التفکر في القرآن (سورة آل عمران) المجلد 1

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفکر في القرآن (سورة آل عمران) المجلد 1 / تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

سورة النحل، الآية: 44

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله علی أعدائهم أجمعين، إلی يوم الدين

الإطار العام للسورة

التدبر في هذه السورة تعطي فکرة بأن اطارها العام هو حول التحدي الفکري والعسکري، حيث إن المسلمين واجهوا کلا التحديين، وکان کل واحد منهما کفيلاً بالقضاء عليهم لولا أن الدين هو دين الحق وأن الله تعالی شاء أن يغلب دينه علی الدين کله، فتتضمن السورة جواب عن شبهات النصاری حول مسائل العقيدة، وکذا شبهات المشركين واليهود وغيرهم، قيل(1):

إن أکثر من ثمانين آية من السورة نزلت حين جاء وفد نصاری نجران للمجادلة مع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولذا سُمِّيت السورة باسم (آل عمران) أي مريم وعيسی (عليهماالسلام) ، کما تتضمن السورة تفصيل غزوة أ ُحد والتي لو انتصر المشرکون فيها لقضوا علی الإسلام والمسلمين، إلاّ أن الله تعالی شاء

ص: 5


1- راجع مجمع البيان 2: 352.

أن لا يتمکن المشرکون من الوصول إلی غايتهم في القضاء علی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلی الإسلام، وإن أصاب المسلمين قرح بمقتل حدود سبعين منهم.

ص: 6

الآيات 1-6

اشارة

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}

1- {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الابتداء باسمه تعالی، إما تعظيماً لشأنه أو لأنه تعالی جعل اسمه - المخزون المکنون - واسطة بينه وبين خلقه، {الم} إما بمعنی أن القران مرکّب من الحروف التي ينطق بها الناس ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله، أو هو رمز بين الله تعالی ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقيل غير ذلک.

2- {اللَّهُ لَا إِلَهَ} لا معبود {إِلَّا هُوَ} فهو المستحق للعبادة لاسواه، لأنه تعالی {الْحَيُّ} عکس سائر الآلهة فهي إمّا جمادات أو لها حياة زائلة، {الْقَيُّومُ} القائم علی جميع الوجود بالخلق والتقدير والتصرف عکس سائر الآلهة فهي عاجزة.

4-3- ومن قيمومته تعالی أن هَدَی الناس، فهو الذي {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن تنزيلاً {بِالْحَقِّ} فليس تنزيله عبثاً ولا باطل فيه، حالکونه

ص: 7

{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي الکتب السماوية السابقة، لا الکتب المنحولة أو المحرّفة، {وَأَنْزَلَ} الله {التَّوْرَاةَ} علی موسی (عليه السلام)، {وَالْإِنْجِيلَ} علی عيسی (عليه السلام) {مِنْ قَبْلُ} إنزال القرآن {هُدًى لِلنَّاسِ} عامة ولبني إسرائيل خاصة، فالله تعالی هادي جميع الناس من قبل ومن بعد، {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} ما يفرق بين الحق والباطل، ومن مصاديقه: کل أمر محکم، والآيات القرآنية النازلة نجوماً، والمعاجز، والبراهين، والشريعة التي تفرق بين الحلال والحرام.

وحيث تمت الحجة بإنزال الکتب والفرقان ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} کفر حجود {بِآيَاتِ اللَّهِ} عامة ومنها کتبه وتشريعاته {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الدنيا والآخرة، عدلاً منه تعالی، ولايتصورنّ أحد عدم عذاب الکفار فإن الله قادر منتقم {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} أي له القدرة في العذاب بلا منع، وهو {ذُو انْتِقَامٍ} يکافئ المجرم علی إساءته.

5- وکذلك هو عالم ف {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} فهو يعلم بالکافرين وبأعمالهم ونواياهم، وإنما خص الأرض والسماء بالذکر لأنها موطن الناس وأعمالهم في الحياة الدنيا.

6- وکيف يخفی عليه شيء والحال أنه {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} أي يعطيکم الصورة {فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} من ذکر أو أنثی، قبيح أو جميل، أبيض أو أسود وغير ذلك، ولا مانع عن إرادته إذ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ} قادر علی ما يريد بلا منع، {الْحَكِيمُ} في أفعاله حيث يشاء بحسب حکمته.

ص: 8

بحوث

الأول: تبتدأ السورة بمقدمة تتضمن أصول الدين من التوحيد، والعدل،

وصفات الله تعالی، والنبوة، والکتب المنزلة، والفرقان - بما تتضمن من سائر أصول الدين کالإمامة - ، والمعاد، فتضمنت... .

1- التوحيد: فذکر {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مرّتين، الأولی: لبيان أصل التوحيد فلذا صدّر الآية بلفظة الجلالة فقال {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، والثانية: لبيان ربوبيته وأنه لا شريك له في أفعاله لذا جاءت الکلمة بعد بيان {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.

2- وأهم صفات الذات التي هي عين ذاته بلا اثنينية بين تلك الصفات وبين الذات: کالحياة والعلم والعزة والاختيار والحکمة - التي هي بمعنی العلم بوضع الأشياء في مواضعها - ، وکل صفات الذات ترجع إلی حياته وعلمه وقدرته واختياره، وکلها ترجع إلی حياته، وترجع حياته إلی ذاته، بلا ترکيب واثنينية، بل هي عين ذاته.

3- وأهم صفات الفعل: کالقيوم، والهادي بإنزال الکتب، والمصّور، والوهاب، والمريد، وصادق الوعد، والباعث للحشر، والمنتقم.

الثاني: إن الآيات تبيّن أن التشريع بيد الله تعالی، کما کان التکوين بيده، فهو الذي يصوّر في الأرحام کيف يشاء ولايتمکن أحد من الخلق، فهو الأحق بالتشريع لأنه مالك الکون بأجمعه، کما أنه يعلم جميع خصوصيات الإنسان، وجميع أمور السماء والأرض، فلذا يکون تشريعه بالحق وصحيحاً لا خلل فيه، عکس التشريعات البشرية، فإن الناس رغم تطور العلوم الطبيعية

ص: 9

والعلوم الإنسانية، لا زال ما يجهلونه عن طبيعة الإنسان والکون أکثر مما يعلمونه، ولذا تکثر تغيير التشريعات أو تعديلها في القوانين الوضعية.

وأما التشريعات الإلهية فکلها حقائق ثابتة تطابق نظام التکوين وطبيعة الإنسان، ولذا لاحق لأحد في التشريع إلاّ الله تعالی، قال سبحانه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}(1).

ثم لايخفی أن التشريع لله تعالی، لکن الله وتشريفاً لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) جعل لرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) تشريع الأحکام، بمعنی إصدارها طبقاً لما علّمه الله تعالی، وفي الحديث: «إن الله تبارک وتعالی أدّب نبيّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلمّا انتهی به إلی ما أراد قال له {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2) ففوّض إليه دينه»(3) وهذه التشريعات اشتهرت بعنوان سنة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

ومن ذلك يتّضح أنه لايحق لأحد أن يجتهد في مقابل النص بأن يقول: قال الله وأقول أنا!! بل ذلك کفر ظاهراً أو باطناً، کما يشعر به قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ...} بعد قوله {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...}، ومن المفارقات المهمة إن القران لايجامل أحداً علی حساب الحق، بل بيّن الحق سواء رضي به الناس أم کرهوه، وسواء فهموه أم جهلوه، في ضمن نظام متکامل يکمّل بعضه بعضاً، قال تعالی: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(4). وقال: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ

ص: 10


1- سورة الأنعام، الآية: 57.
2- سورة القلم، الآية: 4.
3- الکافي 1: 267.
4- سورة الکهف، الآية: 29.

فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}(1).

نعم حيث إن غالب الناس يتأثرون بالحضارات الحاکمة في منطقتهم أو في العالم وقد تختلف ثقافة أولئك أو طريقة حياتهم وفکرهم أو دينهم مع أحکام الشرع فلذا قد لايدرکون بعض أحکام الشرع أو يعترضون عليها، وما ذلک إلاّ لضعف إيمانهم وانهزامية أنفسهم، لکن ذلك لايضرّ الحق وأهله، فالحق لايتغيّر بأهواء الناس قال تعالی: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}(2).

الثالث: قوله تعالی: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.

محور الکلام هو الله تعالی، فلذا ابتدأ بلفظة الجلالة، فهو تعالی لا شريك له ولا معبود سواه، وسبب ذلك أنه الحي القيوم، و«الحياة» هي أصل صفات الذات حيث ترجع إليها کل صفات الذات، و«القيمومة» هي أصل صفات الفعل، وفي هذا نفي ألوهية عيسی (عليه السلام) ، لأنه لم يکن حياً ثم أحياه الله وبعد ذلك سيموت قبل يوم القيامة، فحياته بالعرض لابالذات، کما أنه (عليه السلام) ليس قيوماً علی الأمور کلها، فما وجه استحقاقه للألوهية؟! ولماذا استحقها هو - بزعم النصاری - دون الأنبياء الماضين کإبراهيم وإسحاق وموسی وغيرهم (عليهم السلام) .

أما ولادته من غير أب، فآدم ولد من غير أبوين کما سيأتي، ومجرد ذلك لايکون سبباً للألوهية، إذ عيسی (عليه السلام) خُلق في الرحم وأعطاه الله تعالی الصورة فيها کما سيأتی في الآية السادسة.

ص: 11


1- سورة إبراهيم، الآية: 8.
2- سورة المؤمنون، الآية: 71.

الرابع: قوله تعالی: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...} الآية.

بعد نفي الشريك عنه تعالی تبدأ الآيات ببيان أنه تعالی الخالق والمشرِّع، وقد بدأت الآيات بالتشريع إمّا لأجل أن العبادة هي الغرض من الخلق، کما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1) والعلة الغائية تسبق العلة الفاعلية، وإن کان الغرض الأقصی هو الرحمة کما قال: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(2)، وإمّا لأجل أن محور الکلام مع وفد نصاری نجران کان حول نبوة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلذا تم بيان أن القران کالتوراة والإنجيل کلها أنزلها الله تعالی.

وقد روي أن التوراة والإنجيل نزلا دفعه واحدة(3)، عکس القرآن الذي نزل مرّتين، فمرّة نزل دفعه واحدة علی قلب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ومرّة أخری نجوماً وطيلة ثلاثة وعشرين عاماً، أما استفادة ذلك من (نزّل) و(أنزل) فقد مرّ عدم الفرق بينهما لغة، بل استعملت کلتا الکلمتين بالنسبة إلی القران الکريم کما في قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}(4).

وقوله: {بِالْحَقِّ} أي تنزيلاً بالحق، فالمقصود أن نفس عملية التنزيل هي فعل حق لاباطل، لأنه تعالی منزّه عن العبث والباطل، فلذا کان تکوينه بالحق کما أن تشريعه بالحق، قال تعالی: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

ص: 12


1- سورة الذاريات، الآية: 56.
2- سورة هود، الآية: 119.
3- الکافي 4: 157؛ بحار الأنوار 13: 209 وما بعده؛ علل الشرائع: 167 وعنه في بحار الأنوار14: 284.
4- سورة البقرة، الآية: 90.

وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ}(1). فلذا هو يستحق الحمد علی ذلك أيضاً کما قال تعالی: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}(2).

وقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي الکتب السماوية السابقة عليه، وإنما کانت بين يديه لأنها ظاهرة له کظهور الذي بين يديه، والمراد الکتب الحقة التي أوحيت إلی الأنبياء الماضين، لا ما نسب إليهم کذباً فهو لايصدّقها، بل يُکذّب کل کتاب منحول أو محرّف، فالقرآن هو المهمين علی سائر الکتب قال تعالی: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}(3).

وقوله: {هُدًى لِلنَّاسِ} يستفاد منه أن شريعة موسی وعيسی (عليهماالسلام) کانتا عامتين لجميع الناس، لاخاصة ببني إسرائيل، کما يدل علی ذلك جملة من الروايات، فإن الأنبياء أولي العزم بُعثوا للناس جميعاً.

الخامس: قوله تعالی: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}.

الفرقان معناه عام يشمل - کما يظهر بعضه من الروايات(4)-:

1- التفريق بين الحق والباطل، فلذا کان من الفرقان: القرآن کلّه، وکذا الآيات المحکمة فيه، والأنبياء، والائمة (عليهم السلام) ، والآيات والمعجزات، قال تعالی: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}(5)، وقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى

ص: 13


1- سورة الأنعام، الآية: 73.
2- سورة الکهف، الآية: 1.
3- سورة المائدة، الآية: 48.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 362.
5- سورة البقرة، الآية: 53.

عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}(1)،

وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}(2).

2- التفريق بين الحلال والحرام، أي بيان ما هو الحلال عن الحرام.

3- التفريق في النزول، کما قال تعالی: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}(3).

ولعلّ المقصود من الفرقان في هذه الآية، هي معجزات عيسی (عليه السلام) ، حيث إن النصاری توهموا ألوهيته لذلك، فردّهم الله تعالی بأن تلك المعجزات أنزلها الله تعالی، فهي کمعجزات سائر الأنبياء، قال تعالی: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} إلی {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}(4)، کما يحتمل أن يکون المقصود الأئمة (عليهم السلام) ، لأنه تعالی خلقهم أنواراً بعرشه محدقين ثم أنزلهم إلی الأرض رحمة لعباده، وبذلك يتم ذکر کل أصول الدين في هذه الآيات، ولذا کان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فاروق هذه الأمة کما دلت عليه الأخبار(5).

السادس: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ...} الآية.

و هذا يدل علی عدله تعالی، کما فيه تحذير عن الکفر بآياته تعالی،

ص: 14


1- سورة الأنفال، الآية: 41.
2- سورة الأنفال، الآية: 29.
3- سورة الإسراء، الآية: 106.
4- سورة الإسراء، الآية: 101-102.
5- بحار الأنوار 22: 424؛ الغدير 2: 313؛ ومن مصادر العامة مجمع الزوائد 9: 102؛ المعجم الکبير 6: 269 وغيرهما.

والظاهر بقرينة السياق أن المراد من (آيات الله) هو کتبه وتشريعاته، فمادام تنزيلها بالحق، فيکون الکفر بها وجحودها من الباطل والضلال، ومقتضی العدل هو مجازاة المسيء علی إسائته.

و هذا العذاب قد يکون في الدنيا کما قال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(1)، وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}(2)، کما يکون في الآخرة بالجزاء الأوفی.

اشتراك الکفار والمؤمنين في نعيم الدنيا ومشقتها

سؤال: کيف ونحن نری اشتراك المؤمنين والکافرين في البلاء والمشقة في الدنيا، کما نری اشتراکهم في التنعم بالملذات والنعم الدنيوية؟

والجواب: إن مقتضی الحکمة وليکمل الامتحان أن لايکون الکفار في نعيم دائم ولا المؤمنون في مشقة دائمة، بل القوانين الطبيعية تقتضي توزع النعيم والمشقة علی الجميع، لکن الفرق أن مشقة المؤمن هي ليست بعذاب واقعي لأنها طريق لنيله الدرجات الرفيعة، فيکون کالطالب الذي يسهر في المطالعة بما فيها من مشقة لينجح في الإمتحان وينال شهادة عليا بما لها من مزايا وفوائد، کما أن نعيم الکافر مزيد شقائه وعذابه لأنه لم يؤد حقه ولا شکر ربه فينقلب عليه وبالاً حينما يُسئل عن ذلك النعيم في يوم القيامة.

مضافاً إلی أن السعادة والشقاء في الدنيا أمران نفسيان، والمؤمن مرتاح البال حتی وإن کان في صعوبات لأنه يعلم أن له ربّاً يرعاه ويجازيه بحسن

ص: 15


1- سورة الأعراف، الآية: 152.
2- سورة طه، الآية: 124.

الثواب، عکس الکافر فإنه قلق لايری معنیً للحياة وهو يری زوالها ومرورها بسرعة حتی وإن کان في نعيم ظاهري.

فإن الأمور قد تتشابه لکن نتائجها تختلف، مثلاً من يسهر علی المطالعة ومن يسهر علی اللعب کلاهما يشعران بالتعب والإرهاق والألم، لکن التشابه في الظاهر، أما في الواقع فالدارس ربح علماً وکمالاً، واللاعب خسر وقتاً بلافائدة، وکذا المؤمن والکافر قد تتشابه أمورهما الدنيوية من التمتع بملذات الحياة الدنيا من المال والأهل والأطعمة والأشربة والأنکحة، أو يتشابهان في الأمراض والمصائب والفقر والفاقة ونحو ذلک، لکن الفرق في النتيجة، فالمؤمن نفسه مرتاحة وجزاؤه الجنة والرضوان، والکافر نفسه قلقة مضطربة وجزاؤه النار والغضب.

سبب العذاب الأخروي

ثم إن عذاب الله تعالی ليس للتشفي، فإنه سبحانه منزّه عن الکيفيات النفسانية، بل هو شفاء صدور المؤمنين، وليس متنافياً مع رحمته تعالی، فإن رحمته مع حکمة، ولذا اقتضت الحکمة أن تشمل هذه الرحمة الجميع في الدنيا وتختص بالمؤمنين في الآخرة، فالکافر بسوء اختياره أخرج نفسه عن قابلية الرحمة الأخروية، فشمول الرحمة له خلاف الحکمة، نظير الکريم الذي لاينبغي له أن يجود بماله في غير موضعه، فلو تصدّق علی محتاج يعلم بأنه سيصرف المال في جريمة فإنه يُلام علی ذلك، وإن أمسك فلم يتصدق عليه مدحه العقلاء واعتبروه حکيماً من غير أن يقلّ کرمه وسخاؤه، قال تعالی: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}(1)، هذا مضافاً إلی أن الله تعالی جعل العذاب نتيجة طبيعية

ص: 16


1- سورة الأعراف، الآية: 156.

للکفر، کمن يلقي بنفسه من شاهق فإن القوانين الطبيعية - التي أودعها الله في الکون - تقتضي سقوطه إلی الأسفل وارتطامه بالأرض وتکسر عظامه وموته.

والحاصل أن سبب عذاب الکفار هو:

1- شفاء صدور المؤمنين، فإنهم أولياء الله تعالی، وقد ظلمهم أولئك الکفار، وحتی الذين لم يظلموهم فإن المؤمنين تحملوا الصعاب ومشقات التکليف والطاعة واجتنبوا عن المشتهيات المحرمة فليس من العدل تساويهم مع الکفار العصاة، قال تعالی: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}(1)،

وقال: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)}(2).

ولعله لذلك ذکرت الآيات إطلاع المؤمنين في الجنة علی الکفار المعذبين في النار واستغاثة الکفار بهم، فإن في ذلك شفاء لصدورهم مع زيادة شعورهم بفضل الله ونعمته عليهم، فإن من رأی مبتلی زاد إلتفاته إلی نعمته فزاد شکره، قال تعالی: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)} إلی قوله: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}(3)، وقال تعالی: {وَنَادَى أَصْحَابُ

ص: 17


1- سورة التوبة، الآية: 14-15.
2- سورة القلم، الآية: 33-36.
3- سورة الصافات، الآية: 38-57.

الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}(1)، وقال: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}(2).

2- وأن العذاب هو مقتضی الحکمة، بمعاقبة المسيء والمجرم.

3- وأنه نتيجة الکفر والجرائم، قال تعالی: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(3)، وقال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(4).

السابع: قوله تعالی: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.

أي له العزة فهو القادر علی ما يريد من غير منع، کما أنه منتقم يعاقب المسيء، فلايتوهم أحد أنه لايقدر علی عذابه، أو أنه تعالی لايعذب لعدم حاجته إلی العذاب، بل ينتقم لالحاجة بل لحکمته تعالی، فلا يضع الشيء إلا في موضعه.

و(النقمة) هي مکافأة المجرم علی إسائته، فعذابه تعالی يساوي الجرم لا أزيد، قال تعالی: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(5)، وأما الخلود في النار فليس زيادة علی الجرم بل لاقتضاء طبيعة الجرم هذا الجزاء، کمن يقتل بريئاً في لحظة، فيعاقب بالسجن المؤبّد، مضافاً إلی أن

ص: 18


1- سورة الأعراف، الآية: 44.
2- سورة الأعراف، الآية: 50.
3- سورة الصافات، الآية: 39.
4- سورة الکهف، الآية: 49.
5- سورة الأنعام، الآية: 160.

المخلّدين في النار کان من نيتهم الاستمرار في الجريمة ولو خلّدوا، قال تعالی: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(1)، وقد مرّ تفصيل بحثه.

الثامن: قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.

الغرض هو بيان عدم تمکنهم من إخفاء کفرهم، فالله تعالی عالم بکل شيء، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا}(2)، وکثير من الکفار لجهلهم بالله تعالی وبصفاته ولتشبيههم الربّ بأنفسهم، کانوا يزعمون إمکان إخفاء الأمور عنه تعالی، قال تعالی: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(3).

ثم إن تخصيص السماء والأرض بالذکر، مع أنه تعالی عالم بکل شيء، إما لأجل أنهما موطن العاصين، فلذا هددهم بأنه لايخفی عليه شيء فيهما، أو لأن الأشياء کلها في الأرض والسماء، فهما يضمّان کل الموجودات وأفعالها، وعلمه تعالی وإن کان غير محدود ولانهاية له إلا أن متعلق العلم: إمّا ذاته، فهو عالم بها، فذاته غير متناهية فعلمه بها أيضاً کذلك وهذا خارج عن محلّ الاحتجاج معهم، وإمّا الحوادث، وکلها في الأرض أو في السماء، وإمّا ما لم يکن وهي لا موطن لها إلاّ في علمه سبحانه وتعالی، فانحصرت

ص: 19


1- سورة الأنعام، الآية: 28.
2- سورة فصلت، الآية: 40.
3- سورة فصلت، الآية: 22-23.

الأشياء الموجودة بما في الأرض أو في السماء لذا خصّها بالذکر، فتأمل.

التاسع: قوله تعالی: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ...} الآية.

هذا تقرير لقيمومته تعالی، فما دام له علم بما في الأرحام وهو الذي يصوّره فکيف يخفی عليه شيء، کما أن الذي يکون التکوين بيده وهو عالم بخفايا الإنسان فلابد أن يکون التشريع أيضاً بيده.

وقيل: هذا أيضاً ردّ لزعم النصاری أن عيسی (عليه السلام) ابن الله حيث إنه ولد من غير أب! فيقال لهم: لکنه وُلد من أم، وأن له صورة، وقد صوّرها الله تعالی، والقادر علی إعطاء الصورة قادر علی الخلق من غير أب أيضاً.

وقوله: {كَيْفَ يَشَاءُ} لبيان أنه تعالی المهيمن علی الوجود کلّه، فالقوانين الطبيعية خاضعة لإرادته سبحانه، فهو الذي قدّرها، فهو القادر علی تغييرها، ولذا سلب الإحراق عن نار إبراهيم (عليه السلام) من غير تبدّل في حقيقة تلك النار، بل في الحقيقة إن الغيب هو المهيمن علی الطبيعة، فالموت في الظاهر مستند إلی أسبابه الطبيعية کالقتل أو الهرم ونحو ذلك، لکنه في الواقع مستند إلی قبض الله تعالی للأرواح مباشرة أو بواسطة ملك الموت أو أعوانه، وهکذا الرزق وسائر الأمور، نعم لئلا يکون جبر فقد يرتب الله تعالی الأسباب الغيبية علی الأسباب الطبيعية، بمعنی أن الإنسان إن عمل بمقتضی الأسباب الطبيعية فإن الله تعالی يهيّأ الأسباب الغيبية أيضاً، وقد مرّ بعض الکلام في سورة البقرة الآية 275 فراجع.

وإنما کانت مشيئته نافذة بلا معارض لأنه هو المعبود دون سواه وله العزة والقدرة فلا تغلب مشيئة مشيئته، بل إن الناس يشاؤون لأن الله تعالی أراد

ص: 20

خلقهم مختارين، قال تعالی: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}(1)

بل لايکون شيء في الکون إلاّ بمشيئة الله تعالی، حيث إنه تعالی شاء أن يکون الإنسان مختاراً، وشاء تقدير القوانين الطبيعية وغيرها، وتعلّق قضاؤه وقدره بکل شيء، حتی أفعال الإنسان، لکن لا بما يلزم منه الجبر بل بما يبقی الإنسان علی اختياره، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، وقد ذکرنا تفصيل هذا في شرح أصول الکافي (باب أنه لايکون شيء في الأرض والسماء إلا بسبعة) فراجع.

وليست مشيئته اعتباطاً، بل هو الحکيم الذي لايصنع شيئاً إلاّ لمصلحة، ولذا تمّت الآية بقوله: {هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

ص: 21


1- سورة الإنسان، الآية: 30.

الآيات 7-9

اشارة

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}

حول المحکم والمتشابه في القرآن

اشارة

7- وکما يصوّرکم الله في الأرحام کيف يشاء بحکمته، کذلك ينزل الکتاب کما يشاء بحکمته ف {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن {مِنْهُ} من الکتاب {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} ظاهرة الدلالة لاتخفی علی أهل اللسان وأريد ظاهرها، {هُنَّ} أي الآيات المحکمات {أُمُّ الْكِتَابِ} أصله ومرجع الناس إليها فهي التي تدل بظاهرها علی العقائد والأحکام والأخلاق وسائر مايهدي الناس، {وَأُخَرُ} من الآيات {مُتَشَابِهَاتٌ} لايُراد ظاهرها فتشتبه علی الجاهل بمقاصدها.

ثم إن الناس في کيفية تعاملهم مع الکتاب علی ثلاثة أصناف: الزائغين، والراسخين، وأولي الألباب.

{فَأَمَّا} الصنف الأول فهم {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} انحراف عن الحق

ص: 22

{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} من الکتاب اتّباعاً علی خلاف المراد، وغرضهم {ابْتِغَاءَ} أي طلب {الْفِتْنَةَ} بإضلال الناس عن دينهم {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي تأويل الکتاب بما يتطابق مع هواهم ومشتهياتهم، فيتلاعبون بکل معاني الکتاب بإرجاع المحکم إلی المتشابه، وإرجاع الناسخ إلی المنسوخ، والعام إلی الخاص... وهکذا، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} تأويل الکتاب کله {إِلَّا اللَّهُ} تعالی، والله سبحانه قد أفاض علم التأويل کلَّه إلی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام) .

والصنف الثاني: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} والرسوخ هو أشد الثبات، أي ثابتون فيه وذلك لکثرة علمهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} بالکتاب کلِّه، {كُلٌّ} من المحکم والمتشابه {مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، وأفضلهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) علّمه الله تعالی کل علم التأويل، ومن بعده أوصياؤه (عليهم السلام) علّمهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) کل ذلك العلم.

والصنف الثالث: هم المؤمنون التابعون للراسخين، وهم أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الهوی {وَمَا يَذَّكَّرُ} بعدم الإسراع في تفسير المتشابه {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} العقل الخالص، وهم الذين يتبعون الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام) .

8- ودعاء أولي الألباب هو أن يستمر الله في هدايتهم، فيقولون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} بترك اللطف، فإن الهداية هي إفاضة مستمرة فلولم يستمر لطفه لزاغوا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إلی الإيمان بکل القرآن، {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} حتی يکون إيماننا عن معرفة وبصيرة، فقد يکون الايمان

ص: 23

إجمالياً من غير معرفة، وقد تنضم المعرفة إلی الايمان وهو نور علی نور، {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} معطي الهبات بکثرة.

9- فلا تزغ قلوبنا حتی لا نکون يوم القيامة من المخذولين ف{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ} کلِّهم {لِيَوْمٍ} أي في يوم أو لحساب يوم {لَا رَيْبَ فِيهِ} لاشك فيه عند ذوي العقول، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} الوعد بالحساب والجزاء.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}.

مرّ في الآية الثالثة قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}، وکان الغرض هناك بيان قيوميّته تعالی علی التشريع کقيوميّته علی التکوين، وأما الغرض في هذه الآية فهو بيان تقسيم الکتاب إلی صنفين وأن کلا الصنفين من الله تعالی، فهو أنزلهما لحکمته ورحمته، ثم يُعَلِّم المؤمنين کيفية الاهتداء بهما، فالمحکم بجعله المرجع والأصل، والمتشابه بالرجوع إلی الراسخين لفهمه.

الثاني: قوله تعالی: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}.

و هنا مطالب:

المطلب الأول: معنی المحکم والمتشابه

المطلب الأول: (المحکم) من الإحکام بمعنی الإتقان والمنع عن تعرض الخلل فيه، و(المتشابه) بمعنی إشتباه الجاهل في المقصود منه.

وکل القرآن له ظاهر بحيث يعرف مفردات الکلمات ومعانيها کل عارف باللغة العربية، ولذا کان العرب الجاهليون حتی الأميين منهم يعرفون ظواهر الآيات بحيث لم تکن لهم ألغازاً أو أحاجي، مثلاً قوله تعالی: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

ص: 24

نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(1) مفردات الکلمات واضحة المعنی، لکن ما هو المقصود بالنظر؟ هل النظر الحسي بمعنی الرؤية کما تقوله المجسمة، أو النظر إلی رحمته تعالی وانتظارها کما هو مقتضی محکمات القرآن، کقوله تعالی: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}(2)، وقوله: {لَنْ تَرَانِي}(3) وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(4)، وکذا قوله تعالی: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(5) واضح المعنی من حيث المفردات، لکن هل الاستواء بمعنی الجلوس الحقيقي کما يقوله الضالون، أو بمعنی استيلاؤه علی الکون أجمع، واستواء نسبته إلی الأشياء کما هو مقتضی الآيات المحکمة ومقتضی بيان الراسخين في العلم.

والحاصل أن القران کلّه - باستثناء الحروف المقطعة - واضح المفردات واضح المعاني، قال تعالی: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}(6)، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا}(7)، لکن المقصود قد يشتبه علی من لايعرفه، مثلاً قولهم في الکنايات: (زيد کثير الرماد)، مفردات الجملة ومعناها واضحة، لکن المقصود هو بيان سخاء زيد، وهنا قد يأتي جاهل ويحمل معنی الجملة علی وساخة زيد وقذارته، وما ذلك إلاّ لجهله بالمقصود،

ص: 25


1- سورة القيامة، الآية: 22-23.
2- سورة الأنعام، الآية: 103.
3- سورة الأعراف، الآية: 143.
4- سورة الشوری، الآية: 11.
5- سورة طه، الآية: 5.
6- سورة النحل، الآية: 103.
7- سورة الکهف، الآية: 1-2.

أو لغرض آخر کعداوته لزيد فيستغلّ الکلام للإيقاع به - مثلاً - .

نعم قد يعرض الإجمال علی بعض المفردات بسبب اختلاف الاصطلاحات أو حدوث تغيير في بعض المفردات أو النقل أو لاختلاف اللهجات أو وجود الاشتراك اللفظي، لکن ذلك الإجمال يرتفع بالتدبر والتحقيق وبمراجعة الراسخين في العلم.

المطلب الثاني: مصاديقهما

المطلب الثاني: إن للمحکم والمتشابه مصاديق متعددة، فباعتبار أحد المصاديق کان بعض القرآن محکماً وبعضه متشابهاً، وباعتبار آخر کان کل القرآن محکماً وکلّه متشابهاً.

فباعتبار وضوح المقصود أو احتياجه إلی بيان، ينقسم القرآن إلی محکم ومتشابه.

وباعتبار إحکام الآيات، وکونها تصدّق بعضها بعضاً، وإعجازها، ورفعتها فکلّها محکمات، ومن هذه الجهة يشبه بعضها بعضاً، قال تعالی: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(1) وقال سبحانه: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}(2).

المطلب الثالث: سبب وجودهما في القرآن

المطلب الثالث: سبب وجود المتشابه في القرآن أمور، منها:

1- إن بعض المطالب دقيقة غير محسوسة: فلا تتحمّلها عقول الذين لايألفون سوی المادة والأجسام، وخاصة في صفات الرب تبارك وتعالی، والناس بفطرتهم يدرکون وجود الخالق، لکنهم لم يکونوا يرتقون إلی

ص: 26


1- سورة هود، الآية: 1.
2- سورة الزمر، الآية: 23.

تنزيهه عن المادة والماديات، لذا اختاروا آلهة حجرية أو بشرية، وحتی بنوإسرائيل بعد عبورهم البحر ومشاهدتهم الآيات الباهرات خاطبوا موسی (عليه السلام) : {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}(1)، ثم لم يزل ذلك کامناً في نفوسهم إلی أن أظهروه في عبادة العجل.

ولذلك فالآيات الدالة علی تلك المعاني الدقيقة مع أن الله تعالی يسّرها للذکر، لم يکونوا يفهمون معانيها إلا بطريقة غير سليمة.

وقد جعل الله تعالی طريقاً واضحاً لفهم المقصود، وهو أن أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ببيان المعاني والمقاصد قال تعالی: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(2)، وقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ}(3)، ورسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قد عيّن الأئمة من بعده - بأمر من الله تعالی - وجعلهم المرجع في فهم المتشابه، ولو کان الناس يجعلونهم حيث جعلهم الله تعالی ويتبعونهم ويستقون علومهم منهم لما بقي اختلاف ولاتّضح المراد للجميع، لکن الناس أخّروهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، فضلّوا وأضلّوا، قال تعالی: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }(4).

2- ومن ذلك يظهر سبب آخر وهو امتحان الناس، فلو لم تکن أسباب

ص: 27


1- سورة الأعراف، الآية: 138.
2- سورة النحل، الآية: 44.
3- سورة النحل، الآية: 64.
4- سورة البقرة، الآية: 253.

الضلال موجودة لبطل الامتحان، فکان وجود المتشابه من أسباب الامتحان.

3- نسخ بعض الآيات، حيث کان المقصود هو العمل بتلك الآيات لفترة معيّنة، وبانتهاء المصلحة يتبدّل الحکم فتنسخ تلك الآيات مع بقاء تلاوتها في القرآن - لوجود أغراض أخری منها کما مرّ في سورة البقرة - وقد يشتبه الأمر علی الجاهلين فلايعرفون الآيات المنسوخة، فيستمرون في العمل بها، مع أن أمد العمل قد انتهی وبقيت الآية لأغراض أخری.

ولعل ما ورد في بعض الأخبار من أن المتشابه هو الذي لايُعمل به، يراد به الآيات المنسوخة فإنها من التشابهات ولايجوز العمل بأحکامها حيث إنها نسخت، وأما سائر الآيات المتشابهة وبعد بيان الراسخين لمعانيها فإنها يجب العمل بها.

4- وقد يکون سبب التشابه هو سعة اللغة وفصاحة الکلام وبلاغته، فمن البلاغة أن توضع المعاني العالية والدقيقة في قالب ألفاظ مُيسّرة، ولذا يکثر المجاز والکناية واستعمال الألفاظ المشترکة في الکلام البليغ، والقران معانيه رفيعة ومقاصده سامية وباطنه عميق فلولا أن الله مَنَّ علی الناس بتيسيره لما فهموه أصلاً، قال تعالی: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}(1)، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(2)، وقال: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}(3).

ص: 28


1- سورة القمر، الآية: 17.
2- سورة الدخان، الآية: 58.
3- سورة الزخرف، الآية: 2-4.

المطلب الرابع: المحکمات أ ُم الکتاب

المطلب الرابع: کون المحکمات أُمّ الکتاب بمعنی أنها أصله التي تتضمن معارفه وأحکامه ومواعظه، ونحو ذلك، فالمحکمات الواضحة المقصود تشتمل علی کل الأمور المرتبطة بالهداية، فأصول الدين وأصول الأحکام والأخلاق والمواعظ والإرشاد وسائر الحقائق موجودة في المحکمات، وأما المتشابهات فهي أيضاً تتضمن تلك الأمور وتفاصيل أخری، لکنها لاتختص بما لايوجد في المحکمات.

وبعبارة أخری: أسس الهداية کلّها موجودة في المحکمات، فلا يوجد أصل تخلو المحکمات منه، وأما المتشابهات فهي تتضمن تلك الأصول أيضاً وبعض الأمور المتفرعة.

ومن لوازم کون المحکمات أم الکتاب هو رجوع المتشابهات إليها، لا أن أمومتها منحصرة في ذلك، کما هو واضح.

المطلب الخامس: کيفية رجوع المتشابهات إلی المحکمات

اشارة

المطلب الخامس: کيفية رجوع المتشابهات إلی المحکمات هو عن طريق معرفة المحکم عن المتشابه أولاً، ثم تفسير المتشابه بما يقتضيه المحکم، وهذا لايتيسر إلا عبر مراجعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام) ، لأن المبطلين قد يبدلّون المحکم بالمتشابه، فيعتبرون المتشابه محکماً والمحکم متشابهاً، کما فعلوه في قوله تعالی: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} حيث اعتبروه متشابهاً مع أنه محکم، وفي قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فاعتبروه محکماً مع أنه متشابه، نعم قد تکون آيات يتفق الکل علی کونها محکمة فحينئذٍ يمکن إرجاع المتشابهات إليها.

الثالث: قوله تعالی: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ...} الآية.

ص: 29

هؤلاء الصنف الأول من الناس: فهم قد ينتحلون الإسلام، أو هم منافقون لکنهم يريدون تشکيك الناس في دينهم وإضلالهم، فيأتون إلی الآيات المتشابهة، فيتبعونها، أي يتعلقون بها ويشرحونها بخلاف المقصود والمراد منها، وليس المراد يعملون بالآية، وذلك لأن الآيات المتشابهة قد لاترتبط بالعمل بل بالاعتقاد، کما أن الزائغين قد لايکونون من المسلمين بل من الکفار الذين يريدون الإضلال والإغواء، وغرض هؤلاء أمران:

1- الفتنة، أي إضلال الناس عن دينهم، کما قيل في سبب نزول الآية أن وفد نصاری نجران استدلوا علی کون عيسی (عليه السلام) ابناً لله تعالی بأنه ولد من غير أب وأنه کلمة الله وأنه روح منه(1)، فأرادوا إضلال الناس عن قوله تعالی: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}(2)، وهکذا جميع المبتدعة من منتحلي الإسلام يستدلون علی باطلهم بآيات متشابهة من القرآن الکريم بغية إضلال الناس إلی بدعتهم.

2- تأويل القرآن، وليس المراد تأويل خصوص الآيات المتشابهة، بل الظاهر أن مرادهم هو تأويل کل القرآن - حتی المحکمات منه - بما ينسجم مع زيغهم وأهوائهم، وسياق الآية يدل علی رجوع ضمير {تَأْوِيلِهِ} إلی القرآن الکريم کلّه، وذلك لرجوع کل الضمائر إلی القرآن في {مِنْهُ آيَاتٌ} و{تَشَابَهَ مِنْهُ} و{آمَنَّا بِهِ}.

وهذا أخطر من الفتنة، فقد يأولون المتشابه إلی معنی غير مقصود، وقد

ص: 30


1- مجمع البيان 2: 361.
2- سورة النساء، الآية: 171.

