
2- سورة نوح، الآية: 10-12.
3- مجمع البيان 3: 543.
4- سورة الأعراف، الآية: 96.
5- كتاب العين 5: 54.

الاستواء في العمل بلا إفراط وتفريط، فالأمة المقتصدة هي التي لا غلو فيها ولا تقصير في دينها، وهم الذين آمنوا برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} بغلوهم أو بتقصيرهم فهم متطرفون أقاموا على الجحود والكفر، وفي الآية إنصاف لأهل الكتابحيث بيّن أن بعضهم مؤمنون، وإنما الذم لأغلبهم بسبب سوء أعمالهم.

ص: 239

الآية 67

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ 67}

67- بعد النهي عن تولي الكفار والمنافقين والأمر بتولي اللّه ورسوله والأئمة، يأمر اللّه رسوله بتبليغ الولاية من بعده فقال: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} أوصل إلى الناس {مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} في ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقد أنزلها اللّه تعالى وكلّف رسوله بإعلامها للناس وأخذ البيعة منهم لعلي (عليه السلام) في غدير خم، {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} ما أمرك اللّه من تبليغ ولاية علي (عليه السلام) {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي كأنك لم تؤدّ شيئاً من رسالات اللّه تعالى؛ لأن عدم تبليغ أصل من أصول الدين يساوق عدم تبليغ أصل الدين، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ} يحفظك {مِنَ النَّاسِ} من أن يفشلوا رسالتك وأن يمنعوك عن التبليغ؛ وذلك لأن مكرهم لا يجدي ف-{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ} ومعنى عدم هدايتهم عدم تعليمهم أساليب إفشال رسالتك.

بحوث

الأول: إن هذه الآية ترتبط بالسياق العام للآيات التي سبقتها ولحقتها فإن هذه الآيات (51-71) إنما هي حول الولاية العامة الشاملة لتولي الأمر والسلطة، فقد نهى اللّه تعالى عن تولي اليهود والنصارى، ثم حذرت الآيات

ص: 240

عن الارتداد عن الولاية التي يعيّنها اللّه، ثم بينت أن تلك الولاية هي للّه وللرسول وللأئمة، ثم حذرت من ولاية المنافقين من أهل الكتاب ومن ولاية الكفار بشكل عام مع ردّ كلام اليهود بأن يد اللّه مغلولة فلا يعيّن أولياء له، بعد كل ذلك يأمر اللّه رسوله بأن يبلّغ للناس ولاية الإمام علي (عليه السلام) ، وأنها نازلة من اللّه تعالى، ولأهميتها فإن عدم إبلاغها يجعل الدين بلا محتوى، إذ هو بمعنى عدم إبلاغ رسالة اللّه أصلاً، ثم كان الوعد بأن تتم البيعة لعلي (عليه السلام) بحفظ اللّه تعالى ومنع اللّه الكافرين من تخريب موقف أخذ البيعة، ثم بعد ذلك لكي يعتبر المسلمون بأهمية الخضوع لأمر اللّه في ولاية أمير المؤمنين يذكر لهم حال بني إسرائيل بأنهم إن لم يعملوا ببعض أحكام الكتب السماوية فهؤلاء ليسوا على دين يعتد به، مع أن اللّه قد أخذ ميثاقهم بالإيمان بالرسل وتصديقهم في كل ما جاؤوا به لا أن يكذبوهم فيما لا تهوى أنفسهم أو يقتلوهم، وهكذا حال المسلمين إذا رفضوا بعض ما أنزله اللّه وكذّبوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيه والذي منه رفضهم ولاية الإمام علي (عليه السلام) .

وبذلك يتضح شدة ربط الآية بما قبلها وما بعدها، كما أن الآيتين اللتين تحيطان بهذه الآية متناسبتان جداً معها، إذ ما قبلها تدل على أن إقامة ما أنزله اللّه سبب للخيرات والبركات، وما بعدها تدل على أن عدم إقامة ما أنزله اللّه سبب أن لا يكون الإنسان على دين يعتد به، وهكذا الولاية، ولذا قالت فاطمة الزهرا (عليها السلام) في خطبتها: «ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرّسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الوحي الأمين، والطّبين بأمر الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين، وما نقموا من أبي الحسن؟ نقموا واللّه منه نكير

ص: 241

سيفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات اللّه عزّ وجلّ، واللّه لو تكافّوا عن زمام نبذه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لاعتلقه ولسار بهم سيراً سجحاً، لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح ضفّتاه، ولأصدرهم بطاناً قد تخيّر لهم الرّيّ، غير متحل منه بطائل إلاّ بغمر الماء وردعه سورة الساغب، ولفتحت عليهم بركات السماء والأرض، وسيأخذهم اللّه بما كانوا يكسبون»(1)، وأن السياق - مضافاً إلى الروايات المتواترة - يدلنا على أن المراد بهذه الآية تبليغ ولاية الإمام علي (عليه السلام) .

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}.

الخطاب ب-(يا أيها النبي) و(يا أيها الرسول)

عامة خطاب اللّه هو بقوله: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ} إلاّ في هذه الآية وفي قوله: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ...}(2)، حيث خاطبه ب-{يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ} ولعل السبب أن له (صلی الله عليه وآله وسلم) جهتين: جهة تلقيه الوحي من اللّه تعالى، وهو نبأ من اللّه له فلذا كان الخطاب بالنبوة، وجهة إيصاله الوحي للناس وهو رسول من اللّه إليهم، لذا كان الخطاب بالرسالة، وفي هاتين الآيتين كان هناك خشية وحزن بسبب سوء تصرف الناس الذين أ ُرسل لهم فلذلك خاطبه بالرسالة لبيان أنه مكلّف بإبلاغهم كائناً ما كان.

وقوله: {مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} يتضمن العلة لوجوب التبليغ، فإن اللّه تعالى حكيم لا ينزل شيئاً عبثاً، فمادام أنزله عليك لغرض هداية الناس ولم ينزله عليهم مباشرة، لعدم قابليتهم لتلقّي الوحي بلا واسطة، فلذلك لا بد لك من

ص: 242


1- معاني الأخبار: 355.
2- سورة المائدة، الآية: 41.

أن تبلّغه إليهم.

وقوله: {رَّبِّكَ} لعلّ اختيار كلمة الرب دون سائر أسماء اللّه تعالى لأجل بيان أن اللّه تعالى هو الذي أصلحك وربّاك حيث اصطفاك لهذه المهمة فأنت جدير بها.

عدم فائدة الدين من غير ولاية

الثالث: قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.

هذا لبيان أهمية تبليغ أمر الولاية، وبيان أن عدم الاستخلاف يؤدي إلى ضياع جميع جهوده التي بذلها لإقامة الدين وإشادته، وفي ذلك إشعار بعدم نفع الإسلام من دون ولاية، فمن أسلم واعتقد بسائر أصول الدين والتزم بالطاعات وترك المعاصي، لكنه لم يعتقد بالولاية فكأنه لم يؤمن برسالة اللّه تعالى، فيكون من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وفي الحديث: «ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية»(1)، ومن ذلك يتبيّن أن الروايات الدالة على عدم نفع الأعمال من غير ولاية، وأنها من أصول الدين جذرها وأصلها من هذه الآية الشريفة.

وقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} استعمل الفعل في مقام التبليغ الذي هو قول؛ كأنه لأن تبليغه كان متضمناً لأخذ البيعة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) فاختصرت الآية الأمرين بنحو فصيح بذكر التبليغ أولاً ثم أخذ البيعة ثانياً، فكأن المعنى (يا أيها الرسول بلّغ وخذ البيعة فإن لم تبلغ ولم تأخذ البيعة فما بلغت شيئاً) فذكر القول أولاً والفعل بأخذ البيعة ثانياً.

وهذا وإن كان في صورة تهديد، إلاّ أن المقصود والمراد الجدي هو

ص: 243


1- الكافي 2: 18.

بيان أهمية الولاية، نظير قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}(1)، فإن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أجلّ من أن يحتمل فيه المخالفة حتى يحتاج إلى تهديد، بل هو عبد مطيع للّه لا يتوانى في أي أمر أراده اللّه تعالى.

معنى العصمة من الناس

الرابع: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

(العصمة) هي المنع ويلازمها الحفظ، وهي تتعدى ب-(من) و(الباء)، ومدخول (الباء) هو الحافظ المعتصم به، ومدخول (من) هو الخطر المعتصم منه.

وهنا وعد من اللّه تعالى بأن يحفظه من الناس، والظاهر أن المقصود هو أن يتم تبليغه بأحسن وجه بحيث لا يتمكن أحد من إفشاله، وهذا ما تحقق حيث إن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بلّغهم بولاية علي (عليه السلام) وأخذ البيعة منهم في غدير خم من غير تخريب ولا مشاكل، إذ أحياناً يخطط الإنسان لأمر مهم ويهيئ المقدمات لكن يطرأ طارئ وقد يكون كلمة أو موقف جزئي يكون سبباً لذهاب تخطيطه ومقدماته هباءً منثوراً، ولا يتحقق ما أراد بحيث يضطر إلى إلغاء ما خطط له، كما حدث في رزية الخميس قبل رحيل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث طلب دواةً وكتاباً ليكتب لهم كتاباً، والذي كان يريد فيه التوصية بالثقلين بقرينة قوله: (لا تضلوا بعده أبداً)، فقال قائلهم: إن الرجل ليهجر(2)،

ص: 244


1- سورة الحاقة، الآية: 44-46.
2- رويت رزية الخميس بألفاظ متقاربة، كمثال راجع كشف الغمة 1: 420؛ نهج الحق: 273، 332؛ والبخاري 1: 17 و 5: 134.

والعياذ باللّه، وكانت هذه الكلمة كافية في انصراف الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عن كتابة الكتاب؛ لأنه لو كتبه لفتح القوم باباً ووضعوا روايات في هذيان الأنبياء والعياذ باللّه ليتملّصوا من الكتاب ويتركوا العمل به، وكان ذلك باب شر يفتح منه التشكيك في كل أقوال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مما لا يعجبهم.

حول زرية يوم الخميس

ولا يخفى أن في رزية يوم الخميس وإن لم يكتب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الكتاب إلاّ أنه وصل إلى ما أراده.

أولاً: باتضاح تأكيده على حديث الثقلين؛ لأنه استعمل نفس عبارة (لن تضلوا بعده أبداً) وهي عبارة حديث الثقلين حيث قال: (ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً).

وثانياً: تبيان حقيقة الذين اتهموه بالهجر، ولذا اضطرب أولياؤه في توجيه عبارته أيّما اضطراب، ولا زالوا متورطين بها مع عدم تمكنهم من إنكارها؛ لورودها في أصحّ الكتب عندهم.

وثالثاً: في طرد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هؤلاء من بيته بعد هذه العبارة وهو في أواخر حياته، ما يكشف حقائق لأولي الألباب، وبذلك تمت الحجة على الجميع.

والحاصل: أنه في يوم الغدير كان يمكن أن يقول قائل منهم قولاً يخرّب به برنامج أخذ البيعة، ولكن اللّه تعالى حافظ دينه وهيّأ الأسباب لنجاحه، لذلك وعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن يعصمه من الناس ليتم تبليغ الولاية وأخذ البيعة، وقد كان ما أراد فلا رادّ لحكمه.

وخشية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من عدم تمام ما أمر بتبليغه كخشيته في قصة

ص: 245

زواجه من زينب بنت جحش حيث قال اللّه تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَىٰهُ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَٰفِرِينَ}.

هذا في مقام التعليل في عصمته من الناس، فإن القوم الكافرين يخططون لإفشال مهمة النبي، لكن اللّه تعالى لا يهديهم لما أرادوا بسبب كفرهم، وقد مر أن الهداية قد تكون بمعنى إراءة الطريق، وهذا هو المقصود هنا، كما قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ}(2)، وقال سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ}(3)، وقال: {وَمَا دُعَٰؤُاْ الْكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٍ}(4)، كما في الآية دلالة على كفر من جحد ما أنزله اللّه على رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) من أمر الولاية كما فيمن كفر بالحج قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ}(5)، نعم من لم يكن جاحداً وقد تشهد الشهادتين جرت عليه أحكام الإسلام في دار الدنيا تسهيلاً من اللّه تعالى للمؤمنين، حيث يكثر اختلاطهم بالمخالفين وأن عسى اللّه أن يهديهم بهم.

ص: 246


1- سورة الأحزاب، الآية: 37.
2- سورة محمد، الآية: 8-9.
3- سورة محمد، الآية: 1.
4- سورة غافر، الآية: 50.
5- سورة آل عمران، الآية: 97.

السادس: وكان من شأن نزول الآية أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج إلى حجة الوداع بعد أن كتب للمسلمين أن يحضروا الحج، فحضر منهم مائة وثمانون ألفاً فأمره اللّه بتبليغ ولاية علي (عليه السلام) وكان الأمر موسعاً ليختار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الزمان والمكان المناسبين، فخطب (صلی الله عليه وآله وسلم) في منى وأمر الناس بالتمسك بالثقلين وبيّن فضل أمير المؤمنين بشكل عام، فلما انصرف من الحج وبلغ الجحفة وكان معه عشرة آلاف - وفي رواية اثنا عشر ألفاً - وكانوا من أهل المدينة ومكة نزل جبرئيل بأن وقت تبليغ الولاية قد تضيّق فلا يمكن تأخيره، فجمع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الناس وأبلغهم ولاية علي (عليه السلام) وأخذ منهم البيعة له خلال ثلاثة أيام، وقد تمّ الأمر بكل يسر وسلامة فأحكمت البيعة وتمت الحجة، وقد مرّ بعض الكلام في تفسير الآية 3 من هذه السورة، فراجع.

وأما حديث الغدير وقول رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» فحديث متواتر عند الفريقين، فراجع موسوعة الغدير للعلامة الأميني لمعرفة مصادره الكثيرة المتواترة.

ص: 247

الآيات 68-71

اشارة

{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ 68 إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّٰبُِٔونَ وَالنَّصَٰرَىٰ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 69 لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ 70 وَحَسِبُواْ أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ 71}

68- ثم يعود اللّه تعالى إلى دعوة أهل الكتاب إلى الخضوع للّه في كل شيء والذي منه أمره بولاية الرسول وآله ف-{قُلْ} يا رسول اللّه: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ} فدينكم من غير ولاية باطل فكأنه لا شيء {حَتَّىٰ تُقِيمُواْ} بالاعتقاد والعمل من غير تحريف ولا كتمان {التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} من سائر الكتب والتي تتضمن البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَ} لكن بدل أن يهتدوا {لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم} إلاّ القليل منهم {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} القرآن وأحكامه الذي منه الولاية {طُغْيَٰنًا وَكُفْرًا} فأصل عدم إقامتهم للدين كان طغياناً وكفراً ثم تكذيبهم

ص: 248

بالقرآن وبرسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) زادهم في ذلك، وحيث علمت يا رسول اللّه بأنهم معاندون {فَلَا تَأْسَ} لا تحزن {عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ}.

69- وهؤلاء إن آمنوا وأصلحوا فاللّه يقبله منهم ف-{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أسلموا بألسنتهم {وَالَّذِينَ هَادُواْ وَ} كذلك {الصَّٰبُِٔونَ وَالنَّصَٰرَىٰ مَنْ ءَامَنَ} منهم {بِاللَّهِ} اعتقاداً حقيقياً في القلب {وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من عذاب اللّه في الآخرة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم في ماضي أمرهم.

70- لكن أكثر اليهود ليسوا كذلك لا أسلافهم ولا أخلافهم ف-{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ} العهد الأكيد {بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} بالإيمان والعمل الصالح {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} كثيرين ليهدوهم، لكن {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ} أحكام تخالف شهواتهم {فَرِيقًا كَذَّبُواْ} كعيسى (عليه السلام) {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} كيحيى وزكريا‘.

71- {وَحَسِبُواْ} زعموا {أَلَّا تَكُونَ} لا تصيبهم {فِتْنَةٌ} بلاء وعذاب بسبب التكذيب والقتل، {فَعَمُواْ} عن رؤية الحق {وَصَمُّواْ} عن سماعه، فلذلك ارتكبوا الموبقات كعبادة العجل ونحوه، {ثُمَّ} تابوا ف-{تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أو بمعنى أن اللّه لم يقطع ألطافه عنهم فأرسل أنبياء آخرين {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} حيث نقضوا توبتهم بارتكاب المعاصي والانحرافات، إلا أن توبة اللّه كانت قد نفعت القليل منهم {وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ} عالم به فيجازيهم عليه.

ص: 249

بحوث

الأول: كان الكلام حول الولاية وقد أمر اللّه بولايته وولاية الرسول والأئمة وأمر رسوله بتبليغ الولاية، بعد ذلك يوجّه الخطاب إلى أهل الكتاببأن هذه الولاية واجبة عليهم أيضاً، إذ دينهم بدونها باطل.

فكما أن الرسول إذا لم يبلغها لم يكن قد بلغ شيئاً من رسالة اللّه كذلك هم إن لم يقبلوها، فليسوا على شيء من الدين أصلاً، فكل عقائدهم الأخرى لا تنفع وكل أعمالهم باطلة، فعليهم أن يعملوا بما أمروا به في التوراة والإنجيل وسائر الكتب من ولاية رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين.

لكنهم بدلاً من ذلك كذبوا وطغوا وكفروا فزادوا كفراً إلى كفرهم وطغياناً إلى طغيانهم، مع أنهم لو كانوا يؤمنون لكان خيراً لهم؛ لأن اللّه يقبل إيمان الجميع مهما كان دينهم سابقاً.

ثم يسلّي اللّه تعالى رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن هذا هو دأبهم حتى مع أنبيائهم حيث كذّبوا البعض وقتلوا آخرين، إلاّ القليل منهم الذي تاب توبة نصوحاً.

وقد زعم أولئك أن اللّه لا يعاقبهم، كلاّ، فكما عاقبهم فيما مضى بما فعلوه بأنبيائهم كذلك يجازيهم بتكذيبهم رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ومؤامراتهم عليه.

الثاني: قوله تعالى: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ...} الآية.

أي دينكم باطل وعملكم حابط، فقوله: {شَيْءٍ} أي على شيء يُعتدّ به

ص: 250

من أمر الدين؛ لأن الدين وحدة متكاملة إذا نقص أصل من أصوله انتفى كاملاً، كما أن رسالة الرسول تتوقف على تبليغ جميع الأصول وغيرها، فإذا لم يبلغ أصلاً من الأصول فكأنه لم يبلغ شيئاً، وبهذا يتبين وجه ارتباط آخربين هذه الآية وبين الآية السابقة، فكما أن الرسول مأمور بتبليغ الجميع كذلك المكلفون مأمورون بقبول الجميع.

وقوله: {حَتَّىٰ تُقِيمُواْ} الإقامة المحافظة كما مرّ في الآية 66.

وقوله: {مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} أي سائر الكتب السماوية، وكلّها أمرت بولاية الرسول وأهل بيته.

والفرق بين هذه الآية والآية 66 أن تلك كانت في بيان فائدة الإقامة في الدنيا بخيرات السماء والأرض، وهذه الآية لبيان فائدتها في الدين بحيث لولاها كان دينهم كالعدم.

وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم...} وهذا ليس تكراراً لما في الآية 64، وذلك لاختلاف الغرض في الآيتين، فهناك كان المقصود بيان فساد عقيدتهم في اللّه، حيث زعموا أن يده مغلولة فبنزول القرآن ازدادت عقيدتهم فساداً، وفي هذه الآية الغرض بيان عدم عملهم بكتبهم السماوية والتي فيها البشارة برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فبنزول القرآن عليه ازدادوا كفراً وطغياناً، وقد مر أن اختلاف الغرض يخرج الكلام عن التكرار حتى لو كانت الألفاظ والمعاني متشابهة.

وقوله: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ} تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن هؤلاء كافرون معاندون، فزيادة طغيانهم وكفرهم بتكذيبك إنما هو من طبيعتهم

ص: 251

وعنادهم فلا مبرّر للحزن عليهم، نظير من أصرّ على الإجرام فلو ارتكب جرماً جديداً لا يحزن عليه أحد؛ لأنه زاد جرماً إلى جرمه وأضر نفسه، والحاصل: أن المنهي عنه هو الحزن عليهم وهذا لا ينافي الحزن على وقوعالمعصية، كالذي يقتل مظلوماً فلا يحزن أحد على المجرم، إنما يحزن على المقتول وعلى انتهاك القانون.

سبب رفع (والصابئون)

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّٰبُِٔونَ وَالنَّصَٰرَىٰ...} الآية.

الآية تأكيد، حيث ذكرت الآيات السابقة أن على أهل الكتاب إقامة التوراة والإنجيل، وذلك بصالح دنياهم وآخرتهم، فتذكر هذه الآية أن النجاة في الإيمان والعمل الصالح مهما كانت سابقة الإنسان، وأن مجرد ادعاء الإيمان لا ينفع.

وفي التقريب: «حيث تقدم أنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين، مما يوهم أنّ الكفار غير قابلين للّهداية، ذكر سبحانه أنهم إن آمنوا - الملازم لإمكان الإيمان منهم - كان لهم ما لغيرهم من المؤمنين من الأجر والمثوبة»(1).

وقوله: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي أسلموا بألسنتهم، فهذا لا ينفعهم إلاّ بالإيمان القلبي والعمل الصالح قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}(2).

وقوله: {وَالصَّٰبُِٔونَ} هم الصابئة، وأما رفعه فقد يقال: إنه إما باعتبار

ص: 252


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 669.
2- سورة البقرة، الآية: 8.

العطف على المحل؛ لأن اسم إنّ مبتدأ قبل دخولها، وإما بالقطع بأن يكون الصائبون مبتدأ وخبره محذوف أي والصائبون كذلك، وقد وقع بين اسم إنّ وخبرها.

وقد أطال النحاة والمفسرون الكلام هنا حيث أرادوا تطبيق الآية على القواعد النحوية، مع أن الصحيح هو العكس، إذ إن قواعد العربية إنّما انتزعت من ملاحظة كلام العرب، والقرآن أصدق الحديث، وهو أصحّ وثيقة مدونة باللسان العربي، فمنه تستنبط القواعد، وبذلك نعلم أنه يجوز العطف على اسم إن بالرفع، وأما توجيه ذلك بالعطف على المحل أو بالقطع أو بغير ذلك فصناعة نحوية، نعم المتعارف هو النصب، بل نزلت نظير هذه الآية بالنصب في سورة البقرة حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَٰرَىٰ وَالصَّٰبِِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(1)، وقد يقال في الجواب: «إنّه للإلفات إلى أن الصابئي الذي لا يُرجى فيه خير، إن آمن قُبل، فكيف بغيره؟!»(2)، ففي الرفع نوع إلفات إلى المستمع وتنشيط ذهنه، وهكذا كل أمر جاء على خلاف أنس الأذهان فهو يجرّ الالتفات والانتباه.

وقوله: {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} أي التسميات والادّعاءات والإقرار باللسان لا تنفع إذا لم يكن إيمان قلبي وعمل صالح، فقوله: {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} أي إيماناً حقيقياً نابعاً عن اعتقاد في القلب، وغير خفي أن الايمان باللّه يلازم

ص: 253


1- سورة البقرة، الآية: 62.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 669.

الإيمان برسله؛ لأن عدم الإيمان بهم تكذيب له سبحانه.

وقوله: {فَلَا خَوْفٌ} أي من عقاب اللّه تعالى؛ لأن الخوف يستعمل فيما يحذره الإنسان في المُستقبل.

وقوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من أمر الدنيا، إذ بالإيمان قد يفقدون بعض مصالحهم ويُمنعون عن بعض أهوائهم وشهواتهم، والحزن أنما هو على ما فات الإنسان في الماضي.

وقد ذكرنا بعض ما يرتبط بهذه الآية في سورة البقرة الآية 62، فراجع.

الرابع: قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا...} الآية.

كأنه استمرار لتسلية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث كذّبوه وأرادوا قتله وتآمروا ضدّه، فيقال له: إن هذا هو دأبهم حتى مع أنبيائهم، وكذلك سابقتهم في نقض عهودهم مع اللّه ورسله، فليس نقضهم لعهدهم مع رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) منهم ببعيد!

وقوله: {مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} أي عهدهم الأكيد عبر موسى (عليه السلام) وسائر الأنبياء، فقد أخذ اللّه عهدهم ومع ذلك نقضوها.

وقوله: {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} لكي يهدوهم إلى الحق ويراقبوا المواثيق فاجتمع أمران: أخذ المواثيق وإرسال الرسل، وهما كافيان للّهداية لمن أراد أن يهتدي، لكن المعاند لا علاج له إلاّ أن الحجة تتم عليه.

وقوله: {لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ} قيل: إن (الهوى) ما تطلبه النفس، و(الشهوة) ما يرغب إليه الجسم، ففي معجم الفروق اللغوية: «الهوى يختص بالأداء

ص: 254

والاعتقادات، والشهوة تختص بنيل المستلذات، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ}(1) أي لا تتبع ما يميل إليه طبعك ويقتضيه رأيكمن غير أن يسند إلى دليل شرعي، ويدل على الثاني قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَٰتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ}(2) حيث بيّن مراتب المشتهيات بعدها وفصّل أصول المستلذات عقيب ذلك»(3).

وقوله: {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} لعل الإتيان بالقتل بصيغة المضارع والتكذيب بصيغة الماضي؛ لأن كل تكذيباتهم قد سبقت حتى إنهم كذّبوا آخر الأنبياء محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأما قتلهم فكان مستمراً؛ لأنهم أرادوا قتل رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وكانوا يتربصون به، وفي الكشاف: «جيء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفضاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها»(4)، وقد يضاف إلى ذلك: أنه لمراعاة فواصل الآيات.

الخامس: قوله تعالى: {وَحَسِبُواْ أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...} الآية.

بيان عقابهم في الدنيا قبل عقابهم في الآخرة، فهؤلاء بأفعالهم الشنيعة كانوا يريدون نيل ما يهوون ويشتهون فكانوا يزعمون أن أعمالهم تمرّ من غير أثر عليهم، وفي التقريب: «شأن كل من يقدم على جرم كبير يظن أن الأوضاع تبقى على ما يشتهي، منتهى الأمر أن ما صدر عن بعض شهواته

ص: 255


1- سورة ص، الآية: 26.
2- سورة آل عمران، الآية: 14.
3- معجم الفروق اللغوية: 562.
4- الكشاف 1: 634.

يزول ويُمحى عن الوجود! مع أن الأمر بالعكس، فإن بقاء المجتمع سليماً عن الأخطار والآفات، إنما هو بانتهاج تعاليم الأنبياء، فإذا أزيح النبي عن القيادة والتوجيه - إمّا بقتله أو تكذيبه - فإنه سوف تحلّ بالمجتمع أشدّالكوارث وتقع أعظم الفتن»(1).

وقوله: {وَحَسِبُواْ} من الحُسبان - بالضم - أي زعموا أن القتل والتكذيب لا يؤدي إلى فتنتهم.

وقوله: {فِتْنَةٌ} أصل الفتنة هي بمعنى الإلقاء في النار كما قال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}(2)، ثم استعملت في الامتحان لصعوبته وأيضاً في ارتكاب المحرمات والموبقات؛ لأنها كالنار تأكل الحسنات وعاقبتها إلى النار، والمراد في هذه الآية العقوبة، أي زعموا أنهم لا يعاقبون على تكذيبهم وقتلهم؛ لأنهم زعموا بأنهم أبناء اللّه وأحبابه فلا يعذبهم.

وقوله: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} بيان أن عملهم الباطل بالقتل والتكذيب وعقيدتهم الفاسدة بأنهم لا يعاقبون صارا سبباً لعدم رؤيتهم الحق وعدم سماعه.

وقوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي تاب على الأمة وعلى نوعهم، وهذا لا ينافي عدم توبته على قتلة الأنبياء، فالمعنى أن هؤلاء ارتكبوا الموبقات لكن الكثير منهم تاب فتاب اللّه عليهم، كما أنهم عبدوا العجل فتابوا فتاب اللّه عليهم، وهذا لا ينافي عدم توبة السامري وعدم توبة اللّه عليه قال تعالى:

ص: 256


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 671.
2- سورة الذاريات، الآية: 13.

{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَٰلِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1).

بل قد ذكرنا في بعض مباحث الحبط وغيره أن المذنب الذي يتوب إن علم اللّه تعالى بأنه سيموت على الكفر فإن توبته باطلة من الأول، بمعنى أن اللّه تعالى لا يقبلها، لا أنه يقبلها ثم يحبطها حين الكفر، فلذا كل عاص إذا تاب ثم كفر ومات على الكفر فإن اللّه يؤاخذه على عصيانه؛ لأن توبته لم تكن مقبولة من أساسها؛ وذلك لأن شرط قبول العمل هو الموت على الإيمان، والتوبة من أفضل الأعمال وهي كذلك مشترطة، وعن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر»(2).

ويحتمل أن تكون توبة اللّه عليهم بالمعنى اللغوي، أي رجوعه إليهم باللطف بأن أرسل أنبياء آخرين إليهم، وليس بمعنى غفران الذنب كي تثار شبهة التوبة على قتلة الأنبياء.

والحاصل: إما التوبة على نوعهم مما لا ينافي عدم التوبة على البعض، أو بمعنى استمرار اللطف.

وقوله: {عَمُواْ وَصَمُّواْ} أي لم تنفعهم توبة اللّه على مجتمعهم.

وقوله: {كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} بدل عن كل ما مضى في قوله: {جَاءَهُمْ} و{وَحَسِبُواْ} و{فَعَمُواْ} و{وَصَمُّواْ} و{عَمُواْ} و{صَمُّواْ}، وليس بدلاً

ص: 257


1- سورة البقرة، الآية: 51-52.
2- الكافي 2: 461.

عن خصوص الجملة الأخيرة، أو خبر لمبتدأ مقدر، أي أولئك كثير منهم، والمقصود بيان أن نسبة هذه الأمور الشنيعة إليهم إنما هو باعتبار أن أكثرهم هكذا، وهذا لا ينافي وجود قلة مؤمنة فيهم لم ينقضوا المواثيق وصدقواالرسل ونصروهم.

وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ} تهديد لهم بأن يرى أعمالهم فيجازيهم عليها.

والحاصل: أنهم حسبوا ألاّ تكون فتنة، لكن اللّه يرى أعمالهم ويجاز بهم عليها في الدنيا، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(1)، وأما جزاؤهم في الآخرة فقد دلت عليه آيات كثيرة.

ص: 258


1- سورة الأعراف، الآية: 152.

الآيات 72-77

اشارة

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ 72 لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 73 أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 74 مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْأيَٰتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ 75 قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 76 قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٖ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ 77}

72- بعد بيان جملة عقائد اليهود الفاسدة يتم بيان بعض عقائد النصارى الفاسدة تأكيداً على عدم اتخاذهم أولياء ف-{لَقَدْ كَفَرَ} النصارى فلا يدخلون في من «آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحاً»، وهم طوائف، فمنهم: {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وبعض هؤلاء قالوا بالاتحاد، وبعضهم قالوا بأن اللّه ظهر بهذا الشكل للناس، {وَ} لكن هذا زعم رفضه المسيح بنفسه فقد {قَالَ الْمَسِيحُ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ} ولا تعبدوني،

ص: 259

فإن اللّه {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فجميعنا عبيده لا فرق بيني وبينكم في المخلوقيّة، {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ} فإن تأليه غير اللّه شرك حتى لو اعتقد بأنه هو اللّه {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَىٰهُ النَّارُ} وهذا لإبطال زعمهم الفداء بأن المسيح فدىبنفسه فكل ذنوب النصارى مغفورة! {وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالشرك {مِنْ أَنصَارٖ} يشفعون لهم وينقذونهم من النار، فالمسيح لاينقذهم.

73- ومنهم: من يقول بالتثليث وهؤلاء أيضاً كفار ف-{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ} فبعضهم زعم أنه الأب والابن وروح القدس، وبعضهم زعم أنه الأب والأم والابن، {وَ} هذا زعم باطل إذ {مَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} هو اللّه تعالى لا غيره.

{وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ} لم يكفّ النصارى - بطوائفهم - {عَمَّا يَقُولُونَ} من الشرك {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} بأن لم يتوبوا {عَذَابٌ أَلِيمٌ} فسبب عذابهم هو كفرهم.

74- ثم يحثّهم اللّه على التوبة بقوله: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} يرجعون إليه ويعتقدون بما أمر به {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} عمّا أشركوا به، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيقبل التوبة، فما بالهم لا يتوبون ولا يستغفرون؟!

75- ثم يبيّن اللّه تعالى برهان مخلوقية المسيح (عليه السلام) بقوله: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} فهو ابن إنسانة لا ابن اللّه {إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} لا فرق بينه وبين سائر الرسل (عليهم السلام) في أن اللّه أجرى على أيديهم المعجزات، فكما كانوا مخلوقين فكذلك المسيح (عليه السلام) ، {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} صدّقت باللّه

ص: 260

وبالرسل كسائر الصديقات لا فرق بينها وبينهم فكيف صارت إلهاً دونهم؟! هذا أولاً.

{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} كناية عن الاحتياج وقضاء الحاجة، وهما من صفات المخلوق لا الخالق الغني، وهذا ثانياً.

