التفكر في القرآن (سورة النساء) المجلد 5

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفكر في القرآن (سورة النساء) المجلد 5 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دار الفكر، 1439ق = 1397ش.

الشجرة الطيبة

التفكر في القرآن

--------------------

آية اللّه السيّد جعفر الحسيني الشيرازي (رحمه اللّه)

المطبعة: قدس

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولی - 1439ه.ق

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم

التفكر في القرآن

سورة النساء

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين،

ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، إلى يوم الدين

الإطار العام للسورة

تتضمن السورة الدعوة إلى تقوى اللّه تعالى ومراعاة أحكامه، فتبتدئ بحكم الأموال كأموال اليتامى ومهور النساء والإرث (الآيات 2-20)، ثم تذكر أحكام الأحوال الشخصية في النكاح والعلاقات الاجتماعية (الآيات 21-39)، وتصنيف الناس، وعدم ظلم اللّه تعالى، وبيان أنّ الناس ينقسمون إلى كفار يجب جهادهم، ومنافقين يلزم الحذر منهم، ومستضعفين ينبغي مراعاتهم (الآيات 40-100)، ثم الدعوة إلى الإيمان وبيان جملة من أحكامه، والنهي عن الضلال والإضلال وأسبابه (الآيات 101-126)، ثم رجوع إلى أحكام النساء مرة أخرى لمناسبة سنذكرها (الآيات 127-130)، ثم بيان ثواب الإيمان والعمل الصالح والدعوة إليهما والنهي عن العمل غير الصالح (131-152)، ثم أمثلة من الأنبياء (عليهم السلام) كموسى وعيسى ورسول اللّه

ص: 5

محمد صلوات اللّه عليه وآله وعليهم أجمعين (الآيات 153-175)، وختام السورة في حكم مالي وهو الإرث، كأنه رجوع إلى صدر السورة (الآية 176).

والحاصل أنّ محور السورة المباركة هو الأحوال الشخصية والأحكام الاجتماعية والالتزامات المالية، ولذا ابتدأت بالدعوة إلى تقوى اللّه سبحانه بمراعاة أحكامه، وحثّت على التراحم والتضامن، وتخلل كل ذلك أمور تتعلق بالمبدأ والمعاد وموعظة الناس وتحذيرهم من مغبّة مخالفة أوامر اللّه تعالى ونواهيه، ومن هذا المنطلق كان اسم السورة المباركة.

ص: 6

الآية 1

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * يَٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا 1}

{بِسْمِ اللَّهِ} الابتداء والاستغاثة باسم اللّه تعالى؛ لأنه جعل اسمه واسطة بينه وبين خلقه، {الرَّحْمَٰنِ} رحمة عامة للجميع فقد وسعت كل شيء، {الرَّحِيمِ} برحمات خاصة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

1- {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ} خطاب للجميع؛ لأنه دعوة إلى الإيمان والعمل الصالح فيدعو الكفار أيضاً {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} احفظوا أنفسكم من عقابه، فخافوا مخالفته ومعصيته وتضييع حقه {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} آدم (عليه السلام) ، {وَخَلَقَ مِنْهَا} من نوعها وجنسها، وذلك من فضل طينتها {زَوْجَهَا} حواء، {وَبَثَّ} نشر وفرّق في الأرض {مِنْهُمَا} ذريةً فكانوا {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} كثيرات، فكلّكم ترجعون إلى هذا الأصل الواحد، فلا فضل لأحدكم على الآخر من هذه الجهة، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} بمراعاة حقوق بعضكم {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} أي: يسأل بعضكم الآخر باللّه، وهذا كناية عن تعظيمه، أي: كما تعظّمونه باللسان عبر السؤال كذلك عظّموه بالعمل بتقواه، {وَالْأَرْحَامَ} أي: واتقوا الأرحام بعدم قطعها، ويكون ذلك بعدم

ص: 7

ظلمهم وبإيتاء حقوقهم المالية والاجتماعية وغيرها، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} مراقباً لأعمالكم فلا يفوته شيء، فيجازيكم عليها.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ}.

الأوامر الإلهية قد تتصدر بقوله: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ}، أو بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فأمّا الأول فهو في العادة إذا كان الغرض الدعوة إلى الإيمان وإلى اللّه تعالى، وأما الثاني فهو في العادة إذا كان لدعوة المسلمين إلى فروع الأحكام الشرعية، كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك، فإنّ الأحكام وإن كانت عامة فالكفار أيضاً مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، إلاّ أنّ الذي ينتفع بذكر الأحكام إنما هم المسلمون، وأما الكافر فلا يعنيه الحكم الفرعي شيئاً، فلا بد من دعوته إلى الأصل أوّلاً ثم بيان الأحكام له.

وفي هذه الآية دعوة إلى الأصول أوّلاً ومن ثَمّ الفروع، ولذا صدّرها بقوله: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ}.

الثاني: قوله تعالى: {اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}.

سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن التقوى؟ فقال: «هي طاعته فلا يُعصى، وأن يذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر»(1) وهذا بيان لأعلى مصاديق التقوى.

ثم إنّ قوله هذا، مع قوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ} ليس تكراراً، بل الأولى للترغيب، لذلك جاء بلفظ {رَبَّكُمُ}، والثانية للترهيب لذلك جاء بلفظ الجلالة، كما قيل، أو الغرض من الأولى الدعوة إلى تقواه؛ لأنه بدأ

ص: 8


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 7.

النعم بخلقكم، ومن الثانية الدعوة إليها في مقابل انتفاعكم باسمه، أو الأولى دعوة إلى شكر المنعم بإطاعته وترك معصيته بالتذكير بأنه الربّ الخالق، ومن الثانية الدعوة إلى مراعاة حقوق الأرحام، فكما تجب تقواه لحقوقه تعالى كذلك تجب تقواه فيما جعله من حقوق للأرحام.

كما أنه قد مرّ أنّ (التقوى) من (الوقاية) وهي الحفظ، فمعنى {اتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم من عقابه أو احفظوا أنفسكم من مخالفته، وحيث يلازم ذلك الخوف، لذا كثر استعمال التقوى بمعنى الخوف منه سبحانه وتعالى.

الثالث: قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ} إلى قوله: {وَنِسَاءً}.

الغرض من هذا الوصف بيان أنّ اللّه تعالى قادر، فلا بد لكم من أن تخشوه، وأيّ قادر أقدر من الذي خلقكم كلكم من شخص واحد فقط ثم كثّره بالتناسل؟ فهل يعجز عن عقابكم لو خالفتموه؟ هذا من جهة.

ومن جهة أخرى إنه المنعم عليكم، وأصل النعم هو إيجادكم، فلا بد لكم من إطاعته شكراً له.

ومن جهة ثالثة هذا كالمقدمة للدعوة إلى رعاية حقوق الناس وخاصة الأرحام، فإنكم جميعاً من أصل واحد، فعليكم أن يرحم بعضكم بعضاً.

وأما قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فبمعنى أنّ حواء هي من جنس آدم، فكلاهما من البشر، ويتفرع على ذلك أنّ واجبات وحقوق الرجل والمرأة متماثلة إلاّ فيما استثني، وقاعدة الاشتراك في التكليف معروفة، فالواجبات والمحرمات، وكذا الأحكام الوضعية أدلتها عامة تشمل كلا الجنسين.

نعم هناك مهمة ملقاة على عاتق الرجل تختلف عن مهمة المرأة، ولذلك

ص: 9

كان هناك بعض التفاوت والاختلاف بين تكوين الرجل والمرأة ليتناسبالتكوين مع التشريع، فإنّ الخالق حكيم، لذا تطابق تشريعه مع تكوينه، كما مرّ في أوائل سورة آل عمران، فللرجل مهمة تناسب تكوينه، وللمرأة مهمة تناسب تكوينها، ولكن مع ذلك فهناك توازن في الحقوق والواجبات، قال اللّه تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}(1)، وهذه الدرجة هي أنّ الرجل مدير للأسرة وله القيمومة.

لكن ليس معنى ذلك استبداد الرجل وغمط المرأة حقوقها، وقد مرّ التفصيل في سورة البقرة.

وأما كيفية خلقها منه فلم تتعرّض الآية لبيانها، فلا بد من مراجعة الروايات لمعرفتها، فبعضها دلت على أنها خلقت من ضلعه الأيسر، وهي متطابقة مع روايات روتها العامة، وأخرى دلت على أنها خلقت من فاضل طينته، والجمع بينها هو ما دل عليه خبر مروي عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه سُئل: فمن أين خلقت؟ قال: «من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر»(2)، قال العلامة المجلسي (رحمه اللّه) في الأخبار التي دلت على خلق حواء من ضلع آدم: إمّا محمولة على التقية، أو على أنها خلقت من طينة ضلع من أضلاعه(3).

قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} أي: ونساءً كثيرات، وهذا دليل قدرته وعظمته، فهذا العدد الذي لا يمكن حصره من الناس وبمختلف الألوان وصنوف اللغات ونحو ذلك كلّهم مرجعهم إلى إنسان واحد، والذي

ص: 10


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- علل الشرائع: 471.
3- بحار الأنوار 11: 116.

خلقت زوجته منه.

كيفية تناسل أولاد آدم (عليه السلام)

والآية في مقام بيان عظمة اللّه تعالى في خلق هذا الخلق الكثير من آدم (عليه السلام) وحواء، وليست في مقام بيان كيفية التناسل منهما، فقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} لا يدل على الحصر، بل ظهور الآية في أنّ النسل بدأ منهما، أما كيفية ذلك فلا بيان له، فلا بد من مراجعة الروايات في ذلك، وقد دلت الروايات على أنّ اللّه تعالى زوج بعض أولاد آدم بحور عين أنزلهن من السماء، وبعضهم بنساء الجن فتوالدوا، ثم تزاوج أبناء العمومة فبذلك انتشر النوع الإنساني وتكاثر، وفي الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه ذكر له المجوس وأنهم يقولون نكاح كنكاح ولد آدم وأنهم يحاجّونا بذلك؟ فقال: «أما أنتم فلا يحاجونكم به، لمّا أدرك هبة اللّه، قال آدم: يا ربّ زوّج هبة اللّه، فأهبط اللّه له حوراء، فولدت له أربعة غلمة، ثم رفعها اللّه، فلمّا أدرك ولد هبة اللّه، قال: يا رب زوّج ولد هبة اللّه، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه أن يخطب إلى رجل من الجن - وكان مسلماً - أربع بنات له على ولد هبة اللّه فزوجهن»(1).

وأما ما روي من تزوج الإخوة والأخوات فيعارضه الروايات التي أنكرت ذلك أشد الإنكار، فلا بد من ردّ علمه إلى أهله أو حمله على التقية.

الرابع: قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}.

بعد الدعوة إلى تقوى اللّه؛ لأنه خالقكم، تأتي الدعوة إلى تقواه؛ لأنكم تعظمونه وتحلفون به، والمعنى أنه يسأل بعضكم بعضاً باللّه كأن يقول له: أسألك باللّه إلاّ ما فعلت كذا، وذلك دليل على تعظيمكم للّه تعالى، فكما

ص: 11


1- الكافي 5: 569.

تريدون الوصول إلى مطالبكم عبر القسم والسؤال باللّه كذلك ليكن فيالمقابل مراعاتكم لحقوقه تعالى بطاعته، لا أن تستغلّوا اسمه في منافعكم ومصالحكم فقط من دون مقابل.

وبعبارة أخرى: لتكن علاقتكم باللّه على أساس صحيح دائماً وفي السراء والضراء، لا أن تعظموه حين المصالح وتخالفوه حين الشهوات.

انقطاع الأنساب يوم القيامة إلا نسب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

وقوله: {وَالْأَرْحَامَ} عطف على (اللّه) أي اتقوا الأرحام فلا تقطعوها؛ لأن قطعها سيؤدي إلى ضرركم، فتقوى اللّه عدم عصيانه، وتقوى الأرحام عدم قطعها، وللآية مصداقان: رحم آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ورحم المؤمنين بعضهم مع بعض، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «إنّ رحم آل محمد - الأئمة (عليهم السلام) - لمعلقة بالعرش، تقول: اللّهم صل من وصلني واقطع من قطعني، ثم هي جارية بعدها في أرحام المؤمنين، ثم تلا هذه الآية»(1).

وعن ابن عباس: أنها نزلت في رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته، وذوي أرحامه، وذلك أنّ كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة، إلاّ ما كان من سببه ونسبه(2)، ولعل المعنى أنه لا أحد ينتفع بنسبه إلاّ النسب المتصل بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنه لا شفاعة تنفع إلا شفاعة الرسول وآله (عليه وعليهم الصلاة والسلام).

بيان ذلك:

1- أما النسب: فإنه قد دلّ القرآن على انقطاع الأنساب يوم القيامة، فقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٖ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}(3)، وهذا إما

ص: 12


1- الكافي 2: 156.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 15.
3- سورة المؤمنون، الآية: 101.

بمعنى عدم نفع النسب مع بقائه، أي: الناس أنسباء إلاّ أنه لا نفع لذلك النسب،وإما بمعنى انتفاء النسب من أصله؛ وذلك لكون هذا النسب تكويناً خاصاً بالدنيا، فقد دلّت الأدلة على أنّ اللّه تعالى خلق الناس أجمع قبل هذا العالم من طينات مختلفة، فلا ارتباط بينهم ولا نسب في العوالم السابقة، وإنما في هذا العالم وبحكمته أخرج بعضهم من صلب بعض، فإذا قامت القيامة يحشر الناس بطيناتهم الأصلية، والتي لم يكن بينها ارتباط ونسب، فالنسب منتفٍ من أساسه، فقوله تعالى: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} على معناه الحقيقي.

ويستثنى من ذلك - بتخصيص الآية بالروايات - نسب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو نافع من جهة، وغير منقطع تكويناً، بمعنى بقائه واقعاً من جهة أخرى، وذلك لخلق أرواح المؤمنين من طينة عليين مع خلق أجسام الرسول والأئمة (عليه وعليهم الصلاة والسلام) من طينة عليين أيضاً، فكان هناك ارتباط بين الطينتين في أصل الخلق، ويحشرون بها، فيبقى الارتباط، وعليه فنسبه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الآخرة يكون خاصاً بالمؤمنين، سواء كانوا من الذرية في الدنيا أم لا، فتأمل.

2- وأما السبب: فإنه لا تنفع شفاعة إلاّ لو قرنت بشفاعة الرسول وآله، فتبدأ الشفاعة من المؤمنين، وتلك الشفاعة تجعل المشفوع قابلاً لشفاعة أهم، وهكذا تترقى الشفاعات إلى أن تصل إلى قابلية المشفوع له لينال شفاعة الرسول وآله، وبشفاعتهم يصير قابلاً لدخول الجنة، مثلاً مذنب يحتاج الى غفران ذنبه، فيأذن اللّه لجاره المؤمن أن يشفع له، وبهذه الشفاعة يترقى إلى قابلية شفاعة أعلى فيشفع له عالم متقٍ، فيترقى لقابلية شفاعة أهم فيشفع له نبي، فيترقى لقابلية الشفاعة الكبرى فيشفع له الرسول وآله مثلاً، وكذلك الشفاعة لرفع الدرجات، وما ذكرناه مقتضى الجمع بين الأخبار

ص: 13

الكثيرة في الشفاعة، وقد أشرنا إليه في شرح أصول الكافي فراجع.

وفي قوله: {وَالْأَرْحَامَ} احتمال آخر، وهو أن تكون عطفاً على محلّ الهاء في {بِهِ} أي تساءلون باللّه وبالأرحام فتقولون: نشدتك باللّه وبالرحم إلاّ ما فعلت كذا.

لكن أشكل بعض النحاة عليه بأن عطف الاسم الظاهر على الضمير المتصل المجرور من غير تكرار حرف الجر لغة ضعيفة!

وفيه نظر، وذلك لوروده في الكلام الفصيح كما ورد كثيراً في الصحيفة السجادية قوله (عليه السلام) : (صلى اللّه عليه وآله) من غير تكرار حرف الجر، وعليه فيجوز في اللغة العطف على لفظ الضمير، كما يجوز العطف على محله، فقوله: {وَالْأَرْحَامَ} بالنصب عطف على محل الهاء في {بِهِ} لأنها في محل نصب على المفعولية.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.

يدل على إشراف علمه تعالى على كل شيء، فيعلم بأعمال العباد كلها؛ لأنّ الرقيب هو الحفيظ الذي يراقب التصرفات، والغرض التحذير مما يوجب سخطه؛ لأنه عالم وسيجازي على ذلك العمل، وقيل: هو ليس مجرد الحفظ، بل حفظ الأعمال لإصلاح موارد الخلل والفساد أو ضبطها!

ص: 14

الآيتان 2-3

اشارة

{وَءَاتُواْ الْيَتَٰمَىٰ أَمْوَٰلَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَٰلِكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا 2 وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُواْ 3}

2- {وَءَاتُواْ} احفظوها لهم وانفقوها عليهم، {الْيَتَٰمَىٰ} الصغار الذين فقدوا آبائهم {أَمْوَٰلَهُمْ} التي ملكوها بإرث أو غيره.

ثم نهى اللّه تعالى عن أمرين:

الأول: {وَلَا تَتَبَدَّلُواْ} أي لا تستبدلوا {الْخَبِيثَ} من أموالكم، وهو الرديء الذي تعافه النفوس {بِالطَّيِّبِ} من أموالهم، وهو الجيد الذي ترغب إليه النفوس، فتأخذون جيد أموالهم وتعطونهم بدلاً منه الرديء من أموالكم.

الثاني: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰ} أي مع {أَمْوَٰلِكُمْ} بأن تخلطوا اموالهم بأموالكم فتأكلونهما جميعاً من غير تعويض لهم بشيء.

{إِنَّهُۥ} أي كل من التبديل والأكل {كَانَ حُوبًا} إثماً {كَبِيرًا} من حيث شناعته ومن حيث عقابه.

3- {وَإِنْ} كان النكاح باليتيمات مظنة أكل أموالهن وعدم إعطائهن حقوقهن بسبب ضعفهن وعدم وجود ناصر لهن، ف {خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ} لا

ص: 15

تراعوا العدل في أموالهنّ وحقوقهنّ {فِي الْيَتَٰمَىٰ} البنات اليتيمات، فعليكمأن لا تتزوجوهن، بل تزوجوا غيرهن {فَانكِحُواْ مَا} أي العدد الذي {طَابَ لَكُم} أحببتم {مِّنَ النِّسَاءِ} من غير اليتيمات {مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ} أي اثنين اثنين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع، أي بملاحظة المجموع من الرجال، فالمعنى كل واحد يحق له أن يتزوج اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، {فَإِنْ خِفْتُمْ} أي اطمأننتم {أَلَّا تَعْدِلُواْ} في القَسْم والنفقة {فَوَٰحِدَةً} اكتفوا بها، {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} لأنهن لا قَسم لهنّ، فمراعاة العدل فيهن سهل جداً عكس الحرائر، {ذَٰلِكَ} الاكتفاء بواحدة أو بملك اليمين {أَدْنَىٰ} أقرب {أَلَّا تَعُولُواْ} أي لا تميلوا إلى الباطل بأن تجوروا على النساء.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَءَاتُواْ الْيَتَٰمَىٰ أَمْوَٰلَهُمْ}.

الظاهر أنّ المراد بهذه الآية صرف أموال اليتامى عليهم بالمعروف، فالإيتاء هنا بمعنى الصرف والإنفاق، وأما قوله في الآية السادسة: {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ} فهو بمعنى تسليم تلك الأموال إليهم؛ لانتهاء الحجر عليهم، فلا تكرار في الآيتين، فاليتيم في صغره بحاجة إلى النفقة من مأكل ومشرب ومسكن ونحو ذلك، وحيث مات أبوه فنفقته من أمواله، ولا يصحّ التقتير عليهم أو عدم إنفاق أموالهم عليهم بحجة حفظ تلك الأموال أو التورع فيها! بل على الولي الشرعي أو الوصي أو القيم أن ينفق عليهم بالمعروف بلا إسراف ولا تقتير، وفي ذلك حفظهم ورعايتهم وحفظ أموالهم.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}.

ص: 16

بحيث إذا وجدتم أموالهم أجود وأحسن من أموالكم قمتم بعمليةالاستبدال، زاعمين أنكم لم تأكلوا أموالهم، بل عوضتموها!! وهذا خداع لليتيم أو الشهود بعد أن يصل إلى سنّ البلوغ والرشد، حيث قد يعلم بمقدار أمواله، فيعطى الرديء، على أنه ماله ولا يتمكن من المطالبة بشيء!

وقوله: {وَلَا تَتَبَدَّلُواْ} من باب (التفعّل) ولهذا الباب استعمالات متعددة، وبعضها يناسب المقام هنا(1):

1- فقد يستعمل في المطاوعة مثل: (التكسّر)، فلعلّ المراد هنا عدم صعوبة التبديل، بل يتمّ الأمر بكل سهولة؛ لكون المالك صغيراً لا يعي شيئاً ولا يمكنه إثبات حقّه في المستقبل.

2- وقد يستعمل في العمل المتكرّر في مهل ٍ، مثل: (التجرّع) أي الشرب جرعة بعد جرعة، فلعل التبدّل هنا يكون بالتدريج وشيئاً فشيئاً؛ نظراً لطول مدة الوصاية على اليتيم، واختلاف أملاك الوصي بالجودة أو الرداءة، مما يطمعه في التبديل.

3- وقد يستعمل بمعنى الاستفعال مثل: (التعظّم) فيكون المعنى ولا تستبدلوا أموالهم، أي لا تطلبوا البدل لها.

وقوله: {الْخَبِيثَ} بمعناه اللغوي، وهو الرديء الذي تعافه النفوس، ويقابله {الطَّيِّبِ} وهو الجيّد الذي تميل الطباع إليه وترغب فيه النفوس.

وقيل: المراد العمل الخبيث، وهو أكل تلك الأموال بالحرام، والعمل الطيب وهو حفظ تلك الأول، فالمعنى التحذير من أكل أموالهم! لكن المعنى الأول

ص: 17


1- راجع شرح النظام: 149-150.

أقرب إلى سياق الآية؛ لئلا يكون تكراراً لقوله: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَهُمْ...}.الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَٰلِكُمْ}.

أي: معها، وذلك بأن يضمّ أموالهم إلى أمواله فيأكلها بالتدريج، وهذا نهي عن أكل أموالهم، وإنما أضاف {إِلَىٰ أَمْوَٰلِكُمْ} لأنّ الحالة الشائعة هي التدريج في أكل أموالهم وبطريقة غير محسوسة، إذ أكل أموالهم دفعة واحدة ينكشف فوراً فيمكن مطالبة اليتيم به بعد بلوغه ورشده، لكن الأكل التدريجي يمنع انكشاف الأكل؛ وذلك لأنّ أولياء اليتامى لا يفرزون مصارف الأيتام عن النفقات المشتركة، لصعوبة ذلك جداً بأن يكون مأكل ومشرب وحوائج اليتيم منفصلة في كل شيء، فإنّ ذلك من الصعوبة بمكان، بل أجاز اللّه تعالى أن يشتركوا في المصارف المشتركة ويقتطع من أموالهم بمقدار نفقاتهم، مثلاً لو كانت أسرة من خمسة أشخاص واليتيم سادسهم، فإنه يقسّم المأكل الذي يطبخ في البيت على ستة أقسام وتكون حصة اليتيم من النفقة السدس مثلاً، ليكون اليتيم كأحد أفراد الأسرة، فلا يشعر باليتم والظلم والفرز، لكن هنا قد يخدع الشيطان بعض ضعاف النفوس فيقتطع من أموال اليتيم أكثر من نفقته، وبالتدريج يضم أموال اليتيم إلى أمواله تحت عنوان أنه يصرفها على اليتيم.

نعم هناك من يستولي على أموال الأيتام دفعة فيغصبها ويأكلها قبل بلوغهم، وهذا ما بيّنته الآية السادسة في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ}، فلا تكرار في الآيتين، بل بيان لحالتين مختلفتين في أكل أموال اليتامى.

ص: 18

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}.الحوب: الإثم، قيل: وتسميته بذلك لكونه مزجوراً عنه(1)، وقد يؤخذ في مادة (ح و ب) الحاجة والمسكنة(2)، فلعلّ استعمال الحوب هنا بدلاً عن الذنب للإشعار بأنّ الآكل يضرّ نفسه من حيث يريد نفعها، فتبعة هذا العمل ستلحقه بفقره ومسكنته أو في ذريته، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ}(3)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}(4).

ويكثر الآن استعمال (الحوبة) حينما يُبتلى الظالم بمشاكل جمة، فكأنها أثر وضعي لأعماله، وعقوبة له عليها.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ...} الآية.

بعد أن بيّن اللّه تعالى في الآية السابقة حكم أموال الأيتام، يبيّن في هذه الآية حكم النكاح باليتيمات، وحيث إنهن لا أب لهن فاحتمال ظلمهن في النكاح والحياة الزوجية أكبر من غيرهن، فيحتمل تزويجها بغير الكفؤ لها، أو التزوج بها طمعاً في أموالها لأكلها، أو عدم مراعاة حقوقها بعد الزواج بها، فلذا بينت هذه الآية حكم النكاح باليتيمات.

فمن يعلم من نفسه أنه لا يظلمهن ويؤدي إليهن حقوقهن، فلا بأس عليه في أن يتزوجهن، وهذا ما يستفاد من مفهوم الآية.

ص: 19


1- مفردات الراغب: 261؛ معجم الفروق اللغوية: 204.
2- راجع مقاييس اللغة: 268.
3- سورة النساء، الآية: 9.
4- سورة النساء، الآية: 10.

وأما من يخاف عدم مراعاة حقهن فعليه أن يُعرض عن الزواج بهن، وذلكبأن يتزوّج غيرهن بالعدد الذي يطيب له، شرط أن لا يتجاوز الأربع مع مراعاة العدل في القَسم، وأما لو خاف من نفسه عدم مراعاة العدل فعليه أن يكتفي بواحدة، وكذا تجوز له الإماء، إذ لا قسم لهن ومراعاة العدل فيهن سهل.

قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} المراد الاطمئنان لا مجرد الاحتمال، وذلك بأن يعرف الإنسان من نفسه غلبة الهوى عليه وعدم قوة نفسه على مقاومة المغريات، فعليه أن يغلق على نفسه منافذ الشيطان، بأن يبتعد عن الشيء الذي قد يوقعه في الحرام، فقد يكون الشيء جائزاً في نفسه ولا تبعة في تركه، لكن لو أقدم الإنسان عليه فإنه تترتب عليه أحكام إلزامية بحيث يعصي اللّه تعالى لو لم يراعها، فعليه أن يحتاط ويترك ذلك الجائز إلى بديله، ولذا أفتى الفقهاء بكراهة النذر لمن يحتمل عدم وفائه به؛ لأنه قد يوقع نفسه في حرام ٍ كان في غنىً عنه، كمن ينذر التصدق بمال كثير ثم لا تطاوعه نفسه الوفاء به، فقد أوقع نفسه في حرام مخالفة النذر مع أنه كان يمكنه عدم الوقوع فيه بعدم النذر من أصله.

قوله: {أَلَّا تُقْسِطُواْ} من (القسط) بمعنى النصيب، فإذا استعمل من باب الإفعال كان المراد إعطاء ذي الحق نصيبه، لذا كان الإقساط عدلاً، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(1)، وإذا استعمل من المجرد كان بمعنى منع ذي الحق نصيبه فكان ظلماً، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}(2).

ص: 20


1- سورة المائدة، الآية: 42.
2- سورة الجن، الآية: 15.

وحيث يلزم إعطاء نصيب الأيتام من الأموال، كما يلزم إعطاء الزوجةنصيبها من القَسْم، لذلك كان استعمال كلمة (القسط) هنا أحسن من استعمال كلمة العدل.

قوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} قد كثر الكلام في ارتباط هذا المقطع بالشرط، فأي ربط بين الخوف من عدم مراعاة العدل في الأيتام وبين تعدد الزوجات؟ وللمفسرين هنا وجوه، منها:

1- أنّ في الآية إيجازاً بليغاً، وهو نهي عن الزواج باليتيمات خوفاً من غمطهن حقوقهن، بل استبدال ذلك بالزواج بغيرهن بالعدد الذي يرغب فيه الرجل إلى حدّ الأربع، فالمعنى إن خفتم عدم مراعاة حقوق اليتيمات إن تزوّجتم بهن، فلا تتزوجوهن، بل تزوجوا غيرهن من سائر النساء بالعدد الذي ترغبون فيه إلى أربع هذا اذا تمكنتم من مراعاة العدل بينهن، وإلا فاكتفوا بواحدة وبما شئتم من ملك اليمين.

2- أنها أمر بالزواج بهن لمراعاة العدل في أموالهن، بمعنى أنكم إذا خفتم أن تأكلوا أموال اليتيمات لو تزوجهن غيركم، فتزوجوهن أنتم؛ لتبقى الأموال تحت حوزتكم، إذ عادة الأملاك التي بحوزة أحد الزوجين يتصرف فيها الآخر أيضاً بطيب نفس المالك، مثلاً لو كان لليتيمة بيت فلو تزوجها رجل فلا مانع لها من أن يسكن معها في ذلك البيت، فإذا رأى الوصي مثلاً أنّ اليتيمة لو تزوجت غيره أغواه الشيطان بعدم تسليمها بيتها وأكله، فعليه أن يتزوجها ويسلّمها بيتها، لكن باعتبارها زوجته فلا تمانع من سكنه معها في ذلك البيت.

ص: 21

3- ويخطر بالبال وجه آخر على سبيل الاحتمال واللّه العالم، وهو أنّاليتيم لا تتمكن أمّه عادة من حفظ أمواله، فتكون تلك الأموال معرضة للنهب، فعلى المؤمنين السعي لحفظ تلك الأموال، وأفضل الطرق للحفظ هو الزواج من الأرملة أمّ اليتيم، فيكون اليتيم في رعاية زوج الأم، فيعتبره كأولاده، ويحفظ أمواله، والزواج بالأرامل يكون عادة الزواج الثاني أو الثالث أو الرابع، وقلّما تكون الزوجة الأولى أرملة، فعلى هذا الاحتمال يكون {الْيَتَٰمَىٰ} أعم من الذكور والإناث، فتأمل.

وقوله: {مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ} أي اثنتين اثنتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، أو أربعاً أربعاً، أي نوع الرجال يتزوجون هكذا، فكل واحد من الرجال يتزوج اثنتين أو ثلاثاً أو اربعاً، وليس المراد أنّ كل واحد يتزوج هذا العدد حتى يتوهم أنه إباحة للزواج بثمانٍ مثلاً، كما يقال: دخل القوم الدار مثنى وثلاث ورباع، حيث معناه أنّ بعضهم دخل بصورة ثنائية وبعضهم بصورة ثلاثية وبعضهم بصورة رباعية، واستعمال (الواو) بدلاً من (أو) للدلالة على استمرار التخيير يعني من له زوجتان إذا شاء أن يتزوج بثلاث فيمكنه ذلك، وكذا من له ثلاث إذا أراد أن يتزوج الرابعة.

وقوله: {مَا طَابَ} «ما» موصولة، ومعناها العدد، ولذا استعمل (ما) دون (مَن) أي فانكحوا العدد الذي يطيب لكم، ثم بيّن موصوف ذلك العدد بقوله: {مِّنَ النِّسَاءِ}، فإن (مَن) تستعمل لذوي العقول، و(ما) لغيرهم عادة، ولو كان الموصول وصفاً لذوي العقول استعملت (ما) أيضاً، وهنا حيث كان المراد الوصف وهو العدد لذا جيء ب (ما)، وقيل: (ما) مصدرية

ص: 22

واستعمال المصدر بدلاً عن اسم الذات إنما هو لإفادة المبالغة كقولهم:(زيد عدل)، وهنا المعنى الطِيْب بمعنى الطَيِّب، ليكون إشارة إلى أنه لا ينحصر الاستلذاذ في نكاح اليتيمات.

ثم اعلم أنّ الحكم هنا إرشادي؛ لئلا يقع في حرام ظلمهن، فليس الزواج بهن مع خوف عدم مراعاة العدل حراماً، بل يمكنه الزواج، فإن لم يراع العدل كان ذلك حراماً، وقد ثبت في علم أصول الفقه أنّ مقدمة الحرام ليست بحرام إذا لم تكن مقدمة موصلة وكان الاختيار باقياً بعد فعل المقدمة، ومعنى الإرشاد هنا هو التحذير من الوقوع في الحرام بالتحذير عن مقدماته وإرشاد الإنسان إلى ترك تلك المقدمات؛ لئلا يصل به الأمر إلى الوصول إلى الحرام.

السادس: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً...} الآية.

العدل المطلوب بين الزوجات هو في القَسم، بمعنى تقسيم الليالي بينهن بالسوية، وأن ينفق عليهن بمقدار شأنهن مع قدرته، فلا يشترط التساوي في النفقة؛ لأن العدل هو إعطاء كل ذي حقٍ حقه، وحق المرأة النفقة بمقدار شأنها مع استطاعته، فلو كان له زوجتان فعليه أن ينفق عليهما بمقدار شأنهما، ولا يلزم التساوي بينهما، فقد يكون شأن إحداهما أعلى من شأن الأخرى، أو إذا أراد الزيادة عن النفقة، نعم الأفضل أن يراعي المساواة أيضاً، مضافاً إلى العدل في النفقة؛ وذلك لأنّ بين العدل والمساواة عموماً من وجه، فقد يقتضي العدل المساواة، وقد يكون العدل في التفضيل، فراتب المدير أعلى من راتب العامل مثلاً، وذلك من العدل رغم أنه ليس

ص: 23

من المساواة، وعليه فالفقير الذي لا يتمكن من الإنفاق على زوجته لا بأسبأن يتزوج الثانية مثلاً؛ لأنّ عدم إنفاقه عليهما ليس ظلماً، بل عجز عن الامتثال، والعجز بعدم القدرة من مسقطات التكليف، نعم هناك مسألة أخرى هي انشغال ذمته بالنفقة فتكون ديناً عليه يجب تسديدها متى ما تمكن، كحال كل مديون.

كما أن التساوي في المحبة القلبية ليس من مصاديق العدل، بحيث لو أحب إحداهما أكثر من الأخرى كان ظالماً، كلاّ، فقوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}(1)، يراد به العدل في المحبة(2)، وذلك ليس بلازم، بل غير ممكن عادة، فإن مقدار المحبة وشدتها ليست باختيارية عادة، نعم أصل المحبة قد تكون اختيارية باختيارية مقدماتها، لكن مقدارها ودرجتها ليست كذلك عادة.

وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} بمعنى أنّ الخوف من عدم العدل بين الحرائر سبب للاكتفاء بواحدة، لكن إن احتاج الرجل إلى الاستمتاع فيمكنه اتخاذ الجواري، إذ قد لا تكفيه الواحدة، وهو مع ذلك يخاف من عدم العدل لو تزوج بالثانية، فحينئذٍ يمكنه الاستمتاع بملك اليمين من غير خوف، وليس ذلك بمعنى ظلم الجواري، فاللّه تعالى منزّه عن تشريع حكم فيه ظلم للبشر، بل ذلك بسبب عدم وجود حق القَسم في الجواري، فمراعاة العدل فيهن سهل، والمراد هنا وطؤهنّ بالملك، وأما الزواج بهن فسيأتي حكمه في الآية

ص: 24


1- سورة النساء، الآية: 129.
2- وبذلك روايات راجعها في البرهان في تفسير القرآن 3: 18-19.

25، ثم بعد ذلك شرّع اللّه النكاح المنقطع من غير اشتراطه بالقَسم ولا بالنفقة،فيمكن لهذا اتخاذ الزوجات المنقطعات بما طاب له، وسيأتي تفصيله في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}(1).

السابع: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُواْ}.

قوله: {ذَٰلِكَ} أي الاكتفاء بالواحدة أو ملك اليمين.

وقوله: {أَدْنَىٰ} أي أقرب، بمعنى أنه لو اكتفى بواحدة فلا يقع في مظالم عدم العدل بين الزوجات، وذلك لأن القضية سالبة بانتفاء الموضوع، ومع ذلك يبقى احتمال ظلم الرجل لزوجته الوحيدة لذلك قال: {أَدْنَىٰ}.

وقوله: {أَلَّا تَعُولُواْ} من (العول) بمعنى الميل عن الحق، وأصله بمعنى النقصان، فكأن الظالم ينقص حق المظلوم.

حول تعدد الزوجات

ثم إنّ هناك بحوثاً متعددة حول تشريع تعدد الزوجات، وقد كثرت الكتابات حوله، ونشير باختصار إلى نقاط:

1- في تعدد الزوجات يشترك الرجل والمرأة، فالزوجة الثانية مثلاً امرأة تزوجت برغبتها، فلا يصح القول بأنّ التعدد ظلم للمرأة، فإنّ ذلك تخصيص اللوم بأحد المتشاركين في الفعل، وهذا أسلوب غير عقلائي.

2- المنتفع الأكبر في تشريع تعدد الزوجات هن النساء؛ لأن فُرَص الزواج للرجال متوفرة عادة وفي جميع ظروفهم وأحوالهم وأعمارهم، لكن ظروف الزواج لا تتوفر عادة للأرامل والنساء الكبار إلاّ بأن تُتَّخَذ زوجة ثانية عادة، فهذا التشريع خدمة لهن أكثر مما هو نفع للرجال.

ص: 25


1- سورة النساء، الآية: 24.

3- أنّ اللّه تعالى وإن دبّر أمور المواليد بحيث يتقارب عدد المواليد منالذكور والإناث، إلاّ أنّ تعرض الرجال للموت المبكّر أكثر من تعرّض النساء؛ نظراً لخطورة العمل وكثرة السفر والحروب والآفات وغيرها التي تقتل من الرجال أكثر، فلذا كانت نسبة النساء عادة أكثر من نسبة الرجال، والاقتصار على واحدة سبب بقاء الكثير من النساء من غير أزواج، فتشريع التعدد حلّ لمعظلتهن قبل أن يكون حلاً للرجال.

4- وحيث إنّ التعدد حاجة ضرورية للمجتمعات الإنسانية، فإنّ الدول التي تمنع عنه يكثر فيها اتخاذ الأخدان، وقد رأيت في إحصائية أنّ أكثر المتزوجين في إحدى الدول الأروبية لهم عشيقات، وفي ذلك ظلم لهنَّ من جهتين: من جهة أنهنَّ يقمن بوظائف الزوجة من غير حقوق الزوجية لهن، ومن جهة الشعور بالإثم ومخالفة الفطرة بالزنا والنظرة الدونية الاجتماعية!

5- وحيث إنّ مصلحة حفظ الأنساب أهم؛ لابتناء أهم الأمور الاجتماعية على الأنساب لذلك لم يشرّع اللّه تعالى تعدد الأزواج، مضافاً إلى منافاته لطبيعة تكوين الرجل والمرأة.

6- سوء تصرف بعض الرجال، وتجاوزهم للحدود الشرعية بالنسبة إلى الزوجة الأولى أو الثانية لا ربط له بالتشريع، فرب تشريع مفيد وصحيح يتمّ استغلاله من بعض ضعاف النفوس، فحتى العبادات قد يتخذها البعض وسيلة للدنيا بالرياء والسمعة، وهكذا في كثير من القوانين الوضعية، فاستغلال البعض لحكم صحيح لا يعني ضرورة إلغاء ذلك الحكم، بل لا بد من تربية المجتمع من جهة، وتطبيق القوانين الرادعة من جهة أخرى، بغية الوصول إلى مجتمع سليم يبتني على قوانين صحيحة وتطبيق سليم.

ص: 26

الآيات 4-6

اشارة

{وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِئًا مَّرِئًا 4 وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا 5 وَابْتَلُواْ الْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا 6}

4- {وَءَاتُواْ} أعطوا أيها الأزواج وأيها الأولياء {النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ} مهورهن {نِحْلَةً} من غير توقع عوض، فإنّ ذلك حقهنَّ فرضه اللّه عطية لهنَّ، ولا يحق لكم ابتزازهن ليتنازلن عن مهورهن، {فَإِن طِبْنَ} رضين من غير جبر أو إكراه {لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ} أي بعضه {نَفْسًا} تمييز ل «طبن» أي طابت نفوسهن بالتنازل عنه، وذلك لا يكون عادة إلاّ حين حسن المعاشرة ومراعاة حقوقهن، {فَكُلُوهُ} تصرفوا فيه {هَنِئًا} سائغاً وهو ما يستلذه الإنسان، {مَّرِئًا} من دون غصة، بل محمود العاقبة، كناية عن إباحته بلا ملامة في الدنيا ولا تبعة في الآخرة.

5- {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ} أي من قلّ عقله فيفعل ما لا ينبغي، فقد يكون سفيهاً في الأموال، بمعنى عدم معرفته بكيفية التصرف فيها، فيبذرها إلى أن

ص: 27

تفنى، وقد يكون سفيهاً في الدين، بمعنى انتهاكه لحرمات اللّه تعالى، فلا تعطوهم {أَمْوَٰلَكُمُ} أي الأموال التي يعود نفعها للجميع، سواءكانت أموالهم الخاصة أم أموالكم الخاصة، {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا} أي ما يقيم معاشكم {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} بإطعامهم {وَاكْسُوهُمْ} بإعطائهم الكسوة، فإن كانوا ممن تجب نفقته عليكم فمن أموالكم، وإلاّ فمن أموالهم بمقدار حاجتهم، {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} أي لاطفوهم في الكلام ولا تخاشنوهم كي لا ينكسر خاطرهم، ولعل من القول المعروف نصحهم وتعليمهم كيفية الإنفاق ليزول سفههم، وهذا يشمل حسن معاشرتهم أيضاً.

6- {وَابْتَلُواْ} أي اختبروا واستوضحوا {الْيَتَٰمَىٰ} بتتبع أحوالهم في حسن التصرف في المال، وكذا تربيتهم على ذلك قبل بلوغهم {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} السن الذي يصلح الإنسان للمباشرة {فَإِنْ ءَانَسْتُم} وجدتم عبر المخالطة والمراقبة {مِّنْهُمْ رُشْدًا} معرفة طريق الحياة عبرتمكنهم من حفظ أموالهم وتدبيرها {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} متجاوزين الشرع {وَبِدَارًا} مسرعين إلى الأكل، {أَن يَكْبَرُواْ} أي قبل أن يتمكنوا من منعكم.

وحيث إنّ حفظ مال اليتيم عمل، وقد يكون لذلك العمل أجر عرفاً فقد أجاز اللّه تعالى أخذ أجرة الحفظ {وَ} لكن {مَن كَانَ غَنِيًّا} يملك قوت سنته - ولو بالتدريج - {فَلْيَسْتَعْفِفْ} فالأفضل له عدم أخذ الأجر {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} بمقدار أجر عمله لا أكثر، {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ} بعد بلوغهم ورشدهم {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} ليكون أبعد عن

ص: 28

التهمة والخصومة {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا} محاسباً لأعمالكم وكافياً لكم، فلا تتعدوا حدوده.

بحوث الأول: قوله تعالى: {وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً}.

الخطاب عام فلا يقتصر على الأزواج، بل يشمل الأولياء أيضاً، فإنّ المهر دين على الزوج للزوجة، وكثيراً ما يظلمها بعدم إعطائها حقها والتسويف فيه، كما أنّ بعض الآباء يأخذون ذلك المهر لهم ولا يعطونه لبناتهم، فكأنها سلعة عندهم يبيعونها بالمهر جراء ما أنفقوا عليها من ولادتها إلى حين زواجها.

وقوله: {صَدُقَٰتِهِنَّ} سُمّي المهر صدقة وصداقاً؛ لأنه حق لازم(1)، أو هو مشتق من الصِدق المقابل للكذب، فلعله لأجل أنّ الرجل يعد المرأة بالمهر فيكون تصديق قوله بتسليمها ذلك المال.

وقوله: {نِحْلَةً} إما بمعنى عطية بلا توقع عوض(2)؛ وذلك لأنّ الاستمتاع مشترك بينهما، وليس المهر في مقابل ذلك، بل هو تكريم من اللّه تعالى للمرأة، ورفعها عن كونها بضاعة يتعامل بها، كما كان عليه أهل الجاهلية، فبناء الزواج في الإسلام على سكون النفس والمحبة والرحمة كما قال تعالى: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(3) وذلك لا يتنافى مع ثبوت حقوق لكل من

ص: 29


1- راجع مقاييس اللغة: 565.
2- انظر: مجمع البيان 3: 16، وفيه: النحلة عطية تكون على غير جهة المثامنة.
3- سورة الروم، الآية: 21.

الزوجين، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1).أو بمعنى العطية من غير مطالبة(2)، أو العطية عن طيب النفس(3)، بمعنى أن يبادر الزوج لإعطاء المهر قبل أن تطالبه زوجته، فيكون أهنأ لها، وأنسب للزوج، عكس كثير من الأزواج حيث يسوّفون فيه ويتماطلون.

وقيل: (النحلة) اشتقاقها من النحل، فكأنها العسل لحلاوتها وعدم توقع شيء مقابلها.

الثاني: قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ نَفْسًا...} الآية.

كونه حقاً لهنّ لا ينافي جواز تنازلهنّ عنه أو عن شيء منه؛ لأنّ الناس مسلطون على أموالهم، ويمكن لصاحب الحق إبراء ذمة المدين مهما كان سبب الدين.

ولعل الغرض من هذا المقطع الحث على الاحتياط في المهور وعدم الضغط على المرأة لتتنازل عنه، كما هو دأب بعض الأزواج، حيث يفتعلون أجواءً غير مناسبة تضطر المرأة معها للتنازل عن حقها في المهر، كمعاملتها بسوء الأخلاق ومنعها عن بعض الأمور المباحة، فيستغل الرجل قيمومته أو حقّه عليها في إكراهها على التنازل، فجاء النهي عن ذلك عبر بيان المشروع من تنازلهن، وهو ما إذا كان عن طيب نفس، وذلك لا يكون إلاّ حينما يُهيّئ الزوج أجواء المحبة والمودة ولا يبخل على المرأة بشيء من حقوقها، ويعاملها بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحسنة، وحيث شعرت المرأة بتعلق

ص: 30


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- راجع مقاييس اللغة: 980.
3- راجع الكشّاف 1: 359.

زوجها بها وتعلّقها به ورأت ضيق ذات يده فإنّ نفسها تطيب عادة عنمهرها أو جزء منه.

وأما لو أكرهها الزوج - ولو بالإكراه الأجوائي - بالتنازل عن مهرها، فلا يحل له شيء منه ويبقى في ذمته، وفي الحديث: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه»(1).

وقوله: {عَن شَيْءٖ مِّنْهُ} أي بعضه، وهذه هي الحالة الغالبة، وإلاّ فيجوز لها التنازل عن كلّه؛ وذلك لأنّ الأغلب أن يُصرَف شيءٌ من المهر في تهيئة وسائل العيش وأثاث المنزل والعطايا للزوجة من الثياب والزينة ونحوها، أو لأنّ الغالب عدم طيب النفس عن كلّه وإنما عن بعضه، أو الغرض هو حث الأزواج على عدم قبول التنازل عن كلّه، بل إعطاؤها ولو بعضه حتى لو كانت راغبة عنه.

وقوله: {نَفْسًا} تمييز لقوله: {طِبْنَ}، وذلك لبيان أنّ الرضا القولي وباللسان غير نافع، بل لا بد من الرضا قلباً، ويمكن معرفة الرضا القلبي عن طريقة تعامل الزوج معها وعن طريقة تنازلها عنه.

وقوله: {هَنِئًا} أي سائغاً مستلذاً، وفي المفردات: هو كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامة، وأصله في الطعام، يقال: هنئ الطعام فهو هنيء(2).

وقوله: {مَّرِئًا} أي المحمود العاقبة والذي لا يضرّ ولا يؤذي، وأصله

ص: 31


1- الفصول المهمة في أصول الأئمة 2: 454.
2- مفردات الراغب: 846.

من مِرئَ الماء بمعنى انسيابه في المريء من غير غُصّة.

والكلمتان للدلالة على كونه مباحاً لا محذور فيه، فهما كناية عنترخيص بلا مذمة ولا تبعة، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

السفه المانع عن التصرف في الأموال

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ...} الآية.

هناك أصناف من الناس قليلو العقل، فلا يصح تسليمهم الأموال؛ لأنهم يفسدونها، كما لا يصح منعهم بشكل نهائي عنها؛ لحاجتهم في معيشتهم وأمورهم، فلا بد من مراعاة مصلحة الأموال ومصلحة السفهاء، فمصلحة الأموال تقتضي بقاءها بيد العقلاء ومنعها عن السفهاء؛ لأنّ قوام المجتمع بتلك الأموال، فلا يصح إهدارها، ومصلحة السفهاء تقتضي قضاء حوائجهم بتلك الأموال لا أكثر مع مراعاتهم أخلاقياً وحسن التعامل معهم.

وقوله: {السُّفَهَاءَ} من «السَفَه» بمعنى قلة العقل، وذلك بأن لا يكون للإنسان ملكة جلب المنافع ودفع المضار، فإنّ العقل هو القوة المعنوية في الإنسان تكون سبباً لجلب المنفعة لنفسه ودفع المضرّة عنه، فالمجنون هو الذي لا يملك هذه القوة، والحدّ المتعارف منه هو الحالة الشائعة في الناس، فإذا كانت القوة ضعيفة أقل من المتعارف كان السفه والحمق والخبل باختلاف الدرجات، وإذا كانت القوة أكثر من المتعارف كان الذكاء والفطنة ونحوه.

وقد يكون الخلل في العقل في جانب من الجوانب لا في كل شؤون الحياة، فلذا كان للسفيه مصاديق متعددة.

منها: السَفَه المالي، بمعنى أن لا يتمكن من التصرف الصحيح في الأموال

ص: 32

فيبذّرها ويتلفها على خلاف الموازين العقلائية، وهذا المصداق هو السفيه الفقهي، ويترتب عليه أحكام في الفقه، منها الحجر على أمواله، فلا يمكنهالتصرف فيها إلاّ بوليّ شرعيّ.

ومنها: السَفَه الديني، بمعنى ارتكاب المحرمات وعدم التورع عنها وهذا أشد أنواع السفه؛ لأنه جلب للشقاء الدائم ومنع النفس عن الرحمة الدائمة، قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥ}(1) وفي الحديث: «قيل: ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان»(2).

والظاهر أنّ قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَٰلَكُمُ} شامل لكلا الصنفين، ولذا تمّ الاستشهاد بالآية في روايات متعددة على كلا الصنفين، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسيرها أنه قال: «إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة وولده سفيه مفسد، لا ينبغي له أن يسلّط واحداً منهما على ماله»(3)، وعنه (عليه السلام) : «كل من يشرب المسكر فهو سفيه»(4)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد»(5).

وقوله: {أَمْوَٰلَكُمُ} أعم من كونها ملكاً لكم أو ملكاً لهم، فضمير الخطاب إمّا للتغليب، وإما لأنّ نفع المال عائد للمجموع، فالملكية الخاصة قرّرها الإسلام بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا

ص: 33


1- سورة البقرة، الآية: 130.
2- الكافي 1: 11.
3- تفسير القمي 1: 131.
4- تفسير العياشي 1: 220.
5- تفسير العياشي 1: 220.

تُظْلَمُونَ}(1)، لكن من الواضح أنّ نفع عموم المال يصل إلى عموم الناس،فلذا لا يجوز للإنسان أن يتلف أمواله بحجة أنها ملكه، فهو يتصرف فيها كما يشاء، وحتى في القوانين الوضعية قد تمنع الدول خروج الأموال؛ لأنّ ذلك يضرّ بالاقتصاد، فلذا نفع كل الأموال يصل إلى كل الناس، وإقرار الملكيات الفردية أيضاً يصب في هذا الاتجاه؛ لأنّ الملكيات الفردية تصب في اتجاه حفظ الأموال وتنميتها بما يعود نفعه للجميع، ولذا فشل الاقتصاد الشيوعي لمّا ألغى الملكيات الفردية بحجة أنّ المال للجميع، لكن ذلك الإلغاء أضرّ بالتنمية فخسر الجميع، كما أنّ الاقتصاد الرأسمالي يبالغ في الملكية الفردية حتى لو أضرّت وسببّت الدُولة بين الأغنياء، مع أنّ الاقتصاد الإسلامي يراعي كلا الجانبين، فمن جهة أقر الملكيات الفردية، ومن جهة أخرى شرّع قوانين تمنع الإضرار بالمجتمع، كمنع الربا مثلاً.

وعليه فإن كان المال لكم فلا تعطوه للسفهاء؛ لأنهم يتلفونه وبذلك تختل معيشتكم، وإن كان المال لهم فلا بد من الحجر عليها بحيث لا يتمكنون من التصرف فيها إلاّ بوليّ شرعيّ، فلذا لا تجوز معاملة هؤلاء إلاّ بعد إذن وليهم، والتفصيل يطلب من كتب الفقه باب الحجر.

وقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ} (الجعل) تكويني وتشريعي، أي خلقها لمصلحة البشر، كما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(2)، كما شرّع قوانين لحفظ الأموال وتنميتها ومنع فسادها.

وقوله: {قِيَٰمًا} مصدر لإفادة المبالغة ويراد به ما به القيام، أي ما يقيم

ص: 34


1- سورة البقرة، الآية: 279.
2- سورة البقرة، الآية: 29.

معاش الإنسان.

الرابع: قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}.

أي عدم إعطائهم الأموال لا يعني منعهم عنها نهائياً فذلك ضرر عليهم، بل لا بد من مراعاة حالهم أيضاً، وقضاء حاجتهم بتلك الأموال، فإن كان السفيه واجب النفقة عليكم، فعليكم أن تنفقوا عليه من أموالكم بمقدار حاجته، وإن لم يكن واجب النفقة فعلى وليّه أن ينفق عليه من أمواله التي حجر عليها، فهو لا يحق له أن يتصرف في أمواله لكن من حقه قضاء حوائجه منها.

وقوله: {ارْزُقُوهُمْ} الظاهر أنّ المراد إطعامهم، فإنّ الرزق وإن كان أعم، لكن كثر استعماله في الطعام، وفي هذه الآية يتعيّن المراد به بقرينة مقابلته بالكسوة، وذكر الرزق والكسوة هنا من باب المثال، وإلاّ فاللازم القيام بجميع نفقاتهم وحاجاتهم.

وقوله: {فِيهَا} قيل: لم يقل «منها» لإفادة أن لا يقتطع من المال قطعة قطعة حتى يفنى، بل يكون الرزق في المال بأن يبقى أصله بالتدبير والاتّجار ونحوه حتى لا ينقص منه.

وقوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} لأنهم لسفههم معرّضون للزجر والمخاشنة والإهانة، فينكسر خاطرهم، بل لا بد من ملاطفتهم وخاصة إذا كانوا صغاراً، ولعلّ منه الوعد الحسن، وكذا تعليمهم كيفية الإنفاق وحفظ الأموال رجاء زوال سفههم؛ لأنّ السفه قد يكون بسبب الجهل والطيش، فيزول بزوالهما، وما أكثر السفهاء الذين أدّبهم الزمان والتجارب، فقد يكون

ص: 35

الجهل من أسباب قلة العقل، ويزول بزوال سببه.

و(القول) لعلّه كناية عن حسن المعاشرة، وتمّ تغليب القول على الفعل؛ لأنّ حسن المعاشرة عادة يكون عبر الكلام الحسن.

و(المعروف) هو ما عرف من الشرع والعقل حسنه، ويقابله المنكر وهو ما لم يعرف منهما حسنه بل أنكراه.

الخامس: قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ...} الآية.

كانت الآية الثانية في حفظ مال اليتامى كما مرّ، وهذه الآية في تسليمهم أموالهم إذا تحققت فيهم قابلية التصرف فيها، وقد اشترطت الآية لذلك شرطين:

1- البلوغ الشرعي، وهو عادةيتحقق بقابلية المواقعة، وذلك بالإمناء في الأولاد والحيض في النساء، نعم قد تكون هناك حالات قليلة يتأخر الحيض أو الإمناء فهنا دلت الروايات بتحقق البلوغ بالسِن.

2- الرشد، وهو الاهتداء إلى طريق حفظ الأموال، وأصل (الرشد) هو معرفة الطريق الموصل إلى الهداية.

وبتحقق هذين الشرطين يجب على من بيده أموال اليتامى تسليم تلك الأموال إليهم ليقوموا هم بشؤونها.

ثم تبيّن الآية عدم جواز المسارعة في أكل أموالهم بحيث لا يتمكنون من المطالبة بها بعد بلوغهم، لكن حيث إنّ القائم بشؤون الأموال يقوم بجهد وعمل في حفظها فلا بد من إقرار الأجرة له جرّاء عمله، لكن الأفضل أن لا يأخذ أجرة إن لم يكن محتاجاً، بل يحتسب أجر عمله على اللّه تعالى،

ص: 36

وإن كان محتاجاً فأيضاً يقتصر على مقدار حاجته ولا يستوفي أجره كاملاً.

قوله: {وَابْتَلُواْ} بمعنى الاختبار والامتحان، فلا يجوز إعطاؤهم الأموال أو منعهم عنها جزافاً وبالظنون، بل لا بد من الاختبار حتى يتبين منهم الرشد والقدرة على حفظها وحسن التعامل معها، وهذا الاختبار لا بد أن يكون من قبل البلوغ، ولذا كانت الغاية له قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ...}؛ وذلك لأنّ تسليم أموال البالغ الرشيد إليه واجب فوري، فلا يجوز التأخير بحجة الاختبار، فمن باب المقدمة العلمية يجب الاختبار قبل البلوغ حتى يتأكد من رشده بحيث لو بلغ سلّمه ماله فوراً ومن غير توانٍ.

وقوله: {ءَانَسْتُم} أي وجدتم وأبصرتم، قيل: إنما استعمل كلمة (الأنس) لأنّ ذلك فيه ظِلال الألفة والمخالطة والمحبة.

وقوله: {رُشْدًا} لا يخفى أنّ الأفعال مختلفة من حيث إدراك الإنسان لها، فالخروج من الصغر والحجر يختلف باختلافها، فلذا فرّق الإسلام بين الأعمال بجعل مقياسين للواجبات والحقوق:

أحدهما: البلوغ الشرعي، ويترتب عليه العبادات والعقوبات؛ لأنّ الإنسان في هذا العمر يدرك حسن تلك العبادات وقبح المحرمات والتي تستتبع العقوبات.

والآخر: الرشد مضافاً إلى البلوغ، وذلك في الأمور المالية؛ لأنّ غير الرشيد معرّض لأن يتلف ماله بنفسه بسوء تصرف أو أن ينخدع بالكلام المعسول من شياطين الإنس.

وقوله: {أَمْوَٰلَهُمْ} لأنّ وجوب الدفع خاص بأموالهم، فلا يجب دفع سائر

ص: 37

الأموال لهم، وأما قوله: {أَمْوَٰلَكُمُ} في الآية السابقة فلأنه كان نهياً عن الأعم، فلا تسلموا السفهاء أموالكم ولا أموالهم.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ}.

نهي عن أكل أموال الأيتام كلها، وهذا كالتوطئة لإباحة أخذ الأجرة من أموالهم، فالنهي عن الأكل إنما هو بالإسراف والبدار، وليس نهياً عن اقتطاع أجر على العمل.

وقوله: {إِسْرَافًا} الإسراف هو تجاوز الحد، ففي المال هو تجاوز الحد في الصرف، أي أكثر من اللازم الذي ينبغي، وفي العمل هو تجاوز الحدّ المباح إلى غير المباح، وفي الأكل هو تجاوز حدّ الشبع بالإفراط في تناول الطعام أو تهيئة الطعام الزائد بحيث يفسد الزائد، قال تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ}(1)، وقال: {يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}(2)، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ}(3).

وقوله: {بِدَارًا} أي مسرعين مبادرين إلى الأكل، ولعل ذلك لأنّ الذي يتقاضى أجراً على عمله يأخذه تدريجياً وحسب المتعارف، مثلاً يقتطع راتباً كل شهر، فلا يحق له أن يأخذ الأجر مقدماً وبخلاف المتعارف، أما الذي يأكل أموال الأيتام فيتسرّع إلى ذلك خوفاً من بلوغهم ومنعهم إياه عن أكل أموالهم.

وقوله: {أَن يَكْبَرُواْ} أي حذراً من كبرهم أو مبادرة كبرهم، فكانه في

ص: 38


1- سورة الأعراف، الآية: 31.
2- سورة الزمر، الآية: 53.
3- سورة الفرقان، الآية: 67.

سباق مع الكبر، فهو يسبق كبر الأيتام عبر أكل أموالهم، ولا يدعهم يسبقونه بكبرهم فيمنعونه.

السابع: قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ...} الآية.

هذا بيان لحكم أخلاقي وليس لإفادة الوجوب، فقوله: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} بقرينة قوله: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} يدل على الاستحباب، فكما لا يجب على الفقير الأكل بالمعروف، بل يمكنه العمل تطوعاً وبلا أجر، فكذلك لا يجب على الغني الاستعفاف بأن لا يتقاضى أجراً.

فالحكم الشرعي هو جواز أخذ الأجر المتعارف على العمل، وهو أجرة المثل، كما هو متعارف في صرف راتب للموظفين في مؤسسات رعاية الأيتام مثلاً، نظير سهم العاملين عليها في الزكاة حيث يصرف لهم راتبهم من الزكاة نفسها، وذلك لأنّ عمل الإنسان محترم، فمنع الناس عن أخذ الأجر سبب لعزوفهم عن الاهتمام بأمر أموال الأيتام، وفي ذلك ضرر كبير عليهم، كما أنّ إيجاب ذلك على الناس من غير أجر ضرر على الناس وتضييع لجهدهم وعملهم، فالتشريع الذي يراعي مصلحة الطرفين كان في جواز أخذ الأجر المتعارف، ولكن مع ذلك يحث القرآن على الأخلاق الفاضلة والأعمال الحسنة حتى لو لم تكن واجبة، فهنا يحث على فعل المعروف واحتساب الأجر على اللّه تعالى، فالغني ينبغي أن لا يتقاضى شيئاً، والفقير ينبغي أن يأخذ أقل من أجره وبمقدار قوته فقط.

و(الغني) هو الذي يجد مؤنة سنته ولو بالتدريج، بأن يكون قادراً علىاكتساب مؤنته ولو بالراتب الشهري أو العمل اليومي فيغطي حاجاته.

ص: 39

و(الفقير) هو الذي لا يملك قوت سنته ولو بالتدريج، كأن يكون له عمل لا يكفيه راتبه، فيضطر إلى إلغاء بعض حاجاته؛ لعدم امتلاكه المال لتغطية نفقاتها.

وقوله: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} من العفة، وهي منع البطن والفرج عن شهواتهما غير المشروعة، بل المشروعة التي لا تليق، وهنا لا يليق بالغني أخذ أجر على رعايته لأموال الأيتام.

وقوله: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أي القوت وذلك دون أجره، وإنما جاز له ذلك حتى أخلاقياً؛ لأنه بحاجة إلى كسب قوته وقوت عياله، فعليه أن يكدّ، فأمره بمراعاة مال اليتيم سبب لعدم تمكنه من العمل والاكتساب، وفي ذلك إضرار له لولا إباحة اقتطاع قوته من أموالهم، لكن مع ذلك ليحتسب الأجر عند اللّه فليقلل من أجره وليكتف بمقدار قوته، نعم الأفضل له أن ينوي إرجاع ذلك المقدار إليهم عند قدرته واستطاعته، بأن يحسبه قرضاً عليه، ليوفيه اللّه تعالى أجره كاملاً غير منقوص في يوم القيامة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية أنه قال: «المعروف هو القوت»(1)، وعنه (عليه السلام) أنه قال: «من كان يلي شيئاً لليتامى وهو محتاج - ليس له ما يقيمه - فهو يتقاضى أموالهم، ويقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدر حاجته، ولا يسرف، وإن كان ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يرزأنّ أموالهم شيئاً»(2).

الثامن: قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ...} الآية.

ص: 40


1- الكافي 5: 130.
2- الكافي 5: 129، وقوله: (يتقاضى أموالهم) أي يطالب بديونهم على الناس وقوله: (يرزأنّ) بمعنى الاقتطاع والنقصان، أي لا يصيب من أموالهم شيئاً لنفسه.

إرشاد لسدّ باب التهمة والخصومة، فإنّ الأمور المالية يكثر فيها النزاع والاتهام، فلا بد من الإشهاد؛ لئلا يتمكن أحد من فتح باب النزاع سواء كان عن عمد وقصد أم عن جهل ونسيان، فالفاسق الذي يعلم بأنه لا حجة له، بل الحجة عليه لا يفتح باب نزاع خاسر عادة، كما أن الجاهل إذا خاصم يمكن إسكاته بالشهود العدول.

والحاصل أنه لا ينغّص معروف حافظ مال اليتيم باتهامه ومنازعته.

وقوله: {حَسِيبًا} إما من الحساب، بمعنى أنه تعالى يحاسب عباده على أعمالهم قال تعالى: {وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ}(1)، فيكون هذا كالتهديد لمن تسوّل له نفسه أكل مال اليتيم أو اتهام الوصي ومطالبته زوراً، وإما من (حَسْب) بمعنى الكفاية كما قيل، أي هو تعالى الكافي، وكأنه تحذير بأنّ الشهود لإثبات الحق الدنيوي، لكن اللّه تعالى شاهد وناظر إلى الأعمال فاحذروه فكفى به شهيداً وجازياً.

ص: 41


1- سورة الأنبياء، الآية: 47.

الآيات 7-10

اشارة

{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا 7 وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا 8 وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا 9 إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا 10}

7- ثم تنتقل الآيات إلى بيان أحكام الإرث {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} حظ من الإرث {مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} فمدار الإرث النسبي على الولادة والأقربية في النسب {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} فلا تحرم المرأة من الإرث، والمراد مطلق الذكور والإناث، {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} وبيان ذلك لئلا يتهاون الناس في القليل أو يمنعوا النساء عن الكثير، {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} أي مقطوعاً أوجبه اللّه تعالى فلا يجوز منع أحد عنه.

8- ولكن لأصحاب الحق - من الورثة - أن يتنازلوا عن بعض حقهم لآخرين ليسوا من الورثة {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} شهد وقت القسمة {أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ} وهم الأقرباء البعداء الذي لا يرثون، والأظهر أنّ المراد الفقراء منهم {وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينُ} من غير الأقرباء {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} إعطوهم

ص: 42

شيئاً منه على سبيل الندب، وذلك فيما لو رضي الورثة الكبار من حصصهم، {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} بلطف، إذ قد يتوقعون شيئاً كثيراً أو يكونخاطرهم مكسوراً بعدم إرثهم أو يتمهم أو مسكنتهم، فإحسانٌ وقولٌ كريم.

9- ثم يحذر اللّه تعالى في إرث الصغار، لئلا يستغل ضعاف النفوس صغرهم فيمنعونهم حقهم {وَلْيَخْشَ} ليخافوا عاقبة عملهم {الَّذِينَ} يأكلون إرث الصغار، فكما يخافون على صغارهم من بعدهم ويتوقعون أن يتقي الناس اللّه فيهم، فليتقوا اللّه في صغار الناس، فهؤلاء {لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا} أي أيتاماً لا يتمكنون من حفظ أموالهم أو بنات ضعيفات {خَافُواْ عَلَيْهِمْ} من إجحاف الناس بهم {فَلْيَتَّقُواْ اللَّهَ} في أيتام الآخرين {وَلْيَقُولُواْ} لهم {قَوْلًا سَدِيدًا} سليماً مطابقاً للشرع والعقل.

10- {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا} من غير حق سيعاقبون في الدنيا والآخرة، أما الدنيا ف {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فكما النار تحرق لو أكلت كذلك هذه الأموال تضرّهم ولا تنفعهم، {وَ} أما في الآخرة ف {سَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} سيحترقون بنار جهنم الملتهبة .

بحوث

الأول: هذه الآيات شروع في حكم مالي آخر من أهم الأمور الاجتماعية، وهو الميراث، وحيث كان الجاهليون يمنعون النساء والأطفال من الإرث بحجة أنهم لا يكدّون ولا يحاربون، جاءت هذه الآيات لنقض حكم الجاهلية، فدلت الآية على أنّ النساء يرثن كما يرث الرجال، وأنّ الصغار يرثون كما يرث الكبار، مع تحذير شديد على منع الصغار إرثهم والوعيد

ص: 43

عليه بالنار، كما تتضمن بيان حكم مستحب في تنازل الورثة عن بعض الإرث لصالح الأقرباء الفقراء الذين لا يرثون وكذا اليتامى والمساكين من غيرالأقرباء، ليكون الأرث أهنأ لهم وأبعد عن الشخاء والبغض، ثم بعد ذلك تأتي الآيات الأخرى لبيان كيفية تقسيم الإرث ونصيب كل واحد من الورثة.

الثاني: قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ...} الآية.

بيان أنّ الرجال والنساء لهم نصيب، وكي يتم إيضاح إرث النساء من غير شائبة تأويل أو حمل على خلاف الظاهر فقد تمّ التفصيل وتكرار الحكم، فكما للرجال نصيب كذلك للنساء نصيب.

قوله: {نَصِيبٌ} أي حظ وقسط، وتنكيره باعتبار أنّ هذه الآية في مقام بيان أصل الإرث خلافاً للجاهليين الذين كانوا يمنعون النساء من أصل الإرث، وأما مقدار هذا النصيب ففي آيات لاحقة.

وقوله: {مِّمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} بيان أن الإرث هو بأحد أمرين: الولادة، والقرابة، وقوله: {تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ} بيان للمصداق الأكثر حيث يموت الآباء قبل الأبناء، والمصداق الآخر هو ما ترك الأولاد، أو لعلّهم داخلون في {الْأَقْرَبُونَ}.

وقوله: {الْأَقْرَبُونَ} بصيغة أفعل التفضيل، للدلالة على أن الأقرب يمنع الأبعد، فمع وجود ذي قرابة أقرب إلى الميت كالأولاد لا تصل النوبة إلى ذي القرابة الأبعد كالإخوة، وبمضمونه قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، وأما التي في سورة

ص: 44


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

الأحزاب، حيث قال تعالى أيضاً: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖفِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، فلا ترتبط بالإرث، بل هي في الولاية والخلافة بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما يتضح لمن راجع سياق الآيتين، وقد ذكرناه في شرح أصول الكافي.

وقوله: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} تأكيد آخر لكي لايتهاونوا في الأشياء الحقيرة، وكذا لا يمنعوا النساء من الأشياء الجليلة، فتارة: يتهاون الناس فيما تقلّ قيمته فلا يقسمونه على أصحابه، وذلك زيغ عن الحق؛ لأنّ الأمور الشرعية تقاس بمثقال ذرة وخاصة في حقوق الناس، وتارة تبخل أنفسهم في الأمور الجليلة فيمنعون صاحب الحق حقه، مع أنهم لا يمانعون من إيصال الحقوق الحقيرة إلى أصحابها، فجاءت الآية لبيان أنه لا بد من إعطاء صاحب الحق حقه سواء كان قليلاً أم كثيراً.

وقوله: {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} تأكيد آخر للدلالة على أنه غير قابل للتبديل والتغيير، من (الفرض) بمعنى القطع، بمعنى أنّ اللّه تعالى قد اقتطع لهم هذا الحق فلا يحق المنع عنه، ويلازم هذا القطع الوجوب الأكيد، ولذا تمّ تفسير المفروض بالواجب وبالثابت، ونصب (نصيباً) إما على كونه مفعولاً مطلقاً أو على الحال.

وقوله: {مَّفْرُوضًا} يدل على أصل فرض الإرث، وليس فيه تعيين نسبة معينة بالخصوص، فيشمل كل موارد الإرث، سواء عيّن اللّه النسبة في جميع الحالات، كإرث الأمّ حيث عيّن لها الثلث تارة والسدس أخرى، أم لم يعيّن النسبة أصلاً، كإرث الأولاد الذكور، أم عيّن تارة ولم يعيّن أخرى، كإرث

ص: 45


1- سورة الأحزاب، الآية: 6.

الأب الذي يرث السدس أحياناً، ويرث الباقي أحياناً أخرى.

كما تشمل أنواع الإرث من الفرض والردّ، حيث تارة تستوفي السهام كل التركة، وأحياناً يفيض شيء من الإرث بعد تقسيم السهام فيرّد عليهم، كما لو كان للميت بنتان فترثان الثلثين بالفرض، والثلث الباقي بالردّ، كما سيأتي تفصيله.

بطلان التعصيب

وفي الآية إبطال التعصيب، بأن يرث الرجال دون النساء أحياناً، كما عليه العامة، مثلاً من مات وخلّف بنتاً وأخاً وأختاً، فعلى مذهب العامة ترث البنت النصف ويرث الأخ النصف الآخر، وذلك يتعارض مع هذه الآية من جهتين: الأولى: إرث الأخ مع وجود بنت الميت يتعارض مع قوله: {الْأَقْرَبُونَ} فالبنت أقرب فلا يرث معها الأخ شيئاً، الثانية: تخصيصهم النصف الثاني بالأخ دون الأخت، وهذا يتعارض مع قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ... وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ...}.

وغير خفي أنّ هذه الآية غير منسوخة بآيات تقسيم الفرائض (الآيات 11-12-176)؛ لعدم التنافي بين مضمونهما، بل هذه الآية في مقام بيان أصل الإرث وتلك الآيات في مقام كيفية التقسيم، فتكون مكملّة وموضحة، ولا يكون النسخ إلا بتغيير الحكم وبيان انتهاء أمده وتشريع حكم جديد، وما روى من النسخ لا بدّ من تأويله بأنه لا يراد منه النسخ المصطلح، بل يراد منه المعنى اللغوي الشامل للتوضيح والتفسير أيضاً.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ...} الآية.

هذا حكم ندبي استحبابي. الغرض منه تربية النفوس على العطاء وعلى

ص: 46

مراعاة مشاعر الضعفاء، فقد يجتمع الورثة لتقسيم تركة الميت وخاصة النقود، وقد يأتي آخرون من غير الورثة من فقراء الأقرباء وغير الأقرباء من اليتامي والمساكين، فلا بد من مراعاة حالهم، فإنّ اللّه تعالى تفضّل على الورثة بأن ملّكهم أموال الميت لمجرد قرابتهم معه، وكان سبحانه قادراً على تشريع حرمانهم من الإرث كما حرم القاتل من إرث المقتول، أو تشريع إرث غير الأقرباء كالجيران وسائر المؤمنين، لكنّه خصّ بعض الأقرباء بالإرث لحكمة في ذلك، فعليهم أن يتفضلوا على الضعفاء بأن يعطوهم شيئاً من حصصهم، وفي ذلك زيادة الترابط والتكافل الاجتماعي، ويكون إرثهم أهنأ وأبعد عن العين.

وقوله: {أُوْلُواْ الْقُرْبَىٰ} قيل: المراد الفقراء منهم بقرينة حضورهم القسمة وذكرهم مع المساكين واليتامى، ولحن الاستعطاف والاسترحام في قوله: {فَارْزُقُوهُم...}.

لكن الأظهر إبقاء الآية على إطلاقها، بأن يراد منها مطلق الأقرباء الذين يتوقعون أن يحصلوا على شيء من الإرث حتى لو لم يكونوا فقراء، مثل أحفاد الميت - والذين مات أبوهم قبل جدّهم - فإنهم لا يرثون مع وجود أبناء الميت، فالأقرب يمنع الأبعد، لكن من المحبّذ أن يخصصّ الورثة لهم شيئاً من الإرث، وقد تعارف في بعض الأماكن إعطاؤهم بمقدار سهم أبيهم لو كان حيّاً، فحضورهم القسمة قرينة على توقعهم الإرث لا على فقرهم، وجمعهم مع اليتامى والمساكين أيضاً لأجل اشتراكهم كلهم في التوقع لا في الفقر، فتأمل.

وقوله: {فَارْزُقُوهُم} قيل: الآية كانت على الوجوب، ثم نسخت مع بقاء

ص: 47

الاستحباب، لكن الأظهر عدم الوجوب من الأول وأنّ الآية غير منسوخة، وما روي في النسخ محمول على معناه اللغوي.

وقيل: الدلالة على الاستحباب بقرائن من نفس الآية منها: تعليق الإعطاء على الحضور، مع أنّ الوارث لا بد من إعطائه حقه سواء حضر أم لا، ومنها: عدم تعيين المقدار مع أنه في سائر الورثة قد تمّ التعيين، ومنها: إحالته إلى اختيار الورثة، مع أنه لا اختيار لهم فيما فرضه اللّه، ومنها: أمرهم بالقول المعروف، ولا يعبّر بمثل هذا التعبير عن صاحب الحق.

ولا يخفى أنّ صاحب الحق يمكنه التنازل عن حقه أو بعض حقه والتصدق به أو هبته، ولا يجوز له ذلك في حق غيره، فلذا يستحب للورثة الكبار التنازل عن بعض حقهم، ولا يجوز لهم إعطاء شيء من سهم الصغار مطلقاً أو من سهم الكبار غير الراضين بهذا التصدّق.

وقوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} جبراً لخاطرهم المكسور في عدم إرثهم مع كونهم قرابات الميت، أو جبراً ليتمهم ومسكنتهم، كما أنهم قد يتوقعون أكثر من اللازم أو يُلحّون فيضجر منهم الورثة فيخاشنونهم، فتأمر الآية بضبط النفس وعدم زيادة المخاشنة على حرمانهم، بل ليقولوا لهم قولاً حسناً يعرف حسنه الشرع والعقل.

الرابع: قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ...} الآية.

تحذير من أكل إرث الأيتام الصغار، ويكون هذا التحذير عبر مراحل:

1- تحريك العواطف الإنسانية، بأن يقال للذي يريد أكل مال الأيتام: إنك هل ترضى لأيتامك ذلك، وإذا أكلت مال أيتام الناس فذلك سيرغب الآخرين

ص: 48

بأكل أموال أيتامك في المستقبل، ولا يجدون حينذاك من يدافع عنهم!

2- بيان الضرر الدنيوي بأنه كأكل النار يضر ولا ينفع.

3- بيان الضرر الأخروي بنار جهنم وسعيرها.

وقوله: {وَلْيَخْشَ} الخشية: خوف من سبب الضرر أو المكروه، فالخشية من اللّه بمعنى الخوف منه؛ لأنه قادر على العقاب، والخشية من العمل؛ لأنه سبب نزول المكروه وقيل: هو خوف يشوبه تعظيم أو تهويل، والمراد الخشية من عملهم بأكل مال اليتيم؛ لأنه سبب المكروه على ذريتهم وعليهم.

ومفعول (ليخش) محذوف مدلول عليه بالكلام، أي ليخشوا عملهم بأكل مال اليتيم، وليس المراد خشيتهم من اللّه تعالى؛ لأنه مذكور في قوله بعد ذلك: {فَلْيَتَّقُواْ اللَّهَ}.

والآية في مقام تحريك عواطفهم تجاه الورثة الأيتام، فإنّ الإنسان قد لا ينزجر بالنهي ولا بالأدلة العقلية، لكنه قد ينزجر إذا تمّ تحريك عاطفته، فيقال له: هل ترضى أن يُظلم أيتامك من بعدك فتؤكل أموالهم؟ ألا تخاف عليهم من بعدك؟ فعليك أن يكون لك نفس الشعور لأيتام الآخرين، وخاصة أيتام قراباتك الذين ورثوا معك لكنك تريد هضمهم حقهم.

وعليه فالأثر الوضعي المترتب على ذلك بأن يكون من يظلم أيتام الناس سيظلم الآخرون أيتامه مستفاد من الروايات لا من نص هذه الآية، وقوله: {لَوْ تَرَكُواْ} قرينة على ما ذكرناه، إذ ليس كل آكل لمال اليتيم له ذرية، وقد لا تكون له ذرية ضعيفة، مع أن التحذير والتخويف يشمله أيضاً.

وقوله: {مِنْ خَلْفِهِمْ} تأكيد وزيادة تصوير لحالة أيتامه، والمراد بعد

ص: 49

موتهم حيث لا يكونون ليتمكنوا من الدفاع عن حقوق ذريتهم.

وقوله: {ذُرِّيَّةً ضِعَٰفًا} سواء كانوا أيتاماً أم نساءً أم كباراً لا يتمكنون من الدفاع عن حقوقهم، فشفقة الإنسان على ضعاف ذريته تحركه على مراعاة حقوق أيتام الآخرين، بل وضعاف الورثة مطلقاً.

وقوله: {خَافُواْ عَلَيْهِمْ} أي من إجحاف الناس لهم وهضمهم حقوقهم بعد موت كافلهم والمدافع عنهم.

الأثر الوضعي لظلم الأيتام

ثم إنّ الذي يظلم أيتام الناس لا يكون في مأمن من أن ينال الظلم أيتامه - ولو بالواسطة - في مستقبل الدهر، لجهتين:

1- إنّ المجتمع الذي يبتني على الظلم، سيعم الظلم فيه الجميع حتى الظالم نفسه، فإن لم يتمكنوا منه لقوته ومنعته فسينال الظلم ذريته الضعيفة أو سيناله هو حين ضعفه، كما أنّ الناس قد لا يتفاعلون مع ذرية الظالم ولا يتعاونون معهم في رفع الظلامة عنهم، وغير خفي أنّ بيان الأثر الوضعي التكويني للظلم لا يعني القبول التشريعي لذلك الأثر شرعاً، بل يجب دفع الظلم حتى عن الظالم أو ذريته تطبيقاً للنهي عن المنكر.

2- دلت الروايات على أنّ أثر الظلم تكويناً هو رجوع مثله إلى الظالم أو ذريته، فبالنسبة إلى الظالم قد يكون عقوبة إلهية دنيوية على ظلمه، وأما بالنسبة إلى الذرية فذلك عقوبة للظالم أيضاً وليس عقوبة لها، إذ لا يجوز عقوبة شخص بسبب فعل شخص آخر، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}(1)، وحيث لم يكن عقوبة للذرية فلا ينافي العدل.

ص: 50


1- سورة فاطر، الآية: 18.

بيان ذلك: أنّ اللّه تعالى قد يُهيّئ الأسباب الظاهرية لكي ينصر المظلوم على الظالم في الدنيا أو يمنع ظلم الظالم، وقد تقتضي المصلحة أن لا يعجّل في نصر المظلوم في الدنيا، بل يتركه إلى الآخرة، وذرية الظالم الآكل لمال اليتيم يتركهم اللّه تعالى ولا يهيّئ الأسباب لمنع ظلمهم، ليس عقوبة لهم، وإنما لعدم المصلحة في تعجيل نصرهم، ولعل المصلحة أن يكون هذا الأثر التكويني رادعاً لكثير من الناس عن ظلم الأيتام، فجمع اللّه تعالى بين النهي والتهديد بعقاب الآخرة وبين الأثر التكويني الوضعي في الدنيا.

ظلم ذرية الظالم عقوبة له

مضافاً إلى أنّ اللّه تعالى قدّر عدم تساوي الناس في الرزق، بل فضّل بعضهم على بعض لمصالح متعددة، منها تنظيم أمور الحياة كما قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}(1)، واختيار من يكون الفقير ومن يكون الغني بيده تعالى، فأي مانع في أن يختار إفقار ذرية الظالم؟ فإنّ ذلك جمع بين سنته تعالى في الحياة في فقر بعض الناس، وبين عقوبة الظالم بذلك، وبين تنبيه وتحذير الناس عن ظلم الأيتام.

والحاصل أنّ هذا التقدير عقوبة للظالم وليس عقوبة لذريته، فلا ينافي العدل، بل هو مطابق للحكمة الإلهية وللموازين العقلية، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من ظلم يتيماً سلّط اللّه عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه ثم تلا الآية»(2).

وقوله: {فَلْيَتَّقُواْ اللَّهَ} عطف على قوله: {وَلْيَخْشَ} أي ليخافوا من

ص: 51


1- سورة الزخرف، الآية: 32.
2- تفسير العياشي 1: 223.

مغبة عملهم على أيتامهم فليتقوا اللّه في أيتام الناس، هذا في جانب العمل.

وقوله: {وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} في جانب الكلام، أي لا يكتفوا بعدم الظلم فقط، بل أن يراعوا الأيتام حتى في الكلام.

والحاصل عليهم أن لا يجحفوا مع الأيتام لا في قول ولا في عمل، و(السديد) بمعنى السليم الصحيح، وأصله من سدّ الخلل في الجدار ونحوه، سُمّي به القول والعمل بالصحيح؛ لأنه لا خلل فيه، ولعل سبب ذلك أنّ الصغار قد لا يعرفون الموازين ويتكلمون بكلام غير مناسب أو يعملون أعمالاً غير سديدة، فالإنسان لا بد من أن يراعي صغرهم وعدم إدراكهم، وشفقة الإنسان على أولاده كثيراً ما يمنعه من مخاشنتهم، فليكن كذلك بالنسبة إلى الأيتام، فليشفق عليهم كما يشفق على صغاره.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ الْيَتَٰمَىٰ...} الآية.

هذا بيان عقوبة الظالم بأكل مال اليتيم، وهي عقوبتان:

1- دنيوية، بعدم انتفاعه بذلك المال، بل يتضرّر به، فهو كآكل النار حيث يريد الانتفاع لكن يتضرر باحتراق فمه وبطنه.

2- أخروية: بأن يلقيهم اللّه في جهنم وسيحترقون بسعيرها.

وقوله: {ظُلْمًا} قيد توضيحي لزيادة التشنيع على أكل مال اليتيم، أو هو قيد احترازي مقابل من يأكل بالمعروف بأخذ الأجر لعمله للأيتام كما مرّ في قوله: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}.

وقوله: {فِي بُطُونِهِمْ} هو تأكيد للأكل كما يقال: نظرت بعيني، وسمعت بأذني، ولعل الغرض زيادة التشنيع وبيان خساسة عملهم، حيث ينتهكون

ص: 52

الحقوق لأجل بطونهم وهذا غاية الضِعة والحقارة.

وقوله: {نَارًا} إمّا للتمثيل، أي يتضررون ولا ينتفعون كأكل النار، ويمكن أن يكون إشارة إلى مآل ومصير هذا المأكول فهو يتحول إلى نار في الآخرة، وحيث إنّ الأكل الآن لم يقل: سيأكلون، بل قال: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ}، فيكون المجاز في قوله: {نَارًا} أي ما يتحول إلى نار، نظير قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}(1)، فليس قوله: {نَارًا} من تجسّم الأعمال، بل من إحضار ما ظلموا فيه وعقابهم به، إذ المال المأكول هو من الأعيان عادة لا من الأعمال.

وقوله: {سَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} من صلى يصلي، أي شعر بحرارة النار وقاساها، وهذا قد يستعمل في الدفء المطلوب في البرد كما في قوله: {أَوْ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}(2).

وقد يستعمل في الاحتراق في النار كما في هذه الآية.

والإتيان بالسين في {سَيَصْلَوْنَ} وعدمها في {يَأْكُلُونَ} لأنّ الأكل في هذه الدنيا وإن كان التحول إلى النار في الآخرة، وأما الاحتراق بنار جهنم ففي الآخرة.

و(السعير): النار الملتهبة المؤججة.

ص: 53


1- سورة التوبة، الآية: 34-35.
2- سورة النمل، الآية: 7.

الآيتان 11-12

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُۥ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 11 وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٖ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٖ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُۥ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّٖ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ 12}

11- {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} يأمركم ويعهد إليكم، فوصية اللّه تعالى فرض في الإرث وكيفية تقسيمه، بما تقتضيه المصلحة والعدل:

فالطبقة الأولى النَسَبية:

(1) {فِي أَوْلَٰدِكُمْ} ذكوراً وإناثاً {لِلذَّكَرِ} منهم {مِثْلُ حَظِّ} نصيب

ص: 54

{الْأُنثَيَيْنِ} لأنّ الذكر مكلّف بالإنفاق والمصارف دون الأنثى، {فَإِن كُنَّ} كان الأولاد {نِسَاءً} ليس معهن ذكور {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} والمراد اثنتان فما فوق {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} الميت، وذلك بالفرض، {وَإِن كَانَتْ} البنت {وَٰحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} مما ترك بالفرض.(2) {وَلِأَبَوَيْهِ} أبوي الميت المباشرين، فلا يشمل الأجداد والجدات، حالتان:

أ - {لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} فيتساوى الأب والأم في الميراث {إِن كَانَ لَهُۥ} للميت {وَلَدٌ} سواء كان ذكراً أم أنثى.

ب - {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ} للميت {وَلَدٌ} سواء من صلبه أم من أحفاده {وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ} فقط حيث لم يكن له وارث نسبي آخر {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} إن لم يكن للميت إخوة، والباقي للأب.

{فَإِن كَانَ لَهُۥ} للميت {إِخْوَةٌ} من الأبوين أو من الأب دون الإخوة من الأم، فكانوا أخوين أو أخاً وأختين أو أربع أخوات {فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} والباقي للأب، فالإخوة يحجبون الأم لكنهم لا يرثون شيئاً، وفائدته أن خمسة أسداس التركة تكون للأب، وهو ينفق عليهم منها ويرثونها منه لاحقاً.

كل ذلك الإرث {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ} إلى حدّ الثلث {يُوصِي بِهَا} أي تكون وصية من الميت لا من غيره {أَوْ دَيْنٍ} في ذمة الميت حتى لو استوعب المال كله، وحيث عيّن اللّه تعالى مقدار الإرث وأصحابه فلا يحق لكم تغيير ذلك بزعم أنكم تورثون من ينفعكم - من الذكور والكبار دون الإناث والصغار أو الأبناء دون الآباء أو العكس - لأنكم لا تعلمون الواقع،

ص: 55

فربّ صغير أنفع لدنياكم وآخرتكم، ورب بنت أنفع من ابن وهكذا، ف {ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ} لا تعلمون {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} فلعلّ الكل ينفعكم لكن أيهم أكثر نفعاً من غيره؟ وهذه التوصية إنما فُرضت {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالمصالح وغيرها {حَكِيمًا} في هذا التعيين وفي غيره، فلذا فرضه هذه الفرائض وبهذا المقدار لكل واحد عنعلم وحكمة.

12- وأما الإرث بالسبب، وهو الزواج:

(3) {وَلَكُمْ} أيها الرجال {نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ} أي زوجاتكم {إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} منكم أو من غيركم {فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}، وكل ذلك {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ} إلى حدّ الثلث {يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٖ}.

(4) {وَلَهُنَّ} للزوجات {الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} منهن أو من غيرهن، {فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} وهذا الربع أو الثمن يقسّم بين الزوجات الدائمات إن كن متعددات {مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٖ}، والزوجان يرثان مع كل طبقات النسب، فلا يحجبهم عن أصل الإرث أحد، ولا يحجبون عنه أحداً.

وأما إرث الطبقة الثانية في النسب:

(5) {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} أي الميت الذي ترك الإرث حال كونه {كَلَٰلَةً} أي كان ذا كلالة، وهي القرابة غير الآباء والأبناء، {أَوِ} الميت ذو الكلالة {امْرَأَةٌ} فلا فرق في إرث الإخوة بين كون الميت رجلاً أو امرأة {وَلَهُۥ} للميت {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} من أم {فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ}

ص: 56

والباقي للإخوة من الأبوين أو الإخوة من الأب، {فَإِن كَانُواْ} الإخوة من الأم {أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ} أي أكثر من أخ أو أخت، بأن كانوا اثنين فما فوق {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} يقسّم بينهم بالسوية الأنثى مثل الذكر، كل ذلك {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} حال كون الوصية {غَيْرَ مُضَارّٖ} بأن لا تتعدى الثلث فيكون ضرراً على الوارث، {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ} لكم في كيفيةتقسيم الإرث وفي أصحابه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} في تشريعه {حَلِيمٌ} عليكم فيمهلكم إن خالفتم لكن لا يُهملكم.

ثم إنّ إرث الإخوة من الأبوين أو الإخوة من الأب سيأتي في آخر السورة، وأما إرث الطبقة الثالثة وهم الأعمام والأخوال، وكذا إرث ضامن الجريرة والمعتق والإمام فقد بينته السنة المطهرة.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}.

الوصية منه تعالى فرض وعهد يجب تنفيذه، قال اللّه تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا...} الآية(1)، وقال: {وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}(2)، وقال: {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِ}(3).

ولعل استعمال كلمة {يُوصِيكُمُ} هنا، للدلالة على أنّ وصية اللّه أحق

ص: 57


1- سورة الشورى، الآية: 13.
2- سورة مريم، الآية: 31.
3- سورة الأنعام، الآية: 151.

بالاتباع من وصيتكم، ولذا أتم آيات الإرث بقوله: {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ}، وحتى وصيتكم إلى حدّ الثلث إنما جازت؛ لأنّ اللّه تعالى أمضاها وشرّع لكم ذلك، فهو المالك الحقيقي العالم بالمصالح والعادل الذي لا يجور، فلا بد لكم من اتّباع تشريعاته وترك عادات الجاهلية والأهواء السقيمة والمصالح الجائرة.

الآيتان 11-12

اشارة

ولا يخفى أن الإرث في القرآن إما بالنسب أو بالسبب، والسبب هو الزواج،فلكل من الزوجين نصيب من إرث الآخر، وأما النسب فالإرث فيه من جهتين: الفرض والقرابة، أما الفرض فهو تعيين نصيب كل وارث بنسبة معينة، والتي تكفلت ببيانه هاتان الآيتان والآية الأخيرة من السورة، وأما القرابة فهو فيما لو زاد الإرث عن السهام، فيُعطى الزائد للأقرب وهذا ما بيّنه اللّه تعالى بقوله في سورة الأنفال: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ}(1)، وبذلك يبطل التعصيب وهو نقل الفائض إلى غير الأقرب، فمثلاً لو مات رجل وخلّف بنتاً وأخاً وأختاً، فترث البنت كل المال، النصف الأول بالفرض لقوله: {وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ...}، والنصف الثاني بالردّ لقوله: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ...}، ولا يرث الأخ شيئاً؛ لأن البنت أقرب إلى الميت منه، كما أن الآية السابعة في قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ... وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} تبطل التعصيب أيضاً؛ لأن في التعصيب توريثاً الذكر دون الأنثى.

ثم لا يخفى أنّ الأقرباء من حيث حصص الإرث على ثلاثة أقسام:

1- من لم يعيّن له نسبة معينة، كالأولاد الذكور، فهؤلاء يرثون الباقي،

ص: 58


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

أي تعطى السهام المعينة لأصحابها ثم ما يبقى يعطى لهؤلاء.

2- من عُيّن له سهم واحد فقط، كالبنت الواحدة حيث إنّ سهمها النصف، ولم يعيّن لها سهم آخر، فيكون سهمها الثاني هو الباقي.

3- من عُيّن له سهمان: أعلى وأدنى، كالزوجة، فلها الربع إن لم يكن للميت ولد، ولها الثمن إن كان له ولد، فهذا لا يرث أكثر من السهم الأعلى ولا أقل من السهم الأدنى.

والبنت والبنتان من القسم الثاني، أي شُرِّع لهم سهم واحد هو النصف أو الثلثان، ولم يُعيَّن السهم الثاني، فلذا يكون السهم الثاني هو الباقي.

وبهذا البيان يبطل العول، وهو أن تكون السهام أكثر من التركة، كما لو ماتت امرأة وخلّفت زوجاً وأختين من الأبوين، فلو كان للزوج النصف وللأختين الثلثان نقصت التركة عن السهام! فهنا ليس سهم الأختين الثلثين، بل سهمهما هو ما تبقى؛ وذلك لأنّ اللّه عيّن للأختين سهماً واحداً ولم يعيّن السهم الثاني، فيكون السهم الثاني هو الباقي لا الثلثين.

وهذه هي القاعدة العامة في كل موارد الإرث، فلا تعول الفريضة أبداً، وقد بيّنه أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) بتفصيل، وفي الكافي عن ابن عباس أنه قال: سبحان اللّه العظيم، أترون أنّ الذي أحصى رمل عالج(1) عدداً، جعل في مالٍ نصفاً ونصفاً وثلثاً(2) فهذان النصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصري: يا أبا العباس، فمن أوّل من أعال الفرائض؟

ص: 59


1- عالج: صحراء عريضة فيها الرمال، ولا يعلم عدد رملها إلاّ اللّه تعالى.
2- وذلك فيما لو خلفت الميتة زوجاً وأختاً لأبوين وإخوة لأم، فللزوج النصف وللإخوة من الأم الثلث. وزعموا أنّ للأخت من الأبوين النصف.

فقال: عمر بن الخطاب، لما التفّت الفرائض عنده، ودفع بعضها بعضاً فقال: واللّه ما أدري أيّكم قدّم اللّه، وأيّكم أخّر، وما أجد شيئاً هو أوسع من أن أقسّم عليكم هذا المال بالحصص! فأدخل على كل ذي حق ما دخل عليه من عول الفرائض، وايم اللّه، لو قدّم ما قدّم اللّه، وأخرّ ما أخر اللّه، ما عالت فريضة، فقال له زفر: وأيّها قدّم، وأيها أخّر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها اللّه عن فريضة إلاّ إلى فريضة فهذا ما قدّم اللّه، وأما ما أخّر فكل فريضة إذازالت عن فرضها لم يبق لها إلاّ ما بقي، فتلك التي أخّر، فأما الذي قدّم فالزوج له النصف، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء، والزوجة لها الربع، فإذا زالت عنه صارت إلى الثمن، لا يزيلها عنه شيء، والأم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس، ولا يزيلها عنه شيء، فهذه الفرائض التي قدّم اللّه. وأما التي أخّر ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلاّ ما بقي، فتلك التي أخّر، فإذا اجتمع ما قدّم اللّه وما أخّر بُدئ بما قدّم اللّه فأعطي حقه كاملاً، فإن بقي شيء كان لمن أخّر، وإن لم يبق شيء فلا شيء له(1)، وهذا المضمون أيضاً روته العامة عن ابن عباس أيضاً(2).

الثاني: قوله تعالى: {فِي أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

(الأولاد) هم الأبناء والبنات، وقد دلت السنة القطعية على أنّ الأحفاد يقومون مقام الأولاد في حال عدم وجود الأولاد، فيرثون حصتهم، فلذا ابن البنت يرث حصة أمه، وبنت الابن ترث حصة أبيها.

ص: 60


1- الكافي 7: 78؛ وعنه في وسائل الشيعة 26: 78-79.
2- المستدرك للحاكم النيشابوري 4: 340؛ وسنن البيهقي 6: 253.

وكان أهل الجاهلية الأولى يمنعون البنت من الإرث؛ لأنها لا تكتسب ولا تحارب ولا تغنم، وأهل الجاهلية المعاصرة يساوون في الإرث بين الأولاد والبنات، وكلاهما زيغ عن الحق وابتعاد عن العدل، فحرمانها عن الإرث ظلم لها، ومساواتها فيه ظلم على إخوتها.

نصيب الأولاد والبنات بين الإسلام وبين جاهليتين

وإنما العدل أن تعطى نصيبها من الإرث باعتبار قرابتها للميت، فكما لم يكدّ الأولاد في أموال أبيهم كذلك لم تكدّ البنات، فالميراث عطية ونحلةلهم جميعاً باعتبار قرابتهم إلى الميت، هذا من جهة أصل التوريث، وأما من جهة المقدار فإنّ اللّه تعالى أوجب نفقة النساء على الرجال فيجب على الزوج أن ينفق على زوجته مثلاً، ولم يوجب على المرأة أن تنفق على أحد، فمقابل هذا الحق الذي جعله للنساء على الرجال جعل سهم الابن ضعف سهم البنت، قال تعالى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(1)، كما أوجب اللّه تعالى الجهاد على الرجال بما يتضمن من مصارف، وجعل عليهم المعقلة، أي دفع العاقلة دية قتل الخطأ، كما جعل للنساء المهر، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة، وإنما ذلك على الرجال، ولذلك جعل للمرأة سهماً وللرجل سهمين»(2)، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : «لأنّ المرأة إذا تزوجت أخذت والرجل يُعطي»، وقال: «لأنّ الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها، وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تُؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفّر اللّه تعالى على الرجال لذلك»(3).

ص: 61


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- الكافي 7: 85.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 98.

والحاصل أنّ العدل قد يكون في المساواة، وقد يكون في التفضيل، وهذا أمر جرى عليه العقلاء، فمدير الشركة مثلاً يتقاضى راتباً أعلى من راتب الموظف العادي حتى لو كان عمل الموظف أشق، وليس في ذلك ظلم، بل هو عين العدل، وحيث إنّ النظام الاقتصادي الإسلامي جعل على الرجل تكاليف مالية ولم يجعل تلك التكاليف على المرأة؛ مراعاة للمصلحة ولظروف كل واحد من الرجل والمرأة، في مقابل ذلك ضاعفإرث الابن على البنت.

والأساس في ذلك أنّ تكوين المرأة يختلف عن تكوين الرجل، فالمرأة تكويناً عليها الحمل والإرضاع وتربية الأولاد والاهتمام بأمورهم، فلذا حباها اللّه تعالى بزيادة العاطفة والرقة، ورفع اللّه عنها أثقال الكد والكسب، فأوجب نفقتها على الرجل الذي لم تكن مهمته التكوينية الحمل والإرضاع والتربية، فألزمه بالكدّ والعمل لتحصيل الرزق.

هذا في الحقوق المالية، وأما الحقوق الإنسانية، فالكل مشترك فيها كما أنّ الواجبات والمحرمات والوظائف مشتركة بين الجميع إلاّ فيما استثني، وهذا الاستثناء إنما هو لاختلاف التكوين والتركيبة في بعض الجوانب.

الثالث: قوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ...} الآية.

الحكم هو للاثنتين فما فوق، والتعبير بقوله: {نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} عن الاثنتين فما زاد تعبير شائع، أو يقال: إنّ الآية دلت على حكم ثلاثٍ فما فوق وسكتت عن حكم الاثنتين، وقد تكفلت لبيانه السنة المطهرة، وقد أجمع المسلمون على أنّ حكمهما حكم الثلاث من غير فرق.

ص: 62

وأمّا حكم أصل التركة:

1- أنه قد تستوفي السهام التركة فهو المطلوب، كما لو كان معهن الوالدان، فلهن الثلثان وللوالدين السدسان.

2- وقد تفيض التركة، فهنا يتم ردّ الفائض على أصحاب السهام بنسبة سهامهم، كما لو خلف الميت أباً وبنتين، فللأب السدس، وللبنتين الثلثان، فيفيض سدس، فيرد عليهم بالنسبة، فإنه يجمع الثلثان مع السدس فيكونخمسة أقسام، فأربعة أخماس يرد على البنيتن والخمس يرد على الأب، مثلاً لو كانت التركة ستة دنانير، فللبنتين الثلثان، أربعة دنانير بالفرض، وللأب السدس دينار واحد بالفرض، فلتحصيل النسبة نجمع الأربعة مع الواحد وذلك سهامهم أجمع، فالدينار الزائد يقسّم خمسة أقسام، أربعة منه يرد على البنتين بالقرابة وواحد يرد على الأب بالقرابة.

3- ولا عول، فلا تنقص السهام عن التركة، فلو خلّفت الميتة زوجاً وأبوين وبنتين، فللزوج الربع، وللأبوين السدسان، وليس للبنتين الثلثان حينئذٍ كي تعول الفريضة، بل لهما الباقي كما وضحناه، فلو خلّفت اثني عشر ديناراً، فللزوج الربع وهو ثلاثة دنانير، وللأبوين السدسان وهو أربعة دنانير، وليس للبنتين الثلثان، وهو ثمانية دنانير كي تعول الفريضة، بل لهما الباقي وهو خمسة دنانير.

وهكذا القول في إرث البنت الواحدة.

الرابع: قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ}.

ص: 63

المراد الأب والأم المباشرين، فلا تشمل الآية الأجداد والجدات؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، ولدلالة السنة القطعية على أنّ الأجداد هم من الطبقة الثانية.

وقال البعض: إن عدم إرث الجد في الطبقة الأولى؛ لأنه لا يطلق عليه الأب إلاّ مجازاً! وهذا كلام ليس بصحيح، بل الجد أب حقيقة، وعدمشمول الآية له لما ذكرناه من أنّ الأقرب يمنع الأبعد ولدلالة السنة.

وقوله: {إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ} لا فرق بين كونه ذكراً أم أنثى، واحداً أم أكثر؛ لأنّ (الولد) لفظ يطلق لغة على الذكر والأنثى، ولذا صدّر الآية بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

وقوله: {لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} ولم يقل لهما الثلث، حتى لا يتوهم أحد أنّ التقسيم على الأبوين كالتقسيم على الأولاد يأخذ الذكر ضعف الأنثى، بل هذه القاعدة لا تجري في الأبوين، بل قد يتساويان، وقد يزيد الأب، وقد تزيد الأم.

1- فالتساوي فيما لو كان للميت ولد، فللأب السدس، وللأم السدس والباقي للولد.

2- وزيادة الأب، فيما لو لم يكن للميت ولد، فلو لم يكن وارث آخر فللأم الثلث وللأب الباقي إن لم يكن حاجب، فإن كان الحاجب فللأم السدس والباقي للأب.

3- زيادة الأم، كما لو خلفت زوجاً وأبوين فقط، فللزوج النصف وللأم

ص: 64


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

الثلث بالفرض لقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}، والباقي للأب وهو السدس.

والحاصل أنّ قاعدة (للذكر مثل حظ الأنثيين) لا تجري في الأبوين إطلاقاً، ولا يصح قول العامة بأنّ قوله: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي ثلث ما تبقى ليكون للأب ثلثا ما تبقى؛ لأنّ ذلك خلاف سياق الآيات، حيث إنّ السهام في قوله: (النصف) و(السدس) و(الربع) و(الثلث) هي من أصل التركة، لا مما تبقى.الخامس: قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ...} الآية.

قوله: {وَلَدٌ} أعم من كونه ولداً للصلب أو حفيداً.

ولو خلف الميت أبوين من غير أولاد، فهنا حالتان:

1- أن لا يكون هناك حاجب، فيكون سهم الأم الثلث مما ترك الميت.

2- أن يكون هناك حاجب، فيكون سهم الأم السدس.

والحاجب هو إخوة الميت، فهم لا يرثون؛ لأنهم من الطبقة الثانية لكنهم يحجبون الأم عن الثلث فينزل سهمها إلى السدس، والسبب في هذا الحجب هو أن الأب يرث الباقي فيكون نصيبه أكثر، حيث إنه ينفق على أولاده - وهم إخوة الميت - والأولاد يرثونه بعد موته؛ فلأجل ذلك شرّع اللّه حجب الإخوة مع عدم إرثهم ليصل النفع إليهم عاجلاً بالإنفاق عليهم وآجلاً بإرثهم من أبيهم، ولهذا الحجب شروط مستفادة من القرآن ومن السنة سنذكرها قريباً.

وقوله: {وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ} هذا القيد لأجل شرط من شروط الحجب وهو

ص: 65

حياة الأب، فلو كان للميت أبوان فهنا يحجب الإخوة الأم عن الثلث إلى السدس، وأما لو كان الأب ميتاً فلا فائدة في الحجب؛ لأنّ الغرض كما ذكرناه أن يزاد إرث الأب لينفق على أولاده - إخوة الميت - وليرثوه، فإذا لم يكن حياً فلا فائدة لهم من حجب الأم عن الثلث إلى السدس.

وقوله: {فَإِن كَانَ لَهُۥ إِخْوَةٌ} فسرت الروايات الإخوة بأخوين أو أخ وأختين أو أربع أخوات، كما بينت الروايات أنّ الإخوة لا بد أن يكونوا منالأبوين أو من الأب، وأما الإخوة من الأم فلا يحجبون أمهم عن الثلث؛ لأنّ هذا الحجب بضررهم، حيث إنهم سيرثون أمهم بالمآل، والغرض من الحجب كان إيصال النفع إلى الإخوة، فلا يكون حجب لو كان عليهم ضررٌ منه.

وهناك شروط أخرى للحجب تطلب من الكتب الفقهية.

السادس: قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.

التسلسل الشرعي في أموال الميت هو أداء الدَّين أولاً، ثم تنفيذ الوصايا إلى حدّ الثلث، ثم تقسيم الإرث على الورثة.

ولكن حيث كان الغرض من الآيات بيان الإرث وكيفية تقسيمه لذا قدّم الفرائض، ثم ذكر الوصية، ثم الدَّين، أي بدأ من الأخير إلى الأول، فلعل هذه هي جهة ذكر الوصية قبل الدَّين، مع أنَّ الدَّين مقدّم عليها، وقيل: لعلّ سبب ذلك هو تثاقل الورثة عن تنفيذ الوصية دون أداء الدَّين، أو لأنّ الموصى له لا يطالب أو لا يُلحّ على تنفيذ الوصية؛ لأنها فضل عليه، عكس صاحب الدَّين فهو يطالب ويلحّ؛ لأنّ ذلك حقه على الميت وليس فضلاً من الميت عليه، أو لأنّ المديونين غالباً يذكرون الديون في وصاياهم، فكانت

ص: 66

الوصية أعم، ثم أفرد ذكر الدين الذي لم يوصَ به.

وقوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ} دلت السنة المطهرة على أنّ للميت الحق في الوصية إلى حدّ الثلث، فإذا أوصى بما يزيد عليه كان أمر الزائد متروكاً إلى الورثة الكبار، إن شاؤوا تنازلوا عن حقهم دون حق الورثة الصغار فنفذوا ما زاد عن الثلث، وإن شاؤوا لم يتنازلوا فرجعت الوصية إلى الثلث.

وقوله: {يُوصِي بِهَا} تأكيد للوصية، بأن تكون إنشاءً من الميت،فليست مجرد رغبات الميت وصيةً، حتى لو سماها الناس بالتسامح وصيةً، فالوصية إيقاع أو عقد شرعي بحاجة إلى إنشاء من الموصي، وأحياناً قبول من الموصى له، فلو أوصى ببناء مسجد مثلاً كانت إيقاعاً، ووجب على الورثة إعطاء المال لذلك إن لم يتجاوز الثلث، وأما لو أوصى بإعطاء مال لزيد فيحق لزيد القبول أو الرفض، فإن رفض بطلت الوصية وعاد المال إرثاً، دلت عليه السنة المطهرة، ويستفاد أصل المطلب من قوله في الآية التالية: {غَيْرَ مُضَارّٖ} كما سيأتي.

وقوله: {أَوْ دَيْنٍ} الدين مقدّم على الإرث والوصية؛ لأنّ الدَّين حق للدائن، والإرث والوصية فضل من اللّه تعالى على الورثة وعلى الموصى له، فلذا يجب تسديد الدَّين من أصل تركة الميت حتى لو استوعب المال كلّه، بحيث لم يبق شيء للورثة.

ثم إنّ تكرار ذكر الوصية والدَّين لعلّه للتأكيد على أنّ حكم الوصية والدين ليس خاصاً بمجموعة من الورثة، بل هو عام لكل حالات الإرث سواء مع الطبقة الأولى أم الثانية، وسواء مع الإرث النسبي أم السببي، ففي

ص: 67

كل الحالات الدَّين وكذا الوصية إلى الثلث مقدمان على الإرث.

علة تعيين سهام الإرث

السابع: قوله تعالى: {ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ...} الآية.

هذا كالتعليل لتعيين هذه السهام، رداً على الجاهليين الذين كانوا يمنعون الإرث عمّن يزعمون أنه لا ينفعهم، ويوجبون الإرث لمن يزعمون أنه ينفعهم، أو كانوا يزيدون وينقصون في الإرث لهذه الجهة، فردّهم اللّه تعالى بأنكم لا تدرون النافع من الضار أو أيهم أكثر نفعاً من الآخر؛ وذلك لأنّالإنسان لا يعلم بالواقع وبالمستقبل ولا إلى ما تؤول إليه الأمور، لذلك لم يرتب اللّه تعالى الإرث على ما تزعمونه من النافع أو الأنفع، بل رتبه على المصالح الواقعية وعلى القاعدة الاقتصادية الحقيقية، وعلى الترابط والأقربية في النسب والسبب.

وقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} متعلق بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}، والنصب على كونه مفعولاً مطلقاً أو على الحالية، والمراد التأكيد على وجوب التزام هذا التقسيم وعدم تجاوز حدود اللّه تعالى؛ كي لا يتوهم أحد أنّ هذه وصية على نحو الاستحباب.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} لبيان أنّ هذا الحكم مبتن ٍ على علمه تعالى بالواقع وبما يصلحكم، وبأنه وضع الشيء في موضعه، فكل تقسيم آخر باطل، إذ لا تراعى فيه الحقوق ولا توضع الأموال في مواضعها.

الثامن: قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ...} الآية.