يأولون کل القرآن بما يناسب هواهم، وهذا ما يشاهد في المبتدعة حيث أولوا المحکمات وأرجعوها إلی المتشابهات وبالمعنی غير المقصود منها، وفي ذلك تحريف للمعاني وإلباس العقائد الباطلة بلباس الحق، ولذا وُجدت المجبرة والمشبهة والمفوضة والقدرية ونحوهم من النحل الفاسدة التي قد تکون کفراً في الباطن.

وقد روي عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال لعلي (عليه السلام) : «تقاتل علی التأويل کما قاتلتُ علی التنزيل»(1) وذلك لأنهم قاتلوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إنکاراً لرسالته وتکذيباً لکون القرآن کلام الله تعالی، فلما انهزموا في المعرکة دخلوا في الإسلام نفاقاً ثم قاتلوا أميرالمؤمنين (عليه السلام) علی معاني القرآن، فأنکروا نزول الآيات فيه (عليه السلام) بل وضعوا أحاديث في نزول آيات أخری فيه مع أنها نزلت في الکفار والمنافقين، کما ابتدعوا عقائد وعبادات وأعمالاً ألبسوها لباس الدين وأوّلوا القرآن ليتطابق معها، فقاتلهم علی التأويل ليرجع الحق إلی نصابه، وکما نجح الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في إثبات التنزيل رغم بقاء کثيرين علی الکفر والنفاق، کذلك نجح أمير المؤمنين (عليه السلام) في إبقاء التأويل الصحيح رغم سيطرة الأمويين وسائر الظالمين، فبقيت الحجة ف{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}(2).

ومن ذلك يتضح معنی ما روي من أن المحکمات هم أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) ، والمتشابهات من أعدائهم(3)، فلعلّ المقصود من هذا التأويل واضحة، عکس

ص: 31


1- بحار الأنوار 28: 45 عن أمالي الشيخ الطوسي.
2- سورة الأنفال، الآية: 42.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 364 عن الکافي.

هو أن الأئمة (عليهم السلام) يبيّنون المحکمات کما أن أعدائهم يتبعون المتشابهات، أو أن الأئمة واضح کونهم حقاً فالبراهين والأدلة عليهم أولئك فما يستدل لهم من المتشابهات التي لايُرادون بها.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}.

معنی التأويل

(التَأوِيلَ) من الأوْل أي هو ما يؤول إليه الشيء ويرجع إليه، وقوله: {تَأْوِيلَهُ} أي تأويل القرآن کله، کما أن أهل الزيغ يريدون تأويل القرآن کله بما يتطابق مع أهوائهم.

وقد دلت هذه الآية وآيات أخری أن للقرآن کله تأويلاً کما قال تعالی: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ...}(1)، وقال سبحانه: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}(2).

وتأويل القرآن هو الحقائق المقصودة فيه، ومن مصاديقها بطون القرآن أي المعاني التي لايدل عليها الظاهر لکنها مقصودة أيضاً، وهذا هو المعنی الشائع والمصطلح للتأويل، لکنه أحد مصاديق المعنی اللغوي العام الذي هو المراد من کلمة التأويل في القرآن الکريم.

وبعبارة أخری: (التأويل) بمعناه اللغوي هو المرجع والمئآل وهو المراد في هذه الآيات، أي حقائق القرآن المقصودة من ألفاظه ومعانيه ومن مصاديقه التأويل الاصطلاحي - أي المعاني التي لاتستفاد من الظاهر لکنها مقصودة - .

ص: 32


1- سورة الأعراف، الآية: 52-53.
2- سورة يونس، الآية: 39.

مثلاً: {أَقِيمُواْ الصَّلَوٰةَ} معناه واضح لکن هناك غرض من إقامة الصلاة هو النهي عن الفحشاء والمنکر ثم القرب إلی الله تعالی ونيل رضاه والجنّة، فهذه حقائق هي مئال ومرجع الآية، وهذه حقائق يعلمها الله تعالی وعلّمها الراسخين في العلم، وقد بيّن الله وأولياؤه بعض تلك الحقائق للناس، فتأمل.

ثم إن التأويل الاصطلاحي - ببيان معاني للآيات لاتستفاد من ظاهرها - هو علم خاص بالله تعالی علّمه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ولا طريق لنا إلی الوصول إليه إلاّ بواسطتهم، وأما التأويل بمعناه اللغوي العام فقد يمکن وصول بعض العلماء الربانيين إليه.

ومن ذلك يتضح أن التأويل بحاجة إلی رسوخ في العلم، فإن أريد معنی التأويل العام فالرسول والأئمة أبرز المصاديق ويدخل فيه العلماء الربانيين - الذي أخذوا علومهم عبر التمسك بالثقلين - بل عدّ القرآن من الراسخين بعض أهل الکتاب قال سبحانه: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي من أهل الکتاب {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}(1)،

وإن أريد المعنی الاصطلاحي فهم (عليهم السلام) المصداق الوحيد فلا راسخ غيرهم.

الخامس: قوله تعالی: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ...} الآية.

(الرسوخ) بمعنی الثبات، فالمعنی أنهم ثابتون في العلم، وذلك لکثرة علمهم ومعرفتهم لحقائق الأمور وقد اختلف في أن الواو في (الراسخون) هل هي عاطفة أم استيناف، فإن کانت عاطفة فالمعنی إن العالم بالتأويل هوالله والراسخون، وإن کانت استيناف فالمعنی إن العالم بالتأويل هو الله

ص: 33


1- سورة النساء، الآية: 162.

تعالی فقط، لکن هذا لاينافي تعليمه تعالی التأويل للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، وذلك لما مرّ مراراً من أن کل کمال خاص بالله تعالی، وهو سبحانه قد يفيض من ذلك الکمال لمن يشاء، کعلم الغيب الذي يختص بالله تعالی {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(1)

لکنه تعالی قد يفيض من علم الغيب لمن يشاء من عباده، کما قال: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(2).

فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : إن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أفضل الراسخين في العلم، فقد علم جميع ما أنزل الله عليه من التنزيل والتأويل، وما کان الله لينزل عليه شيئاً لم يُعلّمه التأويل، وأوصياؤه يعلمونه کله(3).

وأما قولهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فهو دليل علی رسوخ علمهم وقوة إيمانهم، وفي التقريب: فإنهم جمعوا بين فضيلتي العلم بالتأويل والإذعان بصحة المتشابه، بخلاف الجهال فإنهم يعترضون علی المتشابه أولاً ويفسرون حسب أهوائهم ثانياً، وهکذا نجد الآن في العرف: العالم الورع يجمع بين الفضيلتين، والجاهل يشتمل علی الرذيلتين(4).

السادس: قوله تعالی: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.

وهؤلاء الصنف الثالث، فليس في قلوبهم زيغ، ولاهم من الراسخين في العلم، لکنهم مؤمنون مهتدون، وسبب ذلك ابتعادهم عن هوی النفس

ص: 34


1- سورة النمل، الآية: 65.
2- سورة الجن، الآية: 26-27.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 366، عن تفسير القمي، وقريب منه في الکافي وتفسير العياشي.
4- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 315.

وامتلاکهم لعقل خلّصوه من الحُجب وشوائب الشهوات والأهواء، فحينما يرجعون إلی عقلهم الخالص يرشدهم إلی الاله الحکيم الرحيم، وأنّ من حکمته أنّه أنزل الکتاب واختار للکتاب حملة ومُبيّنين، وأنه لا اختلاف في الکتاب بل يصدّق بعضه بعضاً، وأنهم لو لم يفهموا أمراً فليس ذلك إلا لقلة علمهم لا لبطلان ذلك الأمر أو تناقضه، قال تعالی: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(1)، وقال تعالی: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}(2).

معنی أولي الألباب

ثم إنه قد وردت روايات کثيرة علی أن أولي الألباب هم شيعة أهل البيت (عليهم السلام) (3)، لأنهم أطاعوا الله والرسول في تولّي الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وإطاعتهم، ثم أخذوا علومهم منهم فهم المعين الصافي النابع من علم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) المستقی من الوحي.

وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ} من الذکر والتذکر، وهو العلم بالواقع ابتداءً أو بعد الغفلة والنسيان، فليس معنی التذکر خصوص ما کان بعد غفلة أو نسيان، بل يمکن أن يحصل العلم ابتداءً، بل حتی مع العلم فإن التوجه إليه بالخصوص هو نوع تذکر، فتحصل أن التذکر علی أقسام، منها: رجوع العلم بعد زواله بالغفلة أو النسيان، ومنها: حدوث العلم بعد أن لم يکن، ومنها: توجه النفس ولحاظ المعلوم، ومن ذلک ذکر الله تعالی استمراراً مع عدم الغفلة عنه أصلاً بل مزيد التفات وترکيز، فتأمل.

ص: 35


1- سورة النساء، الآية: 83.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- البرهان في تفسير القرآن 8: 350 فما بعد.

السابع: قوله تعالی: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا...} الآية.

أي هذا دعاء أولي الألباب، والراسخين أيضاً، وذلك إنهم يعلمون أن الهداية فيض من الله تعالی، وهم يعلمون أنه لولا لطف الله تعالی لضلّوا، فإنه کلما ازدادت المعرفة ازدادت الخشية، کما قال تعالی: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(1)، فلذا يخافون أن يکون مصيرهم الضلال بسوء الاختيار قال تعالی: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}(2)، وقال تعالی: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(3).

وقد مرّ مفصلاً أن الهداية والضلال من الله تعالی، لکنه سبحانه يهدي الجميع ابتداءً، فمن قَبِل الهداية بحسن اختياره زاده الله هدی، قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(4).

و من رفض الهداية لايقطع الله لطفه عنه، إلی أن يفقد قابلية الهداية فحينئذٍ يختم الله علی قلبه ويقطع عنه ألطافه فلا يؤمن حتی يری العذاب الأليم بسوء اختياره، قال تعالی: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}(5)، وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}(6).

ص: 36


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- سورة الأعراف، الآية: 175-176.
3- سورة الصف، الآية: 5.
4- سورة محمد، الآية: 17.
5- سورة البقرة، الآية: 26.
6- سورة إبراهيم، الآية: 27.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أکثروا من أن تقولوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ولا تأمنوا الزيغ»(1).

وأيضاً قد يکون المعنی لاتختبرنا بما لانتمکن من حفظ إيماننا معه فنزيغ عنده، وفي الدعاء «أعوذ بك من مضلاّت الفتن»(2)، فقد يکون الإنسان علی الصراط المستقيم لکنه حين تشريع جديد أو امتحان صعب يسقط، کقوله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} فإن الله لو لم يخلق آدماً (عليه السلام) أو لم يأمر إبليس بالسجود له لما کان إبليس يتمرد ويعصي، فلما خلقه وأمره بالسجود له عصی وتمرد، وکقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا}(3).

ثم إن دعاءهم {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} بعد دعاءهم {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} إنما هو لأجل زيادة الألطاف، فعدم الزيغ لطف لکن قد يبقی الإنسان علی عدم معرفته بالحقائق فهو مؤمن إجمالاً وغير زائغ قلباً لکنه جاهل بمعنی المتشابه وتأويله، فيدعون الله تعالی أن يهب لهم رحمة عظيمة من عنده ليعرفوا المتشابه وليتمسکوا بالراسخين بالعلم ليزدادوا مقاماً ودرجة وقرباً.

الثامن: قوله تعالی: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ...} الآية.

وهذا من تکملة دعاءهم بعدم الزيغ وهو کالتعليل لطلبهم الرحمة، فإن الزائغ قد يتوهم أنه يتمکن من الفرار عن العقاب، لکن أولي الألباب والراسخين يذعنون بيوم الجزاء فيدعون الله أن يثبتهم علی الايمان لينجوا من

ص: 37


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 369، عن تفسير العياشي.
2- بحار الأنوار 83: 89.
3- سورة البقرة، الآية: 246.

العذاب في ذلك اليوم، فکما أن الهداية من عنده کذلك المجازاة منه تعالی.

والحاصل: هنا مراحل ثلاث، أشاروا إليها في قولهم:

1- أصل الإيمان {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.

2- الثبات علی الإيمان وزيادته {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية.

3- الجزاء الحسن علی الإيمان والعقاب علی الزيغ {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ...}.

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أي لاينبغي الريب فيه لوضوحه وسطوع براهينه، وإن کان قد شك فيه من لايعقلون.

ص: 38

الآيات 10-13

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}

بعد ذکر أصناف المسلمين الثلاث، يأتي الکلام حول الکفار الذين لايذعنون بالکتاب أصلاً ولا يريدون اتباعه لا في محکمه ولا في متشابهه، فقال تعالی:

10- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله وبالرسول وبالقرآن {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} أي لاتفيدهم {أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ} من عذابه أو بدلاً عن رحمته {شَيْئًا} ولو مقداراً قليلاً، {وَأُولَئِكَ} الکفار {هُمْ وَقُودُ النَّارِ} أي المادة التي تشتعل منها النار کالحطب، فهم يستقوون بأموالهم وأولادهم لکن أموالهم تفنی وأولادهم يتبرؤون منهم لما يروا العذاب.

11- وهل نفعت أموال وأولاد من کانوا أکثر منهم قوة؟ کلاّ فإن هؤلاء في تکذيبهم وفي عدم انتفاعهم بأموالهم وأولادهم {كَدَأْبِ} عادة {آلِ

ص: 39

فِرْعَوْنَ} أي فرعون وأتباعه {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قبل آل فرعون {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} دلائلنا الدالة علی العقائد والأحکام، فلم يغن عنهم من الله شيئاً {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي عاقبهم عليها {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

12- بعد أن علمت بهذه الحقيقة فاذکرها للکفار إتماماً للحجة وتثبيتاً لقلوب المؤمنين ف{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} في الدنيا {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} في الآخرة {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ما مهدتموه لأنفسکم وهو جزاء أعمالکم.

13- وهناك قضية شاهدها الجميع في مغلوبية الکفار ف{قَدْ كَانَ لَكُمْ} أيها الکفار أو أيها الناس جميعاً {آيَةٌ} علامة علی صدق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث أخبر بأن يکون للمسلمين إحدی الحُسنيين وقد تحقق ما قاله (صلی الله عليه وآله وسلم) {فِي فِئَتَيْنِ} جماعتين من المسلمين والکفار {الْتَقَتَا} في غزوة بدر {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأجل دينه وفي طاعته تعالی {وَ} فئة {أُخْرَى كَافِرَةٌ} مشرکو مکة {يَرَوْنَهُمْ} يری المسلمون الکافرين {مِثْلَيْهِمْ} أي ضِعفهم مع أن الکفار کانوا ثلاثة أضعاف {رَأْيَ الْعَيْنِ} أي معاينة ظاهرة بالبصر لامجرد علم، فکان المسلمون أقل عدداً وعدة ومع ذلك انتصروا بنصر الله تعالی {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ} يقوّي {بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} من المؤمنين الذي وفوا بشروطه تعالی {إِنَّ فِي ذَلِكَ} نصر المؤمنين {لَعِبْرَةً} اعتبار وموعظته {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} فيبصرون الآيات ويعون حقائقها، عکس الکفار الذين يرونها ولا يدرکونها.

ص: 40

بحوث

الأول: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ...} الآية.

لما کان التقسيم في الآية السابعة حول من ينتسبون إلی الإسلام من الراسخين وأولي الألباب والزائغين، بينت هذه الآية حال الکافرين، لأن الزائغين ينتحلون الإسلام لکنهم يتبعون المتشابهات للفتنة وللتأويل حسب أهوائهم، وأما الکفار فهم ينکرون الکتاب ولا يدعون الانتساب إلی الإسلام.

ويحتمل تعميم الزائغين للکفار الذين يريدون الإشکال علی القرآن أو تحريف تعاليمه عبر اتباع المتشابه وتحريف معناه، فتکون هذه الآية کالتتمة للآية السابقة، أي إن الله جامع الناس ليوم القيامة فقسم منهم وهم الکفار - ومنهم الزائغون - فهم وقود النار وذکرته هذه الآية، وقسم آخر منهم وهم المؤمنون ففي نعيم الجنة کما سيأتي في الآية 15.

ثم إن هؤلاء الکفار يستقوون بالأمور المادية الزائلة ويتوهمون أنها تنفعهم، وسبب ذلك أنهم قصروا عقولهم علی المادة والماديات وغفلوا عن قوة الخالق سبحانه وتعالی، أو توهموا أن الميزان عند الله تعالی هو الأمور الدنيوية، قال تعالی: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}(1) ثم إن الله تعالی يبين لهم أن أموالهم وأولادهم إنما هما من الله تعالی فکيف تحجزهم عن عذابه فقال: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ

ص: 41


1- سورة سبأ، الآية: 34-35.

عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}(1) وقال: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}(2)، عکس المؤمن الذي يری الأموال والأولاد فضلاً من الله تعالی فلابد أن تصرف في مرضاته، وأنه لا أهمية لقلتها وکثرتها، وقال: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}(3).

وإنما قدّم الأموال علی الأولاد، لأن اعتماد الإنسان عليها أکثر من اعتماده علی أولاده، ولأنها أسبق زماناً من الأولاد، فالإنسان يستظهر بأمواله أکثر من استظهاره بأولاده، وهي سبب البطر والعتو أکثر من الأولاد.

وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} إما يرجع إلی الکفار، فهم وقود النار، وإما إلی الجميع أي الکفار وأموالهم وأولادهم الذين اتبعوهم بالکفر، فبدلاً من أن تحميهم أموالهم وأولادهم تتحول هي إلی وسيلة لتعذيبهم، فيأتيهم الضرر من حيث کانوا يريدون النفع، قال تعالی: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}(4) وقال: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ

ص: 42


1- سورة سبأ، الآية: 36-37.
2- سورة مريم، الآية: 77.
3- سورة الکهف، الآية: 39-40.
4- سورة التوبة، الآية: 34-35.

وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ}(1).

و{الْوَقُودِ} هو ما توقد به النار وتشتعل کالحطب، فکما يحترقون بالنار من خارجهم، کذلك تنبع النار من داخلهم، فطينتهم طينة سجين وهي من جهنم.

الثاني: قوله تعالی: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ...} الآية.

(الدأب) هو العادة والشأن، وأصله من العمل المستمر، والمقصود هو العبرة بمن مضی، فهؤلاء الکفار لإحاطتهم بالمال والأولاد يبطرون فلا يرون الحقائق، فيتم تذکيرهم بالذين من قبلهم وقد کانوا أقوی منهم لکن مع ذلك أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر فلم ينتفعوا لابمال ولا بولد ولا بسلطان ولا بأعوان، قال تعالی: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} إلی قوله: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(2).

و{ءَالِ فِرْعَوْنَ} هم فرعون وآله، والمراد أتباعه.

وقوله: {كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا} تفسير لدأبهم، أي عادتهم في التکذيب، أو هو سبب للدأب فيکون المعنی عدم إغناء الأموال والأولاد هو العادة التي جرت في آل فرعون والذين من قبلهم حيث لم تغنِ عنهم، وسبب جريان تلك العادة هو تکذيبهم، فيکون حاصل المعنی أن السنة الإلهية جرت في المکذبين أن لاتنفعهم أموالهم ولا أولادهم.

ص: 43


1- سورة الممتحنة، الآية: 3.
2- سورة التوبة، الآية: 69.

عدم عقوبة المؤمن مرتين في الدنيا والآخرة

وقوله: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي عاقبهم علی الذنوب، کما قال تعالی: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}(1)، والباء إمّا للسببيّة أي بسبب ذنوبهم، فإنه تعالی لايأخذ البريء بجريرة الظالم فإنه لاتزر وازرة وزر أخری، وإما للآلة أي الذنوب کانت آلة الأخذ، نظير قوله تعالی: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ}(2)، وفي ذلك إشعار بتجسّم الأعمال، فتأمل.

وقوله: {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لأن عقابه يساوي الجريمة، عکس العقوبات الدنيوية حيث هي أقلّ من الجريمة عادة، فقد تکون العقوبة تشابه الجريمة وتکون مثلها في الظاهر لکنها في الواقع أقل منها ولاتساويها، مثلاً من يقتل مؤمناً فعقوبته الدنيوية القصاص، وهو عقوبة تساوي الجريمة في الظاهر فقتل بقتل، ولکن هل واقع قتل المؤمن يساوي واقع قتل الجاني؟ کلا، فقتل المؤمن کقتل الناس جميعاً، وقتل الجاني مجرد إزهاق روحه الخبيثة نکالاً به.

ومن ذلك يتضح أن العقوبات الدنيوية قاصرة عن بلوغ کنه الجرائم - عادة - وأما العقوبات الأخروية فهي الجزاء الأوفي الذي يتساوی معها لذلك کان العذاب عذاباً شديداً.

نعم هنا بحث آخر وهو أن الله تعالی بفضله وکرمه لايجمع علی المؤمن عقوبتين - عقوبة الدنيا والآخرة - فمن أ ُجري عليه الحدّ الشرعي يتطهّر من ذلك الذنب فلا يعاقب عليه في الآخرة، وفي الحديث: فالله أحکم وأکرم من

ص: 44


1- سورة هود، الآية: 102.
2- سورة المؤمنون، الآية: 76.

أن يعاقب عبده مرّتين(1) لکن شرط ذلك الإيمان وعدم العتوّ، أما الکافر الجاني فتجمع عليه العقوبتان، وکذا المسلم الذي أ ُجري عليه الحد لکنه يعتو ولايندم ويريد تکرار الجريمة، فدليل عدم جمع العقوبتين لايشملهما.

الثالث: قوله تعالی: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ...} الآية.

کانت الآية العاشرة حول عدم نفع أموال الکفار وأولادهم أمام قدرة الله تعالی في عذابهم، وهذه الآية تعميم لعدم النفع حتی أمام المؤمنين، فکما يعذبهم الله تعالی کذلك سيغلبهم المؤمنون، قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}(2)،

ويحتمل أن يکون {أُوْلَئِكَ} في الآية العاشرة إشارة إلی الأموال والأولاد فقط، وهذه الآية بيان لعذاب الکفار أيضاً مضافاً إلی کون أموالهم وأولادهم وقوداً للنار.

وقوله: {سَتُغْلَبُونَ} بيان لسنةٍ إلهية وهي انتصار الحق في نهاية المطاف حتی وإن جال الباطل لفترة، قال تعالی: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(3) وذلك لأن الله تعالی خلق السموات والأرض بالحق، فلذا من الطبيعي کون الباطل زهوقاً، ولئن کانت حکمة الامتحان والتمحيص سبباً لإعطاء المجال للکفار ولأهل الباطل وعدم منعهم بالقهر والقوة لکن هذا المجال لايسبب غلبتهم علی السنة الإلهية، بل

ص: 45


1- الکافي 2: 443.
2- سورة التوبة، الآية: 14.
3- سورة الصف، الآية: 9.

انتصاراتهم ظاهرية زائلة والحق يغلبهم ولو بعد حين.

ومن ذلك يظهر أن قوله: {سَتُغْلَبُونَ} إشارة إلی الغلبة في الدنيا، وحتی اعتی العتاة فإنهم يموتون ويترکون الدنيا وأهلها وأموالها لايدفعون عن أنفسهم الموت.

وقوله: {وَتُحْشَرُونَ} من الحشر وهو الجمع مع سَوق، أي يجمعون ويساقون إلی جهنم سوقاً لايتمکنون من الامتناع.

والحاصل: إن الکفار يخذلهم الله في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فبغلبة المؤمنين عليهم ولو بعد حين، وکذا بنزعهم عن الدنيا قهراً إلی قبورهم التي يعذبون فيها، مضافاً إلی اتبّاعهم في هذه الدنيا لعنة مع الذکر السيّء، وإضلال أعمالهم، وقد مرّ الکلام في هذه النقاط، وأما في الأخرة: فبالعذاب الشديد الذي لا دافع له.

وقوله: {بِئْسَ الْمِهَادُ} من التمهيد، وهذا بيان لعدله تعالی، فالکفار هم الذين مهدوا لأنفسهم هذا العذاب بسوء اختيارهم وبتکذيبهم بالرسل قال تعالی: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}(1).

الرابع: قوله تعالی: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا...} الآية.

المشهور أن الآية بيان لما جری في غزوة بدر الکبری حيث التقی المسلمون والکافرون في أولی المعارك، وکان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قد وعد المسلمين بأحدی الحُسنيين: إمّا اغتنام القافلة التجارية لقريش، وإمّا النصر في المعرکة، قال تعالی: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ

ص: 46


1- سورة التوبة، الآية: 35.

وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}(1)،

فکان کما أخبر.

ثم إن کونها آية من جهتين:

1- صدق ما أخبر به الله ورسوله، والإخبار عن المستقبل إذا تحقق فهو آية الصدق.

ولم يکن ذلك اتفاقيّاً، کي يقال إنه ليس بآية فأحياناً يرجم الناس بالغيب فيتفق ما قالوه، بل إن الصدق الدائم لکل ما أخبره لاشك أنه آية وعلامة، فلا يعقل الاتفاق الدائم في کل الأخبار، والله ورسوله قد أخبرا بقضايا کثيرة وکلّها صدقت.

2- وانتصار المسلمين في بدر مع قلة عددهم وعُدّتهم، حيث کانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، وکان الکفار حدود الألف، کما أن سلاح الکفار وخيلهم کانت أکثر، حتی قيل أن معسکر المسلمين کان يضم فرسين وستة دروع وثمانية سيوف فقط، ومع ذلك انهزم الکفار أشد هزيمة.

سؤال: انهزم المسلمون أيضاً في غزوة أ ُحد وغزوة حنين رغم کثرتهم، حتی قال تعالی: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}(2).

والجواب: إن انتصار المسلمين في بدر کان خلافاً للموازين الطبيعية، فکان الکفار في غاية القوة عدداً وعدة وأبطالاً، بل وعزيمة قوية للدفاع عن أموالهم في قافلتهم التجارية، وکان المسلمون في غاية الضعف من کل

ص: 47


1- سورة الأنفال، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 25.

الجهات إلّا التأييد الإلهي وهذا آية وعلامة علی نصراللّه تعالی لهم وغلبتهم علی الکفار.

وأما في يوم أ ُحد فکان هزيمتهم بسبب عصيانهم لأمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وکذا يوم حنين بسبب عجبهم وعدم حذرهم، فکان غلبة الکفار في بداية الأمر أمراً طبيعياً، علی أن المسلمين لم ينهزموا في المعرکتين، بل في أ ُحد جمع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلولهم وتوجهوا إلی غزوة حمراء الأسد لمواصلة القتال مع المشركين، وکذا في حنين أنزل الله السكينه علی الرسول وعلی المؤمنين فجمعوا أمرهم وهزموا الکفار.

وببيان آخر: ليست الآية والعلامة هي النصر في کل موطن حتی يستشکل بالهزيمة في بعض المواطن، أو يُنتقض بانتصار بعض الملوك في کل معارکهم، بل الآية هي النصر في موطن لايحتمل فيه النصر أصلاً، بأن تدخل الله تعالی غيبياً فنصرهم، وسيأتي التفصيل في نهاية سورة آل عمران وفي سورة الأنفال.

وقوله تعالی: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} أصل التقابل إنما هو بين الإيمان والکفر، فطائفة مؤمنة به تعالی وأخری کافرة به، ولذا لم يقل واخری تقاتل في سبيل الطاغوت، بل قال: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}، ولذا قيل: إن الکلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين، کما في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}(1)، بل لبيان أنه لايُغني عنه شيءٌ وأن الغلبة لله ولأوليائه، وإنما ذکر قتال المؤمنين

ص: 48


1- سورة النساء، الآية: 76.

في سبيل الله تعالی لأن الآيات السابقة ذکرت تسليم المؤمنين لله بالنسبة إلی الاعتقاد بالکتاب محکمه ومتشابهه والاعتقاد بيوم الجزاء فکذلك تسليمهم له عملاً بأن کان جهادهم في سبيله، وکما ذکرت الآيات السابقة کفر الکافرين وزيغ قلوبهم وتکذيبهم اعتقاداً، کذلك ذکرت بأن قتالهم ناشیء عن کفرهم.

الخامس: قوله تعالی: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}.

ظاهر السياق أن المعنی: يری المسلمون الکافرين مثلي المسلمين، فکانت رؤية المسلمين للکافرين هي مع تصرّف في عيون المسلمين أو قلوبهم بحيث ظنوا أن الکفار ستمائة وستة وعشرين شخصاً، مع أن الکفار کانوا حدود ألف مقاتل، وهذا يتطابق مع قوله تعالی: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}(1)، فإن الله تعالی وعد المسلمين بالنصر حتی وإن کان الکفار ضِعفاً لهم فقال: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ}(2)، فحتی لاتخور عزيمة المسلمين، إذا علموا بأن الکفار ثلاثة أضعافهم، لذلك قلّل الکفار في أعين المسلمين إلی ضعفي عدد المسلمين - وکان المسلمون 313 - ، وکان ذلك شدّاً لعزيمتهم، وأما تقليل المسلمين في أعين الکفار فلأجل أن يقتحموا الحرب بلامبالاة ولا حذر، فکان ذلك مزيداً في هزيمتهم.

ص: 49


1- سورة الأنفال، الآية: 44.
2- سورة الأنفال، الآية: 66.

وقوله: {رَأْيَ الْعَيْنِ} بمعنی أن العدد کان أکثر واقعاً، لکنهم رأوا العدد أقل بتصرّف في أعينهم أو في قلوبهم.

ويحتمل أن يکون التقليل عبر سبب طبيعي مثل تعرجات أو تلال أو نحو ذلك تحجب الرؤية فلم يروا ثُلث معسکر الکفر أو لتفرق عسکر الکفار أو لاجتماعهم معاً بکيفية کانت تقللهم في أعين الناظرين، أو کان من خطأ الباصرة، فإن العين لها مدی لاتتعداه فتخطأ فيما سوی ذلك، کما يری الإنسان غروب الشمس في البحر کما قال: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}(1)، ولعل سبب قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}(2)،

هو إلقاء الرعب في قلوب الکفار بکثرة المسلمين ونظمهم، بل بتخيّل کثرة عددهم.

السادس: وقوله: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ...} الآية.

هذا تعليل لانتصار المسلمين، بأن الله شاء نصرهم، وأيضاً لئلا يغتّر المسلمون فيتصورون أن الله ينصرهم حتی إذا لم يفوا بشروطه تعالی، وکذا ليتبين لهم أن الحکمة قد تقتضي عدم نصرهم في الظاهر.

فالأمر کلّه معلّق علی مشيئة الله تعالی، وهو لايشاء شيئاً اعتباطاً لأنه حکيم، فإذا توقف بقاء دينه علی تدخل الأسباب الغيبية تدخلت کما في معرکة بدر وفي عبور بني إسرائيل من البحر، وإذا لم يتوقف بقاء الدين علی تدخل الأسباب الغيبية فلا تتدخل کما في غزوة أ ُحد وفي مؤتة، بل قد

ص: 50


1- سورة الکهف، الآية: 86.
2- سورة الصف، الآية: 4.

لايشاء تعالی نصر المسلمين عاجلاً لأسباب أخری کالتمحيص ورفع الدرجات وأمثال ذلك، وسيأتي التفصيل في الآيات 140 فما بعد من هذه السورة.

وقوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} أي من له عين فيری آيات الله تعالی، بمعنی أن لاتکون غشاوة علی بصره فيدرك الحقيقة، فلا يکونون کالذين قال الله تعالی عنهم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ}(1)، والحاصل أن المراد أولی البصائر والعقل الذي يدرك الحقائق، لکن التعبير ب {أُولِي الْأَبْصَارِ} لأن البصر هو من أهم أدوات المعرفة، مضافاً إلی حسن المقابلة مع قوله: {رَأْيَ الْعَيْنِ}.

ص: 51


1- سورة الأعراف، الآية: 179.

الآيات 14-17

اشارة

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}

14- إن سبب الزيغ وصرف الکفار عن الحق هو حب الدنيا ف{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} المشتهيات التي تصرف عن الحق، وهذا يکون من فعل الشيطان، وإلاّ فأصل تقديرها من الله سبحانه وتعالی لمصلحة النظام العام {مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الأولاد الذکور {وَالْقَنَاطِيرِ} المال الکثير بحيث يملأ جلد ثور {الْمُقَنْطَرَةِ} المکدسة {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} مُعلّمة بعلامة الجودة أو المرسلة إلی الرعي {وَالْأَنْعَامِ} الإبل والبقر والغنم {وَالْحَرْثِ} الزرع.

لکن اعلموا أن {ذَلِكَ} الذي ذُکِر {مَتَاعُ} ما يستمتع به الإنسان في {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قدّره الله لنظام حياته لا لکي يصرفه عن الحق، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} المرجع فاللازم علی الإنسان أن يحاول الوصول إلی

ص: 52

ذلك المرجع عبر الاستفادة من متاع الدنيا بالنحو المرضي لله تعالی.

15- ثم فصّل الله تعالی حسن المأب بقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} هل أ ُخبرکم {بِخَيْرٍ} أفضل {مِنْ ذَلِكُمْ} المذکورات من الشهوات الدنيوية؟ {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} المعاصي فلم يصرفوا أنفسهم في الشهوات المحرمة واقتصروا علی المُحللَّة منها {عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الآخرة {جَنَّاتٌ} بساتين کثيفة الشجر بحيث غطت فوقها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فالجنة کالمرکب الواحد فوقه أغصان وتحته أنهار {خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} من القذارات المادية والنفسية {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} وهذا أکبر النعم، ولا تتوهموا أن الله لا يری أعمالکم ولا يعلم بنياتکم {وَاللَّهُ بَصِيرٌ} خبير { بِالْعِبَادِ}.

16- وصفات الذين اتقوا هي أنهم {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} بك وبرُسلك وأوصيائهم {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} لنستحق الجنة {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} احفظنا منه، وهذا في مجال العقيدة، فهم اعتقدوا بأصول الدين کلها.

17- وأما صفاتهم العملية فهم من {الصَّابِرِينَ} بدينهم فلا ينکصون علی أعقابهم بسبب المشاکل التي يبتلی بها أهل الإيمان، {وَالصَّادِقِينَ} في أقوالهم فإيمانهم إيمان صدق لانفاق فيه، {وَالْقَانِتِينَ} الخاضعين لله تعالی ولأوامره، {وَالْمُنْفِقِينَ} لأموالهم في الزکاة ونحوها، {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} قُبيل طلوع الفجر.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ...} الآية.

ص: 53

سبب تقدير الشهوات

لمّا ذکر الله سبحانه زيغ قلوب البعض وکفر آخرين، بيّن سبب ذلك في هذه الآية الشريفة، فإعراض الإنسان عن ما يقتضيه عقله وفطرته يحتاج إلی سبب قوي يحجب عن رؤية المصلحة الواقعية أو يسبب إيثار غيرها عليها رغم معرفته بها، قال تعالی: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(1)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «کأنهم لم يسمعوا کلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2)، بلی والله سمعوها ووعوها، ولکن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها»(3) وليس ذلك السبب إلاّ حبّ الشهوات، فإن الله تعالی قدّر المشتهيات في الإنسان کوسيلة لاستمرار نظام الحياة ولتکون قنطرة لنيل الدرجات الرفيعة في الآخرة، ولکن ليتم الامتحان وتظهر جواهر النفوس ومکنوناتها خلق الإنسان مختاراً في حسن الاستفادة من تلك المشتهيات أو سوء الاستفادة منها.

فلولا شهوة النکاح لعزف غالب الناس عن الزواج لکثرة مشاکله ومسؤولياته وفي ذلك انقطاع النسل، ولولا شهوة الأبوة لما انجب غالب الناس لئلا يقعوا في صعوبات تربية الأولاد ورزقهم، ولولا حب المال وشهوة الأکل ونحوه لما عملوا ومازرعوا وما ربّوا الأنعام، وذلك فساد للحياة الدنيا، ولو لم يکن الإنسان مختاراً لما تمکن من الطاعة أو المعصية فيبطل الامتحان ولم يکن مجال لسمو النفس ورقيّها إلی الکمالات، وذلك

ص: 54


1- سورة الملک، الآية: 10.
2- سورة القصص، الآية: 83.
3- نهج البلاغة، الخطبة 3.

خلاف الحکمة، فلذلك کله ولغيره من الأسباب کان تقدير المشتهيات مع تشريع ضوابط لها لتکون في طريق نظم الحياة ومقدمة للدرجات العليا في الآخرة، وکان أيضاً اختيار الإنسان، فلذا يزيّن الشيطان حب الشهوات ليتجاوز الإنسان الحدود المشروعة.

فاتضح من ذلك أن المزيّن في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} هو الشيطان، لأن الآية في سياق التحذير عن الزيغ والکفر وبيان سببهما، وليست الآية في سياق بيان ما قدّره الله تکويناً حتی يکون المزيّن هو الله، کما أنها ليست في سياق بيان الحکم الشرعي في الاستفادة من هذه المشتهيات کي يُفصّل ويقال: إن المزيّن بقدر ولمصالح هو الله، والمزين للمحرّم منها هو الشيطان، هذا فيما يرتبط بهذه الآية.

وأما أصل التزيين فإن کان لمصلحة حفظ النظام أو لأجل کونه قنطرة للآخرة فهو من الله تعالی، قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(2).

وإن کان صداً عن سبيل الله وغفلة عن الآخرة فهو من عمل الشيطان، وينسب إلی الأفعال عادة، قال تعالی: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}(3)، وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(4).

ص: 55


1- سورة الأعراف، الآية: 32.
2- سورة الکهف، الآية: 7.
3- سورة فاطر، الآية: 8.
4- سورة الأنعام، الآية: 43.

وقوله: {مِنَ النِّسَاءِ} «من» إما ابتدائية نشوية، فالشهوات أريد بها المعنی المصدري أي الشهوات الناشئة عن النساء والبنين... الخ، وإما بيانية فالشهوات مصدر أ ُريد به اسم المفعول أي المشتهيات، وإقامة المصدر مقام الصفة للمبالغة، وللإيماء بأنهم انغمسوا فيها حتی أحبّوا شهوتها، فکأنها صارت الغاية والمقصد مع أنها طريق ووسيلة.

و في قوله: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} إشعار بأن الحب تعلّق بالشهوة بما هي شهوة لا بما أنها طريق، وذلك أمر مذموم، فيتأکد أن المزيّن هو الشيطان دون الله سبحانه وتعالی.

الثاني: قوله تعالی: {مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ...} الآية.

بيان لأظهر مصاديق المشتهيات، والمراد من (حب النساء) حب نکاحهن، فالذي ينغمس في الاستمتاع بهن ومقدماته يقع في المحرمات کثيراً وتصرفه عن الطاعة والعبادة، وأما حبّهن لابمعنی حب شهوتهن فهذا أمر محمود مطلقاً، عکس الجاهليين الذين کانوا يکرهون البنات کما قال سبحانه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(1)، ولذا أکد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) علی حبّ البنات والنساء معارضةً للعادة الجاهلية، فعنه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أحب من دنياکم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة»(2).

ص: 56


1- سورة النحل، الآية: 58-59.
2- مجمع البيان 2: 379.

وأما (حب البنين) دون البنات فأيضاً من عادات الجاهلية، کما أن حبهم مذموم إن ألهی عن ذکر الله تعالی کما قال تعالی: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}(1)، وقال: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}(2).