ومن العجيب أن النصارى يسمعون هذه البراهين الفطريّة ومع ذلك لا يؤمنون {انظُرْ} نظر تعجب {كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْأيَٰتِ} البراهين بأيسر وجه يتعقلها كل عاقل، {ثُمَّ انظُرْ} متعجباً {أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} يُصرفون عن اتباع الحق.

76- وثالثاً: {قُلْ} في مقام الاحتجاج عليهم: {أَتَعْبُدُونَ} الاستفهام إنكاري {مِن دُونِ اللَّهِ} غير اللّه {مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} والمسيح كذلك لا يملك الضر والنفع إلاّ بالمقدار الذي أذن اللّه به، لا فرق بينه وبين سائر الأنبياء في المعاجز، ولا بينه وبين سائر الناس في سائر الأمور، بل لم يتمكن من دفع الضرر عن نفسه فقد انقذه اللّه برفعه إلى السماء، وقد زعتم أنه قُتل! فكيف يدفع عنكم الضرر أو يجلب لكم النفع دون إذن اللّه تعالى؟! {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم الشركيّة {الْعَلِيمُ} بعقائدكم الفاسدة، وهذا كالتهديد لهم.

77- ثم يبين اللّه سبب شركهم ويحذرهم منه وفيه نقض لحجة من حججهم بأنهم يتبعون أسلافهم، ف-{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} لا تتجاوزوا الحدود التي حدّها اللّه تعالى {غَيْرَ الْحَقِّ} تأكيد أو عطف بيان، إذ كل غلو هو باطل، {وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٖ} أسلافكم وأئمة

ص: 261

النصرانية، أو الوثنيين الذين أخذتم عقائدكم منهم {قَدْ ضَلُّواْ} في الألوهية والعبادة {مِن قَبْلُ} أي قبل بعثة الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا} من الناس ممن انخدع بهم، {وَ} إنما ضلوا في الألوهية والعبادة وأضلوا؛ لأنهم {ضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} وسط الطريق الذي هو الصراط المستقيم. فكلمنحرف عن الطريق يبتدع ويغوي من اتّبعه.

بحوث

الأول: قد نهت الآيات السابقة عن تولي اليهود والنصارى، ثم ذكرت جملة من عقائد اليهود وأعمالهم الفاسدة التي ترشد إلى سبب النهي عن تولّيهم، بعد ذلك جاءت هذه الآيات لبيان بعض العقائد الفاسدة للنصارى، مع التأكيد على أن هذه عقائد تُدخلهم في زمرة الكفار الذين يستحقون عذاب النار، فلا يكونون من مصاديق الآية 69 حيث أخبر اللّه عن أن النصارى الذين آمنوا باللّه وباليوم الآخر وعملوا صالحاً لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فتذكر هذه الآيات عقائد بعض طوائفهم - وهي أشهرها وأكثرها أتباعاً - وتنقضها بأنها تخالف تعاليم السيد المسيح (عليه السلام) حتى في الأناجيل المحرّفة الموجودة بين أيديهم، وأنهم بذلك يحرمون الجنة ويدخلون النار، ثم يحثهم اللّه على التوبة لينجوا من العذاب.

كما أن تلك العقائد - مضافاً إلى مخالفتها لتعاليم السيد المسيح (عليه السلام) - هي فاسدة في نفسها، ويذكر اللّه في مقام الاحتجاج ثلاثة أدلة، ويمكن زيادة الأدلة.

ص: 262

ثلاثة أدلة لبطلان عقيدة النصارى

فأولاً: لا فرق بين المسيح وبين سائر الرسل، فإن كانت له معاجز فلهم معاجز، فلا دليل في معاجزه على ألوهيته، وإلاّ لزم القول بألوهية سائر الرسل أيضاً، وهذا لا يلتزمون به، وكذلك حال أمه السيدة مريم (عليها السلام) فهي صديقة كسائر الصديقات فلا وجه لزعم ألوهيتها دونهم.

وثانياً: أنّ المسيح وأمه‘ تعرضهما حالات بشرية كالاحتياج إلى أكل الطعام ثم قضاء الحاجة، ومن كان كذلك لا يعقل كونه إلهاً؛ لأن الحاجة دليل على الإمكان ولا بدّ في الإله من الغنى المطلق، وإلاّ فلا فرق بين محتاج وآخر فلماذا صار أحدهم إلهاً دون غيره؟

وثالثاً: أنّ المسيح (عليه السلام) من دون إذن اللّه لا يملك نفعاً ولا ضراً لكم، فما الفائدة في عبادته؟

ولعل الفرق بين هذه البراهين أن الأول استدلال بقاعدة حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، والثاني استدلال بالحاجة الدالة على الإمكان، والثالث استدلال بالعجز من دون إذن اللّه.

من طوائف النصارى الكافرة

الثاني: قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}.

بيان لكفرهم وأنهم ليسوا بمؤمنين حتى يكونوا أهل النجاة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلا وجه إذاً في اتخاذهم أولياء إذ في ذلك الهلكة.

من أقول السيد المسيح (عليه السلام) في العقيدة

وهؤلاء طائفة من النصارى زعموا أن اللّه ظهر في الأرض على شكل إنسان فهم لا يقولون بالتثليث ولا بالحلول، ونقل عنهم أنهم يزعمون أن اللّه

ص: 263

أراد إنقاذ البشرية فلم يجد طريقاً إلاّ بأن يهبط إلى الأرض بصورة إنسان؟! تعالى اللّه عما يقولون علواً كبيراً، فكلامهم باطل عقلاً ونقلاً ولا دليل لهم عليه سوى كلام سفسطة لا يفهمه لا عوامهم ولا حتى خواصهم، ولمّا تنقصهم الحجة يقولون: إن هذه المعتقدات فوق مستوى العقل! وهو كلامسخيف جداً، إذ إنه ضد العقل، بمعنى أن العقل السليم يدرك بطلانه، مضافاً إلى أنه لو فسح المجال للادعاءات التي لا يدركها العقل من غير دليل ولا برهان لكان ذلك فتحاً لباب الادعاءات الباطلة، حيث يمكن لكل أحد أن يدعي أنه اللّه سبحانه فلما يطالب بالدليل؟ يقول: إن ذلك فوق مستوى عقولكم!! وهل هذا إلا تعطيل للعقل!

وقوله: {ابْنُ مَرْيَمَ} كأنه للتأكيد على أنه ليس إلهاً؛ لأنه ابن إنسانة نما في رحمها ووُلد منها وشبّ وكبر كسائر الأبناء، والإعجاز بولادته من غير أب وسائر معاجزه لا يخرجه عن كونه ابن إنسانة ولا يرقيه إلى مرتبة الإله.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ...} الآية.

يتضمن نقض كلامهم بأقوال السيد المسيح (عليه السلام) الذي ادعوا ألوهيته، وهذه الكلمات موجودة حتى في الأناجيل المحرفة، فهي من الكلمات التي لم يطلها التحريف، وقد ذكرت هذه الآية أربعاً من كلماته (عليه السلام) الدالة على بطلان زعم ألوهيته وهي:

1- قوله: {يَٰبَنِي إِسْرَٰءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ} وقد مرّ أن عيسى (عليه السلام) بعث في بني إسرائيل وأمضى حياته كلّها قبل رفعه فيهم، كما قال: {وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي

ص: 264

إِسْرَٰءِيلَ}(1)، لكن شريعته كانت عامة للجميع(2).

وقد أمر عيسى بني إسرائيل بعبادة اللّه تعالى ولم يأمرهم بعبادة نفسه، ولوكان هو اللّه كما يزعمون لدعا إلى عبادة نفسه.

2- قوله: {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} هذه كلمة عيسى (عليه السلام) الثانية، وهي دليل على أنه لا فرق بينه وبين سائر الناس من جهة كونهم عبيداً للّه تعالى وأن اللّه ربهم جميعاً، فلا معنى لزعم ألوهية عيسى (عليه السلام) .

3- قول--ه: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَ-رَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} ثالث كلماته (عليه السلام) وفيها دلالة على أن من الشرك زعم أنه هو اللّه، إذ لا فرق في الشرك بين الاعتقاد بإله آخر يشترك مع اللّه سبحانه في الألوهية، وبين زعم غير اللّه إلهاً أو اعتقاد أن غير اللّه هو اللّه سبحانه؛ لأن في ذلك نسبة ما هو خاص باللّه تعالى إلى غيره فقد أشركه في الصفات الخاصة باللّه حتى وإن زعم أنه هو اللّه تعالى.

وقوله: {حَرَّمَ اللَّهُ} تحريماً تكوينياً، أي منعه عن الجنة أبداً؛ وذلك لأن اللّه تعالى حكيم، ومرتبة الجنة مرتبة سامية لا تكون إلاّ لمن كانت له قابليتها، ولا أهلية للمشرك، فإدخاله الجنة خلاف الحكمة، وخلاف الحكمة قبيح لا يصدر من اللّه تعالى، فليس هناك نقص في رحمة اللّه وإنما النقص في عدم قابلية المشرك.

4- قوله: {وَمَأْوَىٰهُ النَّارُ} أي مصيره ومحله الذي يأوي إليه هو نار

ص: 265


1- سورة آل عمران، الآية: 49.
2- راجع التفكر في القرآن 4: 177-178.

جهنم، وفي ذلك إبطال لعقيدة الفداء التي تزعمها النصارى بأن المسيح صلب فكان ذلك كفارة ذنوب الناس! وهذا مضافاً إلى مخالفته لكلام السيد المسيح (عليه السلام) نفسه، يخالف العقل والحكمة؛ لأنه ترخيص وإباحة لارتكاب الناس للمنكرات والموبقات؛ لأنهم مغفور لهم! وقد مرّ أن اللّه تعالى لم يعدالجنة ولا النجاة من النار إلاّ لمن آمن وعمل صالحاً، فلم يقطع وعداً على أناس بعينهم إلاّ للمعصومين (عليهم السلام) ، ولذا لمّا ذكر أصحاب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وزوجاته قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا}(1)، وقال: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَٰلِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ...}(2).

كفر طائفة أخرى من النصارى

وقوله تعالى: {وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ} إما من كلام السيد المسيح (عليه السلام) فتكون خامس كلماته، وإما بيان من اللّه تعالى تكميلاً وتقريراً لكلام السيد المسيح (عليه السلام) ، أي لا تنالهم الشفاعة لأنهم ظالمون، أو هو كالتعليل لتحريم الجنة عليهم وكون النار مأواهم بأنهم ظالمون فلا يشفع لهم أحد لسوء فعلهم الذي استحقوا به هذا الجزاء.

الرابع: قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ}.

هؤلاء طائفة أخرى من النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة وأكثرهم يقولون بالأب والابن وروح القدس، وبعضهم كان يقول بالأب والابن

ص: 266


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة الأحزاب، الآية: 31.

والأم قال اللّه تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}(1).

وقيل: إن هاتين الآيتين إشارة إلى طائفة واحدة التي هي أكثرهم وهميناقضون أنفسهم، إذ يقولون: إن اللّه في الوقت نفسه واحد وثلاثة فهي وحدة في عين الكثرة! وهم كثيرو التخبط في بيان هذا المعتقد؛ لأن الشيء الواحد لا يكون ثلاثة إلاّ إذا كان مركباً من ثلاثة أشياء بحيث يكون كل واحد منها جزءاً، والنصارى لا يقولون بالجزئية فلا يرجع كلامهم إلى معنى معقول.

ولا يخفى أن بعض القائلين بوحدة الوجود أسوأ حالاً من هؤلاء النصارى؛ لأن النصارى يقولون بأنه ثلاثة وواحد، وهؤلاء يقولون باتحاده مع كل شيء! تعالى اللّه ما يقولون علواً كبيراً.

وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} هذا بيان لكفرهم، فالمعنى عقيدة هؤلاء القائلين بالتثليث تخالف الواقع، إذ لا يوجد إلاّ إله واحد، وبتعبير آخر هؤلاء يقولون بآلهة ثلاثة أحدها اللّه سبحانه وتعالى مع أن كلامهم باطل يخالف الواقع، إذ لا يوجد إلاّ إله واحد وهو اللّه تعالى، ومن ذلك يتبيّن سبب قوله: {إِلَّا إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} حيث لم يقل: «إلاّ اللّه» كما هو المتعارف في كلمة التوحيد (لا إله إلاّ اللّه)، وذلك لأن هؤلاء يزعمون بآلهة ثلاثة فيقال لهم: لا يوجد إلاّ إله واحد، ومن المعلوم أنه منحصر في اللّه تعالى،

ص: 267


1- سورة المائدة، الآية: 116.

وإدخاله (من) بعد (ما) النافية لتأكيد الاستغراق كما تقول: ما من أحد في الدار، تريد تأكيد النفي واستغراقه لكل الأفراد.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

هذا تهديد لهم عن قولهم هذا، وفي الآية التالية وعظ لهم بالتوبةوالاستغفار، فإن البدء بالتهديد ثم الوعظ أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً من العكس؛ لأن عامة الناس خوفهم من العقاب يحركهم أكثر من طمعهم في الثواب أو من وعظهم بإصلاح حالهم، لذا بيّن أولاً مآل كفرهم بالتثليث ليخافوا ثم وعظهم بالتوبة والاستغفار ليصلحوا حالهم.

وقوله: {يَنتَهُواْ} من الانتهاء الذي هو بمعنى الكف والتوقف بسبب النهي، أي الانزجار عمّا نُهي عنه، والمعنى عدولهم عن هذه العقيدة الفاسدة التي نهى اللّه عنها.

وقوله: {عَمَّا يَقُولُونَ} القول أعم من الاعتقاد، وإنما سُمّي الاعتقاد قولاً؛ لأنه سبب للكلام طبقاً له، فالمراد الانتهاء عن هذا الاعتقاد لا مجرد السكوت عنه مع استمرار الاعتقاد به.

وقوله: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} أي ليمسنهم، وإنما أظهر الضمير تأكيداً على كفرهم وأن كفرهم هو سبب عذابهم، و(من) في قوله: {مِنْهُمْ} للتبعيض، أي الذين بقوا منهم على الكفر؛ لأن بعضهم تابوا وآمنوا وأصلحوا فدخلوا في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَٰرَىٰ وَالصَّٰبِِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ

ص: 268

وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1).

السادس: قوله تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

حث وتحريض لهم للتوبة؛ لأن اللّه غفور رحيم يقبل توبة عباده، فإنهخلقهم ليرحمهم فلذا هيّأ لهم أسباب الرحمة، ولأن الرحمة الخاصة لا تنال إلاّ من كان قابلاً لها وليس إلاّ المؤمن، لذلك فسح اللّه المجال لهم ليتوبوا فيدخلون في زمرة المؤمنين فينالون رحمته بالرضوان والجنة، فالاستفهام يراد به العرض والحث كما يقوله القائل: (ألا تنزل بنا)، وقيل: هو بداعي التعجب والذي يراد منه الإنكار عليهم، والأول أقرب.

وقوله: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} التوبة بمعنى الرجوع، ورجوع العبد إلى اللّه هو بترك معصيته وبطاعته، وماهية التوبة وشرائطها شرعاً هي: الندم على ما صدر، والعزم على عدم العود، وأداء الحقوق التي ضيّعها، سواء كانت حقوق الناس أم حقوق اللّه تعالى، ثم الاستغفار باللسان، ويظهر من هذه الآية ومن بعض الروايات أن الاستغفار باللسان خارج عن ماهية التوبة، وإنما هو أمر مستقل ينضم إليها، وقيل: هو من شرائط قبول التوبة، وأن ماهية التوبة هي الندم ويلازم ذلك عزم عدم العود وأداء الحقوق.

وقد ذكرنا فيما مضى بعض البحوث حول التوبة، كما ذكرنا جملة منها في شرح أصول الكافي(2)، وللتفصيل راجع موسوعة الفقة كتاب الشهادات

ص: 269


1- سورة البقرة، الآية: 62.
2- شرح أصول الكافي، للمؤلف 11: 480 فما بعد.

للسيد الوالد رضوان اللّه عليه(1).

وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} أي يتضرعون ويدعون ليغفر اللّه لهم، ويراد به الاستغفار باللسان؛ لأن توبتهم رجوعهم إلى اللّه وأمّا استغفارهم فهو طلبهم رجوعه إليهم، إذ قد يتوب الإنسان إلى اللّه لكن اللّه لا يتوب عليه، وقديتوب اللّه عليه بمعنى رجوع لطفه لكن لا يتوب الإنسان، قال سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ}(2)، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}(3).

والحاصل: إذا طلبوا من اللّه المغفرة مع كون توبتهم حقيقية وجدوا اللّه تواباً ولذا أتمّ الآية بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

من أدلة كون المسيح (عليه السلام) بشراً

السابع: قوله تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ...} الآية.

بعد أن ذكر في الآية 72 أن كلامهم مخالف لكلام المسيح (عليه السلام) ، وبين في الآية 73 عاقبة كفرهم، وفي الآية 74 وعظهم بالتوبة والاستغفار، بعد كل ذلك في هذه الآية والتي بعدها يتم ذكر بطلان كلامهم بالحجة:

الدليل الأول: أنه لا فرق بين المسيح وبين سائر الرسل فلماذا صار إلهاً دونهم، وكذلك لا فرق بين مريم (عليها السلام) وسائر الصديقات فلماذا خصّوها بالألوهية دونهن.

ص: 270


1- الفقه 86: 180-194.
2- سورة التوبة، الآية: 118.
3- سورة آل عمران، الآية: 90.

وقوله: {إِلَّا رَسُولٌ} حصر المسيح (عليه السلام) في الرسالة للدلالة على أنه ليس إلهاً، بل هو رسول للإله، وبعبارة أخرى هو رسول اللّه وليس هو اللّه أو إله مع اللّه تعالى، وكونه رسولاً يقتضي إجراء المعجزات على يديه، وهكذا حال كل رسول من رسل اللّه تعالى، إذ لولا المعجزة لما أمكن لعامة الناس تمييز الرسول من منتحل الرسالة.

وقوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إنما خص الرسل السابقين بالذكر مع أن أفضل الرسل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) جاء بعد عيسى (عليه السلام) ؛ لأنه في مقام الاحتجاج يذكر من يعترفون برسالته كإبراهيم وموسى‘ وغيرهما ممن يعترف به النصارى، فلماذا لم تقولوا بألوهية موسى مع أنه حوّل العصا الميتة إلى ثعبان يسعى، وفلق البحر، وغير ذلك من معاجزه التي لا تقصر عن معاجز عيسى (عليه السلام) .

وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} الصدّيق والصدّيقة صيغة مبالغة بمعنى كثرة وشدة تصديق اللّه ورسله وآياته، والصدّيق هو من لم يخالف عملُه قولَه، ولا قولُه قلبَه في أي أمر من الأمور، وذلك لا يتوفر إلاّ في المعصومين (عليهم السلام) ومن يتلو تلوهم، ولعلّ ذكرها هنا أولاً لبيان أن عيسى ابن إنسانة فلا يعقل أن يكون اللّه تعالى أو ابن اللّه سبحانه، وثانياً ردّ على من زعم من طوائف النصارى أنها إحدى الثلاثة.

الدليل الثاني: احتياج المسيح وأمه‘ وعروض الحالات البشرية عليهما، ومَن كان محتاجاً لا يكون إلهاً، إذ لا فرق بينه وبين سائر الممكنات، فكما تحتاج هي كذلك يحتاج هو فما الذي جعله إلهاً دونها؟!،

ص: 271

كذلك وجود الأعضاء والجوف والحاجة إلى الأكل وقضاء الحاجة إنما هي من صفات الممكن وينزّه عنها الإله سبحانه وتعالى، وكل ذلك موجود في عيسى وأمّه‘ فليسا إلهين.

وقوله: {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْأيَٰتِ...} تعجيب بأن اللّه يذكر الدلائل الواضحة التي يفهمها كل من استعمل عقله لكن هؤلاء لا يقبلونها؟

وقوله: {أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} من الإفك الذي هو بمعنى الصرف عن الحق، ثم إنه قيل في تكرار (النظر): «إنه بيّن لهم الآيات بياناً عجيباً، وأن إعراضهم عنها أعجب منه»(1).

الثامن: قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا...} الآية.

وهذا في جوهره دليل ثالث على نفي ألوهية عيسى (عليه السلام) ، وإن كان يفترق عن الدليلين الأولين بأنهما دلّا على استحالة ألوهية عيسى (عليه السلام) ، وهذا من جهة عدم انتفاعهم بعبادته، إذ تارة الإنسان يعلم بكون شيء باطلاً، لكنه يرتكب رجاء نفع أو دفع ضرر، فيقال لهؤلاء ما فائدة عبادتكم للمسيح (عليه السلام) ، وهو لا يملك لكم ضراً حتى تريدون بعبادته إرضاءه لئلا يضركم، ولا يملك لكم نفعاً كي تجلبوه بعبادته، وبعبارة أخرى كما احتج اللّه عليهم ببطلان ألوهية عيسى (عليه السلام) كذلك احتج عليهم ببطلان عبادتهم له، بل إن عيسى يتبرأ عن عبادتهم إياه يوم القيامة حيث يقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ

ص: 272


1- الكشاف 1: 635.

فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1).

والحاصل: أن الإنسان إنما يعبد من بيده كل النفع والضرر، وأما من ليس بيده شيء من النفع ولا الضرر فلا معنى لعبادته، بل هو سفاهة ليس فوقها سفاهة، فكل من يتمكن من نفع أو ضرر إنما هو بإذن اللّه تعالى فلا قوة إلاّبه، والآيات تارة قدّمت الضر على النفع كهذه الآية، وتارة عكست كقوله: {لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}(2) ولعلّه لخصوصية في كل مورد، أو أنه لا فرق من حيث المعنى لذلك قدّم هذا تارة وذاك تارة أخرى بلاغةً وتفنناً في العبارة.

وقوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} كأنّه وعيد لهم بأن اللّه يسمع أقوالهم الشركية ويعلم بأعمالهم ونواياهم الكفرية فلا مفرّ لهم من عذابه.

التاسع: قوله تعالى: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ...} الآية.

كأنه نقض لحجة أخرى من حججهم بأنهم يتبعون أسلافهم، فيكون كالدليل الرابع على نفي ألوهية عيسى (عليه السلام) ، وحاصله: أن سبب غلوهم في المسيح (عليه السلام) بحيث ألّهوه وعبدوه هو أنهم ورثوا هذه العقيدة الفاسدة من أسلافهم، والإنسان كالمجبول على حب اتّباع آبائه قال سبحانه: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم مُّقْتَدُونَ * قَٰلَ أَوَلَوْ

ص: 273


1- سورة المائدة، الآية: 117-118.
2- سورة الرعد، الآية: 16.

جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَٰفِرُونَ}(1)، وقال سبحانه: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِمْ يُهْرَعُونَ}(2).

وقوله: {لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} الغلو هو تجاوز الحد، وللدين حدود رسمها اللّه تعالى، فكل تجاوز إلى الزيادة غلو، فإن كان إلى النقيصة فهوتقصير، ومن الدين أن رسل اللّه سبحانه عباد له مكرمون وأنه لا تجوز عبادتهم، فكل رفع لهم إلى مستوى الألوهية أو عبادتهم غلو.

وقوله: {غَيْرَ الْحَقِّ} حال للتأكيد على أن كل غلو لا يكون حقاً وإنما هو من الباطل.

وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٖ} بيان أن سبب غلوهم هو اتّباعهم لأسلافهم، وأولئك لم يكن ما اعتقدوه عن برهان وحجة من اللّه، وإنما تحكمت بهم أهواؤهم فابتدعوا العقائد الزائفة والعبادات الباطلة.

ويحتمل أن سبب أهوائهم هذه أنهم كانوا وثنيين في الأصل فكان هواهم مع الوثنية، لذا اقتبسوا منها بعض عقائدها وطقوسها فأدخلوها في النصرانية.

وقوله: {قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} أي من قبل بعثة رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو من قبل هؤلاء المخاطبين بهذه الآية، أو من قبل أولئك القوم من الوثنيين، وكان ضلالهم في اعتقاد ألوهية عيسى (عليه السلام) وعبادته.

ص: 274


1- سورة الزخرف، الآية: 23-24.
2- سورة الصافات، الآية: 69-70.

وقوله: {وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا} حيث اتّبعهم الناس على ضلالتهم، فكانوا أولئك سبباً لضلال الكثير من الناس، والنصرانية من أكثر الأديان أتباعاً في العالم، وإثم إضلال هؤلاء المليارات من الناس على من نصّروا النصارى، فمن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها وزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فكيف بمن سنّ عقيدة باطلة هي الشرك بعينه.

وقوله: {وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} لعله ليس تكراراً لقوله: {قَدْ ضَلُّواْ} بل هو كالعلة لضلالهم في التثليث والعبادة وإضلالهم الناس، ببيانأنهم قد ضلوا الصراط المستقيم ولذلك ضلوا في الألوهية والعبادة وأضلوا الناس فيهما، نظير قولك: فلان انحرف فاعتقد بالكفر فخدع الناس، فهؤلاء ضلوا عن سواء السبيل لذلك ضلوا في العقيدة وأضلوا الناس فيها، فتأمل.

وقيل: هو تأكيد.

وقيل: {ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} بعثة الرسول {وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} من بعد بعثته فيكون المراد الرهبان والقساوسة، واللّه العالم.

ص: 275

الآيات 78-81

اشارة

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ 78 كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ 79 تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَٰلِدُونَ 80 وَلَوْ كَانُواْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ 81}

78- ثم يتابع اللّه تعالى ذكر سيئاتهم والتي منها ولاية الكفار فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} دعاء بالطرد عن الرحمة {عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إنما خصهما بالذكر لأن لعنتهما استجيبت، حيث مسخ أصحاب السبت بدعاء داود (عليه السلام) ومسخ كفار المائدة بدعاء عيسى (عليه السلام) {ذَٰلِكَ} اللعن إنما استحقوه {بِمَا عَصَواْ} أي بسبب عصيانهم، {وَ} بسبب ما {كَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي عداونهم أو تعديهم حدود اللّه تعالى.

79- ثم بينّ مصداقين من عصيانهم واعتدائهم: {كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ} لا ينهى بعضهم بعضاً أو لا يتركونه {عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُ} فكان بعضهم يرتكب المنكر وبعضهم لا ينهاهم عنه {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} من فعل المنكر وعدم النهي عنه.

ص: 276

80- ومصداق آخر أنك {تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ} من كفار بني إسرائيل {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يتخذون المشركين أولياء {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ}إلى الآخرة {أَنفُسُهُمْ} لأن أفعالهم كانت عن هوى النفس {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أن مصدرية، والمعنى بئس المقدَّم إلى الآخرة سخطُ اللّه، والمقصود ما يوجب سخطه، فحاصل الجملة بئست الأعمال الموجبة لسخط اللّه التي قدّموها لآخرتهم {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَٰلِدُونَ} جزاءً على تلك الأعمال السيئة.

81- {وَلَوْ كَانُواْ يُؤْمِنُونَ} إيماناً صادقاً حقيقياً {بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} موسى (عليه السلام) {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} إلى النبي، أي التوراة غير المحرّفة {مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} لأن الإيمان يقطع الصلة بالكفار {وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَٰسِقُونَ} غير مؤمنين فخرجوا عن طاعة اللّه فاتخذوا الكفار أولياء.

بحوث

الأول: بعد التأكيد على كفر اليهود والنصارى ترجع الآيات للتأكيد على موضوع الولاية، فتبيّن لعن بعض بني إسرائيل على لسان أنبيائهم (عليهم السلام) بسبب عصيانهم واعتدائهم حيث كان بعضهم يرتكب المحرمات وبعضهم لم ينههم عن المنكر، بل تولّاهم ولم يتبرأ منهم، وكذلك كثير منهم يتولون سائر الكفار، مع أنهم لو كانوا مؤمنين حقاً لم يتخذوهم أولياء، وتتضمن الآيات الكشف عن فسقهم وعن بعض سيئاتهم وعن جزائهم في الدنيا بالمسخ وفي الآخرة بالخلود في النار.

لعن الأنبياء لكفار بني اسرائيل

الثاني: قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}.

ص: 277

لعلّه خص لعنهم بداود وعيسى‘ مع أنهم لعنهم كل نبي كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}(1)، لأجل ظهور استجابة لعن داود (عليه السلام) في أصحاب السبت، واستجابة دعاء عيسى (عليه السلام) في كفّار المائدة حيث مسخ الفريقان، فكان منهم القردة والخنازير.

ثم إن القرآن دلّ على مسخ أصحاب السبت قردةً كما قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْاْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ}(2)، كما دلّ على أن عذاب كفّار المائدة لم يعذبه اللّه أحداً من العالمين، حيث قال: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ}(3)، وفي بعض الروايات بيان أن أصحاب السبت مسخوا قردة وخنازير، وفي بعضها أنهم مسخوا خنازير، وفي بعضها أنهم مسخوا قردة، كما أنه ورد في بعض الروايات حول كفار المائدة مسخهم قردة، وفي بعضها مسخهم خنازير، وفي بعضها مسخهم جريثاً وضباً(4)،

ولعل وجه الجمع بينها بما لا يخالف القرآن الكريم هو تحقق كل ذلك فيهم وإنما ذكرت الآيات ما غلب عليهم، وذكرت كل رواية بعض أنواع عذابهم، وإن لم نهتد إلى وجه الجمع أخذنا بما يدلّ عليه القرآن ورددّنا علم تلك الروايات إلى أهلها (عليهم السلام) ، واللّه المستعان.

ص: 278


1- سورة البقرة، الآية: 161.
2- سورة البقرة، الآية: 65.
3- سورة المائدة، الآية: 115.
4- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 456-457 و 3: 510-511.

ثم لعلّ الغرض من ذكر لعنهم على لسان داود وعيسى‘ بيان سوء عمل اليهود والنصارى بحيث استحقوا لعن أنبيائهم فلا يستبعد منهمتكذيبهم لرسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وتحريفهم للكتاب وغلوهم وضلالهم وإضلالهم وغير ذلك من موبقات ارتكبوها.

سبب لعنهم

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}.

بيان سبب اللعن وهو أمران: العصيان والاعتداء، وذكرهما معاً إمّا تأكيد، فإنّ كل معصية هي تعدي حدود اللّه تعالى، وإمّا العصيان بمخالفة اللّه والاعتداء على الناس، أو المعصية بترك الأوامر والاعتداء بارتكاب المناهي، أو أن الاعتداء من أصحاب السبت كما قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْاْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ}(1)، والعصيان من كفّار المائدة، أو أن العصيان للرسل والتعدي لحدود اللّه، أو لغير ذلك واللّه العالم.

والحاصل: أن لعنهم لم يكن إلا بسبب ما اقترفت أيديهم، فاستحقوا اللعن ولم تكن من الحكمة رحمتهم ومغفرتهم، وما ربك بظلام للعبيد، قال سبحانه: {وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}(2)، وقال: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ}(3)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}(4)، وقال: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ}(5)، وغير ذلك من الآيات الدالة على

ص: 279


1- سورة البقرة، الآية: 65.
2- سورة النساء، الآية: 46.
3- سورة المائدة، الآية: 13.
4- سورة الأحزاب، الآية: 57.
5- سورة المائدة، الآية: 64.

أفعال توجب اللعن، وقد جمعتها هذه الآية بأنها العصيان والاعتداء.

الرابع: قوله تعالى: {كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْيَفْعَلُونَ}.

إما بيان لما في الآية السابقة، أي الاعتداء والعصيان، فمن مصاديقه هذا، أو هو بيان للاعتداء بأنهم كانوا يفعلون المنكر ولا يتناهون عنه، ولعل تقديم عدم التناهي على فعل المنكر لأنه أشنع، حيث إن فعل المنكرات من عوامهم عادة وترك التناهي من علمائهم، وذنوب العلماء أشد من ذنوب العوام، وفي الحديث: «يُغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(1)، وفي حديث آخر: «لأحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم»(2)، وذلك لأن العلماء أحق بخشية اللّه من غيرهم كما قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(3).

وقوله: {لَا يَتَنَاهَوْنَ} التناهي إما بمعنى نهي بعضهم بعضاً عن المنكر، وإما بمعنى الانتهاء والترك، والأول أنسب بقصة أصحاب السبت حيث جمعوا بين فعل المنكر وبين عدم النهي عنه بل تثبيط الناهين.

وعبارة {كَانُواْ...} ظاهرة في أن عدم النهي عنه كان أمراً مستمراً، وتنكير {مُنكَرٖ} مع وقوعه في سياق النفي يفيد العموم، أي لم يكونوا ينهون عن أيِّ منكر حتى لو كان عظيماً، وكل الجملة ظاهرة في تفشّي المنكرات فيهم.

ص: 280


1- الكافي 1: 47.
2- الكافي 8: 162.
3- سورة فاطر، الآية: 28.

وفي الآية إشعار بأن النهي عن المنكر واجب حتى لمن يرتكبه أويرتكب منكرات أخرى، وأما قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(1)، فالنهي على عدم الفعل لا على القول وقد مرّ بحثه.

وفعل المنكر قد يكون مكرّراً أو المنكر هو من الأمور المستمرة أو له آثار مستمرة تجب إزالتها فلذا يلزم النهي عنه، فلا يقال: إذا قد فعلوه وانتهى فما معنى النهي عنه؛ حيث إن النهي للانزجار، ولا معنى للزجر عن أمر قد تحقق في الماضي؟! إذ قد عرفت أن النهي عن التكرار وعن الاستمرار وعن الآثار.