بعد ذكر إرث الطبقة الأولى من النسب - وهم الأولاد والأبوان - يذكر اللّه تعالى الإرث السببي بالزوجية، ثم بعد ذلك إرث الطبقة الثانية من

ص: 68

النسب، وهم الإخوة والأخوات، ولعل سبب ذكر الإرث السببي في وسط أحكام الإرث النسبي هو أنّ الغالب وجود أحد الزوجين مع الطبقة الأولى، وقلة حالات الطبقة الثانية، بأن لم يكن للميت أبوان ولا أولاد، فلذا قدّم الغالب على غيره، وبعبارة أخرى غالب الأموات لهم أقرباء من الطبقة الأولى وهم متزوجون، فتم تقديم ذكر الحالة الغالبة، ولذا ذكر النسب ثم السبب ثم عاد للنسب.وقوله: {أَزْوَٰجُكُمْ} هذا خاص بالزواج الدائم، وقد دلت السنة على عدم إرث الزوجة المتمتع بها، وكذا المطلقة البائنة؛ لأنها ليست بزوجة، وأما المطلقة الرجعية فهي زوجة ما دامت في العدة، كما لا يشمل الإرث الإماء؛ لأنهن لسن زوجات.

وقوله: {إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} سواء كان من زوجها الحالي أم من زوجها السابق، فالولد يحجب الزوج عن السهم الأعلى إلى السهم الأدنى وكذا قوله: {إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} سواء أكان منها أم من غيرها.

وقوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ}، وقوله: {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} هذا سهم الزوجة سواء كانت واحدة أم أكثر، فيقسم بينهن بالسوية، ولو كان سهمهن أكثر لقال: «لكل واحدة منهن».

التاسع: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ امْرَأَةٌ...} الآية.

هذا بيان لإرث الطبقة الثانية من الأرحام، وذلك إذا لم يكن للميت أبوان ولا أولاد، بل كان له إخوة، فهم على صنفين:

1- الإخوة من الأم، بأن تكون أمهم واحدة، وهم من آباء مختلفين

ص: 69

فهؤلاء ذكر حكمهم في هذه الآية: إن كان واحداً فله السدس أخاً كان أم أختاً، وإن كانوا اثنين أو أكثر فنصيبهم الثلث يقسم بينهم بالسوية لا فرق بين الذكر والأنثى؛ لأن قرابتهم إلى الميت عن طريق أنثى هي أمهم.

2- الإخوة من الأبوين، أو الإخوة من الأب، وهؤلاء ذكر حكمهم في الآية الأخيرة من هذه السورة، فإن كانوا ذكوراً فكل المال لهم، وإن كانت أختاً واحدة فلها النصف بالفرض، وإن كانتا أختين اثنتين أو أكثر فلهماالثلثان بالفرض، وقد يرد عليهن الباقي أو جزء منه بالقرابة، وقد يكون لهن الباقي فقط لئلا تعول الفريضة، كما مرّ نظيره في البنت والبنتين.

قوله: {رَجُلٌ يُورَثُ} وقوله: {أَوِ امْرَأَةٌ} هذا التفصيل لبيان عدم الفرق بين كون الميت رجلاً أم امرأة.

وقوله: {يُورَثُ} فعل مجهول من وَرِثَ يَر ِثُ الثلاثي المجرد، والمعنى (يورث منه)، ف (رجل) و(امرأة) الميت الذي يترك الإرث لورثته، وليس الفعل المجهول من باب الإفعال أورث يُورِث، وإلاّ لزم التكرار؛ لأنه حينئذٍ يكون الرجل والمرأة هما نفس الأخ والأخت.

وقوله: {كَلَٰلَةً} النصب على الحال أو التمييز، أي حال كونه كلالةً أو من جهة كونه كلالة، وقيل: على كونه خبراً لكان، والمعنى كان قريباً للميت غير الآباء والأبناء، فالكلالة هي كل رحم ليس بولد ولا والد، فهو قريب من جهة العرض لا الطول، فلفظ (الكلالة) في اللغة يشمل الإخوة والأعمام والأخوال وأولادهم - ذكوراً وإناثاً - ، ولذا حين إرادة إرث الطبقة الثانية قيدّه بقوله: {وَلَهُۥ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}.

ص: 70

وأصل الكلمة - على ما قيل - إما من الإكليل الذي يحيط بالرأس، أو من الكَلّ بمعنى الإعياء والتعب فكأنها تتناول الإرث بصعوبة(1).

وقوله: {وَلَهُۥ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} يراد بهما الأخوان من الأم، ودلت على ذلك السنة المطهرة، وأيضاً تساويهم في الإرث هنا، وتفاوتهم في الإرث في الآية الأخيرة مما يدل على أنهم صنفان، ففي هذه الآية الكلام حول كلالةالأم، حيث إن رابطهم بالميت عبر أنثى - هي أمهم - لذلك لا يتفاضلون في الإرث، فكان لهم سهم الأم - من السدس أو الثلث - بالشراكة، وفي الآية الأخيرة رابطهم بالميت عبر ذكر - هو أبوهم - لذلك تفاضلوا في الإرث فكان للذكر مثل حظ الأنثيين.

وقوله: {شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} لا يزادون بالفرض، لكن قد يردّ عليهم بالقرابة لو فاضت التركة عن السهام، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية، وقوله: {شُرَكَاءُ} دليل على تساويهم فيه بمقتضى الشركة حين بيان تفاصيل السهام، ولولا ذلك لكان اللازم بيان سهامهم.

وقوله: {يُوصَىٰ بِهَا} بالمجهول، أي يوصّي الميت بها كما قال في الأزواج: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَا} و{مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَا}، ويحتمل أن يكون المراد يوصي اللّه بها، فكما أوصى اللّه بالإرث فكذلك أوصى بالوصية، فلا يحق للورثة المنع عن الوصية باعتبارهم أحق بأموال الميت، فمن الذي جعلهم أحق بأمواله؟ أليس اللّه تعالى حيث أوصى لأولاد الميت وقراباته بالإرث! فكذلك أوصى بتنفيذ وصايا الميت، ولو كان

ص: 71


1- انظر مجمع البيان 3: 47.

المناط الأحقية، فالميت أحق بأمواله، ولكن مع ذلك تفضّل اللّه على الورثة فحدّد حق الميت في الوصية إلى الثلث فقط!

وقوله: {غَيْرَ مُضَارّٖ} حال عن الوصية والدين، أي لا يكون الميت قد أضرّ الورثة بالوصية والدين، أما الوصية الضررية فهو أن يوصي بأكثر من الثلث حسب ما بينته الأحاديث، وأما الدَّين الضرري فهو أن يُقرّ بديون ليست على ذمته، وإنما يُقرّ بذلك ليضرّ الورثة أو يتحايل على تقييد الوصيةبالثلث، فلا يجوز له ذلك، ولو علم الورثة ببطلان إقراره لم يجب عليهم تنفيذه، وقيل: {غَيْرَ مُضَارّٖ} قيد للوصية فقط، وإنما ذكر الدَّين في الوسط رعاية للسياق في الآيتين حيث قرنهما معاً.

وقوله: {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ} لبيان أهمية تنفيذ الحكم وأنه أمر وعهد من اللّه، فكما بدأ الآية السابقة بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} كذلك ختم هذه الآية بقوله: {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ}.

ثم إنّ هناك قواعد وأحكاماً كثيرة وصوراً مختلفة في الفرض والرد، وشروط وموانع الإرث وغير ذلك تستفاد من هذه الآيات ومن الأحاديث الشريفة، فلتطلب من كتب الفقه.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} لعلّه كالتتمة لقوله: {غَيْرَ مُضَارّٖ} أي أنَّ اللّه تعالى يعلم بنواياكم وأفعالكم، فإذا أخّر العقوبة فإنما ذلك لحلمه، حيث لا يعاجل بالعقوبة إفساحاً للمجال لكم للتوبة أو استدراجاً وإملاءً.

ص: 72

الآيتان 13-14

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 13 وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدْخِلْهُ نَارًا خَٰلِدًا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِينٌ 14}

13- {تِلْكَ} الأحكام المذكورة في الآيات السابقة {حُدُودُ اللَّهِ} التي منع تجاوزها والتخطي عنها، فلا بد لكم من إطاعتها، فهو تعالى يثيب المطيع ويعاقب المتعدي، {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ} في هذه الحدود وغيرها بالائتمار بالأوامر والانزجار بالنواهي {يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ} ففوقها أغصان الأشجار وتحتها مياه الأنهار {خَٰلِدِينَ فِيهَا} فلا موت ولا إخراج، وبذلك تكمل النعمة من غير منغصات، {وَذَٰلِكَ} دخولها والخلود فيها {الْفَوْزُ} أي الظفر بالمراد {الْعَظِيمُ}، لا الاستيلاء على أموال الآخرين من غير حق والتمتع لأيام قلائل فيها.

14- {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ} بمخالفة الأوامر والنواهي {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ} الحدود التي عيّنها اللّه {يُدْخِلْهُ} اللّهُ {نَارًا خَٰلِدًا فِيهَا} أي يستحق الخلود بهذا التعدي {وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِينٌ} فيضاف إلى عذابه الجسدي عذاب نفسي بإهانته.

ص: 73

بحوث

الأول: قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}.

(الحدّ) هو طرف الشيء، بحيث يخرج عنه إذا تجاوزه، ولازمه الفصل بين شيئين، وقد يستلزم المنع عن تجاوزه بالدخول فيه أو الخروج عنه، والإنسان حرّ في تصرفاته يمكنه أن يفعل أي شيء أراد أو يترك، إلاّ ما أوجبه اللّه تعالى فلا يجوز له تركه، أو حرّمه تعالى فلا يجوز فعله، فكانت أحكام الشرع الإلزامية حدوداً عينها اللّه تعالى لأفعال الإنسان وتصرفاته، فعلاً أو تركاً.

والحدود على أنواع، منها حدود لا يمكن الخروج عنها، ومنها حدود لا يمكن الدخول فيها، مثلاً حدّ الشرع الزواج بأربع، فلا يمكن تجاوز العدد، فهو خروج عن الحدّ المرسوم، ولكن في داخل الحدّ يمكنه ما يشاء مثنى وثلاث ورباع أو واحدة، بل حتى اختيار العزوبة على كراهة، كما أنّ الشرع حرّم الزنا فهو من الحدود، فلا يجوز الدخول فيه بارتكاب الزنا.

والواجبات حدود لا يمكن الخروج عنها بتركها، والمحرمات حدود لا يمكن الدخول فيها بفعلها.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ...} الآية.

في البداية بيّن اللّه تعالى أنّ الحدود إنما هي حدود اللّه تعالى، فتكون مهمة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مهمة المبلغ، بل حتى التشريعات التي يصدرها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما هي تشريعات إلهية، وقد شرّف اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإصدارها، بمعنى أن اللّه تعالى قد يصدر الأحكام مباشرة وقد يفوّضها إلى

ص: 74

رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولكن بعد أن علّمه وأدّبه بآدابه، فلذا يصدر الرسول الحكم طبقاً لما يعلم من المصالح التي علّمه اللّه تعالى إياها، ففي الحقيقة كلّها أحكام إلهية، ففي الأحكام التي أصدرها اللّه مباشرة تجب طاعته تعالى، وفي الأحكام التي أصدرها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجب طاعة الرسول التي هي طاعة للّه تعالى، كما قال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(1)، كما أنّ هناك أموراً تنفيذية ليست من الأحكام، لكنها لتنظيم أمور العباد والبلاد فللرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الولاية فيها وتجب إطاعته إذا قضى أمراً؛ لأنه معصوم عن الخطأ والزلل، وقد أمر اللّه بإطاعته، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٖ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(2).

وقوله: {يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ} بيان لجزاء الإطاعة وأثرها التكويني الذي جعله اللّه تعالى، وهو أن يكون في نعيم أبدي من غير منغصات، و{جَنَّٰتٖ} جمع جنة بمعنى البستان الكثيف الشجر بحيث تتشابك الأغصان من فوق.

وقوله: {تَحْتِهَا} بمعناه الحقيقي من غير حاجة إلى تقدير تحت أشجارها، وذلك لما مرّ أن الجنة خلقت كوحدة متكاملة، فالجزء العُلوي هو الأغصان والجزء السفلي هو الأنهار.

وقوله: {خَٰلِدِينَ فِيهَا} فضل من اللّه تعالى باستمرار النعيم، فإنّ الإنسان إذا علم باستمرار النعمة فلا يبقى شيء ينغّصها، بخلاف ما لو علم بزوالها فذلك منغّص لها، كالنعيم الدنيوي، حيث إنّ العلم بزواله منغص له رغم أن

ص: 75


1- سورة النساء، الآية: 80.
2- سورة الأحزاب، الآية: 36.

الإنسان يحاول تناسي الموت وزوال النعمة.

وقوله: {وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} كأنه حث على مراعاة حدود اللّه في الميراث والوصية والدين والأيتام - المذكورات في الآيات السابقة - فإنّ المتعدي قد يتوهم أنه فاز بدراهم ودنانير أزيد وأكثر فيفرح بذلك، فيقال له: هذا ليس فوزاً؛ لأنه قليل يتبعه عقاب، بل الفوز العظيم إنما هو النعيم الأخروي بلا زوال ولا انقطاع.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ...} الآية.

بيان جزاء العصاة وهو استحقاقهم الخلود في النار، فهو حث لعدم تجاوز حدود الشرع، ففي البداية ذكر ثواب المطيع ومن ثَمَّ ذكر عقاب العاصي؛ وذلك لأنّ غالب الناس لا يحرّكهم الثواب بل يحرّكهم العقاب، فلذا يشفع اللّه تعالى ذكر العقاب مع ذكر الثواب، و(العصيان) هو مخالفة الأوامر والنواهي وهو ضد الإطاعة.

وقوله: {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ} تأكيد؛ لأنّ كل عصيان هو تعدي حدود اللّه، وكل تعدٍّ لحدوده هو عصيان، ولا يخفى أنه في الآية السابقة - والتي ذكر فيها ثواب الإطاعة - لم يذكر مراعاة الحدود ولعل سببه أنه في صدر الآية قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} فلم يكن من المناسب ذكر الحدود مرة أخرى، فكأنّ المعنى تلك حدود اللّه فأطيعوه فيها، وأمّا الآية الثانية في العقاب حيث لم يذكر فيها الحدود فناسب ذكره تأكيداً للتحذير عن المعصية في تعديها.

وقوله: {خَٰلِدًا فِيهَا} ذكر الوصف مفرداً، وأما في الآية السابقة فقال: {خَٰلِدِينَ فِيهَا} بذكر الوصف بالجمع، فلعلّه تفنن في العبارة الذي هو نوع

ص: 76

بلاغة في الكلام، وقيل: لعله إشعار بتآلف أهل الجنة واجتماعهم، فخلودهمفي الجنة مجتمعين على سرر متقابلين وتلحق بهم ذريتهم المؤمنة وفي ذلك تمام للنعمة، وأما أهل النار فمتباغضون يتبرأ بعضهم من بعض فيزيد ذلك من عذابهم.

الآيتان 13-14

وقوله: {وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي من سائر أصناف العذاب غير النار، أو أنّ العذاب هو النار لكن باعتبار الوصفين ذكرها مرتين، فقوله: {نَارًا خَٰلِدًا فِيهَا} باعتبار الخلود في النار، وقوله: {وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِينٌ} باعتبار اشتمال النار على الإهانة.

سؤال: من صحت عقيدته إذا ارتكب معصية فقد يعاقب عليها في النار، لكن لا يخلد في نار جهنم كما دلت عليه آيات أخرى بالمغفرة والشفاعة، وأنّ اللّه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فكيف في هذه الآية اعتبر تعدي حدود اللّه موجباً للخلود في جهنم؟

والجواب: هو أنّ معصية العظيم عظيمة، وكل معصية حتى لو كانت صغيرة لها اقتضاء الخلود في نار جهنم بذاتها، فلو كان اللّه يعاقب كل مذنب بالخلود في جهنم لم يكن مخالفاً للعدل، ولكنه تعالى بفضله ورحمته قضى بالمغفرة والشفاعة وقبول التوبة وتكفير الذنوب بالطاعات، وليس شيء من ذلك بواجب عليه عقلاً، خلافاً لما زعمه بعض المتكلمين من وجوب قبول التوبة عليه! فهل العقل يحكم بلزوم قبول توبة المجرم عن ارتكاب جريمته؟ بل قوانين عالم اليوم ولدى العقلاء أجمع هو عقاب المجرم حتى لو تاب وندم.

ص: 77

لكنه سبحانه حيث سبقت رحمته غضبه لذلك قضى بالعفو لمن يشاءممن له قابلية العفو، نعم من لا قابلية له للعفو أصلاً وهو المشرك فإنه لا يعفو عنه؛ لأنه سبحانه حكيم فلا يضع الأشياء إلاّ في مواضعها، وكذلك من لا تحصل له القابلية للعفو إلا بعد عقوبة - طالت أو قصرت - وهم بعض عصاة المؤمنين، فإنه سبحانه يعاقبه بمقدار حتى إذا حصلت له قابلية العفو عفا عنه.

فتحصل أنّ الآيات الدالة على خلود مرتكبي المعاصي في النار تدل على أنّ طبع تلك المعصية يقتضي الخلود، فإن لم يحصل مقتضي العفو - كما في المشرك - أثّر هذا المقتضي أثره، وإن حصل مقتضي العفو - كعصاة المؤمنين - فتسبق رحمته غضبه، فيؤثر مقتضي العفو - ولو بعد حين - دون مقتضي الانتقام، فتأمل.

ص: 78

الآيتان 15-16

{وَالَّٰتِي يَأْتِينَ الْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا 15 وَالَّذَانِ يَأْتِيَٰنِهَا مِنكُمْ فََٔاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا 16}

15- ثم يذكر اللّه تعالى بعض أحكام النساء بما تضمنه من حقوق مالية فقال: {وَالَّٰتِي يَأْتِينَ} يفعلن {الْفَٰحِشَةَ} أي الزنا {مِن نِّسَائِكُمْ} المتزوجات {فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ} اطلبوا الشهود ممن قذفهن {أَرْبَعَةً مِّنكُمْ} من الرجال المؤمنين لا غيرهم، {فَإِن شَهِدُواْ} عليهن بالزنا {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} عقوبة لهن {حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ الْمَوْتُ} حتى يَمُتْنَ {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} أي حكماً تشريعياً، وكان ذلك الرجم أو الجلد.

16- {وَالَّذَانِ} الرجل والمرأة غير المتزوجين {يَأْتِيَٰنِهَا} يأتيان الفاحشة {مِنكُمْ} من المسلمين لا الكفار {فََٔاذُوهُمَا} ردعاً وعقوبة لهما كالتعيير والضرب، {فَإِن تَابَا} عن زناهما {وَأَصْلَحَا} شأنهما فغيّرا حالهما ولم يعودا إلى الزنا {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} بترك الأذية، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} فلذا قبل توبتهما ورحمهما بالأمر بالإعراض عنهما، والآيتان منسوختان بحكم الجلد في سورة النور حيث أمر اللّه تعالى جلد الزانية

ص: 79

والزاني مائة جلدة(1).

بحوث

الأول: سياق الآيات هو في بيان الأحكام الاجتماعية والالتزامات المالية التي تترتب عليها، فبعد ذكر أحكام أموال الأيتام والسفهاء والمهر والإرث، يتم بيان أحكام النساء بدءاً من حكم الزنا والتوبة منه إلى معاشرتهن بالمعروف وعدم منعهن من الزواج أو إكراههن عليه، وإلى استبدال النساء وحكم مهورهن، وإلى المحرمات من النساء والمحللات منهن (الآيات 15-28)، وحيث انتهت الآيات السابقة إلى تعدي حدود اللّه تعالى ومصير المتعدي إلى النار والعذاب المهين، بدأ أحكام النساء بحكم الزنا وعقوبته وكيفية التخلّص منه.

ثم إنّ اللّه تعالى تدرّج في بيان حكم الزنا وعقوبته، وذلك لأجل تربية الناس والمجتمع وتهيئة النفوس، فإنّ الزنا كالخمر كان منتشراً في المجتمع الجاهلي، فتم بيان قبحه وشناعته أولاً في الآيات المكية، كقوله في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَىٰ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}(2)،

ثم تشريع عقوبة خفيفة هي إمساك المتزوجة في البيت وعدم السماح لها بالخروج، وإيذاء غير المتزوجين بالتعيير ونحوه، ثم تشريع الجلد مائة جلدة لغير المحصن والرجم للمحصن، ومن ذلك يتبيّن أنّ حكم الإمساك والإيذاء قد تمّ نسخه إلى حكم الجلد والرجم، كما دلت عليه الروايات الشريفة(3).

ص: 80


1- راجع سورة النور، الآية: 2.
2- سورة الإسراء، الآية: 32.
3- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 53-54.

الثاني: قوله تعالى: {وَالَّٰتِي يَأْتِينَ الْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ...} الآية.

قوله: {يَأْتِينَ} أي يفعلن، يقال: أتاه وأتى به أي فعله، ولعل في التعبير بالإتيان إشعاراً بأن الفعلة ارتكبت بقصد واختيار، إذ لا يقال للمكره والمضطر: إنه أتى بالفعل.

وقوله: {الْفَٰحِشَةَ} يراد بها الزنا، وأصل الكلمة بمعنى تجاوز الحدّ في القبح والشناعة، فالقبائح كلها قبيحة لكن بعضها شديدة القبح متجاوزة بقبحها قبح سائر القبائح، ولذا تطلق الكلمة على الزنا واللواط وعلى الكبائر الموبقة.

وقوله: {مِن نِّسَائِكُمْ} فيه إشعار بكونهن متزوجات، لغلبة استعمالها في هذا المعنى، فحينما يقال: نساء فلان مثلاً يتبادر إلى الذهن زوجاته.

وقوله: {فَاسْتَشْهِدُواْ} أي لا بد من طلب الشهود ممن قذفهن، فلا يجوز الاعتماد على الظنة والتهمة، وما أكثر من يريد هدم بيوت الزوجية أو لا يراعي اللّه تعالى، فيرمي المحصنات المؤمنات الغافلات، فلذا لا بد من طلب الشهود من المدعي، أو المعنى أنه لا يحق للزوج أن يعاقب زوجته باتهام الزنا، بل العقاب خاص بالحاكم الشرعي، وعليه يجب على الزوج إثبات مدعاه عبر إقامة الشهود.

وقوله: {مِّنكُمْ} أي من الرجال المسلمين، فلا اعتبار بشهادة غير المسلم في ذلك، كما لا بد أن يكون الشاهد عادلاً، فالفاسق لا يطلق عليه أنه {مِّنكُمْ}، أو يقال: إنّ سائر الشروط ومنها العدالة مستفادة من آيات أخرى ومن السنة المطهرة.

وقوله: {فَإِن شَهِدُواْ} لبيان أنّ طلب شهادتهم وحدها لا يكفي في

ص: 81

ثبوت الزنا وفي إجراء العقوبة، بل قيل: لا ينفع حتى علم القاضي غير المعصوم، فلا يجوز له أن يعمل بعلمه في هذه القضية، بل لا بد من شهادتهم، وبالشروط المذكورة في باب القضاء، فإن علم القاضي - غير المعصوم - لا ينفع في إجراء الحدود، وقد جعل اللّه تعالى للشهادة موضوعية فيها(1)، لأنّ مبنى الحدود على التخفيف، فلذا تمّ تصعيب شروط ثبوت المحرّمات الجنسية، فهذه العقوبات تشريعها رادع للمجتمع؛ لأنّ ترك الجريمة من غير تشريع عقوبة سبب تجري الناس عليها واستخفافهم بها، فكان لا بد من وضع عقوبة رادعة، وفي الوقت نفسه تصعيب طريقة إثباتها حفظاً للمجتمع وغلقاً للباب على من تسول له نفسه الكذب والافتراء، فتمّ الجمع بين الردع وبين حفظ أواصر المجتمع.

وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} بيان للعقوبة وهي عدم السماح لهن بالخروج من البيت، فهو عقوبة لهن من جهة، ومانع من تكرار الزنا من جهة أخرى.

وقيل: الإمساك أهون من الحبس، فالمراد عدم السماح لهن في الخروج مع كونهن حرائر في البيت، ولكن الحبس فيه إشعار بعدم حريتهن حتى داخل البيت، فتأمل.

وقوله: {حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ الْمَوْتُ} الإمساك في البيت هو منع لهن لكنه منع غير تام، ولكن الموت فيه المنع التام عن كل شيء، ولذا قال: {يَتَوَفَّىٰهُنَّ} أي يقبضهن قبضاً وافياً كاملاً، وبعبارة أخرى الإمساك قبض ناقص،

ص: 82


1- للتفصيل راجع جواهر الكلام 40: 88-90 (ط ج 41: 119-124).

والموت قبض تام كامل.

وقوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} أي إلى أن يجعل اللّه لهن سبيلاً بدلاً عن حكم الإمساك الدائم، وهذا إشعار بأن حكم الإمساك سينسخ، وفي قوله: {أَوْ} دلالة على أنّ السبيل هو عقوبة أخرى تختلف عن عقوبة الإمساك، وبها يتم نسخ عقوبة الإمساك في البيوت.

وقيل: الآية غير منسوخة؛ لأنها تبيّن لزوم النهي عن المنكر بحبس المرأة في البيت حتى لا تتمكن من معاودة المنكر، والنهي عن المنكر لا ينافي إجراء الحدّ، فهذه الآية دلت على النهي عن المنكر عبر الحبس وآية سورة النور دلت على الجلد بمائة جلدة ولا منافاة بينهما، مع أنه في النسخ لا بد من منافاة حكم الناسخ والمنسوخ!

وفيه نظر؛ لأنّ {أَوْ} دليل المغايرة، وأن هناك عقوبة بديلة.

وقوله: {سَبِيلًا} إمّا بمعنى الحكم الشرعي، وكان ذلك الحكم الجلد للمحصن والرجم لغير المحصن.

وإما بمعنى المَخْلَص، ومن المعلوم أنّ الجلد أهون من الحبس المؤبّد؛ لأنه ألم لدقائق تعقبه راحة من العقوبة، ولذا كان الحبس في الإسلام قليلاً جداً، وغالب العقوبات بالجلد والتعزير؛ لأنه روعيت في الجلد العقوبة والردع، مع عدم تعطيل العاصي عن أعماله وعياله، وعدم إلقاء كَلّه ونفقته على بيت المال.

وأما الرجم فهو قتل للمجرم عقوبة له فكيف يكون أهون؟

والجواب: أنه بانتهاء أمد حكم الحبس وتشريع حكم الجلد والرجم يتم

ص: 83

إطلاق سراحهن مع عدم تنفيذ العقوبة الجديدة عليهن، إذ ليس للقانون أثر رجعي كي يتمّ جلد النساء المحبوسات أو رجمهن، بل هذا الحكم هو بمعنى انتهاء عقوبة الحبس لهن مع عدم جلدهن أو رجمهن، فكان ذلك مخلصاً لهن.

ويمكن الجمع بين المعنيين - الحكم والمخلص - بأن حكم الجلد والرجم كما هو سبيل شرعي كذلك هو مخلص لمن ارتكبت الجريمة قبل هذا التشريع، فتأمل.

الثالث: قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَٰنِهَا مِنكُمْ فََٔاذُوهُمَا}.

الظاهر أنّ المراد الرجل مطلقاً - متزوجاً كان أم لا - والمرأة غير المتزوجة إذا زنيا فليست عقوبتهما الإمساك في البيوت كما كان حكم النساء المتزوجات، بل العقوبة هي (الإيذاء) وهو كل ما كرهه الإنسان ولم يكن ضرراً، وحيث لم تعيّن الآية ولا الروايات مصداق ذلك الإيذاء، كانت العقوبة تنطبق على التعيير والضرب غير المبرح ونحو ذلك.

ولعل سبب تفريق الحكم بين المتزوجات وغيرهن أنّ المرأة المتزوجة في عهدة زوج فيمكن تكليفه بإمساكها في البيت وعدم تركها تخرج منه حتى موتها، لكن هناك صعوبة بالغة بالحكم بحبس الرجل في البيت، فمن الذي يقوم بمهمة الحبس؟ وكذلك البنت غير المتزوجة، وخاصة إذا لم يكن أبوها حياً، فيكون في الحكم حرج ومشقة على الآخرين، فتمّ الاقتصار على إيذائهما بالكلام والعمل ليكون الردع والعقوبة معاً.

ثم نسخ هذا الحكم أيضاً، فكلتا الآيتين منسوختان بالجلد لغير المحصن رجلاً كان أم امرأة وبالرجم للمحصن كذلك.

ص: 84

سؤال: الرجم معلوم من السنة، فكيف تمّ نسخ القرآن به، وقد مرّ في سورة البقرة أنه لا تنسخ آيات القرآن إلاّ بآيات أخرى؟

والجواب: أنّ حكم الإمساك والإيذاء نسخ بآية الجلد في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٖ}(1)، ثم أضافت السنة الرجم، فليس الرجم ناسخاً وإنما إضافة للناسخ، فتأمل.

وقيل: هذه الآية في حكم اللواط كما أنّ الآية السابقة في حكم الزنا!

وفيه نظر:

أولاً: لأنّ الضمير في قوله: {يَأْتِيَٰنِهَا} ظاهر في كون هذه الفاحشة نفس الفاحشة في الآية السابقة، وإلاّ لزم الاستخدام وهو خلاف الظاهر.

وثانياً: يلزم عدم ذكر حكم الرجال الزناة؛ لأنّ الآية الأولى في زنا النساء والثانية في اللواط! وهذا أيضاً خلاف الظاهر.

فتحصل أنّ الجمع بين الآيتين والتدبر فيهما يقتضي أنّ الأولى في عقوبة زنا النساء المتزوجات، والثانية في عقوبة زنا مطلق الرجال والنساء غير المتزوجات.

الرابع: قوله تعالى: {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا...} الآية.

هذا فرق آخر بين الحكمين، فالمذكورات في الآية الأولى حكمهن الإمساك إلى حدّ الموت أو يجعل اللّه لهن سبيلاً، وأما المذكورون في الآية الثانية فحكمهم الإيذاء إلى حين التوبة والإصلاح، فإذا تابا وأصلحا سقطت عنهما العقوبة.

ص: 85


1- سورة النور، الآية: 2.

وقوله: {تَابَا} عن ما ارتكباه من الجريمة، وقوله: {أَصْلَحَا} بالالتزام بالأوامر والنواهي، فلا تكفي مجرد التوبة عن الذنب، بل لا بد من شفع ذلك بترك سائر الذنوب وبالالتزام بالأوامر، وذلك لأنّ ارتكاب الزنا إنما هو بسبب فساد في النفس وخلل في العمل، فلا يكفي مجرد الندم والعزم على عدم العود من غير إصلاح الباطن والعمل؛ لأنّ هذا الندم والعزم لا يكفيان في عدم الوقوع في شراك الشيطان مرة ثانية، فما أكثر من تاب توبة حقيقة عن ذنب لكنه سرعان ما رجع إليه؛ لأنّ الندم والعزم على عدم العود يرفعان الذنب السابق وأثره، لكن لا ضمانة في عدم تكرار الذنب؛ لأنّ ما كان سبباً في الذنب الأول سيكون سبباً لتكراره، فلا بد من قلع جذور الذنب من النفس وذلك عبر إصلاح الإنسان نفسه، ولذا شفع الإصلاح بالتوبة.

وقوله: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} أي بترك الإيذاء، فاللّه قد تاب عليهما فلا معنى لاستمرار العقوبة بإيذائهم.

وقوله: {تَوَّابًا} أي كثير الرجوع إلى عباده بلطفه وعنايته، وقوله: {رَّحِيمًا} أي يرحمهم برفع العقاب عنهم كما قبل توبتهم، إذ قد يقبل اللّه تعالى التوبة، لكن مع عدم رفع العقاب الدنيوي، وقد يقبلها مع رفعه، نظير المحارب، حيث قال عنه: {إِنَّمَا جَزَٰؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

ص: 86


1- سورة المائدة، الآية: 33-34.

الآيتان 17-18

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 17 وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 18}

17- وحيث ذكر اللّه تعالى سقوط عقوبة مرتكب الفاحشة إذا تاب؛ لأنه تعالى تواب رحيم، ذكر شطراً حول التوبة فقال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} أي حق جعله على نفسه برجوعه تعالى إلى العبد باللطف والرحمة وعدم المؤاخذة {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَٰلَةٖ} أي سفه منشؤه الجهل {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ} أي قبل حضور الموت {فَأُوْلَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ينفّذ ما وعده بقبول التوبة {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بالتائب الحقيقي وبمصلحة قبول التوبة {حَكِيمًا} في أفعاله ولذا يقبل التوبة من عباده.

18- {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} أي رجوع اللّه على عبده أو قبول توبة العبد {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ} متمادين في غيّهم ومصرّين عليها {حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} عاين أمر الآخرة حين احتضاره {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ} حيث انقطعت أسباب الدنيا وانتهى وقت الامتحان وحلّ وقت الجزاء، {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} من غير توبة لكنهم يندمون على

ص: 87

كفرهم، {أُوْلَٰئِكَ} الطائفتان {أَعْتَدْنَا} هيّئنا {لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} مؤلم لهمجسداً ونفساً.

بحوث

الآيتان 17-18

الأول: قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}.

أصل معنى التوبة بمعنى الرجوع، ثم إنّ بعض الأفعال تتعدى بحروف الجر، وقد يختلف المعنى باختلافها، والتوبة تتعدى ب (على) و(إلى) و(عن).

وفي (التوبة عليه) إشعار بالعلّو، فلذا كانت رجوع العالي إلى الداني فلذا يقال: {تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}(1)، أي رجع اللّه على العبد باللطف والرحمة والكرامة؛ لأن الذنوب سبب انقطاع بعض تلك الرحمات والألطاف، وفي (التوبة إليه) إشعار برجوع الداني إلى العالي، أي رجع إليه بعد انقطاعه عنه بسوء اختياره، وأما (التوبة عنه) فهي رجوع عن الذنب وعن المعصية إلى الطاعة.

و(توبة اللّه على العبد) قد تكون قبل الذنب وبعده، فاللّه تعالى يوفّق العبد للتوبة، ثم لمّا يتوب يطهّره عن دنس الذنوب بمحو آثارها، وقد تكون من غير ذنب فتكون بمعنى زيادة ألطافه ورحماته كما في قوله: {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ }(2)، وقال: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ} إلى قوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا

ص: 88


1- سورة المائدة، الآية: 71.
2- سورة التوبة، الآية: 117.

إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(1)، أي اعطف علينا باللطف والرحمة، فهيتوبة عليهم من غير ذنب اقترفوه، إلاّ أن يقال: إنه وإن لم يصدر منهم ذنب إلاّ أنّ اقتضاء إمكان الممكن وكذا الاضطرار إلى القيام بالأمور الاعتيادية من المأكل والمشرب ونحوهما بنفسها قد توجب بُعداً عنه تعالى، فأرادوا عدم قطع ألطافه في تلك الأحوال، فالرجوع إليهم يكون باستمرار العطف والرحمة والكرامة وكذا بزيادتها، ولذا قيل: توبته على العبد: جلب عباده إلى بابه بتعريف نفسه إليهم وبتحبيبه لهم أو بتخويفهم من سطوته أو بغير ذلك من الأسباب التي لا يحصيها ولا يعرفها غيره سبحانه(2).

ثم إنه لا أحد له حق على اللّه تعالى بالذات، فهو الغني وجميع الخلق فقراء إليه، ولكنه قد يَعِد بشيء لطفاً منه وكرامة، فيكون ذلك الشيء حقاً عليه باعتبار وعده، كما قال: {كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(3)، وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(4)، وأما قول المتكلمين: (يجب على اللّه كذا) فلا يراد التكليف، بل يراد أنّ ذلك الفعل هو مقتضى عدله وحكمته؛ لأنّ خلافه قبيح وهو تعالى منزه عن فعل القبيح، فمثلاً لو وعد اللّه بشيء فعدم الوفاء به قبيح، واللّه يتعالى عن القبيح.

ثم إنّ قبول التوبة ليس واجباً عليه تعالى بالذات، فالمجرم لا وجوب عقلاً لقبول اعتذاره وندمه حتى لو أصلح ما أفسده، فلذا ترى العقلاء في أحكامهم

ص: 89


1- سورة البقرة، الآية: 127-128.
2- مناهج البيان 4: 317.
3- سورة يونس، الآية: 103.
4- سورة الروم، الآية: 47.

الوضعية يعاقبون المجرم حتى لو اعترف وندم، نعم قد يتم العفو عنه أو تخفيف العقوبة لكن ليس باعتبارهما واجبين، بل من باب الرحمة والعطف.وعليه: فقضاؤه سبحانه بالتوبة ووعده بها إنما هو تفضّل منه ورحمة على عباده؛ لأنه خلقهم ليرحمهم كما قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، ورحمته سبقت غضبه، فما دام هناك قابلية للإنسان للرحمة فإن اللّه تعالى يرحمه، ومن ذلك قبول توبة العبد حتى لوتكرر الذنب منه، إلاّ لو فقد الإنسان القابلية لها، فحينئذٍ مقتضى الحكمة عدم الرحمة، وقد مرّ أنّ صفاته تعالى لا تتناقض، فمنشأ أفعاله هو صفاته الذاتية، والحكمة من صفات الذات؛ لأنّ مرجعها إلى العلم، وأما الرحمة فهي من صفات الفعل، فلذا تكون رحمته - على سعتها - مقيّدة بحكمته.

الثاني: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَٰلَةٖ}.

قوله: {السُّوءَ} بمعنى الذنوب والعمل الحرام؛ لأنه يُسيء إلى مرتكبه، ولا فرق في كونه معصية أم كفراً وشركاً، فالمشرك إذا ارتدع عن شركه وآمن دخل في زمرة المؤمنين، فأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}(2)، فالمراد من مات على الشرك فهذا غير مغفور له ألبتة ويخلّد في نار جهنم مهاناً، قال تعالى: {إِنَّهُۥ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَىٰهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ}(3)، أي ليس لهم شفعاء أبداً.

ص: 90


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة النساء، الآية: 48.
3- سورة المائدة، الآية: 72.

وقوله: {بِجَهَٰلَةٖ} بمعنى السفه الذي منشؤه الجهل، فالذي يرتكب القبيح عامداً عالماً - بالموضوع والحكم - بسبب غلبة الهوى والنفس الأمّارةبالسوء - هو سفيه؛ لأنه يجرّ وبالاً عليه، كما أن منشأ سفهه الجهل، قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥ}(1)، وفي الحديث: «قيل ما العقل؟ قال: ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان»(2).

وحتى المعاند فإنّ عناده سفاهة عن جهل، وكان قوم لوط معاندين ومع ذلك قال عنهم: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}(3)، وكذلك قال عن عاد: {وَلَٰكِنِّي أَرَىٰكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}(4)، ولذا لو تاب المعاند كانت توبته مقبولة.

وقيل: إنّ المعاند لا يتوب ولو تاب فتوبته كاذبة، فلذا ليس عمله عن جهالة، بل عن عناد!

وفيه نظر: لأنه قد يتوب توبة صادقة بزوال أسباب عناده، نعم ذلك قليل، فأكثر المعاندين يستمرون في عنادهم فلا يتوبون، مضافاً إلى أنّ منشأ العناد هو الجهل، إذ العلم نور فلا يكون منشأ للظلمة، نعم قد لا يؤثر العلم بسبب وجود موانع من النفس والهوى وحب الدنيا وغيرها كما قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(5)، فاتباع هذه الموانع وعدم اتباع العلم هو الجهل والسفه بعينه، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:

ص: 91


1- سورة البقرة، الآية: 130.
2- الكافي 1: 11.
3- سورة النمل، الآية: 55.
4- سورة الأحقاف، الآية: 23.
5- سورة النمل، الآية: 14.

«كل ذنب عمله العبد وإن كان عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه فيمعصية ربه»(1).

وعليه فالتقييد ب (الجهالة) لبيان سبب عملهم السوء، لا لإخراج المعاند، ولا هو قيد توضيحي، ولذا قيل: هو بيان أن الجهل سبب لعملهم السوء فلا عذر بهم فيه؛ لأنه جهل عن تقصير، مع بيان لطف اللّه تعالى في قبول توبتهم مع أنه كان يمكن مقاضاتهم وعقوبتهم وعدم قبول توبتهم.

والحاصل أنّ قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} ليست بمعنى كونها حقاً واجباً عليه بالذات؛ وذلك لكون عملهم بجهالة فكانوا مستحقين للعقاب، لكن اللّه تعالى تفضّل عليهم بالقبول.

الثالث: قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ}.

أي في وقت قريب لزمان المعصية، وذلك يستمر إلى قبل الاحتضار والمعاينة، فأمد الحياة قصير مهما طال، وفي ذلك حثّ على تسريع التوبة، إذ لا يعلم الإنسان متى يخترمه الموت، وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على وجوب المبادرة إلى التوبة، خروجاً عن المعصية والتزاماً بالعبودية ودفعاً للضرر العظيم بحضور الموت قبل التوبة، وقد تمّ - بقرينة المقابلة - بيان {مِن قَرِيبٖ} في الآية التالية بقوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ...} الآية.

وبذلك يتضح أنّ التوبة مهما تأخرت، فهي مقبولة قبل حضور الموت.

الرابع: قوله تعالى: {فَأُوْلَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.

ص: 92


1- تفسير العياشي 1: 228.

هذا ليس تكراراً لقوله في صدر الآية: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}، بل ما في صدر الآية بيان أنها حق عليه بوعده، وهذه لبيان تنفيذه لما وعده، كماتقول: وعدته بدينار فأعطيته إياه، فهو تعالى كتب على نفسه الرحمة بقبول التوبة ثم يفي بما كتبه.

أو أنّ الأولى بيان أنها حق لهم ولذا قال: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ}، والثانية بيان أنّ كونها حقاً لهم لا تنافي استعلاءه وتفضّله، ولذا قال: {عَلَيْهِمْ}، فصيرورتها حقّاً لهم - لأنه وعدهم بها - لا يخرجها عن التفضّل عليهم، كما لو وعدت إنساناً بمال، ثم وفيت بوعدك فسلمته له، فتسليمك المال إياه وإن كان حقاً له بسبب وعدك، إلاّ أن التفضّل فيه باق، فهو تفضّل عليه رغم وجوبه عليك، نعم لو لم يكن منشأ الحق التفضّل فلا يكون الوفاء به تفضلاً، كما لو سلّم المديون دينه إلى الدائن فهو حق عليه من غير تفضّل، ولا يكون من اللّه إلا التفضّل سواء جعله حقاً عليه أم لا.

وقوله: {عَلِيمًا} لبيان علمه بالتائب الحقيقي من غيره، فما أكثر من يتظاهر بالتوبة وليس بتائب، كما أنه عالم بحال عباده وقد علم أن التوبة تصلحهم، فلذا فتح باب التوبة، فليست التوبة إغراءً بالمعصية، بل سدّ لبابها، فإنّ العاصي إذا علم بأنه معاقب لا محالة تنتابه حالة اليأس، فلذا يتمادى في غيّه، أما لو علم بأنّ باب التوبة مشرعة أمامه فإنه قد يتوب ويصلح أمر نفسه.

وقوله: {حَكِيمًا} لبيان أنّ قضاءه بالتوبة وبقبولها هو وضع للشيء في موضعه، وإحكام لأمر العباد وتحبيب للطاعة.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ...} الآية.

ص: 93

بيان لعدم وعده التوبة لصنفين:

1- الذين يريدون التوبة حين الاحتضار ومعاينة الآخرة، فهؤلاء - حتىلو كانوا مؤمنين - ليس هناك وعد بقبول توبتهم وعدم عقابهم، بل إن كانوا مؤمنين فأمرهم متروك إلى مشيئة اللّه تعالى إن شاء عذبهم بذنوبهم وإن شاء غفر لهم برحمته، قال تعالى: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}(1)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(2)، ولا يخفى أنّ غفرانه تعالى وإن كان رجوعاً إليهم بلطفه ورحمته، إلاّ أنه لا يُسمى توبةً، بل مغفرة ورحمة.

2- الذين يموتون وهم كفار، فلا وعد بالتوبة عليهم، بل إخبار عن عقابهم وعدم الغفران لهم أبداً.

ولا يخفى أنه يجوز عقلاً ترك الوعيد، بل قد يكون العفو وعدم العقاب مستحسناً، لكن لا يجوز الكذب فإنه قبيح، وبالنسبة إلى الكفار فقد أخبر اللّه بخلودهم في نار جهنم فيقبح العفو عنهم؛ لأنه يستلزم كذب إخباره واللّه منزه عن ذلك سبحانه وتعالى.

وقوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} بيان لعدم الوعد بها، ولم يقل: {عَلَى اللَّهِ} كما في الآية السابقة، إما لوضوحه اعتماداً على ذكره في القسم الأول، أو لبيان عدم الاعتناء بهم وبشأنهم.

وقوله: {السَّئَِّاتِ} سواء كانت كفراً أم سائر المعاصي، قيل: إنما جمع

ص: 94


1- سورة التوبة، الآية: 106.
2- سورة النساء، الآية: 116.

السيئات هنا مع إفراد السوء في الآية السابقة؛ لأنّ المؤمن لا يدع السيئات تتجمع فإذا عمل سوءاً استغفر اللّه، عكس غير المؤمن فهو يستمر فيالمعاصي فتتراكم عليه السيئات.

وقوله: {حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} أي عاين أمر الآخرة، فإنه لا توبة مع المعاينة، فإن المحتضر في آخر لحظات حياته وقبل موته ينكشف الغطاء عنه فيرى الآخرة قبيل موته، فيرى الملائكة، كما أنه يرى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ويرى الجنة والنار وغير ذلك مما هو مذكور في الروايات.

وقوله: {حَضَرَ أَحَدَهُمُ} ولم يقل: (حضرهم) لعله لأجل أنّ الباقين من أصدقاء السوء لا يعتبرون بموت صاحبهم فيستمرون في غيّهم، أما هو فيندم ولات حين مندم.

وقوله: {الْمَوْتُ} فاعل، أي جاء الموت ليأخذه، فهو كاره له، لكن للموت سلطان، وهو مجاز بمعنى مشارفة الموت، وقيل: هو بحذف المضاف أي ملائكة الموت.

وقوله: {الَْٰٔنَ} تأكيد على عدم توبته من قبل، بل يريد التوبة في تلك اللحظة، كما في فرعون حيث أراد التوبة حين موته، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَٰءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَالَْٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(1).

ولعلّ سبب عدم قبول توبته حينئذٍ هو أنها ليست توبة حقيقية، بحيث لا

ص: 95


1- سورة يونس، الآية: 90-91.

يعزم على عدم العود إلى معصيته، بل هي ندم المضطر الذي يريد التخلص من العقاب، ولذا عبّر عنه بقوله: {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ} أي توبته لقلقة لسانوليست توبة حقيقية، عكس المذكورين في الآية السابقة حيث عبّر عنهم بقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ}، ولذا تراه يعود إلى ذنبه فوراً لو أعيد إلى الدنيا، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بَِٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1)، وقد يشاهد ذلك في بعض المجرمين أصحاب السوابق يُظهرون ندماً في المحكمة ووعداً بإصلاح أمرهم، لكنهم يعودون إلى جرائمهم فور إطلاق سراحهم.

وإنما لم يعدهم اللّه بالتوبة؛ لأن الكافر لا قابلية له للرحمة، وأما العاصي غير التائب فقد تكون المصلحة في عقابه لتصفو نفسه ويتخلص من درن الذنوب، لذا تركه اللّه إلى مشيئته إن شاء غفر له وإن شاء عذّبه.

وأما ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة وكانت للجاهل توبة»(2)، فلعل المراد بالجاهل هو القاصر المعذور في جهله، فهذا يمتحن في الآخرة فإن نجح في امتحانه رجع اللّه عليه بالرحمة والمغفرة، أو المراد بالتوبة المغفرة، أي قد لا يغفر اللّه للعالم وقد يغفر للجاهل، أو يراد بالعالم من عاين أمر الآخرة فعلم بها حق اليقين، وبالجاهل الذي لا زال لم يُعاين؛ لأنّ بلوغ

ص: 96


1- سورة الأنعام، الآية: 27-28.
2- الكافي 2: 440.

الروح إلى الحلق أعم من المعاينة فقد تبلغ ولم يعاين، أو تبلغ وقد عاين، فتأمل.وقوله: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي شقوتهم كانت بحيث لم يتوبوا حين الاحتضار مع معاينتهم ما عاينوا، أو لم يمهلهم ملك الموت حتى بمقدار إظهار توبة.

وقوله: {أَعْتَدْنَا} أي هيئّنا لهم ذلك العذاب، قالت المعتزلة: إنّ هذه الآية وأمثالها تدل على عدم العفو عن مرتكب الكبيرة من المؤمنين.

والجواب: أنّ التهيئة غير التنفيذ، فقد يُهيِّئ الإنسان شيئاً للعقاب ثم لا ينفذه، هذا أولاً.

وثانياً: أنّ هذه الآية مقيّدة بآيات أخرى دالة على العفو كقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1)، فقد تكون آية عامة أو مطلقة لكنها مقيدة أو مخصصة بآية أخرى، سواء في مجال الأحكام أم في غيره.

وثالثاً: هذا وعيد، ولا يجب عقلاً الوفاء به، بل قد يحسن العفو، فليس يراد به الإخبار كي يكون خلافه كذباً قبيحاً.

ص: 97


1- سورة النساء، الآية: 48.

الآيات 19-21

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَئًْا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا 19 وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٖ مَّكَانَ زَوْجٖ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَئًْا أَتَأْخُذُونَهُۥ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا 20 وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُۥ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا 21}

19- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} خاطبهم مع أنّ الحكم عام؛ لأنهم المنتفعون به، والمراد الأزواج، {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ} فالأزواج كانوا يحسبونها من غير أداء حقوقها طمعاً في إرثها بعد موتها، ومناط الحكم يشمل الأقرباء حيث كانوا يمنعون اليتيمة من الزواج كذلك لطمع إرثها، أو يرثون زوجة الميت فيتزوجونها من غير مهر أو يزوّجونها ويقبضون المهر دونها، فكل ذلك منهي عنه {كَرْهًا} أي على كره منهن.

{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} أي لا تعلّقوهن فتمسكونهن ضرارا بهن {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} أي المهر أو بعضه، فتضطر للتخلص من حالة التعليق وعدم أداء الحقوق للتنازل عن ذلك، {إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ} واضحة وظاهرة، والفاحشة أعم من الزنا وقبيح القول والفعال، فحينئذٍ يجوز

ص: 98

أخذ المال بالخلع مع رضاها بذلك، {وَعَاشِرُوهُنَّ} صاحبوا الزوجات {بِالْمَعْرُوفِ} ما يعرفه الشرع والعقل، وذلك بالقول الحسن والفعل المستحسن، {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} فلا تستعجلوا في الطلاق، بل اصبروا عليهن {فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَئًْا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} من منافع حتى مع الكره، أو من انقلاب الكره إلى حبّ.

20- {وَ} إذا وصل الأمر إلى الطلاق ف {إِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٖ مَّكَانَ زَوْجٖ} بتطليق زوجة ونكاح أخرى {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ} إحدى الزوجات - سواء السابقة أو اللاحقة - {قِنطَارًا} ملء جلد ثور ذهباً ومجوهرات، كناية عن الكثرة، {فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ} منه القنطار أي المهر {شَئًْا} ولو قليلاً، ثم يوبّخ اللّه ويستنكر عليهم {أَتَأْخُذُونَهُۥ بُهْتَٰنًا} أي أخذاً بهتاناً {وَإِثْمًا مُّبِينًا}.

21- {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُۥ} بالبهتان والإثم {وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ} أي لامس الزوج زوجته كناية عن الوقاع، والغرض بيان شدة قربكم فكيف تبتزون حقوقهن مع ذلك {وَأَخَذْنَ} أخذت الزوجات {مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا} وهو العقد الذي مقتضاه كون المهر حقاً لهن.

بحوث

الأول: نظم الآيات هو في استمرار بيان أحكام الزوجية، فبعد أن ذكر حكم الزوجة العاصية بالزنا مع فتح باب التوبة، يأتي ذكر عصيان الزوج بالنسبة إلى زوجته بعدم أداء حقها - في المهر والنفقة والعشرة ونحو ذلك - فالخطاب للأزواج، ولكن مناط الحكم أوسع فهو ظلم القريب للنساء، ولذلك عمّمت الروايات الآية لتشمل الأقرباء الذين يمنعون النساء

ص: 99

حقوقهن، فتضمنت هذه الآيات ثلاثة حالات:

1- تعليق الزوجة فلا ينفق عليها ولا يؤدي سائر حقوقها؛ لأنه راغب عنها لا يريدها، لكنه لا يطلقها طمعاً في إرثها، والذي منه إرث مهرها.والمناط يشمل عدم إنكاح اليتيمة كذلك للطمع في إرثها؛ لأنها لو تزوجت صار مالها بيد زوجها وكان إرثها له بالمقدار الذي عيّنه الشرع.

كما يشمل المناط النهي عن فعلة كانت في الجاهلية بحيث يرث الرجل زوجة قريبه الميت إن شاء تزوجها من غير مهر، وإن شاء زوّجها لمن يشاء ويقبض هو المهر فيستولي عليه.

وقد وردت الروايات بالموارد الثلاثة(1)، وحيث إنّ سياق الآيات هو خطاب الأزواج، فالجمع بين هذا السياق وبين الروايات يقتضى حمل المورد الأول على أنه تفسير للآية، وحمل الموردين الثاني والثالث على أنهما تنظير وبيان الاشتراك في الحكم لوحدة المناط وهو ظلم المرأة في أمر يتعلق بالزواج أو المنع عنه طمعاً في مالها.

2- عضل الزوجة، وذلك بالتضييق عليها لتضطر إلى الخلع، فتهب مهرها أو بعضه لتخليص نفسها من ظلم زوجها.

3- منع مهر الزوجة، وغالباً يكون ذلك حين استبدال زوجة بأخرى، بأن يطلق الأولى ويتزوج بالثانية، فإما يمنع الأولى عن مهرها بأن يعطيه للثانية، أو يمنع الثانية عن المهر باعتباره قد أعطى مهراً للأولى، وهذه بدل عنها فلا تستحق مهراً.

ص: 100


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 58-59.

وكل ذلك ظلم، فلذا نهى اللّه تعالى عنه في هذه الآيات أشد النهي.

إلزام الكفار بما يعتقدون

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهًا}.

خطاب للمؤمنين تشريفاً لهم؛ ولأنهم المنتفعون بهذه الأحكام، إذ الأحكام الفرعية، وإن وجبت على الكفار أيضاً - لأنهم مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول - إلاّ أن المطلوب أولاً وبالذات من الكفار الإيمان وبعده الالتزام بلوازمه، فما دام الإنسان على الكفر ألزمه الإسلام بما ألزم به نفسه في حدود الأحكام الشخصية، نعم الأحكام الاجتماعية العامة لا بدّ للكافر من الالتزام بها، مثلاً لو أراد الكافر شرب الخمر فلا يمنع عنه بالقهر ولا يجري عليه الحدّ، لكن لا يجوز له التظاهر بذلك علناً في بلاد المسلمين، وفي الحديث: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»(1)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم»(2).

والمراد بهم الأزواج بقرينة السياق، حيث إنّ الحكم الثاني {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} والثالث {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٖ...} موجّهان إلى الأزواج، فكذلك هذا الحكم.

وقوله: {تَرِثُواْ النِّسَاءَ} أي تأخذوا إرثهن بعد موتهن، والمراد النهي عن السبب، وهو إمساكهن بغير المعروف فيبقين زوجات إلى حين موتهن

ص: 101


1- وسائل الشيعة 26: 320.
2- بحار الأنوار 10: 118.

حيث ترثونهن، فقوله: {كَرْهًا} لبيان حالة الإمساك، حيث إنّ الزوجة تكره بقاءها معلّقة من غير حقوق لطمع الزوج في إرثها، أما لو كان زوجها يعاشرها بالمعروف فعادة ترغب في استمرار العيش معه وترضى بأن يكونوارثها لو ماتت قبله.

الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ...} الآية.

(العضل) هو المنع الشديد، فالمعنى التشديد عليهن وإضرارهن ومنعهن حقوقهن وذلك بغية إبطال مهورهن بالتنازل عنه للتخلّص عن جحيم هذه الحياة، فهذه الحالة في الطمع في مهرها، والحالة السابقة في الطمع في إرثها.

وقوله: {لِتَذْهَبُواْ} أي بغرض الذهاب بحقها في المهر، بأن يطلقها الرجل فيذهب بمالها بدلاً من أن تذهب هي به.

وقوله: {بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} أي المهر أو بعضه؛ لأن الرجل يعطي زوجته أموراً متعددة كالنفقة والهدايا ونحوها، وعادة لا يريد استرجاع هذه، وإنما العادة الضغط للتنازل عن المهر، فالمهر هو بعض ما آتاها.

أو يقال: إنّ العادة تقتضي إعطاء بعض المهر للزوجة حين الزواج وبقاء البعض الآخر في ذمة الزوج، فالغالب يريد الزوج تنازلها عمّا في ذمته وهو بعض المهر.

أو يقال: إنّ بيان الأدنى يعلم منه حكم الأعلى، فإذا لم يجز الضغط لتتنازل عن البعض، فالضغط لتنازلها عن الكل أولى بالمنع، فيكون الغرض بيان أهمية تسليمها حقوقها كاملة غير منقوصة، بحيث لا يجوز العضل

ص: 102

للذهاب حتى ببعضه.

وقوله: {إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ} استثناء من العضل ليذهب ببعض ما آتاها، فالمعنى لا يجوز العضل بغية تنازلها عن مهرها أو عن بعضه إلاّ لوارتكبت فاحشة واضحة، فحينئذٍ يجوز التضييق عليها لتخالعه على بعض ما آتاها.

و(الفاحشة) كل معصية متجاوزة للحد كالزنا، وقوله: {مُّبَيِّنَةٖ} إما بمعنى المجاهرة بتلك الفاحشة بحيث اشتهرت عنها، أو قيد توضيحي، أي العمل الذي هو واضح أنه فاحشة لا كل معصية، ولذا أدخل بعض الفقهاء النشور في الفاحشة المبينة، أي معصية متجاوزة للحدّ بحيث يعرف الناس أنها متجاوزة للحد، وعلى كل حال فالقدر المتيقن من الفاحشة هو الزنا، وكلّما شك في كونه فاحشة مبينة فلا يكون داخلاً في الاستثناء.

قال في الشرائع: إذا أتت بالفاحشة جاز عضلها لتفدي نفسها، وقيل: هو منسوخ ولم يثبت.

وقال في الجواهر: إنّ المراد جواز إكراه المرأة الكارهة لزوجها التي هي موضوع الخلع إذا جاءت بالفاحشة، وهي نشوزها وخروجها عن طاعته لكراهتها له، بالتضييق عليها من الهجر وقطع النفقة وغير ذلك مما هو جائز لها، حتى تفدي نفسها منه بما يشاء منها، وهو في الحقيقة ليس إكراهاً بما لا يجوز له، بل هو إكراه بحق(1).

وإن شئت التفصيل فراجع موسوعة الفقه للوالد (رحمه اللّه) (2).

ص: 103


1- جواهر الكلام 33: 62، (34: 109، ط ج).
2- الفقه 71: 53-61.

ولعل سبب ذلك هو أنّ المرأة بعملها الفاحشة المبينة لم تدع مجالاً للزوج للبقاء معها، فهو يضطر إلى طلاقها بسبب سوء فعلتها، فكان عليها أن تتحمل تبعات هذا الطلاق بأن تحرم من مهرها أو جزء منه، لئلا يجتمع علىالزوج ضررها عليه بفاحشتها ودفع مال لها!

والحاصل أنها بسوء صنيعها استحقت التضييق عليها لتتنازل عن الالتزامات المالية التي كانت في ذمة الزوج، وهذا أمر متعارف عند العقلاء بأن يحمّلوا التبعات المالية على من يكون سبباً في الخلل في العقود.

الرابع: قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ...} الآية.

بعد أن نهى اللّه تعالى عن إرثهن كرهاً وعضلهن، أمر بأن تكون المعاشرة مع الزوجات بالمعروف - وهو الذي يعرف الشرع والعقل حسنه - وقد بيّن اللّه تعالى المعاشرة بالمعروف بقوله: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}(1)،

ويكون ذلك بأداء حقوقهن في النفقة والقَسم والمهر ونحو ذلك. وبعدم ضربهن وإهانتهن، وبمعاملتهن بالمودة والرحمة، وأما في تفاصيل الأمور فالمرجع هو العرف، وذلك قد يختلف من مكان لآخر، ومن زمان لآخر، وقد يلاحظ العرف شأن الزوج والزوجة أيضاً فلا بد من الالتزام بما هو المعروف عرفاً بشرط عدم تعارضه مع الشرع الأقدس.

وقوله: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} تحبيب للاستمرار في الحياة الزوجية حتى لو كره الزوج زوجته، وأنه من الممكن المعاشرة بالمعروف حتى مع الكره

ص: 104


1- سورة الروم، الآية: 21.

القلبي، فقد يكره الرجل زوجته لبعض الأمور، لكن لو عاشرها بالمعروف قد يزول الكره أو يزول سبب الكره؛ لأن الحب والبغض وإن لم يكونا اختياريين بنفسيهما، إلاّ أن أسبابهما قد تكون اختيارية، فمثلاً قد تكرهشخصاً، لكنه لو واصل الإحسان إليك قد ينقلب بغضك إياه إلى محبتك له، أو قد تحب شخصاً لكن لو أساء إليك فقد تكرهه.

وقوله: {فَعَسَىٰ} هنا جزاء محذوف، وإقامة السبب مقام المسبب، أي فإن كرهتموهن فاصبروا ولا تستعجلوا في الطلاق، وسبب ذلك أنه قد يجعل اللّه خيراً كثيراً فيها.

وقوله: {خَيْرًا كَثِيرًا} من المحبة والوئام أو الثواب الأخروي أو الذرية الصالحة أو دفع بلاء ونحو ذلك، وربّ مكروه هو أنفع للدين والدنيا، ورب محبوب هو أضرّ على الإنسان من كل شيء.

وقوله: {شَئًْا} مع قوله: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ}، ولم يقل: (أن تكرهوا إنساناً) لعلّه لبيان أنّ منشأ الكره ليس هو ذات الزوجة، بل الأمور المحيطة بها من قبح منظر أو نحو ذلك، فكراهة الإنسان لهذه الأمور سرت إلى الزوجة فكرهها، لكن قد تكون في الزوجة نقاط إيجابية أخرى بحيث تغطي على الأمور المكروهة فيها، فقد تكون قبيحة، لكنها ودود ولود مطيعة ونحو ذلك مما تكون سبباً لزوال ذلك البغض، أو يقال: إنّ نفس سبب الكره قد يكون خيراً، فالدميمة مثلاً لا يطمع فيها الأجانب فتكون أقرب إلى العفة!

الخامس: قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٖ مَّكَانَ زَوْجٖ...} الآية.

ص: 105

هذا بيان حكم من قطع أمره على طلاق زوجته ويريد التزوج بغيرها، فحيث إنّ ذلك يكلّفه مهرين - مهر المطلقة ومهر الزوجة الجديدة - فقد يريد التخلص من أحد المهرين، والغالب منع الأولى حقها ليعطيه للثانية،وأحياناً منع الثانية مهرها باعتبار أنها بديلة للأولى وقد أمهرها!! ولذا عبّر عن الزوجتين بقوله: {إِحْدَىٰهُنَّ} أي إحدى الزوجات سواء الأولى أم الثانية، فهي تستحق المهر من غير نقصان لحقها، فحيث إنّ الزوج أراد الانفصال فلا بد له من تحمل جميع تبعاته، ومنها إعطاء الزوجة الأولى المطلقة حقها كاملاً غير منقوص، وهو الذي يريد النكاح بالثانية فكذلك لا بد من إعطائها حقها غير منقوص، نعم لو أرادت الزوجة الانفصال أمكنه أن يخالعها كما قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَئًْا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}(1).

وقوله: {قِنطَارًا} قد مرّ أن القنطار هو جلد الثور المليء بالذهب والمجوهرات، وهو كناية عن الكثرة، فلا تحديد للمهر، بل إذا اتفقا على شيء لزم الزوج ذلك، نعم الأفضل هو مهر السنة، وهو المهر الذي أمهر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) زوجاته به، وهو خمسمائة درهم(2)، بما يعادل 5/262 مثقال صيرفي من الفضة(3).

وقوله: {فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَئًْا} أي ولو قليلاً، وهو حث بعدم التماهل

ص: 106


1- سورة البقرة، الآية: 229.
2- راجع وسائل الشيعة 21: 244-249.
3- وهو يقارب الكيلو والربع تقريباً.

والتساهل في موضوع المهر؛ لأنه حق في الذمة، لكن الغالب تماهل الناس فيه أو في القليل منه مستغلّين ضعف الزوجة وحاجتها.

قوله: {بُهْتَٰنًا} أي أخذاً بهتاناً، من البهت، إذ يُبهت صاحبه فلا يتمكنمن الكلام أو المطالبة بالحق، وعادة يطلق على الظلم الشنيع؛ لأن المظلوم يكلّ عن حجته ويبهت لشناعة ذلك الظلم، وقد يكون من مصاديق البهتان هو اتّهام الزوجة بالفاحشة لتضطر إلى أن تفدي نفسها بمهرها.

وقوله: {وَإِثْمًا مُّبِينًا} ليس عطفاً توضيحياً على {بُهْتَٰنًا}، بل البهتان يرتبط بالزوجة حيث تكلُّ عن حجتها، والإثم المبين يرتبط بمخالفة تشريع اللّه تعالى بحرمة هذا التصرف، ولذا قيل البهتان هنا بمعنى الظلم، والإثم المبين بمعنى المعصية، فهو ظلم محرّم فتأمل.

السادس: قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُۥ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ...} الآية.

الظاهر أنّ المعنى أنه بالمباشرة ثبت كل المهر للزوجة فلا يحق لكم أخذ شيء من المهر، بل لا بد من إعطائها كلّه، نعم لو لم يلامسها فلا يحق لها إلا نصفه، كما قال تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}(1)، ومن ذلك يتضح أنّ الإفضاء هنا بمعنى الجماع، وأصل الإفضاء هو الوصول إلى الشيء، وقد مرّ أنه في الكلام الفصيح يتم مراعاة الأدب، فلا يعبر عن ذلك إلا بالكناية كالجماع والوطء والملامسة والمباشرة والإفضاء ونحو ذلك دون اللفظ الصريح

ص: 107


1- سورة البقرة، الآية: 237.

الذي ينزه عنه كلام الحكيم؛ لأنه يستقبح ذكره.

وقوله: {مِّيثَٰقًا غَلِيظًا} أي العقد، فلم يكن المباشرة من دون عقد كالزنا حيث لا حرمة له، أو وطء شبهة حيث يجب مهر المثل فقط، بل كانتالمباشرة ضمن عقد شرعي وقد كان المهر في ضمن العقد فهو ميثاق غليظ لا يمكن التملّص منه، فهو التزام واجب الوفاء به.

والحاصل: كان هناك عقد شرعي وقد ثبت جميع المهر بذمة الزوج بإفضائه إلى زوجته فلذا لا يحق له أكل شيء منه.

وقوله: {بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ} ولم يقل: (وقد أفضيتم إليهن) لعلّه لأنّ الإفضاء قد يكون بمبادرته وقد يكون بمبادرتها، فتأمل.

ص: 108

الآيات 22-24

اشارة

{وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا 22 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَٰلَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَٰئِبُكُمُ الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّٰتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا 23 وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 24}

ثم ذكر اللّه تعالى المحرمات من النساء عن المحللات منهن فقال:

22- {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ} «ما» موصولة، و«من النساء» بيان لها، فقد كان أهل الجاهلية إذا مات الأب تزوج الابن بزوجته إذا لم تكن أمّه، {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قبل الإسلام، فإن الإسلام يَجُبّ ما قبله، فذلك ذنب مغفور ولا يترتب أثر الذنب بعد الإسلام، {إِنَّهُۥ} إن

ص: 109

نكاح زوجة الأب {كَانَ فَٰحِشَةً} قبيحاً متجاوزاً الحدّ في القبح؛ لكون زوجة الأب من المحارم {وَمَقْتًا} أي ممقوتاً، والمقت: شدة البغض، كان يمقته ذوو المروءات، كما أن اللّه يمقته أيضاً {وَسَاءَ سَبِيلًا} طريق سيّئ، وهذا مبالغة في ذمّ سالك هذا الطريق.

23- ثم يبيّن اللّه تعالى المحرمات من النساء وهن أصناف ثلاثة: المحرمات بالنسب، وبالرضاع، وبالسبب، فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ} أي حُرّم نكاحهن، والأم هي كل أنثى ولدت الإنسان - بالمباشرة أو بالواسطة - فتدخل الجدات كلهن، {وَبَنَاتُكُمْ} وهي كل أنثى ولدها الإنسان مباشرة أو بالواسطة، فتدخل جميع الحفيدات، {وَأَخَوَٰتُكُمْ} وهي كل أنثى جمعها مع الإنسان صلب أو رحم مباشرة، فتشمل الأخوات من الأبوين أو من الأب أو من الأم، {وَعَمَّٰتُكُمْ} وهي أخت لذكر يرجع نسب الإنسان إليه بواسطة أم بدونها، {وَخَٰلَٰتُكُمْ} وهي أخت لأنثى يرجع نسب الإنسان إليها مباشرة أم بواسطة، {وَبَنَاتُ الْأَخِ} ويشمل حفيداته، {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} ويدخل فيها حفيداتها، هؤلاء كلهنّ من النسب.

{وَ} أما المحرمات من الرضاع: ف {أُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ} أي النساء اللاتي أرضعنكم - بالشروط التي حدّدها الشرع - فِصرن أمهاتكم بالرضاعة، {وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ} بأن صارت الرضاعة سبباً للأخوّة، سواء كانت بنت المرضعة نسباً أو رضاعاً، أم ارتضعت من أمّك النسبيّة بشروط مذكورة في الكتب الفقهية، وكذلك تحرم بدلالة السنة سائر

ص: 110

القرابات الرضاعية، فإنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب.

{وَ} أما المحرمات بالسبب: فقد حرمت عليكم {أُمَّهَٰتُ نِسَائِكُمْ} فتحرم بمجرد العقد سواء دخل بالزوجة أم لا، {وَرَبَٰئِبُكُمُ} بنات زوجاتكم من غيركم {الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم} في أحضانكم كناية عن كونها في رعايتكم وتربيتكم {مِّن نِّسَائِكُمُ الَّٰتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} باشرتموهن، وبدونه لاحرمة ولا محرمية، {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ} بأن طلقتموهن أو متن قبل المباشرة {فَلَا جُنَاحَ} لا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ} في نكاح بناتهن، {وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ} زوجاتهم سواء دخلوا بهن أم لا {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ} لا الأدعياء وهم الأبناء بالتبنّي، فقد ألغى الإسلام التبنّي، {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} في وقت واحد، أما إذا انفصل عن إحداهما بموت أو طلاق أو فسخ جاز له النكاح بالأخرى، ولا فرق في عدم جواز الجمع بين أنواع النكاح أو ملك اليمين، {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} في الجاهلية قبل الإسلام، فهو معفو عنه ولا يترتب عليه آثاره، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} يستر الذنوب التي فعلتموها قبل الإسلام، {رَّحِيمًا} بالمؤمنين لذا لا يؤاخذهم بما سلف.

24- {وَ} كذا حرمت عليكم {الْمُحْصَنَٰتُ مِنَ النِّسَاءِ} اللاتي لهن أزواج {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} كسبايا دار الكفر، أو الإماء المتزوجات، حيث يجوز لمولاهن فسخ نكاحهن، فهذه جملة النساء المحرّمات، {كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي كتب اللّه هذا الكتاب عليكم، وهذا تأكيد لقوله «حرمت عليكم...».

ص: 111

{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا} «ما» موصولة، والمراد النساء اللاتي هن {وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ} أي غير المذكورات، ولكن حليتهن خاصة بالزواج بهن فقال: {أَن تَبْتَغُواْ} وهذا بدل اشتمال عن «ما» الموصولة، أي أُحِلّ لكم سائر النساء طلبهن بإحصان، أي الزواج منهن {بِأَمْوَٰلِكُم مُّحْصِنِينَ} أي أعفّاء، والعفة بأن تكون الأموال مهراً لهن {غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ} لا أجرة للزنا، فحاصل المعنى: أن سائر النساء هنّ حلال بالزواج وملك اليمين لا بالزنا.ويتفرع على ذلك جواز نكاح المتعة؛ لأنه ابتغاء الإحصان بالأموال {فَمَا} «ما» موصولة يراد بها النساء اللاتي {اسْتَمْتَعْتُم} تزوجتموهن متعة {بِهِ} يرجع إلى «ما» {مِنْهُنَّ} بيان ل «ما»، والمعنى النساء اللاتي تزوجتموهن متعة {فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {فَرِيضَةً} حال أو مفعول مطلق، أي حال كون الأجور فريضة أو فرضها اللّه فريضة، {وَلَا جُنَاحَ} لا حرج ولا إثم {عَلَيْكُمْ فِيمَا} في الأجر الذي {تَرَٰضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} بأن تزيدوا المهر باستئناف عقد جديد بعد انتهاء المدة، فإنه لا بد من رضا الطرفين في العقد الجديد {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} يعلم ما هو المصلحة والمفسدة لكم {حَكِيمًا} في تشريعه الحرام والحلال.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ...} الآية.

شروع في بيان النساء اللاتي يحرم نكاحهن سواء حرمة أبدية أم موقتة،

ص: 112

وبدأ بزوجات الآباء؛ لأنه كان شائعاً في الجاهلية، مع أنّ ذوي المروءات منهم كانوا يمقتونه وينزّهون أنفسهم عنه، فكان قبحه معلوماً لديهم، فلذا كانوا يسمونه نكاح المقت، لكن مع ذلك كان يرتكبه بعضهم، فلذا استوجب تقريعهم والنهي عنه بالخصوص بآية مستقلة، عكس سائر المحرمات، حيث لم يكونوا يرتكبون نكاح المحارم أبداً، أو إذا كانوا يرتكبونه المحرّم كالجمع بين الأختين فلم يكن قبحه معلوماً عندهم، بل لا قبح في ذات النكاح، وإنما التحريم في الجمع.

وقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} استثناء منقطع، والغرض منه بيان العفو عنذلك الذنب، وأيضاً عدم ترتيب آثار الزنا عليه، فأولاد تلك الزيجة لا يحكم عليهم بأنهم أولاد زنا، بل كل آثار الزواج تترتب عليه، وليس الاستثناء متصلاً، إذ لا معنى لاستثناء الماضي عن النهي؛ لأنّ الفعل الماضي قد تحقق ولا يتغيّر عمّا وقع عليه فلا معنى لتعلّق تكليف به أو استثنائه عن تكليف.

وقوله: {إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً} أي قبيحاً متجاوزاً في القبح، ولعلّ الغرض بيان أنه لم يكن جائزاً ثم نُسخ الجواز، بل كان من الأول فاحشة، واللّه تعالى لا يجوّز الفاحشة أبداً. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}(1)، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}(2)، ومن هنا يتضح سبب الإتيان ب {كَانَ} فلم يقل «إنه فاحشة» بل قال: {إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً}،

ص: 113


1- سورة الأعراف، الآية: 28.
2- سورة الأعراف، الآية: 33.

وهذا عكس بعض المحرمات التي لم تكن قبيحة بذاتها، وإنما حرّمها اللّه تعالى لبعض المصالح الأخرى، فلذا يمكن إباحتها لفترة ثم نسخ الإباحة إلى الحرمة، ولذا لا معنى للنسخ في القبائح الذاتية، بل هي محرّمة في جميع الشرائع، كالزنا والخمر ونحو ذلك.

وقوله: {مَقْتًا} أي سبباً للمقت، وهو شدة البغض ومن مصاديقه: البُغض عن أمر قبيح يرتكبه الإنسان، والمقت إما من اللّه تعالى، أي أنّ نكاح نساء الآباء موجب لغضبه، أي عذابه الشديد، وأما من ذوي المروءات منهم، فكانوا يمقتون هذا النكاح وينزهون أنفسهم عنه، فالمقصود كيف كنتمترتكبونه مع أنّ قبحه كان واضحاً لديكم ويمقته ذوو المروءات.

وقوله: {وَسَاءَ سَبِيلًا} هذا مبالغة في ذمّهم، أي سلوككم لهذا الطريق سيّئ، فإنه طريق الأراذل من الناس.

الثاني: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...} الآية.

لا يخفى أنّ التحريم قائم بالطرفين بالملازمة العرفية الواضحة، أي كما تحرم عليكم أمهاتكم فكذلك تحرمون أنتم عليهن، وهكذا في سائر الفقرات، وإنما وجّه الخطاب للرجال؛ لأنهم المبادرون إلى الخطبة والزواج عادة.

وقوله: {حُرِّمَتْ} من المعلوم أنّ التكليف يتعلّق بفعل المكلّف، فيقال له: افعل كذا أو لا تفعل كذا، وحُرّم عليك الزنا وجاز لك الزواج، فإذا تعلّق التحريم بالأعيان فذلك مجاز ويراد به تحريم الفعل المقصود من ذلك الشيء، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ...}(1)، أي حُرّم أكلها،

ص: 114


1- سورة المائدة، الآية: 3.

فالمقصود منها الأكل عادة، لذلك لا تحريم لسائر المنافع المحلّلة إلاّ لو دلّ دليل خاص، فيجوز مثلاً أن يطعم كلابه الميتة، وهكذا هنا فقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ} أي الزواج بهن، وليس المراد هنا الزنا، فالزنا حرام مطلقاً ولا يختص بمرأة دون أخرى، بل سياق الآيات في الزواج، وقيل: المراد الوطء بقرينة الاستثناء في الآية التالية في قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} حيث إنّ المراد وطؤهنّ بملك اليمين دون النكاح! وفيه نظر؛ لأنّ الاستثناء هناك منقطع كما سيأتي توضيحه.

حكمة محرميّة النساء الأقارب

ولا يخفى أنّ محرمية النساء الأقارب بالنسب هو تسهيل للعوائل حيثيعيش الآباء والأبناء معاً عادة ويترابطون برابطة النسب والقرابة، فكان لا بد من عدم وجود حاجز بينهم، مضافاً إلى أنّ ذلك مانع عن الزنا؛ لأنّ كون المرأة في معرض جواز النكاح قد يطمع الرجال في النظر إليها بشهوة مما قد يكون مفتاحاً للزنا، عكس من ليست في معرض النكاح أصلاً، بل تربي الإنسان من أول أمره على حرمتها ومحرميتها، هكذا قيل.

ثم لو تحقق النسب ثبتت الحرمة، حتى لو كان من زنا؛ لأنّ النسب ثابت عرفاً، فالمخلوقة من الزنا يقال لها في العرف بنت الزاني مثلاً، نعم الشرع نفى الإرث فقط دون سائر آثار الزنا، كالقاتل الذي هو ممنوع عن الإرث مع ثبوت سائر آثار النسب.

الثالث: قوله تعالى: {وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ}.

أي المرضعة التي صارت أماً لكم بالرضاعة، فلا يكفي الإرضاع مع عدم

ص: 115

اعتبارها أمّاً شرعاً، والآية ليست في مقام كيفية تحقق الأمومة الرضاعية، بل في مقام بيان حرمة الأم الرضاعية، كما لم تكن في بيان كيفية تحقق الأمومة والأخوة والعمومة والخؤولة النسبيّة، بل في مقام تحريمهن، فالنسب أمر تكويني يعرفه الناس وقد أقرّه الشرع، وأما الأمومة الرضاعية فهو أمر اعتباري؛ لذلك لا بد من مراجعة الشرع لنعلم تحديد هذه الأمومة وشروطها، وقد دلت السنة الصحيحة على أن الأمومة الرضاعية لا تتحقق إلاّ بشروط، منها: أن يكون الرضيع دون السنتين، وأن يكون اللبن للفحل، بأن تكون المرضعة أنجبت لرجل طفلاً فدّر لبنها، وأن يلتقم الرضيع الثدي إلى حدّ الشبع، وأن يرتضع يوماً وليلة كاملة أو خمس عشرة رضعة متواليةعلى المشهور، أو عشر رضعات على غير المشهور، من غير إطعامه أو سقائه بشيء مدّة هذه الرضعات، وشروط أخرى تطلب من الكتب الفقهية.

وعليه فلا معنى لتمسك بعض العامة بإطلاق الآية بتحقق التحريم ولو بمصة واحدة! وذلك لأنه لا إطلاق للآية من هذه الجهة، فهي ليست في مقام بيان كيفية تحقق الأمومة الرضاعية، كما وضحّناه.

وقوله: {وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ الرَّضَٰعَةِ} أي إذا تحققت الأخوّة الرضاعية - وكيفية تحققها بينتها السنة - فيحرم الأخوان من الرضاعة سواء ارتضع الرضيع من أمها، أم ارتضعت هي من أمه، أو ارتضعا من مرضعة لهما، كل ذلك بالشروط المذكورة في الفقه.

ثم لا يخفى أنّ محرمات الرضاع لا تنحصر في الأم والأخت، بل تشمل البنت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، وذلك بالسنة القطعية والتي

ص: 116

أجمع عليها المسلمون، ففي الحديث عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»(1)، وقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «الرضاع لحمة كلحمة النسب»(2)، ولعل اكتفاء الآية بذكر الأم والأخت إما لأجل أنه لمّا سمّى المرضعة أماً والمراضعة أختاً كان في ذلك إشعارٌ بأنّ الرضاع كالنسب، كذا قيل، وإما لأجل أنّ ذلك يفهم من السياق، أو لغير ذلك.

حكمة الأخوّة الرضاعية

ثم إنّ الأخوّة الرضاعية كانت قبل الإسلام، فأقرها القرآن وفصّل الإسلام في أحكامها، ولعل سبب ذلك أنّ الناس قد يتبنون أطفالاً صغاراًمن الأيتام أو اللقطاء أو من العوائل التي لا يمكنها إعالتهم، وحيث إنّ أولئك يكبرون في بيوتهم ويتعامل الآباء والأمهات والأبناء معهم كتعاملهم بعضهم مع بعض، فكان لا بد من تشريع يكون له تأثير نفسي على العائلة بأن هذا الرضيع ليس عنصراً غريباً عنهم، بل بالرضاع صار كأحدهم فهذه أمه وهذا أبوه وهؤلاء إخوته وهكذا، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يرفع ذلك التشريع القيود بين الأجانب؛ لأن الاندماج في العائلة لا يمكن مع وجوب تستر النساء منه أو تسترهنّ من الرجال، فلعل ذلك من أسباب هذا التشريع، واللّه العالم.

الرابع: قوله تعالى: {وَأُمَّهَٰتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَٰئِبُكُمُ الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم...} الآية.

بيان للصنف الثالث من المحرمات، وهن المحرمات بالمصاهرة، أي كان زواج الرجل بامرأة سبباً لتحريم امرأة أخرى عليه أو تحريم تلك المرأة

ص: 117


1- الكافي 5: 442.
2- تفسير الصافي 1: 435.

على رجل آخر، وهن: أم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بها، وزوجة الابن، والأختان بالجمع بينها.

قوله: {وَأُمَّهَٰتُ نِسَائِكُمْ} سواء دخل الرجل بزوجته أم لم يدخل بها، فبمجرد العقد تحرم أمها حرمة أبدية؛ لأنّ التحريم في الآية مطلق ولم يقيّده اللّه بالدخول، عكس بنت الزوجة حيث قُيّدت اللّه الحرمة بالدخول.

قوله: {وَرَبَٰئِبُكُمُ الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم...} تبين الآية أن بنت الزوجة إنما تحرم إذا دخل بها، فإذا ماتت قبل الدخول أو طلقها أو فسخ النكاح فلا بأس بالزوج من بنتها.وقيل: لعل الفرق بين أم الزوجة، حيث تحرم بمجرد العقد، وبنت الزوجة حيث تحرم بالدخول لا بالعقد فقط، هو الاحتياج إلى مخالطة أم الزوجة والكلام معها في شؤون الزواج بمجرد العقد دون بنت الزوجة، حيث لا يخالطها إلا بعد الزواج! وقيل: لأجل أن لا تطمع أم الزوجة في زوج بنتها عكس الربائب، حيث إنهن صغار عادة، وقيل غير ذلك، والأولى ردّ علمه إلى الشرع، فلا نعلم نحن من ملاكات الأحكام التفصيلية إلاّ القليل.

وقوله: {الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم} قيد غالبي؛ لأنه الغالب أنّ المرأة التي تتزوج من زوج جديد لها أولاد صغار من زوجها السابق، وإلاّ فلا فرق في الحكم بتحريم بنت الزوجة المدخول بها بين كون البنت كبيرة أم صغيرة، من زوج سابق أو من زوج لاحق، كما لو طلقها فتزوجت وأنجبت بنتاً، فإنها تحرم على الزوج السابق لأمها.

ص: 118

ولعلّ سبب هذا التقييد حث الرجال على العطف على الربائب؛ لأنهن فقدن حنان الأب فلا بد من تعويضهن بحنان رجل آخر هو زوج أمهاتهن، فليتعامل معهن كما يتعامل مع بناته، وخاصة إذا كن أيتاماً كما هو الغالب.

وفي الصافي: الربائب إذا دخلتم بأمهاتهن - وهن في أحضانكم أو بصدده - قوي الشبه بينها وبين أولادكم، وصارت أحقاء بأن تجروها مجراهم(1).

وقد يقال: إنّ المشرّع حينما يريد تشريع شيء قد يقيّد الحكم بالسبب،بمعنى أنه ما دام السبب موجوداً فالحكم موجود، فإذا زال السبب زال الحكم، وهذا ما يعبر عنه في الفقه بالعِلة، وقد تكون المصلحة سبباً لتشريع الحكم من غير تقييد للحكم بذلك السبب، بل يكون التشريع قانوناً عاماً، سواء كانت تلك المصلحة موجودة أم لا، وهذا ما يعبر عنه في الفقه بحِكمة الحكم، وذلك درءاً للّهرج والمرج أو لتسهيل الأمر على الناس، وخاصة في المصالح الخفيّة، مثلاً تشريع إشارات المرور إنما هو لتنظيم المرور ولانسيابية حركة السيارات، ومنعاً لحوادث السير، لكن القانون عام حتى لو لم تكن هذه المصلحة، كما لو وصل إلى الإشارة الحمراء في منتصف الليل والطرق فارغة، فلا بد له من انتظار الإشارة الخضراء.

ولعل قوله: {الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم} من هذا القبيل أي بيان سبب تشريع الحكم من غير تقييد الحكم به، وحسب الاصطلاح الأصولي: عِلة الجعل لا عِلة المجعول.

ص: 119


1- تفسير الصافي 2: 214.

ولا يخفى أنّ الأصل في القيد هو كونه احترازياً، بمعنى أن يكون الحكم دائراً مداره، إلاّ إذا قامت القرينة على كون القيد توضيحياً أو غالبياً، والقرينة هنا هو إجماع المسلمين وتواتر الروايات، مضافاً إلى في قوله: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} حيث خصّ الجواز بعدم الدخول، ولم يذكر الجواز مع عدم كونها في حجوركم.

وقوله: {دَخَلْتُم بِهِنَّ} أي دخل معها إلى المخدع، كما يقال: بنى عليها، أي نصب قبة كالحجلة، كناية عن الملامسة.

وقوله: {وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ} أي زوجاتهم، من الحلول؛ لأنّ الزوجة تحلّفي بيت زوجها، أو من الحلال لأنها تحلّ له.

وقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ} إما لإخراج الأبناء بالتبنّي، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}(1) وقال: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَٰجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا}(2)، وقيل: هو قيد غالبي؛ لأنّ الأدعياء ليسوا أبناء أصلاً، فكل من كان ابنا شرعاً فحليلته محرّمة، سواء كان ابناً من النسب أم من الرضاع.

والأول أقرب؛ لأنّ العرب كانوا يعتبرون الأدعياء أبناء، فكان لا بد من التقييد لبيان عدم حرمة حلائلهم، وأما الابن الرضاعي فحرمة حليلته دلت عليها السنة القطعية.

وقوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} أي وحرم عليكم الجمع بينهما، فهما

ص: 120


1- سورة الأحزاب، الآية: 4.
2- سورة الأحزاب، الآية: 37.

لستا محرمتين بالذات، وإنما المحرّم الجمع، فلذا يمكن الزواج بهما بالتناوب، كأن يتزوج إحداهما ثم بعد موتها أو طلاقها يتزوج الأخرى.

ولعل سبب التحريم هو وجود الغيرة والحسد والبغض بين الضّرات، فلم يكن من الصالح تشريع حكم يوجب قطع الأرحام، فلذا حرّم اللّه الجمع بينهما لئلا تُقطع الأرحام.

وقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} في زمان الجاهلية، فرفع اللّه العقوبة عنه، وكذا الآثار الوضعية، كما مرّ، ولو أسلم رجل عن أختين أو خمس نسوة فدلت الروايات على تخييره بأن يختار إحدى الأختين وينفسخ نكاح الأخرى،وكذا يختار أربع وينفسخ نكاح ما زاد عليهن.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} علة العفو عمّا سلف وفي قوله: {رَّحِيمًا} إشعار بأن العفو خاص بالمؤمنين؛ لأنّ (الرحيم) صفة خاصة برحمته بالمؤمنين، عكس (الرحمن) التي هي صفة عامة للمؤمنين وغيرهم الدالة على رحمته الواسعة، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}(1)، وقال عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(2).

الخامس: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.

(الإحصان) من الحصن بمعنى المنع، فالمحصنات بمعنى العفيفات، ويستعمل تارة في المتزوجة، حيث أحصنت نفسها ومنعتها عن الحرام

ص: 121


1- سورة الأحزاب، الآية: 43.
2- سورة التوبة، الآية: 128.

بسبب زواجها، وتارة في الخلية عن الزوج العفيفة، كقوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا}(1).

والمراد في هذه الآية هو الأول، أي وحرمت عليكم المرأة المتزوجة ما دامت في حبالة زوجها.

وقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} استثناء منقطع، أي المرأة المتزوجة لا يجوز نكاحها إلاّ لو كانت أمة، فبفسخ نكاحها من زوجها يجوز لمولاها مباشرتها بملك اليمين، وهي حينئذٍ خلية عن الزوج لانفساخ نكاحها، وهذاالانفساخ تارة يكون بالسبي، فإذا سبيت الكافرة انفسخ زواجها من زوجها وحلّ لمالكها مباشرتها بعد استبرائها، وتارة بالانتقال من الملك، كأن يبيعها مولاها، فيجوز للمشتري فسخ نكاحها من زوجها، وتارة بإرادة المولى كما لو زوّج أمته من عبده فيحق له فسخ نكاحها وبعد استبرائها تحلّ له مباشرتها.

وقوله: {كِتَٰبَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بنصب كتاب، إمّا على كونه مفعولاً مطلقاً، أي كتب اللّه كتاباً فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الفاعل، وإمّا على الحالية، أي حرّمهن عليكم حال كون التحريم كتاب اللّه عليكم، وهذا تأكيد للحكم؛ لأنّ المكتوب عند الناس آكد من غيره، وقيل: هو كناية عن عدم النسخ في هذه الأحكام.

السادس: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُم...} الآية.

ص: 122


1- سورة الأنبياء، الآية: 91.

بعد ذكر المحرمات من النساء يأتي بيان حكم عام، هو حلية سائر النساء ولكن بالعفة لا بالزنا.

وقوله: {أُحِلَّ} يقابل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} في الآية السابقة، وقوله: {مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ} يقابل {أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...} ف{مَّا} موصولة بمعنى النساء اللاتي سوى المذكورات و{وَرَاءَ} بمعنى سوى، وأصل الكلمة بمعنى الخلف فكأن هذه بذكرها صارت أمامك وبقيت خلفها غيرها و{ذَٰلِكُمْ} اسم اشارة إلى المحرمات المذكورات مع ضمير الخطاب للرجال.

ولا يخفى أنّ هذا الحكم عام، ويمكن تخصيصه بأدلة أخرى من القرآنأو السنة، كالمطلقة ثلاث مرات، حيث لا تحلّ قبل أن تنكح زوجاً غيره، والمطلقة تسعاً حيث تحرم أبداً، والكافرة من غير أهل الكتاب، وأم وأخت المفعول على الفاعل، والمنكوحة في العدة الرجعية، وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب الفقهية مع بيان تفاصيل أحكامها وشروطها، فهذه الموارد تخصيص للآية، والغالب في أحكام القرآن هو ضرب القاعدة الكلية، وإيكال التخصيص أو التقييد إلى آيات أو أدلة أخرى، لبيان الحالة الغالبة، ولتكون المرجع حين الشك في بعض المصاديق.

وقوله: {أَن تَبْتَغُواْ...} أي تطلبوا نكاحهن، وهو بدل اشتمال من {مَّا وَرَاءَ}، كما يقال: سلبت زيداً ثوبه، فالمعنى أحلت النساء نكاحهن.

وقوله: {بِأَمْوَٰلِكُم} أي تجعلوا الأموال مهراً لهن في النكاح.

وقوله: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ} قيد احترازي، أي حلية سائر النساء

ص: 123

وطلبهن بالأموال إنما هو بالزواج لا بالسفاح.

و{الْمُحْصَنَٰتُ} في أول الآية كانت بمعنى غير المتزوجات و{مُّحْصِنِينَ} هنا بمعنى متزوجين؛ لأنّ الإحصان كما مرّ هو الحفظ عن الحرام والعفة، فغير المتزوجة العفيفة تحفظ نفسها عن الزنا، والمتزوج العفيف يحفظ نفسه بسبب زوجته عن السفاح.

ثم اعلم أنّ الآية بينت صنفين من الزواج الحلال، الدائم والمنقطع، أما الدائم فقوله تعالى: {مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ...}، وأما المنقطع - وهو نكاح المتعة - فقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم...}.

فحاصل المعنى: أحل لكم النساء بالدوام، فالنساء بالمتعة، والفاء للتنويعكما في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَٰتٖ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(1)، فإن قوله: {فَمَن كَانَ} بيان للنوع الآخر، فالمعنى الصيام في شهر رمضان لمن حضر ولم يكن مريضاً، والصيام في غير شهر رمضان لمن كان مسافراً أو مريضاً، وإنما استعمل الفاء التي هي للترتيب؛ لأجل بيان أنّ الأصل هو الأول، وأنّ الثاني هو الحكم التابع والفرع، وهكذا في هذه الآية، فلما أراد اللّه تعالى بيان النوعين الجائزين من النكاح فقال: {وَأُحِلَّ لَكُم}، ثم ذكر النوعين فقدّم الأصل، وهو النكاح الدائم فقال: {مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ}، ثم ذكر النوع الثاني وهو الفرع فقال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ...}.

ص: 124


1- سورة البقرة، الآية: 183-184.

السابع: قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...} الآية.

(الفاء) للتنويع كما ذكرنا، و(ما) موصولة بمعنى النساء و{بِهِ} عائد إلى الموصول، و{مِنْهُنَّ} بيان للموصول، والمعنى: ثم أحل لكم النساء اللاتي استمتعتم بهن من النساء المحلّلات.

وما ذكرناه متطابق مع تفسير أهل البيت (عليهم السلام) لهذه الآية(1)،

وكذا تفسير بعض الصحابة والتابعين على ما روته العامة، كابن عباس والسدّي وأبي سعيد(2)، بل قرأ أُبَيُّ بن كعب وابن مسعود وعبداللّه بن عباس هذه الآيةهكذا (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن)(3).

وعليه فلا يصح تفسير {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم} بأنّ الفاء لتفريع الحكم لا للتنويع، وبأنّ (ما) مصدرية زمانية، وبأن {اسْتَمْتَعْتُم} بمعنى الالتذاذ بالمباشرة!! لأنّ ذلك لا يتلاءم مع تفسير أهل البيت والأصحاب، كما لا يتلاءم مع تتمة الآية، حيث قال {فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}؛ لأنّ المهر لا يرتبط بالاستمتاع، بل يثبت بمجرد العقد، نعم يحق للزوج استرجاع نصفه لو طلقها قبل الدخول، ولذا يحق للمرأة أن لا تمكّن من نفسها إلاّ بعد قبضه كاملاً.

وقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ...} تتمة لبيان حكم زواج المتعة، والمعنى أنه لو انتهت المدة وأردتم تجديد عقد المتعة فلا بأس بذلك، فإنه لا تحتاج

ص: 125


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 73-76.
2- راجع مجمع البيان 3: 85.
3- راجع مجمع البيان 3: 85؛ وتفسير الطبري والقرطبي والثعلبي في تفسير الآية ومستدرك الحاكم النيشابوري.

المرأة إلى عدة من زوجها، وإنما تعتد لو أرادت الزواج من آخر، وعليه فلو تراضى الزوجان في تجديد العقد المنقطع إلى أجل آخر وتراضيا بمهر جديد فلا مانع من ذلك، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما، يقول: استحللتك بأجل آخر، برضى منها، ولا تحلّ لغيرك حتى تنقضي عدتها، وعدتها حيضتان»(1).

وقيل: المعنى أن تهب المرأة مهرها أو بعضه، أو أن يزيد الرجل في المهر، فإذا كان بتراضٍ منهما فلا بأس بذلك، فمعنى كونه فريضة أنه واجب وحق ثابت على الزوج، لكن يمكن إسقاطه برضاهما، فهو دَينفرض على المديون تسديده، لكن يمكن للدائن إبراؤه، أو يتفقان على الزيادة، وعليه فما في الرواية بيان لمصداق من مصاديق المعنى العام، فتأمل.

عدم نسخ نكاح المتعة

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} حيث أحلّ النوعين من النكاح بالنساء المحلّلات، وحرّم النساء المذكورات، فهو عالم بما يصلحكم عمّا يفسدكم، كما أنه شرّع ذلك بحكمة، فقد وضع الشيء في موضعه.

ثم اعلم أنّ حكم جواز نكاح المتعة لم ينسخ، ولكنّ عمر حرّمه بقوله - حسب ما روى الفريقان - : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج!!(2) وحيث أرادوا تصحيح قولته اضطروا إلى القول بنسخ هذه الآية بآيات أخرى لا دلالة لها على النسخ أصلاً، وكذا نسبوا المنع إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لكن اضطربت

ص: 126


1- تفسير العياشي 1: 233.
2- راجع مسند أحمد 3: 325؛ السنن الكبرى 7: 206؛ وراجع مستدرك الوسائل 14: 483 وغيرها من المصادر.

رواياتهم في كيفية التحريم وزمانه، إلى ثمانية أزمنة.

فتلخص أنّ حاصل الآيتين المباركتين هما لبيان النساء المحرمات، وهن على أصناف: المحرمات بالنسب وبالرضاع وبالمصاهرة وبالحرمة المؤقتة لزواج الرجل بامرأة أخرى أو زواجها برجل آخر، ثم بيان النوعين المحلَّلين من النكاح: الدائم والموقت، مع ذكر ملك اليمين استطراداً وفي استثناء منقطع.

ص: 127

الآية 25

{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَٰتِ الْمُؤْمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ الْمُؤْمِنَٰتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُم بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٖ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَٰتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 25}

25- {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ} من المسلمين {طَوْلًا} أي من جهة الغنى فلم يجد مالاً يستطيع به {أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَٰتِ} أي العفيفات الحرائر {الْمُؤْمِنَٰتِ فَمِن} أي فليتزوج من {مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم} مما لم تكن ملكه، لكنها ملك سائر المسلمين {مِّن فَتَيَٰتِكُمُ} أي الإماء {الْمُؤْمِنَٰتِ}، فلا يجوز الزواج بالأمة المشركة، {وَ} لكن عليكم بالظاهر ف{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُم} فلا عليكم بقلبها وأنّ إسلامها عن قناعة أم نفاق، {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ} فالمسلمون كلهم كالجسد الواحد، فكونها أمة لا يضرّها ولا يضركم، واختلاف حكم الحرة والأمة، وكذا الحر والعبد إنما هو لمصالح خاصة، ولا تمنع تلك المصالح عن التناكح بينهم، {فَانكِحُوهُنَّ} أي الفتيات الإماء {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} مواليهن، {وَءَاتُوهُنَّ

ص: 128

أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن فلا فرق بين الأمة والحرة في ثبوت المهر {بِالْمَعْرُوفِ} ما عرف حسنه العقل والشرع،كأن يكون التسليم بلا مطل ولا إضرار مثلاً، فانكحوهن حال كونهن {مُحْصَنَٰتٍ} أي عفيفات {غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ} متجاهرات بالزنا {وَلَا} متسترات بالزنا بأن يكنّ {مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٖ} أصدقاء في السر، {فَإِذَا أُحْصِنَّ} بالزواج {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٖ} أي الزنا {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَٰتِ} الحرائر غير المتزوجات {مِنَ الْعَذَابِ} أي الحدّ، فعقوبتها خمسون جلدة، {ذَٰلِكَ} أي تسويغ الزواج بالإماء {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} أي المشقة {مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ} حين العنت فلا تتزوجوا بالأمة {خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنّ الأمة طوع مولاها، وقد يبيعها فيفسخ المشتري العقد وغير ذلك، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فمن اقترف ذنباً - يرتبط بهذه المسائل وغيرها - فلا ييأس، بل باب التوبة مفتوح.

بحوث

الأول: بعد أن ذكر اللّه تعالى تشريعه للزواج الدائم والمتعة وتحليله لملك اليمين، يذكر حكم من لم يتمكن من الزواج بالحرائر؛ لغلاء مهورهن أو كثرة نفقتهن، وهذا يلازم عدم قدرته على شراء الإماء أيضاً، فإذا كان في مشقة من عدم الزواج فيجوز له أن يتزوج بالإماء العفيفات المؤمنات، بشروط هي: عدم الطول، وخوف العنت، وإيمانها، وعفتها، وإذن مولاها، وإيتاؤها مهرها، وهذه الشروط على أنواع، فبعضها شرط صحة العقد، كإذن المولى، فإن لم يأذن كان العقد باطلاً، وبعضها شروط

ص: 129

واجبة لكن لا يتوقف عليها صحة العقد كإيتاء المهر، وبعضها شروط تنزيهية كعفّتها، والتفصيل يطلب من كتب الفقه.ولكن إن تمكن من الصبر فهو الأفضل، ثم يبيّن اللّه تعالى عقوبتها إن زنت، وهو نصف عقوبة الحرة، وإنما كان كذلك تخفيفاً من اللّه تعالى حيث لم يرد جمع الرقّية وعقوبة الحرائر عليهن.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا...} الآية.

(الطَول) في الأصل بمعنى الفضل والزيادة، والمراد هنا الغنى والثروة، ليجعلها مهراً للزواج من الحرائر، وقوله: {طَوْلًا} تمييز، فالمعنى عدم استطاعته من جهة الثروة، وهذا قيد غالبي؛ لأن عدم القدرة على الزواج الدائم - عادة - هو بسبب عدم امتلاك المال، لكن قد يكون هناك أسباب أخرى نادراً، كما لو كان وضيع النسب لا تتزوجه الحرائر، أو كان دميماً جداً لا يرغبن فيه أصلاً، فهؤلاء أيضاً حكمهم حكم من لا مال له، ويمكن تعميم (الطول) إلى هذه الحالات أيضاً.

وقوله: {أَن يَنكِحَ} مفعول {لَّمْ يَسْتَطِعْ} أي لا يقدر نكاح الحرائر.

وقوله: {الْمُحْصَنَٰتِ} أي العفيفات، ولا يخفى أنّ (المحصنة) اصطلاح في الحرة فقط؛ لأنها هي التي تتمكن من حفظ نفسها من الفحشاء، حيث إنّ أمرها بيدها، وأما الأمة فأمرها بيد مولاها ولا تتمكن من منعه لو أراد إكراهها على الفحشاء، وقد شاع ذلك حتى نهى اللّه تعالى عنه بقوله: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}(1)، ولذا قابلها بالأمة فقال:

ص: 130


1- سورة النور، الآية: 33.

{مِّن فَتَيَٰتِكُمُ الْمُؤْمِنَٰتِ}.

ثم إنّ المحصنة وإن كان أحد استعماليها في المرأة المتزوجة كما مرّ،إلاّ أنّ هذا المعنى غير مراد هنا؛ لأنّ المحصنة ذات الزوج لا يصح الزواج بها فالعقد عليها باطل، فالمراد بالمحصنة هنا الحرة غير المتزوجة.

وقوله: {الْمُؤْمِنَٰتِ} إما يراد به الإيمان في العقيدة بأن تكون مسلمة، ففي ذلك إشعار بأن نكاح الأمة المؤمنة أفضل من نكاح الحرة الكافرة، فإذا لم يتمكن من الحرة المؤمنة وتمكن من الحرة الكافرة أو الأمة المؤمنة فعليه اختيار الثانية، بل لا يجوز نكاح الحرة المشركة أبداً قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٖ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}(1)، وأما نكاح نساء أهل الكتاب فقد أباحه في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ}(2)، ثم اختلف في نسخ هذه الآية، فقيل: بأنها نسخت، وقيل: بأنها خصصت بالنكاح المنقطع، فلا يجوز نكاحهن دواماً ويجوز متعة، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية.

أو يراد من {الْمُؤْمِنَٰتِ} الإيمان العملي بالتزامها بأحكام الشرع، وعدم الزنا - سراً أو جهراً - والأول أنسب بسياق الآية؛ لأنّ شرط عدم الزنا مذكور بعد ذلك في قوله: {غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ...}.

وقوله: {فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم} أي ما ملكتم، وإنما نسب الملك إلى اليد اليمنى؛ لأنّ الشراء والقبض يكون بها عادة، والمراد أيمان غيركم من

ص: 131


1- سورة البقرة، الآية: 221.
2- سورة المائدة، الآية: 5.

المؤمنين بقرينة قوله بعد ذلك: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، ولأنه لا يصح زواج الرجل من أمة نفسه، بل هي حلال له بملكه إياها، وقد ذكروا فيالفقه أنّ أسباب الحلية لا تجتمع ولا تتبعّض، فلذا لو تزوج أمة ثم اشتراها انفسخ نكاحه وحلّت له بملك اليمين، وإذا كانت ملك اثنين بالشراكة فلا تحل لأيّ منهم أصلاً حتى تخرج من ملكهما أو ملك أحدهما، فلا يصح نكاح أحدهما إياها؛ لأنّ ذلك سبب تبعّض الحلية بأن يكون نصفها حلال بملك اليمين والنصف الآخر بالنكاح، وهذا ما لم يشرّعه الدين الحنيف.

وقيل: إنما نسب ملك اليمين إلى المؤمنين مع أن المالك واحد منهم عادة؛ لأن الدين جامعهم كلّهم فكأنهم شخص واحد، وعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد»(1).

وقوله: {مِّن فَتَيَٰتِكُمُ} جمع فتاة ويراد بها الإماء، وأصل الكلمة بمعنى المرأة الشابة، وإنما استعملها في الأمة احتراماً وجبراً لخاطرها حتى لا يتم تحقيرها أمام الناس، فقد شرّع اللّه تعالى ملك اليمين لمصالح، لكن مهما أمكن لا بد من حفظ كرامة الإنسان المؤمن حتى لو كان عبداً أو أمة، فالأصل هو الكرامة الإنسانية والكرامة الإسلامية، إلاّ لو أزال هو كرامته فاستحق العقوبة أو الاستخفاف، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(2)، وقال: {إِنَّ الْإِنسَٰنَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ}(3)، وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ * ثُمَّ رَدَدْنَٰهُ أَسْفَلَ سَٰفِلِينَ * إِلَّا

ص: 132


1- الكافي 2: 166.
2- سورة الإسراء، الآية: 70.
3- سورة العصر، الآية: 2-3.

الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...}(1).الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُم بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ}.

هذا كالعلة لتشريع الزواج بالإماء... :

1- {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُم} بيان أنّ المناط هو الإيمان، وحيث إنّ هذه الأمة مؤمنة فلا بأس بالزواج بها، ولا اعتبار بالتفاضل الاجتماعي بالنسب والحسب والثروة ونحو ذلك من الأمور الاعتبارية، بل المهم الإيمان، فالمؤمن كفو المؤمنة، والمؤمنة كفو المؤمن، بل رُبَّ أمة خير من حرّة؛ لكون إيمانها أشد من إيمان تلك، وقيل: هو نهي عن التنقيب عن حقيقة إيمانهن، بل الاكتفاء بظاهر الإيمان؛ لأنّ رسوخ الإيمان في القلب وعدمه لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى.

2- {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ} إنّ نسب الجميع يرجع إلى آدم (عليه السلام) ، وفي الحديث: «الناس من آدم وآدم من تراب»(2).

والحاصل أنه لا فرق بين أمة وحرة، وبين عبد وحرّ من حيث النسب، كما أنهم مؤمنون والتفاضل في الإيمان لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى؛ لأنه المطلّع على القلوب، وهذان الأمران بيّنهما اللّه تعالى في آية أخرى، حيث قال: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3).

وقيل: هو نهي عن عادة جاهلية بالطعن بابن الأمة.

ص: 133


1- سورة التين، الآية: 4-6.
2- الآثار الباقية: 149.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.

الرابع: قوله تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...}الآية.

بيان بعض شروط وآداب زواج الإماء.

فلا بد من استئذان مالكها، إذ لا يجوز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه، ولذا العبد لا يتمكن من التصرف في نفسه كما قال تعالى: {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٖ}(1)، وكل تصرف من غير إذن المالك باطل لا يترتب عليه أثر شرعي، فلو تزوج الأمة من غير إذن مولاها وقع باطلاً، نعم هناك بحث آخر وهو أنه يكفي الإذن اللاحق، وهذا ما يبحث في الفقه في مسألة العقد الفضولي.

وقوله: {أَهْلِهِنَّ} أي مولاهن، قيل: عبّر عن مولاها بذلك للدلالة على أنها واحدة من أهله فهذا تأكيد لقوله: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٖ} فلا بد للمولى أن يتعامل معها بلطف وإنسانية كما يتعامل مع سائر أهله.

وقوله: {وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} تأكيد لثبوت المهر في زواج الإماء، وأنه لا بد أن لا يستخف الزوج بها كونها أمة فيمنع المهر، بل هو حق لا بد من تسديده.

ثم لا يخفى أن كل ما للعبد والأمة إنما هو لمولاهما، وفي الحديث: «لأنّ مال المملوك لمولاه»(2) فهذا المهر أيضاً ملك للمولى، ولعلّ التعبير بقوله: {ءَاتُوهُنَّ} نوع تكريم لهن وإرشاد للمولى بأن يبيح ذلك المهر لهن،

ص: 134


1- سورة النحل، الآية: 75.
2- مستدرك الوسائل 15: 394.

صحيح أنه ملكه لكن الأفضل أن لا يأخذه لنفسه، بل يعطيه لها أويصرفه عليها جبراً لخاطرها.

وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} بما لا ينكره عقل ولا شرع، فلا يجوز التسويف أو النقصان أو الإضرار.

وقوله: {مُحْصَنَٰتٍ} أي عفيفات، وهو أحد المعنيين للمحصنات، وهو المناسب هنا، أي فانكحوهن حال كونهن عفيفات، أما لو لم تكن عفيفة فلا تتزوجوها فلا خير فيها، وهذا شرط إرشادي، فالزواج بالزانية أو إبقاؤها في حبالة الزوجية مع إصرارها عليه وعدم توبتها مكروه، بل ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جوازه في المشهورة بالزنا.

ولا فرق في اشتراط عدم الزنا بين كونه علناً أو سراً، ولذا وضّح قوله: {مُحْصَنَٰتٍ} بقوله: {غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ} والسفاح هو الزنا، وأريد به هنا الزنا علناً بقرينة المقابلة وبقوله: {وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٖ} والخدن هو الصديق، وذلك غالباً يكون سراً.

أو المقصود أنه لا فرق في الزنا بين كونه مع صديق أو مع غيره، رداً لتوهم أنّ اتخاذ الصديق ليس من الزنا، وأن الصداقة تجعل الصديق كالزوج، وهذا ما شاع في الجاهلية، وهو شائع في بعض الأمم، حيث يفرّقون بين الزنا والصداقة، وليس كذلك، بل كل ما لم يكن بزواج شرعي أو ملك يمين فهو زنا، سواء كان بصداقة أم حالة عابرة، وسواء كان مع واحد أم أكثر.

والحاصل أنّ الشرع أباح نكاح الأمة التي هي عفيفة، وأما غير العفيفة،

ص: 135

فالأولى أو اللازم التنّزه عنها.

وقيل: إن اللّه ذكر في الآية السابقة الرجال فقال: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ}، وذكر في هذه الآية الإماء فقال: {مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٖ} لأنّ الحرّة أبعد عن الفجور والرجل أقرب إليه؛ لذا احتاج إلى الإحصان بالزواج، وأما الأمة فهي أقرب إلى الفجور بسبب الموالي وإكراههم لها!

الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٖ...} الآية.

بيان لأحد أحكام الإماء، وهو إجراء الحدّ عليهن لو ارتكبن الفاحشة، فليس كونها أمة يعفيها عن الحدّ، لكن ليس كحدّ الحرة، بل نصفه؛ لأنّ اللّه لم يجمع عليهن تقييد الرقّية وعقوبة الحرّية، وفي الحديث: «لأنّ اللّه رحمه أن يجمع عليه رِبق الرق، وحدّ الحرّ»(1) هذا في حقوق اللّه كالزنا، وأما حقوق الناس كالقذف فلا فرق بين الحرّ والعبد كما في الأحاديث(2)؛ لأنّ اللّه خفّف عن حق نفسه ولم يخفف عن حقوق الناس مراعاةً لهم، حيث دار الأمر بين مراعاة الجاني بالتخفيف عليه وبين مراعاة المجني عليه باستيفائه حقّه كاملاً، فكان الترجيح للمظلوم على الظالم.

قوله: {أُحْصِنَّ} والإحصان هنا بمعنى الزواج فالمعنى إذا اختار الرجل الأمة العفيفة فتزوجها ثم بعد ذلك ارتكبت الفاحشة، فلا بد من إجراء الحدّ عليها.

ولا يخفى أنه لا مفهوم للشرط في قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} فليس المعنى أنه

ص: 136


1- تفسير القمي 1: 136، والرِبق: حبل يوضع على العنق يجمع به الشياه، فاستعير للرقية.
2- راجع الكافي 7: 237.

إذا لم يتزوجن فلا حدّ عليهن لو ارتكبن الفاحشة، بل الحدّ يجرى عليهاسواء كانت ذات زوج أم لا، فيكون ذكر الشرط إما من باب المورد، حيث إنّ الكلام حول الإماء المتزوجات، وإما لبيان الحالة الأشد، وهي زنا ذات الزوج، فيكون الغرض بيان فرق آخر بين الحرة والأمة، حيث تُرجم الحرة المتزوجة إذا ارتكبت الفاحشة، وتجلد غير المتزوجة، وأما في الإماء فالمتزوجة تجلد أيضاً بنصف الحدّ.

وقوله: {مَا عَلَى الْمُحْصَنَٰتِ} أي غير المتزوجات، وحدّهن مائة جلدة، وليس المراد المتزوجات العفيفات، حتى نضطر إلى أن نقول: إنّ الكلام لا يشمل الرجم؛ لأنه غير قابل للتنصيف.

وقوله: {مِنَ الْعَذَابِ} أي الجلد، كما قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٖ} إلى قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}(1).

السادس: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ...} الآية.

قوله: {ذَٰلِكَ} أي الزواج بالإماء.

وقوله: {الْعَنَتَ}: المشقة، قيل: أصله انكسار العظم بعد الجبر ثم استعير لكل مشقة وضرر، والمعنى أن تسويغ نكاح الإماء إنما هو إذا لم يتمكن الرجل من الزواج بالحرة وصار بقاؤه بلا زوجة مشقة له، سواء من جهة الشبق أم من جهات أخرى، فالإسلام دين يسر وسماحة، فلذلك أجاز هذا النكاح رغم أنّ ضبط النفس وتحمّل المشقة أحسن، لكن مراعاة لحال

ص: 137


1- سورة النور، الآية: 2.

الناس أبيح لهم الحسن أيضاً، فالدين قد شرّع كلّما يوجب الرقيّ والكمالوحبّب إلى ذلك، لكن راعى الناس أيضاً فلم يحرّم إلاّ ما فيه المفسدة الشديدة، وحيث تختلف قابليات الناس وظروفهم فلذلك أجاز ما لا مفسدة فيه، لكن بيّن لهم الأفضل أيضاً، مثلاً الصلاة فيها مصلحة ملزمة لذلك كانت واجبة، لكن بعض مصاديقها أفضل، كالصلاة في المسجد جماعة، فلذا ندب إليها الدين وحث عليها، لكن أجاز الصلاة في المنزل أيضاً مراعاة لحال الناس، بل أجاز حتى بعض المصاديق التي يقلّ ثوابها مع وجود المصلحة فيها كالصلاة في الحمام، وهي مكروهة، بمعنى أقل ثواباً كما ذكره جمع من الأصوليين والفقهاء.

وليس معنى {الْعَنَتَ} الزنا، كما عن بعض المفسرين، إذ ليس فيه مشقة في الظاهر، نعم هو يوجب استحقاق الحدّ في الدنيا والنار في الآخرة؛ وذلك لأنّ الظاهر من (العنت) المشقة في الحال، لا ما يحتمل أن يوجب مشقة مستقبلية، فقوله: {خَشِيَ الْعَنَتَ} يراد به فعلية المشقة، لا مجرد خوف من الوقوع فيها في المستقبل، فتأمل.

وقوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} المراد تحمل المشقة والصبر على العزوبة بعدم تزوج الإماء، بل الصبر إلى حين القدرة على الحرائر، فصحيح أنّ الأمة من بني آدم ولا فرق عند اللّه بين مؤمنة وأخرى إلاّ بالتقوى، لكن باعتبارها ملكاً لشخص آخر، فأمرها بيده لا بيد الزوج، إلاّ في الأمور المرتبطة بالمباشرة، وأيضاً لا ضمان لاستمرارية هذا النكاح، فلعل مالكها باعها ثم فسخ المشتري العقد، كما أنه قد تكون هناك حزازة اجتماعية عند

ص: 138

الناس أو بعضهم، فلذلك فالأحسن أن يصبر الإنسان لاختيار الأفضل، فلايقال: كيف أباح اللّه هذا الزواج ثم ذكر أن الأفضل الصبر عنه؟! وذلك لما عرفت بأنّ بعض الأعمال أحسن من بعض، فيمكن إباحة الحسن والإرشاد إلى الصبر عنه للوصول إلى الأحسن، وهذا دأب العقلاء أيضاً في خطاباتهم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لأنه قد يتجاوز الإنسان الأحكام المذكورة في هذه الآية، أو سائر أحكام اللّه تعالى، فقد فتح اللّه باب التوبة وأخبر بغفرانه للذنوب وأنّ ذلك خاص بالمؤمنين بقوله: {رَّحِيمٌ} كما مرّ.

ص: 139

الآيات 26-28

اشارة

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 26 وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا 27 يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا 28}

ثم بيّن اللّه تعالى حكمة هذه التشريعات في مسائل النكاح فقال:

26- {يُرِيدُ اللَّهُ} بتنزيل هذه الآيات {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الحلال عن الحرام في أمر النكاح أولاً، {وَيَهْدِيَكُمْ} يرشدكم {سُنَنَ} جمع سنة {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء والأوصياء فهذه الأحكام عامة لجميع الشرائع؛ لأنها متطابقة مع الفطرة ثانياً، {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} فيعفو عمّا اقترفتموه في الجاهلية من انتهاك هذه الأحكام ثالثاً، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالحكم {حَكِيمٌ} في تشريعاته.

27- {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يرجع بلطفه عليكم بعد تطهيركم من دنس الجاهلية، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ} فلا يهمّهم الحلال عن الحرام والطيب عن الخبيث {أَن تَمِيلُواْ} عن الصراط المستقيم وعن أحكام الشرع {مَيْلًا عَظِيمًا} بنكاح من حرّم اللّه نكاحهن.

28- {يُرِيدُ اللَّهُ} بتشريعاته {أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} فالشريعة سهلة

ص: 140

سمحاء، فلذا أحلّ لكم كل النساء إلاّ ما كان فيه الضرر، وكذا خفّف عليكم بقبولتوبتكم، {وَخُلِقَ الْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا} لذا كان لا بد من التخفيف عنه ليتطابق التشريع مع التكوين.

بحوث

الأول: تضمنت هذه الآيات بيان الغرض من هذه التشريعات في أمر النكاح وبيان الحلال عن الحرام فيه، فالآية الأولى والثانية تبيّن علة نزول هذه الآيات، والآية الثالثة بيان للغرض الأسمى من هذه التشريعات، فاللّه تعالى أنزل هذه الآيات...

أولاً: لإخراج الناس من الجهل، فهم لا يعرفون كثيراً من المصالح والمفاسد الواقعية وتزاحمها والأهم منها، فمن لطف اللّه تعالى بهم أن بيّن لهم الأحكام في آيات محكمة، ولذا ذكر في الآيات السابقة النساء اللاتي يحرم نكاحهن عن النساء اللاتي يحلّ، وبيّن أنواع النكاح وغير ذلك من أحكام.

وثانياً: بيان الطريقة الحسنة للماضين؛ لكي يقتدي بهم اللاحقون، كي لا يأتي أتباع الشهوات ويستدلون بفعل آبائهم وأنهم تابعون لآثارهم.

وثالثاً: التوبة عليهم، حيث إنهم حينما يعلمون بتشريعاته يتبعونها ويتركون ما كانوا يخالفون به هذه التشريعات، فيعفو اللّه عنهم ما اقترفوه من آثام في الجاهلية.

هذه الثلاثة هي أسباب تنزيل هذه الآيات.

وأما الغرض الأساسي من تشريع هذه الأحكام فهو التخفيف عن الناس؛

ص: 141

لأنّ اللّه خلق الإنسان ضعيفاً، ومن ضعفه جهله بمصالحه ومفاسده الواقعيةلذا كان لا بد من البيان له ليزول هذا الضعف، ومن ضعفه أنّ تركيبته كانت بحيث لا يصبر على الأحكام الشاقة، فلذلك جعل اللّه تعالى الشريعة سهلة سمحاء، وغير ذلك من أسباب الضعف كما سيجيء.

وفي المقابل هناك شياطين الإنس والجن محكومون بشهواتهم، فلا يريدون التقيّد بالأحكام الشرعية، بل يريدون الوصول إلى شهواتهم بأيّة كيفية كانت، ولو كان ذلك بضررهم عاجلاً أو آجلاً، فهؤلاء لا يفكرون بخير الإنسان ولا التخفيف عنه؛ فلذا يريدون إغواءه وإخراجه عن الصراط المستقيم، فكان لا بد من الحذر منهم.

الثاني: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ...} الآية.

مفعول {يُرِيدُ} إما التشريعات السابقة، فالمعنى يريد اللّه هذه الأحكام بإرادة تشريعيّة منه، فقوله: {لِيُبَيِّنَ} اللام للتعليل، وأن الناصبة مقدرة، وإمّا المفعول {لِيُبَيِّنَ} واللام للتأكيد، فالمعنى يريد اللّه البيان والهداية والتوبة، نظير إدخال حرف الجر على الفاعل في قوله: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}(1)، وبعض حروف التأكيد اصطلح عليه النحاة بالحرف الزائد، بمعنى أنّ عدم ذكره لا يخلّ باللفظ ولا بالمعنى، لكن تفقد حينئذٍ فائدة التأكيد، فلا يصح الإشكال بأنه لا شيء في القرآن زائد، بل كل كلمة وحرف بحكمة؛ وذلك لما عرفت من أنّ قولهم: (زائد) اصطلاح.

وقوله: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي ليخرجكم من الجهل إلى العلم، إذ الجهل

ص: 142


1- سورة النساء، الآية: 79.

سبب الكثير من الأفعال المضرّة التي يرتكبها الإنسان، بحيث لو علمبمضرّتها لتركها، وحيث إنّ تركيبة الإنسان دقيقة جداً بحيث يجهل الإنسان حقيقة جسمه وروحه ونفسه وعقله، كما أنّ ملاءمة أو عدم ملاءمة الأفعال والأشياء الخارجية للإنسان أيضاً غالباً مجهولة له، لذلك من لطفه تعالى على الإنسان أن أرسل الرسل ليبينوا للناس ما يصلحهم عمّا يفسدهم، بعد أن حبا اللّه الإنسان بوسائل المعرفة - من الفطرة والعقل والسمع والبصر والفؤاد - ، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ ءَايَٰتِ بَيِّنَٰتٖ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}(1).

وقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (الهداية) هي الإرشاد ومنه إراءة الطريق، و(السنن) جمع سنة وهي الطريقة التي جرى عليها و{مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء والأوصياء ومن اتبعوهم من الصالحين، وهذا المقطع يدل على أنّ هذه التشريعات في محرمات النكاح ومحللاته مما كان في شريعة جميع الأنبياء الماضين، وبذلك يبطل توهم نكاح الإخوة في أولاد آدم (عليه السلام) كما مرّ، وكذلك ما قيل من جمع يعقوب (عليه السلام) بين الأختين، والروايات الضعاف الدالة على ذلك متعارضة مع هذه الآية الشريفة، فلا بد من الإعراض عنها.

وأما ما قيل من أنّ المراد السنن في الجملة! فغير صحيح، إذ الغرض بيان الاقتداء بهم، وذلك يقتضي المطابقة التامة، وإلاّ فالدعوة المجملة إلى الاقتداء ببعض ما كانوا عليه غير مفيدة، مضافاً إلى أن الغرض هو دحض

ص: 143


1- سورة الحديد، الآية: 9.

حجج أهل الجاهلية في نكاح زوجة الأب وفي الجمع بين الأختين، فلوكان المراد من اتباع سنن الماضين هو اتباعهم في الجملة لصح للجاهليين الاحتجاج بأنهم يتبعونهم في الجملة في تحريم نكاح المحارم بالنسب مثلاً!

وعليه فالآية فيها إشعار بأنّ هذه الأحكام أمور فطرية لا نسخ فيها ولا تغيير، فلذا جرت من آدم (عليه السلام) إلى رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما فيها دحض لحجتهم بأنّ آباءهم كانوا يفعلون ذلك مثلاً فيقال لهم: إنّ الصالحين من الماضين وفيهم إبراهيم واسماعيل‘ لم يكونوا على طريقتكم.

وقوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي يغفر لكم ما اقترفتموه في الجاهلية من تحليل بعض هذه المحرمات وارتكابها، فالإسلام يجُبّ ما قبله.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} لذا أحكامه صائبة وصحيحة؛ لأنها عن علم، وهو حكيم؛ لذا بينها لكم وشرّعها إليكم وأراد التوبة عليكم لتطهيركم.

الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ...} الآية.

بعد أن بين اللّه تعالى الغرض من تنزيل هذه الآيات - بالبيان والهداية والتوبة - بيّن أنّ هناك معوقاً أساسياً يقف دونكم ويصدّكم عن هذه الأحكام، وذلك شياطين الإنس والجن الذين يتبعون الشهوات، فيقفون لكم بالمرصاد ويحاولون إغواءكم عن الصراط المستقيم.

وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ليس تكراراً لما في الآية السابقة، بل الأولى في مقام التطهير من ذنوب الجاهلية بارتكاب محرمات النكاح، والثانية حثّ لعدم مخالفة حكم الشرع واتباع الشهوات وأصحابها،

ص: 144

وقد مرّ أنّ توبة اللّه على العبد بمعنى رجوعه إليه ولطفه به تارة، بعد ذنب العبد فتكون التوبة لتطهيره، وتارة من غير ذنب فتكون التوبة لرفع درجاته، فمعنىهذه الآية أنّ اللّه يريد بهذه الأحكام تزكيتكم ورفع درجاتكم، حيث إنّ إطاعتكم له سبب قابليتكم لألطافه المستجدة.

وقيل: بل هو تكرار بغرض بناء قوله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ...} عليه، أي لما أراد مقابلة إرادة هؤلاء بإرادة اللّه تعالى التوبة عليكم اقتضت المقابلة تكرار إرادته التوبة، وإلاّ لرجعت المقابلة إلى كل الثلاثة المذكورة في الآية السابقة، وذلك غير مراد.

وقوله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ...} بيان أنّ الذين يعارضون هذه الأحكام إنما هم أتباع الشهوات، لا أتباع العقل والمنطق والدين، فشهواتهم تسوقهم إلى كل ما يلبّيها من غير نظر إلى الحلال والحرام وإلى المصالح والمفاسد، وهذا نهاية التحذير عنهم والتسخيف لمطالبهم، فمن جهةٍ، اللّه تعالى يريد تطهيركم ورفع درجاتكم، ومن جهة أخرى أتباع الشهوات يريدون تحريفكم عن الصراط المستقيم.

وأتباع الشهوات هم الكفار وأهل المعاصي من منتحلي الإسلام.

فأما الكفار فيريدون بقاءكم على الكفر وعدم الإسلام؛ لئلا تتقيدوا بأحكامه، قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً}(1)، وشهواتهم التي يتبعونها حبّ الرئاسة والجاه وكذا الشهوات الجسدية، فلذا كانوا يصدّون عن سبيل اللّه تعالى.

ص: 145


1- سورة النساء، الآية: 89.

وأما عصاة المسلمين فهم يريدون انتهاك حرمة أحكام اللّه تعالى اتباعاً لشهواتهم بالتمرد والعصيان، فيزينون معاصيهم للآخرين ليشاركوهم فيها؛لأنّ العصاة يألف بعضهم ببعض، وكذا لتخفيف اللوم والذم عنهم، فالذي يرتكب المعصية وَحدَهُ يواجه بذمّ الناس له، لكن لو شاركه الناس في معصية أو شاعت المعصية بينهم فيسلم من الذم واللوم، بل ينعكس الأمر على الملتزمين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَٰحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}(1).

وقوله: {أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا} أي أن تنحرفوا عن طريق الاستقامة وعن الصراط المستقيم، بتعطيل العقل والشرع وبتحكيم الغرائز والشهوات، وهذا الميل العظيم قد يكون بالكفر للتخلص من قيود الدين، وقد يكون بالعصيان بارتكاب الفحشاء، ومن المعلوم أنّ الكفر والفحشاء من أعظم الآثام والمحرّمات.

التخفيف سبب التشريعات

الرابع: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا}.

هذا بيان لعلة تشريع هذه الأحكام، كما أنّ قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ...} كان علة لبيانها.

فسبب هذه التشريعات هو التخفيف عن الإنسان؛ لأنّ الإنسان ضعيف فاحتاج إلى المساعدة بتشريع أحكام تناسب تكوينه.

وقوله: {يُخَفِّفَ عَنكُمْ} كما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ

ص: 146


1- سورة النور، الآية: 19.

الْعُسْرَ}(1)، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٖ}(2)، وقال: {وَيَضَعُعَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(3)، فعدم بيان الأحكام عبر إرسال الرسل وإنزال الكتب كان يدع الناس في حيرة وضلال، فكانوا يبتدعون لأنفسهم العادات والتقاليد التي تثقل كاهلهم وتقيّد حياتهم، كما حدث ذلك للذين رفضوا الرسالات ولم يؤمنوا باللّه ورسله، فأراد اللّه تعالى بلطفه ورحمته أن يخفف عن الناس، وذلك بهدايتهم وبيان ما يصلحهم عما يفسدهم مع فتح باب التوبة وقبولها لمن أراد أن يصلح ما أفسده على نفسه.

ولا يخفى أنّ القوانين الصحيحة وإن كانت تقيّد الإنسان، إذ لا يحق له مخالفتها وتجاوزها، لكنها تخفيف عليه، فإنّ للمحرمات آثاراً سلبيّة - دنيوية وأخروية - فالترخيص فيها يوجب ترتب تلك الآثار بما تصعّب حياة الإنسان، فالفوضى أكثر ضرراً على الإنسان من التقيّد بقوانين تمنعها، ومنع الناس عمّا يضرهم أنفع لهم من السماح لهم في ذلك وترتب الأضرار عليهم، فلذا كانت الشريعة سهلة سمحاء؛ لأنها قيود تخفيفيّة، وفك لقيود غير ضرورية، ولذا نشاهد أنّ مجتمع المؤمنين أفضل من مجتمعات العصاة والكفرة؛ لأنّ تقيّد أولئك بالدين منعهم مضرة المحرمات، كما أورثهم راحة نفسية بمراعاة حقوق اللّه وحقوق الناس، عكس مجتمع العصاة والكفرة، فإنه قد يكون أرفه وأغنى، لكنه مليء بالمشاكل النفسيّة والاجتماعية وعدم الشعور بالسعادة.

ص: 147


1- سورة البقرة، الآية: 185.
2- سورة الحج، الآية: 78.
3- سورة الأعراف، الآية: 157.

كما أنّ فتح باب التوبة وقبولها لمن كفر أو عصى أيضاً تخفيف عن الناس، فهم يتمكنون من التخلص من آثار الكفر والعصيان ومن قيودهمابالتوبة الصادقة، وذلك تخفيف من اللّه تعالى على عباده، مع أنه كان يمكن أن لا يقبل التوبة، فقبولها ليس بواجب عقلاً، لكنه رحمة ولطف من اللّه تعالى على عباده كما مرّ.

وقوله: {وَخُلِقَ الْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا} هذا تتمة للتعليل، أي أنّ التخفيف مناسب لخلق الإنسان، فتركيبة الإنسان الضعيفة تقتضي أن يكون التشريع مناسباً لها، فكان التشريع بالتخفيف متطابقاً مع التكوين بالضعف.

وضعف الإنسان من جهات، منها:

1- من جهة الجهل، فقد خلقه اللّه الإنسان لا يعلم شيئاً، ولكن زوّده بأدوات المعرفة، وبيّن له التشريعات بواسطة رسله ليزول بذلك ضعفه.

2- ومن جهة الشهوات، التي تصارع الإنسان، فقد جعل اللّه تعالى في الإنسان الشهوات؛ لأنّ حياته تتوقف عليها، ولكن جعل اللّه تعالى لتلك الشهوات مسارات صحيحة، فيتم إشباعها وإرضاؤها بما فيه مصلحة الإنسان، فضعفه بالشهوات تمّ تلافيه بتشريعات مناسبة.

3- ومن جهة إغواء المضلين من شياطين الجن والإنس، وقد تمّ تلافي هذا الضعف بإعطاء الإنسان الفطرة والعقل وبإرسال الرسل وإنزال الكتب.

والحاصل أنّ الإنسان موجود ضعيف، لكن يمكنه جبر ضعفه وتقوية نفسه بالارتباط بمبدأ القوة والعزة، وهو اللّه تعالى، حيث يملك مقاليد السموات والأرض وهو الضار النافع، فبإطاعته للّه تعالى يأوي إلى ركن

ص: 148

شديد قال سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}(1)، وقال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(2).

فاتضح أنّ التخفيف المقصود هنا هو بيان كون الشريعة سهلة سمحاء، وليس المراد - واللّه أعلم - ما قيل من أنّ الشرائع السابقة كانت صعبة فخفف اللّه تعالى على هذه الأمة المرحومة!

وذلك لأنّ هذه الأحكام في محرمات ومحللات النكاح كلها كانت في الشرائع السابقة كما قال: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، فكانت تخفيفاً على الجميع سواء هذه الأمة أم الأمم السابقة.

كما أنّ التخفيف بشكل عام لا ينافي جعل عقوبات على المخالفين والعصاة كالقصاص والرجم والجلد ونحو ذلك، بل وحتى العقاب بتحريم بعض المحللات، فهذا كما كان في الأمم السابقة كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}(3)، كذلك موجود في هذه الأمة - وإن بشكل آخر - كغيبة الإمام (عليه السلام) عقوبة على عدم مراعاة الناس لحقوق الأئمة (عليهم السلام) ، أو كتحريم المرأة التي تزوج بها في العدة حرمة أبدية، بل يمكن أن يقال: إنّ العقوبة سواء كانت عامة أم خاصة هي تخفيف عن الأمة بأسرها، وذلك ليتطهروا من ذنوبهم، وبدلٌ عن العقوبة الأشد في الآخرة.

ولا يخفى أنّ التخفيف في الأحكام لا ينافي وجود نظائر تلك الأحكام

ص: 149


1- سورة فاطر، الآية: 10.
2- سورة المنافقون، الآية: 8.
3- سورة النساء، الآية: 160.

عند سائر الناس؛ لأنّ التخفيف إنما هو بمعنى تشريع الحكم السهل السمح، وليس معناه أنّ ذلك بعد تصعيب أو صعوبة، فنفس إمضاء عمل الناس أوتهذيبه هو تخفيف أيضاً.

ثم إنّ خلق الإنسان ضعيفاً لا ينافي قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٖ}(1)، وقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(2)، وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(3)؛ لأنّ ذلك الضعف طريق إلى القوة بالارتباط باللّه تعالى وبطاعته، ولكي يصح الامتحان الذي هو من أهم المصالح، فمن تكريم الإنسان وتفضيله وحسن تقويمه أن يكون ضعيفاً ضعفاً قابلاً للجبر، نعم لو لم يمكن جبر ذلك الضعف لكان هناك خلل، لكن اللّه تعالى عن ذلك فهو أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين تبارك وتعالى.

بل إنّ كون الإنسان مخلوقاً يلازم ضعفه وحاجته أبداً إلى الخالق الغني في كل شيء، فالممكن يستحيل أن لا يكون محتاجاً ضعيفاً، ولطف الخالق ورحمته به هو الذي كان السبب في أصل وجوده وفي استمرار حياته وفي قضاء حوائجه.

ص: 150


1- سورة التين، الآية: 4.
2- سورة الإسراء، الآية: 70.
3- سورة المؤمنون، الآية: 14.

الآيات 29-31

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا 29 وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَٰنًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا 30 إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا 31}

بعد ذكر محرمات النكاح، ومنها عدم إعطاء المهور أو التماهل فيها، وكذا أكل مال اليتيم، وعدم تقسيم الإرث بشكل صحيح، يأتي القرآن لبيان القاعدة العامة في الأموال المحللّه والمحرمة فقال:

29- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} خصّ الخطاب بهم؛ لأنهم المنتفعون به ويصغون إليه {لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ} بخلاف الحق وبغير الوجه الحلال {إِلَّا أَن تَكُونَ} الاستثناء منقطع، أي ولكن يجوز الأكل إذا كانت {تِجَٰرَةً} معاملة يقصد بها الربح {عَن تَرَاضٖ مِّنكُمْ} طيب نفس المتعاملين، {وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} بأن تعرضوها للقتل بسبب أكل الأموال بالباطل، فالكثير من حالات القتل بسبب الأموال، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} لذا شرّع هذه الأحكام، فالتزموا بها، ويكون ذلك لصالحكم في الدنيا، حيث تنالون فوائد العمل بها، وفي الآخرة حيث يجزيكم اللّه برحمته الجنة.

ص: 151

30- {وَ} لكن المخالفة بضرركم ف {مَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ} الأكل بالباطلوالقتل {عُدْوَٰنًا} بالتعدي والتجاوز على الآخرين وعلى حكم الشرع، وقوله: {وَظُلْمًا} تأكيد للعدوان، أو المراد أنّه لم يكن على وجه الخطأ {فَسَوْفَ} في الآخرة {نُصْلِيهِ نَارًا} نذيقه حرارتها {وَكَانَ ذَٰلِكَ} الإصلاء بالنار {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} سهلاً لا صارف عنه.

31- ثم رغّب اللّه في ترك هذه المعاصي فقال: {إِن تَجْتَنِبُواْ} تتركوا {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} والذي منه أكل الأموال بالباطل والقتل، والكبيرة هي كل ما وعد اللّه عليها النار، {نُكَفِّرْ عَنكُمْ} نغفر ولا نؤاخذكم على {سَئَِّاتِكُمْ} وهي الذنوب الصغيرة، {وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا} اسم مكان، أي محل الدخول {كَرِيمًا} أي مرتفعاً وجليلاً وهو الجنة.

بحوث

الأول: نظم الآيات مع ما قبلها، حيث إنّ الآيات الماضية كانت حول محرمات النكاح، وقد ذكر فيها المهور ولزوم إيتائها للزوجات من غير نقص، كما تضمنت الآيات التي قبلها النهي عن أكل مال اليتيم وحكم الإرث، فأراد اللّه تعالى بيان القاعدة العامة في حرمة أو حلية الأموال، كما بيّن القاعدة العامة في النكاح الحلال والحرام، وذلك لما بَيْن الأمرين - النكاح والمال - من الارتباط الوثيق، حيث إنّ بهما قوام المجتمع، وأيضاً حيث ترتبط بهما النفوس، فأكثر حالات النزاع التي تؤدي إلى القتل ترتبط بهما أيضاً؛ لذلك نهى اللّه تعالى عن القتل أيضاً، وكما قيل: فإنّ أهم الأمور عند اللّه تعالى بالنسبة إلى الناس ثلاثة: النفوس والأعراض والأموال،

ص: 152

فجمعتها هذه الآيات بالذكر والبيان لأحكامها.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِ}.

الحكم عام للمؤمنين ولغيرهم، وحتى للكفار، حيث إنهم مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، إلاّ أن المنتفع والمستفيد من هذه الأحكام الفرعية هم المؤمنون؛ لذلك خص الخطاب بهم تشريفاً لهم، كما مرّ مراراً.

وقوله: {لَا تَأْكُلُواْ} يراد به الاستيلاء والسيطرة على الأموال، وحيث إنّ عمدة الغرض من الأموال هو الأكل لتوقف الحياة عليه، لذلك استعيرت لفظة الأكل، أو هو تشبيه الاستيلاء بالأكل.

وقوله: {أَمْوَٰلَكُم} جمع الأموال يفيد أنه لا فرق بين مال ومال، ولا بين المال الجليل والحقير، فلا بد من مراعاة حق الناس وعدم الاستيلاء حتى على القليل من أموالهم، فبعض الناس يتهاونون في القليل الحقير، وبعضهم على العكس، حيث يراعون في القليل لكن يغلبهم الهوى في الكثير، فبالجمع تمّ تحذير كلتا الطائفتين.

والإضافة إلى (كم) وهو ضمير الجمع للدلالة على أنّ هذه الأموال هي بصالح المجتمع أجمع، فالملكية الفردية قد أقرها الإسلام لكن نفعها يعود للجميع، كما مرّ، وكأنّه اعتبر المؤمنين كلّهم وحدة واحدة وكأنّ الأموال للجميع، فالتصرف الحرام في تلك الأموال يعود ضرره على الجميع بما فيهم الآكل.

وقوله: {بَيْنَكُم} لعلّه للدلالة على أنّ الأكل يكون لأموال الآخرين؛

ص: 153

وذلك لأنّ أكل المال بالباطل قد يكون بأكل الإنسان مال نفسه بالباطل، كأن يحوّلعنبه خمراً فيشربه، أو يحوّل خشبه إلى آلات محرّمة فيلعب بها مثلاً، فهذا وإن كان حراماً إلاّ أنه ليس مقصوداً بالذكر في هذه الآيات، بل المقصود هو انتقال مال من شخص إلى آخر بالباطل، فيشمل المعاملات الباطلة والغصب والتماطل في إعطاء الآخرين أموالهم وأجورهم ونحو ذلك.

وقوله: {بِالْبَٰطِلِ} أي خلاف الحق، فكل ما لا واقع ثابت له هو باطل، والأكل للمال بالباطل هو ما لا يقرّه الشرع والعقل، فيدخل فيه التعامل بجميع ما نهى الشارع عنه، وكذا ما لا غرض عقلائي فيه، والحاصل أنّ كل ما سماه العرف باطلاً، وكذا كلّ ما نهى الشرع عنه فهو داخل في الباطل الذي نهى اللّه تعالى عن أكل المال به.

و(الباء) في قوله: {بِالْبَٰطِلِ} إما للإلصاق أو للسببيّة، أي أكلاً باطلاً كالغصب، أو أكلاً بسبب باطل كالربا والقمار.

وسبب ذلك أنّ الإسلام جعل حرمة واحتراماً للأموال وأصحابها، فلذلك شرّع أو أمضى كل طريقة صحيحة للاستيلاء على مال الغير، بحيث يكون ذلك في مصحلة المجتمع وفي مصلحة المال وتنميته، فيكون أكل المال حينئذٍ أكلاً بحق، ويدخل في ذلك المعاملات المشروعة التي ينتفع بها الطرفان، كالبيع والإجارة والمزارعة ونحوها، أو هي تقوية لأواصر المجتمع كالهبة والوصية والإرث ونحوها، أو هي لإدارة المجتمع كالضرائب المشروعة التي بها يتم خدمة المجتمع وتوفير الأمن والخدمات إليه.

وأما لو كان استيلاءً فيه فساد للأموال أو للمجتمع أو كان فيه إضرارٌ

ص: 154

لصاحب المال، كالربا والقمار والغصب ونحو ذلك، فذلك من الباطل الذييأباه العقل وحرّمه الشرع، ولو شاهدنا الناس يرتكبونها أو يستسيغونها فذلك تعطيل للعقول واستيلاء للشهوات، فليس تداول ذلك في المجتمعات وارتكاب بعض العقلاء لها دليلاً على مطابقتها للعقل، بل سبب ذلك إما عدم العلم بالمضار وتوهم المنافع فيها، أو لغلبة الشهوات على العقول، كالزنا الذي هو شائع في المجتمعات وقد يرتكبه بعض العقلاء، لكن ذلك بسبب تعطيل العقل، فلذا ما يرتكبه العقلاء لا بد من التدقيق فيه، فهل يرتكبونه بما هم عقلاء عالمون بالمصالح والمفاسد، أو يرتكبونه لجهلهم أو لشهوتهم، ولذا لمّا جاء الإسلام أمضى جميع المعاملات العقلائية، إلاّ أنّه شذّبها وهذّبها عن كل ما فيه المفسدة، ولذا رفض بعض المعاملات من أساسها كالربا والقمار، وهذّب بعضها الآخر بوضع شروط أو إلغاء شروط.

الثالث: قوله تعالى: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمْ}.

هذا استثناء منقطع؛ لأنّ التجارة عن تراض ليست داخلة في الأكل بالباطل كي نحتاج إلى إخراجها عن حكمها بعدم الجواز، وسبب استعمال الاستثناء المنقطع بشكل عام هو دفع توهم اشتراك المستثنى مع المستثنى منه في الحكم بسبب...

1- تداخلهما خارجاً وشدة الارتباط بينهما.

2- أو بسبب عدم علم السامع بأنّ المستثنى ليس من أفراد العام المستثنى منه.

3- أو بسبب إرادة جعل حكم مشابه لفرد آخر اختصاراً للكلام.

ص: 155

فمن الأول قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ}(1) حيث كان مختلطاً مع الملائكة، حتى إنه يخال أنه أحدهم، ومن الثاني قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُۥ سَيَهْدِينِ}(2)، حيث كانوا يزعمون أنّ الآلهة متعددة ويحسبون اللّه أحدها سبحانه وتعالى عمّا يشركون، ومن الثالث قوله تعالى: {قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا}(3).

فمعنى الآية لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولكن تاجروا عن تراض فالأكل جائز حينئذٍ، فهو من النوع الأول أو الثاني من الاستثناء المنقطع، أي لاختلاط معاملاتهم وتصرفاتهم، حيث كانت التجارة عن تراض، والربا والقمار ونحو ذلك شائعة بينهم بحيث يعتبرونها بكيفية واحدة، كما قال: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوٰاْ}(4).

وقيل: لعل الغرض هو دفع توهم أنه لو لم يجز أكل المال بالباطل لتوقفت حياة الناس الاقتصادية، فجاء الجواب بشكل استثناء منقطع بأنه تجري الحياة بالتجارة عن تراض.

وحيث كان الاستثناء منقطعاً فلا مفهوم له في حصر التداول الجائز بالتجارة عن تراض، كي نضطر إلى تخصيصه بالهبة ونحوها، بل لا مفهوم للاستثناء المنقطع في الحصر، وإنما يدل على جواز التجارة عن تراض، وأمّا

ص: 156


1- سورة الحجر، الآية: 30-31.
2- سورة الزخرف، الآية: 26-27.
3- سورة آل عمران، الآية: 41.
4- سورة البقرة، الآية: 275.

سائر التداولات الجائزة غير التجارة فيستفاد جوازها من آيات أخرى كقوله: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٖ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِئًا مَّرِئًا}(1)، ومن متواتر الروايات، بل من صدر هذه الآية؛ لأن الهبة وأمثالها ليس من أكل المال بالباطل.

وقوله: {تِجَٰرَةً} هي بمعنى المعاملة في رأس المال طلباً للربح، فحتى لو خسر فإنها تجارة خاسرة؛ لأنه كان يقصد الربح.

وقوله: {عَن تَرَاضٖ} أي بطيبة النفس، فلا تنفع التجارة عن إكراه، إلاّ لو لحقها الرضا، فإنه لا فرق في الصحة وشمول الآية بين أن يكون الرضا سابقاً على العقد أو لاحقاً عليه، كالبيع الفضولي إذا أجازه المالك، وأما بيع المضطر فهو عن رضا فلذا كان صحيحاً، كمن يمرض ويحتاج إلى أموال للعلاج فيضطر إلى بيع بيته مثلاً، فهو وإن كان غير راض بالبيع لولا الاضطرار إلى العلاج، لكنه بالنظر إلى هذه الحالة وهي حالة الاضطرار فإنه راضٍ عن المعاملة، نعم لا يصح استغلال اضطراره في الشراء منه بثمن بخس.

و(تراض) من باب التفاعل، ويدل على لزوم رضا الطرفين فلا يكفي رضا أحدهما.

وقوله: {مِّنكُمْ} لعله للإشارة إلى عدم كفاية الرضا باللسان، بل لا بد من الرضا في القلب، ف (من) ابتدائية، للدلالة عن نشوء الرضا من القلوب، ولذا قيل: المأخوذ حياءً كالمأخوذ غصباً؛ وذلك لعدم الرضا القلبي حين الحياء.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.

ص: 157


1- سورة النساء، الآية: 4.

قد قرن اللّه تعالى حكم الأموال بحكم القتل في هذه الآية وفي قوله: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)، ولعل سبب ذلك هو أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين القتل وبين الفساد في الأموال، فالمال من أكثر أسباب القتل، سواء الطمع في المال، أو الدفاع عنه أو محاولة الاستيلاء عليه، فلعلّه لذلك تم النهي عنهما معاً.

وقيل: أراد اللّه تعالى بيان الأمور الثلاثة المهمة عنده، فالأموال والأعراض ذكرت في الآيات السابقة، فأتمّ ذلك بذكر النفوس بالنهي عن القتل.

وقوله: {أَنفُسَكُمْ} كقوله: {أَمْوَٰلَكُم} فكأن المؤمنين كلهم نفس واحدة؛ فلذا كان قتل مؤمن كقتل النفس، أو هو زيادة في التبشيع فكأن القائل قد قتل نفسه، أو هو لبيان رجوع الضرر على القاتل أيضاً؛ لأنه بقتل الغير يُسلّط أولياءه على قتله.

والنهي عن القتل بشكل عام يشمل الانتحار أيضاً، وعن التسبيب في قتل نفسه، كأن يهجم على المشركين وحده وهم الأكثر عدداً وعدة من غير استئذان من قائد الجيش فيقتلونه، فقد أعان على نفسه، وكأنه قتلها حيث صار سبباً لذلك، كما في بعض الروايات(2)، وذلك بيان لأحد مصاديق الآية أو لشأن نزولها.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} بيان سبب تشريعه لهذه الأحكام التي منها النهي عن أكل المال بالباطل والنهي عن القتل وإباحة التجارة عن

ص: 158


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 83-84.

تراض فليس تحليله أو تحريمه لأجل نفع عائد إليه، سبحانه هو الغني عن الخلق أجمع، وكلهم فقراء إليه، وله رحمة خاصة بالمؤمنين إضافة إلى رحمته العامة التي وسعت كل شيء، فلذا بيّن الأحكام لحاجتهم إليها وإلى بيانها، إذ نحن {مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا اللَّهُ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَٰنًا وَظُلْمًا...} الآية.

كان الخطاب للمؤمنين، لكن حين ذكر العقاب التفت منهم فقال: {وَمَن يَفْعَلْ...} قيل: لعلّه لبيان أن من يفعله ليس بمؤمن، أو لبيان عموم الحكم، فإن الخطاب وإن كان خاصاً بالمؤمنين في قوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ...} لكن الحكم ليس خاصاً بهم، وعقوبة المخالفة مشتركة حتى الكفار والمنافقين والعصاة؛ لأنّ الجميع مكلّف بالفروع أيضاً ويعاقب على مخالفتها.

وقوله: {ذَٰلِكَ} إشارة إلى أكل المال بالباطل وإلى القتل، وهذا هو الظاهر من سياق الآية، وقيل: هو إشارة إلى خصوص القتل.

وقوله: {عُدْوَٰنًا وَظُلْمًا}، (العدوان) هو التعدي عن الحق، و(الظلم) هو وضع الشيء في غير موضعه، فالكلمتان متقاربتا المعنى، فالإتيان بهما معاً إما للتأكيد لزيادة الزجر ببيان قبح الفعل، أو يراد بالعدوان مقابل الخطأ، وبالظلم مقابل القصاص ونحوه، أو العدوان على الغير والظلم على النفس، أو الأول على حق اللّه والثاني على حق الناس.

والحاصل أنّ الوعيد بالعقاب خاص بالمتعمد الذي يأكل الأموال بالباطل ويقتل النفوس مع علمه بالموضوع، أما لو أخطأ أو سها أو نسي بما كان

ص: 159


1- سورة الأعراف، الآية: 43.

معذوراً فيها فذاك مرفوع عنه العقاب الأخروي والدنيوي، نعم يلزمه الضمان أو الدية، وذلك ليس عقوبة، بل إنصاف لصاحب الحق.

وقوله: {نُصْلِيهِ} من صَلى يصلي بمعنى قاسى حرارتها وذاقها، فالمعنى إدخاله في جهنم ليقاسي عذابها ولهيبها.

وقوله: {وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} بمعنى سهلٍ، ولعل المقصود بيان ضعف المعتدي والظالم، فهو يتجاوز على الحقوق؛ لأنّ له القوة أو يتصور أنه الأقوى عادة، لكن إن كان أقوى من المظلوم فهو لا قدرة له أمام اللّه تعالى، أو المقصود بيان أنه لا صارف عن هذا العذاب، خلاف ما يتصوره أهل الضلال بأن رحمة اللّه تعالى مانعة عن عذاب خلقه، وتأويلهم آيات العذاب بأنها لمجرد التهديد إنما هو تأويل لابتغاء الفتنة وتحريف الكلم عن مواضعه، فيقال لهم: إنّ العذاب على اللّه يسير لا قبح فيه، نعم قد يشاء تعالى العفو لمصالح أحياناً لا دائماً، بل الحكمة تقتضي عذاب المشركين وبعض العصاة وعدم العفو عن جميعهم.

السادس: قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَئَِّاتِكُمْ...} الآية.

حث على الالتزام بأحكام الشرع والنواهي الشرعية، وعدم اليأس والقنوط من رحمة اللّه تعالى؛ وذلك لأنّ غالب الناس لا يخلون عن ارتكاب بعض الذنوب، فكان غلق الباب عليهم سبباً لتماديهم وارتكابهم جميع أصناف المعاصي، ولذلك فتح اللّه تعالى لهم طريق الرجعة والتخلص من الذنوب وآثارها، فتارة بالنهي عن القنوط من رحمة اللّه تعالى، وتارة

ص: 160

أخرى بتشريع التوبة والقضاء بها، وثالثة بالتكفير عن صغائر الذنوب سواء بفعل الحسنات كما قال: {إِنَّ الْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ السَّئَِّاتِ}(1)، أم بتكفير الصغائر بترك الكبائر، ورابعة بالشفاعة في الآخرة ونحوها.

كل ذلك حثاً للطاعة والرجوع إليها لو زلت قدم الإنسان، وليس ذلك إغراء بالمعصية كما توهمه بعض الجهّال، بل حيث إنّ غالب الناس لا يخلون عن الذنوب، وهذا أمر واقع خارجاً، وحيث إنّ اللّه خلق الناس ليرحمهم لا ليعذبهم لذلك لطف بهم وفتح لهم الطريق واسعاً للرجوع إلى الطاعة وإصلاح ما أفسدوه بذنوبهم، فحيث علم الناس بذلك رجع الكثير منهم إلى الطاعة، ولولا ذلك ليئسوا من الرحمة وأيقنوا بالعذاب فصار داعيهم على التمادي في المعاصي أكثر، وكما قاله بعضهم: إنه ما دام من أهل النار فليتمتع بدنياه بأيّة كيفية كانت!

قوله: {تَجْتَنِبُواْ} من الاجتناب بمعنى الترك، فكأنه أدار جنبه عن المعصية، ولذلك كان في الاجتناب إشعار بالنفرة والكراهة أو الالتزام دائماً كذا قيل.

وقوله: {كَبَائِرَ} أي المعاصي الكبيرة، وهي المحرمات التي وعد اللّه عليها النار كما في الروايات(2)، ولا يخفى أنّ سبب النهي عن المحرمات هو وجود المفسدة فيها غالباً، وهذه المفاسد تختلف شدةً وضعفاً، فكلما كانت المفسدة أشد كانت المعصية أكبر، وبهذا الاعتبار صحّ تقسيم المعاصي إلى كبائر وصغائر، نعم من جهة كونها عصياناً للّه تعالى فكلّها

ص: 161


1- سورة هود، الآية: 114.
2- راجع الكافي 2: 284؛ والبرهان في تفسير القرآن 3: 85-89.

عظيمة، فمعصية العظيم عظيمة، بلا فرق بين معصية وأخرى، ولكن اللّه تعالى لفضله ورحمته بعباده وتسهيلاً لهم للرجوع إلى الطاعة لذلك قسّم الذنوب باعتبار نسبة بعضها إلى بعض من حيث مفسدتها.

وقوله: {مَا تُنْهَوْنَ} بيان أن كلّها - كبيرها وصغيرها - منهي عنه، لكن هناك تكفير عن الصغائر المنهي عنها لو ترك كبائرها، ولطف هذا التعبير هو التحذير من الصغائر أيضاً باعتبارها منهياً عنها، فالتكفير عنها بمعنى عدم العقوبة عليها فقط، لكن سائر آثار المعصية يترتب عليها، كالفسق مثلاً - على الأصح - وأيضاً حيث إنّ الصغائر منهي عنها والتكفير خاص بحالة اجتناب الكبائر، فلذلك لو لم يجتنب الكبائر فهو مؤاخذ بها وبالصغائر معاً.

وقوله: {نُكَفِّرْ عَنكُمْ} من التكفير بمعنى الستر، ويراد به غفرانها وعدم السؤال عنها، وعدم المؤاخذة عليها، والعفو عنها.

وقوله: {سَئَِّاتِكُمْ} أي الصغائر، وإنما عبّر عنها بالسيئات ليُعلم أنها سيئة، وأنه لا بد للإنسان من تنزيه نفسه عنها؛ لأنها وإن كانت مكفّرة إلاّ أنها تسوء صاحبها، ولو بتنزيل درجاته وبُعده عن المولى جلّ وعلا.

وقوله: {وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا} أي لا تؤثر تلك الصغائر في منعكم عن الجنة، نعم قد تؤثر في درجاتها.

والحاصل أنّ اجتناب الكبائر له أثران: التكفير عن الصغائر ودخول الجنة، وتقديم التكفير عن السيئات على دخول الجنة؛ لأنه لا يدخل الجنة أحد إلا بعد أن يتطهر من جميع ذنوبه، فلا قابلية للنفس المذنبة لدخول الجنة أبداً؛ لأنها دار سلام لا خبث فيها، فلا تناسبها النفس المذنبة إلا بعد

ص: 162

تطهيرها.

و(المدخل) بضم الميم اسم مكان بمعنى محل الدخول، أو مصدر ميمي أي دخولاً كريماً من غير معوقات، عكس مرتكب الكبائر من المؤمنين فقد يدخل الجنة بعد تطهيره عن كبائره بالعذاب الشديد.

وقوله: {كَرِيمًا} من (الكرم) بمعنى العلو والارتفاع، ولذا يقال للسخي كريم باعتبار علو نفسه، فالجنة عالية القدر مرتفعة المنزلة لذلك وصف المدخل بالكريم، أو هو وصف للجنة، لكن أريد به وصف أهلها، فهو وصف بحال المتعلق، فالمعنى يُكرم الإنسان فيه، أو إدخالاً مع كرامته.

ثم هناك بحوث كثيرة حول الكبائر والصغائر ذكرنا بعضها في شرح أصول الكافي فراجع.

ص: 163

الآيتان 32-33

اشارة

{وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَسَْٔلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا 32 وَلِكُلّٖ جَعَلْنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ فََٔاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدًا 33}

ثم بعد النهي عن أكل المال بالباطل، بيّن سبب اختلاف الناس في الثروات فقال:

32- {وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا} المال الذي {فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ} فإنّ تفضيله لحكمة، والتمني قد يجرّ إلى الحسد والتباغض والهمّ والغمّ، ثم قد يجرّ إلى الفساد والإفساد، وهذا التفضيل قد يكون اختيارياً بالعمل والكد ف {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ} بالتجارة ونحوها {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} فلا تطمعوا في أموالهم وأموالهن، لكن أطلبوا الرزق بالعمل {وَسَْٔلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} ليعطيكم ما أعطاهم، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فتفضيله بعضكم على بعض لمصلحة وكذا تشريعه أن للإنسان كسبه هو عن علم، كما أنه عالم بسؤالكم وحقيقة دعائكم.

33- {وَ} قد يكون التفضيل لأمر غير اختياري وتشريعه لمصلحة كالإرث ف {لِكُلّٖ} من الرجال والنساء {جَعَلْنَا مَوَٰلِيَ} أي من هم أولى بهم من غيرهم،

ص: 164

فالمولى هنا بمعنى الوارث، فيرثون {مِمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وهذاالإرث بالنسب، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} أي عاهدتموهم وهذا الإرث بالسبب، وهم: الزوجان، والمُعتِق، وضامن الجريرة، والإمام (عليه السلام) ، {فََٔاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي أعطوا كل هؤلاء بحسب أولويتهم وحصتهم من الإرث، ولا تبخسوهم شيئاً ف {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدًا} شاهداً ثم يجازي على ما علمه.

بحوث

الأول: هاتان الآيتان حثّ للإنسان على الرضا بما قسّمه اللّه تعالى من الأموال ونحوها، فعلى الإنسان أن يرضى بذلك، فكما لا يجوز له أكل المال بالباطل إلا بالتجارة عن تراض، كذلك لا يصح له أن يمدّ عينه إلى أموال الآخرين، سواء حصلوا عليها بجهودهم أم حصلوا عليها بتشريع إلهي كالإرث، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، بل على الإنسان أن يكدّ ويعمل مع الدعاء لكي يهيّئ اللّه تعالى له الأسباب فيزيده من فضله الواسع العميم، فيعطيه مثل ما للآخرين أو أحسن منهم، فسياق هاتين الآيتين وما قبلهما واحد في الحث على الصلاح في الشأن المالي، وبيان أمور أخرى ترتبط بذلك، مع بيان العلة.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ}.

(التمني) هو رغبة نفسية في الشيء المتعذر أو كالمتعذّر سواء مضى وقته أم لم يأتِ، وقد يُظهره الإنسان بألفاظ وضعت للتمني مثل: (ليت)، كقوله: {فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا يَٰلَيْتَ لَنَامِثْلَ

ص: 165

مَا أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ}(1).

وإنما نهى عنه؛ لعدم جدواه، فأيّة فائدة في الرغبة في الأمر المحال، مضافاً إلى أنه يكشف عن ضعف الإيمان واليقين إذا تمنّى ما للغير، فمن يعلم بحكمة اللّه وعدله يعلم بأنه لم يقدّر شيئاً اعتباطاً سواء كان في مجال التكوين أم التشريع، فهذا التمني هو نوع عدم رضا وعدم معرفة به سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}(2)، وقال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}(3).

وأيضاً قد يتحوّل هذا التمني إلى الحسد وبغض صاحب النعمة، وقد يجرّ ذلك إلى إظهار هذا الحسد بيد أو لسان والسعي لزوال نعمة المحسود بالطرق غير المشروعة.

وأيضاً لعلّ ذلك لم يكن من مصلحة الإنسان فرحمة من اللّه منعه عنه، وفي الدعاء: «ولعلّ الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور»(4)، وقال: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}(5).

ص: 166


1- سورة القصص، الآية: 79.
2- سورة النحل، الآية: 71.
3- سورة الزخرف، الآية: 32.
4- بحار الأنوار 94: 339.
5- سورة طه، الآية: 131.

والحاصل أنّ الدنيا والآخرة لا تنالان بالتمني، سواء في الأموال أم غيرها، بل جزء منها بالكدّ والعمل، والجزء الآخر بالدعاء.

ثم لا يخفى أنه لا بأس بالغبطة، بأن يشتاق الإنسان إلى مثل ما لغيره من غير تمني زوالها عنه، فيسأل اللّه تعالى ذلك أو يعمل لتحصيله.

وقوله: {مَا فَضَّلَ اللَّهُ} للدلالة على أنّ التفضيل من اللّه تعالى فيما كان من الحلال، وأما لو كان من الحرام كالسرقة والغصب وابتزاز الحقوق فإنما هو بفعل الإنسان وليس من الرزق، كما مرّ أنّ الرزق إنما هو إذا كان من الحلال، فليس من الرزق ما إذا كان من الحرام، نعم اللّه قد يعاقب مرتكب الحرام بأن ينقص من رزقه بمقدار ما اكتسبه بالحرام، فهو يتحمل الوزر من غير أن يزيد في الرزق.

وعليه فإذا كان التفضيل من اللّه تعالى فلا معنى للتباغض، إذ لا ذنب للمفضَّل في ذلك.

وقوله: {بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ} قيل: فيه إثارة العاطفة بأنّ الذي فضّله اللّه هو منكم وبعضكم فلماذا الحسد منه، وهل يحسد العاقل بعضه أو من يهمّه أمره؟!

الثالث: قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ...} الآية.

بيان لأحد سببي التفضيل وهو السبب الاختياري، فاللّه تعالى قد قدّر رزق جميع العباد، لكن أمرهم بطلبه، فمن طلبه وصل إليه، ومن لم يطلبه لم يصل إليه، لا لأنّ اللّه لم يرزقه، بل اللّه رزقه لكنه لم يطلبه، كالذي يبقى جائعاً إلى أن يموت وقريب منه الأطعمة، فلا يقال: إنه لم يرزق، بل يقال:

ص: 167

إنه لم يستفد من رزقه.

ثم إنّ اللّه قد جعل الأسباب مختلفة من حيث صعوبتها ومن حيث نتائجها، فقد يرزق شخصاً رزقاً كثيراً بجهد قليل، وقد يرزق آخر رزقاً قليلاً بجهد كبير.

وعليه فالرزق مقسوم - قلة وكثرة - مع أمرنا بطلبه، فمن طلبه وصل إليه، فعليه أن لا يتمنى رزق الآخر، بل يرضى ويقنع بما قسمه اللّه تعالى له.

وقوله: {نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ} أي جزء من كسبهم يكون لهم، فهؤلاء بجهدهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه، فأنتم أيضاً اجتهدوا، فلعلّ اللّه قدّر لكم مثل ما قدّر لهم أو أكثر لكن شرطه بجهدكم، ومن في قوله: {مِّمَّا} تبعيضية، أي بعض ما اكتسبوا؛ لأن بعضه الآخر قد تتعلّق به الحقوق الشرعية، كالخمس والزكاة أو حقوق الناس كنفقة واجبي النفقة، كما أنّ العادة أن يترك الناس بعض أموالهم لورثتهم، وقوله: {اكْتَسَبُواْ} من باب الافتعال الذي يفيد التكلّف والمشقة، ولعل استعماله هنا - مع أنّ بعض الرزق بالكسب بلا كلفة - للمقابلة مع الإرث الذي يأتي الإنسان بتشريع شرعي من غير طلب أصلاً.

وقوله: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} حيث ذكر الرجال ذكر النساء أيضاً منعاً لعادة جاهلية بمنع النساء من جهود عملهن ومصادرة آبائهن أو أزواجهنّ له!

وقوله: {وَسَْٔلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} لبيان أنّ هناك تقدير أموال غير الأرزاق، وقد يعبّر عنها بالرزق المعلّق، حيث إنّ اللّه قسّم الرزق بين العباد، لكنه ترك كثيراً من ذلك بلا تقسيم، بل تركه للداعين حينما يدعون

ص: 168

فيستجيب دعاءهم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ليس من نفس إلاّ وقد فرض اللّه لها رزقاً حلالاً يأتيها في عافية، وعرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن تناولت من الحرام شيئاً قاصّها به من الحلال الذي فرض اللّه لها، وعند اللّه سواهما فضل كثير»(1).

وقد مرّ فضل الدعاء وسبب تقدير اللّه تعالى إجابة الدعاء، وأنه كمال للإنسان بحيث يتقرب بالدعاء إلى اللّه تعالى، وأيضاً بذلك يرتقي فتصبح له القابلية لفضل اللّه عليه، بما لم يكن له قابليته قبل الدعاء، وفي الحديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «إنّ اللّه تعالى أحب شيئاً لنفسه وأبغضه لخلقه، أبغض عزّ وجلّ لخلقه المسألة، وأحب لنفسه أن يُسأل، وليس شيء أحب إليه من أن يُسأل، فلا يستحيي أحدكم أن يسأل اللّه عزّ وجلّ من فضله ولو شسع نعل»(2).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} كالتعليل للنهي عن التمني، فإنّ اللّه عليم؛ فلذلك فضّل بعضكم على بعض، وأيضاً لإيجاد حالة الرجاء في الداعي، فلمّا أمرهم بالسؤال من فضله رغّبهم فيه بأنه عالم بدعائهم فيستجيب لهم، وأيضاً عليم بما يضمرونه في قلوبهم من التمني والحسد أو الغبطة وصدق الدعاء.

الرابع: قوله تعالى: {وَلِكُلّٖ جَعَلْنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ...} الآية.

بيان للسبب الآخر من التفضيل، وهو السبب غير الاختياري، أي الإرث، فالمصلحة اقتضت بأن تقسّم تركة الميت بين ورثته من دون سعي لهم فيتلك الأموال، فلذا شرّع اللّه الإرث، وبيّن من يستحقه ، ومقدار ما يستحقه،

ص: 169


1- تفسير العياشي 1: 239.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 70.

فتارة الإرث بالنسب، وأخرى بالسبب، والآية بينت كلا النوعين بإجمال؛ لأنّ الغرض في بيان تفاضل الناس في الأموال وسبب ذلك التفاضل، وليس المقصود التفصيل في أحكام هذه الأسباب.

وقوله: {وَلِكُلّٖ} أي لكل من الرجال والنساء، وهذا تأكيد لحق النساء في أموال الإرث أيضاً لئلا يستولي عليها الرجال.

وقوله: {مَوَٰلِيَ} أي مَن هم أولى بأمواله من غيرهم، وكلمة (المولى) اسم مكان أو مصدر ميمي من مادة (و ل ي)، ومعناه الأولى بالشيء أو الشخص، ولذا يقال للعبد ولسيده؛ لأن السيد أولى بعبده من غيره، ويقال للناصر؛ لأنه أولى من غيره بالنصرة، ولابن العم؛ لأنه أولى بنصرة بني عمومته أو لأنه الأولى بالزواج ببنت عمّه، وللحاكم لأنه أولى بالتصرف بالحكومة من غيره، وفي حديث الغدير قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه»(1).

والورثة أولى بإرث الميت من غيرهم، قال: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَٰلِيَ مِن وَرَاءِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}(2).

وقوله: {مِمَّا تَرَكَ} متعلق ب {مَوَٰلِيَ} أي الذي له الأولوية من ما تركه الميت، أو متعلق بمحذوف، أي موالي يرثون ممّا ترك، و(من) للتبعيض، إذ جزء من أموال الميت تكون للدين والوصية ونحو ذلك.

ص: 170


1- الحديث متواتر رواه الفريقان، وكمثال: توحيد الصدوق: 212؛ مسند أحمد 1: 118؛ تفسير نور الثقلين 4: 237.
2- سورة مريم، الآية: 5-6.

وقوله: {الْوَٰلِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} بيان للإرث بالنسب، فحاصل المعنى: وقد جعلنا لكل من الرجال والنساء من هم أولى به من غيرهم يرثون ما تركه والداهم وأقربوهم.

الإرث بالسبب

وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} بيان للإرث بالسبب، وهو يتحقق بالمعاهدة بين الطرفين، والأيمان جمع يمين إما بمعنى اليد اليمنى مقابل اليسرى؛ لأنهم كانوا يصفقون باليُمنى دلالةً على إبرام العقد، وإما بمعنى الحلف والقسم؛ لأنهم كانوا يحلفون للوفاء بالعقد.

والإرث السببي على أربعة أصناف:

1- الزوجان، وعهدهما في عقد النكاح، كما قال تعالى: {وَلَا تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ...}(1)، وقال: {أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}(2)، فهذا العهد بينهما أوجب حقاً لهما في إرث كل منهما عن الآخر، والزوجان يرثان مع جميع الطبقات، فلا يحجبان وارثاً ولا يحجبهما وارث.

2- المعتق، فمن أعتق عبداً ولم يكن للعبد وارث نسبي ورثه مولاه الذي أعتقه، والعتق كالعهد؛ لأنه إيقاع لازم الوفاء به فكأنه صار عهداً في ذمة المولى.

3- ضامن الجريرة، وهو الذي يتعاقد مع الإنسان على ضمان جناياته وبالعكس، فيثبت عليه الضمان حال وقوع الجناية، ويثبت له الإرث في حاللم يكن للميت وارث نسبي ولا معتق.

ص: 171


1- سورة البقرة، الآية: 235.
2- سورة البقرة، الآية: 237.

4- الإمام (عليه السلام) ، حيث إنّ اللّه تعالى أخذ العهد من الناس بالاعتقاد به وبطاعته، وهو وارث من لا وارث له، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه الآية أنه قال: «إنما عنى بذلك الأئمة (عليهم السلام) ، بهم عقد اللّه عزّ وجلّ أيمانكم»(1).

والتفصيل يطلب من كتب الفقه والحديث(2).

وقوله: {فََٔاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} الضمير يرجع إلى {كُلِّ} أي كل واحد من الرجال والنساء الذين هم أولى بالميت - سواء كان بالقرابة أم بالسبب - فلا بد من إعطائهم نصيبهم من الإرث من غير بخس، رغم أنهم لم يكتسبوا هذا المال بجهدهم، لكن اللّه تعالى تفضّل به عليهم لمصالح أمور العباد.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدًا}.

حيث أمرهم بإيتاء نصيب الورثة، حذّرهم عن التهاون في هذا الحكم، بأنّ اللّه تعالى شاهد لأعمالكم عالم بها، ويترتب على ذلك الجزاء بعقاب من بخسهم أو منعهم حقهم.

ولا يخفى الفرق بين هذه الآية حيث وصف اللّه بالشهادة، والآية السابقة حيث وصف بالعلم، مع أنّ مآل الشهادة إلى العلم أيضاً؛ وذلك لأنّ الغرض من الآية السابقة بيان صحة تشريعه واستجابته للدعاء فناسب وصفه بالعليم، وفي هذه الآية الغرض التحذير من بخس حق الورثة فناسب تهديدهم بالعقاب بوصفه بأنه الشاهد لأعماله، ففيه إشعار بأداء الشهادة وما يترتبعليها من الجزاء، واللّه العالم.

ص: 172


1- الكافي 1: 216.
2- كمثال راجع وسائل الشيعة 26: 233-257.

الآيتان 34-35

اشارة

{الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَالصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا 34 وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَٰحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا 35}

ثم بين اللّه تعالى سبب اختلاف نصيب الرجال والنساء من الإرث فقال:

34- {الرِّجَالُ} ومنهم الأزواج {قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ومنهن الزوجات، والقوامة هي أدارة شؤونهنّ، فإنّ الإسرة - ككل تجمع - بحاجة إلى مدير وإلاّ دبّت الفوضى، {بِمَا} الباء سببية وما مصدرية {فَضَّلَ اللَّهُ} أي بسبب تفضيل اللّه {بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ} فالرجال فضّلوا بغلبة عقولهم على عواطفهم، والنساء فُضّلن بغلبة عواطفهن على عقولهن، فهذا سبب ذاتي لإعطاء إدارة الأسرة للرجال، {وَبِمَا أَنفَقُواْ} على النساء {مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ} وهذا سبب وضعي، بمعنى أنه لا بد في الإرادة الناجحة من أن يكون قرار المال بيد المدير، وحيث وجب الإنفاق على الرجال جعلت الإدارة لهم، ولا بد للنساء من قبول هذه القيمومة؛ لأنها لمصلحتهن.

ص: 173

{فَالصَّٰلِحَٰتُ} أي غير الناشزات اللاتي سلّمن أمر اللّه تعالى {قَٰنِتَٰتٌ} أي مطيعات لأزواجهن {حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ} في حال غياب الزوج يحفظن عرضهوماله {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي بالطريقة التي جعلها اللّه للحفظ، أي حفظ حسب الموازين الشرعية.

ويقابل هؤلاء الصالحات الناشزات: {وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} بأن ظهرت علائمه، والنشوز هو التمرد وعدم الطاعة، فلإرجاعهن إلى الطاعة استعملوا ثلاثة طرق بالترتيب: {فَعِظُوهُنَّ} بمواعظ تؤثر فيهن ليرجعن إلى بيت الطاعة، {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} بالزعل منهن بعدم الإقبال عليهن في الفراش، أو عزل فراشه عن فراشها وعدم مباشرتها، {وَاضْرِبُوهُنَّ} إن لم تنفع الموعظة، ضرباً للتأديب لا للتشفي، فلذا لا بد أن يكون غير مبرّح وبغرض تنبيهها لكي تراعي الشرع، {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} بعد استعمال هذه الأساليب {فَلَا تَبْغُواْ} لا تطلبوا بالبغي {عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} في إيذائهن، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} تهديد للباغي بأنّ اللّه أعلى وأكبر فيمكنه عقابه، هذا في نشوز الزوجة، وأما نشوز الزوج فقد تم بيانه في الآيات 128-130 من هذه السورة.

35- {وَإِنْ} لم تنفع كل الطرق الثلاثة و{خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} بأن وصل الخلاف إلى مرحلة غير قابلة لعلاج الزوج له، أو لأنه لم يراعِ الشرع فكان هو المتمرد {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} بغرض الإصلاح وحلّ الخلافات، فحكمان أقرب إلى مراعاة العدل، وهما أعرف ببواطن الزوجين؛ لأنهما من أهلهما {إِن يُرِيدَا} يريد الحكمان {إِصْلَٰحًا}

ص: 174

بأن كانت النية صادقة وعملهما صحيحاً لا بالعناد {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} بين الحكمين أو بين الزوجين، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالسرائر وقصد الحكمين {خَبِيرًا} في كيفية التوفيق ورفع الشقاق.

بحوث

الأول: حيث إنّ الآيات السابقة جمعت بين أحكام النساء وأحكام الأموال، مع ارتباط الأمرين ارتباطاً وثيقاً، فتارة حكم مالي سببه الأمور الأسرية ونحوها وتارة العكس، لذلك جمعت هذه الآيات ذكر الأمرين بنسق بديع وتنظيم دقيق، وحيث إنّ الآية السابقة كانت بياناً للإرث وأن للنساء نصيباً منه، جاءت هاتان الآيتان لبيان سبب مضاعفة نصيب الرجال على نصيب النساء في الإرث، وذلك عبر ذكر قاعدة عامة هي أنّ إدارة شؤون الأسرة إنما هي للرجال بسبين ذاتي ووضعي، أما السبب الذاتي فهو التفاضل الموجود بين الجنسين، حيث إنّ الرجال أفضل من جهة والنساء أفضل من جهة أخرى خلقةً وتكويناً، وجانب تفضيل الرجال اقتضى جعل إدارة الأسرة لهن، وجانب تفضيل النساء اقتضى جعل التربية لهن، وأما السبب الوضعي فهو أنّ المال من أهم مقومات الإدارة، وهو عادة عند الرجال؛ فلذلك وجبت نفقة النساء عليهم، فكان لا بد من كون الإدارة بيدهم أيضاً.

قيمومة الرجال

الثاني: قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَبِمَا أَنفَقُواْ}.

(القيمومة) رعاية الشيء وحفظه وتدبير أمره، و(القَوّام) صيغة مبالغة بمعنى

ص: 175

الكثرة والدوام، والمراد إدارة شؤون النساء جعلت للرجال؛ وذلك لأنّ الإنسان مدني بالطبع، ولكل واحد من الناس أفكار ورغبات، فإذا اجتمعوا في مجتمع صغير كالأسرة أو كبير فلا بد لهم من مدير يكون اتخاذ القرار النهائيبيده، درءاً للفوضى ومرجعاً حين اختلاف الآراء، ولذا بيّن الإمام علي (عليه السلام) حكم خطأ الخوارج حينما زعموا عدم الاحتياج إلى الأمير فقال: «لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر»(1)، وفي عالم اليوم رغم كل التطور ازدادت الحاجة إلى المدراء، سواء في الأمور الاجتماعية أم الاقتصادية أم السياسية أم غيرها، وحيث كان لا بد من مدير لذلك جعل اللّه تعالى الولاية العامة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومن بعده للمعصومين (عليهم السلام) ، ضمن ضوابط وقوانين، وحتى العالم الديمقراطي لم يستغن عن رأس للدولة، وإنما حلّوا مشكلة الاستبداد بجعل آليات لانتخاب الرأس وضوابط تتحكم في كيفية اتخاذه القرار.

وحيث إنّ الأسرة كيان اجتماعي يتكوّن من الزوجين في البداية ثم يضاف إليهما الأولاد، كان لا بد من جعل مدير لها، والحكمة الإلهية اقتضت في خلق الرجل بكيفية يصلح لهذه الإدارة، فجعله اللّه قوّاماً على الأسرة ضمن ضوابط حدّدها له؛ لئلا يظلم الرجل وليكون هناك طريق لرفع الظلم إن لم يراع الرجل الشرع.

فخلق اللّه الرجل والمرأة كاملين من جهة الجسم والمشاعر والعقل، وإنما كان الاختلاف في التركيبة الجسدية؛ لأجل أنّ المهام الموكلة لكل واحد منهما تختلف عن الآخر، وأما المشاعر والعقل فهما في الجنسين سواء، إلاّ

ص: 176


1- نهج البلاغة، الخطبة: 40.

أنّ مهمة المرأة في الحمل والإرضاع وتربية الأولاد اقتضت غلبة المشاعر والعواطف عليها، ومهمة الرجل اقتضت العكس، فلعلّ النقصان المذكور في بعض الروايات لا يراد به القِلّة، بل يراد به - بحسب الظاهر - غلبة أحدالجانبين على الآخر، فالمرأة أعطف من الرجل، مع أنّ عاطفة الرجل كاملة أيضاً، والرجل أعقل مع أنّ عقل المرأة كامل أيضاً، بمعنى أنّ تأثر المرأة بعاطفتها وإظهارها لها أكثر، وتأثر الرجل بعقله وإظهاره له أكثر، مع عدم التفاوت بينهما لا في عقل ولا في عاطفة، واللّه العالم.

وهذا الفرق التكويني استدعى فرقاً تشريعاً، بأن يكلّف الرجل بالعمل والكدّ لينفق على الأسرة، وتنشغل المرأة بأمور الحمل والرضاع والتربية وكذا سائر أمور المنزل، فكان المال غالباً بيد الرجال ووجبت عليهم النفقة، وهذا أيضاً يقتضي قيمومة الرجل، إذ لا تنجح إدارة من غير مال، ومن ليس بيده المال لايتمكن من إدارة من بيده المال إلاّ نادراً.

إذن فهذان صارا سبباً لجعل القيمومة للرجال على النساء، وهذه قضية طبيعية فطرية، وفي غالب القوانين تراعى الحالة الغالبة، ثم يتم وضع قانون عام يشمل حتى الحالة غير الغالبة، فلا يقال: إنّ بعض النساء أكثر تعقلاً من رجالهن وأحسن تدبيراً لأمور المنزل منهم، وإنّ بعضهن أكثر أموالاً، بل قد ينفقن على أزواجهن!! وذلك لأنّ القانون ينظر إلى الحالة العامة دون الحالات الاستثنائية، مع عدم إمكان تشريع خاص للحالات الاستثنائية هنا وخاصة في أمثال هذه الأمور الاجتماعية، حيث يمكن لكل رجل أو امرأة أن يدعي أنه من الحالة الاستثنائية، فكان لا بد من تشريع قانون عام مع

ص: 177

وضع ضوابط وآليات حلّ الخلافات الناتجة.

المساواة بين الرجال والنساء

وقوله: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ} فسرّه غالب المفسرين بأن المراد تفضيل الرجال على النساء، لكن استعمال كلمة البعض في المفضّل والمفضّل عليه قد يكون قرينة على إرادة تفضيل كل من الجنسين على الآخر من جهة، فاللّه تعالى فضّل الرجال على النساء من جهة قوة الجسم وغلبة التعقل ونحو ذلك، كما أنه سبحانه فضّل النساء على الرجال من جهة التربية وإظهار المشاعر الإنسانية النبيلة ونحو ذلك، وهذا الفارق التكويني يستتبع أحكاماً خاصة لكل من الجنسين، وأما في غير جهة الفرق فكلاهما مشتركان في كل الأحكام.

وحتى العالم الذي يسمّى بالمتحضر لما أراد رفع شعار المساواة من كل الجهات اصطدم بواقع الاختلاف التكويني، ولذلك ركّزوا على تحديد النسل - بما يستتبع ذلك من آفات ومحاذير على البشرية - لكي يرفعوا عن المرأة عبء الحمل والإرضاع والتربية، وكثروا الحضانات، بأن استبدلوا بالأم مرأة أخرى ترعى شؤون الأطفال، فالأم تركت طفلها لتذهب إلى وظيفتها، والحاضنة تركت أسرتها لترعى طفل غيرها!! وهل تقاس الحاضنة بالأم عطفاً وشفقة وحناناً، وهل تُحرم امرأة أخرى عن تكوين الأسرة أو عن رعاية أسرتها؛ لأنها تضطر إلى العمل لأطفال أسرة أخرى!! هذا فضلاً عن أن شعار المساواة في كل شيء لم يخدم إلاّ في تفكيك الأسر ونشر الفساد والأمراض النفسية وازدياد الطلاق ونحو ذلك، وليس هذا الشعار في الجانب الاجتماعي إلا كشعار الشيوعيين في المساواة في كل شيء في

ص: 178

الجانب الاقتصادي الذي لم يلحق بالبلدان الشيوعية إلا انهياراً اقتصادياً فضيعاً رغم كونه شعاراً كاذباً لم يتم تطبيقه إلاّ لمصادرة أموال الناس وابتزازهم حقوقهم.ثم لا يخفى أنّ هذا تفضيل دنيوي، وأما الآخرة فالتفاضل بالتقوى كما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

والذي يدل على كون التفضيل للجانبين ما روي عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «جهاد المرأة حسن التبعّل»(2) فقد فضّل اللّه الرجال بالجهاد وثوابه لمناسبته تركيبتهم، وعوّض النساء عن ذلك بأمر آخر هو أسهل لهنّ مع مشاركته لثواب الجهاد.

وقوله: {وَبِمَا أَنفَقُواْ} بيان للسبب الآخر للقيمومة، وهو سبب تشريعي وضعي كما ذكرناه؛ فلأنهم وجب عليهم الإنفاق لذلك جعلت القيمومة لهم؛ لئلا يحصل خلل إداري تنهار بسببه الإدارة، إذ لا تستقيم الإدارة لو لم يكن الإنفاق بيد المدير، كما هو واضح.

كما أنّ الحقوق بين الزوجين متكافئة، فكما وجب على الزوج الإنفاق كذلك وجب على المرأة طاعته.

ثم إنّ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى النِّسَاءِ} من دون أن يقول الأزواج والزوجات: لعلّه لبيان قاعدة عامة يكون الزوجان من مصاديقها، فكل ما فيه القيمومة فهو للرجال، فتدخل فيه الولاية والقضاء وذلك من

ص: 179


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- الكافي 5: 507.

الأمور العامة.

ويستفاد من الآية أنّ القيمومة إنما هي فيما ترتبط بالحياة الزوجية أو الحياة العامة، لا بما ترتبط بأمرها الشخصي الفردي، فلذا حصرت الرواياتذلك بالفراش وبالخروج من المنزل، حيث إنهما يرتبطان بالحياة الزوجية، وأما أموالها وتجارتها الشخصية بما لا ينافي حقوق الزوج فلا قيمومة، بل لها الحرية فيها ضمن الضوابط الشرعية، هكذا قيل.

الثالث: قوله تعالى: {فَالصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}.

بعد بيان القيمومة، تمّ بيان أنّ النساء بالنسبة إلى قبولها ينقسمن إلى قسمين، فبعضهن صالحات، وأخريات ناشزات، وبيان حكم كل من القسمين.

وقوله: {فَالصَّٰلِحَٰتُ} مقابل الناشزات، أي اللاتي خضعن لقضاء اللّه وحكمه، فصلحت نفوسهن، وفيه إشعار بأنّ القيمومة عليهن ليست استهانة بهن ولا حطاً من كرامتهن، بل هو صلاح لهن، وهؤلاء يجب عليهن أمرين، ذكرهما اللّه تعالى بشكل الخبر، فهما إخبار بقصد إنشاء الوجوب.

الأمر الأول: قوله تعالى: {قَٰنِتَٰتٌ} أي مطيعات لأزواجهن فيما يرتبط بالقيمومة - أي جهة الاشتراك بينهما - في الفراش وفي الخروج من المنزل، فذلك من حقوق الزوجية، وكذا ينبغي لها أن تطيعه في غير ذلك على سبيل الاستحباب، ولو أحسن الرجل القيمومة وبنى الحياة على السكن والمودة والرحمة لأطاعته الزوجة طوعاً في كل شيء عادة، وقيل: المراد قنوتهن للّه تعالى في إطاعة أمره بقبولهن قيمومة الرجال عليهن.

ص: 180

الأمر الثاني: قوله تعالى: {حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ} أي لا تنحصر مراعاة حقوق الزوج في حالة حضوره، بل حتى في حال غيابه، تحفظ المرأة عرض الرجل، بأن تحفظ نفسها عن الفحشاء، كما تحفظ أموال الزوج وسائرأموره في حالة غيابه.

والحاصل صلاح يستتبع إطاعةً في حال الحضور وحفظاً في حال الغياب، وبذلك توصف المرأة المؤمنة السعيدة.

وقوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (الباء) سببية و(ما) موصولة، والعائد محذوف، أي بسب التشريع الذي أنزله اللّه تعالى، فحفظه اللّه بمعنى التشريع الذي أنزله حافظاً له من الزوال أو التحريف، فاستعمل الحفظ بمعنى التنزيل توسعاً، وقيل: (الباء) للاستعانة و(ما) مصدرية أي باستعانتهن بحفظ اللّه ورعايته تمكنت الصالحات من حفظ الغيب، فلولا هداية اللّه ولطفه لما اهتدى أحد قال: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَىٰنَا اللَّهُ}(1).

الرابع: قوله تعالى: {وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ...} الآية.

بيان للقِسم الثاني من النساء، وهن المتمردات اللاتي رفضن حكم الشرع بقيمومة الرجال عليهن، وهؤلاء لا بد من تأديبهن ليرجعن إلى رشدهن وإلى الصواب، وقد روعي التدرج في نهيهن عن المنكر.

وقوله: {تَخَافُونَ} أي ظهرت بوادر النشوز وعلائمه فأورث ذلك خوف الأزواج من تحقق النشوز فعلاً، والآية تشمل الناشزة فعلاً بالأولوية، وقيل:

ص: 181


1- سورة الأعراف، الآية: 43.

المراد علمتم نشوزهن وكثيراً ما يعبّر عن العلم بالخوف، بقرينة أنّ الهجران والضرب يختصان بصورة النشوز فقط، والأولى أن يقال: إنّ الخوف بمعناه الأعم، سواء ظهرت العلائم أم تحقق النشوز، والتدرج في الحكم منالموعظة إلى الضرب هو نتيجة التدرج من الخوف إلى اليقين.

وقوله: {نُشُوزَهُنَّ} أصل الكلمة بمعنى الارتفاع، والمراد ارتفاعها من الطاعة وعن تطبيق حكم الشرع.

وعليه فالناشز لا بد من تأديبها لترجع إلى حكم الشرع بثلاث طرق متدرجة قبل أن يصل الأمر إلى القضاء، فجعل حلول داخلية قد تحلّ بها أكثر المشاكل خير من إرجاع المشاكل فوراً إلى القضاء، وخاصة أنه بالرجوع إلى القضاء تقلّ فرص الحلّ، فالزوج عليه أن يتدرج في...

1- الموعظة، وهي كلام يرق له القلب فيه النصح وإراءة طريق تجاوز المشكلة.

2- الهجران في المضاجع، أي بالزعل منها، ويتحقق ذلك بعزل فراشه عن فراشها أو بإدارته ظهره لها، وهذه طريقة عملية عاطفية تثير عاطفة الزوجة، وقد تصير سبباً لرجوعها عن نشوزها، وقيل: قد يتحقق الهجران بترك مباشرتها!! لكن الغالب أنّ نشوزها هو بعدم تمكينها!!

3- والضرب، ضرباً تأديبياً لا ضرباً للتشفي، فلذا لا بد أن يكون غير مبرّح وبغرض التزامها بأحكام الشرع.

فإنّ الأمر يدور بين حفظ كيان الأسرة وحفظ أحكام الشرع من جهة، وبين الضرب غير المبرّح من جهة أخرى، والثاني أخف مؤونة وأحسن

ص: 182

للمجتمع وللأسرة وللمرأة نفسها.

وقد يتساءل بأنّ الضرب هل يناسب الكرامة الإنسانية؟

والجواب: أنّ هذا الضرب طريق إلى حفظ هذه الكرامة، فلم يشرّعاعتباطاً، بل حين مخالفة المرأة لحكم اللّه، مخالفة قد تؤدي إلى هدم كيان الأسرة، فالتأديب بهذه الكيفية إرجاع لها للطاعة وحفظ كيان الأسرة، وهذا هو عين الكرامة الإنسانية، بل كل تأديب هو حفظ لكرامة المؤدَّب، وكل عقوبة حفظ لكرامة المجتمع، بل أحياناً حفظ لكرامة الجاني لردعه عن التكرار أو المبالغة في الجريمة.

ضرب الناشز

وقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} بيان أنّ الضرب خاصّ بحالة النشور، فلا يجوز الضرب اعتباطاً، أو في تركهن ما لا يجب عليهن، بل إن أطعن الأزواج فيما يجب - وهو الفراش والخروج - فلا يحق للأزواج ضربهن لأي سبب آخر.

وقوله: {فَلَا تَبْغُواْ} من البغي، ولهذه المادة معنيان: الطلب والظلم، والمراد هنا الأول أي فلا تطلبوا، ويمكن إرادة الثاني بنوع من التوسع.

وقوله: {سَبِيلًا} أي في ضربهن أو إيذائهن، أو طلب العِلل والحِجج الواهية لإيذائهن وتحقيرهن، وتنكير {سَبِيلًا} للتعميم أي لم يجعل اللّه لكم أي طريق للنيل منهن لو أطعنكم فيما وجب عليهن.

وقيل: معناه أنّ عليهن الإطاعة فلا تكلفونهن الحب القلبي، فعليكم بالظاهر ولا تتحججوا بالباطن.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} لعلّه نوع تهديد للأزواج الذين يخالفون هذا الحكم، فيقال لهم: إن تمكنتم من ظلم زوجاتكم لضعفهن

ص: 183

فاعلموا أنّ اللّه تعالى سيجازيكم وهو قادر على ذلك.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا...} الآية.بيان لحالة أخرى، وهي حالة الخلاف الشديد بينهما الذي قد يؤدي إلى الفرقة، فلو خاف الأقرباء والمحيطون بالزوجين حصول الفرقة بينهما فينبغي أن لا يتركوهما وحدهما، بل عليهم السعي في الإصلاح، وأفضل الأساليب هو اختيار حَكَم من أهل كل واحد من الزوجين، ومن المعلوم أنّ الناس يختارون للحكميّة الأوقر والأنضج والأكبر، وعادة يكون حكيماً مجرّباً، وغالباً يكونان مصلحين لا يريدان اللجاج والانفصال، كما أنّ كونهما من أهليهما أفضل؛ لأنهما أعرف ببواطنهما من الأجانب، كما أنه تسكن لهما نفوس الزوجين فيذكران سبب الخلاف وما يدور في الباطن، فيكون ذلك أقرب إلى حلّ سبب المشكلة وإصلاح الأمر، فهذان الحكمان إن سعيا لإصلاح الأمر فاللّه تعالى يوفق بين الزوجين؛ لأنه سبحانه رتب النتائج على الأسباب، فإذا تحققت الأسباب أوجد اللّه تعالى النتائج.

وحيث إنّ الغرض الإصلاح فلا يحق للحكمين الطلاق إلاّ إذا كانت لهما أو لأحدهما الوكالة من الزوج، وكذا لا يحق لهما الخلع إلا مع الوكالة من المرأة في البذل ومن الرجل في الطلاق.

وقوله: {خِفْتُمْ} أي بظهور بوادر الشقاق أو بتحقق الشقاق بينهما قبل الطلاق كما مرّ في الآية السابقة.

وقوله: {شِقَاقَ} بمعنى المخالفة والعداوة، كأنّ كل واحد منهما في شق

ص: 184

وجانب غير شق وجانب الآخر، وإضافة {شِقَاقَ} إلى {بَيْنِهِمَا} مجاز.

وقوله: {إِن يُرِيدَا} أي الحكمان إذا أرادا الإصلاح، فباعتبار كونهماحكمين وأيضاً من أهل الطرفين يكون علاجهما بحكمة وكلمتهما مسموعة.

وقوله: {إِصْلَٰحًا} لعلّ التنكير لأجل أنه عادة لا يمكن الإصلاح التام، بل أنصاف حلول ونوع من أنواع الإصلاح، وعليه فالإرادة تكون بمعنى العمل لأجل الإصلاح، وليس مجرد النية أو التمني!

وقوله: {يُوَفِّقِ اللَّهُ} من التوفيق، وهو بمعنى جعل الأسباب بعضها وفق بعض، فتكون متوافقة لحصول النتيجة، وقوله: {بَيْنَهُمَا} أي بين الزوجين؛ لأنّ الغرض هو إصلاح ما فسد من أمرها، وليس المراد التوفيق بين الحكمين، فكثيراً ما يتفق الحكمان من غير نتيجة بسبب مخالفة الزوجين أو أحدهما.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} تحذير للحكمين من الخيانة فهو يعرف قصدهما، كما أنه سبحانه خبير يعلم كيف يوفق ويهيّأ أسباب التوفيق.

ص: 185

الآيات 36-39

{وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا 36 الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 37 وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ لَهُۥ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا 38 وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا 39}

بعد ذكر أحكام الأسرة المالية والاجتماعية يتم بيان حكم العلاقات الاجتماعية بشكل عام، فقال تعالى:

36- {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ} أطيعوه فيما يأمركم وينهاكم {وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ} أي باللّه في طاعته {شَئًْا} كالشيطان والنفس، {وَ} أحسنوا {بِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَ} كذلك أحسنوا {بِذِي الْقُرْبَىٰ} سائر الأقرباء في النسب عبرصِلتهم واحترامهم وتقديم الهدايا لهم ونحو ذلك {وَالْيَتَٰمَىٰ} عبرحفظ أموالهم ومراعاة أحوالهم وغير ذلك، {وَالْمَسَٰكِينِ} بالصدقة عليهم والاهتمام بهم مثلاً، {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ} الجار الذي مسكنه قريب إليكم، {وَالْجَارِ

ص: 186

الْجُنُبِ} البعيد عنكم في الجوار بعدم إيذائهما وتحمل أذاهما وبسائر أنواع الإحسان، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} الذي يصاحبالإنسان ويكون في جنبه قريباً منه كرفيق السفر وزميل المدرسة ومن في المنزل معه، {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو من نفذت نفقته في السفر، بإعطائه ما يكفيه لرجوعه إلى وطنه، {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} أي العبيد والإماء بالعفو عن مسيئهم والتسهيل عليهم ونحو ذلك.

ويقابل الإحسان إلى هؤلاء الإساءة إليهم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} أي لا يلطف أو لا ينزل الرحمة على {مَن كَانَ مُخْتَالًا} له خُيَلاء وتكبر فيستنكف عن الإحسان إلى هؤلاء {فَخُورًا} كثير الفخر عليهم بما عنده استطالة وتكبراً، وهؤلاء لا ينفقون على وجه الإحسان، بل يبخلون بذلك، لكن قد ينفقون لأجل الرياء، فبخلهم مخالفة لأمر اللّه، وإنفاقهم كذلك.

37- وصفة المختال الفخور{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بأموالهم {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي استمكنت في نفوسهم الرذيلة بحيث يريدونها من أنفسهم ومن غيرهم! {وَيَكْتُمُونَ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} أي ينكرون فضل اللّه عليهم في أموالهم، أو يخفون تلك الأموال كي لا يعرف الناس بذلك فيتوقعون منهم، مع أنها ليست لهم في واقعها، بل هي فضل من اللّه تعالى، ثم ذكر جزاءهم فقال: {وَأَعْتَدْنَا} هيئّنا {لِلْكَٰفِرِينَ} الذين يكفرون بنعمة اللّه تعالى عليهم ولا يطيعونه فيما أمرهم فيها {عَذَابًا مُّهِينًا} يهينهم ويذلّهم.

38- {وَالَّذِينَ} إذا أنفقوا فإنما {يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} لأجل

ص: 187

الرياء، فكبرياؤه تسوقه إلى أن يكون إنفاقه لسمعة نفسه لا للإحسان أو إطاعة اللّه، {وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْأخِرِ} فليس سبب إنفاقه طلبوجه اللّه تعالى أو رغبةً في ثواب أو خوفاً من عقاب، {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ لَهُۥ قَرِينًا} مقترناً فينهاه عن الإحسان {فَسَاءَ قَرِينًا} أي هو قرين سيّئ؛ لأنه يزيّن له المعصية التي تسبب خسارة الدنيا والآخرة.

39- {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} ما كان يضرهم، وهذا توبيخ لهم وحث على الإيمان {لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} فأحسنوا طلباً لمرضاته تعالى ورغبة في ثوابه وخوفاً من عقابه {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} وعيد لهم ووعد لمن أحسن لوجه اللّه، فاللّه عالم بكل التفاصيل فيجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا...} الآية.

بعد بيان جملة من الأحكام المالية والاجتماعية المرتبطة بالأسرة، يتم بيان الحالة العامة للمجتمع الإسلامي - والتي تكون الأسرة جزءاً منه - وهو مجتمع يبتني على الإحسان والإنفاق...

فأمّا الإحسان: فإلى القريب في النسب وإلى القريب في المكان وإلى المصاحب وإلى الضعفاء وإلى ذوي الحاجة وإلى من هم تحت سلطة الإنسان.

وأمّا الإنفاق: فالواجب والمستحب، حيث يتم التكافل الاجتماعي وخاصة لذوي الحاجات.

فالمجتمع السليم يبتني على هذين الأمرين، وبسلامة المجتمع تسلم الأسرة

ص: 188

أيضاً، والعكس أيضاً صحيح، فالمجتمع يتركب من مجموعة من الأسر.

ويبدأ اللّه تعالى هذه الأحكام بالأمر بعبادته وعدم اتخاذ شريك له، ثميأمر بالإحسان والإنفاق، وذلك أوقع وأكثر تأثيراً، حيث تتبيّن أهميتهما؛ لذلك قرنهما اللّه بأهم أمر ديني وهو العبادة وعدم اتخاذ الشريك، مضافاً إلى أنّ مخالفة هذه الأحكام إنما هي بسبب عدم إطاعته وإطاعة الشركاء سبحانه وتعالى عمّا يصفون.

وقوله: {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ} أي أطيعوه، فإنّ العبادة في الأصل بمعنى شدة الخضوع وغاية التذلل، كقوله: {فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَٰبِدُونَ}(1)، والإطاعة في كل شيء ومن كل الجهات خاصة باللّه تعالى، ولا تجوز إطاعة أحد في كل شيء إلاّ لو أذن اللّه تعالى بذلك، فتكون إطاعته في حقيقتها إطاعة للّه تعالى كما قال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(2)، وقال سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَٰبَنِي ءَادَمَ أَن لَّا تَعْبُدُواْ الشَّيْطَٰنَ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ}(3)، فيكون أمره تعالى بعبادته كالمقدمة لبيان لزوم إطاعته في الأحكام التي ستذكر.

وقوله: {وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَئًْا} سواء شرك في الألوهية أم شرك في الطاعة، فاتخاذ الشيطان شريكاً في الطاعة يكون سبباً لترك أحكام اللّه تعالى والانسياق وراء إغوائه، ومن ذلك الرياء الذي سيأتي ذكره في الإنفاق رئاء

ص: 189


1- سورة المؤمنون، الآية: 47.
2- سورة النساء، الآية: 80.
3- سورة يس، الآية: 60-61.

الناس، وقوله: {شَئًْا} أي أحداً من شياطين الإنس والجن والتعبير بالشيء تحقير لهم.

وقوله: {بِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا} أي أحسنوا بالوالدين إحساناً، والإحسان هو فعل الحسن زيادة على العدل، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَٰنِ}(1)، فلو ذكر الإحسان منفرداً شمل العدل أيضاً، ويكون الإحسان في القول والعمل والإنفاق في كل ما يصدر من الإنسان تجاه الآخر، فالآيات السابقة بينت العدل تجاه الوالدين وذوي القربى بإيتائهم نصيبهم، وهذه الآية تبيّن الإحسان زيادة على ما مضى؛ وإنما قدّم الوالدين لعظم حقهما على سائر المذكورين.

وقوله: {وَبِذِي الْقُرْبَىٰ} أي سائر القربات النسبيّة، وهو تعميم بعد تخصيص، لبيان مزية الوالدين على سائر القربات، فكأنه قال وأحسنوا بالقرابات وخاصة بالوالدين.

وقوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ} أي الجار القريب في مسكنه، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي الجار البعيد في المسكن، حتى لا يتوهم الإنسان أنّ الحكم خاص بالجار القريب، وفي بعض الروايات الجوار إلى أربعين(2)، وقيل: المراد الجار القريب في النسب، فله حقان: حق القرابة وحق الجوار، الذي لا تربطه رابطة النسب، وقيل: الجار القريب هو المسلم والجار الجنب هو غير المسلم، والأول أظهر.

ص: 190


1- سورة النحل، الآية: 90.
2- الكافي 2: 669.

وقوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} أي الذي يصحب الإنسان وهو في جنبه، كرفيق السفر، وزميل الدراسة، وشريك التجارة، بل حتى الزوجة، ومنيشترك في المنزل مع الإنسان.

وقوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المنقطع في سفره والذي نفذت نفقته، فكأنه لا يُعرف عنه شيء سوى أنه سالك الطريق فكأنه ابنه.

وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ} أي العبيد والإماء.

والحاصل ينبغي الإحسان إلى كل هؤلاء، فبعضهم للقرابة، وبعضهم لضعفهم أو حاجتهم، كاليتامى والمساكين وابن السبيل، وبعضهم للسكن أو العيش معهم كالجار والصاحب، وبعضهم لسلطة الإنسان عليهم كالعبيد والإماء، وهذا لا ينافي الإحسان إلى غير هؤلاء المذكورين، لكن محل الإحسان عادة هؤلاء، أما البعيد غير المحتاج فلا موضوع للإحسان إليه عادة، لكن إن صار مورداً لذلك فالإحسان إليه مطلوب أيضاً.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}.

هذا كالتعليل للأمر بالإحسان إلى هؤلاء، فإنّ الذي لا يحسن إنما سبب عدم إحسانه الاختيال وكثرة الفخر.

وقوله: {مُخْتَالًا} أي ذا الخيلاء، وهو الذي يأنف ويتكبر على غيره، والسبب المال وحبّه عادة فيبخل ويترك الإحسان، وذلك كفران للنعمة وعدم شكرها وعدم شكر منعمها.

وقوله: {فَخُورًا} صيغة مبالغة من الفخر، أي يفتخر على الغير تطاولاً وتكبراً، وسبب ذلك طلب الجاه عادة، ولذلك ينفق المال للرياء لكي

ص: 191

يحصل على الجاه أو يزيده.

نعم الفخر إذا لم يكن عن تطاول وتكبر، بل طريق لنشر الفضائل فلا بأسبه، والفرق يظهر في كثرة الفخر وقلّته، فمن يكثر الفخر فهو الذي يتطاول ويتكبّر، ولذا ذم القرآن في آيات متعددة الفخور الذي هو صيغة مبالغة.

وكذلك لا بأس بذكر النعمة إذا كان لشكرها، فليس ذلك من التطاول، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(1).

الثالث: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ...} الآية.

بيان لأحد سببي ترك الإحسان وهو الاختيال، فإنه ينشأ من كفران النعمة عادة، فالنعمة التي عنده إنما هي من اللّه تعالى، فكان عليه أن يشكره سبحانه على نعمته فيطيعه ويُحسن إلى من أمر اللّه بالإحسان إليهم، لكنه كفر بالنعمة فلم يطع اللّه وبخل بها تكبراً على الآخرين، فكأنه زعم أنها من عنده، كقارون قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَىٰكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}(2).

وهؤلاء لكفرانهم النعمة يبخلون بأموالهم التي آتاهم اللّه إياها، بل الأسوأ من ذلك أنهم لا يتحملون إحسان الآخرين فينهونهم عن الإنفاق، وهذا يدل على انحراف في النفس، بحيث ينزعج من الإحسان حتى لو كان من غيره، أو ليرفع اللوم والذم عن نفسه كي لا يقال له: إنّ فلاناً قد أنفق فلماذا أنت لا تنفق.

ص: 192


1- سورة الضحى، الآية: 11.
2- سورة القصص، الآية: 77-78.

وقوله: {وَيَكْتُمُونَ} الأظهر أنّ المعنى أنهم يظهرون أنفسهم بمظهر الفقراء حتى لا يعلم الناس أنهم أثرياء فيتوقعون منهم، أو أنّ شدة بخلهمأوصلتهم إلى بخلهم حتى على أنفسهم، أو بمعنى ادّخار تلك الأموال وعدم إعطائهم الحقوق الشرعية كما قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ}(1)، وأما ما قيل من أنّ الكتمان يشمل كتمان الحكم الشرعي أو كتمان العلم، فبعيد عن سياق الآية.

وقوله: {مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} بيان أنّ بخلهم إنما هو بشيء ليس لهم في واقعه، بل هو مال اللّه تفضّل به عليهم ثم أمرهم بإنفاق جزء منه، وهذا أكثر ايضاحاً لانحراف نفسياتهم.

وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ} المراد الكافرين بالنعمة، فبكفرانهم للنعمة استحقوا عذاباً فيه إهانة وإذلال لهم، فجُمِعَ عليهم عذابٌ جسديٌّ ونفسيٌّ جزاءً لسوء فعالهم.

الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ...} الآية.

بيان للسبب الآخر لترك الإحسان وهو كثرة الفخر، فإنه ينشأ من طلب الوجاهة عند الناس، فلا يهمهم طلب مرضاة اللّه تعالى، ولا ثواب الجنة؛ لعدم إيمانهم باللّه ولا بالقيامة.

فهؤلاء ينفقون لكن لا بإحسان، بل للرياء أمام الناس، فلذا يحوّلون إنفاقهم إلى إساءة للمنفَق عليه ويريقون ماء وجهه، بل لو لم يكن في الإنفاق رياء تركوه؛ لأن منطلقهم كان الرياء لا الإيمان، وكما قيل: فهؤلاء

ص: 193


1- سورة التوبة، الآية: 34.

هم أهل السرف، فقد ذمهم اللّه تعالى كما ذمّ البخلاء، وهدّدهم كما أوعد أولئك، وذلك لاشتراكهم في عدم الإنفاق كما ينبغي، تارة بترك الإنفاق منرأس، وأخرى بالرياء فيه.

وقوله: {وَلَا يُؤْمِنُونَ...} سواء كان عدم الإيمان من أساسه كالكافر والمنافق، أو كان مؤمناً من جهات أخرى غير مؤمن من هذه الجهة، إذ المؤمن يتحرك إطاعة لأمر اللّه أو رغبة في ثوابه أو خوفاً من عقابه، فمن ترك طاعة اللّه وعرّض نفسه لعقاب الآخرة فهو غير مؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، ولو في هذه الجهة، فحينئذٍ يكون النفي إنما هو لنفي صفة الكمال؛ وذلك لأنّ الإيمان وكذلك عدمه درجات ودركات، يختلف الناس فيها.

وقوله: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَٰنُ...} بيان منشأ الرياء وعدم الإيمان، أو بيان منشأ عدم الإحسان، وهو تسويل الشيطان، ويحتمل أن يكون المقصود بيان عذابه في الآخرة وهو اقترانه بالشيطان.

والحاصل أنه ذكر جزاء البخيل بالعذاب المهيمن، وذكر جزاء المرائي باقتران الشيطان به، قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُۥ شَيْطَٰنًا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَأَنفَقُواْ...} الآية.

ص: 194


1- سورة الزخرف، الآية: 36-39.

هذا حث وحض لهم على الإحسان، والذي يتوقف على الإيمان باللّه وبالقيامة في العقيدة، وعلى الإنفاق في العمل، ببيان أنّ إنفاقهم إنما هو مما آتاهم اللّه من فضله، فلا معنى لبخلهم فيه وتمردّهم على أمره تعالى، وأيضاًفإنّ ذلك لا ضرر فيه، بل إنما هو لصالحهم؛ لأن اللّه يضاعف إنفاقهم لهم، فكما تفضل عليهم بأن رزقهم إياه كذلك يتفضل عليهم بإنمائه ومضاعفته.

وفي التقريب: فإنه بالعكس مما يظنون من أنّ الإيمان والإنفاق يسببان أضراراً ومشاكل، إذ الإيمان يوجب الهدوء والسكينة والاطمئنان وخير الدارين، والإنفاق يوجب تقدم المجتمع وازدهاره مما يعود إلى المنفق بأكثر مما أنفقه(1).

وفي تفسير الصافي: توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه، وتحريض على التفكر لطلب الجواب لعلّه يؤدي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد والعوائد، وتنبيه على أنّ المدعوّ إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب له احتياطاً، فكيف إذا تضمن المنافع! وإنما قدّم الإيمان ههنا وأخرّه في الآية السابقة؛ لأن المقصود هنا التحضيض، وثمّة التعليل(2).

ص: 195


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 481.
2- تفسير الصافي 2: 237-238.

الآيات 40-42

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا 40 فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيدٖ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا 41 يَوْمَئِذٖ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا 42}

40- ومن خسرانهم أنهم لم يؤمنوا ولم ينفقوا، إذ لو آمنوا وأنفقوا لم يعذبهم اللّه ولجازاهم اللّه أحسن الجزاء، وأما عدم العذاب: ف {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ} أي بوزنها، {وَ} أما الجزاء الحسن: ف {إِن تَكُ} الذرة التي عملها {حَسَنَةً} عملاً خيراً {يُضَٰعِفْهَا} أي يُنمّيها فيجدها حاضرة يوم القيامة مضاعفة كمية ومستمرة إلى ما لا نهاية، أو يضاعف ثوابها {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} من عنده زائداً على ما وعد {أَجْرًا عَظِيمًا} أي عطاءً جزيلاً من حيث مقداره وأوصافه ودوامه.

41- {فَكَيْفَ} سيكون حال هؤلاء الكفرة {إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ بِشَهِيدٖ} وهم أنبياؤهم وأوصياء الأنبياء {وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} المكذبين وغيرهم {شَهِيدًا}؟

42- {يَوْمَئِذٖ} أي في يوم تلك الشهادات وهو يوم القيامة {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} باللّه {وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ} أي خالفوا أوامره {لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ}

ص: 196

«لو» مصدرية، أي يتمنون تسويتهم بالأرض بأن يصبحوا تراباً،{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} أي ولا يتمكنون في ذلك اليوم من إخفاء جرائمهم بل يعترفون بها.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو كالتعليل عن الاستفهام في الآية السابقة، حيث قال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ...} الآية، فالمعنى لا يضرّهم الإيمان والإنفاق، فلا يعذّبون في الآخرة؛ لأنّ اللّه لا يظلم، وعذاب المؤمن العامل بالصالحات ظلم؛ لأنه لم يخالف أمراً أو نهياً كي يستحق عليه العقاب، بل يجازيهم اللّه تعالى أحسن الجزاء، فالحسنة الواحدة يضاعفها كما وعد حيث قال: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(1)، بل يزيد على ما وعد إن شاء كما قال: {وَاللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَاءُ}(2).

الثاني: قوله تعالى: {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ...} الآية.

«الظلم» هو بخس الحق سواء بنقصانه أم بعدم إيصاله إلى صاحبه، وحيث إنّ فيه إيهام ضعف المظلوم فلذلك لا يطلق المظلوم على اللّه تعالى، فمن لم يؤدّ حق اللّه تعالى بالعبادة والطاعة فقد ظلم نفسه، واللّه أعزّ وأجلّ من أن يُظلم.

كما أن سبب ارتكاب الظلم إما الجهل أو الحاجة أو خبث الذات، واللّه تعالى منزّه على كل ذلك، فهو لا يظلم مع قدرته عليه لجلال ذاته عن كل

ص: 197


1- سورة الأنعام، الآية: 160.
2- سورة البقرة، الآية: 261.

نقص وقبيح.

وقوله: {مِثْقَالَ} بمعنى الثقل، وهو صفة لمحذوف، أي لا يظلم ظلماً يعادل وزن الذرة.

وقوله: {ذَرَّةٖ} الهباءة التي تُرى في شعاع النور الداخل من ثقب في مكان مظلم، أو النمل الصغار الذي يُرى بالعين بصعوبة، والمقصود نفي مطلق الظلم عنه تعالى حتى بالمقدار اليسير الذي قد يتساهل الناس فيه، لكنه سبحانه أجلّ من ذلك.

وقوله: {مِن لَّدُنْهُ} أي من عنده زائداً على ما وعد.

وقوله: {أَجْرًا عَظِيمًا} إنما سمّى الفضل أجراً؛ لأن أصله كان أجراً، فالتفضل إنما هو لمن استحق الأجر، وأما من لا يستحق الأجر فلا حكمة في التفضل عليه، ولا يخفى أنّ استحقاقه للأجر إنما هو لأن اللّه وعده بذلك فصار حقاً عليه كما مرّ.

وقوله: {عَظِيمًا} في مقابل كون الحسنة ذرة، للدلالة على كمال فضله تعالى فالذرة التي لا اعتبار بها إن كانت حسنة حولّها اللّه تعالى إلى أجر عظيم بفضله، كالبذرة الحقيرة التي يحولها إلى شجرة جليلة.

الثالث: قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِ...} الآية.

الاستفهام للتهديد أو للتهويل، أي هؤلاء يختالون ويفتخرون ويراؤون ولا يؤمنون، لكن كيف سيكون حالهم في يوم القيامة، حيث يرون العذاب فبدلاً من تكبرهم في الدنيا يتمنون لو كانوا تراباً، وبدلاً من بخلهم وكتمانهم يضطرون إلى الاعتراف بذنوبهم بعد أن يشهد الأشهاد عليهم.

ص: 198

وقوله: {فَكَيْفَ} أي فكيف سيكون حال هؤلاء الكفرة من الهولوالفزع، والفاء للتفريع على عدم ظلمه، أي حيث إنه لا يظلم فكيف سيكون حالهم حينما يحاسبون على سوء أعمالهم بعدله تعالى؟!

وقوله: {مِن كُلِّ أُمَّةِ} أي من الأمم الماضية، وشهداؤهم أنبياؤهم وأوصياء أنبيائهم، فكل نبيّ يشهد على من عاصروه، ومن بعده يشهد أوصياؤه على من عاصروهم وهكذا.

وقوله: {بِشَهِيدٖ} أي شاهد لهم وعليهم، ولا تكون الشهادة إلاّ مع العلم، فلا بد من اطلاعهم على كل أحوال أممهم ليشهدوا.

قوله: {عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} أي هؤلاء الكفار المذكورين في الآيات السابقة، فإنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصياءهُ (عليهم السلام) يشهدون على كل الأمة، إلاّ أنّ الكلام في هذه الآية حول الكفار منهم الموصوفين بأوصاف مخصوصة مذكورة في الآيات السابقة، وقد مرّ في سورة البقرة تفصيل شهادة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فراجع.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا...} قال: «نزلت في أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خاصة في كل قرن منهم إمام منا شاهد عليهم، ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شاهد علينا»(1) والظاهر أنه تأويل للآية، أو تفسير للمقطع الأخير منها، أي قوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} فالمعنى حينئذٍ أنّ شهادة الرسول على عصاة الأمة بواسطة شهادة الأئمة وشهادة الرسول على الأئمة، ويؤيده ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «فتقام

ص: 199


1- الكافي 1: 190.

الرسل فتسأل، فذلك قوله لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا...} وهو الشهيد على الشهداء،والشهداء هم الرسل»(1).

الرابع: قوله تعالى: {يَوْمَئِذٖ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ...} الآية.

نسبة عصيانهم إلى الرسول إما لأجل أنّ المراد به عصيان أوامره الولائية، وهي أحكام جزئية لقضايا خاصة كالتخلّف عن جيش أسامة، وإما تأكيد لكفرهم، فإنّ الرسول يأمرهم بالإيمان فيخالفون أمره، وإما المراد هو عصيان اللّه تعالى، لكن نسب عصيانهم إلى الرسول؛ لأنه الشاهد، كالذي يشهد في المحكمة فيقول: أمرته بالتزام القانون لكنه خالفني.

وقوله: {لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ} أي يصيرون تراباً، كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَٰبَا}(2) فإنّ التراب مستوٍ على الأرض.

وقوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} جملة استينافية، أي هم يتمنون أن يكونوا تراباً، لكن أنّى لهم ذلك، بل يضطرون إلى الاعتراف بذنوبهم، كما قال تعالى: {فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(3)، ولا يخفى أنّ مواقف الآخرة متعددة، ففي موقف يكذبون وينكرون كفرهم وعصيانهم قال: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(4)، وفي موقف آخر يختم على أفواههم فتشهد جوارحهم، قال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْوَتُكَلِّمُنَا

ص: 200


1- تفسير العياشي 1: 242.
2- سورة النبأ، الآية: 40.
3- سورة الملك، الآية: 11.
4- سورة الأنعام، الآية: 23-24.

أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1) وفي موقف آخر يضطرون إلى الاعتراف، كالمجرم الذي ينكر جرمه في المحكمة حتى إذا عرضت القرائن وأقيمت الشهادات اضطر إلى الاعتراف.

ص: 201


1- سورة يس، الآية: 65.

الآية 43

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا 43}

43- وحيث تقدم الدعوة للعبادة والنهي عن الكفر وبعض القبائح، يتم ذكر أهم مصادق للعبادة، وهي الصلاة مع النهي عن القبائح فيها فقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ} النهي عن الاقتراب إلى الشيء أبلغ من النهي عنه مباشرة؛ لأنه مبالغةً في التنزيه {وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ} أي سكر الخمر، والعلة تشمل سائر أنواع الغفلة، كحالة غلبة النوم {حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} أي حتى تفيقوا من سكرتكم وتنتبهوا، فإنّ الصلاة شرّعت للتوجه إليه تعالى وهي تنافي حالة السكر، {وَلَا} تقربوا الصلاة حال كونكم {جُنُبًا} أي في حالة الجنابة، وقوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} استثناء عن اللازم الغالبي، فإنّ لازم عدم اقتراب الصلاة هو عدم دخول مواضعها وهي المساجد، فالمعنى ولا تدخلوا المساجد إلاّ للعبور، بأن تدخلوا من باب وتخرجوا من آخر من غير مكث فيها، {حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ} غايه للنهي أي لا تجوز الصلاة ودخول المساجد في حال الجنابة إلى حين الغسل حيث

ص: 202

ترتفع الجنابة، {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ} فأصابكم الحدث الأكبرأو الأصغر، {أَوْ} لم تكونوا مرضى ولا على سفر لكن {جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} وهو المكان المنخفظ، كناية عن قضاء الحاجة بالحدث الأصغر {أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ} كناية عن الجنابة بالحدث الأكبر {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} للوضوء أو الغسل {فَتَيَمَّمُواْ} أي أقصدوا {صَعِيدًا} وهو ظاهر الأرض - سواء كان عليه تراب أم لا - {طَيِّبًا} طاهراً حلالاً {فَامْسَحُواْ} بيديكم المضروبتين على ذلك الصعيد {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} أي بعضها، بأن يمسح يديه على وجهه من قصاص الشعر إلى أعلى الأنف ثم يمسح اليسرى على ظاهر الكف اليمنى، ثم العكس، وإنّما أمركم اللّه بالتيمم تسهيلاً عليكم ف {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} فيعفو عن الذي له حرج في استعمال الماء ويغفر للمذنب.