وأما {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} فهي الأموال الکثيرة، والمذموم منه ما عُصِي الله في جمعه ولم يُؤدَّ حقه، وروي أن القناطير هي ملأ جلد الثور(3) و{الْمُقَنْطَرَةِ} أي المکدّسة المجموعة، وهي مشتقة من القناطير فإن من دأب العرب تأکيد الکلمة بلفظة مشتقّة منها وعلی وزن إسم المفعول غالباً، حتی لو کانت الکلمة جامدة، کقولهم: دراهم مدرهمة، وحجاب محجوب، وستر مستور وأمثالها.

وأما {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} فهي المُعلّمَة بعلامة الجودة، إذ لا تُعَلّم إلا الجيدة منها، أو السائمة التي ترسل إلی الرعي فإنها أجود من التی تُعَلّف، وأما {وَالْأَنْعَامِ} فهي الإبل والبقر والغنم، وقد تطلق علی الإبل وحدها، وأما {وَالْحَرْثِ} فهي الزراعة حيث تُحرث الأرض لأجلها.

وما ذکر في هذه الآية أمثلة ظاهرة للمشتهيات التي تُلهي عن ذکر الله وعن الآخرة، وهناك مشتهيات أخری لم تذکر کحب الجاه والسلطة، لأنها أمور معنوية غير ملموسة مادياً، والآية في تعداد المشتهيات الملموسة المحسوسة،

ص: 57


1- سورة المنافقون، الآية: 9.
2- سورة نوح، الآية: 21.
3- مجمع البيان 2: 379.

مضافاً إلی أن المشتهيات غير المادية إنما تُراد عادة لکونها وسيلة للوصول إلی الرغبات الجسدية والتي أصول تلك الرغبات مذکورة في هذه الآية.

کما أن الترتيب روعي فيه ذکر الرغبات الأقوی أولاً، فأوّل، کما أن هذه الرغبات قد تجتمع في بعض الناس، وقد يکون بعضها دون بعض في آخرين.

الثالث: قوله تعالی: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...} الآية.

أي إنما قدّر الله هذه الأمور لکونها وسيلة للاستمتاع في الدنيا، لتوقف النظام الأتم عليها، لکن علی الإنسان أن لايغفل عن الآخرة فعليه أن يجعل هذه الأمور قنطرة لها، فيستمتع بها بمقدار حاجته الجسدية، فينکح من غير إفراط ولا تفريط، ويأکل لابمقدار التخمة ولا أقل من حاجة جسده بحيث يضعف عن أداء المسؤوليات، ويجمع المال من حلال بأداء حقوقه والإنفاق منه في سبيل الله، وهکذا سائر الأمور المالية، وأما مدح الأنبياء بکثرة الطروقة کما في بعض الأحاديث(1)

فليس المراد به الإفراط في الوقاع، بل المراد تعدد الزوجات، لأن الطَروقه بفتح الطاء هي الأنثی، والطُروقة بضمها مصدر بمعنی الوقاع، والظاهر أنّ المراد الأول دون الثاني.

و (المتاع) إذا کان حسناً فهو لا بأس به بل ضروري، قال تعالی: {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}(2)، وقال: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(3)، والمذموم منه ما کان سبباً للغفلة عن الآخرة قال تعالی: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 58


1- بحار الأنوار 62: 5.
2- سورة الصافات، الآية: 148.
3- سورة البقرة، الآية: 36.

يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}(1).

وقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أي المرجع الحسن إنما هو عند الله تعالی، ولايتيسر ذلك إلاّ للمتقي الذي لايتناول الحرام من هذه الشهوات، ولذا فصّل تعالی في {حُسْنُ الْمَآبِ} في الآية التالية التي هي کالتفسير له، ففي الآية تقابل بين {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وبين {حُسْنُ الْمَآبِ} أي في الأخرة، ولما ذکر في الآية تفصيل متاع الحياة الدنيا، اتبعه في الآية التالية بتفصيل حسن المئاب، ومن ذلك يتبين أن {الْمَآبِ} إسم مکان أو مصدر بمعنی المفعول فيتم المقابلة بين المتاع والمئاب.

الرابع: قوله تعالی: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ...} الآية.

لما ذکر تعالی تفصيل متاع الحياة الدنيا وصنوف شهواتها، أراد بيان ما يقابلها من نعيم الجنة لمن اتقی الشهوات المحرّمة، فبيّن تعالی ثلاثة أصناف من نعيم الجنة، وهي:

1- الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، فکأنّ الجنة مرکبّة، ففوقها غصون الأشجار المتشابکة - لأن الجنة هي البستان التي لايری السماء منه لتداخل الأغصان - وتحتها أنهار جارية، فجمال من فوق وتحت، وعلی هذا البيان لاحاجة إلی تقدير تحت أشجارها، بل نفس الجنة لها فوق هي الأغصان، وتحت هي الأنهار، وهذا يقابل القناطير والخيل والأنعام والحرث، مع فرق جوهري هو أنه لابقاء لشهوات الدنيا مع خلود نعيم الجنة، فلذا أتم نعمة الجنة بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا}.

ص: 59


1- سورة محمد، الآية: 12.

2- الأزواج المطهرة عن القذارات المادية کالحيض والمعنوية کالحسد ونحوه، وهي تقابل النساء في شهوات الدنيا.

3- رضوان من الله تعالی، وهذا لايقابله شيء من متاع الحياة الدنيا لقصور متاعه عن ذلك، ولذا کان الرضوان هو الثواب الأکبر، قال تعالی: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1).

وأما ما يقابل البنين، فهو إلحاق الذرية، إذ لاتناسل في الآخرة، قال تعالی: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}(2)،

فيكمل سرورهم بإلحاق ذريتهم بهم.

معنی رضی الله تعالی

وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} أي رضا الله تعالی عن عباده المؤمنين، وهذا أکبر النعم التي يتنعمون بها، فشعورهم بأن خالقهم راضٍ عنهم فيه أکبر السرور، کما لو شعر المرؤوس بأنّ رئيسه الدنيوي الذي يحبه راضٍ عنه، فإن ذلك أعظم عنده من المکافئات المادية.

ولا يخفی أن رضی الله تعالی يختلف عن الرضا في الناس، فإنه تعالی منزّه عن الکيفيات النفسانية وعن التغير، بل المراد، إمّا رضی الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) کما يظهر من بعض الأحاديث، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}(3)، فقال: «إن الله عز وجل

ص: 60


1- سورة التوبة، الآية: 72.
2- سورة الطور، الآية: 21.
3- سورة الزخرف، الآية: 55.

لايأسف کأسفنا، ولکنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون، وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه، وسخطهم سخط نفسه»(1).

وإمّا سنخ ثواب فوق الجنة ونعيمها، وقد يکون ذلك هو تنعمهم بعبادته تعالی، کما قال: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2)، أو غير ذلک.

وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} بيان علمه تعالی بکلا الصنفين - أي المحبّين للشهوات والذين اتقوا - فيجازي کلاً بحسب نيته وعمله، وفي کثير من الأحيان يتشابه العمل الظاهري أو القول فلا تمييز إلاّ بخبرة وبصيرة، والله سبحانه بصير خبير بکل شيء.

الخامس: قوله تعالی: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا...} الآية.

ثم بعد أن ذکر الله سبحانه مصير الذين اتقوا إلی الجنة ونعيمها، فصّل في صفاتهم الإيجابية عقيدة وعملاً، إذ الدين يترکب من منع النفس وکفّها عن المحرمات وهو ما دلّ عليه قوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، ومن عقيدة ومن عمل، أما العقيدة فدلت عليه هذه الآية.

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} هو قول بلسان لکنه يكشف عن إيمانهم القلبي، لأن المنافق يخاطب المؤمنين بالإيمان لکنه إذا خلا إلی شياطينه يجاهر بالکفر، لکن هؤلاء خطابهم مع ربّهم لامع سائر الناس، ومن المعلوم أن الإنسان في خطابه مع ربّه - وخاصة في خلواته - لايقول إلاّ بما يعتقد،

ص: 61


1- الکافي، کتاب التوحيد، باب النوادر؛ شرح أصول الکافي 2: 428 (للمؤلف).
2- سورة يونس، الآية: 10.

فهؤلاء يصرحون بإيمانهم، وهو إيمان بالله تعالی وبما أنزله من عقائد وکتب ورسل وأئمة، کما يصرحون باعتقادهم بالجزاء، وهذا وإن کان داخلاً في الايمان أيضاً إلاّ أن إفراده بالذکر لأجل دعائهم بغفران الذنوب والنجاة من النار، أو هو دعاء بتنجيز الوعد، فيقولون إنا قد عملنا بما أمرتنا به من الايمان، فانجز لنا ما وعدتنا من غفران الذنب والوقاية من النار، حيث وعدهم الله بذلك، فقال تعالی: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(1).

ثم إن غفران الذنب لايلازم الوقاية من عذاب النار، ولذلك يتضرّعون إلی الله تعالی بغفران الذنب وبالوقاية عن عذاب النار، لأنه قد يغفر الله الذنب بعد عذاب المذنب لفترة، فإن بعض الذنوب لها اقتضاء خلود مرتکبها في نار جهنم، لکن الله بفضله ومَنِّه لا يُخلِّد المؤمن في نار جهنم فيعفو عنه، وقد يعذّب في البرزخ أو في القيامة لفترة قبل أن تناله الشفاعة والعفو، فهؤلاء يدعون بالغفران والوقاية، بأن يکون غفراناً تاماً ومن کل الجهات لئلا يعذبوا في النار بذنوبهم ولو لفترة وجيزة، قال تعالی: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}(2)، وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}(3)، وقال في الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(4)، ولکن الله يغفر لمن يشاء منهم

ص: 62


1- سورة الأحزاب، الآية: 70-71.
2- سورة النساء، الآية: 14.
3- سورة النساء، الآية: 93.
4- سورة البقرة، الآية: 275.

قال تعالی: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(1)، وقد تکون المغفرة بعد العذاب لفترة - طويلة أو قصيرة - قال تعالی: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}(2).

فهو استثناء عن الخلود بأن يخرجهم الله تعالی من النار بعد أن يعذبوا فيها فترة، وهذا ما يظهر من الأخبار أيضاً.

السادس: قوله تعالی: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ...} الآية.

وهذا في أوصاف المتقين العملية، فقولهم بأنهم آمنوا يصاحب إلتزامهم العملی، فهم (صابرون) لأن الإيمان بحاجة إلی استقامة عليه، فکم من إنسان دخل في الإيمان طوعاً ثم لمّا رأی صعوبةً ارتدّ أو نافق.

وهم (صادقون) في قولهم هذا، بل صادقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم کلّها، ويتطابق قولهم مع قلوبهم.

وهم (قانتون) أي خاضعون لله فيطيعون أوامره وزواجره بلا تمرّد.

وهم (منفقون) لما أوجب الله عليهم من الحقوق المالية.

وهم يعبدون الله بعيداً عن الرياء ومن أجلی مصاديقه (الاستغفار في الأسحار)، حيث العبادة أشق وأبعد عن الرياء وأجمع للروع.

والحاصل أن هذه الصفات الخمس جامعة لصفات المتقين أجمع:

1- فالصبر نسبتهم مع الآخرين من الکفار والمنافقين والشياطين.

ص: 63


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- سورة هود، الآية: 106-107.

2- والصدق نسبتهم مع أنفسهم، فيتطابق قولهم مع نياتهم وأعمالهم.

3- والقنوت - أي الخضوع - نسبتهم مع ربّهم.

4- والإنفاق نسبتهم مع الفقراء والمحتاجين.

5- والمستغفرين بالأسحار نسبتهم مع ذنوبهم التي يطلبون الله تعالی بأن يتجاوز عنها.

ص: 64

الآيات 18-20

اشارة

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}

18- بعد ذکر صفات المتقين يذکر صفات ربهم، وبيان أن ما في الآيات السابقة من عدم غناء المال والولد وشدة عقابه هو الحق، {شَهِدَ اللَّهُ} شهادة عملية بخلقه المخلوقات الدالة عليه وعلی وحدته، وبشهادة لفظية في کتبه وعبر رسله {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فهو الواحد الذي لا شريك له في ألوهيته، {وَالْمَلَائِكَةُ} يشهدون أيضاً فإن تدبيرهم الأمور بنسق واحد يكشف عن إله واحد، {وَأُولُو الْعِلْمِ} يشهدون، لأن الدلائل علی التوحيد واضحة لاينکرها إلا جاهل، حالکون الله تعالی {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} بالعدل في تکوينه وتشريعه، وهذه الشهادة مطابقة للواقع فإنه {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ} لايغلبه أحد فلا يغني عنه شيء ولا يدفع عذابه أحد {الْحَكِيمُ} في خلقه وتشريعه وفي ثوابه وعقابه، فهذا التوحيد والعدل.

ص: 65

19- ولتوحيده وعدله شرّع الدين ف{إِنَّ الدِّينَ} أي الطريقة في الحياة {عِنْدَ اللَّهِ} الذي أقرّه وشرّعه هو {الْإِسْلَامُ} التسليم لله تعالی في کل شيء وهذا تقرير لتوحيده وعدله، فلا إله آخر ليكون دين آخر، وهو تعالی العادل لذا قرر الطريقة المستقيمة التي بيّنها عبر أنبيائه ورسله ومن بعدهم عبر الأئمة، وإذا رأيتم اختلافاً بين أهل الکتاب وبينهم وبين المسلمين فليس لأجل اختلاف الدين بل {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} الحق الذي عرفوه، فمنهم من آمن، ومنهم من کفر وحرّف، وسبب اختلافهم ليس لشبهة في الدين، بل {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي بسبب البغي حسداً وطلباً للرئاسة.

{وَ} بعد التوحيد والعدل والنبوة والإمامة يأتي دور المعاد، فإنه {مَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ} کلِّها وعلی الخصوص الآيات التشريعية وهي الکتب والشريعة {فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يحاسبهم فيجازيهم.

20- {فَإِنْ حَاجُّوكَ} جادلوا وخاصموا من بعد ما تبيّن لهم الحق، وإنّما جدالهم استمرار لبغيهم {فَقُلْ} في جوابهم {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} فليس ذلك الدين اجتهاد من عندي بل هو ما أنزله الله وأنا قد أسلمت له {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي وأسلم أتباعي لله تعالی فليس اتباعهم لي لعصبية أو جهل وإنّما امتثال لأمر الله تعالی، {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اليهود والنصاری {وَالْأُمِّيِّينَ} الذين لاکتاب لهم {أَأَسْلَمْتُمْ} استفهام يراد منه أمرهم بالإسلام، أو توبيخهم علی ترکه، {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} إلی الحق الذي يعرفونه، {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الإسلام {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} بلا جبر وإکراه، فهؤلاء لايضرونك

ص: 66

لأنك قد أديت وظيفتك بأحسن وجه، وأما الجزاء فهو علی الله {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} يجازي المحسن بالحسنی، والمسيء بالعذاب.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ...} الآية.

سياق الآية هو في تأکيد التوحيد وسائر أصول الدين، وبيان أن ما مرّ في الآيات السابقة من عدم إغناء الأموال والأولاد ومن أخذه الکفار بذنوبهم، ومن مجازاته المتقين بالحسنی کل ذلك هو الحق الذي لاريب فيه، لأنه تعالی الإله الواحد الأحد، فلو أغنی شيء من المال والولد والزينة ونحو ذلك لکان إلهاً أو شريكاً في الألوهية أو راجعاً إلی إله آخر، وبعبارة أخری: إن عدم إغناء شيء من الله ومن عذابه وقدرته تعالی علی عذاب الکفار وثواب المؤمنين دليل علی وحدانيته وعدله تعالی.

أو لمّا ذکر الله تعالی صفات المتقين أتبعه بصفات ربهم وخالقهم.

أو هو تعليل لما في الآيات السابقة، فإن الله تعالی يفعل ما هو مذکور في الآيات السابقة لأنه الواحد العادل الذي لايجور.

وأما شهادته تعالی: فهي شهادة عملية ولفظية، أما اللفظية فهي ما أنزله تعالی في کتبه وعلی لسان رُسله، وأما العملية فهي خلقه وتدبيره وانتظام أمور الکون، إذ لو تعددت الآلهة لفسدتا، وقيل: هو تشبيه الظهور والإظهار في الکشف والانکشاف بشهادة الشاهد.

الآيات 18-20الآيات 18-20

وأما شهادة الملائکة: فکذلك باللفظ، ونقلها إلينا الرسل والکتب، وبالعمل لأن انتظام أمور الکون وتناسق عمل الملائکة کله دليل علی وحدة

ص: 67

الآمر والمدبّر.

وأما شهادة أولی العلم: فأفضلهم الأنبياء وأوصياؤهم (عليهم السلام) وکلّهم اتفقوا علی الشهادة بالتوحيد والعدل، وأما سائر أولي العلم فإن کل من أعمل عقله رأی البراهين الجلية علی التوحيد والعدل، إلا لو اتبع الجهل واقتفی أثر آبائه المشركين أو عاند الحق ولجّ عنه.

وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} حال عن الله تعالی، وهذا بيان لعدله تعالی، و(العدل) هو الاستواء، ومعنی قيامه بالعدل هو کون أفعاله کلها بالعدل سواء في خلقه أو تقديراته أو تشريعه وسائر شؤونه تعالی، وإنّما جاء بلفظ القائم للدلالة علی إشرافه وسيطرته، قال تعالی: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}(1)، وفي التقريب: في ذلك إيمائة لطيفة، فإن القائم يشاهد مالا يشاهده الجالس.

ويمکن إرجاع {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} لله وللملائکة ولأولي العلم، أي شهادتهم شهادة حقٍ لازور فيها، وفي بعض الأخبار تأويل القيام بالقسط بأميرالمؤمنين (عليه السلام) (2)، ولعله بيان لأحد المصاديق، فإن نصب الإمام من عدل الله تعالی.

ولعل المقصود الأصلي هنا هو شهادة أولي العلم، لکن قدّم ذکر شهادة الله والملائکة تقوية لشهادتهم، بمعنی أنه تعالی لما ذکر التوحيد في صدر السورة ثم أتبعه ببيان تکوينه وتشريعه وجزائه أراد بيان أن ذلك کله مطابق

ص: 68


1- سورة الرعد، الآية: 33.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 373، عن تفسير العياشي.

للعقل، ولذا يشهد به أولو العلم، وأمّا الذين اختلفوا وانحرفوا عن الحق فاولئك لم يكن عملهم عن علم بل بسبب البغي والکفر بما يعلمون به وينکرونه، فأراد الله تعالی تقوية وتأکيد شهادة أولي العلم بذکر شهادته وشهادة ملائکته، فيکون هذا التأکيد نظير تأکيد الکلام بالقسم بالله تعالی، أو بجعله شاهداً، کما يتعارف عند الناس، فمن يريد تقوية کلامه ومدعاه يقول أشهد الله علی هذا الأمر أو علی ما أقول، فتأمل.

الثاني: قوله تعالی: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

لعل ذکر {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مرة أخری في هذه الآية...

1- لبيان أن الشهادة هي شهادة حق لازور فيها فهي شهادة تتطابق مع الواقع فالله والملائکة وأولوالعلم يشهدون بأنه لا إله إلاّ هو، وهي شهادة صحيحة متطابقة مع الواقع إذ لا إله إلا هو سبحانه وتعالی کما تقول: (شهد زيد بعلم عمرو، وعمروٌ عالم حقيقة).

2- أو هو تعليل لقيامه بالقسط، فالمعنی: الله واحد، وهو عادل لأنه واحد عزيز حکيم، فوحدانيته وعزته وحکمته هي سبب عدله، وذلك لأن صفات الذات هي منشأ صفات الفعل، ومرجع صفات الذات إلی ذاته الواحدة البسيطة التي لاترکب فيها.

بيان ذلك: أن الله تعالی غير مرکب، لأن کل مرکب محتاج إلی أجزائه وأيضاً لتأخر رتبة المرکب عن الأجزاء، والله سبحانه غير محتاج، وهو الأول فلا ترکب فيه، بل صفاته الذاتية هي عين ذاته، وإنما التغاير في المفهوم لافي الحقيقة والخارج، ثم إن ذاته منشأ لأفعاله، فصفات الفعل هي

ص: 69

تنتزع عن أفعاله سبحانه وتعالی، مثلاً الله تعالی قادر والقدرة عين ذاته، وبقدرته خلق الأشياء، فالخلق صفة فعله، وکان منشأها قدرته التي هي عين ذاته، وعليه فيکون المعنی إنه تعالی قائم بالقسط وهذا صفة الفعل، ومنشأ هذه الصفة وحدانيته وعزته وحکمته وهي صفات الذات.

ولايخفی أن العدل إن کان بمعنی عدم الاعوجاج والتفاوت في الخلق والتشريع والتقدير فهو من صفات الفعل، وإن کان بمعنی کمال ذاته من کل الجهات فهو من صفات الذات، فتأمل.

3- وقيل: دأب القران الکريم هو تنزيه الله وتعظيمه کلّما ذکر أمراً يتعلق به تعالی، فلما ذکر هنا شهادته بالتوحيد والتعديل أراد إکمال الکلام بتنزيهه فقال تعالی: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

الثالث: قوله تعالی: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.

بعد ذکر التوحيد والعدل في الآية السابقة، جاء ذکر النبوة فالله الواحد العادل عيّن منهجاً لخلقه، وأنزله علی أنبيائه، وأکمله بنصب الأئمة، فالدين الذي هو منهج جميع الأنبياء إنما هو الإسلام أي التسليم المطلق لله تعالی في کل ما يريد، فهو إذعان به تعالی، وأخذ المعارف منه سبحانه في کل ما يرتبط بالعقيدة والعمل، وکذا التسليم عند الشبهات، فإذا لم يتضح سبب شيء من أمور الدين للإنسان فعليه أن يقف وقوف تسليم، لا وقوف إنکار، ولا وقوف شك، بل ردّ الأمر إلی الله تعالی وأوليائه، قال تعالی: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(1)، وقد مرّ

ص: 70


1- سورة النساء، الآية: 83.

شطر من الکلام في قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}(1):

الآيات 18-20

فالدين هو الحقائق الثابتة في العقيدة وفي الأخلاق وفي أصول الأعمال، وهذه أمور غير قابلة للتبدّل، وإنّما اختلاف الشرائع في بعض تفاصيل الأحکام ککيفية العبادة مع الاتفاق علی أصلها، وذلك لأن التفاصيل قد تکون في معرض تبدل المصلحة فيها، أمّا أصل الحقيقة الثابتة فهي غير قابلة للتبدّل، ثم في خاتمة الشرائع وهي شريعة النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) تمّ بيان کل تلك الحقائق، ودرءاً للفوضی وللتلاعب في الدين ولسهولة الأمر علی المسلمين تمّ تعيين مصاديق معينة في العبادات والأحکام لاتغيير فيها ولاتبديل، وأما الأمور القابلة للمصاديق المختلفة فشُرع حکم کليّ جامع بلا تعيين للجزئيات، وکذلك جعلت مرونة مشرَّعة ومنظّمة في موارد الطوارئ يعبر عنها بالأحکام الثانوية، وکذا جعلت الأحکام الظاهرية حين عدم التمکن من الوصول إلی الحکم الواقعي لئلا يکون المتدين في حيرة من أمره.

فلذا لااجتهاد في أصل الدين من عقائده وأصول أحکامه وضرورياتها، وإنّما الاجتهاد في الوصول إلی الأحکام الفرعية أو في تطبيق کبريات الشرع علی صغرياتها أو في معرفة الحالات الثانوية أو الأحکام الظاهرية.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ...} الآية.

وهنا مظنة سؤال بأنه إذا کان الدين واحداً وهو الإسلام فلماذا لم يرتضه أهل الکتاب وهم الذين يؤمنون بالأنبياء السابقين وعليهم نزلت التوراة والانجيل؟

ص: 71


1- سورة البقرة، الآية: 128.

والجواب بأن دين الله واحد وطريقه هو الصراط المستقيم، لکن منشأ اختلاف أهل الکتاب هو بغيهم لالشبهة في الدين، فما نزل علی نوح وإبراهيم وعيسی وموسی (عليهم السلام) ورسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وکذا ما نزل علی سائر الأنبياء هو دين واحد وهم قد بشّروا به، لکن أصحاب الأهواء والزيغ والانحراف بدلّوا وغيروا، إمّا حسداً للأنبياء وأوصيائهم، أو طلباً لرئاسة أو مال ونحو ذلك.

وقوله: {بَغْيًا} أي ظلماً، أو طلباً للدنيا.

وقوله: {بَيْنَهُمْ} للدلالة علی أن هذا الظلم أو الطلب إنما هو فيما بين الناس والاّ فالله أمنع جانباً وأعزّ من أن يظلمه أحد، ولذا کملت الآية ببيان سرعة حسابه لهم.

ثم إنه من الواضح أن الإسلام أکمله الله يوم الغدير بنصب الإمام علي (عليه السلام) للإمامة، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(1)، فما ورد في الأخبار من أنه التسليم لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) (2)

فهو من باب بيان المصداق، لأن الاختلاف في المسلمين بدأ من رفض ولايته وعدم التسليم له (عليه السلام) ، ثم حرّف سلاطين الجور ووعاظهم کل شيء، إلاّ أن الله تعالی حفظ دينه وکتابه بواسطة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .

ثم هنا کلام طويل حول فرق الإسلام عن الإيمان، وحول المعاني

ص: 72


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 374.

الاصطلاحية لهما، وقد ذکرناه في شرح أصول الکافي فراجع(1).

الخامس: قوله تعالی: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ} الآية.

وهذا بيان لأصل آخر من أصول الدين وهو المعاد، و{بِآيَاتِ اللَّهِ} هي مطلق دلائله وعلائمه تکوينية أم تشريعية، لکن المراد هنا الآيات التشريعية بالخصوص، إذ الکلام حول الإسلام وهو تشريع الله تعالی وبغي بعض أهل الکتاب في عدم الإذعان له.

وسرعة حسابه يراد بها لازم الحساب وهو الجزاء، وذلك جزاء في الدنيا بأخذهم أخذ عزيز مقتدر بالبلايا والمصائب قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}(2)،

وفي الآخرة بالعذاب الشديد.

السادس: قوله تعالی: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}.

الفاء للتفريع، أي الباغون من أهل الکتاب إذا جاؤوك للاحتجاج، فبيّن لهم طريقتك وطريقة أتباعك وادعهم إلی الإسلام، حيث لافائدة في جدالهم لأن المعاند الباغي لايريد الجدال لأجل الوصول إلی الحق، بل يريده ذريعة لنفسه لبقائه علی بغيه فلذا يلزم عدم إعطائه هذه الذريعة، قال تعالی: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(3).

فإن الجدال لايراد لأجل الجدال، بل الغرض منه هو الوصول إلی الحق،

ص: 73


1- في المجلد السابع.
2- سورة طه، الآية: 124.
3- سورة العنکبوت، الآية: 46.

أما المتعنِّت الذي يعلم الحق لکنه ينكره ولايريد من الجدال إلا إبطال الحق وإعطاء ذريعة لنفسه لبقائه علی ضلاله ولإغواء الناس فلا جدال معه، بل بيان المعتقد الحق ودعوته إليه إتماماً للحجة، قال تعالی: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا}(1)، وقال سبحانه: {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}(2).

نعم قد يکون المجادل بالباطل يثير شبهات في أذهان العامة فلابد من جواب شبهاته ببيان الحق الصراح ودلائله وآياته ونقض الباطل وحججه الداحضة، إتماماً للحجة علی هذا المجادل حتی لو کان معانداً، وهداية لمن يستمع الجدال ومنعاً عن ضلاله وغوايته.

وفي هذه الآية المجادل کان باغياً کما بيّنه تعالی في الآية السابقة {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، فهؤلاء لاجدال معهم بل إتمام الحجة عليهم ببيان الحق الصراح وهو تسليمه (صلی الله عليه وآله وسلم) لله تعالی.

وأما قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} فالظاهر أنه عطف علی التاء في {أَسْلَمْتُ} أي وأسلم من اتبعني أيضاً، وفي هذا اشعار بأن أتباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هم الذين يسلمون وجههم إلی الله تعالی، أما من لايسلّم بعقيدة أو حکم الشرع فهو غير مُسلم حقيقة وإن کان مسلماً صورة وفي الظاهر، أو هو لبيان أن الناس أمام الرسالة علی صنفين: فصنف قد أسلموا وجههم لله وهم أتباع

ص: 74


1- سورة الکهف، الآية: 56.
2- سورة الحج، الآية: 67-68.

الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وصنف لم يسلموا بغياً أو جهلاً.

السابع: قوله تعالی: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَ...} الآية.

المراد من أهل الکتاب في الآية السابقة هم الذين بغوا بعد العلم فهم صنف منهم، وأما المراد في هذه الآية فعامة أهل الکتاب ولذا قرن الأميين - وهم مشرکو العرب الذين لم يكن لهم کتاب - بهم، فالمعنی إذا حاجّك الباغون من أهل الکتاب فبيّن لهم تسليمك وتسليم أتباعك لله تعالی، ثم ادع عامة اهل الکتاب والمشركين إلی الإسلام، فمن استجاب فقد اهتدی ومن تولّی فإلی جهنم وبئس المصير.

وقوله: {الْأُمِّيِّينَ} قد مرّ أن الأمي إما نسبة إلی الأم أي الذي لم يتعلّم القراءة والکتابة، أو نسبة إلی أم القری أي مکه، والمراد بهم العرب حيث لم ينزل فيهم کتاب قبل القرآن ولا کانوا يعرفون الکتابة والقراءة.

وإنما ضمّ الأميين إلی أهل الکتاب لأن المقصود الدعوة وهي عامة للجميع.

وقوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} استفهام للتحضيض والحث علی قبول الإسلام وليس للتوبيخ، لأن الخطاب لم يوجّه للمعاندين بل لعمومهم، ولذا فرّع عليه الاهتداء والتولّي، فالمعنی حيث عرفتم أنّه لابدّ من التسليم لله تعالی وقد دلت الآيات والبراهين علی أن ما عليه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأتباعه هو التسليم لله، فعليكم أن تدخلوا في زمرة المسلمين، فإن أسلمتم فقد اهتديتم وإن أعرضتم فلا يضر الرسول إعراضکم شيئاً.

وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} لبيان أنه ليس مهمة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إکراه

ص: 75

الناس علی الإيمان، فإنه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(1)،

لأن الله شاء أن يخلق الناس مختارين مع إتمام الحجة عليهم ولذا لم يكرههم علی الايمان مع قدرته تعالی قال تعالی: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}(2)، فالأنبياء نجحوا في مهمتهم أيما نجاح، ولم تکن من مهمتهم إيمان کل الناس بل مهمتهم البلاغ وقد أدّوها بأحسن وجه.

وبعبارة أخری: فإن آمن الناس فنفعه يصل إليهم لا إلی الرسول لأنهم اهتدوا، وإن لم يؤمنوا فضرره عليهم لا علی الرسول لأنه قد أدّی مهمته في البلاغ.

وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} هذه تکملة فيها وعد لمن آمن ووعيد علی من کفر، ثم تأتي الآيات اللاحقة لبيان عذاب هؤلاء المتولين الکفار.

ص: 76


1- سورة البقرة، الآية: 256.
2- سورة يونس، الآية: 99.

الآيات 21-25

اشارة

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}

21- ان سبب تولّي هؤلاء هو انحراف عقيدتهم وعملهم فلايتبعون الآيات ولا الدعاة إليها، ف {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} يجحدونها فلا يقبلونها مع وضوحها {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} الدعاة إلی تلك الآيات قتلاً {بِغَيْرِ حَقٍّ} وهذا قيد توضيحي، والمقصود أنه لاحجة لهم في ذلك أبداً {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} أي العدل {مِنَ النَّاسِ} أي من سائر الناس غير الأنبياء {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لاانقطاع له.

22- {أُولَئِكَ} الکافرون القتلة {الَّذِينَ حَبِطَتْ} بطلت فلا فائدة فيها {أَعْمَالُهُمْ} التي ظاهرها حسن {فِي الدُّنْيَا} حبطاً تکوينياً وتشريعياً، {وَالْآخِرَةِ} بعدم الثواب عليها وبتحوّلها إلی هباء منثور، {وَمَا لَهُمْ مِنْ

ص: 77

نَاصِرِينَ} ليشفعوا لهم، فلا أعمالهم تنفعهم ولاشفاعة تنالهم.

23- وهؤلاء لاعذر لهم في کفرهم وأعمالهم وذلك لعنادهم وافترائهم {أَلَمْ تَرَ} استفهام تقريري يراد به الإعلام أو التعجيب {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} حظاً وجزءاً منه بالعلم والعمل به لمطابقته مع ما يرغبون، لکنهم ترکوا مالا يتطابق مع هواهم فهؤلاء {يُدْعَوْنَ} والداعي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون {إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} التوراة أي الأجزاء التي لم تحرّف منها {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} في صفات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وفي أحکام الشرع وسائر شؤون الدين {ثُمَّ يَتَوَلَّى} عن الاستماع إلی الداعي {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} لاکلّهم، {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} بقلوبهم عن الحق، والقليل منهم آمن.

24- {ذَلِكَ} الإعراض والتولي {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب زعمهم الأمن من العقوبة ف {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} في الآخرة {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} قليلة فزعموا أنه لاينبغي ترك الشهوات والرئاسة لأجل ذلك العذاب القليل، {وَ} سبب هذا الزعم أنهم {غَرَّهُمْ} خدعهم {فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من التحريفات في الکتاب وزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، وأن مدة العذاب قليلة سبعة أيام أو أربعين يوماً، وأنه عذاب مجرد مسّ لاأکثر، وأمثال ذلك من العقائد الباطلة التي افتروها فصارت سبباً لانخداعهم وترکهم الحق.

25- {فَكَيْفَ} سيکون حالهم وماذا يصنعون {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ} لجزائه وهو يوم {لَا رَيْبَ فِيهِ} بلاشك {وَوُفِّيَتْ} أعطيت عطاءً وافياً غير منقوص {كُلُّ نَفْسٍ} جزاء {مَا كَسَبَتْ} من أعمالها، وجزاء الکفر والقتل

ص: 78

والافتراء ونحوها هو الخلود في نار جهنم في أشد العذاب {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لأن الجزاء نتيجة أعمالهم.

بحوث

الأول: نظم هذه الآيات وارتباطها بما قبلها هو لبيان أعمالهم التي يحاسبون ويجازون عليها، کما أنه تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن هذه هي أعمالهم منذ القدم فدأبهم الکفر بآيات الله وقتل الأنبياء، کما أنه تفصيل لکفرهم المذکور في الآية السابقة وبيان أنه جامع للکفر بالله ورفض رُسله بل قتلهم ورفض العدل بقتل الآمرين به، کما أنه بيان إلی عدم وجود حجة لهم بل هم معاندون يعملون القبائح، لکن مع کل ذلك لايتمکنون من الفرار عن عذاب الله وجزائه العادل ويومئذٍ لاتنفعهم أعمالهم لبطلانها، ولاشافعين لهم لأن من يأذن الله لهم بالشفاعة هم خصماؤهم وأما أولياؤهم فيتبرؤون منهم ويشترکون معهم في العذاب.

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ...} الآية.

تتضمن الآية بيان أعظم جرائمهم مع إتمام الحجة عليهم وهي:

1- الکفر بآيات الله، أي دلائله وعلائمه الواضحة - تکوينية أم تشريعية - وکفرهم کفر جحود وإنکار، إذ لايمکن إنکار العلائم الواضحة إلا بالجحود، وذلك لأن الجهل بها غير معقول بعد وضوحها وبعد امتلاکهم لأدوات المعرفة من السمع والبصر والفؤاد، قال تعالی: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(1)، لکنهم عطّلوا تلك الأدوات وعاندوا الحق، قال

ص: 79


1- سورة إبراهيم، الآية: 10.

تعالی: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}(1)،

وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(2).

2- معارضة الأنبياء إلی حدّ قتلهم، مع أنهم يعلمون عدم جواز ذلك، ولذا قال تعالی: {بِغَيْرِ حَقٍّ}، وهو قيد توضيحي، جيء به لبيان تمام الحجة عليهم، وفي التقريب: إفادة بأنهم لاحجة لهم في قتل الأنبياء مطلقاً حتی أنه ليس هناك حق مدّعی أيضاً(3).

3- معارضة الآمرين بالعدل إلی حدّ قتلهم أيضاً، مع تمام الحجة عليهم أيضاً، فإن القتلة يعلمون بفطرتهم وبعقولهم أن القسط أمر حسن، وأن الدعاة إليه عباد مکرمون لابد من احترامهم والاتعاظ بما يعظون، لکنهم مع ذلك لم يرفضوا کلامهم فحسب بل قتلوهم.

وکل ذلك کان دأبهم، لذا تکذيبهم للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مع ظهور الآيات البينات کان أمراً کامناً في نفوسهم، بل أرادوا قتله واستئصال شأفة المؤمنين، تأسياً بأجدادهم قتلة الأنبياء وقتلة الآمرين بالقسط، لکن الله شاء شيئاً آخر والله خير الماکرين، فلذا استحقوا العذاب الدائم.

الثالث: قوله تعالی: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

أصل البشارة هي في الخبر الذي يوجب سرور الإنسان، ولکن کثر استعماله في إخبار المعاندين بما يوجب انقباض نفوسهم وانکسارها وحزنها، إما تبکيتاً واستهزاءً بهم، أو للمقابلة، فيبشَّر المؤمنون بالثواب ويبشَّر الکفار بالعقاب.

ص: 80


1- سورة الأنفال، الآية: 6.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 326.

وقيل: هو في الأساس بشارة للمؤمنين بعذاب أعدائهم، فالمخاطب وإن کان الکفار إلاّ أن المقصود بالخبر المؤمنون.

وقيل: جذر الکلمة من البَشَرة وهي ظاهر الجلد، وحيث يظهر أثر السرور والحزن علی بَشَرة الوجه لذلك سُمّي الخبر بما يسر أو يحزن بشارة، إلاّ أن الأغلب استعماله فيما يوجب السرور.

الناس وحبط أعمالهم

الرابع: قوله تعالی: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}.

أي بطلت فلا فائدة فيها، وبطلانها إما لعدم تماميتها بأن کانت خلاف المأمور به، أو لعدم تحقق شرطها المتأخر حيث کان وعد الثواب وعداً بشرط لاوعداً مطلقاً.

وبعبارة أخری: إن أعمالهم الحسنة - سواء کانت اجتماعية أم فردية - لم يفعلوها للتقرب إلی الله تعالی، فلا تمامية للعمل کي يترتب عليه الآثار المرجوة الدنيوية والأخروية.

وفي المناهج: ان الناس في بطلان العمل - علی طوائف:

1- الکفار المعاندون الذين ارتکبوا قتل الأنبياء والآمرين بالقسط وأمثالهم، فأعمالهم حابطة باطلة، لاتترتب عليها الآثار المطلوبة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

2- المنافقون الذين يبطنون الکفر وينتحلون الإسلام، فأعمالهم باطلة من أساسها کالکفار، لافرق بينهم وبين الکفار إلاّ في تظاهرهم بأعمال المسلمين کالصلاة والصوم والحج في الظاهر.