وفي الآية دلالة على شدة حرمة ترك النهي عن المنكر، حيث استحقوا بذلك اللعن على لسان داود وعيسى‘.

وقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي فعلهم في ترك التناهي عن المنكر، وهذا تقبيح لفعلهم وتعجيب منه، أي اعجبوا لسوء فعلهم، وفي الآية دلالة على أن ترك النهي عن المنكر إنما هو فعل سيّئ وليس مجرد عدم ٍ، فإن البعض قد يتوهم أن التروك ليست من الأفعال فلا تكليف له تجاهها، فيقال له: إن الترك إنما هو بكفّ النفس وهو من أفعال القلب التي يتعلّق بها التكليف، فالذي يرى المنكر ثم لا ينهى عنه إنما يكف نفسه عن الاعتراض على القبيح الذي هو أمر فطري، فإن الإنسان بفطرته يستنكر ما يدرك قبحه، بل فطرته تسوقه إلى المنع عن تحقق القبائح حتى من غيره، فمخالفته لمقتضى فطرته هو كف للنفس وهو فعل، هذا مضافاً إلى إمكان تعلّق

ص: 281


1- سورة الصف، الآية: 2.

التكليف بالعدم، لأن القدرة تتعلّق بطرفي الوجود والعدم، وحيثتعلقت بالعدم صحّ التكليف به، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: {تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ...} الآية.

بيان لمصداق آخر من عصيانهم أو اعتدائهم وهو ولايتهم للكفار، قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا * أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}(1).

وفي الآية إشعار بأن ولاية الكفار توجب اللعن، كما أنها تدل على أن ولايتهم موجبة لسخط اللّه تعالى وعذاب الآخرة، فإن بئس الزاد ما يسخط اللّه كما أن نعم الزاد التقوى.

وقوله: {قَدَّمَتْ لَهُمْ} أي قدّمت إلى الآخرة؛ لأن أعمال الإنسان تسبقه إلى الآخرة إمّا بتجسّمها أو بكتابتها، قال تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا}(2)، وإما هو كناية؛ لأن الجزاء يتبع العمل فكأن الجزاء هو العمل من باب تسمية الشيء باسم سببه، وإمّا هو مجاز عن الفعل؛ لأن أفعال الإنسان المادية عادة تكون بيده فتقع قُدّامه.

وقوله: {أَنفُسُهُمْ} دلالة على أن أعمالهم كانت بالهوى والشهوات فالنفس هي التي قدّمت تلك الأعمال لا العقل والدين، وأما لو كانت

ص: 282


1- سورة النساء، الآية: 51-52.
2- سورة الكهف، الآية: 49.

الأعمال صالحة فالإنسان هو الذي يقدمها فتنتفع بها النفس قال سبحانه:{وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ}(1) فتارة الإنسان يقدم لنفسه الصالحات، وتارة النفس تقدم للإنسان العذاب.

وقوله: {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} هذا هو المخصوص بالذم كما يقال: (بئس الرجل فلانٌ) ففلان هو المخصوص بالذم، فالمعنى بئس المقدَّمُ سخطُ اللّه، أي العمل الموجب لسخطه، و(السخط) الغضب الشديد المقتضي للعقوبة(2).

وقوله: {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَٰلِدُونَ} سخط اللّه عذابه فهذا المقطع إمّا تأكيد، أو أن السخط إثبات لأصل شدة العذاب، وهذا المقطع إثبات لعدم انقطاعه، أو يقال: إن السخط وإن كان عذاباً - لأن معناه الحقيقي يستلزم التغيّر والكيف النفساني وكلاهما مستحيل على اللّه تعالى - إلاّ أنه عذاب يختلف عن سائر العذابات، فهو عدم لطف اللّه بهم وعدم النظر إليهم ونسيانهم كما قال: {إِنَّا نَسِينَٰكُمْ}(3)، كما أن رضوانه للمؤمنين وإن كان ثواباً أيضاً إلاّ أنه ثواب أعظم من الجنة ونعيمها كما قال: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}(4)، وذلك بلطفه ونظره وعدم خذلانه إياهم، واللّه العالم.

السادس: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُواْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ...} الآية.

ص: 283


1- سورة المزمّل، الآية: 20.
2- مفردات الراغب: 402.
3- سورة السجدة، الآية: 14.
4- سورة التوبة، الآية: 72.

الظاهر أن المراد بالنبي هنا موسى (عليه السلام) ، وبما أنزل إليه التوراة؛ لأن الكلاممع أهل الكتاب من بني إسرائيل، فيقال: إن هؤلاء إن كان إيمانهم إيماناً صادقاً - وهو يقتضي العمل به حتى لو خالف الأهواء والمصالح فيصدّق العملُ اللسانَ - لم يكونوا يتخذون الكافرين أولياء.

ويحتمل أن يراد بالنبي رسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وبما أنزل إليه القرآن، فيكون بياناً لشدة خسارتهم، حيث كفروا برسول اللّه محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وبالقرآن، فاستبدلوا الباطل بالحق، وأذلوا أنفسهم بحيث تصاغروا أمام المشركين الذين هم أبعد ما يكون عنهم لئلا يوالوا رسول اللّه وكتابه المنزل الذي يصدّق بكتابهم وأنبيائهم، لكن البغي والحسد أدّى بهم إلى الخروج عن طاعة اللّه سبحانه وتعالى.

وفي الآية دلالة على أن اتخاد الكافرين أولياء فسق وعدم إيمان باللّه وبالنبي وبالكتاب المنزل.

ص: 284

الآيات 82-86

اشارة

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ 82 وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ 83وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّٰلِحِينَ 84 فَأَثَٰبَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ 85 وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ 86}

82- ثم بعد نهي اللّه عن تولّي الكفار يبين حالهم مع المسلمين فقال: {لَتَجِدَنَّ} يا رسول اللّه {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي للمسلمين {الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أما اليهود فلعنصريتهم، وأما المشركون فلجهلهم وغلظتهم {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً} أي إظهاراً للحب القلبي {لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ ذَٰلِكَ} أي أقربية المودة {بِأَنَّ} بسبب أن {مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} علماء {وَرُهْبَانًا} زهاد عبّاد {وَأَنَّهُمْ} أن النصارى {لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عن اتباع الحق لو عرفوه، والمقصود بيان أن طبيعتهم عدم الاستكبار وهذا لا ينافي وجود معاندين ومستكبرين فيهم.

ص: 285

83- {وَ} من صفاتهم رقة قلوبهم ف-{إِذَا سَمِعُواْ} هؤلاء النصارى {مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} بأن قُرئ عليهم القرآن وخاصة ما يتعلق بعيسىومريم‘ {تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ} تسيل من شدة الامتلاء {مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ} أي بسبب الذي عرفوه {مِنَ الْحَقِّ} حال كونهم {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا} بالحق {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ} بتسجيل أسمائنا معهم وحشرنا معهم، والشاهدون هم المسلمون الذين شهدوا بأن الإسلام والرسول حق.

84- {وَ} من صفاتهم رغبتهم في أن يكونوا في زمرة الصالحين فيقولون: {مَا لَنَا} بمعنى أيّ عذر لنا بأن {لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} الإسلام ورسالة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَ} الحال أنا {نَطْمَعُ} والطمع الرغبة الشديدة في الشيء {أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّٰلِحِينَ} في الجنة والرضوان.

85- ولمّا كانوا صادقين فيما قالوا حيث صدقت نياتهم وأعمالهم {فَأَثَٰبَهُمُ اللَّهُ} جزاهم {بِمَا قَالُواْ} بسبب قولهم {جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ} الثواب {جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا قلباً وقولاً وعملاً.

86- {وَ} لكن ليس كلهم كذلك ف-{الَّذِينَ كَفَرُواْ} باللّه {وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا ومنها الرسل {أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ} النار الشديدة الاتّقاد.

بحوث

الأول: في ختام آيات الولاية، بعد أن نهى اللّه المسلمين عن ولاية

ص: 286

الكفار والمنافقين وذكر سبب ذلك مع بيان جملة من عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الباطلة، بعد ذلك يبيّن حالة اليهود والمشركين والنصارى مع المسلمين، مع بيان الفرق بين اليهود والمشركين من جهة والنصارى منجهة أخرى.

فأما اليهود والمشركون فهم أشد الناس عداوةً للمؤمنين في قلوبهم مع إظهارها في أعمالهم.

وأما النصارى فلهم محبة ويظهرونها للمسلمين، ثم يذكر اللّه تعالى سبب مبحتهم لهم، ولعلّ الغرض من هذه الآيات حثّ المسلمين على الاتصاف بهذه الصفات؛ لأنها المنجية كما نجّت هؤلاء النصارى حيث آمنوا إيماناً صادقاً، هذا أولاً، وثانياً: حثّهم على السعي لهداية النصارى - من غير أن يتخذوهم أولياء قبل إيمانهم - بأن يعرّفوهم الحق ويتلوا عليهم آيات اللّه تعالى.

كما أن الآيات لما ذكرت تولى اليهود للكفار ذكرت في المقابل عداوتهم للمؤمنين.

سبب شدة عداوة اليهود والمشركين للمسلمين

الثاني: قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ}.

أما اليهود: فبسبب عنصريتهم، حيث إنهم حصروا الدين بقومية بني إسرائيل ويرفضون دخول الآخرين في دينهم، حيث يزعمون أنهم شعب اللّه المختار وأن دين اللّه خاص بهم، ومن كان هكذا دأبه أشتد تمسكه بباطله فلذا يعادي غير قوميّته، وإن رأى فيهم تقدّماً وفضلاً من اللّه تعالى

ص: 287

حسدهم، وإذا علم بأنهم على حق حقد عليهم؛ لأنه يريد الحق لنفسه خالصاً دون غيره، وهذه العنصرية قادتهم إلى معاداة جميع الأقوام والمجتمعات، لكن عداءهم للإسلام والمسلمين أشد؛ لأن اللّه اختار نبيّهممن غير بني إسرائيل ولفشل مؤامراتهم ضد الإسلام والنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وخسارتهم في حروبهم مع المسلمين، يضاف إلى ذلك طبيعتهم الخشنة التي ورثوها عن أسلافهم فأورثتهم شدة عدم الانقياد وتضاعف الكفر والانهماك في اتّباع الهوى واستمرارهم على قتل الأنبياء وتكذيبهم ومعاداتهم.

وأما المشركون: فلشدة جهلهم وجفائهم وغلظتهم واستمكان الحسد والحقد في قلوبهم وشدة تكبرهم واستكبارهم وانغماسهم في الشهوات وشدة اتباعهم لطريقة آبائهم وقبولها في حق أو باطل.

ولعل سبب عدم ذكر أوصافهم هو أنها تُعلم من المقابلة مع النصارى، فالنصارى أقرب مودة لوجود الأوصاف المذكورة فيهم، وأما اليهود والمشركون فهم أشد عداوة لعدم وجود تلك الأوصاف، بل وجود أضدادها فيهم.

وقوله: {عَدَٰوَةً} المراد العداوة القلبية التي تظهر في العمل ولذا قيل: «إن العداوة هي إرادة السوء لما تعاديه»(1).

وقيل: إن في تقديم اليهود على الذين أشركوا إشعاراً بأن معاداة اليهود أشد من المشركين.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا

ص: 288


1- مجمع الفروق اللغوية: 352.

نَصَٰرَىٰ...} الآية.

سبب أقربية مودة النصارى للمسلمين

و(المودة) هي المحبة القلبية التي تظهر على الجوارح، قال سبحانه:{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}(1)، ولعل سبب ذلك هو أن دينهم ليس عنصرياً فيتكوّن من خليط من الأقوام، كما أن المحبة من تعاليم السيد المسيح (عليه السلام) والتي لم يطلها التحريف، مما أورثهم عدم الاستكبار ورقة القلب والرغبة في الصلاح والصالحين، وقد ذكرت هذه الآية والآيات التي بعدها مجموعة هذه الصفات، ونجمعها في أربعة أمور:

1- وجود علماء وعبّاد زهاد فيهم.

2- عدم استكبارهم.

3- رقة قلوبهم بحيث لو عرفوا الحق بكوا شوقاً إليه.

4- شدة رغبتم في أن يكونوا مع الصالحين وأن يحشروا في زمرتهم.

وقوله: {أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً} هذا يقابل قوله: {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَٰوَةً} يعني لو قايسنا بين الناس لوجدنا الأشد عداوة اليهود والأقرب مودة النصارى، فتكون الأقربيّة نسبيّة، وفيه إشعار بأن مودتهم ليست تامة، لكن هذا المقدار منها يسوقهم إلى قبول الحق إن عرفوه.

وقوله: {قَالُواْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ} قيل: إن (نصارى) من النُصرة قال سبحانه: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}(2)، فالمعنى هو أنهم يقولون: إنهم نصارى! ولكن ليس

ص: 289


1- سورة الحديد، الآية: 27.
2- سورة الصف، الآية: 14.

كذلك لأنهم ليسوا أنصاراً لعيسى (عليه السلام) حيث إن دينهم محرّف.

وقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} الصفة الأولى من صفاتهمالتي جعلتهم أقرب الناس مودة للمؤمنين هي وجود علماء وعباد زهاد فيهم، والقوم الذين فيهم علماء وعباد يكونون أقرب إلى الحق وقبوله؛ لأن العلم يكشف الواقع، والعبادة والزهد تجنب الإنسان عن حب الدنيا وزخرفها، وبذلك يُقرّب الناس إلى الحق وقبوله، وأما اليهود فلم يكن فيهم العبّاد الزهاد، وأما علماؤهم فإن عنصريتهم وحبهم للدنيا جعل علمهم غير نافع، بل أضرّهم لأنه صار مطيتهم إلى الدنيا فحرفوا الكتاب وأكلوا السحت وارتكبوا الموبقات الأخرى.

والقس وجمعه قسيسون وقساوسة بمعنى عالم النصارى، وهي كلمة معرّبة، وإن حاول البعض جعلها من أصل عربي من قَسّ الشيء إذا تتبّعه بالليل أو بمعنى نشر العلم!

والراهب وجمعه رهبان، كلمة عربية من الرهبة، وهي بمعنى الخوف مع تحرز واضطراب(1)، ويلازم التحرز والاضطراب استمرار الخوف عادة ولذا فسرت الرهبة بطول الخوف واستمراره(2)، قال سبحانه: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}(3)، وقد شرّع اللّه لهم الرهبانية لكنهم حروفها قال سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَٰهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَٰنِ اللَّهِ فَمَا

ص: 290


1- راجع مفردات الراغب: 366.
2- معجم الفروق اللغوية: 261.
3- سورة الأعراف، الآية: 154.

رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}(1).

وقوله: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عطف على قوله: {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ...} أي أن النصارى لا يستكبرون، والاستكبار هو طلب الكبر والعلو على الحق وذلك لا يكون إلا بإنكار الحق وجحده، فالمعنى أنهم لو عرفوا الحق اتّبعوه، وعليه فيخرج من هذه الآية من لم يكن من النصارى كذلك.

وفي التقريب: «إن اليهود طبيعتهم العامة العناد والاستكبار والعداوة، وإن النصارى ليسوا بتلك المثابة، إذ فيهم بعض المنصفين من العلماء، وما أصدق قوله سبحانه فإننا نرى ذلك إلى اليوم، فقد نجد كثيراً من المسيحيين يسلمون ولا نجد إلاّ الشاذ النادر من اليهود يسلمون»(2).

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ...} الآية.

هذه صفة ثالثة للذين قالوا: إنّا نصارى وهي رقة القلب، عكس اليهود الذين أصيبوا بقسوة القلب لسوء أعمالهم قال سبحانه: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}(3).

وقوله: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} الفيضان هو امتلاء الإناء ونحوه بالماء وسيلانه، والعين قد تغرورقت بالدمع من غير جريانه على الخد، وقد تفيض

ص: 291


1- سورة الحديد، الآية: 27.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 678.
3- سورة البقرة، الآية: 74.

لزيادة الدمع فيسيل على الخد، وذلك يكون عادة حين شدة التأثر.

وقوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} أي البكاء بسبب معرفتهم الحق، فهوبكاء شوق، ولا يكون البكاء شوقاً إلاّ بعد أن يريد الإنسان الشيء فلا يجده إلاّ بصعوبة أو بعد حين، وفي ذلك دلالة على كونهم طلّاب حق.

وقوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا} هذا نتيجة رقة قلبهم، فإنهم لمّا عرفوا الحق اتبعوه عكس قساة القلب حيث {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَٰفِرُونَ}(1) وقال: {فَوَيْلٌ لِّلْقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ}(2).

وقوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ} بمعنى قبول إيمانهم، إذ لا ينفع عمل إلا بقبول اللّه تعالى، ومقصودهم أن إيمانهم صادق، لذلك يأملون بقبول اللّه تعالى له، والكتابة إمّا بمعناها الحقيقي بتسجيل أسامي المؤمنين في سجل مخصوص، أو بمعناها المجازي بمعنى حسابهم في زمرة المؤمنين، والشهادة بمعنى شهادتهم على كون الإسلام حق وأن محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) رسول اللّه، قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ كِتَٰبَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}(3).

ثم إن الشهادة إنشاء، والغرض منها تارة إبراز ما في الضمير، كما يقول القائل: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وتارة إثبات شيء بصالح أو ضد شخص آخر وهي شهادة الأداء، والظاهر أن شهادتهم من قبيل الأول، وأما الشهادة بالمعنى الثاني فهي في يوم القيامة خاصة بالأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كما مرّ في

ص: 292


1- سورة النحل، الآية: 83.
2- سورة الزمر، الآية: 22.
3- سورة المطففين، الآية: 18.

قوله تعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(1).

وفي شأن نزول هذه الآيات عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أولئك كانوا قوماً بين عيسى ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ينتظرون مجيء محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) »(2)، وفي تفسير القمي أنها نزلت في ثلاثين قسيساً بعثهم النجاشي فلمّا وافوا المدينة دعاهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ} إلى قوله: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(3)، فلما سمعوا ذلك من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بكوا وآمنوا، ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقرأوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي وبكى القسيسون، وأسلم النجاشي(4)، ولا منافاة بين شأني النزول، فالنجاشي وقساوسته كانوا في آخر الفترة بين عيسى (عليه السلام) وبين الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد أدركوا الرسول، ولا يخفى أن كلام الإمام الصادق (عليه السلام) يقصد به أن الآية خاصة بالنصارى الذين اتصفوا بهذه الصفات ولا يشمل النصارى المعاندين، كما يظهر من صدر الحديث حيث ذكر بعض أصحابه النصارى وعداوتهم فأجابه الإمام بهذا الجواب.

الخامس: قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ...} الآية.

ص: 293


1- سورة البقرة، الآية: 143.
2- تفسير العياشي 1: 335.
3- سورة المائدة، الآية: 110.
4- تفسير القمي 1: 176؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 460-461.

بيان لصفة رابعة من صفات النصارى الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا وهي رغبتهم في أن يكونوا صالحين ليحشروا معهم، فإن الإنسان إذا أحب قوماً أو أحب صفات قوم فإنه يحاول أن يلتحق بهم وأن يتحلّى بصفاتهم،فإن الإنسان إذا رغب في شيء حاول الوصول إليه فكيف إذا طمع في الشيء، ولذا أكثر مهالك الناس الطمع في الدنيا وزخرفها، وأكثر نجاتهم بقطع الطمع عنها، فإن الأمور القبيحة إنما يرتكبها الإنسان لرغبة وشهوة، فإذا لم يرغب فيها لم يرتكبها، وأكثر الأمور الحسنة يتركها لعزوف نفسه عنها، فإذا طمع فيها قام بها أحسن قيام.

وقوله: {وَمَا لَنَا} استفهام إنكاري وبيان أنه لا عذر لهم لو تركوا الإيمان مع طمعهم في أن يكونوا مع الصالحين وهم يعلمون أن الإيمان طريق إلى ذلك.

وقوله: {مِنَ الْحَقِّ} بيان ل-(ما) في قوله: {وَمَا جَاءَنَا}.

وقوله: {وَنَطْمَعُ} حال أي والحال أنا نطمع، وحاصل المعنى أنه لا يجتمع عدم الإيمان مع الطمع في الحشر في زمرة الصالحين، فمن لا يؤمن يكشف ذلك عن عدم طمعه بذلك، ومن طمع فيه يؤمن حتماً.

وقوله: {يُدْخِلَنَا} في الدنيا بأن نكون على طريقتهم وفي الآخرة بأن نحشر معهم.

السادس: قوله تعالى: {فَأَثَٰبَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ...} الآية.

أي كلامهم كان صدقاً فقد صدّقه قلبهم بعدم الاستكبار وبمعرفة الحق،

ص: 294

وصدّقته جوارحهم بالبكاء، فكان قولهم قد انطلق من عقيدة وإخلاص، كما أن طمعهم بأن يكونوا مع القوم الصالحين يلازمه عادة الطاعة وترك المعصية، فقد اجتمعت فيهم أركان الإيمان وشرائطه فلذلك استحقوا الثواب بفضل اللّه تعالى.

فقوله: {بِمَا قَالُواْ} قولاً صادقاً لا كقول المنافقين الذين يكذّب عملُهم قولَهم.

وقوله: {الْمُحْسِنِينَ} الإحسان هو إيصال النفع الحسن بشرط كونه خالياً عن وجوه القبح كذا قيل.

السابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا أُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ الْجَحِيمِ}.

المتعارف في القرآن أنه كلّما ذكر الجنة يذكر النار، وكذا العكس ليكون هنالك توازن بين الخوف والرجاء، كي لا يأمن الإنسان من مكر اللّه تعالى حينما يرى آيات الثواب، وكي لا يقنط من رحمة اللّه حينما يرى آيات العذاب.

ثم إن الجمع بين الكفر والتكذيب بآيات اللّه مع أن أحدهما يلازم الآخر عادة، لعلّه لأجل المقابلة مع الإيمان باللّه وبما جاء من الحق المذكورة في صفات المؤمنين، كما أن كونهم أصحاب الجحيم يقابل الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.

وقوله: {الْجَحِيمِ} من الجحمة وهي النار الشديدة الإيقاد.

ص: 295

الآيات 87-89

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ 87 وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ 88 لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَٰنَ فَكَفَّٰرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَٰنَكُمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 89}

87- ثم يذكر اللّه جملة من مواثيقه في الفروع وأكثرها في المأكولات وما يرتبط بها فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ} على أنفسكم بالامتناع عن {طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} والإضافة بيانية، أي طيباتٍ أحلّها اللّه لكم، وفيه إشعار بعلة النهي فمادام اللّه أحلها فلا معنى للامتناع عنها، {وَلَا تَعْتَدُواْ} حدود اللّه سبحانه فتحرموا الحلال، أو تعتدوا من الحلال إلى الحرام، بل اقتصروا على الحلال {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الذين يتجاوزون حدوده.

88- {وَ} حيث علمتم أنه لا ينبغي الامتناع عن الطيبات ف-{كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} حال كونه {حَلَٰلًا} أي مباحاً {طَيِّبًا} لا خبث فيه،

ص: 296

{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في أوامره ونواهيه فلا ترتكبوا الحرام الخبيث ولا تمتنعوا عن الحلال الطيب، {الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن إيمانكم به يقتضي إطاعتكم إياه في كل شيء ومن جملته في المأكولات.

89- ومن مواثيقه تعالى الوفاء باليمين المعتبرة، وعدم فائدة اللغو من اليمين، فمن حلف على ترك طعام حلفاً لغواً ليس على شيء. فقال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ} بالعقاب والكفارة {بِاللَّغْوِ} وهو ما جرى على اللسان ولم يكن فيه قصد جدّي {فِي أَيْمَٰنِكُمْ} جمع يمين بمعنى القَسم والحلف، {وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم} بالعقاب والكفارة {بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَٰنَ} أي قصدتم قصداً جدياً ثم حنثتم، {فَكَفَّٰرَتُهُ} التي تكفِّر الذنب بمعنى تستره وتمحوه {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ} فقراء {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي طعاماً وسطاً في الكيفية والكميّة وهو مدّ - ثلاثة أرباع الكيلو - من الحنطة، {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أي إكساؤهم بثوب كامل، {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٖ} عتقها سواء كان عبداً أم أمة، صغيراً أم كبيراً، {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أحد هذه الثلاثة لفقره {فَ-} كفارته {صِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ ذَٰلِكَ} الذي ذكر من الثلاثة ثم الصيام {كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} ثم حنثتم الحلف، {وَاحْفَظُواْ أَيْمَٰنَكُمْ} أي الالتزام بها واجب، وإنما الكفارة عقوبة للتكفير فلا يظن أحد بأنه يجوز مخالفة اليمين مع دفع الكفارة، بل لا يجوز مخالفته، فإن عصى بالمخالفة وجبت عليه الكفارة عقوبةً، {كَذَٰلِكَ} كما بيّن لكم حكم اليمين وكفارته {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ} تشريعية وتكوينية يوضّحها لكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هدايته وإرشاده لكم.

ص: 297

بحوث

الأول: سياق هذه الآيات أنه بعد أن انتهت آيات الولاية، تبدأ آيات أخرى (87-105) في مواثيقه في المأكل والمشرب، وفيه رجوع إلى ما بدأت به السورة المباركة وتكميل لتلك الآيات، فمن مواثيقه قد أحل اللّهتعالى الطيبات وأباح الانتفاع بها، فلا معنى لتحريمها على النفس بالامتناع عنها، كما أن الإنسان قد يحلف على ترك طعام أو شراب فإن كان اليمين من غير قصد، بل جرى على اللسان جرياً فهو لغو وباطل ولا يترتب عليه شيء، ولكن لو كان مع قصد جديّ فلا بد من الالتزام به بشروطه - وسيأتي بعضها - ولا يحق للإنسان مخالفة اليمين فإنه عصيان، فلو خالف لزمته الكفارة.

كما أنه لمّا تمّ ذكر الرهبان وهم يمتنعون عادة عن النكاح وعن طيبات الطعام لذلك أرشد اللّه المؤمنين إلى عدم صحة أسلوبهم هذا، وأن مدحهم لأجل إيمانهم وعدم استكبارهم لا يعني صحة عملهم بالترهّب.

النهي عن تحريم الطيبات

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ...} الآية.

(الحرام): هو الممنوع سواء تكويناً أم تشريعاً، والتحريم هو منع الغير أو النفس، و(الحَلّ) هو الفتح(1)، ومنه حلّ العقدة أي فكّها، ومنه الحلال بمعنى عدم المنع عنه.

وتحريم ما أحلّ اللّه قد يكون بتشريع بدعة باعتبار الحلال حراماً، أو

ص: 298


1- مجمع البحرين 5: 353.

الإفتاء بذلك خلافاً لما أنزله اللّه، وهما من أشدّ المحرمات؛ لأن ذلك افتراء عليه تعالى، وقد يكون بالامتناع عن الشيء وهذا تارة يكون لسبب طبعي كمن لا يأكل نوع خاص من الطعام؛ لأنه لا يحبه ولا يعجبه طعمه فهذا ليس تحريماً للشيء وإنما ترك له ولا مانع منه، وتارة يكون لسبب دينيكأن يريد التزهد عن الدنيا كمن يترك الزواج وأكل الطيبات زهداً! وهذا مذموم شرعاً؛ لأن اللّه يحب أن يأخذ الناس برُخَصه كما أحب أن يأخذوا بعزائمه، بل إنه تعالى خلق هذه الطيبات للمؤمنين قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَٰتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(1)، نعم قد تكون هناك حالات استثنائية يحبذ فيها ترك بعض هذه الأمور لعنوان ثانوي، كما لو كان حاكماً لا بد له من أن يساوي نفسه مع أضعف الناس، أو أن التمتع ببعض الطيبات يمنعه عن الأهم كالجهاد في سبيل اللّه تعالى، وقد مرّ أن الزهد إنما هو بمعنى عدم تعلّق القلب بالدنيا لا عدم الانتفاع بها وخاصة مع جعلها قنطرة للآخرة.

والمراد في هذه الآية حسب الظاهر هو الامتناع عن الطيبات لا التشريع المحرّم، كما تؤيده الروايات الواردة في شأن نزول الآية، فيكون نظير قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ}(2).

وقوله: {طَيِّبَٰتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الإضافة بيانية أي الطيبات التي

ص: 299


1- سورة الأعراف، الآية: 32.
2- سورة التحريم، الآية: 1.

أحلّها اللّه لكم، أو المراد معناها اللغوي أي المستلذات المحلّلة، إذ الحلال قد يكون لذيداً وقد لا يكون لذيداً، فالامتناع عن غير اللذيذ لأجل عدم رغبة النفس إليه لا بأس به، إلاّ أنه لا يحبذ الامتناع عن اللذيذ الذي ترغب النفس فيه وهو حلال من غير محذور.

وقوله: {وَلَا تَعْتَدُواْ} أي لا تتجاوزوا حدود اللّه تعالى، فإن الإنسان أحياناً يمتنع عن الحلال ويؤدي ذلك إلى الوقوع في الحرام، كالذي امتنع عن مباشرة أهله وهذا قد يؤدي به إلى عدم العشرة بالمعروف معها وعدم أداء حقوقها، وكأنَّ في الآية إشعاراً بأن تحريم الحلال الطيب قد يؤدي بالإنسان إلى ارتكاب المحرمات، كما يكثر ذلك في الكنائس حيث يمتنع الرهبان والراهبات عن الزواج فيقعون في العلاقات غير الشرعية، فإن اللّه تعالى جعل في الإنسان رغبات لمصلحة النوع ثم جعل طرقاً لتلبية تلك الرغبات، فقمع الرغبات وعدم سلوك طرقها المشروعة تؤدي بالإنسان أحياناً إلى الوقوع في حبائل الشيطان والوقوع في الطرق غير المشروعة والعياذ باللّه، فمثلاً قد ورد في الحديث: «من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق اللّه في النصف الباقي»(1)، لأن الغريزة الجنسية من أقوى غرائز الإنسان وهي من أهم مداخل الشيطان، فإذا تزوج فقد أشبعها بالحلال فيُغلق على نفسه باب الحرام ويقطع حبالة الشيطان.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} عدم حبه بمعنى كرهه وبغضه والذي هو بمعنى عقابه كما مرّ مراراً.

ص: 300


1- الأمالي للشيخ الطوسي: 518.

الثالث: قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}.

لمّا بيّن اللّه في الآية السابقة الكبرى العامة، ذكر في هذه الآية صغراها في الأكل، فما دام قد نهى عن تحريم الطيبات طبّق ذلك على الأكل، أو أنالآية السابقة نهت عن الامتناع وهذه الآية حثَّت على الأكل تأكيداً.

وقوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ} مفعول، وقوله: {حَلَٰلًا طَيِّبًا} حال، فالمعنى كلوا رزق اللّه حال كونه حلالاً طيباً، وقد مرّ أن اللّه لا يرزق إلاّ الحلال وإنما الإنسان قد يحوّله إلى حرام كما قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا}(1)، كأن يبدّل عنبه خمراً فيشربه، أو يباشر زوجته في حال المحيض ونحو ذلك.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في تبديل ذلك الرزق الحلال الطيب إلى حرام، أو اتقوا اللّه في أكل الحرام وقد رزقكم اللّه الحلال الطيب.

وقوله: {الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} هو استدعاء للتقوى بألطف الوجوه كما قيل، وكأنه يقول مادامكم آمنتم باللّه فعليكم بتقواه، وفيه إشعار بعدم إيمان من لم يتق اللّه.

الرابع: قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم...} الآية.

كأنّ وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها هو أن البعض قد يحلف بترك

ص: 301


1- سورة إبراهيم، الآية: 28.

الطيبات فيقال له: إن حلفك إن كان من دون قصد فهو لغو، وإن كان مع قصد فلا بد لك من الالتزام به - بشروطه - وعليك أن تحفظ يمينك فلا تحنثها، وأن من يحنث فهو عاص وعليه الكفارة، وهذا نظير ما مرّ في آيات الإيلاء حيث قال: {لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَاكَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٖ...} الآيات(1).

فتبيّن أن الآية في مقام بيان عدم اعتبار الحلف من غير قصد، وأن الحلف مع القصد ينعقد ويجب على الإنسان حفظه، ثم بينت السنة أن متعلّق الحلف إن كان حراماً أو مكروهاً أو مرجوحاً فالحلف لا ينعقد ولا كفارة عليه كمن يحلف بشرب الخمر وبترك صلاة الليل، وإنما ينعقد الحلف إذا كان متعلقه راجحاً أو متساوي الطرفين، وليست الآية في مقام جواز الحنث مع دفع الكفارة، بل ظاهر قوله: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَٰنَكُمْ} هو عدم جواز الحنث مع انعقاد اليمين.

وقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ} لا بالعقاب ولا بالكفارة، فإن هذا النوع من الحلف الذي يجري على اللسان من غير قصد وإن كان فيه المنقصة كما قال: {وَلَا تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَٰنِكُمْ}(2)، إلاّ أنه ليس بحرام، لكن ينبغي للإنسان أن يجلّ اسم اللّه تعالى عن ذلك، وهذا من اللّه امتنان على عبيده برفع آثار الحلف - من الكفارة والعقاب - حينئذٍ.