بحوث

الأول: لمّا ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة الإحسان ونهى عن البخل وعن الإنفاق رياءً، وأمر بالإنفاق مما رزقهم لوجهه تعالى، بعد ذلك ذكر الصلاة، لاقتران الصلاة والإنفاق عادة فهما متلازمان، فلا يكون ذكر للصلاة إلاّ وذكرت الزكاة معه، وهكذا بالعكس، فكما أنّ للإنفاق مبطلات هي الرياء، كذلك للصلاة موانع منها السكر والحدث الأكبر والأصغر، فلا بد أن يكون جسم الإنسان وروحه طاهرين بالوضوء والغسل أو التيمم، وبعدم السكر الموجب للغفلة والبعد عن اللّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ...} الآية.

ص: 203

عدم الاقتراب إلى الشيء كناية بليغة في النهي عنه؛ لأنّ في ذلك المبالغةفي التنزيه، كقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ}(1)، وقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}(2)، وقوله: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَىٰ}(3)، وفي الحديث: «فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه»(4).

قيل: إنّ الخمر كانت محرّمة قبل نزول هذه الآية، ولكن مع ذلك كان بعض المسلمين يشربها وكان يصلّى في حالة سكره فيغيّر في الآيات! فجاء هذا النهي لتوبيخهم وتأكيداً للتحريم السابق، فإنّ شربها فعل حرام ويستلزم ترك واجب هي الصلاة، نعم ورد في رواية: «إنّ هذا قبل أن يحرّم الخمر»(5) قيل: المراد قبل توضيح تحريمها، واللّه العالم.

وفي الحقيقة ليس هذا نهياً عن الصلاة، بل هو نهي عن السُكر، حيث إنه يمنع عن أهم عبادة، نظير قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}(6) حيث إنّ النهي عن السهو في الصلاة والرياء فيها لا عن الصلاة بنفسها، وكقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(7)، فهو توبيخ على عدم العمل بالقول لا عن القول.

والحاصل أنّ الصلاة وسيلة للتقرب إلى اللّه تعالى، فلا تناسب السكر

ص: 204


1- سورة الأنعام، الآية: 152.
2- سورة الأنعام، الآية: 151.
3- سورة الإسراء، الآية: 32.
4- وسائل الشيعة 27: 167.
5- تفسير العياشي 1: 242.
6- سورة الماعون، الآية: 4-7.
7- سورة الصف، الآية: 2.

الذي هو حالة غفلة ونتيجة معصية.

ثم إنّ الغرض هو عدم الغفلة عن الصلاة، ولذا علّله بقوله: {حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}، وهذه العلة عامة في كل سكرة، ولذا ورد في بعض الروايات تأويل {سُكَٰرَىٰ} بسكرة النوم(1)، وهي الحالة التي يغلب فيها النوم على الإنسان بحيث لا يعي ما يقول، فلا بد له من أن يزيل سكرة النوم أولاً ثم يدخل في الصلاة.

وقد يقال: إنّ للسكر درجات يفقد السكران فيها مشاعره بشكل جزئي، لذلك يصح نهيه لالتفاته إليه بهذا المقدار.

ولكن كما ذكرنا فإنّ المقصود النهي عن السكر، فيقال له: لا تسكر بحيث إذا حان وقت الصلاة لم تلتفت إلى أقوالك، فهذا نهي لغير السكران؛ لئلا يسكر لا نهي للسكران عن الصلاة، فتأمل.

الثالث: قوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}.

عطف على {لَا تَقْرَبُواْ}، أي ولا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة، فإنها خباثة باطنية لا تنسجم مع الصلاة التي هي عبادة يُراد بها التقرّب إلى اللّه تعالى، فلذا كان كل خبث وحدث ظاهري أو باطني مانعاً لها، كنجاسة البدن أو اللباس، أو الثوب والمكان المغصوبين، أو الرياء، أو الحدث الأكبر والأصغر ونحو ذلك، بل كان الوضوء والغسل - وهما المزيلان للحدث - عبادة أيضاً يشترط فيهما قصد القربة.

وقوله: {جُنُبًا} منصوب على الحالية، ويستوى فيه المذكر والمؤنث

ص: 205


1- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 103-104.

والمفرد والتثنية والجمع، فالمعنى حال كونكم على جنابة.

وقوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} استثناء عن لازم الاقتراب إلى الصلاة، وهو دخول المساجد، فإنّ الغالب إقامة الفرائض في المساجد، فإذا نهي عن الصلاة فقد نهي عن دخولها بالملازمة، وهذه الملازمة وإن كانت خفية إلاّ أنّ الاستثناء يكشف عنها، فيكون المعنى: ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب، ولا تدخلوا المساجد إلاّ حال كونكم عابرين.

وقيل: المراد من الصلاة مواضعها، أي لا تقربوا مواضع الصلاة في حالة السكر والجنابة إلاّ إذا أردتم العبور، وبالملازمة تدل على عدم اقتراب الصلاة بنفسها.

وقيل: الآية على الاستخدام باستعمال اللفظ بمعنى واستعمال ضميره بمعنى آخر، أي لا تقربوا الصلاة بنفسها في حالة السكر ولا تقربوها في حالة الجنابة، بأن يرجع الضمير إلى مواضع الصلاة.

وقيل: معنى {عَابِرِي سَبِيلٍ}: مسافرين، فالمعنى ولا تصلوا بالجنابة إلاّ لو كنتم في سفر، حيث الغالب فقدان الماء فيه.

وقوله: {حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ} غاية النهي، فبعد الغسل تجوز أو تجب الصلاة.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ...} الآية.

بيان لبدلية التيمم عن الوضوء، فمن أحدث بالحدث الأكبر وجب عليه الغسل، أو أحدث بالحدث الأصغر وجب عليه الوضوء، لكنه إذا لم يجد ماءً وخاصة المريض والمسافر، فعليه أن يتيمم على أرض طاهرة، وبذلك يباح له الصلاة، بل يباح له كل ما يشترط فيه الطهارة من الحدث.

ص: 206

وقوله: {مَّرْضَىٰ} عدم وجدان المريض للماء أعم من فقدانه للماء أوضرر الماء عليه.

وقوله: {عَلَىٰ سَفَرٍ} لأنّ الغالب فقدان المسافر للماء الكافي للغسل، واستعمال (على) لأنّ المسافر كأنه راكب على السفر، وذلك لركوبه غالباً على الدابة ونحوها.

وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم...} هذا تعميم بعد تخصيص، بمعنى أنّ الآية ذكرت المريض المحدث والمسافر المحدث، ثم عممّت لكل محدث بالحدث الأصغر أو بالحدث الأكبر حتى لو لم يكن مريضاً أو مسافراً، فهؤلاء إذا لم يجدوا ماءً فعليهم بالتيمم.

وبذلك يتضح جواب سؤال أنّ المرض والسفر سبب لجواز التيمم، وأما الغائط والملامسة فهما سبب الحدث، فكيف عطفهما عليهما؟

وذلك لأنّ المراد بالمريض والمسافر: المريض المحدث والمسافر المحدث وذكرهما من بين سائر المحدثين لأجل غلبة فقدان الماء فيهما، ثم ذكر الحكم عاماً لكل محدث، فيكون تعميماً بعد تخصيص، وهذا أسلوب شائع لبيان خصوصية أو أهمية بعض المصاديق، كما يقال: (أكرم زيداً والضيوف) لبيان أهميته من بين سائر الضيوف.

وقيل: {أَوْ} في قوله: {أَوْ جَاءَ...} بمعنى الواو، فالمعنى: فمن كان مريضاً أو على سفر وأحدث بالحدث الأصغر أو الأكبر فعليه التيمم إن لم يجد الماء.

وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} (الغائط) هو المكان

ص: 207

المنخفض من الأرض، كانون يتسترون به لقضاء الحاجة، ثم كثر استعماله فيما يخرج،فالمعنى: أو رجع أحدكم من مكان التخلي، وهو كناية عن صدور الحدث الأصغر الموجب للوضوء.

وقوله: {أَوْ لَٰمَسْتُمُ النِّسَاءَ} كناية عن المجامعة، وهي سبب الحدث الأكبر الموجب للغسل، وقد مرّ أنّ القرآن الكريم يستعمل الكنايات فيما يستقبح ذكره بالصراحة، فعبر عن ذلك بالملامسة والمباشرة والإفضاء ونحو ذلك.

وقوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} أي لم يجد كل من المريض والمسافر والمحدث بالأصغر أو الأكبر، أما الثلاثة فواضح، وأما المريض فإنه قد لا يتمكن لمرضه من البحث عن الماء، أو الماء موجود لكنه غير قادر من الوصول إليه؛ لعجزه أو لضرره عليه فهذا أيضاً لم يجد الماء حتى لو كان بجنبه.

وقوله: {فَتَيَمَّمُواْ} أي اقصدوا، ثم كثر استعماله في ضرب اليدين بالتراب حتى صار حقيقة فيه.

وقوله: {صَعِيدًا} الصعيد هو مطلق وجه الأرض سواء كان تراباً أم حجراً، فالمعنى اقصدوا أرضاً سواء كان عليها تراب أم لا، وأصل الكلمة من الصعود؛ لأنّ وجه الأرض إنما هو فوق باطنها فكأنه صاعد عليه.

وقوله: {طَيِّبًا} أي حلالاً وليس بنجس؛ لأنّ التيمم عبادة فلا تناسبها الخباثة الظاهرية بالنجاسة والباطنية بالغصب.

وقوله: {بِوُجُوهِكُمْ} الباء للتبعيض، أي بعض الوجه واليدين، وقد بيّنت السنة مقدارهما، فالوجه من منابت الشعر إلى أعلى الأنف، واليدان من الزند

ص: 208

إلى نهاية الكف.

فائدة التيمم

سؤال: وما فائدة التيمم؟

والجواب: لعلّ ذلك لأهمية الصلاة، ولزوم الطهارة فيها، فلئن فقد الماء ولا يمكن التطهر به فقد جعل اللّه تعالى بديلاً له، وهذا إشعار للمصليّ بلزوم الطهارة وأهمية الصلاة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى لعلّ اللّه جعل فيه سببيّة غيبيّة بنور باطني وإزالة حقيقية للحدث، كما جعل ذلك للوضوء والغسل، فليست الفائدة منحصرة في المنافع الظاهرية بزوال القذارات والأوساخ.

بل لعلّ في التيمم أيضاً بعضاً من تلك الفوائد، فالتراب معقمّ أيضاً من الجراثيم، فإنّ الحدث يلازم خروج القذارات كالبول والمني ونحوهما.

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}.

المقصود أنه تعالى أمركم بالتيمم حين فقدان الماء؛ لأنه يريد بكم اليُسر، فهو الذي إن أذنبتم عفا وغفر، وإن صعب عليكم حكمٌ خفّف، فإنّ مَن دأبه العفو والغفران للمذنب، فهو للمطيع أرحم.

ص: 209

الآيات 44-46

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يَشْتَرُونَ الضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ 44 وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا 45 مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا 46}

ثم يأتي ذكر مصداق من مصاديق الكفار وهم اليهود وذكر بعض مخالفاتهم، وتذكر الآيات ثلاثة أنواع منها تبدأ كل مجموعة بقوله: «ألم تر»، الأول: في ضلالهم وعدم قبولهم الدين الحق، ويتمثل ذلك باستهزائهم بالرسول، والثاني: في تزكيتهم أنفسهم، والثالث: في أهم رذائلهم وهي خضوعهم للكفار وبخلهم وحسدهم.

44- أما الأول: فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا} حظاً وقِسماً {مِّنَ الْكِتَٰبِ} التوراة، فكان ينبغي عليهم مراعاة هذا العلم لكنهم {يَشْتَرُونَ الضَّلَٰلَةَ} بدلاً من الهداية، فهم أهل ضلال، {وَ} مضافاً إلى ذلك {يُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} الحق، مع أنّ الكتاب يأمرهم بأن يهتدوا ويهدوا غيرهم.

ص: 210

45- فهؤلاء أعداؤكم لذا يريدون سلبكم دينكم، فلا تغتروا بظاهرهم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} فحيث أخبركم بعداوتهم لكم فاحذروهم ولاتتوقعوا منهم محبة ولا نصرة {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا} يلي أمركم فولايته تكفيكم عن ولايتهم، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا} فلا تحتاجون إلى نصرتهم.

46- هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب هم {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} أي اتخذوا اليهودية ديناً، دأبهم إظهار ما لا يبطنون فهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} أي يستعملون الكلام في غير مكانه إيهاماً للمؤمنين، {وَ} ومن أمثلة ذلك التحريف أنهم:

أ- {يَقُولُونَ سَمِعْنَا} قولك واحتجاجك {وَعَصَيْنَا} أي لم نقنع به ولم نؤمن به، مع أنهم علموا بالحق فكان اللازم أن يؤمنوا ويطيعوا.

ب- {وَ} يقولون {اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٖ} يظهرون أنهم يريدون من «غير مسمع» التوقير وأن قولهم «اسمع» ليس أمراً، كما يقال للكبار توقيراً لهم: «افعل كذا بلا أمرٍ عليك»، مع أنهم يريدون الشتم والإهانة، فيقصدون «لا سمعت» أو «غير مجاب في دعوتك» أو هو دعاء بالموت.

ج- {وَ} يقولون {رَٰعِنَا} يريدون به السب؛ لأنه كان شتيمة عندهم، وهو عند العرب من التأدب من طلب المراعاة، فاستغلوا ذلك ليشتموا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بوجهه.

وإنما فعلوا ذلك {لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي لأجل التواء في ألسنتهم فينطقون بالباطل مظهرين أنه الحق، {وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} أي وقيعة فيه واستهزاءً.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ} اتبعوا الحق بالإيمان وباستقامة اللسان فكان باطنهم كظاهر

ص: 211

كلامهم ف {قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} بدلاً عن «وعصينا»، {وَاسْمَعْ} من غير إضافة «غير مسمع»، {وَانظُرْنَا} أي انتظرنا لنفهم ما تقول بدلاً عن «راعنا» {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} في دنياهم وآخرتهم {وَأَقْوَمَ} أي أقرب لمرعاة العدلفي الكلام، {وَلَٰكِن} لم يقولوا ذلك لخبث سرائرهم ف {لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي بسببه {فَلَا يُؤْمِنُونَ} لأنّ الإيمان عطية من اللّه لا يعطيها إلاّ لمن أصلح سريرته، وأما من أفسدها بسوء اختياره فلا يهديه اللّه، وبذلك يستحق الإبعاد والطرد عن الرحمة {إِلَّا قَلِيلًا} منهم، وهذا استثناء من «لعنهم اللّه» أي إلاّ القليل الذين أصلحوا سرائرهم فهؤلاء يرحمهم اللّه ويوفقهم للإيمان.

بحوث

الأول: سياق الآيات حيث كان حول الإيمان والكفر، أراد اللّه تعالى ذكر مثالين من المنحرفين عن الإيمان، وهم اليهود (الآيات 44-56)، والمنافقون (الآيات 60-70)، وتضمنتها آيات حول المؤمنين وأوصافهم (الآيات 57-59)، مع ذكر مصير هؤلاء كلهم في الآخرة.

أما اليهود فمن أوصافهم الضلال والإضلال، وعداوة المؤمنين، وتحريف الكلام، وإيذاء الرسول، وتزكيتهم أنفسهم افتراءً على اللّه تعالى، وإيمانهم بالأصنام، وحسدهم الرسول والمؤمنين والصد عن سبيل اللّه تعالى، ثم بيان عاقبتهم بلعنهم، وطمس وجوههم، وعدم الغفران لهم، وإصلائهم النار وعذابها.

وأما المنافقون فستأتي أوصافهم وعاقبتهم.

ص: 212

الثاني: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ...} الآية.

الاستفهام للتعجب، فهؤلاء عندهم علم من التوراة فلا يجهلون الحقيقة بأنّ محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسول اللّه.وقوله: {نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ} أي حظاً وقسماً من الكتاب وهو التوراة، وهذا كان كافياً لهدايتهم لو كانوا يعقلون، وأما القسم الآخر - وهو الإنجيل والقرآن - فلم يؤتوه؛ لأنهم كفروا بعيسى (عليه السلام) وكذّبوا رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ولكنهم مع علمهم بالتوراة فقد خالفوا الحق عناداً، فأفعالهم:

1- {يَشْتَرُونَ الضَّلَٰلَةَ} أي يبيعون أنفسهم مقابل الضلالة، مع أنه كان يجب عليهم أن يجعلوا الهداية ثمناً لأنفسهم.

والحاصل أنهم ضلوا في أنفسهم.

2- {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} أي لم يكتفوا بضلالهم، بل يريدون إضلال غيرهم عن سبيل الحق، وهذا غاية في الخبث، فكانوا يستعملون مختلف الأساليب لتشكيك المسلمين بدينهم لتكذيب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإسلام، وغالب المنحرفين هكذا؛ لأنهم يحسدون المهتدين من جهة، ولأنهم يريدون تقوية موقفهم، إذ لو التفّ الناس حول الحق لضعفوا وانفضحوا، لذا لا يقبل الفاسدون عادة وجود صالح بينهم، فإما أن يُفسدوه فيكون واحداً منهم، وإما يكيدون له المكائد، فعلى الإنسان الابتعاد عنهم لئلا يصيبه شرّهم.

3- وعداوتهم للمؤمنين والذي بينته الآية التالية.

ص: 213

الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ...} الآية.

تحذير للمؤمنين عنهم، فحيث إنّ هؤلاء يريدون إضلالكم فهم أعدى أعدائكم، ولأجل الوصول إلى مبتغاهم يتظاهرون بالشفقة لكم والمحبةويزعمون أنهم ينصرونكم على أعدائكم!

لكن عليكم الحذر منهم، فهم الأعداء في ثوب الأصدقاء، فلا تنفعكم ولايتهم ولا نصرهم، فهما سراب لا حقيقة، واللّه سبحانه أخبركم بعداوتهم فعليكم تصديقه، وعليكم أن تستبدلوا ولايتهم بولاية اللّه تعالى فهو الذي يلي أمركم فلا يضركم كيدهم، وأن تستبدلوا نصرهم بنصره، فهو المالك لزمام الأمور القادر على كل شيء.

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي أعلم بهم منكم.

وقوله: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ} الباء للتقوية، والمعنى كفى اللّه.

وقوله: {وَلِيًّا} و{نَصِيرًا} تمييز، أي يكفيكم من جهة الولاية والنصرة.

الرابع: قوله تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}.

بيان قوله تعالى: {الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ}، والآيتان السابقتان بينتا أفعالهم بالضلال والإضلال والعداوة، وهذه الآية تبيّن أقوالهم:

فهؤلاء {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} أي يستعملون الكلام في غير مقامه وغير محلّه، والتحريف التبديل، فكلمة {سَمِعْنَا} موضعها موضع الطاعة، لكنهم يستعملونها في موضع الاستهزاء، وكلمة {غَيْرَ مُسْمَعٖ} موضعها التعظيم، لكنهم يقصدون بها الإهانة، وكلمة {رَٰعِنَا} موضعها موضع التوقير، لكنهم يستعملونها بقصد الشتم، وبذلك يتضح أنّ التحريف

ص: 214

هنا ليس بمعنى تبديل الكلام بآخر أو تغيير حكم من الأحكام، فإنّ هذا وإن كان دأبهم أيضاً إلاّ أنه ليس المقصود بالذكر في هذه الآية، ولذا أتمّه بقوله: {لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}، وحينما أراد اللّه تعالى بيان تغييرهم للكلاموللأحكام قال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}(1)، أي يبدلونه بعد ما شرّعه اللّه وبينه فجعله في مواضعه فينقلونه إلى مواضع أخرى، هكذا قيل.

الخامس: قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ...} الآية.

هذا عطف تفسيري لبيان تحريف الكلام عن مواضعه، ففي البداية بيّن اللّه تعالى كلامهم، ثم ذكر سبب ذلك التحريف، ثم بيّن المواضع الصحيحة للكلام.

1- فأما كلامهم: فمنه ما يرتبط بسمعهم فيقولون: سمعنا كلامك لكننا لا نقبله، ومنه ما يرتبط بسمع الرسول فيقولون: اسمع كلامنا لكنك لا تفهمه، ومنه ما يرتبط بشتمه بقولهم: راعنا.

وقولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا كلامك واحتجاجك لكننا لم نؤمن به ولم نقتنع به؛ لأنا لا نعتقد بنبوتك! فكان قولهم: (سمعنا) على سبيل الاستهزاء.

وقولهم: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٖ} أي غير مجاب في دعوتك، أو هو بمعنى (لا سمعت)، وهو دعاء عليه بالموت؛ لأنّ الميت عندهم لا يسمع، أو هو تحقير واستهزاء، مع أنّ الكلمة تستعمل مع العظماء للتوفير والاحترام، أي اسمع بلا أمرٍ عليك، وفي التقريب: اسمع غير مأمور بالسمع، فإنه يقال هكذا

ص: 215


1- سورة المائدة، الآية: 41.

للرجل العظيم احتراماً وإشعاراً بأنّ أمره ب {اسْمَعْ} ليس أمراً، فهو لا يؤمر بالاستماع؛ لأنه أجلّ من الأمر(1).وقولهم: {رَٰعِنَا} قد مرّ تفصيله في سورة البقرة فراجع، وحاصله أنّ هذه الكلمة كانت عند العرب من المراعاة، مثل أن يبيّن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأحكام والآيات إليه بالتأني ويجيب على أسئلتهم ليفهموا قوله، وأما عند اليهود فكانت شتيمة، قيل: هي شتيمة بالعبرية، وقيل: بل هي نفس الكلمة العربية لكن اصطلاحهم فيها كان للشتم.

2- وأما سبب كلامهم فهو أمران:

أحدهما: قوله: {لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي لنفاقهم كانوا يقولون بألسنتهم على خلاف ما في قلوبهم، وهذا من التواء النفس وانحرافها عن الحق، فأصل الالتواء في القلب لكن نسب إلى لسانهم؛ لأنه المظهر لذلك الالتواء. والحاصل أنّ كلامهم كان بشكل طبيعي وظاهره التوقير، لكن باعتبار عدم مطابقته لقلوبهم وقصدهم الاستهزاء به لذلك قال: {لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} من لوى يلوى لياً وأصله الفتل، فكأنّ الكلام على الجادة المستقيمة فينحرف به عنها.

والآخر: قوله: {وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} أي لإرادتهم الوقيعة في الإسلام؛ وذلك لأنّ الطعن في الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طعن في ما جاء به من عند اللّه.

والحاصل أنّ هؤلاء في نفوسهم التواء، وهم يعارضون الدين فأظهروا ذلك بكلامهم عند الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فالمبطل يعارض الحق وأهله.

3- وأما المواضع الصحيحة للكلام فهو:

ص: 216


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 487.

قوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إطاعة قولاً وعملاً، بأن قبلوا الدين حقيقة، فإنّ الإطاعة العملية تصلح النفس وتزيل انحرافها والتواءها، فإنّ لكل من الجسم والروح تأثيراً على الآخر، فمن نفسه ملتوية إذا أدام الطاعة صلحت، ومننفسه مستقيمة إذا أكثر من العصيان فسدت.

وقوله: {وَاسْمَعْ} من غير إضافة غير مسمع التي هي كلمة ذات وجهين فلا بد أن يتركوها، فليس من التوقير ذلك.

وقوله: {وَانظُرْنَا} بدلاً من راعنا، أي انتظرنا كي نفهم ما تقول، فإنّ في ذلك إيماناً وأدباً واستقامة اللسان.

السادس: قوله تعالى: {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن...} الآية.

أي مراعاة الأدب وعدم التواء اللسان، خير لهم وأقرب للعدل...

أما كونه خيراً لهم: فلأنه بالإيمان يفوز الإنسان بسعادة الدارين، بل حتى لو لم يكن مؤمناً لكنه جاء لطلب الحق فأصغى إلى داعي الحق فإنه يرجى هدايته وهو خير له.

وأما كونه أقوم: أي أقرب إلى الاستقامة والسداد، فإنّ احترام صاحب الحق والناطق به هو من الاستقامة حتى لو لم يهتدِ الإنسان.

والحاصل أنّ احترام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خير لهم إن آمنوا، وهو أقرب للعدل حتى لو لم يؤمنوا.

وقوله: {وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} فيه اختصار بليغ، أي لكنهم خالفوا فكفروا فلعنهم اللّه بسبب ذلك الكفر.

وقوله: {فَلَا يُؤْمِنُونَ} أي أنّ اللّه خذلهم بلعنهم، فلذلك سوف لا

ص: 217

يوفّقون للإيمان أبداً؛ لأن الهداية من اللّه تعالى حصراً، وإنما يهدي اللّه من لم يكابر الحق، فهو بحسن اختياره جعل نفسه قابلة للّهداية فيتفضل اللّه عليه بها، وأما من كابر الحق بسوء اختياره فإنّ اللّه لا يهديه، نظير شخصين لهماأراضٍ، فأصلح الأول أرضه، فلما نزلت الأمطار أنبتت من كل زوج بهيج، وأفسد الثاني أرضه ولم يصلحها، فحين المطر لا تنبت إلاّ نكداً لا فائدة فيه، فزرع اللّه تعالى للأول لحسن عمله، ولم يزرع للثاني لسوء عمله.

والحاصل أنّ عدم إيمانهم متفرع على لعنهم وطردهم عن الرحمة.

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} أي قليلاً منهم، وهو استثناء من {لَّعَنَهُمُ اللَّهُ}، فالمعنى لعنهم اللّه إلاّ القليل منهم الذين لم يلعنهم، بل هداهم فآمنوا.

وقيل: الاستثناء من {لَا يُؤْمِنُونَ}، ولكن بتأويل أنّ اللعن للمجموع بما هو مجموع، وهو لا ينافي إيمان بعض الأفراد وعدم لعنهم، فتأمل.

ص: 218

الآيات 47-50

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَٰبَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا 47 إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا 48 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا 49 انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا 50}

47- ثم يهدّدهم اللّه تعالى بسوء العاقبة إن لم يؤمنوا فيقول: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} أي نزل على نبيهم والكتاب بحوزتهم {ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} أي القرآن حال كونه {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} أي التوراة حيث ذكرت أوصاف الرسول محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ} وهو المحو وإزالة الأثر {وُجُوهًا} وجوه بعضكم، وبيّن كيفية الطمس بقوله: {فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا} أي نجعل الوجوه كهيئة القفا، كناية عن إضلالهم فلا يرون طريق الهداية، أو هو نوع عذاب لبعضهم {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} بطردهم من الرحمة {كَمَا لَعَنَّا أَصْحَٰبَ السَّبْتِ} حيث مسخوا قردة، {وَ} هذا ليس مجرد وعيد، بل {كَانَ أَمْرُ اللَّهِ} قضاؤه بالطمس واللعن {مَفْعُولًا} نافذاً.

48- ولا تتوهموا المغفرة، فذنبكم لا يغفر، حيث {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن

ص: 219

يُشْرَكَ بِهِ} لعدم قابلية المشرك للمغفرة إن لم يتب، وأنتم قد أشركتم، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ} سائر المعاصي {لِمَن يَشَاءُ} ممن آمن حيث يكونأهلاً للغفران بالشفاعة أو إذهاب السيئات بالحسنات أو لغير ذلك، {وَ} سبب عدم الغفران لمن أشرك أنّ {مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} فلا مصلحة ولا حكمة في غفرانه.

49- ثم يذكر اللّه تعالى النوع الثاني من مخالفاتهم، وهي تزكية أنفسهم بالباطل: والعجب أنّ هؤلاء يزعمون عدم عذابهم؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم أبناء اللّه وأحباءه {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم} بطهارتهم من الآثام مع شركهم وتحريفهم، {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي} يطهّر من الذنوب {مَن يَشَاءُ} ممن كانت له أهلية لذلك {وَ} أما هؤلاء المفترون في عدم تزكيتهم وفي تعذيبهم ف {لَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} بمقدار الخيط في شق النواة كناية عن عدم الظلم حتى القليل منه، فالتزكية وعدمها ليستا اعتباطاً، بل هما مطابقتان للعدل أو الفضل.

50- {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة تزكيتهم إلى اللّه {وَكَفَىٰ بِهِ} بالافتراء {إِثْمًا مُّبِينًا} يستحقون العذاب عليه.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ...} الآية.

على رغم شنيع أفعال أولئك اليهود والتي ذُكِرَ شطرٌ منها في الآيات السابقة، إلاّ أنّ اللّه تعالى يدعوهم إلى الإيمان مع بيان السبب والتحذير من العاقبة، لإتمام الحجة على أغلبهم، ولهداية من هو قابل للّهداية منهم ولو

ص: 220

كان قليلاً منهم.

فأما السبب فهو: أنّ القرآن يصدّق التوراة؛ لأنهما من عند اللّه تعالى، فنفس السبب في وجوب إيمانهم بالتوراة موجود في القرآن أيضاً، بل إنّالتوراة بشرّت بالنبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذكرت أوصافه، وقد انطبقت تلك الأوصاف والبشارات عليه، فتصديقهم للتوراة يقتضي إيمانهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وعدم إيمانهم به تكذيب لها.

وأما التحذير: فإنّ عدم الإيمان به سبب للضلال، ومن ثم العقوبة الإلهية في الدنيا والآخرة.

والعاقل إذا علم بأن شيئاً حق وأن في تركه أشد الضرر، يؤمن به ويعمل على مقتضاه.

وقوله: {أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} أي نزل على نبيهم، فعلموا به وهو موجود بحوزتهم.

وقوله: {ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} أي القرآن، والإيمان به متفرع على الإيمان برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وإنما ذكر الإيمان بالقرآن لمناسبته مع إيمانهم بالتوراة التي تُصدّقه.

وقوله: {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} بيان سبب وجوب إيمانهم بالقرآن.

وقوله: {نَّطْمِسَ} يراد به الإضلال، فإنّ اللّه تعالى يهدي الجميع ببيان الطريق الحق إليهم، فإن استحبوا العمى على الهدى وفقدوا قابلية الهداية تركهم وشأنهم، ومن يتركه اللّه ولا يوفقه يضلّ، فالطمس كناية عن عدم رؤيتهم الطريق الصحيحة، كالذي وجهه في قفاه لا يرى الصراط المستقيم

ص: 221

فينحرف عنه، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها في ضلالتها ذماً لها بأنها لا تفلح أبداً»(1).وأيضاً قد يكون هذا نوع عذاب لهم.

وقوله: {وُجُوهًا} بالتنكير تحقيراً لها، أو الإبهام لتخويفهم جميعاً.

وقوله: {فَنَرُدَّهَا} عطف تفسيري لبيان كيفية الطمس، بأن يتحول الوجه إلى القفا، بالمعنى الكنائي عن الإضلال بعدم رؤية الطريق، أو بالمعنى الحقيقي بعذابهم هكذا في الآخرة.

وقوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} أي نطردهم عن الرحمة بعذابهم في الدنيا.

وقوله: {كَمَا لَعَنَّا أَصْحَٰبَ السَّبْتِ} إما تشبيه في كيفية اللعن بالمسخ قردة، أو تشبيه في أصل اللعن وهذا أظهر.

ويحتمل كون كلا العذابين في الدنيا، أو كلاهما في الآخرة، أو أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة.

وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} لبيان أنّ هذا الطمس واللعن - إن لم يؤمنوا - قضاء حتمى وليس مجرد تهديد.

مطالب حول عدم غفران الشرك

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ...} الآية.

هذا بيان سبب تنفيذ الوعيد وحتميته، فإنّ هؤلاء أشركوا ومن يشرك لا يغفر له إن مات على شركه، وهنا مطالب:

1- أنّ أهل الكتاب مشركون، حتى وإن زعموا إنهم موحدون، فالشرك

ص: 222


1- مجمع البيان 3: 143.

في الألوهية قد يكون بزعم تعدد الآلهة، وقد يكون بزعم استقلال المخلوق في قدرته، وقد يكون بوصف المخلوق بصفات الخالق الخاصة به.

نعم كلمة «المشرك» اصطلاح في عبدة الأصنام، كما أنّ «أهل الكتاب»اصطلاح في اليهود والنصارى، و«الذين آمنوا» اصطلاح في المسلمين حتى المنافقين منهم.

وعليه فهذه الآية ترتبط بأهل الكتاب وإن كان معناها عاماً يشمل جميع من أشرك حتى ولم يكن منهم.

2- إنّ صدر هذه الآية تكرر في الآية 116 من هذه السورة، قيل: إن هذه الآية تهديد بالآثار الدنيوية للشرك، وتلك بالآثار الأخروية حسب ما يستفاد من سياق الآيتين وحسب الانطباق على المورد وإن كانتا عامتين لكل الآثار(1).

وقد مرّ أنه لا تكرار في القرآن، فذكر الدليل الواحد والاستدلال به على موردين مختلفين ليس من التكرار في شيء، كما لو قلنا: زيد يستحق المدح؛ لأنه محسن، وعمرو يستحق الجائزة؛ لأنه محسن، فقولك: (أنه محسن) ليس من التكرار في شيء؛ لأنه وإن كان دليلاً واحداً وبصورة واحدة إلاّ أنه في موردين مختلفين.

3- وعدم غفران ذنب الشرك إنما هو لمن مات عليه، وأما من تاب منه فهو مغفور له، كما قال اللّه تعالى: {قُلْ يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُۥ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *

ص: 223


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 4: 379.

وَأَنِيبُواْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}(1).

ولذلك في هذه الآية يدعو اللّه اليهود إلى الإيمان بالقرآن وبالرسول وإلى ترك الشرك كيلا يصيبهم العذاب.

4- وسبب عدم غفران الشرك هو أنّ المشرك لتعديه على مقام الربوبيّة لا أهلية له لينال المغفرة، فهو سبب خبث الباطن بما لا يمحى أثره، فليس من الحكمة العفو عنه وغفرانه، فأثر الشرك لا يزول أبداً، عكس سائر الذنوب إذا صدرت عن مؤمن، فإنّ حسن باطنه يجعله أهلاً لإزالة المعصية وأثرها عنه، إما بسبب أعماله الصالحة الأخرى، حيث إنّ الحسنات يذهبن السيئات، أو بالشفاعة ونحوها، فمثلها كمثل ذهب علقت به قاذورات حيث تزول بجلائه، أو كمثل لحم فسد لا قابلية له للتنظيف وإزالة فساده إلاّ بإعدامه وصيرورته تراباً.

ولذا قيل: إنّ الرحمة الخاصة إنما تنال العابد، حيث قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، وتلك العبادة طريق إلى الرحمة كما قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(3)، ولا عبودية مع الشرك، فلا قابلية للرحمة حينئذٍ، فلا حكمة فيها.

5- الآية إنما هي فيمن لم يتب، فإذا كان مشركاً ومات عليه فلا غفران له، وإذا لم يكن مشركاً وعمل بسائر المعاصي فقد يغفر اللّه له إن شاء.

وهذه الآية صريحة في غفران الكبائر إذا شاء اللّه تعالى، خلافاً لما زعمته

ص: 224


1- سورة الزمر، الآية: 53-54.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة هود، الآية: 119.

المعتزلة بخلود أهل الكبائر في النار، فأقحموا التوبة في هذه الآية، فاضطروا إلى تقدير عدم التوبة في الشرك، وتقدير التوبة في ما دون ذلك، ثم اضطروا إلى إخراج الصغائر من {مَا دُونَ ذَٰلِكَ} لأنها مغفورة حتماً معاجتناب الكبائر! مع استلزام ذلك ركاكة الكلام وعدم فصاحته.

والحاصل أنّ الآية في مقام بيان حالة عدم التوبة، فإن أشرك فلا يغفر له، وإن كانت سائر المعاصي فأمرها منوط بمشيئة اللّه إن شاء غفر بفضله، وإن شاء عذّب بعدله.

6- تعليق غفران سائر الذنوب على المشيئة يجعل المؤمن بين الخوف والرجاء، وذلك أدعى لعدم الاستخفاف بالذنب وعدم اليأس والقنوط من رحمة اللّه تعالى، قال تعالى: {إِنَّهُۥ لَا يَاْئَْسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَٰفِرُونَ}(1)، وقال: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَٰسِرُونَ}(2).

7- قيل: إنّ من الحكمة أن لا يغفر لكل مذنب، وإلاّ لغى الأمر والنهي وبطل التشريع وفسد أمر التربية الإلهية.

وفيه: أنّ هذا المحذور إنما يترتب مع العلم بمغفرة الجميع، وأما مع تعليقه على المشيئة وعدم العلم بالغفران فلا، فلا محذور عقلاً في بقاء المؤمن بين الخوف والرجاء إلى حين الموت وأن يغفر اللّه جميع ذنوب المؤمنين، ويخصص عذاب الذنوب بالمشركين فقط.

وقوله تعالى: {لِمَن يَشَاءُ} تعليق المغفرة بالمشيئة للدلالة على أنها

ص: 225


1- سورة يوسف، الآية: 87.
2- سورة الأعراف، الآية: 99.

مرتبطة به تعالى لا بتوهمات الناس وأمانيّهم، فمشيئته تعالى تعلو كل إرادة، مع أنها لا تكون إلا بحكمة، فالمغفرة من صفات الفعل ومنشؤها صفات الذات، فهو عالم قادر حكيم، ولذلك يعلم الذي يستحقها والذي الحكمةفي غفرانه، فينفذ ما شاء، وفي ذلك دلالة على أنّ المغفرة بالتفضل لا بالاستحقاق، وحتى التجاوز عن التائب كذلك، إذ ليس من الواجب عقلاً العفو عن المجرم حتى لو ندم، فلذا لا تسقط حقوق الناس بمجرد الندم، وكذلك أكثر الحدود.

والحاصل أنّ الشرك لا يقاس بسائر المعاصي كي يتوهموا المغفرة أو قلّة عذابهم كما قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}(1).

وقوله: {فَقَدِ افْتَرَىٰ} من الفرية، بمعنى الكذب في حق الغير بما لا يرتضيه(2)، فهو كذب على اللّه تعالى بزعم الشريك له، وأيضاً كذب عملي بزعمهم استحقاق غير اللّه للعبادة وبعبادتهم إياهم.

وقوله: {إِثْمًا عَظِيمًا} إما مفعول به ل {افْتَرَىٰ} بتضمينه معنى الارتكاب، أو نائب مناب المفعول المطلق، أي افترى افتراءً موصوفاً بكونه إثماً مبيناً. ولعل ذلك بيان لسبب عدم الغفران، فهو افتراء على اللّه وإثم عظيم فغفرانه خلاف الحكمة.

الثالث: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم...} الآية.

أيضاً استفهام للتعجب، وبيان لسبب عدم إيمانهم وكثرة معاصيهم، وهو

ص: 226


1- سورة البقرة، الآية: 80.
2- معجم الفروق اللغوية: 449.

أنهم كانوا يزعمون أنهم أبناء اللّه وأحباؤه، وأنه لا حريجة عليهم في المخالفات قال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}(1)،فردّ اللّه عليهم بأن المزكّي هو اللّه، فهو الذي يحكم بطهارة المؤمنين ويطهّرهم من ذنوبهم بالمغفرة، وأما الكفار فلا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم، قال اللّه تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَٰرَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(2)، وقال: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ}(3).

والحاصل أنه لا قرابة بين اللّه وبين أحد من الناس، والمناط ليست الأنساب، وإنما المعتقدات والأعمال، ومن العجب أنّ هؤلاء مع كفرهم وتحريفهم يزكّون أنفسهم!

وقوله: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي} أي يخبر عن طهارته، أو يطهره من الذنوب بالمغفرة.

وقوله: {مَن يَشَاءُ} ممن آمن وعمل صالحاً، فهو سبحانه العالم بالأسرار والمصائر، فلذا تزكيته بحق وليست كتزكيتهم بالأهواء.

والحاصل أنّ ميزان التزكية هو ما قرّره اللّه تعالى لا ما تمليه الأهواء السقيمة، وذلك الميزان هو الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وأطاع زكّاه اللّه تعالى، حتى وإن كان عبداً حبشياً، ومن كفر وعصى لم يزكّه اللّه سبحانه حتى لو كان من ذرية الأنبياء، فهذا ابن نوح عمل غير صالح فأخرجه اللّه

ص: 227


1- سورة آل عمران، الآية: 75.
2- سورة البقرة، الآية: 111.
3- سورة النساء، الآية: 123.

من أهل نوح (عليه السلام) بكفره.

وقوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} هذا كالتعليل لعدم التزكية، فذلك ليس هو بالاعتباط، بل عدم التزكية مطابق للعدل، فعدم غفران ذنوبهم ليس ظلماًلهم، بل بسبب سوء معتقدهم وسوء عملهم، كما أنّ تزكية المؤمنين بفضله تعالى لحسن اختيارهم.

الرابع: قوله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...} الآية.

هذا بيان سبب آخر لعدم مغفرة ذنوبهم، وهو افتراؤهم الكذب على اللّه بتزكيتهم، كما أنّ في الآية 48 بيان افترائهم الكذب باتخاد الشريك، أي أنّ اللّه لا يغفر لهم بسبب افترائهم الشرك، ثم لا يغفر لهم بسبب افترائهم على اللّه بأنّه يزكيهم وما يلازمه من ارتكاب الذنوب والمعاصي، فإنّ الذنوب الكبيرة تُغفر بالتوبة أو بالشفاعة أو بسبب صالح الأعمال، وهؤلاء يفتقدون لكل ذلك فلا يتوبون حتى الموت إلاّ قليلاً، ولا يرتضيهم اللّه كي يأذن للشفعاء بشفاعتهم، ولا أعمال صالحة لهم لتُذهب سيئاتهم، فإنّ الكفر يحبط جميع الأعمال الصالحة.

ص: 228

الآيات 51-55

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا 51 أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا 52 أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا 53 أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَٰهِيمَ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَٰهُم مُّلْكًا عَظِيمًا 54 فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا 55}

ثم يذكر اللّه تعالى النوع الثالث من مخالفاتهم، وهي رذائلهم التي منعتهم عن قبول الحق والإيمان باللّه وبرسوله، وهي خضوعهم للكفار وبخلهم وحسدهم، فقال:

51- {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا} قسماً وحظاً {مِّنَ الْكِتَٰبِ} فكان المفروض أن يعملوا به، لكنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ} كل صنم {وَالطَّٰغُوتِ} كل طاغ ٍ من شياطين الجن والإنس {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} لأجلهم وفيهم: {هَٰؤُلَاءِ} الكفار {أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} المسلمين {سَبِيلًا} ديناً وطريقة.

52- {أُوْلَٰئِكَ} الجبت والطاغوت والكفار {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته، {وَمَن يَلْعَنِ} أي يلعنه {اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا} ينصرهم من

ص: 229

بأس اللّه وعقابه، فلا فائدة في إيمان أهل الكتاب بهم ومحاولة كسب وُدّهم.

53- {أَمْ} منقطعة بتقدير استفهام إنكاري، بياناً لرذيلة ثانية من رذائلهم، أي بل هل {لَهُمْ} لأهل الكتاب {نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ} السلطة الدنيوية والدينية {فَإِذًا} أي لو كان لهم نصيب من الملك {لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ} لا يعطونهم {نَقِيرًا} أي النقرة في ظهر نواة التمر، ومَن هذه صفتهم كيف يرضون برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نبياً وحاكماً، فلذلك كفروا به.

54- {أَمْ} منقطعة بتقدير استفهام إنكاري أيضاً {يَحْسُدُونَ النَّاسَ} الرسول وآله والمؤمنين {عَلَىٰ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} النبوة لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والإمامة لآله، والإيمان والعزة للمؤمنين، ولا وجه لحسدهم فإنّ ذلك فضل اللّه تعالى كما تفضّل على آل ابراهيم {فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَٰهِيمَ} أي إبراهيم وآله {الْكِتَٰبَ} جنس الكتاب والمقصود النبوة {وَالْحِكْمَةَ} الفهم والقضاء، وذلك بإيتائهم الشريعة {وَءَاتَيْنَٰهُم مُّلْكًا عَظِيمًا} طاعة الناس لهم، فكان بعضهم أنبياء يجب على الناس إطاعتهم، وكان بعضهم ملوكاً فكان الناس يطيعونهم.

55- {فَمِنْهُم} من أهل الكتاب {مَّنْ ءَامَنَ بِهِ} أي بفضل اللّه على إبراهيم (عليه السلام) ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي أعرض ثم صدّ الناس عنه، {وَ} إن لم تعجّل عقوبتهم فإنها لا تفوتهم ف {كَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} مسعورة بمعنى اشتعالها ولهيبها.

ص: 230

بحوث

الأول: هذا المقطع لبيان ثلاثٍ من رذائلهم والتي كانت سبباً لكفرهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع علمهم بذلك، وهي خضوعهم للكفار وبخلهموحسدهم.

وكان من شأن نزول الآية الأولى أن بعض رؤساء اليهود ذهبوا إلى مكة فأرادوا استمالة المشركين ليحرّضوهم على الإسلام والمسلمين، فارتاب المشركون منهم؛ وذلك لأنهم رأوا مشتركات كثيرة بين المسلمين وبين أهل الكتاب، فلإزالة الريبة طلبوا منهم السجود لصنم لهم كان يسمّى الجبت، ففعلوا ذلك وخضعوا للمشركين فقالوا لهم: إنّ دينكم بعبادة الأصنام أفضل من دين محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وبذلك تمكنوا من كسب ودّ المشركين وتحريضهم على المسلمين، ولعلّ ذلك كان من أسباب غزوة الأحزاب، بتعاهد أهل الكتاب مع المشركين!

وهذا دأب المبطلين لما يجدون عدواً لهم حيث يحاولون صداقة عدو عدوّهم مهما كان الثمن حتى لو كان بالكفر قولاً وعملاً ليتمكنوا من القضاء على عدوهم المشترك! مع أنّ الحق هو أنّ المعاهدات يجب أن لا تكون سبباً لنقض الحق، فلا يطاع اللّه من حيث يعصى، والغاية لا تبرر الوسيلة، ولذا عاهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أهل الكتاب والمشركين بمعاهدات متعددة كلها كانت طريقاً للحق ولا تنازل في أيٍّ منها عن الشرع، وحتى في صلح الحديبية، فقد كانت هدنة يأخذ المسلمون حريتهم في دينهم بلا مزاحمة من أحد.

ص: 231

الثاني: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّٰغُوتِ...} الآية.

أي حيث إنّ لهؤلاء نصيب من الكتاب كان الأجدر بهم أن لا يطلبوارضا المشركين بسخط اللّه، لكنهم للوصول إلى مبتغاهم الباطل تركوا حتى هذا النصيب الباقي في أيديهم من الكتاب، وهذا أيضاً وجه آخر لبطلان تزكيتهم لأنفسهم وسبب عدم تزكية اللّه لهم، فكيف يتوقعون ذلك وهم يكفرون باللّه جهرة ويرجحون أعداء اللّه على أوليائه!

وقوله: {نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَٰبِ} وهو ما تبقى منه، حيث ضيّع السابقون قسماً وحرّفوا قسماً آخر، لكن فيما تبقى كان نهيهم عن عبادة الأصنام وأمرهم بتصديق رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، لكنهم انسياقاً لأهوائهم تركوا هذا النصيب، بل وحرّفوه أيضاً.

وقوله: {بِالْجِبْتِ} وهو كان صنماً لقريش، ثم أطلق على كل صنم، بل على كل ما يعبد من دون اللّه.

وقوله: {وَالطَّٰغُوتِ} كل طاغ يطاع من دون اللّه، سواء كان من شياطين الجن أم من فسقة الإنس، وهو صيغة مبالغة كالملكوت والجبروت ثم بالإعلال صار (طاغوت).

فأما الإيمان بالجبت فهو السجود له، وأما الإيمان بالطاغوت فهو إطاعته فيما يقول على خلاف ما أنزل اللّه تعالى.

وقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي يقولون حولهم أو فيهم، أو يقولون لهم، فقوله: {هَٰؤُلَاءِ} من باب الإلفات، نظير قوله تعالى: {وَقَالَ

ص: 232

الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}(1).

وقوله: {أَهْدَىٰ} أي أكثر هداية من المسلمين، إما بانسلاخه منالتفضيل، بمعنى أنتم مهديون وأولئك ضُلاّل، أو بمعنى أكثرية هداية فيكم منهم، باعتبار بعض أفعالهم الحسنة حسب زعمهم، مع أنّ المشركين أبعد عن أهل الكتاب من المسلمين الذين يؤمنون باللّه الواحد ويرفضون عبادة الأصنام ويؤمنون بجميع أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وغير ذلك.

وقوله: {سَبِيلًا} أي ديناً فزعموا أنّ دين المشركين خير من دين المسلمين!!

الثالث: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ...} الآية.

الظاهر أنّ {أُوْلَٰئِكَ} إشارة إلى الذين كفروا، وفي ذلك ردّ لكلام اليهود، فيقال لهم: كيف تقولون: إنّ الكفار أهدى سبيلاً مع أنهم ملعونون مطرودون من رحمة اللّه ومصيرهم إلى النار حيث لا ناصر لهم؟

ويحتمل كونه إشارة إلى أهل الكتاب وردّ لزعمهم، حيث كانوا يتوهمون أنهم بإيمانهم بالجبت والطاغوت وبكلامهم بما يرضي المشركين يتمكنون من جلب نصرهم لهم ليتمكنوا من القضاء على المسلمين، فيقال لهم: أنتم ملعونون فلا تنفعكم نصرة المشركين، كما حدث بالفعل حيث خسر اليهود أرواحهم ومساكنهم لمّا نقضوا العهد مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) اعتماداً على نصر المشركين لهم.

ص: 233


1- سورة الأحقاف، الآية: 11.

الرابع: قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ...} الآية.

بيان لرذيلة أخرى منعتهم عن الإيمان باللّه ورسوله، وهي شدة بخلهم فيريدون لأنفسهم كل نوع سلطة سواء كانت دينية أم دنيوية، ولو كانتبأيديهم لم يعطوا غيرهم شيئاً منها ولو بمقدار قليل، فكيف يرضون بأن تكون النبوة والحكومة بيد رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟!

وقوله: {أَمْ} منقطعة بتقدير استفهام إنكاري، وقيل: بل متصلة فالمعنى: هل تنظر إلى إيمانهم بالجبت والطاغوت أم تنظر إلى عدم إيتائهم نقيراً أم تنظر إلى حسدهم!

وقوله: {الْمُلْكِ} أي السلطة، سواء دينية كالإمامة والخلافة، أم دنيوية قال تعالى: {لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ}(1).

وقوله: {لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ} كالمقدمة لقوله: {فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} فالإنكار على بخلهم، فيكون المعنى أم لا يأتون الناس نقيراً لو كان لهم نصيب من الملك.

وقوله: {نَقِيرًا} النقرة في ظهر النواة، وهو كناية عن شدة بخلهم حتى في الشيء الحقير فكيف بشيء جليل كالنبوة!

الخامس: قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ...} الآية.

أي كفرهم بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما كان حسداً له، حيث آتاه اللّه النبوة

ص: 234


1- سورة الإسراء، الآية: 100.

والسلطة مع أنه لا وجه في حسدهم له، فإن ذلك فضل من اللّه تعالى، كما آتى فضله سابقاً لإبراهيم وآله (عليهم السلام) .

والحاصل أنّ تفضيل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من صنع اللّه تعالى، فكان الأجدر بهمالإذعان به والتسليم له، كما سلّموا هم لتفضيل اللّه إبراهيم وآله (عليهم السلام) وكان هناك آخرون رفضوا ذلك، فكما عمل أولئك باطل كذلك عمل هؤلاء.

وبتعبير آخر لمّا فضّل اللّه آل إبراهيم سلّم له اليهود ورفضه آخرون، فكان التسليم حقاً والرفض باطلاً، كذلك لمّا فضّل اللّه محمد وآله (عليهم السلام) كان لا بد لهم من التسليم له؛ لأن العلة واحدة هي فضل اللّه تعالى، لكنهم ابتليوا بنفس رذيلة مَن رفض إبراهيم وآله (عليهم السلام) .

وقوله: {النَّاسَ} يعني رسول اللّه محمداً وأهل بيته (عليهم السلام) والمؤمنين ممن اتّبعوهم، فخير الناس الرسول وآله ومن بعدهم المؤمنين.

وقوله: {ءَالَ إِبْرَٰهِيمَ} أي إبراهيم وآله.

وقوله: {الْكِتَٰبَ} أي جنس الكتاب ومنه صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «النبوة»(1).

وقوله: {الْحِكْمَةَ} من الإحكام، ويلازمه وضع الشيء في موضعه، والمراد هنا الفهم والقضاء كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) (2)، وهما من لوازم العلم بالشريعة.

ص: 235


1- تفسير القمي 1: 140.
2- تفسير القمي 1: 140.

وقوله: {مُّلْكًا عَظِيمًا} هي الطاعة المفترضة كما في الأحاديث(1)، فجعل اللّه تعالى بعضهم أنبياء أمر الناس بطاعتهم، وبعضهم ملوكاً مطاعين.وقيل: لا يطلق العظيم في القرآن على الدنيا وملكها، لكن الدنيا إذا ارتبطت باللّه تعالى صارت عظيمة وإن كانت في نفسها حقيرة، أو العظيم باعتبار رؤية الناس، فملك سليمان (عليه السلام) كان عظيماً؛ لأنه كان من اللّه تعالى كما أنّ الناس يرونه عظيماً.

السادس: قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ...} الآية.

الظاهر أنّ المراد فضل اللّه على آل إبراهيم (عليهم السلام) ، فالمراد تنبيه أهل الكتاب بأنه كما آمن البعض بفضل اللّه على آل إبراهيم (عليهم السلام) وكفر البعض الآخر، ولم يكن كُفر من كَفَر ضرراً على آل إبراهيم، بل ضرر على الكافرين، كذلك في فضل اللّه تعالى على رسوله محمد وآله، فلا يضرّه كفر اليهود به وقد آمن به المؤمنون، وكما أمهل اللّه أولئك وكان مصيرهم إلى جهنم، كذلك مهلته لهؤلاء المنكرين لنبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فإذا رأوا أنهم قد أمهلوا فلا يغترّوا.

وقوله: {فَمِنْهُم} الضمير يرجع إلى ما يستفاد من الكلام، أي بعض الناس، وقيل: الضمير يرجع إلى اليهود، وقيل إلى آل إبراهيم مع تعميم الآل لكل ذريته، والأقرب ما ذكرناه.

والضمير في قوله: {ءَامَنَ بِهِ} و{صَدَّ عَنْهُ} يرجع إلى فضل اللّه تعالى على آل إبراهيم المستفاد من الكلام، وقيل: يرجع إلى إبراهيم (عليه السلام) ، وقيل:

ص: 236


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 120-127.

إلى رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأول أظهر وقوله: {وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي تكفيهم جهنم، ولذا لا ضرورة في تعجيل عقوبتهم، فإنّ اللّه تعالى قد يمهلالكفار في الدنيا إما رحمة منه لكي يتوبوا، وإما نقمة لهم ليزدادوا إثماً وتتم الحجة عليهم أكثر، وإما لمصلحة الامتحان التي تقتضي الإمهال ولو لا الإمهال لبطل الامتحان.

والحاصل أنّ الدنيا أصغر من أن تكون عقوبة لكافر، فحتى عقوباتها لهم إنما هي جزء بسيط مما يستحقون، كما أنّ الدنيا أصغر من أن تكون مثوبة للمؤمنين لحقارتها، وأما الآخرة فعذابها يعدل جرم الكفار والمنافقين بمقتضى العدل، وثوابها يفوق عمل المؤمنين بمقتضى الفضل.

ص: 237

الآيات 56-59

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا 56 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا 57 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا 58 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا 59}

ثم يبين اللّه تعالى مصير من آمن به ومن صدّ عنه فقال:

56- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا} دلائلنا الواضحة على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما جاء به والأئمة (عليهم السلام) {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} من الإصلاء بمعنى مقاساة حرّ النار، ومن صفات هذه النار أنه {كُلَّمَا نَضِجَتْ} احترقت {جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} أي غيرها في الصورة ونفسها في المادة، بمعنى إعادة تركيب الجلد مرة أخرى، {لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} أي ليدوم إحساسهم به؛ لأن الجلد إذا احترق كاملاً زال الإحساس بألم الحرق، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا} لا يمتنع عليه إنجار ما هدّد به، {حَكِيمًا} في عذابهم.

ص: 238

57- {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} لا كالذين سجدوا للجبتوالطاغوت وقالوا ما قالوا وفعلوا ما فعلوا {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ} بساتين كثيفة الشجر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} في أسفلها {الْأَنْهَٰرُ} حال كونهم {خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من القذارات المادية والمعنوية ومن المعايب، {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا} أي رحمة أو بمعنى لا شمس تؤذيهم، {ظَلِيلًا} مبالغة في الظل، بمعنى حُسن ذلك الظل فلا حرّ فيه ولا زمهرير.

58- ثم يوصي اللّه المؤمنين بأن لا يقعوا في المخالفات التي وقع فيها أهل الكتاب، فقد أوتوا نصيباً من الكتاب، لكنهم خانوا ما فيه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} تردوها تامة غير ناقصة، فأوفوا بعهد اللّه بما أنزله في الكتاب من الإيمان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأوصيائه (عليهم السلام) ومن الأحكام، {وَ} أهل الكتاب لم يحكموا بالعدل، حيث اعتبروا الكفار أهدى من المؤمنين، لكنكم {إِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ} في أمور دينهم ودنياهم، فيأمركم اللّه {أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} سواء في الأصول أم الفروع، لا بالجور بأن تميلوا إلى الهوى بالرشوة والعاطفة ونحو ذلك، {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا} أي نِعم الذي {يَعِظُكُم بِهِ} لأنّ فيه خير دنياكم وآخرتكم، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا} عالماً بما تقولون {بَصِيرًا} عالماً بأفعالكم حيث يراكم.

59- وحيث تبيّنت الأمانة وتمّ الحكم بالعدل فعلى الناس الإطاعة ف {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ} بالائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه {وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} أصحاب الشأن الديني والدنيوي ولا بدّ من عصمتهم، إذ العاصي أو المخطئ لا تجب إطاعته إذا خالف أمر اللّه

ص: 239

ورسوله، وهؤلاء هم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) حصراً، {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ} أيها المأمورون فيما بينكم {فِي شَيْءٖ} من أمور دينكم فلم تعلموا حكمه{فَرُدُّوهُ} ارجعوا فيه {إِلَى} كتاب {اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فالتشريع للّه وللرسول حصراً، والرجوع إلى الأئمة من أهل البيت رجوع إليهما؛ لأنهم يرشدون إليهما، فيفسرون القرآن ويبينون السنة الصحيحة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا الرجوع دليل الإيمان {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ ذَٰلِكَ} الرجوع {خَيْرٌ} لكم إذ فيه صلاح دينكم ودنياكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} مآلاً وعاقبة حيث المصير الجنة، عكس المخالفة التي مآلها إلى النار.

بحوث

الأول: ارتباط هذه الآيات بما قبلها، هو أنّ اللّه تعالى لمّا بيّن كفر الذين أوتوا الكتاب ومخالفاتهم العملية وأن هناك من آمن ومن صدّ، أراد بيان جزاء كلتا الطائفتين، فالكفار بآيات اللّه لهم جهنم مع ذكر كيفية عذابهم، والمؤمنون العاملون بالصالحات لهم جنات مع بيان بعض أوصافها.

ثم يبين اللّه أنّ سبب كفر أولئك هم أنهم خانوا الأمانة، حيث استأمنهم اللّه على الكتاب لكنهم كتموه وحرفوه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}(1)، كما أمرهم بأن يعملوا به ويحكمونه لكنهم جاروا، قال اللّه تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَىٰةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ *

ص: 240


1- سورة آل عمران، الآية: 187.

إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَىٰةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} إلى قوله: {وَلَا تَشْتَرُواْ بَِٔايَٰتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ}(1).فيحذر اللّه المؤمنين من الوقوع فيما وقع فيه أولئك، فيعظهم بأداء الأمانة وبالحكم بالعدل، ثم يأمر بالإطاعة والإرجاع إلى اللّه والرسول حين التنازع لا إلى الأهواء والمصالح.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا...} الآية.

لمّا بيّن في الآية السابقة أنّ مصيرهم إلى جهنم حتى لو أمهلهم اللّه تعالى في الدنيا، فلم يؤاخذهم بكفرهم وعصيانهم فوراً، أراد اللّه تعالى في هذه الآية بيان بعض عذابهم، وهو احتراقهم بالنار مع عدم تخفيف العذاب عنهم، ومعنى الآية عام يشمل جميع الكفرة بالآيات، وإن كان شأن نزولها في هؤلاء.

وقوله: {بَِٔايَٰتِنَا} أي الدلائل الواضحة والبيّنة، فقد ذكرت أوصاف الرسول واسمه في التوراة بشكل جلي، وقد علموا بانطباقها على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكذلك تجري الآية في الدلائل الواضحة على أوصياء رسول اللّه فقد قامت على إمامتهم البراهين والحجة التامة الواصلة.

وقوله: {سَوْفَ} استعملت في عذابهم، وفي الآية التالية السين في ثواب المؤمنين لعله للدلالة على أنّ الجنة أقرب إلى المؤمنين من النار إلى الكافرين، فإنّ الكفار حيث إنهم يقضون برزخاً مؤلماً يطول عليهم الأمد، بخلاف المؤمنين الذين يقضون برزخاً مريحاً، كذا في التقريب(2).

ص: 241


1- سورة المائدة، الآية: 43-44.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 494.

وقوله: {نُصْلِيهِمْ} من الإصلاء وهو مقاساة حرّ النار، وقد تستعمل في التدفئة والطبخ، والمراد هنا عذاب النار.

وقوله: {نَضِجَتْ} أصله بمعنى بلوغ النهاية في طبخ الشيء(1)، وبعد ذلك يبدأ التفحّم، وغير خفي أنّ النار إذا أصابت جسم الحيّ تبدأ بالتأثير في الجلد، وكلّما ازدادت قوة النار واستمر ملامسة الجلد لها ازداد تأثر الجلد فيزداد الألم، وتكون شده الألم حين الوصول إلى مرحلة النضج، وبعد ذلك تبدأ مرحلة التفحّم فتتلف الأعصاب فلا يشعر المحروق بالألم، وعن بعض الأطباء أنه قال: إذا كان المحروق يشعر بالألم الشديد فمعنى ذلك إمكان إنقاذه وعلاجه، فإن كان الحرق شديداً والمحروق لا يشعر بألمه، فمعنى ذلك انقطاع الأمل بعلاجه لتلف الأعضاء.

والحاصل أنّ مرحلة النضج هي مرحلة شدة الألم، فإذا تعدى النضج زال الإحساس.

وحيث إنّ هؤلاء الكفرة لا بد أن يستوفوا عذابهم بما يستحقونه وهم يحشرون إلى جهنم بأجسامهم هذه، فقدّر اللّه تعالى إرجاع جلودهم إلى حالتها الأولية، كلّما نضجت ليبقى شعورهم بالعذاب من غير تخفيف، جزاءً وفاقاً لما ارتكبوه من جرائم.

وقوله: {جُلُودًا غَيْرَهَا} أي غيرها في الصورة، وإن كانت هي نفسها في مادتها، قال ابن أبي العوجاء: هب هذه الجلود عصت فعُذبت فما بال الغير؟ فقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «هي هي، وهي غيرها... أرأيت لو أنّ رجلاً عمد

ص: 242


1- مقاييس اللغة: 994.

إلى لبنة فكسرها ثم صبّ عليها الماء وجَبَلها ثم ردّها إلى هيئتها الأولى، ألمتكن هي هي، وهي غيرها؟»(1).

وقوله: {لِيَذُوقُواْ} أي ليدوم لهم الإحساس به، وفي المجمع: ليبيّن أنهم كالمبتدأ عليه العذاب في كل حالة، فيحسون في كل حالة ألماً لكن لا كمن يستمر به الشيء فإنه يصير أخف عليه(2)، وهؤلاء {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ}(3).

الثالث: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ...} الآية.

كان الغرض الأصلي من الآيات بيان مخالفة الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، ومن ثم جزاؤهم بالنار، لتحذير المؤمنين من هذه الأفعال، فلإكمال المطلب تمّ ذكر ثواب أهل الجنة لزيادة الترغيب مضافاً إلى الترهيب.

ولا يخفى لطف الصفات المذكورة في الآيتين: فأولئك النار، وهؤلاء الجنة، ثم أولئك: نضج الجلود مع ما فيه من قيح وصدأ، وهؤلاء: ملامسة الأزواج المطهرة، ثم أولئك: ليذوقوا العذاب، وهؤلاء: الظل الظليل، ثم أولئك: تبديل الجلود باستمرار، وهؤلاء: خالدون في الجنة أبداً.

قوله: {مِن تَحْتِهَا} مرّ أنّ المراد من أسفلها فالجنة مركبة من أغصان الأشجار في أعلاها، والأنهار في أسفلها، فلا حاجة إلى تقدير من تحت أشجارها أو تحت قصورها.

ص: 243


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 129؛ عن أمالي الشيخ الطوسي.
2- مجمع البيان 3: 161.
3- سورة البقرة، الآية: 162.

وقوله: {ظِلًّا ظَلِيلًا} الظليل مبالغة في حسن ذلك الظل، وتأكيد له،والعرب قد تشتق من الكلمة للمبالغة، كقولهم ليل أليل، فالمراد أنه ليس كظل الدنيا قد يقي الشمس لكنه حارّ مثلاً، بل هو ظل حسن لا فيه حرّ ولا زمهرير.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا}.

موعظة للمؤمنين لئلا يكون مآل أمرهم إلى ما آل إليه أمر أهل الكتاب من خيانتهم لأمانة اللّه لهم وعهده وميثاقه، فمورد الآية خاص بعدم كتمان أصول الدين والحكم بالحق فيها، إلاّ أنّ معنى الآية عام شامل لكل أنواع الأمانة.

أ- فأهم الأمانات أمانة اللّه تعالى، قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(1)،

وقال سبحانه: {لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَٰنَٰتِكُمْ}(2)، وقال: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ}(3)، ومن ذلك استئمان اللّه الرسل على أوصيائهم فعليهم أن يبلّغوا وصايتهم، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ}(4)، وكذا كل إمام عليه أن يؤدي إلى الإمام الذي بعده، لأنّ الإمامة بتعيين من اللّه تعالى، فالرسول يبلّغها وينصب الإمام من بعده وكذا كل إمام يبلّغ الناس الإمام الذي من بعده، ولا خيرة لأحد في ذلك قال

ص: 244


1- سورة الأحزاب، الآية: 72.
2- سورة الأنفال، الآية: 27.
3- سورة الأنفال، الآية: 71.
4- سورة المائدة، الآية: 67.

تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(1)،وقد دلت على هذا المصداق متواتر الروايات فراجعها في تفسير البرهان وغيره(2).

ب- ثم أمانات الناس بينهم، قال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُۥ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ...} الآية.

أيضاً موعظة للمؤمنين بأن يتعظوا من مخالفة أهل الكتاب، حيث حكموا بأنّ الكافرين أهدى سبيلاً من المؤمنين، بل على الإنسان الحكم بالعدل حتى لو كان ذلك بضرره، فالحق أحق أن يتّبع، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(4)، وقال: {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَٰلِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ}(5).

قيل: إنما قدّم أداء الأمانة على الحكم بالعدل؛ لأنّ الحكم خاص حين التنازع، أما أداء الأمانة فهو عام، أو لأنّ أداء الأمانة يرتبط بالإنسان نفسه، وأما الحكم فهو بين الناس، فعلى الإنسان أن يصلح أمر نفسه أولاً ثم يصلح

ص: 245


1- سورة القصص، الآية: 68.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 130-134.
3- سورة البقرة، الآية: 283.
4- سورة المائدة، الآية: 8.
5- سورة النساء، الآية: 135.

بين الناس.

وقوله: {نِعِمَّا} أي نِعم ما، وما موصولة بمعنى الذي، والمخصوصبالمدح محذوف لدلالة الكلام عليه، أي نِعم الذي يعظكم هذا الأمر بالأداء والعدل، وقيل غير ذلك.

والموعظة هي الكلام الذي يرق له القلب فيخشع ويخضع للحق.

السادس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}.

هذه الآية إما تفصيل للآية السابقة ببيان أهم المصاديق، فأداء الأمانة هو بإطاعتهم، والحكم بالعدل هو الرجوع إليهم حين التنازع.

أو بيان تكليف كل طائفة، فأما الرسول والأئمة فتكليفهم هو أن يبلّغوا عن الأوصياء من بعدهم وأن يحكموا بين الناس بالعدل، وأما الناس فتكليفهم إطاعتهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في هذه الآية: «أمر اللّه الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، وأمر اللّه الأئمة أن يحكموا بالعدل، وأمر الناس أن يطيعوهم»(1)، فهنا ثلاثة تكاليف: تكليف الإمام بالنسبة إلى الإمام الذي بعده هو أن يسلّمه مواريث الأنبياء وسلاح رسول اللّه والكتب، وقد ذكرنا تفصيلها في شرح أصول الكافي، وتكليف الإمام بالنسبة إلى الناس هو الحكم بالعدل، وتكليف الناس بالنسبة إلى الإمام هو طاعته.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أيها الناس، إنّ لي عليكم حقاً، ولكم عليّ حق، فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا

ص: 246


1- تفسير العياشي 1: 249.

تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأمّا حقيّ عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحةفي المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم»(1).

ثم إنّ إطاعة اللّه واجبة بالذات؛ لأنّه الخالق الرازق وزمام الأمور بيده، وأما إطاعة الرسول وأولي الأمر فوجوبها بأمر من اللّه تعالى، قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}(2)، ولذا فصل بتكرار أطيعوا، مع أنّ طاعتهم طاعته؛ لأنه هو الآمر بها قال تعالى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(3)، فلذا كان الأمر بطاعة الرسول بعد الأمر بطاعة اللّه في آيات متعددة تبجيلاً للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبيان أنّ أوامره كأوامر اللّه تعالى، كذا في التقريب(4).

معنى أولي الأمر

وقوله: {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} لا يراد بهم الحكّام وأمراء السرايا والعلماء ونحوهم، بل يراد بهم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) حصراً، فإنّ اللّه أمر بإطاعة أولي الأمر إطاعة مطلقة، وقرن طاعتهم بطاعة اللّه وطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي طاعتهما لا قيد فيها، وذلك لا يعقل مع صدور العصيان أو الخطأ منهم، وإلاّ لتناقضت الآية فيما لو أمر غير المعصوم - عصياناً أو خطأً - بمعصية اللّه تعالى، فهل يطيع اللّه أم يطيع غير المعصوم!؟ قال اللّه تعالى: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(5)،

فدلّت الآية على عصمة أولي الأمر، وقد أجمعت الأمة على عدم عصمة الخلفاء والحكّام

ص: 247


1- نهج البلاغة، الخطبة: 34.
2- سورة النساء، الآية: 64.
3- سورة النساء، الآية: 80.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 495.
5- سورة يونس، الآية: 35.

والعلماء سوى الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، الذين ادعيت لهم العصمة دونغيرهم، وقد دلّت الأدلة القرآنية والروائية والعقلية على عصمتهم، ولو لم يكن دليل إلاّ هذه الآية لكفى بها دليلاً، إذ لولا أنّ اللّه عصمهم لم يكن لهذه الآية مصداق خارجي، تعالى اللّه سبحانه عن اللغو والعبث بالأمر بشيء لا مصداق له.

المرجع حين التنازع

السابع: قوله تعالى: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}.

أي: تنازعتم فيما بينكم، لا النزاع مع اللّه أو مع الرسول أو مع أولي الأمر، إذ لا معنى للنزاع معهم بعد الأمر بطاعتهم إطاعة مطلقاً، فالمقصود النزاع الذي يقع بين المؤمنين في أمور دينهم فهنا المرجع كتاب اللّه وقول الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

سؤال: إذا وجبت إطاعة أولي الأمر أيضاً فلماذا لم يجعلهم المرجع في التنازع أيضاً؟

والجواب: أنّ الأئمة (عليهم السلام) ليسوا مشرّعين، فالتشريع تمَّ في حياة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث أنزل اللّه تعالى في يوم الغدير {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَٰمَ دِينًا}(1)، وعليه فلو اختلف المسلمون في حكم من الأحكام فلا بد من الرجوع إلى المشرّع، وهو اللّه تعالى بالذات، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإذن اللّه، وأما كيفية معرفة ذلك التشريع فالطريق هو سؤال الأئمة (عليهم السلام) حيث إنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر بالتمسك بهم فقال: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي

ص: 248


1- سورة المائدة، الآية: 3.

أبداً»(1)،فأكثر سنن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الصحيحة لم تصلنا إلاّ عبر الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، وفي اختلاف الناس في تفسير القرآن وتأويله فالصحيح هو ما قالوه (عليهم السلام) .

ومن ذلك يتبيّن أنّ التنازع المذكور في الآية ليس التنازع في القضايا الإدارية، إذ هي قضايا متجددة مستحدثة غير مذكورة في الكتاب والسنة، وإنما المقصود الأحكام الشرعية لتلك القضايا وغيرها، وهي التي تكفّل الكتاب والسنة ببيانها، وقد نقلها الأئمة (عليهم السلام) للناس.

ومن ذلك يتضح معنى كلام الرسول في حديث الثقلين، حيث خلّف القرآن وأهل البيت وأمر بالتمسك بهم، ولم يقل: (وسنتي) فإنه حديث موضوع لا سند له حتى عند غير الشيعة، فإنّ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) كانوا حفظة السنة، فلذا لا بد من التمسك بهم لمعرفة الصحيح منها عن السقيم الموضوع.

وبهذا يتضح معنى الأحاديث التي أضافت إطاعة أولي الأمر حين التنازع، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «ثم قال للناس {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} إيانا عنى خاصة، فإن خفتم تنازعاً في الأمر فارجعوا إلى اللّه وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم، هكذا نزلت، وكيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر ويرخص لهم في منازعتهم، إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}» (2)، وقوله (عليه السلام) هكذا

ص: 249


1- وسائل الشيعة 27: 34.
2- تفسير العياشي 1: 247؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 145.

نزلت يراد به نزول تفسيرها، كما ذكرنا مراراً أنّ القرآن كما نزل لفظه على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كذلك نزل تفسيره وتأويله، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥ * فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥ}(1).

والمقصود أنّ قوله: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِي شَيْءٖ} ليس التنازع مع أولي الأمر فذلك يناقض الأمر بطاعتهم مطلقاً، بل المعنى التنازع فيما بينكم، حيث إنّ الخطاب للمؤمنين لا لأولي الأمر، ثم بيان أنّ معنى الردّ إلى اللّه والرسول يشمل الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) ؛ لأنهم يبينون التفسير الصحيح للقرآن والسنة الصحيحة للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ثم يخطر معنى آخر للآية، وهو أنّ التنازع إذا كان في تشخيص من هم أولو الأمر؟ فلا بد من الرجوع إلى القرآن وسنة الرسول، حيث دلاّ على تعيين أولي الأمر في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام) ، وذلك لأنّ معرفة أولي الأمر المعصومين لا تتيسّر لعامة الناس إلاّ بدلالة من اللّه في كتابه والرسول في سنته، وقد نزلت آيات من القرآن فيهم من غير تسميتهم، وفسّرها رسول اللّه تعالى للمسلمين بأنّ المراد منها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، وبذلك يرتفع النزاع لمن ألقى السمع وعقل.

الثامن: قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ...} الآية.

أي إطاعتهم والرد إليهم حين التنازع علامة الإيمان وكاشف عنه، فالإيمان إذعان بالقلب، وشرطه الإقرار باللسان، والكاشف عن صدقه العمل بالأركان، فمن يؤمن باللّه وباليوم الآخر يطيعهم ولا يعصي لهم أمراً ولا نهياً،

ص: 250


1- سورة القيامة، الآية: 17-19.

وحين الاختلاف يجعلهم الميزان، سواء طابق حكمهم هواه أم خالفه،قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(1).

وقوله: {ذَٰلِكَ خَيْرٌ} أي أفضل لكم من العصيان وعدم الإرجاع إليهم؛ لأنهم لا يرشدونكم إلاّ إلى الحق، وليس في ذلك إلاّ صلاح دينكم ودنياكم.

وقوله: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} من الأوْل بمعنى المرجع والعاقبة، أي أحمد عاقبة لكم، حيث إنّ المصير إلى الجنة ورضوان اللّه تعالى.

والحاصل أنّ الإنسان تتحكم فيه عوامل كثيرة، ولذا قد يخطئ أو ينجر إلى ما لا مصلحة له فيه، وأما المعصومون فلا تتحكم فيهم الأهواء ولا يخطئون، فأمرهم ونهيهم إنما هو عن مصلحة للإنسان ودفع مفسدة، فإطاعتهم والرد إليهم خير له وأحسن مصيراً.

ص: 251


1- سورة النساء، الآية: 65.

الآيات 60-63

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَٰلَا بَعِيدًا 60 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا 61 فَكَيْفَ إِذَا أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَٰنًا وَتَوْفِيقًا 62 أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا 63}

ثم بعد مثال الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يأتي ذكر مثال آخر من المنحرفين وهو المنافقون، فقال تعالى:

60- {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} حيث قالوا ذلك بألسنتهم وتأباه أعمالهم وقلوبهم {أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} القرآن، {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} كالتوراة والإنجيل، {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ} يترافعوا في نزاعاتهم {إِلَى الطَّٰغُوتِ} كحكّام الجور {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} بالطاغوت، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ} بما زيّن لهم من سوء عملهم فرأوه حسناً {أَن يُضِلَّهُمْ} عن الحق {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} لا رجعة فيه.

61- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} لهؤلاء المنافقين {تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي

ص: 252

تشريعاته {وَإِلَى الرَّسُولِ} بقضائه العدل {رَأَيْتَ} يا رسول اللّه {الْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ} يعرضون ويمنعون {عَنكَ صُدُودًا} واضحاً.

62- لكن سيصيبهم وبال صدّهم وسيندمون {فَكَيْفَ} يكون حالهم {إِذَا أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةُ} عقوبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب إعراضهم وصدّهم {ثُمَّ جَاءُوكَ} غير تابئين، بل معتذرين بالأكاذيب ف {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ} نافية، أي ما {أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَٰنًا} إليك بالتخفيف عنك فلم نراجعك {وَتَوْفِيقًا} بين الخصوم، فلم نرد حملهم على مُرّ الحكم، بل على التصالح بينهم.

63- {أُوْلَٰئِكَ} المنافقون {الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} حيث يكذبون، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أتركهم ولا تُظهر قبولاً أو تكذيباً لقولهم، {وَعِظْهُمْ} ببيان الأحكام والذكرى، {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ} في شأنهم وحولهم {قَوْلَا بَلِيغًا} يبلغ الحق، أي يؤثر فيهم كتخويفهم بالعقوبات إن أظهروا ما في أنفسهم من النفاق.

بحوث

الأول: قد مرّ أنّ اللّه تعالى لما دعا الناس إلى الإيمان والعمل الصالح شفع ذلك بمثالين لمن خالفوا مع بيان مصيرهم، كان الأول حول اليهود (الآيات 44 فما بعد)، وهذه الآيات حول المثال الثاني، وهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان ولكن عملهم عمل الكفار، ويكشف عن سوء ما أضمروه، وكلّما عوقبوا على نفاقهم بدلاً من التوبة يعتذرون بأعذار كاذبة.

وحيث انتهت الآيات السابقة إلى أداء الأمانة والحكم بالعدل وإطاعة اللّه

ص: 253

والرسول وأولي الأمر، بدأت هذه الآيات ببيان رفضهم لحكم العدل ومخالفتهم لكتاب اللّه تعالى وعدم إطاعتهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع اختلاقهم الأعذار الواهية يريدون بها خداع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيأمر اللّه تعالى رسولهبكيفية التعامل معهم بالإعراض أولاً، وبالموعظة ثانياً، وبالقول البليغ ثالثاً.

الثاني: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ...} الآية.

كما أنّ أولئك أوتوا نصيباً من الكتاب فلم يعملوا به ولم يفوا بالمواثيق التي فيه، كذلك هؤلاء نزل القرآن عليهم وهم يُظهرون إيمانهم به مع زعمهم الالتزام بكل لوازم الإيمان به، والتي منها الإيمان بالكتب السماوية السابقة، والقرآن وسائر الكتب تأمر بالكفر بالطاغوت لكن هؤلاء يتحاكمون إليه، وبذلك يتبيّن كذبهم في زعمهم الإيمان، إذ الإيمان بحقيقته يظهر على الأعمال، فعملهم يكذّب ادعاءهم الإيمان، وقد مرّ سابقاً أنّ الالتزام بالشريعة كاشف عن صدق الإيمان، وكلّما كان الإيمان أقوى كان العمل أشد، وكلّما ضعف الإيمان ضعف العمل، فالعصاة من المسلمين سبب عصيانهم هو ضعف إيمانهم.

وقوله: {يَزْعُمُونَ} الزعم هو حكاية القول أو الاعتقاد، ويستعمل غالباً فيما لم يكن مطابقاً للواقع، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أما علمت أنّ كل زعم في القرآن كذب»(1).

وقوله: {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} إنما أضاف هذا المقطع، باعتبار أنّ الكتب السماوية السابقة أيضاً أمرت بالكفر بالطاغوت.

ص: 254


1- الكافي 2: 342.

وهنا تشارك في الصفات بين الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، وبين هؤلاء الذين يزعمون الإيمان بالقرآن وبالكتب السابقة، فأولئك يؤمنون بالجبت والطاغوت، وهؤلاء يتحاكمون إلى الطاغوت، وأولئك يرجحون الكفارعلى المؤمنين ويزعمون أنهم أهدى سبيلاً، وهؤلاء يرجحون حكم الطاغوت ويصدون عن الرسول.

وقوله: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّٰغُوتِ} أي يتحاكمون إليه عملاً، وإنما ذكر الإرادة؛ لأنّ منشأ عملهم هو قلوبهم، فمن يُر ِد شيئاً سعى للوصول إليه، وإذا صنعه كشف ذلك عن نيته وما يدور في خلده، ولهذا السبب شاع استعمال الإرادة في الفعل؛ وإنما يريدون ذلك لأنّ الطاغوت يؤمِّن مصالحهم دائماً بأخذ الرشوة وبالحكم بالباطل، وأما الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقضاة العدل فإنهم يحكمون بالحق، وقد لا يتطابق العدل مع مصالح هؤلاء، نعم لو علموا بأنّ الحق معهم فيسرعون إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا لأجل الرضا بحكمه، بل لأجل مصلحتهم قال تعالى: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}(1).

والحاصل أنّ اللّه أمرهم في الآية السابقة أن يرجعوا إلى اللّه ورسوله حين التنازع لكنهم يخالفون ويريدون التحاكم إلى الطاغوت.

وقوله: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} أما فيما أنزل إلى الرسول ففي قوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ}(2)، وأما فيما أنزل من قبله

ص: 255


1- سورة النور، الآية: 48-49.
2- سورة البقرة، الآية: 256.

فقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّٰغُوتَ}(1).

وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَٰنُ...} بيان لسبب تحاكمهم إلى الطاغوت، وهو تزيين الشيطان الضلال لهم، فمع البراهين الساطعة على الحق ومع أمره تعالى في الكتب السماوية هؤلاء يعرفون الحق، لكن يضلّهم الشيطان بتزيين الباطل لهم.

وقوله: {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} فيه دلالة على أنّ التحاكم إلى الطاغوت انحراف شديد عن الصراط المستقيم، أو أنه مقدمة إلى انحرافات أكبر، فالتحاكم إلى الطاغوت يجرّهم إلى الكفر، فالكثير لم يكن إيمانه في البداية عن نفاق، لكن لمّا تعارضت مصالحه مع بعض الأحكام خالفها فدبّ النفاق في قلبه قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(2)،

كالذين يسلمون تأثراً بالأجواء العامة من غير استمكان الإيمان في قلوبهم، فإن أحسنوا عملاً دخل الإيمان قلوبهم ورسخ فيها، وإن أساؤوا دبّ النفاق فيها، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمْ}(3).

الثالث: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ...} الآية.

أي ليس تحاكمهم إلى الطاغوت مجرد غفلة عن أمره تعالى بالكفر به،

ص: 256


1- سورة النحل، الآية: 36.
2- سورة الروم، الآية: 10.
3- سورة الحجرات، الآية: 14.

بل عن عمد وإصرار، ولذا لو دعوا إلى حكم الشرع رفضوا ذلك.

وقوله: {إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي أحكامه التشريعية التي أنزلها في القرآن.

وقوله: {إِلَى الرَّسُولِ} أي قضائه وفصله بين المتنازعين، وبذلك لميطيعوا اللّه في تشريعه ولم يطيعوا الرسول في قضائه.

وقوله: {يَصُدُّونَ عَنكَ} أي لا يكتفون في عدم الرجوع إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل يصدون الناس عن ذلك وهو زيادة في كفرهم، ومن المعلوم أنّ الصد عن الرسول هو صدّ عن حكم اللّه تعالى؛ لأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو المنّفذ لحكمه تعالى، بل سبب صدّهم عن الرسول هو أنهم لا يريدون حكم اللّه تعالى، وبذلك يتبيّن علة عدم ذكر صدهم عن حكم اللّه والاكتفاء بذكر صدّهم عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الرابع: قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةُ...} الآية.

هذه الآية تتضمن تهديدهم وبيان عاقبة أمرهم بأنّهم يتحاكمون إلى الطاغوت ويصدون عن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بغية الوصول إلى مكاسب ومنافع لا يستحقونها، لكنهم من حيث لا يريدون يصيبهم الضرر البالغ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(1) فإنّ العدل إذا عمّ تفتّقت الطاقات وظهرت الكفاءات وتبوّأ المناصب من هم لها أهل، وبذلك تعمر الديار وتكثر الثروات فيعيش الجميع بهناء، مع ما في ذلك من راحة الضمير واستتباب الأمن، ولكن مع شيوع الجور تقمع الكفاءات ويكون الترجيح بالكذب والزور، فتخرب

ص: 257


1- نهج البلاغة، الخطبة: 15.

الديار وتهدر الثروات، ودونك ما تشاهده في الدول الاستبدادية والدول التي تراعي شيئاً من حقوق الناس، قال اللّه تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْفَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}(1).

وقوله: {فَكَيْفَ} عطف على قوله: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّٰغُوتِ}، والمعنى هذا حالهم وصنيعهم في الصد عن الرسول فكيف سيكون حالهم وصنيعهم حين المصيبة!

وقوله: {مُّصِيبَةُ} أي مشكلة دنيوية، مثل أن يظلمهم الطاغوت حتى فيما هو حقهم، فالذي يظلم غيرك لرشوتك، قد يظلمك لرشوة غيرك، أو لأنّ رشوته أعظم من رشوتك، أو لأنّ هواه كان في الطرف الآخر!!

وقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب التحاكم إلى الطاغوت، أي كانت تلك المصيبة نتيجة ذلك التحاكم، فالباطل لا ينتج إلا الوبال والمشاكل.

وقوله: {ثُمَّ جَاءُوكَ...} أي لاستنقاذ حقهم أو للتخلص من مشاكل الحكم بالجور، أو اضطروا للرجوع إليك في قضية أخرى فيريدون تبرير عدم رجوعهم إليك في ذلك التحاكم.

وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ...} أي لم يكن رجوعهم إليك للتوبة والاستغفار كما سيأتي في الآية 64، بل للخداع وللتغطية على سوء فعالهم وللتبرير له، فلا يكتفون بالكذب فقط، بل يضيفون إليه اليمين الكاذبة.

ص: 258


1- سورة الأعراف، الآية: 96.

وقوله: {إِحْسَٰنًا وَتَوْفِيقًا} أي إحسان إليك والتوفيق بين الخصوم، أما الإحسان إليك فبالتخفيف عنك! وأما التوفيق بين الخصوم فلأجل أن يصطلحوا فيما بينهم من غير أخذ أحدهما بمرّ الحق، وهم في قولهم هذا كاذبون، إذ ليس في النفاق والتحاكم إلى الطاغوت إحسان إلىالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، بل كان عليهم الرجوع إليه وإطاعته، فلو كانوا يريدون التخفيف عنه كان عليهم العمل بالشرع، وبذلك تقلّ المنازعات، ولو كانوا يريدون التوفيق بين الخصوم لكان ذلك بالمصالحة من غير رجوع إلى الطاغوت، بل ضمن الإطار الشرعي وتنازل كل طرف عن بعض حقه مثلاً.

الخامس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ...} الآية.

هذا تعليم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في كيفية التعامل معهم، فيقال له: يا رسول اللّه أنت مكلّف بالعمل بالظاهر، وأما القلوب فأمرها إلى اللّه تعالى، فحتى المنافق إذا جاء ويحلف كذباً ليس عليك تكذيبه في قوله، بل اسكت عنه فلا تظهر تصديقاً ولا تكذيباً لقوله، لكن عليك أن تقوم بوظيفتك من الإرشاد والموعظة والتهديد العام ببيان العقوبات الدنيوية والأخروية للكفر والنفاق.

قوله: {يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي من النفاق، فليس من تكليفكم تكذيبهم حتى لو كانت القرائن دالة عليه، كذاك الذي أسلم حينما سلّط السيف عليه فقتله المسلمون فنزلت الآية: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}(1).

ص: 259


1- سورة النساء، الآية: 94.

لكن ليس ذلك بمعنى أن يترك الإنسان وظيفته، فهناك فرق بين منافق عمل عملاً ثم يريد التبرير لعمله لئلا ينكشف نفاقه فقط، وبين منافق يتخذ قوله وسيلة لطمس الحق والكيد على المؤمنين، ولذا رفض أمير المؤمنين (عليه السلام) طلب معاوية التحكيم؛ لأنه كان خدعة يريد بها كسب الوقتللتهرّب من الانصياع إلى الحق لمّا بانت الهزيمة في جيشه، لكن جهلة الخوارج انخدعوا بذلك فأجبروا الإمام على إيقاف الحرب، فإنّهم إن كانوا يريدون التحاكم إلى كتاب اللّه تعالى لتحاكموا إليه قبل المعركة لا أن يطلبوا التحاكم إليه فراراً من الهزيمة، ولو كانوا صادقين لرضخوا لحكم الإمام (عليه السلام) واستسلموا، ولذا في معركة الجمل قدّم الإمام أحد أصحابه قبل شروع الحرب يدعو أهل الجمل إلى حكم كتاب اللّه، لكنهم أبوا ورشقوه بالنبال وبيده كتاب اللّه فقتلوه.

والحاصل أنّ هناك فرقاً بين تبرير لفعل شخصي، وبين من يرفض الاستسلام للحق كيداً وخداعاً بأعذار واهية فهذا ينبغي مقارعته.

ثم إنّ اللّه تعالى يبيّن وظيفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجاه هؤلاء المنافقين - المعتذرين كذباً - وهي ثلاثة أمور:

1- {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي اسكت عنهم لا تُبدِ قبولاً ولا رفضاً، أما القبول فهو سبب لتماديهم في غيهم، وأمّا الرفض فهو شق عمّا في قلوبهم وليس ذلك من وظيفة الرسول، بل وظيفته الظاهر.

2- {وَعِظْهُمْ} بالمواعظ العامة، فلعل هناك بارقة أمل في هدايتهم، فليس كل منافق مطبوعاً على قلبه، فلعل ذلك في بداية نفاقه ويمكن علاجه

ص: 260

بالموعظة.

3- {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلَا بَلِيغًا} قيل: هو تهديدهم تهديداً عاماً، كأن يقول لهم من أظهر كفره استأصلناه، ومن خالف الشرع عاقبناه بحدّ أو تعزير، ونحو ذلك.

وقوله: {فِي أَنفُسِهِمْ} متعلق بقوله: {قُل} أي قل حولهم وفي شأنهم، أو متعلق بقوله: {بَلِيغًا} أي قولاً يبلغ في أنفسهم فيؤثر فيها.

ص: 261

الآيات 64-68

اشارة

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا 64 فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا 65 وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا 66 وَإِذًا لَّأتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا 67 وَلَهَدَيْنَٰهُمْ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا 68}

ثم يبيّن اللّه تعالى أنّ الطاعة هي الغرض من إرسال الرسل فقال:

64- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ} فليس الرسول مجرد واعظ يرجع إليه الناس متى ما شاؤوا، بل عليهم أن يطيعوه في كل ما أمر ونهى، فما بالهم تركوه وتحاكموا إلى الطاغوت؟! {بِإِذْنِ اللَّهِ} بتوفيقه، فيوفّق اللّه لتلك الطاعة من كانت له القابلية، {وَلَوْ أَنَّهُمْ} المتحاكمين إلى الطاغوت {إِذ} في الوقت الذي {ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بذلك التحاكم {جَاءُوكَ} تائبين لا حالفين كذباً للتبرير {فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ} طلبوا غفرانه عن ظلمهم حيث خالفوا أمره {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} دعا اللّه ليغفر لهم لمّا وجدهم نادمين فشفع لهم، حينذاك {لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} أي علموا بقبوله توبتهم، أو هذا

ص: 262

وعد بالقبول، فاللّه تعالى تواب يقبل التوبة، ورحيم بهم فيزيدهم من فضله.

65- {فَلَا وَرَبِّكَ} أي ليس الأمر كما يزعمون بأنهم آمنوا بما أنزل إليكوما أنزل من قبلك ف {لَا يُؤْمِنُونَ} إيماناً حقيقياً خالصاً من الشرك والنفاق {حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ} يجعلونك حَكَماً بدلاً من التحاكم إلى الطاغوت {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فيما اختلفوا فيه وتخاصموا {ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ} في قلوبهم {حَرَجًا} ضِيقاً {مِّمَّا قَضَيْتَ} فلا يجدون صعوبة في قبول حكمك الذي لم يكن بصالحهم {وَيُسَلِّمُواْ} عملاً بالانقياد لحكمك {تَسْلِيمًا}.

66- {وَ} لكن أكثرهم غير مؤمنين، فلذا لا يطيعون اللّه تعالى في الأحكام الصعبة فضلاً عن طاعة الرسول ف {لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا} أوجبنا {عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} كتعريضها للجهاد {أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم} بالهجرة إلى غيرها {مَّا فَعَلُوهُ} الضمير يرجع إلى المكتوب، أو كل واحد من القتل أو الخروج، وذلك لما فيه من المشقة {إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} ممن تاب.

لكن الأحكام الإلهية حتى لو كانت صعبة فإنّ نفعها يرجع إليهم لو أطاعوا {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من إطاعة الرسول والتحاكم إليه وعدم الحرج من حكمه والتسليم له {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} أصلح لأمورهم {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} لإيمانهم، فكل طاعة تقوّي الإيمان، كما أنّ كل معصية تضعّفه.

67- {وَإِذًا} أي حينما يفعلون ما يوعظون به {لَّأتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّا} من عندنا {أَجْرًا عَظِيمًا} وهذا تأكيد للوعد وتشريف المؤمن بأنّ الثواب من عند اللّه تعالى.

ص: 263

68- {وَلَهَدَيْنَٰهُمْ} في مستقبل أمرهم كما اهتدوا فيما مضى {صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا} إما بمعنى البقاء على الهداية، أو الهداية إلى الجنة في الآخرة.

بحوثالأول: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}.

تأكيد لوجوب إطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والتحاكم إليه، ببيان أنّ الغرض من إرسال الرسل ليس مجرد الوعظ والتذكير مع اختيار الناس في الرجوع إليهم أو إلى غيرهم، بل الغرض هو إطاعة الناس لهم في كل ما أمروا به أو نهوا عنه أو حكموا به، فلذا يجب على الناس الرجوع إليهم وقبول ما قالوا، نعم هذا وجوب تشريعي تستتبع إطاعته الثواب ومخالفته العقاب الأخروي، من غير إكراه الناس على قبوله، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1) بمعنى لا يجبر أحد على قبول الإسلام، وقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(2)، نعم لو قبلوه باختيارهم فعليهم أن يلتزموا بلوازم هذا الاختيار، فإن خالفوا عوقبوا بالحدّ أو التعزيز، كمن لا يلزمه بيع داره، لكنه إذا أقدم على البيع باختياره فلا يحق له الامتناع عن تسليم المبيع، فإن امتنع أخذت منه قسراً، وقد مرّ البحث في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.

والحاصل أنّ اللّه تعالى قد أوجب على الناس إطاعة الرُسل وجوباً تشريعياً، فلا يحق لهم التحاكم إلى غيرهم والصد عنهم.

وفي مجمع البيان: في هذه الآية إبطال مذهب المجبرة بأنّ اللّه يريد أن

ص: 264


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة الغاشية، الآية: 21-22.

يعصي قوم أنبياءه ويطيعهم آخرون(1).

بل اللّه تعالى يريد إطاعة الجميع، لكن إرادة تشريعية، بمعنى أنه شرّعوجوبها، ولم تكن إرادة تكوينية بمعنى إكراه الناس عليها تكويناً، بل أراد تكويناً اختيارهم، فتحققت كلتا إرادتيه، فإنّ إرادة اللّه تعالى لا تنفك عن المراد أبداً، فأراد التشريع فصدر، وأراد الاختيار تكويناً فتحقّق، وأما قول البعض بأنه تعالى أراد الإطاعة باختيارهم! إن كان مقصودهم ما ذكرناه فهو، وإلاّ كان كلاماً متناقضاً أو كان بحاجة إلى تأويله!

وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} إمّا بمعنى بتوفيقه وتسهيله، فإنّ المؤمن إنما يطيع؛ لأنّ اللّه تعالى هداه بسبب حسن اختياره فأوجد القابلية في نفسه لهداية اللّه، والكافر إنما يعصي بخذلان اللّه تعالى له بسبب سوء اختياره، حيث أسقط نفسه عن الأهلية، وإمّا هو تأكيد؛ لأنّ إرساله ليطاع هو بمعنى إذنه في إطاعته، وإمّا ليطاع تشريعاً بإذنه تكويناً، وهذا يرجع إلى الأول.

وفي التقريب: فهو المأذون من قِبل اللّه سبحانه في أن يطاع، أي ليس لأحد أن يطيع أحداً جبراً إلاّ إذا كانت السلطة ناشئة من قبل اللّه وإذنه، وإلاّ فلا سيطرة لأحد على أحد، مع العلم أنّ الأشياء كلّها ملك اللّه سبحانه(2).

الثاني: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ...} الآية.

مقابل مجيئهم معتذرين بالكذب في قوله: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ...}، وفي هذا فتح باب التوبة عليهم فلعلّ البعض - ولو القليل - يهتدي بهذا

ص: 265


1- مجمع البيان 3: 174.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 500.

الإرشاد، فبدلاً من حلفهم كذباً يستغفرون اللّه، وبدلاً عن كذبهم بأنهم أرادوا التخفيف عن الرسول يطلبون منه أن يستغفر لهم، وبدلاً عن كذبهم بأنهمأرادوا التوفيق بين الخصوم يحكّمون الرسول ويقبلون حكمه قلباً وعملاً.

وقوله: {ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} للدلالة على أنّ تحاكمهم إلى الطاغوت لا يضرّ اللّه ورسوله شيئاً، بل يضرّهم حيث بخسوا أنفسهم حقها فأدخلوا عليها الضرر وفوّتوا عليها المنفعة سواء الدنيوية منهما أم الأخروية، ومصداق ذلك الظلم في هذه الآيات بالتحاكم إلى الطاغوت والمعصية والصد عن الرسول والحلف كاذباً.

وقوله: {فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ} أي بإخلاص؛ لأنهم لو لم يكونوا مخلصين لتذرعوا بالأعذار الكاذبة، لكن حيث يستغفرون فلا يكون استغفارهم إلا بإخلاص.

توسيط الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للتوبة

وقوله: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} حيث وجدهم نادمين فرآهم أهلاً للشفاعة، فلا يشفع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا لمن ارتضاه اللّه تعالى، والتائب مرضيّ له تعالى.

وقوله: {لَوَجَدُواْ اللَّهَ} هذا تقوية للوعد، والوجدان هنا بمعنى العلم، بمعنى لصدقهم اللّه وعده، كما يقال: وعدني فلان بكذا فلمّا ذهبت إليه وجدته عند وعده، فقبل رجوعهم كانوا يعلمون بأنه توّاب رحيم، لكن حين مراجعتهم وجدوا صدق الوعد بتحققه وإنجازه.

وقوله: {تَوَّابًا} لذنوبهم السابقة.

وقوله: {رَّحِيمًا} بفضله عليهم، كأن يبدّل اللّه سيئاتهم حسنات، أو يتقبل أعمالهم الصالحة حينما زال المانع عن قبولها وهو تلك المعاصي.

ص: 266

قال العمّ الشهيد في كتاب خواطري عن القرآن: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْأَنفُسَهُمْ} بارتكاب المعاصي، فإنهم بارتكابها قد خالفوا اللّه وخالفوك أيّها النبيّ وأساؤوا إلى المجتمع الذي ارتكبوا فيه الحرام؛ لأنّ المجتمع يتأثر بعمل كل فرد من أفراده، فتعلّق بهم حق اللّه وحقّك وحق المجتمع، فأصبحوا تحت طائلة الحق الخاص الذي هو حق أنفسهم، وتحت طائلة الحق العام الذي هو حق اللّه وحقك وحق المجتمع، فإذا استغفروا اللّه في خلواتهم يكونون قد أدّوا الحق الخاص، وبقي عليهم العام، وبما أنهم لا يبرأون من الذنب طالما لم يؤدّوا الحق، إضافة إلى أنّ الحق واحد لا يتجزأ، فإنّ اللّه قد لا يغفر لهم، فإذا {جَاءُوكَ} يا رسول اللّه تائبين {فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ} أمامك لأداء الحق الخاص، فاعتبر الرسول استغفارهم استغفاراً صادقاً {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} لأداء الحق العام {لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}. واشتراط الاستغفار أمام الملأ شرط الغفران؛ لأنّ الذي شجّع فكرة ارتكاب الحرام في المجتمع ذاته بالاستغفار أمام الملأ يكون قد صحّح ما أخطأ فيه... ولعل المهم من كل ذلك اشتراط الاستغفار أمام الملأ ليعرف من يمارس الحرام أنّ عليه أن يدفع ماء وجهه ثمناً لتوبته، فلا يتسرّع في الحرام لأقل نزوة تتحرك فيه، ولتصحيح ما أفسده من المجتمع بارتكاب الحرام حتى يعرف الناس أنّ لارتكاب الحرام ثمناً عليهم أن يدفعوه، فلا يتسرّعوا إلى اتباع مذنب يقترف سيئة(1).

كما أنّ اللّه تعالى جعل رسوله الواسطة في فيضه، فكما جعله الوسيط في

ص: 267


1- خواطري عن القرآن 1: 337-338.

تبليغ إرادته وشرعه، كذلك جعله الوسيط في غفران الذنوب بشفاعتهوقبولها، بل حيث إنّ اللّه تعالى حكيم، والجنة والرضوان لهما قيمة، فليس من الحكمة نيل الناس لهما إلاّ لو كانت لهم الأهلية، ولا تحصل هذه القابلية إلاّ بالشفاعة، فليست الشفاعة لغفران الذنوب فقط، بل لنيل الثواب في الآخرة أيضاً.

ثم اعلم أنّ هذه الآية تجري في أوصياء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؛ لأنهم بعد رسول اللّه وسائط فيض اللّه تعالى، والشفعاء في هذه الأمة من بعده، وقد أمر اللّه تعالى بطاعتهم حيث قرنها بطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو أنّ تأويل الآية فيهم، وعلى هذا تحمل الروايات الدالة على نزولها في أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) فإنها من الجري أو التأويل.

الثالث: قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ...} الآية.

نفي لزعمهم الإيمان باللّه مع تحاكمهم إلى الطاغوت، كما مرّ في الآية 60، فليس الإيمان بمجرد الزعم ولقلقة اللسان، بل لا بدّ من ضمّ القلب والعمل إليه، فالإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان.

وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} أي ليس إيماناً حقيقياً يخرجهم من الكفر الباطني، أو ليس إيماناً مرضياً به يستتبع الثواب والجنة، فالإيمان باللّه يتوقف على تحكيم الرسول والرضا بحكمه والتسليم به؛ لأنّ الرسول لا يحكم إلا بشرع اللّه تعالى، قال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ}(2)، وقال: {وَيَقُولُونَ

ص: 268


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 156 فما بعد.
2- سورة النساء، الآية: 105.

ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَمَا أُوْلَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُممُّعْرِضُونَ}(1).

وقوله: {حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ} يتخذوك حكماً يتحاكمون إليه في خلافاتهم بدلاً من التحاكم إلى الطاغوت، ولا يخفى أنّ المورد وإن كان خاصاً إلا أنّ معنى الآية عام بالرجوع إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمعرفة الحكم الشرعي ومن ثم العمل به بدلاً من الرجوع إلى غير الشرع.

وقوله: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} من الشجار بمعنى التنازع والخلاف، ومعنى الآية أيضاً عام حتى فيما لم يكن فيه شجار، وإنما تمّ ذكر الشجار بحسب مورد الآية، ولأنّ الرجوع حين الشجار أصعب، حيث تتضارب الأهواء والشهوات فيكون ظهور الإيمان من عدمه فيه أقوى.

وقوله: {حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ} الحرج هو الضيق في النفس، فمركز الإيمان القلب، فلو ضاق القلب عن حكم الشرع فمعنى ذلك عدم استمكان الإيمان فيه، وإلا فلا يضيق القلب عن أمر يعتقد به حتى لو كان خلاف الأهواء، فالمريض يستطيب الدواء الذي يعتقد أنّ فيه علاجه حتى لو كان مُرّاً، أما لو لم يعتقد بصحة كلام الطبيب أو كان شاكاً فيه فلا يستطيبه حتى لو كان الدواء حلواً!

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «لو أنّ قوماً عبدوا اللّه وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجّوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا

ص: 269


1- سورة النور، الآية: 47-48.

لشيء صنعه اللّه أو صنعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ألا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية {فَلَاوَرَبِّكَ...} ثم قال: عليكم بالتسليم»(1).

والمراد الشرك الخفي الذي لا يُخرج عن الملّة، لكنه قد يحبط العمل أو يمنع قبوله؛ لأنّ في ذلك ترجيحاً لفهمه، فكأنّه أشرك نفسه في التشريع!

وقوله: {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} أي ينقادون عملاً، فعدم الحرج في القلب والتسليم في العمل، والحاصل لا بدّ من قبول الحكم بظاهرهم وباطنهم.

ثم إنّ من مصاديق ما تشاجروا فيه ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، حيث عيّنه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر من اللّه تعالى للخلافة من بعده، فعلامة الإيمان قبولها قلباً وعملاً، وبذلك وردت بعض الروايات(2).

الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ...} الآية.

بيان لعدم إيمان الأكثر إلاّ القليل منهم، وفي هذه الآيات توبيخ على عدم التسليم، وترغيب للطاعة ببيان بعض فوائدها.

أما التوبيخ: فإنّ هؤلاء لا يطيعون اللّه تعالى في التكاليف الشاقة، فكيف يطيعون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قضائه؟! وهذا توبيخ بليغ جداً لهم، وفيه إشعار بمقايستهم ببني إسرائيل، حيث إنهم مع شدة تمردّهم أطاعوا اللّه حينما أمرهم بقوله: {فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}(3)، كما أطاعوه حينما أمرهم بالخروج

ص: 270


1- الكافي 1: 390.
2- راجعها في البرهان في تفسير القرآن 3: 160-161.
3- سورة البقرة، الآية: 54.

من مصر، لكن هؤلاء المنافقين أسوأ حالاً منهم.

وقوله: {كَتَبْنَا} أي أمرناهم به وأوجبناه عليهم، ودلالة الكتابة على الأمرأبلغ.

وقوله: {أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي عرّضوها للقتل بالجهاد في سبيل اللّه تعالى، أو بمعنى أن يقتل بعضهم بعضاً، أو أن يقتل كل أحد نفسه.

وقوله: {أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم} أي هاجروا في سبيل اللّه تعالى، أو بمعنى ترك الديار مطلقاً.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ...} الآيات.

هذا ترغيب لهم بالطاعة ببيان فوائدها، تثبيتاً لهذا القليل وإتماماً للحجة على الأكثر، وكذا عسى أن يهتدي بعضهم.

وقوله: {مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من إطاعة الرسول والتحاكم إليه وعدم الحرج من قضائه والتسليم له، وإنما عبّر عن هذه الأوامر بالموعظة للإشارة إلى أنها لصالحهم، فالواعظ لا مصلحة له في الأمر، وإلاّ لم يكن وعظاً.

ثم يبيّن اللّه تعالى الفوائد الدنيوية والأخروية لطاعتهم.

1- {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} أي أصلح لهم؛ لأنّ جميع الأوامر والنواهي الشرعية إنما هي لمصلحة العباد، فاللّه تعالى غنيّ عن عباده، وإنما أرشدهم لما فيه منفعتهم وبه دفع مضرّتهم.

2- {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} أي لإيمانهم، فكل طاعة تقوية للدين، وكل معصية تضعيف له، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي

ص: 271

قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(1)،وقال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَفِي الْأخِرَةِ}(2)، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ}(3).

3- {وَإِذًا لَّأتَيْنَٰهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} في الآخرة بالثواب الجزيل، وفي هذه العبارة تأكيد للوعد وتعظيمه بقوله: {مِّن لَّدُنَّا} فالذي وعد هو القادر والمالك لخزائن السماوات والأرض، وذلك الأجر عظيم كماً وكيفاً ودواماً.

4- {وَلَهَدَيْنَٰهُمْ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا} أي هديناهم إلى طريق الجنة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}(4).

ومن ذلك يتبيّن سبب فصل {إِذًا} بين هذه الأربعة، فالأوليان في الدنيا، والأخريان في الآخرة، وجزاء الآخرة يبتني على العمل في الدنيا، فما هو خير للدين وأشد تثبيتاً له سينتج الأجر والهداية إلى طريق الجنة.

ص: 272


1- سورة التوبة، الآية: 124-125.
2- سورة إبراهيم، الآية: 27.
3- سورة محمد، الآية: 17.
4- سورة محمد، الآية: 4-5.

الآيتان 69-70

{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا 69 ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا 70}

69- ثم ينتهي هذا المقطع من السورة ببيان جزاء جليل على الإطاعة ترغيباً لها، فقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} بامتثال الأوامر والنواهي والرضا بحكمهما {فَأُوْلَٰئِكَ} المطيعون في الآخرة {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} بأن حلاّهم بأجلّ الفضائل {مِّنَ} بيانية {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّٰلِحِينَ} والمراد أربعة طوائف وإن كانت الصفات قد تجتمع في بعضهم، فكل نبي صديق وشهيد وصالح، لكن أريد من الصديقين غير الأنبياء، ومن الصالحين غير الشهداء وهكذا، و«النبي»: هو ذو منصب خاص للوساطة بين اللّه وبين الخلق ويوحى إليه، و«الصديق» كثير الصدق والتصديق للحق، ولا يكون كذلك إلاّ من تطابق قوله وفعله وقلبه، و«الشهيد» الذي يشهد على الخلق ولهم يوم القيامة، سواء قتل في سبيل اللّه أم لا، و«الصالح» الملازم لاستقامة الطريقة بحسن نيته وعمله، {وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا} لمن أطاع اللّه ورسوله فهؤلاء نِعم المرافقون المصاحبون لهم.

70- {ذَٰلِكَ} مرافقة هؤلاء {الْفَضْلُ} الأعظم فهو أكبر من الثواب

ص: 273

المادي بالحور والقصور ونحوهما {مِنَ اللَّهِ} فيليق بشأنه وبعظمته وحكمته، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا} بطاعتكم وبنياتكم.

بحوث

الأول: لما أمر اللّه تعالى الناس بإطاعة اللّه والرسول، وحذّر من الكفار والمنافقين والذين من أبرز صفاتهم عصيانهما، أكمل هذا المقطع من سورة النساء ببيان أعظم آثار الطاعة، وهي مرافقة أفضل عباد اللّه تعالى في الآخرة، ويا له من جزاء، فضلاً من اللّه تعالى، ولعلّه من مصاديق الرضوان، حيث قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1)، فإنّ اللّه تعالى ليس محلاً للحوادث، وهو منزّه عن الكيفيات النفسانية فرضاه نوع ثواب أيضاً، وهو فوق الثواب المادي، والمرافقة كذلك، حيث إنها نوع ثواب معنوي.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰئِكَ...} الآية.

قيل: هو بيان للصراط المستقيم في الآية السابقة، كما في سورة الحمد، حيث قال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}(2).

وقوله: {فَأُوْلَٰئِكَ} الإشارة للبعيد لبيان علوّ شأنهم وعظمة منزلتهم.