3- الکفار الذين لم يعاندوا ولم يفسدوا في الأرض ولاخالفوا الأحکام

ص: 81

العقلية الضرورية ولم يبدر منهم ضرر علی الدين وأهله، وکانت لهم أعمال حسنة، کإعانة الضعفاء وحسن الخلق ومداراة المسلمين وحسن الجوار معهم والإنصاف ومراعاة العدل الاجتماعي وأمثال ذلك، کحائم الطائي، فلايبعد من فضل الله وکرمه سبحانه أن يحسن إليهم في الدنيا جزاءً لأعمالهم الحسنة، ويحسن إليهم في الآخرة بتقليل عذابهم.

4- المؤمنون والمسلمون الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً... .

فإن کان عملهم الصالح متحداً مع الحرام کالصلاة في المغصوب، أو کان مستلزماً له کالإنفاق بقصد المنّ والأذی، أو کان فاقداً لشرط من شرائط الصحة فهذه الأعمال أيضاً باطلة، لعدم وقوعها علی الوجه المأمور به.

وان کانت أعمالهم الصالحة واجدة لشرائط الصحة، ثم ارتکبوا بعدها أو قبلها معصية، فلا وجه لبطلانها، إذ ليس من شرائط الصحة کون العامل معصوماً أو متقياً عادلاً، وأما قبولها فيظهر من بعض الأخبار أن الله لايقبل بعض الطاعات بسبب بعض الذنوب، کما ورد في الأخبار أن حبس الزکاة يمنع من قبول الصلاة، ومآل ذلك الحرمان إلی العدل الإلهي، وقد أخذه تعالی بعدله وحبط ثواب عمله، ومن الجائز والممکن أن يصفح سبحانه عن الذنب ولايجعله وسيلة لحبط العمل الصالح الصحيح، ومن أدعية سيد الساجدين (عليه السلام) في يوم عرفة: «ولا تحبط حسناتي بما يشوبها من المعصية»(1).

وقد ذکرنا بعض البحوث حول الحبط في سورة البقرة الآية 217(2).

ص: 82


1- مناهج البيان 3: 174-176 (بتصرف وتقديم وتأخير).
2- راجع المجلد الثالث من هذا الکتاب، الصفحة 94 فما بعد.

الخامس: قوله تعالی: {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}.

بطلان العمل تکويناً وتشريعاً

أما بطلان عملهم في الدنيا فتشريعي وتکويني:

أما التشريعي: فهو عدم تشريع ما يحقن دماءهم، فلذا جازت مقاتلتهم بسبب بغيهم وکفرهم، سواء کان جهاداً ابتدائياً أم دفاعياً، کما مرّ تفصيله في آيات الجهاد، عکس المسلم الذي يحقن دمه بمجرد إظهاره للشهادتين، نعم الکافر المعاهد أو الذمي الذي رضخ لحکم المسلمين وأدّی الجزية فهو محقون الدم، وکذا الکافر غير المعاهد وغير الذمي فهو محقون الدم قبل نبذ القتال إليه - أي إعلان الحرب عليه - فلا يجوز قتلهم غيلة.

أما التکويني: فلأنّهم فعلوا ذلك لإزالة الحق وإزهاقه، فلم يتمکنوا من ذلك، قال تعالی: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(1)، وقد يقال بأنهم لاينالون بها المدح والذکر الحسن، أو أن الأعمال الخيرية التي تدفع البلايا لاتدفعها مع الکفر، أو بأنهم لايتنعمون بما يتنعم به المؤمنون من الإطمئنان وسکون القلب واللذات المعنوية، وکل ذلك علی سبيل المقتضي.

وأما قوله: {وَمَا لَهُم مِّن نَّصِرِينَ} فأيضاً في الدنيا وفي الآخرة.

أما في الدنيا: فلاينصرهم الله وملائکته بالمدد الغيبي حين يحتاجون إليه عکس المؤمنين، قال تعالی: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا}(2)، وکذا ساعة الاحتضار والموت، وکذا في الرجعة لاناصرلهم.

وأما في الآخرة: فلا شفعاء يشفعون لهم، لأن الذين يأذن لهم الله في

ص: 83


1- سورة الأنفال، الآية: 8.
2- سورة غافر، الآية: 51.

الشفاعة - من الأنبياء والأئمة والأولياء - لايشفعون لهؤلاء الکفار، فإنّهم کانوا أعداء لهم فلا يأذن الله في شفاعتهم، فيقولون: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيم}(1)،

وقال: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَعَةُ الشَّافِعِينَ}(2)، والمعنی لايشفعون حتی تنفعهم الشفاعة، وأما أصنامهم وأوليائهم الکفار فيتبرؤون منهم ويشترکون معهم في العذاب، قال تعالی: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}(3)، وقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}(4).

السادس: قوله تعالی: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ...} الآية.

هذا لبيان کيفية بغيهم وسببه، وحاصله: أن ذلك بسبب إعراضهم عن کتاب الله حينما لايتفق مع أهوائهم ومصالحهم، وبسبب الافتراءات التي أدخلوها في عقائدهم، وهذان سببان لکل بغي وانحراف، فلا عقيدتهم صحيحة کي تسوقهم إلی الطريق المستقيمة، ولا هم يسمعون إلی ما أنزل الله تعالی کي يطبقوا حياتهم عليه، ومن المعلوم أن قبول ما في الکتاب يمنع عن البغي.

ولذا شدَّد الدين أيما تشديد علی تصحيح العقيدة، لأنها الرؤية العامة التي يری بها الإنسان نفسه وعمله ومايحيط به، وماضيه ومستقبله.

فمن لايعتقد بالله تعالی لايری نفسه ملزماً بشيء من الأحکام والأخلاق

ص: 84


1- سورة الشعراء، الآية: 100-101.
2- سورة المدثر، الآية: 48.
3- سورة الأنعام، الآية: 94.
4- سورة البقرة، الآية: 166.

والأعمال، بل يتحول الأمر عنده إلی اتخاذ هواه رباً، کما نشاهد في الحضارة المادية حيث إن الأصل عندهم الالتذاذ بملذات الدنيا، وکل حياتهم الاجتماعية والسياسية والعسکرية وغيرها تدور علی هذا المحور قال تعالی: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}(1).

ومن لايعتقد بصفاته تعالی أو کانت عقيدته مغلوطة فلا يری نفسه ملزماً بطاعة، کالذي لايعتقد بعلمه تعالی يرتکب الموبقات في خلواته، قال سبحانه: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(2)، ومن يری رحمته من غير حکمته ووعده من غير وعيده قد يمنّي نفسه بالمغفرة والثواب، قال سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(3)، وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}(4).

وکذا من لايعتقد بنبوة الأنبياء ولا إمامة الأئمة لايتبعهم، ومن لايعتقد بالمعاد لايری رادعاً لنفسه عن ترك طاعة أو ارتکاب معصية.

هذا کله في جانب العقيدة.

أما في جانب العمل فکذلك يترکون أحکام الشريعة بما سوّلت لهم

ص: 85


1- سورة الفرقان، الآية: 43-44.
2- سورة فصلت، الآية: 22-23.
3- سورة النساء، الآية: 123.
4- سورة الأعراف، الآية: 156.

أنفسهم من أکاذيب وافتراءات وشبهات واهية، غرضهم منها هو متابعة هوی النفس وارتکاب الموبقات وترك الطاعات والإخلاد إلی الأرض والدنيا.

وقوله: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} قيل في شأن نزول هذه الآية: إنها نزلت حينما دعا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) اليهود إلی تحکيم التوراة في صفاته (صلی الله عليه وآله وسلم) فأبوا ورفضوا ذلك، کما قيل: إنها نزلت في حکم الرجم حيث أرادوا إعفاء بعض أشرافهم عن هذه العقوبة فرفضوا تحکيم التوراة لعلمهم بأن الحکم فيها هو الرجم، وعلی کل حال فالآية عامة للعقيدة والعمل ولايخصصها شأن نزولها.

وقوله: {نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَبِ} أي جزءاً من علم الکتاب أو العمل به، وذلك لأن التوراة حُرّفت ولکن کان جزء منها موجوداً في أيديهم، أو المراد أنهم يأخذون قِسماً من الکتاب الذي يوافق هواهم ويترکون أجزاء أخری لاتوافقها، قال تعالی: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}(1).

وقوله: {يَتَوَلَّى} بمعنی الإعراض عن الداعي، و{مُّعْرِضُونَ} بقلوبهم لايذعنون إلی الحق، والمراد هو شدة بغيهم وجحودهم بحيث جمعوا بين الإعراض عن الاستماع إلی الداعي والإعراض القلبي بما يؤدي إلی ترك العمل.

السابع: قوله تعالی: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ...} الآية.

أي ذلك التولي والإعراض، أو کل ما سبق من الکفر والقتل والتولي

ص: 86


1- سورة المائدة، الآية: 13.

والإعراض وغيرها من الموبقات، کل ذلك بسبب خلل في عقيدتهم، حيث أ َمِنوا العقوبه فتوهموا عدم عقابهم علی أعمالهم، وزعموا أن الله لايعلم بأعمالهم أو أنه ليس بشديد العقاب، وأنهم أبناء الله وأحبائه، وأن آبائهم الأنبياء سيشفعون لهم، وأنّ العذاب خفيف بمقدار المس، ومدته قليلة بين سبعة أيام والأربعين يوماً، وأمثال هذه من العقائد الفاسدة ومنشأ کل ذلك هو الأکاذيب التي لفقوها في عقائدهم وتحريفهم الکتاب، والکاذب يكذب ثم يصر علی کذبه حتی يصدّقه أو يتحول إلی منهج وأسلوب في حياته.

وأمثال هذه العقائد - وبشکل آخر - راجت بين بعض المسلمين أيضاً فکل من يريد التهرّب عن طاعة الله تعالی ويريد ارتکاب الموبقات والتملّص من الوظائف يتذرع بأمثال هذه الذرائع فتارة يتذرعون برحمة الله متناسين حکمته سبحانه. وأخری بالشفاعة مع أنها حق لکنها لاتکون إلاّ لمن ارتضاه الله سبحانه، وثالثة بحبهم أولياء الله، وهل المُحبّ يخالف من أحبّه إذا کان صادقاً في حُبّه؟ ورابعة بأن المهم طهارة القلب متناسين أن المعاصي وترك الطاعات السبب الأساس في اسوداد القلب وخبثه، والله المستعان علی ما يصفون.

وقوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي خدعتهم افتراءاتهم في العقيدة والعمل وتحريفاتهم حتی ترکوا دينهم الحق الذي أنزله الله تعالی، أو خدعتهم في کيفية طريقتهم وأسلوب حياتهم.

الثامن: قوله تعالی: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٖ لَّا رَيْبَ فِيهِ...} الآية.

الرحمة لاتنافي تقدير العذاب

وهذا نقض لما افتروه، فإن کانوا في الدنيا يقولون ما افتروه فکيف

ص: 87

يعتذرون في يوم الجزاء؟ ولئن زعموا أن النار لاتمسهم إلا أياماً معدودات فکيف حالهم إذا رأوا خلودهم في النار وشدة عذابهم حيث نالوا عقابهم وافياً غير منقوص؟ ولئن أصابهم الغرور في دينهم فکيف يصنعون إذا رأوا تبخّر مزاعمهم وأن حالهم کحال سائر الناس؟ ولئن افتروا في هذه الدنيا فکيف بهم إذا رأوا ماکسبوه حاضراً متجسماً أمامهم بشکل عذاب؟!!

وقوله تعالی: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} تأکيد علی أن عقوبتهم الشديدة الدائمة ليست ظلماً، وإنما هي نتيجة أعمالهم بل هي نفس أعمالهم.

ص: 88

الآيتان 26-27

اشارة

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}

26- هؤلاء أعرضوا عن الدعوة إلی حکم کتاب الله في صفات الرسول، لکن إعراضهم لايضرّ ف- {قُلِ اللَّهُمَّ} يا {مَالِكَ الْمُلْكِ} کلّه، فالوجود لك والسلطنة عليه لك، ولذلك {تُؤْتِي الْمُلْكَ} کالنبوة {مَن تَشَاءُ} من أوليائك، {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ} لذا نزعت النبوة من بني إسرائيل ونقلته إلی رسولك محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ} من أوليائك، {وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} من أعدائك بسبب سوء اختيارهم، {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} کالنبوة حيث تنقلها من قوم إلی آخرين، ف {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

27- ومن آياتك قدرتك، فإنّك تتصرف في التکوين کما تشاء ف {تُولِجُ} تدخل {الَّيْلَ فِي النَّهَارِ} فيقلّ ضياء النهار إلی أن يمحوه الليل، {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ} فيبدأ الفجر ثم يزداد النور إلی حدّ محو الليل، {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} کالنبات من الحبّ، والإنسان من التراب، وکالمؤمن من الکافر، {وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} کالحب من النبات،

ص: 89

وکالکافر من المؤمن، {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} من جهة الکثرة بحيث لايتمکن الناس من حسابه، وإن کنت أنت تنزله بقدر معلوم.

بحوث

الأول: ارتباط الآيتين بما قبلها، هو أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) دعاهم إلی التوراة لتحکم بينهم في صفاته (صلی الله عليه وآله وسلم) لکنهم رفضوا ذلك لعلمهم بأن صفاته (صلی الله عليه وآله وسلم) مذکورة فيها کما قال: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ}(1)، وما کان سبب إنکارهم وإعراضهم عن هذا التحکيم إلا الحسد والبغي حيث کانوا يطمعون في أن تکون النبوة فيهم کما مرّ في قوله تعالی: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ 89 بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَی مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(2).

فيبيّن الله تعالی أن الملك - ومن أفضله النبوة - هو بيد الله تعالی فيؤتيه من يشاء من أوليائه، لذا جعله في بني إسرائيل برهة من الزمن ثم نقله إلی بني اسماعيل (عليه السلام) .

وقد يقال في وجه الارتباط وجوه أخری، منها: إنه في الآية السابقة ذکر تعالی أنه يجمعهم ليوم لاريب فيه وذلك لأن الملك کلّه بيده تعالی، أو أن إمهاله لهم في الدنيا حتی حين ليس بسبب عدم قدرته عليهم بل لحکمته، أو أنه تهديد لهم بعذاب الدنيا بسلب الملك منهم، أو هو طريقة لتعليم

ص: 90


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة البقرة، الآية: 89-90.

الاحتجاج مع أهل الکتاب، وغير ذلك.

الثاني: قوله تعالی: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}.

المِلك - بکسر الميم - الأعيان التي تملك، والمُلك - بالضم - اسم مصدر، والمَلك - بالفتح - المصدر، کما قاله بعض اللغويين، وقيل: إنها بمعنی واحد، وقيل غير ذلك(1).

والله تعالی مالك کل شيء بعينه وبالتصرف فيه، المهيمن والقيّوم علی الأشياء کلها، لکن حيث کان الغرض هنا هو بيان قدرته علی التصرف في الأشياء لذا کان المناسب ذکر اللفظ الدال علی معنی اسم المصدر وهو {الْمُلْكِ} بالضم، إذ المقصود بيان إيتاء النبوة أو الجمع ليوم الحساب أو الإمهال ونحو ذلك، وکلها تصرّف في الأشياء.

وفي التعبير القراني کلّما أراد الله تعالی بيان ملکيته لأعيان الأشياء استعمل عادة اللام الجارة من دون ذکر لفظ الملك کقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}(2)، وإذا أراد بيان ملکيته للتصرف في الأشياء استعمل لفظ الملك کقوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(3)، ولم تستعمل لفظة المِلْك - بالکسر - في القرآن، وأما المَلْك - بالفتح - فاستعملت مرة واحدة بمعنی الاختيار في قصة عجل بني إسرائيل قال: {قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا}(4)، هذا إذا قلنا باختلاف معنی الملك بحسب حرکة الميم، أما لو قلنا بوحدة المعنی

ص: 91


1- مقاييس اللغة: 960؛ مفردات الراغب: 775؛ لسان العرب 10: 492-495.
2- سورة النجم، الآية: 31.
3- سورة الفتح، الآية: 14.
4- سورة طه، الآية: 87.

فالملك يدل علی ملکية الأعيان والتصرف فيها.

و{اللَّهُمَّ} بمعنی يا الله، و{مَالِكَ الْمُلْكِ} إمّا منادی أي يا مالك الملك، أو هو صفة لله أي يا الله الموصوف بکونك مالك الملك، ومعنی {مَالِكَ الْمُلْكِ} هو أنك تملك کل تصرف لأنك المالك الحقيقي للأشياء، وأما ملکية الناس فهي ملکية اعتبارية زائلة، فملکيتهم للأعيان الخارجية إنما هي بجعل الجاعل أي إن الله تعالی أذن لهم في التصرف في الأشياء وإدخالها في حوزتهم وحيطتهم، أما تکويناً فبمنح الإنسان القدرة في حيازة الأشياء والتصرف فيها، وأما تشريعاً فبتشريع قوانين تبيح استملاك الأشياء ضمن شروط مقررّة وتبيح بعض التصرفات في الأشياء.

الثالث: قوله تعالی: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ}.

1- إما بمعنی إعطاء النبوة والإمامة لمن يشاء ممن خلقهم الله من طينة عليا بحيث کانت لهم القابلية لحمل أعباء النبوة أو الإمامة، وذلك لأن هذا المنصب الرفيع يحتاج إلی قابلية رفيعة، وهي لاتحصل إلا باصطفائه تعالی، بأن خلقهم من طينة عليين وأعلی منها، وحلاّهم بکل الفضائل، ونزههم عن کل الرذائل، وعصمهم من الزلل، وهذا المنصب غير قابل للغصب والابتزاز من الظالمين.

2- وإما بمعنی إعطاء حق الطاعة، أي وجوب إطاعة الناس لهم کما قال: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(1)،

وهذا الحق أيضاً لايمکن للظالمين إزالته، وقد ورد في تفسير قوله تعالی: {وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكًا

ص: 92


1- سورة النساء، الآية: 59.

عَظِيما}(1)، أنه الطاعة(2).

3- وإما بمعنی السيطرة الظاهرية علی البلاد والعباد، فهذا حق منحه الله تشريعاً لأوليائه، ولکن لم يمنع أعدائه من ابتزازه وغصبه، امتحاناً للخلق، ورفعاً لدرجات أوليائه، واستدراجاً لأعدائه.

وقد سأل عبد الأعلی مولی آل سام الإمام الصادق (عليه السلام) حول هذه الآية: أليس قد آتی الله عز وجل بني أمية الملك؟ قال (عليه السلام) : «ليس حيث تذهب، إن الله عزوجل آتانا الملك وأخذته بنو أمية، بمنزلة الرجل يکون له الثوب فيأخذه الآخر، فليس هو للذي أخذه»(3).

فالله قد شرّع السلطة لأوليائه لکن أقدر أعداءه علی سلبه منهم، قال تعالی: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِیمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}(4).

والأنسب بسياق الآيات أن يکون المقصود من {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ} هو إيتاؤه لأوليائه بمعنی النبوة والإمامة وحق الطاعة وتشريع سلطتهم.

کما أن الأنسب بالسياق أن يکون المقصود من {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ} هو عدم إعطائه لأعدائه، وإنما استعمل (النزع) باعتبار الأقوام، فنزع النبوة من بني إسرائيل وآتاها بني اسماعيل (عليه السلام) ، فليس المراد النزع من شخص واحد إذ لايعقل أن ينزع الله النبوة والإمامة وحق الطاعة من شخص، إذ لم يؤتيها إياه إلاّ لکونه مصطفی وقابلاً لها وهؤلاء لاينزع الله

ص: 93


1- سورة النساء، الآية: 54.
2- بحار الأنوار 9: 194، عن تفسير القمي.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 377، عن الکافي.
4- سورة البقرة، الآية: 258.

القابلية والاصطفاء عنهم.

نعم لو کان المقصود الملك بمعنی السلطة فإنه تعالی يؤتيه ناساً ثم قد يسلبه عن أشخاصهم إلی آخرين، لکن قد عرفت أن السياق يقتضی شيئاً آخر.

الرابع: قوله تعالی: {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ}.

السياق يقتضی أن المراد العزة الواقعية، وکذا الذلة الواقعية، - وإن کانت الذلة والعزة الظاهريتان أيضاً بتقديره وبإذنه تعالی - ، فإن الله تعالی لايذل أولياءه، فإن ابتلاهم وأمرضهم وأفقرهم ونحو ذلك فليس لإذلالهم، بل هو طريق إلی إعزازهم وإکرامهم في الآخرة، کما أنه لايعزّ أعدائه، فإن أغناهم ومهّد لهم وسلّطهم فليس لاعزازهم بل استدراجاً وإملاءً لهم ليذلهم في الآخرة بصنوف العذاب، قال تعالی: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعا}(2)، وقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ}(3).

نعم إن الله تعالی قدّر اختيار الإنسان، وقدر الأسباب والمسببات ولم يمنع الظالمين تکويناً من السيطرة علی المؤمنين، ولا منعهم عن إذلالهم المؤمنين ظاهراً، قال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ

ص: 94


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- سورة النساء، الآية: 139.
3- سورة البقرة، الآية: 61.

أَهْلِهَا أَذِلَّة وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ}(1)، فعزة الظالمين وذلة المؤمنين في الظاهر بسبب سوء اختيار الناس، لابسبب إرادة الله التشريعية ذلك، ولکنه أراد تکويناً اختيار الناس وتأثير الأسباب، فلذا يصح سلب ذلك عن الله تعالی بمعنی عدم تشريعه لذلك، ويصح نسبته إلی الله سبحانه لتقديره نظام الکون علی هذا المنهج، قال تعالی: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}(2)، فالله قد حکم بکل هذه القوانين وقدّر تعالی أن يکون الإنسان مختاراً، فتفضّل علی الإنسان بالنعم، کما أن السيئات قدّرها بسبب الإنسان.

الخامس: قوله تعالی: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَی كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

(الخير) هو ما کان نافعاً واقعاً حتی لو لم يدرك الإنسان ذلك أو کرهه، قال تعالی: {وَعَسَا أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}(3)، وعکسه (الشر) وهو ما کان مُضراً واقعاً حتی لو تصوّر الإنسان نفعه قال: {وَعَسَا أَن تُحِبُّواْ شَئْا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}(4).

وکل من الخير والشر بيد الله تعالی، لکن حيث إن السياق في تمجيد الله تعالی في فضله تعالی لذا ناسب ذکر الخير فقط.

وقد زعم البعض أن الشر عدمٌ، والأعدام ليست بشيء حتی تکون تحت

ص: 95


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- سورة النساء، الآية: 78-79.
3- سورة البقرة، الآية: 216.
4- سورة البقرة، الآية: 216.

القدرة!! لزعمهم أن الوجود خير محض، ولاينشأ من الخير الشر لأن الشيء لايکون علة لنقيضه!!

الخير والشر وجوديّان

لکن الصحيح أن الخير والشر کلاهما وجوديان، وفعل الله تعالی هو خير محض، لکن متعلق هذا الفعل قد يکون خيراً وقد يکون شراً، فعذاب أهل النار هو شر، وإنما يعذبهم الله تعالی بحکمته وعدله، والکفار شرٌ من طينة سجين وإن کان فعل الله تعالی بخلقهم خيراً.

وبعبارة أخری: إن فعله تعالی خير محض، للمصلحة والحکمة في الفعل، وإن کان متعلق الفعل شراً، وأما زعم أن الوجود وکل أمر وجودي خير محض فکلام خطابي لم يقم عليه برهان بل البرهان والوجدان علی خلافه، قال تعالی: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَالِكَ الْيَوْمِ}(1)، وقال: {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}(2).

وأما قوله: {إِنَّكَ عَلَی كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو تعليل لإيتائه الملك ونزعه وإعزازه وإذلاله، فليس المنع لعدم القدرة، بل هو قادر علی کل شيء لکنه يتصرف بالحکمة.

السادس: قوله تعالی: {تُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ...} الآية.

هذه الآية کالدليل لکونه قادراً علی إيتاء الملك ونزعه وإعزازه وإذلاله، فکما هو قادر علی الأمور التکوينية المادية مثل إيلاج الليل في النهار وبالعکس، وعلی إخراج الحي من الميت وبالعکس، وعلی الرزق من غير

ص: 96


1- سورة الإنسان، الآية: 11.
2- سورة البينة، الآية: 6.

حساب وهذه أمور يشاهدها الناس ويعلمون بصدقها، کذلك في الأمور المعنوية هو قادر علی إيتاء النبوة... الخ.

1- {تُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ} في کل يوم، حيث ينتهی النهار بقلة الضياء ويبدأ الظلام إلی أن يعمّ کل مکان، وکذا العکس، وأيضاً في طوال السنة حيث تطول الأيام والليالي وتقصر في الفصول المختلفة، فکأنّه إدخال الليل في النهار، أو إدخال النهار في الليل، فهل يتمکن الناس من تغيير هذا التکوين؟ کلا، قال تعالی: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَا يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَا يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(1).

2- {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}، والظاهر أن المراد هو ما يشاهده الناس من تحوّل الميت إلی حيّ کالحب إلی نبات والبيضة إلی طير والنطفة إلی إنسان ونحو ذلك، لأن الغرض هو الدلالة علی قدرته الکاملة في إيتاء الملك ونزعه وإعزازه وإذلاله عکس مايتصوره الظالمون من أن ذلك بجهدهم، کما قال تعالی عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَی عِلْمٍ عِندِي}(2)، وقال سبحانه: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَة مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَی عِلْمٍ}(3)، أي زعموا أنه ليس فضلاً من الله تعالی وإنما علمهم بکيفية جمع الأموال هو الذي سبَّب غناهم،

ص: 97


1- سورة القصص، الآية: 71-72.
2- سورة القصص، الآية: 78.
3- سورة الزمر، الآية: 49.

وکذا في السلطة والملك وسائر الأمور الأخری.

وأما ما ورد في الأخبار من أنه إخراج المؤمن من الکافر والکافر من المؤمن(1) کما في قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}(2)، فالظاهر أنه من تأويل الآية الشريفة.

3- {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وهذا أيضاً يشاهده الناس في قدرته تعالی، فالله يرزق الجميع علی اختلافهم، بل کل الدواب والطيور والحيتان لها رزق معلوم، قال سبحانه: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(3)، وقال: {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ}(4).

وقد ذکرنا فيما مضی أن الله يقدر الرزق الحلال، لکن الإنسان قد يحوّله إلی حرام بسوء اختياره، ولذا قيل: إن الله جعل علی نفسه لمخلوقاته حقاً برزقهم، وهو تعالی أجلّ من أن يجعل الحرام حقاً علی نفسه ثم ينهی عنه تشريعاً.

وقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} إما باعتبار عدم قدرة العادّين والحاسبين في حساب ذلك الرزق، مع أنه بقَدَر ويعلمه الله تعالی ومن جعلهم الله وسائط فيه من الملائکة وغيرهم.

أو بمعنی من غير تقتير، کالکريم الذي ينفق کثيراً عکس البخيل الذي

ص: 98


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 378.
2- سورة الأنعام، الآية: 122.
3- سورة هود، الآية: 6.
4- سورة العنکبوت، الآية: 60.

يحسب ألف حساب حين صرف الأموال.

أو بمعنی أنه رزق من غير مقابل عکس غالب عطايا الناس فإنها بمقابل مادي أو معنوي.

أو بمعنی عدم محاسبة الناس علی ما استفادوه من النعم المحللّة، فالله أجلّ من أن يحاسب الناس علی شربهم الماء وأکلهم الطيبات، نعم لو حولوا الرزق إلی حرام أو استفادوا منه في الحرام فحينئذٍ يحاسبون، وقد ورد في تفسير قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(1)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن الله عز وجل لايسأل عباده عمّا تفضل عليهم به، ولا يمنّ بذلك عليهم، والامتنان بالانعام مستقبح من المخلوقين فکيف يضاف إلی الخالق عزّ وجل مالايرضی المخلوق به، لکن النعيم حبنا أهل البيت وموالاتنا، يسأل الله عباده عنه بعد التوحيد والنبوة»(2).

ولا يخفی لطف تقابل مقدوراته في الآيتين، فالملك ونزعه کالليل والنهار في تسلط أحدهما علی الآخر، وکذلك العزة والذلة کالحياة والموت، وکذا الرزق حسب المشيئه کما أن الخير بيده - کذا قيل - .

ص: 99


1- سورة التکاثر، الآية: 8.
2- وسائل الشيعة 24: 299، عن العيون.

الآيات 28-32

اشارة

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}

28- وحيث علمتم أن کل شيء بيد الله تعالی وأنه يُعزّ المومنين ويذل الکافرين ف {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} بأن لايختاروا {الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} محبين وناصرين وسادة {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} بدلاً عنهم، بل عليهم أن يتخذوا المؤمنين أولياء لأن الله أمر بذلك، {وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ} أي اتخاد الکافرين أولياء {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ} وولايته {فِي شَيْءٍ} فانقطعت الولاية بينه وبين الله، {إِلَّا أَن تَتَّقُواْ} بأن تخافوا {مِنْهُمْ تُقَاة} فيجوز موالاتهم في الظاهر دون الموالاة القلبية لعدم إطلاعهم وسيطرتهم علی القلوب، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} فإنه عالم بالنوايا، فلاتتخذوا الأحکام ذريعة لأهوائکم، فالتقية إنما شُرّعت لحفظ النفس

ص: 100

والدين لا لأجل الأهواء والشهوات، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي المرجع، فمادام هو عالم بکل شيء ويجازي علی الأعمال فعليكم أن تحذروه.

29- {قُلْ} يا رسول الله: {إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أي نواياکم في موالاة الکافرين وسائر الأمور {أَوْ تُبْدُوهُ} تظهروه {يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ} کل شيء من {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فلذا هو عالم بسبب موالاتکم للکافرين وأنه للتقية أم غيرها، {وَاللَّهُ عَلَی كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيمکنه عقاب من يوالي الکافرين بلا مبرر شرعي حتی لوتستر بستر الاتقاء.

30- وسيظهر لکم علمه وقدرته {يَوْمَ} القيامة، حيث {تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} قد أحضره الله تعالی أمامکم فتجازون عليه، {وَ} کذا يحضر {مَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ}، وحينئذٍ {تَوَدُّ} النفس {لَوْ} للتمني {أَنَّ بَيْنَهَا} بين النفس {وَبَيْنَهُ} بين العمل السوء {أَمَدًا بَعِيدًا} أي مسافة کبيرة، وهذا کناية عن تمنّي عدم فعلها لذلك العمل، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} فلا تفعلوا السوء، {وَاللَّهُ رَءُوفُ} شديد الرحمة {بِالْعِبَادِ} ولذلك يحذرکم رحمةً ورأفةً بکم لئلاتقعوا في العذاب.

31- وحيث نُهيتم عن موالاة الکافرين فعليكم أن تتولوا الله تعالی، وعلامة موالاتکم لله هو اتّباعکم للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ف {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} توالونه قلباً {فَاتَّبِعُونِي} فإن ذلك علامة حبکم لله تعالی، ونتيجة ذلك هو أن {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي يجازيكم بأحسن الثواب في الدنيا والآخرة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

32- واتباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ليس باللفظ بل باطاعته في کل شيء ف {قُلْ

ص: 101

أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فإن کلام الرسول هو کلام الله تعالی، وهذا هو الاتّباع الحق، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإطاعة {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فإن کان توليهم عن جحود فهو کفر عقيدة، وإن کان تولي عملي بلا جحود فهو کفران النعمة، وعدم حبّه تعالی بمعنی عقابه لهم.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ...} الآية.

لعلّ ارتباط هذه الآيات بما قبلها، هو أن شياطين الإنس الذين يصدّون الإنسان عن الصراط السويّ هم من أهم أسباب الانحراف وعدم قبول الحق، قال تعالی: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَٰنُ لِلْإِنسَٰنِ خَذُولًا}(1) وحيث إن الآيات السابقة کانت حول الکفار والمؤمنين، وأن الملك والعزة بيده تعالی وأنه يحاسب ويجازي في يوم القيامة فلذا بيّن الله تعالی في هذه الآيات أحد أهم أسباب الضلال والإضلال، وهو اتخاذ الکافرين أولياء.

بل المفروض هو اتخاذ الله تعالی ولياً وموالاة أوليائه لأنهم يهدون إلی سبيله.

فإن الضالين يزيّنون الباطل للإنسان حتی يراه حسناً، عکس المؤمنين الذين يزيّنون الإيمان ويكرّهون الضلال وأسبابه، قال تعالی: {وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ

ص: 102


1- سورة الفرقان، الآية: 27-29.

لِكَثِيرٖ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}(1)،

قال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}(2)،

وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ}(3).

وقوله: {أَوْلِيَاءَ} من ول ي بمعنی قرب(4)،

ولذا يطلق علی متولي الأمر وعلی الناصر والمحبّ والعبد وسيده وعلی غيرهم، والله تعالی وليّ الجميع بمعنی متولي أمرهم الخالق والمدبر، قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(5)،

وهو سبحانه ولي المؤمنين بمعنی أنه يتولّی أمرهم وينصرهم ويحبهم، قال تعالی: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(6).

والمراد في هذه الآية المعنی العام الشامل لمتولي الأمر والمحبّ، فلا يجوز أن يجعل المؤمنون الکفار أسيادهم وحکّامهم کما قال تعالی: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَٰفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}(7)، کما لايجوز لهم محبتهم قلباً قال تعالی: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ}(8).

ص: 103


1- سورة الأنعام، الآية: 137.
2- سورة فصلت، الآية: 25.
3- سورة التوبة، الآية: 71.
4- مقاييس اللغة: 1064.
5- سورة الشوری، الآية: 9.
6- سورة البقرة، الآية: 257.
7- سورة النساء، الآية: 141.
8- سورة المجادلة، الآية: 22.

الحب والبغض في الله

فالحب في الله والبغض في الله من أصول الإيمان، قال تعالی: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(1)، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(2)، وقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}(3).

نعم لو لم يكن الکافر معادياً فإنه يجوز بِرّه وحبّه حباً عاطفياً، قال تعالی: {لَّا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَىٰكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَٰتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(4).

و من ذلك يتبين أن جواز بِرّ وحب الکافر غير المعادي لله وللمؤمنين حباً عاطفياً کالأبوين الکافرين ليس من باب الاستثناء من عدم اتخاذ الکافرين أولياء، بل هو موضوع آخر، فالآيات الناهية عن محبة الکفار ناظرة إلی الکفار الأعداء، والآيات المجوّزة لمعاشرتهم في الدنيا معروفاً وبِرهم ناظرة إلی الکفار غير الأعداء، فتأمل.

الثاني: قوله تعالی: {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}.

أي من يتخذ الکافرين أولياء من دون المؤمنين فهو منسلخ عن ولاية الله تعالی کاملاً، فينقطع هو وکل أعماله عن الله سبحانه وتعالی، و(شيء) نکرة

ص: 104


1- سورة التوبة، الآية: 71.
2- سورة الأنفال، الآية: 73.
3- سورة الممتحنة، الآية: 1.
4- سورة الممتحنة، الآية: 8-9.

في سياق النفي، وهي تفيد العموم، ومعنی ذلك بُعد هذا الشخص عن الله تعالی وعدم قربه منه، وعدم قبول أعماله کلها وذلك بحبطها، ونتيجة ذلك أنه لاکرامة له ولا منزلة عند الله تعالی، وهذا في غاية التحذير وبيان عظم جريمة تولي الکافرين، قال تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَٰرَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُۥ مِنْهُمْ}(1).

حول التقية

الثالث: قوله تعالی: {إِلَّا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَىٰةً}.

الاستثناء متصل، لأن النهي عن ولايتهم کما يشمل الولاية القلبية بالاعتقاد والمحبة، کذلك يشمل إظهار المحبة حتی لو لم تکن قلبية، إذ تجب البراءة القلبية والعملية من أعداء الله تعالی، قال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُۥ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَٰوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُۥ}(2)،

وعليه: فلا تجوز الموالاة القلبية والظاهرية إلاّ في حالة التقية فيجوز إظهار الموالاة ظاهراً، ولا تجوز الموالاة القلبية لعدم وجود التقية فيها إذ لاطريق للکفار في الوصول إلی القلب ومعرفة ما فيه، وهذا معنی قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في التقية: «فأمّا السب فسبوني، فإنه لي زکاة ولکم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرؤوا منّي، فإنيّ ولدت علی الفطرة وسبقت إلی الإيمان والهجرة»(3).

فالسب باللسان أمر ظاهري رُخِّص فيه في التقية، وأما البراءة القلبية

ص: 105


1- سورة المائدة، الآية: 51.
2- سورة الممتحنة، الآية: 4.
3- نهج البلاغة، الخطبة 57.

عنه (عليه السلام) فهي غير مرخّصه أبداً إذ لاتقية فيها، وبيّن (عليه السلام) سبب عدم جواز البراءة القلبية عنه بدلالة العقل والنقل، أما العقل فإنه يدل علی التوحيد وعلی الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والجميع يعلم بأنه (عليه السلام) لم يشرك بالله طرفة عين فهو علی الفطرة فلا مبرّر للبراءة القلبية عنه، وأما النقل فهو (عليه السلام) أول المسلمين بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن أوائل المهاجرين، وقد قال الله تعالی: {وَالسَّٰبِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَٰجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}(1).

سؤال: الأمور القلبية غير اختيارية، فلا يتمکّن المحبّ من البراءة منه (عليه السلام) قلباً، فکيف نهی (عليه السلام) عن أمر غير اختياري؟

والجواب: أن مقدمات الحب والبغض اختيارية، والموالي الذي يدخل في عمل السلطان وموالاة النواصب يمکن أن يستطيب حياتهم ويتأثر بکلامهم وبالتدريج يتبدل حبه إلی بغض، فنهيه (عليه السلام) عن البراءة القلبية منهم بمعنی عدم تمهيد المقدمات لبغضه، بل يكتفي في حال التقية بالمقدار الضروري مع إبقاء اطمينان القلب علی الإيمان کما قال تعالی: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰذِبُونَ (105) مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنُّۢ بِالْإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَوٰةَ الدُّنْيَا عَلَى الْأخِرَةِ}(2).

ص: 106


1- سورة التوبة، الآية: 100.
2- سورة النحل، الآية: 105-107.

وأما أصل التقية فهي من المفاهيم القرآنية والتي دلت عليها هذه الآية، وآيات أخری کقوله تعالی: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَٰنَهُۥ}(1)، وهي من أهم الوسائل لحفظ الدين والمؤمنين وخاصة في حال سيطرة الکفار، إلاّ لو کان حفظ الدين في عدمها فيجب الإجهار بالحق حتی لو أدی إلی القتل، وللتقية أحکام وتفاصيل تطلب من الکتب الفقهية.

وقوله: {تُقَىٰةً} مصدر وهو إمّا مفعول مطلق جيء به للتأکيد، وإمّا بمعنی مايجب الاتقاء منه فيکون مفعولاً به.