ص: 302


1- سورة البقرة، الآية: 225-226.
2- سورة البقرة، الآية: 224.

وقوله: {اللَّغْوِ} هو الكلام الهذر الذي لا فائدة فيه، والمقصود هنا هو عدم قصده بالإرادة الجدية، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «اللغو: قول الرجل: لا واللّه، وبلى واللّه، ولا يعقد على شيء»(1).

وقوله: {وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم} أي إن حنثتم، وإلاّ فلو وفى بالقسم والتزم به فلا مؤاخذة عليه، وهذا خاص بالحلف الذي أجازه اللّه تعالى.

وقوله: {عَقَّدتُّمُ} أي قصدتم، وإنما استعمل باب التفعيل للدلالة على المبالغة لغرض بيان أهمية ذلك العمل، فإن المبالغة في الفعل قد تكون للتكثير وقد تكون للتشنيع وقد تكون لبيان الأهمية، فالأول كقوله: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ}(2)، والثاني كقوله: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَٰبَ}(3)، والثالث كهذه الآية.

كفارة حنث اليمين

الخامس: قوله تعالى: {فَكَفَّٰرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ...} الآية.

أي فإن حنثتم فعليكم الكفارة، وقد خيرّهم اللّه بين ثلاثة أمور مالية فإن عجزوا لفقرهم فعليهم الصيام ثلاثة أيام.

وقوله: {فَكَفَّٰرَتُهُ} وهي التي تكفِّر الذنب بمعنى تستره، وقد مرّ سابقاً أن الأصل هو عدم اجتماع عقوبتي الدنيا والآخرة إلاّ فيما استثني وفي الحديث: «فاللّه أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين»(4)، فإن دفع الكفارة غفر اللّه له

ص: 303


1- الكافي 7: 443.
2- سورة الأعراف، الآية: 141.
3- سورة يوسف، الآية: 23.
4- الكافي 2: 443.

إن شاء، وإلاّ فقد ضاعف ذنبه بالحنث أولاً وبعدم دفع الكفارة ثانياً.

وقوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ} وهو مخير بين أن يدعوهم إلى مأدبه فيأكلوا حتى يشبعوا أو أن يعطيهم الطعام فلا بد حينئذٍ من إعطاء كل واحد مداً من الطعام.

وقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي طعاماً وسطاً في الكيفية والكميّة، فأما في الكيفية: فلا يجب أجوده ولا يجوز أدناه، بل المتوسط منه، وأما في الكميّة فبمقدار أكل متعارف الناس لا الأكول ولا القليل الأكل، وقد بيّنت الروايات كفاية المدّ - وهو ثلاثة أرباع الكيلو - من الحنطة، فإن المدّ هو الأوسط كمّاً، والحنطة هي الأوسط كيفاً، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إنه يكون في البيت من يأكل أكثر من المدّ، ومنهم من يأكل أقل من المدّ، فبين ذلك، وإن شئت جعلت لهم أ ُدماً، والأُدم أدناه الملح، وأوسطه الخل، وأرفعه اللحم»(1)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «كفارته إطعام عشره مساكين مداً مداً(2)، من دقيق أو حنطة...»(3).

وقوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أي إكساؤهم والظاهر لزوم كونه ثوباً كاملاً ولا فرق بين كونه من قطعتين كالمأزر والقميص، أو من قطعة واحدة كالثوب الذي يستر جميع البدن مثل الدشداشة. و{أَوْ} هنا للتخيير، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أن {أَوْ} في القرآن للتخيير(4).

ص: 304


1- الكافي 7: 453.
2- أي لكل واحد منهم مدّ.
3- الكافي 7: 453.
4- الكافي 4: 358؛ مجمع البحرين 1: 38.

وقوله: {ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} لعل سبب المجيء بهذا المقطع - مع أنه قد ذكره في أول الآية بقوله: {فَكَفَّٰرَتُهُ} - هو أن اليمين قد تكون من غير حلف، وذلك بأن يتعاهد جمع ويتصافقون من غير حلف باللّه، ونقض هذا وإن كان قبيحاً إلاّ أنه لا كفارة فيه، وإنما الكفارة فيما لو حلف باللّهتعالى، وفي المعجم: «واليمين اسم مستعار للقسم وذلك أنهم كانوا إذا تقاسموا على شيء تصافقوا بأيمانهم، ثم كثر ذلك حتى صار القسم يميناً»(1)، أو أن الكفارة إنما هي فيما لو كان متعلق اليمين معلوماً غير مردد، أما لو كان مهبماً أو مردداً فلا يتحقق الحنث عادة، فيكون الحلف بمعنى القطع كما عن بعض اللغويين(2)، فتأمل، أو أنه لما قال: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ} أراد من لم يجد الإطعام والإكساء والعتق، ولم يكن المراد الذي عجز عن الوفاء بيمينه، فلدفع هذا التوهم قال: {ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} واللّه العالم.

وقوله: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَٰنَكُمْ} أي إنّ تشريع الكفارة ليس لأجل إباحة مخالفة اليمين، كما قد يتوهمه البعض بأنه كل من أراد حلّ يمينه دفع الكفارة! بل يجب الوفاء بالأيمان والالتزام بها، فإن خالف فقد عصى ويؤاخذه اللّه بالكفارة.

وقوله: {ءَايَٰتِهِ} يدل على أن تشريعات اللّه من آياته، كما أن خلق السموات والأرض آياته التكوينية؛ لأن كلاً من التشريع والتكوين يدلّ على

ص: 305


1- معجم الفروق اللغوية: 429.
2- المصدر نفسه.

خالق عالم حكيم.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لأن الإنسان لما يرى الآيات ويتفكر فيها تدله على صانع قادر حكيم لطيف بعباده حيث غمرهم بالنعم - تكوينية وتشريعية ببيانه الأحكام - وذلك يستوجب شكراً من العبيد له، وبشكرهم يستحقونالرحمة الخاصة بفضل من اللّه تعالى.

ص: 306

الآيات 90-93

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَٰنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 90 إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ 91 وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ 92 لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 93}

90- بعد أن أباح اللّه الطيبات نهى عن الخبائث فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ} وه-و ك-ل م-ا أسكر من الشراب {وَالْمَيْسِرُ} وهو القمار {وَالْأَنصَابُ} وهي الأصنام المنصوبة التي كان يُذبح لها أو تُلطخ بدماء الذبائح {وَالْأَزْلَٰمُ} وهي سهام القمار {رِجْسٌ} قذر وخبيث {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَٰنِ} أي العمل الذي يأمر به الشيطان بل هو أول من صنعها ليضلّ الناس بها {فَاجْتَنِبُوهُ} أي ابتعدوا عنها، ومرجع الضمير الرجس أو كل واحد من المذكورات {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تنالون خير الدنيا والآخرة.

91- ثم أكد النهي بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ} بوسوسته {أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ} عملاً {وَالْبَغْضَاءَ} قلباً {فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي بسببهما؛

ص: 307

لأنهما منبع الشرور، {وَيَصُدَّكُمْ} يمنعكم {عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوٰةِ} لأنهما يوجبان الغفلة عن الذكر والصلاة أما الخمر فلزوال العقلوأما الميسر فلشدّة الانشغال، {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} تطيعون النهي أو تاركون لهما؟ وهذا نهي شديد بصيغة الاستفهام، أي فأيّ عذر بقي لكم في ارتكابهما بعد هذا البيان الواضح الشديد!

92- {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} في التكاليف التي منها حرمة الخمر والميسر {وَاحْذَرُواْ} عقاب اللّه لو خالفتم، {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن طاعتهما بأن اقترفتم النواهي {فَاعْلَمُواْ} أن الحجة تامة عليكم واستحققتم بذلك العقوبة إذ الرسول قد بلّغ و{أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ} الواضح، فلا تضره مخالفتكم بل تضرّكم.

93- وأمّا الذين شربوا الخمر قبل إسلامهم أو قبل إعلان تحريمها ف-{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ} إثم ومؤاخذة {فِيمَا طَعِمُواْ} أي أكلوا أموال الميسر وشربوا الخمر قبل إسلامهم أو قبل إعلان تحريمهما {إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} أي إذا أسلموا وأطاعوا اللّه في أوامره ونواهيه، {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ} بأن استمروا على ترك المحرمات وعلى الإيمان، {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} بأن استمروا على ترك المحرمات وعمل الصالحات {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا إلى أنفسهم، كرر الاتقاء ثلاث مرات، الأولى: في أصل إسلامهم، والثانية: الاستمرار فيه مع الإيمان، والثالثة: الاستمرار فيه مع عمل الصالحات.

ص: 308

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه إباحة الطيبات أراد النهي عن الخمر والميسر اللذين هما من أخبث الخبائث، وقد أكّد حرمتهما بأشد تأكيد، ذلك لأنهما كانا ولازالا يتغلغلان في المجتمعات البشرية مع شدة ضررهما، إلاّ أن الهوى مانع عن الاستجابة لنداء العقل، فلذا لزم تأكيد النهي بشدة، فمن ذلك قرنها بالأصنام فكلها في سلك واحد، ومنها: بيان أنها رجس، مع حصرها فيه بأداة الحصر التي هي (إنما)، ومنها: بيان حقيقة أنها من عمل الشيطان، ومنها: تقيد الفلاح بالاجتناب عنها، ومنها: بيان أضرارها الدنيوية بأنها توقع العداوة والبغضاء، وبيان أضرارها الدينية بأنها تصدّ عن ذكر اللّه وعن الصلاة، ومنها: النهي المؤكد بصيغة الاستفهام التقريري، ومنها: التحذير، ومنها: التهديد على تولّيهم عن الإطاعة في تركهما، ثم التأكيد على اتقاء اللّه في تركهما ثلاث مرات، كل ذلك تشديد في تحريم الخمر والميسر عسى ولعل الناس ينتهون عنهما.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَٰمُ...} الآية.

{الْخَمْرُ} هو كل شراب مسكر سواء اتخذ من العنب أم سائر الفواكه أم الحبوب أم غيرها، وليس خاصاً بالمتخذ من العنب، فإن وقت نزول الآية لم يكن في المدينة من شراب العنب إلاّ القليل جداً وإنما كان للناس شراب التمر المسمّى بالفضيخ(1)؛ لأن المدينة فيها النخيل دون كرم العنب.

و{الْمَيْسِرُ} هو كل ما تُقومر به سواء كان آلة قمار كالنرد والشطرنج،

ص: 309


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 469 عن الإمام الباقر (عليه السلام) .

أو كانت فيه مراهنة بالمال حتى لو كان بمثل الجوز.

و{الْأَنصَابُ} الأوثان التي كانوا يعبدونها، وكانوا يذبحون لها أو يلطخونها بدماء ذبائحهم، وقد يراد بالأنصاب الذبائح التي ذُبحت لها، وقدسئل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عنها: «قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم»(1).

وقوله: {وَالْأَزْلَٰمُ} هي سهام القمار، وقد مرّ تفصيلها في الآية 3، فراجع، وقيل: إنما ذكرها بالخصوص مع دخولها في الميسر، لاشتهارها في الجاهلية أو لاقترانها بالأنصاب عادة؛ لأنهم كانوا يقتسمون الذبيحة بالقمار ويلطخون دمها على الأنصاب.

وقوله: {رِجْسٌ} هو كل ما يستقذر مادياً كان أم معنوياً، والرجس والرجز بمعنى واحد، بل في المقاييس: «فأما الرجز الذي هو العذاب والذي هو الصنم في قوله جل ثناؤه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}(2) فذلك من باب الإبدال لأن أصله السين»(3).

قيل: إن الغالب استعمال الرجز في العذاب، والرجس في فعل الإنسان.

وقوله: {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَٰنِ} الإضافة بمعنى (من) أي هو عمل ناشئ عن الشيطان بوسوسته، وروي أن الشيطان هو الذي ابتدعها حقيقة وعلّمها الناس ليغويهم(4).

وقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} إفراد الضمير مع أن الأمر بالاجتناب راجع إلى

ص: 310


1- الكافي 5: 122.
2- سورة المدثر، الآية: 5.
3- مقاييس اللغة: 422.
4- مجمع البحرين 4: 74.

الأربعة، إما لأنه يرجع إلى الرجس أي فاجتنبوا الرجس الذي هو هذه الأربعة، وإما باعتبار المعنى أن اجتنبوا كل واحد منها، وإما لأنها في واقعها شيء واحد لا فرق بينها.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الفلاح هو الفوز، وقيل: هو نيل الخير والنفع الباقي أثره(1)، وفي هذا إعطاء الرجاء والأمل بأن تركها مظنة النجاة، وقد مرّ أن (لعلّ) من اللّه واجب أو هو إبهام مع إعطاء الأمل لئلا يغترّ الإنسان بذلك الوعد إذا كان جازماً.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ...} الآية.

قيل: لمّا كان الغرض من الآية السابقة تحريم الخمر والقمار، وإنما ذكر الأنصاب لأجل زيادة التشنيع عليهما، ولمّا كانت الأزلام نوعاً من أنواع القمار، لذلك خصّ هذه الآية بالخمر والميسر.

وقوله: {يُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ} وفاءً لقسمه حيث قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(2)، وقال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ}(3).

ص: 311


1- معجم الفروق اللغوية: 321.
2- سورة الحجر، الآية: 39-40.
3- سورة الأعراف، الآية: 16-17.

والحاصل: أن الشيطان لا يريد خير بني آدم حسداً وتكبراً، بل يريد شرّهم فلذا فكل ما يريده هو من الباطل والمحذورات التي يجب على الإنسان اجتنابها.

من أضرار الخمر والقمار

ثم ذكرت الآية ضررين شديدين يترتبان على الخمر والميسر أحدهمادنيوى والآخر ديني:

1- قوله: {أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} قد مرّ أن البغضاء في القلب والعداوة ما ظهر منها على الجوارح عادة، فأما الخمر فلأنه يزيل العقل، فيرتكب شاربها أنواع المآثم والتعدي على الغير مما يوجب العداوة والبغضاء، وأما الميسر فلأن فيه ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل، بل قد يخسر المقامر ما له وعرضه وكل ما يتعلّق به من غير وجه حق، وهذا يورث العداوة والبغضاء وأحياناً ارتكاب الجرائم، هذا في الضرر الدنيوي.

2- قوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوٰةِ} هذا الضرر الديني، وما أشدّه من ضرر، أمّا الخمر فواضح لأن السكران لا يعي شيئاً فيغفل عن الذكر فيرتكب الموبقات في تلك الحال كما أنه يغفل عن الصلاة، وأمّا الميسر فلأجل أن المقامر يلهو لهواً شديداً فحيث لا يريد الخسارة أو يريد الربح لا يترك اللعب بالميسر حتى تفوته الصلاة.

ثم إن ذكر الصلاة بخصوصها مع أنها من ذكر اللّه تعالى إمّا لأجل أهميتها أو لأن اللّه قد نهى في آية سابقة عن الصلاة في حال السكر فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}(1).

ص: 312


1- سورة النساء، الآية: 43.

وقوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} هذا تشديد للنهي بصيغة الاستفهام، كأن المعنى بعد هذا التشديد والتصريح والبيان فهل بقي لكم عذر في ارتكابهما، وفي تفسير الصافي: «ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتباً على ما تقدّم من أنواع الصوارف، إيذاناً بأن الأمر بالمنعوالتحذير بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت»(1)، وفي مجمع البيان: «صيغة استفهام، ومعناه النهي، وإنما جاز في صيغة الاستفهام أن يكون على معنى النهي؛ لأن اللّه ذمّ هذه الأفعال وأظهر قبحها، وإذا ظهر قبح فعل للمخاطب ثم استفهم عن تركه لم يسعه إلاّ الإقرار بالترك، فكأنه قيل له: أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما ظهر؟ فصار النهي بقوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} في محل من عقد له عليه ذلك بإقراره، وكان هذا أبلغ في باب النهي من أن يقال: انتهوا ولا تشربوا»(2).

تحريم الخمر في جميع الشرائع

ثم اعلم أن الخمر لم يحلّها اللّه قط، ولم يبعث نبياً إلاّ بتحريمها(3)، لكن في أوائل البعثة كان سكوت عنها لا تحليل لها ثم نسخه.

ثم إن اللّه تدرّج في بيان تحريمها بأن ألمح في آيات مكية كقوله في سورة النحل: {وَمِن ثَمَرَٰتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}(4) حيث قابل الخمر بالرزق الحسن إيذاناً بأنه ليس بحسن.

ثم نهى في المدينة عن الصلاة في حال السكر فقال: {لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ

ص: 313


1- تفسير الصافي 2: 487.
2- مجمع البيان 3: 588.
3- راجع الكافي 6: 395.
4- سورة النحل، الآية: 67.

وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}(1)، ومن المعلوم أن الصلاة لا تترك بحال فكان نهياً عن شرب الخمر في أكثر الأوقات لئلا تفوت الصلاة.

ثم أنزل نهياً صريحاً في سورة البقرة حيث قال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِننَّفْعِهِمَا}(2)، لكن بعض المسلمين استمروا بشربها حتى أنزل اللّه هذه الآية التي فيها تقريع شديد، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في سورة البقرة، فراجع(3).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ما بعث اللّه عزّ وجلّ نبيّاً قط إلاّ وفي علم اللّه تعالى أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم تزل الخمر حراماً، وإنما ينقلون من خصلة ثم خصلة، ولو حُمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين»، وقال (عليه السلام) : «ليس أحد أرفق من اللّه تعالى، فمن رفقه تبارك وتعالى أن ينقلهم من خصلة إلى خصلة، ولو حمل عليهم جملة لهلكوا»(4).

الرابع: قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ...} الآية.

كأنه تشديد لتقريعهم حيث لم يطيعوا التحريم فيما أنزله اللّه في سورة البقرة والنساء، فيأمرهم اللّه بإطاعته وإطاعة رسوله، ثم يحذرهم عن مغبة المخالفة، وفيه تهديد صريح وواضح لهم، فإن التحذير إنما يكون عن الخطر، وعدم الإطاعة يوجب خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فأخذهم الحذر

ص: 314


1- سورة النساء، الآية: 43.
2- سورة البقرة، الآية: 219.
3- التفكر في القرآن 3: 107-109.
4- الكافي 6: 395؛ تهذيب الأحكام 9: 102.

يدعوهم إلى ترك السيئات والعمل بالواجبات، والذي مورد الكلام هو الانتهاء عن شرب الخمر ولعب الميسر.

وقوله: {فَاعْلَمُواْ} تهديد آخر بلفظ شديد، أي إن أعرضتم عن الإطاعة واستمررتم في ارتكابهما فاعلموا... الخ، وهذا أسلوب تهديدي متعارفلإتمام الحجة ولعدم إبقاء أي عذر يعتذرون به، إذ الرسول قد أدّى مهمته بأحسن وجه حيث قد بلّغ إليكم ما أمره اللّه، وكان تبليغه واضحاً لا لبس فيه، ويمكن أن يكون تلميحاً بأن الضرر لا يرجع إليه؛ لأنه لم يقصّر وأدّى ما عليه بأحسن وجه، وإنما الضرر يعود عليكم.

الخامس: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ...} الآية.

في معنى الآية احتمالان:

1- أن تكون تتمة لما سبقتها، وفي مجمع البيان: «لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة: يا رسول اللّه! ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فأنزل اللّه هذه الآية»(1)، فالمعنى لا مؤاخذة عليهم على ما أكلوه وشربوه قبل إسلامهم أو قبل علمهم بالتحريم، لكن بشرط كون إسلامهم لا عن نفاق، بل عن إيمان وعمل صالح واتقاء للمحرمات ثم استمرارهم على الاتّقاء والإيمان ثم استمرارهم على الاتقاء والعمل الصالح.

2- أن يكون اللّه قد أباح للمؤمنين الطيبات دون غيرهم من الكفار

ص: 315


1- مجمع البيان 3: 590.

والمنافقين - الذي يأكلون حراماً وغصباً - كما يظهر من بعض الروايات(1)، فالمعنى أنّ اللّه قد أباح للمؤمنين كل طعام وشراب بشرط اتقاء المحرمات - التي هي أقل القليل - فيكون ارتباطه بما قبله من الآيات بأن اللّه وإن حرّمعليكم الخمر والميسر إلاّ أنه أباح لكم عامة الأشياء بشرط اتقاء المحرمات.

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أُتي عُمر بقدامة بن مضعون وقد شرب الخمر، وقامت عليه البينة، فسأل علياً (عليه السلام) ، فأمره أن يضربه ثمانين، فقال قدامة: يا أمير المؤمنين، ليس عليّ حدّ، أنا من أهل هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} فقال علي (عليه السلام) : لست من أهلها، إن طعام أهلها حلال، ليس يأكلون ولا يشربون إلاّ ما أحلّ اللّه لهم»(2)، وهذا الخبر يحتمل المعنيين؛ لأن قدامة قد شرب الخمر بعد إسلامه وبعد التحريم والآية فيمن شربها قبلهما بناءً على الاحتمال الأول، كما أنه لم يتق حيث شرب ما حرّمه اللّه والآية فيمن اتقى بناء على الاحتمال الثاني.

وقوله: {جُنَاحٌ} أي حرج وإثم ومؤاخذة.

وقوله: {فِيمَا طَعِمُواْ} أي أكلوه من أموال الميسر وشربوه من الخمر، والطعم قد يأتي بمعنى الأكل فاستعماله في الشرب للتغليب، وقد يأتي بمعنى التذّوق فيعم الأكل والشرب كقوله: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

ص: 316


1- راجع شرح أصول الكافي، للمؤلف 6: 156-173.
2- تهذيب الأحكام 10: 93؛ وقريب منه في تفسير العياشي 1: 341.

وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي...}(1).

ثم إن تكرار التقوى ثلاث مرات لعلّه لأجل التأكيد ولبيان أهمية الاتقاء عن المحرمات، ففي المرة الأولى جمع الاتقاء مع الإيمان والعمل الصالحفقال: {إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ}، وفي المرة الثانية ذكر الاتقاء مع الإيمان فقال: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ}، وفي المرة الثالثة ذكر الاتقاء مع الإحسان - الذي هو العمل الصالح - فقال: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ}، وغير خفي أنه كرر الإيمان والعمل الصالح في هذه الآية ثلاث مرات أيضاً حيث ذكرهما في صدر الآية أيضاً، فقال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٌ}، وعليه فتم ذكر الإيمان والعمل الصالح والاتقاء ثلاث مرات في هذه الآية.

ولعل السر في ذلك أنه لمّا أراد أن يبين العفو عنهم فيما ارتكبوه في الجاهلية أو قبل علمهم بالحرمة أراد أن لا يكون عفوه ذريعة لهم في التكرار، أو لمّا أراد أن يبيح كل شيء لهم أراد أن لا يتخذوه وسيلة للتعدي إلى المحرمات فكرر الإيمان والعمل الصالح والتقوى، نظير آية الربا حيث قال: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}(2)، وقال سبحانه: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}(3).

ص: 317


1- سورة البقرة، الآية: 249.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- سورة الأنفال، الآية: 38.

والحاصل: أن التكرار في الاتقاء والإيمان والعمل الصالح إنما هو لبيان لزوم الاستمرار عليها دائماً، وقد ذكر المفسرون ههنا للفرق بين هذه الثلاثة أموراً لكن الآية لا تدل عليها بخصوصها، واللّه العالم.

وقوله: {وَّأَحْسَنُواْ} كأن المراد به - بقرينة السياق - هو إحسانهم إلى أنفسهم، وذلك بعملهم بالصالحات قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}(1).

ص: 318


1- سورة الكهف، الآية: 30.

الآيات 94-96

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٖ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ 94 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ هَدْيَا بَٰلِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّٰرَةٌ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ 95 أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَٰعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 96}

94- ومن جملة المحرّمات في المأكولات: الصيد حالة الإحرام، فنهى اللّه تعالى عنه فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} من البلاء بمعنى الامتحان {بِشَيْءٖ مِّنَ الصَّيْدِ} أي المصيد، وهو كل حيوان ممتنع وحشي {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} تتمكنون من أخذه بسهولة، كالفراخ والبيض {وَرِمَاحُكُمْ} تحتاجون إلى سلاح لصيده، وإنّما يمتحنكم {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} أي ليظهر ما علمه أزلاً {مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} أي حال كون اللّه غائباً عن حواسه، أو بمعنى ليميّز اللّه الخائف عن العاصي، {فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ} أي بعد النهي والابتلاء {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة إلاّ أن يكفّر عن

ص: 319

ذنبه، ثم بيّن الكفارة في الآية التالية.

95- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ} المصيد ويراد به البرّيّ منه{وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي حال كونكم داخلين في الإحرام أو في الحرم، {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} أي قاصداً إلى قتله مع تذكره لحرمته {فَ-} عليه {جَزَاءٌ} أي كفارة {مِّثْلُ مَا قَتَلَ} أي حيوان مثل المصيد في الحجم {مِنَ النَّعَمِ} أي الجزاء من الأنعام الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، فمثلاً في النعامة بعير، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبي شاة، {يَحْكُمُ بِهِ} أي بكونه مِثْلاً {ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ} أي رجلان عادلان وهما الرسول والإمام، وفيما لم يحكما به فكل عادلين من أهل الخبرة، والكفارة تهدى {هَدْيَا بَٰلِغَ الْكَعْبَةِ} أي يبلغ الحرم فإن كان في العمرة يذبح أو ينحر في مكة، وإن كان في الحج ففي منى، {أَوْ} عليه {كَفَّٰرَةٌ طَعَامُ مَسَٰكِينَ} أي إن لم يتمكن من الهدي أطعم المساكين إلى حدّ الشبع أو اشترى بقيمته حنطة يوزعها على الفقراء كل فقير مدّ، {أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ} أي ما يساوي الطعام لو لم يتمكن منه يصوم {صِيَامًا} بدل إطعام كل مسكين يوماً، وإنما جعلت هذه الكفارة {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي عقوبة فعله بقتل الصيد، وأما صيدهم زمان الجاهلية أو قبل النهي فقد {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} فلا مؤاخذة ولا كفارة، {وَمَنْ عَادَ} إلى الصيد بعد النهي مرة ثانية {فَ-} لا كفارة عليه في الدنيا لشناعة عمله بل {يَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} بأن يعاقبه في الآخرة، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب على أمره {ذُو انتِقَامٍ} يعاقب من خالف لحكمته تعالى، هذا كلّه في عملية الصيد.

ص: 320

حرمة الصيد البري حالة الإحرام

96- وأما أكل المصيد فهو بحريّ وبرّىّ، أما البحري فقد {أُحِلَّ لَكُمْ} أكل {صَيْدُ الْبَحْرِ} أي الطريّ منه {وَطَعَامُهُ} أي المجفّف المملّح منه{مَتَٰعًا لَّكُمْ} تلتذّون بأكله في محلّ استقراركم وهذا في الطريّ غالباً {وَلِلسَّيَّارَةِ} أي المسافرين وهذا في المجفّف غالباً، {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ} أكل {صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} في حالة الإحرام، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم عن عقابه على المخالفة {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازيكم ولا مفرّ منه.

بحوث

الأول: لما كان الكلام حول الحلال والحرام من المأكولات، يذكر اللّه تعالى في هذه الآيات حكم الصيد في حالة الإحرام، وبيان أن لحمه من الخبائث، إذ الخبائث قد تكون بالذات كالخمر وقد تكون بالعرض كميتة الحيوان الحلال اللحم.

فبدأ أولاً بذكر أن اللّه تعالى يختبر عباده مطلقاً، وفي حال عبادتهم على الخصوص، وحيث إن الحج والعمرة من أهم العبادات فقد جعل اللّه فيهما الاختبار أيضاً، وذلك ليظهر ما علمه أزلاً من المطيع والعاصي، إذ العقوبة إنما تكون بعمل العبد لا بعلم اللّه تعالى، كما أن الثواب وإن كان كلّه تفضلاً إلاّ أن بعض درجاته لا تكون إلاّ بعمل العبد حيث لم تكن من الحكمة نيله تلك الدرجات اعتباطاً.

ثم ثانياً: يذكر أن من خالف الحكم وصاد استحقّ عذاب اللّه تعالى، إلاّ أن اللّه للطفه بعباده جعل الكفارة بديلاً، فهي تكفّر الذنب أي تمحوه، وهي تكون بتعظيم الكعبة بإرسال هدي إليها ليذبح بمكة أو منى، فإن عجز عن

ص: 321

الهدي أطعم مساكين بقيمته، فإن عجز صام بدلاً عن الإطعام، مع بيان أنهذه الكفارات إنما هي نتيجة مخالفته، ثم تبين الآية أن اللّه عفا عن صيدهم أيام الجاهلية أو قبل إعلامهم بالنهي فلا عقوبة عليه ولا كفارة، وأما من صاد بعد النهي فعليه الكفارة، فإن صاد مرة أخرى فهذا مصرّ على الذنب فلا تنفعه الكفارات الدنيوية بل عقوبته في الآخرة.

ثم ثالثاً: يتم بيان حكم أكل الصيد، فإن كان صيد البحر فيجوز أكله طرياً - مما يلازم صيده من الماء - أو قديداً، وأما لحم صيد البر فحرام سواء الطري منه أم القديد، نعم بعد الإحلال والخروج من الحرم يجوز أكل لحم صيد البرّ، وأما في حالة الإحرام فلا يجوز أكل لحمه حتى لو صاده مُحِلّ في خارج الحرم.

ثم رابعاً: في الآيات اللاحقه (97-100) يتم بيان علّة الحكم وسيأتي.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٖ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ...} الآية.

هذه الآية كالمقدمة لبيان حكم الصيد، ببيان أن اللّه تعالى يختبركم به مع سهولته وحاجتكم، فترغب النفس إليه، فيكون فيه الامتحان، وأما ما تعافه النفس فلا امتحان في تركه عادة، كما أنه لا امتحان في فعل ما ترغب النفس إليه كأن يقال إن الطعام الشهي اللذيد حلال لامتحانكم به. والحاصل: أن الامتحان إنما يكون فيما يصعب على الإنسان، وفي الأسفار الطويلة - وخاصة فيما مضى - لم يكن زادهم إلاّ الطعام المجفف ونحوه وأما اللحم الطريّ من أصناف الحيوانات المحلّلة فلم يكن يتوفر لهم عادة

ص: 322

إلاّ بالصيد الذي لا يكلّفهم مالاً ولا سفراً مع مرورهم بمواطن الحيوانات،فكان في ذلك الامتحان، كما أن اللّه تعالى قد يسهّل الشيء مزيداً في الامتحان فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «حُشرت لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في عمرة الحديبيّة الوحوش، حتى نالتها أيديهم ورماحهم»(1)، كما حصل لأصحاب السبت حيث قال تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}(2)، ولذا قيل: إن اللّه اختبر بني إسرائيل بصيد البحر واختبر أمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بصيد البر في حالة الإحرام.

وقوله: {بِشَيْءٖ مِّنَ الصَّيْدِ} قيل: من للتبعيض لإخراج صيد البحر كما يأتي، و{بِشَيْءٖ} للتحقير أو للتكثير، و{الصَّيْدِ} هنا بمعنى المصيد، أي الحيوان الذي يُصاد.

وقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} لبيان سهولة صيده وقُربه، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «تناله أيديكم: البيض والفراخ، ورماحكم: الأمّهات الكبار»(3).

وقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} أي ليظهر ما علمه أزلاً، وقد مرّ الكلام فيه، أو ليميّز اللّه.

وقوله: {بِالْغَيْبِ} أي في حال غياب اللّه تعالى عن حواسه، فإن اللّه منزّه

ص: 323


1- الكافي 4: 396.
2- سورة الأعراف، الآية: 163.
3- تفسير العياشي 1: 342.

عن الجسم ولا تدركه الأبصار والحواس، أو بمعنى في الخلوات حيث لايراه سائر الناس فقد يتمكن الإنسان من الصيد في الصحراء في القوافل الكبيرة خفيةً، والأول أظهر.

وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ} أي اعتدى على حدود اللّه بأن تجاوزها، أو اعتدى على الصيد، والأول أظهر.

وقوله: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي يستحق عذاب الآخرة، وهذا كالمقدمة لبيان لطف اللّه تعالى بتبديل العذاب بالكفارة في الآية التالية.

كفارة الصيد

الثالث: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ...} الآية.

هذه الآية في النهي عن الصيد بالمعنى المصدري، أي عملية الصيد وفي كفارته، وأما حكم أكله ففي الآية اللاحقة.

وقوله: {لَا تَقْتُلُواْ} لا يخفى أن الصيد حرام حتى لو لم يستلزم القتل كأن يأخذه بيده حياً أو ينصب له شبكة يقع فيها حياً، إلاّ أن قتله أشنع، كما أن الغرض من هذه الآية بيان الكفارة، ولا كفارة في أخذه حياً وإنما يجب عليه إرساله، فلذلك ذكر حكم القتل، وترك حكم غير القتل إلى السنة.

وقوله: {الصَّيْدَ} هو كل حيوان وحشي ممتنع فلا يمشل الحيوان الأهلي كالغنم.

وقوله: {حُرُمٌ} جمع حرام وهو بمعنى المُحر ِم(1)، وهو بمعنى الداخل في الحرم وبمعنى الداخل في الإحرام بأن أهلّ بالحج أو العمرة، وعليه

ص: 324


1- راجع مجمع البيان 3: 596.