وقوله: {مَعَ الَّذِينَ...} أي يحشر في زمرتهم، ويكون في الآخرة معهم،

ص: 274


1- سورة التوبة، الآية: 72.
2- سورة الحمد، الآية: 6-7.

أو {مَعَ} هنا بمعنى (من) أي بطاعته يترقّى فيُلحقه اللّه تعالى بهم حتىيصير منهم، كما قال إبراهيم (عليه السلام) : {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّي}(1).

وقوله: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} لبيان عظم منزلتهم، حيث كانت لهم الأهلية بأن ينعم اللّه عليهم بخير النعم، وهي النبوة والصدق والشهادة والصلاح، فلا يراد هنا النعم العامّة التي تنال الجميع من برِّهم وفاجرهم، بل النعم الخاصة.

وقوله: {وَالصِّدِّيقِينَ} الصديق صيغة مبالغة بمعنى الملازم للصدق في كل شؤونه، ولا يكون كذلك إلاّ لو توافق قوله وفعله وقلبه في كل شيء، فمن الكذب مخالفة القول الفعل، ومخالفة الفعل القلب، وهكذا، أما لو تطابقت من كل الجهات فذلك الصدق المستمر الذي لا كذب فيه، ولذا من مصاديقه من يكثر من قول الصدق، كما أنّ من مصاديقه من يُظهر تصديق الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) في كل ما قالوا، قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ}(2).

وقوله: {وَالشُّهَدَاءِ} أي الذين يشهدون يوم القيامة على الناس ولهم، وقد مرّ أنّ القرآن استعمل هذه الكلمة بمعناها اللغوي، وأما القتيل في سبيل اللّه فهو أحد مصاديق الشهداء يوم القيامة، وصارت كلمة الشهيد حقيقة عليه في اصطلاح المتشرعة، لكن لا تحمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات المتأخرة.

وقوله: {وَالصَّٰلِحِينَ} الملازمين للصلاح الذين استقامت أمورهم في

ص: 275


1- سورة إبراهيم، الآية: 36.
2- سورة الحديد، الآية: 19.

كل شيء، والصلاح درجات كثيرة، أرفعها درجة أنبياء أولي العزم، بحيثدعا يوسف (عليه السلام) أن يلحقه اللّه بهم، قال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّٰلِحِينَ}(1).

ولا يخفى أنّ هذه الأوصاف كلها قد تنطبق على شخص واحد، فكل نبيّ صديق، لكن أريد من قوله: {الصِّدِّيقِينَ} الأعم من الأنبياء وغيرهم، وكذلك كل صديق شهيد، لكن أريد من {الشُّهَدَاءِ} الأعم وهكذا، ومن ذلك يتبيّن عدم منافاة الروايات المفسرة لهذه الأوصاف الأربعة(2)، فالأئمة من أهل البيت صديقون وشهداء وصالحون، فلذا صاروا مصاديق لهذه الأوصاف الثلاثة، ومثل حمزة سلام اللّه عليه صالح وشهيد، وهكذا.

وقوله: {وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا} لعل الغرض منه بيان أنّ المعيّة مع هؤلاء إنما هي بمعنى مصاحبتهم والكون معهم، لا بمعنى تساوي الثواب، فإنّ التساوي خلاف الحكمة، وإن كان كل الثواب فضل من اللّه تعالى.

قيل: هو بمعنى زيارة هؤلاء للمطيعين؛ لأنّ الأدنى درجة لا يرقى للدرجة الأعلى، وإنما الأعلى ينزل إلى الأدنى لزيارتهم، إذ لا قابلية لمن في الدرجة الدنيا إلى الصعود، أو لأنه يوجب حسرته لمّا يرى زيادة نعيم أصحاب الدرجات العالية.

وقيل: قد يكونون متجاورين لكن لا يلازم ذلك تساوي الثواب كقصر بجوار كوخ في مدينة واحدة ومحلة واحدة.

ص: 276


1- سورة يوسف، الآية: 101.
2- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 164-168.

وقيل: قد لا يشعر الأدنى بزيادة نعيم الأعلى حتى لو زاره في قصوره، إذيمكن أن يكون من الأجر زيادة الحواس أضعاف مضاعفة، فمن حباه اللّه بحسّ زائد يشعر بنعمة زائدة لا يشعر بها من فقد ذلك الحس، حتى وإن كانوا متجاورين في مكان واحد، كأعمى وبصير يعيشان معاً ويتشاركان في كل النعم، إلاّ أنّ البصير يلتذ بالمناظر الخلابة مما يفقدها الأعمى.

واللّه العالم فإنّ هذه الأمور من الغيب الذي طريقه ينحصر في النص، فإن وجد فهو، وإلاّ بقيت هذه الأقوال مجرد احتمالات لا يصح حمل القرآن عليها.

وفي قوله: {وَحَسُنَ أُوْلَٰئِكَ رَفِيقًا} دلالة على الشعور بالراحة التامة في مجاورتهم، فقد يتصاحب اثنان يتعاملان معاً بالرفق، لكن نفوسهما متباعدتان فلا يشعران بالراحة.

الثالث: قوله تعالى: {ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ}.

هذا تعظيم لهذا الثواب بمرافقة هؤلاء، فمع أنّ كل ثواب فضل من اللّه، لكن لا تقاس تلك بهذا الفضل.

وزعم بعض المعتزلة أنّ الثوابات الماضية هي عن استحقاق، أما المرافقة فهي لا عن استحقاق لذلك عبر عنها بالفضل!

ولكن قد مرّ مراراً أن لا حق لأحد على اللّه تعالى بأيّ ثواب، وإن أفنى عمره بالطاعة؛ لأنها لا تفي بشكر اللّه في أنعمه التي لا تعدّ على العباد، فلذا كان تسمية الثواب أجراً إنما هو فضل من اللّه تعالى من غير استحقاق، نعم لمّا وعد اللّه تعالى صار حقاً عليه؛ لأنّ خلف الوعد قبيح، ولكن الفضل

ص: 277

درجات، وحيث إنّ مرافقة هؤلاء فوق التنعم المادّي لذلك كأنه انحصرالفضل فيها.

الرابع: قوله تعالى: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا}.

فهو يعلم بالمطيع عن العاصي، وبنية المطيع، وبدرجة إخلاصه، وكل ذلك مؤثر في أصل الفضل ومقداره، فدرجات الإيمان متفاوتة، وأكثرها ترتبط بمقدار يقين الإنسان ورضاه وإخلاصه وغير ذلك، وهي أمور لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى، فعلمه يستتبع فضله؛ لأنّ صفات الفعل تابعة لصفات الذات.

والحاصل أنّ هذا تأكيد للوعد وإيقاظ للمطيع بأنّ إطاعته لا تذهب هدراً فاللّه عالم بها، وفي ذلك الكفاية.

ص: 278

الآيات 71-73

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا 71 وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا 72 وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا 73}

ثم يأتي الكلام حول مصداق من أهم موارد الطاعة، وهو الطاعة في الجهاد، فقال تعالى:

71- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي أسلموا، فيدخل في الخطاب حتى المنافقون {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} أي احترسوا عن الأعداء، ومن ذلك تهيئة السلاح، ثم بعد الحذر {فَانفِرُواْ} للجهاد {ثُبَاتٍ} جمع «ثُبة» أي سرية إثر سرية {أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا} مجتمعين في عسكر واحد، وذلك حسب حجم العدو وقوته، فقد يحتاج إلى خروج سرية واحدة، وقد يحتاج إلى خروجكم جميعاً.

72- وفي إطاعتكم للّه ولرسوله لا تهتموا بالمثبطات {وَإِنَّ مِنكُمْ} من هو في زمرتكم ظاهراً كالمنافقين {لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} يتثاقل عن الخروج للجهاد أو يثبّط الآخرين، ودليل ضعف إيمانهم أو فقدانهم له هو أنّ المحرّك الأساسي لهم الأمور المادية لا إطاعة اللّه ورسوله ورضاهما،

ص: 279

ويظهر ذلك في كلامهم {فَإِنْ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ} من هزيمة أو قتل أو جرحونحوها {قَالَ} مسروراً {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا} حاضراً المعركة، بدلاً من أن يغتم لما أصاب المؤمنين.

73- {وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ} بالفتح والغنيمة والسمعة الطيبة {لَيَقُولَنَّ} أي قال محزوناً على نفسه {كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ} جملة معترضة لبيان حاله كأنكم أجانب عنه، مع أنّ الذين بينهم مودة يفرحون إذا نال أصحابهم الخير، لكن هذا يقول: {يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ} حاضراً في الجهاد {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} فمن الغنيمة مالاً ومن السمعة فخراً.

بحوث

الأول: بعد بيان لزوم عبادة اللّه وعدم الشرك به وذكر مَثَل من اليهود ومَثَل من المنافقين، وبعد الحث على طاعة اللّه ورسوله، يأتي بيان ذكر مصداق من أهم المصاديق التي يظهر فيها المؤمن من غيره، وهي إطاعة اللّه ورسوله في الجهاد، فإنه من أصعب الأمور، حيث مظنة القتل والأسر والجرح وفقدان الأهل والأموال، فلذا تظهر في أوقات الجهاد حقيقة إيمان الأشخاص، فهل آمنوا بألسنتهم فقط أم آمنوا بقلوبهم، وهل فكرهم في كسب رضا اللّه تعالى أم كسب المنافع الدنيوية الزائلة، فيظهر ذلك في أفعالهم وأقوالهم، فإن كانوا مؤمنين حقاً أطاعوا وجاهدوا، فإن انتصروا شكروا، وإن انهزموا صبروا، فالمحور عندهم أمر اللّه ورضاه لا أنفسهم، وأما إن كانوا منافقين أو ضعاف الإيمان فلم يطيعوا ولم يجاهدوا، فإن انهزم المجاهدون طعنوا عليهم، وإن غنموا تحسّروا على عدم مشاركتهم في

ص: 280

الجهاد، فالمحور عندهم أنفسهم ومصالحها.

وفي هذا تحذير للمؤمنين لئلا يكونوا من هذا الصنف، فليلتفتوا إلى نفوسهم حين الأوامر الشاقة، فإن وجدوا صعوبة لها عليهم فليحاولوا تقوية الإيمان في أنفسهم وليخالفوا هواهم ويرغموا أنفسهم على الطاعة، ثم ليضبطوا ألسنتهم، فلا يتكلمون إلاّ فيما فيه رضى اللّه سبحانه وتعالى، فإنه بالطاعة العسرة، وبمخالفة الهوى تُروّض النفس ويستمكن الإيمان فيها تدريجياً.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ...} الآية.

(الحِدز) بمعنى الاحتراس والتيقظ والتحفظ عن الأمر المخوف، وكأنّه منفصل عن الإنسان لغفلته عنه في الحالات الطبيعيّة، فكان لا بد من أخذه، فالأعداء دائماً متواجدون ولا يراعون إلاًّ ولا ذمةً، فإن وجدوا منكم ضعفاً وغفلة انقضّوا عليكم، فلا بد للمؤمنين من أن يكونوا أقوياء دائماً ومتهيئين للدفاع عن أنفسهم؛ لئلا يطمع فيهم العدو، قال اللّه تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ}(1).

وقوله: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} عام أي كونوا محترسين، ومن مصاديقه أخذ السلاح وتهيئته.

وقوله: {فَانفِرُواْ} تفريع على أخذ الحذر، أي بعد أن تأخذوا الحذر عليكم بالجهاد، إذ أحياناً لا يكفي الاحتراس، بل لا بد من الهجوم على العدو، وهو ما يسمّى الحرب الاستباقية، أي بدء الدفاع بكسر شوكة العدو

ص: 281


1- سورة الأنفال، الآية: 60.

ومكيدته في أرضه، وبعبارة أخرى تجفيف جذور إرهاب العدو ومكائده، وفي عالم اليوم لا يكتفون بتقوية البنية الدفاعية، بل يهاجمون الجماعات الإرهابية والتي تخطط لمهاجمتهم وهي في عقر دارها لاستئصال الخطر من جذره.

والحاصل أنّ الفاء في {فَانفِرُواْ} للتفريع على الحذر، أي احذروا ثم انفروا، ويمكن أن يكون العطف تفسيرياً، أي ليكن حذركم بالنفر.

وقوله: {ثُبَاتٍ} جمع (ثُبة) وهي الجماعة في فرقة، والمعنى ليكن خروجكم فرقة فرقة كما تخرج السرية إثر السريّة.

وقوله: {أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا} أي مجتمعين معاً في عسكر واحد، والترديد ب {أَوِ} بحسب مقتضى حال العدو من قوته وضعفه، فلذا نرى أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك أعلن النفير العام، وفي بعض السرايا كان عدد المجاهدين العشرات فقط.

الثالث: قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ...} الآية.

تحذير من المنافقين وضعاف الإيمان لئلا يتأثر المؤمنون بهم، وأيضاً لتحذير المؤمنين لئلا يكونوا منهم، فإن لاحظوا في أنفسهم ذلك تذكروا أوامر اللّه تعالى بالطاعة فخالفوا هواهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَٰنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}(1)، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَافَعَلُواْ

ص: 282


1- سورة الأعراف، الآية: 201-202.

وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(1).

والحاصل أنّ الآية تحذير وتربية، تحذير عن النفاق والمنافقين وعن ضعف الإيمان، وتربية للمؤمنين لئلا يقعوا في العصيان، أو أن ينقلعوا منه إن كانوا يرتكبونه غفلة.

وقوله: {مِنكُمْ} أي من الداخلين في زمرتكم بإظهار الإيمان، سواء كانوا منافقين أو من ضعاف الإيمان.

وقوله: {لَّيُبَطِّئَنَّ} البطء هو التثاقل عن الشيء، والإبطاء يستعمل بمعنى التثاقل في نفسه، وفي تثبيط الآخرين، وكلا المعنيين هنا محتمل، فهؤلاء كانوا يتثاقلون وكانوا يوهون عزيمة المؤمنين، كما حدث في غزوة أحد حيث انخزل عبد اللّه بن أبي في ثلاثمائة من المنافقين فرجعوا إلى المدينة، وثبّطوا طائفتين من المؤمنين كادوا أن يرجعوا لولا أن منّ اللّه عليهما، قال تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا مِنَ الْأخِرَةِ}(2)، وقال: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ}(3).

واللام في {لَمَن} للابتداء فهي تأكيد، وفي {لَّيُبَطِّئَنَّ} لجواب القسم المحذوف.

وقوله: {مُّصِيبَةٌ} في خروجكم إلى الجهاد كالهزيمة والقتل والجرح

ص: 283


1- سورة آل عمران، الآية: 135.
2- سورة التوبة، الآية: 38.
3- سورة التوبة، الآية: 46.

ونحو ذلك كما قالوا في معركة أحد، حيث قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ}(1).

وقوله: {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} وقولهم غاية في النفاق، حيث غلّفوا معصيتهم للّه تعالى بأنها نعمة منه عليهم، فلم يكتفوا بالعصيان حتى زادوا فيه الافتراء، وهكذا دأب أبناء الدنيا عادة، حيث يحاولون اختلاق الأعذار الدينية لمعاصيهم وشهواتهم، فيكونون قد نالوا أهواءهم في الدنيا وإظهار أنفسهم بمظهر المتدينين المطيعين للّه سبحانه، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «لو أنّ أهل السماوات والأرض قالوا: قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لكانوا بذلك مشركين»(2) فليست معصيته نعمة، بل ما من نعمة أنعمها اللّه على الإنسان فلم يؤدّ حقها بطاعته إلاّ حوّلها إلى نقمة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}(3)، فالشكر العملي للنعمة هو الاستفادة منها فيما أمر اللّه تعالى، أو لا أقل من الاستفادة منها فيما أباحه!

الرابع: قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ...} الآية.

لو كان مؤمناً لفرح بما ينال المؤمنين من فضل اللّه تعالى، لكن هذا لمرض في قلبه يتمنى لو لم يعص اللّه بترك الجهاد لا لأنه معصية للّه، بل لفوات المنافع عليه، فندمه ليس للّه بل لنفسه، وبذلك يضيف رذيلة أخرى إلى رذيلة معصيته.

ص: 284


1- سورة آل عمران، الآية: 168.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 169.
3- سورة إبراهيم، الآية: 28.

والحاصل أنّ هؤلاء جعلوا أنفسهم وشهواتهم المحور بدلاً من رضى اللّه تعالى، فلذا لا يطيعون اللّه ورسوله فيما يخالف رغباتهم وأهواءهم، فإن أصاب المؤمنين ضرر بسبب طاعتهم حاول هؤلاء استغلال الموقف وتغطية عصيانهم بأنها نعمة من اللّه، وإن أصاب المؤمنين نفع يحزنون على فوات المنافع عليهم لا على معصيتهم!

وقوله: {فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ} نسب الفضل إلى اللّه؛ لأنه الحقيقة، فكل خير إنما هو من اللّه سبحانه، وأما في المصيبة فلم ينسبها إلى اللّه تعالى مع أنها بقضائه وقدره أيضاً، كما سيأتي في قوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}(1)، وذلك لتعظيمه تعالى وعدم نسبة شيء إليه يوهم النقص في أذهان الناس كما في قول الخضر: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} و{فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُۥ عَنْ أَمْرِي}(2) فليس من المناسب نسبة العيب والخشية إليه تعالى، فلذا نسبهما الخضر إلى نفسه.

وقوله: {لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ} جملة معترضة بين القول والمقول، والغرض بيان أنّ هؤلاء ليسوا من زمرة المؤمنين واقعاً؛ لأنّ من كان منهم لا يقول هذا الكلام، بل يكون معهم عملاً فيشاركهم في المصائب والفضل، وحتى لو لم يتمكن من المشاركة معهم لعذر شرعي فلا يأسف لفوات الغنيمة، بل يفرح لما نال أصحابه من خير كما يفرح الأقرباء الأحباء بنجاح بعضهم، وحتى إن كان معذوراً في مشاركته معهم لمرض أو

ص: 285


1- سورة النساء، الآية: 78.
2- سورة الكهف، الآية: 79-82 .

عوق أو لطاعة أهم فإنه يأسف على فوت الجهاد عنه، لا أنه يفرح في المصيبة ويحزن على فوت المنفعة.

والحاصل أنّ قوله هذا يكشف عن عدم إيمانه وعدم ولايته للمؤمنين، فهو ليس محباً للمؤمنين، وإنما يريد أن يكون معهم لمجرد المنفعة والربح!!

وقوله: {فَوْزًا عَظِيمًا} (الفوز) الظفر بالخير مع السلامة(1)، وقولهم: {عَظِيمًا} يدلّ على عظمة الدنيا في أعينهم، مع أنّ الفوز العظيم إنما هو في الطاعة والجنة والرضوان وصرف العذاب قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(2)، وقال: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(3)، وقال: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٖ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٖ فَقَدْ رَحِمَهُۥ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}(4)، وقال: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ جَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(5).

ص: 286


1- مفردات الراغب: 647.
2- سورة الأحزاب، الآية: 71.
3- سورة المائدة، الآية: 119.
4- سورة الأنعام، الآية: 15-16.
5- سورة التوبة، الآية: 88-89.

الآيات 74-76

اشارة

{فَلْيُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا بِالْأخِرَةِ وَمَن يُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا 74 وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا 75 الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَٰنِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا 76}

ثم يحث اللّه تعالى المؤمنين على الجهاد بعدم الالتفات إلى المثّبطات، مع بيان آثاره وأسبابه، فقال تعالى:

74- {فَلْيُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأجل أمره وإعلاء كلمته وتطبيق أحكامه {الَّذِينَ يَشْرُونَ} يبيعون {الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا} القريبة الفانية {بِالْأخِرَةِ} يأخذون بدلاً عنها ثواب الحياة الأخرى الباقية، {وَ} جزاء هؤلاء المجاهدين أنه {مَن يُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا لغرض دنيوي {فَيُقْتَلْ} يستشهد {أَوْ يَغْلِبْ} بأن يظفر على الأعداء {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فهذا هو الذي أنعم اللّه عليه لا المثبّط.

75- ثم يؤكد اللّه تعالى الأمر بالجهاد ببيان سببه فيقول: {وَمَا لَكُمْ}

ص: 287

استفهام إنكاري، فأيّ عذر لكم في ترك الجهاد مع اجتماع أسبابه {لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ} لأجل {الْمُسْتَضْعَفِينَ} لإنقاذهم من المستكبرين،وهؤلاء المستضعفون {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} الذين بقوا محصورين في أيدي المستكبرين، وهؤلاء يستغيثون بربهم حينما عجزوا عن تخليص أنفسهم، فهم {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} أي يسّر لنا الخروج {مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ} مكة {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} بالشرك والجور {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ} من عندك بألطافك ورحمتك {وَلِيًّا} يلي أمرنا فيسير فينا بالعدل والإحسان {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} على الظالمين فينقذنا منهم.

76- ثم يشجّع اللّه المؤمنين بأنهم أقوى؛ لأنّ اللّه ناصرهم، والكفار أضعف؛ لأنّ وليهم الشيطان، ف {الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وحتى جهادهم لإنقاذ المستضعفين فإنما هو لأجل اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّٰغُوتِ} الكثير الطغيان - الشيطان وحكام الجور والملأ من القوم - فهم بقتالهم يريدون تقوية الطغيان، وحيث علمتم غرض كل من الفريقين {فَقَٰتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَٰنِ} التابعين له {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا} فلا تخشوه ولا تتأثروا بالمبطّئين.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {فَلْيُقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ...} الآية.

حيث بيّن اللّه تعالى أنّ المنافقين جعلوا المحور مصالحهم، يحث المؤمنين على جعل محور أمورهم سبيل اللّه تعالى، فلا يكن غرضهم من الجهاد المغانم والمكاسب والجاه والفخر ونحو ذلك من الأغراض الدنيوية،

ص: 288

فإنّ كل ذلك يقطع العمل عن اللّه تعالى، فإن قتل أو انهزم كانت له خسارة دنيوية من غير ربح أخروي، وإن انتصر وغنم حصل على متاع قليل فانٍ لاقيمة له في الواقع، بل لا بد من ربط العمل باللّه الباقي الذي بيده خزائن السماوات والأرض ولا تنفد عطاياه، لا لحاجته تعالى إلى عمل مخلوقاته، بل لحاجتهم إلى رحمته ولطفه، وقد اقتضت حكمته أن يهب العطايا الثمينة لمن كان لها أهلاً بحسن اختياره العمل الصحيح والنية الخالصة.

وقوله {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي الطريق الذي أمر به والموصل إليه، بأن يكون الجهاد بأمره وأن تكون النية له، فإن لم يكن القتال بأمره أو كانت النية لغيره لم يكن العمل في سبيله، فلذا لو كان الجهاد تحت لواء الظالمين لم يكن في سبيله تعالى؛ لأنّ اللّه تعالى أمر بإطاعة حكّام العدل ونهى عن إطاعة حكام الجور، أو كان الجهاد تحت لواء حاكم العدل لكن لم تكن نية المجاهد إلاّ الأمور الدنيوية بالفوز بمغنم أو جارية أو رئاسة فكذلك لم يكن في سبيله سبحانه، وهكذا في سائر الأمور، فمن يبتدع عبادة من نفسه لم يأمر بها اللّه لا يثاب عليها، بل يعاقب لافترائه وتشريعه، أو صلّى الصلاة المفروضة لكن كانت نيته الرياء فكذلك لايثاب، بل له الويل والعقاب.

وقوله {يَشْرُونَ}: أي يبيعون، ومادة البيع والشراء تستعمل في كلا المعنيين، إلا أنّ (باع) و(شرى) في البيع أكثر، و(ابتاع) و(اشترى) في الشراء أكثر، والمقصود هنا أنهم يبيعون الحياة الدنيا، حيث إنّ المجاهد يعرّض نفسه للقتل فيفقد الدنيا بكل ما فيها من الأهل والمال والملذات، والمشتري هو اللّه تعالى، والعوض هو الجنة والرضوان كما قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ

ص: 289

وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ} الى قوله:{فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1).

وقوله: {وَمَن يُقَٰتِلْ...} كالردّ على المبطّئين المثبطين الذين زعموا أنّ اللّه أنعم عليهم حينما يصاب المؤمنون، فيقال لهم: إنّ المجاهد في سبيل اللّه تعالى هو الذي أنعم اللّه عليه، سواء استشهد أم انتصر، فإن قُتل نال درجة الشهادة والثواب الجزيل، وإن انتصر نال المغنم والسمعة الطيبة مضافاً إلى ثواب عظيم في الآخرة، وإن كان ثواب المقتول في سبيل اللّه أعظم منه.

وقوله: {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ}، قيل: لم يذكر الشق الثالث وهو الهزيمة، إعلاماً بأنّ المؤمن لا ينهزم، بل يثبت في المعركة حتى يعزّ نفسه بالشهادة، أو يعزّ الدين بالظفر والغلبة.

وقوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ...} لعلّه إشارة إلى أنّ الغالب حتى وإن نال أجراً دنيوياً بالفتح والمغنم والسمعة، إلاّ أنّ ذلك لا يقاس بأجر الآخرة الذي هو الأجر العظيم، وكذلك السمعة الطيبة والذكر الحسن للشهيد، وإن كان نوع أجر له إلاّ أنّ أجر الآخرة أعظم.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ...} الآية.

حث آخر على إطاعة اللّه ورسوله في الجهاد ببيان بعض الأسباب الداعية للجهاد، فالآية السابقة كانت حثاً ببيان الثواب العظيم، وهذه الآية حثّ بتحريك العواطف الإنسانية بإنقاذ المظلوم من الظالم، وهذا وإن كان في

ص: 290


1- سورة التوبة، الآية: 111.

سبيل اللّه تعالى أيضاً لأنه سبحانه أمر به، إلاّ أنّ إفراده بالذكر ليكون أدعىوأقوى تحفيزاً للجهاد، نظير قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ}(1)، فعمل الفضائل مطلوب مطلقاً، فإن أتى بها امتثالاً لأمر اللّه تعالى فقد وعده سبحانه بالثواب الجزيل الأخروي، وإن عملها لحُسنها ولم يخالف بذلك حكماً شرعياً فهو لا بأس به، إلاّ أنه غير موعود على الثواب، نعم قد يتفضل اللّه تعالى به، وهذا نظير ما لو هجم لصّ على دار الإنسان ليقتله فقام صاحب الدار بالدفاع عن نفسه وأهله، فإن قصد امتثال أمر اللّه بالدفاع فعمله في سبيل اللّه، وإن لم يقصد إلاّ الدفاع فعمله حسن وفضيلة وقد ينال الثواب بذلك إن شاء اللّه تعالى.

نعم من يقصد بجهاده مجرد المغنم من دابة أو امرأة ونحو ذلك فليس عمله محموداً؛ لأنه ليس بفضيلة أن يقصد سلب الناس أموالهم، كما أنه لم يكن في سبيل اللّه، فلذا عمله مذموم، ومن ذلك شهيد الحمار وشهيد أم جميل.

نعم لا بد من إذن اللّه تعالى لأصل العمل حتى يكون مشروعاً، وقد أذن اللّه في القتال دفاعاً عن النفس أو عن المستضعفين، مع توفر سائر الشروط المذكورة في الفقه تفصيلاً.

ومن ذلك يتضح أنّ قوله: {الْمُسْتَضْعَفِينَ} معطوف على {اللَّهِ} أي في سبيل المستضعفين حتى لو لم يكن في سبيل اللّه، ولذا نجد أنه لا وعد بالثواب في هذه الآية، مع الوعد به في الآية السابقة.

وقيل: المستضعفين عطف على سبيل، وهو من عطف الخاص على

ص: 291


1- سورة آل عمران، الآية: 167.

العام؛ لأنّ القتال في المستضعفين بمعنى لأجلهم وهو مصداق من سبيل اللّهتعالى، حيث إنه سبحانه أمر به.

وقوله: {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} هذا التفصيل أدعى للحث والتحريض وأقوى في إثارة العواطف، بأن يقال للمؤمنين: إنّ هؤلاء المستضعفين ليسوا رجالاً فقط كي تقولوا بأنهم رجال يتحملون الصعوبات ولا ينالهم أذى الظالمين إلاّ في أجسادهم، بل هؤلاء فيهم نساء وأطفال لا يتحملون الظلم لا جسداً ولا نفساً، كما أنه تشنيع على الكفار بظلمهم هؤلاء وتقبيح لهم في نظر المؤمنين، وذلك أحفز لهم وأكثر تأثيراً، ولبيان اشتراك هؤلاء في الدعاء أيضاً، وتعليم للمؤمنين بأن يأمروا نساءهم وصبيانهم بالدعاء حين المصائب استنزالاً للرحمة، حيث إنّ الأطفال لم يذنبوا والنساء ضعيفات، ودعاء هؤلاء أقرب للإجابة لبراءتهم أو لضعفهم.

وقيل: عطف المستضعفين على سبيل اللّه؛ لأنّ المؤمنين درجات، فالأقوى إيماناً يكفيه كونه في سبيل اللّه، أما مَن دونه فهناك تحريك لغيرته ولرجوع الجهاد في سبيل المستضعفين إلى سبيل اللّه تعالى لأنه بأمره.

وقوله: {الْمُسْتَضْعَفِينَ}: أي الذين كانوا ضعافاً لا يتمكنون من دفع الظلم عن أنفسهم، ولا يخفى أنّ (المستضعف) في الآيات والروايات قسمان:

1- المستضعف بالظلم والجور، فهو لا بد من إغاثته ورفع الظلم عنه.

2- المستضعف في العقيدة، وهو الذي لم يعرف الحق لقصوره أو لمنع الظالمين من وصول الحق إليه، وإلى هؤلاء تشير كثير من الروايات ببيان

ص: 292

أحكامهم ومصيرهم في الآخرة، بأنه لو كانوا قاصرين عن الوصول إلىالحق امتحنهم اللّه تعالى في الآخرة؛ لأنّ عذابهم مع قصورهم ظلم، وقد تعالى اللّه سبحانه عن ذلك.

وقوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا...} بيان أنّ هؤلاء مع استضعافهم لا يلتجئون إلاّ إلى اللّه تعالى ليرفع عنهم الظلم، وحتى إن طلبوا نصرة المؤمنين فإنما يطلبون من اللّه تعالى أن يقيّض لهم المتولّي لأمرهم الناصر لهم، وهكذا المؤمن حتى وإن احتاج إلى غيره فإنما يرجع إليه ويطلب حاجته منه باعتباره واسطة جعلها اللّه تعالى، فيكون التوجه في الحقيقة إلى اللّه تعالى، ويمكن أن تكون الآية بصدد بيان شدة ضعف هؤلاء بحيث لا يتمكنون من الاستغاثة إلاّ باللّه سبحانه وتعالى، حيث يعلمون بأن المسلمين في المدينة لا يتمكنون من نصرهم ولا تولي أمورهم لضعف المسلمين آنذاك وقوة المشركين فلا ملجأ لهم إلاّ اللّه تعالى، فهذه الآية تحثّ المسلمين بأن يعدوا ما استطاعوا من قوة لإنقاذ أولئك، وهذا أقوى في تحريك العواطف وتحريض المؤمنين بأن يقال له: فلان لا يرجو نصرة من أحد إلاّ اللّه فاذهب وأنقذه.

ودعاء هؤلاء المستضعفين من ثلاثة مقاطع:

1- {أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} وهذا دعاء استجابه اللّه تعالى لهم بعد فتح مكة حيث خرج الكثير منهم إلى المدينة المنوّرة، والمعنى هيّئ أسباب خروجنا منها، والدعاء مقيد بكون أهلها ظالمين بغرض النجاة من ظلمهم، وقوله: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} تشريف لمكة فلم يقل القرية الظالمة، كما هو دأب القرآن في سائر القرى حيث نسب الظلم مجازاً إليها.

ص: 293

2- {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} أي هيّئ لنا من يلي أمورنا وقوله: {مِنلَّدُنكَ} للإشارة إلى أنه يسير فيهم بالعدل أو بألطافه ورحمته تعالى.

3- {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} أي ينصرنا على الظالمين، وإنما قدّم الولي على النصير مع أنه يتراءى أنّ الأمر بالعكس! لأجل أنّ الولي يمنع استمرار الظلم، وهذا ما حصل بالفعل، حيث إنه بعد فتح مكة ولي أمرها رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وولاته وساروا بالعدل مع بقاء أولئك الظالمين ومع نفاق الكثير منهم، لكنهم كانوا منزوعي السلطة غير قادرين على الظلم.

أو يقال: إنّ ترتيب دعائهم كان هكذا أن يخرجوا من مكة إلى المدينة، حيث يلي الرسول أمرهم ثم يقاتل الظالمين وينتصر عليهم فيرجع جميع ظلامات أولئك المؤمنين نصراً لهم.

وفي الآية دلالة على أثر الدعاء، فهؤلاء دعوا واللّه استجاب لهم، ولولا أنه استجاب دعاءهم لما كان لذكر دعائهم معنى! كذا في مجمع البيان(1).

الثالث: قوله تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

حثّ آخر على الجهاد عبر بيان قوة المؤمنين وضعف الكفار، فالمؤمن يقاتل في سبيل اللّه والكافر يقاتل في سبيل الشيطان، وكيد الشيطان ضعيف في نفسه، وهو لا شيء إذا قيس بقوة اللّه تعالى.

سبب غلبة الكفار أحياناً

سؤال: كيف نرى غلبة الكفار أحياناً، كما حصل في غزوة أحد؟

والجواب: أنّ شرط الغلبة هو كون الجهاد في سبيل اللّه، ولا يكون قتالاً في سبيله إلاّ بخلوص النية وبإطاعته في كل ما أمر، أما مع عدم الإخلاص

ص: 294


1- مجمع البيان 3: 194.

أو مع مخالفة الأوامر وعدم الطاعة، كما حصل لبعض المسلمين في غزوةأحد فلا يكون قتالهم في سبيله تعالى، فحتى الكيد الضعيف قد يغلب عليهم لصيرورتهم أضعف، نعم قد يخسر المؤمنون المجاهدون في سبيل اللّه لأسباب أخرى مذكورة في محلّها.

وقوله: {سَبِيلِ الطَّٰغُوتِ} أي لأجل الطغاة والطغيان، وبذلك يكونون أولياء للشيطان، ولذا عطفه بقوله: {فَقَٰتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَٰنِ}، فمن مصاديق الطاغوت حكام الجور والأصنام والأنظمة الفاسدة والعقائد الباطلة والعادات السيئة، والجامع هو كل ما خالف دين اللّه تعالى.

وقوله: {كَيْدَ} هو السعي في فساد الحال على وجه الاحتيال.

وقوله: {كَانَ} قيل: إضافة كان تدل على أنّ الضعف لازم لهم في جميع الأوقات والأحوال سواء الماضي منها أو ما يستقبل.

وقوله: {ضَعِيفًا} أي ضعيف في نفسه، وبالقياس إلى نصرة اللّه تعالى للمؤمنين، نعم من اتبع هواه وخالف أوامر اللّه تعالى فإنّ كيد الشيطان بالنسبة إليه قوي، قال تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُۥ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(1) وقال: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}(2).

ص: 295


1- سورة النحل، الآية: 100.
2- سورة المجادلة، الآية: 19.

الآيات 77-79

اشارة

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا 77 أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا 78 مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٖ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا 79}

ثم يبيّن اللّه تعالى مصداق من ترك الطاعة في القتال وهم الذين آمنوا لكن في إيمانهم ضعف، فقال:

77- {أَلَمْ تَرَ} استفهام للتعجب {إِلَى الَّذِينَ} كانوا في مكة يستأذنون في قتال المشركين مع ضعف المسلمين لكن {قِيلَ لَهُمْ} وهم بمكة: {كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} عن القتال وكل ما يؤدي إليه ككفّ اللسان، فإنّ القتال حينذاك كان بضرر الدين {وَ} انشغِلوا بتقوية إيمانكم وتكافل بعضكم بعضاً بأن {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ فَلَمَّا} هاجروا إلى المدينة وقويت

ص: 296

شوكة الإسلام ف {كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} فُرض عليهم {إِذَا فَرِيقٌ} جماعة {مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} الكفار أن يقتلوهم {كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} فيخافون اللّه تعالى في مخالفة أوامره؛ لما يترتب عليه من العقابوفي الوقت نفسه يخافون قتال الكفار؛ لما يترتب عليه من القتل، فبعضهم تتساوى فيه الخشيتين، وبعضهم خشيتهم من الكفار أكثر!

{وَقَالُواْ} محاولين الجمع بين عدم مخالفة اللّه وبين عدم تعريض أنفسهم للخطر! وذلك بطلب تأجيل الجهاد بقولهم: {رَبَّنَا لِمَ} لماذا {كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا} أي هلاّ {أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ} أي مدة قريبة وذلك تسويفاً!

{قُلْ} يا رسول اللّه في جوابهم: {مَتَٰعُ الدُّنْيَا} أي ما يستمتع به فيها {قَلِيلٌ} كماً وكيفاً وسريع الانقضاء، فما الفائدة في هذا الاستمتاع مع مخالفة أمراللّه تعالى {وَالْأخِرَةُ} بثوابها الباقي {خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ} العصيان فأطاع اللّه {وَ} لا يضيع عند اللّه جهادكم إذ {لَا تُظْلَمُونَ} لا تنقصون حقكم الذي وعدكم اللّه به {فَتِيلًا} ولو بمقدار فتيل، وهو الخيط في شق النواة.

78- وهذا التسويف والعصيان لا ينفعكم إذ تنقضي الدنيا بسرعة ف {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ} يلاقيكم {الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٖ} حصون {مُّشَيَّدَةٖ} مرفوعة بإحكام.

ثم بيّن اللّه تعالى سبب خوفهم من الجهاد، وهو عدم معرفتهم باللّه وبالرسول، فلا معرفة لهم بقضاء اللّه وقدره، كما لا معرفة لهم بأن أوامر الرسول هي أوامر اللّه تعالى، فقال: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} نعمة {يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ} فهم يعرفون هذا المقدار بأنّ النِعم منه سبحانه، أو

ص: 297

قالوها تبجحاً بأنّ اللّه يحبهم لذا أنعم عليهم، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلاء {يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ} تشاؤماً به أو لزعمهم سوء تدبيره! {قُلْ} في جوابهم: {كُلٌّ} من الحسنة والسيئة {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} بقضائه وقدره، فلا شيء في الكون من دون قضاء وقدر {فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ} استفهام تعجبي، أي ماشأنهم حيث {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ} لا يفهمون {حَدِيثًا} فهؤلاء بعيدون عن فهم القرآن، حيث يصرّح بأنّ اللّه هو القابض والباسط وأنّ كل الأمور بيده!

79- ثم يُعرض اللّه عن مخاطبتهم؛ لأنهم لا يفهمون فيخاطب سائر الناس: {مَّا أَصَابَكَ} أيها الإنسان {مِنْ حَسَنَةٖ فَمِنَ اللَّهِ} أي قضاؤه وقدره بالحسنة بسبب فضله ومنّه ولطفه، {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفْسِكَ} أي قضاء اللّه تعالى وقدره بالسيئة بسبب سوء فعل الإنسان.

والحاصل كل شيء بقضاء اللّه وقدره، لكن إنما يقضي ويقدّر اللّه الخير بسبب فضله تعالى، وإنما يقضي ويقدر الشر بسبب سوء فعل الإنسان.

وأما الرسول فهو واسطة فيض اللّه تعالى، فلا دخل له في سيئات تصيبهم بسوء أعمالهم {وَأَرْسَلْنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} ترشدهم إلى خيرهم فإن لم يطيعوك وأصابهم الشر فمن أنفسهم، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} يشهد على رسالتك وحسن تدبيرك وخيرك لهم لو أطاعوك.

بحوث

الأول: هذه الآيات حول طائفة أخرى - بعد بيان حالات أهل الكتاب والمنافقين - وهم ناس آمنوا ولم ينافقوا لكن في إيمانهم ضعف، لذلك قد

ص: 298

يصعب عليهم الامتثال للأوامر الشاقة، وإنما يريدون أن تكون الأحكام الشرعية متطابقة مع مشتهياتهم، فحينما لا أمر بالجهاد يجزعون من ظلم المشركين ويطلبون الإذن في قتالهم، وحينما يصدر الأمر بالجهاد يخشون الكفار ويطلبون تأجيل ذلك، فلا أنفسهم طابت حين الأمر بالكف، ولا حينالأمر بالقتال!

واللّه تعالى يعظهم لتقوية الإيمان في قلوبهم بتزهيدهم في الحياة الدنيا، ببيان أنها متاع قليل وأنّ الموت آتٍ لا محالة، وبترغيبهم بالآخرة وأنهم يوفّون أجورهم كاملة غير منقوصة، وببيان أنهم لو أطاعوا اللّه ورسوله لا تصيبهم السيئات الدنيوية.

والحاصل خيرهم في آخرتهم ودنياهم في الطاعة.

الثاني: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ...} الآية.

الأوامر والنواهي تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، وليست تابعة لأهواء الناس ومشتهياتهم، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ}(1) وذلك لأنّ الأهواء غالباً تتناقض مع الواقع قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(2).

حال المسلمين في مكة والمدينة

والمسلمون في مكة كانوا ضعافاً ولو قاتلوا المشركين حينذاك لاستأصلوا شأفة الدين من جذورها، فلم تكن مصلحة في القتال في مكة، ولذا أمرهم اللّه بكف اليد، وإنما كانت وظيفتهم في تقوية الإيمان والمؤمنين، أما تقوية الإيمان

ص: 299


1- سورة المؤمنون، الآية: 71.
2- سورة ص، الآية: 26.

والمؤمنين، أما تقوية الإيمان فبإقامة الصلاة، وأما تقوية المؤمنين فبإيتاء الزكاة حفظاً لضعفة المؤمنين من الاحتياج إلى المشركين، ذلك الاحتياج الذي قد يسوق بعضهم إلى الارتداد أو استذلال المشركين لهم، ولذا أمرهم اللّه تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.وأما في المدينة حيث قويت شوكة المسلمين لمّا آمن أهل المدينة فكثر عددهم وعدتهم مع عدم سيطرة من الكفار عليهم فكان في الجهاد مصلحة فلذلك أذن اللّه تعالى لهم بالجهاد فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}(1).

لكن هؤلاء الذين كانوا يستأذنون في الجهاد في مكة شقّ عليهم الإذن فيه في المدينة، كدأب كثير من الناس حيث يحرّضون الآخرين على الإقدام من غير تفكير في الجوانب المختلفة، فلمّا أن أقدموا تخاذل المحرّضون، كما في قضية بني إسرائيل من بعد موسى لمّا سيطر عليهم الأعداء فطلبوا تعيين ملك لهم ليقاتلوا في سبيل اللّه وقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، فلما كتب عليهم القتال تولى أكثرهم! وحتى الأقل سقط أكثرهم في امتحان الشرب من النهر!

وقوله: {كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} أي أمسكوا عن القتال وعن كل ما يؤدي إليه، ومن ذلك استفزاز المشركين بألسنتكم، فإنّ الحرب أولها كلام، فما ورد في الروايات(2) من أنه كف الألسن إنما هو بيان لمصداق من مصاديق

ص: 300


1- سورة الحج، الآية: 39.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 171 عن الكافي.

الكف، كما أنّ هذه الآية تجري في الأئمة (عليهم السلام) ، أي كما تجب إطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمره بالكفّ كذلك تجب إطاعة الإمام في أمره بالكف، كما كف الإمام الحسن (عليه السلام) لمّا لم تكن مصلحة في قتال معاوية، فلما كانت المصلحة في القتال خرج الإمام الحسين (عليه السلام) فإذا نفس الذيناعترضوا على كف الإمام الحسن (عليه السلام) خذلوا الإمام الحسين (عليه السلام) ، فالآية شأن نزولها المسلمون في مكة والمدينة في طاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجرت في الأئمة (عليهم السلام) وطاعتهم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «واللّه للذي صنعه الحسن بن علي‘ كان خيراً لهذا الأمة مما طلعت عليه الشمس، فواللّه لقد نزلت هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ} إنما هي طاعة الإمام، وطلبوا القتال {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} مع الحسين (عليه السلام) {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ} [وقوله:] {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}(1)

أرادوا تأخير ذلك إلى القائم (عليه السلام) (2)».

وقوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} أي بعضهم، أما البعض الآخر فاستجاب للّه ولرسوله من غير اعتراض ولا تسويف، ويدل ذلك على أنّ الذين كانوا يستأذنون لأجل القتال في مكة لم يكن طلب كلّهم بسبب الانفعالات النفسانية والأهواء، بل بعضهم كان طلبه من منطلق ديني، ولا تنافي بين الطاعة المطلقة للّه وللرسول وبين بيان الاستعداد لتنفيذ الأمر بالقتال لو تمّ

ص: 301


1- سورة إبراهيم، الآية: 44.
2- الكافي 8: 330.

تشريعه، كما لا تنافي بينها وبين الاستعطاف، فلعلّ اللّه يأمرهم بالأمر الشاق مراعاة لهم، فيأتون ويترجون الإذن لهم، كما توسّل بعض شهداء كربلاء بالإمام الحسين (عليه السلام) كي يأذن لهم لمّا امتنع (عليه السلام) عن الإذن لهم بالقتال، فإن عدم الإذن كان مراعاة لهم وشفقة عليهم فتوسلوا ليأذن لينالوا الكرامةبالدفاع عنه (عليه السلام) ، فهم على كل حال مطيعون، سواء أذن أم لم يأذن، نظير الدعاء لتغيير القضاء الذي لا ينافي الرضا بقضاء اللّه تعالى.

وقوله: {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} أي هؤلاء مؤمنون ضعاف الإيمان، لذلك يخشون اللّه تعالى فلا يريدون مخالفة أحكامة، وفي الوقت نفسه يخشون سطوة الكفار، فلا يريدون قتالهم، فتارة كلتا الخشيتين متساويتان فيتحيّرون في ترجيح إحداهما على الأخرى، وتارة خشية الناس أقوى فلدى التزاحم يخالفون اللّه تعالى رغبة في متاع الدنيا! وهؤلاء وأمثالهم يحاولون التوفيق بين الأحكام وبين الأهواء، والطريق عندهم منحصر في تغيير الحكم، وحينئذٍ فهو تمتع برغباته ولم يخالف أمراً للّه تعالى! وهذا ما يشاهد كثيراً في بعض من يحبون الدين ويلتزمون به، لكنهم يحبون الدنيا ومتاعها كحبهم للدين أو أشد حباً، فكلما وجد تعارضاً بحث عن مخرج شرعي يضمن له تمتعه مع عدم مخالفته! فلذا نجد بعضهم يأتي ويناقش العلماء مع أنه ليس بعالم لعلّه يجد مخرجاً! أما المؤمن الحق الذي استمكن الإيمان من قلبه فهذا يجعل الطاعة أصلاً، فإن وافقت رغباته فقد آتاه اللّه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وإن عارضت رجحّ الطاعة ولم يؤثر الحياة الدنيا!

وقيل: {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} في أن يميتهم، فهم يعلمون بأن مصيرهم الموت

ص: 302

لا محالة، فكما يخافون القتل بيد الكفار كذلك يخافون الموت بقضاء اللّه تعالى، لكن خوفهم من القتل أكثر من خوفهم من الموت وذلك لقوة احتماله حين القتال وللرعب الذي فيه!

لكن ما ذكرناه في معنى الآية أقرب، أي كما يخافون الناس كذلكيخافون اللّه تعالى، وذلك لإيمانهم على ضعف.

وقوله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا} قرينة على عدم نفاقهم، فهم يعلمون بأنّ اللّه أمرهم بالجهاد، لكن حيث كان في إيمانهم ضعف لذلك يضمرون أو يظهرون الانزعاج من الحكم بالجهاد، كما مرّ في قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(1).

وقوله: {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ} أي وقت آخر ولو كان قريباً، وذلك تسويفاً منهم، فإنّ من لا يرغب في عمل ولكنه في الوقت نفسه يراه ضرورياً أو يعلم بأنه لا مناص منه، فإنّه يحاول التأجيل والتسويف، مع أنّ ذلك لا ينفعه غالباً، وليس معنى {أَجَلٖ قَرِيبٖ} الموت، بل بقرينة قولهم: {أَخَّرْتَنَا} يريدون التأجيل ولو لحين، عسى أن يتمتعوا أكثر بالحياة الدنيا، أو عساهم يتمكنون من التأجيل بعد التأجيل إلى أن يستوفوا حظهم من الحياة الدنيا!

وقيل: كانوا يتعذرون بعدم الاستعداد ويطلبون التأجيل كي يستعدوا، لكن لم يكن ذلك إلاّ فراراً، نظير قوله: {وَيَسْتَْٔذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ

ص: 303


1- سورة النساء، الآية: 65.

إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}(1)، وقال: {إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}(2).

الثالث: قوله تعالى: {قُلْ مَتَٰعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْأخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ...} الآية.

هذا جواب عن طلبهم تأجيل الجهاد بأن يقال لهم: لا وجه لخشيتكم من الكفار، فإنما تخشون لأجل التمتع بالحياة الدنيا، ولكن لا قيمة لمتاعها فهو قليل كماً وكيفاً ومدةً، مع أنّ خشية اللّه بإطاعته خير لكم، حيث إنّ ثوابه عظيم لا انقطاع له، ولا تخافوا من عدم نيلكم ثواب الآخرة لو أطعتم اللّه تعالى، فإنه سبحانه لا يبخس أحداً حقه، وما دامه قد وعد بالثواب فإنه يفي بوعده لمن وفى للّه بشروطه.

وقوله: {مَتَٰعُ الدُّنْيَا} أي ما يتمتع به من حياة ومال وأهل ونحو ذلك.

وقوله: {قَلِيلٌ} في نفسه وفي قياسه مع ثواب الآخرة، فلا ينبغي لكم خشية الناس لأجله.

وقوله: {لِّمَنِ اتَّقَىٰ} أي حفظ نفسه من العصيان، وذلك بأن يخشى اللّه تعالى فيطيعه.

وقوله: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أي حقكم في الآخرة لا تُبخسوه ولا تُنقصوه، فإنّ من الظلم نقصان الحق - بعضه أو كلّه - ، وقد مرّ أنه ليس لأحد حق على اللّه تعالى، وحتى الثواب هو فضل من اللّه تعالى، ولكن

ص: 304


1- سورة الأحزاب، الآية: 13.
2- سورة التوبة، الآية: 45.

حيث وعد اللّه بذلك الثواب صار حقاً عليه، وعدم الوفاء بالوعد ظلم؛ لأنه منع لصاحب الحق عن حقه، فالمقصود بيان أنّ اللّه يوفي بوعده إن أطعتموه ولم تخشوا الناس ولا يظلمكم ولو بمقدار الخيط في شق النواة.

الرابع: قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ...} الآية.حث آخر على الإطاعة، ببيان أنّ تسويفهم للجهاد لا ينفعهم في دفع الموت عنهم، فحتى لو ذهبوا في أكثر الأماكن أماناً لهم فإن الموت يلاقيهم، كما قال في آية أخرى: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ}(1)، وقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

و(البروج) الحصون أو البناء الذي على الحصون.

و(المشيدة) أي المرفوعة من (الشَيد) بمعنى الرفع، قال تعالى: {وَقَصْرٖ مَّشِيدٍ}(3)، ويقال للجص: شِيد لأنّ البناء يرفع به، فالبروج المشيدة هي الحصون والقلاع المرتفعة التي لا تصلها أيدي الأعداء، لكنها لا تنفع في دفع الموت، قال الإمام الهادي (عليه السلام) للمتوكل:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم *** غُلب الرجال فلم تنفعهم القللُ

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم *** وأسكنوا حُفراً يا بئسما نزلوا(4)

ص: 305


1- سورة آل عمران، الآية: 154.
2- سورة الجمعة، الآية: 8.
3- سورة الحج، الآية: 45.
4- بحار الأنوار 50: 211.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ...} الآية.

بيان لضعف إيمانهم وتحذير منه وجواب لشُبهتهم، فالمؤمن الحقيقي يعلم بأنّ كل شيء بقضاء اللّه وقدره سواء كان خيراً أم شراً، ويعلم بأنّالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منفّذ لأمر اللّه تعالى ولا يقول شيئاً ولا يصدر أمراً إلاّ بوحي من اللّه تعالى، فلذا يسلّم للّه في قضائه وقدره ولا يلوم الرسول في نازلة نزلت به.

أما ضعاف الإيمان فإنما إيمانهم على طرف وفي الرخاء، فإن أصابتهم شدة جزعوا كما قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1).

وحيث إنهم يعتقدون باللّه ينسبون إليه ما أصابهم من نعمة، ولكن حيث لا يعرفونه ولا يعرفون رسوله فلذا ينسبون ما أصابهم من السيئات إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ! مع أنّ الذي يعرف اللّه تعالى يعلم بأن الكون أجمع في قبضته وما من شيء يحدث في الكون إلا بقضاء من اللّه وقدره، لكن مشكلة هؤلاء عدم فهمهم، حيث ينظرون إلى الأمور نظرة نفعية بحتة، فما كان في نفعهم اعتبروه من اللّه وما كان بضررهم لم يعتبروه منه سبحانه، كما لا يفهمون أنّ اللّه لا يختار لرسالته إلاّ من اصطفاه فهو معصوم ولا يأمر ولا ينهى عن شيء إلا بوحي اللّه تعالى، فمن جهلهم توهمهم الشؤم أو سوء التدبير في أوامر الرسول ونواهيه، مع أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين وخير ويُمن

ص: 306


1- سورة الحج، الآية: 11.

للناس أجمعين.

ويمكن أن يكون قولهم {هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ} تبجحاً وغروراً لبيان أنهم أحباء اللّه تعالى فلذا أنعم عليهم، كما قال: {فَأَمَّا الْإِنسَٰنُ إِذَا مَا ابْتَلَىٰهُ رَبُّهُۥفَأَكْرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}(1).

وقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ...} كقوم فرعون حيث قال اللّه تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥ}(2)، وهذا دأب الجهلة حيث يغفلون عن الأسباب الواقعية ويبحثون عمّن يتهموه بأنه سبب الشر الذي أصابهم!

وقوله: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي بقضائه وقدره، فلا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بسبب من اللّه تعالى، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر»(3) وذلك لأنّ القدرة للّه جميعاً والعالم بأجمعه ملكه وفي سلطانه، فلا يعقل تحقق شيء في الكون خارجاً عن حكمه التكويني، فمن زعم أنه استقل في أموره وأن لا دخل للّه في بعض أمور الكون فقد أشرك باللّه تعالى، لكن القضاء والقدر لا ينافيان اختيار الإنسان كما سيأتي.

وقوله: {فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ...} تقريع شديد لهم على اتهامهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنّ المصائب منه، فليس سبب ذلك إلا جهلهم وعدم فهمهم للقرآن الكريم، وسيأتي في الآية 82 الأمر بالتدبر فيه ليفقهوا ما بيّنه اللّه

ص: 307


1- سورة الفجر، الآية: 15.
2- سورة الأعراف، الآية: 131.
3- الكافي 1: 149؛ راجع شرح المؤلف على أصول الكافي 2: 467.

تعالى فتزداد معرفتهم باللّه وبالرسول.

السادس: قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٖ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنسَيِّئَةٖ فَمِن نَّفْسِكَ...} الآية.

بعد أن بيّن اللّه تعالى أنّ كل شيء - بخيره وشره - بقضاء وقدر من اللّه تعالى، يبيّن في هذه الآية أنه قد يكون للإنسان دخل في ذلك، بمعنى أنّ اللّه قد يقدّر ويقضي بالخير لمن آمن وعمل صالحاً بحسن اختياره بالنعيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وقد يقدر ويقضي بالشرّ لمن كفر وعصى بسوء اختياره بالمصائب في الدنيا والعقاب في الآخرة، فليس القضاء والقدر مما يسلب الإنسان اختياره، بل اختيار الإنسان من حكم اللّه تعالى التكويني، حيث خلق الإنسان مختاراً وأقدره على الأعمال - إن خيراً أم شراً - ، فكل ما يفعله الإنسان إنما يفعله بقضاء من اللّه وقدره مع كونه مختاراً في فعله.

والحاصل أنّ الآية السابقة بينت أنّ كل شيء من عند اللّه بقضائه وقدره، وهذه الآية تبيّن أنّ اللّه تعالى أراد أن يكون لاختيار الإنسان دخل في قضائه وقدره.

وقوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٖ فَمِنَ اللَّهِ} أي لم يكن الإنسان يستحق شيئاً من النِعم، ولكن اللّه تعالى بفضله خلق الإنسان وغمره بالنِعم التي لا تعدّ ولا تُحصى، وأحياناً يزيده اللّه نعمة إن أحسن وليس إحسانه سبباً لاستحقاقه للنعمة الزائدة إلاّ أن اللّه يتفضل عليه بها، قال سبحانه: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٖ فَمِنَ اللَّهِ}(1).

ص: 308


1- سورة النحل، الآية: 53.

وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفْسِكَ} أي أنّ اللّه تعالى لا يقدّر السيئة إلاّ لو كان الإنسان بنفسه السبب لها، قال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِيالْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(1)،

وقال: {وَمَا أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٖ}(2).

والحاصل أنّ الحسنات جميعاً بفضل من اللّه تعالى حتى لو كانت مجازاة لأعماله الصالحة، وأما السيئات فكلها بسبب أفعال الناس مجازاة لهم على بعض سيئاتهم مع العفو عن كثير منها، ولولا العفو عن الكثير لما بقيت الحياة كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٖ}(3).

سبب ابتلاء الأنبياء والصالحين

سؤال: كثيراً ما نشاهد ابتلاء الأنبياء والأوصياء والصالحين بالمصائب ونحن نعلم بأنهم ليسوا السبب فيها، كإصابة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بجروح في غزوة أحد مع أنه أطاع اللّه في كل شيء!

والجواب: أنّ البلايا قد لا تكون سيئات إذا كانت لرفع الدرجات وزيادة الحسنات أو كفارة عن الذنوب أو للتمحيص، فكل ذلك يجعل الأمر حسناً حتى لو تصوره الإنسان سيئاً، هذا أولاً.

وثانياً: إذا لوحظ مجموع الناس فكل ما يصيبهم من السيئات فهو بسبب أفعالهم، حتى لو لم يكن للذي أصابته السيئة دخل في تلك الأفعال كما قال

ص: 309


1- سورة الروم، الآية: 41.
2- سورة الشورى، الآية: 30.
3- سورة فاطر، الآية: 45.

تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}(1).السابع: قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}.

هذا لتنزيه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن زعمهم الباطل بأنه سبب ما أصابهم من سيئات، فالرسول هو واسطة فيض اللّه تعالى، فلذا هو رحمة للعالمين، كما أنه ينفذ أوامر اللّه تعالى فلا سوء في تدبيره، بل الأضرار تصيبهم بمخالفتهم إياه كما حدث في غزوة أحد، حيث أخلوا مواقعهم وانهزموا فأصيبوا بمكروه قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَٰبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}(2).

والحاصل أنت رسول اللّه فلا شأن لك فيما أصابهم بسوء أعمالهم ولا بد لهم أن يطيعوك في كل شيء.

وقوله: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي شاهداً على رسالتك، وذلك عبر إجراء المعجزات على يديك وتأييدك بكتابه المنزل الناطق بالصدق فلا حاجة مع ذلك إلى برهان آخر.

ص: 310


1- سورة الأنفال، الآية: 25.
2- سورة آل عمران، الآية: 165-166.

الآيات 80-83

اشارة

{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا 80 وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا 81 أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا 82 وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا 83}

ثم يؤكد اللّه تعالى أنّ السيئات ليست من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأنه رسول من اللّه تعالى في كل ما يقول، فهو منشأ للخير، فقال:

80- {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ} في أوامره ونواهيه {فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} لأنه سبحانه أمر بطاعته ولأنّ الرسول مبلّغ عن اللّه فلا ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى إليه، فالآمر والناهي حقيقة هو اللّه تعالى.

{وَمَن تَوَلَّىٰ} أعرض فلم يُطع الرسول {فَ} لا تذهب نفسك عليهم حسرات ولا تهتم بهم، إذ {مَا أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظهم عن المخالفة، بل أرسلناك نذيراً وبشيراً.

81- ومن صفات هؤلاء الضعاف الإيمان أنهم قد لا يطيعون حتى لو

ص: 311

وعدوا بها {وَيَقُولُونَ}: شأننا {طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ} خرجوا {مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ} قررّوا في الخفاء، والتبييت تدبير الأمر ليلاً، وهنا كناية عن الخفاء{طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ} لا كلّهم {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أنت لهم، أو غير الذي تقول تلك الطائفة لك، {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} في سجل أعمالهم ليحاسبهم ويعاقبهم، وهذا تهديد لهم، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تؤاخذهم ولا تهتم بهم، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فهو الذي ينصرك {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} معتمداً عليه فيُنجز أمورك ويحفظك ويكفيك شرهم.

82- ثم إنّ مشكلة هؤلاء التي صارت سبباً لضعف إيمانهم وعدم طاعتهم هي عدم فهمهم لكلام اللّه وكلام الرسول، فيعظهم اللّه تعالى بالتدبر في القرآن وبالرجوع إلى كلام الرسول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} الاستفهام للحث والتحضيض، والتدبر: تأمل المعاني، ولو تدبروا لعلموا أنه الحق وأنه كلام اللّه وأنّ الرسول من عند اللّه، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا} مع أنهم لا يجدون في القرآن حتى اختلافاً واحداً، أما البشر فإنهم معرضون لتغير الفكر والرؤية والأسلوب وللخطأ والغلط والتناقض، فلا يخلو كتاب كتب في سنوات طوال وتناول مختلف المواضيع من اختلاف كثير، إلاّ القرآن، وهذا دليل على كونه من عند اللّه تعالى.

83- ولو رجعوا إلى الرسول في القضايا التي لم تذكر في القرآن لوجدوا صدقه، {وَ} لكن دأب هؤلاء أنه {إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ} خبر {مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} ما يوجب شعور الناس بالأمن أو الخوف {أَذَاعُواْ بِهِ} أشاعوه من غير علم بصدقه أو كذبه، {وَلَوْ رَدُّوهُ} أرجعوه بمعنى استفسروا عنه {إِلَى

ص: 312

الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} وهم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) {لَعَلِمَهُ} علم صدقه من كذبه، وعلم الصالح للنشر وغير الصالح منه {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُۥ} يستخرجون وجه الصواب عن غيره وهؤلاء المستنبطون همالذين جاءهم أمر من الأمن أو الخوف، وإنّما يستنبطون {مِنْهُمْ} من الرسول وأولي الأمر، أي من كلامهم، وبصواب قراراتهم يعلمون صدقهم ووجوب طاعتهم. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ} في عدم الطاعة بسبب عدم التدبر والإذاعة، وقوله:{إِلَّا قَلِيلًا} استثناء منقطع، والمعنى أنّ فضل اللّه ورحمته شملت القليل من هذه الجماعة الضعيفة الإيمان فلم يتبعوا الشيطان، أما أكثرهم فاتبعوه حيث قطع اللّه عنهم فضله ورحمته لسوء اختيارهم فدخلوا في زمرة المنافقين.

بحوث

الأول: هذه الآيات تكملة لبيان حالات هذا الصنف الثالث - وهم ضعاف الإيمان - يراد بها حثّهم على تقوية إيمانهم؛ لئلا ينحدروا إلى النفاق، فإنّ أمر هؤلاء بين الإيمان والنفاق، فإن أصلحوا أنفسهم رفعوها إلى درجة الإيمان، وإن غفلوا عنها واتبعوا الشيطان سقطوا في براثن النفاق...

فأولاً: يأمرهم اللّه تعالى بطاعته وطاعة رسوله، ويحذرهم من أنّ وبال عدم طاعتهما يرجع إليهم؛ لأنه ليس من مهمة الرسول أن يكون حفيظاً عليهم.

وثانياً: يحذرهم عن عدم الطاعة بأنّ اللّه يكتب أعمالهم حتى وإن أظهروا الطاعة باللسان، ويحذرهم بأن الرسول لا يحتاج إليهم بل اللّه كفيله.

ص: 313

وثالثاً: يحثهم على طاعة اللّه، ببيان أنّ القرآن من عند اللّه تعالى ويظهر ذلك لهم بالتدبر.

ورابعاً: يحثهم على طاعة الرسول وأولي الأمر، ببيان علمهم بالأموروبالأصلح، ويظهر ذلك لهؤلاء بإرجاع قضايا الأمن والخوف إليهم حيث سيعلمون حُسن تدبيرهم، مما يقتضي إطاعتهم.

وخامساً: يبيّن أنّ فضل اللّه تعالى ورحمته صارتا سبباً لنجاة القليل منهم، وأما أكثر هؤلاء - الضعاف الإيمان - حيث رفضوا فضل اللّه ورحمته فلذلك اتبعوا الشيطان فسقطوا في النفاق!

الثاني: قوله تعالى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...} الآية.

هذا كالتتمة للآيات السابقة، حيث زعم هؤلاء أنّ إصابة السيئة بسبب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فيقال لهم بأنه لا يقول شيئاً من عند نفسه، بل كل ما عنده فهو من اللّه، فكل أمر يأمر به إنما هو أمر اللّه، وكل نهي ينهى عنه فإنما هو نهي اللّه، فهو المبلّغ لرسالات اللّه تعالى، وعليه فطاعة الرسول هي إطاعة للّه تعالى فلا تكون سبباً للشرّ، بل هي سبب للخير الدائم، مضافاً إلى أنّ اللّه تعالى هو الذي أرسله وأمر بطاعته، فمن لم يطعه فقد عصى اللّه في الأمر بطاعته، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ الْقُوَىٰ}(1).

وقوله: {فَمَا أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي الحافظ لأعمالهم عن الانحراف وقلوبهم عن الزيغ، فقد شاء اللّه اختيار الإنسان؛ فلذا لم يقهر تكويناً أحداً

ص: 314


1- سورة النجم، الآية: 3-5.

على الإيمان، ولم يجعل هذه السلطة لرسوله، بمعنى أنّ اللّه ورسوله لا يتصرفان تكوينياً لإيمان الناس وصحة عملهم، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْمُؤْمِنِينَ}(1)، وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(2)، وليس معنى هذا عدم إجراء الحدود والتعزيرات وعدم إجبار الناس على مراعاة القوانين، فإن ذلك من مقتضيات الحكومة ولولاه لدبّ الهرج والمرج، بل معنى ذلك أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس مسؤولاً عن أعمالهم ولا يكرههم على الإيمان والعمل الصالح، ولذا كان في المدينة منافقون، ومع علم الرسول بهم كان يعرض عنهم ولا يحاسبهم على نفاقهم.

ولا يخفى أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمر بإطاعة الأئمة (عليهم السلام) ، فإطاعتهم إطاعة للرسول، وإطاعة الرسول إطاعة للّه، فإطاعة الأئمة إطاعة للّه.

الثالث: قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ...} الآية.

تهديد لهم على عدم إطاعتهم، ببيان أنّ هؤلاء الضعاف الإيمان لا يجرؤون على إظهار المعصية، أو أنهم يحبون الطاعة فلمّا تعرض عليهم يقبلونها، لكن لمّا يجدون صعوبة فيها يتحيّرون بين تركها لمتاع الدنيا وبين فعلها لثواب الآخرة، فهم لضعف إيمانهم مذبذبون، ولذا قسم منهم يغلب الإيمان عليه فلا ينوي المعصية، وقسم منهم يغلب الكفر عليه فيضمر المعصية، واللّه تعالى لتقوية جانب الإيمان فيهم يذكّرهم بأنه يكتب ما

ص: 315


1- سورة يونس، الآية: 99.
2- سورة الغاشية، الآية: 21-22.

يقولون كتابةً تستتبع محاسبة ثم ثواباً أو عقاباً.

ثم يسلّي اللّه رسوله ويأمره بالإعراض عنهم، وذلك لاختلاف الطائفتين وعدم التمييز بينهما ظاهراً، وعدم ضررهم على الرسول وعلى الإسلام، فاللّهتعالى يؤيد رسوله بما يشاء وكفى به ناصراً ومعيناً.

قوله: {طَاعَةٌ} خبر لمبتدأ محذوف أي شأننا طاعة، أو نحن طاعة أي مطيعون فجعل المصدر مكان اسم الفاعل مبالغة.

وقوله: {فَإِذَا بَرَزُواْ...} قرينة على أنّ هؤلاء ليسوا منافقين، بل ضعاف الإيمان، فإن المنافق من الأول يقول بلسانه ما لا يريد تطبيقه، أما هؤلاء فيقولون شيئاً ثم لما يخرجون يفكرون في مشقة الأمر فينقسمون إلى طائفتين.

وقوله: {بَيَّتَ} من التبييت هو تدبير الأمر في البيات أي الليل، والمراد هنا الكناية عن تغيير رأيهم بالخفاء فكأنه قرار اتخذوه في ظلام الليل.

وقوله: {طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ} بيان لانقسامهم قسمين، فبعضهم يضمر المخالفة، والبعض يغلبه الإيمان فيستمر في قصده الطاعة.

وقوله: {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أي تقول أنت يا رسول اللّه من الأوامر والزواجر، أو ما تقول تلك الطائفة من الطاعة.

وقوله: {يَكْتُبُ} أي يأمر الحفظة بكتابة ما يضرمون فضلاً عن أقوالهم وأفعالهم، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ * كِرَامًا كَٰتِبِينَ}(1)، وقال: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2)، وقال: {وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا

ص: 316


1- سورة الانفطار، الآية: 10-11.
2- سورة الجاثية، الآية: 29.

الْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَىٰهَا}(1).

وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لا تهتم به فلا يضروك شيئاً، وقيل: لا تؤاخذهم بأعمالهم كيلا تنشق صفوف المسلمين، فإنهم إن ظهرت خباياهمشقوّا الصفوف وتمردوا، والفاء للتفريع، أي حيث علمت بأنّ اللّه سبحانه يكتب ما يبيتون، فأعرض عنهم لعدم حاجتك لنصرهم، بل توكل على اللّه فهو ناصرك كما قال: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}(2).

وقوله: {وَكِيلًا} الوكيل هو الذي يتولى الأمر بدلاً عن الشخص، والمعنى اعتمد على اللّه؛ لأنه يتولى أمرك وينصرك.

عدم اختلاف القرآن

الرابع: قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ...} الآية.

هذه الآية والآية التي بعدها كأنّهما لتفنيد سبب ضعف إيمانهم وعدم طاعتهم، فقد يكون سبب عدم طاعتهم للّه تعالى هو ترددهم وريبهم في كون القرآن من عند اللّه تعالى، وقد يكون سبب عدم طاعتهم الرسول ومن بعده أولي الأمر هو عدم الإذعان بصحة أوامرهم ونواهيهم، ولتقوية إيمانهم يؤمرون بالتدبر في القرآن ليعلموا أنه من اللّه تعالى، ويُنبّهون على صحة قرارات الرسول وأولي الأمر لمّا يدققون فيها، وذلك يكون سبباً لزوال ريبهم مما ينتج إطاعة اللّه والرسول وأولي الأمر.

وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} استفهام للتحضيض والحث، و(التدبر) هو

ص: 317


1- سورة الكهف، الآية: 49.
2- سورة التوبة، الآية: 40.

التأمل في عواقب الأمور ثم استعمل في كل تأمل، وتدبر القرآن: تأمل معانيه كذا في الكشّاف(1)، وفرقه عن التفكر هو أنّ التدبر النظر في العواقب، والتفكرهو النظر في الدلائل كذا في مجمع البيان(2).

والحاصل أنّ عليهم أن يتأملوا في القرآن ليعلموا أنه إعجاز وأنه كلام اللّه تعالى، وفي الآية دلالة على حجية ظاهر القرآن لكل أحد وأنه قد يسّره اللّه للفهم وأنه بالتأمل فيه يظهر وجه إعجازه لكل أحد، حتى ضعاف الإيمان الذين هم شأن نزول الآية، وأما من لا يتدبر فيرتاب فلا يطيع، وهذا تكون الحجة تامةً عليه؛ لأنه أغلق قلبه بسوء اختياره قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(3).

وقوله: {لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَٰفًا كَثِيرًا} وذلك لأنّ الإنسان في تغيّر مستمر فيتطوّر وتنكشف له حقائق كانت غائبة عنه وتزداد تجاربه بمرور الزمن، فلذا يختلف فكره وقوله وعمله باستمرار، لكن من يتدبر في القرآن لا يجد فيه اختلافاً واحداً فضلاً عن الكثير، لا في فصاحته، ولا في معانيه، ولا في مخالفته للواقع، ولا أي نوع اختلاف آخر، مع أنه نزل في مدة ثلاثة وعشرين عاماً، وفي ظروف متفاوتة بشدة من سلطة المشركين إلى سلطة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وفي السلم والحرب، والفقر والغنى وغير ذلك، وتناول مختلف المواضيع من المظاهر الكونية، إلى خلق الإنسان والحيوان والنبات، وإلى التشريعات المختلفة، وإلى الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية

ص: 318


1- الكشّاف 1: 284.
2- مجمع البيان 3: 250.
3- سورة محمد، الآية: 24.

والأخلاقية والفقهيّة وغير ذلك، مع كل ذلك لا نرى فيه اختلافاً واحداً! فهذا دليل على أنه ليس كلام البشر، بل هو من الخالق القادر العالم بكل الأمور.سؤال: كلام المعصومين (عليهم السلام) أيضاً لا اختلاف فيه؟

والجواب: أنّ سبب عدم اختلاف كلامهم إنما هو لأنّ اللّه تعالى عصمهم، فكلام الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحي من اللّه، وكلام الأئمة مأخوذ من كلام الرسول، فبالنتيجة كان كلامهم من عند اللّه تعالى، فلذا لا اختلاف فيه أيضاً.

سؤال: هناك نسخ للأحكام وتدرج فيها، فبعض الآيات نسخت وبعض الأحكام تغيّرت بزيادة أو نقيصة!

والجواب: أنّ النسخ ليس اختلافاً، بل بيان انتهاء أمد الحكم، فالحكم كان موقتاً بوقت انتهى بانتهاء وقته، كما أنّ التدرج ليس اختلافاً، بل هو مراعاة الظروف في التشريع المتدرّج.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ}.

بيان سبب عدم إطاعتهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهو أنهم لا يذعنون بصواب قراراته، فلذا يتصرفون هم بحسب ما يرونه في الأمور الهامة فيقال لهم: حتى تعلموا صواب قرارته مما يسوقكم إلى طاعته، فعليكم أن ترجعوا إليه في الأخبار الهامة وحينذاك ستعلمون صحة قراراته وحكمتها.

وفي الوقت نفسه الآية ترشد المؤمنين إلى عدم بث الإشاعات وعدم نقل الأخبار في الأمور الهامة بمجرد سماعها مع عدم التبيّن في صحتها وخطئها، فلعلّ الذي جاء بها فاسق، أو هي أخبار يبثّها الكفار والأعداء

ص: 319

لتضعيف الإسلام والمسلمين أو ليجدوا فيهم غِرة للقضاء عليهم.

وقوله: {جَاءَهُمْ أَمْرٌ} أي سمعوا خبراً.

وقوله: {الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} أي ما يوجب الأمن كخبر انهزام المشركين أو تشتت كلمتهم، أو ما يوجب الخوف كخبر قوة المشركين وعددهم وعدتهم.

وقوله: {أَذَاعُواْ بِهِ} أي أفشوه ونشروه، والباء في {بِهِ} سببيّة لا للتعدية، إذ لا تجتمع التعدية بالهمزة والباء في كلمة واحدة، ومفعول أذاعوا محذوف لقرينة الكلام عليه، ولعل المقصود أذاعوا الأمن والخوف بين الناس بسبب ذلك الخبر.

السادس: قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ...} الآية.

أي لو تريثّوا في الأخبار التي يسمعونها ولم يفشوها، بل أرجعوها إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإلى الأئمة حينذاك يبيّن الرسول والأئمة الصدق من الكذب، والصالح للإذاعة من غير الصالح، وهؤلاء الضعاف الإيمان حينما يدققون في كلام الرسول والأئمة يعلمون صدقه، أما لو لم يدققوا في كلامهم فيكون حالهم كما لو لم يتدبروا القرآن.

والحاصل أنّ اللّه تعالى كما أمر بالتدبر في القرآن، كذلك أمر بالاستنباط في كلام الرسول والأئمة، ومن هذا يتبيّن أنّ المراد من {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُۥ} نفس الذين يذيعون، فالمعنى أنّ هؤلاء يذيعون، لكن لو أرجعوه إلى الرسول والأئمة فإن استنبطوا من كلامهم علموا وجه الصواب،

ص: 320

وإن لم يستنبطوا لم يعلموا.وقوله: {وَإِلَىٰ أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} هؤلاء هم نفس المذكورين في الآية 59 الذين أمر اللّه بطاعتهم، وسبب وجوب طاعتهم هو صحة كلامهم دائماً، وذلك يتبيّن للإنسان بالدقة في كلامهم.

سؤال: لماذا لم يذكر الرد إلى اللّه تعالى وخص الردّ بالرسول وأولي الأمر مع أنه في الآية 59 أمر بالرد إلى اللّه وإلى الرسول ولم يذكر الردّ إلى أولي الأمر؟

والجواب: يتضح مما سبق، وهو أنّ تلك الآية كانت في التشريع، وهو خاص باللّه وبالرسول، فليس الأئمة مشرعين، وإنما كلامهم في الأحكام يرجع إلى حكم اللّه وحكم الرسول، وأما هذه الآية فهي في القرارات الإدارية والحوادث الواقعة، وهي في العادة لم تذكر في القرآن الكريم، وإنما هي قرارات يتخذها الرسول والأئمة، وحيث هي غير مذكورة في القرآن فلا معنى لذكر ردّها إلى اللّه تعالى، وهي قرارات كما يتخذها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حياته، كذلك يتخذها الأئمة (عليهم السلام) من بعده.

وقوله: {لَعَلِمَهُ} أي علم وجه الصواب عن الخطأ، والصالح للإذاعة من غير الصالح، والضمير راجع إلى {أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ}.

وقوله: {الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ} أي هؤلاء ضعاف الإيمان حينما يرجعون إلى الرسول والأئمة ويستمعون إلى كلامهم ينقسمون إلى قسمين: فبعضهم يدققون في كلامهم ويتبيّن لهم وجه صواب كلامهم، والبعض الآخر لا يدقق فلا يفهم، فالذين يستنبطون من كلام الرسول والأئمة هم

ص: 321

هؤلاء المدققون، وضمير {مِنْهُمْ} إلى الرسول وأولي الأمر، أي منكلامهم (عليهم السلام) .

و(الاستنباط) هو استخراج النَبَط، وهو الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، وهكذا كلام الرسول والأئمة من يستمع إليه لا بد له من التدقيق فيه حتى يعرف الحق فيه، كما أنّ القرآن لا بد من التدبر فيه، ولولا تدبر القرآن واستنباط كلام الرسول والأئمة لما وصل الإنسان إلى وجه الصواب فيهما.

وللآية تأويل، وهو أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) يستنبطون وجه الصواب، أي لمّا يرجع إليهم في الأخبار - بما حباهم اللّه من العلم - يعرفون الحق من الباطل، وعليه لم يقل: (لعلموه) وذلك لبيان سبب علمهم وهو استنباطهم من القرآن الكريم، فما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه الآية: «يعني آل محمد، وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام»(1) تأويل للآية على الأظهر، واللّه العالم.

السابع: قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا}.

بيان أنّ من ينجون من هؤلاء الضعاف الإيمان إنما ينجون بفضل اللّه ورحمته عليهم حيث وفقهم لتدبر القرآن واستنباط كلام الرسول والأئمة (عليهم السلام) ، وبذلك يقوى إيمانهم وتكمل طاعتهم، لكن هؤلاء أقلية منهم، أما الأكثر فلا يوفقون لا للتدبر ولا للاستنباط بسبب سوء اختيارهم وإقفالهم قلوبهم.

ص: 322


1- تفسير العياشي 1: 260؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 179.

وقوله: {فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ} من أعظم فضله ورحمتهالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام) وولاية الأئمة (عليهم السلام) ، وبذلك وردّت بعض الروايات(1).

وقوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَٰنَ} بيان أنّ الإذاعة وعدم الرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر هو اتباع للشيطان، وهو الموجب للدخول في النفاق أو الكفر بالارتداد.

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} استثناء منقطع، فالمعنى: من دون فضل اللّه ورحمته أنتم اتباع الشيطان غير أنّ القليل شملهم الفضل والرحمة من اللّه، فليسوا اتباعاً للشيطان! وليس الاستثناء متصلاً حتى يتوهم أنّ القليل لا يتبع الشيطان من غير فضل اللّه ورحمته! فذلك باطل قطعاً، إذ لا أحد ينجو من غير فضله ورحمته سبحانه وتعالى، كما أنّ من خلاف الظاهر إرجاع الاستثناء إلى الإذاعة، واللّه العاصم.

ص: 323


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 181-182.

الآيات 84-87

اشارة

{فَقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا 84 مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُۥ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ مُّقِيتًا 85 وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا 86 اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا 87}

ثم بعد ذكر الطوائف الثلاث - من أهل الكتاب والمنافقين وضعاف الإيمان - عطف الخطاب إلى الرسول والمؤمنين، فقال اللّه تعالى:

84- لا تهتم يا رسول اللّه بعدم طاعة المنافقين وضعاف الإيمان وتثبيطهم عن الجهاد، {فَقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لرفع كلمة اللّه في الأرض {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} فأنت لست مسؤولاً عن الآخرين إلا بمقدار التبليغ، {وَحَرِّضِ} التحريض هو الحثّ {الْمُؤْمِنِينَ} على القتال فهم لإيمانهم يطيعونك، واللّه يكفي بهم شر الكفار ف {عَسَى اللَّهُ} المرجوّ منه {أَن يَكُفَّ} يمنع بكم {بَأْسَ}شدة وسطوة {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فينصركم عليهم وبكم يكسر شوكتهم، {وَ} لا تخافوا من بأس الكفار إذ {اللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} من الكفار {وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} عقوبة لهم، فهو الأقوى والأشد عقوبة فلا يُخشى

ص: 324

معه أحد.

85- والرسول وإن لم يكن مكلّفاً بفعل الآخرين لكنه بتبليغه ينال الأجرحينما يعمل المؤمنون، وهكذا كل من كان واسطة خير، فإنه {مَّن يَشْفَعْ} بأن يساهم في فعل الآخر بالتحريض والتسبيب والإعانة {شَفَٰعَةً حَسَنَةً} بأن كان المشفوع لأجله حسناً شرعاً، وكان التسبيب بالطريقة المشروعة {يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٌ مِّنْهَا} أي من ثوابها، {وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً} بأن توسط أو حرّض على قبيح شرعاً أو بالطريقة غير المشروعة {يَكُن لَّهُۥ كِفْلٌ مِّنْهَا} أي حصة من وزرها ووبالها، {وَ} اللّه تعالى قادر على ذلك، إذ {كَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ مُّقِيتًا} أي يجازي عليه، و«المقيت» من القوت فكأنه يعطي زاد كلٍ من عامل الحسنة أو السيئة بما يناسبه.

86- {وَ} وأنتم - الرسول والمؤمنين - مأمورون بالجهاد، لكن {إِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ} أي تحية الصلح بأن جنح الكفار إلى السِلم {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} أي أرجعوا الجواب بمثلها، والمعنى اقبلوا جنوحهم إلى السِّلم أو أضيفوا الإحسان إليهم زيادة على القبول، والآية عامة وموردها الصلح، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} يحسب أعمالكم بحفظها ليجازيكم عليها، فردّ التحية بمثلها أو بأحسن منها محسوبة ومسجلة وستجازون عليها.

87- وذلك لأنّ الحساب والثواب على اللّه تعالى إذ هو {اللَّهُ} الذي {لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ} فلا أحد قادر على المجازاة سواه {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} في يوم القيامة؛ لأنّ اللّه وعد به {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} استفهام للنفي، أي لا أحد أصدق منه!

ص: 325

بحوث

الأول: سياق الآيات في إطاعة اللّه ورسوله، وبعد ذكر الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في كفرهم، والمنافقين في عصيانهم، وضعاف الإيمان فيتذبذبهم، يأتي ذكر المؤمنين في طاعتهم، وأنهم يستجيبون للّه ولرسوله ويطيعونهما.

وتبدأ الآيات بأمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالجهاد لزيادة حث المؤمنين عليه، كما يأمره اللّه تعالى على تحريض المؤمنين تسهيلاً عليهم في الطاعة، مع بيان قوة اللّه تعالى وثواب المجاهدين، ثم بيان وظيفتهم تجاه المنافقين وتجاه الكفار، سواء المحاربون منهم أم المعتزلون أم المتربصون.

الثاني: قوله تعالى: {فَقَٰتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ...} الآية.

بيان لوظيفة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الجهاد وأنه مكلّف بعمل نفسه وليس مسؤولاً عن عمل الآخرين، وإنما وظيفته تجاههم التبليغ ليحيى من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وتبليغه ليس مجرد إعلام الناس بتكليفهم، فليس الرسول كساعي بريد فقط، وإنما تبليغه يتضمن استعمال الأساليب المختلفة لإقناع الناس، بدءاً من تصرفاته شخصاً، كحسن أخلاقه وسعة صدره، وإلى استعمال أساليب البلاغة الإقناعية، وإلى استثمار الحالات النفسية للمخاطبين كإثارة حميّتهم، وإلى إعانتهم مالياً وتقديم الهدايا لهم تأليفاً لقلوبهم، وإلى التحبّب إليهم بإستشارتهم في الأمور الإدارية ونحو ذلك، ومنه التحريض.

وفي المفردات: التحريض: الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل

ص: 326

الخطب فيه، كأنه في الأصل إزالة الحَرَض، نحو مرّضته وقذّيته أي أزلت عنه المرض والقذى(1)، والحَرَض هو ما لا يعتد به ولا خير فيه.

وقوله: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} التكليف من الكُلفة وأصلها المشقة، وإنما سميت الأحكام تكاليف لمشقتها على الكثير من الناس، والمعنى أنك مكلّف بنفسك، فما دام الجهاد واجباً فعليك أن تخرج إليه سواء عمل باقي الناس بتكليفهم أم لا.

وقيل: نزلت الآية في غزوة بدر الصغرى، حيث تواعد أبو سفيان مع المسلمين بعد غزوة أحد في أن يتقابلوا في العام القادم في بدر، حيث كان موسماً للتجارة في ذي القعدة، فخرج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يتبعه سوى سبعين رجلاً من المسلمين، وقد مرّ تفصيلها في سورة آل عمران.

وقوله: {عَسَى اللَّهُ} أي لعلّ اللّه يصنع ذلك، ولعلّ بمعناها، وهو إنشاء الترجي، وقد يختلف الداعي إلى استعمالها، فغالب الناس داعيهم الجهل بالعاقبة مع محبتها، وأما في عالم الغيب والشهادة فالداعي بيان محبوبية ذلك مع إبقائه على الإبهام على السامعين، وإن كان لا يخلو عن إشعار بالوعد إذا صدر من الكريم القادر.

وقوله: {يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي يمنع شدتهم ويكسر سورتهم، إما بقتالكم معهم وإما بجبنهم عن لقياكم، وهذا ما حصل في غزوة بدر الصغرى، إذ إنه بعد غزوة أحد انكسرت شوكة المسلمين، وتجرأ عليهم الكفار وتجبجب ضعاف الإيمان، لكن بعد عام حينما خرجوا إلى بدر

ص: 327


1- مفردات الراغب: 228.

الصغرى وقد أخلف المشركون الموعد انعكس الأمر، وبذلك قويت شوكة المسلمين وضعفت شوكة الكفار.

وقوله: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} أي قوةً، والمؤمنون يركنون إلى قوته، إذ هوناصرهم.

وقوله: {وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} أي تعذيباً، وهذا تهديد لمن لم يتبع الرسول ولم يستجب لتحريضه، و(النكال) هو ما يمتنع به من الفساد خوفاً من مثله من العذاب(1)، أي عقوبة تمنع العاصي من تكرار عصيانه، كما أنها تجعله عبرة للآخرين.

الثالث: قوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٌ مِّنْهَا...} الآية.

لبيان أمرين:

1- أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن لم يكن مسؤولاً عن أعمالهم، لكنه له نصيب من ثواب إطاعتهم؛ لأنه كان سبباً لها، وهكذا كل واسطة وسبب لعمل ما.

2- تحذير للمؤمنين من التوسط في إعفاء بعض الناس عن الجهاد أو تثبيطهم عنه، فإنّ ذلك يكون سبباً للمشاركة معه في الوزر.

و{شَفَٰعَةً} هي ضم شيء إلى آخر، من الشِفع الذي يقابل الوَتر، وإنما يقال للشفيع شفيع؛ لأنه ينضم إلى العامل فبهما يتم إنجاز العمل، وهي إمّا حسنة إذا كان العمل حسناً وكانت بالطريقة المشروعة، كمن يتوسط في عفو أولياء المقتول عن القاتل، حيث إنّ العفو حسن وهو أقرب للتقوى،

ص: 328


1- مجمع البيان 3: 210.

والتوسط بكلام حسن أيضاً مشروع، وإمّا سيئة إذا لم يكن العمل حسناً أو كانت بطريقة غير مشروعة، كما لو توسط في قتل بريء، أو هدّد أولياء المقتول ليضطروا إلى العفو مثلاً.

مشاركة السبب في الثواب أو العقاب

ومشاركة الواسطة والسبب في ثواب أو عقاب العمل أيضاً واضح، وذلك لأنه قد شارك فيه، والمشاركة في الأمر الحسن مأمور بها، كما قال: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(1) وامتثال المأمور به فيه ثواب، كما أنّ المشاركة في الأمر القبيح منهي عنها في قوله: {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ}(2) وعصيان النهي فيه عقاب، وفي الحديث: «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»(3).

والحاصل أنّ الشفاعة الحسنة في مورد الآية تدعو إلى طاعة اللّه بالجهاد، فهي حسنة ومآلها إلى ثواب الشافع والمشفوع له، والشفاعة السيئة تدعو إلى عصيانه ومخالفته بترك الجهاد، ومآلها إلى وزر الشافع والمشفوع له.

ثم إنّ الشفاعة قد تكون في الدنيا وقد تكون في الآخرة، وشفاعة الآخرة إما لرفع الدرجات أو لحطّ السيئات، ولا تكون إلاّ لمن ارتضى اللّه تعالى عنه، فأراد أن يغفر له فجعل الشفاعة وسيلة لذلك، وقد مرّ بعض الكلام حول الشفاعة في سورة البقرة فراجع.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ مُّقِيتًا} بيان لسبب النصيب أو الكفل

ص: 329


1- سورة المائدة، الآية: 2.
2- سورة المائدة، الآية: 2.
3- هداية الأمة 5: 579.

للشافع ببيان أنّ رزق الجميع على اللّه تعالى وأنه القادر على ما يشاء، فلذا وعد بالنصيب وأوعد بالكفل، ومن ذلك يتضح سبب اختيار كلمة (المقيت) دون المقتدر أو الحافظ أو المهيمن، فإنّ المقيت بمعنى الذي يُعطي القوت،فالمعنى أنه يجزي على كل عمل ويعطي قوت صاحب العمل بما يناسب عمله، وهذا يلازم الهيمنة والقدرة والحفظ والوفاء بالوعد.

الرابع: قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا...} الآية.

معنى الآية عام يشمل كل أنواع التحية حتى السلام وتسميت العطاس، وسواء كانت بفعل أم قول، من مسلم أو كافر، والمقصود هنا هو ما يخص الجهاد، حيث أمر اللّه تعالى الرسول والمؤمنين إلى القتال في سبيل اللّه تعالى، ثم يبين لهم أنّ الكفار إذا جنحوا للسلم فلا بد من قبول جنوحهم بأحسن من صنعهم، أو لا أقل من كونه مثيلاً له، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(1) بشرط أن يكون عملهم تحية لا خداعاً، فإن أرادوا الخداع أو معارضة أحكام اللّه فلا دعوة للسلم معهم ولا قبول لها.

و(التحية) في الأصل الدعاء بالحياة ثم صارت اسماً لكل دعاء وثناء، والمراد هنا السِلم بل مطلق البر.

وقوله: {بِأَحْسَنَ مِنْهَا} أي قبولها بتحية مثلها مع زيادة، كالإحسان إلى أولئك، وبذلك يتم تزيين الإيمان في قلوبهم عسى اللّه أن يهديهم، فقد كانت معاهدات المسلمين مع الكفار والتزام المسلمين بها من أسباب دخول الناس في الإسلام؛ لأنها كانت تزيل حالة الحرب وتسبب لقاء الطرفين من

ص: 330


1- سورة الأنفال، الآية: 61.

غير خوف، فكان الكفار يرون حسن الإسلام وأخلاق المسلمين فينجذبون إلى الإسلام.

وقوله: {أَوْ رُدُّوهَا} أي أرجعوا الجواب بمثله، إن كانت بعضالمحاذير في الأحسن، أو لم تقدروا عليه، أو لأي سبب آخر.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} أي يحسب الأعمال، والمقصود بيان أنّ أعمالكم محفوظة عنده، فهو الرقيب عليكم فيجازيكم عليها، فلا تسول لكم أنفسكم الغدر ونقض العهد بزعم أنّ هؤلاء كفار!

الخامس: قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ...} الآية.

هذه الآية كالتعليل لقوله: {مُّقِيتًا} و{حَسِيبًا}، فهو جامع الناس إلى يوم القيامة، وهو القادر على الجزاء دون سواه، ولا إله غيره يتمكن من معارضته أو يلتجئ العصاة إليه، كما أنه وعد بالمحاسبة والثواب أو العقاب وهو الصادق فيما يقول، فهو المقيت والحسيب فعليكم أن تحذروه.

وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} أي جمعاً منتهياً إلى يوم القيامة، ولذا كانت التعدية ب {إِلَىٰ} فكأنّ الجمع يبدأ من موت الناس، فكل إنسان يموت يجمعه اللّه إلى سائر الأموات، حتى إذا اكتملوا كلهم في البرزخ حشرهم للحساب، وفي نهج البلاغة: «تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأولكم آخركم»(1)، وقيل: {إِلَىٰ} بمعنى (في)، و{الْقِيَٰمَةِ} من القيام كما قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَٰلَمِينَ}(2).

ص: 331


1- نهج البلاغة، الخطبة: 167.
2- سورة المطففين، الآية: 6.

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي لا مجال للريب فيه؛ لأنه حقيقة يقينية.

وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ...} استفهام تقريري أو إنكاري، أي لا أحد أصدق من اللّه، فكلامه مطابق للواقع ولعلمه، وهو القادر على تنفيذ ما وعد،ولا يعمل القبيح أبداً.

فإنّ الكاذب في قوله إنما يكذب لجهل أو خبث أو عجز، وقد تعالى اللّه عن ذلك وعن كل نقصٍ.

و(الحديث) يطلق على الخبر والإنشاء، ويشمل الوعد والوعيد أيضاً.

ص: 332

الآيات 88-91

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا 88 وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا 89 إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَٰتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا 90 سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا 91}

بعد ذكر حكم قتال الكفار وعدم الشفاعة فيه، يبيّن حكم قتال المنافقين فيقول:

88- {فَمَا لَكُمْ} أيها المؤمنون، والاستفهام إنكاري {فِي} شأن {الْمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ} فرقتين: فرقه تريد قتالهم لإبطانهم الكفر، وأخرى لا تريد قتالهم لإظهارهم الإسلام، مع أنه على الجميع إطاعة اللّه فيما يأمر تجاههم، {وَاللَّهُ}

ص: 333

أي والحال أنّ اللّه {أَرْكَسَهُم} أي ردّهم إلى حكم المشركين في قتالهم {بِمَا كَسَبُواْ} أي بسبب سوء صنيعهم، كارتداد بعضهم، ولحوق البعض الآخر بالمشركين المحاربين، وتربص البعض بكم ليقاتلوكم، ثم يتوجه الخطابللفئة التي تُعذرهم فيقال لهم: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ} تحكموا بهداية {مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي حكم بضلاله، {وَ} الحال أنّ {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ} يحكم بضلاله {فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا} إلى الحكم بهدايته وإنقاذه.

89- وكيف تنازعون فيهم مع أنهم {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} فزادوا على كفرهم تمني كفركم {فَتَكُونُونَ} أنتم وهم {سَوَاءً} في الكفر، فهؤلاء لا ينبغي الاختلاف في شأنهم لظهور ضلالهم، {فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} أخلاّء وأصدقاء {حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيصيرون مثلكم، وأما المنافق الذي يكون مع الكفار المحاربين فهو منهم.

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الهجرة وبقوا مع الكفار الحربيين فحكمهم كحكم أولئك {فَخُذُوهُمْ} بالأسر {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} لأنّ الكافر الحربي ومن يلتحق به من المنافقين مهدورو الدم {وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا} خليلاً وصديقاً {وَلَا نَصِيرًا} بأن تزعموا أنهم ينصرونكم على الكفار! كلاّ فهم كفار باطناً ومع الكفار ظاهراً فيشملهم حكمهم.

90- {إِلَّا} استثناء طائفتين من المنافقين فلا يجوز قتالهم، الأولى: الذين يلتحقون بالكفار المعاهدين، والثانية: الذين يعتزلون القتال رأساً. أما الأولى: {الَّذِينَ يَصِلُونَ} يتّصلون وينتهون {إِلَىٰ قَوْمِ} من الكفار {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ} معاهدة، فإنّ انضمام المنافق إلى المعاهد يوجب الكفّ

ص: 334

عنه، {أَوْ} عطف على يصلون وهم الطائفة الثانية وهم الذين {جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ضاقت من {أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ} فلا هم لكم ولا عليكم فيعتزلون جانباً، ثم يبيّن اللّه تعالى أنّ اعتزالهم بفضل منه، حيث ألقىرعبكم في قلوبهم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} مشيئة تكوينية بتقوية قلوبهم {لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} أي أقدرهم على قتالكم {فَلَقَٰتَلُوكُمْ} وكان ذلك بضرركم، لكنه تعالى سلّم، فبشرطين لا يحق لكم قتال هؤلاء، الشرط الأول: الاعتزال بعدم القتال عملاً، والشرط الثاني: التصريح بالسلم لفظاً، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} تنحّوا عنكم ولم يتعرضوا لكم {فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ} بل بقوا محايدين {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي صالحوكم وسالموكم باللسان {فَ} لا يحق لكم قتالهم، إذ {مَا جَعَلَ اللَّهُ} لم يُشرّع {لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} في القتال.

91- أما لو لم يتحقق الشرطان فهؤلاء قد شرّع اللّه قتالهم {سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ} من المنافقين الذين لم يهاجروا إلى المؤمنين {يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ} فيظهرون عندكم الإسلام {وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} فيظهرون عندهم الشرك، {كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ} كالشرك وقتال المسلمين {أُرْكِسُواْ فِيهَا} انقلبوا وسقطوا في الفتنة، {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} لم يعتزلوا عن محاربتكم {وَ} لم {يُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} الصلح والانقياد {وَ} لم {يَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ} بأن صاروا بصدد محاربة المؤمنين {فَخُذُوهُمْ} بالأسر {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي في أيّ مكان وجدتموهم، {وَأُوْلَٰئِكُمْ} المنافقون

ص: 335

{جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ} في قتالهم {سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} عذراً ودليلاً واضحاً، بفضحهم وتشريع قتالهم.

بحوث

الأول: سياق الآيات في ذكر طوائف الناس، فبعد ذكر أهل الكتاب والمنافقين وضعاف الإيمان، وبعد تحريض المؤمنين على القتال وعدمالشفاعة السيئة، يأتي الكلام حول قتال المنافقين، المشروع منه وغير المشروع، فالمنافق الذي يعيش بين المسلمين ولا يقاتلهم لا تجوز مقاتلته، بل له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

وأما المنافقون الذين يتركون المسلمين فهؤلاء طائفتان:

الطائفة الأولى: من يلتحق بالكفار الحربيين - سواء ارتد أم لا - فهذا حكمه حكم الحربيين، فتجوز مقاتلته إلاّ إذا ترك الكفار ورجع إلى المسلمين.

الطائفة الثانية: من التحق بالكفار المعاهدين، فهذا حكمه حكمهم، فما داموا على عهدهم فلا يجوز مقاتلته كما لم يجز مقاتلتهم.

وأما المنافقون الذي يتركون المسلمين ولم يلتحقوا بالكفار فهؤلاء لا بد من أمن المسلمين من شرّهم، وهم قسمان:

القسم الأول: الذين اعتزلوا قتال المسلمين وصرّحوا بالانقياد لهم ومسالمتهم فلا تجوز مقاتلتهم.

والقسم الثاني: الذين يتربصون بالمسلمين فلم يعتزلوا عن القتال ولم يصرحوا بالمسالمة فهؤلاء لا بد من قتالهم، كأصحاب الجمل وصفين

ص: 336

والنهروان.

ويمكن أن تكون الآيتان 88-89 في أحكام المرتدين، فهم كانوا منافقين ثم ارتدوا فالتحقوا بالكفار! والآيتان 90-91 في الكفار بحمل الاستثناء على كونه منقطعاً.

الثاني: قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم...} الآية.حث للمؤمنين على إطاعة اللّه ورسوله في شأن القتال، وعدم الاختلاف في حكمه تعالى، فالتقريع والإنكار في الآية يراد به الفئة التي كانت تدافع عنهم وتشفع لهم، وتأييد للفئة التي كانت تذمهم ولا تعذرهم.

ويمكن أن يكون التقريع لكلتا الفئتين، حيث كان اختلافهم من دون رجوع إلى اللّه ورسوله، فحتى الفئة التي لم تكن تعذرهم ما كان ذلك إلا عن رأي دون استقاء الحكم من الشرع، ولا يجوز في أحكام الشرع إبداء الرأي من دون استناد إلى الشرع حتى لو فرض إصابة الرأي للواقع، فإن ذلك تجرٍّ على اللّه ورسوله، وفي حديث تعداد القضاة من أهل النار: «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم»(1)،

والاحتمال الأول أظهر.

وقوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم} من الركس بمعنى قلب الشيء على رأسه وردّ أوله إلى آخره(2)، والمقصود ردّهم إلى الكفر، وذلك بحكمه بكفرهم باطناً في آيات متعددة، وتصريحه على كفر المرتد منهم في آيات أخرى، فمع حكم اللّه لا بد لكم جميعاً من إطاعته لا الاختلاف فيهم.

ص: 337


1- الكافي 7: 407.
2- مفردات الراغب: 364.

وقوله: {بِمَا كَسَبُواْ} الباء سببيّة، أي حكمه بكفرهم إنما هو بسبب سوء أعمالهم، بترك الجهاد والتحاقهم بالمشركين وبارتدادهم.

وقوله: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ...} أي هل تريدون أن تعارضوا حكم اللّه تعالى باختلافكم هذا؟

وقوله: {مَنْ أَضَلَّ} أي حكم اللّه بضلاله، فإنّ من معاني الهدايةوالإضلال: الحكم بهما.

ويمكن أن يكون المعنى أنّ مقصود الفئة التي كانت تختلق الأعذار لأولئك المنافقين هو إيجاد طريق إلى هدايتهم! فيقال لهم ما دام اللّه قد خذلهم وتركهم وشأنهم حتى ضلوا فلا فائدة في سعيكم لهدايتهم، بل عليكم أن تمتثلوا أمر اللّه إن حكم بقتالهم.

الثالث: قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً}.

لعلّه لبيان عدم قابليتهم للّهداية لذلك أضلهم اللّه تعالى، فهؤلاء قد نفذ حب الكفر في قلوبهم، حتى إنهم يحبّون إضلال المسلمين، أو المقصود كيف تريدون هدايتهم مع أنهم يودّون كفركم، أو كيف تختلفون في شأنهم مع وضوح كفرهم بحيث يظهرون محبتهم لكفركم كي تكونوا معهم سواء في الكفر!

وقوله: {كَمَا كَفَرُواْ} دليل على أنّ المراد بهؤلاء المنافقون الذين ارتدوا منهم.

وقوله: {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} تأكيد لحبهم كفركم، فإنّ المبطل لا يتمكن من رؤية المحق حتى وإن علم أنّ الحق مع المحق، بل يريد دخوله فيما

ص: 338

دخل فيه من الباطل إما حسداً، أو لئلا يعيّر على باطله لمّا يقاس بالمحق، أو لتخفيف الشعور بالذنب في نفسه لمّا يرى الآخرين يشاركونه، أو لغير ذلك.

الرابع: قوله تعالى: {فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ...} الآية.

بعد النهي عن الاختلاف في شأنهم، وبيان أنّ اللّه تعالى قد حكم بضلالهم، وبعد أن علمتم بأنهم يريدون شرّكم بإضلالكم فلا معنىلاتخاذهم أصدقاء، إذ لا وجه في صداقة من يريد الإضرار بك، كما لا معنى في صداقة أعداء اللّه تعالى.

وقوله: {حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بيان أنهم لو تركوا النفاق فهاجروا هجرة تكشف عن إيمانهم لكونها في سبيل اللّه، فحينذاك قد دخلوا في زمرة المؤمنين، فلهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فلا بد من اتخاذهم أولياء؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(1).

سؤال: كيف نعلم بأن هجرتهم في سبيل اللّه، فلعلها لمال أو مصلحة دنيوية؟

والجواب: هو أنّ القرائن كثيراً ما تكشف المنويات، قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(2)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه(3)»، مضافاً إلى أنه لو لم نعلم بالباطن فعمل المسلم يحمل على الصحة.

وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الهجرة، أو أعرضوا عن الإيمان بعد

ص: 339


1- سورة التوبة، الآية: 71.
2- سورة محمد، الآية: 30.
3- نهج البلاغة، الحكمة: 26.

ارتدادهم.

وقوله: {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} في أيّ مكان؛ لأنّ هؤلاء حكمهم حكم الكافر الحربي، حيث إنهم التحقوا بالكفار المحاربين، فلحقهم حكمهم.

وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} أي لا تزعموا أنّ هؤلاء سينفعونكم فلا تولّوهم عليكم ولا تستنصروا بهم، إذ لو كانوا يريدوننصركم لبقوا معكم ولم يرجعوا إلى الكفار مرتدين!

والظاهر أنه لا تكرار في قوله: {فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا}، فالأول بمعنى الأخلاء والأصدقاء، والثاني بمعنى المتولي للأمور المسيطر على زمامها، ويحتمل كونهما بمعنى واحد كرّره تأكيداً أو توطئة لقوله: {نَصِيرًا}، فتأمل.

والمروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : «أنها نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام، ثم رجعوا إلى مكة؛ لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال بعضهم: لا نفعل فإنهم مؤمنون، وقال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل اللّه فيهم الآية»(1).

الخامس: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ}.

استثناء من جواز قتال المنافقين الملتحقين بالكفار، وذكرت الآية استثناءين، أولهما: المنافقون الذين يلتحقون بالكفار المعاهدين، فيلزمهم

ص: 340


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 190 عن مجمع البيان.

حكمهم، ومن هذا يتبيّن أنّ حكم المنافق بالذات ليس هو القتال، بل جواز قتاله تابع لمحاربته للإسلام، فالذي التحق بالمحاربين صار محارباً، والذي التحق بالمعاهدين لم يصبح محارباً؛ لأنه لا يتمكن من مخالفة المعاهدة فلا يكون حينئذٍ خطراً على الإسلام.

وقوله: {يَصِلُونَ} من الوصل، والمعنى يتصلون بهم وينتهون إليهم، و{مِّيثَٰقٌ} المعاهدة، فلا يجوز نقضها.

السادس: قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ...} الآية.

وهذا الاستثناء الثاني، وهم مجموعة من الناس كانوا يريدون الحياد بين المسلمين والكفار، وذلك لضعفهم عن المسلمين ولرابطتهم النسبية مع المشركين، فجاؤوا إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يريدون الموادعة وكانوا صادقين في طلبهم، فأجاز اللّه تعالى ترك قتالهم وقبول موادعتهم من غير معاهدة، وذلك لكثرة الأعداء حينذاك، فكلّما قلّ من يقاتل المؤمنين كان ذلك لصالحهم، ولا يخفى أنّ هؤلاء لم يكونوا منافقين بل كانوا كفاراً علناً، فاستثناؤهم إمّا منقطع كما مرّ، أو أنّ المراد من ظاهر الآية المنافقون حسب سياقها، وتأويلها بهؤلاء الكفار، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «نزلت في بني مُدلج؛ لأنهم جاءوا إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنك رسول اللّه، فلسنا معك ولا مع قومنا عليك... قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب ثم يدعوهم، فإن أجابوا وإلاّ قاتلهم»(1).

ص: 341


1- الكافي 8: 327.

وقوله: {حَصِرَتْ} بمعنى ضاقت، فإنّ من يصيبه الهمّ والانفعال النفسي يحتاج إلى هواء أكثر فتنتفخ رئتاه لاستيعاب أكبر كمية من الهواء، وذلك يسبب الضغط على القلب، فيشعر الإنسان بضيق في الصدر.

وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ...} لبيان مِنّة اللّه على المؤمنين، حيث إنّ الأمور كلّها بيده، فلو شاء مشيئة تكوينية بالتصرف في قلوب هؤلاء الكفار بتقويتها على المؤمنين لكانوا ينضمون إلى صفوف الكفار المحاربين، لكن اللّهتعالى قذف في قلوبهم رعب المسلمين فطلبوا الهدنة منهم، وقوله: {لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} أي على قتالكم أو بمعنى غلبتهم عليكم.

سؤال: كيف نجمع بين قوله هذا وبين قوله: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(1)؟

والجواب: أنّ هذه الآية في السلطة التكوينية، وتلك الآية في التشريعية، بمعنى أنّ اللّه لم يشرّع حكماً فيه سلطة للكفار على المؤمنين، فلا يجوز نكاح المسلمة بالكافر، ولا ولاية للأب الكافر على أولاده المسلمين، ولا ولاية للكفار على حكم المسلمين وغير ذلك من أحكام تشريعية، وهذا لا ينافي سلطة تكوينية للكفار على بعض المسلمين، كأسر الكفار بعض المسلمين أو التغلّب على بلادهم.

مضافاً إلى أنّ هذه الآية تبيّن قدرة اللّه تعالى على جعل السلطة، فإنّ عدم جعل السبيل ليس بمعنى عدم قدرته سبحانه عليه.

وقوله: {فَلَقَٰتَلُوكُمْ} جواب عن شرط محذوف، أي ولو فعل اللّه ذلك

ص: 342


1- سورة النساء، الآية: 141.

بأن سلطهم عليكم بإزالة الرعب، فحينذاك كانوا يقاتلونكم.

وقوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} بيان للشرط الأول لعدم قتالهم، وهو الاعتزال ثم شرح الاعتزال بقوله: {فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ} فهما أمر واحد.

وقوله: {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} بيان للشرط الثاني لعدم قتالهم وهو تصريحهم بأنهم لا يريدون القتال، بل يريدون السِّلم.

وقوله: {سَبِيلًا} أي حكماً تشريعياً في قتالهم.السابع: قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ...} الآية.

تحذير للمسلمين بأن لا ينخدعوا بكل من تنحّى وأظهر السِلم، فإن البعض يريد أن يأمن الجانبين - المسلمين والكفار - لكنه في الوقت نفسه يتربص بالمسلمين، فيأتي إلى المسلمين فيظهر الإسلام ويذهب إلى المشركين ويظهر الشرك، فهذا لا تؤمن بوائقه، فهذا حكمه القتال، إلاّ لو تنحّى وألقى السلم وكف يده عن القتال.

وقوله: {ءَاخَرِينَ} أي من المنافقين تجدون قوماً آخرين.

وقوله: {الْفِتْنَةِ} أي الشرك وقتال المسلمين، أي كلما حانت لهم الفرصة للغدر فعلوا ذلك.

وقوله: {أُرْكِسُواْ فِيهَا} بمعنى الانتكاس والانقلاب والسقوط كما مرّ، وفرق هؤلاء عن الطائفة السابقة هي أنّ تلك لم يظهر منها الغدر، أما هؤلاء فظهر منهم ذلك.

قوله: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ...} للإشارة إلى كذب نواياهم وخبث أفعالهم، والمعنى حيث إنّ هؤلاء نقضوا الموادعة التي وعدوا بها فلم يعتزلوا القتال

ص: 343

وجاهروا به لساناً وعملاً فلا بد من مقاتلتهم، وفي تلك الآية قال: فإن {اعْتَزَلُوكُمْ...} لبيان صدق نواياهم.

وقوله: {سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} أي عذراً وحجةً واضحة في قتالهم؛ وذلك لأنهم غدروا وأظهروا العداوة بارتكاسهم في الفتنة، و(السلطان) من السلطة، وهي إما سلطة بالقهر والقوة وإما سلطة بالحجة، أي تغلب حجتكم حجتهم، أو لأنّ الحجة بالبرهان صارت سبباً للسلطة عليهم بأسرهم وقتلهم لذلك سميت سلطاناً.