ومن کل ما ذکرناه تبيّن أن (التقية) هي إبطان الايمان وإظهار خلافه لأمرٍ سوّغه الشرع الأقدس، ويضادها النفاق الذي هو إبطان الکفر واظهار الايمان.

الرابع: قوله تعالی: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُۥ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.

في کثير من الأحيان يتخذ بعض الناس أحکام الشرع وخاصة الاستثناءات ذريعة لترك الأحکام الشرعية والانغماس في الهوی والشهوات قال تعالی: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}(2).

ولذا احتاج إلی تحذير شديد، ببيان أن موالاة الکفار من دون المؤمنين هي محاربة لله تعالی، فهو يحذّرکم نفسه، فهو يعلم أن موالاتکم هل هي عن تقية أم عن هوی وشهوة أم عن کفر وضلال، وهو سبحانه يقدر علی

ص: 107


1- سورة غافر، الآية: 28.
2- سورة الأحزاب، الآية: 13.

الانتقام منکم وعقوبتکم، فقوله: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} تکميل لهذا التحذير، فهو عالم قادر ويحاسب ويجازي.

و(الحَذَر) هو الاحتراز عن الأمر المخيف أو الذي فيه ضرر کبير، والتحذير هو إعلام لزوم الحذر.

وقوله: {نَفْسَهُۥ} أي ذاته، فهو العالم القادر الحکيم، ولاحاجة إلی تقدير عذاب بأن يکون المراد ويحذرکم الله عذاب نفسه، بل سبب التحذير هو نفسه المتعالية.

الخامس: قوله تعالی: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ...} الآية.

وحاصل المعنی: خافوا الله فلا تخالفوا أوامره ونواهيه، ومنها في اتخاذ الأولياء، فأولياؤکم من الکفار لاينفعونکم في دفع العذاب قال تعالی: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}(1).

کما أن الترخيص في الاتقاء لايعني الانجرار وراء الهوی والشهوات فهو تعالی عالم بنواياکم فهل موالاتکم عن تقية أم لا، کما هو تحذير عن ترك التقية الواجبة، والحاصل هو تحذير عن التسامح في أحکامه تعالی مطلقاً.

وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بيان بأن الذي يعلم ما فيهما علی عظمتهما ودقة وکثرة أمورهما کيف يخفی عليه ما تعلنون أو تخفون، فلذا يعلم بنواياکم في الموالاة هل هي عن هوی أم عن تقية.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} لبيان قدرته علی عقاب العصاة. فإن البعض لايحذر من العالم غير القادر لکنه قد يحذر من العالم القادر، أو هو

ص: 108


1- سورة الأعراف، الآية: 192.

بيان أن سبب موالاة الکافرين هي طلب العزة والمال منهم، لکن کل العزة وکل الرزق بيد الله تعالی، قال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}(1)، وقال تعالی:{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ}(2)، وقال: {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُۥ}(3).

السادس: قوله تعالی: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٖ مَّا عَمِلَتْ...} الآية.

هذا دليل علی علمه بکل شيء وقدرته علی کل شيء، فهو تعالی يحضر کل عمل - من خير أو شر - في يوم الحساب والجزاء، فهو تعالی عالم بأعمالکم ويحفظها عليكم قال تعالی: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ (10) كِرَامًا كَٰتِبِينَ}(4)، وقال {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ}(5)، ثم يحضرها يوم القيامة قال تعالی: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا}(6)، فالإنسان يزعم فناء عمله فينساه، لکن الله يُبقيه ليوم الجزاء قال تعالی: {أَحْصَىٰهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}(7)، وقال: {وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَىٰهَا}(8).

والآية تدل علی تجسم الاعمال في يوم القيامة، کما مرّ نظيره، وأما

ص: 109


1- سورة النساء، الآية: 139.
2- سورة العنکبوت، الآية: 17.
3- سورة الملك، الآية: 21.
4- سورة الإنفطار، الآية: 10-11.
5- سورة الشوری، الآية: 6.
6- سورة الکهف، الآية: 49.
7- سورة المجادلة، الآية: 6.
8- سورة الکهف، الآية: 49.

قولهم إن الأعمال أعراض وهي تزول ولاتبقی، فکلام منظور فيه، وقد يستأنس لتقريب ذلك إلی الذهن بامکان بقاء الطاقة وعدم زوالها - ولو بصورة أخری - کما تتبدل المادة إلی طاقة والطاقة إلی مادة، فتأمل.

وقوله: {يَوْمَ} ظرف متعلق ب {يَعْلَمْهُ} و{قَدِيرٌ}، فالمراد أن انکشاف علمه وقدرته للجميع إنما يکون في يوم الجزاء، وأما في هذا الدنيا فالکثيرون يزعمون عدم علمه وقدرته فلذا يخالفون أوامره، وهو تعالی يمهلهم إما رأفةً بهم ليتوبوا أو إملاءً واستدراجاً لهم ليزدادوا إثماً، وقيل: الظرف متعلق بما بعده أي {تَوَدُّ}.

وحاصل المعنی: أنّ ولايتکم للکفار أو للمؤمنين وتقيتکم وکذا کل أمورکم إن کانت حسنة أو سيئة فهي تحضر يوم القيامة، فإن کان العمل حسناً يتباهی به المؤمن قال تعالی: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَٰبِيَهْ}(1)، وإن کان سيئاً فيتمنی أن لو لم يكن قد فعله، قال تعالی: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}(2)، فقوله: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُۥ أَمَدَۢا بَعِيدًا} کناية عن تمنّي أنها لم تکن قد فعلته، و{أَمَدَۢا} هو الغاية، ويستعمل في أقصی درجة في الغاية، سواء في المکان أو الزمان.

وأما إعادة قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُۥ} فللتأکيد، أو لتعدد الغرض، فالأول لبيان أهمية أحکامه تعالی بحيث يُحذِّر المخالفين من نفسه، والثاني

ص: 110


1- سورة الحاقة، الآية: 19.
2- سورة الحاقة، الآية: 25-26.

لبيان قدرته علی إحضار العمل فيحذرهم من ذلك، أو الأول التحذير من العقوبة الدنيوية والثاني من الأخروية، أو أن الثاني لضمّ رأفته بعباده، أي لما حذّر من نفسه تعالی أراد بيانه أنه رؤوف أيضاً بعباده فليس تعامله مع العباد بالبطش دائماً، بل يبطش بمن لايستحق الرحمة، أو لغير ذلك.

وقوله: {وَاللَّهُ رَءُوفُۢ بِالْعِبَادِ} زيادة في التحذير، أي لأجل رأفته بعباده يحذرهم عن الأعمال السيئة التي يصيبهم وبالها، کما يقول الناصح: إني مشفق عليك فلذا أحذرك من کذا!! أو إنه لما ذکر إحضار عمل الخير وعمل السوء بيَّن أنه تعالی رؤوف بعباده المؤمنين، ويحذر عبيد السوء من نفسه لعلمه وقدرته علی معاقبتهم، فيکون نظير قوله: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).

حول حب الله تعالی

السابع: قوله تعالی: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية.

بعد النهي عن اتخاذ الکافرين أولياء، يأمر الله تعالی بتوليه وتولّي أوليائه ولمّا کانت الولاية القلبية هي الحب، والولاية العملية هي الاتّباع والطاعة أراد الله تعالی التفصيل في کلا الأمرين، ولذا بدّل لفظ الولاية إلی الحب والاتباع في هذه الآية، وإلی الإطاعة في الآية التالية.

فقوله: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} هو توليه قلباً، فلابد من جعل علامة لذلك ليتبيّن الصادق من الکاذب، وتلك العلامة هي اتباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وذلك لأن الله تعالی جعل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) واسطة بينه وبين الناس، کما أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يبلّغ الناس ما يريده الله تعالی وما يكرهه، فاتّباع الرسول علامة الحب الصادق

ص: 111


1- سورة المائدة، الآية: 98.

لله، وإلاّ کيف يمکن إدعاء المحبة من غير تصديق عملي؟ وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : ما أحبّ اللهَ عز وجل مَن عصاه، ثم تمثّل (عليه السلام) فقال:

تعصي الإلهَ وأنت تُظهر حُبّه***هذا مِحالٌ في الفِعال بديع

لو کان حبّك صادقاً لأطعتَه***إنّ المحب لمن يحب مطيع(1)

وأما قوله: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فقد مرّ مراراً أنه تعالی ليس محلاً للحوادث ولا تعرضه الکيفيات النفسانية، وإنّما حُبّه من أفعاله عز وجل، وهي بمعنی إثابة العبد والقرب المعنوي منه تعالی، وقد سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) بأن لله رضاً وسخطاً؟ فقال (عليه السلام) : نعم، ولکن ليس ذلك علی ما يوجد من المخلوقين، وذلك أن الرضا حال تدخل عليه فتنقله من حال إلی حال، لأن المخلوق أجوف معتمل مرکب، للأشياء فيه مدخل، وخالقنا لامدخل للأشياء فيه، لأنه واحد، واحدي الذات، واحدي المعنی، فرضاه ثوابه وسخطه عقابه، من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلی حال(2).

وأما توهم أن حبه تعالی هو لابتهاج ذاته، فيحبها ويحب کل ما صدر منها، وکلما کان الصدور بلا واسطة أو بوسائط أقل کان الحب أشد، وبذلك يکون الحب من صفات الذات!!

فغير صحيح ولاسديد، لعدم معنی معقول لابتهاج الذات، ولا ورد ذلك في الشريعة في القرآن وأخبار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، کما أنه مخالف لصريح الآيات الدالة علی عدم حبه لبعض الناس قال تعالی: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ

ص: 112


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 383، عن أمالي الشيخ الصدوق.
2- الکافي 1: 110.

الظَّٰلِمِينَ}(1)، وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(2)، وغيرها من الآيات.

وأما تفسير حب الإنسان لله بطاعته، فهو تفسير باللازم.

کلام حول الحب

کلام حول الحب...

1- أن (الحب) أمر وجودي وجداني يدرکه کل إنسان.

2- وقد يکون سببه الشعور بالحاجة، فلذا يحب الإنسان ما يحتاج إليه من الماديات والمعنويات، ثم يتطور الحب إلی الحب العقلي الذي يتجاوز عن الماديات وعن الحاجة، فالطفل قد يحب أ ُمّه لحاجته إلی الرضاع والحنان ثم لما يستغني عنها فإنه يحبها للداعي العقلي والفطري، ثم يتطور الحب إلی أن يتحول إلی حب ديني.

ومن ذلك يتبين أن حب الإنسان لله تعالی قد يکون لدفع مضرّة أو جبران نقص أو نيل کمال وهذا في الحقيقة يرجع إلی حب الإنسان لنفسه، وقد يکون حبه لعظمة الله تعالی ولکونه الکمال المطلق من غير أن يکون الداعي الخوف أو الطمع، وهذا هو غاية الحب الخالص.

ولذا فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يحب المؤمنين لالحاجة له إليهم، وإنما لأجل ذواتهم حيث إن الإيمان رفعهم فاستحقوا حب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لهم، کما صارت لهم القابلية لحب الله تعالی بمعنی الثواب والمنزلة الرفيعة عنده.

والحب في الله والبغض في الله من أرفع درجات الإيمان ومن مقوماته، حيث لايحب الإنسان لمصلحة نفسه وإنما يحب من ارتبط بالله فيرجع حبه

ص: 113


1- سورة آل عمران، الآية: 57.
2- سورة المائدة، الآية: 64.

إلی حب الله تعالی، وکذا يبغض من انقطعت عصمته عن الله تعالی لا لمصلحة لنفسه.

3- والحب أمر اختياری، وذلك باختيارية أسبابه، سواء کانت قريبة أم بعيدة، کسائر الصفات النفسانية، ولذا کان الحب والبغض متعلقاً للتکليف، ولولا اختياريتهما باختيارية مقدماتهما لم يصحّ التکليف به.

4- ومتعلق الحب قد يکون محموداً وقد يکون مذموماً، وهو کما يتعلق بالأعمال کذلك يتعلق بالأعيان وخاصة بالناس، وکذلك الکره والبغض، قال تعالی: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}(1)، وقال: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}(2)، وقال: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}(3)، وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ}(4)، وقال: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ}(5)، وغيرها من الآيات.

5- وأما علامة حب العبد لله تعالی فهي ايثار طاعته سبحانه وتقواه، وترجيح رضا الله تعالی علی الهوی.

6- وأما الطريق إلی نيل حب الله تعالی فهو:

تذکر عظيم مَنّه وإحسانه وفضله وغفرانه وستره، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «فيما أوحی الله تعالی إلی موسی (عليه السلام) : فذکّرهم نعمتي وآلائي فإنهم

ص: 114


1- سورة البقرة، الآية: 165.
2- سورة الحشر، الآية: 9.
3- سورة الفجر، الآية: 20.
4- سورة التوبة، الآية: 108.
5- سورة آل عمران، الآية: 188.

لايذکرون مني إلا خيراً»(1) ثم العلم والعمل بما في الشريعة المقدسة.

فأما الطرق المبتدعة والأساليب المخترعة فلا تزيد الإنسان إلا بعداً عن الله تعالی، ولم تکن معصية إبليس لعنه الله التي استوجبت طرده ولعنه إلاّ استکباره علی حکم الله تعالی، فأراد أن يطيع الله بالکيفية التي يريدها هو لا بالکيفية التي يريدها الله تعالی، وقد رُوي أنه استرخص في أن لايسجد لآدم ويعوّض ذلك بالسجود لله آلاف السنين، فقال تعالی: إنما أريد أن أعبد من حيث أريد لامن حيث تُريد(2).

ومن ذلك يتضح أن ترتيب {فَاتَّبِعُونِي} علی حب الله تعالی هو أمر واقعي لترابط محبته تعالی مع اتّباع رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ارتباطاً واقعياً فليس الحب مجرد لقلقة لسان.

الثامن: قوله تعالی: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ...} الآية.

وذلك لأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يبلّغ عن الله ما يريده وما لا يريده في کل شيء، فالدين کامل والتبليغ قد تمّ بالنحو الأحسن، فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بيّن کل من لايحبه الله ومن يحبه.

أ - فممن لايحبهم: المعتدون، کل کفار أثيم، الکافرون، الظالمون، من کان مختالاً فخوراً، من کان خوّاناً أثيماً، المفسدون، المسرفون، المستکبرون، الفرحون، وغيرهم.

ب- وممن يحبهم: المحسنون، التوابون، المتطهرون، المتقون، الصابرون،

ص: 115


1- بحار الأنوار 13: 352، عن قصص الأنبياء.
2- بحار الأنوار 11: 141، عن تفسير القمي.

المتوکلون، المقسطون، وغيرهم.

ولايخفی أن الأعمال هي سبب الحب أو البغض، فحسن العمل يوجب حبّ الله تعالی وسوؤه يوجب بغضه، والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يأمر بالمعروف الذي يوجب حب الله تعالی، وينهی عن المنکر الذي يوجب بغضه، فلذا کان علامة حب الله تعالی هو اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في کل شيء.

ثم إن للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) جهتين:

الأولی: إنه مبلّغ عن الله تعالی في الأحکام والموضوعات وغيرها.

الثاني: إن الله تعالی فوّض إليه الدين والسلطنة علی العباد والبلاد بعد أن أدّبه بآدابه، فجعل الله تعالی له (صلی الله عليه وآله وسلم) الإمامة الکبری والخلافة العظمی، وبعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) جعل الله تعالی تلك الإمامة والخلافة للأئمة (عليهم السلام) فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَ}(1)، وقال: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(2).

وأما قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فلبيان أن اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يوجب الأمرين أي الثواب الذي دلّ عليه {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، وترك العقاب بسبب الذنوب وهذا ما دل عليه قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وقيل: هذا لإزالة المانع عن حب الله لعبده، لأن الذنوب ظلمات توجب البُعد والبغض فلذا في محبة الله لعبده لابد من إزالة الموانع الکامنة في الذنوب، أو الغرض إيجاد الرجاء في قلوب الناس فلا ييأسوا من رحمة الله ولا يقيسوا الله

ص: 116


1- سورة المائدة، الآية: 55.
2- سورة النساء، الآية: 59.

بالخلق حيث إن کثرة الإجرام بحق إنسان تمنع عن حبّه للمجرم حتی لو ندم، ولکن الله تعالی يغفر الذنوب جميعاً إن اتّبع العبد رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) حتی لو کانت تلك الذنوب من مشاش رأسه إلی أخمص قدميه، قال تعالی: {قُلْ يَٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُۥ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُواْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(1).

التاسع: قوله تعالی: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} الآية.

لعلّ الآية بصدد بيان معنی اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأنه ليس باللفظ فقط، بل إنما هو بالإطاعة العملية.

ثم إن وجوب إطاعة الله إنما هي بالذات، وأما إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلأنّ الله تعالی أمر بذلك، فمن جهة هذا الفارق - أي الإطاعة الذاتية أو بالتبع - فقد تکررت لفظة الإطاعة في بعض الآيات فقال تعالی: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}(2)، لبيان اختلاف سنخ الإطاعة، ومن جهة أن مرجع إطاعة الرسول إلی إطاعة الله تعالی لم تتکرر لفظة الإطاعة في آيات أخری کهذه الآية، وقد قال تعالی: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(3).

وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي فإن أعرضوا عن الطاعة، فإن کان إعراضاً عن

ص: 117


1- سورة الزمر، الآية: 53-55.
2- سورة النور، الآية: 54.
3- سورة النساء، الآية: 80.

جحود فهو النفاق أو الکفر في العقيدة، وإن کان إعراضاً عمليّاً فهو کفران بالنعمة وفسق.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَٰفِرِينَ} بيان أن عدم إطاعة الرسول توجب بغض الله تعالی، مضافاً إلی الکفر في العقيدة أو کفران النعمة.

وفي مجمع البيان: في هذه الآية دلالة علی بطلان مذهب المجبرة، لأنه إذا لم يحب الکافرين من أجل کفرهم ولم يرد ثوابهم لذلك، فلا يريد إذاً کفرهم، لأنه لو أراده لم يكن نفي محبته لهم لکفرهم(1).

وإنما لم يقل (لايحبهم) للدلالة علی سبب عدم محبتهم وهو الکفر.

ص: 118


1- مجمع البيان 2: 415 (بتصرّف).

الآية 34

اشارة

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى الْعَٰلَمِينَ (33) ذُرِّيَّةَۢ بَعْضُهَا مِنۢ بَعْضٖ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}

33- وليس اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلاّ لأن الله اصطفاه، وهذا ليس ببدع ف {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ} اختار وفضّل {ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ} أي إبراهيم وآله وأفضلهم الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) {وَءَالَ عِمْرَٰنَ} مريم وعيسی (عليهماالسلام) {عَلَى الْعَٰلَمِينَ} کلهم بما فيهم سائر الناس والملائکة بل علی الوجود بأسره.

34- حالکونهم {ذُرِّيَّةَۢ بَعْضُهَا مِنۢ بَعْضٖ} في النسل فهم شجرة واحدة، وکذا يتشابهون في الصفات التي جعلتهم صالحين للنبوة والإمامة، وکذا في أداء الرسالة وإرشاد الناس، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لأقوالهم ودعائهم، {عَلِيمٌ} بنواياهم وأعمالهم ولذلك اصطفاهم.

بحوث

الأول: وجه ارتباط هاتين الآيتين بما قبلهما هو أنه تعالی لمّا ذکر وجوب اتّباع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وإطاعته بيّن سبب ذلك، فإن الله قد اصطفاه في ذاته وفي حمله للرسالة، فهو المطهّر من الذنوب، المبرّأ من العيوب، المنزّه عن الغلط والسهو والنسيان، المفضَّل علی سائر الناس، فلذا کان قابلاً لحمل

ص: 119

الرسالة وللوساطة بين الخالق وبين الناس، وهذا ليس ببدع من الأمور، فالله تعالی اصطفی قبله أنبياء وأئمة، فلذا کانت الخليفة قبل الخليقة، فکان أول بشر خلقه الله تعالی هو حجته علی الخلق، وهذا من لطف الله تعالی علی خلقه، فلا تخلو الأرض من حجة إلی أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذا ربط الله تعالی تکوينه وتشريعه بالحجج، وحيث إن التشريع مستمر فالحجة مستمرة، وکذا نظام التکوين قائم بوجود الحجج وفي الحديث: «لو بقيت الأرض يوماً واحداً بلا إمام منا لساخت الأرض بأهلها»(1).

ثم إن هاتين الآيتين بداية الورود في الغرض الأصلي من السورة المبارکة حيث إن سورة آل عمران - کما ذکرنا - سورة مقابلة التحدي الفکري والعسکري وقد نزل أکثر من ثمانين آية منها لمّا جاء وفد نجران للمحاججة مع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) - کما قيل - فکانت الآيتان المدخل إلی بيان التحدي الأول وهو التحدي الفکري وشروع في بيان الحقائق حول عيسی (عليه السلام) وبيان التوحيد الخالص ونقض شبهات النصاری.

حول الاصطفاء

الثانی: قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ...} الآية.

قد مرّ بعض الکلام في معنی الاصطفاء وسببه في الآية 132 من سورة البقرة، و(الاصطفاء) من (الصفو) وهو الخلوص من الشوب والکدر، يقال: «ماء صافٍ» لاشوب ولا کدر فيه، فالاصطفاء من الافتعال وهو أخذ صفو الشيء.

وهنا أمور:

1- ان الاصطفاء بمعنی واحد في کل استعمالاته.

ص: 120


1- دلائل الإمامة: 436.

أ - فاذا تعدی ب (من) کالاصطفاء من الناس کان المعنی: اختيار البعض منهم قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُۢ بِالْخَيْرَٰتِ}(1) فالناس علی أصناف ثلاث فاصطفی الله منهم القسم الثالث.

ب - وإذا تعدی ب (علی) کالاصطفاء علی الناس، کان بمعنی الاختيار الموجب للخصوصية أو للتفضيل علی سائر الناس کقوله: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ}(2)، ولذا تکررت کلمة الاصطفاء في قوله تعالی: {يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ}(3) فالأول بمعنی اختيار الصفو، بمعنی جعل خصوصية لها من بين سائر النساء، والثاني بمعنی تفضيلها عليهم.

ج - وإذا تعدّی ب (الباء) فهو لبيان ما به الاصطفاء کقوله: {قَالَ يَٰمُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِي وَبِكَلَٰمِي}(4).

د - وإذا تعدّی ب (اللام) فهو لبيان «المصطفی له» کقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(5).

وعلی کل حال فالاصطفاء بمعنی واحد، ولکن الاختلاف في حرف الجر لبيان سبب الاصطفاء أو متعلّقه أو نتيجته.

ص: 121


1- سورة فاطر، الآية: 32.
2- سورة البقرة، الآية: 247.
3- سورة آل عمران، الآية: 42.
4- سورة الأعراف، الآية: 144.
5- سورة البقرة، الآية: 132.

وفي التبيان: الاصطفاء هو الاختصاص بحالة خالصة من الأدناس، ويقال ذلك علی وجهين: الأول: أن يقال: اصطفاه لنفسه أي جعله خالصاً له يختص به، والثاني: اصطفاه علی غيره أي اختصه بالتفضيل علی غيره وهو معنی الآية(1).

2- ثم إن الاصطفاء من فعل الله تعالی، فلا يمكن لأحد أن يصل إلی تلك الدرجة بجهده وعمله، إذ ذاك بسبب خلقه من طينة أعلی ثم عصمته من الذنوب کلها ومن الخطأ والسهو ثم إيتاء النبوة أو الإمامة قال تعالی: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).

نعم من اصطفاه الله تعالی جعل فيه قابلية زيادة الکمال، ولذا يزدادون رفعةً وکمالاً بعبادتهم وبتسليمهم لإرادة الرب تبارك وتعالی، ولذا کان إختبارهم بأصعب الابتلاءات، وورد حول الإمام الحسين (عليه السلام) : «إن لك درجة لاتنالها إلا بالشهادة»(3) وتلک الدرجة هي أن الله تعالی ألحقه بدرجة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) کما ورد في تفسير قوله تعالی: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ}(4)-(5).

3- إن کون الاصطفاء من فعل الله تعالی، لاينافي مدخلية المصطفی في

ص: 122


1- التبيان في تفسير القرآن 2: 440.
2- سورة القصص، الآية: 68.
3- بحار الأنوار 44: 313، عن أمالي الشيخ الصدوق.
4- سورة الطور، الآية: 21.
5- ([5]) راجع البرهان في تفسير القرآن 9: 241، عن أمالي الشيخ الطوسي.

ذلک الاصطفاء، أي إن الله تعالی لمّا علم أزلاً بأن هؤلاء سيختارون التسليم المطلق لذاته المقدسة لذلك خلقهم مصطَفين، وفي بعض الأحاديث دلالة علی ذلك، فقد سُئل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال: «إني کنت أول من آمن بربي، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم علی أنفسهم ألست بربکم، فکنت أنا أول من قال بلی، فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل»(1).

وقد ذکرنا نظير هذا في أحاديث الطينة حيث إن الله علم أزلاً باختيار الکفار الکفر بسوء اختيارهم لذلك خلقهم من طينة سجين ولو کان يخلقهم من طينة عليين لما اختاروا الإيمان، وکذلك علم أزلاً باختيار المؤمنين الإيمان بحسن اختيارهم لذلك خلقهم من طينة عليين ولو کان يخلقهم من سجين لما اختاروا الکفر، ولکن الحکمة اقتضت أن يکون تناسب بين الإيمان الذي يختارونه والجنة التي يدخلونها وبين طينتهم، وکذا في الکفار وکفرهم والنار التي يدخلوها وطينة سجين.

4- إن الاصطفاء هو مما لابد منه في الحکمة، أي إن الله تعالی حکيم وحکمته تقتضي أن يخلق الخلق العظيم، وأيُّ خلق أعظم من الإنسان حيث قال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَٰلِقِينَ}(2)، وحيث إنه تعالی حکيم وعلی کل شيء قدير فخَلقُ إنسانٍ بغاية الکمال الذي يمکن أن يصله البشر من الحکمة، وفي ذلك تجلّي عظمة الله تعالی وهو سبحانه قادر علی خلق

ص: 123


1- الکافي 2: 10.
2- سورة المؤمنون، الآية: 14.

إنسان مُطَهَّر من الرجس ومبرّأ من العيب، لانَقصَ في خلقه وأخلاقه، لايسهو ولايغلط فالحکمة تقتضي خلقه، وحيث إن هذا المخلوق ممکن فلذا له استعداد للتکامل إلی ما لا آخر له فلذا يتکاملون باستمرار بعملهم وبما يفيضه الله تعالی عليهم.

فاتضح أن معرفة مقامات الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) تتوقف علی معرفة الله تعالی ومعرفة صفاته، وأن إنکار مقاماتهم ونسبة بعض النواقص إليهم بسبب عدم معرفة خالقهم سبحانه وتعالی، وقد يکون سببه الخلط بين الکمال البشري والکمال الإلهي حيث توهموا أن الکمال البشري غلو، وليس کما زعموا بل هو دليل علی الکمال الإلهي.

5- إن الاصطفاء کما يقتضي الکمالات المعنوية، فکذلك يقتضي الکمالات الجسمانية، فلذا لاعيب في خلق الأنبياء وأوصيائهم من حين الولادة إلی الوفاة، بمعنی کمالهم الجسماني ولادةً وعدم لحوق عيب في أعضائهم وقواهم الجسمانية، لمنافاة ذلك للاصطفاء، بل للغرض من بعثتهم لئلا يتنفر الناس منهم فتکون حجة للکفار وقد قال تعالی: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَٰلِغَةُ}(1)، وقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُۢ بَعْدَ الرُّسُلِ}(2)، وأما قول موسی (عليه السلام) : {وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي}(3)، فالمراد من الخوف لامن لکنةٍ وعيبٍ ولذا قال: {وَأَخِي هَٰرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}(4)، وکذا قوله تعالی:

ص: 124


1- سورة الأنعام، الآية: 149.
2- سورة النساء، الآية: 165.
3- سورة الشعراء، الآية: 13.
4- سورة القصص، الآية: 34.

{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ}(1)، ليس المراد العمی بل ظهور بياض فيها وضعف، فمعنی {فَارْتَدَّ بَصِيرًا}(2)، زوال البياض ورجوع القوة، وأما المرض فليس عيباً ولانقصاً وهو مقتضی الترکيبة الجسمانية البشرية، وکذا قطع الأوصال في قتلهم فذاك ليس عيباً لأنه مصاحب للموت والشهادة.

الثالث: قوله: {ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمْرَٰنَ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}.

1- أمّا آدم (عليه السلام) فهو أبوالبشر، فأراد الله تعالی بيان أن الاصطفاء منذ أول بشر خلقه الله تعالی علی وجه الأرض، ولذا کانت الخليفة قبل الخليقة.

2- وأمّا نوح فهو الأب الثاني للبشر، قال تعالی: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ الْبَاقِينَ}(3)، وهو أول الأنبياء أولي العزم.

3- وأمّا آل إبراهيم، فالمراد إبراهيم وآله، وجيء بهذا التعبير إيجازاً وبلاغة، کقوله: {إِلَّا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ}(4)، وقوله: {فَالْتَقَطَهُۥ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}(5)، وابراهيم (عليه السلام) ثاني أنبياء أولی العزم، ومن آله: أنبياء بني إسرائيل وأوصياؤهم، وکذا رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأوصياؤه (عليهم السلام) .

4- وأما آل عمران: فالظاهر أن المراد مريم وعيسی (عليهماالسلام) ، وهما وإن کانا من آل ابراهيم، إلاّ أنه لمّا کان في ذلك نوع خفاء، لأن مريم أنثی وعيسی

ص: 125


1- سورة يوسف، الآية: 84.
2- سورة يوسف، الآية: 96.
3- سورة الصافات، الآية: 77.
4- سورة الحجر، الآية: 59.
5- سورة القصص، الآية: 8.

وُلد من غير أب فقد يتوهم البعض بعدم شمول آل ابراهيم لهما لذا خُصّوا بالذکر، وکذلك لأن الغرض بيان تفاصيل تتعلق بهما في الآيات اللاحقة.

وأما إحتمال أن يکون المراد من (آل عمران) موسی وهارون (عليهماالسلام) ، فبعيد لأنه لم يذکر في هذه السورة شيء عن موسی وهارون أصلاً، بل التفصيل عن مريم وعيسی (عليهماالسلام) أکثر من أيَّة سورة أخری.

وقيل: إن آل ابراهيم في هذه الآية هم رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) حصراً، ولا يراد منهم مايشمل أنبياء بني إسرائيل، وذلك لأن عطف (آل عمران) يقتضي المغايرة بين آل إبراهيم وآل عمران، مع وضوح أن آل عمران هم من آل إبراهيم، فاتضح أن المراد من آل إبراهيم جماعة خاصة منهم لاکلّهم.

لکن يمکن أن يقال عطف الخاص علی العام أمر شائع وخاصة إذا کان هناك غرض في ذکر الخاص، وهنا الغرض هو الشروع في قصة مريم وعيسی (عليهماالسلام) .

ثم إن (الآل) هم الأقرب إلی الإنسان، ومن المعلوم أن أقرب الناس إلی إبراهيم (عليه السلام) هم ذريته التي علی نهجه وطريقته، وهم خصوص الأنبياء والأوصياء من ذريته، لاکل الذرية، إذ فيها الظالم والکافر، وهؤلاء لم يصطفهم الله تعالی، قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ}(1)، وقال تعالی: {قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٖ}(2).

ص: 126


1- سورة الصافات، الآية: 113.
2- سورة هود، الآية: 46.

وبقرينة الاصطفاء لايراد کل المؤمنين من ذريته، وإنما خصوص الأنبياء والأوصياء منهم.

وقوله: {عَلَى الْعَٰلَمِينَ} دليل علی تفضيلهم علی کل العوالم بما فيها عالم الملائکة، فالأنبياء أفضل من الملائکة کلهم حتی المقربين منهم، ويدل عليه أيضاً أمره تعالی الملائکة کلهم بالسجود لآدم، ولم يأمر العالمين بالسجود له قال تعالی: {فَسَجَدَ الْمَلَٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَٰفِرِينَ (74) قَالَ يَٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}(1).

وحيث إن الاصطفاء کان من آدم إلی آل ابراهيم وآل عمران ويدخل فيهم رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) لذا فالمراد کل العالمين من الأولين والآخرين، لا العالمين في خصوص زمان واحد.

ثم اعلم أنه ورد في بعض الروايات(2)

کون الآية آل ابراهيم وآل عمران وآل محمد علی العالمين، وفي بعضها آل محمد بدلاً عن آل عمران، وفي بعضها «هکذا نزلت»، وعن بعض العامة أيضاً أنه قرأ في مصحف ابن مسعود وآل ابراهيم وآل محمد علی العالمين(3).

وقد حملها البعض علی أنها کذلك في قراءة أهل البيت (عليهم السلام) .

والأقرب أنها لبيان تأويل الآية أو لبيان أن آل محمد هم من مصاديق الآية، وقوله (عليه السلام) هکذا نزلت لايراد به نزولها لتکون نصاً من القرآن، بل

ص: 127


1- سورة ص، الآية: 73-75.
2- راجع الروايات في البرهان في تفسير القرآن 2: 384-391.
3- نقل عن تفسير الثعلبي، وراجع شواهد التنزيل 1: 152.

نزولها لتفسيره أو تأويله، إذ کما نزلت ألفاظ القرآن کذلك نزل تفسيره وتأويله، قال تعالی: {فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥ}(1)، وقد ذکرنا تفصيل ذلك في شرح أصول الکافي فراجع.

الرابع: قوله تعالی: {ذُرِّيَّةَۢ بَعْضُهَا مِنۢ بَعْضٖ}.

هذا کالتعليل لاصطفاء هؤلاء (عليهم السلام) لأنهم من نسل واحد ويمتلکون صفات ومواهب متشابهة.

أما الأول: فلأن الناس أقرب لمعرفتهم ولقبول قولهم، لأنهم يعرفون آبائهم بل قد يعتقدون بهم، فلا کلفة زائدة في التعرُّف علی هؤلاء الأبناء، ولذا جعل الله تعالی أصفيائه وأنبيائه وأوصيائهم في سلسلة واحدة عادة.

وأما الثاني - وهو الأهم - : فإن بعضهم يشبهون البعض في الصفات المؤهلة للاصطفاء من العصمة والعلم والشجاعة... الخ، ولذا لاتجد فارقاً بين الأنبياء من هذه الجهة، نعم بعضهم أفضل من بعض مع اشتراکهم في أصل الفضيلة.

ومن ذلك يتضح معنی قوله (صلی الله عليه وآله وسلم) «حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً»(2) فإن صفات الحسين (عليه السلام) کانت شبيهة بصفات جده (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه بضعة منه، فلذا کان (عليه السلام) تمثالاً للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في کل شيء، ولذا فرّع عليه أن الله يحب من يحب الإمام الحسين (عليه السلام) .

الخامس: قوله تعالی: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

ص: 128


1- سورة القيامة، الآية: 18-19.
2- کامل الزيارات: 116؛ ومن مصادر العامة مسند أحمد 4: 172.

وهذا أيضاً کعِلة أخری لاصطفائهم، فهو سبحانه يسمع ما تقوله الذرية وماتدعو به، وهو عالم بما يضمرون ومايعملون، فلذلك اصطفاهم وفضلهم علی غيرهم، قال تعالی: {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ}(1)، أو الغرض بيان أن جعل الأنبياء والأوصياء في ذريتهم إنّما هو استجابه لدعائهم مع علمه تعالی بصلاح ذلك، کقوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}(2)، وقوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(3).

مضافاً إلی أن هذا کالمقدمة لاستجابة دعاء امرأة عمران.

ص: 129


1- سورة الأنعام، الآية: 124.
2- سورة البقرة، الآية: 128.
3- سورة البقرة، الآية: 124.

الآيات 35-37

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَٰنِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}

35- من نماذج الاصطفاء من آل عمران مريم وعيسی (عليهماالسلام) ، فنسل مبارك وأم مؤمنة {إِذْ} أي أذکر الوقت الذي {قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَٰنَ} وکانت مؤمنة، وزوجها عمران کان نبياً: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} للعبادة ولخدمة بيت المقدس، ولايشتغل للدنيا ولا استخدمه في حوائجي، فجعلت أعزّ شيء لديها لخدمة الدين مع کِبرها ولم يكن لها ولد غير هذا الجنين وهذا دليل شدة إيمانها، {فَتَقَبَّلْ} هذا النذر {مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ} لدعائي ونذري فتُجيب دعوة الداع، {الْعَلِيمُ} بصدق وإخلاص ما في ضميري.

36- {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} ولدتها، خاب ظنها ف {قَالَتْ} في خضوع

ص: 130

ورضیً بقضاء الله تعالی، داعية وملتجئة إلی الله: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ} وهي بحاجة إلی رعاية شديدة، إذ والدها قد مات، وأمّها کبيرة، ولا إخوة لها {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} فلم يكن کلامها للإعلام والإخبار بل للدعاء والتبتّل، ثم قالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} الذي کنت أرغب فيه {كَالْأُنثَىٰ} التي رُزقتُها، فهي لاتصلح للرسالة ولا لخدمة العُبّاد بعد بلوغها، بل هی بحاجة إلی من يرعاها، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} بمعنی العابدة تفألاً وتقرّباً ودعاءً للعصمة، {وَإِنِّي أُعِيذُهَا} أ ُجيرها {بِكَ} يا رب {وَ} أ ُعيذ {ذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَٰنِ} لئلا يمسهم بسوء أو کفر {الرَّجِيمِ} المطرود عن الخير باللعن.

37- فاستجاب الله دعاء الأم {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} أي رضي تعالی بمريم مع انوثتها {بِقَبُولٍ حَسَنٖ} أکثر مما کانت تأمل الأم، فهي کانت ترغب في ولد ذکر محرّر، فرزقها الله سيدة نساء العالمين في زمانها وجعل ابنها من أنبياء أولي العزم، {وَأَنۢبَتَهَا} ربّاها {نَبَاتًا حَسَنًا} فکان نشوؤها بالإيمان والطهارة والعفة، {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} جعله کافلاً ومراعياً لمصالحها وهو من الأنبياء (عليهم السلام) ، وکان زوج أ ُختها أو خالتها، وجعل الله لمريم کرامات ف {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} المکان الذي کان قد أعدّه لها للعبادة في بيت المقدس وکان کالغرفة {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} فاکهة في غير أوانها {قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ} من أين {لَكِ هَٰذَا}؟ متعجباً أو لإبانة کرامتها علی الله، {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} من مائدة الجنة، {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير تقتير، أو بغير محاسبة عليه في يوم القيامة.