فيحرم الصيد لمن كان محرماً حتى لو كان خارج الحرم، ولمن كان داخلالحرم حتى لو لم يكن محرماً.

وقوله: {مُّتَعَمِّدًا} أي قاصداً للصيد مع علمه بالحرمة، وأما مع الخطأ والنسيان فهو وإن كانا تجب فيه الكفارة بدلالة السنة إلاّ أن الخطأ والنسيان مرفوع فلا امتحان فيه ولا عقوبة أخروية فيكون خارجاً عن الغرض في هذه الآية، وبعبارة أخرى إن قوله: {مُّتَعَمِّدًا} لا مفهوم له لأنه من اللقب - حسب اصطلاح الأصوليين - وإنما خصّه بالذكر مع عموم الحكم؛ لأن الغرض في هذه الآية بيان حكم المتعمّد فقط، ويعرف حكم غيره بالسنة، مضافاً إلى فرق حكم الخطأ والعمد في تكرار الكفارة، فإن المتعمد لا تتكرر عليه الكفارة بل ينتقم اللّه منه، وأمّا المخطئ فهي تتكرر كما دلت عليه السنة(1).

وقوله: {مِّثْلُ مَا قَتَلَ} أي مثله في الحجم، و{مِنَ النَّعَمِ} بيان للجزاء، فالمعنى فعليه جزاء من الأنعام الثلاثة بحجم الصيد الذي قتله، فالكبير فيه بعير، والمتوسط فيه بقرة، والصغير فيه شاة.

وقوله: {ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ} أي يحكم بكونه مِثل الصيد رجلان عادلان من المؤمنين، وقد ورد في الروايات المعتبرة أنهما الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الإمام (عليه السلام) (2) فيكفي أحدهما، وإنما ثنّى ليدل على كفاية الإمام (عليه السلام) بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فإن قول الإمام هو قول الرسول، وقد أخطأت العامة حيث ظنوا أنه لا بد من اثنين دائماً فلا يكفي حكم الإمام وحده، وعلى هذه

ص: 325


1- للتفصيل راجع الفقه 43: 268.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 487-489.

المعنى يُحمل ما ورد من التخطئة، فعن زرارة قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عنقول اللّه عزّ وجلّ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ}؟ قال: العدل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام من بعده، ثم قال: هذا ممّا أخطأت به الكُتّاب»(1)، والظاهر أن المقصود الخطأ في تفسير معنى قوله: {ذَوَا عَدْلٖ} حيث زعموا أنه لا بد من اثنين مع أنه يكفي الرسول وحده ومن بعده الإمام وحده، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «فإذا علمت ما حكم به اللّه، من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام فحسبك، ولا تسأل عنه»(2).

نعم لو لم يصلنا في صيد شيء فلا بد من الرجوع إلى عدلين ليُعرف مثله، عملاً بإطلاق الآية، قال الوالد رضوان اللّه عليه في موسوعة الفقه: «قد تحقق في موضعه عدم تحريف القرآن، والتفسير بالنبي والإمام من باب أنهما الفرد الأظهر من ذوي عدل، فإذا حكما بشيء لم يبق مجال لذوي عدل؛ لأنهما أعرف بمراد اللّه سبحانه، وأعرف بالمماثلة العرفية، وإذا لم يحكما بشيء كان مجال حكم ذوي عدل... فما في بعض الروايات من أنه من خطأ النُسّاخ لا بد أن يراد به الخطأ باعتبار القراءة المفسّرة، لا في أصل القراءة، وهذا وإن كان خلاف المنصرف إلى الذهن في بادي النظر إلاّ أنه لا بد من الذهاب إليه لبعض القرائن الداخلية، مثل قوله تعالى: {مِّنكُمْ}، والخارجية المذكورة في مسألة عدم تحريف القرآن»(3).

ص: 326


1- الكافي 4: 397.
2- تهذيب الأحكام 6: 314.
3- الفقه 43: 115 باختصار.

وقوله: {هَدْيَا} إما حال أي مثله حال كونه هدياً، أو مفعول مطلق أييهدي هدياً.

وقوله: {بَٰلِغَ الْكَعْبَةِ} أي لا بد من إرسال الهدي إلى الحرم، أو شرائه منه وذبحه أو نحره فيه، وقد دلت السنة على أنه إن كان في إحرام الحج نحره أو ذبحه في منى(1)، وفي إحرام العمرة في مكة، ولعل قوله: {بَٰلِغَ الْكَعْبَةِ} لبيان أن الكفارة هي لحرمة الكعبة، أو اختصاراً بعد معلومية أن الهدي لا يضحى به في الكعبة ولا في المسجد الحرام.

وقوله: {أَوْ كَفَّٰرَةٌ طَعَامُ مَسَٰكِينَ} أو للترتيب لدلالة السنة على ذلك، أي فإن لم يتمكن من جزاء المثل فعليه أن يكفّر عن ذنبه بأن يدفع قيمة البدنة أو البقرة أو الشاة لتكون طعاماً للمساكين إما بأن يطعمهم إلى حدّ الشبع، أو يعطي كل واحد منهم مُدّاً من الحنطة، والأفضل مدّين اثنين(2).

وقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا} أي فإن عجز عن كفارة الطعام فلا بد أن يصوم بما يعادل الإطعام، وقد روي أنه يصوم بدل إطعام كل مسكين يوماً، كما روي أنه يصوم بدل كل نصف صاع يوماً(3)، والمعنى واحد إذ كل مسكين الأفضل إطعامه بمدّين وذلك نصف صاع(4)، ثم إن في عدد المساكين وعدد أيام الصيام روايات وبحوث فقهية كثيرة تطلب من كتب الفقه.

ص: 327


1- وسائل الشيعة 13: 6.
2- راجع الفقه 43: 110.
3- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 485-488.
4- لأن المدّ ثلاثة أرباع الكيلو تقريباً، والصاع ثلاثة كيلوات تقريباً.

وقوله: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (ليذوق) متعلق ب-(جزاء) وهو بيان لعلة هذاالجزاء، و(الوبال) في الأصل بمعنى ثقل الشيء في مكروه، ولذا قيل: إن الوبال هو المكروه والضرر الذي يناله مَن عمل سوءاً لثقله عليه.

وقوله: {أَمْرِهِ} أي عمله وشأنه حيث صاد.

العفو عن المخالفات قبل التحريم

وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} كأن المقصود عفوه عما مضى في الجاهلية أو قبل بيان تحريم الصيد.

سؤال: كيف يكون عفواً مع أنه لا عفو إلا بعد تشريع ومخالفة، وحيث لا تشريع فلا مخالفة فلا معنى للعفو؟

والجواب: أنّ العفو كما يكون عن مخالفة التكليف، كذلك يكون بمعنى عدم ترتب الآثار الوضعية، ولا مانع عقلاً من ترتب الآثار الوضعيّة، كأن يقال له: إن صيدك في زمان الجاهلية وإن كان قبل تشريع الحرمة إلاّ أنك ضامن له، لكن اللّه لرحمته ولطفه رفع الضمان، كما عفا عن الآثار الوضعية للربا في الجاهلية، ويحتمل أن يكون العفو باعتبار أنهم كانوا يحرّمونه في الجاهلية أيضاً ومع ذلك كانوا يخالفون فلا مانع في إلزامهم بذلك، وهنا احتمال آخر وهو أن يكون (ما سلف) بمعنى الصيد المتعمّد الذي دفع كفارته حيث تكون ماحية للذنب، إذ لا مانع عقلاً من الجمع بين عقوبة الدنيا والآخرة إلاّ أن لطف اللّه يشمل المؤمنين بعدم الجمع غالباً إلاّ أن بعض الذنوب لشناعتها لا تدع للمجرم مجالاً للرحمة، قال تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْأخِرَةِ وَالْأُولَىٰ}(1)، وقد مرّ بعض الكلام في عقوبة

ص: 328


1- سورة النازعات، الآية: 25.

المحارب، فراجع.

وقوله: {وَمَنْ عَادَ} أي صاد متعمداً مرة ثانية؛ لأن الآية ذكرت حكم صيد الجاهلية وكذلك حكم الصيد المتعمد بالكفارة، فلا يكون العود إلاّ بتكرار الصيد مرة أخرى بعد التحريم.

وقوله: {فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أي في الآخرة، وظاهره عدم لزوم الكفارة عليه مرة أخرى، وذلك لأن الكفارة لتكفير الذنب ومحوه فمن تعمّد مرة واحدة لا يقطع اللّه لطفه عنه، بل جعل له جزاءً يكفّر ذنبه، إلاّ أن تكرار التعمّد لا يبقي له مجالاً للرحمة فلا كفارة له في الدنيا وإنما يؤخره اللّه لعقوبة الآخرة.

حلية صيد البحر حالة الإحرام

الرابع: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَٰعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ...} الآية.

في هذه الآية يتم بيان حكم أكل لحم الصيد، كما أن الآية السابقة كانت حول عمليّة الاصطياد.

وحاصله: أنه لا بأس بأكل الحيوان البحري طريّاً طازجاً بأن يصيده المحرم من الماء أو يأكل ما صادوه له، كما لا بأس بأكله قديداً، وهو المجفّف المملّح، وأما صيد البر فلا يجوز أكله لا طرياً ولا قديداً حتى لو كان صيده حلالاً بأن صاده إنسان غير محرم في الحل أو اشتراه المحرم مثلاً من بلده فلا يجوز له أكله فور إحرامه.

ومن ذلك يتضح أن الآية ليست في مقام بيان حلية جميع الحيوانات البحرية، ولا في حلية جميع الحيوانات البرية بعد الإحرام، بل هي في مقام

ص: 329

بيان جواز أو عدم جواز الأكل، لا في مقام تحليل أو تحريم المأكول.وعليه فلا بدّ من مراجعة السُنة لمعرفة الحلال والحرام من الحيوانات، وقد دلّت على حلية السمك ذي الفلس فقط من الحيوانات البحرية فلا يحلّ غير السمك كالأخطبوط ولا السمك الذي لا فلس له(1).

وقوله: {صَيْدُ الْبَحْرِ} أي مصيد البحر، وهو شامل للنهر والبِركة وغيرهما، فالمقصود ما يعيش في الماء، والمراد منه الطري، وقوله: {وَطَعَامُهُ} أي القديد منه وذلك بقرينة قوله: {مَتَٰعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}.

ويحتمل أن يراد من {صَيْدُ الْبَحْرِ} المعنى المصدري أي عملية الصيد، ومن {طَعَامُهُ} أكله، فيكون المعنى يجوز اصطياده وكذلك يجوز أكله، لكن الأول أقرب بقرينة المقابلة مع صيد البرّ مع عدم ذكر طعامه فيه، وقد دلّت بعض الروايات على ذلك(2).

وقوله: {مَتَٰعًا لَّكُمْ} أي تتمتعون به والخطاب للمُحرمين الذين ليسوا في سفر كالذين وصلوا إلى مكة فأقاموا فيها.

وقوله: {وَلِلسَّيَّارَةِ} أي المسافرين يتزوّدون به في الطريق، وهؤلاء يتزوّدون بالمجفّف عادة إذ يصعب ذبح الأنعام للمسافر وكذلك انتظار صيد السمك الطري، فيتزودون بالسمك المجفف يحملونه معهم ويأكلونه.

ويحتمل أن قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ...} خطاب لعامة المؤمنين حتى غير المحرمين منهم بأن اللّه قد أباح لكم صيد البحر وطعامه سواء كنتم في

ص: 330


1- للتفصيل راجع نبراس الأحكام: 268 و 273 (للمؤلف).
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 492.

إحلال أم إحرام، وأما صيد البرّ فقد أباحه لكم في غير حالة الإحرام.وقوله: {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تهديد على المخالفة بأنه لا يفوت منكم أحد على اللّه فتحشرون جميعاً فيؤاخذ العاصي بعصيانه.

ص: 331

الآيات 97-100

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَٰئِدَ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 97 اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 98 مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ 99 قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 100}

97- ثم يذكر اللّه تعالى سبب تشريع حرمة الصيد في الحرم وفي حالة الإحرام فقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} بجعل تكويني وتشريعي، {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} له الحُرمة والاحترام، جعلها {قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ} أي قِوام لهم يقوم به أمر دينهم ودنياهم، {وَ} جعل {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ذا الحجة أو جنس الشهر الحرام وثلاثة منه - ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم - ترتبط بالحج إلى الكعبة، {وَ} جعل {الْهَدْيَ} ذبائح مكة تهدى إليها {وَالْقَلَٰئِدَ} وهي الأنعام التي تجعل عليها علامة بأنها للبيت لتنحر أو تذبح فيه، والقلائد داخلة في الهدي إلاّ أنه خصّها بالذكر لأهميتها ولظهور بهاء الحج فيها.

{ذَٰلِكَ} أي جعل هذه الأمور وتشريع هذه الأحكام هي طريق إلى هدايتكم ف-{لِتَعْلَمُواْ} عبر التفكر في هذه التشريعات واللام للعاقبة: {أَنَّ

ص: 332

اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي لتعلموا حكمته التكوينية فيهما، {وَ} لتعلموا {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} حتى لو لم يكن فيالسموات والأرض فعلمه تعالى لا حدود له.

والحاصل: حكمته التشريعية تدل على حكمته التكوينية، والعلم بذلك يورث الإيمان والطاعة.

98- ولا يزعمنَّ أحد أنه لو خالف لا يعاقب، ولا يزعمنَّ المخالف أن طريق التوبة مغلق ف-{اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن لا قابلية له للعفو {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن كان أهلاً للغفران والرحمة.

99- ولا عذر لأحد بعد إتمام الحجة عليه إذ {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ} أي أن يبلّغ وقد صنع ذلك فلم يبق لكم عذر في المخالفة، {وَ} لا يعتذرنَّ أحد بعدم تعمده مثلاً إذ {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} تظهرون من أقوال وأعمال {وَمَا تَكْتُمُونَ} من نوايا.

والحاصل: لم يبق لأحد عذر؛ لأن الرسول بلّغ واللّه عالم بالأعمال والنوايا فلا يمكن الاعتذار بالأكاذيب.

100- ثم يبين اللّه أن تحليله لأكل بعض الأشياء وتحريمه لبعضها كالخمر وصيد البر ليس اعتباطاً، بل لخبث ما حرّمه وطيب ما أحلّه ف-{قُل} يا رسول اللّه {لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} فها يفترقان ذاتاً ولذا افترقا حكماً {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} أيها السامع {كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} فإن الميزان هو الجودة لا الكثرة، فقليل من الطعام المقوّي خير من كثير من السُمّ المهلك، {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم من مخالفته فاختاروا الطيب الذي أمر به واجتنبوا

ص: 333

الخبيث الذي نهى عنه {يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} أصحاب العقول الخالصة عن الأهواء والشبهات والوساوس {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تفوزون بما هو خير لكم في العاجل والآجل.

بحوث

الأول: لما ذكر حكم الصيد للمحرم - حلاله وحرامه - أتبع ذلك ببيان سبب التشريع وأنه لأجل حرمة الكعبة وما يرتبط بها من المكان والزمان والأشياء؛ لأن اللّه تعالى جعلها لتستقيم حياة الناس مادياً ومعنوياً لدنياهم وآخرتهم، وليسترشدوا بذلك إلى علم اللّه تعالى بكل شيء ومنه أعمالهم، فيحذروا مخالفته وليرغبوا في طاعته، إذ لا يبقى بعد ذلك عذر لهم ليعتذروا به، فالرسول قد بلغ فتمت الحجة وأعمالهم ونواياهم مكشوفة.

الثاني: قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَٰمًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ...} الآية.

الجعل تكويني وتشريعي، فأما التكويني فهو جعل خصوصيات للكعبة تختصّ بها من دحو الأرض منها وإنزال الملائكة إليها وغير ذلك، وأما التشريعي فهو تشريع أحكام ترتبط بها لحرمتها فلا يجوز دخول مكة إلا بإحرام ولا يجوز صيد الحرم وقلع نباته ويجب الحج والعمرة لمن استطاع وغير ذلك من أحكام.

وقوله: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي له حُرمة، وأصله من المنع؛ لأن ما له حُرمة يمنع عنه ويمنع فيه ما لا يمنع في غيره.

قيل: هو عطف بيان على جهة المدح والتعظيم أو لأن المشركين ابتدعوا

ص: 334

كعبات مختلفة ليواطئوا الكعبة المشرفة، فأراد اللّه بيان أن كعبته إنما هي البيت الحرام لا الكعبات المبتدعة والتي هدمها المسلمون بعد ذلك، فيكون {قِيَٰمًا} المفعول الثاني للجعل.

ويحتمل أن يكون {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} المفعول الثاني، و{قِيَٰمًا} حال أو مفعول له، فالمعنى جعل الكعبة بيته المحرّم حال كونها قياماً أو للقيام.

فعلى الأول يكون تعليل الحكم بقوله: {ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ...}، وعلى الثاني تكون هناك علّتان مترتبتان، أي جعل الكعبة بيته المحرم لقيام الناس وليعلموا أن اللّه...، فإن قيام الناس هو غرض في طريق غرض أهم هو صحة اعتقادهم وعملهم.

وقوله: {قِيَٰمًا} أصله قِواماً والمراد ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم، قال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ * فِيهِ ءَايَٰتُ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}(1)، فمن ذلك جعلها قبلة للصلاة وللذبح ولدفن الأموات، وللحج والعمرة إليها مع ما فيهما من الفوائد المادية والمعنوية في حفظ الدين وترابط المسلمين وعبادة اللّه تعالى وعدم الشرك به وما يترتب على ذلك من الغفران والثواب والأمن في الآخرة، ولذلك كان الحج من أهم أركان الإسلام، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك.

وحيث جعلها قياماً للناس أحاط ذلك بسلسلة من التشريعات التي تحفظ الحرمة، ومنه محرّمات الإحرام والحرم والذي منه أحكام الصيد.

ص: 335


1- سورة آل عمران، الآية: 96-97.

وقوله: {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي وجعل الشهر الحرام، والمراد منه إما ذو الحجة حيث يقع الحج، أو جنس الشهر فيراد ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم؛ لأن هذه الأشهر ترتبط بالحج - ذهاباً وإياباً - ، وكذلك رجبيرتبط بالعمرة.

وقوله: {وَالْهَدْيَ وَالْقَلَٰئِدَ} أي وجعلهما، وقد مرّ ذكرهما في أوائل السورة، وقيل: القلائد وإن كانت داخلة في الهدي لكن خصّها بالذكر لأنها من البُدن، فهي أهم والثواب فيها أكثر وبهاء الحج معها أظهر.

والحاصل: جعل حرمة للمكان وللزمان ولما يرتبط بهما من أمور.

وقوله: {ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ...} لعل المقصود أن هذه التشريعات تزيد من إيمانكم وطاعتكم فهي طريق إلى هدايتكم، ولذلك شرّعها اللّه تعالى فيكون قوله: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ...} كناية عن ألوهيته، إذ إن الذي يعلم بالذات كل شيء لا يعقل كونه محدوداً مخلوقاً، ولعل ذكر خصوص علمه لأنه يرتبط بالعقاب والثواب والطاعة.

والحاصل: أن تشريع هذه الأحكام وجعل هذا الاحترام للبيت إنما هو طريق لهداية الناس ليؤمنوا باللّه فيحذروا من مخالفته ويرغبوا في طاعته.

ويحتمل أن يكون المقصود هو بيان أن الذي يضع أفضل الأحكام التي لا عوج ولا خلل فيها هو الذي يعلم بكل شيء، إذ من لا يحيط بكل شيء تخرج تشريعاته ناقصة لغفلته عن كثير من الأمور حيث يجهل بها، وفي التقريب: «فإنه عالم بأحوال الإنسان وما يكتنفه من العداء والشر، وأنه يحتاج إلى هدوء وسكينة في المكان وفي الزمان، وأن الناس يحتاجون إلى

ص: 336

ما يقيم معاشهم ومعادهم، ولذا جعل هذه المحرمات للاستراحة والاستجمام ولعل ذكر السماوات استطراداً، فإن ما ذكر مرتبط بالأرض،لكن لو ذكرت وحدها لأوهم عدم علمه سبحانه بما في السماوات»(1).

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قيل: هذا تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق، فإن علمه سبحانه لا ينحصر بما في السماوات والأرض، بل يعلم بما هو خارج عنهما كالعرش وغيره، ويعلم بما لم يوجد أصلاً كما يعلم بالمعاني التي هي ليست بأجسام، ولعل الغرض من ذكر علمه مرتين تارة علمه بما في السماوات والأرض، وتارة علمه بكل شيء هو التعظيم والتوقير ليزداد خشوع السامع وخضوعه فيرغب في طاعته وترك معصيته.

فتحصل أن معنى الآية: هو أن اللّه جعل الكعبة قياماً للناس أو جعل الكعبة بيته الحرام لقيام الناس، وكذا الشهر الحرام والهدي والقلائد لكي يكون طريقاً لهدايتهم إلى اللّه تعالى فيطيعوه ويحذروا مخالفته.

الثالث: قوله تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

هذه الآية كالتتمة أو التعليل لما ذكر من جزاء الصيد، وكذا تهديد لمن يهتك حرمة الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد، فاللّه تعالى لا يُحابي أحداً ولا يعمل إلاّ بحكمته تعالى فلذلك حيث كان الحكمة العقاب عاقب، وحيث كانت في الغفران غفر، فهو شديد العقاب لمن لا قابلية له للعفو ومنه المعاند الذي يعود إلى الصيد، كما أن من كفّر عن ذنبه وتاب له أهلية أن

ص: 337


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 22.

يشمله الغفران فيغفر اللّه تعالى، فالآية تتضمن وعيداً ووعداً لكلتا الطائفتين، وإنما قدّم الوعيد لأن الكلام حول هتك حرماته فمن هتك يستحق العقابإلاّ لو تاب فيتفضل اللّه عليه بالرحمة والغفران.

الرابع: قوله تعالى: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَٰغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}.

كأن هذه الآية لبيان عدم عذر لهم في مخالفة أوامر اللّه وهتك حرماته، فإن العذر إما عدم علمهم بالتكليف أو تمكنهم من إخفاء جرمهم عن اللّه، فيقال لهم: إن الرسول قد بلّغ فأدّى مهمته كاملة بنجاح تام فلا عذر لكم بعده، كما أن اللّه يعلم نواياكم وأقوالكم وأفعالكم فلا تتمكنون من أن تخدعوه قال سبحانه: {يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}.

بيان للقاعدة العامة والتي مسألة حلية وحرمة الطعام وصيد المحرم ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، فتحريم الخمر والميسر وما ذبح على الأنصاب والتقسيم بالأزلام وصيد البر في حالة الإحرام كلّها من الخبيث الذي لا بد من الاجتناب عنه، وأما سائر الطعام مما أحلّه اللّه وكذا الأعمال والأقوال والاعتقادات وغيرها مما أمر اللّه بها فهي من الطيب، لكن قد يكثر الخبيث ويعتاده الناس عليه فينبهر بعض الناس به، فيقال لهم: لا تنخدعوا بكثرة

ص: 338


1- سورة البقرة، الآية: 9.

الخبيث فإن كثرته لا تخرجه عن حقيقته، فعليكم إزاحة الشبهات والأهواء عن عقولكم لتروا بخالص العقل أن الخير في الطيب وإن قلّ، والشر فيالخبيث وإن كثر؛ وذلك لأن توهمات الناس وحبهم لشيء بالشهوات والعادات لا تغيّر حقائق الأشياء عن واقعها، فالطعام اللذيذ المسموم خبيث حتى وإن استلذ به آكله، والدواء المرّ طيب حتى وإن رغبت النفس عنه.

وقوله: {لَّا يَسْتَوِي} المقصود بيان أن الطيب خير من الخبيث وأنه لا يعقل تساويهما من أية جهة من الجهات، فإذا لم يتساويا فبطريق أولى لا يكون الخبيث أفضل، وهما قد يكونان في الناس كالمؤمن والمنافق، أو في الطعام كالماء والخمر ولحم الغنم ولحم الخنزير، أو في الأشياء كالأرض الصالحة للزراعة وغيرها، أو في الاعتقادات كالإيمان والكفر، أو في الأخلاق كالأمانة والخيانة، أو في الأقوال كالصدق والنميمة، أو في الأعمال كالعدل والظلم، أو في الأموال كربح التجارة والربا وغير ذلك، قال سبحانه: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(1)، وقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ}(2)، وقال: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}(3)، وغيرها من الآيات.

وأما معنى الخبيث والطيب فقد مرّ، وحاصله أنهما أمران واقعيان قد

ص: 339


1- سورة آل عمران، الآية: 179.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.
3- سورة الأعراف، الآية: 58.

يدركهما الإنسان وقد لا يدركهما لكن كشف عنهما الشرع، فكل ما وافق طبع الإنسان ولم يكن فيه ضرر واقعي فهو الطيب حتى لو لم يستسيغهالإنسان كالأدوية المرّة، وكلّ ما خالف طبعه مما كان فيه الضرر دنيوياً أو أخروياً فهو الخبيث حتى لو استساغه الإنسان كالخمر.

قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} أي حتى لو راق لك الخبيث وأثار إعجابك بسبب كثرته، فالكثرة لا تغيّر حقيقة الشيء عما هو عليه، كذلك القلة، فالميزان الجودة لا الكثرة، وفي التقريب: «كما نرى اليوم كثيراً من الناس يتناولون المحرمات مدعين عدم الفرق بينها وبين المحلّلات... ولعلّ قوله: {لَوْ} لدفع استبعاد بعض الناس: أنه كيف يمكن أن يكون هذا الشيء الكثير حراماً»(1).

السادس: قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

أي حيث علمتم أن المناط في الحلال والحرام ليس الكثرة والقلة، بل الطيب والخبث، فاتقوا اللّه ولا تعرّضوا أنفسكم لسخطه وعذاب بارتكاب الخبيث، بل آثروا الطيب القليل على الخبيث الكثير.

وقوله: {يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} حثّ على إزالة ركام الشهوات والعادات واتّباع الآباء لتنظروا إلى الأمر بخالص العقل لتدركوا صحة ما يقال لكم فتتقوا اللّه تعالى وذلك يقودكم إلى الفوز في الدنيا باجتنابكم أضرار الخبيث، وفي الآخرة بإبعاد أنفسكم عن عذاب اللّه الذي يكون نتيجة ارتكاب الخبيث.

ص: 340


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 23.

الآيتان 101-102

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَْٔلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسَْٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ 101 قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ 102}

101- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} حيث إن اللّه قد بين لكم أن كل مأكول حلال إلاّ بعض ما حرّمه، فلا معنى للسؤال عن حلية أو حرمة أشياء من المأكولات، فالقاعدة العامة هي {لَا تَسَْٔلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ} تظهر {لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} توجب لكم السوء كالحزن أو الصعوبة أو العصيان، أمّا السؤال عمّا لا يوجب المساءة فهو مطلوب.

{وَ} ليس النهي لأجل عدم العلم بها ف-{إِن تَسَْٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ} أي حين وجود النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بين أظهركم {تُبْدَ لَكُمْ} إذ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) سيُجيبكم عنها بالتلقي عن الوحي.

وإنما لا تُبَيّن لكم قبل السؤال لأنه {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي لا يؤاخذكم على عدم العلم بها فلا تتكلفوها، {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} لذلك يريد التسهيل عليكم لكي لا يقال لكم أمور تنكرونها أو تخالفونها.

102- {قَدْ سَأَلَهَا} أي سأل المسألة التي تسوؤهم {قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} لعلّهم بنو إسرائيل {ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ} لم يقبلوها فكفروا فعُوقبوا.

ص: 341

بحوث

الأول: في ارتباط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما احتمالات، منها:

1- إن اللّه تعالى لما ذكر جملة من أحكام المأكولات وقد بيّن في الآية 93 القاعدة العامة بعدم الجناح فيما أكلوا إلاّ ما نزل تحريم خاص فيه، فعليه لا معنى للسؤال عن المحلّلات والمحرمات من المأكولات، فإنه لغو ويرهق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

2- أو أنه تعالى لمّا أتمّ حكم الصيد للمحرم ببيان منزلة الكعبة وأنها قيام للناس وكذا ما يرتبط بها من الشهر الحرام والهدي، وبيّن اللّه تعالى ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وجوب الحج، عند ذلك سأله بعضهم عن وجوب الحج في كل عام أو في العمر مرّة واحدة(1)، مع أن إطلاق الأمر يقتضي الإتيان بطبيعة الحج - وهو يحصل بالمرة الواحدة - ، ولو كان هناك إطلاق فلا معنى للسؤال عن القيود؛ لأن اللّه تعالى حكيم فإذا كان هناك حاجة للمؤمنين لبيان القيود لهم لبيّنها، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح، واللّه عزّ وجلّ يتعالى عن القبيح، فعدم بيانه لقيد يدل على عدم أخذه في الموضوع والحكم.

3- أو هما آيتان مستقلتان عمّا قبلهما وبعدهما، إذ لا يشترط ارتباط الآيات، بل حتى الآية الواحدة كما روي ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (2)، وقد يقال: إنه قد يطول الموضوع الواحد فيتم بيان أمر آخر في وسطه لرفع

ص: 342


1- راجع مجمع البيان 3: 612.
2- راجع مجمع البيان 3: 612.

الملل وللتنبيه ولتنشيط الأذهان.

فقد قيل: إن بعض الناس سأل عن صحة نسبه إلى أبيه، وآخر عن مكان أبيه المشرك في الجنة أو في النار(1)، وهذه أسئلة لا ينبغي السؤال عنها بعد القاعدة الشرعية العامة بأن الولد للفراش، وبعد ثبوت أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فإن الشارع لم يجعل طريقاً إلى معرفة حقائق هذه الأمور إلاّ القواعد الشرعية الظاهرية ولا يراد للناس مخالفتها، فما الفائدة إذا علم الإنسان بعدم صحة نسبه إلى أبيه أو علم بمكان أبيه في النار إلاّ التكذيب أو الحزن؟!

معنى النهي عن السؤال

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَْٔلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.

ليس النهي عن مطلق السؤال بل النهي عن السؤال الذي يكون جوابه سبباً للمساءة، وأما السؤال للتعلّم فهو مطلوب مأمور به سواء كان في الأصول أم الفروع أم الموضوعات قال تعالى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(2)، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}(3)، بل هناك مجموعة من الآيات صُدّرت ب-(يسألونك) وقد أجاب اللّه عن سؤالهم كقوله: {يَسَْٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}(4)، وقوله: {وَيَسَْٔلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}(5)، وقوله: {وَيَسَْٔلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ

ص: 343


1- راجع مجمع البيان 3: 612.
2- سورة النحل، الآية: 43.
3- سورة البقرة، الآية: 186.
4- سورة البقرة، الآية: 219.
5- سورة البقرة، الآية: 222.

عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا}(1)، فإن سؤال المستفهم إذا كان هناك فائدة في استفهامه مطلوب، وأما سؤال المتعنت أو سؤال من لا حاجة له في الجواب لمعلوميته فهو لغو لا ينبغي صدوره عن عاقل، وفي الحديث: «سل تفقّهاً ولا تسأل تعنتاً»(2)، قال سبحانه: {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}(3) وكان كلا السؤالين تعنتاً، فسؤالهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان بعد ما رأوا المعجزات الباهرات وبعد ما وجدوه في كتبهم، وسؤالهم موسى (عليه السلام) بعد عملهم بأن اللّه لا يُرى.

وقوله: {إِن تُبْدَ لَكُمْ...} جمله شرطية في مقام الوصف للأشياء، فالنهي مقيد بالسؤال عمّا يكون هذا وصفه.

وقوله: {تُبْدَ} من البداء أي الظهور، سواء كان عن جهل أو عن إخفاء، فقد يجهل الإنسان شيئاً ويريد أن يعلم به، وقد يُخفي شيئاً مع علمه به، لكنه يسأل عنه لغرض من الأغراض، كأن يريد إظهار جهله أو يريد معرفة علم الآخرين به ونحو ذلك.

وقوله: {تَسُؤْكُمْ} أي توجب مساءتكم، وفي المفردات: «السوء: كل ما يغمّ الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية، ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجة»(4) فيدخل فيه كل ما يوجب الغم أو الصعوبة والمشقة ونحو ذلك.

ص: 344


1- سورة الكهف، الآية: 83.
2- نهج البلاغة، الحكمة: 320.
3- سورة النساء، الآية: 153.
4- مفردات الراغب: 441.

الثالث: قوله تعال: {وَإِن تَسَْٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ}.

1- أما في الأمور الشخصية: فقد كانت المصلحة في إبدائها لئلا يتّهموا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعدم تهمته مصلحة أهم من مفسدة مساءتهم، أما مع عدم سؤالهم فقد يجمع بين الأمرين عدم الاتهام وعدم المساءة.

2- وأما في الأحكام الشرعية: فإن اللّه قد بيّن قواعد عامة من غير ذكر قيود، فلو كان يريدها لبيّنها لئلا يكون تأخير للبيان عن وقت الحاجة كما ذكرنا، ولم يشرّع أحكاماً أخرى فلا معنى للسؤال عنها، إذ لو كان يريد تشريعها لم ينتظر سؤالهم.