ص: 344

الآيات 92-94

اشارة

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَٔا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَٔا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّٖ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 92 وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا 93 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 94}

بعد ذكر حكم قتال الكفار والمنافقين تذكر الآيات حكم قتال المؤمنين، فتنهى عن قتلهم مطلقاً في قتال أو غيره، وتبيّن ما يستتبعه قتلهم حتى لو كان خطأً، فقال تعالى:

92- {وَمَا كَانَ} لا يجوز ولا يستقيم {لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} في أية حالة ولأجل أية علّة {إِلَّا خَطًَٔا} إي باستثناء حالة الخطأ أو لعلة الخطأ، فالإنسان غير المعصوم معرّض للخطأ، {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَٔا} سواء كان

ص: 345

القاتل مؤمناً أم لا، فهذا وإن لم يذنب؛ لأنه أخطأ لكن عليه جبر خطئه {فَ} كفارته {تَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ} وهذا ما بين القاتل وبين اللّه تعالى، {وَ} أما ما بينه وبين أولياء المقتول ف {دِيَةٌ} وهي مقدار من المال عيّنهالشرع {مُّسَلَّمَةٌ} يعطيها {إِلَىٰ أَهْلِهِ} ذوي المقتول، {إِلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ} يتصدّق أولياء المقتول على القاتل بالعفو عنها.

{فَإِن كَانَ} القتيل خطأً {مِن قَوْمٍ عَدُوّٖ لَّكُمْ} أي كفار محاربين {وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَ} كفارته {تَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ} فقط، ولا دية لأهله لكفرهم، والدية في حكم الإرث، ولا يرث الكافر المسلم.

{وَإِن كَانَ} القتيل - مؤمناً كان أو غير مؤمن - {مِن قَوْمِ} كفار {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ} كمعاهدة أو ذمة {فَ} تجب {دِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ} فإنّ للميثاق حرمة.

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الرقبة المؤمنة في الصور الثلاث {فَ} يجب عليه بدلاً منها {صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً} تخفيفاً {مِّنَ اللَّهِ} أي بدلية الصوم عن التحرير إنما هو تخفيف من اللّه على المسلمين، أو بمعنى تشريع الدية والتحرير والصيام رجوع من اللّه عليكم بلطفه وكرمه، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بمصالحكم {حَكِيمًا} في تشريعاته، هذا كله في قتل الخطأ.

93- {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} قاصداً لقتله {فَجَزَاؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ} طرده من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُۥ} هيّأ له {عَذَابًا عَظِيمًا} هذا مضافاً إلى حق قصاص أولياء المقتول منه.

94- ولو اختلط الأمر عليكم فلم تعلموا المؤمن المحقون الدم من

ص: 346

الحربي المهدور الدم فعليكم التثبّت، وكل من أظهر الإسلام لا بد من القبول منه ف {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ} سافرتم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} للجهاد {فَتَبَيَّنُواْ} ميّزوا بين الحربي والمسلم ولا تتسرعوا في القتل، {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ} أظهر الإسلام وحياكم بتحية الإسلام:{لَسْتَ مُؤْمِنًا} اتهاماً له بأن إسلامه لقلقة لسان خوفاً من القتل، فإنّ الذي يدعوكم إلى التسرّع في الحكم بالكفر هو أنكم {تَبْتَغُونَ} تطلبون {عَرَضَ} أي الحطام الذي لا ثبات له من {الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}، لكن عليكم طلب ثواب اللّه بالالتزام بأحكامه {فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ} جمع مغنم، أي فوائد {كَثِيرَةٌ} تغنيكم عن عرض الحياة الدنيا، {كَذَٰلِكَ} أي كالذي ألقى إليكم السلام ولم تقبلوا إسلامه {كُنتُم مِّن قَبْلُ} كنتم كفاراً {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن هداكم للإسلام، فقبل منكم إسلامكم مع عدم علم أحد إلاّ اللّه بحقيقة قلوبكم! وحيث علمتم أنّ الحكم هو قبول الإسلام {فَتَبَيَّنُواْ} تأكدوا في إسلام وكفر من تقاتلونه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فلا تبتغوا عرض الحياة الدنيا بالتهاون في القتل.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو حكم القتال المستلزم للقتل عادة، فبيّن اللّه تعالى حكم قتال الكفار والمنافقين أولاً، ثم عطف الكلام إلى حكم قتال المؤمنين ببيان الحكم العام في قتل المؤمن - سواء من ثبت إيمانه أم من أظهر الإسلام بلسانه - ، فإنه إذا لم يجُز قتله فلا يجوز قتاله الذي يؤدّي إلى القتل عادة، فبينت الآيات عدم جواز قتل المؤمن، ثم بينت جزاء القتل

ص: 347

وكفارته، وحيث إنّ الإنسان غير المعصوم معرّض للخطأ فيمكن القتل بالخطأ لذلك بينت الآية حكمه أيضاً.

والمحصّل هو أن نفس الإنسان المؤمن محترمة، وفيها حقّ اللّه وحق الناس.

أما حق اللّه تعالى فلم يُسقطه سبحانه لا في قتل العمد ولا في قتل الخطأ،من غير فرق بين كون ذوي المقتول مسلمين أو كفار، فلذا أوجب سبحانه تحرير رقبة مؤمنة في كل أنواع القتل.

الحقوق في القتل

وأما حق الناس فهو حق المقتول وحق أولياء دمه...

أما حق المقتول: فبعذاب قاتله في الآخرة انتقاماً له إن كان القتل عمداً، وبنقل ذنوبه إلى قاتله، ونقل أعمال القاتل الصالحة إليه، كما يظهر من بعض الروايات.

وأما حق أهله: فبالدية في الخطأ، وبالقصاص في العمد.

وهذه الآيات لم تذكر العقوبة الدنيوية لقاتل العمد، وقد بينتها آيات أخرى في سورة البقرة وسورة المائدة، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ}(1)، وقال: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}(2).

ومن ذلك يتضح أنّ النفس محترمة جداً بحيث قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٖ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(3) وبسبب احترامها الشديد تترتب على إزهاقها

ص: 348


1- سورة البقرة، الآية: 179.
2- سورة المائدة، الآية: 45.
3- سورة المائدة، الآية: 32.

آثار كبيرة حتى على الخطأ منها بالدية وتحرير رقبة أو صيام شهرين متتابعين، كما أنّ تحديد الدية في الشرع يمنع استغلال ذوي المقتول، وأيضاً مراعاة للقاتل لفقره أحياناً ولذوي المقتول، حيث إنّ فقر القاتل قد يمنعهم عن الوصول إلى حقهم في الدية، وأيضاً لأجل التكافل الاجتماعي... لذلك شرّع اللّه الدية في قتل الخطأ على العاقلة، وهم ذووالقاتل من جهة أبيه، وللدية أحكام كثيرة تُطلب من كتب الفقه.

ولا يخفى أنّ (الدية) هي المال الذي يُعطى بدلاً عن الجناية، وليست ثمناً للمقتول أو لدمه، فالنفس لا تقدّر بثمن مادي، ولذا كان إزهاقها من غير وجه حق يعادل إزهاق جميع الأنفس، وإنقاذها من الهلاك يعادل إحياء جميع الناس.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَٔا}.

مفهوم {مَا كَانَ} هو نفي خبرها عن اسمها، وهذا المفهوم له مصاديق متعددة تكوينة أو تشريعية، فمنها عدم الإمكان كقوله تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا}(1) أي لا تقدرون على ذلك، ومنها: عدم التشريع كقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}(2) أي لم يوجب اللّه ذلك عليهم، ومنها: النهي كقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ اللَّهِ}(3)، ومنها: عدم الحكمة فيه كقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}(4)، والحاصل أنّ

ص: 349


1- سورة النمل، الآية: 60.
2- سورة التوبة، الآية: 122.
3- سورة التوبة، الآية: 17.
4- سورة آل عمران، الآية: 179.

{مَا كَانَ} إخبار والداعي له مختلف ولكن اختلاف الداعي لا يغيّر من معناها، والمقصود في هذه الآية النهي، فهو إخبار يقصد به إنشاء النهي.

وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} مع أنّ التحريم عام للجميع، ولكن حيث إنّ المخاطبين أو المنتفعين بهذا الحكم هم المؤمنون لذلك خصّهم بالذكر، أو لبيان أنّ المؤمن لا يقتل، ومن يقتل ظلماً فليس بمؤمن.وقوله: {أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} إنما خصّ المقتول بكونه مؤمناً مع أنه لا يجوز قتل الكافر غير الحربي؛ لأنّ قتل المؤمن مطلقاً غير جائز، أما قتل غير المؤمن فقد يجوز إذا كان محارباً أو قاتلاً ونحو ذلك، وقد لا يجوز إذا كان محقون الدم.

وقوله: {إِلَّا خَطًَٔا} استثناء منقطع، والمعنى لا يجوز القتل في غير حالة الخطأ، وقيل: الاستثناء متصل بناء على تفسير {مَا كَانَ} بأنه «لا يمكن» فالمعنى لا يمكن أن يقتل المؤمن مؤمناً إلاّ في حالة الخطأ فإن ذلك ممكن.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَٔا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ}.

بيان القسم الأول من أقسام قتل الخطأ، وهو قتل المؤمن خطأً، مع كون أهله مسلمين.

فحق اللّه بتحرير رقبة مؤمنة، وهذا ليس عقوبة للقاتل؛ لأنّ الخطأ مرفوع، وإنما لأجل حرمة الدماء كي يحتاط المؤمنون أشد احتياط، ولئلا يكون القتل أمراً اعتيادياً عند الناس، مضافاً إلى احتمال أن يكون للقتل آثار وضعية يمحوها اللّه بهذه الكفارة، فإنّ لبعض الأعمال آثاراً تكوينية تترتب حتى لو لم يكن الفاعل قاصداً أو مختاراً، فمن يشرب الخمر خطأً يسكر،

ص: 350

ومن يشرب السُمّ جهلاً يموت، حتى وإن لم يكونا مذنبين بسبب الخطأ والجهل، ولذلك اشترط إيمان الرقبة كإيمان المقتول، وقيل: لعلّ ذلك بسبب أن التحرير كالإحياء؛ لأنّ الرق كالميت في عدم سلطته على نفسه، فما دام أزهق نفساً فعليه إحياء نفسه، واللّه العالم.وقوله: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ} بيان لحق الناس، أي حق ذوي المقتول فإنهم فقدوا عزيزاً وقد يكون معيلاً، فتكون الدية كتعويض ماديّ لهم.

وقوله: {مُّسَلَّمَةٌ} قيل: كناية عن تعجيلها وعدم المطل فيها، وعن كونها تامة غير منقوص منها شيئاً، فإنه لا يقال: سلّمها لو أخذوها من المديون قهراً أو نقصهم حقّهم.

وقوله: {إِلَىٰ أَهْلِهِ} أي ورثته الذين هم أولياء دمه، وتقسّم بينهم كتقسيم الإرث.

وقوله: {إِلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ} أي يتصدقوا، بأن يعفوا عن القاتل، فهذا حقهم ويجوز لهم أن يتنازلوا عنه، و(الصدقة) كل عمل فيه تصديق للّه تعالى وغلب استعماله في المال وخاصة للفقراء، وكأنّ في الآية تلميحاً إلى حُسن إبراء ذمة القاتل إذا كان فقيراً.

الرابع: قوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّٖ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...} الآية.

بيان القسم الثاني من أقسام قتل الخطأ، وهو قتل المؤمن خطأً مع كون أهله كفاراً حربيين، وهنا لا دية لأهله؛ لكونهم غير محترمي المال والنفس، نعم دلت السنة على وجوب دفع ديته إلى الإمام، فإنه وارث من لا وارث له، كما يبقى حق اللّه بتحرير الرقبة المؤمنة.

ص: 351

وقوله: {عَدُوّٖ لَّكُمْ} أي كفار حربيين، فالمعاهد والذمي ليسوا بأعداء لدخولهم في العهد أو الذمة.

وقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} تأكيد، وللتفريق بين هذا المقتول وبين المقتولفي القسم الثالث فإنّ ذاك له الدية سواء كان مؤمناً أم كافراً.

الخامس: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ...} الآية.

بيان القسم الثالث من أقسام قتل الخطأ، وهو قتل من كان أهله في ميثاق مع المسلمين، ولا فرق بين كون المقتول مسلماً أم لا، ولذلك أطلقت الآية في هذا القسم مع تقييدها في القسمين الأولين بالمؤمن.

وقوله: {مِّيثَٰقٌ} أعم من كونهم أهل ذمة، أو كونهم معاهدين.

وقوله: {إِلَىٰ أَهْلِهِ} أي ذويه الذين يرثون منه، فإن كان القتيل كافراً وجميع أهله كفاراً فالدية لهم، وإن كان بعض أهله مسلمين فالدية لهم خاصة.

وقوله: {فَدِيَةٌ...} لا يخفى أنه في القسم الأول قدّم التحرير على الدية فقال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ}، وفي هذا القسم قدّم الدية على التحرير فقال: {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤْمِنَةٖ}، ولعلّ ذلك تفنن في العبارة وهو نوع بلاغة، وقيل: قدّم ذكر حقهم رعاية للميثاق الذي بينهم وبين المسلمين.

السادس: قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ...} الآية.

حيث ذكر الدية والتحرير، ذكر حكم العجز عن التحرير، بأن لم يجد مالاً ليحرر به الرقبة أو لم يجد رقبة، فحينئذٍ عليه صيام شهرين متتابعين بدلاً عن التحرير، ولم يذكر حكم العجز عن الدية، ولعل سبب ذلك أنّ دية

ص: 352

الخطأ على العاقلة، الذين هم أقرباء القاتل من جهة أبيه، ومن النادر عجز جميعهم عن ذلك، وحتى لو عجزوا فإنّ هناك سهماً للغارمين - أي المديونين - في الزكاة، وعليه فالدية تدفع من بيت المال حينئذٍ، فقوله:{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي لم يجد الرقبة.

وقوله: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} دلت السنة على أنه يكفي في التتابع صوم شهر وصوم يوم من الشهر الثاني؛ لأن الشهر الثاني اتصل بالشهر الأول، ويمكنه أن يفرّق بين ما تبقّى.

وقوله: {تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ} الظاهر هذا تعليل لبدلية الصيام عن التحرير، والتوبة هنا يراد بها التخفيف، فإنّ أصل التوبة بمعنى الرجوع، واللّه يرجع إلى عبده بلطفه تارة بغفران الذنب، وتارة بالتخفيف على العبد، فلذا صحّ إطلاق التوبة حتى لو لم يكن ذنب، فإنّ حكم اللّه بالتحرير كان صعباً على العبد فيرجع اللّه لطفه إلى العبد بالتخفيف عنه بجعل الصيام بدلاً عنه.

ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {تَوْبَةً...} تعليل لكل الأحكام المذكورة في قتل الخطأ، فإنه كانت في الجاهلية عادات ثقيلة جداً، فخفّف اللّه تعالى عن الأمة بتشريع هذه الأحكام.

السابع: قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُۥ جَهَنَّمُ...} الآية.

بعد ذكر أحكام القتل الخطأ، تذكر الآية القتل العمد، وقد ذكرت جزاء القاتل الأخروي ولم تذكر الآية الحدّ الدنيوي بالقصاص، ولعل ذلك لأنّ سياق الآيات حول ما شرّع اللّه تعالى في القتال وما لم يشرعّه، وليست الآيات بصدد بيان العقوبات أو المثوبات الدنيوية، وذكر الدية في قتل

ص: 353

الخطأ كان بالعرض! وأما حدّ القاتل عمداً فقد بُيِّنَ في سورتي البقرة والمائدة.

وقوله: {مُّتَعَمِّدًا} من العمد بمعنى الإتيان بالفعل بقصد القتل، فلو لميقصد الفعل كما لو دهس إنساناً في حادث مروري فهو من القتل الخطأ، أو قصد الفعل لا بنية القتل كما لو ضربه للتأديب بآلة غير قتّالة فمات، فهو ليس من العمد لكنه خطأ شبيه بالعمد، وهذان ليس لهما حكم قتل العمد وإن كان بينهما فروق مذكورة في الفقه.

وروي أن (المتعمد) هو الذي يقتله على دينه(1)، والظاهر أنه بيان لأظهر المصاديق.

ثم إنّ الآية الكريمة ذكرت أربع عقوبات لقاتل العمد وهي:

1- {جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا}، فكل معصية كبيرة لها اقتضاء خلود صاحبها في النار، والقتل من أكبر الكبائر، لكن اللّه تعالى بلطفه استثنى موردين:

المورد الأول: فيما لو تاب مرتكب الكبيرة - مع وفائه بشروط التوبة، فإنّ توبة كل شيء بحسبه - ، والقاتل لو كان قتله في حال كفره ثم أسلم وحسن إسلامه غفر اللّه له، فإن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وكذا لو تاب توبة نصوحاً بأن أدّى حق ذوي المقتول وحق اللّه تعالى، فعسى اللّه أن يتوب عليه وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}(2).

المورد الثاني: فيما لو غفر اللّه تعالى، وقد قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ

ص: 354


1- تفسير العياشي 1: 267.
2- سورة الزمر، الآية: 53.

بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1) وقد مرت الآية أنفاً بتفسيرها، وقد دلت الروايات على أنّ من كانت عقيدته صحيحة ومات عليها فإنه لايخلّد في نار جهنم، فهذا استثناء من الخلود في هذه الآية، كاستثناء التائب المقبولة توبته.

2- {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} وغضبه عذابه؛ لأنه سبحانه ليس محلاً للحوادث وهو منزه عن الكيفيات النفسانية.

3- {وَلَعَنَهُۥ} أي طرده من رحمته، فالغضب إنزال العذاب، واللعن منع الرحمة.

4- {وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا} غير جهنم والغضب عليه، فجهنم عذاب، وغضبه عذابه، ويضاف إليهما عذاب آخر أيضاً.

ويحتمل أن يكون قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ} بياناً للعقوبة الدنيوية وذلك بتشريع القصاص عليه من غير تخفيف من اللّه تعالى عليه، وقوله: {وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا} للعقوبة الأخروية، واللّه العالم.

ولا يخفى أنّ القتل العمد من أكبر الكبائر، لكن إن تاب القاتل توبة نصوحاً فعسى اللّه أن يغفر له؛ لأنه سبحانه يغفر الذنوب جميعاً بالتوبة، وأما عدم ذكر التوبة في هذه الآية فلعلّه لأجل أن لا يستخف الناس بقتل العمد على أمل التوبة بعد ذلك، وأما ما روي من أنّ القاتل المتعمد لا توبة له، فالمراد أنه لا يوفق لها، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لا يوفق قاتل المؤمن متعمداً للتوبة»(2) أو إذا قتله لإيمانه كما عنه (عليه السلام) أنه قال: «إن كان

ص: 355


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- تفسير العياشي 1: 267.

قتله لإيمانه فلا توبة له»(1).الثامن: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ...} الآية.

تدل الآية على لزوم الاحتياط في أمر الدماء، وقبول إسلام كلّ من أظهره حتى لو ارتبتم في إسلامه، فلا بد من التبيّن بأنه خدعة ومجرد لقلقة لسان أم أنه دخول في الإسلام ولو نفاقاً، فإنّ المنافق محكوم بالإسلام ظاهراً، فيكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

والحاصل أنّ التبيّن واجب، فلا يكفي مجرد وجوده في دار الحرب، فلعلّه مسلم متخفٍّ بينهم، وخاصة مع إظهاره الإسلام أمام المجاهدين، فليس على المسلم إلاّ العمل بالظاهر مع أخذ الحيطة لئلا يكون خدعة، وأما القلوب فأمرها إلى اللّه تعالى.

وفي تفسير القمي: «إنها نزلت لمّا رجع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من غزوة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، وكان رجل من اليهود يقال له: مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلمّا أحسّ بخيل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل، فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً رسول اللّه، فمرّ به أسامة بن زيد فطعنه فقتله، فلمّا رجع إلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخبره بذلك، فقال له رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : قتلت رجلاً شهد أن لا إله إلاّ اللّه وأني رسول اللّه؟ فقال: يا رسول اللّه، إنّها قالها تعوّذاً من القتل! فقال رسول

ص: 356


1- تفسير العياشي 1: 267؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 202.

اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فلا كشفت الغطاء عن قلبه، ولا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت! فحلف أسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحداً شهد أن لا إله إلاّاللّه وأنّ محمداً رسول اللّه، فتخلّف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبه»(1).

أقول: ولم يكن معذوراً في تخلّفه عنه (عليه السلام) لمخالفته لصريح قوله تعالى: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَىٰهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَٰتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ}(2)، ويبطل القَسم إذا خالف القرآن الكريم.

وقوله: {ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الضرب في الأرض كناية عن السفر؛ لأنّ المسافر يضرب الأرض برجله، وسبيل اللّه هنا يراد به الجهاد، وهذا الحكم وإن كان عاماً سواء في سفر أم لا، في جهاد أم غيره، لكن الابتلاء به في السرايا الجهادية أكثر.

وقوله: {فَتَبَيَّنُواْ} أي اطلبوا بيان حقيقة الأمر، والمقصود ترك الاستعجال في الحكم بالكفر، ولزوم التمييز بين المؤمن والكافر.

وقوله: {أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَٰمَ} أي أظهر الإسلام سواء بنطق الشهادتين أو بالتحية الإسلامية، أي قوله: سلام عليكم مما يكشف عنه إسلامه.

وقوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ...} حال، أي لا تقولوا: لست مؤمناً حال كونكم تريدون غنيمة ماله، وذلك يصير سبباً لتسرّعكم في الحكم بكفره، وقيل: هذا استفهام إنكاري، أي هل تريدون بالتسرع في القتل عرض الحياة الدنيا، والغرض من الاستفهام الإنكاري هو النهي عن تكرار ذلك.

ص: 357


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 204 عن تفسير القمي.
2- سورة الحجرات، الآية: 9.

و(العرض) هو ما لا ثبات له، وكل شيء يقلّ لبثه، وهكذا غنائم الدنيا.

وقوله: {فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} وعد للملتزمين بحكم اللّه تعالى بأنهسيقدّر لهم مغانم كثيرة سواء في الدنيا أم في ثواب الآخرة.

وقوله: {كَذَٰلِكَ} أي كهذا الذي رفضتم إسلامه، كنتم أنتم كفاراً ثم أظهرتم الإسلام ولم يعلم أحد عن قلوبكم، لكن مع ذلك منّ اللّه عليكم بقبول إسلامكم.

وقيل: كذلك أي كطلبكم عرض الحياة الدنيا في قتل هذا الرجل كنتم من قبل تطلبون عرض الحياة الدنيا! لكنه بعيد عن ظاهر الآية وسياقها.

وقوله: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} المنِة والمنّ كما مرّ هو الإنعام بالنعمة العظيمة، وقد يكون بالتذكير بالنعمة على وجه الاستطالة، فاللّه منّ عليكم بقبول إسلامكم ولم يأمر النبي والمؤمنين بالبحث عن نواياكم.

وقوله: {فَتَبَيَّنُواْ} تأكيد لما ذكره في صدر الآية، وذلك لأهمية حقن دماء المسلمين وعدم إراقتها من غير وجه حق، ولعل سبب التكرار هو أنّ الحكم لا يعني عدم الاحتياط والإهمال، بل عليهم أخذ الحيطة والحذر.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي أنّ المسلمين مكلّفون بالعمل بالظاهر وليس من شأنهم شق القلوب، وأما القلوب فهي ترتبط باللّه تعالى فيجازي عليها، وكذلك هو ناظر إلى أعمالكم ويعلم بواطنها - أي نياتكم منها - فاحذروه.

ص: 358

الآية 95-96

اشارة

{لَّا يَسْتَوِي الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا 95 دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا 96}

ثم بعد بيان أنواع القتال والقتل وبيان أحكامها، يحثّ اللّه تعالى المؤمنين على الجهاد والهجرة إعلاءً لكلمته، فقال في الجهاد:

95- {لَّا يَسْتَوِي} لا يعتدل في المنزلة {الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن الجهاد؛ لأنه واجب كفائي فلم يخرجوا إليه ولم يضرّ ذلك بإيمانهم {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} أصحاب العذر كالأعمى والأعرج والمريض، {وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} فإنّ الواجب الكفائي إذا قام به من بهم الكفاية سقط عن الباقين، ثم بيّن سبب عدم الاستواء بأنه {فَضَّلَ اللَّهُ} بحكمته {الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً} وهذه الدرجة هي درجة الجهاد، فهي منزلة العامل على غير العامل، فالقاعد عامل بالصالحات إلاّ الجهاد، والمجاهد عامل بها كلها مع الجهاد، {وَكُلًّا} من المجاهد والقاعد من غير ضرر {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ} لكونهم مؤمنين عاملين

ص: 359

بالصالحات، {وَ} لكن {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًاعَظِيمًا}.

96- ثم بيّن ذلك الأجر العظيم، وهو أنه تعالى فضّلهم عليهم {دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ} من اللّه {وَمَغْفِرَةً} لذنوبهم {وَرَحْمَةً} لهم بالثواب الجزيل {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} لذا يغفر ذنوب المجاهدين ويرحمهم برحمته.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {لَّا يَسْتَوِي الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ...} الآية.

هذا حث للمؤمنين على اختيار الجهاد على القعود عنه حتى لو لم يجب عليهم، بأن كان واجباً كفائياً وعلم بتطوّع أناس فيهم الكفاية، فالكلام في هاتين الآيتين حول المؤمنين حصراً، ولا تشمل العصاة الذين يتخلفون عن الجهاد إذا كان واجباً عينيّاً عليهم، أو لم يكن متطوعون فيهم الكفاية، أو أمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شخصاً بعينه للجهاد، فهؤلاء تخلّفهم معصية كبيرة أوعدوا عليها بالنار، قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ}(1)، وقال: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمْ} إلى قوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(2)، وأما المذكورون في هاتين الآيتين فهم مؤمنون ملتزمون، جاءتهم فرصة الجهاد من غير حاجة إلى جميعهم،

ص: 360


1- سورة التوبة، الآية: 120.
2- سورة الفتح، الآية: 16.

فبادر البعض لينالوا السبق كما قال تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ}(1)، وقال: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ...}(2)، واللّه تعالى في هذه الآية يبيّن فضيلة المجاهدين حثاً للجميع على الجهاد.

وقوله: {لَّا يَسْتَوِي} أي لا يعتدل ولا يتساوى، وهذه الطريقة أشدّ حثاً وتحريضاً من مجرد بيان الثواب العظيم، وذلك بإثارة حسّ التنافس بين الناس، ولذا حين التنافس تكون النتائج أفضل، فإنّ الإنسان قد يقنع بالنتيجة الحسنة، لكن لو رأى غيره سبقه تتحرك فيه الدواعي النفسانية لئلا يتأخرّ، قال تعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(3).

وقوله: {الْقَٰعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بيان أنّ قعودهم لم يضر بإيمانهم؛ لسقوط الوجوب عنهم لمّا قام به من به الكفاية، أما القعود مع الوجوب فذلك معصية كبيرة قد تلحقهم بالنفاق قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَْٔذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} إلى قوله: {وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَٰعِدِينَ}(4).

وقوله: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} استثناء من القاعدين، والمعنى أنّ الآية في مقام التفاضل بين القاعد من غير عذر وبين المجاهد، وأما القاعد مع عذر فليست الآية في مقام مقايسته مع المجاهد، وإن كان يستفاد من الأدلة

ص: 361


1- سورة البقرة، الآية: 148.
2- سورة آل عمران، الآية: 133.
3- سورة المطففين، الآية: 26.
4- سورة التوبة، الآية: 45-46.

الأخرى أنه لو كان ينوي الجهاد لو لم يكن له عذر بنية صادقة أعطاه اللّه أجراً على ذلك، وفي الحديث: «نية المؤمن خير من عمله»(1)، قال سبحانه: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}(2)، و{أُوْلِي الضَّرَرِ} في الآية أعم من العوق كالعرج، ومن المرض، ومن عدم امتلاكهم آلة الحرب ونحو ذلك مما يمنعهم عن الجهاد.

كيفية الجهاد الحق

وقوله: {وَالْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قيّد الجهاد بكونه في سبيل اللّه، أما الجهاد في سبيل الطاغوت فالقعود خير منه، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لقي عباد البصري علي بن الحسين صلوات اللّه عليهما في طريق مكة، فقال له: يا علي بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه، إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(3) فقال له علي بن الحسين‘ أتم الآية، فقال: {التَّٰئِبُونَ الْعَٰبِدُونَ الْحَٰمِدُونَ السَّٰئِحُونَ الرَّٰكِعُونَ السَّٰجِدُونَ الْأمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(4) فقال علي بن الحسين‘: «إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم

ص: 362


1- الكافي 2: 84.
2- سورة التوبة، الآية: 91.
3- سورة التوبة، الآية: 111.
4- سورة التوبة، الآية: 112.

أفضل من الحج»(1).

الثاني: قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ...} الآية.

بيان لعلة عدم الاستواء، بأنّ اللّه تعالى هو الذي فضّل المجاهد بتوفيقه للجهاد، وليس ذلك التفضيل عبثاً، بل لحسن اختيار هذا الإنسان لذلك وفقه اللّه لمزيد من الفضل.

ولم يذكر هنا في سبيل اللّه؛ لأنّ التفضيل من اللّه إنما يكون لمن كان مجاهداً في سبيله، فإنه تعالى لا يفضّل إلاّ بالإيمان والعمل الصالح، فلم يكن حاجة إلى ذكر كلمة {سَبِيلِ اللَّهِ}، عكس صدر الآية، حيث كانت في مقام عدم الاستواء فكان لا بد من تقييد الجهاد بكونه في سبيل اللّه، وأما تكرار كلمة أموالهم وأنفسهم فلعلّه لبيان عِلة التفضيل وأنه الجهاد بالمال والنفس، فكأنه قال: المجاهد في سبيل اللّه بماله ونفسه أفضل من القاعد؛ وذلك لأنه جاهد بماله ونفسه!

وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} قدّم المال على النفس؛ لأنه الحالة الطبيعية، فعادة المجاهد ينفق للجهاد ثم يذهب هو بنفسه إليه، ولكن في آية أخرى قدّم النفس على المال فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}(2)، وذلك لأنّ المقام لبيان المقايضة وفيها يتقدم ذكر الأفضل والأكثر نفاسةً.

وقوله: {دَرَجَةً} أي منزلة، والظاهر أنّ المعنى أنّ اللّه وفقهم للجهاد دون

ص: 363


1- الكافي 5: 22.
2- سورة التوبة، الآية: 111.

القاعدين، فالمجاهدون والقاعدون مؤمنون مشتركون في جميع الفضائل من الصلاة والصيام والحج وسائر الطاعات، إلاّ أنّ المجاهدين فضّلهم اللّه بزيادة درجة الجهاد، فالمراد بالدرجة هنا الجهاد وليس الثواب، فإنه سيذكر بعد هذا.

والحاصل أنّ اللّه وفقهم لدرجة الجهاد، وذلك يستتبع الأجر العظيم والدرجات الأخروية، ومن ذلك يتضح أنه لا تكرار في قوله: {دَرَجَةً} وقوله: {دَرَجَٰتٖ}، كما لا تناقض، كما نقول: فلان نال درجة العلم وبها سبق غيره بدرجات من المناصب والمزايا.

وبهذا يتضح أنه لا تكرار بين قوله: {لَّا يَسْتَوِي...} وقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ...} بل في البداية يبين اللّه تعالى عدم التساوي، ثم يفصّل بأنّ اللّه فضّل المجاهدين بدرجة الجهاد أولاً، وبالأجر العظيم الذي هو الدرجات الأخروية والمغفرة والرحمة ثانياً.

وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ} قيل: هو لدفع تخيّل أنه لا ثواب للقاعد، فيقال: إنّ القاعد قد سقط وجوب الجهاد عنه بقيام من به الكفاية، فلم يكن عاصياً بتركه، وقد كان مؤمناً عاملاً بالأوامر تاركاً للنواهي، فلذلك هو أيضاً موعود بالثواب.

فأفضلية بعض الناس على بعض ليست بمعنى عدم الثواب للمفضول إذا آمن وعمل صالحاً واهتدى.

وقوله: {وَكُلًّا} قيل: أي كلاً من المجاهد والقاعد لا عن ضرر والقاعد عن ضرر! وهذا المعنى وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ أنه خلاف ظاهر

ص: 364

الآية، حيث إنها في مقام المقايسة بين القاعد من غير ضرر والمجاهد، وليس القاعد من ضرر داخلاً في المقايسة.

وقوله: {الْحُسْنَىٰ} صفة لموصوف محذوف، أي الخصلة الحسنى ونحوها؛ لأنّ كلاً منهم صحت عقيدته وخلصت نيته وقُبل عمله.

الثالث: قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَٰهِدِينَ عَلَى الْقَٰعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ...} الآية.

بعد بيان تفضيل المجاهد على القاعد بالتوفيق للجهاد يأتي ذكر تفضيل المجاهد على القاعد في الثواب، فإن كان الفرق بينهما في درجة واحدة هي درجة الجهاد، لكن الفرق بينهما في الثواب كبير جداً بدرجات أخروية لا يعلم مقدارها إلاّ اللّه تعالى، وكذا مغفرة خاصة زيادة على مغفرة عامة المؤمنين، وكذا رحمة خاصة زيادة على رحمتهم.

وقوله: {الْمُجَٰهِدِينَ} من غير ذكر قيد سبيل اللّه ومن غير ذكر المتعلّق وهو المال والنفس؛ لأجل أنّ الألف واللام للعهد.

وقوله: {أَجْرًا عَظِيمًا} أي الأجر الأخروي، وفي هذا حث كبير للمؤمنين على الجهاد بأنكم قد لا ترون إلاّ فرقاً واحداً بدرجة واحدة، لكن نتيجة الفرق بدرجة في الدنيا هو الأجر العظيم الذي هو درجات في الآخرة مضافاً إلى الرحمة والمغفرة، وبعبارة أخرى: وإن كان كلاهما موعوداً بالحسنى لكن لا مقايسة بين الحُسنيين.

ثم بيّن اللّه تعالى ذلك الأجر العظيم وأنه ثلاثة أمور.

قوله: {دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ} أي من اللّه تعالى، وهذا سبب عظمة الأجر، فإنّ

ص: 365

الثواب المنسوب إلى اللّه تعالى عظيم؛ لأنه القادر الكريم، فلا يمكننا تصوّر حدود هذه الدرجات، مضافاً إلى دوامها إلى الأبد.

ثم إنه في هذه الآية قال: {دَرَجَٰتٖ مِّنْهُ} وفي الآية السابقة {دَرَجَةً} من دون (منه)، ولعل السبب أنّ ثواب الآخرة تفضّل بحت من اللّه تعالى، وأما نيل درجة الجهاد وإن كان بتوفيق من اللّه تعالى إلاّ أنّ لاختيار الإنسان دخلاً في ذلك؛ لأنه سبحانه شاء أن يخلق الإنسان مختاراً.

وقوله: {وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} قيل: قدّم المغفرة على الرحمة؛ لأنّ الرحمات الخاصة لا تكون إلاّ بعد زوال الموانع.

فليس من الحكمة إنزال الرحمة مع وجود المانع لها، والذنب مانع، فأولاً يزيل اللّه سبحانه المانع عبر المغفرة ثم ينزل الرحمة، كما لو كانت لك ضيافة محترمة فجاء ضيف وقد اتسخ بالطين فتدخله الحمام وتغسل ملابسه ثم تدخله إلى دار الضيافة مع سائر الضيوف.

ص: 366

الآيات 97-100

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا 97 إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا 98 فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا 99 وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا 100}

بعد ذكر الجهاد يأتي ذكر الهجرة وبيان أنه كما هناك قاعدون عن الجهاد كذلك هناك قاعدون عن الهجرة فقال تعالى:

97- {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ} تقبض أرواحهم {الْمَلَٰئِكَةُ} ملك الموت وأعوانه، حال كونهم {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} بخسوها حقها في الإيمان والعمل الصالح {قَالُواْ} الملائكة لهم توبيخاً: {فِيمَ} في ماذا {كُنتُمْ} من أمر دينكم؟! {قَالُواْ} قال هؤلاء المقبوضة أرواحهم: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} عاجزين عن إقامة الدين وشعائره لاستضعاف الكفار لنا، {قَالُواْ} الملائكة تكذيباً لهم وتوبيخاً: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً} لا تنحصر بمكان سيطرة الكفار {فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} في الأرض من دار الكفر إلى دار

ص: 367

الإسلام، فكنتم تتمكنون من الخروج عن الاستضعاف لكنكم خلدتم إلى الأرض وتكاسلتم فلا عذر لكم، {فَأُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ} مرجعهم إليهابسبب كفرهم أو نفاقهم أو تركهم شعائر الدين {وَسَاءَتْ} جهنم {مَصِيرًا} لعذابها وأهوالها!

98- لكن هناك مستضعفون عاجزون حقيقة فاستثناهم اللّه تعالى {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} الاستثناء منقطع {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ} وهذا التفصيل لبيان العجزة وأنها تشمل الرجال الضعاف أيضاً، وهؤلاء هم الذين {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} مخرجاً لإقامة الدين وشعائره بالتقية مثلاً {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} إلى الهجرة فلا يعرفون كيفيتها ولا يقدرون عليها، وفي الحديث بيان بعض المصاديق بقوله: «لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر ولا يهتدي سبيلاً إلى الإيمان»(1).

99- {فَأُوْلَٰئِكَ} هم المستضعفون الحقيقيون و{عَسَى اللَّهُ} يُرجى {أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} بأن يمحو أثر كفرهم أو أعمالهم فيرحمهم بالثواب تفضلاً منه، {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا} كثير العفو {غَفُورًا} يستر الذنوب وآثارها.

100- ما مضى كان حال القاعد عن الهجرة {وَ} أمّا {مَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأجل دينه تعالى ف {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ} التي هاجر إليها {مُرَٰغَمًا كَثِيرًا} تحولاً ومفارقة عن الكفار ترغم أنوفهم بإقامة الدين {وَسَعَةً} في رزقه.

ثم يبين اللّه تعالى ثواب المهاجر في سبيله فيقول: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ} بكل ما يتضمنه من عواطف ومصالح، حال كونه {مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ

ص: 368


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 206.

وَرَسُولِهِ} أي بقصد إقامة أحكام اللّه ونصرة رسوله، كناية عن الذهاب إلىدار الإسلام {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} سواء مات في الطريق أو بعد الوصول إلى دار الهجرة {فَقَدْ وَقَعَ} ثبت {أَجْرُهُۥ عَلَى اللَّهِ} أي جزاؤه على اللّه، وهذا وعد مع تعظيمه وتفخيم الموعود له، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لذنوبه {رَّحِيمًا} له بإعطائه الثواب الجزيل.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أنه بعد تصنيف الناس إلى مجاهد وقاعد عن الجهاد وحكم كلا الصنفين، يأتي الكلام إلى تصنيفهم إلى مهاجر وقاعد عن الهجرة، وإنما ذكر الجهاد والهجرة مقترنين؛ لأنّ إقامة الدين تكون بهما عادة، إذ يهاجر المؤمن من دار الشرك إلى دار الإيمان ثم يجاهد في سبيل اللّه لإعلاء كلمته.

فتذكر هذه الآيات ثلاثة أصناف من الناس:

1- القاعدون عن الهجرة مع استطاعتهم عليها مع عدم تمكنهم من إقامة الدين، فهؤلاء لا عذر لهم في كفرهم أو تركهم شعائر الدين، ومأواهم جهنم.

2- القاعدون مع عجزهم عن الهجرة وعدم تمكنهم من إقامة الدين، فهؤلاء معذورون وعسى اللّه أن يعفو عنهم.

3- المهاجرون في سبيل اللّه وهؤلاء أجرهم على اللّه تعالى.

ويبقى هنا صنفان آخران يستفاد حكمهما من الآية بالملازمة:

أولهما: القاعد عن الهجرة مع تمكنه من إقامة الدين في بلاد الكفر، فهذا لا بأس بعدم هجرته، فإنّ الهجرة طريقيّة إلى إقامة الدين، وهذا قد تمكن

ص: 369

منه من دونها.

وثانيهما: المهاجر بطمع مال أو منصب أو نحو ذلك مما لم يكن في سبيل اللّه، فهذا لا أجر له في هجرته.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ الْمَلَٰئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ...} الآية.

غير خفي أنّ الأمور كلها ومنها الوفاة بيد اللّه تعالى، ولكنه جعل ملائكة يدبرون الأمر بإذنه، فأوكل قبض الأرواح إلى ملك الموت وجعل له أعواناً من الملائكة وهم رسل اللّه تعالى إلى الناس في قبض أرواحهم، وهذا من حكمته أن جعل الأمور - طبيعية كانت أم غيبيّة - بالأسباب والمسببات، لكن مرجع الأمر كله إليه تعالى، ولذا قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ}(1) وقال: {قُلْ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}(2)، وقال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}(3).

وقوله: {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي حال كونهم ظالمين لأنفسهم؛ لأنهم منعوها حقها من الإيمان والعمل الصالح بسوء اختيارهم، مع قدرتهم على ذلك بالهجرة.

وقوله: {فِيمَ كُنتُمْ} سؤال توبيخي مقدمة للعذاب، أو هو جزء من العذاب، ولكي تنقطع حجتهم ويعلموا استحقاقهم للعذاب، وكذا لتحذير الأحياء لمّا تنقل لهم وقائع الأموات، والمعنى: في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم؟! أي لماذا كنتم هكذا كفرة أو تاركي الفرائض؟

وقوله: {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} تجاوزوا الجواب عن السؤال

ص: 370


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- سورة السجدة، الآية: 11.
3- سورة الأنعام، الآية: 61.

إلى بيان سبب عملهم، إذ الجواب هو: كنا كفاراً أو تاركينللفرائض، لكن لما استقبحوا الإقرار بذلك أجابوا عبر ذكر سبب سوء صنيعهم، لعلّه يكون عذراً لهم، وذلك بإلقاء الذنب على عاتق الكفار الذين كانوا يستضعفونهم ويمنعونهم عن الإيمان وفرائض الدين.

والحاصل الاعتذار بضعفهم وقوة الكفار، ولعلّ إضافتهم {فِي الْأَرْضِ} مع كفاية قولهم: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ}! لأجل الاسترحام بأنا كنا في الدنيا ضعفاء فارحمونا في الآخرة فلا قوة لنا بكم!

قوله: {قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةً} تبكيت لهم ودحض لحجتهم بأنكم كنتم تتمكنون من الخروج عن استضعاف الكفار لكم بأن تهاجروا إلى أراضٍ أخرى تقيمون فيها الدين وشعائره حتى لو كانت بلاد كفر، كما هاجر بعضكم إلى الحبشة، أو إلى دار الإسلام، كما هاجر بعضكم إلى المدينة المنوّرة.

والحاصل أنّ أرض اللّه لا تنحصر في مسقط رأسكم حيث يستضعفكم الكفار، بل هي واسعة كنتم تتمكون من الهجرة إليها، فالاستضعاف كان بسوء اختياركم، فلا عذر لكم في عدم إقامة الدين وشعائره.

في قوله: {أَرْضُ اللَّهِ} إشعار بأنّ اللّه خلق الأرض للأنام ليقيموا فيها الدين، فكلّما ضاقت بهم أرض عن ذلك تحولوا إلى غيرها، كما يهاجر الناس لمّا تجدب أرضهم إلى الماء والكلأ، ومن بقي إلى أن مات جوعاً لا يعذرونه.

الثالث: قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ...} الآية.

ص: 371

بيان لصنف آخر من القاعدين، وهم العاجزون عن الهجرة مع عدمتمكنهم من إقامة الدين في بلدهم، فهؤلاء معذورون لقصورهم فلذا عسى اللّه أن يعفو عنهم.

قوله {إِلَّا...} الاستثناء منقطع؛ لأنّ هؤلاء ليسوا داخلين في الظالمين لأنفسهم، وذلك لقصورهم، فمعنى الآية الظالمون لأنفسهم ممن يزعمون أنهم مستضعفون مأواهم النار وأما المستضعفون الحقيقيون فمعذورون.

وقوله: {مِنَ الرِّجَالِ...} هذا التفصيل لدفع توهم أنّ الاستضعاف خاص بالنساء والأولاد، فيقال: إنه يمكن أن يكون الرجال مستضعفين أيضاً، فالمناط العجز، وهو وإن كان الغالب في النساء والولدان لكن يمكن عجز الرجال أيضاً.

وقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ...} تعريف للمستضعفين الحقيقيين فهؤلاء لا يتمكنون من إقامة الدين في بلدهم ولا يتمكنون من الهجرة إلى بلد آخر لهم فيه الحرية.

وقوله: {حِيلَةً} أي المخرج والعلاج، وأصل هذه الكلمة وإن كانت أعم من المخرج والعلاج بحق أو باطل إلاّ أنه غلب استعمالها في العرف بالعلاج بالباطل، والمراد هنا الطريقة والعلاج لإقامة الدين، بأن يؤمن ويعمل بالشريعة بالتقية أو بالاتصال بقوة من عشيرة أو مال أو حِلف أو نحو ذلك.

وقوله: {سَبِيلًا} أي لا يهتدون إلى سبيل الهجرة لضعفهم، ولذلك مصاديق سيأتي ذكرها بعد قليل.

الرابع: قوله تعالى: {فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ...} الآية.

ص: 372

أي يرجى أن يعفو اللّه عن كفرهم أو عن تركهم الفرائض والشريعة.سؤال: الجاهل القاصر يقبح عذابه فكيف الآية تقول: {عَسَى...}؟

والجواب: دلت الروايات على أنّ الجاهل القاصر إن كان كافراً فإن اللّه تعالى يمتحنه في الآخرة بنار يخلقها ويأمره بدخولها فإن أطاع فهو من الناجين، وإن عصى فهو من أهل النار، وعليه فليس هناك ضمان للمستضعف، بل يرجى أن ينجح في امتحان الآخرة فيعفو اللّه عنه.

وفي التبيين: إنّ قصورهم مشوب بالتقصير(1).

وفي التقريب: ودخول (عسى) في مثل هذه الآية للدلالة على كون الأمر بيد اللّه سبحانه، وأنه كان قادراً أن يأمرهم بما يحرجهم من وجوب خروجهم وإظهار دينهم، وإن بلغ بهم الأمر ما بلغ(2).

وقيل: إنّ للكفر وترك الشريعة آثاراً وضعية حتى لو لم تكن عقوبة، وهي منع الإنسان عن نيل الثواب والرحمة في الآخرة، فعفوه تعالى هنا بمعنى محو الأثر الوضعي لعملهم، وبذلك يرتفع المانع عن ثوابهم في الآخرة، وهذا العفو ليس بواجب على اللّه تعالى، بل هو فضل منه لذلك يرجى منه هذا الفضل!

وقوله: {عَفُوًّا غَفُورًا} العفو هو محو أثر الذنب حتى لو لم يستر عليه، والغفران هو ستر الذنب، فالجمع بينهما بمعنى إزالة آثار الذنوب مع الستر عليهم.

ص: 373


1- تبيين القرآن: 105.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 530.

كلام حول المستضعف

المستضعف لغة هو كل من اعتبره الآخرون ضعيفاً فأكرهوه على ما لا يريد، والاستضعاف قد يكون بمعنى الظلم والجور عليهم ومنعهم حقوقهم الدنيوية كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ}(1)، وهذا القسم غير مراد في ما نحن فيه، وقد يكون الاستضعاف دينياً بالمنع عن الإيمان وعن إقامة شعائر الدين، وهذا هو المقصود في هذه الآيات، وهناك روايات كثيرة في تفسير أو تأويل أو بيان مصاديق هذه الآيات، مع بيان أنواع المستضعفين وأحكام كل صنف ومصيرهم في الآخرة، نذكرها باختصار(2).

1- أما تعريف المستضعف: فهو العاجر عن الإيمان أو شعائره مع عدم تمكنه من رفع عجزه، وقد بينت الروايات مصاديق له، وقد تكون متداخلة:

منها: الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر ولا يهتدي سبيلاً إلى الإيمان.

ومنها: الصبيان وأشباه عقول الصبيان من الرجال والنساء.

ومنها: البلهاء في خدرها، والخادمة لا تدري إلاّ ما قلت لها، والكبير الفاني.

ومنها: من لم يكن من أهل القبلة ناصباً فهو مستضعف.

ومنها: من لا يُحسن سورة من سور القرآن وقد خلقه اللّه خلقة ما ينبغي له أن يحسن، أي عدم معرفته للسورة إنما هو لقلة عقله وضعف استيعابه خلقة.

ومنها: قوم يلتزمون بالواجبات وترك المحرمات، ولا يرون أنّ الحق في

ص: 374


1- سورة القصص، الآية: 4.
2- راجع تفصيل الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 205-210.

غير أهل البيت، وهم آخذون بأغصان شجرة الولاية وإن لم يعرفوا ذلك،بمعنى محبتهم لأهل البيت (عليهم السلام) وإن لم يعرفوا إمامتهم.

والجامع لكل ذلك من كان قاصراً لقلة عقله أو لعدم وصول الحق إليه مع عدم تمكنه من الوصول إليه، لكن مع التزامه بما يعرفه من الواجبات والمحرمات.

2- من ليس بمستضعف، فهو الذي يعرف الحق ولكنه ينكره، أو عرف اختلاف الناس، لكنه لم يحقق فيه واكتفى باتباع آبائه في دينه، فمن عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف(1)، وكذلك الناصب ليس بمستضعف(2)؛ لأنّ العادة كونه عن عناد مع وصول أدلة فضيلة أهل البيت (عليهم السلام) إلى الجميع.

3- حكم المستضعف المسلم، هو حكم سائر المسلمين في المناكحة والموارثة والمخالطة، وأما المستضعف الكافر فحكمه حكم الكفار في هذه الأمور.

4- وأما مصير المستضعف في الآخرة: فإن نجح في الامتحان كان من أهل النجاة وهو منعّم، لكن منزلته دون منزلة المؤمنين، والروايات صنفان: فبعضها دلت على عدم دخول الجنة إلاّ من مات مؤمناً(3)، وبعضها دلت على دخول المستضعف الجنة بفضل اللّه تعالى(4)، والجمع بينها ما قيل: من أنّ مؤمني الجن والمستضعفين الناجين يخلدون في الأعراف ونعيمها فوق

ص: 375


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 210.
2- راجع معاني الأخبار: 200.
3- الكافي 2: 298.
4- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 208.

نعيم الدنيا ودون نعيم الجنة، وحيث إنهم في الأعراف منعمون عبّر عنهابالجنة، واللّه العالم.

5- تأويل الظالمين لأنفسهم المدعين للاستضعاف بالذين لم ينصروا الإمام علياً (عليه السلام) واعتزلوه ولم يقاتلوا معه معتذرين بأنهم لا يعلمون مع من الحق، مع أنّ دين اللّه وكتابه واسع وقد بيّن فضل أمير المؤمنين ووجوب نصرته(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ...} الآية.

فوائد الهجرة

حث على الهجرة ببيان فوائدها وآثارها، وهنا تذكر ثلاثة أمور:

1- فلئن استضعفكم الكفار في وطنكم فلم تتمكنوا من الإيمان أو شعائره! ففي الهجرة ترغمون آنافهم بإقامة الدين وفرائضه.

2- ولئن كانت بيوتكم تؤويكم ولكم مكاسب في أوطانكم! ففي الهجرة سعة من الرزق.

3- ولئن كنتم تخافون الموت في الهجرة! فالأجر على اللّه تعالى مع الغفران والرحمة، ولا ثواب أجلّ من ذلك.

وقوله: {مُرَٰغَمًا} بمعنى المتحوّل والمنقلب، وأصله من الرّغام بمعنى التراب، فكأنه متحولٌ يُرغم أنوف الكفار، أي يلصقها بالتراب كناية عن الإذلال، فكما أذله الكفار باستضعافه كذلك هو يذلّهم بإقامة الدين بهجرته.

وقوله: {وَسَعَةً} أي في الرزق، وهكذا كان حال المهاجرين فأكثرهم كانوا فقراء، ثم فتح اللّه لهم أبواب رزقه بالغنائم والمتاجر ونحوها.

وقوله: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} بدلاً عن أن يقول «ومن يهاجر»،

ص: 376


1- راجع نص الرواية في تفسير القمي 1: 149.

لعلّه لأجل ذكر كلمة «البيت»، للإشارة إلى صعوبة الهجرة حيث بيت الإنسان بكل ما يعنيه من عواطف وذكريات وصداقات وقرابات ومصالح ومكاسب، فيكون ذلك حثاً وتمهيداً لذكر عظيم الثواب، أو لعلّه لأجل أن تشمل الآية من قصد الهجرة فمات في الطريق.

وقوله: {إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} كأنه قايض بيته باللّه وبالرسول، فتخلّى عنه لأجلهما، فهو كناية عن الهجرة إلى دار الإسلام حيث يمكن العمل بأوامر اللّه ونواهيه، ونصرة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} الآية عامة أي سواء كان إدراك الموت له وهو في الطريق أو بعد وصوله إلى دار الهجرة، وأما ما روي من شأن نزولها فيمن أراد الهجرة من مكة فمات في بداية مكة في التنعيم، فعلى فرض صحته فهو شأن النزول، ولا تقيّد الآيات بشأن نزوله إذا كانت ألفاظها عامة.

وقوله: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ} الوقوع هنا كناية عن الثبوت، فكأنه صار حقاً على اللّه تعالى، ولكن بسبب وعده هذا الثواب، وإلاّ فقد مرّ أنّ الثواب كله فضل، ولا حق لأحد على اللّه تعالى شيئاً، إلاّ بما وعده اللّه تعالى وجعله حقاً على نفسه.

ص: 377

الآيات 101-104

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَوٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا 101 وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَٰحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 102 فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوٰةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ إِنَّ الصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَٰبًا مَّوْقُوتًا 103 وَلَا تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 104}

لما ذكر اللّه تعالى الجهاد والهجرة بيّن كيفية الصلاة فيهما، فإنّ الجهاد والهجرة إنما هما لإقامة الدين والصلاة عموده فلا تترك بحال، فقال:

101- {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} سافرتم {فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إثم وحرج {أَن تَقْصُرُواْ} تقلّلوا {مِنَ الصَّلَوٰةِ} بإسقاط ركعتين من الصلوات

ص: 378

الرباعية {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ} يعذّبكم بالهجوم والمباغتة {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فلذا أراد اللّه أن يقلّ أمد الصلاة حتى يقلّ احتمال المباغتة، وهذا الشرط غالبي، إذ القصر شُرِّع في كل سفر - بشروطه - حتى لو لم يكن خوف، {إِنَّ الْكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} فلذا لا يراعون حرمة صلاتكم فإذا انشغلتم انتهزوا الفرصة.

102- {وَإِذَا كُنتَ} يا رسول اللّه {فِيهِمْ} في المجاهدين {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ} جماعةً، وأراد كل المجاهدين نيل ثواب الجماعة فعليهم أن ينقسموا قسمين: بعضهم يصلّي معك وبعضهم يحرسكم ويجاهد العدو {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} في صلاة الجماعة {وَلْيَأْخُذُواْ} هؤلاء المصلّون في حال الصلاة {أَسْلِحَتَهُمْ} بما لا تشغلهم عن الصلاة {فَإِذَا سَجَدُواْ} أكملوا سجودهم معك جماعة {فَ} ليكملوا الركعة الثانية فرادى ثم {لْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ} أي ليذهبوا بعد الفراغ من الصلاة إلى الحراسة والجهاد، والرسول لا زال قائماً في ركعته الثانية منتظراً {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ} لأنهم كانوا في الحراسة والجهاد {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} بأن يلتحقوا بالرسول في ركعته الثانية فيركعون ويسجدون معه ويقومون للركعة الثانية والرسول منتظر لهم في تشهده فلما يكملون ركعتهم الثانية فيسلّمون مع الرسول {وَلْيَأْخُذُواْ} في حالة الصلاة {حِذْرَهُمْ} تيقّظهم {وَأَسْلِحَتَهُمْ} كالطائفة الأولى، وإنما شرع اللّه صلاة الخوف بهذه الكيفية إذ {وَدَّ} تمنّى {الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} لتوجهكم إلى الصلاة {فَيَمِيلُونَ} يهجمون {عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَٰحِدَةً}

ص: 379

يطحنونكم طحناً، ثم بيّن اللّه تعالى أنّ حمل السلاح في حالة الصلاة ليس بواجب وإنما لأجل التحرز والاحتياط {وَلَا جُنَاحَ} لا إثم ولا حرج {عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى} مشقة وصعوبة {مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ} صار سبباً لصعوبة الجمع بين الصلاة وحمل السلاح، {أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} فلا تحملوها {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} إذ لا مشقة فيه، {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًامُّهِينًا} فيه مهانة لهم وذلّ، وهذا تسكين للمؤمنين بأن الصعوبة التي أوجدها الكفار لهم في صلاتهم سيقابلها اللّه بعذاب مهين لهم.

103- {فَإِذَا قَضَيْتُمُ} أدّيتم وأكملتم {الصَّلَوٰةَ} صلاة الخوف {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا} جمع قائم وقاعد {وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ} في حالة الاضطجاع، بمعنى أنّ ذكره ليس خاصاً بوقت الصلاة، بل عليكم ذكره على كل حال، هذا حكم صلاة المسافر وصلاة الخوف، {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} بالاستقرار في الوطن وزوال الخوف {فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} تامة من غير قصر {إِنَّ الصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَٰبًا مَّوْقُوتًا} أي مكتوبة ومفروضة عليهم ولا تترك بحال.

104- {وَ} حيث علمتهم قاسيتم مشقة الجهاد حتى في عبادتكم ف {لَا تَهِنُواْ} من الوهن أي لا تضعفوا {فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} الكافرين، أي طلبهم للقتال، فلا تمنعنّكم مشقة الجهاد عنه، فإنّ القتال على الكفار أشق، {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} من صعوبات القتال {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} من النصر والثواب، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بأعمالكم ونياتكم {حَكِيمًا} في أمره إياكم بالجهاد.

ص: 380

بحوث

الأول: لما ذكر اللّه تعالى الجهاد والهجرة وأحكامهما وحث عليهما، بيّن حكم صلاة المسافر والمجاهد، ولعلّ ذلك لبيان أنّ الجهاد والهجرة إنما هما طريق لعبادة اللّه تعالى وإعلاء لكلمته سبحانه، فمع كل أهمية الجهاد فالصلاة أهم منه، ولذا جعل اللّه تعالى في فصول الأذان «حيّ على خير العمل»، ولكن ألغاها عمر من الأذان زعماً بأنها تثبط الناس عن الجهاد!وهل الجهاد إلاّ لإقامة الصلاة؟! قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ} (1)، وفي الحديث: «إنّ أول ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قبلت قبل ما سواها»(2) وفي حديث آخر: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة»(3).

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ...} الآية.

بيان لحكم صلاة المسافر بقصر الصلاة في حالة السفر، وقد بينّت السنة كيفيته وشرائطه، فالقصر في الصلوات الرباعية فقط دون صلاة الصبح والمغرب، وذلك تخفيفاً من اللّه على المسافر لانشغاله بالسفر وصعوبته، والسفر الشرعي يتحقق بقطع ثمانية فراسخ - ولو ملفقة من الذهاب والإياب - قاصداً له، وفيه شروط مذكورة في السنّة.

وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي سافرتم أعم من كون قصدكم الجهاد أو التجارة أو أي غرض مباح.

ص: 381


1- سورة الحج، الآية: 41.
2- الكافي 3: 286.
3- بحار الأنوار 79: 202.

وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي لا إثم عليكم من القصر، ولا يخفى أنّ القصر واجب، والتعبير بعدم الجناح لأجل توهم الناس الحظر والمنع، كما مرّ في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(1).

وقوله: {أَن تَقْصُرُواْ} القصر يضاد الطول، والاقتصار على الشيءالاكتفاء به، وأصل الصلاة المفروضة ركعتان، إلاّ أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإذن اللّه أضاف ركعتين على الظهر والعصر والعشاء وركعة على المغرب، فهذه الركعات من سنة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما في الأحاديث(2)، ولذا صلاة القصر ليست ناقصة، وإنما هي الفريضة التامة ولذا عبّر عنها بالقصر.

وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ...} قيد غالبي، وليس قيداً احترازياً، فلا مفهوم للشرط، نظير قوله تعالى: {وَرَبَٰئِبُكُمُ الَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّٰتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ}(3) فقيد «في حجوركم» غالبي والحكم ليس متوقفاً عليه، فالآية عامة لكل مسافر، وإنما علمنا بكون القيد غالبياً من السنة، فالآية عامة، لا أنها خاصة والتعميم استفيد من السنة.

وقوله: {أَن يَفْتِنَكُمُ} أي يهجم عليكم وينكّل بكم بالقتل والجرح، وأصل الفتنة هو الإلقاء في النار، ثم استعمل في الاختبار وفي أنواع الضرر.

وقوله: {إِنَّ الْكَٰفِرِينَ كَانُواْ...} كالتعليل للتقصير في حالة الخوف، بأن

ص: 382


1- سورة البقرة، الآية: 158.
2- راجع وسائل الشيعة 4: 45.
3- سورة النساء، الآية: 23.

الكفار أعداؤكم فيريدون منكم غرة ليقضوا عليكم، فلذا لا يراعون حرمة لصلاتكم، فلذا خفّف اللّه عنكم بقصر الصلاة تقليلاً من احتمال هجومهم.

الثالث: قوله تعال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ...} الآية.

ندب إلى الجماعة ولو في حالة الحرب، فإنها أجمع للمسلمين وأكثرها إظهاراً لعبوديتهم وأوضحها شعارية، وكيفية صلاة الخوف كما صنعه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبينته الروايات هو أن ينقسم المقاتلون إلى صنفين، صنف يصلّّيوصنف يحرس ويقاتل، والصنف الأول يصلي ركعة واحدة في الجماعة، فلما أن يكملوا سجود الركعة الأولى ينفردون ويكملون الركعة الثانية فرادى، ثم يأخذون مواقعهم في الحراسة والقتال، فيأتي الصنف الثاني ويلتحق بالجماعة والإمام لا زال واقفاً في ركعته الثانية فيركعون معه ويسجدون، ثم يقومون للركعة الثانية والإمام جالس منتظراً لهم فيلتحقون به في السلام فيسلمون معه، وبذلك ينال كل المجاهدين فضيلة صلاة الجماعة.

وقوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} الحكم في صلاة الخوف عام سواء كان الرسول معهم أم لا، ولعل تخصيص الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالذكر تشريف له وربط لقلوب المجاهدين بأنّ الرسول لو كان معهم لصلّى بهم صلاة الخوف مع أنه معرّض للخطر أكثر من سائر المصلين؛ لطول صلاته بحيث تأتم به كلتا الطائفتين مع إضافة فترة تبادلهم مواقعهم.

وقوله: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوٰةَ} لبيان أهمية الصلاة وأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو أولى بإقامتها، والمؤمنون يتبعونه في الإقامة، أو لبيان أنّ هذا الحكم خاص بصلاة الجماعة، وأما لو صلّوا فرادى فيصلونها بكيفيتها المعهودة، فإن كانوا

ص: 383

في سفر فقصراً وإن كانوا في وطنهم فتماماً، وأما لو كانت الحرب شديدة ولا مجال للصلاة فيها فصلاتهم بالتكبير والتهليل والتسبيح وهم في حالة القتال، كما صنع أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة صفين في يوم وليلة الهرير، حيث استمر القتال من الظهر إلى أواخر الليل من غير وقفة(1) كما قال اللّه تعالى: {حَٰفِظُواْ عَلَى الصَّلَوَٰتِ وَالصَّلَوٰةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِقَٰنِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}(2).

وقوله: {وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} أي نفس الطائفة الأولى التي في البداية تصلّي مع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وقوله: {فَإِذَا سَجَدُواْ} أي سجدتي الركعة الأولى، فيكملون الصلاة فرادى.

وقوله: {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ} «الوراء» قد يكون بمعنى خلف وأمام وبعد، والمقصود هنا المعنى الكنائي، أي يحرسونكم من خلفكم، وضمير {وَرَائِكُمْ} بالجمع يراد به من وراء العسكر لا خصوص الطائفة الثانية فإنهم لم يأتوا بعدُ.

وقوله: {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وفي التقريب: ولعلّ إضافة كلمة {حِذْرَهُمْ} هنا بخلاف الجملة الأولى، أنّ هجوم العدو على هؤلاء أقرب من هجومهم على الطائفة الأولى؛ لأنه بمجرد الانقسام إلى طائفتين

ص: 384


1- راجع تفسير العياشي 1: 273؛ وعنه البرهان في تفسير القرآن 3: 221.
2- سورة البقرة، الآية: 238-239.

وانسحاب طائفة من الحرب لأجل الصلاة لا يدرك العدو الأمر، ولذا لا يأخذ استعداده الكامل للّهجوم بظن كون الجميع في حال القتال، بخلاف الأمر إذا طال الأمد وتبيّن الأمر وأنّ قسماً من المسلمين رفعوا أيديهم عن الحرب لأجل الصلاة(1).

وقوله: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} تعليل للانقسام وإقامة الصلاة بهذه الكيفيّة.

قوله: {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} لعلّ إضافة الأمتعة هنا لبيان شدة رغبةالكفار في الهجوم، فالغفلة عن الأسلحة تُطمعهم في الهجوم عليكم، والغفلة عن الأمتعة تدعوهم إلى قتالكم لاغتنامها.

وقوله: {مَّيْلَةً وَٰحِدَةً} أي هجوماً واحداً يقضي عليكم؛ لأن المقاتلين إذا كانوا غافلين عن سلاحهم أمكن القضاء عليهم بحملة واحدة بعكس ما لو كانوا حذرين ومعهم أسلحتهم، فالقضاء عليهم قد يحتاج إلى تكرار الهجوم والقتال.

وقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ...} بيان أنّ أخذ الأسلحة في حالة الصلاة ليس بفرض دائماً، بل هو لأجل زيادة الاحتياط، لذا أجيز للذي يتأذى بحمله لأجل المطر، أو المريض الذي يؤذيه ثقله أن يضعه بجنبه.

وقوله: {أَذًى مِّن مَّطَرٍ} الأذى كل ما يكرهه الإنسان في بدنه أو نفسه ما لم يصل إلى حدّ الضرر، والمطر يكون سبباً لبلل الثياب والبدن، وقد يكون حمل السلاح في تلك الحالة في حالة الصلاة مزعجاً وسبباً لإضافة ثقل إلى

ص: 385


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 535.

ثقل.

وقوله: {أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} إذ لا منافاة بين عدم حمل السلاح وبين التحذّر، كأن يضعوا سلاحهم أمامهم مع حدّة في السمع والبصر ليعرفوا تحركات العدو، فإذا اقترب منهم حملوا السلاح فوراً.

الرابع: قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوٰةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ}.

تعليم للمجاهدين بأنّ ذكر اللّه لا ينحصر في الصلاة وأوقاتها، بل عليكم أن تكونوا في ذكره دائماً وفي جميع الحالات، فإنه بذكره تسكن النفوس كماقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(1)، فتقوى العزيمة في الجهاد، والمنتصر قبل سلاحه سبب نصره عزيمته وقوة قلبه، و{قِيَٰمًا وَقُعُودًا} جمع قائم وقاعد، وقيل: مصدر للمبالغة، ومن مصاديقه القيام في حالة الضرب بالسيف والجثو على الركب في حالة الرمي، والتمدد على الأرض في حالة الجرح.

الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ...} الآية.

الظاهر أنّ هذا عطف على قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ...} فالغرض بيان حالة عدم السفر، وهو أن يكون الإنسان مستقراً في بلده، فهنا عليه أن يصلي الصلاة المعهودة من غير قصر، ويمكن أن يكون عطفاً على {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ...} بمعنى أنّ صلاة الخوف إنما شرعت في حالة الحذر من العدو، فإذا اطمأن الإنسان فلا موضوع لها.

وقوله: {فَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} أي بحدودها وشروطها المتعارفة.

ص: 386


1- سورة الرعد، الآية: 28.

وقوله: {كِتَٰبًا مَّوْقُوتًا} أي مكتوبةً مفروضةً عليكم، وأصل (الموقوت) من (الوقت) أي الصلاة ذات وقت، ولازم ذلك كونها ثابتة فذكر الملزوم وأريد به اللازم، ولعل في ذلك إشعاراً بعلة وجوب صلاة الخوف وصلاة المسافر، فإنها مفروضة لا يجوز تأخيرها لوقت آخر بعذر الخوف أو السفر.

السادس: قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ...} الآية.

في ختام آيات الجهاد حثّ آخر للمؤمنين على الجهاد، فبعد أمرهم بالحذر يأمرهم باقتفاء أثر الكفار، مع إثارة حميّتهم بقياسهم بالكفار، فليس صعوبة الحرب عليكم بأزيد من صعوبتها عليهم، وهم مع ذلك جادّون فيقتالكم، مع أنهم لا يرجون ثواباً من اللّه، فإذا صبروا في قتالكم فأنتم أولى منهم بالصبر.

وفي هذا إتمام للحجة على المؤمنين وإلزامهم على الجهاد والصبر فيه، روي أنّ هذه الآية نزلت في معركة حمراء الأسد - وقد مرّ تفصيلها في سورة آل عمران - حيث رجع المسلمون من غزوة أحد مثخنين بالجراح فأمر اللّه تعالى رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأن يخرج في أثر القوم وأن لا يخرج معه إلاّ من كانت به جراحة(1)، إرعاباً للمشركين وصرفاً لهم عن عزمهم الرجوع لاستئصال شأفة المسلمين.

ص: 387


1- راجع تفسير القمي 1: 124.

الآيات 105-109

اشارة

{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا 105 وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا 106 وَلَا تُجَٰدِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا 107 يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا 108 هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا 109}

بعد ذكر الكفار والمنافقين وضعاف الإيمان يذكر اللّه تعالى العصاة، كما أنه يذكر العدل، فإنّ الجهاد في الآيات السابقة مقدمة لإقامة العدل، فقال تعالى:

105- {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ} إنزالاً بالحق أو الكتاب مع الحق لا باطل فيه، {لِتَحْكُمَ} تقضي {بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ} بما أعلمك وعرّفك به من الشريعة الحقة العادلة، {وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ} لأجلهم ولصالحهم {خَصِيمًا} على الأبرياء، فإنّ العدل الذي أراك اللّه يقتضي الحكم للمحق لا للخائن.

106- {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} اطلب غفرانه وستره، فإنّ القاضي قد يزل لولا

ص: 388

ستر اللّه تعالى، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}.

107- {وَلَا تُجَٰدِلْ} لا تحتج لهم وتدافع {عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَأَنفُسَهُمْ} يخونونها بالمعصية، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} أي يُبغض، والمقصود أنّه يعذّب {مَن كَانَ خَوَّانًا} كثير الخيانة {أَثِيمًا} منهمكاً في العصيان، فلذا لا وجه للدفاع عنهم.

والحاصل لا تقض لصالحهم ولا تدافع عنهم.

108- وإنما لا تجادل عنهم لأنهم أهل باطل ف {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} يكتمون معاصيهم عنهم حياءً أو خوفاً {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} بأن يتركوا المعصية، إذ إيمانهم ضعيف فيزعمون أنّ اللّه لا يراهم {وَهُوَ} أي والحال أنّ اللّه تعالى {مَعَهُمْ} محيط بهم علماً وقدرة، {إِذْ} في الوقت الذي {يُبَيِّتُونَ} أي يدبرون ليلاً، بمعنى التخطيط في الخفاء لأفعالهم اللاحقة وهي {مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ} كاتهام البريء والحلف الكاذب وشهادة الزور ونحوها، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} إحاطة علم وقدرة.

109- لكن من يجادل عنهم لا ينفعهم ف {هَٰأَنتُمْ} الهاء للتنبيه وأنتم مبتدأ {هَٰؤُلَاءِ} خبره، أي أنتم الذين {جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ} دافعتم عن الخائنين {فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} في المحكمة عند القاضي لتغطية جرائمهم كي يظنّهم الناس محقّين، {فَمَن} الاستفهام للإنكار والنفي {يُجَٰدِلُ اللَّهَ} يدافع {عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} حيث تبلى السرائر وينكشف المستور؟ {أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} يتوكل أمرهم لدفع العذاب؟

ص: 389

والحاصل لا مدافع عنهم بالحجة ولا منقذ لهم من العذاب!

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أنّ اللّه تعالى لما ذكر الكفار والمنافقين وضعافالإيمان في موضوع الجهاد، يذكر في هذه الآيات العصاة الذين يخالفون أحكام الشريعة بالسرقة والبهتان وشهادة الزور ونحوها، كما أنه لمّا ذكر الجهاد يبيّن أنه إنما شُرّع لإقامة الحق والعدل، فكما أن الرسول والمؤمنين يجاهدون الكفار والمنافقين لإعلاء كلمة اللّه، كذلك يحكمون بالعدل وطبقاً للموازين التي عيّنها اللّه تعالى في شرعه.

وكان شأن نزول هذه الآيات وما بعدها أنّ أبا طعمة سرق طعاماً وسيفاً ودرعاً ثم اتهم بريئاً بتلك السرقة، وجاء قومه يدافعون عنه ويشكون المسروق منه بأنه اتهم صاحبهم، ثم لمّا تبين براءة من اتهموه وصدق المسروق منه وانكشف السارق هرب إلى مكه وارتدّ(1).

فهذه الآيات تعليم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنّ المدار في القضاء إنما هو على الموازين الشرعية التي أنزلها اللّه تعالى في القرآن، فيحكم بالحق ولا يدافع عن الخائن، فإنّ الخائن غير مرضي للّه تعالى فلا وجه للدفاع عنه.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ...} الآية.

بيان أنّ اللّه تعالى أرى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأحكام فيما أنزله عليه من القرآن الكريم، وأنّ على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تطبيق تلك الأحكام على المصاديق في حكمه في النزاعات وغيرها، وذلك يقتضي اتباع الحق، وعدم الحكم

ص: 390


1- لتفصيل القصة راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 225-227.

لصالح الخائنين، وعدم الدفاع عنهم، أما الحكم لصالحهم فقد ذكر في هذه الآية، وأما الدفاع عنهم فذكر في الآية 107.

وقوله: {بِالْحَقِّ} إما بمعنى إنزالاً بالحق، أي كان إنزال الكتاب حقاً،وذلك لما في الإنزال من الحكمة والمصلحة، وكان اختيارك لذلك بحق؛ لأنّ اللّه اصطفاك فكنت أهلاً لذلك، وإما الباء للمصاحبة، أي هذا الكتاب مع الحق، فأحكامه وشرائه لا باطل فيها.

وقوله: {لِتَحْكُمَ...} اللام للتعليل، أي الغرض من إنزاله هو الحكم بين الناس بهذه الأحكام، لا أنها مجرد تبرك أو للتخيير بينها وبين غيرها، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}(1)، وشأن النزول وإن كان في القضاء إلاّ أن الحكم أعم منه فيشمل السياسة وسائر الأمور التي فيها أحكام.

وقوله: {بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ} أي بما علّمك من الأحكام التي في الكتاب، وعليه فقوله: {لِتَحْكُمَ} أي لتطبق الأحكام الكلية التي أراكها اللّه تعالى على القضايا الجزئية التي تحتاج إلى حكمك فيها، فالآيات تبيّن الأحكام الكلية، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يطبقها على مصاديقها الجزئية، مثلاً تدل الآية على إجراء الحدّ على الزاني بشهادة أربعة شهود عدول، فهذا حكم كلي، والقاضي حينما ترد عليه واقعة اتهم فيه أحد بالزنا ينظر إلى الشهود ويحقق عن عدالتهم وبعد اكتمال الشروط يطبق حكم اللّه تعالى بالقضاء بحدّ الزاني.

وقوله: {وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} أي لأجل الخائنين لا تخاصم الأبرياء وتنهرهم وتتكلّم ضدهم، والظاهر أنّ المراد إصدار الحكم لصالح

ص: 391


1- سورة الأنعام، الآية: 57.

الخائنين ضد الأبرياء، فهذه الآية تنهى عن الحكم لصالحهم، كما أنّ الآية 107 تنهى عن الدفاع عنهم، فكما لا يجوز الحكم بالجور كذلك لا يجوز الدفاع عن المبطل ولو لم يكن هناك حكم، وعليه فلا يجوز للمحامي أنيدافع عن متهم يعلم بأنه على باطل، كما لا يجوز للقاضي الحكم لصالحه خلافاً لموازين الشرع، كذلك لا يجوز للناس إعذار الخائنين والدفاع عنهم، وفي الحديث: «من أعذر ظالماً بظلمه سلط اللّه عليه من يظلمه، فإن دعا لم يستجب له ولم يؤجرهُ اللّه على ظلامته»(1) فإن إبطال الحق يبدأ برؤية الباطل حقاً ثم الدفاع عن الباطل ثم الحكم لصالحه، وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) : «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»(2)، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}(3).

في استغفار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

الثالث: قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}.

المقصود أنّ الحكم بالحق في القضاء يحتاج إلى تأييد اللّه تعالى بقمع الدواعي النفسانية والهوى التي تسوق الإنسان إلى الحكم بالباطل، وذلك يتحقق بالالتجاء إليه وذكره سبحانه وتعالى، وهنا استغفار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس عن ذنب فإنه معصوم، وإنما لحاجة الرسول إلى اللّه تعالى، فاللّه سبحانه هو الذي عصمه واصطفاه ويسدّده ويؤيّده، فاستغفاره طلب استمرار التسديد من اللّه تعالى.

وقيل: إنّ الغفران هو الستر، فكما يستر اللّه تعالى الذنوب بمحوها والعفو

ص: 392


1- الكافي 2: 334.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 47.
3- سورة المائدة، الآية: 48.

عنها، كذلك يستر الدواعي النفسانية بضبطها ومنعها عن تجاوز الشرع، فيكون المعنى اطلب من اللّه تعالى الغفران بأن تتحّكم في نفسك لتسير طبق أوامر اللّه ونواهيه.وفي التقريب: كون النهي للرسول لا ينافي مقام العصمة، إذ النواهي تتوجه إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما تتوجه إلى سائر المسلمين، والأوامر تعنيه كما تعني غيره(1).

والحاصل أنّ استغفار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كطلبه الهداية إنما يعني استمراره على ما يريده اللّه تعالى؛ لأنّ الاستمرار أيضاً بيد اللّه تعالى، فكما عصمه في الماضي كذلك يعصمه في المستقبل.

ثم إنّ العصمة ملكة نفسانية تمنع صاحبها من ارتكاب القبيح اختياراً، وذلك يلازم العلم بقبح القبيح إلى حد الإذعان بحيث تشمئز النفس منه، فكما لا يفكر أحدنا في أكل القاذورات فضلاً عن أكلها لانكشاف قبحها واشمئزاز النفس منها، فكذلك جميع القبائح لدى المعصومين.

الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تُجَٰدِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ...} الآية.

أي لا تدافع عنهم ولا تُعذرهم في خيانتهم، لا فرق في الخائن بين القويّ والضعيف، والمسلم والكافر، والغني والفقير، والشريف والوضيع وغيرهم، فلا بد للإنسان من الدفاع عن الحق لا الباطل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه»(2).

ص: 393


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 539.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 37.

وقوله: {يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي يخونونها، وذلك لأنّ كل معصية هي ظلم وخيانة للنفس، فالنفس كالوديعة عند الإنسان سلّمها اللّه له ليصرفها في طاعاته، فلو صرفها في معاصيه كانت خيانة، أو لأنّ الضرر يعود للخائنحتى لو كانت الخيانة لغيره، أو لأنّ المجتمع كنفس واحدة فكل إحسان أو إساءة تكون للنفس، كما قال: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}(1).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ...} هذا تعليل للنهي عن المجادلة لهم، فما دام اللّه يُبغضهم - ولا يبغضهم إلاّ لأجل سوء أعمالهم - فلا بد للمؤمن أن يبغضهم، فالمؤمن يحب أولياء اللّه ويبغض أعداءه، وعليه فلا يدافع عن باطل ارتكبوه.

وقوله: {لَا يُحِبُّ} مرّ أنّ اللّه ليس محلاً للحوادث، وليس له كيفيات نفسانية، فحُبّه ثوابه وبغضه عقابه، والإنسان إما سعيد وإما شقي ولا واسطة بينهما، فلذا لا واسطة بين حب اللّه وبغضه للناس، وأما الأفعال فهي لا تنحصر في الحسن والقبيح ولذلك قد تكون واسطة بين حبها وبغضها.

وقوله: {خَوَّانًا} صيغة مبالغة في الخائن، واستعمالها في كثير الخيانة، أو فيمن ارتكب خيانة بشعة تعادل خيانات كثيرة.

وقوله: {أَثِيمًا} صفة مشبهة في الآثم، وتدل على الاستمرار في الإثم.

قيل: إنما ذكر الوصفين - الخوّان والأثيم - لأنه أريد خيانة النفس والإثم على الغير.

ص: 394


1- سورة الإسراء، الآية: 7.

الخامس: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ...} الآية.

بيان لوصف هؤلاء الخائنين بضعف الاعتقاد باللّه تعالى أو هتكهم لحرمته تعالى، وتعليل لعدم حبّ اللّه لهم، مما يستدعي عدم الدفاع عنهم.وحاصله أنّ هؤلاء لضعف عقيدتهم باللّه يرتكبون المعاصي، فكأن اللّه تعالى ليس ناظراً لأعمالهم فلذلك لا يستخفون منه، لكنهم يحاولون كتمان جرائمهم من الناس حياءً أو خوفاً أو دفعاً للفضيحة، فكأنهم جعلوا اللّه تعالى أهون الناظرين لهم وأخفّ المطلعين عليهم.

والحاصل أنّ سبب خيانتهم وإثمهم ضعف اعتقادهم باللّه، فقد أضافوا إلى المعصية العملية ضعف العقيدة، وأمثال هؤلاء لا يستحقون الدفاع عنهم، قال تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَٰرُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَٰسِرِينَ}(1).

وقوله: {يَسْتَخْفُونَ} أي يطلبون الخفاء، بمعنى يكتمون جرائمهم، فيرتكبونها خفية، وإذا ظهرت حاولوا تبرئة أنفسهم باتهام الغير بها.

ولو كانت عقيدة هؤلاء صحيحة وقوية لعلموا أنه لا يمكن إخفاء شيء من اللّه تعالى، فلو أرادوا كتمان شيء عنه كان عليهم أن يتركوا ذلك الشيء فلا يفعلوه، كي يكون من السالبة بانتفاء الموضوع نظير قوله: {أَتُنَبُِّٔونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}(2).

ص: 395


1- سورة فصلت، الآية: 22-23.
2- سورة يونس، الآية: 18.

وقوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ...} ردّ لزعمهم بعدم علمه، وبيان أنّ اللّه تعالى عالم بنواياهم فضلاً عن أفعالهم، ومعيّة اللّه لمخلوقاته ليست زمانية أو مكانية؛ لأنه تعالى خالق الزمان والمكان فلا يحيطان به، بل المقصود إحاطته بعلمه وقدرته.وقوله: {إِذْ يُبَيِّتُونَ...} مرّ أنّ التبييت هو التدبير ليلاً، والظاهر أنّ المراد هنا ما يفكرون فيه وينوونه من أكاذيب يلفقونها لكي يبررّوا بها أفعالهم أو يتهموا بها غيرهم.

وقوله: {مِنَ الْقَوْلِ} أي يخططون لأكاذيب يلفقونها وهي أقوال، كشهادة الزور، واتهام البريء، والحلف الكاذب ونحو ذلك مما يفعله المجرمون لكتمان جرائمهم من الناس، وقيل: القول هنا بمعنى الفعل كالسرقة ونحوها.

وقوله: {مُحِيطًا} الإحاطة هي احتواء الشيء من كل جهاته، كالجدار يحيط بالبيت من كل جوانبه، وإحاطة اللّه ليست مادية، بل بمعنى أنّ علمه للأشياء شامل لجميعها ومن كل جهاتها بحيث لا يفوته شيء، وكذا قدرته على الأشياء عامة لا نقص فيها.

السادس: قوله تعالى: {هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا...} الآية.

تحذير لشهود الزور والذين يريدون التغطية على الجرائم بالكذب والتوسط والرشوة ونحو ذلك، بأنكم إذا تمكنتم من كتم الحق واتّهام البريء وشهادة الزور وخدعتم الناس وزوّرتم على القضاة، فذلك متاع قليل

ص: 396

لكم في الدنيا؛ لأنّ اللّه تعالى سيعاقبكم في الآخرة حيث لا مدافع عنكم ولا منقذ لكم من العذاب.

قوله: {هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ} قد مرّ إعرابها في سورة البقرة، والأقرب أن (أنتم) مبتدأ، و(أولاء) خبره وهو موصول بمعنى الذين، والهاء فيهما للتنبيه أيأنتم الذين جادلتم...

والفرق بين {جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ} و{يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} أنّ الجدال عنهم هو الدفاع عنهم بتعذيرهم، وهذا لا يوجد في الآخرة؛ لأنّ كل إنسان هناك له شأن يُغنيه وهو مشغول عن الآخرين، وأما الشهود فهم الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والملائكة وهؤلاء لا يشهدون إلا بالحق، وأما الوكيل عنهم فبمعنى من ينقذهم من العذاب بالشفاعة مثلاً، فإنّ الوكالة هي القيام بالأمر، فلا أحد يقوم بإنقاذهم من نار جهنم.

ولا يخفى أنّ اللّه تعالى وكيل على الناس، بمعنى تدبيره لأمورهم وهيمنته عليهم، وليس وكيلاً لهم، وأما نيابة الناس بعضهم عن بعض في أعمالهم فهي وكالة لهم لا عليهم.

ص: 397

الآيات 110-113

اشارة

{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا 110 وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 111 وَمَن يَكْسِبْ خَطِئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا 112 وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٖ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا 113}

ثم يبيّن اللّه تعالى فتح باب التوبة لهؤلاء وغيرهم ويتوعدهم في التمادي في معصيتهم وغيّهم فيقول:

110- {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا} عصياناً يتعدى إلى الغير ويسوؤه كالسرقة {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ} بعصيان لا يتعدى الغير كترك الصلاة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} يطلب منه الغفران بالتوبة {يَجِدِ اللَّهَ} يلقاه وهو كناية عن سرعة الإجابة {غَفُورًا} لذنبه {رَّحِيمًا} بتفضله عليه بالثواب.

111- {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا} يرتكب معصية {فَإِنَّمَا} ضرره يعود عليه فقط إذ {يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ} فالوبال عليه لا يتعداه، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بما يكسبه من الإثم {حَكِيمًا} في عقابه.

112- {وَمَن يَكْسِبْ خَطِئَةً} معصية لا عن تعمّد {أَوْ إِثْمًا} معصية

ص: 398

عن تعمد {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا} ينسبها فكأنه رماه بأن يفترى عليه به {فَقَدِ احْتَمَلَ} أي تحمل على ذمته {بُهْتَٰنًا} أي الكذب الشديد على البريء، {وَإِثْمًامُّبِينًا} واضحاً لا شك فيه.

113- ثم إنّ المجرم وأصحابه كانوا يحاولون خداع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتبرئة المجرم أولاً، وبإلقاء الجرم برقبة بريء ثانياً، وذلك عبر شهادة الزور، لكن اللّه سدّده بالعصمة والعلم فأظهر له الواقع {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ} بالنبوة {وَرَحْمَتُهُۥ} بالتسديد لتعرف الحق {لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ} من الخائنين، والمقصود لتأثّرت بما همّوا به، فهؤلاء همّوا بالخداع لكن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يتأثر بهم، {أَن يُضِلُّوكَ} عن القضاء بالحق لإخفائهم المجرم وشهادتهم الزور ضد البريء، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} يعني وبال عملهم يرجع إليهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٖ} بسبب كيدهم، {وَ} كيف يضلونك ويضرونك والحال أنه {أَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} والذي منها علم الشريعة، وهذان في الأحكام العامة الكليّة، {وَ} أمّا تطبيقها على الجزئيات الخارجية فقد {عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} فكل علم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما هو بتعليم من اللّه تعالى، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ} بهذا الإنزال والتعليم وغيرهما {عَظِيمًا}.

بحوث

الأول: بعد مذمّة الخائنين وبيان خيانتهم لأنفسهم وإثمهم وعدم مراقبتهم اللّه تعالى وأقوالهم غير المرضية، يفتح اللّه تعالى باب التوبة عليهم، ويحثّهم

ص: 399

عليها ويبين أنّ ضرر إثمهم يرجع إليهم، وخاصة لو اتهموا البريء بها حيث يضاف إليهم إثم آخر، ثم يقطع اللّه تعالى طمعهم بأنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لا ينخدع بهم؛ لأنّ اللّه تعالى ناصره فهو يعرف الأحكام ويعرف كيفيةتطبيقها، وهذا حث آخر لهم على التوبة أو عدم التمادي في العصيان.

ولا يخفى أنّ هذه الآيات عبرت عن المعصية بألفاظ مختلفة مثل: السوء والظلم والإثم والخطيئة، وهذه الكلمات لها معانٍ مختلفة مع أنّ مصاديقها قد تكون متحدة، ولكن حينما تعطف بعضها على البعض الآخر يُراد منها معانيها أو مصاديقها المختلفة، ويمكن معرفة ذلك بمعونة السياق، ف «الخطيئة» مشتقة من الخطأ فهي - هنا - المعصية من غير تعمّد، كما لو ارتكبها لغلبة الشهوة من غير عناد، و«الإثم» في الأصل البُطؤ(1) أو التقصير(2) واستعملت في المعصية مع تعمّد وفي المعصية الكبيرة، و«الظلم» هو نقصان الحق(3)

أو مجاوزته(4) ويلازمه وضع الشيء في غير موضعه، فظلم النفس بخسها حقها، وظلم الغير بالجور عليه وبخس حقه، و«السوء» القبيح التي تكرهه النفس.

الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ...} الآية.

«السوء» هنا هو ظلم الغير، بأن يرتكب معصية تسوؤه، بقرينة المقابلة مع

ص: 400


1- انظر مقاييس اللغة: 45.
2- معجم الفروق اللغوية: 15.
3- معجم الفروق اللغوية: 172.
4- مفردات الراغب: 537.

ظلم النفس، وإلاّ فكل سوء ظلم للنفس، وكل ظلم للنفس سوء، فلا فرق في فتح باب التوبة بين كون المعصية في حق اللّه تعالى، وبذلك يظلم الإنسان نفسه، أو في حق الناس وبذلك يسوؤهم، نعم تختلف أجزاء أوشروط التوبة، فإن كان العمل مما يمكن جبره بردّ الحق أو بالقضاء والكفارة ونحو ذلك فلا بد منه، وإن لم يمكن جبره فلا بد من الترضية، مع لزوم الندم وعزم عدم العود والاستغفار باللسان، وقد مرّ تفصيل ذلك.

وقوله: {يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} أي يطلب غفرانه بالفعل والقول، فليس الاستغفار هنا مجرد قول استغفر اللّه، إذ ذلك جزء في طلب الغفران.

وقوله: {يَجِدِ اللَّهَ} الوجدان بمعنى اللقاء والإدراك والعلم، والمقصود يلقى اللّه قابلاً لتوبته، قيل: هو كناية عن سرعة قبول التوبة، أو كناية عن ترتب الأثر، بمعنى تحقق الغفران، كما تقول: ذهبت إلى زيد فوجدته مضيافاً، أي نالتني ضيافته.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ...} الآية.

حث على التوبة بلسان بيان أنّ ضرر الإثم إنما يرجع عليه، فما باله يرتكب ما يضرّه، فالمعصية بُطؤ وتقصير عن كسب الخيرات وسرعة في اكتساب الأضرار، فلا عاقل يفعل ذلك بنفسه، وإضرار الغير بسرقة ماله مثلاً إذا لوحظ فيه أنّ اللّه يعوّض المظلوم، وأن الظالم يلقى وبال ظلمه، فكأنه كالعدم مقابل ضرر الظالم.

وقوله: {يَكْسِبْ إِثْمًا} الكسب هو جرّ نفع أو دفع ضرر، وفي المعصية

ص: 401

قد يستعمل باب الافتعال كما قال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}(1)،وقال: {لِكُلِّ امْرِيٕٖ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}(2)، ولكن باعتبار المنافع الدنيوية التي يتمتع بها العاصي من معصيته لذلك كثر إطلاق الكسب على المعاصي كقوله: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(3) فقوله: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا} بجلب منفعة دنيوية له في معصيته، كما في شأن نزول الآية في سرقة أبي طعمة.

وقوله: {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ} تقليل لشأن المنافع الدنيوية؛ لأنها تعقب غضب اللّه وعذابه، فلا تقاس به.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا...} الآية.

بقرينة تقابل الإثم بالخطيئة، فالمراد به المعصية عمداً، وبها المعصية من غير تعمّد، بمعنى قصد المعصية لغلبة الشهوة مثلاً لا عناداً وتمرداً وفي دعاء أبي حمزة: «إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيّتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك المرخى عليّ»(4).

وقوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا} نسبة الذنب إلى الغير كأنه رمي به عليه فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.

ص: 402


1- سورة البقرة، الآية: 286.
2- سورة النور، الآية: 11.
3- سورة البقرة، الآية: 79.
4- الدعاء والزيارة: 321.

وقوله: {احْتَمَلَ} أي حمل على عاتقه وسجّل في سجل أعماله، وغالباً يستعمل حمل الوزر من الثلاثي المجرد كقوله: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةًيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(1)، وقوله: {اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَٰيَٰكُمْ}(2)، ولكن أتى هنا من باب الافتعال، وكذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}(3).

ولعلّ (الاحتمال) في الدنيا؛ لأنه خلاف فطرة الإنسان وعقله فيحتاج إلى ضغط وتعمّل، وأما (الحمل) ففي الآخرة فلأنّ حمل المذنب ذنوبه هناك على مقتضى طبيعة الذنب والمذنب في الآخرة، فتأمل.

وقوله: {بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} الظاهر أنّ البهتان والإثم المبين راجعان إلى رمي البريء، فالآية في مقام بيان أنّ اتهام الآخرين عمل قبيح جداً حيث إنه بهتان، وأنه معصية واضحة، وأما عاقبة ارتكاب الإثم فقد ذكر في الآية السابقة حيث قال: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفْسِهِ}.

وقيل: {بُهْتَٰنًا} يرجع إلى الرمي ويراد به إثم البهتان، و{إِثْمًا مُّبِينًا} يرجع إلى كسب الخطيئة والإثم، فيكون المقصود تضاعف ذنبه بارتكاب المعصية كالسرقة، وبرمي الغير بها! لكن يرد عليه أنه يستلزم أن يكون المعنى من يكسب خطيئة أو إثماً فقد احتمل إثماً مبيناً! وهذا لا معنى له!

وعليه فالمقصود أنّ اتهام البريء ليس بالأمر الهيّن، بل هو بهتان وإثم

ص: 403


1- سورة النحل، الآية: 25.
2- سورة العنكبوت، الآية: 12.
3- سورة الأحزاب، الآية: 58.

واضح لا شك فيه، فعلى الإنسان أن لا يستخف بذلك، وقد مرّ في الآية 20 أنّ ذلك ليس عطفاً توضيحياً، بل البهتان يرتبط بالبريء حيث يكلّ عنالحجة، والإثم المبين يرتبط بتشريع اللّه بحرمة هذا التصرف، ولذا قيل: البهتان هنا بمعنى الظلم والإثم المبين بمعنى المعصية، فهو ظلم محرّم، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ...} الآية.

بيان أنّ هؤلاء لا يكتفون بالمعصية وبرميها على الغير، بل يحاولون خداع الحاكم أيضاً؛ لأنّ الذنوب حلقات متواصلة كل ذنب يجر ذنباً آخر، فالسرقة جرّت البهتان، وهو جرّ شهادة الزور، وهي جرّت إلى الارتداد ومشاققة الرسول، وهي جرّت إلى الشرك، وهو جرّ إلى اتباع الشيطان، وهو يجرّ إلى الخسران المبين ونار جهنم، كما سيأتي في الآيات اللاحقة.

وفي ذلك تحذير للقضاة بالتيقظ وتحرّي الحق ودراسة القضايا الواردة من مختلف الجهات ليتبيّن لهم الحق فيحكمون به، ولا بد في ذلك من معرفة القرآن والشريعة ومن معرفة كيفية تطبيق تلك الأحكام على القضايا الخارجية وحسب الموازين الشرعية، فأما رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد علّمه اللّه الأحكام بوحي الكتاب والحكمة عليه، وعلّمه كيفية التطبيق وذلك من فضل اللّه ورحمته عليه فلا ينخدع ولا يتضرّر، وأما سائر الحكّام فعليهم أن يتعلّموا ويجتهدوا ليتمكنوا من استنباط الأحكام أولاً، ومن تطبيقها ثانياً، كما عليهم مراعاة الموازين الشرعية لئلا ينخدعوا.

ص: 404

وقوله: {فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ} الفضل والرحمة هنا عامان فيشملان الاصطفاء والنبوة والعصمة والعلم وسائر عطايا اللّه تعالى لرسوله، ويمكن أنيراد بالفضل النبوة وبالرحمة التسديد حين الحكم.

وقوله: {لَهَمَّت} المراد تأثير ما قصدوه، أي لولا فضل اللّه ورحمته لأثّر فيك خداعهم، فهؤلاء حاولوا ذلك لكن اللّه منع عنه، فقوله: {لَوْلَا} نفي تأثير ما قصدوه لا نفي أصل الهمّ.

وقوله: {أَن يُضِلُّوكَ} أي عن الحكم بالحق أو أن تحكم لهم بما اشتهوه، ولا يخفى أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مكلّف في القضاء بالحكم حسب الموازين الشرعية من الأيمان والبينات، فقال: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»(1) ولم يوجب اللّه عليه أن يحكم بعلمه الواقعي الحاصل له من الأسباب الغيبية؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى أراد أن يكون أسوة، ولا يمكن أن يكون أسوة إلاّ لو عمل بالأسباب الطبيعية المتعارفة بين الناس، فمثلاً لو ادّعى أحد على شخص ديناً ولم تكن له بينة، فميزان القضاء الشرعي هو توجيه القسم إلى المنكر، فلو حلف المنكر سقط ادعاء المدعي، مع أنّ المدعي قد يكون صادقاً، والمنكر كاذباً في إنكاره ويحلف بيمين فاجرة غموس! فهنا يحكم القاضي لصالح المنكر حسب يمينه، وهو حكم بحق وعلى حسب الموازين الشرعية والوزر على المنكر الكاذب.

كيفية قضاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كيفية قضاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

والحاصل أنّ قوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ} بمعنى الحكم حسب الموازين القضائية الشرعية التي شرّعها اللّه تعالى، نعم يجوز للنبي أن

ص: 405


1- الكافي 7: 414.

يحكم حسب علمه الواقعي الذي علمه بطريقة غيبيّة، لكن الأصل هو ظاهر الشرع للأسوة.وهذه الآية تحتمل الأول، بمعنى أنّ اللّه تعالى أعلم رسوله بالسارق الواقعي، وهو أبو طعمة بطريقة غيبيّة بالوحي فلم تنفعهم تمويهاتهم وشهادتهم الزور، وتحتمل المعنى الثاني، أي لولا فضل اللّه ورحمته لمال إليهم في الحكم بخلاف الموازين الشرعية نظير قوله: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَئًْا قَلِيلًا}(1).

وقوله: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} أي وبال ذلك يرجع إليهم، فمن حاول خداع القاضي بشهادة الزور مثلاً أو باليمين الكاذبة فهذا لم يُضل القاضي؛ وذلك لأنّ القاضي إذا حكم حسب الموازين الشرعية فهو مهتد وغير ضال، وله أجر عمله، وإنما الوزر يكون على الكاذب وشهود الزور.

وقوله: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٖ} لأنّ اللّه تعالى ناصرك ويبيّن لك الحقائق، بل القاضي إذا حكم طبقاً للموازين الشرعية فلا وزر عليه حتى لو لم يكن ما حكم به مطابقاً للواقع.

وقوله: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ...} هذا بيان لسبب عدم تمكنهم من إضلال الرسول والإضرار به؛ وذلك لأنه عالم مسدّد.

وقوله: {وَالْحِكْمَةَ} هي كل حكم ليس في ظاهر الكتاب، ومنها الشريعة، وقد مرّ أنّ الحكمة من الإحكام ويلازمه وضع الشيء في موضعه، فالشريعة التي هي تفسير للقرآن وبيان تأويلاته مع القرآن يتضمنان جميع

ص: 406


1- سورة الإسراء، الآية: 74.

الأحكام العامة التي شرّعها اللّه لخلقه وتكون ميزاناً في القضاء.

وقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} الظاهر أنّ المراد به العلم بالتطبيق،وذلك لأنّ الأحكام كلها في القرآن والحكمة، ويبقى تطبيقها وهذا يحتاج إلى علم، ولذا لا يكفي في القاضي العلم النظري بالقوانين، بل لا بد له من أن يكون قد تعلّم تطبيقها على القضايا الجزئية.

ويحتمل أن يكون المراد أنّ اللّه كما أنزل عليك الكتاب والحكمة كذلك عرفك معانيهما. واللّه العالم.

ص: 407

الآيات 114-116

{لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا 114 وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا 115 إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا 116}

وحيث إن هذه الطائفة كانوا يبيّتون ما لا يرضى اللّه تعالى من القول بين اللّه تعالى أقسام النجوى وحكمها فقال:

114- {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ} أي تناجيهم وهي المحادثة سراً، وإنما قال «كثير» لأنّ القليل من النجوى فيها الخير، {إِلَّا} استثناء منقطع، أي ولكن هناك خير في نجوى {مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} وهي العطية المالية المتبرع بها {أَوْ مَعْرُوفٍ} وهو ما يعرف العقل والشرع حسنه كالقرض {أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ} أي التأليف بينهم، والأولان جلب منفعة للناس، والثالث دفع مضرّة، فهذه من الخير، لكن لا ثواب فيها إلاّ إذا كانت بقصد القربة {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ} الأمر بهذه الثلاثة {ابْتِغَاءَ} أي طلب {مَرْضَاتِ اللَّهِ} رضاه تعالى {فَسَوْفَ} في الآخرة {نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ومن عظمته أنه دائم ولا منغص فيه ومتقارن مع التعظيم.

ص: 408

115- {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} يخالفه فيكون هو في شقّوالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في شق آخر، ومن ذلك أن يتناجى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ} حيث إنّ هذا معاند ولا يُرجى له التوفيق للتوبة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} طريقتهم وما هم عليه من إطاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا إما تأكيد للمشاقة، أو هي في الدين وهذا في الطاعة، وعليه فهذا يخالف في الأصول والفروع، فيعاقب في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: ف{نُوَلِّهِ} نخلّي بينه وبين {مَا تَوَلَّىٰ} أي ما أراد وأتبع من الغواية، أي نخذله فلا نهديه، {وَ} أمّا في الآخرة: ف{نُصْلِهِ} من الإصلاء بمعنى مقاساة حريق {جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} مرجعاً يصير إليه هذا المشاقق.

116- ثم بيّن تعالى أنّ هذا المشاقق لا يغفر له؛ لأنه أشرك و{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إذا لم يتب {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ} الشرك {لِمَن يَشَاءُ} ممن اقتضت الحكمة والرحمة غفرانه سواء تاب أم لم يتب. {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا} أي ابتعد كثيراً عن الهداية فلا يُرجى نجاته، بسبب سوء اختياره.

بحوث

الأول: أنّ العصاة وشهود الزور لإحباك خطتهم يتشاورون فيما بينهم سراً في كيفية تنزيه المجرم واتهام البريء ليخدعوا القاضي، وقد ذكر اللّه هؤلاء في الآية 108 {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ}، فهذه الآيات لبيان السيّئ من المناجاة عن

ص: 409

الحسن منها، فيتم بيان أنّ الأصل فيها السوء؛ لأنّ مدخل الشيطان حينها أقوى، وهذه الحالة الغالبة في النجوى، ثم يبيّن أنّ موضوعالنجوى إن كان خيراً فلا بأس بها، بل قد تكون مطلوبة، كما قال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَٰنِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ}(1) أي إنما النجوى بالإثم والعدوان والمعصية من الشيطان، ثم تبين الآيات أنّ النجوى في الخير إذا اقترنت بقصد القربة ففيها أجر عظيم، وأنّ النجوى بالشر إذا كانت في مشاقة الرسول وعدم طاعته ففيها الخذلان وجهنم!

الثاني: قوله تعالى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا...} الآية.

قوله: {لَّا خَيْرَ} يراد به وجود الشر، فإنه وإن كان هناك واسطة بين الخير والشر إلا أنّ كلمة {لَّا خَيْرَ} تستعمل في وجود الشر.

وقوله: {كَثِيرٖ} لأنّ طبيعة النجوى وخاصة من غير المؤمنين هكذا، فهي مليئة بالمحرمات وخاصة الغيبة والبهتان والكذب والتخطيط للسوء.

وقوله: {نَّجْوَىٰهُمْ} الضمير يرجع إلى الطائفة التي همّت بالإضلال، وهم قوم أبي طعمة، و(النجوى) هي الكلام السري بين اثنين فما فوق.

وقوله: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ...} الاستثناء منقطع؛ لأنّ هذا ليس داخلاً في المستثنى منه وهو {كَثِيرٖ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ}، ولو كان يقول: «لا خير في نجواهم إلاّ من أمر» لكان استثناءً متصلاً.

ص: 410


1- سورة المجادلة، الآية: 9-10.

وقوله: {مَنْ أَمَرَ...} أي إلاّ نجوى من أمر، ولم يقل إلاّ من فعل هذه الثلاثة؛ لأنه حين النجوى تخطيط ومشورة ولا فعل حينها، وإنما يكون الفعل بعد ذلك، ولذا لمّا أراد ذكر الأجر قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ}.ثم إنّ الخير إما جلب منفعة مادية أو معنوية وإما دفع مضرة...

فقوله: {بِصَدَقَةٍ} للنفع المادي، فإنّ معنى الصدقة وإن كان عاماً لكل عمل خير يُصدّق الإنسان به ربّه تعالى إلاّ أنه يكثر استعمالها في العطية المالية من غير عوض إذا اقترنت بقصد القربة، وتنصرف غالباً إلى عطية الفقراء، وهنا أريد بها ذلك لقرينة التقابل مع المعروف.

وقوله: {أَوْ مَعْرُوفٍ} لمطلق النفع غير الصدقة، ومعنى المعروف عام لكل ما يعرف العقل أو الشرع حسنه، فتشمل كل أبواب البِرّ، إلاّ أنّ المراد به في هذه الآية غير الصدقة، ومن مصاديقه القرض، فهو ليس بصدقة، لكنه معروف من أعمال البر، وقد فسرت بعض الروايات المعروف بالقرض(1) وهو من باب بيان المصداق.

وقوله: {أَوْ إِصْلَٰحِ بَيْنَ النَّاسِ} لدفع المضرّة عنهم.

وإنما استثنى هذه الثلاثة في التناجي؛ لأنه قد يلزم الإسرار بها حفظاً لماء وجه المحتاجين، أو لتكون في موقعها، أو لئلا يمنع عنها مانع لو أعلن عنها، أو لغير ذلك من أغراض شرعية أو عقلائية.

وقوله: {يَفْعَلْ ذَٰلِكَ} مرجع الإشارة إما إلى النجوى؛ لأنها مصدر ويجوز تذكير الإشارة العائدة إلى المصدر حتى لو كان مؤنثاً، أو إلى الأمر

ص: 411


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 230؛ عن تفسير القمي وتفسير العياشي.

بها، أو بتقدير كل واحد منها.

وقوله: {مَرْضَاتِ اللَّهِ} لأنّ الأجر الموعود إنما هو على العمل المشروع إذا كان خالصاً لوجه اللّه، وأما إذا لم يكن لوجه اللّه، فإن كان عبادةكالصلاة والصيام فهو رياء محرّم، وإن لم يكن عبادة وكان من الأمور التوصلية الحسنة فهذا لا بأس به لكن لا وعد بالثواب عليه، كمن يصلح بين الناس لكسب جاه بينهم أو لتكون له يد عليهم، وقد مرّ أنّ الداعي العقلي في غير العبادة لا بأس به، بل قد يكون حسناً لكن حيث لم يكن العمل للّه فلا وعد بالأجر فيه.

وقوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي في القيامة؛ لأنّ أجر الآخرة هو الأجر العظيم، ولا يخفى أنّ الأعمال الصالحة لها آثار دنيوية أيضاً، لكنها ليست أجراً للصالحات لقصور الدنيا عن أن تكون ثواباً للمؤمن كما في الروايات(1)، فهي رحمة منه تعالى لكنها ليست بأجر، وإن صح إطلاق الأجر عليها مجازاً.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ...} الآية.

معنى الآية عام لكل كفر وعدم طاعة، وإن كان شأن نزولها في قصة سرقة أبي طعمة كما مرّ، وارتباطها بما قبلها من آيات هو بيان قسم آخر من التناجي الذي يكون من مصاديق المشاقة والمعصية، وأيضاً لبيان عاقبة المخالفة، فقد ذكرت الآيات السابقة أنه لا مدافع ولا وكيل عنهم في

ص: 412


1- ورد في الكافي 8: 47 «... يا موسى الدنيا نطفة ليست بثواب للمؤمن ولا نقمة من فاجر...».

الآخرة، وأنّ كاسب الإثم إنما يكسبه على نفسه وأن الضرر يرجع اليه وأنه لا خير في عمله، وأما هذه الآية فتفصّل في بيان عاقبة السوء بخذلان اللّه له في الدنيا وبمصيره إلى جهنم مع عدم غفرانه في الآخرة.وقوله: {يُشَاقِقِ} بمعنى يخالف، بأن يكون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في طرف وهو في طرف آخر، والمقصود كفره وضلاله بقرينة قوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ}، وأيضاً شأن نزولها في أبي طعمة حيث ارتد ولحق بالمشركين في مكة ومات على شركه.

وقوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ} أي تمت عليه الحجة فلم يكن جاهلاً قاصراً، وأما الجاهل القاصر فقد مرّ ذكره في قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ}(1).

وقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} أي طريقتهم، وهي طاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهذا يرتبط بالفروع كما أنّ المشاقة ترتبط بالأصول.

وقيل: هو عطف تأكيدي؛ لأنّ اتباع غير سبيل المؤمنين هو مشاقة للرسول.

ولعلّه لأجل النظر لفعله من جهتين: جهة مخالفة الرسول وجهة مخالفة المؤمنين.

وقد يستدل بهذه الآية على حجية الإجماع، ويرد عليه إشكالات متعددة، منها: أنّ بعض المسائل المجمع عليها خاصة جداً أو غير محل

ص: 413


1- سورة النساء، الآية: 98-99.

الابتلاء، فلا يقال في مخالفتها: إنها اتباع لغير سبيل المؤمنين، نعم المسائل الضرورية والمعروفة لدى الجميع كوجوب طاعة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي من سبيل المؤمنين.وقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ} هذا بيان نتيجة عمله في الدنيا، بمعنى أنّ اللّه تعالى يقطع ألطافه عنه، وبهذا الخذلان يضلّ ولا يهتدي أبداً، كما قال: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٖ}(1) وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَٰوَةٌ}(2)، ومعنى {نُوَلِّهِ} نجعله والياً أي تابعاً، ومعنى {مَا تَوَلَّىٰ} أي ما اتّبعه من الضلال.

ولازم الآية هو عدم الجبر فإذا أراد المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين لا يمنعه اللّه تعالى عن ذلك تكويناً، وإلاّ لبطل الامتحان، وهو خلاف الحكمة، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.

وقوله: {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} بيان نتيجة عمله بعقوبته في الآخرة، والإصلاء هو مقاساة حرارة النار والمراد هنا الإحراق.

الرابع: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ...} الآية.

هذا كالتعليل لإصلاء هذا المشاقق المخالف، وأيضاً تهديد له، وأيضاً ترغيب في التوبة، وهذا ليس تكراراً للآية 48، بل سيقت الآيتان لغرضين كما مرّ.

وقوله: {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} كالتعليل لعدم غفرانه، كالذي ضل عن الجادة

ص: 414


1- سورة الجاثية، الآية: 23.
2- سورة البقرة، الآية: 7.