ص: 131

بحوث

الأول: خلاصة القصة کما في الروايات(1)

أن عمران کان رجلاً صالحاً ونبيا(2)

وکانت زوجته تدعی مرثاد أو حنّه(3) ومعناها بالعربية (وهيبة)، فأوحی الله تعالی إلی عمران: أني واهب لك ذکراً مبارکاً، يبرئ الأکمه والأبرص، ويحيي الموتی بإذني، وجاعله رسولاً إلی بني إسرائيل، فحدّث عمران زوجته بذلك، فلمّا حملت بها کان حملها عند نفسها غلاماً ذکراً، ونذرت أن تجعله محرراً للعبادة ولخدمة بيت المقدس، والمحرّر للمسجد هو الذي إذا وضعته دخل المسجد فلم يخرج منه أبداً ويخدم العبّاد، فلمّا وضعتها أنثی قالت: رب إني وضعتها أنثی وليس الذکر کالأنثی، لأن البنت تضطر للخروج من المسجد أيام الطمث، کما أنها لاتکون رسولاً، فلمّا وهب الله لمريم عيسی (عليه السلام) کان هو الذي بشّر الله به عمران ووعده إياه، ثم إن عمران مات وأيتمت مريم فاحتاجت إلی من يتکفلها، فتنافس النبيون علی ذلك لعلمهم بفضلها، فاقترعوا عليها فخرجت القرعة علی زکريا وکان زوج أختها أو زوج خالتها، وسيأتي تفصيل کيفية الاقتراع في الآية 44، وکانت مريم في المسجد تخدم العُبّاد إلی أن بلغت، فأمر زکريا أن تتخذ لها حجاباً دون العُبّاد، فصارت في المحراب، وأرخت علی نفسها ستراً، وکان لايراها أحد، وکان زکريا يدخل عليها في المحراب فيجد عندها

ص: 132


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 2: 391-402.
2- بحار الأنوار 14: 202.
3- وکلاهما مرويّ، والظاهر أن أحدهما اسمها والآخر لقبها، أو کان لها اسمان کما هو متعارف عند الکثير من الأ ُسر.

فاکهة الصيف في الشتاء، وفاکهة الشتاء في الصيف.

ثم إنه قد اختلف في أمرين:

1- هل زکريا زوج أخت مريم أو زوج خالتها، وکلاهما مروي(1).

2- هل کان عمران نبيا أم لا، فرُويت نبوته(2)،

وروي أن بنات الأنبياء لايطمثن(3) مع رواية طمث مريم(4)

مما يدل علی عدم کونها بنت نبيّ.

وحيث لايترتب أمر عملي علی هذين الأمرين، نوکل علم هذه الروايات إلی أهلها.

الثاني: قوله تعالی: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}.

لايخفی أن النذر کان عاماً لايختص بالذکر، ولذا قالت {مَا فِي بَطْنِي} لکنها کانت تظن أن الجنين ذکر، ولذا لمّا ولدت مريم خاب ظن الأم في کونه ذکراً، لکن بقي النذر علی حاله، ولذلك أرسلت مريم إلی المسجد تخدم العُبّاد وتعبد الله تعالی فيه، ولا دلالة للآيات علی أنها نذرت نذراً آخر بعد الولادة ولا علی أن إرسالها إلی بيت المقدس کان تطوعاً لانتفاء النذر بانتفاء الموضوع.

والحاصل أن المحرّر کما کان يمکن أن يکون ذکراً کذلك کان يمکن أن يکون أنثی، لکن الذکر أفضل لذلك، لوجوب خروج الأنثی من

ص: 133


1- بحار الأنوار 14: 202.
2- بحار الأنوار 14: 202.
3- الکافي 1: 458.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 392.

المسجد حين الطمث، ووجوب احتجابها عن العُبّاد بعد البلوغ، وحيث إن متعلّق نذر الأم کان مطلقاً من غير تقييده بالذکر فلذا لزمها الوفاء به حتی بعد تبيّن کونها أنثی.

وهذا النذر کان مشروعاً في شريعتهم ولکنه نسخ في شريعتنا من جهتين: أولاً: لعدم صحة النذر علی الغير في شريعتنا، وثانياً: لنسخ الرهبنة وعدم صحة النذر بها.

ويمکن أن يقال: إن قولها لم يكن نذراً بالمعنی المصطلح عند المتشرعة بأن يوجب الإنسان شيئاً علی نفسه لله تعالی فيجب عليه الوفاء به، وإنما هو نذر بالمعنی اللغوي وهو إلزام النفس بشيء، فيکون معنی کلامها أنها تربّي مولودها علی أن يکون محرّراً فيتعلّم علی ذلك ويستمر عليه.

الثالث: قوله تعالی: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

لما کان النذر لله تعالی فلابد من الدعاء لقبوله تعالی لذلك النذر، إذ الغرض منه هو التقرب إليه وکسب رضاه سبحانه وتعالی، وهکذا في جميع الأعمال الصالحة ينبغي للإنسان أن يدعو الله بقبولها، لأن قبولها تفضُّل منه تعالی، إذ هو الغني المطلق الذي لايحتاج إلی أعمال عباده أبداً، ففي هذا الدعاء بيان عدم الامتنان عليه، بل له المنّة علی عباده إن تقبَّله منهم قال تعالی: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأخَرِ}(1)، وقال تعالی: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ}(2)، وذلك لأن الله تعالی لايقبل إلاّ العمل الصالح

ص: 134


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة التوبة، الآية: 53.

الصادر عن المتقين قال تعالی: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ}(1)، وقال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2)، ولذا حتی الأنبياء يدعون الله سبحانه في أن يقبل أعمالهم، کدعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهماالسلام) حين بناء الکعبة قال تعالی: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(3).

والحاصل: إن قبول العمل له شروط ترتبط بنفس العمل وبالعامل فاذا کان العمل فاقداً للشرائط لايقبل حتی إذا قصد العامل به التقرب، قال سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}(4)، فالعمل السيء لاصلاحية له لکي يقبل.

وإذا کان العامل کافراً أو غير متّقٍ عن المحرمات يحبط عمله فلا يکون له الأثر الذي رجاه، قال تعالی: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}(5)، وقد مرّ بعض الکلام في الحبط، فراجع.

ثم إن القبول قد يکون للعمل وقد يکون للعامل، وأحدهما متلازم للآخر، فقبول العمل هو بمعنی ترتيب الآثار المرجوة عليه من الثواب.

وقبول العامل بمعنی إعزازه وإکرامه، ومحو ذنوبه ورفع درجاته، فقبول

ص: 135


1- سورة الأحقاف، الآية: 16.
2- سورة المائدة، الآية: 27.
3- سورة البقرة، الآية: 127.
4- سورة الکهف، الآية: 103-104.
5- سورة التوبة، الآية: 54.

المذنب بمعنی غفران ذنوبه ومحو آثارها، وقبول المحسن بتأييده وتطهيره.

وأما قولها: {أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فالغرض منه هو رجاء استجابة دعائها بتقبّل العمل، أو هو کالعلة للتقبّل.

الرابع: قوله تعالی: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}.

لم يكن قولها هذا اعتراضاً ولا عدم رضی بقضاء الله تعالی، فإن سياق الآيات لبيان فضلها وبيان مقدمات اصطفاء مريم وعيسی (عليهماالسلام) ولايناسب ذلك الاعتراض، وإنما المقصود - والله العالم - هو بيان تبتُّلها وخضوعها ورضاها بقضائه تعالی، ولذا کمّلت کلامها بقولها {وَلَيْسَ الذَّكَرُ} حيث لايمکنها القيام بوظيفة المحرَّر في أيام الطمث، کما لاتتمکن من خدمة العُبّاد بعد البلوغ، فکلامها أشبه بالاعتذار، نظير من يَعِد بأمر ثم يمرض فلايتمکن من الوفاء الکامل بالوعد فيقول: «إنك تری أني مريض» لايقصد الإخبار بل يقصد الاعتذار.

ومن ذلك يتبيّن وجه قوله تعالی: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} فهو استيناف في وسط کلامها، لبيان علمه تعالی وأن غرضها ليس الإخبار والإعلام، فهذه الجملة لبيان نزاهتها وصحة عقيدتها بعلم الله تعالی.

وفي المناهج: واعتقاد امرأة عمران بأن الجنين ذکر لم يكن جزافاً وأمنية عادية، فإنه سبحانه لايذکر في مقام حنانه وإبراز کراماته لأحبائه ماهو من الأمور العادية، ولاينسب إليهم الأمنيات غير الحقيقية، بل أُمنيتها - علی ما في بعض الروايات - کان من جهة أن عمران زوجها کان قد أخبرها بما

ص: 136

أوحی الله من أنه يهب له غلاماً يبرئ الأکمه والأبرص(1).

الخامس: قوله تعالی: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ}.

هذا من کلامها وليس تتمة للجملة المعترضة في قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}، أي ليس الذکر الذي کنتُ أتمناه کالأنثی التی رُزقتُها، فإن الذکر يمکن أن يکون رسولاً کما أنه يتمکن من القيام بوظيفة التحرير أحسن من قيام الأنثی بها لما ذکرناه من وجوب احتجابها وطروّ الطمث عليها، فهذا في الحقيقة اعتذار لااعتراض.

قال في المناهج: ولذا لم تقل «وليس الأنثی کالذکر» حيث إن فيه تصريح بخسّة المولودة والزهد عنها واليأس عمّا وعدالله من إکرامها، وهذا فيه لحن اعتراض وهو لايليق بها، وأما قولها {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} فإنه ليس فيه اعتراض ولاتحقير لشأنها، بل علی عدم صلاحية الأنثی للنذر بالتحرير والرسالة، مع حفظ الأدب وبيان الرضا والتسليم بالقضاء(2).

وقيل: إن جملة {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} هو من تتمة الجملة المعترضة وليس من کلامها، فالمعنی انها لم تکن تعلم أن الأنثی التي وهبها الله لها هي أفضل من الذکر التي کانت تتمناه، لأن الله اصطفاها وجعل عيسی (عليه السلام) إبناً لها!!

لکن هذا يخالف ما في الروايات فراجع.

السادس: قوله تعالی: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا...} الآية.

ص: 137


1- مناهج البيان 3: 222 (بتصرف).
2- مناهج البيان 3: 224.

يتضمن کلامها هذا أمرين:

1- عبادة الله تعالی، وهذا يظهر من تسميتها ب {مَرْيَمَ}، فقد قيل: إن معناها العابدة في لغتهم، وهذا أول خطوة في الوفاء بالنذر، فهو تفأل بأن الوليدة ستفي بالنذر بعبادتها، کما هو يتضمّن دعاءً لها بذلك، کما هو تقرّب من أمها إلی الله، أي ليس کلامها اعتراضاً بل هي تريد أن تکون بنتها عابدة لله تعالی، فهذا يدل علی رضی الأم بقضائه تعالی.

2- الالتجاء إليه من مکائد الشيطان بأن لايمسها بسوء أو کفر، وذلك ليُتمها وبُعدها عن أبويها ووجودها في مکان عام، فکانت الأخطار تحيق بها من شياطين الإنس والجن، فاستجاب الله دعاءها، کما سيأتي في الآية التالية.

وقوله: {وَذُرِّيَّتَهَا} لأنها کانت تعلم بأن الله سيرزقها ذکراً رسولاً إلی بني إسرائيل يبرئ الأکمه والأبرص ويحيي الموتی بإذن الله کما أخبرها زوجها عمران(1)،

فلما مات عمران، وکانت الوليدة أنثی علمت بأن ذلك الموعود هو من ذرية هذه المولودة، ولذلك استجارت بالله تعالی بأن يبعد عنها کيد الشيطان.

وهذه الاستعاذة لعيسی (عليه السلام) ليس من الانخداع بالشيطان بل من أذاه، فالأنبياء معصومون لاطريق للشيطان إلی إغوائهم، وإنّما يتمکن من إيذائهم کما قال تعالی: {أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٖ وَعَذَابٍ}(2)، نعم استعاذتها لمريم (عليهاالسلام) يحتمل کونه لکلا الأمرين، إذ لعلّ

ص: 138


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 2: 392، عن تفسير القمي والعياشي؛ ومثله في الکافي 1: 535.
2- سورة ص، الآية: 41.

أمها لم تکن تعلم باصطفائها وعصمتها.

وقوله: {الرَّجِيمِ} من الرجم بمعنی الرمي بالحصی، والمراد هنا المطرود عن رحمة الله تعالی أو المرجوم باللعن من الله ومن المؤمنين.

السابع: قوله تعالی: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ...} الآية.

کان هذا استجابة لدعاء امرأة عمران وزيادة فضل من الله تعالی:

1- فحيث قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ}، فأعطاها الله تعالی الخير الکثير، حيث تقبّل مريم علی أنوثتها بقبول حسن، فهي أفضل من کثير من الذکور، وأفضل من المحررّين في بيت المقدس.

2- وقالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ}، فربّی الله مريم تربية حسنه بحيث فاقت الکثير من الذکور ف {وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}.

3- وکانت تخاف عليها من الشيطان، فالله تعالی جعل زکريا النبي زوج أختها أو خالتها کفيلاً لها، حافظاً وحامياً لها عن شرّ شياطين الإنس والجن.

4- وزادها الله کرامة لم تکن تتصورها أمها، وهو أنه رزقها من الجنة فاکهة في غير أوانها، ليتبيّن وجه الإعجاز فيها، لأنها لوکانت في أوانها لاحتملوا أن ذلك أمر طبيعي.

وقوله: {فَتَقَبَّلَهَا} أي قَبِل مريم ورضي بها في نذر الأم، لأن مريم کانت متعلق النذر أي المنذورة، فکما تقبل الله نذر الأم کذلك قبل المنذورة، و(التقبّل) هو قبول الشيء عن رضا ورغبة، وأما (القبول) فهو أعم ولذا وصفه بالحسن فقال: {بِقَبُولٍ حَسَنٖ}، وقيل: إنما لم يقل: (تقبلها تقبلاً) بل قال: {بِقَبُولٍ حَسَنٖ} لأن هذا يشعر بزيادة العطايا فوق ما کانت

ص: 139

ترجو، فإنها کانت ترجو ذکراً رسولاً صاحب معاجر، فرزقها الله زيادة علی ذلك سيّدة نساء العالمين في زمانها، فتأمل.

وقوله: {وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} بمعنی رباها تربية صحيحة عبر أفاضة الکمالات وتحديث الملائکة وغير ذلك.

وقوله: {الْمِحْرَابَ} هو موضع في المسجد کانت اتخذت عليه ستراً وحجاباً، وروي أنها صومعة في المسجد بناها لها زکريا وکان يرقی إليها بسُلَّم(1)،

وقيل: هو کالمقصورة التي توجد في کنائس النصاری وأصلها من هذا، وعلی کل حال کان مکاناً منعزلاً عن العُبّاد لايدخل عليها فيه إلاّ زکريا (عليه السلام) ، و«المحراب» اسم مکان من الحرب، لأنه مکان محاربة النفس والشيطان، وقيل غير ذلك.

وقوله: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} في الروايات فاکهة الشتاء في الصيف وفاکهة الصيف في الشتاء، کرامةً من الله تعالی لها، ولعلّه مضافاً إلی ذلك لئلا تخرج من المحراب طلباً للرزق، أو لئلا يدخل عليها الناس لايصال الطعام فتنشغل عن العبادة، وأما دخول زکريا عليها فلأنه کان کفيلاً لها ولعلّه کان يبلّغها الوحي عن الله تعالی فکان من أسباب الانبات الحسن.

وأما قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} فقد مرّ الکلام فيه في الآية 27.

ص: 140


1- تفسير الصافي 2: 41، عن تفسير الامام (عليه السلام) .

الآيات 38-41

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَٰرِ (41)}

38- {هُنَالِكَ} في ذلك الموقف حيث رأی زکريا کرامة مريم علی الله تعالی أحب أن يكرمه الله تعالی أيضاً ف {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ} أي من عندك بحنانك وفضلك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ولداً ذا کمالات في النفس والدين والأخلاق {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} سماع قبول أي مجيب.

39- فاستجاب الله دعاءه وبشّره بالولد الطيب، تعجيلاً في سروره {فَنَادَتْهُ الْمَلَٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ} أي في حال کونه قائماً {يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أراد تعالی أن تکون البشارة في أفضل الأوقات والأماکن فاختار وقت صلاته في المحراب {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ} ولعل بيان اسمه لإخباره بأنّه ذکر وأنه طيب لذلك اختار الله اسمه قبل ولادته، وله خمس صفات 1- حالکونه {مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} وهو عيسی (عليه السلام) 2- {وَسَيِّدًا} رئيساً علی

ص: 141

المؤمنين في طاعة الله تعالی 3- {وَحَصُورًا} لايتزوج فيمنع نفسه عن ملذاته، لانشغاله بالعبادة 4-5- {وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} والمراد صلاح خاص في أعلی درجاته، فکل الأنبياء في قمة الصلاح لکن بعضهم أرفع صلاحاً من بعض.

40- {قَالَ} زکريا مستبشراً وطالباً العلم بکيفية رزقه بالولد: {رَبِّ أَنَّىٰ} کيف {يَكُونُ لِي غُلَٰمٌ} لأنه علم أن رزقه الولد لايکون إلاّ باعجاز فأحب أن يعرف کيفيته {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} فأضعفنی وأثّر فيّ {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} عقيم لاتلد؟ {قَالَ} الله تعالی: {كَذَٰلِكَ} کرزقکما الولد في حالتکما من الکبر والعقر {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} فهو قادر، والأسباب الطبيعية هو الذي جعلها بحکمته وهو قادر علی تغييرها لحکمة أخری.

41- {قَالَ} زکريا: {رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً} علامة أعرف بها وقت الحمل لاستقبلك بالشکر، أو لاطمئنان القلب باستجابة الدعاء ليتحوّل علم اليقين إلی حق اليقين {قَالَ} الله تعالی مستجيباً هذا الدعاء أيضاً: {ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ} لاتقدر علی أن تکلمهم بان يعتقل لسانك عنهم {ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} بالإشارة والإيماء بالرأس، ولکن لايعتقل لسانك عن ذکر الله تعالی {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ} نزهه تعالی {بِالْعَشِيِّ} آخر النهار، و{وَالْإِبْكَٰرِ} أول النهار، والمراد استمرار التسبيح طوال النهار.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ}.

{هُنَالِكَ} أي في ذلك الموقف الذی رأی زکريا کرامة مريم علی الله

ص: 142

ورزقها بالإعجاز فاکهة الصيف في الشتاء وبالعکس، وقد کان زکريا يائساً عن الذرية لمّا شاخ وکانت امرأته عاقراً، ولم يكن قبل ذاك طلب الذرية علی وجه الإعجاز، لکن لما رأی الإعجاز في مريم طلب من الله کرامة مثلها له بأن يرزق ولداً علی جهة الإعجاز، فليس المعنی أن زکريا لم يكن يعلم بقدرة الله أو کان غافلاً عنها، حاشاه وهو من الأنبياء العظام، وقدرة الله يعتقد بها المؤمن العادي فضلاً عن النبي المعصوم، والأنبياء أکثر الناس معرفة بالله من المؤمنين العاديين، بل هو (عليه السلام) لما شاهد معجزة رغب في مثلها، وهذا أمر طبيعي حتی من العالم بالأمر، فالإنسان العادي قد يعلم بشيء ولايتحرك نحوه، لکنه إذا رآه في غيره حصلت له الرغبة في مثله.

والحاصل أن المؤمن يزداد إيماناً ومعرفة في المواقف المختلفة، فتارة: لمّا يری آية من آيات الله تعالی، وأخری: لمّا يشرّع الله تشريعاً أو ينزل قرآناً، وثالثة: لمّا يقع في المصائب والمصاعب، ورابعة: لمّا يری نعمة أنعم الله بها علی قوم، وخامسة: لمّا يری عذاب قوم، وهکذا، فيزداد إيماناً ومعرفة ويرغب في فضل الله تعالی ويستجير من نقمته وعذابه سبحانه، قال تعالی: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا}(1)، وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(2)، وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ

ص: 143


1- سورة الأنفال، الآية: 2.
2- سورة التوبة، الآية: 124.

وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(1).

کما أن المؤمن يحب أن يری فضل الله في الآخرين، کما يحب أن يعلموا بفضل الله عليه، قال الله تعالی: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}(2).

الثاني: قوله تعالی: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}.

(الهبة) هي عطيةُ منفعةٍ يتفضّل بها علی المُعطی له، ولذا لاتقال لعطية المرؤوس للرئيس(3).

و{لَّدُنكَ} بمعنی من عندك، وهذه الکلمة تدل علی حضور الشيء ولاتطلق علی الغائب(4).

وفي هذا الدعاء راعی زکريا (عليه السلام) کمال الأدب، فافتتح دعاءه بقوله {رَبِّ}، وهذه عادتهم (عليهم السلام) في افتتاح الأدعية في طلب الحوائج وهو خضوع له تعالی وتذلّل واستعطاف، ثم عبر بقوله {هَبْ لِي} طالباً تفضّله تعالی من غير استحقاق بل بلطفه وکرمه، ثم قال {مِن لَّدُنكَ} لبيان عموم قدرته وأنه لا يُعجزه شيء، وفيه إشعار بأنه أرادها بطريقة إعجازية لابطريقة طبيعية کأن يعالج ضعف جسمه ويتزوج بأخری غير عاقر.

ص: 144


1- سورة آل عمران، الآية: 173.
2- سورة يس، الآية: 26-27.
3- معجم الفروق اللغوية: 516، 555.
4- معجم الفروق اللغوية: 462.

و{ذُرِّيَّةً} تطلق علی الواحد والجمع، وعلی الذکر والانثی، لکن الظاهر أن دعاءه (عليه السلام) کان للولد کما يظهر من قوله في سورة مريم: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}(1).

و{طَيِّبَةً} من الطيب بمعنی ما يلائم الحواس والنفس، وقيل: ملائمة الشيء لصاحبه فيما يريده لأجله، ومن المعلوم أن الملائم التام لنفس زکريا (عليه السلام) هو الولد المُحلّی بالکمالات المبرّی عن العيوب، وهو في معنی العصمة، ولذا کان دعاؤه في سورة مريم {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} أي مرضياً عندك، کما أن السياق يشعر بذلك، فإن زکريا لمّا رأی کرامة مريم علی الله حينذاك دعا لأن يرزقه الله الذرية الطيبة، التي لها کرامات واصطفاء.

وقوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} بمعنی سماع قبول، فليس مقصوده مجرد علمه تعالی بالمسموعات، بل سماع وإجابة للدعاء ولايخفی أن أفضل الدعاء ما کان مقترناً بتمجيد الله تعالی واستعطافه وطلب لطفه.

الثالث: قوله تعالی: {فَنَادَتْهُ الْمَلَٰئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}.

أي فاستجاب الله دعاءه، وأراد أن يبشّره بذلك فأسرعت الملائکة في بشارته.

وأما قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} فلعل صلاته کانت صلاة الحاجة، بأنه لمّا رأی کرامة مريم توجه إلی المحراب مصلياً داعياً الله بالذرية، فاستجاب الله دعاءه فوراً وبُشِّر بذلك ليعلم بکرامته وکرامة وليده علی الله تعالی، وکان ذلك في أشرف البقاع وهو محراب المسجد وفي

ص: 145


1- سورة مريم، الآية: 5-6.

أفضل الحالات وهي الصلاة.

وقوله: {قَائِمٌ} إما بمعنی وقت القيام في الصلاة قبل السجود لبيان سرعة الاستجابة، أو بمعنی القيام بالدعاء أي قائم بالدعاء في الصلاة، أو بمعنی إقامة الصلاة.

ثم إن استجابة الدعاء کانت فورية لکن تنفيذها کان بعد خمس سنوات کما يظهر من بعض الروايات(1)، فإن استجابة الدعاء هي بمعنی قبوله والتقدير الموافق للدعاء أو لأفضل منه، وليس بمعنی التنفيذ حين الاستجابة، بل قد يتأخر التنفيذ لفترة وذلك لحکمة فيه، کما رُوي في قوله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا}(2) أنه کان بين الإجابة وتنفيذها أربعون سنة، نظير من يطلب مالاً فيعطی صکاً بتاريخ لاحق فقد استجيب طلبه لکن مع تنفيذه في وقت لاحق، ولعل الغرض من هذا التأخير زيادة عبادته ودعائه، ولعلّه لهذا طلب أن تجعل له آية.

وأما نداء الملائکة، فإنه من إحدی طرق الوحي کما قال تعالی: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَايِٕ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}(3)،

أي إلاّ بالإلهام وذلك بالإلقاء في الروع، أو يكلّمه بخلق الصوت لکنه لايری الربّ لاستحالة رؤيته، أو يرسل ملکاً يتکلّم معه بأمر الله وبما أراده تعالی، وهناك تفصيل في أقسام الأنبياء وکيفية تلقيهم الوحي بسماع الصوت فقط أو بالرؤية أيضاً أو في المنام بيّنته

ص: 146


1- بحار الأنوار 14: 176، عن مجمع البيان.
2- سورة يونس، الآية: 89.
3- سورة الشوری، الآية: 51.

الروايات وقد ذکرناه في شرح أصول الکافي فراجع، ولعل زکريا (عليه السلام) کان من الصنف الذي يسمع الصوت ولايری الملك.

الرابع: قوله تعالی: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ...} الآية.

هذا بيان لاستجابة دعائه مع زيادة فضل من الله تعالی، فبشروه بولد يمتلك صفات خمس:

1- {مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} وهذا من أفضل البشارات، لأن الأنبياء يصدّق بعضهم بعضاً ويؤيد بعضهم بعضاً، حيث إن الهدف واحد والکل يسعون للوصول إليه، ولذا کان من أعظم صفات القرآن أنه يصدِّق الکتب السماوية السابقة قال تعالی: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَٰبِ}(1).

وزکريا (عليه السلام) کان يعلم بأن الله سيبعث عيسی (عليه السلام) نبيا من أولي العزم، لأن کل نبي يعلم ويبشر بالنبي اللاحق، ولعلّه کان يعلم بانّه من ذرية عمران لأن الله أوحی إلی عمران - کما مرّ - ، فلذا کانت البشارة بأن ولدك يحيی سيصدّق هذا الرسول الذي هو کلمة الله تعالی.

و(کلمة الله) هو عيسی (عليه السلام) ، وإنما سُمّي بها لأنه وُلد من غير أب وبإرادة الله تعالی حيث قال: (کن)، فخلقه الله تعالی بأمره، أو کما تلقی الکلمة کذلك ألقی الله عيسی إلی مريم بغير الأسباب الطبيعية، وسيأتي الکلام حول {ذَٰلِكَ} في الآية 45.

وهذا التصديق کما کان باللفظ، فيحيی (عليه السلام) کان يصدّق عيسی (عليه السلام)

ص: 147


1- سورة المائدة، الآية: 48.

وکان ذلك من أقوی أسباب تصديق الناس لعيسی (عليه السلام) لمعرفتهم بيحيی وزهده، کذلك کان بنفس خلق يحيی بالإعجاز حيث شيخوخة الأب وعقر الأم، وکانت ولادة يحيی مقاربة لولادة عيسی کما يظهر من بعض الروايات(1)، وقيل: کان يحيی أکبر من عيسی بستة أشهر فمن کان يعلم بحال يحيی (عليه السلام) وأن ولادته بالإعجاز کان يسهل عليه تصديق ولادة عيسی (عليه السلام) من غير أب بالإعجاز، هذا مضافاً إلی کلام عيسی (عليه السلام) في المهد.

2- {وَسَيِّدًا} أي رئيساً وشريفاً، والمراد رئيساً علی أهل الطاعة، ورئاسته لم تکن دنيوية بل في طاعة الله تعالی، ففي تفسير الإمام (عليه السلام) : رئيساً في طاعة الله علی أهل طاعته(2).

3- {وَحَصُورًا} أي يحصر نفسه فيمنعها عن ملذات النکاح فلم يتزوج طيلة عمره، وهذا کان مشروعاً بل من أعظم الفضائل، لکن نُسخ في الإسلام، قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «النکاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس منّي»(3).

ولعل سبب تشريعه سابقاً أن أکثر الناس کانوا وثنيين منغمسين في الملذات والشهوات فکان لابد من وجود ناس يتخصّصون في العبادة في صوامع أو مساجد ليکونوا مثالاً وأسوة وليقرّبوا الناس إلی الدين، لکن في الشريعة الإسلامية کملت القوانين وشُرّعت العبادات العامة وفي جميع الأوقات وعلی جميع الناس وانتشرت شعائر الدين فکان لابد من کون العُبّاد أسوة للناس يقتدون بهم في کل شيء، ومنها في حياتهم العائلية

ص: 148


1- بحار الأنوار 14: 186-187، عن تفسير الإمام (عليه السلام) .
2- تفسير الإمام (عليه السلام) : 277؛ وعنه في بحار الأنوار 14: 187.
3- بحار الأنوار 100: 220.

والشخصية، فتأمل.

وقيل: إن الزواج مهم والعبادة أهم، ولدی التزاحم يرجح الأهم علی المهم، لکن شريعة الإسلام کاملة بحيث لايبقی تزاحماً بينهما فيمکن الجمع بينها.

5-4- {وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} أي هو من أعظم الأنبياء، فقوله: {مِّنَ الصَّٰلِحِينَ} ليس قيداً توضيحياً إذ کل نبي هو صالح، بل المراد درجة سامية من الصلاح، بحيث تمناها يوسف ودعا الله بأن ينالها قال: {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّٰلِحِينَ}(1)،

وهي درجة نالها إبراهيم (عليه السلام) قال تعالی: {وَإِنَّهُۥ فِي الْأخِرَةِ لَمِنَ الصَّٰلِحِينَ}(2)، وقد مضی شطر من الکلام في سورة البقرة فراجع.

الخامس: قوله تعالی: {قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٌ...} الآية.

سؤاله (عليه السلام) کان لمعرفة کيفية رزقه بالولد، لا إنکاراً أو تعجباً، بل هو الذي کان قد دعا الله بذلك فکيف يتعجب أو ينکر حين الاستجابة، بل الإنکار لايناسب مقام الأنبياء (عليهم السلام) کما هو أوضح من أن يخفی.

فهو (عليه السلام) علم بأن الله سيرزقه ولداً فأحب أن يعلم کيفيته، مثلاً هل يرجعهما الله شابين، أو أن عليه أن يتزوج أخری شابة غير عقيمة.

وبعبارة أخری: لعلّه أراد معرفة أن تلك الاستجابة هل هي عبر الطرق

ص: 149


1- سورة يوسف، الآية: 101.
2- سورة البقرة، الآية: 130.

الطبيعية فعليه أن يتزوج أخری وأن يراجع الطبيب وأمثال ذلك من الأسباب، أو أن في الأمر وجه إعجاز فليس عليه عمل شيء إلاّ الانتظار لتنفيذ الوعد، ولذا ضمّن کلامه الموانع الطبيعية وهي شيوخته وعقر امرأته، فأجابه الله تعالی: {كَذَٰلِكَ} أي ما أنتما عليه من الکبر والعقر {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} بقدرته، فهو الذي سنّ القوانين الطبيعية، لحکمته، فتغييرها بيده إن اقتضت حکمته ذلك.

السادس: قوله تعالی: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً}.

لمّا کان الفاصل بين استجابة الدعاء وبين تنفيذ الأمر خمس سنوات - کما مرّ - ولعلم زکريا (عليه السلام) بأن استجابة الدعاء لاتعني التنفيذ فوراً لذلك طلب أن تجعل له علامة علی حمل الزوجة، ليستقبل ذلك بالشکر والسرور، أو لاطمئنان القلب بأن يجده ملموساً بعد ما علم به عبر السمع، فيرتقي يقينه من علم اليقين إلی عين اليقين، وقد مرّ تفصيل معنی الاطمئنان في اطمئنان إبراهيم (عليه السلام) برؤية إحياء الأموات في الآية 260 من سورة البقرة، فراجع.

لکن روي أن زکريا لما دعا ربّه أن يهب له، فنادته الملائکة بما نادته به، أحبّ أن يعلم أن ذلك الصوت من الله، فأوحي إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الکلام ثلاثة أيام، قال: لما أمسك لسانه ولم يتکلم علم أنه لايقدر علی ذلك إلاّ الله(1).

قال العلامة المجلسی رضوان الله عليه: يمکن أن يقال: اشتبه عليه في خصوص هذا الموضع لحکمة، فاحتاج إلی استعلام ذلك، أو يقال: إنه فعل

ص: 150


1- بحار الأنوار 14: 184، عن تفسير العياشي.

ذلك لزيادة اليقين کما في سؤال ابراهيم (عليه السلام) (1).

أقول: والأقرب أن يقال: إن الأنبياء (عليهم السلام) يميزون بين کلام الملائکة وکلام غيرهم وخاصة وساوس الشيطان، لکن ذلك التمييز بإرادة من الله تعالی فهو الذي يلقي إليهم المعرفة، وطُرُق هذه المعرفة متعددة، ومنها جعل الآية، فقد يلقي الله المعرفة في قلبهم مباشرة، وقد يوفقهم للمعرفة بواسطة آية، وقد تکون هناك طرق أخری، والحاصل أنه لاشك في أن الأنبياء يعرفون ما يوحی إليهم ويميزون بين أقسام الکلام، والله تعالی هو الذي يوفقهم لتلك المعرفة وبأساليب مختلفة.

فعن بريد عن الإمام الباقر والصادق (عليهماالسلام) : «الرسول الذي يظهر له الملك فيكلّمه، والنبي هو الذي يری في منامه، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد، والمحدّث الذي يسمع الصوت ولايری الصورة»، قلت: أصلحك الله کيف يعلم أن الذي رأی في النوم حق وأنه من الملك؟ قال: «يوفّق لذلك حتی يعرفه»(2).

السابع: قوله تعالی: {ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا...} الآية.

أي العلامة هي اعتقال لسانه عن الکلام مع الناس دون ذکر الله تعالی، وهذا دليل علی أنه لم يكن عن آفة، ولو کان يعتقل لسانه بشکل کامل لم يكن آية، فلعله کان يتوهم أنه لمرض، کما أنه کان نقضاً للغرض، لأنه أراد أن يعرف وقت الحمل ليزيد من شکره لله تعالی، فحبس لسانه عن ذکر الله

ص: 151


1- بحار الأنوار 14: 185.
2- الکافي 1: 177.

کان مخالفاً لما أراده، والله تعالی لايجعل آيته لأنبيائه منعهم عن ذکره.

وليس المقصود صوم الصمت کما فعلت مريم (عليهاالسلام) حين ولادة عيسی (عليه السلام) فإن ذلك کان عبادة لاآية.

وقوله: {رَمْزًا} أي بالحرکة وهي بالإشارة فهي لاتمنع عن ذکر الله، ولاتنافي الآية، وفيها قضاء ضروريات الحوائج.

وقوله: {وَاذْكُر رَّبَّكَ...} دليل علی الآية، وأشبه ببيان الغرض منها حيث إن غرضه تخصيص وقته لذکر الله تعالی، فقوله: {بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَٰرِ} کناية عن استغراق الذکر لکل الوقت لا لخصوص هذين الوقتين.

وعطف التسبيح علی الذکر من عطف الخاص علی العام، إذ کل تسبيح هو ذکر، أو الذکر هو تمجيده والتسبيح هو تنزيهه، أو أن الغرض من الأمر بالتسبيح هو تنزيه الله عن العبث أو خلاف الحکمة، فتأخير ولادة يحيی وجعل الآية عدم القدرة علی الکلام مع الناس إنما هما لحکمة، فهو تعالی منزّه عن العبث والنقائص کلها، والله العالم.

ثم إن ذکر قصة زکريا ويحيی في وسط آيات مريم والمسيح (عليه السلام) لعلّه بغرض بيان تصديق يحيی لعيسی فاقتضی السياق ذکر بقية جوانب القصة وخاصة مايرتبط بمريم (عليهاالسلام) حيث إن دعاء زکريا کان بعد ما رأی کرامتها علی الله تعالی، أو لوجود الشبه التام بين عيسی ويحيی (عليهماالسلام) فولادة کليهما کانت بدعاء الآباء، وبطريقة إعجازية، وکلاهما آتاهما الله النبوة في الصغر، وغير ذلك من أوجه الشبه.

ص: 152

الآيات 42-44

اشارة

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ (42) يَٰمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّٰكِعِينَ (43) ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}

42- {وَإِذْ} أي أذکر الوقت الذي {قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ} اختارك من ذرية الأنبياء {وَطَهَّرَكِ} من السفاح وسائر الأقذار المعنوية {وَاصْطَفَىٰكِ} اختارك للولادة من غير فحل {عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ} فهذا خصيصة خصّ الله بها مريم (عليهاالسلام) .

43- فاشکري {يَٰمَرْيَمُ} هذه النعمة ف {اقْنُتِي} اخضعی {لِرَبِّكِ} بالتسليم لأمره، {وَاسْجُدِي} شکراً لله تعالی، {وَارْكَعِي مَعَ الرَّٰكِعِينَ} أي علی طريقة الراکعين، لاکاليهود الذين لارکوع لهم، ويمکن أن يکون کل ذلك أمر بالصلاة مع ذکر أرکانها.

44- {ذَٰلِكَ} ما ذکرناه من قصص مريم وزکريا ويحيی {مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ} أي ما غاب عن الحواس فلم تشهدها أنت وقومك {نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} عند الأنبياء الذين أرادوا کفالة مريم {إِذْ} في الوقت الذي {يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ} في الماء للاقتراع {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ

ص: 153

لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يتنافسون في أمر کفالتها.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ}.

کانت مريم (عليهاالسلام) محدَّثة، والمحدَّث هو من لم يكن نبيا لکنه يسمع کلام الملائکة ويحدِّثهم، وهذه ميزة خصّها الله ببعض أوليائه المصطفين (عليهم السلام) ، ويظهر من بعض الأخبار أن التحديث لايکون في مسائل الحلال والحرام فإن ذلك خاص بوحي الأنبياء (عليهم السلام) ، وإنّما المحدَّث تحدثه الملائکة بقضايا وأمور أخری کالوقائع وما کان أو يکون أو هو کائن، فقول الملائکة لمريم (عليهاالسلام) : {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} لم يكن وحي تشريع، فإن مريم کانت تعلم بذلك وکانت منشغلة بالعبادة قبل هذا التحديث، وإنّما الغرض هو إرشادها إلی شکر نعمة الاصطفاء والتطهير بالخصوص، وليس ذلك بيان تشريع بل هو إرشاد لحکم عقلي.

وکما حدثت الملائکة مريم (عليهاالسلام) فإنها حدثت فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) بعد رحيل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولم يكن في ذلك التحديث شيء من الحلال أو الحرام، وإنما الوقائع والقضايا وما يجري في العالم إلی انقضاء الدهر، وکان أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب کل ذلك فاجتمع في کتاب إسمه «مصحف فاطمة» توارثه الأئمة (عليهم السلام) ، وهو الآن عند الإمام المهدي، وتفصيل بحث التحديث ذکرناه في شرح أصول الکافي فراجع.

معنی اصطفاء مريم (عليهاالسلام)

الثاني: قوله تعالی: {يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ}.