سؤال: من المعلوم أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فكيف يشرّع اللّه حكماً تبعاً لسؤالهم؟

والجواب: أن من أهم المصالح مصلحة التسهيل، كما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(1)، لكن أحياناً يلزم معاقبة المتعنّت عبر عدم التسهيل له، كما حدث في بقرة بني إسرائيل لما أمرهم اللّه بذبح بقرة ولم يقيّدها بوصف خاص، لكنهم تعنتوا فسألوا عن الأوصاف فعاقبهم اللّه بأن قيّد الحكم بأوصاف متعددة حتى لم يجدوا إلا بقرة واحدة متصفة بها، فاضطروا أن يشتروها بثمن غالٍ جداً، وقال تعالى: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}(2).

وقوله: {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ} أي حين اتصال الوحي وعدم انقطاعه،أي

ص: 345


1- سورة البقرة، الآية: 185.
2- سورة النساء، الآية: 160.

في زمان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أما في التشريعات فإنها كانت مستمرة إلى يوم الغدير حيث كمل الدين فكان يحتمل تشريع جديد، أما بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلا تشريع وفي التقريب: «إن المصالح التشريعية قد كملت في زمن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى أنه لا تشريع جديد بعده، ولذا فلم يكن الأئمة (عليهم السلام) بمثابة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في إمكان تشريع الحكم، وإن كان من الممكن التشريع لو حدث في زمن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) شيء، وهذه المصلحة - وهي انسداد باب التشريع حتى لا يكون لأحد ذلك بعد الرسول - وإن كان مفوتاً لمصالح واقعية مثلاً، لكنها أقوى في الاعتبار من مراعاة مصالح لأحكام جديدة»(1).

وفي الحديث «حلاله - أي حلال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) - حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(2)، فحينئذٍ لا يكون في السؤال عن الأحكام الشرعية للموضوعات المختلفة محذور إلاّ لو كان السؤال لغواً أو تعنتاً، وأما في سائر الأمور فإنه لا معنى للسؤال عن المغيبات وقد جعل اللّه تعالى طرقاً طبيعيّة أو ظاهرية لمعرفتها، والأئمة (عليهم السلام) وإن كانوا يعلمونها بتعليم من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنهم لم يكونوا مأمورين ببيانها ولا الجواب عن السؤال عنها إلاّ فيما كانوا يرونه صلاحاً لهداية الناس أو لغرض آخر وتلك حالات استثنائية.

الرابع: قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.

ص: 346


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 25.
2- المحاسن 1: 270.

أي لا يؤاخذكم على عدم علمها وعدم العمل بشيء منها، فمثلاً في بقرة بني إسرائيل لو لم يلاحظوا لوناً خاصاً وأوصافاً خاصة للبقرة لكان كافياً ومجزياً لهم لامتثال أمره تعالى في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}(1)، فإن العفو كما يكون عن ذنب كذلك يكون في فعل شيء لم يُشرّع فيه حكم خاص كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}(2)، وكذا قد يكون في عدم تشريع أمر مع وجود مصلحة في المتعلّق إلاّ أن هناك مصلحة أهم في عدم التشريع كمصلحة التسهيل نظير قوله (عليه السلام) : «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»(3)،

وقد يكون في التنازل عن حق حتى لو لم يكن ذنب كقوله: {أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}(4).

وقيل: إن الضمير في {عَنْهَا} يرجع إلى المسألة، أي لا يعاقبكم على الأسئلة السابقة التي سألتم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عنها، فإن أسئلتهم السابقة وإن كانت غير مناسبة وهم يعلمون قبحها إلاّ أنها كانت قبل النهي، واللّه تعالى بفضله لا يعاقب قبل النهي حتى لو كان العقاب جائزاً عقلاً، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(5) وهذا من فضل اللّه تعالى على الناس، فإنه يقبح العقاب بلا بيان لكن لا فرق عقلاً بين كون البيان عن طريق العقل أم

ص: 347


1- سورة البقرة، الآية: 67.
2- سورة التوبة، الآية: 43.
3- الكافي 3: 22.
4- سورة البقرة، الآية: 237.
5- سورة الإسراء، الآية: 15.

عن طريق الشرع، فمن يعلم عقلاً بقبح شيء لا مانع عن عقابه عقلاً إلاّ أن اللّه وعد أن لا يعذبه إن لم يكن قد أرسل الرسل.

وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فإن غفرانه وحلمه صارا سبباً لعدم المؤاخذة عليها.

الخامس: قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَٰفِرِينَ}.

الضمير في {سَأَلَهَا} يرجع إلى المصدر، أي سأل المسألة ولذا لم تكن التعدية ب-(عن)، وهؤلاء القوم قد يراد بهم قوم بعينهم لكن لم تذكرهم الآية لعدم الحاجة إلى تعيينهم، أو يراد منه الإطلاق فيشمل الذين سألوا الناقة ثم عقروها، والمشركين الذين سألوا الآيات ثم كذبوها، وبني إسرائيل الذين سألوا المائدة ثم كفروا بها، وأصحاب طالوت الذين سألوا نبيهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل اللّه ثم عصوا إلا القليل منهم، وكذا غيرهم.

وهذا كالتعليل للنهي عن السؤال الموصوف بأنه يسوؤهم جوابه؛ لأن من يسوؤه الشيء فغالباً ينكره قلباً وقد يكذبه لساناً وقد يرفض العمل به، وهذا نظير الذي ينذر الأمور الصعبة فيُلزم نفسه بالنذر، لكن لمّا يرى صعوبته يخالف، فقبل نذره لم يكن عليه في مخالفته شيء لكن لمّا أوجبه على نفسه ألقى نفسه في العصيان بالمخالفة، لذلك يكره النذر إلاّ لمن يطمئن بوفائه به، قال سبحانه: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسَْٔلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}(1)، ثم إن التشريعات

ص: 348


1- سورة البقرة، الآية: 108.

الإلهية لا تروق لكثير من الناس؛ لأنها تخالف هواهم، وهذا المقدار لا بد منه، إذ الحق لا يتبع الأهواء، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}(1)، وقال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}(2)، لكن الكلام هو فيما اقتضت المصلحة الأهم عدم التشريع فلا وجه للسؤال لتتبدل المصلحة إلى مصلحة التشديد عقوبة ونكالاً، كما عرفت، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «إن اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها»(3).

ص: 349


1- سورة البقرة، الآية: 87.
2- سورة المؤمنون، الآية: 71.
3- نهج البلاغة، الحكمة: 105.

الآيات 103-105

اشارة

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٖ وَلَا سَائِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ 103 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَئًْا وَلَا يَهْتَدُونَ 104 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 105}

103- بعد أن ذكر اللّه المحلّلات والمحرمات ونهى عن السؤال عمّا سكت عنه، بيّن بعض افتراءاتهم فيما حرّموه فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ} لم يشرع تحريم هذه المذكورات {مِن بَحِيرَةٖ} نوع من النياق تُشق آذانها {وَلَا سَائِبَةٖ} نوع منها تُترك فتجري على الأرض من غير انتفاع بها {وَلَا وَصِيلَةٖ} الناقة أو الشاة الموصولة بأخيها التوأم {وَلَا حَامٖ} البعير الذي حمى نفسه باستيلاده عشرة، كان الجاهليون يحرّمون هذه الحيوانات فيجعلونها محرّرة لا يركبونها ولا يأكلونها ولا يمنعونها عن ماء أو كلأ ونحو ذلك، كل ذلك لم يجعله اللّه {وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فيقولون إن اللّه حرّمها افتراءً عليه سبحانه {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ليس لهم عقل يميّز بين الحق والباطل، والحلال والحرام،

ص: 350

والصدق والافتراء.

104- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} لهؤلاء المفترين الذين لا يعقلون {تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَاأَنزَلَ اللَّهُ} من أحكام شرعية في القرآن {وَإِلَى الرَّسُولِ} في سنّته وقضائه {قَالُواْ حَسْبُنَا} يكفينا {مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا} فنقلّدهم في كل شيء ومنه الحلال والحرام فقل في جوابهم: {أَوَلَوْ} الهمزة للاستفهام الإنكارى، والواو عاطفة، ولو وصلية، أي هل يتبعونهم حتى لو {كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَئًْا وَلَا يَهْتَدُونَ} فإن تقليد الجاهل الضال باطل بضرورة العقل وإنما يصح رجوع الجاهل إلى العالم المهتدي فقط.

105- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} حيث علمتم ضلال هؤلاء وافتراءهم على اللّه ف-{عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي احفظ-وها والزم-وا صلاحها {لَا يَضُرُّكُم} نهي بمعنى لا يسبب ضرركم {مَّن ضَلَّ} حتى لو كانوا من آبائكم، {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إلى الصراط المستقيم عقيدة وعملاً، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} سواء الضالون والمهتدون {فَيُنَبِّئُكُم} يخبركم ليجازيكم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فكل واحد يتحمل وزر نفسه ولا ينفعه ولا يضرّه آباؤه وأبناؤه.

بحوث

الأول: لمّا بيّن اللّه ما أحلّه وما حرّمه، ونهى عن السؤال عمّا سكت عنه، بعد ذلك بيّن افتراءاتهم على اللّه تعالى بتحريم بعض ما أحلّه اللّه، ومن ذلك يستفاد قاعدة عامة هي أن التحليل والتحريم تشريع خاص باللّه تعالى، فلا يجوز أن يشرع الناس تحريماً أو تحليلاً ثم ينسبونه إلى اللّه تعالى، فإن ذلك افتراء وكذب وعدم تعقّل، بل لا بد من الرجوع إلى اللّه تعالى فإنه المشرِّع،

ص: 351

وإلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه المبلِّغ عن اللّه تعالى كما أن اللّه سبحانه قد فوّض التشريع إليه حصراً، وليست طريقة الآباء دليلاً على التشريع، إذ يمكن أن يكونوا ضالّين، نعم لو كانت طريقتهم ناشئة من علم وهداية فلا مانع مناتباعهم، ثم يذكر اللّه تعالى إن اتباعهم من غير حجة لا ينفع، إذ إن اللّه تعالى هو المحاسب يوم الجزاء وهو الذي لا يخفى عليه شيء ولا يقبل منهم شيئاً إلاّ بحجة من عقل أو شرع حصراً.

من بدع الجاهلية في تحريم الحلال

الثاني: قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٖ وَلَا سَائِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ}.

كان الجاهليون يحرّمون هذه الأنواع من النياق والشياه وينسبون التحريم إلى اللّه سبحانه، من غير حجة وبرهان، فيذمهم اللّه على ذلك، ومن ذلك يستفاد قاعدة عامة هي عدم صحة نسبة شيء إلى اللّه تعالى إلاّ بحجة صحيحة.

وقد اختلف المفسرون في معاني هذه الأصناف الأربعة، إلاّ أن ذلك لا يضرّ بأصل المسألة حيث حرموا أنواعاً من النياق والشياه وبيّن اللّه عدم حرمتها وأن تحريمها بدعة، فكل النياق والشياه محلّلة إلاّ ما ورد في الشرع حرمته.

وقيل: لعلّ كل المعاني المذكورة كانت بين الجاهليين وكل طائفة تفسر الكلمة بما يحلو لها أو ما اعتادت عليه شأن العادات الهمجيّة المنتشرة بين الأقوام البدائية، فتختلف من حي إلى حي ومن منطقة إلى منطقة ومن قبيلة إلى أخرى.

ص: 352

لكل العمدة في معناها ما ورد في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) (1).

قوله: {مِن بَحِيرَةٖ} من البحر بمعنى الشق، حيث كانوا يشقون أذنها، فقد روي: «أن البحيرة: الناقة إذا انتجت خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بَحَروا أُذُنها أي شقُّوها، وكانت حراماً على النساء والرجال - لحمها ولبنها - ، فإذا ماتت حلّت للنساء»، وروي: «البحيرة إذا وَلدت ووَلَدَ وَلَدُها بحرت».

وقوله: {وَلَا سَائِبَةٖ} من السَيب بمعنى الجريان، يقال: انساب الماء إذا جرى على الأرض، وهي الناقة تترك، وروي: «إذا ولدت عشرة جعلوها سائبة، ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها»، وروي: «البعير يسيّب بنذر يكون على الرجل إن سلّمه اللّه عزّ وجلّ من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك».

وقوله: {وَلَا وَصِيلَةٖ} من الصِلة وهي إما بمعنى الواصلة أو الموصولة وروي: «إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا وصلت، فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها»، وروي: «الوصيلة من الغنم: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً ذُبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح، وكان لحمها حراماً على النساء، إلاّ أن يموت منها شيء فيحلّ أكلها للرجال والنساء».

وقوله: {وَلَا حَامٖ} الحامي هو الذي حمى نفسه وظهره، وروي: «الحام: فحل الإبل»، وروي أنه: «الفحل إذا رُكب ولد ولده، قالوا: قد حمى ظهره،

ص: 353


1- راجع معاني الأخبار: 148؛ والبرهان في تفسير القرآن 3: 495-496.

وقد يروى أن الحام هو من الإبل إذا أنتج عشرة أبطن، قالوا: قد حمى ظهره، فلا يُركب، ولا يُمنع من كلأ ولا ماءٍ».

والحاصل: أن هذه أنواع من الإبل والغنم كانوا يطلقونها ولا ينتفعون بها وينسبون ذلك إلى اللّه سبحانه افتراءً عليه.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.

كأنّه جواب عن سؤال: بأنه إذا لم يشرّع اللّه سبحانه هذه الأحكام فمن أين أتى بها هؤلاء؟

والجواب: أنهم يفترون على اللّه الكذب، وفي ذلك دلالة على أن نسبة شيء إلى اللّه تعالى يدور بين أمرين: إما حجة هي قول اللّه في القرآن أو قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وإما افتراء على اللّه تعالى.

وأما كلام الأئمة فهو مأخوذ من القرآن ومن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب اللّه»(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث رسول اللّه، وحديث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قول اللّه عزّ وجلّ»(2).

وقوله: {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، قيل: الافتراء أخص من الكذب؛

ص: 354


1- بحار الأنوار 89: 91.
2- الكافي 1: 53.

لأنه نسبة باطل إلى أحد وهو لا يرتضيها، وضم الكذب إلى الافتراء زيادة في التشنيع عليهم، أو الكذب هنا بمعنى المكذوب، فالمعنى ينسبون زوراًإلى اللّه التشريع الباطل.

وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} لعل المعنى أنهم لا يميزون الحق عن الباطل ولا الحرام عن الحلال فهم من الجهلة الضُلّال التابعين للمُضلّين، وهؤلاء أكثرهم، وهناك أقلية تعرف الحق ولكنها تنكره ولذا عبرّ عن الكفار بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} بهذا الاعتبار، وأما باعتبار عدم استعمالهم لعقولهم فكلهم لا يعقلون قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(1)، وقيل: الذين يفترون الكذب هم المضلّون المتبوعون، والذين لا يعقلون هم الضالون التابعون وهؤلاء هم الأكثر.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ...} الآية.

افتراؤهم على اللّه سبحانه - حيث لا حجة لهم - يقابله الصدق عليه بأن تكون الحجة قائمة وهي ما أنزل اللّه تعالى في القرآن، أو ما شرّعه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بتفويض من اللّه تعالى، فهنا قد أذن اللّه بأن ينسب إليه الحكم، وما سوى ذلك باطل كتبريرهم بأنهم يتبعون آباءهم، ويردهم اللّه تعالى بأنه لا يصح اتباع من لا علم له ولا هداية حتى لو كان الآباء، فأبوّتهم ليست حجة لنسبة فعلهم إلى اللّه تعالى.

ويمكن أن يكون {مَا أَنزَلَ اللَّهُ} إشارة للتكاليف، و{إِلَى الرَّسُولِ} في

ص: 355


1- سورة الملك، الآية: 10.

القضايا والموضوعات، أو ما أنزل اللّه في كتابه وإلى الرسول في تفسيرهوبيانه.

وقوله: {لَا يَعْلَمُونَ شَئًْا وَلَا يَهْتَدُونَ} عدم العلم جهل وعدم الاهتداء ضلال، أي حتى لو كان آباؤهم جهلة وضُلاّلاً، فإن العلم وحده لا يكفي، بل لا بد من ضمّ الهداية له قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَٰفِرُونَ}(1)، وقال: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}(2)، وفي ذلك دلالة على جواز اتباع العالم المهتدي قال اللّه تعالى: {وَقَالَ الَّذِي ءَامَنَ يَٰقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}(3)، وقال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(4).

ولذا اشترط في صحة الاتبّاع في فروع الدين أن يكون المتبوع عالماً عادلاً؛ لأن الفاسق غير مهتدي فلا يصح تقليده في أمور الدين.

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...} الآية.

بعد أن نهى عن تقليد الآباء إذا كانوا جهلة ضُلاّلاً، بيّن اللّه للمؤمنين أن ضلال أولئك لا يضرّهم إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، كما أن إيمانهم لا ينفعهم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسِ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(5)، وقال في ابن نوح:

ص: 356


1- سورة النحل، الآية: 83.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- سورة غافر، الآية: 38.
4- سورة التوبة، الآية: 122.
5- سورة المدثر، الآية: 38.

{قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ}(1)، فالآية في مقام الحث على عدم اتباع أهل الضلال وليست في مقام ترخيص ترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف وإرشاد الجاهل.

وقوله: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي الزموها واحفظوها، و(عليك) اسم فعل بمعنى الزم.

وقوله: {لَا يَضُرُّكُم...} الظاهر أنه نهي أي لا تضروا أنفسكم باتباع أهل الضلال، أو لا تحسب كفره ضرراً عليك فإن المطيع لا يُؤخذ بذنب العاصي، ويحتمل كونه نفياً فالمعنى بيان عدم الضرر من الكفار على المهتدين.

وقوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أما مع عدم الاهتداء فأهل الضلال يضرون الذين اتّبعوهم؛ لأنهم يضلونهم فيوردونهم النار قال تعالى: {وَجَعَلْنَٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ}(2)، وغير خفي أن من شروط الاهتداء القيام بجميع الواجبات والتي منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل ونحو ذلك من وظائف اجتماعية.

وليس معنى الآية تركها كما زعم البعض أنها نزلت في التقية، أو ذلك بعد عدم نفع الأمر والنهي والإرشاد، أو أنها في تتبع عوارت الناس، فكل ذلك لا يرتبط بالآية، واللّه العالم.

وقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

ص: 357


1- سورة هود، الآية: 46.
2- سورة القصص، الآية: 41.

هذا كالتعليل لقوله: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم...} فالمعنى حينئذٍ أن الرجوع إلى اللّه تعالى العالم بحالكم والعادل الذي لا يظلم، فعنده لا تزر وازرة وزر أخرى ويثيب ويعاقب كل إنسان حسب أعماله لا أعمال الآخرين وإن كانوا من أقاربه.

وقوله: {مَرْجِعُكُمْ} مصدر ميمي، وهذا نظير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ}(1)، وقال: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(2).

وقوله: {فَيُنَبِّئُكُم} والغرض من الإخبار الجزاء، أي ينبئكم ليجازيكم، فإن ذلك أظهر للعدل، فالآخرة ليست كالدنيا حيث قد يختلط الأمر فيُعاقب البريء بجرم المذنب أو العكس.

ص: 358


1- سورة النور، الآية: 64.
2- سورة آل عمران، الآية: 55.

الآيات 106-108

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَوٰةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلَا نَكْتُمُ شَهَٰدَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْأثِمِينَ 106 فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فََٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَٰنِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّٰلِمِينَ 107 ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَٰنُ بَعْدَ أَيْمَٰنِهِمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ 108}

106- ثم بعد ذكر الحلال والحرام في المأكولات يذكر اللّه تعالى الحلال والحرام في الأموال فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ} خبر يراد به الإنشاء أي استشهدوا {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي قرب موته بأن ظهرت عليه أماراته كمرض شديد أو هرم، وتكون تلك الشهادة {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} أي شهادة اثنين {ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ} من المسلمين والعدالة هي الاستقامة على جادة الشرع ناشئة عن ملكة نفسانية {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} غير المسلمين، و«أو» للترتيب، أي مع فقد الشاهدين المسلمين

ص: 359

فشاهدان من أهل الذمة {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي سافرتم، وهذا الشرط غالبي، حيث إن فقدان الشاهدين المسلمين يكثر في الأسفار {فَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي اقترب أجلكم.

والحاصل: أن عليكم أن تستشهدوا للوصية عادلين من المسلين فإن لم يكونا فاثنان من الكفار وشهادة الكافرين مقبولة من غير حلف إن لم يكن هناك ريبة، لكن مع الريبة فيضم إلى ذلك القسم ف-{تَحْبِسُونَهُمَا} أي توقفون الكافرين {مِن بَعْدِ الصَّلَوٰةِ} حيث اجتماع الناس ليكون أبعد عن كذبهما حيث هيبة الاجتماع ورعب الكاذب {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}، ويكون القسم {إِنِ ارْتَبْتُمْ} والريبة شك مع تهمة، ويكون المقسم عليه: {لَا نَشْتَرِي بِهِ} أي بما نُدلي من الشهادة {ثَمَنًا} هو تحصيل دنيا زائلة ومال حرام {وَلَوْ كَانَ} الذي نُقسم لصالحه {ذَا قُرْبَىٰ} فإن الإنسان يميل إلى الشهادة لقريبه ولو كانت كاذبة {وَلَا نَكْتُمُ شَهَٰدَةَ اللَّهِ} أي الشهادة التي أمر اللّه بها {إِنَّا إِذًا} لو اشترينا بها ثمناً قليلاً أو كتمنا الشهادة {لَّمِنَ الْأثِمِينَ} العصاة، وبعد شهادتهما وحلفهما حين الارتياب تقبل الشهادة.

107- {فَإِنْ} تبيّن بعد ذلك كذبهما بأن {عُثِرَ} ظهر {عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي كذباً وبكذبهما ثبت عليهما الذنب والعقوبة، {فَ} فحينئذٍ تبطل شهادتهما ويردّ قسمهما ويُرجَع اليمين إلى أقرباء الميت وهما شاهدان {ءَاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي مقام الذميّين في الشهادة والحلف، وهذان الآخران هما {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي وجبت الوصية عليهما؛ لأنهما من أقرباء الميت وكان عليهما تنفيذها، وهما {الْأَوْلَيَٰنِ} تثنية أولى، أي

ص: 360

هما أولى بالميت من غيره {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَا} أي ما ندعيه ونحلف عليه {أَحَقُّ} أصدق {مِن شَهَٰدَتِهِمَا} شهادة الكافرين {وَمَا اعْتَدَيْنَا} لم نتجاوز الحق فيما نقول {إِنَّا إِذًا} في حال الاعتداء {لَّمِنَ الظَّٰلِمِينَ} حيث بالحلف الكاذب نظلم أنفسنا ونظلم أولئك.

108- {ذَٰلِكَ} الحكم بأن يحلف الكافريَن بعد الصلاة وردّ اليمين على أولياء الميت {أَدْنَىٰ} أقرب {أَن يَأْتُواْ} الأوصياء {بِالشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا} طريقتها المشروعة؛ لأن الأداء في الجمع العام يمنع من الكذب غالباً {أَوْ يَخَافُواْ} الفضيحة بأن {أَن تُرَدَّ أَيْمَٰنُ} تُرجع الأيمان إلى أولياء الميت {بَعْدَ أَيْمَٰنِهِمْ} أيمان الكفار.

ثم يعظ اللّه المؤمنين فيقول {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} احذروا عقابه {وَاسْمَعُواْ} أطيعوا اللّه تعالى، وإلاّ أصبحتم فاسقين {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} فيخذلهم ويقطع عنهم ألطافه مما يسبب عدم هدايتهم.

بحوث

الأول: لعل ارتباط هذه الآيات بما قبلها هو أن اللّه تعالى لما ذكر جملة من أحكام المأكورات طيّبها وخبيثها، أتمّها بذكر حكم جملة من الأموال حلالها وحرامها، ومن ذلك ما يوصيه الميت فهو حلال للموصى له وحرام على الورثة - بشروطه المذكورة في الفقه - لكن لا بد من وجود شهود يشهدون بالوصية، فإن كانا مسلمين عادلين فتكفي شهادتهما، وإلاّ فمع فقدانهما ونظراً لأهمية الوصية قد شرّع اللّه قبول شهادة أهل الكتاب ويحلّ المال للموصى له ويجب على الورثة قبول الوصية، لكن قد يرتاب الورثة

ص: 361

في شهادتهما فحينئذٍ شرّع اللّه ضميمة القَسم إلى الشهادة، وفي اجتماع من الناس بعد الصلاة ليكون أهيب للقلوب وأبعد عن الكذب، فإن حلفا نفذت الوصية، لكن لو بعد ذلك تبيّن كذبهما فهنا يحق لأولياء الميت طلب نقض الحكم وعلى اثنين منهما الحلف، فتبطل شهادة الذميين ويقبل ادعاء الورثة.وأما شأن نزول هذه الآيات فإنه روي: أن ثلاثة - مسلم ونصرانيّين - سافروا، فمرض المسلم ولما قرب موته سلّم أمتعته إلى الكافريَن ليوصلاها إلى ورثته، فلما مات سرقا منها آنية منقوشة بالذهب وقلادة، وأوصلا سائر الأمتعة إليهم، فافتقد الورثة الآنية والقلادة، فشكوهما إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فنزلت الآية الأولى، فأوجب عليهما اليمين، فحلفا، فخلّى سبيلهما، ثم عثروا على الآنية والقلادة فجاؤوا إلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ليحكم بينهم، فنزلت الآية الثانية(1).

ثم إن المفسرين قد أطالوا الكلام في إعراب هاتين الآيتين، وفي مجمع البيان: «وهذه الآية مع الآية التي قبلها من أعوص آيات القرآن إعراباً ومعنى وحكماً»(2)، إلاّ أنك ستعرف وضوح المعنى والحكم بجلاء، وأما الإعراب فاختلاف النحاة في تركيب جملة إنما هو بسبب قواعدهم التي وضعوها، وليست هي الحاكمة على اللغة، بل العكس هو الصحيح.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ...} الآية.

ص: 362


1- راجع الرواية في الكافي 7: 5؛ وتفسير القمي 1: 189.
2- مجمع البيان 3: 636.

الشهادة في الوصية

قوله: {شَهَٰدَةُ} مبتدأ، وقوله: {اثْنَانِ} الخبر، وحيث لا بد من مطابقة المبتدأ للخبر في كونهما معاً اسمي ذات أو اسمي معنى، فلا بد إما من تقدير مضاف في الخبر، أي (شهادة بينكم شهادة اثنين)، أو تأويل المبتدأ إلى اسم ذات، أي (الشهود بينكم اثنان)، وهذه جملة خبرية يراد بهاالإنشاء، أي استشهدوا اثنين للوصية.

وقوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قيل: حضور الموت كناية عن ظهور أماراته وذلك بمرض شديد أو هرم ونحو ذلك.

وقوله: {حِينَ الْوَصِيَّةِ} قيل: بدل عن {إِذَا حَضَرَ...}، وقد استفيد من ذلك تأكّد الوصية حين ظهور علائم الموت.

ويحتمل أن قوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} يراد به أداء الشهادة بعد موت الموصي، وقوله: {حِينَ الْوَصِيَّةِ} يراد به تحمل الشهادة حينما يريد الإنسان الوصية، فلا بد من استشهاد اثنين للوصية ولا بد من أن يؤدّيا كلاهما الشهادة بعد الموت، فتأمل.

وقوله: {اثْنَانِ} فلا تثبت الوصية كاملة إلاّ بشاهدين عادلين، وفي ثبوت بعض الوصية لو كان شاهد واحد أو كنّ نساءً - واحدة إلى أربع - تفصيل ذكرته السنة، فليراجع إلى الفقه.

وقوله: {ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ} أي من المؤمنين؛ لأن الخطاب لهم بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ}، والعدالة هي ملكة نفسانية تجعل الإنسان مستقيماً على جادة الشرع مع الالتزام العملي بالواجبات وترك المحرمات، ويكشف الملكة حسنُ الظاهر كسائر الصفات النفسانية التي تدل عليها الأعمال

ص: 363

والأقوال، فمن لم تكن له الملكة فليس بعادل، ومن كانت له الملكة لكنّه ارتكب كبيرة صار فاسقاً إلاّ أن يتوب فترجع، والتفصيل يطلب من الفقه، وعليه فلا تقبل شهادة الفاسق حتى وإن كان ثقة.

وقوله: {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي غير المؤمنين والمراد أهل الكتابويلحق بهم المجوس، وأما ما قاله البعض من أن {مِّنكُمْ} بمعنى من عشيرتكم و{غَيْرِكُمْ} من غير عشيرتكم! فغير صحيح؛ لأن الخطاب للمسلمين كما ذكرنا، وغير المسلمين هم الكفار، وقد بينت السنة انحصارهم في اليهود والنصارى والمجوس(1)، فلا تقبل شهادة المشركين ولا سائر الكفار على المسلمين، نعم شهادة بعضهم على بعض مقبولة بتفصيل مذكور في الفقه، و{أَوْ} للترتيب أي فإن لم يوجد ذوا عدل منكم فآخران من غيركم.

وقوله: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ...} هذا الشرط خاص بالشاهدين الكافرين، فإن شهادة المسلمين العادلين مقبولة مطلقاً في سفر أو حضر، وأما شهادة الذميين على المسلم فمقبولة في خصوص الوصية وفي حال عدم وجود المسلمين العادلين، وأما تقييده بالسفر فاختلف الفقهاء فيه فقال بعضهم: إن القيد غالبي فالمعنى حين فقدان المسلمين ولا فرق في كونه في سفراً أو حضراً إلاّ أن الغالب وجدان المسلمين في الحضر لذلك قيّده بالسفر، و(الضرب في الأرض) بمعنى السفر؛ لأن المسافر يكثر ضرب رجله في الأرض.

ص: 364


1- راجع وسائل الشيعة 27: 390.

وقوله: {فَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} ليس تكراراً لقوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}، بل لمّا ذكر شقّين قيّد كل واحد منهما بهذا القيد، فالشق الأول هو قوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٖ مِّنكُمْ}، والشق الثاني هو قوله: {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِفَأَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ}.

وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} والحبس هو المنع من الانبعاث، فالمراد يوقفان ليؤديّا الشهادة بعد الصلاة.

وقوله: {فَيُقْسِمَانِ} ومتعلق القسم أمران: عدم الكذب وعدم الكتمان.

وقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} هذا قيد للحبس والقسم فالمعنى شهادتهما مقبولة مطلقاً، لكن مع ارتياب الورثة بهما لا بد من ضمِّ الحلف إلى الشهادة.

وقوله: {لَا نَشْتَرِي بِهِ} أي لا نريد بهذه الشهادة كسب دنيا، وإنما نريد بيان الحقيقة، وضمير {بِهِ} راجع إلى الشهادة، وهو أظهر من إرجاع الضمير إلى القسم؛ لأن القسم إنما هو لإثبات صدق الشهادة، لا أن القسم لإثبات صدق القسم، وهذا المتعلّق الأول للقَسَم.

وقوله: {ثَمَنًا} أي متاع الدنيا سواء كان له أو لغيره.

وقوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} أي ولو كان المقسم له - الذي يحلف لصالحه - قريباً، فإن الإنسان يميل إلى أقربائه ولو عبر الشهادة الكاذبة، ولا يخفى أن شأن النزول لم تكن الشهادة لصالح قريب، ولكن حيث إن شأن النزول لا يخصص الحكم، بل يبقى الحكم عاماً لسائر الموارد لذلك ذكر هذا القيد.

لو تبيّن كذب شهود الوصية

وقوله: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَٰدَةَ اللَّهِ} هذا المتعلّق الثاني للقَسم، إذ أحياناً

ص: 365

الإنسان لا يكذب في شهادته ولكن يكتم حقيقة مما يؤدي إلى ضياعها وعدم وصول الحق إلى أهله، فإن من تحمّل شهادة يجب عليه أداؤها إذا دُعي إلى الشهادة، بل حتى إذا لم يُدعَ إليها لكن علم بضياع الحق لو لميؤدّها، وفي إضافة الشهادة إلى اللّه تعظيم لقدرها وبيان أهميتها والمعنى الشهادة التي وجب أداؤها بأمر اللّه تعالى.

وقوله: {إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْأثِمِينَ} أي اشترينا بها ثمناً أو كتمناها نكون من العصاة، وهذا نوع تغليظ في اليمين وليلتفت الشاهد بأن الكذب أو الكتمان في الشهادة إثم يكون وباله عليه.

الثالث: قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فََٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا...} الآية.

بيان لحكم آخر في المسألة، وهو أنه بعد قبول شهادة الكافرين الذميين في الوصية وقسمها حين ارتياب الوارث، لو تبيّن كذبهما، فهنا يمكن للوارث المطالبة بنقض الحكم السابق وإصدار حكم جديد لصالحه، لكن حيث إنه لا يصح الحكم إلا بعد الشهادة أو اليمين فلا بد من حلف اثنين من أقرباء الميت على ما يدّعون وبذلك ينقض الحكم السابق ويثبت ادعاء الورثة، قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» (1).

وقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ...} عثر عليه بمعنى وجده، يقال ضاع فرسي فعثرت عليه، والمراد هنا إذا ظهر كذبهما، ولعلّ التعبير بالعثور عليه لأجل أن في شأن النزول تمّ العثور على الآنية وبذلك ثبت كذب الشاهدين

ص: 366


1- الكافي 7: 414.

الذميين.

وقوله: {اسْتَحَقَّا إِثْمًا} كناية عن كذبهما، فإن الكذب في الشهادة والخيانة في الأمانة إثم يستوجب العقوبة.

فيكون حاصل العبارة: فإن عثر على المتاع فتبيّن أنهما كذبا وخانا فاستحقا العقوبة على إثمهما، وغير خفي وجوه البلاغة في العبارة بالاختصار وبإقامة السبب مقام المسبب وغير ذلك.

وقوله: {فََٔاخَرَانِ} أي فشاهدان آخران غير الذميين.

وقوله: {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي مقام الذميّين في الشهادة والحلف، فإن الشهادة كانت لهما باعتبارهما سمعا الوصية من الميت، إلاّ أن ظهور كذبهما صار سبباً لأن يُعطى ذلك للورثة.

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أي الورثة الذين استحقت الوصية عليهم، إذ لولا الوصية لكان المال لهم، لكن مع الوصية ثبت عليهم تنفيذها، وقيل: المعنى استحق عليهم الإثم بأن كانت الشهادة الكاذبة بضررهم.

وقوله: {الْأَوْلَيَٰنِ} تثنية أولى، أي هما أولى بالميت باعتبار قرابتهم كما قال: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، فقوله: {الْأَوْلَيَٰنِ} عطف بيان أو بدل عن قوله: {فََٔاخَرَانِ}.

وقوله: {لَشَهَٰدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا} سمّى ادّعاءهم مع يمينهم شهادة؛ لأنها واقعة موقع الشهادة، و{أَحَقُّ} بمعنى أصدق، والحاصل مع ثبوت كذب الشاهدين الذميين تكون شهادة أولياء الميت هي الحق فيقسمان على

ص: 367


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

ذلك.

وقوله: {وَمَا اعْتَدَيْنَا} تأكيد أنهما يعلمان كذب الذميين، وأنهما لا يريدون الاعتداء على الوصية، وإنما يطلبان حق الورثة.

وقوله: {إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّٰلِمِينَ} بيان بأن المعتدي ظالم لنفسه بالإثم، وظالم لغيره بمنع حقه.

الرابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ...} الآية.

بيان سبب تشريع يمين الذميين بعد الصلاة وكذا نقض الحكم وإرجاع اليمين إلى أولياء الميت حين كذبهما، فإن الشاهد إذا اطمأنّ بأن الحكم لا ينقض حتى لو ثبت كذب الشهادة، فإن ذلك يجرّئهُ على شهادة الزور، لكن إن علم بأنّه لو ظهر كذبه نقض الحكم - فيجمع بين فضيحة الخيآنة وبين فضيحة ردّ شهادته ونقض الحكم الذي كان بصالحه - فحينئذٍ قد يتوقف عن شهادة الزور.

وقوله: {ذَٰلِكَ} أي الحكمان المذكوران في الآيتين، أما اليمين بعد الصلاة فِعلة تشريعها هو قوله: {أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا}، وأما نقض الحكم وحلف الورثة فسبب تشريعه هو قوله: {أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَٰنُ بَعْدَ أَيْمَٰنِهِمْ}.

وقوله: {أَدْنَىٰ} أي أقرب، فإن الكاذب في مجمع الناس يرتبك غالباً فلذا يضطر إلى الشهادة بالصدق أو ارتباكه يفضحه.

وقوله: {عَلَىٰ وَجْهِهَا} أي الشهادة المطابقة للواقع، فإن أداء الشهادة

ص: 368

يكون باتجاه ما تحمّله منها، فإن لم يكن كذلك لم يكن على وجهه.

وقوله: {أَن تُرَدَّ أَيْمَٰنُ...} ردّ اليمين هو إرجاعها إلى الغير، وهنا إرجاع اليمين إلى أولياء الميت.

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ} موعظة بليغة كدأب القرآن حينما يذكر حكماً يحث الناس على الالتزام به، فالتقوى بترك العصيان والسماع بالإطاعة بامتثال الأوامر.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ} بيان أن الكذب في الشهادة أو كتمانها فسق، ثم بيان عقوبة الفاسق بأن اللّه يخذله مما يؤدي به إلى نار جهنم.

ص: 369

الآيات 109-111

اشارة

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ 109 إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَئَْةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ 110 وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ 111}

109- وحيث ذكر في الآيات السابقة افتراءات الكفار في التحليل والتحريم وكذلك شهادتهم الكاذبة، انتقل الكلام إلى افتراءاتهم في أصول الدين وشهادة الأنبياء الصادقة عليهم يوم القيامة، فقال: {يَوْمَ} أي اذكر يا رسول اللّه اليوم الذي {يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} جميعاً للشهادة على أممهم، {فَيَقُولُ} اللّه لهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي كيف كانت إجابة أممكم لكم هل بالتصديق والطاعة أم بالتكذيب والمعصية؟ وهذا استفهام تقريري يراد به توبيخ كفار الأمم ومنافقيهم، {قَالُواْ} الرسل: {لَا عِلْمَ لَنَا} أي لا نعلم العلم المحيط بكل الجوانب حيث لم نر منهم إلاّ الظاهر، وأما العلم المحيط

ص: 370

الشامل للباطن فللّه وحده إذ {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} ما غاب عن حواسنا، وهذا لا ينافي شهادتهم على ما علموه منهم.

110- ثم يبين اللّه كفر طائفة من بني إسرائيل وإيمان أخرى، ويصدّر ذلك بذكر بعض معجزات عيسى (عليه السلام) إتماماً للحجة على الطائفة الكافرة، {إِذْ} أي أن جمع الرسل يكون في الوقت الذي {قَالَ اللَّهُ} عبّر عن المستقبل بالماضي؛ لأنه متحقق الوقوع {يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} نوع النعمة أي كلّها، والمقصود بهذا الخطاب الاحتجاج على أمته، {وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ} باصطفائها على نساء العالمين وعفافها وردّ التهم عنها.

ثم يذكر اللّه تعالى مجموعة من آياته ومنها:

(1): {إِذْ أَيَّدتُّكَ} قوّتيك {بِرُوحِ الْقُدُسِ} روح طاهرة، وهو جبرئيل أو غيره، وكان هذا التأييد حال كونك {تُكَلِّمُ النَّاسَ} رضيعاً {فِي الْمَهْدِ وَ} تكلمهم {كَهْلًا} وهو ما بين الشباب والشيب، وكان كلامه في كلا الحالين بالإعجاز، أمّا في المهد فواضح، وأمّا في حالة الكهولة فبظهور المعاجز بكلامه (عليه السلام) ، فكأنّ كلامه في الحالين كان بتسديد روح القدس.

(2): {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَٰبَ} نوع الكتب السماوية أي كلّها، {وَالْحِكْمَةَ} وهي الإحكام في الأمور ووضعها مواضعها، ومنها الشريعة، {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} خصّهما بالذكر مع دخولهما في الكتاب؛ لأنه (عليه السلام) كان يأمر الناس بالعمل بهما.

(3): {وَإِذْ تَخْلُقُ} تصنع {مِنَ الطِّينِ كَهَئَْةِ الطَّيْرِ} مثل شكله وصورته {بِإِذْنِي} التشريعي بإجازة ذلك، والتكويني بصنع الهيئة بالإعجاز {فَتَنفُخُ}

ص: 371

الروح {فِيهَا} في مثل الهيئة {فَتَكُونُ طَيْرَا} أي فتتحول إلى طيرحيّ {بِإِذْنِي} التكويني، {وَتُبْرِئُ} تعالج {الْأَكْمَهَ} الأعمى بالولادة {وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي}.

(4): {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ} من قبورهم أحياءً {بِإِذْنِي}.

(5): {وَإِذْ كَفَفْتُ} منعتُ {بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} الكفار منهم {عَنكَ} حيث أرادوا قتلك {إِذْ} في الوقت الذي {جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَٰتِ} الأدلة الواضحة {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ} من بني إسرائيل {إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح، هذا بالنسبة إلى كفارهم.

111- {وَ} أما مؤمنوهم فاذكر {إِذْ} الوقت الذي {أَوْحَيْتُ} بالإلهام {إِلَى الْحَوَارِيِّۧنَ} وهم خواص أصحاب عيسى (عليه السلام) {أَنْ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} عيسى (عليه السلام) أي استمروا بالإيمان باللّه وبرسوله، {قَالُواْ} قال الحوارين: {ءَامَنَّا} بهما {وَاشْهَدْ} يا ربنا {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.

بحوث

الأول: لعل وجه ارتباط هذه الآيات وما قبلها هو أنه سبحانه لمّا ذكر التحليل والتحريم من المأكولات ثم ذكر الشهادة الكاذبة والصادقة وكان كل ذلك في فروع الدين، بعد ذلك انتقل الكلام إلى أصول الدين وشهادة الرسل على أممهم بشهادة صادقة، حيث انقسمت الأمم إلى من آمنوا بالآيات فصدّقوا الرسل، وإلى من كذّبوها وكذّبوهم.

كما أن هذه الآيات إلى آخر السورة تتضمن الجزاء الدنيوي والأخروي لكلتا الطائفتين - المؤمنين والكفّار - وبيان أن الرسل قد أدّوا المهمة الملقاة

ص: 372

على عاتقهم على أحسن وجه، مع تبرئتهم عن كفر وعصيان من ينتحلون اتّباعهم.

الثاني: قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لَاعِلْمَ لَنَا...} الآية.

إنما يجمع الرسل في يوم القيامة للشهادة على أممهم قال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيدٖ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا}(1)، وقال: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}(2)، وقال: {وَيَقُولُ الْأَشْهَٰدُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ}(3)، وقال: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا}(4)، وغير خفي أنه لا تكون شهادة إلاّ مع علم وإلاّ كانت شهادة زور، وقد مرّ تفصيله في سورة البقرة، فالأنبياء يشهدون على أممهم بما يعلمون به وهي الأمور المحسوسة بالحواس، وأما الأمور الغيبية التي لا يمكن علمها بالحواس فلا بد من أن يظهرهم اللّه عليها حتى يعلموا بها كما قال: {عَٰلِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}(5)، وعليه فلو سئلوا عن الأمور الغيبية التي لم يطلعهم اللّه عليها أجابوا بعدم العلم.

من هذا يتضح أن سؤالهم بقوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} سؤال عن أمر غيبي مثل

ص: 373


1- سورة النساء، الآية: 41.
2- سورة النساء، الآية: 159.
3- سورة هود، الآية: 18.
4- سورة القصص، الآية: 75.
5- سورة الجن، الآية: 26-27.

صدق إيمان الأمم أم نفاقهم فهذا يرتبط بالقلوب الذي هو من الغيب، وحيث إن اللّه لم يُخبر غالب الرسل عن البواطن لذلك كان جوابهم بأن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلاّ اللّه ولم يُطلعهم عليه فقالوا: {لَا عِلْمَ لَنَاإِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ}، وإلاّ فالإجابة الظاهرية بالإيمان باللسان والتزام الطاعة وترك المعصية علناً هو مما يعلم به عامة الناس فضلاً عن الرسل الذين كانت مهمتهم التبليغ.

وقوله: {يَوْمَ} ظرف متعلق بمقدر أي اذكر اليوم الذي... الخ، وقيل يتعلق بقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ} أو بقوله: {لَا يَهْدِي} في الآية السابقة! لكن لا ينسجم ذلك مع المعنى إذ يوم القيامة ليس يوم العمل والهداية بل يوم الجزاء والمحاسبة.

وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} في يوم القيامة يجمع اللّه الناس جميعاً كما قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٖ لَّا رَيْبَ فِيهِ}(1)، وقال: {ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ}(2)، وقال: {وَحَشَرْنَٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}(3)، وإنما خص الجمع في هذه الآية بالرسل؛ لأن الغرض هو بيان توجيه السؤال إليهم.

وقوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} السؤال عن كيفية إجابة الناس وليس عن قول الناس، ولذا لم يقل: «بماذا أجبتم» على ما ذكره بعض المفسرين، ولذا كان

ص: 374


1- سورة آل عمران، الآية: 9.
2- سورة هود، الآية: 109.
3- سورة الكهف، الآية: 47.

جواب الرسل بعدم العلم، فهل الإجابة صادقة أم كاذبة؟ وهل آمنوا حقاً أم نافقوا؟ وهذا علمه يرتبط بالغيب عادة، وأما جواب الناس بالتصديق أو التكذيب فمعلوم للجميع فضلاً عن الأنبياء والرسل (عليهم السلام) .

ثم إن هذا الاستفهام إنما وُجّه للرسل مع عدم علمهم به ومع عدم مسؤوليتهم عن أعمال الناس لأجل توبيخ الكفار، نظير قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٖ قُتِلَتْ}(1)، وإلاّ فالناس أجمع يسألون عن أعمالهم قال سبحانه: {فَلَنَسَْٔلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَْٔلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}(2).

ومن أهم الأسئلة سؤالهم عن إجابة الأمم في أوصيائهم كما في ورد في الأحاديث(3).

وقوله: {قَالُواْ لَا عِلْمَ لَنَا} أي بكيفية الإجابة هل بإيمان حق صادق أم بنفاق فإن ذلك من علم الغيب، كما اتضح مما سبق، ولذا علّلوا عدم علمهم بقولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ}.

وزعم البعض: أن جوابهم هذا عن ذهول لهول الموقف أو تواضعاً للّه!

وفيه نظر، إذ لا معنى للتواضع بكلام خلاف الواقع، وإنما التواضع إما عملي كجلوس النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) على التراب، أو قولي بما هو صدق كأن يقول العالم بأن علمه قليل مثلاً، كما أن نقل اللّه تعالى لكلامهم من غير نكير أو

ص: 375


1- سورة التكوير، الآية: 8-9.
2- سورة الأعراف، الآية: 6-7.
3- راجع تفسير القمي 1: 190 عن الإمام الباقر (عليه السلام) ؛ والكافي 8: 338 عن الإمام الصادق (عليه السلام) .

تصحيح هو تصديق له.

وقال البعض: إنّ المراد إجابتهم من بعده، كما قال عيسى (عليه السلام) : {فَلَمَّاتَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ}(1)!

لكن السؤال عام فيشمل حتى زمان تواجدهم بين ظهراني أممهم ولا وجه لتخصيص الآية بما بعد وفاتهم.

وقيل: قولهم {لَا عِلْمَ لَنَا} نفي نسبي، أي علمنا مقابل علمك لا يعتبر علماً؛ لأن علمنا عرضي وعلمك ذاتي محيط بكل شيء.

وقوله: {عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} علّام صيغة مبالغة يراد بها الكثرة، أي علمك لا حدّ له فتعلم جميع الغيوب بكل خصوصياتها، ولا يخفى أن قولنا: صيغة مبالغة يراد به المعنى الاصطلاحي في علم الصرف، وأما المبالغة اللغوية بتكثير شيء من غير أن يكون كثيراً فهذا غير مراد هنا، ولا ورد في القرآن.

الثالث: قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ...} الآية.

الظاهر أن هذا المقطع استمرار لسؤاله تعالى عن كيفية إجابة القوم، ويقدّم لذلك مقدمة لنفي ألوهية عيسى (عليه السلام) وإثبات رسالته للاحتجاج على النصارى الذين ألّهوه، وعلى اليهود الذين كذبوه وبهتوا أمّه، وبعد المقدمة يذكر انقسام بني إسرائيل فمنهم من كفر وكذّبه ومنهم من آمن وصدّقه.

وأما مقاطع هذه الآية فقد مرّ أغلبها في سورة آل عمران الآية 46، ونذكرها هنا مختصراً.

ص: 376


1- سورة المائدة، الآية: 117.

قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ...} {إِذْ} بدل عن {يَوْمَ يَجْمَعُ...}، ولمّا كان ذلك متحقق الوقوع استعمل لفظ الماضي، وقيل: يتعلق ب-{اذْكُرْ} مقدراً! لكن لوكان كذلك لاستعمل واو العطف أو الاستيناف.

وقوله: {نِعْمَتِي عَلَيْكَ} أي جنس النعمة فتشمل جميع النعم، أو أن المقصود معاجزه التي ذكرها في هذه الآية ومرجعها جميعاً إلى أمر واحد جامع لها هو اختياره للرسالة، فإنّ كل هذه المعاجز لازمة كونه رسولاً فالرسالة نعمة جامعة للنِعم.

وقوله: {وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ} لعل الغرض من ذكر نعمة اللّه تعالى على مريم (عليها السلام) هو نفي ألوهية عيسى (عليه السلام) أيضاً، فإن ولادته من غير أب نعمة من اللّه على أمه؛ لأنه اصطفاها على نساء العالمين بذلك فليس ولادته من غير أب دليلاً على ألوهيته وإنما من نعمة اللّه على أمّه.

من نعم اللّه على عيسى (عليه السلام)

ثم إن اللّه تعالى ذكر ستة من أعظم نعمه عليه وكلها ترجع إلى معاجزه:

1- التأييد بروح القدس

وقوله: {أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي قويتك به، وروح القدس إما جبرئيل (عليه السلام) ، أو ملك من الملائكة، أو من نوع آخر غير الملائكة، وهناك روايات متعددة حول تأييد الأنبياء والأئمة بروح القدس ذكرناها في شرح أصول الكافي، فراجع(1).

وقوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ...} كأنه بيان للتأييد بروح القدس، ولذا لم يستعمل حرف العطف، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «فالسابقون هم رسل

ص: 377


1- شرح أصول الكافي 4: 236.

اللّه (عليهم السلام) وخاصة اللّه من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبهعرفوا الأشياء...» الحديث(1)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «فبروح القدس - يا جابر - عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى»(2)، فظهر أن كلامه في المهد وكهلاً إنما هو بما تعلّمه من اللّه تعالى بواسطة روح القدس، وبذلك يتضح أن ذكر كلامه في حالة الكهولة أيضاً كان إعجازاً حيث تكلّم بما لا يعلم به الناس كإخباره بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وبما كان مفتاحاً للمعاجز.

وقوله: {وَكَهْلًا} مرّ أن الكهل هو ما بين الشباب والشيب وقيل: هو الذي بلغ أربعاً وثلاثين سنة.

2- العلم والحكمة

قوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَٰبَ} أي نوع الكتب السماوية والمقصود جميعاً فإن تلك الكتب وإن نسخ بعض أحكامها إلاّ أنها تتضمن المعارف وأصول الشرائع والأخلاق والمواعظ ونحوها مما لا تُنسخ؛ لأنها حقائق ثابتة.

وقوله: {وَالْحِكْمَةَ} من الإحكام والإتقان وذلك يلازم وضع الشيء في موضعه، ومنها الشريعة.

وقوله: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} هما من الكتب إلاّ أنه خصّهما بالذكر؛ لأن عيسى (عليه السلام) كان مأموراً بقرائتهما وأمر الناس بالعمل بها إلاّ بالمقدار الذي نُسخ من التوراة.

ص: 378


1- الكافي 1: 271.
2- الكافي 1: 272.

3- الخلق والعلاج

وهذا المقطع يتضمن المعاجز في أفعاله (عليه السلام) قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ...} الخلق بمعنى التقدير والصنع، لا الإيجاد من العدم فإن هذا خاص باللّه تعالى ولم يفوضه لغيره وقد ذكرناه في شرح أصول الكافي، فراجع(1).

وقوله: {بِإِذْنِي} الإذن هنا تشريعي وتكويني.

أما التشريعي: فلأنه لا يجوز صنع مجسمة ذوي الأرواح، وقد اختلف الفقهاء في أن الحرمة مطلقة أم مقيدة بما إذا أريد منها العبادة، ولعلّه في شريعة عيسى (عليه السلام) كانت الحرمة مطلقة إلاّ أن اللّه تعالى أجازها لعيسى (عليه السلام) بشكل خاص.

وأما التكويني: فإن صنع المجسمة يحتاج خبرة ومهارة، فلعل عيسى (عليه السلام) كان يصنعها بلمسة يد أو بإشارة من غير عملها بالطرق المتعارفة عند صُنّاع المجسمات والنّحاتين.

وقوله: {فَتَنفُخُ فِيهَا} فإن اللّه تعالى كان يخلق الروح ثم بنفخ عيسى (عليه السلام) كانت تدخل الروح في هيكلها.

وقوله: {فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِي} الإذن هنا تكويني، أي تتحول المجسمة إلى حيوان ذي لحم وعظام وحياة فيطير.

وقوله: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} ولم يقل: (وإذ تبرئ...) فكأنه اعتبر خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص من نوع واحد، فحياة بنفخة وإبراء بلمسة، فتأمل.

ص: 379


1- شرح أصول الكافي 4: 193-194.

4- إحياء الأموات

وهذا المقطع يتضمن الإعجاز بكلامه (عليه السلام) قوله: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي} فكان (عليه السلام) يتلفظ بكلمات من الدعاء(1) فكان الميت يخرج من قبره حيّاً، وكان ممن أحياه يحيى بن زكريا‘(2)، وسام بن نوح(3)، وغيرهما.

5- منع السوء عنه

قوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ...} أي منعت بني إسرائيل من أن يصلوا إليك بسوء، طيلة حياتك، ولعلّ المراد كفّهم عن اتهامه واتهام أمّه لمّا تكلّم وهو في المهد فأخرس ألسنتهم بهذه الآية، وكذلك عدم تأثير تكذيبهم لرسالته لمّا ظهرت المعجزات على يده وغير ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}.

هذا المقطع والآية التالية كأنه ذي المقدمة لما يقوله اللّه سبحانه وتعالى لعيسى (عليه السلام) حيث يذكّره بنعمته عليه؛ لأن الغرض - كما مرّ قبل قليل - هو توبيخ الذين كذّبوا عيسى فذكروا في هذه الآية، والذين صدّقوه قد ذكروا في الآية التالية، وأما الغلاة فيه فسيُذكرون في الآية 116 فما بعد.

وفي الآية إشعار بأن كفرهم صار سبباً لتكذيبهم بالآيات ونسبتها إلى السحر، مع أن طبيعة الآيات هي كونها سبباً لهداية الناس، لكن سوء باطنهم أدّى بهم إلى عدم الإيمان بها ومن ثَمّ رميها بالسحر.

ص: 380


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 506-507.
2- راجع الكافي 3: 260.
3- تفسير العياشي 1: 174.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّۧنَ أَنْ ءَامِنُواْ بِيوَبِرَسُولِي...} الآية.

هؤلاء كانوا قد آمنوا باللّه وبعيسى قبل ذلك، لكن لما كفر أكثر بني إسرائيل بتلك الآيات أخذ اللّه المواثيق من الحواريين، كما قال: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ}(1).

وقوله: {أَوْحَيْتُ} الوحي هو الإشارة بخفاء، وقد يراد به الإلهام، الذي هو الإلقاء في الروع، كقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ}(2)، وقوله: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}(3)، والحواريون لم يكونوا أنبياء فلم يوح إليهم وحي الأنبياء، وإنما ألهمهم اللّه إلهاماً، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ألهموا»(4)، وقد ذكرنا بعض المطالب حول الحواريين في سورة آل عمران في الآيتين 52-53، فراجع(5).

ص: 381


1- آل عمران، الآية: 52-53.
2- سورة القصص، الآية: 7.
3- سورة النحل، الآية: 68.
4- تفسير العياشي 1: 350؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 508.
5- التفكر في القرآن 4: 190.

الآيات 112-115

اشارة

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 112 قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّٰهِدِينَ 113 قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ 114 قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ 115}

112- وكان ذلك الوحي إلى الحواريين بأن يؤمنوا باللّه ورسوله {إِذْ} في الوقت الذي {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} خاطبوه هكذا ليُعلم أنه ليس بإله {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} الاستطاعة بحسب الإرادة والمصلحة، أي هل يريد أو هل يرى من المصلحة، وإنما قالوا هكذا ليُعلم أنه مربوب {أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً} سفرة عليها طعام {مِّنَ السَّمَاءِ} بطريقة الإعجاز؟ {قَالَ} عيسى (عليه السلام) لهم: {اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي لا يكن طلبكم للمعجزة عبثاً أو لغرض فاسد.

113- {قَالُواْ} لبيان غرضهم الصحيح: {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} من المائدة، وهذا غرض عقلائي صحيح، {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} تندفع خطرات

ص: 382

الفكر بأن المعاجز سحر، إذ بعد لمس المعجز ورفع الحاجة به لا تعرض الوساوس، {وَنَعْلَمَ} نزداد علماً ويقينا {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} في ما قلتَوعملتَ، {وَنَكُونَ عَلَيْهَا} على المائدة {مِنَ الشَّٰهِدِينَ} نشهد عند من لم يرها ولم يحضرها.

114- فلمّا علم صدقهم وصحة أغراضهم، دعا اللّه تعالى، وقد غيّر في الطلب بما يتناسب مع مقام عبوديته ف-{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} بيّن أنه مربوب للّه تعالى {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ} وقد عدّ لها ثلاثة أغراض: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} سروراً وفرحاً، ويكون ذلك العيد {لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} المعاصرين لعيسى وللأجيال القادمة، {وَءَايَةً} معجزة {مِّنكَ} لأن سائر المعاجز على عظمتها كان يعملها عيسى (عليه السلام) بإذن اللّه، أما هذه فهي فعل اللّه مباشرة من غير واسطة، {وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ} فهي رزقك الذي يأكلون منه كما رغبوا.

115- {قَالَ اللَّهُ} استجابة لدعاء عيسى (عليه السلام) {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} على عيسى (عليه السلام) والحواريين وسائر بني إسرائيل {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي بعد إنزالها {مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا} شديداً وذلك لانتهاء المهلة بعد نزولها {لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَٰلَمِينَ} عالمي ذلك الزمان؛ لأنه كفر بعد إيمان وبعد رؤية المعجزة بطلب منه، وهذا أسوأ من الاستمرار في الكفر والعناد فيه حتى مع رؤية الآيات، فمُسخ المكذِّبون خنازير.

بحوث

الأول: لمّا ذكر اللّه تعالى وحيه إلى الحواريين بأن يؤمنوا به وبرسوله

ص: 383

وبيّن استجابتهم حيث قالوا آمنوا وأشهدوا اللّه على إسلامهم، بعد ذلك بيّن وقت ذلك، حيث كان حينما طلبوا المائدة مع بيانهم لغرضهم منها، فدعاعيسى (عليه السلام) واستجاب اللّه تعالى مع إنذاره لكل من يكفر بها.

والحاصل: أنه حينذاك كان وحيه تعالى للحواريين ولعلّه لتثبيت قلوبهم لئلا يكفروا، فيكونوا مثل بلعم بن باعورا حيث قال اللّه تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ}(1)،

فيكون وحيه تعالى لهم من باب تثبيت قلوبهم لمّا علم اللّه صدقهم قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ}(2)، حيث دعوا اللّه تعالى فقالوا: {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ}(3)،

وقد قال اللّه تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فََٔامَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَٰءِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَٰهِرِينَ}(4).

وقيل: {إِذْ} يتعلق بقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ}، وقيل: استئناف متعلق بمقدر أي اذكر، وما ذكرناه أوفق بالسياق بعد عدم استعمال حرف العطف.

ص: 384


1- سورة الأعراف، الآية: 175-176.
2- سورة إبراهيم، الآية: 27.
3- سورة آل عمران، الآية: 53.
4- سورة الصف، الآية: 14.

كيفية سؤال الحواريين للمائدة

الثاني: قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ...} الآية.

في كيفية خطاب الحواريين كلام طويل، حيث قيل: إن فيه نوعاً منسوء الأدب حيث خاطبوا عيسى (عليه السلام) باسمه واسم أمّه، ثم سؤالهم عن استطاعة اللّه تعالى، ثم تعبيرهم عن اللّه ب-{رَبُّكَ}، ولذلك وبّخهم عيسى (عليه السلام) فدعاهم إلى التقوى، ثم لمّا دعا (عليه السلام) غيّر صيغة الطلب إلى ما فيه غاية الأدب!

لكن الأظهر أن كلامهم لم يكن فيه سوء أدب، والحال أنهم من خاصة عيسى (عليه السلام) وقد مدحهم اللّه تعالى في آيات أخرى وكان منهم شمعون الصفا وهو وصي عيسى (عليه السلام) ، نعم إن دعاء عيسى (عليه السلام) ألطف وأحسن وأنسب بمقام العبودية، لكن هذا لا ينافي أدبهم في طلبهم:

فأما خطابهم لعيسى (عليه السلام) بقولهم: {يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} فلعلّه كان متعارفاً عندهم، أو لعلّ عيسى (عليه السلام) هو الذي أمرهم به إظهاراً لمقام عبوديته نظير غسله لأقدامهم تواضعاً - كما في الحديث(1) - وأيضاً لأن طلبهم كان لإعجاز مباشر من اللّه تعالى من غير صنع شيء من عيسى (عليه السلام) إلاّ الدعاء - كما سيأتي بيانه قريباً - فكان الأنسب خطاب عيسى (عليه السلام) بمقام يناسب العبودية.

ومن ذلك يظهر علة قولهم: {رَبُّكَ} حيث لم يقولا ربنا، فلعلهم أرادوا تأكيد عبوديته (عليه السلام) .

وأما قولهم {هَلْ يَسْتَطِيعُ} فليس شكاً في قدرة اللّه تعالى، وإنما هو

ص: 385


1- راجع الكافي 1: 37.

بمعنى الإرادة أو المصلحة؛ فالمعنى هل يريد ربك أو هل يرى المصلحة في ذلك، وذلك لأن استعمال الاستطاعة تارةً بمعنى الاستطاعة بحسب القدرة كقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٖ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَايَسْتَطِيعُونَ}(1) أي لا يقدرون، وتارةً بمعنى الصعوبة كقوله: {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}(2)، وتارةً بمعنى الإرادة أو المصلحة كقولك لابنك: (هل تستطيع أن تأتي معي؟) بمعنى هل تريد، وكقولك: (العالم لا يستطيع أن يبوح بكل ما يعلم) بمعنى لا مصلحة في ذلك، وكأنّ مراد الحواريين من قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} هو هذا، وكأنّ غرضهم الاستعطاف كما في قول المحكوم للحاكم: (هل تستطيع أن تتجاوز عنّا) فهو بمعنى هل تريد أو هل ترى فيه المصلحة، يقولونه استعطافاً وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «معنى الآية: هل تستطيع أن تدعو ربّك»(3).

وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «إن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوماً، ثم اسألوا اللّه تعالى ما شئتم يعطيكموه فصاموا ثلاثين يوماً. فلما فرغوا قالوا: يا عيسى، إنا لو عملنا لأحد من الناس فقضينا عمله لأطعمنا طعاماً، وإنا صُمنا كما أ ُمرنا، وجُعنا، فادع اللّه أن ينزّل علينا مائدة من السماء...»(4).

وقوله: {مَائِدَةً} وهي السفرة إذا كان عليها الطعام(5)، وأصلها من (ماد)

ص: 386


1- سورة القلم، الآية: 42.
2- سورة الكهف، الآية: 67.
3- البرهان في تفسير القرآن 3: 509.
4- البرهان في تفسير القرآن 3: 509-510؛ عن مجمع البيان 3: 651.
5- تفسير الصافي 2: 513.

بمعنى تحرك واضطرب، وفي المقاييس: «المائدة: الخِوان؛ لأنها تميد بما عليها، أي تحركه وتزحله عن نضده»(1).

وقوله: {مِّنَ السَّمَاءِ} أرادوا الإعجاز فيها بأن تكون بطريقة خارقة للعادة.

وقوله: {قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ...} أراد (عليه السلام) تنبيههم بأن لا يكون طلبهم طلباً تعنّتياً أو عبثاً ولغواً، فإنهم قد رأوا آيات أكبر منها كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، بل تكلّم عيسى (عليه السلام) في المهد وغير ذلك من آيات، وفيها الكفاية، فيكون طلب آية أخرى إما للتعنت، كما كان يطلب المشركون آيات بعد ما رأوا آيات أخرى، لا ليعلموا صدق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بل اتخذوها لعباً وسخرياً وهزواً، وإما لغرض معقول مشروع فهذا لا بأس به، فدعوة عيسى إياهم للتقوى لأجل أن لا يكون طلبهم من النوع الأول، فأجابوه بأن لهم أغراضاً مشروعة، فاستجاب لهم ودعا اللّه تعالى فوعدهم بها ثم أنزلها عليهم.

غرضهم من سؤال المائدة

الثالث: قوله تعالى: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا...} الآية.

بينّوا أن غرضهم مشروع وهو ثلاثة أمور:

1- قوله: {أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} وذلك بعد أن صاموا وجاعوا - كما مرّ - كما كان موسى (عليه السلام) يسقي قومه ويطعمهم المنّ والسلوى، ولم يكن ذلك إلاّ كرامة من اللّه لبني إسرائيل ولموسى (عليه السلام) ، فلا بأس بمثل هذا الطلب ليكونوا كأسلافهم في الكرامة، إذ قد يكون الغرض من المعجزة تكريم قوم

ص: 387


1- مقاييس اللغة: 935.

مؤمنين.