فإن كان قليلاً كان المرجو رجوعه إليها، أما إذا ابتعد كثيراً فلا رجاء، وهكذا المذنب غير المشرك لم يبتعد عن طريق الحق كثيراً، فلذا يمكن هدايته إلى طريق الجنة بالشفاعة والغفران، وأما المشرك فقد ابتعد كثيراً عنطريقها فلا يهتدي إليها أبداً؛ لعدم المصلحة في غفرانه ذنوبه والشفاعة له، وكلما استعمل الضلال البعيد في القرآن أريد به الكفر والشرك، كقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَٰلُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٖ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَٰلُ الْبَعِيدُ}(1)، وكقوله: {يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُۥ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَٰلُ الْبَعِيدُ}(2)، وكقوله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَٰلِ الْبَعِيدِ}(3).

ص: 415


1- سورة إبراهيم، الآية: 18.
2- سورة الحج، الآية: 12.
3- سورة سبأ، الآية: 8.

الآيات 117-122

{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَٰثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَٰنًا مَّرِيدًا 117 لَّعَنَهُ اللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا 118 وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الْأَنْعَٰمِ وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا 119 يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا 120 أُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا 121 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا 122}

ثم يحذّر اللّه تعالى عن الشرك وعن سببه ونتائجه فيقول:

117- {إِن} نافيه أي ما {يَدْعُونَ} يعبدون {مِن دُونِهِ} من دون اللّه سبحانه {إِلَّا} أصناماً {إِنَٰثًا} كاللات والعزى ومناة، وهذا تسخيف لعقولهم، {وَإِن يَدْعُونَ} لا يطيعون عبر عبادتها {إِلَّا شَيْطَٰنًا} موصوفاً بكونه {مَّرِيدًا} متمرداً خارجاً عن طاعة اللّه.

118- كما أنه موصوف بأنه {لَّعَنَهُ اللَّهُۘ} طرده عن رحمته فكيف يرجون الفوز باتباع مطرود عن رحمته؟ {وَ} أما خطته لإغواء الإنسان فإنه {قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ} عباد اللّه {نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} مقطوعاً، فهو يقتطعهم عن عبادة اللّه تعالى.

ص: 416

119- ثم بعد اقتطاعه إياهم يتدرج معهم مراحل ليُرديهم، عداوةً لهموحسداً فيقول: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} عن عبادة اللّه وطاعته، {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} بالأماني الباطلة الموجبة لاتباع الهوى كي يستمروا في ضلالهم ولا يعودوا إلى فطرتهم، {وَلَأمُرَنَّهُمْ} عبر الوسوسة بتشريع البدعة {فَلَيُبَتِّكُنَّ} التبتيك هو القطع من الأصل {ءَاذَانَ الْأَنْعَٰمِ} وهذا كمثال للمخالفة العملية المتضمنة للتشريع المبتدع، {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} أي دينه وما أمر به.

{وَ} أما العاقبة فإنه {مَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا} يتولاه ويتبعه {مِّن دُونِ اللَّهِ} بأن يؤثر طاعة الشيطان على طاعة اللّه سبحانه {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} ظاهراً حيث خسر نفسه فأبدلها من رضى اللّه ونعيم الجنة إلى غضبه وعذاب جهنم.

120- وإنما خسروا لأنّ الشيطان {يَعِدُهُمْ} بالوعود الكاذبة، {وَيُمَنِّيهِمْ} بالأماني الباطلة، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} خداعاً بإظهار ما يضرهم على أنه ينفعهم، وإظهار ما ينفعهم على أنه يضرّهم.

121- {أُوْلَٰئِكَ} الذين اتخذوا الشيطان ولياً {مَأْوَىٰهُمْ} مرجعهم {جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} مخلصاً ومهرباً فهم خالدون فيها أبداً.

122- {وَ} في المقابل {الَّذِينَ} أتخذوا اللّه ولياً ف {ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ} أي وعد وعداً {حَقًّا} ثابتاً لا خلف فيه، {وَمَنْ} استفهام تقريري {أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} أي قولاً، فلا أحد أكثر صدقاً منه؛ لأنه العالم القادر الحكيم، فإذا وعد أنجز وعده حتماً، فما بال أولئك تركوا عبادة اللّه وطاعته

ص: 417

إلى عبادة الشيطان؟!

بحوث

الأول: قوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَٰثًا}.

بعد أن ذكر اللّه تعالى مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، وأخبر بأنه سبحانه لا يغفر أن يشرك به، أراد تسخيف الشرك وبيان أسبابه ونتائجه، تحذيراً للناس عنه وإيقاظاً لهم ليعرفوا أسبابه فيجتنبونها ويعرفوا نتائجه بالخسران وجهنم فينجون بأنفسهم عنها.

وقوله: {إِن يَدْعُونَ} ذكرها مرتين: الأولى في دعاء الأصنام والمقصود عبادتها، والثانية في دعاء الشيطان والمراد إطاعته، فإنّ أصل الدعاء طلب الفعل، واستعمل كثيراً في النداء، والإنسان ينادي معبوده لقضاء حوائجه؛ فلذلك استعمل الدعاء في العبادة التي هي غاية الخضوع والتذلل بقصد التأليه، كما أنّ الإنسان يستجيب لمعبوده برفع صوته بالتلبية؛ فلذلك استعمل الدعاء في الطاعة.

وقيل: {يَدْعُونَ} استعمل في كليهما بمعنى العبادة، فهؤلاء يعبدون الأصنام إلاّ أنهم في الحقيقة يعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمرهم بذلك وأغواهم في عبادتها.

وقوله: {إِنَٰثًا} هذا تسخيف لعقولهم بأنهم يعتقدون بأنّ الأصنام إناث ويسمّونها تسمية الأنثى ومع ذلك يعبدونها!

فقوله تعالى: {إِنَٰثًا} إنما هو باعتبار أسمائها، وإلاّ فالأصنام جمادات فلا ذكر ولا أنثى فيها.

ص: 418

وقال الراغب: المنفعل يقال له: أنيث... ولما كانت معبوداتهم من جملة الجمادات التي هي منفعلة غير فاعلة سمّاها اللّه تعالى أنثى، وبكتهم بها،ونبّههم على جهلهم في اعتقاداتهم فيها أنها آلهة، مع أنها لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، بل لا تفعل فعلاً بوجه(1).

وفيه نظر: إذ الأنثى مقابل الذكر، والتوسع في الكلمات واستعمال اشتقاقات منها لبعض الاعتبارات لا يضرّ بظهورها في معناها الأصلي إذا لم تكن قرينة على إرادة غير ذلك.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَٰنًا مَّرِيدًا * لَّعَنَهُ اللَّهُۘ}.

بيان أنّ شركهم إنما هو بإغواء من الشيطان، فهو الذي سوّل لهم عبادة الأصنام ومعصية اللّه تعالى، عداوةً للإنسان وحسداً، قال تعالى: {قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥ إِلَّا قَلِيلًا}(2)، وقال: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَأتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ}(3).

ثم تبيّن الآيات وصف الشيطان، وخطته لإغواء بني آدم، وعاقبة اتّباعه:

1- أما وصفه: فهو مريد وملعون.

2- وأما خطته فهي: اقتطاع قسم من بني آدم لنفسه عبر إضلالهم عن عبادة اللّه، ثم إغفالهم بالتمني لئلا ينتبهوا، ثم أمرهم بالمعاصي بتزيين

ص: 419


1- مفردات الراغب: 94.
2- سورة الإسراء، الآية: 62.
3- سورة الأعراف، الآية: 16-17.

المحرمات لهم، ثم أمرهم باتخاذ الدين الباطل وعدم إطاعة اللّه في أوامره.

3- وأما العاقبة: فهي الخسران المبين باتّباعه؛ لأن وعوده وأمانيه كلّها خداع وغرور.وقوله: {مَّرِيدًا} وأصل (مرد) بمعنى التجرّد والخلوّ، فالمارد والمريد بمعنى المتعري عن الخير، ولا يكون ذلك إلاّ بالعتوّ والخروج عن الطاعة.

وقوله: {لَّعَنَهُ اللَّهُۘ} إخبار، وهو وصف ثانٍ للشيطان، أي هو مطرود عن رحمة اللّه تعالى، وقيل: هذا إنشاء، أي الدعاء على الشيطان! لكن ما ذكرناه أقرب إلى سياق الآية، وهذا تسخيف ثانٍ للمشركين، بعد التسخيف بدعاء الإناث، فهل هناك خير في اتّباع المتمرد المطرود عن الرحمة؟!

الثالث: قوله تعالى: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ...} الآية.

بيان لخطة الشيطان وتحذير منها، وهي:

1- {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} أي أقتطع منهم جزءاً لي مع أنهم عباد اللّه تعالى، خلقهم ليعبدوه فيرحمهم بالجنة والرضوان، لكن حيث خلقهم مختارين وأمهل الشيطان إلى يوم الوقت المعلوم، فلذلك طمع الشيطان في أن يستحوذ على بعضهم بعد علمه بعدم تمكّنه من الاستحواذ على جميعهم، قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(1).

أما كيف علم الشيطان بأنه يتمكن من إغواء بني آدم؟ فلعلّه حينما أزلّ

ص: 420


1- سورة ص، الآية: 82-83.

آدم (عليه السلام) فترك الأولى حسب ما يذهب إليه المشهور، أو ترك الأمر الإرشادي الذي لم يكن تركه أولى حسب الأظهر، عند ذاك علم الشيطان بتمكنه من إغواء الذرية التي ليست بمعصومة! أو قال كلاماً بالظن، فأخبرهاللّه بصدق ظنّه حيث قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}(1)،

أو قاسهم على نفسه لما رأى تمكنه من العصيان، واللّه العالم.

2- {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} عن عبادة اللّه تعالى، فلما استحوذ عليهم الشيطان واقتطعهم لنفسه عند ذاك يبدأ بإضلالهم، كما قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}(2)، وقال: {إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُۥ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(3).

3- {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} للإبقاء على ضلالهم، فإنّ الأماني الكاذبة تجعل غشاوة على بصر الإنسان وعقله، فلا يرى الحقائق، كأن يمنّي نفسه ببُعد الموت منه، وكذا التسويف بالتوبة ونحو ذلك، قال تعالى: {وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}(4)،

وهذا ما يشاهد في بعض العصاة حينما يمرضون بمرض لا علاج له ويستيقنون بالموت يتوبون إلى اللّه تعالى ويحاولون إصلاح ما أفسدوه، وذلك لليأس الذي يعتريهم من استمرار الحياة، وإلاّ فالأماني تمنع الأكثر عن رؤية الحق.

ص: 421


1- سورة ص، الآية: 85.
2- سورة المجادلة، الآية: 19.
3- سورة النحل، الآية: 100.
4- سورة الحديد، الآية: 14.

4- {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الْأَنْعَٰمِ}، فبعد إضلالهم عن عبادة اللّه وإغوائهم بالأماني تبدأ مرحلة العصيان، وهي مرحلتان:

أما الأولى فهي التشريعات الباطلة خلافاً لحكم اللّه تعالى بأن يزيّن الشيطان لهم بعض المحرمات فيلتزمون بها، ومن ذلك قطع آذان الأنعام،فقال: {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الْأَنْعَٰمِ}، ويكون أمره عبر الوسوسة، و(التبتيك) استئصال العضو أو الشعر، وتبتيك الآذان قطعها من أصلها، قيل: كانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن - والخامس ذكر - حرّموا على أنفسهم الانتفاع بها(1).

5- {وَلَأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}، وهذه المرحلة الثانية من العصيان بإغوائهم بترك الدين الحق، وكذا مخالفة أوامر اللّه تعالى، فالأمر بالتبتيك مخالفة المحرمات بالالتزام بها، والأمر بالتغيير مخالفة الواجبات عبر تركها، و(تغيير خلق اللّه) هو تغيير دينه وأوامره؛ لأنّ خلق اللّه هي الفطرة كما قال سبحانه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(2)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال في خلق اللّه: «أمر اللّه بما أمر به»، وقال أيضاً: «دين اللّه»(3).

ولعلّ تقديم الأمر بالتبتيك على الأمر بالتغيير؛ لأنّ الإغواء بارتكاب المحرمات هي كالمقدمة للإغواء بترك الأوامر وتغيير الدين.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ...} الآية.

ص: 422


1- تفسير الصافي 2: 319.
2- سورة الروم، الآية: 30.
3- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 233؛ عن تفسير العياشي.

بيان عاقبة الشرك وهو الخسران المبين.

وقوله: {يَتَّخِذِ الشَّيْطَٰنَ وَلِيًّا} أي يتولاه ويتّبعه ويطيع أمره، فإنه لا سلطة للشيطان على أحد إلاّ إذا سلطه على نفسه قال اللّه تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَٰنُ}إلى قوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}(1)، وقال تعالى: {إِنَّهُۥ لَيْسَ لَهُۥ سُلْطَٰنٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُۥ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}(2).

وقوله: {مِّن دُونِ اللَّهِ} قيد توضيحي لزيادة التشنيع، أي اتخاذه ولياً لم يكن بأمر اللّه تعالى، وإنما اغتر الإنسان فآثر طاعة الشيطان على طاعة اللّه تعالى.

وقوله: {خُسْرَانًا مُّبِينًا} لأنه خسر نفسه بفعل ما يوجب خلودها في نار جهنم فقد أعطى نفسه وكسب العذاب، قال تعالى: {إِنَّ الْخَٰسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا}.

هذه الآية وما بعدها كالتعليل لقوله: {خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}؛ إذ الشيطان لا يعطيهم مقابل اتّباعهم له إلاّ الوعود والأماني الكاذبة، وبذلك يخدعهم بما يكون مصيرهم الخلود في نار جهنم.

ومن ذلك يتضح أنه لا تكرار في قوله: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} وقوله:

ص: 423


1- سورة إبراهيم، الآية: 22.
2- سورة النحل، الآية: 99-100.
3- سورة الزمر، الآية: 15.

{وَيُمَنِّيهِمْ}؛ فإن الأول بيان لصنع الشيطان بهم، والثاني لبيان علة خسرانهم، نظير ما لو قلت: خدع الشيطان فلاناً فخسر بسبب هذا الخداع.

فحاصل المعنى: من يتبع الشيطان يخسر خسراناً واضحاً؛ لأنّ الشيطانيخدعه بالوعود الكاذبة والأماني الباطلة.

وهنا الأماني فرع الوعود فلذا اكتفى بذكر الوعد في قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا}، ولذا قيل: وعد الشيطان هي وساوسه التي يلقيها مباشرة، وأما الأماني فهي متفرعة على الوساوس مما تتطابق مع الهوى.

وقوله: {غُرُورًا} أي خداعاً، وذلك بإظهار النفع فيما فيه الضرر وبالعكس.

السادس: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا}.

بيان الغرور في وعود الشيطان، فإنه يخدعهم بمواعيده لكن حقيقة الأمر أنه ساق هؤلاء إلى الخلود في جهنم حيث اتخذوه ولياً فأطاعوه وانخدعوا به، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَا۠ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1).

وقوله: {مَحِيصًا} أي مهرباً وتخلصاً منها، بمعنى خلودهم في نار جهنم حيث إنّ الشرك لا يغفر ألبتة.

السابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ سَنُدْخِلُهُمْ...} الآية.

ص: 424


1- سورة إبراهيم، الآية: 22.

دأب القرآن كلّما ذكر العذاب وأسبابه حث الناس على الإيمان والطاعة بتذكيرهم بثوابهما.

وفي الآية تقابل الثواب وأسبابه بالعذاب وموجباته: فالإيمان والعملالصالح يقابلان الإضلال والتمني والأمر بالتبتيك وتغيير خلق اللّه، وتقابل الخسران وجهنم بالجنات والأنهار، وكذا عدم محيص أولئك عن جهنم بخلود هؤلاء في الجنة، وكذلك وعد الشيطان وأمانيه الغرور بوعد اللّه تعالى الذي هو الأصدق قيلاً.

وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ} أي وعد اللّه ذلك وعداً.

وقوله: {حَقًّا} حال أو وصف للوعد، أي وعداً ثابتاً لا خلف فيه.

وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ...} استفهام تقريري، أي هل هناك من هو أصدق من اللّه؟! وهذا تأكيد لتنجيزه الوعد؛ وذلك لأنّ الذي يخلف الوعد إما الكاذب أو الجاهل أو العاجز، فتارةً يريد الخداع فيعد بما لا يريد إنجازه، وتارةً يعد بما لا يتمكن من إنجازه لجهله بالمستقبل أو لعدم قدرته حين التنجز، واللّه تعالى منزه عن كل ذلك، فهو الصادق العالم القادر الحكيم في كل شؤونه.

وقوله: {قِيلًا} بمعنى القول، ونصبه على التمييز.

ص: 425

الآيات 123-126

{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا 123 وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا 124 وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلًا 125 وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٖ مُّحِيطًا 126}

ثم يبين اللّه تعالى القاعدة العامة في الثواب والعقاب، سواء في الدنيا أم في الآخرة، وأنها بالعمل دون الأماني فلا يتوقعن أحد من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يحكم لصالحه مع بطلان عمله، ولا ينتظرنّ أحد من اللّه تعالى الثواب من دون عمل صالح، فقال:

123- {لَّيْسَ} هذا الوعد بالثواب والعقاب والقضاء {بِأَمَانِيِّكُمْ} جمع أمنية، وهي ما تتمناه النفس وترغب إليها {وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} بأنّ اللّه يغفر لهم لزعمهم أنهم أبناؤه وأحباؤه! بل {مَن يَعْمَلْ سُوءًا} أي عملاً سيّئاً {يُجْزَ بِهِ} عاجلاً أم آجلاً {وَلَا يَجِدْ} عامل السوء {لَهُۥ} لنفسه {مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} يلى أمره بما يُحب {وَلَا نَصِيرًا} من عذاب اللّه.

124- {وَ} في المقابل {مَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ} من جنسها {مِن

ص: 426

ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} «من» بيانية لإفادة العموم {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} سليم العقيدة، فالطاعة وحدها من دون إيمان لا تنفع {فَأُوْلَٰئِكَ} المؤمنون العاملون بالصالحات{يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} وهي النقرة في ظهر النواة، كناية عن القِلة، فلا ظلم حتى القليل منه.

125- ثم يرغّب اللّه تعالى في الإيمان والعمل الصالح {وَمَنْ} استفهام تقريري، أي لا يوجد أحد {أَحْسَنُ دِينًا} أي طريقة في العقيدة والعمل {مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ} أي أخضع نفسه وذاته {لِلَّهِ} هذا في العقيدة، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله بإطاعته وانقياده، {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ} طريقة {إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا} حال من إبراهيم وهذا في رفض العقائد والأعمال الباطلة.

{وَ} أما لزوم اتباع ملة إبراهيم فلأنه {اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلًا} أي حبيباً، وذلك لطاعته للّه، فما يمنعكم عن اتباع ملّته كيما يحبكم اللّه ويرضى عنكم؟!

126- {وَ} أما لزوم إسلام الوجه للّه تعالى فلأنّه {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فكل النفع بيده لمن يريد النفع، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٖ مُّحِيطًا} بعلمه وقدرته، فهو المالك لكل شيء والعالم بكل أحد وفعل والقادر على ما يريد فاطلبوا مرضاته لتنالوا ثوابه.

بحوث

الأول: في ختام هذا القسم من سورة النساء يبيّن اللّه تعالى القاعدة العامة في الثواب والعقاب، بأنّ الميزان في ذلك العقيدة والعمل لا بالأماني الزائفة التي لا واقع لها، فالتوهمات هي في عالم الذهن ولا تأثير لها في عالم الخارج، مع ارتباط هذه الآيات بما قبلها وبشأن نزولها كما سيأتي بيانه.

ص: 427

1- فالعمل السيّئ لا فرق فيه بين من صحّت عقيدته أم فسدت، فينال من ارتكبه جزاءه، ولا أحد من دون اللّه ينقذه عن ذلك الجزاء، نعم لو شاء اللّهمغفرته غفر له وأذن للشفعاء بأن يشفعوا له، وقد ذكر في الآيات السابقة أنه مع بطلان العقيدة لا مغفرة أبداً فيجازى على كل أعماله السيئة بلا استثناء، وأما من صحت عقيدته وزلّ في بعض الأعمال فلا أحد يلي أمره وينصره من دون اللّه، إلاّ أنّ اللّه قد يغفر له بمحو ذلك السوء فينتفي العقاب بانتفاء موضوعه.

ويحتمل - بقرينة المقابلة - أن يكون المراد من (السوء) الشرك.

2- وأما العمل الصالح إذا صدر عن مؤمن فجزاؤه الجنة، ولا يبخسون من ثوابهم الموعود شيئاً.

وبعد ذلك يتم بيان الميزان في الإيمان والعمل الصالح، وحاصله: الخضوع والانقياد التام للّه تعالى، ورفض كل انحراف سواء في العقيدة والعمل، ثم الإحسان في الأعمال.

الثاني: قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ...} الآية.

أما ارتباط الآية بما قبلها فقد قيل: حيث كان الكلام حول قضاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحكمه وأن قوم أبي طعمة طمعوا في أن يحكم النبي لصالح صاحبهم السارق، فإنّ البعض يتوهمون أنّ لهم حقاً على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإسلامهم أو بسابقتهم أو بخدماتهم فيزعمون أنه لا بد من مراعاتهم سواء كانوا على حق أم باطل! بيّن اللّه تعالى بأنّ الحكم إنما يكون بالحق لا بالمحسوبيات والمنسوبيات، فلا يُمنينّ أحد نفسه بالأماني الخادعة بالجور!

قوله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} اسم ليس الضمير المقدّر الراجع إلى الوعد

ص: 428

المذكور في الآية السابقة، ويمكن تقدير الاسم بما يناسب سياق الكلام مثل: ليس الأمر والشأن في الثواب والعقاب، ونحو ذلك.وقوله: {بِأَمَانِيِّكُمْ} خبر ليس، ويتعلق ب (كائن) أو (ينال) ونحو ذلك مما يناسب السياق، فيكون حاصل المعنى: ليس ما وعدناه يُنال بالأماني، والأماني جمع أمنية من مادة (م ن ي) ومنه التمني، والمراد منها رغبات النفس ومشتهياتها، والخطاب للمسلمين، وقيل: الخطاب للمشركين!

وقوله: {وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} حيث كانوا يزعمون أنهم أبناء اللّه وأحباؤه وأنه لن تمسهم النار إلاّ أياماً معدودة، ونحو ذلك من المزاعم الباطلة.

وقوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا} إنما خصّ الكلام بالعمل دون العقيدة؛ لأنّ المقصود في هذه الآية العمل، وأما العقيدة السيئة فقد ذكرت في الآية 116 في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}.

وقوله: {يُجْزَ بِهِ} أي بذلك العمل لا بغيره، كما أنّ المُجازى هو العاصي دون غيره، وهذا من عدل اللّه تعالى.

ثم إنه إن كان الخطاب في (أمانيكم) إلى المشركين فالجزاء واضح؛ لأنّ المغفرة لا تناله لشركه، فيعاقب على شركه وعلى جميع معاصيه الكبيرة والصغيرة، فإنّ الكافر مكلّف بالفروع كتكليفه بالأصول، كما مرّ، وأما لو كان الخطاب للمسلمين فالجزاء بالسوء مقيّد بما إذا لم يرض اللّه عنه؛ إذ لو رضي عنه أذن في شفاعته وغفر له فلا يُجازى على سوئه.

والحاصل أنّ الوعيد بالعقاب يشمله، ولا ضمان له بالمغفرة؛ لأنه علّقها

ص: 429

على المشيئة.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} أي من غيره سبحانه ومستقلاً عنه، أما لو شاء اللّهالمغفرة والشفاعة فهذا يجد له بإذن اللّه ولياً ونصيراً.

والفرق بين الولي والنصير قد مرّ، فالولي هو في الجانب الإيجابي، أي يلي أمره بما يُحب، والنصير في الجانب السلبي بدفع العذاب عنه.

الثالث: قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...} الآية.

حيث كان الكلام حول العمل فلذلك ذكر جزاء العمل بالصالحات، فقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ذُكر عرضاً لبيان أنّ الأعمال وحدها غير كافية للثواب، بل لا بد من صدورها من المؤمن، وأما الكافر فعمله محبط لا ثواب فيه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا وَلِقَاءِ الْأخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ}(1)، وقال: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(2).

وقوله: {مِنَ الصَّٰلِحَٰتِ} «من» تبعيضيّة، فإنّ اللّه تعالى إذا قبل حسنة واحدة أدخل صاحبها الجنة كما ورد هذا المعنى في بعض الأحاديث(3).

وقوله: {مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} «من» بيانية لإفادة العموم، دفعاً لتوهم أهل

ص: 430


1- سورة الأعراف، الآية: 147.
2- سورة الفرقان، الآية: 23.
3- المحاسن: 253 «عن إسماعيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ ربكم لرحيم يشكر القليل، إنّ العبد ليصلي ركعتين يريد بهما وجه اللّه فيدخله اللّه الجنة، وإنه ليتصدق بالدرهم يريد به وجه اللّه فيدخله اللّه به الجنة».

الجاهلية بأنّ أعمال النساء الحسنة ينال الرجال ثمرتها! فيقال لهم: إنّ موازين اللّه تعالى هي أنّ جزاء العمل للعامل، إن خيراً أو شراً، وأنه لا تزر وازرةوزر أخرى، فإنّ من الظلم أن يكون العامل شخصاً وأن ينال الثواب أو العقاب شخص آخر لا دخل له في ذلك العمل، نعم قد مرّ أنّ الإنسان قد يظلم غيره فيكافأ بنقل حسناته إلى المظلوم أو نقل سيئات ذاك إليه، فصار العمل عمله ولذلك يجازى عليه، فراجع.

وقوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} أي لا يبخسون حقهم الذي صار حقاً لهم بوعد اللّه تعالى لهم، فإنّ من الظلم عدم الوفاء بالوعد، وإن كان أصل الوعد تفضلاً.

الرابع: قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ...} الآية.

هذا كالتعليل لجزاء المؤمن العامل بالصالحات الجنة، كما أنّ فيه حثاً عليهما.

وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ} في التقريب: وإنما لم يكن أحد أحسن ديناً من هذا الإنسان؛ لأنّ الإيمان اعتراف بالحقيقة الكبرى، والإحسان عمل بما هو الأصلح، إذ ما يقرّره الإله العليم الحكيم أحسن ممّا يقرره الإنسان الجاهل ذو الطيش والسفه(1).

والآية تتضمن ثلاثة مقاطع:

1- {أَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلَّهِ} أي أخضع وأخلص ذاته للّه تعالى، و(الوجه) كناية عن الذات؛ لأنها أشرف مواضع الجسد وفيها يُرى غاية الخضوع،

ص: 431


1- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 552.

وهذا الجانب الإيجابي من العقيدة بالخضوع للّه خضوعاً مطلقاً.

2- {وَهُوَ مُحْسِنٌ} هذا في الجانب العملي، بأن يأتي بالأعمالالصالحة، وذلك إحسان للنفس، في مقابل من يظلم نفسه بعمل السيئات.

3- {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا} هذا في الجانب السلبي بعدم العقيدة الباطلة وعدم ارتكاب الأعمال السيئة، وملة إبراهيم (عليه السلام) وإن كانت أعم، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد هنا جانب النفي منها لذا قيده بقوله: {حَنِيفًا}، أي مائلاً من الباطل إلى الحق، فتأمل.

الخامس: قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَٰهِيمَ خَلِيلًا}.

هذا كالتعليل للزوم اتباع ملة إبراهيم (عليه السلام) ، فإنّ إبراهيم انقاد للّه تعالى في كل شيء لذا صار خليلاً له، فأنتم أيضاً اتبعوا طريقة إبراهيم ليحبكم اللّه تعالى ويجازيكم الجنة والرضوان، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُۥ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُۥ}(1)، وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(2).

وقوله: {خَلِيلًا} من الخلة بمعنى الصداقة العميقة التي تنفذ في القلب، والمقصود هنا أنّ اللّه أحبه كما يحب الخليل خليله، واختصه بكرامة ككرامة الخليل عند خليله.

ص: 432


1- سورة الممتحنة، الآية: 4.
2- سورة آل عمران، الآية: 31.

وفي الروايات بيان أسباب اتخاذه خليلاً(1)، منها: كثرة سجوده، وصلاته بالليل والناس نيام، وأنه لم يسأل أحداً إلاّ اللّه، وكثرة صلاته على محمد وأهل بيته، وإطعامه الطعام، وأنه لم يرد سائلاً.السادس: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...} الآية.

هذا كالتعليل لوجوب إسلام الوجه للّه تعالى، فإنه الخالق والمالك لكل شيء والعالم بكل شيء، والقادر على كل شيء، فهو الرب الذي لا بد من الخضوع له والانقياد إليه وعبادته.

والحاصل الأحسن هو اتباع دين اللّه المالك لكل شيء عرفاناً بالجميل وشكراً له، كما أنّ من يبتغي النفع فعنده تعالى كل النفع، ومن يُرد التخلص من الضرر فكل الأمور بيده سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}(2)، وقال: {لَهُۥ مَقَالِيدُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ}(3)، وقال: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}(4)، وغيرها من الآيات.

وقوله: {بِكُلِّ شَيْءٖ مُّحِيطًا} أي إحاطة علم وقدرة، إذ المحيط عالم بالمحاط به وقادر عليه، وليست إحاطة جسمانية؛ لأنه سبحانه ليس بجسم ولا حدّ له.

ص: 433


1- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 3: 226.
2- سورة فاطر، الآية: 10.
3- سورة الشورى، الآية: 12.
4- سورة النساء، الآية: 134.

الآيات 127-130

اشارة

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ الَّٰتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا 127 وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 128 وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا 129 وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمًا 130}

وحيث أمر اللّه رسوله أن يحكم بما أراه اللّه ولا يتبع أهواء الناس، بيّن مثالاً آخر حيث كانوا يريدون من الرسول تغيير أحكام اللّه في النساء، وكذلك كما أمر الرسول بالحكم بالعدل كذلك يأمر الناس بالعدل فقال:

127- {وَيَسْتَفْتُونَكَ} أي يسألونك عن الفتوى {فِي} أحكام {النِّسَاءِ} وكأنَّ مقصودهم تغيير الأحكام فيهن، {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} يبيّن حكمهن في الميراث وفي غيره، لا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حتى تتوقعوا منه التغيير، {وَ} كذلك اللّه يفتيكم في سائر الأحكام من {مَا يُتْلَىٰ} يقرأ {عَلَيْكُمْ فِي

ص: 434

الْكِتَٰبِ} حيث ذكر أحكامهن في أوائل هذه السورة وفي سورة البقرة وذلك {فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ} أي اليتيمات اللاتي بلغن سن النكاح {الَّٰتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أي مواريثهن {وَتَرْغَبُونَ أَنتَنكِحُوهُنَّ} حيث كان الرجل يربّي اليتيمة، فإذا بلغت وكانت جميلة تزوجها وأكل إرثها، وإن كانت دميمة عضلها وتربص موتها لأكل أموالها، {وَ} كذلك يفتيكم اللّه في {الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَٰنِ} كما مرّ في أوائل السورة، حيث كان الجاهليون يمنعونهم الإرث بزعم أنهم لا يقاتلون والإرث خاص بالحامي المقاتل حسب زعمهم، {وَ} يفتيكم اللّه تعالى في {أَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ} عامتهم سواء من النساء أم المستضعفين أم غيرهم، وسواء في أموالهم أم أنفسهم {بِالْقِسْطِ} أي بالعدل، {وَ} كل ذلك من الخير الذي هو في صالحكم فكل {مَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} فيجازيكم عليه أحسن الجزاء.

128- ومع أنّ اللّه تعالى حدّ حقوق كل طائفة، لكن يمكن صاحب الحق أن يتنازل عن حقه لمصلحة أهم، {وَ} من ذلك: {إِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا} زوجها {نُشُوزًا} ترفعاً وتجافياً عنها بمنع حقها في القَسم والنفقة {أَوْ إِعْرَاضًا} عنها بأن يهملها فلا يتكلم معها ولا يؤانسها أو يتعامل معها بجفاء {فَلَا جُنَاحَ} لا إثم {عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} أيَّ نوع من أنواع الصلح المشروع كأن تهب المرأة بعض حقوقها، {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} لهما من الطلاق، ومن ارتكاب المحرّم بمنع الحقوق، {وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ} أي جُبلت على طبيعة الشُح، فالشُح حاضر لديها ولا ينفك عنها،

ص: 435

والمقصود بيان صعوبة الصلح عليهما؛ لأن النفوس شحيحة على حقوقها، هذا بالنسبة إلى المرأة، {وَ} أما الرجل ف {إِن تُحْسِنُواْ} بأن تعاشروهن بالمعروف وتصبروا على ما تكرهونه منهن {وَتَتَّقُواْ} عن المحرمات بأن تؤدوا حقوقهن {فَإِنَّ اللَّهَ} يجازيكم أحسنالجزاء؛ لأنه {كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} يعرف بواطنكم ونواياكم.

129- ثم المطلوب من الرجال العدل بين الزوجات في القَسم والنفقة، وأما العدل حتى في الميل القلبي فذلك غير ممكن لهم فلذا لم يكلّفوا به، {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ} عدلاً في كل شيء حتى في المساواة في المحبة {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} وحاولتهم بشدة؛ لأن ميل القلوب غير اختياري غالباً، فالقلب يميل إلى الجميلة المطيعة حسنة الأخلاق وينفر من الدميمة المتمردة السيئة الأخلاق مثلاً {فَلَا تَمِيلُواْ} عن إحداهن التي لا ترغبون فيها {كُلَّ الْمَيْلِ} أي الميل في كل شيء حتى القَسم والنفقة {فَتَذَرُوهَا} أي تتركونها {كَالْمُعَلَّقَةِ} أمرها غير محسوم فلا هي مستريحة بالزوج ولا هي غير ذات زوج، والمرأة التي لا يمرّ عليها زوجها ولا ينفق عليها تبقى معلقة حائرة، فلا هي تعيش حياة الأزواج ولا حياة العازبات، {وَإِن تُصْلِحُواْ} ما فسد بينكم وبين زوجاتكم {وَتَتَّقُواْ} اللّه في أحكامه بإيتائهن حقوقهن {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا} لما ليس في اختياركم أو لما مضى منكم من جفاء {رَّحِيمًا} بالثواب حيث أصلحتم وأطعتم.

130- {وَ} إن لم يمكن الإصلاح أو كانا لا يريدانه ف {إِن يَتَفَرَّقَا} بالطلاق {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا} من الزوجين {مِّن سَعَتِهِ} وفضله بزوج وزوجة

ص: 436

آخرين وبعيش أهنأ ورزق أوسع، {وَكَانَ اللَّهُ وَٰسِعًا} عطاءً {حَكِيمًا} في تقديراته.

بحوث

الأول: لعل وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها هو أنّ الكلام كان في أنّعلى الرسول أن يحكم بما أراه اللّه تعالى، وأن لا يميل إلى الذين يختانون أنفسهم وما مرّ من تفاصيل أدت إلى ارتداد بعضهم مع بيان سبب ذلك بأنهم اتخذوا الشيطان ولياً من دون اللّه، وعاقبتهم إلى النار ولا تنفعهم أمانيهم...

بعد كل ذلك يبيّن اللّه تعالى مصداقاً آخر من أحكامه التي لم تكن تُعجبهم، وكانوا يرغبون في أن يغيّرها الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي أحكام تتعلق بالأيتام والنساء، حيث أنزل اللّه في أوائل سورة النساء أحكاماً في الإرث والحقوق الأخرى كانت خلاف دأب الجاهليين، فجاؤوا إلى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) آملين أن يغيّر تلك الأحكام، فهذه الآيات تبيّن أنه لا تغيير لحكم اللّه تعالى، فالفتوى من اللّه ولا بد من الالتزام بها.

ويمكن أن يكون وجه الربط هو أنّ الرسول يحكم بالعدل بما أراه اللّه تعالى، فكذلك يلزم عليكم الحكم بالعدل فيما في أيديكم وفي المحكومين بحكمكم كالأيتام والنساء.

وكان سؤالهم عن النساء فضمّ اللّه تعالى التأكيد على الأحكام النازلة في يتامى النساء والأولاد المستضعفين وفي عامة اليتامى؛ لأنهم لم يكونوا يرغبون في كل هذه الأحكام، وإن كان مورد كلامهم في خصوص حقوق

ص: 437

النساء، لكن في نيتهم أو ممارستهم هضم حقوق كل ضعيف من النساء والولدان واليتامى!

ثم بعد ذلك يبيّن اللّه سبحانه كيفية حل الخلاف بين الزوجين، وذلك بتنازل كل طرف عن بعض حقوقه، وإلاّ فالطلاق أسلم بهم!الثاني: قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}.

هذه الآية ناظرة إلى الآيات النازلة في أول سورة النساء في أحكام النساء وحقوقهن، وقال القمي في تفسيره في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَٰمَىٰ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ}(1)، قال: نزلت مع قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ...} الآية(2) يعني نزلت متصلة بتلك الآيات وبعدها حيث ثقل على الناس أحكامها فجاؤوا مستفتين فنزلت هذه الآية.

وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ} أي يطلبون منك الفتوى، و(الفتوى) هي تبيين الحكم وخاصة المشكل منه، وليس كونه مشكلاً داخلاً في مفهوم الفتوى، بل كل بيان للحكم فتوى، نعم الاستفتاء غالباً فيما أشكل عليهم، إذ لا يستفتى الناس عادة في الواضحات عندهم.

وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} يظهر أنهم كانوا يريدون من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يغيّر أحكامهن، إذ كان قبولها صعباً عليهم جداً، فيجيبهم اللّه بأن الفتوى لم تكن من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بل كانت من اللّه سبحانه، فهو الذي شرّع هذه

ص: 438


1- سورة النساء، الآية: 3.
2- تفسير القمي 1: 127.

الأحكام فلا حق لأحد في تغييرها، والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وإن فوّض اللّه تعالى إليه التشريع لكنه يشرّع بما ألهمه اللّه تعالى وحسب المصلحة الواقعية، ولا يعقل أن يعارض تشريع اللّه تعالى أو أن يشرّع حسب أهواء الجاهليين!

الثالث: قوله تعالى: {وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ...}الآية.

الظاهر أنّ {وَمَا يُتْلَىٰ} عطف على ضمير {فِيهِنَّ} فالمعنى يفتيكم اللّه في النساء وفي ما يتلى عليكم في يتامى النساء، أي في الآيات السابقة في أول سورة النساء، وعلى هذا فالمعنى واضح، أي اللّه تعالى هو الذي يفتيكم في ثلاثة مواضيع: في النساء، وفي يتامى النساء، وفي عامة اليتامى، فالحكم هو حكم اللّه تعالى ولا تبديل له، وهذا من عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور من غير تكرار حرف الجرّ، نظير قولنا: صلى اللّه عليه وآله، وهذا ما أجازه بعض النحاة وهو الصحيح، فيكون حاصل المعنى: أن ما ذكرناه لكم سابقاً وهو يتلى الآن غير منسوخ، بل هو حكم اللّه.

لكن حيث إنّ بعض النحاة لم يجيزوا ذلك فاختلفت كلماتهم في المعطوف عليه، فقيل: {وَمَا يُتْلَىٰ...} عطف على {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} فيكون المعنى أنّ اللّه والقرآن يفتيان! فيكون نظير قولك: سمعت من زيد ولسانه، وقولك: أضافني زيد وكرمه.

وقيل: {مَا يُتْلَىٰ...} عطف على {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} بتقدير أنزل، أي اللّه يفتى في النساء وقد أنزل أحكام اليتامى في القرآن، وقيل: غير ذلك، وما ذكرناه أظهر وأقرب إلى ظاهر الآية.

ص: 439

وقوله: {فِي الْكِتَٰبِ} أي الآيات النازلة في أول سورة النساء (الآية 4) والنازلة في سورة البقرة (الآية 216).

وقوله: {فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي النساء اللاتي كنّ يتامى فبلغن الآن، كما يقال: الرجل اليتيم، أي الذي كان يتيماً.وقوله: {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} من الميراث في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ...}(1).

وقوله: {تَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} رغب إن تعدّى ب (في) كان بمعنى المحبة يقال: رغب فيه، أي أحبه وأراده، وإن تعدّى ب (عن) كان بمعنى الإعراض عن الشيء، والظاهر أنه أريد هنا المعنيين لذلك لم يذكر حرف الجر، فترغبون في نكاحهن إن كن جميلات، وترغبون عن نكاحهن إن كن دميمات، وليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل يراد بالرغبة المعنى العام الجامع لهما، بل قد ذكرنا في الأصول أنه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَٰنِ} الظاهر أنّ المراد بهم اليتامى من الأطفال حيث كانوا يمنعونهم حقهم في الإرث بزعم أنهم لا يتمكنون من القتال وحماية القبيلة فلا إرث لهم، مع أنّ الإرث ليس في مقابل القتال والدفاع، بل هو حق مالي، لا فرق فيه بين المقاتل وغيره، وبين الرجل والمرأة، وبين الكبير والصغير.

وقوله: {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِالْقِسْطِ} عطف على ضمير {فِيهِنَّ}

ص: 440


1- سورة النساء، الآية: 11-13.

فالمعنى قل اللّه يفتيكم في النساء وفي يتاماهن، وفي مطلق اليتامى بأن تقوموا فيهم بالقسط.

وقيل: هو عطف على {فِي يَتَٰمَى النِّسَاءِ} أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي قيامكم في عامة اليتامى بالقسط.وقوله: {بِالْقِسْطِ} أي العدل، وأصله بمعنى القسمة والنصيب، فإنّ من العدل إعطاء كل صاحب نصيب نصيبه، ولا يخفى أن {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِالْقِسْطِ} أبلغ من (أن تقسطوا).

والحاصل أنه لا مطمع لهم في تغيير هذه الأحكام وعليهم الإطاعة والتسليم لها.

وقوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ...} هذا تسكين لهم وحث لهم على الإطاعة في هذه الأحكام، ببيان أنها خير للجميع حتى إنها خير لهم، فالمجتمع الذي يُبنى على العدل وعلى حفظ حقوق الضعفاء مجتمع سليم يتمتع بأمنه وسلامته الجميع حتى الكبار والأقوياء، وعكسه المجتمع الذي يبنى على هضم الحقوق وسلب الأقوى لحق الأضعف، فإنه مجتمع سقيم وضرره يرجع إلى الجميع بما فيهم الأقوى، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(1).

الرابع: قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا...} الآية.

لمّا أمر اللّه تعالى الرجال بوجوب مراعاة حقوق النساء التي فرضها اللّه تعالى لهن أراد بيان كيفية التعامل مع حالتين:

ص: 441


1- نهج البلاغة، الخطبة: 15.

الحالة الأولى: حالة الشح بأن لا يريد الرجل إعطاء حق المرأة من النفقة، ولا تريد المرأة التنازل عن حقها، فهنا يبين اللّه حكمهما:

أما المرأة: فالأفضل أن تتصالح مع الرجل بأن تتنازل عن حقها أو بعضه لإبقاء عش الزوجية، لكن هذا ليس بواجب عليها، وإنما هو خير لهما ولاإثم عليها فيه.

وأما الرجل: فعليه أن يحسن إليها ويتقي اللّه بإعطائها حقها إن لم تتنازل عنه.

والحاصل أنه الأفضل للمرأة التنازل والصلح مع الزوج، وإن لم تتنازل فلا بد للرجل من إعطائها حقها كاملاً غير منقوص.

الحالة الثانية: حالة عدم المحبة القلبية، بأن كان للرجل زوجتان أو أكثر فمال قلبه إلى إحداهن، فهنا لا يكلّف بتساوي المحبة فإنها غالباً غير اختيارية، ولا يكلّف اللّه بما لا يطاق، وإنما يجب على الرجل أن يعدل في الأمور الظاهرية من القَسم - أي المبيت عند الزوجة - والأمور المالية، فعليه أن يُصلح عمله ويتقي اللّه سبحانه بأداء جميع ما وجب عليه، ولو كان الرجل يكره المرأة ولا يحب إعطاءها حقها في القسم والنفقة فيمكنه طلاقها، فهو وإن كان أبغض الحلال إلى اللّه تعالى كما في بعض الأحاديث(1) إلاّ أنه أولى من ارتكاب الحرام في حقوق الزوجة.

وقوله تعالى: {خَافَتْ} بأن رأت أمارات النشوز فيه، فإنّ حلّ المشكلة من أوان ظهور علائمها أفضل من تركها حتى تستفحل وتتجذّر.

ص: 442


1- الكافي 6: 54.

وقوله تعالى: {بَعْلِهَا} أي زوجها، قيل: في مادة البعل نوع استعلاء وقيمومة!

نشوز الزوج

وقوله تعالى: {نُشُوزًا} من نشز بمعنى ارتفع، أي تجافى وترفع عن أداء حقوقها في الفراش والنفقة، ولا يخفى أنّ الآية 34 بينت حكم نشوزالزوجة، حيث قال تعالى: {وَالَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، وهذه الآية تبيّن حكم نشوز الزوج، وقد ذكر بعض الفقهاء أنّ الموعظة والهجران والضرب مشترك بين النشوزين، كما أنّ التنازل عن الحق أو بعضه والصلح أيضاً مشترك، إلاّ أنّ الآيتين بينتا الغالب الممكن فالزوجة لا يمكنها غالباً من الهجران والضرب، بل قد لا ينفعها الهجران إذا كان له زوجة ثانية، والزوج عادة لا يتنازل عن حقه، فلذلك ذكر في كل نشوز الحالة الغالبة والتي يمكن أن تصلح الأمر بينهما.

وقوله تعالى: {أَوْ إِعْرَاضًا} أي في غير الحقوق الواجبة كالمودة والرحمة والإحسان إليها، بل وإرادة طلاقها أيضاً داخل في الإعراض عنها.

وقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي يجوز بأن يصلحا وليس بواجب، وهذا الصلح يكون عادة بتنازل المرأة عن حقوقها أو بعضها، لكن لا ينفع التنازل إلاّ لو وافق الزوج عليه ولذا كان الصلح بينهما.

وقوله: {صُلْحًا} مفعول مطلق للتأكيد، والغرض منه التعميم لكل نوع من أنواع الصلح المشروع.

وقوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} هذه قاعدة عامة تشمل العلاقات الاجتماعية والعقود وغيرهما، فهو أفضل من الخصومة في كل شيء، فيكون كالتعليل

ص: 443

لتشريع الصلح ههنا، فيقال: لا بأس بأن يتصالح الزوجان؛ لأنه خير دائماً.

وقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ} بيان لصعوبة الإصلاح الذي يتوقف على التنازل عن الحقوق، فطبع الإنسان أنه شحيح بحقوقه لا يرغب في التنازل عنها، ولعل المقصود هو الحث على الإصلاح ببيان المانع عنه، فإنّالإنسان لو عرف السبب المانع عن المعروف لعلّه يتداركه ويتجاوزه، فالتذكير بأن النفوس جُبلت على الشُح وأن طبيعتها ذلك يسهل على الإنسان تجاوزه وصولاً إلى الإصلاح، كما لو رأينا شخصاً لا ينفق ماله في سبيل اللّه، فقلنا له: إنّ سبب ذلك البخل، فإنّ لذلك تأثيراً كبيراً في قراره بالإنفاق، واللّه العالم.

و{الشُّحَّ} هو الإفراط في الحرص على الشيء، ويكون بالمال وبغيره من الأغراض، فيقال: شحيح بمودتك، أي حريص على دوامها ولا يقال: بخيل، فإن البخل يكون بالمال خاصة(1)، وقيل: الشُح في نفس الإنسان ليس بمذموم؛ لأنها طبيعة خلقها اللّه تعالى في النفوس، وإنما المذموم أن يستولي سلطانه على القلب فيطاع، وقيل: إذا انتهى سلطانه إلى القلب واستولى عليه عرّى القلب عن الإيمان؛ لأنه يشح بالطاعة فلا يسمح بها ولا يبذل الانقياد لأمر اللّه تعالى.

وقوله: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ} هذا خطاب للرجل خاصة، فالآية في البداية أرشدت المرأة التي تخاف نشوز زوجها بأن تتصالح معه بالتنازل، ثم بعد ذلك تبيّن الآية تكليف الزوج بأنه لا يجوز له أن ينشز على المرأة

ص: 444


1- معجم الفروق اللغوية: 296.

بمنعها حقها كما يقبح عليه أن يعرض عنها، بل عليه أن يحسن إلى المرأة فإنها كالأسيرة لديه، والإحسان بالمودة والرحمة ونحوهما، كما عليه أن يتقي اللّه في حقوقها فلا يبخس منها شيئاً.

وقوله: {خَبِيرًا} لأنه يعرف البواطن والنوايا، فقد يمكر أحدهما بالآخرفي ظاهر إصلاح أو إحسان، لكن ذلك لا يخفى على اللّه تعالى، فعليهما أن يطيعاه في كل ما أمر ونهى بل وما ندب وكره.

الخامس: قوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ...} الآية.

علاج لأحد أهم أسباب المشاكل الزوجية، حيث إنّ المحبة القلبية ليست في اختيار الإنسان عادة، فقد يميل لزوجة دون أخرى لجمالها أو حسن أخلاقها أو توافق طبيعتهما أو لغير ذلك من الأمور، وحتى الذي له زوجة واحدة قد لا يحبها، فهنا يبيّن اللّه تعالى أنّ الحقوق لا ترتبط بالمحبة القلبية، بل على الزوج أن يؤدي حق الزوجة وإن كان كارهاً لها أو مفضلاً أخرى عليها، وبأداء الحقوق ترتفع غالب أسباب المشاحنة والبغضاء وتستقر الحياة الزوجية، بل قد تكون حسن المعاشرة منفذاً للمحبة، ولو استقر الكره في القلب بحيث خشي الزوج عدم أداء الحقوق فالحلّ الأخير هو الطلاق عسى اللّه سبحانه أن يقدر لكل منها عيشاً أهنأ وزواجاً أوفق.

وقوله: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ} بمعنى عدم القدرة عليه؛ لأنّ أسباب المحبة غالباً غير اختيارية.

وقوله: {أَن تَعْدِلُواْ} أي في كل شيء حتى في المحبة القلبية، وفي

ص: 445

تبيين القرآن: ولا يخفى أنّ هذه الآية تلائم الآية الأخرى، وهي قوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً}(1)، فإنّ تلك الآية لبيان وجوب العدل الميسور، وهذه الآية لبيان أنه فيما لا يمكن العدل بقول مطلق فعليكم بالعدل بالقدر الميسور، فالآيتان هكذا: إذا لم يتمكن الرجل من العدالة أصلاً فليأخذ واحدة، وإن تمكن من العدالة الممكنة فليعدل ولا يترك إحداهما بدون نصيب لها من العدل(2).

وقوله: {فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ} الظاهر بقرينة ما بعده هو الميل عنها، أي فلا تميلوا عن التي لا تحبونها كل الميل، أي في كل شيء حتى فيما تستطيعون من العدل فيه كالقَسم والنفقة، فإنهما لا يرتبطان بالقلب، فيمكن الإنسان أن يبيت عند من يكرهها وأن ينفق عليها كما يبيت وينفق على التي يحبّها.

وقوله: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي أمرها غير محسوم، فهي لها زوج لكنها كأنها لا زوج لها، فهي في عذاب مستمر.

وقوله: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ} أي تصلحوا ما أفسدتموه فيما مضى، وذلك بأداء حقوقهن المالية التي في ذمتكم والتوبة والاستغفار في غيرها، وتتقوا بمراعاة حقوقهن فيما سيأتي، أو المعنى تصلحوا أمر العائلة بحسن معاشرة الجميع وتتقوا اللّه في تصرفاتكم معهن.

وقوله: {غَفُورًا رَّحِيمًا} قيل: الغفور هنا بمعنى أنه يستر عليكم ما لا

ص: 446


1- سورة النساء، الآية: 3.
2- تبيين القرآن: 110.

تتمكنون منه، وذلك بعدم العقاب وعدم الآثار الوضعية، والرحيم بمعنى أنه يوفق بينكم برحمته أو يثيبكم على مراعاة الحقوق.

السادس: قوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ...} الآية.

بيان لحالة أخرى وهي عدم التصالح وصعوبة العيش معاً مع كراهةالزوج لها أو كراهتها له، فوصل الأمر إلى الشقاق، فهنا لو دار الأمر بين الوقوع في الحرام بعدم أداء الحقوق الواجبة وبين الطلاق، فالثاني أولى رغم أنه أبغض الحلال، وذلك لأنّ الوقوع في الحرام أشد بغضاً للّه تعالى.

وقوله: {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ} وعد لهما بحياة أحسن، فإذا كانت الكراهة موجودة وهي مستمكنة في النفوس فالعيشة غير هنيئة، فإذا انفصلا ملك كل منهما أمره في الزواج، وعسى أن تكون الزوجة الأخرى أوفق له، وكذا الزوج الجديد، بل نفسياً بعد فشل زيجة فإنّ كلاً من الزوجين يحاول إنجاح الزيجة الجديدة، فلذا قلّما تطلب الزوجة الطلاق من زوجها الثاني، بل تحاول الانسجام معه مستفيدة من تجربتها الأولى الفاشلة، وهكذا بالنسبة إلى الزوج.

والإغناء من سعته تعالى كما يشمل الحالة النفسية بزيجة جديدة، كذلك الأمر المادي وغيره.

وقوله: {وَٰسِعًا حَكِيمًا} وصفه بالسعة مجاز بمعنى كونه غنياً مقتدراً فهو واسع في إغنائه ورزقه، كما أنّ من حكمته هذه التشريعات والتقديرات.

ص: 447

الآيات 131-134

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا 131 وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا 132 إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَِٔاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا 133 مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا بَصِيرًا 134}

131- {وَ} يُستدل على كونه تعالى واسعاً حكيماً بأن {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فكل خزائنها له ولا مالك غيره، فهو القادر على إغناء كلٍ من الزوجين بفضل رحمته.

{وَ} حيث علمتم بهذه الأحكام فعليكم مراعاتها ف {لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} أصحاب الشرائع السماوية {مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} أي وكذلك وصيناكم {أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ} احفظوا أنفسكم من عقابه فأطيعوه في كل ما أمركم ونهاكم، ومن ذلك أحكامه في العِشرة الزوجية، {وَإِن تَكْفُرُواْ} كفراً في العقيدة أو كفراً في العمل بمعنى عدم الطاعة {فَ} لا يضر كفركم اللّه تعالى لعدم حاجته إليكم ف {إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} عنكم وعن عبادتكم وطاعتكم {حَمِيدًا} محموداً

ص: 448

في ذاته وأفعاله سواء حمدتموه أم لا.

132-133- {وَ} إن اللّه قادر على تبديلكم بغيركم إن لم تطيعوه، إذ{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} حافظاً ومدبراً وقيوماً على خلقه ف {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يبدلكم {أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بَِٔاخَرِينَ} ناس آخرين يطيعون سواء بإفنائكم وخلقهم، أو بتأخيركم وتقديم غيركم ممن يطيعونه {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ} الإذهاب والإتيان {قَدِيرًا}.

134- ثم يحثّهم اللّه تعالى على الطاعة فيقول: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي خيرها {فَ} ليطلبها من اللّه تعالى إذ {عِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ} تُنال بالطاعة، وأما من لا يطيع فلا ينال الثوابين فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة! {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا} لأقوالهم {بَصِيرًا} بأعمالهم، فيجازيهم عليها.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.

ذكر هذا المقطع في هذه الآيات ثلاث مرات، بأغراض ثلاثة:

1- فحيث ذكر أنّ اللّه يغني الزوجين من سعته وأنه واسع بيّن أن سبب ذلك أنه مالك للسموات والأرض.

2- وحيث أمر بالتقوى ذكر أنّ كفرهم لا يضرّه تعالى؛ لأنه سبحانه مالك للسموات والأرض وهو غنيّ عنهم وعن إيمانهم.

3- وحيث أراد بيان أنه سبحانه الوكيل على خلقه وأنه قادر بتبديلهم بغيرهم ذكر سببه بأنه مالك للسموات والأرض.

ص: 449

والحاصل أنه تعالى قادر على الإغناء ولا يضرّه كفر خلقه ويمكنه استبدالهم؛ لأنه الخالق القادر على كل شيء، فقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِوَمَا فِي الْأَرْضِ} ليس من التكرار في شيء، وإنما تعليل لثلاثة أمور، وإنما لم يجمعها معاً للتأكيد ولأهمية كل واحد من الأمور الثلاثة التي علّلها بملكيته لهما، وغير خفي أنّ الوجود بأسره مجتمع في السموات والأرض يحيط بهما كرسيه وعرشه، فمعنى ذلك أنه لا مفرّ لهم ولا ملجأ لهم سوى اللّه تعالى.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ...} الآية.

بيان بأنّ الأمر بالتقوى حقيقة ثابتة غير قابلة للتغيير، لذلك كانت من الوصايا الدائمة في جميع الكتب السماوية، وليست من الأمور القابلة للتأخير لشرائع لاحقة، كما أنها ليست قابلة للنسخ؛ لأن (التقوى) من الوقاية بمعنى حفظ النفس من عقابه سبحانه، ويلازمها الخوف منه تعالى ولا يكون ذلك إلاّ بطاعته.

وقوله: {وَإِن تَكْفُرُواْ} بعدم الطاعة، ويكون ذلك تارة كفراً في العقيدة بترك عبادته وجحده أو الإشراك به، وتارة كفراً عملياً بعدم الامتثال في فروع الدين، ويدخل فيه كفران النعم بعدم شكرها.

وقوله: {فَإِنَّ لِلَّهِ...} من وضع السبب مكان المسبب اختصاراً، أي وإن تكفروا فلا يضرّه شيئاً؛ وذلك لأنه سبحانه مالك للسموات والأرض فلا يحتاج إليكم.

ص: 450

وقوله: {غَنِيًّا} هذا للتعميم، أي هو غني عنكم وعن غيركم، فكما لا يضرّه كفركم كذلك لا ينفعه إيمانكم، وإنما أمركم بالتقوى لحاجتكم لا لحاجته.

وقوله: {حَمِيدًا} لبيان أنّ أفعاله وأوامره إنما هي بحسب الحكمة، لذلك فغناه عنكم لا يعني العبث في الخلق أو الأمر تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، بل هو المحمود في أفعاله، بمعنى استحقاقه للحمد سواء حُمِد أم لم يُحمد، وسواء كان هناك حامد أم لم يكن.

الثالث: قوله تعالى: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ...} الآية.

أي وكيل عليكم، بمعنى القيّوم الحافظ والمدبر، فإنّ الوكالة إن تعدت ب (على) أفادت ذلك، وإن تعدت باللام أفادت البدلية، واللّه سبحانه مهيمن على خلقه، ولا مهيمن غيره؛ لأنه المالك للسموات والأرض فلذا لو أراد أن يستبدل بكم غيركم فهو قادر عليه، والاستبدال تارة يكون بالإفناء وإيجاد البديل - سواء كان من الإنس أم من غيرهم - كما أفنى النسناس وجعل الناس بديلاً عنهم في الأرض فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}(1)، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٖ جَدِيدٖ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٖ}(2). وتارة أخرى يكون الاستبدال بالتأخير والتقديم، بأن يؤخّر أناساً ويقدّم آخرين قال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا

ص: 451


1- سورة البقرة، الآية: 30.
2- سورة إبراهيم، الآية: 19-20.

غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُواْ أَمْثَٰلَكُم}(1).

الرابع: قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَاوَالْأخِرَةِ...} الآية.

لعل ربط الآية بما قبلها أنّ الكلام كان حول حكم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما أراه اللّه وأنه لا ينخدع بمن يريد تغيير الأحكام بصالحه، وأنّ على المسلمين عدم تجاوز أحكام اللّه تعالى، بل العمل بها، وتمّ ذكر مثال لذلك هو محل ابتلاء عامة الناس، وهو أحكام النساء واليتامى، بعد ذلك يذكرهم اللّه تعالى بأنّ الذين يخالفون أحكامه إنما يقصدون المنافع الدنيوية من المال والرئاسة والراحة ونحو ذلك، فيقال لهم: إنّ الالتزام بأحكام اللّه تعالى سبب منفعتكم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنّ أحكامه تابعة للمصالح والمفاسد فأمر بما فيه المصلحة ونهى عمّا فيه المفسدة فطاعته جلب للمنفعة ودفع للمفسدة، وأما في الآخرة فجزاء المطيع بالجنة والرضوان وجزاء العاصي بالذل والنيران.

والحاصل أنّ العاصي يخسر الدنيا والآخرة حتى لو التذّ بالدنيا بسبب عصيانه، فليست كل لذة وشهوة نافعة، وأما المطيع فهو يفوز بهما حتى لو واجه صعوبات الدنيا، فليس خير الدنيا في مجرد لذة عابرة، فلذا المؤمن فائز بالدنيا؛ لأنه استفاد منها أحسن استفادة حيث ضمن فيها السعادة الأبدية حتى لو واجه المشاكل، كالتلميذ المُجدّ الذي يترك شهواته وينشغل بالدراسة ويقاسي صعوبتها، فهو الفائز دون التلميذ الذي صرف وقته في

ص: 452


1- سورة محمد، الآية: 38.

اللّهو واللذات، قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْأخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(1)، وأما الكافر فهو يتمتع بالدنيا، لكنمتعته ليست ثواباً له قال تعالى: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُۥ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}(2)، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَٰمُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}(3).

ص: 453


1- سورة البقرة، الآية: 201.
2- سورة البقرة، الآية: 126.
3- سورة محمد، الآية: 12.

الآيات 135-138

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَٰلِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُۥاْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 135 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا 136 إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلَا 137 بَشِّرِ الْمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 138}

135- وحيث كان الكلام حول الحكم بين الناس بالحق وحول مراعاة حقوق الضعفاء بين اللّه سبحانه القاعدة العامة فقال تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} ليظهر إيمانكم على عملكم ف {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ} أي دائمي القيام {بِالْقِسْطِ} أي العدل فلا تتركوه أبداً، وكونوا {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أي اشهدوا بالحق لأجل مرضاة اللّه تعالى {وَلَوْ} كانت الشهادة {عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ} بضررها، وذلك بالإقرار بالحق الذي عليه {أَوِ} الشهادة على {الْوَٰلِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فاللّه أحق أن ترضوه، فلا تميلوا عن الحق لمصلحة أنفسكم أو قراباتكم، {إِن يَكُنْ} كل واحد من هؤلاء وغيرهم {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَ}

ص: 454

لا يمنعكم غناه من الشهادة عليه طلباً لرضاه، أو من الشهادة له بزعم عدم حاجته، ولا يمنعكم فقره من الشهادة عليه شفقة له، أو من الشهادة لهاستهانة به، وذلك لأنّ {اللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا} من أنفسهما، أي أنظر لهما وأرحم بهما حينما أمر بالشهادة بالحق والعدل، فوصول ذي الحق إلى حقه ومنع المبطل من الوصول إلى الباطل أصلح لهما وأحسن، وحيث علمتم أنّ الميزان الحق لا القرابات ولا الاعتبارات الأخرى {فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ} بالشهادة الباطلة، {أَن تَعْدِلُواْ} أي لأجل أن تقوموا بالعدل، أو مخافة العدول عن الحق، {وَإِن تَلْوُۥاْ} ألسنتكم بتبديل الشهادة بأن تحرفوها عن الحق إلى الباطل {أَوْ تُعْرِضُواْ} عن الشهادة بكتمانها، يجازيكم اللّه على ذلك {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

136- ولا يمكن القيام بالقسط والشهادة للّه إلاّ بعد الإيمان الحقيقي النافذ في القلب ف {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} إيماناً بألسنتهم أو إيماناً إجمالياً {ءَامِنُواْ} بقلوبكم أو بالتفصيل {بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَٰبِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ} وهو القرآن {وَالْكِتَٰبِ} نوع الكتاب فيشمل جميع الكتب السماوية {الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} فلا يجوز التفريق بين الأنبياء وكتبهم غير المحرّفة، والإيمان بها يستلزم الإيمان بسائر الرسل وبالملائكة وبيوم القيامة، {وَمَن يَكْفُرْ} بالجحد أو بالمعاداة {بِاللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ فَقَدْ ضَلَّ} عن طريق الهداية والجنة {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} فلا يرجى له الفوز أبداً، إذ اللّه تعالى لا يغفر الشرك أبداً إلاّ لو تاب توبة صادقة.

137- ولا بد من ترسخ حالة الإيمان في القلب، وإلاّ فالإيمان السطحي

ص: 455

معرض للزوال في كل هزّة ف {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} مذبذبين بين الإيمان والكفر {ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا} بأن تجذّر الكفر والنفاق في قلوبهم {لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وذلك لكفرهم الباطني مععدم نفع إيمانهم الظاهري أو إيمانهم ببعض الأصول المذكورة دون بعض {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلَا} وذلك بقطع ألطافه عنهم في الدنيا لعدم قابليتهم، وبعدم سوقهم إلى الجنة؛ لأنه حرّمها على الكفار لحكمته سبحانه.

138- وأما عاقبة هؤلاء فإلى النار ف {بَشِّرِ الْمُنَٰفِقِينَ} أي أنذرهم، والبشارة هنا للتهكم بهم {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

بحوث

الأول: لعل وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها هو أن اللّه تعالى لمّا أمر رسوله (في الآيات 105-115) بالحق حيث قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَىٰكَ اللَّهُ...} الآيات، ولمّا أمر الناس بمراعاة حقوق الضعفاء (في الآيات 127-134)، بعد ذلك أراد بيان القاعدة العامة لهم وهي: القيام الدائم بالقسط والشهادة لوجه اللّه ولو كان فيها ضرر النفس أو الأبوين أو الأقرباء، ولا يمكن ذلك إلا بتجذّر الإيمان في أعماق القلب بحيث يكون ذلك الإيمان هو الذي يُسيّر الإنسان في فكره وعمله، مع بيان أنّ الإيمان بالأصول وحدة واحدة، فلا يتحقق إلا بالإيمان بجميع أصول الدين، بحيث لو لم يؤمن بواحد منها فقد كفر، ومع تحذير المؤمنين من صداقات مع الكفار ومن الجلوس في مجالس السوء التي يستهزأ فيها بآيات اللّه ويكفر بها، فإنّ الصداقات والمجالس تؤثر في الإنسان أثراً كبيراً،

ص: 456

فعلى الإنسان إيجاد الأجواء الإيمانية المناسبة له ليتعمق الإيمان في قلبه بحيث لا يبقى مجالٌ للّهوى، وحينئذٍ فيقوم بالقسط ويشهد للّه ومن كان كذلك لا يجور ويؤدّي الحقوق.

الثاني: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ...} الآية.

قد مرّ أنّ الجميع مكلّف، وإنما خصّ الخطاب بالمؤمنين تشريفاً لهم ولأنهم المنتفعون به، ويأمرهم اللّه تعالى بأمرين:

1- {قَوَّٰمِينَ بِالْقِسْطِ} أي ليكن قيامهم بالقسط دائماً وفي جميع القضايا، ف (قوّام) صيغة مبالغة بمعنى الكثرة، ولا يخفى أنّ قولهم: «صيغة مبالغة» اصطلاح ويقصدون الدلالة على الكثرة، وليس المقصود المبالغة بمعنى التهويل والتكثير من غير واقع كي يقال: إنّ كلام اللّه وأوليائه كلّه واقع ولا مبالغة فيه.

و(القسط) هو العدل وأصله من إعطاء كل ذي نصيب نصيبه غير منقوص.

2- {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أي لتكن شهادتكم شهادة حق لوجه اللّه وطلباً لمرضاته، وحيث إنّ اللّه حق لا باطل فيه فلا يرضى إلا بشهادة الحق، واللام في {لِلَّهِ} للغاية أي لأجل اللّه سبحانه، كما أنّ الأقرب أنّ قوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} خبر ثانٍ، وقيل: هو حال.

وقوله: {وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ} بأن تكون الشهادة بضرركم، والمراد الإقرار بالحق الذي عليه، فمراعاة الحق أولى من العمل بالباطل بكتمان الشهادة، بل الباطل الذي يرغب إليه الإنسان - وقد يصل إليه بعدم الشهادة

ص: 457

على نفسه - هو في الحقيقة وبال وضرر عليه في الدنيا قبل الآخرة، فالهوى لا حقيقة له وهو مجرد نزوة وباطل زهوق.

وقوله: {أَوِ الْوَٰلِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فمن برّ الوالدين وصلة الأرحام عدمإيقاعهم في المعصية أو الباطل عبر شهادة الزور لهم أو كتمان شهادة الحق عليهم.

سؤال: المشهور هو عدم قبول شهادة الولد ضد والده، وفيه رواية مذكورة في كتاب الشهادات(1)؟

والجواب: أنّ للشهادة مفهوم أوسع من الشهادة في باب القضاء، فتشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشهادات في القضايا الاجتماعية والأسرية ونحوها إذا توقف الحق عليها، مضافاً إلى أنّ وجوب الشهادة لا يلازم وجوب القبول، بل قد تكون قرينة صدق لشهادة الآخرين، فتأمل.

الثالث: قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا}.

أي كما أنّ النفس والقرابة يلزم أن لا تعيقكم عن شهادة الحق، كذلك حالات المشهود له أو المشهود عليه أيضاً يجب أن لا تقف دون الشهادة للّه تعالى، فحق اللّه تعالى فوق جميع ذلك، وتشريعاته لصالح الجميع سواء المشهود له أم المشهود عليه، فإنّ منع المبطل عن الباطل خير له من الحكم له بالباطل حيث سيكون وباله عليه بما يورثه الندم، فألم الحكم ضده أهون من ألم النار وألم الجور في المجتمع.

وقوله: {إِن يَكُنْ} الضمير يرجع إلى كل واحد من هؤلاء وغيرهم، أو

ص: 458


1- راجع وسائل الشيعة 27: 369.

يرجع إلى ما يفهم من الكلام، أي المشهود له أو عليه.

وقوله: {فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا} في الكلام اختصار، أي فلا يكن فقره أو غناه مانعاً عن شهادة الحق، وذلك لأنّ اللّه أولى بهما، والمعنى أنّ اللّه أولى بهمامن أنفسهما فحكمه مقدم على مصلحتهما، ويمكن أن يراد بالأولى أنه أرحم وأنظر لهما منكم، ومن رحمته لهما أمركم بالشهادة الحق، ولو كانت ضدهما كالأب الحنون الذي يمنع طفله عن أكل ما يضرّه وإن كان فيه هواه، وقيل: المعنى أولى بغنى الغني وفقر الفقير؛ لأن ذلك بتقديره سبحانه، فكما قدّر الفقر والغنى كذلك قضى بالشهادة بالحق.

والحاصل أنّ الناس قد يراعون الغني لغناه أو الفقير لفقره، لكن اللّه يأمر بمراعاة الحق أينما كان سواء مع الغني أم الفقير.

الرابع: قوله تعالى: {فَلَا تَتَّبِعُواْ الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ...} الآية.

هذا تأكيد من زاوية النهي، كما أنّ الأمر بالقيام بالقسط والشهادة للّه من زاوية الأمر، وقد يأمر المولى وينهى عن الطرفين تأكيداً كما يقول الوالد لولده: اذهب للمدرسة ولا تبق في البيت.

وفي هذا التأكيد تحذير عن سبب عدم القيام بالقسط وعدم الشهادة للّه، وذلك السبب هو الهوى فإنه سبب الضلال، كما قال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(1)، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(2).

ص: 459


1- سورة ص، الآية: 26.
2- سورة النازعات، الآية: 40-41.

وقوله: {أَن تَعْدِلُواْ} إمّا من العدل، أي لا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا، فالتعليل للنفي، وإما من العدول بتقدير مخافة أو كراهية ونحوهما، فالمعنى لا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق إلى الباطل فالتعليل للمنفيّ.وقوله: {وَإِن تَلْوُۥاْ أَوْ تُعْرِضُواْ...} تهديد لمن يتبع الهوى فلا يشهد بالحق إما مع شهادته بالباطل أو مع كتمانه الحق، فيقال له: إنّ اللّه سبحانه خبير بأفعالك ونواياك فيجازيك عليها.

و{تَلْوُۥاْ} من لوى يلوي لياً، وهو إمالة الشيء، و(لوى لسانه بكذا) كناية عن الكذب، قال تعالى: {يَلْوُۥنَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَٰبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَٰبِ}(1).

وقوله: {أَوْ تُعْرِضُواْ} أي عن الشهادة بكتمانها، قال تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ}(2)، وقال: {وَلَا تَكْتُمُواْ الشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥ ءَاثِمٌ قَلْبُهُۥ}(3).

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...} الآية.

لعل ارتباط الآية بما قبلها سببه أنّ القيام بالقسط والشهادة للّه وعدم اتباع الهوى إنما يتيسّر للمؤمن حقاً لا لمن لم يؤمن إلا بلسانه أو من لم يعرف معنى الإيمان، فيدعو اللّه المسلمين إلى الإيمان الحقيقي التفصيلي ليظهر

ص: 460


1- سورة آل عمران، الآية: 78.
2- سورة البقرة، الآية:282.
3- سورة البقرة، الآية: 283.

ذلك على جوارحهم بالعدل وبشهادة الحق.

ثم إنّ الأمر هو بالإيمان باللّه ورسوله والكتب السماوية، وأما النهي فعن الكفر بها بالإضافة إلى النهي عن الكفر بالملائكة وسائر الرسل ويومالقيامة، ولعل سبب ذلك أنّ الإيمان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والقرآن لا ينفك عن الإيمان بالملائكة وبالرسل وباليوم الآخر، وذلك لتضمن القرآن لها، وأما الكفر فيمكن الانفكاك فيها بأن يكفر بجميعها وبواحد منها أو بأبعاضها، كأن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، أو يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض، أو يؤمن باللّه دون الإيمان باليوم الآخر، أو يؤمن باليوم الآخر دون الإيمان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

حول أصول الدين

ثم لا يخفى أنه قد اشتهر أنّ أصول الدين خمسة: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، وغير خفي أنّ الإيمان بالكتب والملائكة أيضاً من أصول الدين لكن أدرجوهما في النبوة، فإن الكتب للأنبياء والملائكة واسطة الوحي، وقد مرّ أنّ كل واحد من هذه الأصول الخمسة عنوان لأجزاء كلها من أصول الدين، فيدخل في التوحيد الاعتقاد باللّه وبعلمه وقدرته وحياته وتنزهه عن الشريك والنقص ونحو ذلك، ويدخل في الإمامة ولاية الأئمة من أهل البيت جميعاً والاعتقاد بإمامتهم والبراءة من أعدائهم، ويدخل في المعاد الاعتقاد بالمعاد الجسماني وبالجنة وبالنار ونحو ذلك، وهكذا النبوة، وقد مرّ في تفسير سورة البقرة بعض الكلام حول أصول الدين فراجع.

السادس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ

ص: 461

ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا...} الآية.

لما بيّن اللّه تعالى لزوم الإيمان الحقيقي بأن لا يكتفي المسلمون بالإيمان باللسان حذّر من الإيمان السطحي غير المستقر في القلب، وهو إيمان يتبعالظروف والأسباب، فإن كانت في صالح المؤمنين كان مؤمناً، وإلاّ كان كافراً، فتارة هو مؤمن وأخرى هو كافر، وهذه الحالة تؤدي تدريجياً إلى استقرار الكفر في القلب والختم على القلب بعلامة النفاق، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةَ}(1).

وفي التقريب: بيّن حالة أولئك الذين لا يؤمنون إلاّ إيماناً سطحياً ولذا يميلون مع كل جانب قوي، فإذا قوي الإسلام آمنوا، وإذا ضعف كفروا، وهكذا يراوحون بين الإيمان والكفر حتى يموتوا وهم كفار لتغلّب الطبيعة الكافرة فيهم(2).

وقد يكون سبب ذلك المعاصي، فإنها قد تؤدي بالإنسان إلى الكفر؛ وذلك لأنّ بعض الأحكام لا تعجب الإنسان؛ لأنها تتعارض مع شهواته وهواه، فتؤدي به إلى الكفر، وفي الرواية: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا}: «من زعم أنّ الخمر حرام ثم شربها، ومن زعم أنّ الزنا حرام ثم زنا، ومن زعم أنّ الزكاة حق ولم يؤدها»(3)، قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ

ص: 462


1- سورة الحج، الآية: 11.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 562.
3- تفسير العياشي 1: 281؛ وعنه في البرهان في تفسير القرآن 3: 250.

وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(1)، وقال سبحانه: {وَمِنْهُم مَّنْ عَٰهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَىٰنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّٰلِحِينَ * فَلَمَّا ءَاتَىٰهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُۥ بِمَاأَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}(2).

ونتيجة هذا التذبذب أمران:

1- قوله: {لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وذلك لاستقرار الكفر في قلبهم، وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(3).

2- قوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلَا} أما في الدنيا: فبقطع الألطاف عنهم والختم على قلوبهم، وذلك لأنّ تكرر الكفر منهم واستقراره في قلوبهم صار سبباً لعدم أهليتهم لتلك الألطاف فيقطعها اللّه عنهم بحكمته، وأما في الآخرة: فبعدم تعريفهم الجنة وطريقها، بل يهدونهم إلى الجحيم قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}(4).

نعم لو فرض أنّ البعض القليل منهم تاب توبة نصوحاً وآمن إيماناً حقيقية فهؤلاء كسائر التائبين موعودون بالمغفرة والهداية، لكن هذا فرض مستبعد تحققه، ولو تحقق فإنما هو استثناء من الطبيعة العامة.

ص: 463


1- سورة الروم، الآية: 10.
2- سورة التوبة، الآية: 75-77.
3- سورة النساء، الآية: 116.
4- سورة النساء، الآية: 168-169.

السابع: قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

يدل على أنّ المقصود في الآية السابقة من {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ...} هم المنافقون، أي المذبذبون بين الإيمان والكفر حسب المصالح والأهواء، فهؤلاء لا تنالهم المغفرة والهداية ومصيرهم في الآخرة إلى جهنم وبئس المصير، فلئن نفعهم إيمانهم الظاهري في الدنيا بمشاركتهم المؤمنين في المنافع فلا ينفعهم في الآخرة، بل هم في الدرك الأسفل من النار يقاسون العذاب الأليم.

ص: 464

الآيات 139-141

اشارة

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا 139 وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا 140 الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَٰفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا 141}

139- ثم إنّ للمنافقين علائم كثيرة، ومعرفتها سبب حذر المؤمنين منها، ومعرفة المنافقين بها، فمنها: أنّ المنافقين هم {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ} أصدقاء وناصرين {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} حيث لا يتخذونهم أولياء حقيقيين، بل في الظاهر فقط، وهم يفعلون ذلك حفظاً لدنياهم، فيستنكر اللّه عليهم ذلك بقوله: {أَيَبْتَغُونَ} استفهام إنكاري {عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} أي الغلبة والمنعة! كلا ليس العزة عندهم {فَ} إن كانوا يطلبونها فليطلبوها من اللّه، إذ {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} كلها سواء في الدنيا أم الآخرة، واللّه لا يعز إلاّ المؤمنين.

ص: 465

140- ومنها: مجالستهم للكفار المستهزئين بآيات اللّه {وَقَدْ} حذّر اللّه من ذلك إذ {نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} أيها المؤمنون {فِي الْكِتَٰبِ} القرآن في سورة الأنعام:{أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} بجحدها {وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} لا تجالسوهم {حَتَّىٰ يَخُوضُواْ} يدخلوا {فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غير الكفر والاستهزاء، {إِنَّكُمْ} إذا قعدتم معهم {إِذًا} حين الكفر والاستهزاء {مِّثْلُهُمْ} تشاركونهم في فعلتهم، فإن رضيتم بقولهم فمثلهم في الكفر، وإلاّ فمثلهم في الإثم، فهذا العمل نفاق و{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَٰفِقِينَ وَالْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} لعدم فائدة الإسلام باللسان مع إبطان الكفر.

141- ومن علائم المنافقين أنهم هم {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} ينتظرون النتيجة {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ} بالظفر على الكفار {قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يريدون بذلك أن يشاركوا في فوائد الفتح كالغنائم ونحوها، {وَإِن كَانَ لِلْكَٰفِرِينَ نَصِيبٌ} من الغلبة {قَالُواْ} للكفار الغالبين: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي نستولي عليكم بمعنى إرشادكم إلى مواقع صلاحكم {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ} بأس {الْمُؤْمِنِينَ} بالإرجاف فيهم وإلقاء رعبكم في قلوبهم، يريدون بذلك حفظ أنفسهم من بأس الكفار والمشاركة معهم في فوائد غلبتهم.

لكن إذا لم يعاقب المنافقون في الدنيا على نفاقهم بسبب إظهارهم الإسلام {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} فيميّز المؤمن عن المنافق ويجازي كلاً منهما بما يستحق.

{وَ} لئن كان للكفار نصيب من الغلبة لكن العاقبة في الدنيا والآخرة

ص: 466

للمؤمنين إذ {لَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} أي طريقاً للغلبة الكاملة، فكل غلبة لهم إنما هي غلبة مؤقتة زائلة والنصر للمؤمنيندائماً حتى لو غلبهم الكفار في بعض الحالات.

بحوث

الأول: لمّا أمر اللّه تعالى المؤمنين بالقيام بالقسط والشهادة للّه، وبيّن أنّ المؤمن الحقيقي هو الذي يمتثل هذه الأوامر، وأما المذبذب بين الإيمان والكفر فليس بمؤمن ولا يمتثل الأوامر، وذلك يؤدي به إلى عدم المغفرة وعدم الهداية ومن ثمّ إلى عذاب النار...

علائم المنافقين

بعد كل ذلك يبيّن اللّه تعالى في هذه الآيات وما بعدها مجموعة من علائم المنافقين، لتحذير المؤمنين منها، فلئن وجدوا بعضها في أنفسهم أو أعمالهم حاولوا إصلاح شأنهم لئلا تتجذّر تلك الصفات فيهم، إذ النفاق مرض قابل للعلاج إن لم يتجذّر، فإن تجذر صعب علاجه هذا أولاً، وثانياً لكي يتمكن المؤمنون من تمييز المنافقين من غيرهم لمّا يجدون هذه العلائم فيهم فيحذرونهم، والمذكور منها هنا ستة: فمنها:

1- اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.

2- ومجالسة الكفار المستهزئين بالآيات.

3- والتربص بالمؤمنين.

4- ومخادعة اللّه وهو خادعهم.

5- والكسل والرياء في الصلاة وعدم ذكر اللّه إلا قليلاً.

6- والتذبذب بين المؤمنين والكفار.

ثم يحذرهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار، ثم يفتح اللّه باب التوبة

ص: 467

لهم مع تبيان كيفيتها.

الثاني: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِالْمُؤْمِنِينَ...} الآية.

الولي هنا بمعنى الخليل والناصر والمعين، ولا سنخية بين المؤمن والكافر كي يتخذ أحدهما الآخر ولياً، نعم قد تكون صداقة ظاهرية أو محبة عاطفية، وهذه غير منهي عنها كما قال تعالى: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ}(1)، وأما الولاية بالمحبة الحقيقية والنصرة والسلطة فهي خاصة بالمؤمنين.

وقوله: {الْكَٰفِرِينَ} و{مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} بمعنى ميل قلوبهم إلى الكفار، ولذا يتولونهم ولا يتولون المؤمنين، ولو كانت مجرد محبة عاطفية لم يكن فيها فرق بين المؤمن والكافر، فمثلاً من كان أبوه كافراً وأمه مؤمنة فإنّ الحب العاطفي يكون لكليهما، وأما من تولّى الكفار دون المؤمنين فذلك يكشف عن توجهه الفكري وميل قلبه إلى الكفر، فهذا إبطان للكفر، فيكون إظهار الإسلام باللسان نفاقاً.

وقوله: {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ...} حلّ جذري لمشكلة النفاق، إذ من أهم أسبابه طلب الدنيا، فإنّ مصالح الإنسان تؤثر على اتجاهه الفكري، فحيث يزعم أنّ العزة مع الكفار لذلك يميل قلبه إليهم، لكن واقع مصلحته في الدنيا والآخرة مع الإيمان؛ لأنّ العزة كلها للّه تعالى فهو المالك المهيمن القادر ولا ضد ولا نِدّ له، فكل عزة منه تعالى كما قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ

ص: 468


1- سورة الممتحنة، الآية: 8.

وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {مَن كَانَ يُرِيدُالْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}(2).

و{الْعِزَّةَ} بمعنى المنعة والقوة بحيث لا يغلبه أحد، وجذرها بمعنى القِلّة؛ لأن القوي ذا المنعة قليل.

الثالث: قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ...} الآية.

من دأب الكفار الاستهزاء بالدين وأهله وجحده، فإن وجدوا أمامهم مؤمناً قوياً أمسكوا خوفاً منه، لكن إذا استضعفوا المؤمن أو كان منافقاً فلا يحتشمونه، ويصرحون بجحدهم ويجاهرون بالاستهزاء، فلما كان المسلمون في مكة ضعفاء كان الكفار يتعمدون التنقيص من الدين ومن الرسول أمامهم، فأمر اللّه المؤمنين بمغادرة تلك المجالس فأنزل في سورة الأنعام - وهي مكية - قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَٰنُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّٰلِمِينَ}(3)، ولكن في المدينة قويت شوكة المسلمين حيث كان الحاكم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعامة الناس مسلمين، فلذا لم يكن الكفار يجرؤون على الجحد والاستهزاء إلاّ عند المنافقين الذين يوافقونهم قلباً فجاءت هذه الآية لتحذير المنافقين عن ذلك، وبيان أنّ المجالسة حين التنقيص علامة للنفاق وأن المصير إلى النار.

ص: 469


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- سورة فاطر، الآية: 10.
3- سورة الأنعام، الآية: 68.

وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} آية سورة الأنعام خطاب للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومع ذلك نُزّلت على المسلمين؛ وذلك لأن أحكام اللّه تعالى عامة للرسول ولغيرهإلاّ فيما استثني، فكل تكليف للرسول من أمر أو نهي تكليف للمسلمين أيضاً.

وقوله: {ءَايَٰتِ اللَّهِ} يشمل جميع علائمه، كالقرآن والرسول والأئمة والأحكام الشرعية، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنما عنى بهذا إذا سمعت الرجل الذي يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة، فقم من عنده ولا تقاعده كائناً من كان»(1)، وفي رواية أخرى عن الإمام الرضا (عليه السلام) : «يقع في أهله»(2)، أي أهل الحق.

وقوله: {فِي الْكِتَٰبِ} يعني الحكم واضح غير خفي عليكم؛ لأنه آية قرآنية تتلى عليكم آناء الليل وأطراف النهار، فلا عذر لكم في عدم العمل بها.

وقوله: {يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} المراد بالكفر بها هو جحدها بإنكارها، وقد لا يكون الإنكار مع استهزاء ولذا أضاف {وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} وهذان تفصيل لقوله في سورة الأنعام: {يَخُوضُونَ فِي ءَايَٰتِنَا}، ومن المعلوم أنّ هذا يختلف عن المجادلة معهم فإنّ ذلك مطلوب لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإنما أحياناً في غير الجدل يتم الجحد والاستهزاء فذلك مجلس مبغوض للّه تعالى فالمؤمن الضعيف يغادر ذلك المجلس، والمؤمن القوي يمنع عن الجحد والاستهزاء.

وقوله: {حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} بمعنى جواز الكلام مع الكفار

ص: 470


1- الكافي 2: 280.
2- تفسير العياشي 1: 281.

في مختلف المواضيع فإنها ليست تنقيصاً من الدين ولا ضرر عليه منها.وقوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} يعني إذا جالستموهم حين كفرهم بالآيات واستهزائهم بها فذلك علامة كونكم مثل أولئك، فإن كنتم راضين بقولهم فذلك الكفر بعينه، وإن لم تكونوا راضين فذلك إثم ومعصية، فإن النفاق درجات مختلفة فقد يكون المنافق كالكافر في كل شيء إلاّ أنه يزيد الكافر بخداع المؤمنين بإظهار الإسلام، وقد يكون كالكافر في بعض الأمور.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ...} بيان نتيجة كونهم مثلهم، أي هم مثلهم قلباً في الدنيا ولذا يجمعهم اللّه تعالى معاً في نار جهنم.

الرابع: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ...} الآية.

صفة أخرى من صفات المنافقين، وهي أنهم يميلون مع مصالحهم فيريدون حفظها سواء كانت الغلبة للمؤمنين أم للكفار، فلذا يحاولون حفظ العلاقة مع الطرفين، فهم يعملون بكيفية خاصة حتى يحسبهم الطرفان عليهم، فحينما يأتون إلى المسلمين يظهرون الإيمان، وحينما يلتقون بالكفار يظهرون الكفر قال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}(1)، وحين الجهاد لا يقاتلون أياً من الطرفين، بل يقفون على طرف من المعركة أو يتهربون منها بحجج واهية، بحيث لا يتضررون، سواء انتصر المسلمون أم غلب الكفار،

ص: 471


1- سورة البقرة، الآية: 14.

ومع ذلك يحاولون أن يشاركوا الغالب في اقتطاف ثمرة الانتصار.و(التربص) هو طول الانتظار(1)، والتربص بكم بمعنى انتظار ما سيؤول إليه أمركم مع الكفار.

وقوله: {فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ} عبّر عن انتصار المسلمين بأنه فتح من اللّه، وعن غلبة الكفار بقوله: {نَصِيبٌ} وذلك لتشريف انتصار المسلمين بأنه فضل من اللّه عليهم، وأما الكفار فذلك نصيب لهم في الدنيا؛ لأن اللّه تعالى جعل الأيام مداولة، إمعاناً في الامتحان وحثاً للمؤمنين على العمل وعدم التواني والكسل، لكن هذا النصيب ليس له قيمة، فلذا لم يُنسب إلى اللّه تعالى، مع أنّ كل شيء بقضاء من اللّه تعالى وقدره.

وقوله: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} الاستحواذ بمعنى الاستيلاء والسيطرة، ومرادهم هنا هو: إرشادهم إلى مواقع صلاحهم.

وقوله: {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي من بأسهم، والمقصود إرشادهم إلى أسرار المسلمين بحيث تحذرون منهم فلم يتمكن المسلمون من الغلبة.

وقيل: الجملتان إشارة إلى موضوع واحد، وهو أن المسلمين أسروا الكفار ثم أطلقوا سراحهم، فيكون مقصود هؤلاء المنافقين المنّ على الكفار بأننا لم نقتلكم حين الحرب حينما استولينا عليكم، بل منعنا المسلمين من قتلكم.

وقوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ...} كأنّ هنا شرطاً محذوفاً للاختصار، وهو أنّ هؤلاء إن تمكنوا أن يفلتوا من العقاب في الدنيا بسبب إظهارهم

ص: 472


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 122.

الإسلام واختلاطهم مع المسلمين لكن في الآخرة تظهر السرائر والحاكم هو اللّهتعالى الذي لا يخفى عليه شيء، فهناك يظهر المخلص من المنافق ويتم الفصل بالحق وهم لا يُظلمون.

معنى عدم سبيل الكافرين على المؤمنين

الخامس: قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}.

هذا قانون عام ومورد الآية مصداق له.

فالقانون التكويني والتشريعي في الدنيا والآخرة هو عدم تمكن الكفار من الاستيلاء والسيطرة على المؤمنين...

1- أما في الحجة: فحجة المؤمنين هي الغالبة في الدنيا والآخرة، وأما الكفار فحجتهم داحضة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُۥ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ}(1)،

وقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}(2)،

وقال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ}(3).

2- وأما في التشريع: فلم يُشرّع اللّه حكماً فيه استيلاء لكافر على مسلم، فلذا لا يجوز زواج المسلمة من كافر، ولا إمارة الكافر على المسلمين، ولا يملك الكافر عبداً مسلماً، ولا ولاية للأب الكافر على ابنه المسلم، وغير ذلك من أحكام مذكورة في الفقه.

3- وأما في التكوين: فاللّه تعالى جعل العاقبة في الدنيا والآخرة للمؤمنين، وجعل الباطل زهوقاً زائلاً، فلا طريق للكفار لأن يغلبوا المؤمنين غلبة تامة ينقرض بها الدين وأهله زوالاً كاملاً، فلئن غلبوا أحياناً فهي غلبة

ص: 473


1- سورة الشورى، الآية: 16.
2- سورة البقرة، الآية: 150.
3- سورة الأنعام، الآية: 149.

في بعض الجهات وبشكل مؤقت، كما كان يصنع الكفار مع المسلمين فيمكة كتعذيبهم عماراً وأبويه، وكغلبتهم في غزوة أحد فلم تكن غلبة تامة، وكذلك حينما يستولي الكفار على بلاد المسلمين كما حصل في العصر الحاضر.

أو بمعنى أنّ اللّه تعالى لم يقدّر سلطة الكفار على المؤمنين ابتداءً، إلاّ أنه لو خالف المؤمنون أوامر اللّه ونواهيه وخذلوا الحق فعند ذلك قد يقدّر سلطة الكفار لسوء عمل المسلمين كما حصل في غزوة أحد.

والمقصود في الآية المصداق الثالث، أي إذا كان للكفار نصيب من الغلبة فهي غلبة منقوصة وعسكرية، وليست غلبة تامة من جميع الجهات، إذ لم يقدرها اللّه تعالى أبداً، بل على العكس قدّر غلبة المؤمنين نهائياً ولو بعد حين قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}(1).

ص: 474


1- سورة التوبة، الآية: 33؛ سورة الصف، الآية: 9.

الآيات 142-147

اشارة

{إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا 142 مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا 143 يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا 144 إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا 145 إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا 146 مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا 147}

142- ثم ذكر اللّه تعالى صفة أخرى من صفاتهم ف {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ} أي يفعلون فعل من يريد الخداع، وذلك بإظهار الإيمان وإبطان الكفر {وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ} أي يجازيهم على خداعهم، كما أنهم ملزمون بأحكام المسلمين في الدنيا وجزاؤهم جزاء الكفار في الآخرة.

{وَ} من صفاتهم أنهم {إِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ} جمع كسلان، أي متثاقلين لعدم اعتقادهم بها، وإنما يصلّون؛ لأنهم {يُرَاءُونَ النَّاسَ} حتى يتصوروا أنهم مؤمنين، {وَ} لكن ذلك في العلن؛ إذ {لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} فلا يصلون في الخلوة، ولا أي نوع آخر من أنواع ذكر اللّه.

ص: 475

143- ومن صفاتهم كونهم {مُّذَبْذَبِينَ} مترددين ومضطربين {بَيْنَذَٰلِكَ} الإيمان والكفر {لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} أي ليسوا منسوبين إلى المؤمنين؛ لأنهم لا يضمرون الإيمان كالمؤمنين {وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} الكفار؛ لأنهم لا يظهرون كفرهم كالكفار، وذلك التذبذب هو الضلال {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ} يخذله حتى يضلّ بسوء اختياره {فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا} إلى الهداية.

144- ثم إنّ المؤمنين منزهون عن هذه الصفات فلا يتربصون ولا يخادعون ولا يكسلون ولا هم مذبذبون، لكن يمكن أن يتولوا الكفار، وذلك قد يجرّهم إلى النفاق لذلك حذرهم اللّه تعالى فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ} أنصاراً يتولون شؤونكم {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فإنّ ذلك فعل المنافقين ويجركم إلى النفاق، {أَتُرِيدُونَ} استفهام إنكاري {أَن تَجْعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} أي حجة واضحة على عذابكم؛ لأن اتخاذ الكفار أولياء معصية، وتجرّ إلى النفاق، وبعد البيان والنهي لا عذر لأحد في المخالفة.

145- ثم زاد اللّه تعالى تحذير المؤمنين ببيان عاقبة المنافقين فقال: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} أي الطبقة الأخيرة السفلى {مِنَ النَّارِ} حيث العذاب أشد ولا منجى ومهرب؛ وذلك لأنهم ضموا إلى الكفر خداعاً وغشاً {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} ينجيهم من العذاب، فكيف تتولونهم وتطلبون النصرة منهم؟!

146- ولكن باب التوبة مفتوح ولذا استثنى التائب فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ} رجعوا إلى اللّه، {وَأَصْلَحُواْ} ضمائرهم وما أفسدوه، {وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ}

ص: 476

التزموا بالشرع بالتمسك بكتاب اللّه وأوليائه، {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ}من غير رياء ولا شرك {فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي في عداد المؤمنين في الدنيا والآخرة فيكون ثوابهم كثوابهم، {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.

147- ثم يؤكد اللّه تعالى وعده بقبول توبتهم ببيان أنه منزّه عن الدواعي النفسانية للانتقام، وإنما العذاب نتيجة أفعال الناس، فلذا إن أحسنوا ارتفع العذاب عنهم ف {مَّا} استفهام إنكاري {يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} فلا نفع له فيه، ولا ضرر عليه في تركه {إِن شَكَرْتُمْ} نعمة اللّه {وَءَامَنتُمْ} به تعالى، بل بالعكس اللّه تعالى خلقكم ليرحمكم، فإذا لم تخرجوا أنفسكم عن قابلية الرحمة بسوء أعمالكم جازاكم أحسن الجزاء {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} أي يشكر شكركم وإيمانكم عبر الثواب، {عَلِيمًا} بحالكم لا يخفى عليه شيء من إيمانكم وعملكم.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ}.

لما بيّن اللّه تعالى خداع المنافقين للمؤمنين بقوله: {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} بيّن أنهم أيضاً يريدون أن يخدعوا اللّه تعالى، إمّا إرادة حقيقية للخداع كأن يزعموا أنّ اللّه لا يراهم في خلواتهم ولا يعلم بما في قلوبهم كما قال: {وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ}(1)، وهذا عادة في المنافق الذي يعلم بصحة الدين لكنه يرفضه

ص: 477


1- سورة فصلت، الآية: 22.

بقلبه، وإما فعل المخادع بإظهار شيء وإخفاء خلافه فهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر،وهذا في المنافق الذي يتوهم عدم صحة الدين، لكنه يظهر الإسلام لمصالحه!

وقوله: {وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ} أي يجازيهم على خداعهم، وإنما عبّر عن الجزاء بالخدعة للمشاكلة، أو بمعنى يقبل إسلامهم في الدنيا، وذلك بأن يعاملهم في الدنيا معاملة المسلمين في حقن دمائهم وفي مناكحهم وتوارثهم وغير ذلك، ويعذبهم في الآخرة عذاب الكافرين بل أشد، فكأنه يخدعهم بذلك، وقد مرّ شطر من الكلام في سورة البقرة، فراجع.

وقيل: إنه يخدعهم بنفس ما يخادعونه به، فهم يخادعون بإظهار الإسلام واللّه يخدعهم فيه بقبوله منهم.

وإنما قال عنهم: {يُخَٰدِعُونَ} بالمفاعلة، وعنه {خَٰدِعُهُمْ} بالمجرد؛ لأنهم يكثرون من الخداع بكل فعل يفعلونه من أفعال المسلمين، لكنه يخدعهم بشيئين: قبول إسلامهم وعذابهم! هكذا قيل.

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ...} الآية.

إذ الإنسان إذا لم يعتقد بشيء لا ينشط فيه، بل يتركه إلاّ إذا اضطر إلى فعله فإنه يفعله حينئذٍ بتثاقل، والمنافقون حيث لا يعتقدون بالإسلام فلا يعتقدون بالعبادات، ولكنهم في الوقت نفسه يرون أنفسهم مضطرين للقيام بها حتى لا يكتشف المسلمون نفاقهم، وذلك يؤدي بهم إلى أمور ثلاثة:

1- التثاقل في الصلاة، فإن الصلوات اليومية وإن كانت لا تستغرق وقتاً

ص: 478

كثيراً، إلاّ أن تكرارها في كل يوم وفي أوقات متعددة أوجب ثقلها علىمن لا يعتقد بها، فلذا تجد كثرة في تاركي الصلاة من ضعاف الإيمان، مع أنك قد تجد بعضهم يلتزمون بعبادات أصعب لكنها غير متكررة!

2- الرياء فيها، لأنّ غرضهم من صلاة لا يعتقدون بها هو أن يراهم الناس عليها، حيث إنّ إسلامهم كان في الظاهر لينالوا منافعه أو ليدفعوا مضار الكفر، فلذا يخادعون المؤمنين أيضاً كما قال تعالى: {يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(1)، وذلك يسوقهم إلى الرياء.

3- عدم ذكر اللّه في الخلوات وحينما لا يراهم الناس، فلذا يكون ذكرهم للّه بالصلاة وغيرها قليلاً، عكس المؤمن الذي يذكر اللّه في الغيب والشهود، سواء رآه أحد أم لم يره، وفي الحديث: «من ذكر اللّه في السر فقد ذكر اللّه كثيراً»(2)، وكذا لا ذكر باطني للمنافقين وإنما أحياناً يتظاهرون بذلك للرياء، عكس المؤمن الذي يكون اللّه في ذكره قلباً ولساناً.

الثالث: قوله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ...} الآية.

بيان لصفة أخرى للمنافقين، وهي أنهم مطرودون من كلا الجانبين، وذلك لميلهم تارة إلى المسلمين وتارة إلى الكفار، حيث إنهم يريدون مصلحتهم، فتارة مصلحتهم مع الإسلام وأخرى مع الكفر، فلذا يترنحون بين المسلمين والكفار، فظاهرهم مع الإسلام وباطنهم مع الكفر، ولذا لم ينتفعوا

ص: 479


1- سورة البقرة، الآية: 9.
2- البرهان في تفسير القرآن 3: 255، عن الكافي.

بعملهم بل ضلوا سواء السبيل.

وهكذا حال كل من لم يحسم أمره في القضايا ويترتب عليه خسارته لكلا الطرفين والفوائد المرتبة عليهما.

وقوله: {مُّذَبْذَبِينَ} أصله من الذب بمعنى المنع والطرد، فكأن المنافق كلّما مال إلى جانب ذُبّ وطرد عنه.

وقوله: {بَيْنَ ذَٰلِكَ} أي الكفر والإيمان، أو بين المؤمنين والكفار، والمشار إليه مستفاد من الكلام.

وقوله: {لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ} بيان تفصيلي للتذبذب، وكأنه أراد بيان شناعة عملهم وخسارتهم بحيث يرفضهم الكفار والمسلمون.

وقوله: {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ...} بيان لسبب تذبذبهم وهو أنّ اللّه تعالى أضلّهم، بمعنى أنه خذلهم وتركهم وقطع عنهم ألطافه؛ فلذلك ضلوا الطريق فلا يهتدون إلى سبيل نجاتهم.

الرابع: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ...} الآية.

بعد بيان المنافقين وأوصافهم، يحذّر اللّه المؤمنين من السقوط في هاوية النفاق، وهو ولاية الكفار من دون المؤمنين، فإنها تؤدي بالنتيجة إلى حالة النفاق نتيجة التأثر بهم وبكلامهم، فقد يُسلم أحدهم حقيقة من غير قصد النفاق، ولكن حيث إنّ الإيمان غير مستمكن في قلبه فلذا يخشى زواله، فعلى الإنسان الابتعاد عن الأجواء السلبية والتواجد في الأجواء الإيجابية، فإنّ كلاً منهما مؤثر على الإنسان، وخاصة إذا كان في بداية أمره، ومن أهم

ص: 480

العوامل التي توجد الأجواء - سلبية أم إيجابية - ولاية الآخرين، فمن يتولى المؤمنين بالصداقة والمحبة والنصرة يقوى فيه الإيمان، وعكسه من يتولى الكفار.

ولو اتخذ المؤمن الكفار أولياء فتأثر بهم ونافق فلا عذر له؛ لأنه خالف أمر اللّه تعالى بسوء اختياره حتى تأثر قلبه، فلا يقال: إنّ القلب وميله ليس بيد الإنسان فلا تكليف فيه! إذ يقال: إنّ تأثر القلب تحت قدرة الإنسان عبر إيجاد المقدمات، وما بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وقوله: {أَتُرِيدُونَ...} أي عملكم هذا يؤدي إلى النفاق، وهو ما لا تُعذرون فيه؛ لأنه كان بعد البيان والنهي وعصيانه عمداً وبسوء الاختيار.

و{سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} بمعنى الحجة الواضحة على عذابكم، وهذا يدل على أنّ اللّه لا يعذب أحداً إلاّ بعد إتمام الحجة عليه، كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}(1).

الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}.

تحذير آخر للمؤمنين، وذلك ببيان عاقبة المنافقين، فحيث كان للّه تعالى سلطان مبين في العذاب فلا منجى لهم منه ولا عذر يُقبل منهم، فحاصل المعنى هو: لا تتخذوا الكفار أولياء من دون المؤمنين، وإن فعلتم ذلك نافقتم، فقامت ضدكم الحجة الواضحة في عذابكم الذي هو الدرك الأسفل من النار.

ص: 481


1- سورة الإسراء، الآية: 15.

و{الدَّرْكِ} بمعنى الطبقة، وإنما سميت دركاً؛ لأن بعضها فوق بعض فكأن كل واحد منها يدرك الآخر، وقيل: الدركات في الهبوط، والدرجات في الصعود، لذا كانت جهنم دركات كما أنّ الجنة درجات.

وإنما كانوا في الدرك الأسفل؛ لأنهم أسوأ حالاً من الكفار، إذ ضموا إلى الكفر خداعاً وغشاً، وضررهم على المسلمين أكبر كما قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}(1).

سبب قبول إسلام المنافق

سؤال: إذا كان حال المنافقين هكذا فلماذا يقبل إسلامهم الظاهري فيجري لهم وعليهم ما يجري على سائر المؤمنين ولهم؟

والجواب: أنّ نفاق أكثرهم غير معلوم ولا توجد ضابطة عامة معلومة يميّز الناس المنافق عن غيره! وفي التقريب: لعلّ السبب في قبول المنافق بعد العلم بباطنه رجاء زوال نفاقه، وأنه لو وكل الأمر إلى الناس لأخذوا كثيراً من المؤمنين بأنهم منافقين(2).

وقوله: {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} كأنه ردّ لتوليهم الكفار حيث يزعمون أنهم ينصرونهم، فيقال لهم: لا ينفعكم أولئك الكفار من بأس اللّه تعالى، إذ لا ناصر للمنافقين من عذاب اللّه وبأسه.

السادس: قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ...} الآية.

من لطف اللّه ورحمته أنه لم يغلق باب التوبة بوجه أحد، بل يحثّ الناس

ص: 482


1- سورة المنافقون، الآية: 4.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 568.

عليها حتى وإن عظمت جرائمهم؛ لأن اللّه خلقهم ليرحمهم فلذا هيّأ لهم كل أسباب نيلهم للرحمة، ومنها فتح باب التوبة، فعظم الجريمة التي عقابها الدرك الأسفل من النار لا تمنع عن رجوعهم إلى طريق الهداية، لكن لا بد أن يكون تناسب بين توبتهم وبين عملهم، فالتوبة في كل شيء بحسبه، فلا يكفي مجرد لقلقة اللسان، بل لا بد من اقتلاع جذور النفاق من أنفسهم، مع تدارك ما أفسدوه كي تكون توبة نصوحاً تمحي آثار نفاقهم وعذابه، وتؤدي إلى دخولهم في زمرة المؤمنين بحيث يشاركونهم في الثواب، وذلك يستدعي أربعة أمور:

1- التوبة، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ} أي رجعوا عن نفاقهم.

2- إصلاح النفس، فقال: {وَأَصْلَحُواْ} أي ضمائرهم؛ لأن منطلق النفاق النفس المريضة، فلا بد من معالجتها بقلع حذور النفاق فيها، أو بمعنى أصلحوا ما أفسدوه من أمور المسلمين، وقيل: تابوا عن الماضي وأصلحوا في المستقبل.

3- الاعتصام باللّه فقال: {وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ} أي التزموا بالشريعة التي أنزلها اللّه تعالى، فلا يكفي مجرد حسن النفس، بل لا بد من ضمّ الإطاعة عملاً، قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(1).

4- الإخلاص في أعمالهم وعقائدهم فقال: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ} أي خالياً عن الشرك في المعتقد وعن الرياء ونحوه في العمل.

كيفية توبة المنافق

والحاصل: المنافق يمكنه التوبة بإصلاح قلبه وعمله وحينئذٍ يقبل اللّه

ص: 483


1- سورة آل عمران، الآية: 103.

توبته فيجعله مع المؤمنين وينال ثوابهم.

وقوله تعالى: {فَأُوْلَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي معهم في الثواب، ولم يقل: (من المؤمنين) لأنهم كانوا في الظاهر منهم في الدنيا، لكن مآلهم كان إلى الدرك الأسفل، وبتوبتهم يكون مآلهم إلى الجنة مع المؤمنين.

وقوله: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ...} بيان أنّ معيّتهم مع المؤمنين إنما هي في الثواب الأخروي الذي يناله المؤمنون جميعاً وهو الأجر العظيم.

السابع: قوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ...} الآية.

حث على التوبة وتطمين بقبولها، فإنّ اللّه تعالى ليس كالمخلوقات، فليس له كيف نفساني بحيث يريد التشفي ممن عصاه، كما أنه هو الغني فلا يحتاج إلى عقاب لجلب نفع أو دفع ضرر، فلذا لا داعي له للعقاب، وإنما العقاب هو نتيجة عمل الإنسان، فإن أصلح عمله زال سبب العقاب وإن تمادى في غيّه بقي سبب العقاب، عكس الإنسان الذي قد تتحكم فيه الدواعي النفسانية فقد لا يعفو عن من عصاه حتى لو ندم؛ لأنه يريد التشفي، أو يرى أن في العقاب جلب نفع له أو دفع ضرر عنه.

وفي تفسير الصافي: إنما يعاقب المصرّ على كفره؛ لأنّ إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى المرض، فإذا زال بالإيمان والشكر ونقّى نفسه عنه تخلّص من تبعته(1).

والحاصل أنّ اللّه خلق ليرحم كما قال: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ

ص: 484


1- تفسير الصافي 2: 342.

خَلَقَهُمْ}(1)، فلذا يرحم الجميع ما دام لم تكن الرحمة خلاف الحكمة، والتائب لا مانع من إنزال الرحمة عليه فلذا يرحمه، وقد سبقت رحمته غضبه، مع أنه لا يجب عقلاً قبول التوبة، لكنه لطف ورحمة وفضل منه سبحانه وتعالى.

وقوله: {إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ} قيل: «قدّم الشكر على الإيمان؛ لأنّ الناظر يدرك النعمة أولاً، فيشكر شكراً مبهماً ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به»(2)،

ويمكن أن يقال: إنّ مورد الكلام في المنافق التائب، وهو قد كان آمن بلسانه فلم يبق إلاّ أن يشكر بقلبه - والشكر القلبي هو عرفان المنعم والإذعان له كما مرّ - وهذا الشكر ينقله من النفاق إلى الإيمان، فتأمل.

وقوله: {شَاكِرًا} في وصف اللّه بمعنى المجازي على الشكر، أي يفعل فعل الشاكر من تكريم المشكور له.

وقوله: {عَلِيمًا} بمعنى علمه بما في الضمائر وما يفعله الناس فلا يخفى عنه تائب أو مخادع.

ص: 485


1- سورة هود، الآية: 119.
2- نقله في تفسير الصافي 2: 342.

الآيتان 148-149

اشارة

{لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا 148 إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا 149}

148- وحيث إنّ النفاق أمر قلبي وهو أمر يكثر الخطأ في تشخيصه فلا يجوز اتهام أحد به إذ {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ} أي لا يجوز {الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} أي إعلان القول السيّئ بالنسبة إلى الناس، سواء كان غيبة أم تهمة أم شتماً أم دعاءً عليهم ونحو ذلك {إِلَّا مَن ظُلِمَ} فيجوز له أن يشكو ظالمه أمام الناس، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا} لما يجهر به {عَلِيمًا} بالصادق والكاذب فيجازي كلاً منهما على حسب عمله.

149- لكن مع جواز جهر المظلوم فإنّ إبداء الخير والعفو عن السوء أفضل ف {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا} تظهروه {أَوْ تُخْفُوهُ} أي تأتوا بالخير على كل حال سواء في العلن أم في السر {أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ} لا تجهروا ولا تنتقموا {فَ} هو أحسن لكم؛ لأنه تخلّق بأخلاق اللّه تعالى ف {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} كثير العفو {قَدِيرًا} فيعفو عن مقدرة.

بحوث

الأول: قوله تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}.

حيث ذكر اللّه تعالى المنافقين وصفاتهم وحذر المؤمنين منهم ومن

ص: 486

التخلّق بأخلاقهم، يذكر أنه لا يجوز اتهام أحد بالنفاق بمجرد الظن، بل حتى مع القطع به؛ لأنّ النفاق أمر قلبي قد يشتبه فيه الناس كثيراً، وقد تتدخل الدواعي النفسانية والعداوات الشخصية فيقطع الإنسان بذلك مع خطئه من حيث لا يشعر؛ ولأنّ اللّه تعالى ستّار العيوب ولا يريد إشاعة الفحشاء بين المؤمنين، ولذا يذكر سبحانه في هذه الآية القاعدة العامة وهي عدم جواز الجهر بالقول السيّئ في الناس، ويدخل في ذلك: الغيبة وهي إفشاء العيب المستور بما يكره صاحبه، والتهمة وهي نسبة الباطل إلى الغير بما ليس فيه، والسب وهو شتم الغير، والفحش وهو الكلام القبيح المتجاوز للحد سواء كان سباً أم لا، والدعاء على الناس علناً كلعنهم وطلب الشر من اللّه عليهم ونحو ذلك من الكلام الذي يسوء الناس.