لعل قولهم هذا کمقدمة لقولهم الثاني في القنوت والسجود والرکوع،

ص: 154

بمعنی أنهم أرادوا إرشادها إلی شکر هذه النعمة الکبری فبيّنوا النعمة أولاً ثم ارشدوها إلی الشکر، أو هو مقدمة لبشارتهم إياها بولادة المسيح (عليه السلام) وما يؤول إليه أمره کي لاتنصدم، فکانت المراحل ثلاث، في البداية إخبارها بالاصطفاء والتطهير، ثم تبشيرها بالمسيح (عليه السلام) ، ثم تنفيذ البشارة بواسطة جبرئيل (عليه السلام) لمّا تمثل لها بشراً سوياً، أو إن الله تعالی يكرم أوليائه بکرامات ويخبرهم بها ليعلموا منزلتهم لديه ليزدادوا سروراً وعبودية، أو لغير ذلك.

وقوله: {اصْطَفَىٰكِ} و{وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ} ليس تکراراً للتأکيد أو لزيادة علی نساء العالمين في المرة الثانية، بل الاصطفاء الأول هو اختيارها لذاتها بمعنی خلقها خالصة من کل شوب ونقص فتقبّل الله مريم (عليهاالسلام) بقبول حسن وانبتها نباتاً حسناً، والاصطفاء الثاني اختيارها لأمرٍ خاص بها لايشارکها أحد من النساء وهو الولادة بطريقة إعجازية من غير فحل، ولذا ذکر قبله {وَطَهَّرَكِ} والمراد به التطهير من رجس السفاح وسائر الأرجاس المعنوية.

فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : «معنی الآية: اصطفاك من ذرية الأنبياء، وطهرك من السفاح، واصطفاك لولادة عيسی من غير فحل»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «اصطفاها مرتين: أما الأولی فاصطفاها أي اختارها، وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل فاصطفاها بذلك علی نساء العالمين»(2).

ص: 155


1- بحار الأنوار 14: 193.
2- بحار الأنوار 14: 200، عن تفسير القمي.

ثم اعلم أن (الاصطفاء) غير (السيادة)، فمريم (عليهاالسلام) اصطفيت أي اختيرت من بين کل النساء للولادة من غير فحل بطهارة وإعجاز وهذه الخصيصة عامة علی نساء کل العالمين سواء في عالمها أو العوالم التي سبقتها أو لحقتها، وأما السيادة فلم تذکر في هذه الآية ولا في آيات أخری، وإنما ذکرت الروايات أنها (عليهاالسلام) سادت نساء عالمها أي النساء المعاصرين لها، وأما السيادة العامة، لجميع النساء من الأولين والآخرين فهي لفاطمة الزهرا (عليهاالسلام) کما في صحاح روايات الخاصة والعامة، وليس الاصطفاء بمعنی التفضيل بل هو بمعنی الاختيار، وهذا الاختيار قد يلازم التفضيل وقد يلازم الخصيصة من الخصائص، کما مرّ تفصيله في الآية 32، وأما بعض المفسرين فقالوا إن الاصطفاء بمعنی التفضيل فلذا حملوا قوله: {عَلَى الْعَٰلَمِينَ} علی معنی عالمي زمانها، نظير قوله تعالی في بني إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَٰلَمِينَ}، حيث إن المراد العالمين في زمانهم لا کل العالمين من الأولين والآخرين إذ إنه لاشك بأن الأمة الإسلامية أفضل جميع الأمم کما قال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.

وقوله: {وَطَهَّرَكِ} بمعنی الطهارة من الأرجاس المعنوية، والمقصود هنا هو طهارتها عن السفاح لأنها ولدت من غير زوج، وأما الطمث فيظهر من جملة من الروايات - تصريحاً أو تلويحاً - بأنه کان يصيبها(1).

الثالث: قوله تعالی: {يَٰمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ...} الآية.

هذا کالتفريع علی البشارة، أي وحيث علمتِ بهذه البشارة فازدادي

ص: 156


1- بحار الأنوار 14: 193.

عبادة لربك وخضوعاً، وقد أرشدوها إلی أمور ثلاثة:

1- القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع(1)

وقد سُمّي کل استقامة في طريق الدين قنوتاً(2)، وذلك لأن اصطفاءها لولادة المسيح من غير أب کان من أصعب الأمور عليها حتی أنّها تمنت الموت لما ولدته قال: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}(3)،

فلذا کان لابد من توصيتها للخضوع لله تعالی والاستقامة في طريق الدين وترجيح إرادته تعالی علی الرغبات.

2- السجود، ولعلّ تقديمه علی الرکوع لأجل أن المراد منه سجدة الشکر لله تعالی علی هذه النِعم الجسام.

3- والرکوع مع الراکعين، ولعل المراد الصلاة کما يصلي المصلّون، فإنه لم يشرّع الرکوع لوحده وإنما شرّع ضمن الصلاة، عکس السجود فکما هو جزء من الصلاة کذلك شُرّع لوحده في سجدة الشکر ونحوها.

وقيل: مع الراکعين بمعنی إقامة صلاة الجماعة معهم، لکنه يتنافی مع اتخاذها حجاباً وانفرادها في غرفتها عنهم.

وقيل: لمّا لم يكن لليهود رکوع فکانت صلواتهم من غير رکوع لذا أمرت بالصلاة التي فيها رکوع مع الجماعة الراکعة أي في زمرتهم ومجموعتهم.

وقيل: هذه الثلاثة - القنوت والسجود والرکوع - أريد بها إقامة الصلاة

ص: 157


1- مفردات الراغب: 684.
2- مقاييس اللغة: 834.
3- سورة مريم، الآية: 23.

ولکن مع ذکر أهم أرکانها، فيکون القنوت بمعنی الکيفية المخصوصة في رفع اليدين عند الدعاء.

الرابع: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ...} الآية.

هذا في ختام قصة مريم (عليهاالسلام) حيث إن الآية التالية شروع في قصة المسيح (عليه السلام) ، فبيّن سبحانه أن هذا المذکور في الآيات إنما هو من الأخبار الغيبية التي لم يكن يعلمها الناس، فإن المذکور في الأناجيل محرّف، کما أنّها لاتحتوي علی جملة من التفاصيل المذکورة في هذه الآيات، نظير ما ذکره تعالی في آخر سورة يوسف: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}(1).

ولعل المقصود هو ردّ مزاعم المشركين وأضرابهم قال تعالی: {وَقَالُواْ أَسَٰطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(2)، وقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}(3)، ولذا عقّبها بالصبر في قوله تعالی: {تِلْكَ مِنْ أَنۢبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}(4).

وإنّما کانت من أنباء الغيب لأن المعاصرين الذين شاهدوا القضية کانوا قد ماتوا منذ أمد بعيد، ولم يكن تاريخ مدون صحيح يورث الاطمئنان،

ص: 158


1- سورة يوسف، الآية: 102.
2- سورة الفرقان، الآية: 5.
3- سورة النحل، الآية: 103.
4- سورة هود، الآية: 49.

والانجيل الذي في الأيدي محرّف بأشد تحريف بحيث لايمکن اعتباره وثيقة تاريخية، فطريق العلم بتلك الوقائع منحصر بالوحي ولا طريق آخر.

بل قد يقال: إن النبي الوحيد الذي يمکن إثباته تاريخيا وبخصوصياته وعبر الوثائق التاريخية هو رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لکثرة الوثائق التاريخية من کتب وآثار ووقائع مؤکدة، وأما سائر الأنبياء فلا طريق لعلم التاريخ إلی إثباتهم فضلاً عن إثبات تفاصيلهم، لموت المعاصرين الشاهدين لهم، وعدم وجود آثار حجرية أو کتابية، لأن الأنبياء لم يکونوا بُناة قصور ولا أصحاب زخارف دنيوية، ولا کان الحکّام يؤيدونهم حتی ينقشوا لهم آثاراً، بل کانوا من المستضعفين - عادة - ، وأما التوراة والانجيل الموجودان حالياً فکتب محرّفة مليئة بالأساطير وقضايا غير واقعية فهي غير معتمد عليها في علم التاريخ، فانحصر الطريق في الوحي، وهو الموجود في القرآن الکريم وما بيّنه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ، فلابد من العلم بنبوة رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وصدق القرآن الکريم، وهذا ما يحصل لکل عاقل جرّد نفسه عن الأهواء وموروث الآباء الکفرة، فلا شک في إعجاز القرآن وإعجاز طريقة بيانه للقصص للإعتبار بها، فمن قرأ قصص القران ببصيرة وجد أنها الحق الذي لاباطل فيه، بل نفس کيفية بيان القصة والمفردات المذکورة فيها وطريقيتها للهداية، وعدم وجود حشو فيها، وعدم تعرض للزوايا والجوانب التي لاتصبّ في غرض الهداية أو غرض السورة، کل ذلك دليل علی کونها وحياً من الله سبحانه وتعالی.

وقوله في ختام القصة: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ...} إنما هو

ص: 159

رجوع إلی بدايات القصة حيث قال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}، وهنا بيان لکيفية ذلك التکفيل حيث کان بالاقتراع، إذ اختصموا في کفالتها وکانوا ستة، وقيل: تسعة وعشرين، والأول مرويّ(1)، فاقترعوا بإلقاء أقلامهم، ويظهر من بعض الأخبار أن الذين اختصموا فيها کانوا أنبياء(2)، ومن ذلك يتبيّن أن اختصامهم إنما هو بمعنی التنافس في نيل هذه المکرمة، قال تعالی: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(3)، وقال: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَٰتِ}(4).

وقوله: {أَقْلَٰمَهُمْ} قيل: هو القِدْح أي العود الذي يساهم به ويجعل للاقتراع، وقيل: هي أقلامهم التي کانوا يكتبون بها التوراة وکانت حديدية ألقوها في الماء فرسبت إلاّ قلم زکريا فطفا بالإعجاز، لکن هذا قول بعض المفسرين ولم يسند إلی کلام معصوم، فالمقدار المعلوم هو اقتراعهم عبر الأقلام، أما هذه التفاصيل فلم ترد في دليل معتبر، والله العالم.

ص: 160


1- بحار الأنوار 14: 198، عن الخصال.
2- تفسير العياشي 1: 170.
3- سورة المطففين، الآية: 26.
4- سورة البقرة، الآية: 148.

الآيات 45-47

اشارة

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٖ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (47)}

45-46- بعد بشارتها بالاصطفاء والتطهير {إِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} يخبرك بخبر حسن {بِكَلِمَةٖ مِّنْهُ} من الله، والکلمة الشيء المُلقی، وسمّي عيسی کلمة لأن الله خلقه من غير واسطة {اسْمُهُ} أي يعرف بهذه الأمور: فلقبه {الْمَسِيحُ} بمعنی المبارك، واسمه: {عِيسَى}، ووصفه: {ابْنُ مَرْيَمَ}، وفيه إشعار بأنه يولد من غير أب وإلاّ نُسِب إلی الأب، ولهذا المولود مجموعة من الصفات:

(1) حالکونه {وَجِيهًا} ذا جاه ومنزلة ومقبولية {فِي الدُّنْيَا} برفع الاسم، عکس سائر من يولدون من غير أب حيث لااعتبار لهم في المجتمع، {وَالْأخِرَةِ} بقبول شفاعته.

(2) {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} إلی الله تعالی.

(3) {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} حالکونه رضيعاً {فِي الْمَهْدِ} وهو ما يُعدّ للطفل

ص: 161

ويهزّ فيه، {وَكَهْلًا} وهو ما بين الشباب والشيخوخة، وکلامه بالنبوة في کلتا الحالتين بالإعجاز.

(4) {وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ} الأنبياء العظام.

47- {قَالَتْ} سائلة للاستيضاح وزيادة الاستبصار موجهة السؤال إلی الله تعالی: {رَبِّ أَنَّىٰ} کيف {يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ} الله بالوحي إليها مباشرة أو بواسطة الملائکة {كَذَٰلِكِ} هکذا، والکاف للخطاب، {اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا} حکم تکويناً بوجود الشيء {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} أي فيوجده، فهو سبحانه يتحکّم في الوجود کما شاء بحکمته، سواء شاء الشيء بالواسطة أم بغير واسطة.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ...} الآية.

(اذ) بدون حرف عطف، ولعله بدل أو عطف بيان عن {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَٰئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰكِ}، فيدل علی أن القولين کانا بغرض واحد، فالثاني تفصيل للأول، فالأول طهارة واصطفاء للولادة من غير فحل، والثاني تفصيله له، فالاصطفاء لولادة هذا المسمی بالمسيح عيسی، ولا أب له لذا نسب إلی أ ُمّه، ونتيجة طهارة مريم هو وجاهة ولدها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ومن الأنبياء الصالحين إلی سائر الأوصاف.

وحيث إن البشارة الأولی بقوله: {وَاصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَٰلَمِينَ} کانت مجملة لذا لم تسأل عن کيفية ذلك، لکن لما کانت البشارة الثانية مفصّلة وتُشعر بولادته من غير أب لذا سألت فقالت: {أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ...} الآية.

ص: 162

والظاهر أن هذه البشارة هي قبل تمثل جبرئيل بشراً سويّاً، إذ أن الملائکة اخبروها بالاصطفاء أولاً، ثم اخبروها بولادة المسيح مع ما يمتلك من صفات، ثم بعد ذلك تمثّل جبرئيل لها فولدت عيسی، فکانت مراحل ثلاث، ولعله لتتهيّأ نفسياً، وأيضاً لتعبد الله زيادةً في القابلية لحمل هذا الوليد العظيم، أما احتمال أن المراد بالملائکة في هذه الآية خصوص جبرئيل وأن هذه البشارة کانت حين تمثله لها بشراً سويّاً ليهب لها عيسی (عليه السلام) ! فخلاف الظاهر.

الثاني: قوله تعالی: {بِكَلِمَةٖ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}.

جذر مادة (ك ل م) بمعنی التأثير، فلذا يسمی الجرح کَلْماً لأنه يؤثر في الجسم بما يری بالعين، وتُسمی الألفاظ کلاماً لتأثيرها في السمع، ولذا يقال للشيء المُلقی کلمه سواء کان بلفظ أم بوجود عيني.

ولعلّ إطلاق الکلمة علی عيسی (عليه السلام) لأجل أنّ الله تعالی خلقه (عليه السلام) بقوله: {كُن}، فأطلق السبب علی المسبّب، وهذه الطريقة في الخلق وإن کانت عامة لکل المخلوقات لکن الغالب کونها عبر الأسباب، وأما عيسی فکان بغير الأسباب العادية لذا سُمّي بالسبب الحقيقي الذي هو کلامه تعالی، وقد استعملت الکلمة في القرآن بمعنی قضائه تعالی کما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ}(1)، وقال: {كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(2)، حيث إن هذا القضاء کان بالألفاظ بالوعد والوعيد أولاً ثم بتنفيذه خارجاً وعيناً.

ص: 163


1- سورة الأعراف، الآية: 137.
2- سورة يونس، الآية: 33.

تعريب الکلمات الأعجمية

وقوله: {اسْمُهُ} يراد به: ما يطلق ويدل عليه، سواء کان اسماً اصطلاحاً أو لقباً أو وصفاً خاصاً، لأن الإسم ما يدل علی المسمی، وهو المعنی المقصود الذي جعل ذلك الإسم علامةً له، وهذه الألفاظ الثلاثة تدل علی السيد المسيح (عليه السلام) وهي:

1- {الْمَسِيحُ} وهو لقبه، وأصل الکلمة أعجمية، وقيل: هي بمعنی المبارك، کما قال تعالی: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}(1).

ثم إعلم أن الکلمات الأعجمية - من أية لغة کانت - إذ عُرّبت يکون تعريبها عادة بما يسهل نطقه علی العرب، وکثيراً ما تُعرّب علی الأوزان المتعارفة عندهم، وهذا يقتضي تغيير بعض الحروف ببعض، مع تقديم أو تأخير، وحذف أو زيادة.

وهذا لاينافي ملاحظة المعنی واختيار حروف ووزن يدل علی معنی في اللغة العربية مع قصد ذلك المعنی أيضاً في التعريب، مثلاً (يوحنّا) تمَّ تعريبه إلی (يحيی) وهو علی وزن الفعل المضارع ولا مانع في أن يکون قد لوحظ حين التعريب معنی الکلمة في اللغة العربية وهي التفأل بحياته، وهکذا (المسيح) معرب (مشيحا) - علی ما قيل - وهو بمعنی المبارك في لغتهم، ولامانع أن يکون المُعرِّب لاحظ معاجز عيسی بإبرائه الأکمه والأبرص بمسح يده عليهما، أو لاحظ سياحته في الأرض، فعرّب الکلمة بوزن عربي وهو فعيل وبکيفية تدل علی المسح والسياحة، ونحو ذلك.

ص: 164


1- سورة مريم، الآية: 30-31.

والحاصل: إنه لامانع في التعريب من حفظ روح الکلمة الأعجمية مع تغييرها لتتطابق جذراً من جذور الکلمات العربية - ولو علی الاشتقاق الکبير - ووزناً من الأوزان العربية مع دلالة علی معنی وقصد ذلك المعنی في الکلمة المعرّبة.

وبهذا البيان يتضح ما ورد في کثير من الروايات في سبب التسمية بأسماء أعجمية معرّبة، فآدم (عليه السلام) سمّي به لأنه خُلق من أديم الأرض، وحوّاء سميت به لأنها خلقت من حيّ، وادريس (عليه السلام) لکثرة دراسته، ونوح (عليه السلام) لنوحه علی نفسه، وابراهيم (عليه السلام) لأنّه هَمّ فبَرّ، أي قصد ونفّذ ما قصده، ويعقوب (عليه السلام) لأنه خرج بعقب أخيه، أي بعد أخيه التوأم له، وهکذا مما تجده في علل الشرائع للشيخ الصدوق رضوان الله تعالی عليه(1) وغيره من الکتب.

2- {عِيسَى}، وهو اسمه، وهو معرَّب (يسوع) أو (أيشوع)، وقيل: هو بمعنی السيد في لغتهم.

3- {ابْنُ مَرْيَمَ}، وهو وصفه ونسبه، ولعلّ ذکر هذا الوصف في الخطاب مع مريم (عليهاالسلام) هو إخبارها بأنه يولد من غير أب، فإن الولد ينسب إلی أبيه ولاينسب إلی أمه إلاّ لجهة من الجهات، ولذا فهمت مريم ذلك، فاستفسرت عن کيفية ولادته.

کما أن فيه دحضاً لکلام النصاری حيث زعموا أنه ابن الله سبحانه، بل هو ابن مريم (عليهاالسلام) ، خلقه الله بمشيئته.

الثالث: قوله تعالی: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.

ص: 165


1- علل الشرائع: 14-16، 27-28، 34، 43.

وجاهة عيسی (عليه السلام)

شروع في بيان أوصاف عيسی (عليه السلام) ، ذکرت الملائکة ذلك لمريم (عليهاالسلام) تسكينا لخاطرها، وبيان منزلتها ومنزلة ولدها، والصفات المذکورة في هذه الآية وما بعدها تجمع أهم صفات ومراحل حياة عيسی (عليه السلام) :

1- وجاهته عند الناس في الدنيا والآخرة، 2- وقربه إلی الله تعالی، 3- ومعجزته في الکلام سواء في المهد أو في کبره، 4- وکونه من أعاظم الأنبياء الصالحين، 5- وعلمه بالکتاب والحکمة والتوراة والانجيل، 6- ورسالته، 7- ومعاجزه، 8- وشريعته، فهذه أمور ثمانية تتعلق بعيسی (عليه السلام) .

والأربعة الأولی ذُکرت لمريم (عليهاالسلام) في البشارة، والأربعة الأخری لم تذکر في البشارة علی الظاهر - کما سيأتي - ولکنها أوصاف ذکرها الله تعالی لعيسی (عليه السلام) بعد انتهاء قصة مريم وشروع في بيان تفاصيل حياة عيسی (عليه السلام) ، ولعلّها تفصيل الأربعة الأولی.

فقوله: {وَجِيهًا} يراد عدم تضرّره بالولادة من غير أب عند الناس، فهو وجيه عندهم في الدنيا والآخرة، عکس سائر من يولدون من غير أب، فإن ذلك عار ومنقصة عليهم، ولا وجاهة ومقبولية لديهم عند المجتمع.

أما في الدنيا: فما نلاحظه الآن من احترام وقدسية لعيسی عند عامة البشر، فالنصاری والمسلمون يجلّونه ويحترمونه، وسائر الناس أيضاً ينظرون إليه باحترام وإعجاب حتی الذين لايعتقدون بنبوته، وحتی اليهود الذين قالوا في مريم بهتاناً عظيماً لاينطقون بشيء ضده (عليه السلام) خوفاً.

وأما في الآخرة: فالظاهر أن المراد الوجاهة عند الناس فيها، وذلك بمقام الشفاعة والمنزلة الرفيعة التي يراها الناس لعيسی (عليه السلام) .

ص: 166

وقوله: {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي هو من المقربين لدی الله تعالی، بالقرب المعنوي والعنايات والمواهب الخاصة التي يمنحها الله إياه، وهذا منزلته عند الله تعالی، کما أن الوجاهة منزلته عند الناس.

ويحتمل أن تکون الوجاهة في الدنيا والآخرة عند الله تعالی، فوجاهته عند الله في الدنيا بمعنی استجابة دعائه وإذن الله تعالی له بإبراء الأکمه والأبرص وإحياء الموتی وسائر معاجزه، ووجاهته في الآخرة عند الله بقبول شفاعته ورزقه مايريد من المقامات العالية والمنزلة الرفيعة، وتبرئته من غلوّ النصاری فيه، کما قال تعالی: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلی قوله: {قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}(1).

وأما تفسير المقربين بأنه رُفِع إلی السماء! فهو أشبه بکلام المجسمة الذين يزعمون أن الله في السماء أو فوقها بالفوقية المکانية، فمن کان في المکان الأعلی کان أقرب إليه تعالی!! وقد زعم بعضهم أن من علی المنارة أقرب إلی الله من الذي علی الأرض!! تعالی الله عما يقولون علواً کبيراً، بل هو خالق المکان وليس في شيء من المکان، ونسبته إلی جميع المخلوقات نسبة واحدة هي إحاطته علماً وقدرة بهم، والقرب إليه قرب معنوي بمعنی المنزلة والکرامة والعنايات الخاصة.

الرابع: قوله تعالی: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ}.

ص: 167


1- سورة المائدة، الآية: 116-119.

أما کلامه في المهد وهو رضيع فلاشك في کونه خارقاً للعادة، وخاصة ما تضمنه کلامه من بيان نبوته وتبرأة أمّه، قال تعالی: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ الْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَٰنِي بِالصَّلَوٰةِ وَالزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}(1).

وأما کلامه وهو کهل - والکهل هو ما بين الشباب والشيب، وقيل: هو الذي بلغ أربعاً وثلاثين سنة - فأيضاً کان کلاماً خارقاً للعادة، لأنه تکلّم بالنبوة - تکويناً وتشريعاً - ، فکلامه في التکوين ما أظهره من معاجز بکلامه کإحيائه الموتی بقوله «قم بإذن الله» مثلاً، وکلامه في التشريع فالانجيل والأحکام التي بيّنها للناس، وهذا معجزة له أيضاً.

فاتضح من ذلك أن کلامه في کهولته بطريقة إعجازية أيضاً، فلاوجه للسؤال عن أن الکلام في الکهولة عام لکل بني البشر فما هو وجه ذکره في البشارة؟ کي يحتاج إلی الجواب بأن المراد أن کلامه في المهد ککلامه في حالة الکهولة فيکونان معجزة واحدة، فتأمل.

وقوله: {وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ} لعل المراد من الأنبياء العظام البالغين الدرجة العليا للصلاح، وقد مرّ البحث فيه في الآية 39 فراجع.

الخامس: قوله تعالی: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ...} الآية.

البشارة کانت من الملائکة، لکن مريم (عليهاالسلام) وجّهت سؤالها إلی الله تعالی، لعلمها بأنهم وسائط الله تعالی في البشارة وأن التقدير والقضاء منه تعالی،

ص: 168


1- سورة مريم، الآية: 30-33.

فالملائکة لايعلمون إلاّ ما علّمهم الله تعالی، قال: {قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(1)، فهؤلاء کانوا وسائط للبشارة لاأکثر، ولعلّهم لم يکونوا يعلمون کيفية خلق عيسی (عليه السلام) .

فقولها (عليهاالسلام) : {أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ...}، إمّا للاستيضاح وطلب زيادة الاستبصار، لاللاعتراض والاستنکاف، فإنها (عليهاالسلام) أجلّ من ذلك، وإمّا دعاء بتغيير التقدير، فإن الله قد يقدّر شيئاً ثم يغير ذلك التقدير بدعاء العبد وتضرّعه، کما بدا له تعالی في عذاب قوم يونس قال تعالی: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَٰنُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَٰهُمْ إِلَىٰ حِينٖ}(2)،

ولعل من ذلك دعاء نوح (عليه السلام) في ابنه، حيث قال تعالی: {وَلَا تُخَٰطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} ثم قال: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ}(3)، فقد قدّر الله تعالی هلاك الظالمين بالغرق ووعد بنجاة أهله إلاّ من سبق القول عليه، لکن نوحاً (عليه السلام) دعا الله ليُغيّر التقدير مع إذعانه بأن وعد الله حق وأنه تعالی لم يَعِد بإنجاء الابن الکافر، لکن مع ذلك دعا نوح فقال: {وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَٰكِمِينَ}(4) لکن الله تعالی بيّن له أن هذا کان قضاءً حتماً لاتغير فيه.

ص: 169


1- سورة البقرة، الآية: 32.
2- سورة يونس، الآية: 98.
3- سورة هود، الآية: 37-40.
4- سورة هود، الآية: 45.

فلعل مريم (عليهاالسلام) لمّا بُشِّرت بعيسی (عليه السلام) من غير أب دعت الله تعالی في تغيير التقدير، لکنه تعالی بيّن لها بأن ذلك قضاء حتم لابداء فيه، فقال في سورة مريم: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا}(1)، وهنا قال: {إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا}.

مراحل کيفية الخلق

السادس: قوله تعالی: {قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا...}.

الآية تتضمن مقطعين:

1- بيان أن الخلق إنّما هو حسب مشيئة الله تعالی، فهو الذي شاء جعل الأسباب، وهو قادر علی الخلق بلا أسباب، أو بتغيير الأسباب، والفرق أن الإنسان يألف الخلق عبر الأسباب فلذا يتعجب من الخلق من غير أسباب، أو من تغير الأسباب، لکن لافرق عند الله تعالی في الخلق بأية طريقة شاء، فإذا اقتضت الحکمة بطريقة شاء الخلق بتلك الطريقة، ولو کانت الحکمة بشکل آخر کانت المشيئة أيضاً کذلك.

2- بيان نفوذ قضائه الحتم، فإذا تعلّق قضاؤه بشيء خَلَقه بلا امتناع من ذلك الشيء، وعَبر کلمة {كُن}.

ويحتمل أن يکون المقطع الثاني بياناً للمقطع الأول، أي إن الله يخلق مايشاء، وطريقته في ذلك هو أن يقول له کن فيکون.

کما ويحتمل أن يکون کلا المقطعين إشارة إلی بعض مراحل کيفية الخلق من المشيئة ثم القضاء ثم الإيجاد ثم الوجود، فقوله: {مَا يَشَاءُ} إشارة إلی المشيئة، و{إِذَا قَضَىٰ} إلی القضاء، و{كُن} إلی الإيجاد و{يَكُونُ} إلی وجود الشيء، فعن الإمام الکاظم (عليه السلام) أنه قال: «فبعلمه

ص: 170


1- سورة مريم، الآية: 21.

کانت المشيئة، وبمشيئته کانت الإرادة، وبإرادته کان التقدير، وبتقديره کان القضاء، وبقضائه کان الإمضاء، والعلم متقدم علی المشيئة، والمشيئة ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع علی القضاء بالإمضاء، فللّه تبارک وتعالی البداء فيما علم متی شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء»(1).

وشرح هذا الحديث: بأن الأسباب التي رتّبها الله تعالی لخلق الأشياء هي ضمن مراحل - لاعلی سبيل الحصر وإنّما هذه من الأسباب - :

فأولاً: العلم الأزلی، وعلمه واختياره سبب لمشيئته تعالی، فبعلمه الأزلی علم أن المصلحة في خلق الأشياء في أوقاتها، وباختياره تعالی خلق المشيئة.

وثانياً: المشيئة، وهي التسجيل في اللوح، ولعلّ المراد هو اللوح المحفوظ، وهي وجود إنشائي.

وثالثاً: الإرادة: وهي تحريك الأسباب وتهيأة المقدمات القريبة.

ورابعاً: التقدير، وهو تعيين حدود الشيء وقابليته وأوقاته ونحو ذلك.

وخامساً: القضاء، وهو الحکم التکويني والإلزام.

وسادساً: الإمضاء، وهو الإيجاد.

وحينئذٍ يتحقق الشيء لامحالة، لعدم انفکاك الإيجاد عن الوجود، وللتفصيل راجع شرحنا علی أصول الکافي(2).

وفي المناهج: جريان أمر الخلق من سير العلل والأسباب ليس بحيث

ص: 171


1- الکافي 1: 148-149.
2- شرح أصول الکافي 2: 460-469 (للمؤلف).

ينحصر تحقق المُشاء المقضيّ بواسطتها، بأن يکون قانون العِلية حاکماً علی المشيئة والقضاء! بل العلل والأسباب وجميع ما في طولها من المسببات بالنسبة إلی المشيئة والقضاء علی عرض واحد.

وإنما الحکمة اقتضت تنظيم أمور العالم عبرها، ولاتنحصر الحکمة بأسلوب واحد، إذ العلم والقدرة مطلقين بالنسبة إليها وغيرها، وتوهم أن نظام الأسباب والعلل هو بعينه نظام علمه ومعلول لعلمه!! يوجب کون العلم والقدرة محدودين بما يحصل من مسير الأسباب والعلل، وهذا واضح البطلان، ويخالف العقل والنقل، حيث بيّن الله تعالی بأنه يخلق ما يشاء بالمشيئة والقضاء کائناً ما کان(1).

ص: 172


1- مناهج البيان 3: 244-245 (بتصرف واختصار).

الآيات 48-51

اشارة

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَۢا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51)}

48-50- وأما سائر صفات عيسی (عليه السلام) فهي:

(5) {وَيُعَلِّمُهُ} يعلّم اللهُ عيسی {الْكِتَٰبَ} جنسه أي کل الکتب السماوية السابقة، {وَالْحِكْمَةَ} وضع الأشياء في موضعها ومنها الشريعة، {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} خصّ الکتابين بالذکر مع دخولها في «الکتاب» لأنه (عليه السلام) کان يأمر الناس بالعمل بهما.

(6) {وَ} يجعله {رَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ}.

(7) قائلاً لهم ب {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٖ} تکوينية وتشريعية، أي علامة ومعجزة تدل علی رسالتي وصدقي {مِّن رَّبِّكُمْ} فليست الآية من نفسي.

أمّا التکوينية: {أَنِّي أَخْلُقُ} أصنع {لَكُم} لأجلکم {مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ

ص: 173

الطَّيْرِ} مثل صورة الطائر، {فَأَنفُخُ فِيهِ} في هذا المِثل، {فَيَكُونُ طَيْرَۢا} ذاحياة ولحم ودم {بِإِذْنِ اللَّهِ} بأمره وإرادته تکويناً، {وَأُبْرِئُ} أعالج {الْأَكْمَهَ} الأعمی بالولادة {وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم} أخبرکم {بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ} تجعلونه ذخيرة {فِي بُيُوتِكُمْ} مما لاطريق للعلم به إلاّ الغيب {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ} المذکورات من الخلق والعلاج والإنباء {لَأيَةً لَّكُمْ} علامة علی صدقي {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} موفقين للإيمان لامعاندين.

(8) {وَ} أما الآية التشريعية: فحالکوني {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} تقدّمني {مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} بنسخ ما حُرّم، لأن الشريعة الجديدة تُبيّن انتهاء أمد بعض الأحکام وتغييرها بغيرها {وَجِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ} لعلّها الانجيل، {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} خافوه فصدقوني ولا تغلو فيّ {وَأَطِيعُونِ} في دعوتی.

51- وکل تلك الآيات کانت من الله ف {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} فلستُ رباً أعبد من دونه، و{هَٰذَا} الذي قلتُه من عبادته تعالی {صِرَٰطٌ} طريق {مُّسْتَقِيمٌ} لاانحراف فيه.

بحوث

الأول: هذه الآيات المبارکات ذکرت صفات أخری لعيسی (عليه السلام) ، يحتمل أن تکون ضمن بشارة الملائکة لمريم (عليهاالسلام) وقد حصل فيها إلتفات حيث قال: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم...}.

ص: 174

کما يحتمل أن يکون الأوليين - أي {وَيُعَلِّمُهُ} {وَرَسُولًا} - من تتمة البشارة، ثم يستأنف الکلام بقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم}.

ويحتمل أن لاتکون هذه الأربعة ضمن البشارة وإنما هي تفصيل لما ذکر في البشارة، بأن يکون قوله: {وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} تفسيراً لقوله: {وَجِيهًا}، وکذا قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ...} وقوله: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ...} تفسير لقوله: {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} حيث منحه الله الآيات التکوينية والتشريعيّة.

وتفسير قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} بأن قال في مهده وکهولته: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ...}، وتفسير قوله: {وَمِنَ الصَّٰلِحِينَ} هو کونه من الأنبياء العظام حيث {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ...} وذلك من أهم صفات الأنبياء (عليهم السلام) ، وعلی هذا فإن قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ...} عطف علی قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.

الثاني: قوله تعالی: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ}.

العلم من أهم صفات الأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام) ، قال تعالی: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(1)، وقال: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ}(2)، وخاصة علمهم بالعقيدة والشريعة، بل حيث ثبت وجوب کون الأنبياء أفضل الناس، ومن المعلوم أن الفضيلة بالتقوی وبالعلم وبالأخلاق، لذا لزم کونهم أتقی الناس وأعلمهم وأحسنهم

ص: 175


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- سورة يونس، الآية: 35.

أخلاقاً، ولولا ذلك لزم تقديم المفضول علی الفاضل وهو قبيح، کما حُقق في علم الکلام والمعارف.

ولذا علّم الله تعالی عيسی (عليه السلام) جميع الکتب السماوية السابقة لتضمنها أصول المعارف والأحکام والأخلاق، وهذا لاينافي نسخها، لأن النسخ - کما مرّ - ليس في العقائد ولا في الأخلاق ولا في أصول الأحکام وإنّما في بعض الأحکام الفرعية، والعلم الذي أنزله الله تعالی في تلك الکتب محفوظ في الأرض بحفظها وباصطفاء حملة لها، فورثها رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأورثها الأوصياء من بعده، وهي الآن بحوزة الإمام المهدي في صندوق يقال له الجفر الأبيض - کما في الروايات(1) - .

کما علّم الله تعالی عيسی (عليه السلام) {وَالْحِكْمَةَ} وهي من الإحکام والإتقان ويلازم ذلك وضع الأشياء في مواضعها، ومنها الشريعة، ومنها معرفة کيفية الدعوة إلی الله تعالی والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، فهي علم وعمل.

وقوله: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} ذکرهما بالخصوص مع کونهما داخلين في {الْكِتَٰبَ}، لأن سائر الکتب لم يكن عيسی (عليه السلام) مأموراً بقرائتها علی الناس ولا بأمرهم بما فيها من الأحکام، وإنما کان مأموراً بالعمل بالتوراة بما فيها من شرائع، وجاء الانجيل مکملاً للتوراة، فليس في الإنجيل من الشريعة إلاّ نسخ بعض المحرّمات، فالحدود والمواريث والقصاص کانت حسب ما في التوراة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «وأنزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ولا أحکام حدود ولافرض مواريث،

ص: 176


1- الکافي 1: 225، 239-240 وغيرها.

وأنزل عليه تخفيف ما کان نزل علی موسی (عليه السلام) في التوراة، وهو قول الله تعالی في الذي قال عيسی بن مريم لبني إسرائيل: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وأمر عيسی من معه ممّن اتّبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والانجيل»(1).

عموم شريعة عيسی (عليه السلام) لکل الناس

الثالث: قوله تعالی: {وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ}.

أي ويجعله رسولاً إلی بني إسرائيل، فرسالته (عليه السلام) کانت خاصة ببني إسرائيل، وهذا لاينافي عموم شريعته لکل الناس.

بيان ذلك: إن الله تعالی اصطفی أنبياء ومنذرين في کل البشر فقال: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}(2)، ولم يكن لأکثر هؤلاء الأنبياء شريعة خاصة، وإنما کانوا تابعين في شريعتهم لأولي العزم من الرسل، وأولوالعزم خمسة: نوح وإبراهيم وموسی وعيسی (عليهم السلام) ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فکانوا أصحاب شرائع، وکل نبي جاء بعدهم دعا إلی شريعتهم وبلّغها إلی قومه إلی حين نسخها أو تکميلها بالشريعة اللاحقة.

وعيسی (عليه السلام) کان رسولاً إلی خصوص بني إسرائيل - کما هو ظاهر هذه الآية - بمعنی أنه لم يكن مکلّفاً بالتبليغ لسائر الناس، لکن مع ذلك کانت شريعته ومنهاجه عامةً لکل البشر، بمعنی أن کل نبي جاء بعد عيسی (عليه السلام) دعا إلی منهاجه وبلّغ شريعته فإنه لم يکن بعد عيسی (عليه السلام) رسول، ولکن کان بعده أنبياء غير رسل، إلی حين بُعِث رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث

ص: 177


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 405، عن تفسير العياشي.
2- سورة فاطر، الآية: 24.

نُسِخت شريعة عيسی (عليه السلام) .

وبهذا البيان يتم الجمع بين ظاهر هذه الآية والروايات الدالة علی رسالته إلی خصوص بني إسرائيل وبين الروايات الدالة علی عموم شريعته لشرق الأرض وغربها.

فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن الله عز وجل أرسل عيسی بن مريم إلی بني إسرائيل خاصة فکانت نبوته ببيت المقدس»(1).

وسُئل الإمام زين العابدين عن أولي العزم من هم؟ قال: «نوح وإبراهيم وموسی وعيسی ومحمد صلی الله عليهم»، قلنا له: ما معنی أولو العزم؟ قال: «بعثوا إلی شرق الأرض وغربها جِنّها وإنسها»(2)،

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «وکلّ نبي کان في أيام عيسی وبعده کان علی منهاج عيسی وشريعته وتابعاً لکتابه إلی زمن نبينا محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) »(3).

وأما ما قيل: من أن نبوته کانت عامة ورسالته خاصة! فلايظهر ذلك من القران أو الروايات.

وکذا ما قيل: من أن الجار في {إِلَىٰ بَنِي إِسْرَٰءِيلَ} ليس متعلقاً ب {رَسُولًا} بل متعلق بمقدر هو وصف، أي رسولاً کائناً إلی بني إسرائيل، والوصف لامفهوم له!

الرابع: قوله تعالی: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ...} الآية.

أي حالکونه قائلاً بأني قدجئتکم بآية، ثم إعلم أن آيته علی نوعين:

ص: 178


1- بحار الأنوار 11: 52، عن إکمال الدين.
2- بحار الأنوار 11: 33، عن کامل الزيارات.
3- بحار الأنوار 11: 35، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) .