2- وقوله: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} الاطمئنان هو سكون النفس واندفاع الخطرات والوساوس، ولعل ذلك لأن سائر معاجز عيسى (عليه السلام) كانوا يرونهابأعينهم، وكان المبطلون يقولون: إنها سحر كما مرّ في الآية 110 وتهريجهم قد يسبب اضطراب القلب، لكن لمس الإنسان المعجزة في نفسه يكون سبباً لاطمئنان القلب، أو لعلّهم أرادوا اطمئنان قلوبهم بكرامتهم عند اللّه تعالى، وقيل: الطعام السماوي الطاهر الطيب مؤثر في قلب الإنسان كما أن الطعام الحرام أو المشبوه مؤثر في بُعد القلب عن الرحمن، وقيل: لعل ذلك الطلب كان في أوائل الأمر قبل أن يروا الآيات الأخرى! واللّه العالم، وقد مرّ في الآية 260 من سورة البقرة ما ينفع المقام، فراجع.

3- وقوله: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} إما بمعنى نزداد يقيناً بصدقك كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَاهُمْ}(1)، وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(2).

وإمّا بمعنى تنجيز الوعد كما في قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}(3) وذلك لأنه قد كان وعدهم فقال: «صوموا ثلاثين يوماً ثم اسألوا اللّه ما شئتم يعطيكموه...» الخ، وقد مرت الرواية قريباً.

ص: 388


1- سورة محمد، الآية: 17.
2- سورة التوبة، الآية: 124.
3- سورة آل عمران، الآية: 152.

4- وقوله: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّٰهِدِينَ} أي نشهد على هذه المعجزة لمن لم يشاهدوها.

فهذه أهداف أربعة ذكروها تبريراً لطلبهم، ولمّا كانت أغراض مشروعةوعقلائية لذلك استجاب لهم عيسى (عليه السلام) فدعا اللّه تعالى، لكن غيّر الطلب بما يكون أنسب فقدّم وأخّر وزاد كما سيتضح.

الرابع: قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ...} الآية.

لمّا توجه عيسى (عليه السلام) إلى اللّه بالدعاء عمّم الطلب، إذ طلب الحواريون المائدة لهم لكن عيسى (عليه السلام) أرادها عامة للجميع سواء السابقون واللاحقون، وهم أرادوها لاطمينان قلوبهم وليعلموا أن قد صدقهم وهو (عليه السلام) أرادها آية للجميع، وهم أرادوها للأكل وهو (عليه السلام) أرادها رزقاً.

قوله: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا} جمع بين النداء ب-{اللَّهُمَّ} وهو يا اللّه - الذي هو النداء بأعظم أسماء اللّه سبحانه الجامع لكل الكمالات - وبين {رَبَّنَا} الدال على ربوبيته فإن مادة (ر ب ب) تدلّ على إصلاح الشيء والقيام به، فالرب المصلح لأحوال خلقه(1)، ولذا فسروها بالتربية، فإنها وإن كانت من مادة (ر ب ي) إلاّ أن المعنيين متقاربان.

وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} أي تكون كرامة لنا بالسرور والفرح، فإن (العيد) هو اليوم الذي يقع فيه حدث مفرّح فيُتّخذ مناسبة كل عام للسرور والفرح تذكرة لذلك الحدث، فيكون المعنى تكون المائدة يوم سرورنا

ص: 389


1- مقاييس اللغة: 378.

لكرامة اللّه لنا، ويوم سرور لأجيالنا القادمة بتذكرهم هذه النعمة كل عام، وأصل (العيد) من العود؛ لأنه يعود في كل عام.

وقوله: {لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} بدل عن قوله: {لَنَا} ليتبيّن أن دعاءه ليسلخصوص الحواريين بل للجميع، وظاهر أولنا وآخرنا هم المعاصرون والأجيال اللاحقة، كما اتخذ اللّه يوم إنزال الكبش فداءً لإسماعيل (عليه السلام) يوم عيد هو عيد الأضحى، وقيل: أولنا وآخرنا بمعنى جميع بني إسرائيل للرؤساء والمرؤوسين.

والحاصل: أنهم طلبوها لهم لكن عيسى (عليه السلام) دعا لأن تكون للجميع فمن عاصرها يُعيِّد ويأكل منها ومن لم يعاصرها يتخذها عيداً.

وقوله: {وَءَايَةً مِّنكَ} إما بمعنى أن تكون آية مباشرة من اللّه من غير توسط عيسى (عليه السلام) إلاّ بالدعاء وذلك نفياً لألوهيته، إذ إن سائر معاجزه كانت أفعالاً له (عليه السلام) لكن بإذن اللّه، أما المائدة فكانت من صنع اللّه مباشرة ومن غير واسطة، وإما لأنهم لما طلبوها لأنفسهم ليشهدوا بها لغيرهم أراد عيسى (عليه السلام) شهادة الجميع من غير توسيط الحواريين فيه، بمعنى أن يشاهدها جميع بني إسرائيل فتكون آية عامة من غير حاجة إلى شهادتهم.

وقوله: {وَارْزُقْنَا} هم قدموا الأكل، وعيسى (عليه السلام) أخرّه وبدّل لفظه إلى الرزق فيكون النظر إليها باعتبارها رزقاً من اللّه لا باعتبارها أكلاً لهم.

وقوله: {وَأَنتَ خَيْرُ الرَّٰزِقِينَ} لأن رزقه غير محدود إلا بحدود المصلحة، وهو بتفضل منه جوداً وكرماً ولا يريد منهم عوضاً، بخلاف الناس فإنهم لو أعطوا شيئاً كان عطاؤهم محدوداً مع توقع وإرادة مكافأة.

ص: 390

الخامس: قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ...} الآية.

أي فاستجاب اللّه تعالى دعاء عيسى وأخبره بأنه ينزّلها أو وعده بذلك،وهذا دليل على إنزالها لأن اللّه لا يخبر إلا صادقاً، ولا يخلف الميعاد، فلا يصغى إلى ما ذكره البعض من عدم نزولها، هذا مضافاً إلى الروايات المستفيضة التي دلت على نزولها وعلى كيفيتها ونوع طعامها والعذاب الذي أصاب الكافرون بها.

وقوله: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي فالمؤمن الذي يكفر بعد إنزال المائدة، وهذا الكفر أشنع ممن استمر في كفره بعد تواتر الآيات عليه، فإن المؤمن الذي طلب الآية فاستجاب اللّه له وأنزلها لا بد أن يزداد إيماناً، أما لو انقلب على أعقابه فكفر، فكفره أسوأ وأشنع، ولذا استحق عقوبة أشد من عقوبة الكافر الأصلي المعاند، فقوله: {لَّا أُعَذِّبُهُ} ظاهر في شدته، أي عذابه أشدّ من عذاب سائر الكفار سواء الذين كانوا في ذلك العصر، ولذا كان المنافق أسوأ من الكافر؛ لأنه كفر بعد إيمان قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}(1).

والظاهر أن المراد تعذيبهم بعذاب دنيوي موصوف بأنه أشد أنواعه، فالمراد نوعية العذاب بما يشمل شدّته أيضاً وهو مسخهم خنازير، فإنه عذاب لم يعذّب به أحد في زمانهم مع كونه أسوأ أنواع المسخ، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: «كانت الخنازير قوم من القصارين كذبوا بالمائدة،

ص: 391


1- سورة النساء، الآية: 145.

فمُسِخُوا خنازير»(1)، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) «والجريث والضب فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم (عليه السلام) فتاهوا...»(2)،

ولعلّ المكذبين مسخوا خنازير والذين لم يؤمنوا مسخوا جريثاً وضبّاً، فتأمل.

وقد مرّ بعض الكلام في الآية 60 من هذه السورة، فراجع.

ص: 392


1- تفسير العياشي 1: 351.
2- الكافي 6: 246.

الآيات 116-120

اشارة

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ 116 مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ 117 إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 118 قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 119 لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرُ 120}

116- {وَ} اذكر {إِذْ} الوقت الذي {قَالَ اللَّهُ} أي سيقوله يوم القيامة وحيث إنه متحقق الوقوع عبّر عنه بالماضي، مخاطباً المسيح لتبرئته ولإلقاء الحجة على النصارى في ذلك الوقت {يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ} استفهام تقريري للمسيح (عليه السلام) وتوبيخ وإنكار للنصارى {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} أي شركاء للّه تعالى؟ {قَالَ} المسيح (عليه السلام) {سُبْحَٰنَكَ} أنزهك تنزيهاً عن الشريك {مَا يَكُونُ لِي} لا يجوز لي {أَنْ

ص: 393

أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي قولاً ليس ذلك القول حقاً، أو ليس مقول القول حقاً، وهذا نفي للقول بنفي سببه، ثم يؤكد النفي بنفي لازمه فيقول: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وحيث تعلم عدمه فهذا معناه عدم قولي ذلك القول؛ لأن علمكمحيط بكل شيء لا يعزب عنه شيء ف-{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي ما أ ُخفيه فكيف بأقوالي؟ {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} في ذاتك، قال هذا الكلام تضرعاً وإخباتاً للّه تعالى، ف- {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} لذا تعلم ما في نفسي، حيث إنك تعلم الغيب ولا أعلم ما في نفسك؛ لأنه من الغيب الذي لا أعلمه.

117- وبعد أن نفى عيسى (عليه السلام) إدعاء الألوهية أثبت أنه حثّهم على العبودية فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} للناس {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} بأن أقوله لهم وهو {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فأنا مثلكم في العبودية، {وَ} لم يكن هذا مجرد كلام، بل {كُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} أشهد أقوالهم وأعمالهم فأمنعهم عن الانحراف {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} معهم في الأرض، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أخذتني أخذاً وافياً بروحي وجسدي حينما رفعتني إلى السماء {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي المراقب لأعمالهم وأقوالهم واعتقاداتهم وذلك بعلمك بها وبنصبك الدلائل والبراهين الدالة على الحق، {وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ} حاضر بعلمك وقدرتك.

118- وبذلك ترتفع مسؤولية عيسى (عليه السلام) عن غلوهم، بل هم المسؤولون عنه ف-{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} تملك أمرهم وقد خالفوك فاستحقوا العقاب، ومعنى ذلك هو أن عذابهم عدل، {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} لو كانوا

ص: 394

قاصرين فذلك لعزتك وحكمتك {فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

119- وحيث قد تبين براءة عيسى (عليه السلام) عن غلوهم ف-{قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ} كما انتفع عيسى (عليه السلام) بصدقه فله الوجاهة والقرب والمنزلة الرفيعة، وكذلك من اتّبعه اتّباعاً حقاً، ونتيجةً لذلك ف-{لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وهذه نعمة مادية، وأعظم منهاالنعمة المعنوية حيث {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} بصدقهم قولاً وعملاً، {وَرَضُواْ عَنْهُ} لأنه عاملهم بفضله وأثابهم، {ذَٰلِكَ} الجنة والرضوان {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} لا فوز أعظم منه، والفوز هو الظفر والنجاة.

120- {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} من الناس والملائكة وسائر الماديات، فهو الإله لا إله غيره {وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرُ} ومنه الثواب والعقاب، فلذا عليكم الالتزام بمواثيقه وعدم مخالفتها.

بحوث

الأول: هذه السورة سورة المواثيق كما مرّ سواء في الفروع أم في الأصول، فكان ختام السورة في أصل التوحيد الذي هو أهم المواثيق، كما بدأت السورة بمواثيقه في الفروع حيث قال: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَٰمِ...} الآية، وفي هذا المقطع يتم بيان توحيد اللّه تعالى مع ذكر دليله وتبرئة رسل اللّه تعالى عن مخالفته، ويذكر فيها عيسى (عليه السلام) كمثال لذلك، حيث إن طائفة كبيرة من بني آدم غلوا فيه وألّهوه، فيذكر اللّه تعالى حواراً بينه وبين عيسى (عليه السلام) في يوم القيامة ليتضح للجميع عدله تعالى حينما يعذّب من غلا، فإن يوم القيامة هو يوم المحكمة الإلهية الكبرى لتبيان الحقائق

ص: 395

لكل الناس؛ ليعلم أهل الجنة أنهم دخلوها بفضله؛ وليعلم أهل النار أنهم دخلوها بسوء أعمالهم من غير التباس الحقيقة بالباطل كما يكثر ذلك في دار الدنيا، ثم نقل هذا الحوار الذي سيقع يوم القيامة؛ ليكون هداية لمن أراد أن يهتدي وحجة يحتج بها عليهم فللّه الحجة البالغة.

فأولاً: يتم توجيه السؤال لعيسى (عليه السلام) ، والغرض بيان براءته من غلوهم حينما يبيّن (عليه السلام) الحقيقة، وليتضح لهم أنهم اتبعوا أهواءهم فليسعيسى (عليه السلام) مسؤولاً عن باطلهم؛ لأنه لم يقل لهم إلا الحق وقد راقبهم أحسن مراقبة لئلا ينحرفوا فقد أدّى ما عليه بأحسن وجه.

وثانياً: يبيّن أن أمرهم إلى اللّه تعالى - بالعذاب أو المغفرة - لكيلا يتوقعوا شفاعة عيسى (عليه السلام) من غير إذن اللّه تعالى، وبذلك يبطل الفداء أيضاً حيث زعموا أن ذنوبهم كلها مغفورة بفداء عيسى (عليه السلام) نفسه!

وثالثاً: بيان مصير المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه فوفوا بمواثيقه.

ورابعاً: ختم السورة بأنه لا بد من الوفاء بالمواثيق؛ لأن الناس عباد مربوبون وكل شيء للّه وهو قادر على كل شيء كالعذاب والثواب، فلا خيار آخر لهم، مع أن الوفاء بصالحهم من كل الجهات.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ}.

بعد أن قسّم اللّه تعالى بني إسرائيل بالنسبة إلى دعوة عيسى (عليه السلام) إلى من كفر وقال إن معاجزه سحر (الآية 110)، وإلى من آمن كالحواريين (الآية 111)، بعد ذلك يذكر الصنف الثالث وهم الذين غلوا فيه، وهؤلاء إنما غلوا

ص: 396

بعد رفعه إلى السماء وقد زعموا أنه (عليه السلام) هو الذي أمرهم بذلك بما حرفوا في الإنجيل، فكان لا بد من الاحتجاج عليهم ومن تبرئة عيسى (عليه السلام) عن غلّوهم، فكان بيان هذا الحوار في الآخرة لينتفع به الآن من يريد أن يهتدي، وليظهر عدل اللّه وصدق المسيح (عليه السلام) في الآخرة.

وقوله: {وَإِذْ قَالَ} أي سيقوله، وإنما استعمل الماضي لكون هذا الحوار متحقق الوقوع كقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِيالْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ}(1)، وفي ذلك تأكيد بليغ وإخبار عن الوقوع حتماً.

وقوله: {ءَأَنتَ قُلْتَ} الاستفهام عن عيسى (عليه السلام) تقريري، وعن الغلاة فيه توبيخي، فإن معنى الاستفهام واحد إلاّ أن الداعي له يختلف، ولا بأس باجتماع داعيين أو دواع ٍ مختلفة في استعمال لفظ واحد.

وقوله: {لِلنَّاسِ} لأن دعوة الأنبياء عامة وليست خاصة لمن اتبعهم، فكانت دعوة عيسى (عليه السلام) للجميع، لكن زعم النصارى أنهم هم الذين استجابوا لها.

وقوله: {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ} الاتخاذ افتعال بمعنى أخذ الشيء للنفس سواء كان بحق أم باطل، ويشمل الاعتقاد والعمل، وقد يكون بقصد أو لا بقصد، واتخاذهما إلهين بمعنى الاعتقاد بألوهيتهما وعبادتهما، وأكثر النصارى على تأليه المسيح (عليه السلام) ، وبعضهم على تأليه مريم (عليها السلام) زعماً منهم أن أم الإله إلهة.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} أي سوى اللّه، ليس بمعنى أنهم لا يعتقدون

ص: 397


1- سورة الزمر، الآية: 68.

بألوهية اللّه سبحانه، بل بمعنى اتخاذهما شريكين للّه تعالى، فإنه لما كان يجب عليهم حصر الألوهية في اللّه فاتخاذ الشركاء هو اتخاذ غير اللّه إلهاً منضماً إلى اللّه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

الثالث: قوله تعالى: {قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ...} الآية.

وأما جواب عيسى (عليه السلام) عن سؤال اللّه تعالى فهو جواب في غايةالخضوع والعبودية وبأفضل أدب.

فأولاً: قوله: {سُبْحَٰنَكَ} يبدأ بتنزيه اللّه تعالى عن الشريك، وقد مرّ أن أصل الكلمة أسبحك سبحاناً، ثم حذف الفعل وأضيف المصدر إلى الضمير، وهذا من حسن الابتداء بالكلام قبل الدفاع عن النفس.

وثانياً: قوله: {مَا يَكُونُ لِي...} نفي كلامهم عبر ذكر علة النفي، فإنه حينما لا يحق له قول شيء فلا يقوله قطعاً؛ لأنه رسول ومعصوم لا يقول إلاّ ما يحق له أن يقوله، و{مَا يَكُونُ} بمعنى لا يجوز لي.

وقوله: {مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} (ما) الموصولة إما بمعنى الألوهية، أي الألوهية التي ليست حقاً لي، وإما بمعنى القول، أي الكلام الذي لا يحق له أن أقوله.

وثالثاً: قوله: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ...} نفي كلامهم عبر نفي لازمه، فإن من يقول كلاماً فإن اللّه يعلم به، وحيث إن اللّه تعالى يعلم بعدمه فلم يكن ذلك الكلام صادراً عن عيسى (عليه السلام) ، وقيل: هو من السالبة بانتفاء الموضوع، أي لا يعلمه اللّه لعدم وجوده! إلاّ أن الأصح أن معناه هو علمه بالعدم.

ص: 398

وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي...} هذا تعليل لقوله: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} مضافاً إلى أنه دليل لنفي ألوهية عيسى (عليه السلام) ؛ لأن الألوهية تستلزم العلم بلا حدود، وليس عيسى (عليه السلام) كذلك، إذ لا يعلم الغيب فهو محدود محتاج في علمه إلى اللّه تعالى فلا يكون إلهاً، وأيضاً تأكيد لنفي ادّعائه الألوهية بأن اللّه يعلم حتى ما يخفيه عيسى (عليه السلام) في نفسه - والذي علمه من الغيب - فلا يخفى عليه أقواله التي ليست من الغيب.

ثم إن قوله: {نَفْسِكَ} إما بمعنى الذات فلا مجاز هنا، أي أنت تعلم ما في ذاتي ولا أعلم ما في ذاتك، إذ علمه تعالى عين ذاته، ولا يعلم كنه ذاته إلاّ هو، وإما من باب المشاكلة فإن اللّه تعالى منزّه عن النفس، سواء كانت بمعنى الروح أم كانت أمراً غير الروح.

وقول--ه: {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ الْغُيُوبِ} حصر لعل-م الغيب باللّه - والحصر عبر التأكيد بضمير الفصل - فلا أح--د يعلم الغيب إلاّ اللّه فليس هناك إل-ه غيره سبحانه وتعالى، وأما ما يعلمه الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فهو بتعليم من اللّه تعالى.

الرابع: قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}.

بعد أن يبرِّئ عيسى (عليه السلام) نفسه من ادعاء الألوهيّة، يبيّن أمرين: أحدهما ما قاله لهم، والآخر ما صنعه فيهم، فقد بيّن واقع ما قاله، وذلك إقراراً وخضوعاً منه ولتبكيت الغلاة أيضاً، قطعاً لطريق ادعاء مدع بأنه لم يقل شيء وإنما اجتهدنا فأخطأنا! فيقول: إنه قد بلّغهم ما أمر اللّه به من حصر العبادة والألوهية في اللّه لكنهم غلوا فتمت الحجة عليهم.

ص: 399

وقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} أي ما أمرتهم، إلاّ أنه عدل عن لفظة الأمر إلى لفظة القول خضوعاً وتذلّلاً للّه تعالى، حيث ما أراد مقابلة أمره تعالى فلذا عبر عن كلامه بالقول وعن كلام اللّه بالأمر.

وقوله: {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} أي ما أمرتني أن أقوله لهم.

وقوله: {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} (أن) مفسرة لما أمره اللّه تعالى به؛ لأنها تتضمن معنى القول، والمراد حصر العبادة في اللّه دون غيره.

وقوله: {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي أنا متساوٍ معكم في كوننا مخلوقين مربوبين فلست إلهاً، فلا تكون أمي إلهاً أيضاً؛ لأن من زعم ألوهيتها كان منشأ زعمه أنها أم الإله، فإذا انتفت ألوهية الابن انتفت ألوهية الأم بطريق أولى.

الخامس: قوله تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ...} الآية.

هذا المقطع لبيان ما صنعه معهم، وهو كونه شهيداً عليهم مدة بقائه فيهم، وليس الشهيد مجرد ناظر لأعمالهم ليشهد عليهم يوم القيامة فحسب، بل شهادة تقويم ومنع عن الانحراف.

وبعبارة أخرى: كان (عليه السلام) يتابع أقوالهم وأفعالهم ويقوّمها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الحقائق ومنع التحريف، نظير قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ}(1)، وكقوله: {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ}(2)، فليست مجرد إنشاء قول، بل هي إقامة الدلائل والبراهين وإرسال

ص: 400


1- سورة آل عمران، الآية: 18.
2- سورة النساء، الآية: 166.

الآيات والبينات، فشهادة عيسى (عليه السلام) هي شهادة حفظ ومراقبة ولذلك عدّاها بقوله: {عَلَيْهِمْ}.

وقوله: {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} (ما) مصدرية زمانية، لبيان عدم تقصيره في أداء الرسالة وحفظها إلى أن رفعه اللّه تعالى حيث انتهت مهمته.

وقوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} قد مرّ أن التوفّي هو أخذ الشيء كاملاً، وهو غيرالموت قال تعالى: {حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ الْمَوْتُ}(1)، وقال: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(2)، نعم الموت يلازم التوفّي؛ لأنه قبض للروح كاملاً، إلاّ أن التوفي أعم منه ولذا قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}(3)، فوفاة عيسى (عليه السلام) بمعنى أخذه أخداً كاملاً بروحه وجسده، فهو حيّ إلى أن يُنزله اللّه مرة أخرى بعد ظهور الإمام المهدي، وقد مرّ قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}(4).

وقوله: {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} الرقيب والشهيد متقاربا المعنى، فكل رقيب شهيد وكل شهيد رقيب، ولعلّ تغيير اللفظ نوع تأدّب أو فصاحة في الكلام، فالمعنى كنت أنت المراقب لأعمالهم حيث نصبت لهم الدلائل والبينات وعيّنت الأوصياء، ليستمر بيان الحق لهم لئلا ينحرفوا.

ص: 401


1- سورة النساء، الآية: 15.
2- سورة الأنعام، الآية: 61.
3- سورة الزمر، الآية: 42.
4- سورة النساء، الآية: 159.

وقوله: {وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ} لعلّ ذكر هذا لأجل دفع توهم أن رقابة اللّه تعالى هي بدل عن شهادة عيسى (عليه السلام) بل إن اللّه هو الشهيد عليهم قبل عيسى (عليه السلام) ومعه وبعده؛ لأنه الحاضر بإحاطة علمه وقدرته على كل شيء فشهادة عيسى (عليه السلام) شهادة بإذن اللّه تعالى.

السادس: قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

بعد أن برّأ عيسى (عليه السلام) نفسه عن غلّوهم وأخبت وتضرع إلى اللّه تعالى، يتوجه إلى اللّه تعالى بأنه سبحانه هو المالك لأمرهم فيما يريد... .

1- فإن أراد تعذيبهم فهو عدل؛ لأنهم عبيده وقد تجاوزوا العبودية فأشركوا وبذلك يستحقون العذاب.

2- وإن أراد أن يغفر لهم فهو فضل منه ولا يكون ذلك إلا لعزته وحكمته. وفي التقريب: «وفي هذا تسليم الأمر لمالكه وتفوض الأمر إلى مدبّره، وهذا التعبير لا ينافي علم عيسى (عليه السلام) بأنهم معذّبون، فإنه كما يقول أحدنا لمالك الأمر: إنه بيدك إن شئت فعلت وإن شئت تركت، حتى مع علمنا أنه يفعل أحدهما لا محالة، هذا بالإضافة إلى أن بعضهم - وهم القاصرون - قابلون للغفران»(1)،

وفي التبيين: «ولعلّ اللّه سبحانه يمتحن قسماً من القاصرين من الكفار في يوم القيامة ليغفر لهم إذا نجحوا في الامتحان، كما أشارت إلى ذلك بعض الأحاديث»(2).

ص: 402


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 2: 41.
2- تبيين القرآن: 139.

وقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قيل: ولم يقل: فإنك غفور رحيم؛ لأن سطوع آية العظمة والسطوة الإلهية الغالبة على كل شيء لا يدع للعبد إلاّ أن يلتجئ إلى اللّه بذلّة العبودية عند هذا الذنب العظيم، وأما قول إبراهيم (عليه السلام) : {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1)،فإنه في مقام الدعاء واستعطاف للرحمة الإلهية، فتأمل.

السابع: قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ...} الآية.

لمّا ذكر عيسى (عليه السلام) أن أمرهم بيد اللّه إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، عند ذاك يقول اللّه تعالى: إن الصادقين في الدنيا - بأن صدّقت أفعالُهم وأقوالُهم قلوبَهم فكانت أعمالهم ومعتقداتهم وأقوالهم بحسب ما يرد اللّه تعالى - فهؤلاء ينتفعون في الآخرة بصدقهم، قال سبحانه: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ}(2).

وأما الكفار والمنافقون فهم قد كذبوا في الدنيا كما يكذبون في الآخرة، وإن اضطروا في بعض مواقفهم بالاعتراف بذنوبهم، قال سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(3)، واعترافهم في بعض مواطن

ص: 403


1- سورة إبراهيم، الآية: 36.
2- سورة الأحزاب، الآية: 23.
3- سورة الأنعام، الآية: 22-24.

الآخرة لا يجعلهم صادقين، بل هم كاذبون اضطروا إلى الصدق أحياناً.

ثم يذكر اللّه تعالى جزاء الصادقين مادّياً ومعنوياً، أما الماديّ فهو جنات الخلود، وأما المعنوي فرضا اللّه عنهم ورضاهم عنه.

أما رضاه عنهم: فلأن أعمالهم وعقائدهم وأقوالهم الصادقة صارت سبباًلطهارة ذواتهم، فلذلك يرضى اللّه عنهم كما رضي عن أعمالهم، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «فمن خلقه اللّه سعيداً لم يبغضه أبداً، وإن عمل شراً أبغض عمله ولم يبغضه، وإن كان شقياً لم يحبه أبداً، وإن عمل صالحاً أحبّ عمله وأبغضه لما يصير إليه»(1).

وأما رضاهم عنه: فلتكريمهم بفضله ورحمته وغفرانه وعفوه، وهذه منزلة عظيمة لهم، حيث إن اللّه يذكر رضاهم عنه وهو المالك لهم المتفضل عليهم بكل شيء.

وقوله: {ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الفوز هو الظفر بالمقصود والنجاة من المهالك، وفيه حث للناس على سلوك طريق الحق حتى لو خسروا الدنيا؛ لأنهم بذلك يربحون الربح الدائم الأبدي الذي لا يمكن وصف عظمته.

الثامن: قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرُ}.

كأنه تأكيد لتوحيد الألوهية في اللّه عز وجل وتكذيب من ألّه عيسى (عليه السلام) ، فإن الإله هو المالك لكل شيء والقادر على كل شيء وليس عيسى (عليه السلام) إلاّ عبد مربوب للّه تعالى قد أكرمه بأن أقدره على بعض المعاجز

ص: 404


1- الكافي 1: 152. ولشرح الحديث راجع شرح أصول الكافي، للمؤلف 2: 487.

ولا تصدر منه إلاّ بإذن اللّه تعالى، كما أن في هذه الآية حثاً على الوفاء بعهود اللّه تعالى في الفروع والأصول؛ لأنه المالك لكل شيء القادر على الثواب والعقاب.

خاتمة: في ثواب قراءة السورة

خاتمة

عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «من قرأ سورة المائدة في كل يوم خميس لم يُلبس إيمانه بظلم، ولم يشرك بربّه أحداً»(1)، ولعلّ المقصود تعاهد قراءتها بتدبر وفهم، فإن ذلك يكون سبباً لقوة الإيمان عملاً وعقيدة، كما أن للقراءة بنفسها آثاراً غيبيّة توجب لطف اللّه تعالى بهدايته.

سبحان ربك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه رب العالمين، وصلّى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

14 / شوال / 1439

ص: 405


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 277؛ عن ثواب الأعمال: 105.

ص: 406

الفهرس

الإطار العام للسورة ... 5

الآيتان 1-2 ... 7

الآية 3 ... 21

سبب يأس الكفار في يوم الغدير ... 29

إكمال الدين بولاية علي (عليه السلام) ... 31

الآيتان 4-5 ... 37

حلية طعام أهل الكتاب ... 43

الآيتان 6-7 ... 48

كيفية الوضوء ... 51

الوضوء في سورة النساء والمائدة ... 55

علة الطهارات الثلاث ... 57

الآيات 8-11 ... 61

الآيات 12-14 ... 68

الآيات 15-19 ... 80

مراحل الهداية الثلاث ... 85

ص: 407

الآيات 20-26 ... 95

الآيات 27-32 ... 109

حول القتل وعاقبته ... 112

حول القربان وسببه ... 113

معنى القبول من المتقين ... 115

من الآثار الوضعية للقتل ... 117

الآيتان 33-34 ... 126

عقوبة المحارب ... 130

الآيات 35-37 ... 134

من أسباب الفلاح ... 136

الوسيلة هم الرسول وآله (عليهم السلام) ... 137

الآيات 38-40 ... 141

سبب التشديد في عقوبة السارق ... 143

الآيات 41-43 ... 148

كيفية الحكم بين أهل الكتاب ... 156

الآيات 44-47 ... 157

أوصاف التوراة ... 162

الحاكمون بالتوراة ... 163

سبب حكمهم بالتوراة ... 164

سبب إعراض بعضهم عن التوراة ... 165

ص: 408

عاقبة عدم الحكم بما أنزل اللّه ... 166

حول الإنجيل وأوصافه ... 168

الآيات 48-50 ... 172

أوصاف القرآن الكريم ... 174

تعدد الشرائع والحكمة فيه ... 177

الآيات 51-53 ... 184

معنى النهي عن ولاية غير المسلمين ... 186

معنى مرض القلب ... 188

الآيات 54-56 ... 192

معنى الارتداد ومصاديقه ... 194

الذين يأتي اللّه بهم بدلاً عن المرتدين ... 196

أوصاف المؤمنين ... 198

المقصود بآية (إنما وليكم اللّه...) ... 202

الولاية التكوينية ... 203

التصدق بالخاتم ... 204

شمول الآية لجميع الأئمة (عليهم السلام) ... 204

معنى حزب اللّه ... 207

الآيتان 57-58 ... 209

الآيات 59-63 ... 215

أسباب النقمة على المسلمين ... 218

ص: 409

من عقوبات كفار أهل الكتاب ... 221

الآيات 64-66 ... 227

سبب اغتصاب فلسطين ... 234

الآية 67 ... 240

الخطاب ب-(يا أيها النبي) و(يا أيها الرسول) ... 242

عدم فائدة الدين من غير ولاية ... 243

معنى العصمة من الناس ... 244

حول زرية يوم الخميس ... 245

الآيات 68-71 ... 248

سبب رفع (والصابئون) ... 252

الآيات 72-77 ... 259

ثلاثة أدلة لبطلان عقيدة النصارى ... 263

من طوائف النصارى الكافرة ... 263

من أقول السيد المسيح (عليه السلام) في العقيدة ... 263

كفر طائفة أخرى من النصارى ... 266

من أدلة كون المسيح (عليه السلام) بشراً ... 270

الآيات 78-81 ... 276

لعن الأنبياء لكفار بني اسرائيل ... 277

سبب لعنهم ... 279

الآيات 82-86 ... 284

ص: 410

سبب شدة عداوة اليهود والمشركين للمسلمين ... 287

سبب أقربية مودة النصارى للمسلمين ... 289

الآيات 87-89 ... 296

النهي عن تحريم الطيبات ... 298

كفارة حنث اليمين ... 303

الآيات 90-93 ... 307

من أضرار الخمر والقمار ... 312

تحريم الخمر في جميع الشرائع ... 313

الآيات 94-96 ... 319

حرمة الصيد البري حالة الإحرام ... 321

كفارة الصيد ... 325

العفو عن المخالفات قبل التحريم ... 328

حلية صيد البحر حالة الإحرام ... 329

الآيات 97-100 ... 332

الآيتان 101-102 ... 341

معنى النهي عن السؤال ... 343

الآيات 103-105 ... 350

من بدع الجاهلية في تحريم الحلال ... 352

الآيات 106-108 ... 359

الشهادة في الوصية ... 363

ص: 411

لو تبيّن كذب شهود الوصية ... 366

الآيات 109-111 ... 370

من نعم اللّه على عيسى (عليه السلام) ... 377

الآيات 112-115 ... 382

كيفية سؤال الحواريين للمائدة ... 385

غرضهم من سؤال المائدة ... 387

الآيات 116-120 ... 393

خاتمة: في ثواب قراءة السورة ... 405

الفهرس ... 407

ص: 412

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.