وقوله: {لَّا يُحِبُّ} كناية عن عدم الجواز والعقاب عليه، وقد مرّ أن الحب من الكيفيات النفسانية، واللّه سبحانه منزه عنها، فحبّه بمعنى الأمر به والثواب عليه، وعدم حبه أو بغضه أو غضبه بمعنى النهي عنه والعقاب عليه.

وقوله: {الْجَهْرَ} هو ظهور الشيء بشكل واضح سواء كان ظهوراً للسمع أم للبصر كقوله: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}(1)، أي عياناً، والجهر في الصوت رفعه بحيث يسمعه الآخرون، فيشمل الجهر حتى لو كان الصوت منخفضاً، ويقابله الإخفات بمعنى خفض الصوت بحيث لا يسمعه أحد، وليس ارتفاع الصوت داخلاً في مفهوم الجهر، بل هو أحد مصاديقه كما قال: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا

ص: 487


1- سورة النساء، الآية: 153.

تُخَافِتْ بِهَا}(1) أي لا تصيح في القراءة ولا تخفض بحيث لا تسمعه حتى أنت بأن يكون مجرد تحريك اللسان والشفتين.

وقوله: {بِالسُّوءِ} أي ما يوجب الامتعاض ويسوء الناس.

وقوله: {مِنَ الْقَوْلِ} إما بيان للسوء، أي القول الذي يسوء الناس استماعه، أو بيان للجهر، أي الجهر القولي بالسوء، وأما الهمز واللمز ونحوهما فهو وإن كان منهياً عنه إلاّ أنه ليس مورد الكلام في هذه الآية.

ثم إنّ الروايات قد بينت بعض المصاديق كقوله (عليه السلام) : «أن يذكر الرجل بما فيه»(2) فإنّ بعض الناس يتصور أنّ ذلك من قول الحق؛ لأنه قال صدقاً، غافلاً عن أنّ الغيبة هي ذكر ما فيه، فإن لم يكن فيه فهو من البهتان.

جهر المظلوم بظلامته

الثاني: قوله تعالى: {إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}.

ثم يستثني اللّه تعالى جهر المظلوم فقال: {إِلَّا مَن ظُلِمَ} وهذا الاستثناء منقطع، إذ ليس شكوى المظلوم قولاً سيئاً، فالمعنى لا يجوز الجهر بالقول السيّئ لكن يجوز للمظلوم الجهر بظلامته والشكوى من الظالم، قال تعالى: {وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ}(3).

ثم إنّ القاعدة هي أنّ تعليق الحكم على الوصف يُشعر بالعِلية، فحينما يقال: (أكرم العالم) فيه إشعار بأنّ سبب الإكرام هو العِلم، وهكذا في هذه الآية تمّ تعليق الحكم بجواز الجهر بقوله: {ظُلِمَ} أي أنّ ظلمه صار سبباً

ص: 488


1- سورة الإسراء، الآية: 110.
2- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 258.
3- سورة الشعراء، الآية: 227.

لجواز جهره.

قيل: يستفاد من الآية أنّ جواز الجهر إنما هو في خصوص ذلك الظلم، فلا يجوز التشهير به في غير ظلمه كأن يذكر عيوبه الأخرى.

وفيه تأمل: لأنّ الظلم علة جواز الجهر، لا أنه تقييد له، وبعبارة أخرى هو حيث تعليلي لا حيث تقييدي، نعم يمكن أن يقال: إنّ الآية في مقام بيان أصل جهر المظلوم لا في مقام بيان كيفيته فلا إطلاق لها من جهة الكيفية، فلا بد من التمسك فيها بالقدر المتيقن، وهو الجهر فيما ظلمه فيه دون غيره فتأمل.

وفي بعض الروايات بيان لمصداق من مصاديق الظلم، قال (عليه السلام) : «إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح فلا تقبله منه وكذّبه فقد ظلمك»(1).

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} تحذير للظالم والمظلوم، فهو يعلم بالظالم ويسمع لجهره بالسوء، كما يعلم بالمظلوم ويسمع قوله، فعليه أن لا يتعدى الشرع، فُربَّ مظلوم بتعديه الحدود الشرعية صار ظالماً.

الثالث: قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ...} الآية.

من دأب القرآن بيان البديل للمنهيات؛ لأنّ اللّه إنما ينهى عن بعض الأمور لما فيها من المفسدة، لكن يمكن وجود بديل لا مفسدة فيه، بل قد تكون فيه المصلحة، بل أحياناً يشرّع بديلاً أفضل من المباحات، لذا غالباًعند ما ينهى عن شيء يشرّع بديلاً له، فالربا حرام والبيع حلال، والزنا حرام

ص: 489


1- البرهان في تفسير القرآن 3: 258.

والنكاح مثنى وثلاث ورباع وبالدائم أو التمتع حلال، ونحو ذلك، وهنا حينما نهى عن السوء من القول، جعل بديلاً له فعل الخير، قولاً أم فعلاً، وحينما نهى عن الجهر به حبّذ إبداء الخير أو خفاءه، وحينما أباح جهر المظلوم بمظلمته بيّن أنّ العفو أفضل، وذلك لأنّ المظلوم إن هتك الظالم عبر الجهر بظلامته فقد اقتص منه فلا يرجى له ثواب على مظلوميته؛ لأنه أخذ حقه، وأما لو عفا فإنه قد أوكل الأمر إلى اللّه تعالى فلذا هو موعود بالثواب كما قال: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(1)، كما أنّ الذي يقتص يتجاوز الحدود المشروعة غالباً فينقلب ظالماً بعد أن كان مظلوماً فيكون الحق عليه بعد أن كان له، ولذا يقول اللّه تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).

وقوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ} المقصود إيتاؤه على كل حال، كما قال: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}(3) فتارة الإظهار أفضل إن كان فيه تشجيعٌ للناس على فعله أو كان أمراً عاماً لا يحتمل فيه الرياء، وتارة الإخفاء أفضل ليكون أبعد عن الرياء، لذا كان الأفضل الإتيان بالصلوات المفروضة في المسجد؛ لأنّ الجميع يصليها فلا رياء في الإتيان بها عادة، والإتيان بالنوافل في المنزل لاحتمال الرياء فيها بعد عدم إتيان الكثيرين بها.

وقوله: {أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٖ} بأن لا تجازوا المسيء على إساءته، والعفو

ص: 490


1- سورة النور، الآية: 22.
2- سورة البقرة، الآية: 237.
3- سورة البقرة، الآية: 271.

بمعنى إمحاء أثر الشيء كما مرّ، فالعفو عن السوء بعدم ذكره وعدم ذكر الظالم، والعفو وإن كان من الخير الذي قد يبديه بأن يعلن العفو أو يخفيه فلا يقول شيئاً، إلاّ أنه ذكره بالخصوص؛ لأنّ مورد الكلام فيه، بل قيل: إن قوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ} كالمقدمة وإنما الغرض في هذه الآية الحث على العفو.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} نائب مناب الجزاء، فكأنه قال: إن تبدوا الخير أو تخفوه أو تعفو عن سوء فهو أحسن؛ وذلك لأنه من التخلّق بأخلاق اللّه، حيث إنه عفوٌّ قدير، فهو يعفو عن كثير من المجرمين مع قدرته على الانتقام، فكونوا كذلك.

وقوله: {قَدِيرًا} كأنه فيه إشعار بأن يكون عفوكم عن مقدرة لا عن ذلة، فالعفو عن جبن وضعف ليس محبذاً؛ لأن منطلقه ليس كرائم الأخلاق وإنما الذلة والعجز، والإسلام لا يشجع على ذلك، وإنما ليكن العفو عند المقدرة فهو الذي منطلقه العزة وحسن الخُلق وطاعة اللّه تعالى، لذا كان هذا العفو حسناً، بل أحسن من الانتقام، وأما العفو عن ذلة فلعلّ فيه تشجيعاً للظالمين على الاستمرار في الظلم فلا خير فيه، واللّه العالم.

ص: 491

الآيات 150-152

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا 150 أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 151 وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ أُوْلَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا 152}

150- وحيث تمّ ذكر المنافقين وصفاتهم، يأتي ذكر الكفار وأفعالهم ف {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وذلك بكفرهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذ الكفر به كفر باللّه الذي أرسله، وكفر بالرسل الذين بشروا به، {وَ} ذلك لأنهم {يُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} عبر تكذيب بعض الرسل، {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ} من الرسل كموسى والأنبياء قبله (عليهم السلام) {وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ} منهم، كرسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ} أي بين الإيمان التام والكفر التام {سَبِيلًا} طريقاً ابتدعوه بأهوائهم.

151- {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا} لأنّ الكفر بالبعض كفر باللّه الذي أرسل، وكفر بالرسل الذين بشّروا، {وَأَعْتَدْنَا} هيّأنا {لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} مُذِلاًّ لهم.

152- {وَ} في المقابل {الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ} فأطاعوه فيما أمر

ص: 492

{وَرُسُلِهِ} فصدّقومهم جميعاً {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ} فآمنوابجميعهم {أُوْلَٰئِكَ} هم المؤمنون حقاً، وجزاؤهم أن {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} اللّه {أُجُورَهُمْ} التي وعدهم، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لذنوبهم بسبب إيمانهم {رَّحِيمًا} بهم فيزيدهم من فضله.

بحوث

الأول: بعد ذكر المنافقين وصفاتهم، يذكر اللّه تعالى الكفار وصفاتهم، لتنبيههم وإرشادهم ليقتلعوا عنها وعن كفرهم، ولتحذير المؤمنين منهم ومن أن يتصفوا بتلك الصفات.

وهذه الآيات وما بعدها (الآيات 150-175) أولاً: تذكر الكفار وبشكل عام بأنهم يريدون التفرقة بين اللّه ورسله وذلك عبر تكذيبهم رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

وثانياً: تذكر اليهود بأنهم سألوا موسى (عليه السلام) أكبر مما سألوا الرسول محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث طلبوا رؤية اللّه جهرة، وعبدوا العجل، ونقضوا العهد، وقتلوا الأنبياء، وأساؤوا العمل، بحيث طبع اللّه على قلوبهم، وكفروا بعيسى (عليه السلام) ، وقالوا على مريم (عليها السلام) بهتاناً عظيماً، وكذبهم بادعائهم قتل عيسى (عليه السلام) ، وظلمهم وأكلهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل.

وثالثاً: تؤكد على رسالة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وأنه امتداد للأنبياء الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين مع بيان الغرض من إرسالهم، ثم بيان شهادة اللّه بصدق رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ورابعاً: بيان مصير الكفار إلى جهنم مع بيان عدم حاجة اللّه إليهم ولا إلى

ص: 493

إيمانهم.

وخامساً: تذكر النصارى وغلوّهم، وبيان حقيقة المسيح (عليه السلام) فهو رسول اللّه وكلمته وروح منه، وليس إلهاً وولداً للّه سبحانه، وأنّه لا يستنكف عن عبادة اللّه تعالى.

ثم ختام الآيات ببيان عذاب الكفار وثواب المؤمنين، وحثهم على الإيمان باللّه والاعتصام به.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ...} الآية.

الظاهر الآية تذكر أهل الكتاب بشكل عام وهم الذين يكذبون الرسول محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتبيّن أنّ الكفر به هو كفر باللّه تعالى وكفر بجميع الرسل، ولا ينفعهم اعتقادهم باللّه وببعض الرسل، وذلك لأنّ إنكار أصل من أصول الدين كفر، ولا يجدي معه الإيمان بسائر الأصول، فلا يتحقق الإيمان إلا بالإيمان بالجميع، مع تحقق الكفر بالكفر بالبعض، والآية تذكر ثلاثة أمور:

1- {يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أما كفرهم باللّه فلرفضهم رسوله محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث لم يطيعوا اللّه تعالى فيه، فتكذيب الرسول تكذيب للّه تعالى، والكفر به كفر به سبحانه، كما أن إبليس لعنه اللّه كفر لمّا عصى أمر اللّه تعالى في نبيّه آدم فلم يسجد له واستكبر عليه وكفر به، وأما كفرهم بالرسل فلأنّ جميعهم بشّروا برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فتكذيبه تكذيب لهم جميعاً ولا ينفعهم قولهم بأنهم يؤمنون بموسى أو عيسى‘ مع عدم تصديق بشارتهما برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 494

2- {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} هذا عطف تفسيري، أيكفرهم باللّه ورسله كان عبر تفرقتهم بين اللّه ورسله، وهذه التفرقة إنما هي بتكذيب رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكأن اللّه سبحانه والرسل جميعاً جهة واحدة، فتكذيب واحد منهم هي تفرقة بينهم، فليس المعنى أنهم يؤمنون باللّه ويكفرون بالرسل كي يقال: إنّ أهل الكتاب يؤمنون بجميع الرسل إلاّ اليهود الذين يكفرون بعيسى (عليه السلام) وبمحمّد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والنصارى الذين يكفرون بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو يقال: إنّ هؤلاء فرقة أخرى تؤمن باللّه وتكذب بجميع الرسل، إذ هو خلاف الظاهر، بل المراد ما ذكرناه من تكذيبهم لرسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهذا إرادة التفرقة في جهة اللّه والرسل، حيث إنهم مجموعة واحدة، حيث إنّ اللّه المرسل، وهم الرُّسُل، فإرادة فصل أحد الرسل عن هذه المجموعة هي تفرقة بينهم.

وإنما قال: {يُرِيدُونَ} لأنهم لا يتمكنون من التفرقة بينهم واقعاً، لكن هؤلاء بكفرهم يريدون ذلك.

3- {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ} عطف تفسيري لتوضيح المراد من إرادتهم التفرقة بين اللّه ورسله.

وقوله: {أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ} الإشارة إلى الإيمان والكفر، أي يبتدعوا طريقاً بين الإيمان والكفر، مع أنّ إنكار بعض الأصول هو الكفر حتى لو آمنوا ببعضها.

ولا يخفى أنّ هناك واسطة بين الإيمان التام والكفر التام، ويعبّر عنها بالضلال - بأحد معانيه - وهو فيما لو آمن الإنسان بجميع أصول الدين، لكن

ص: 495

جحد بعض المعتقدات التي ليست من الأصول الأصلية، وأما إنكار بعضأصول الدين فهو من الكفر الصريح، ومن ذلك إنكار نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في شرح أصول الكافي فراجع.

الثالث: قوله تعالى: {أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}.

تأكيد على كفرهم، وبيان أنّ كفرهم أسوء من كفر سائر الكفار ولذلك جاء بضمير الفصل بعد المبتدأ وهو دالٌّ على الحصر، وأكده بقوله: {حَقًّا}، إذ الذي يجحد اللّه وينكر الرسل جميعاً قد يكون عن قصور أو عن تقصير، لكن الذي يؤمن ببعض الرسل ومع ذلك ينكر البعض الآخر فهو غالباً ما يكون معانداً؛ لأنّ الدليل عليهم واحد وهو ما ظهر منهم من المعجزات فكيف آمن ببعضهم وبمعاجزهم وأنكر بعضهم الآخر ومعاجزهم؟!

الرابع: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ...} الآية.

كدأب القرآن حين ذكر الكفار وعذابهم يذكر المؤمنين وثوابهم، ليكون الإنذار مقترناً بالبشارة، وحثاً للناس على الإيمان بإراءة الصراط المستقيم إليهم، فالذي يؤمن باللّه وجميع الرسل هو المؤمن حقاً ويؤتيه اللّه الثواب الذي وعده ويغفر ذنوبه ويزيده من فضله.

فقوله: {يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} ما وعده لهم من التضاعف عشرة أمثالها، ومن الجنات والقصور والحور ونحو ذلك، وإنما سماه أجراً لأنه قد وعد به فصار حقاً عليه، وإلاّ فلا أحد يستحق على اللّه شيئاً كما مرّ مراراً.

ص: 496

الآيتان 153-154

{يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا 153 وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا 154}

وأهل الكتاب هم من الذين فرقوا بين الرُسل، حيث كذّبوا رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، مع زعمهم بتصديقهم بموسى ومن قبله، ولأنهم كانوا يريدون التكذيب لذلك كانت طلباتهم تعنتاً، ومن ذلك:

153- {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ} اليهود {أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ} يدل على صدقك، وكما نزلت التوراة جملة على موسى (عليه السلام) ! والجواب: أنهم متعنتون فحتى لو نزل الكتاب ما آمنوا، مع أنّ اللّه أنزل القرآن معجزةً وفيه الكفاية.

وأما تعنتهم: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ} أي من تنزيل الكتاب عليك {فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} عياناً {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} أي بسبب ظلمهم، حيث تجرّأوا على اللّه تعالى وجسّموا وتعنتوا بطلب المحال، {ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ} للعبادة، وكان ذلك {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ}

ص: 497

الأدلة الواضحة على التوحيد واستحالة الرؤية، لكنهم تعنتوا وعاندوا{فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ} الظلم بإحياء الذين أصابتهم الصاعقة وبقبول توبة عبّاد العجل شرط أن يقتلوا أنفسهم، {وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} حجة واضحة على التوحيد ونفي التجسيم.

154- {وَ} مع وجود هذه الحجة زدناهم تأكيداً بأن {رَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} الجبل {بِمِيثَٰقِهِمْ} أي بسبب أخذ الميثاق منهم على الإيمان والطاعة، {وَ} أمرناهم حيث {قُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا} أي ادخلوا بيت المقدس من باب حطة حال كونكم ساجدين شكراً للّه، {وَ} نهيناهم بأن {قُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ} لا تتجاوزوا إلى الحرام في صيد السمك في هذا اليوم، {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا} عهداً مؤكداً على كل ذلك! لكنهم خالفوا، مع أنّ موسى (عليه السلام) كان منهم وتعنتوا عليه! فلذا لا غرابة من تعنتهم على رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في طلبهم بتنزيل الكتاب!

بحوث

الأول: نظم هذه الآيات وما بعدها هو أنّ اللّه تعالى يبيّن تعنت اليهود في طلبهم تنزيل كتاب من السماء عليهم ليعلموا بزعمهم صدق رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما نزلت ألواح التوراة على موسى (عليه السلام) دفعة واحدة، ثمّ يجيبهم اللّه سبحانه بجوابين:

الجواب الأول: لبيان تعنتهم في طلبهم، وذلك عبر التذكير بتعنتهم مع نبي اللّه موسى (عليه السلام) وهو منهم وكان منقذاً لهم وهم يزعمون تصديقهم له وقبولهم بنبوته، وكان تعنتهم معه في الأصول والفروع.

ص: 498

أما في الأصول: فكانوا مجسمة ولذلك طلبوا المحال من رؤية اللّه سبحانه عياناً، فعاقبهم اللّه بالصاعقة، ثم عفا عنهم فأحياهم كرامة لنبيهموسى (عليه السلام) ، ثم بعد ذلك تمادوا في غيّهم بأن أظهروا مكنون قلبهم في التجسيم بعبادة العجل، مع أنهم لم يكونوا معذورين في ذلك؛ لأن البينات قد جاءتهم، ثم عفا اللّه عنهم مشروطاً بأن يقتلوا أنفسهم، ولكن بقوا مصرين على غيّهم.

وأمّا في الفروع: فقد أمرهم اللّه بأوامر ونهاهم عن مناهٍ فعصوا، فكان ممّا أمرهم أن أوجب اللّه عليهم دخول بيت المقدس من باب حطة حال كونهم ساجدين، فاستهزؤوا بحكم اللّه وخالفوه فكفروا بنعمته عليهم، وكان من نهيه أن نهاهم عن الصيد في يوم السبت، فاحتالوا على النهي، فعصوا نهي اللّه، فعاقبهم بأن مسخهم قردة.

ومع كل ذلك فقد أخذ اللّه منهم العهد الأكيد على الإيمان والطاعة، لكن كما خالف الأسلاف كذلك سار على خطاهم الأخلاف راضين بفعل أسلافهم، فهل يتوقع من هؤلاء إطاعة اللّه تعالى في التصديق برسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو ليس منهم!

ثمّ يعدّد اللّه تعالى مخالفاتهم بنقض العهد والكفر وقتل الأنبياء وعدم استماعهم إلى قول الحق وكفرهم بعيسى (عليه السلام) وبهتانهم على مريم (عليها السلام) وكذبهم بادّعاء قتل المسيح وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل، ثم يذكر أنّ اللّه عاقبهم في الدنيا بتحريم طيبات أحلت لهم وسيعاقبهم في الآخرة.

الجواب الثاني: ما سيأتي في الآيات 162-166 بأنّ اللّه قد أنزل القرآن

ص: 499

معجزةً، وفيه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، حيث يدلعلى أنّ محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رسول اللّه سبحانه وتعالى.

الثاني: قوله تعالى: {يَسَْٔلُكَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَٰبًا مِّنَ السَّمَاءِ...} الآية.

هذا بيان لتفريقهم بين الرسل حيث تعنتوا مع رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فطلبوا طلباً تعنتياً، وهو أن يأتيهم كتاب من السماء يدل على صدقه...

إمّا بأن تكون ورقة مكتوبة من اللّه فيها شهادة على ذلك! كما طلب المشركون نظير ذلك: {أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًا نَّقْرَؤُهُۥ}(1)،

لكنهم جميعاً كانوا كاذبين كما قال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰبًا فِي قِرْطَاسٖ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(2)، ومن المعلوم أنّ المعاجز والآيات ليست لعبة للكفار بحيث يقترحون ثم لا يؤمنون، بل هي للحجة عليهم، وتكفي معجزة واحدة لهم، فإن لم يؤمنوا بها فهم متعنتون لا يستحقون استجابة طلبهم معاجز أخرى، قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَٰتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْأيَٰتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا۠ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(3).

وإمّا أن ينزل القرآن كله جملة واحدة مكتوباً كما نزلت التوراة في

ص: 500


1- سورة الإسراء، الآية: 93.
2- سورة الأنعام، الآية: 7.
3- سورة العنكبوت، الآية: 50-51.

ألواح مرّة واحدة! لكن يقال لهم: إنه يكفي الكتاب المنزل تدريجاً في كونه حجة عليهم لإعجازه.وقوله: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ...} هو الجواب الأول عن سؤالهم، وهو بيان تعنتهم.

وقوله: {أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ} لأنّ التجسيم بطلب رؤية اللّه والشرك بعبادة العجل أسوأ بكثير من طلب كتاب من السماء، فالتوحيد وتنزيه اللّه تعالى عن صفات المخلوقين هما ركيزتا الدين وأهم الأصول.

وقوله: {جَهْرَةً} حال من الرؤية أي نراه عياناً بأم أعيننا، والظاهر أنهم كانوا مجسمة لطول لبثهم في عبدة الأصنام في مصر، ولذلك أول طلب لهم بعد النجاة كان قولهم: {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ}(1)، وردعهم موسى (عليه السلام) لكن بقي حب الأصنام في مكنون قلوبهم حتى طلبوا من موسى رؤية اللّه تعالى عياناً! ثم لما غاب عنهم موسى أربعين ليلة اتخذوا عجلاً ليعبدوه! ولم تنفعهم جميع الآيات في قلع جذور الشرك والتجسيم من قلوبهم.

وقوله: {بِظُلْمِهِمْ} إنّ الطلب التعنتي أو الذي منطلقه انحراف في العقيدة كالتجسيم ظلم للنفس ببخسها حقها من الإيمان والثواب الذي يترتب عليه.

وقوله: {فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ} أي عن ظلمهم بطلب رؤية اللّه وعن اتخاذهم العجل، وذلك بإحياء من أصابتهم الصاعقة، وبقبول توبة عبدة العجل مشروطاً بقتلهم أنفسهم، وقد مرّ تفصيل كل ذلك في سورة البقرة،

ص: 501


1- سورة الأعراف، الآية: 138.

وقيل: إنّ اللّه نسخ حكم القتل لما استعدّوا لذلك وشهروا سيوفهم ليقتل بعضهم بعضاً، فلذا فالعفو لم يكن عن عقوبة الآخرة فحسب، بل عن عقوبة الدنيا أيضاً،كنسخ ذبح إسماعيل (عليه السلام) لما استعد إبراهيم (عليه السلام) لذلك، وقيل: بل كان رفع الحكم بعد أن قتل بعضهم بعضاً حيث تبين صدقهم فرفع اللّه الحكم عن الباقين، واللّه العالم.

الثالث: قوله تعالى: {وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمْ...} الآية.

بيان لتعنتهم مع موسى (عليه السلام) ، وذلك في الأصول والفروع:

فأولاً: قوله تعالى: {وَءَاتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا} أي آتاهم الحجج الواضحة على التوحيد والتنزيه بالأدلة العقلية وبالمعجزات التي كانوا يشاهدونها، و{سُلْطَٰنًا} بمعنى الحجة التي يتسلط بها على الخصم، وقد تكون بمعنى الغلبة والقهر، وغالب استعمالها في القرآن بمعنى الحجة والبرهان.

وثانياً: قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمْ} أي قد آتوا اللّه موثقهم وعهدهم الأكيد بالإيمان والطاعة، وذلك حينما خالفوا، فأراد اللّه عقابهم إلاّ أن يتوبوا ويجدّدوا العهد، بأن رفع فوقهم الجبل أو قطعة منه ليقع عليهم فيقتلهم عقوبة لهم على سوء صنيعهم، لكنه رأفةً ورحمةً فتح لهم باب التوبة، بأن يؤتوا الميثاق مرّة أخرى على الإيمان والطاعة فيرتفع عنهم العقاب، فآتوه موثقهم لكن بعد ذلك خالفوا مرّة أخرى!

وثالثاً: قوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا} أي أمرناهم بفروع،

ص: 502

ومن أهمها دخول بيت المقدس من باب حطة ساجدين، وذلك شكراً للّه تعالى على إنجازه وعده بدخولهم الأرض المقدسة التي كتبها اللّه لهم،لكنهم بدلاً عن الشكر كفروا بالنعمة واستهزؤوا بها.

ورابعاً: {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ} أي نهيناهم عن أمور ومن أهمها صيد يوم السبت، لكنهم احتالوا وصادوا ولم ينهوا عن المنكر فعذبهم اللّه بأن مسخهم.

والحاصل أن الحجة كانت واضحة وقد أخذ منهم الميثاق وأمرهم اللّه ونهاهم، لكنهم تعنتوا على نبيهم موسى (عليه السلام) ، فكيف لا يتعنتون مع رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيطلبوا أموراً تعنتاً لا طلباً للحقيقة!

وقوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا} تأكيد ومقدمة للآية اللاحقة حيث يقول: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ...} الآية.

ص: 503

الآيات 155-161

{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا 155 وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَٰنًا عَظِيمًا 156 وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا 157 بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 158 وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا 159 فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا 160 وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوٰاْ وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 161}

155- ولكن مع هذا الميثاق الغليظ فقد خالفوا فاستحقوا عقوبة الدنيا والآخرة {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ} أي بسبب نقضهم، و«ما» للتأكيد، {وَكُفْرِهِم بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} الحجج والبراهين التي جاء بها موسى (عليه السلام) ولذا طلبوا الرؤية وعبدوا العجل، {وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ}، وقوله: {بِغَيْرِ حَقّٖ} تأكيد، إذ لا يكون قتل الأنبياء إلاّ بغير حق، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ} حيث كفروا بآيات اللّه في رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، و«غلف» جمع أغلف، أي كأنها

ص: 504

في غلاف فلا نعي ما تقول، وكأنهم أرادوا نسبة كفرهم إلى اللّه تعالى حيث جعل قلوبهم لا تعي، وقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} الى آخر الآية جملة اعتراضية لبيان أنّ إضلال اللّه لهم إنما كان بسوء صنيعهم، وذلك أنهمكفروا باللّه عناداً فخذلهم اللّه بتركهم وشأنهم، وقد مرّ أن ختم اللّه على قلب المعاند إما بطريقة غيبيّة بجعل علامة عليها يعرفها الملائكة والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، وإما بمعنى أنّ طبيعة أعمال المعاند تؤدي إلى إغلاق قلبه على الهداية، وإما مجاز بمعنى الخذلان. {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا} جمعاً {قَلِيلًا} منهم، والاستثناء إما منقطع، أي فيؤمن غير المعاند منهم وهم أقلية، أو متصل بمعنى إمكان تخلّصهم عن كفرهم إن رجعوا عن العناد لكن لا يرجع منه إلاّ القليل.

156- {وَبِكُفْرِهِمْ} أي وبسبب كفرهم بعيسى (عليه السلام) {وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَٰنًا عَظِيمًا} حيث رموها (عليها السلام) مع رؤيتهم للآيات بتكلم عيسى (عليه السلام) منزِّهاً لها.

157- {وَقَوْلِهِمْ} تبجحاً واجتراءً على اللّه سبحانه {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وقوله: {رَسُولَ اللَّهِ} تشنيع عليهم بأنهم أرادوا قتل رسول اللّه، {وَ} لكن كذبوا في ادعاء قتله إذ {مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أي اشتبهوا فقتلوا رجلاً آخر ظناً منهم أنه عيسى (عليه السلام) ، ولذلك وقع الاختلاف بينهم في قتله {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} في المسيح أنه قتل أم لا {لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ} أي تردد وحيرة من قتله {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} أي لكنهم يتبعون الظن في أنه (عليه السلام) قُتل، {وَ} لكن ظنهم

ص: 505

باطل إذ {مَا قَتَلُوهُ يَقِينَا}.

158- {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} إلى محل كرامته في السماء حياً، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} ذا منعة فأراد حياته فلم يقدروا على قتله {حَكِيمًا} في إبقائهحياً ورفعه.

159- {وَ} هؤلاء اليهود قالوا: إنهم قتلوه لكن {إِن} نافية، أي وليس أحد {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} اليهود {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} بعيسى (عليه السلام) {قَبْلَ مَوْتِهِ} قبل أن يموت عيسى (عليه السلام) ، وذلك إمّا بالمعاينة حين احتضارهم فينكشف الغطاء عن أعينهم فيرون الحقيقة حيث لا ينفعهم الندم، وإمّا بالإيمان به حين نزوله إلى الأرض وصلاته خلف المهدي، {وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ} عيسى (عليه السلام) {عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} يشهد عليهم بأنهم آمنوا أم لا.

160- كل ما ذكر - من نقضهم الميثاق إلى ادّعائهم قتل عيسى (عليه السلام) - كان ظلماً منهم لأنفسهم {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} أي بسبب ظلمهم عاقبناهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فقد {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقد ذكر بعضها في سورة الأنعام.

كما أنهم ظلموا الناس {وَ} ذلك {بِصَدِّهِمْ} منع اليهود الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} بتحريف التوراة وبإلقاء الشبهات على نبوة عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

161- {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوٰاْ} زيادة عن أصل القرض {وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} عن الأخذ، {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ} كأخذ الرشوة والاستيلاء على أموال الناس من غير وجه حق، وكل ذلك صار سبباً لعقوبتهم في الدنيا

ص: 506

بتحريم طيبات عليهم.

{وَ} أما عقوبة هؤلاء في الآخرة بظلمهم أنفسهم والآخرين فقد {أَعْتَدْنَا} هيّأنا {لِلْكَٰفِرِينَ مِنْهُمْ} دون من تاب وأصلح {عَذَابًا أَلِيمًا}.

بحوثالأول: نظم هذه الآيات هو أنهم لمّا سألوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، أجابهم اللّه أولاً بأنّ هؤلاء متعنتون فقد سألوا نبيّهم موسى (عليه السلام) تعنتاً أكبر مما سألوا رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكفروا بالتجسيم وعبادة العجل، ثم إنّ اللّه أخذ المواثيق منهم فأمرهم ونهاهم، لكنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس:

أما ظلمهم لأنفسهم: فبنقضهم المواثيق وذلك بمخالفتهم الشريعة وبكفرهم بآيات اللّه التي أراهم موسى إياها، وبقتلهم الأنبياء التي أرسلوا لهدايتهم من بعد موسى (عليه السلام) ، وبعدم قبولهم البراهين التي أقامها رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث زعموا أنّ قلوبهم غلف، وبكفرهم بالمسيح (عليه السلام) وزعمهم قتله واتهامهم لأمه (عليها السلام) ، ويجمع ذلك كفرهم باللّه تعالى وبأنبيائه (عليهم السلام) .

وأما ظلمهم للناس: فبصدّهم ومنعهم عن سبيل اللّه تعالى سواء باتباع شريعة موسى (عليه السلام) في زمانه، أم بالإيمان بعيسى (عليه السلام) ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبابتزاز أموال الناس بأخذ الربا منهم وبأكل أموالهم بالباطل.

ومن ذلك يتضح سبب الفصل بقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} بين أسباب عقوبتهم، إذ نقض الميثاق إلى زعم قتل المسيح يرتبط بظلمهم

ص: 507

أنفسهم بالكفر باللّه وأنبيائه، وأما الصد عن سبيل اللّه إلى أكل أموال الناس بالباطل فيرتبط بظلمهم الناس.

وكان نتيجة كل ذلك أن عاقبهم اللّه بعقاب دنيوي بتحريم طيبات أحلت لهم وعقاب أخروي بالعذاب الأليم.الثاني: قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ...} الآية.

كان من المواثيق عليهم هو الإيمان باللّه ورسله والعمل بشريعته قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ}(1)،

وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}(2).

ولا يخفى أنّ الإيمان بالأنبياء والعمل بالشريعة داخلان في الميثاق، والكفر بهم وعدم العمل بها من نقض العهد، إلاّ أنّ اللّه تعالى فصّل فيهما من باب عطف الخاص على العام لزيادة بيان شناعة عملهم.

وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم} «الباء» سببيّة، و«ما» للتأكيد، أي بسبب نقضهم، والجملة وما بعدها متعلقه... بقوله تعالى في الآية 160: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}، فالمعنى: أنه قد حرّم عليهم ذلك بسبب نقض العهد

ص: 508


1- سورة البقرة، الآية: 83.
2- سورة آل عمران، الآية: 187.

والكفر... الخ.

وقوله: {وَكُفْرِهِم بَِٔايَٰتِ اللَّهِ} كأن المراد كفرهم بموسى (عليه السلام) حيث أراهم الآيات الباهرات من فلق البحر وضرب الحجر بالعصا وإنزال المنّ والسلوى وإيتائهم التوراة وغيرها، لكنهم عصوا وعتوا فجسّموا وعبدوا العجل.وقوله: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ} من بعد موسى كزكريا ويحيى وغيرهما (عليهم السلام) ، فقتلهم أسلافهم ورضوا هؤلاء بفعلهم، ومن رضي بفعل قوم أشرك معهم، وذلك في المسائل المرتبطة بأصول الدين، والمقصود أنهم كفروا بالأنبياء من بعد موسى (عليه السلام) أيضاً، وقد مرّ بيانه في سورة البقرة.

وقوله: {بِغَيْرِ حَقّٖ} تأكيد، إذ لا يكون قتل الأنبياء إلاّ بغير حق، ولعل المقصود بيان عنادهم وعدم عذرهم وعدم حصول شبهة لهم في قتلهم، قال سبحانه: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولُ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}(1).

وقوله: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ} كأنه لبيان كفرهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث كان يحاججهم بالبينات لكنهم لمّا لم يتمكنوا من دحضها كانوا يقولون: لا نفهم كلامك؛ لأن اللّه أغلق قلوبنا على الحق!

وقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ...} جملة معترضة لردّ زعمهم، فيقال لهم: إنكم تفهمون ما يقال لكم وتعلمون أنه الحق، لكنكم تعاندونه فتكفرون به، ولذا طبع اللّه على قلوبكم بعلامة الكفر، وذلك بخذلانكم وترككم وشأنكم فلا

ص: 509


1- سورة المائدة، الآية: 70.

تنفذ الهداية في قلوبكم.

وقوله: {بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم عناداً.

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} استثناء منقطع، أي من لم يعاند يمكن أن يؤمن لمّا يشاهد الآيات، وهؤلاء هم أقلية منهم، أو استثناء متصل بمعنى عدم استحالة توبة المعاند، فإنه بعناده يطبع اللّه على قلبه، فإذا ترك العناد رفع اللّه الطبعفيهديه، والأول أقرب.

الثالث: قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَٰنًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ...} الآية.

بيان كفرهم بالمسيح (عليه السلام) بعد كفرهم بموسى (عليه السلام) والأنبياء الذين كانوا بينهما وبدأ كفرهم بعيسى (عليه السلام) ببهتان مريم (عليها السلام) إلى مؤامرة قتله ثم التبجّح كذباً بأنهم قتلوه! وذلك تجرؤاً على اللّه تعالى بالكفر برسوله (عليه السلام) وإنكار دلائل نبوته مع أنها آيات باهرات ومعجزات ظاهرات.

وقوله: {وَبِكُفْرِهِمْ} بقرينة ذكر البهتان والتبجح بقتل عيسى كذباً يظهر أنّ المراد من كفرهم هو كفرهم بالمسيح (عليه السلام) ، وقيل: هو مطلق الكفر، فالتكرار للتأكيد وللتمهيد بأن ذلك الكفر استلزم البهتان ومحاولة القتل.

وقوله: {بُهْتَٰنًا عَظِيمًا} البهت والبهتان هو الكذب والافتراء الذي من شناعته يبهت المفترى عليه بحيث لا يدري ما يقول! فكل بهتان عظيم من حيث شناعته، إلاّ أن بهتان مريم (عليها السلام) كان أشنع؛ لأنهم رأوا وسمعوا الآيات بتكلم عيسى (عليه السلام) في المهد، لكنهم مع ذلك استمروا فيه فكان بهتاناً بعناد وكفر باللّه وآياته.

ص: 510

وقوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ...} لا يخفى أنهم لم يكونوا يعتقدون بأنه المسيح ولا أنه رسول اللّه، بل كانوا يتبجحون بقتل عيسى (عليه السلام) مكذبين له في رسالته وكونه المسيح الموعود، لكن اللّه تعالى ذكر الوصف الحقيقي لعيسى (عليه السلام) حين نقل قولهم؛ لأنّ هذه الأوصاف تنطبق على الذي ادعوا قتله حتى مع عدم اعترافهم بها، وهذا أسلوب متعارف في نقل كلامالخصم، وقيل: هذا كلامهم نصاً قالوه تهكماً نظير قوله: {وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}(1) وكقوله: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}(2).

الرابع: قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ}.

حيث زعموا أنهم قتلوا عيسى بالصلب كذّبهم اللّه تعالى في زعمهم بأنهم لم يتمكنوا من قتله؛ لأن اللّه تعالى أراد حياته، بل قتلوا شخصاً آخر ثم اختلفوا بأنه هل كان عيسى أم لا وتردّدوا في ذلك ولم يتبعوا إلاّ الظن.

وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} أي لم يقتلوه بصلب ولا بغيره، فنفي الصلب تأكيد لنفي القتل، وقيل: زعم بعضهم أنهم قتلوه بغير صلب، وزعم آخرون أنهم قتلوه بالصلب فأراد اللّه تعالى نفي مزاعم كلتا الطائفتين.

وقوله: {وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ} أي التبس الأمر عليهم فاشتهبوا بين المسيح وشخص آخر، ونائب الفاعل في {شُبِّهَ} هو الشأن والأمر.

وكان من قصته أنّ اليهود لمّا ضاقوا ذرعاً بعيسى (عليه السلام) أرادوا التخلّص

ص: 511


1- سورة الحجر، الآية: 6.
2- سورة الشعراء، الآية: 27.

منه، فوشوا عليه عند السلطة الرومانية الحاكمة، فأرسلت جنوداً ليقتلوا عيسى، فرفع اللّه تعالى عيسى (عليه السلام) إلى السماء، فأخذوا شخصاً آخر وصلبوه، فقيل: إنّ اللّه تعالى ألقى شبه المسيح (عليه السلام) على وجه هذا الشخص، وقيل: بل كان اشتباه الجنود لعدم معرفتهم بعيسى ولأنّ الصلب كان قبل تبلّج نور الصباح، فاعتقلوا ذلك الشخص متوهمين أنه المسيح (عليه السلام) فالاشتباهفي خطئهم لا في إلقاء الشبه.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إنّ عيسى (عليه السلام) وعد أصحابه ليلة رفعه اللّه إليه، فاجتمعوا عند المساء - وهم اثنا عشر رجلاً - فأدخلهم بيتاً ثم خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء، فقال: إنّ اللّه أوحى إليَّ أنه رافعي إليه الساعة ومطهري من اليهود، فأيكم يُلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي، فقال شاب منهم: أنا يا روح اللّه، قال: فأنت هو ذا - إلى أن قال - ثم رفع اللّه عيسى (عليه السلام) إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه. ثم قال: إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم... وأخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى (عليه السلام) ، فقتل وصلب»(1).

الخامس: قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ...} الآيتين.

لأنّ المقتول لم يكن عيسى (عليه السلام) وقد أخبر الحواريون أنّ اللّه رفعه إلى السماء، لذلك اختلفت اليهود والنصارى وغيرهم في أصل قتله أولاً، ثم في كيفية القتل، فعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «بعث اللّه عيسى بن مريم واستودعه

ص: 512


1- تفسير القمي 1: 103.

النور والعلم والحكمة وجميع علوم الأنبياء قبله وزاده الإنجيل - إلى أن قال - حتى طلبته اليهود، وادّعت أنّها عذّبته ودفنته في الأرض حياً، وادّعى بعضهم أنهم قتلوه وصلبوه، وما كان اللّه ليجعل لهم سلطاناً عليه، وإنّما شُبّه لهم، وما قدروا على عذابه ودفنه ولا على قتله وصلبه»(1).وقوله: {اخْتَلَفُواْ فِيهِ} أي في عيسى، والمقصود الاختلاف في قتله، هل قتل أم كان المقتول غيره، وهل كان قتله بالصلب أم بطريقة أخرى، والذين اختلفوا هم اليهود والنصارى.

وقوله: {لَفِي شَكّٖ مِّنْهُ} أي من القتل، والمقصود تردّدهم في ذلك، وهذا التردد قد يجامع الظن، كما أنّ الظن قد يكون بمعنى الوهم أو الشك.

وقوله: {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} تأكيد لشكّهم، أو المقصود أنه شك لم يرقَ إلى درجة العلم.

وقوله: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} استثناء منقطع، أي ليس لهم به علم لكنهم يتبعون الظن في أصل قتله وفي كيفية القتل.

وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا} نفي قاطع لزعمهم، وهذا تأكيد آخر.

ولعل كثرة التأكيد والنفي هنا لأن متأخري النصارى واليهود صار قتله عندهم عقيدة جازمة، بل بنى النصارى دينهم على الفداء، بمعنى أنهم زعموا أنّ المسيح (عليه السلام) قتل فداءً للبشرية لكي لا يعاقبوا بذنب آدم (عليه السلام) وبذنوبهم، قيل: زعموا أنّ في ذلك جمعاً لعدل اللّه ورحمته، فعدم جزاء المذنبين ظلم حسب زعمهم وجزاؤهم يُنافي الرحمة، فبالفداء تحمّل

ص: 513


1- كمال الدين 1: 225.

المسيح (عليه السلام) جزاء جميع المذنبين حسب زعمهم، وأما متأخرو اليهود فكانوا يتبجحون دائماً بقتلهم عيسى (عليه السلام) مع الافتراء عليه وعلى أمه، قيل: يريدون بذلك إبطال رسالته، بأنه إن كان رسول اللّه لم يُقتل!! واللّه سبحانه في هذه الآية يؤكد تأكيداً بليغاً بعدم قتله، وأنّ الذين يدعون ذلك لا علم لهم بل مجرد اتباع للظن!

وقوله: {يَقِينَا} يرتبط بالنفي، فالمعنى عدم تمكنهم من قتله أمر يقيني لا مرية فيه.

وقوله: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أي إلى محل كرامته في السماء الرابعة، والآية نص في رفعه حياً بروحه وجسده، إذ لو كان المراد رفع الروح فقط لم يكن ذلك خاصاً بعيسى (عليه السلام) إذ أرواح المؤمنين ترفع أيضاً، ولم يكن ردّاً على زعمهم بقتله وصلبه، فالإضراب ب {بَل} إنما يصح لو كان الرفع بجسمه وروحه.

وقوله: {عَزِيزًا حَكِيمًا} أي له المنعة والغلبة لذلك غلبت إرادته إرادة من أراد قتله، وكان ذلك بحكمة من اللّه تعالى، حيث أراد أن تكون حياة عيسى (عليه السلام) من أولها إلى آخرها آيات من آياته من ولادته من غير أب مروراً بمعاجزه، وانتهاءً برفعه حياً إلى السماء، وأيضاً أراد اللّه ادّخاره ليوم ظهور المهدي، حيث ينزل من السماء ويصلي خلف المهدي، فيؤمن حينذاك اليهود والنصارى بالإسلام؛ لأنّ اليهود ينتظرون المسيح والنصارى يؤمنون به، فلما ينزل بآيات باهرات يعلم الجميع أنه المسيح ويدعوهم إلى الإسلام عند ذاك يؤمنون.

ص: 514

السادس: قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.

{إِن} نافية، والنفي مع الاستثناء يفيد العموم، والضميران في {بِهِ} و{مَوْتِهِ} يرجعان إلى عيسى (عليه السلام) أي جميع أهل الكتاب - والمراد هنا اليهود منهم - يؤمنون بعيسى (عليه السلام) قبل أن يموت بعد نزوله إلى الأرض، أما الذين يكونون حين نزوله فيؤمنون به إيماناً صحيحاً مقبولاً حيث يدخلونالإسلام ببركته، وأما الذين يموتون قبل نزوله، كاليهود الذين ماتوا من حين رفعه إلى يومنا هذا وإلى يوم نزوله، فهؤلاء حين الاحتضار ورفع الغطاء تنكشف لهم الحقيقة ويؤمنون به حيث لا ينفع الإيمان، كما مرّ في قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَِّاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الَْٰٔنَ}(1).

وقيل: ضمير {قَبْلَ مَوْتِهِ} يرجع إلى الكتابي، وهو خلاف ظاهر الآية بعود الضمائر قبله وبعده إلى عيسى (عليه السلام) ، وإن كان لا يختلف المعنى بذلك، بل حيث إنّ الكلام حول زعمهم قتل عيسى وصلبه ونفي اللّه تعالى ذلك باليقين فذكر موت عيسى (عليه السلام) بعد ذلك أنسب.

وغير خفي أنّ الروايات الكثيرة دلت على حضور الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأمير (عليه السلام) عند كل محتضر، فيبشران المؤمن بالجنة والكافر بالنار(2)، وحينئذٍ تنكشف الحقائق لجميعهم، ومن ذلك حياة عيسى وحقانية الإسلام،

ص: 515


1- سورة النساء، الآية: 18.
2- بحار الأنوار 6: 191.

فكلهم يؤمنون بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبما جاء به - والذي منه حياة عيسى (عليه السلام) - حيث لا ينفعهم هذا الإيمان، لكن ليعلموا سبب عذابهم مذعنين بكفرهم، ومن ذلك يتضح أنّ الروايات التي أرجعت ضمير {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} إلى رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1) إنما هي من التأويل وبيان أنّ إيمانهم بحياة عيسى (عليه السلام) إنما هو بعد إيمانهم برسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

السابع: قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}.

أي في يوم القيامة يكون عيسى (عليه السلام) شاهداً على جميع أهل الكتاب، فيشهد على إيمان مؤمنهم وعلى كفر كافرهم وعلى سائر أعمالهم، وهذا لا ينافي قوله تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ}(2)؛ وذلك لأنّ آية المائدة إنما هي في شهادته عليهم في هذه الدنيا، وهي بمعنى الرقيب عليهم؛ لئلا تنحرف عقائدهم، وهي شهادة خاصة بفترة وجوده معهم وعلى من عاصرهم، وأما هذه الآية فهي الشهادة في الآخرة وهي الشهادة على الجميع؛ لأنّ اللّه تعالى يُريه أعمالهم جميعاً.

الثامن: قوله تعالى: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}.

لمّا أراد بيان متعلق قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ...}، وقد طال الفاصل، كرّر الكلام موجزاً بقوله: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} لأنّ النقض والكفر

ص: 516


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 3: 262؛ عن تفسير العياشي.
2- سورة المائدة، الآية: 117.

وتكذيب الأنبياء وسائر ما ذكر كلها من ظلمهم لأنفسهم، فأوجزها في هذه الكلمة، ثم ذكر المتعلق بقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وهذه عقوبتهم الدنيوية، نظير حبس المجرم، حيث تقيّد حريته بسبب ارتكابه للجرم، فكانت القاعدة فيه حريته واختياره لكن لما أجرم تغيّرت المصلحة إلى تقييده وحبسه، وهكذا في الجرائم الاجتماعية العامة تحدث مصلحة في حكم جديد يشمل حتى البريء، مثلاً لما تكثر حوادث السيارات في بعض الطرق بسبب سوء سياقة بعض السواق يتمُّ غلق الشارع على الجميع مثلاً؛ لأنّ منع الحوادث أهم من السماح للسياقة، وهنا لما ظلم أكثرهم بالظلم المذكور لذلك عمّهم اللّه تعالى بتشريع تحريم بعض الطيبات، ومنها ما ذكرها في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٖ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ}(1).

و(الطيّب) لغةً هو ما ترغب النفس إليه، وشرعاً هو ما حلّله الشرع، وقد مرّ تفصيله في سورة البقرة الآية 267 فراجع.

التاسع: قوله تعالى: {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوٰاْ وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ...} الآية.

هذه أيضاً من أفعالهم التي استوجبوا بها عقوبة الدنيا بتحريم طيبات عليهم وعقوبة الآخرة بالعذاب، ولعلّ الفصل بين هذه وبين أفعالهم السابقة لأجل أنّ أفعالهم صنفان: صنف هي ظلم لأنفسهم ذكرت قبل قوله:

ص: 517


1- سورة الأنعام، الآية: 146.

{فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ}، وصنف ظلمهم للناس ذكرت بعده، أو أنّ الأولى في أصول الدين وهذه في فروعه بعد حمل الميثاق على الأصول وسبيل اللّه على الفروع!

وقوله: {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} عبر تحريف التوراة وإثارة الشبهات الفكرية والمؤامرات السياسية وجحد نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحو ذلك.

وقوله: {وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} قيل: من تحريفاتهم أنهم غيرّوا النهي، ولذاأكد اللّه تعالى أنّ الربا كان منهياً عنه في شريعة موسى (عليه السلام) ومع ذلك خالفوا النهي فأخذوا الربا من الناس، وقد مرّ تفصيل الربا في سورة البقرة الآية 275، وسورة آل عمران الآية 130، فراجع.

وقوله: {بِالْبَٰطِلِ} لأنّ الأكل إن كان بحق فلا إشكال فيه كمن يقبل الهدية، إلاّ أنّ هؤلاء كانوا يأخذون الرشوة لتغيير حكم اللّه، وكانوا يفرضون على الناس ضرائب ما أنزل اللّه بها من سلطان ونحو ذلك، وقد مرّ في سورة البقرة الآية 188 الكلام حول أكل المال بالباطل فراجع.

وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَٰفِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بيان للعقوبة الأخروية بعد عقوبة الدنيا بتحريم بعض الطيبات عليهم، وإنما قيّده بالكافرين؛ لأنّ البعض منهم تاب وآمن، والبعض القليل من الأول لم يخالف، وكان ملتزماً بالشريعة، ولأنّ العقوبة الدنيوية بتحريم الطيبات كانت عامة على الجميع فبيّن أن العقوبة الأخروية خاصة بالكفار منهم.

ص: 518

الآيات 162-166

اشارة

{لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ أُوْلَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا 162 إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٖ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيْمَٰنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ زَبُورًا 163 وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا 164 رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا 165 لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُۥ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَٰئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا 166}

162- المتعنتون الكفرة من أهل الكتاب يسألونك أن تنزل عليهم كتاباً من السماء {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي الذين لهم ثبوت فيه فمعرفتهم حقيقية {مِنْهُمْ} من أهل الكتاب {وَالْمُؤْمِنُونَ} من أهل الكتاب أو عامة المؤمنين منهم ومن غيرهم، هؤلاء {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} القرآن {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} من الكتب السماوية جميعاً، لا كاليهود الذين يزعمون إيمانهم بالتوراة مع كفرهم بالإنجيل والقرآن، {وَ} أعني بالراسخين والمؤمنين: {الْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ} والنصب على المدح، {وَ} هؤلاء هم

ص: 519

{الْمُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ} فيعبدون اللّه ويؤدون الحق المالي الذي عليهم، {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} إيماناً حقاً، فرسوخهم في العلم والتزامهم بالصلاة والزكاة وإيمانهم كان سبباً في اتّباع الحق ولذا آمنوا بماأنزل على الأنبياء جميعاً فصدقوا رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {أُوْلَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} في الآخرة {أَجْرًا عَظِيمًا}، لا كالمكذبين الذين إيمانهم نفاق وصلاتهم رياء ويبتزون الناس أموالهم بالربا والباطل والرشوة ونحو ذلك.

163- وأما الجواب الثاني عن سؤالهم إنزال كتاب من السماء فهو أنّ النبوة لا تتوقف على ذلك، بل هو أحد الطرق، والوحي والتكليم طريقان آخران، ف {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٖ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} أي الأنبياء من ذرية يعقوب {وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيْمَٰنَ} فكل هؤلاء لم ينزل اللّه عليهم كتاباً من السماء، فشأن رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كشأنهم فكيف آمن أهل الكتاب بهم ولم يؤمنوا به؟ {وَءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ زَبُورًا} من غير إنزاله عليه دفعة بل أنزل عليه بالوحي تدريجاً وقد آمنوا به.

164- {وَ} أرسلنا {رُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} في القرآن {وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} فقد أرسلناهم بالوحي لا بكتاب من السماء، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا} بخلق الصوت فسمعه موسى (عليه السلام) بلا واسطة، فلم تكن إثبات نبوة موسى (عليه السلام) منحصرة في إنزال كتاب من السماء، بل كانت هناك طرق أخرى ومنها تكليم اللّه تعالى له.

165- ومهمة أولئك الرسل كمهمة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقد أرسل

ص: 520

اللّه {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} لطفاً من اللّه تعالى للناس {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} بأنه تعالى إن كان خلقهم ليرحمهم فلماذا لم يدلّهم على الطريق؟ وحيث إنّ الرسل بيّنوا كل ما يقرّب الناسإلى الجنة ويبعّدهم عن النار فلا حجة بعد إرسالهم على اللّه، بل له الحجة البالغة، فلا حجة للمتعنتين من أهل الكتاب بعد إرسال محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} غالباً بالحجة وقادراً على الثواب والعقاب {حَكِيمًا} في إرسال الرسل ومنهم رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

166- وهذه البراهين والحجج لم تنفع المتعنتين من أهل الكتاب ولا ضرر في ذلك على الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فهؤلاء لم يشهدوا {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} عبر إعجاز القرآن {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} أنه الحق؛ وذلك لأنه {أَنزَلَهُۥ بِعِلْمِهِ} بعلم اللّه بما يجهله الناس فلا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن، {وَالْمَلَٰئِكَةُ يَشْهَدُونَ} أيضاً وإن لم يعلم الناس بشهادتهم، أو إنّ اللّه أخبر عنها في كتابه المعجز، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} فلا حاجة إلى شهادة أهل الكتاب، إذ لا نفع من شهادتهم ولا ضرر من كتمانهم الشهادة.

بحوث

الأول: بعد الانتهاء من الجواب الأول عن سؤالهم تنزيل كتاب من السماء بأنّ سؤالهم تعنتي ولا يريدون الإيمان...

بعد ذلك يأتي الجواب الثاني الذي حاصله أنّ القرآن وحي من اللّه تعالى كما أوحى إلى سائر الأنبياء وفيه دلالة الصدق بإعجازه، كما أنهم يصدّقون بالزبور وكان تنزيله كتنزيل القرآن بوحي وبالتدريج، فإذا كانت الطريقة

ص: 521

واحدة فلماذا يفرّقون بين الأنبياء؟! كما أنّ دلائل نبوة موسى (عليه السلام) لم تنحصر في تنزيل التوراة عليه دفعة، بل كلّمه اللّه تعالى أيضاً في مواطن متعددة.

والحاصل أنّ اللّه أرسل الرسل مع الحجة التامة على صدقهم، ومع وجود حجة كافية لا معنى للإجابة على طلبهم التعنتي بمعجزة خاصة مع العلمبأنها لا تنفعهم، إذ لو كانت المعاجز تنفعهم لنفعهم إعجاز القرآن الكريم كما قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَٰتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْأيَٰتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا۠ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٖ يُؤْمِنُونَ}(1).

الثاني: قوله تعالى: {لَّٰكِنِ الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ...} الآية.

لمّا ذمّ اللّه تعالى الكافرين من اليهود وأنذرهم بالعذاب، بيّن أنّ هناك علماء ومؤمنين فيهم قد آمنوا وعملوا الصالحات وبشّرهم بالأجر العظيم، وهذا كالتمهيد للجواب الثاني.

قوله: {الرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} الرسوخ: الثبات، والمقصود الذين كان علمهم علماً حقيقياً وهو الذي يظهر أثره على أعمال الإنسان، فهؤلاء لرسوخهم في العلم يؤمنون بجميع ما أنزله اللّه على أنبيائه من غير فرق بينهم، ولا تؤثر فيهم الشهوات والمصالح، وروي أنّ: «العلم نور يقذف في القلب»(2)، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(3)، وأما العالم

ص: 522


1- سورة العنكبوت، الآية: 50-51.
2- منية المريد: 167.
3- سورة فاطر، الآية: 28.

غير العامل فليس بعالم حقيقة، بل جامع معلومات.

وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ} المقصود إما المؤمنون من أهل الكتاب، وعطفه على {الرَّٰسِخُونَ} لبيان أنّ الذين يصدّقون الرسول من أهل الكتاب صنفان: علماؤهم الراسخون، والمؤمنون منهم الذين صدقوا في إيمانهمحتى وإن لم يكونوا من علمائهم، وإما المؤمنون أعم من أهل الكتاب ومن غيرهم، فلبيان أنّ معرفة صدق الرسول لا يحتاج إلى رسوخ في العلم؛ لأنّ دلائله واضحة وظاهرة للجميع.

وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ...} خبر لقوله: {الرَّٰسِخُونَ} أي الراسخون والمؤمنون يصدقون بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة عليه.

وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَوٰةَ...} نصب (المقيمين) على المدح؛ وذلك لأنه سبحانه لمّا ذكر الراسخين والمؤمنين أراد بيان أوصافهم التي بسببها آمنوا بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واستحقوا الأجر العظيم بها، يقابل بتلك الأوصاف أوصاف الكفار منهم، فذكرهم بمدح أوصافهم، والمعنى: وأمدح المقيمين الصلاة وهم المؤتون للزكاة... الآية، فيكون عطفاً على الخبر أي قوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ...}، ولو كان يرفع فيقول: (والمقيمون) لكان ظاهره أنه عطف على {الرَّٰسِخُونَ} وهو يفيد تغاير هؤلاء مع الراسخين والمؤمنين، مع أنّ المقصود وصف الراسخين والمؤمنين بهذه الأوصاف، فتأمل.

والحاصل أنّ عملهم بالصالحات وإيمانهم القلبي صارا سبباً لتصديقهم لرسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمّا رأوا الآيات في القرآن الكريم، فأولئك يصدون عن سبيل اللّه وهؤلاء يقيمون الصلاة، وأولئك يأكلون الأموال بالباطل

ص: 523

ويأخذون الربا وهؤلاء يؤتون الزكاة، وأولئك يكفرون باللّه وبأنبيائه وهؤلاء يؤمنون باللّه وبما أنزل إلى الأنبياء جميعاً، ومصير أولئك إلى العذاب الأليم وهؤلاء إلى الأجر العظيم.

وحيث كان الغرض هو بيان تصديقهم للقرآن الكريم لذلك قدّم أعمالهمبتصديق القرآن والصلاة والزكاة وأخّر ذكر إيمانهم باللّه وباليوم الآخر.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٖ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ...} الآية.

بيان أنّ رسول اللّه محمداً (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ليس ببدع من الأنبياء، فكما أوحى اللّه إليهم كذلك أوحى إليه، وكما أنزل الكتاب على بعضهم بالوحي وتدريجاً كذلك أنزل القرآن على رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وكما كلّم موسى تكليماً كذلك كلّمه في المعراج! فكيف آمنوا بهم وجحدوه؟!

ثم إنّ اللّه تعالى ذكر أسماء أنبياء يعترف اليهود بنبوتهم، وذكر في عدادهم إسماعيل وعيسى‘ وإن كانت اليهود لا تعترف بنبوتهما، وذلك لبيان عدم الفرق بين أنبياء اللّه كلهم سواء اعترفوا بهم أم لا.

وقوله: {وَءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ زَبُورًا} والزبور كتاب داود أنزله اللّه عليه بالوحي وبالتدريج ولا تزعم اليهود أنّه نزل في ألواح وأوراق مجتمعة، بل نزل بالوحي ونجوماً، فلا فرق بينه وبين القرآن من هذه الجهة، وأصل الكلمة من (زَبَرَ) بمعنى كتب، قيل: وأصلها من الكتابة على الحجر ثم استعملت في كل كتابة(1).

ص: 524


1- راجع معجم الفروق اللغوية: 265.

الرابع: قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ...} الآية.

أي غير هؤلاء المذكورين هناك رسل ذكرهم اللّه في القرآن الكريم كيوسف ولوط‘، ورسل لم يذكرهم اللّه في القرآن لعدم وجود سببإلى ذكرهم، فإنّ الرسل ثمانية آلاف، ففي بني إسرائيل أربعة آلاف، والباقون في سائر الناس، كما أنّ الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً حسب بعض الروايات(1)، ولم يكن هناك داعٍ لذكرهم في القرآن جميعاً؛ لأنّ القرآن كتاب هداية وفي ذكر من ذكروا من الأنبياء والرسل فيه وفي قصصهم الكفاية، والمقصود أنّ هؤلاء جميعاً لم ينزّلوا مكتوباً من السماء ومع ذلك كانت لهم المعاجز الدالة على صدقهم!

وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا} لعل المقصود أنّ بدء رسالة موسى (عليه السلام) كان بتكليم اللّه إياه وهو في طريق عودته من مدين إلى مصر، ولما جاء إلى بني إسرائيل وإلى آل فرعون بالعصا واليد البيضاء وغيرهما كان ذلك آية نبوته، فصدّقه بنو إسرائيل مع أنّ ذلك لم يكن كتاباً من السماء، وإلى أن خرجوا من مصر وعبروا البحر كانوا يرون الآيات والمعاجز الأخرى، وفي أواخر حياة موسى نزلت التوراة في ألواح! فلم تكن نبوته ورسالته في بداياتها متوقفة على إنزال الكتاب!

وقيل: إنّ المقصود بيان أنّ طريقة تعليم الأنبياء كانت إما بالوحي عبر ملك أو مباشرة أو بوحي الكتاب أو بالتكليم، وكل ذلك قد جمعه اللّه في

ص: 525


1- راجع بحار الأنوار 11: 41.

رسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا وجه لإنكار نبوته مع تصديق نبوتهم.

في حجية العقل والرسل

الخامس: قوله تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ...} الآية.

لعل المقصود بيان أنّ الحجة تامة على هؤلاء المكذبين المتعنتين، إذ إنّاللّه أرسل رسله بالآيات وهؤلاء الرسل يحذرون الناس من مغبة الكفر والعصيان ويبشرونهم إن آمنوا وأطاعوا، فلا تبقى حجة لأحد بعد إرسال الرسل، فلا يتمكن هؤلاء المتعنتون من الاعتذار عن عدم إيمانهم بأنهم طلبوا المكتوب فلم ينزل، إذ يقال لهم: لقد جاءتكم الآيات الكافيات فلم تؤمنوا عتواً وظلماً لا لنقصان الحجة!

وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} بيان سبب الإرسال؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى خلق الناس ليرحمهم، وطريق الرحمة التامة متوقف على عبادتهم عبادة صحيحة، ولا يمكنهم ذلك إلا بتعليم من اللّه تعالى عبر رسله، ولولا إرسال الرسل لم يعرفوا فيكون عذابهم على عدم المعرفة عقاباً من غير بيان، وهو قبيح عقلاً واللّه سبحانه منزه عنه، قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ}(1)، فأتم اللّه الحجة كما قال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ }(2).

سؤال: العقل حجة اللّه تعالى أيضاً، وهو يدل على اللّه وعلى قبح الظلم

ص: 526


1- سورة طه، الآية: 134.
2- سورة الأنعام، الآية: 149.

وحسن العدل فهو حجة قبل الرسل، إذ من خالف عقله لا حجة له ولا محذور في عقوبته!

والجواب:

أولاً: أنّ من لطف اللّه تعالى عدم العقاب بمخالفة العقل قبل إرسالالرسل فعدم العقاب لا لعدم الحجة، بل للرحمة.

وثانياً: أنّ أكثر التفاصيل لا يصل إليها العقل، فلا بد من بيانها عبر الرسل، ففي هذه التفاصيل لا حجة قبل إرسالهم والعذاب على المخالفة فيها قبيح، فالعقل يدل على وجود اللّه وعلى كماله وعدم نقصه، وعلى صدق الرسول الذي جاء بالمعجزة، وعلى قبح الظلم وحسن العدل، لكنه يضلّ كثيراً في معرفة اللّه التفصيلية وكذا في مصاديق العدل والظلم، وبعد أن دلّ العقل النظري على وجود اللّه وعلى إرساله الرسل وصدق هذا الرسول عبر المعجزة، يدل على لزوم أخذ التفاصيل منه واتباعه كاملاً.

السادس: قوله تعالى: {لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُۥ بِعِلْمِهِ...} الآية.

بعد ذكر الاحتجاج على أهل الكتاب ودحض سؤالهم وبيان الواقع يتم بيان أنّ هؤلاء متعنتون معاندون لا تنفعهم الحجج، وإنما تذكر لإتمام الحجة عليهم ولدفع شبهاتهم التي قد تخدع بعض الناس، ولمّا لم تنفعهم الحجج ولم يشهدوا على نبوة رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقال لهم: لا حاجة إلى شهادتكم بعد شهادة اللّه وملائكته.

وشهادة اللّه تعالى هي بإجراء المعجز على يد رسوله، فقوله: {أَنزَلَهُۥ

ص: 527

بِعِلْمِهِ} إشارة إليه، وفي الكشاف: أنزله متلبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة؛ لأنه بيان للشهادة، وأنّ شهادتهبصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة(1).

والمقصود: أنّ القرآن إنما هو من علم اللّه تعالى - لأنّ منشأ صفات الفعل هي صفات الذات - وعلم اللّه تعالى لا حدّ له فخلق القرآن بكيفية هي فوق قدرة البشر بأن يأتوا بمثله.

ويحتمل أن يكون الغرض تسلية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حتى وإن لم يعلم الناس بالشهادة، بأنه يشهد اللّه الخالق وتشهد الملائكة الذين هم أفضل من هؤلاء الكفار، ومع شهادتهم لا تحتاج إلى شهادة هؤلاء الكفرة، بل يكفيك شهادة اللّه تعالى لك.

وقوله: {وَالْمَلَٰئِكَةُ يَشْهَدُونَ} في التقريب: لعل ذكر الملائكة تشريفي، أي بشهادة واقعية، وإن لم يكن لها أثر، إنّ الأثر نصرة الملائكة كما رأوا في يوم بدر، وكما ظهر بعض الآثار لنزول الملائكة(2).

وقيل: إنّ شهادتهم تعرف عبر إخبار اللّه تعالى، فقد علمنا أنّ القرآن كلام اللّه حيث إنه معجز، والقرآن يدل على شهادتهم! والأقرب ما ذكرناه بأنّ ذكرهم تسلية للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

ص: 528


1- الكشّاف 1: 455.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 586.

الآيات 167-170

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلَا بَعِيدًا 167 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا 168 إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا 169 يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فََٔامِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا 170}

167- وحيث علمتم أنّ الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حق وقد شهد اللّه بما أنزل إليه ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} من أهل الكتاب {وَصَدُّواْ} منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وهو رسالة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وما أنزل عليه {قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلَا بَعِيدًا} عن طريق الحق حيث عاندوا بعد تمام الحجة.

168- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر أو ظلموا الناس بالصدّ، أو ظلموا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعدم تصديقه وظلموا آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو كل ذلك {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} كفرهم وعصيانهم لعدم قابليتهم لذلك فلا حكمة فيه {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} إلى الإيمان باللطف بهم، أو إلى الجنة في يوم القيامة.

169- {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} استثناء منقطع، أي يخذلهم بالاستمرار في طريق الضلالة، أو يسوقهم إلى طريق النار يوم القيامة {خَٰلِدِينَ فِيهَا} في

ص: 529

جهنم {أَبَدًا} دائماً، {وَكَانَ ذَٰلِكَ} خلودهم في النار {عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لايتمكنون من النجاة منهم لقدرته وسلطانه.

170- ثم يوجه اللّه تعالى الخطاب لعامة الناس لئلا ينحرفوا كما انحرف أكثر أهل الكتاب {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} أي بدين الحق أو مجيئاً بالحق {مِن رَّبِّكُمْ}، ومن الحق أمره بولاية الأئمة (عليهم السلام) ، {فََٔامِنُواْ} وأتوا {خَيْرًا} أو آمنوا إيماناً خيراً {لَّكُمْ} بصالحكم، {وَإِن تَكْفُرُواْ} فلا تضروا اللّه شيئاً، إذ لا يحتاج إليكم {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} وأنتم في قبضته وقد شاء اختياركم فلا يضره كفركم، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بما يصلحكم عمّا يفسدكم وكذا بأعمالكم، {حَكِيمًا} في خلقكم واختياركم وتكليفكم وجزائكم.

بحوث

الأول: الظاهر أنّ هذه الآيات كالتتمة للفصل الذي يذكر فيه اليهود وأحوالهم وتلخيص لأفعالهم، ثم بيان جزائهم في الدنيا والآخرة، وتحذير عامة الناس عن الاقتداء بهم، ففي الآية الأولى بيان لسوء صنيعهم بالناس عبر صدهم عن سبيل اللّه، وفي الثانية بيان لظلمهم أنفسهم بكفرهم، أو أنّ الآية الأولى بيان جزائهم الدنيوي بالضلال عن طريق الحق بأن يخذلهم اللّه فيتركهم لعنادهم، والثانية مصيرهم في الآخرة بالخلود في جهنم، أو الثانية تأكيد للأولى وتعليل لها بأن يكون الظلم هو الصد، وأنهم ضلوا؛ لأنّ اللّه لم يغفر لهم ولم يهدهم الصراط المستقيم.

الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

ص: 530

أي جمعوا بين الضلال والإضلال، فكفروا في أنفسهم وصدوا غيرهمعن الإيمان، والصد تارة يكون بالمنع مباشرة بإثارة الشبهات والأكاذيب وتحريف الكتاب ونحو ذلك، وتارة يكون بطريق غير مباشر، كأن يكون مقتدى للناس فلا يتبع الحق فيتوهم الناس أنّ عدم إيمانه دليل على بطلان الحق، أو بتزيين أعمالهم الباطلة، أو بتخويف الناس ونحو ذلك.

وقوله: {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} بيان أنّ رسالة الرسول وما أنزل إليه هي طريق اللّه تعالى الذي ارتضاه لخلقه وأمرهم باتباعه.

وقوله: {ضَلَٰلَا بَعِيدًا} أي عن طريق الحق؛ لأنّ المعاند لا يرجى له الرجوع إلى الطريق السوي المنجي.

الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا}.

إن كان المقصود بالظلم هنا هو الصد عن سبيل اللّه، حيث إنه ظلم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وظلم للناس المصدودين وظلم لأنفسهم، فالآية تأكيد للآية السابقة، وهذا التأكيد للتحذير الشديد عن عدم الإيمان بالرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمنع عنه، مع تفريق الجزاء في الآيتين ببيان الضلال ثم عدم الغفران والخلود في النار.

وإن كان المقصود من الظلم ظلم النفس، فالآيتان لبيان مطلبين، فالأولى لبيان ما صنعوه بالناس بصدهم عن سبيل اللّه وضلالهم في الدنيا، والثانية لبيان ما صنعوه بأنفسهم حيث بخسوها حقها ومصيرهم في الآخرة.

وقوله: {كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} أي جمعوا بين الوصفين: الكفر والظلم، وأما

ص: 531

لو ظلموا من غير كفر كعصاة المسلمين فهؤلاء قد يغفر اللّه لهم بالشفاعة أوبفضله أو بأعمالهم الصالحة حتى وإن لم يتوبوا، وقد مرّ بعض الكلام في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}(1)، وأما الكفر من غير ظلم فغير متصور، إذ كل كفر ظلم للنفس، نعم قد لا يكون ظلماً للغير إن لم يتعد إلى غير الكافر.

وقوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} إما بمعنى طريقاً إلى الإيمان كما قال: {وَقَالَ الَّذِي ءَامَنَ يَٰقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}(2)؛ وذلك لأنّ المعاند يختم اللّه على قلبه ويتركه حتى يضل ولا يلطف به الألطاف التي تؤدي به إلى الهداية، قال سبحانه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(3)، وإما بمعنى طريقاً إلى الجنة كما قال: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}(4).

الرابع: قوله تعالى: {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا...} الآية.

استثناء منقطع؛ لأن قوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} يراد به طريق الإيمان أو الجنة، فالمعنى لكن يسوقهم إلى طريق جهنم كما قال: {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَٰجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ

ص: 532


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- سورة غافر، الآية: 38.
3- سورة آل عمران، الآية: 86.
4- سورة محمد، الآية: 4-5.

الْجَحِيمِ}(1)، وفي المفردات: الهداية: دلالة بلطف... إن قيل: كيف جعلتالهداية دلالة بلطف وقد قال اللّه تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ الْجَحِيمِ}، {وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ}(2)؟ قيل: ذلك استعمل فيه استعمال اللفظ على التهكم مبالغةً في المعنى(3).

وقوله: {خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} إنّ الخلود في جهنم وعذابها يساويان كفرهم وسيئاتهم، فهما مثلها من غير زيادة، وقد تمّ بيان وجه ذلك مراراً، وفي التقريب: وقد يتساءل البعض: ولِمَ العذاب الدائم مقابل العمل الذي كانت له مدّة محدودة؟

والجواب: أنّ العذاب للشر الكامن الذي كان له مظهر، وذلك باقٍ أبداً، ولذا قال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}(4).

الخامس: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ...} الآية.

تعميم للخطاب إلى جميع الناس بعد كون الكلام مع أهل الكتاب، بإرشادهم وهدايتهم إلى الصواب؛ لئلا يتأثروا بأفعال أهل الكتاب ولا يسلكوا سبيلهم.

وقوله: {بِالْحَقِّ} فليس باطلاً لتُعذروا في تركه، إذ لا يعقل أن يصدر الباطل من اللّه سبحانه وتعالى فهو الحق ومنه الحق، و{بِالْحَقِّ} إما بمعنى

ص: 533


1- سورة الصافات، الآية: 22-23.
2- سورة الحج، الآية: 4.
3- مفردات الراغب: 835.
4- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 587. والآية: 28 في سورة الأنعام.

الدين الحق، أو متعلق بمحذوف أي مجيئاً بالحق، فليس إرساله بالباطل.

وقوله: {مِن رَّبِّكُمْ} تأكيد، إذ لا يكون رسولاً ولا يكون بالحق إلاّ إذاكان من اللّه سبحانه، واختيار كلمة الرب لعلّه لبيان سبب الإرسال وبيان أنّ اللّه تعالى يريد صلاحكم.

وقوله: {خَيْرًا لَّكُمْ} النصب إما على المفعول المطلق، أي آمنوا إيماناً خيراً، أو مفعول لمحذوف، أي آمنوا وأتوا خيراً، ويحتمل أن يكون مفعول لآمنوا بنزع الخافض، أي آمنوا بالخير، وقوله: {لَّكُمْ} للدلالة على أنّ نفع الإيمان إليكم، فإنّ اللّه تعالى غني عنكم.

وقوله: {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ...} قائم مقام الجزاء وتعليل له، أي فإن تكفروا فلا تضروا اللّه شيئاً؛ لأنه مالك كل شيء ولا يحتاج إليكم، فإن أمهلكم ولم يؤاخذكم بكفركم فوراً فلا تفوتونه، إذ هو عليم بكم، وإن عاقبكم على كفركم فهو حكيم بذلك وبغيره.

ص: 534

الآيات 171-175

اشارة

{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ سُبْحَٰنَهُۥ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌۘ لَّهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا 171 لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا 172 فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا 173 يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا 174 فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ وَفَضْلٖ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا 175}

171- بعد اليهود يأتي ذكر النصارى ودعوتهم إلى الدين الحق ف {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ} النصارى {لَا تَغْلُواْ} لا تتجاوزوا الحد {فِي دِينِكُمْ} في عقيدتكم وعملكم {وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ذلك الحق الذي هو أنّ اللّه واحد لا شريك له ولا ولد ولا تجوز عبادة غيره، وأما الغلو في المسيح فباطل ف {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وليس ابناً للّه سبحانه، بل

ص: 535

هو {رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥ} أي مخلوق بقوله تعالى: «كن» {أَلْقَىٰهَا} ألقى الكلمة {إِلَىٰ مَرْيَمَ} أي خلقه فيها {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي روح شرّفها ونسبها إلى نفسه، فهو ليس إلهاً ولا ولداً للّه سبحانه، وحيث علمتم ذلك {فََٔامِنُواْبِاللَّهِ} الواحد {وَ} آمنوا ب{رُسُلِهِ} جميعاً ومنهم عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ} أي الآلهة ثلاثة أو: إنّ اللّه سبحانه ثلاثة! الأب والابن وروح القدس! {انتَهُواْ} عن هذا الكلام الباطل، وأتوا {خَيْرًا لَّكُمْ} في دنياكم وآخرتكم بالعقيدة الصحيحة، {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} ليس ثلاثة ولا مركب من ثلاثة {سُبْحَٰنَهُۥ} أي أنزهه تنزيهاً عن {أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌۘ} بل ذلك محال، إذ كل ما سوى اللّه مخلوق له، ولا سنخية بين المخلوق والخالق ليكون ولداً له ف {لَّهُۥ} للّه {مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي الوجود بأسره، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} أي حافظاً ومدبراً لأمور الكون، فلا يحتاج إلى اتخاذ ولد أو شريك ليعاونه، بل هو الغني القدير.

172- ثم يُبرِّئ اللّه تعالى المسيح عن ما قاله النصارى ف {لَّن يَسْتَنكِفَ} أي لن يأنف {الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ} فهو قد أقرّ بالعبودية من ولادته إلى رفعه فالنصارى يخالفونه، {وَلَا} يستنكف {الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} عن عبادة اللّه، فكيف تدعون أنّ روح القدس - وهو جبرئيل - أحد الثلاثة وشريك للّه تعالى؟!، {وَ} كيف يستنكف هؤلاء عن عبادة اللّه مع علمهم بالمصير في الآخرة، إذ {مَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} قلباً {وَيَسْتَكْبِرْ} عنها عملاً، وكذا من لم يستنكف ولم يستكبر

ص: 536

{فَسَيَحْشُرُهُمْ} يجمعهم في يوم القيامة {إِلَيْهِ} أي إلى حكمه وجزائه {جَمِيعًا} فلا يستثني منهم أحداً حتى الرسل، ومنهم المسيح (عليه السلام) .

173- {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} باللّه الواحد {وَعَمِلُواْ} الأعمال {الصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} يعطيها لهم كاملة غير منقوصة {وَيَزِيدُهُم} علىالأجور الموعودة {مِّن فَضْلِهِ}.

{وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} يماثل استنكافهم واستكبارهم بلا زيادة {وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} يلي أمورهم بما يحبون {وَلَا نَصِيرًا} ينقذهم من بأس اللّه تعالى.

174- وبعد الانتهاء من إرشاد أهل الكتاب والمحاججة معهم ودحض حججهم يتم توجيه الخطاب إلى عامة الناس بدعوتهم إلى الحق ف {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ} دليل واضح على التوحيد والرسالة، ومنه إرسال محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} أي هادياً واضحاً كالقرآن وكخلفاء الرسول (عليهم السلام) .

175- {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ} إيماناً صحيحاً يستلزم إيماناً بجميع العقائد الحقة {وَاعْتَصَمُواْ بِهِ} أي تمسّكوا باللّه عبر العمل بشريعته {فَسَيُدْخِلُهُمْ} في الآخرة {فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ} أي الثواب الذي استحقوه بوعده إياهم {وَفَضْلٖ} زيادة أقلّها عشرة ولا حدّ لكثرتها، إذ اللّه يضاعف لمن يشاء، {وَيَهْدِيهِمْ} في الدنيا {إِلَيْهِ} أي إلى نفسه أو إلى الحق حال كونه {صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا} أي يوفقهم لإصابة الحق والوصول إليه.

ص: 537

بحوث

الأول: قوله تعالى: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ...} الآية.

بعد ذكر اليهود ومحاجتهم، يأتي ذكر النصارى ودحض حُججهم وإبطال معتقدهم.فأولاً: يتم بيان غلوهم مع النهي عنه فقال: {لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} والغلو في الدين ارتفاع فيه، بمعنى رفع بشر إلى منزلة الإله، أو إثبات فضائل لأحد من غير برهان ولا دليل، والمقصود في الآية رفعهم عيسى (عليه السلام) وروح القدس إلى مرتبة الألوهية، وكأن هذه الكلمة من براعة الاستهلال معهم لبيان أنّ دينهم مبني على الغلو.

وقيل: الخطاب عام لليهود والنصارى؛ لأنّ اليهود أيضاً غلوا فيه، حيث اتهموه وأمّه! وفيه نظر: لأنّ ذلك من التقصير، وليس من الغلو في شيء لا لغة ولا اصطلاحاً.

وثانياً: بيان افترائهم على اللّه تعالى، حيث جعلوا له شريكاً أو قالوا بتركيبه مع غيره تعالى عما يقولون علواً كبيراً، ولا يخفى أنّ غلوهم وقولهم على اللّه تعالى إنما هو في معتقد واحد، لكن حيث إنّ جانباً منه يرتبط برفع عيسى (عليه السلام) وجبرئيل (عليه السلام) إلى مرتبة الألوهية، وجانباً آخر منه تنقيص في حق اللّه تعالى بزعم الشريك ونحوه، لذلك أفردهما بنهيين اثنين، فلا ترفعوا المخلوق ولا تقولوا بالباطل في الخالق.

وثالثاً: بيان حقيقة السيد المسيح (عليه السلام) وأنه...

ص: 538

1- {ابْنُ مَرْيَمَ} وليس ابناً للّه، وغالب الآيات التي ذكرت عيسى (عليه السلام) ذكرته مع نسبته إلى أمه إبطالاً لنسبته إلى اللّه سبحانه.

2- {رَسُولُ اللَّهِ} فلذا كانت له معاجز، وكل رسل اللّه تعالى جاؤوا بالمعاجز لإثبات صدقهم، فليس لإبرائه الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى ونحو ذلك دلالة على ألوهيته، بل هو مما أنعم اللّه به عليه كما أنعم علىسائر الرسل، قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَٰهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ}(1).

3- {وَكَلِمَتُهُۥ أَلْقَىٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ} فليس في ولادته من غير أب دلالة على ألوهيته، بل هو مخلوق أراد اللّه خلقه في رحم مريم، ولو كان ذلك دليلاً على ألوهية لكان آدم (عليه السلام) أولى، قال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ}(2)، و(الكلمة) هي القول الملقى من الفم، شُبِّه بها المسيح (عليه السلام) لأنّ اللّه سبحانه أوجده بقوله: (كن)، ولا يخفى أنّ المخلوقات جميعها كلمات اللّه تعالى، كما قال: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي}(3)، لكن خص المسيح (عليه السلام) بها لأنّ خلقه كان على خلاف جريان العادة.

4- {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي روح خلقها وشرّفها بأن نسبها إليه، وليس في النسبة دليل على الألوهية، بل هي تشريف، كما يقال: بيت اللّه، وكتاب اللّه

ص: 539


1- سورة الزخرف، الآية: 59.
2- سورة آل عمران، الآية: 59.
3- سورة الكهف، الآية: 109.

ونحو ذلك.

حقيقة السيد المسيح (عليه السلام)

ثم إنّ كلمة {الْمَسِيحُ} كلمة معربة من (مشيحا) بالعبرية كما قيل، وقد مرّ أنّ في التعريب قد تلاحظ معاني الكلمات العربية أيضاً، وإنما عرب (مشيحا) إلى (المسيح) لأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص بإمرار يده والمسح على موضع العيب، كما أنه كان يسيح في الأرض، كما أنه كان ممسوحاًعن العيوب والنقائص، أي لم تكن فيه، ولذا فسّر البعض المسيح بالمبارك.

وأما تسمية الدجال بالمسيح فلا عين له ولا أثر في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ، بل هو من الإسرائيليات التي تسرّبت في كتب العامة عبر بعض اليهود الذين تظاهروا بالإسلام، وذلك نكاية بالسيد المسيح (عليه السلام) .

الثاني: قوله تعالى: {فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ...} الآية.

بعد بيان حقيقة المسيح (عليه السلام) ، يأتي الكلام حول توحيد اللّه تعالى.

فأولاً: دعوتهم إلى التوحيد بقوله: {فََٔامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} حيث إنّ اللّه أرسل جميع أنبيائه بالتوحيد، ونفي الشريك والولد، فالإيمان بهم يستدعي التوحيد الخالص.

وثانياً: النهي عن التثليث بقوله: {وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ}، ولا يخفى أنّ عقيدة النصارى في التثليث ضبابيّة ليس لها معنى محصّل، وهم متحيرون أيضاً في تفسيرهم لها، فتارة يقولون: إنّ اللّه واحد في نفس الوقت الذي هو ثلاثة! وهذا من التناقض الواضح الذي يدل العقل على بطلانه.

وتارة يقولون: إنه واحد مركب من أجزاء ثلاثة! وهذا أيضاً باطل؛ لعدم معنى للوالد والولد حينئذٍ، كما أنّ التركب على اللّه تعالى محال؛ لاستلزامه

ص: 540

الحاجة إلى الأجزاء وتأخر الكل رتبة عن أجزائه، ومن كان كذلك كان مخلوقاً لا خالقاً.

وتارة يقولون: إنه ثلاثة منفصلة كل واحد منهم إله، وهذا من الشرك الواضح، ويستحيل تعدد الآلهة؛ لاستلزامه تعدد القدماء وذلك محال، وهذه أدلة تم بيانها بالتفصيل في كتب الكلام والمعارف.وثالثاً: دعوتهم إلى التوحيد بقوله: {انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ} أي انتهوا عن التثليث إلى الخير الذي هو في صالحكم وهو التوحيد، و{خَيْرًا} إما مفعول لفعل محذوف اختصاراً، أي انتهوا وأتوا خيراً، أو منصوب بنزع الخافض، أي انتهوا إلى خير، أو مفعول لانتهوا بتضمين الانتهاء معنى الطلب، أي اطلبوا خيراً، والأول أشهر والثاني أقرب.

ورابعاً: الاستدلال على التوحيد بأنه {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ} أي له الوحدة الحقيقية من كل الجهات، إذ لولا ذلك للزم التركب، وهو يستلزم الحاجة، ولا يعقل حاجة الخالق إلى شيء.

وخامساً: بطلان الولد؛ لأن الولد إما حقيقي وإما اتخاذي جعلي، وكلاهما باطل.

أما الولد الحقيقي فهو قطعة منفصلة عن الوالد، وهو يستلزم التركب والتغيّر، وهما محالان على القديم، فاللّه منزه عن ذلك، ولذا قال: {سُبْحَٰنَهُۥ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌۘ} أي منزه عن ذلك تنزيهاً.

وأما الولد الاتخاذي الجعلي: فهو ليس بولد على الحقيقة، بل هو مخلوق، واللّه لا يحتاج إلى اتخاذ ولد من مخلوقاته؛ لأنه المالك لكل شيء

ص: 541

فقال: {لَّهُۥ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي الوجود بأسره مخلوق وملك للّه ولا يحتاج إليهم أبداً، ولأنه الغني عن كل شيء فقال: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} أي حافظاً ومدبراً كما مرّ.

الثالث: قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ...} الآية.لعلّه لبيان أنّ البنوّة الجعلية الاتخاذية قد تكون لحاجة الأب، وهذا قد تمّ دحضه في الآية السابقة، وقد تكون لأجل الابن وهذه الآية لبيان أنّ شرف المسيح (عليه السلام) في عبوديته للّه تعالى، فلا حكمة في تشريفه بجعله ابناً، فيتحصل أنّ الولادة الحقيقية محال، والولادة الاتخاذية الجعلية خلاف الحكمة، فتكون محالاً أيضاً، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ردّ لمزاعم النصارى، حيث يقال لهم: كيف تتخذون المسيح ابناً للّه، مع أنه كان يعبد اللّه ولا يرى في نفسه الألوهية لكي يستنكف عن عبادة اللّه تعالى.

و(الاستنكاف) بمعنى الأنفة وهو الامتناع في القلب، وفي كتاب العين: هو الامتناع والانقباض عن الشيء حميةً وعزةً(1)؛ وذلك لأنّ الإنسان يستنكف عن شيء يراه ذلاً له، وعبودية اللّه تعالى شرف للمخلوق، وأيضاً فإنّ اللّه يصطفي الرسل والملائكة المقربين، وهؤلاء باصطفاء اللّه لهم يكونون أول العابدين له سبحانه وتعالى لعلمهم بعظمته وحقه، ولعل اختيار اسم المسيح ووصف الملائكة بالمقربين للإشارة إلى ذلك.

ص: 542


1- العين 5: 383.

وقوله: {وَلَا الْمَلَٰئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} لعل ذكرهم هنا لأنّ النصارى يعتبرون جبرئيل (عليه السلام) - وهو روح القدس - أحد الثلاثة، وحيث نهاهم اللّه عن التثليث بقوله: {وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ} بيّن أنّ الملائكة المقرّبين - وجبرئيل أقربهم - لا يستنكفون عن عبادة اللّه تعالى.

وزعم بعض المعتزلة أنّ الآية تدل على أفضلية الملائكة المقربين علىالمسيح (عليه السلام) لذا عطفهم عليه، إذ لا بلاغة في الترقي من الأعلى إلى الأدون، فلا يقال: أنا لا أخاف من الأمير ولا من حاجبه! بل لو ذكر الأعلى أولاً لا يذكر الأدون؛ لأنّ ذلك يعلم بالأولوية، أما لو ذكر الأدون فلا بأس بالترقي إلى الأعلى!

وفيه نظر: إذ قد يعكس الأمر كما يقال: لا تظلم المسلم ولا الذمي مع أنّ المسلم أشرف، بل قد يعطف المساوي على المساوي من غير أفضلية للثاني كما يقال: لا تهن زيداً ولا عمراً مع تساويهما في الفضيلة.

والوجه في الآية أنّ الكلام حول السيد المسيح (عليه السلام) فهو المقصود بنفي التأليه عنه وإثبات العبودية له، ونفي الألوهية عن روح القدس إنما هو بالعرض، حيث نهى اللّه عن التثليث، ولذا قدّم المسيح عليهم في الذكر.

وقوله: {وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} أي وكيف يستنكف المسيح والملائكة المقربون مع علمهم بأنّ الجميع يحشر إلى اللّه ويكون جزاء المستنكف النار وجزاء العابد الجنة!

وقوله: {عَنْ عِبَادَتِهِ} لعل تبديل «عبداً للّه» إلى «عبادته» لأنّ المخلوق عبد اللّه سواء استنكف أم لا، فاستنكافه لا يغيّر الواقع أبداً، لكن المخلوق

ص: 543

يتمكن من ترك عبادة اللّه فإذا استنكف عنها تركها، وإذا لم يستنكف قد يأتي بها وقد لا يأتي بها، فلذا ذكر في الآية اللاحقة {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} بدلاً عن أن يقول: فأما الذين لم يستنكفوا!

وقوله: {وَيَسْتَكْبِرْ} لعل عدم ذكر الاستكبار حين ذكر المسيح والملائكة المقربين؛ لأن الكلام هناك كان حول زعمهم التثليث وليسالكلام هناك عن العبادة العملية، بل عن العبودية، فيقال لهم: أنتم تزعمون الألوهية في الثلاثة! وليس كذلك إذ المسيح والملائكة يذعنون بأنهم عبيد للّه تعالى.

وأما الكلام هنا ففي العبادة، فكما قد يستنكف المخلوق عنها قلباً قد يستكبر عنها عملاً، وإنما نقل الكلام عن العبودية إلى العبادة ليعمّ التحذير للجميع، فيكون حاصل المعنى: أنّ عبادة اللّه واجبة، وإذا أحد لم يرض بها قلبه أو تركها عملاً استكباراً فهو في النار وبطريق أولى من يستنكف عن العبودية، فتأمل.

فتحصل أنّ الاستنكاف قلبي والاستكبار عملي.

وقيل: الاستنكاف يرتبط بالعبادة، والاستكبار عن الطاعة!

وقيل: قيّد الاستنكاف بالاستكبار؛ لأن مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء والمستضعفين، وأما المسيح والملائكة فإنّ فرض استنكافهم لا يكون إلاّ عن استكبار؛ لكونهم عالمين بمقام ربهم، ولذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم! وفيه نظر، بل الأقرب أنّ الأول قلبي والثاني عملي كما ذكرنا، مضافاً إلى أنّ

ص: 544

استنكاف الجهلاء والمستضعفين إن كان عذراً لهم فاستكبارهم كذلك.

وأما ما قيل: من أنّ الاستنكاف لا يكون إلاّ من غير استحقاق، عكس التكبر حين يكون عن استحقاق كتكبّر اللّه تعالى! ففيه إشكال، إذ قد يكون الاستنكاف عن استحقاق كمن يستنكف عن الذل والهوان، كما أنّ الكلام ليس في التكبر، بل في الاستكبار!ثم إنّ الآية لم تذكر الشق الثاني وهو: (من لم يستنكف ولم يستكبر) إيجازاً في الكلام واكتفاءً بذكره في الجزاء، حيث قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...}.

الرابع: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}.

بعد الانتهاء من محاججة اليهود والنصارى ودحض حججهم ببيان الحق، يتوجه الخطاب إلى عامة الناس بدعوتهم إلى الإيمان وذلك...

أولاً: ببيان قيام الحجة على رسالة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال: {قَدْ جَاءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ} و(البرهان) هو الدليل والحجة على الحق، فلا يطلق على المغالطات ولا حجج الباطل وأهله، والمقصود الأدلة العقلية والنقلية كالمعاجز وبشارات الأنبياء الماضين.

وقوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} تأكيد بأنه حق لا باطل فيه، وأنه لأجلكم ولأجل هدايتكم.

وقوله: {نُورًا مُّبِينًا} أي ما يهديكم في حياتكم من العقائد والأحكام، شُبّهت بالنور لإنارتها درب الإنسان، وغير خفي أنّ للبرهان والنور مصاديق

ص: 545

متعددة، فهي تشمل الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة والقرآن والشريعة ومعاجز الرسول ونحو ذلك.

الخامس: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ...} الآية.

الإيمان قلبي والاعتصام عملي؛ لأنّ الاعتصام هو الامتناع عن الشر ولايكون ذلك إلاّ بالعمل بكتاب اللّه وسنة رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واتباع الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وقوله: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٖ مِّنْهُ وَفَضْلٖ} يرتبط بالآخرة، ولذا دخلت السين على سيدخلهم، أي الرحمة الموعودة من الثواب، وزيادة عليه من فضله، وقوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَٰطًا مُّسْتَقِيمًا} يرتبط بالدنيا لذا قال: يهديهم بدون سين، أي يستمرون على الهداية بلطف من اللّه تعالى كما قال: {اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ}(1)، وهو دعاء بالاستمرار على الهداية.

ثم إنّ الشق الآخر معلوم أيضاً، أي الذين لم يؤمنوا ولم يعتصموا ففي العذاب والضلال، قيل: إنما لم يذكره مع أنّ دأب القرآن في ذكر الثواب والعقاب معاً! لأجل أن يكون ختم السورة بالوعد الحسن!

ص: 546


1- سورة الفاتحة، الآية: 6.

الآية 176

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَٰلَةِ إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ وَلَهُۥ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ 176}

176- في ختام السورة يتم اللّه ذكر فرائض الإرث {يَسْتَفْتُونَكَ} يطلبون منك بيان الحكم والفتوى، {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} فالحكم فرض منه لا من الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، {فِي} حكم {الْكَلَٰلَةِ} وهم أقرباء الميت بالنسب غير الوالدين والأولاد، ف {إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ} مات {لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ} وأما لو كان له ولد فلا تصل النوبة إلى إخوته {وَلَهُۥ أُخْتٌ} من الأب أو الأبوين، وأما الإخوة من الأم فقد مضى حكمهم في أوائل السورة {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} بالفرض، {وَهُوَ يَرِثُهَا} الأخ يرث أخته جميع المال {إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ}.

{فَإِن كَانَتَا} الوارثتان أختين {اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} بالفرض {مِمَّا تَرَكَ} أخوهما.

{وَإِن كَانُواْ} الورثة {إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً} بعضهم ذكور وبعضهم إناث {فَ} كل الإرث لهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

ص: 547

وإنما {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} الأحكام ومنها أحكام الإرث كراهية {أَنتَضِلُّواْ} عن الحق وعمّا هو في صالحكم، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} لذلك أحكامه صائبة وهي الهدى.

بحوث

الأول: غالب أحكام الإرث ذكرت في الآيتين 11 و 12، ومنها إرث كلالة الأم، فلعلّ وضع هذه الآية في آخر سورة النساء، لأجل أنّ السورة بدأت بأحكام الأرحام والأقرباء وأموالهم، فأراد اللّه تعالى ختم السورة بذلك، فترتيب السورة هو ذكر الأحكام المالية لهؤلاء، ثم ذكر الكفار والمنافقين واليهود والنصارى، ثم عود في النهاية إلى الأحكام المالية للأرحام فتأمل، أو لما ذكر اللّه تعالى في الآيات السابقة أصول الدين أردفها بذكر حكم يصعب عليهم وهو إرث الأخوات، ولعلّه لذلك قدّم ذكر إرثهن على ذكر إرث الإخوة، حيث لم يكن الجاهليون يورّثون الإناث إطلاقاً، بل الرجال الأقارب كانوا يستولون على الميراث كلّه، وتقويةً للحكم صدّر اللّه تعالى أحكام الإرث بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَٰدِكُمْ...} الآية، وبقوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} مع أنهم استفتوا الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .

الثاني: قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَٰلَةِ}.

أي يستفتونك في الكلالة واللّه يفتيكم فيها، و(الاستفتاء) هو طلب الفتوى والسؤال عن الحكم الشرعي.

و{الْكَلَٰلَةِ} كما مرّ أقرباء الميت بالنسب غير الآباء والأبناء؛ لأنهم يحيطون بالنسب، فليس أحدهما يرجع إلى الآخر في نسبه، بل يجتمع

ص: 548

نسبهما في ثالث، فالإخوة يجمعهم الأب والأم أو أحدهما.والمقصود من الاستفتاء هنا كلالة الأبوين وكلالة الأب، وأما كلالة الأم فقد مضى حكمها في الآية 12 حيث قال تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُۥ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} حيث إنّ نصيبهم لا يقل عن السدس ولا يزيد على الثلث، ولا فرق بين الذكر والأنثى، بل يقسم النصيب بينهم بالتساوي كما مرّ.

وأما كلالة الأبوين أو كلالة الأب فالتفصيل في إرثهما أكثر، وقد بينت هذه الآية أربعة فروض.

الفرض الأول: الميت أخ، والوارث أخت واحدة ولا وارث آخر حيث قال: {إِنِ امْرُؤٌاْ هَلَكَ لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ وَلَهُۥ أُخْتٌ} فهنا نصيبها بالفرض نصف الإرث، ويردّ عليها النصف الثاني؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1)، وقد مرّ أنّ هذا هو مقتضى الجمع بين الآيتين، فلا يصح التعصيب بإعطاء النصف الثاني للرجال من الطبقة اللاحقة، فإنّ هذا يخالف آية (أولو الأرحام).

فإن كان للميت ورثة آخرون، فهنا حالتان:

1- أن يزيد الإرث على السهام، فهنا يرد الزائد إلى الأخت، وذلك لآية (أولو الأرحام) ولدلالة السنة، كما لو كان للميت زوجة وأخت من الأم وأخت من الأبوين أو الأب، فللزوجة الربع، وللأخت من الأم السدس،

ص: 549


1- سورة الأنفال، الآية: 75.

وللأخت من الأبوين أو الأب النصف بالفرض، والزيادة لها بالردّ كما لوترك اثني عشر درهماً، فللزوجة ثلاثة، وللأخت الأميّة اثنان، وللأخت من الأبوين أو الأب ستة بالفرض والزائد - وهو واحد - بالردّ.

2- أن يكون سهام الآخرين أكثر من النصف، فهنا لا عول، إذ هو باطل كما مرّ، بل سهم الأخت من الأبوين أو الأب هو ما تبقى وليس النصف، إذ هذه الآية إنما ذكرت صورة عدم وجود وارث آخر، وأما مع وجوده فالآية ساكتة والمرجع إلى السنة، بعد استحالة كون إرثها النصف؛ لاستلزامه عول الفريضة والجهل سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، كما لو ترك الميت زوجة وإخوة من الأم وأختاً من الأبوين أو الأب، فللزوجة الربع (3 في المثال)، وللإخوة من الأم الثلث (4 في المثال) وذلك لدلالة الآية 12، ويبقى أقل من النصف (5 في المثال) فهو نصيب الأخت من الأبوين أو الأب.

الفرض الثاني: أن يكون الميت أختاً والوارث أخاً ولا وارث آخر، فهنا كل الإرث له؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ}.

فإن كان هناك وارث آخر أعطي نصيبه ويكون للأخ الباقي، كما لو كان لها زوج، فللزوج النصف بالفرض، والباقي للأخ، مثال آخر: لو كان لها زوج وإخوة من الأم وأخ من الأبوين أو الأب، فللزوج النصف، وللإخوة من الأم الثلث بالفرض، والباقي للأخ من الأبوين أو الأب.

الفرض الثالث: لو كان الميت أخاً أو أختاً ولهما أختان من الأبوين أو الأب فقط ولا وارث آخر، فنصيبهما الثلثان بالفرض، حيث قال تعالى:

ص: 550

{فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}، وأما الباقي فيردّ عليهما بآية(أولو الأرحام)، وهكذا لو كان للميت أخوات أكثر من اثنتين ولا وارث آخر.

فإن كان للميت ورثة آخرون فالآية ساكتة عن نصيب الأختين، فقد دلت السنة على أنّ سائر الورثة يعطون نصيبهم ويكون الباقي للأختين أو للأخوات، فليس فرضهن حينئذٍ الثلثين، بل الفرض الباقي، كما لو كان للميتة زوج وأختان، فللزوج النصف، والباقي - وهو النصف - للأختين يقسم بينهما بالسوية.

مثال آخر: لو كان للميتة أخت من الأم وأختان من الأبوين أو الأب، فللأخت من الأم السدس بالفرض، والباقي وهو خمسة أسداس للأختين من الأبوين أو الأب.

الفرض الرابع: إن كان الميت أخاً أو أختاً ولهما إخوة ذكور وإناث، من غير فرق في عددهم، كما لو كان أخ وأخت، أو إخوة وأخت أو أخوات وأخ ونحو ذلك، فهنا لا سهم معيّن لأحدهم، بل للذكر مثل حظ الأنثيين، حيث قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ}.

ذكرنا أنّ معنى {الْكَلَٰلَةِ} الأقرباء في النسب من غير العمودين، أي لا يرجع نسب أحدهما إلى الآخر، بل يجتمع نسبهما في ثالث، وعليه فقد يقال: إنّ الكلام فيما لم يكن للميت لا والد ولا ولد، فقوله: {لَيْسَ لَهُۥ

ص: 551

وَلَدٌ} تأكيد، وحيث إنّ الغالب موت الآباء قبل الأبناء ولذا لم يكن حاجة إلىالتأكيد بأنه ليس له والد.

ويمكن أن يقال: إنّ الكلالة تطلق على هؤلاء الأقرباء سواء كان والد وولد أم لا، فقوله: {لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌ} ليس تأكيداً وإنما بيان لفرض إرث الكلالة، وعليه فعدم وجود الولد تكفلت به الآية، وعدم وجود الوالد تكفلت به السُنة، وهذا هو الأظهر.

و(الولد) باتفاق أهل اللغة يطلق على الذكر والأنثى، فالمعنى أنّ الأخت إنما ترث إذا لم يكن للميت مولود، فلو كان له ابن أو بنت فلا ترث الأخت، ولذا صارت من الطبقة الثانية.

الرابع: قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ}.

الآية ظاهرة في أنّ إرثه هو كل ما تركته أخته حيث لم يعيّن مقدار نصيبه.

وقوله: {إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ} ظاهر في أن لا يكون للميتة مولود لا ذكر ولا أنثى، وبذلك يبطل التعصيب، مضافاً إلى آية أولي الأرحام كما مرّ في أوائل السورة، فلو كان للميتة بنت فلها ولد فلا يرثها أخوها.

قيل: ذكرت الآية إرث الأخت من أخيها، والأخ من أخته، ومن ذلك يظهر إرث الأخت من أختها والأخ من أخيه، إذ لو كان لهما نصيب آخر في هذين الفرضين لبيّنته الآية؛ لأنها في مقام جواب عن السؤال، والسؤال عام عن كل الفروض، أو يقال: إنّ هذين الفرضين ذكرت السنة حكمهما.

وكذا يظهر حكم إرث الأخوين أو الإخوة الذكور؛ لأن الأخ الواحد إن كان يرث الجميع فهؤلاء كذلك يرثون الجميع بطريق أولى.

ص: 552

الخامس: قوله تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ}.أي كانت الأختان اثنتين، أو كان مَن يرث اثنتين، فمرجع الضمير يستفاد من سياق الكلام، وهكذا لو كنّ نساءً أكثر من اثنتين، ويستفاد الحكم إما من الآية لو كانت ظاهرة في أنّ قوله: {اثْنَتَيْنِ} بيان للأقل، أو من السنة.

وقيل: لم يذكر الميت هنا - وفي الصورة التالية - لبيان أنّ الذكورة والأنوثة لا دخل لها في السهام، فسواء كان الميت أخاً أم أختاً وقد خلّف أختين فنصيبهما الثلثان بالفرض.

السادس: قوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

أي إن كان من يرث الميت إخوة بعضهم ذكور وبعضهم إناث فسهام الذكور ضِعف سهام الإناث.

ولا فرق في ذلك بين تعدد الذكور والإناث أم تعدد أحدهما أو عدم تعددهما، بأن كانوا إخوةً وأخواتٍ، أو كانوا أخاً وأخوات أو أختاً وإخوةً، وغير ذلك من الفروض، وتعميم الحكم لجميع الصور هو ظاهر الآية، أو يقال: إنّ باقي الصور استفيدت من السنة.

ولا يخفى أنّ للذكر مثل حظ الأنثيين ليست قاعدة عامة، بل ذكرت في القرآن في موردين: أحدهما في الأولاد كما مرّ في الآية 11، والآخر في الإخوة من الأبوين أو الأب في هذه الآية، ولذا في سائر الموارد المتبّع الدليل من السنة، فإن دلّ على ذلك فهو كما في الأعمام والعمات، وإن لم يكن دليل خاص فالمنصرف من إطلاق دليل الإرث هو التساوي في

ص: 553

السهام، كما مرّ.قال في مجمع البيان: وقد تضمنت الآية التي أنزلها اللّه في أول هذه السورة بيان ميراث الولد والوالد، والآية التي بعدها ميراث الأزواج والزوجات، والإخوة والأخوات من قِبل الأم، وتضمنت هذه الآية التي ختم بها السورة بيان ميراث الإخوة والأخوات من الأب والأم، والإخوة والأخوات من قبل الأب عند عدم الإخوة والأخوات من الأب والأم. وتضمّن قوله سبحانه: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(1) أنّ تداني القربى سبب استحقاق الميراث، فمن كان أقرب رحماً وأدنى قرابة كان أولى بالميراث من الأبعد(2).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

19 / شوال / 1438 ه

ص: 554


1- سورة الأنفال، الآية: 75.
2- مجمع البيان 3: 370.

الفهرس

الإطار العام للسورة ... 5

الآية 1 ... 6

كيفية تناسل أولاد آدم (عليه السلام) ... 11

انقطاع الأنساب يوم القيامة إلا نسب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 12

الآيتان 2-3 ... 15

حول تعدد الزوجات ... 25

الآيات 4-6 ... 27

السفه المانع عن التصرف في الأموال ... 32

الآيات 7-10 ... 42

بطلان التعصيب ... 46

الأثر الوضعي لظلم الأيتام ... 50

ظلم ذرية الظالم عقوبة له ... 51

الآيتان 11-12 ... 54

بطلان العول ... 58

نصيب الأولاد والبنات بين الإسلام وبين جاهليتين ... 61

ص: 555

علة تعيين سهام الإرث ... 68

الآيتان 13-14 ... 73

معنى الخلود في جهنم بسبب المعاصي ... 77

الآيتان 15-16 ... 79

الآيتان 17-18 ... 87

معنى الحق على اللّه ... 89

الآيات 19-21 ... 99

إلزام الكفار بما يعتقدون ... 101

الآيات 22-24 ... 110

حكمة محرميّة النساء الأقارب ... 115

حكمة الأخوّة الرضاعية ... 117

عدم نسخ نكاح المتعة ... 126

الآية 25 ... 129

الآيات 26-28 ... 140

التخفيف سبب التشريعات ... 146

الآيات 29-31 ... 152

الآيتان 32-33 ... 165

الإرث بالسبب ... 171

الآيتان 34-35 ... 174

قيمومة الرجال ... 175

ص: 556

المساواة بين الرجال والنساء ... 178

ضرب الناشز ... 183

الآيات 36-39 ... 186

الآيات 40-42 ... 196

الآية 43 ... 202

فائدة التيمم ... 209

الآيات 44-46 ... 211

الآيات 47-50 ... 220

مطالب حول عدم غفران الشرك ... 222

الآيات 51-55 ... 229

الآيات 56-59 ... 239

معنى أولي الأمر ... 247

المرجع حين التنازع ... 248

الآيات 60-63 ... 252

الآيات 64-68 ... 262

توسيط الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للتوبة ... 266

الآيتان 69-70 ... 273

الآيات 71-73 ... 279

الآيات 74-76 ... 288

سبب غلبة الكفار أحياناً ... 294

ص: 557

الآيات 77-79 ... 296

حال المسلمين في مكة والمدينة ... 299

سبب ابتلاء الأنبياء والصالحين ... 309

الآيات 80-83 ... 311

عدم اختلاف القرآن ... 317

الآيات 84-87 ... 324

مشاركة السبب في الثواب أو العقاب ... 328

الآيات 88-91 ... 334

الآيات 92-94 ... 346

الحقوق في القتل ... 348

الآية 95-96 ... 359

كيفية الجهاد الحق ... 362

الآيات 97-100 ... 367

كلام حول المستضعف ... 374

فوائد الهجرة ... 376

الآيات 101-104 ... 378

الآيات 105-109 ... 388

في استغفار الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 392

الآيات 110-113 ... 399

كيفية قضاء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 405

ص: 558

الآيات 114-116 ... 409

الآيات 117-122 ... 416

الآيات 123-126 ... 426

الآيات 127-130 ... 434

نشوز الزوج ... 443

الآيات 131-134 ... 448

الآيات 135-138 ... 455

حول أصول الدين ... 461

الآيات 139-141 ... 465

علائم المنافقين ... 467

معنى عدم سبيل الكافرين على المؤمنين ... 473

الآيات 142-147 ... 475

سبب قبول إسلام المنافق ... 482

كيفية توبة المنافق ... 483

الآيتان 148-149 ... 486

جهر المظلوم بظلامته ... 488

الآيات 150-152 ... 492

الآيتان 153-154 ... 498

الآيات 155-161 ... 504

الآيات 162-166 ... 519

ص: 559

في حجية العقل والرسل ... 526

الآيات 167-170 ... 529

الآيات 171-175 ... 536

حقيقة السيد المسيح (عليه السلام) ... 539

الآية 176 ... 547

الفهرس ... 555

ص: 560

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.