آيات عيسی (عليه السلام) التکوينية والتشريعية

الأولی: الآية التکوينية، وهي معاجزه في الخلق والعلاج والإخبار بالغيب.

الثانية: الآية التشريعية، وهي ما سيأتي في الآية اللاحقة من تصديقه بالتوراة ونسخه لبعض أحکامها وبنزول الإنجيل عليه.

فأما الآيات التکوينية فهي:

1- الخلق، وذلك بأن کان يصنع تمثالاً من الطين علی شکل طير ثم يُحييه بإذن الله تعالی.

2- العلاج بلمسة يد، بإبراء الأعمی بالولادة، والأبرص الذي به وَضَح، وإحياء الموتی، وهذه أمور يعجز عنها الأطباء حتی مع تطور العلم الحديث... .

فالأعمی بالولادة يستحيل إعادة البصر إليه، وذلك لأن خلايا الدماغ المرتبطة بالإبصار تتکامل خلال السنة الأولی من الولادة بسبب استعمال النظر والرؤية حتی تأخذ حالتها النهائية ومن لم ير خلال هذه السنة لاتتکامل فيه تلك الخلايا بل تأخذ شکلها النهائي من غير قابلية للتغيير أبداً - وهذا حسب ما ذکره بعض أهل الاختصاص في المجال الطبي - .

وکذا البرص لم يتمکن الطب قديماً وحديثاً من علاجه، ولو فرض وصول الطب مستقبلاً إلی علاجهما فيبقی وجه الإعجاز في العلاج بلمسة يد من غير دواء ولا أدوات.

وأما إحياء الموتی بلمسة يد فهذا وإن لم يكن من العلاج بالمعنی المصطلح لکنه قريب منه، فالمنع عن الموت أو إرجاع حياة من هو مشارف علی الموت من مهام الأطباء، أما الذي مات بالفعل فلايقدرون علی إحيائه ابداً.

ص: 179

وحيث إن هذه الثلاثة من نمط واحد لذا لم يكرر قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} في کل واحدة منها بل جمعها جميعاً ثم عقبها بقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}.

3- الإخبار بالمغيبات التي هي شهود لبعض الناس لکنها غيب علی الآخرين، فمن يأکل شيئاً أو يدخر شيئاً فذلك شهود بالنسبة إليه لکنه غيب بالنسبة إلی غيره، وذلك أوضح لهم في جهة الإعجاز لعدم تمکنهم من إنکاره، ولو فرض أنهم أنکروه باللسان لکنهم يعلمون بصدقه فتتم الحجة عليهم.

سبب تنوع معاجز عيسی (عليه السلام)

ثم إن سبب هذه الأنواع من المعاجز:

أ - أما الخلق کهيأة الطير والنفخ فيه وحياته بإذن الله تعالی، فلعلّه لکثرة التماثيل في مناطقهم، ولعلّها کانت باقية من زمن سليمان (عليه السلام) حيث کانت الجن تصنعها له قال تعالی: {يَعْمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ}(1)، ولرواج صنعة التماثيل عند الرومان الحاکمين آنذاك علی فلسطين، فکانت شيئاً مألوفاً لديهم ويعلمون بعدم إمکان إحيائها، ولعل اختيار خصوص الطير لتمکُّن الجميع من رؤيته حينما يُحيی ويطير عکس سائر الدواب.

ويمکن أن يکون هذا من ضمن نوع العلاج، فبدأ بإحياء الطين الجماد وانتهی بإحياء ميت الناس، فتأمل.

ب - أما العلاج، فعن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال: «وإن الله لمّا بعث عيسی (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلی الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيی لهم الموتی وأبرأ

ص: 180


1- سورة سبأ، الآية: 13.

الأکمه والأبرص بإذن الله وأثبت الحجة عليهم»(1).

ج - وأما إخبارهم بما يأکلون وما يدّخرون، فلأنهم لمّا أنکروا خلق الطير وعلاج المرضی، وزعموا أنها سحر فأراهم آية أخری هي الإخبار بالمغيبات، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «قالوا: ما نری الذي تصنع إلاّ سحراً، فأرنا آية نعلم أنك صادق!! قال: أرأيتم إن أخبرتکم بما تأکلون وما تدخرون... تعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم، فکان يقول للرجل: أکلت کذا وکذا، وشربت کذا وکذا، ورفعت کذا وکذا، منهم من يقبل منه فيؤمن، ومنهم من ينکر فيكفر»(2).

فتبيّن أن أصل المعجزة هي الإحياء والعلاج، وأما الأخبار بالمغيبات فهي استجابة لاقتراحهم إتماماً للحجة، فلذا آمن بها البعض، مضافاً إلی أن خلق الطير وإحياء الموتی وإبراء الأکمه والأبرص حالات خاصة وفي أوقات خاصة قد لم يكن شاهدها بعض الناس ولا وجه لتکرار المعجزة لکل أحد وفي کل وقت، أما الإخبار فهي حالة عامة بمعنی أن کل إنسان إذا شاء الإطلاع علی المعجزة أمکنه ذلك وفي کل وقت، والله العالم.

كلام حول المعاجز

ثم إن الکلام حول المعاجز يتضمن مطالب:

أولاً: الغرض الأساسي من المعاجز هو إثبات صدق مدعي النبوة، وليس الغرض منها تغيير السنن الکونية، بل المعاجز هي ضمن تلك السنن التي

ص: 181


1- الکافي 1: 24.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 403، عن تفسير القمي.

جعلها الله تعالی، وقد مرّ الکلام في ذلك في سورة البقرة الآية 23.

وثانياً: إن الأمور الخارقة للعادة کما تصدر علی يدی الأنبياء (عليهم السلام) کذلك تصدر علی يد أوصيائهم وبعض الأولياء الصالحين، کالرزق الذي کان عند مريم (عليهاالسلام) ، لکن اصطلح العلماء بالمعجزة علی الخارق للعادة مع إدّعاء النبوة أو الإمامة، وبالکرامة علی الخارق الذي لم يكن مع إدعائهما، لکنه اصطلاح، والجامع هو إکرام الله أولياءه بإجراء خوارق العادة علی أيديهم.

وثالثاً: المعاجز علی أقسام:

فمنها: ما هي فعل الله تعالی مباشرة من غير مدخلية للنبي فيها، کالقرآن الکريم حيث إن دور الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هو تلقيه وتبليغه للناس وبيانه، والله تعالی هو الذي خلق القرآن بقدرته ولم يوسط في خلقه أحداً.

ومنها: ما هي فعل النبي بقدرة أعطاها الله إياه، فإن کل الناس يقومون بأعمالهم بقدرة منحها الله لهم، لکنها قدرة محدودة بحدود خاصة مع إمکان توسعة تلك القدرة قليلاً بالاستعانة بالآلات والوسائل، وقد يمنح الله تعالی أنبيائه قدرة أکثر ممّا منحه لسائر الناس فيتمکنون من فعل مايعجز الناس عنه ولايتمکنون من الوصول إليه لا بلا آلة ولا بآلة، ولو فرض تمکنهم منه بآلة فإنهم لايتمکنون منه بغير آلة.

ومنها: ما هو فعل الله باستجابة دعائهم.

ومن ذلك يتضح أنه لاوجه لتأويل کلمة {أَخْلُقُ} في هذه الآية، بأنه دعاء عيسی (عليه السلام) واستجابة الله له، بل لامحذور عقلي أو نقلي في أن يعطي الله عيسی (عليه السلام) القدرة علی الخلق بمعنی إيجاد المعدوم فهو تعالی علی کل شيء

ص: 182

قدير، ولامحذور في أن يکون خالق الطير هو عيسی (عليه السلام) لکن مع التنبيه علی أن ذلک بإذن الله تعالی أي ليس استقلالاً وإنّما بمشيئته وإرادته تعالی.

بل کل أفعال العباد - صغيرها وکبيرها - هي بقدرة منحها الله إياهم کما نقول: «بحول الله وقوته أقوم وأقعد»، فتکرار {بِإِذْنِ اللَّهِ} في معاجز الأنبياء هو درء للغلو، حتی لايتصور استقلالهم في ذلك وألوهيتهم کما زعمت النصاری في عيسی (عليه السلام) ، والغلاة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .

ولذا لامحذور عقلي في ادّعاء أن الله أقدر رسوله محمداً وأهل بيته (عليه وعليهم الصلاة والسلام) علی الخلق، فهم يخلقون بإذنه تعالی، إنما الکلام في إثبات ذلك، وقد يستدل لذلك ببعض المرويات لکنها - مع عدم صراحتها - معارضة بغيرها، مضافاً إلی عدم کفايتها لإثبات هکذا أمر مهم، والله العالم.

الخامس: قوله تعالی: {بِإِذْنِ اللَّهِ}.

الإذن قد يکون تکوينياً، وهو بمعنی إعطاء القدرة وجعل الأسباب للوصول إلی النتائج، وقد يکون تشريعياً وهو بمعنی جواز ذلك شرعاً وعدم المنع عنه، کما مر تفصيله في سورة البقرة الآية 97، والمراد في هذه الآيات کلاهما، أي إن الله إعطاه القدرة تکويناً وأجاز له استعمالها في مواردها، وقد يأذن الله تکويناً بمعنی إعطاء القدرة ولم يأذن تشريعاً بمعنی عدم تسويغه استعمال تلك القدرة، ولذا لما عصی بلعم بن باعورا فخالف التشريع وأراد استعمال الاسم الأعظم ضد نبي الله موسی (عليه السلام) سلبه الله منه، قال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا}(1)، إذ لايصح أن

ص: 183


1- سورة الأعراف، الآية: 175.

يخالف تکوينُه تشريعَه.

وحيث إن الخلق کهيأة الطير والنفخ وصيرورته طيراً کلّها آية واحدة لذا لم يكرر قوله بإذن الله، بل ذکره بعد المقطع الآخر، وأما قوله تعالی في سورة المائدة: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَۢا بِإِذْنِي}(1)، فلعل الإذن الأول هو الإذن التشريعي وذلك لمبغوضية صنع تماثيل المجسمات فلايليق ذلك بالأنبياء، لکن حيث کان الغرض هنا إعجازاً لعيسی (عليه السلام) فأذن الله تشريعاً في صنع مجسمة الطير ثم أذن تکويناً بإحيائه، فتأمل.

کما أن إبراء الأکمه والأبرص وإحياء الموتی کلّه من سنخ واحد - کما مرّ - فلذا ذکرها معاً وألحقها بقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} مرة واحدة.

وأما ما ورد في سورة المائدة من تکراره حيث قال: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي}(2)، فلعله لأجل الفرق بين إحياء من مات من ساعته حيث يشبه العلاج، وبين من دفن ثم يخرج من قبره حيّاً حيث يختلف سنخه عن العلاج، وحيث کان المذکور هنا إحياء الموتی فجمعه مع سائر موارد العلاج بإذن واحد، وأما المذکور هناك فهو إخراج الموتی فلذا فصله.

کما يحتمل أن يکون ذلك التفصيل لاختلاف الموقف، فتارة بإذن يذکره عيسی (عليه السلام) لهم وأخری في يوم القيامة يبيّنها الله تعالی، فتأمل.

ص: 184


1- سورة المائدة، الآية: 110.
2- سورة المائدة، الآية: 110.

وأما عدم ذکر «بإذن الله» بعد قوله: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} فلعلّه لعدم الحاجة إلی تکرارها لأن إحياء الطير وعلاج هذه الأمراض أصعب عند الناس من الإخبار بالمغيبات، فإذا کان الأصعب إنّما هو بإذن الله فغيره بطريق أولی، أولعلّها کانت معجزة شائعة في أنبيائهم فلم يكن مظنة للغلوّ.

السادس: قوله تعالی: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ...} الآية.

هذه آيته (عليه السلام) التشريعية، فإن شرائع الأنبياء هي معاجز يستحيل للبشر أن يأتوا بمثلها، فهي تتطابق مع ترکيبة الإنسان الفطرية والنفسية والجسدية، ولا تخالف العقول الخالصة عن شوائب الأوهام والشبهات، فشريعة عيسی (عليه السلام) کانت علی قسمين، فالقسم الأعظم منها هي إقرار ما في التوراة، وقسم آخر منها نسخ بعض المحرمات التي وردت فيها ببيان انتهاء أمدها، ولعلّها کانت عقوبة وقد عوقبوا لمدة فرحمهم الله ببعث نبي جديد يبين لهم انتهاء تلك العقوبة، أو لغير ذلك من العلل، مضافاً إلی اشتمال الانجيل - غير المحرّف الذي نزل علی عيسی (عليه السلام) - علی مواعظ وحِکَم وسائر الأمور التي يعجز الناس عن الإتيان بمثلها.

وأما تفاصيل الأمور التي کانت محرّمة فأحلّها عيسی (عليه السلام) ، فلم أجد بياناً للمعصومين (عليهم السلام) ، نعم ورد في تفسير القمي من غير إسناد إلی معصوم بأنها: «السبت والشحوم والطير الذي حرّم علی بني إسرائيل»(1) والله العالم.

السابع: قوله تعالی: {وَجِئْتُكُم بِآيَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ...} الآية.

ص: 185


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 403، عن تفسير القمي.

هذا إما مقدمة لدعوتهم إلی التقوی والإطاعة أي حيث علمتم بهذه الآيات التکوينية والتشريعية فعليكم حفظ أنفسکم من عذاب الله تعالی، فهذه آيات من عنده، وهي دليل علی صدقي في ادّعائي فعليكم أن تطيعوني فيما آمرکم وأنهاکم.

ويحتمل أن يکون ذلك إشارة إلی الإنجيل، أي مصدقاً بالتوراة وجئتکم بآية من ربکم هي الإنجيل، لأن الکتب السماوية کلها آيات من الله تعالی ودلائل عليه وهي معجزة للأنبياء أصحاب الکتب (عليهم السلام) .

الثامن: قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ...} الآية.

هذا درء للغلو وإبطال لکلام من ادّعی ألوهيته، فالمعنی إن هذه الآيات من الله تعالی لا منّي، لذا خافوا الله فلا تغلو فيّ، وأطيعوني فيما أقوله لکم من أني عبدالله وأن الله ربنا جميعاً وعلينا عبادته، فهذا هو الطريق المستقيم الذي لازيغ فيه، ولذا في يوم القيامة يسأل الله تعالی عيسی (عليه السلام) عن ذلك تبکيتاً للغلاة، قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، إلی قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}(1).

ص: 186


1- سورة المائدة، الآية: 116-117.

الآيات 52-54

اشارة

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ (53) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ (54)}

52- لکن مع کل تلك الآيات التکوينية والتشريعية کفر أکثرهم فلم يؤمنوا {فَلَمَّا أَحَسَّ} علم بما رآه وسمعه من أفعالهم وأقوالهم {عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ} بالله وتکذيب رسوله، أراد اختيار مجموعة تحمل الرسالة وتبلغها من بعده ف {قَالَ} مخاطباً الجميع قاصداً الامتحان أو الاختيار: {مَنْ أَنصَارِي} علی التبليغ سالكين معي {إِلَى اللَّهِ} للوصول إلی قربه وثوابه، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم خاصته حيث خلصوا من الشوائب بقلوب نقية وأعمال طاهرة: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} أي أنصار دينه، ثم بينوا کيفية نصرتهم له تعالی فقالوا: {ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَ} آمنا بك ف {اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} سلّمنا أمرنا إلی الله تعالی قلباً وعملاً ومن ذلك الإذعان والاتباع لرسوله (عليه السلام) .

53- بعد تصديقهم لعيسی توجهوا إلی الله تعالی فقالوا: {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ} بکلّه قلباً، {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} عملاً، فلم يکن قولهم لعيسی (عليه السلام) مجاملة أو نفاقاً بل کان منطلقاً من قلوبهم المصدِّقة والمذعنة، لذا أکدوا

ص: 187

إقرارهم اللساني لعيسی (عليه السلام) بالدعاء والتوجه إلی الله تعالی، ثم دعوا الله بقبول ايمانهم {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ} الذين يشهدون بالتوحيد وبالنبوة، لا کالمنافقين الذين يسجل کتابهم في سجين.

54- لکن هؤلاء کانوا أقلية، {وَ} أما الأکثر الذين أحسّ منهم الکفر فقد {مَكَرُواْ} بالتأمر علی عيسی (عليه السلام) لقتله حيث وشوا به للسلطة فأرسلت قوّة لقتله، {وَمَكَرَ اللَّهُ} بأن ردّ مکرهم وقدّر تقديراً خفي عليهم برفع عيسی (عليه السلام) إلی السماء وإلقاء الشبه علی شخص آخر فصلبوه ظناً منهم أنه عيسی {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ} حيث إنّ مکره ليس سيّئاً بل بحکمة ومصلحة فهو مکر حسن، کما لا يمکن لأحد أن يقف دون إرادته سبحانه.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ}.

أي علم بکفرهم عياناً، وذلك عبر ما رآه وسمعه منهم، و(الحواس) هي أهم طريق لعلم الإنسان بالأمور، إذ قلّما يتطرق إليها الشك أو الخطأ، عکس المعقولات التي يكثر الخطأ فيها، ومن نِعَم الله تعالی علی الإنسان أن جعل حواسه طريقا إلی معرفته للمعقولات أيضاً ولذا يكثر تشبيه المعقول بالمحسوس ليذعن الإنسان به، نعم هناك معقولات لايتطرق إليها الحس لکن يمکن الوصول إليها عبر المحسوسات، کمسائل المبدأ والمعاد فهي من الغيب الذي لايحسّ لکن الآيات الباهرات - وهي محسوسات عادة - طريق إلی الإذعان بها، ولذا أمر الله تعالی بالتفکر في آياته ودلائل عظمته،

ص: 188

فإنها تسوق الإنسان إلی الإذعان به سبحانه وتعالی قال: {سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِي الْأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(1).

والظاهر أنه (عليه السلام) قد يئس من إيمانهم، لأنهم قد رأوا تلك الآيات الباهرات - تکوينية وتشريعية - کما أن شريعة عيسی (عليه السلام) کانت أسهل، فکان من مصلحتهم الإيمان به أيضاً، لکنهم عتوا وعاندوا، وهکذا ناس ميؤوس منهم، لذا أراد عيسی (عليه السلام) توسيع دائرة التبليغ إلی الأجيال القادمة وإلی الأمم الأخری، فاحتاج إلی ناس مخلصين طاهرين يکونون من خواصّه يتعلّمون منه ثم يعلّمون الآخرين، لکنه (عليه السلام) لم يغلق الباب علی أحد من الناس فعمّم الخطاب للجميع ليتبيّن فضل الحواريين حيث اختاورا النصرة دون غيرهم، وأيضاً لعلّ في عامة الناس من له القابلية فتعميم الخطاب فتح للطريق أمامه للرقي والکمال، وأما قوله تعالی في سورة الصف: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ}(2)، فليس دليلاً علی تخصيص الخطاب بهم، بل کانا خطاباً عاماً مع علم عيسی (عليه السلام) بأن هؤلاء سيستجيبون لندائه، فکانوا هم المعنيون بالإرادة الجدية مع عموم الخطاب للجميع.

وقوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي أنصاري في دينه وتبليغ رسالته، فالمعنی ليست نصرة عيسی (عليه السلام) إلاّ لکونه رسولاً من الله تعالی وطريقا إليه، فليست قضية شخصية لذات عيسی (عليه السلام) بما هو هو، بل بما هو طريق إلی الله

ص: 189


1- سورة فصلت، الآية: 53.
2- سورة الصف، الآية: 14.

تعالی، حيث اصطفاه الله وحمّله الرسالة وأمر باتباعه، ف {إِلَى} لانتهاء الغاية أي النصرة منتهية إلی الله تعالی حيث إن عيسی (عليه السلام) طريق إليه، ويمکن تضمين {أَنصَارِي} معنی السلوك والذهاب، فيکون نظير قوله تعالی: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ}(1).

والآية تدل علی أنه يلزم سلوك الطريق المؤدي إلی الله تعالی دون الطرق المتفرقة، قال سبحانه: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}(2).

الثاني: قوله تعالی: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ...} الآية.

{الْحَوَارِيُّونَ} جمع حواري، من (الحور) وهو شدة البياض، وتسمية خاصة الإنسان بذلك لنقاء قلبه وصفاء باطنه تجاه صاحبه، وحواريّو عيسی (عليه السلام) کانوا مُخلِصين في أنفسهم ومُخَلِّصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذکر، کما في الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) (3).

وقولهم: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} جواب لقوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} فيدل علی أن نصرته (عليه السلام) هي نصرة لله تعالی، والمراد نصرة دينه ونبيّه، وإلاّ فالله تعالی غنيّ عن العالمين، بل الله تعالی شرّف الدين وشرّف الرسل بأن اعتبر نصرهما نصره.

ثم فسروا قولهم: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} بقولهم: {ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا

ص: 190


1- سورة الصافات، الآية: 99.
2- سورة الأنعام، الآية: 153.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 406، عن علل الشرائع.

مُسْلِمُونَ} فکأنّ نصرالله يتضمن أمرين:

1- الايمان بالله حيث أراد من الناس ذلك فتنفيذ إرادته نصره.

2- التصديق برسوله وبما أنزله عليه، وهذا هو التسليم المحض لإرادة الله تعالی، فحيث اختار نبيا وشريعة أذعنوا للنبي قلباً، وصدّقوه لساناً، وتابعوه في کل شيء.

وطلبهم شهادته (عليه السلام) : أمّا في الدنيا فلتأکيد إيمانهم بتلك الشهادة وتحفيزاً لهم في الصمود والاستقامة لأن الکبير إذا شهد للتابع کان تشويقا له في مواصلة الدرب، أو لاطمينانهم بصدق دعواهم، إذ هو (عليه السلام) لايشهد إذا کان في قولهم أو عملهم خلل بل يأمرهم بتصحيح الأخطاء.

وأما في الآخرة: فلشهادة الأنبياء علی أممهم، کما قال تعالی: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا}(1)، وقال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}(2).

وقد يکون جوابهم هذا يتضمن أيضاً استجابة لما قاله (عليه السلام) في الآية 50 {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} فقالوا: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}، وقال: {وَأَطِيعُونِ} فقالوا: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

الثالث: قوله تعالی: {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا...} الآية.

بعد أن استجاب الحواريون لعيسی (عليه السلام) توجهوا إلی الله تعالی العالم بالقلوب والأسرار - متضرّعين إليه بأن استجابتهم لعيسی (عليه السلام) حقيقيّة لامجرد

ص: 191


1- سورة النحل، الآية: 84.
2- سورة الأعراف، الآية: 6.

لقلقة لسان ونفاق، يدعون الله بأن يتقبل عملهم - بالإيمان والاتباع - وأن يوفقهم إلی مواصلة ذلك، فقالوا: {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ} ايماناً حقيقياً في القلب {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} عيسی (عليه السلام) في کل شيء {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّٰهِدِينَ} بمعنی قبول إيمانهم وعملهم، إذ کل شيء لاقيمة له إلاّ إذا ارتبط بالله تعالی، قال تعالی: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحًا تَرْضَىٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَٰبِ الْجَنَّةِ}(1)، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ}(2)، وقد مرّ أن کل کمال وکل خير فهو من الله سبحانه تعالی، فلا قيمة لأيّ شخص أو شيء إلاّ لو انتسب إليه تعالی.

وقوله: {الشَّٰهِدِينَ} إمّا الشهادة بالوحدانية والرسالة، وإمّا الشاهدين علی عيسی (عليه السلام) بأنه قد بلّغ الرسالة ولذا فرّعه علی قوله: {ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ}، إذ لولا تبليغه لما تمکنوا من الإيمان بما أنزل الله - کذا قيل - کما في قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ}(3)، وإمّا الشاهدين علی الناس ولهم في يوم القيامة، فإن الرسل شهداء علی أوصيائهم وحوارييهم، وهم شهداء علی سائر الناس، وإمّا هو طلب مقام الشفاعة کما قال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(4).

ص: 192


1- سورة الأحقاف، الآية: 15-16.
2- سورة فاطر، الآية: 10.
3- سورة الأعراف، الآية: 6.
4- سورة الزخرف، الآية: 86.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ...} الآية.

(المکر) هو علاج بخفاء بما فيه ضرر الغير، والأکثر استعماله في المکر المذموم، وقد يستعمل في المکر بوجه حق إذا استحق الممکور به ذلك الضرر، ومکر الله بمعنی جزائه علی مکرهم، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «أنه عز وجل يجازيهم جزاء المکر»(1)، فهؤلاء يمکرون مکر السيّء فيجازيهم الله عليه من حيث يخفی عليهم.

وقيل: هو للمقابلة کما في قوله: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}(2).

معنی «شُبّه لهم» وکيفيته

وفاعل {مَكَرُواْ} الذين أحسّ عيسی (عليه السلام) منهم الکفر حيث أرادوا قتله فوشوا به إلی السلطات الرومانية، فأرسلت قوة عسکرية لقتله، ولکن الله عالج الأمر من حيث خفي عليهم، حيث اشتبهوا فصلبوا رجلاً آخر بزعم أنه عيسی (عليه السلام) ، قال تعالی: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ}(3).

واختلف في کيفية التشبيه، فقيل: إن ذلك کان بالإعجاز حيث قلب الله وجه الواشي أو أحد الحواريين إلی مثل وجه عيسی (عليه السلام) .

وقيل: إن العساکر الذين جاؤوا لقتله لم يکونوا يعرفونه ولا رأوه من قبل فأخذوا رجلاً آخر فقتلوه فالاشتباه في ذلك لا في تشبيه الوجه، ويؤيد هذا ما رُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إن عيسی (عليه السلام) قال لأصحابه: إن الله

ص: 193


1- الاعتقادات للشيخ الصدوق: 26.
2- سورة البقرة، الآية: 194.
3- سورة النساء، الآية: 157.

أوحی إلیّ أنه رافعي إليه الساعة، ومطهّري من اليهود، فأيكم يلقی عليه شبحي فيقتل ويصلب ويکون معي في درجتي؟ فقال شاب منهم: أنا يا روح الله، قال: فأنت هو ذا... وأخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسی (عليه السلام) فقُتل وصُلب»(1)، حيث قال (شبح) ولم يقل (شبه)، وقد کان الصلب قبل طلوع الشمس - علی ما قيل - فکانوا يرونه کالشبح لعيسی فظنوا أنه هو، فتأمل.

وقوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ} أي إن مکره بمصلحة وحکمة وعن استحقاق الممکور به، وهو أنفذ من مکر غيره، کما أن في مکره تعالی عبره وموعظة.

ص: 194


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 407، عن تفسير القمي.

الآيات 55-57

اشارة

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ (57)}

55- وکان مکر الله {إِذْ} في الوقت الذي {قَالَ اللَّهُ} مبشراً: {يَٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} آخذك أخذاً وافياً بروحك وجسمك عکس سائر الناس الذين يقبض الله أرواحهم دون أجسامهم، {وَرَافِعُكَ} رفعاً معنوياً وظاهريّاً {إِلَيَّ} إلی السماء الرابعة حيث محلّ کرامتي ومجاورة ملائکتی، {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ} سوء جوار {الَّذِينَ كَفَرُواْ} من اليهود وغيرهم، {وَجَاعِلُ} بقضاء وقدر تکويني {الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} أي النصاری الذين اتبع بعضهم عيسی حقيقة واتبعه آخرون بالاسم دون الحقيقة {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بك من اليهود {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} فاليهود حتی في قوتهم هم دون النصاری، بل قوتهم حالاً مکتسبة من النصاری، {ثُمَّ إِلَيَّ} إلی حسابي {مَرْجِعُكُمْ} مرجع عيسی والذين اتبعوه والذين کفروا {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في أمر الدين وفي رسالة عيسی (عليه السلام) وغير ذلك.

ص: 195

56- وتفصيل حکمه أو نتيجة جعل اتباعه فوق الذين کفروا هو {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ} بك وبدينك {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} بالذلة والمسکنة {وَالْأخِرَةِ} بعذاب النار {وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ} يسعون في إنقاذهم من الذل والهوان ومن عذاب الرحمن.

57- {وَأَمَّا} الأتباع فهم صنفان: الصنف الأول الاتباع حقيقة {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمْ} الله {أُجُورَهُمْ} کاملة غير منقوصة، والصنف الثاني: الأتباع بالاسم دون الحقيقة فهولاء ظالمون {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ} لايثيبهم بل يعاقبهم.

بحوث

معنی وفاة عيسی (عليه السلام)

الأول: قوله تعالی: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَٰعِيسَىٰ...} الآية.

بعد أن أحس عيسی (عليه السلام) منهم الکفر، واختار حواريين يكمّلون المسيرة من بعده، أخبره الله تعالی بإکمال مهمته وأنه آن الأوان لفراقه الدنيا، فبشّره بعدة بشارات، وهي:

1- وفاته (عليه السلام) لکن لا بالطريقة المتعارفة بالموت بقبض الروح، فإن عيسی (عليه السلام) کانت حياته کلّها خارقة للعادة وبالإعجاز من ولادته من غير أب وتکّلمه في المهد إلی حين قبضه بروحه وجسده إلی السماء، فهو ولد من غير أب خلافاً للمتعارف، وقبض بروحه وجسده خلافاً للمتعارف أيضاً، وفي ذلك بشارة له بعدم موته.

وکلمة (الوفاة) لاتختص بالموت، بل معناها الحقيقي هو القبض الوافي الکامل، فلذا أطلقت علی النوم کما قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا

ص: 196

وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}(1)، بل صريح آيات أخری في عدم موت عيسی (عليه السلام) کقوله تعالی: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}(2)، وکذا قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}(3)، وسيأتي تفصيل مسألة حياته (عليه السلام) في سورة النساء إن شاء الله تعالی.

2- رفعه (عليه السلام) إلی السماء، فإن الوفاة بالروح والجسد لاتلازم الرفع إلی السماء، فلذا کان الرفع بشارة أخری، حيث رفعه مادياً ومعنوياً، إذ رفعه إلی السماء الرابعة محلّ کرامته وجوار ملائکته، وروی أن البيت المعمور - الذي يقابل الکعبة في السماء - هو في السماء الرابعة وهو مطاف الملائکة، فاجتمع الرفع المادي مع الرفع المعنوي، وقوله: {إِلَيَّ} أي إلی قربي وکرامتي، فإنه تعالی ليس بجسم، کما أنه خالق المکان فلا يعقل أن يحيط به مکان، ونسبة المخلوقات إليه سواء فلا قرب وبُعد مکاني، بل قرب وبُعد معنوي.

3- تطهيره من الکفار - سواء من يهود بني إسرائيل أو سائر الکفار - أي من سوء جوارهم، فهؤلاء کالنجاسة التي تحيط بالجسم فکما أن إبعادها عن الجسم بالغسل تطهير له، کذلك إبعادهم عن عيسی تطهيره له (عليه السلام) من کفرهم وسوء جوارهم.

ص: 197


1- سورة الزمر، الآية: 42.
2- سورة النساء، الآية: 159.
3- سورة النساء، الآية: 157-158.

ويمکن أن يکون المقصود عدم نقصان درجاته بکفر الکافرين سواء الذين اتهموه أم الذين غلوا فيه، فلا يلحقه شيء من قذارتهم.

أو بمعنی تنزيهه عن أقاويلهم، فقد نزهه الله تعالی في القرآن، کما ينزهه عنها في الآخرة، فقد جعله الله تعالی وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين.

4- جعل الغلبة لأتباعه، فهم دائماً فوق اليهود الذين کفروا به، وحتی الآن حيث شکّلوا دولتهم اللقيطة في فلسطين کان ذلك بتخطيط ودعم من دول النصاری، وکذا استمرارهم في التوسع والبقاء رهين استمرار دعمهم لهم، ولو قطع النصاری دعمهم لانقرضت دولتهم، ولذا هم أذلاء أمام النصاری يستجدون منهم ويسيرون في رکابهم وضمن برنامجهم، واستمرار دعم النصاری لهم ليس حباً فيهم بل لأجل مصالح تلك الدول النصرانية في تمزيق أوصال بلاد المسلمين واستمرار الفتن فيها مع وجود حلفاء لهم ينفذون أجندتهم.

فقوله تعالی: {الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} أي کانوا أتباعك سواء بالحقيقة وهم الحواريون ومن سار علی شريعة عيسی (عليه السلام) قبل نسخها، أم بالاسم دون الواقع کبعض فسقة النصاری قبل الإسلام وعامة النصاری بعد الإسلام، فهؤلاء اتباع عيسی (عليه السلام) بالاسم دون الواقع، وحيث إن المجموع - من المؤمنين الواقعيين وغيرهم - ينسبون أنفسهم إلی عيسی (عليه السلام) لذلك صحّ إطلاق اسم الأتباع عليهم أجمع باعتبار وجود أتباع في ضمنهم، وقد مرّ بعض البحث في هذا في الآية 143 من سورة البقرة.

وقيل: المراد خصوص الأتباع الحقيقيين وهم المؤمنون بعيسی قبل نسخ شريعته، والمسلمون بعد نسخها، والفوقية إنما هي بالحجة والبرهان.

ص: 198

وفيه تأمل: لأنه تعالی يقول: {وَجَاعِلُ} أي في المستقبل، مع أن الفوقية بالحجة کانت من زمان وجود عيسی بينهم لا أنها حدثت فيما بعد، ولقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ} مع أن الفوقية مستمرة في يوم القيامة وما بعدها حيث هؤلاء في الجنة وأولئك في النار.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي بعد استمرار الفوقية إلی يوم القيامة، يرجع الجميع إلی حساب الله تعالی، وهناك لا أثر للأسماء والاعتبارات، فلا يكفي مجرد اتّباع عيسی (عليه السلام) بالاسم، فهذا الاتّباع کان له أثره الوضعي في الدنيا لکن ينتهي مفعوله في الآخرة، کالإسلام باللسان الذي له آثاره الدنيوية التشريعية، لکن لا أثر له في الآخرة إذا لم يكن إيماناً بالقلب وبما أنزل الله تعالی، وحينذاك يحکم الله تعالی بين خلقه، فالأتباع الحقيقيون في الجنة، وأما الأتباع المزيفون فهؤلاء مصيرهم مع الذين کفروا من اليهود في النار.

الثاني: قوله تعالی: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ...} الآية.

الظاهر أن الفاء في {فَأَمَّا} تفريع علی أمرين ذُکرا في الآية السابقة:

الأول: جعل أتباعه فوق الذين کفروا وهذا يرتبط بالدنيا ولذا قال: {فِي الدُّنْيَا}.

والثاني: الحکم بينهم يوم القيامة ولذا قال: {وَالْأخِرَةِ}، ومن المستبعد کون التفريع علی حکمه، لأن ذلك الحکم في الآخرة کما هو ظاهر الآية السابقة، مع أن العذاب في هذه الدنيا کما قال: {فِي الدُّنْيَا وَالْأخِرَةِ}.

وعذاب الذين کفروا بعيسی من اليهود في الدنيا هو بضرب الذلة والمسکنة عليهم، فهم أذلاء مکروهون في کل مجتمع تواجدوا فيه،

ص: 199

ونفوسهم حقيرة متمسکنة، وطوال التاريخ سلّط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}(1).

وأما عذاب الآخرة فواضح مذکور في آيات کثيرة من القرآن الکريم.

وقوله: {وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ} أي ينصرونهم من عذاب الله، والظاهر أن المراد لايوجد لهم شفعاء في الآخرة يشفعون لهم، خلافاً لما يزعموه من شفاعة أنبيائهم لهم.

الثالث: قوله تعالی: {وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ...} الآية.

بعد ذکر حکمه تعالی في الذين کفروا، تُبيّن هذه الآية حکم أتباعه (عليه السلام) فهم صنفان.

الصنف الأول: الأتباع الواقعيون، الذين آمنوا بعيسی واتّبعوا شريعته قبل نسخها کالحواريين وأوصياء عيسی إلی حين بعثة الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وأتباعهم، فهؤلاء آمنوا وعملوا الصالحات، وحيث وعدهم الله تعالی بالثواب لذلك يفي سبحانه بما وعده ولاينقص من ثوابهم شيء.

والصنف الثاني: الأتباع بالاسم دون الواقع، وهم فسقة النصاری وکفارهم قبل الإسلام، وعامة النصاری بعد الإسلام، فهؤلاء ظالمون بترکهم الاتّباع الحقيقي - الذي يقتضي الالتزام بکل ما جاء به السيد المسيح (عليه السلام) ومنه بشارته برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) - واقتصارهم علی الاتّباع الاسمي، وقد ذکرهم الله تعالی بقوله: {لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}.

ص: 200


1- سورة الأعراف، الآية: 167.

وقوله: {وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ} يشتمل علی الاجتناب عن السيئات، فإنه لايقال: فلان يعمل بالصالحات، إلاّ إذا اجتنب الآثام إلی جنب إتيانه بالواجبات - کذا في التقريب(1).

ص: 201


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 347.

الآيات 58-60

{ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأيَٰتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}

58- {ذَٰلِكَ} الذي تقدم ذکره من أخبار يحيی وزکريا ومريم وعيسی (عليهم السلام) {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} نقرأه بالوحي إليك {مِنَ الْأيَٰتِ} تدل علی عظمة الله تعالی وصدقك {وَالذِّكْرِ} القرآن الذي يوجب تذکر الإنسان {الْحَكِيمِ} المحکم المشتمل علی الحکمة والذي لاباطل فيه.

59- وبعد الانتهاء من بيان قصة هؤلاء يبدأ الاحتجاج علی النصاری، ف {إِنَّ مَثَلَ} شأن ووصف {عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ} خلق الله آدماً {مِن تُرَابٖ} فکما ليس هو إله ولا افتراء عليه کذلك عيسی (عليه السلام) {ثُمَّ} بعد أن صوّر جسده من التراب {قَالَ لَهُۥ كُن} بشراً حيا {فَيَكُونُ} أي فکان کما أراد الله تعالی.

60- هذا هو {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} في أمر عيسی (عليه السلام) ، فلا هو ربّ، ولا افتراء علی أمّه (عليهاالسلام) ، ولا القصّة أسطورة، {فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين في أمره، والخطاب تثبيت للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مع کون المراد عامة الناس.

ص: 202

بحوث

الأول: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأيَٰتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}.

هذا المقطع کالتمام لذکر قصة عيسی (عليه السلام) - مع ما تضمنته من قصص مريم ويحيی وزکريا (عليهم السلام) - اکتفی فيه بما يناسب الاحتجاج علی نصاری نجران، وقد ذکرت آيات أخری في سورة النساء والمائدة والصف وغيرها جوانب وتفاصيل أخری من قصته (عليه السلام) ، لکن حيث لم يكن لها دخل في الغرض من سورة آل عمران لم تذکر هنا، وهذا دأب القرآن الکريم حيث إنه کتاب هداية، فيكتفي بما يناسب الغرض، ولذا تجد القصة الواحدة مبثوثة في عدة سور، وفي کل موضع يذکر فيها تفاصيل أو يتم الإيجاز بحسب مقتضی الحال بما يناسب الحکمة، کقصة آدم وموسی (عليهماالسلام) والنبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وکذا في مسائل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد وغيرها من المواضيع التي تصبّ في هداية الناس وإرشادهم، وهکذا کان دأب الأئمة (عليهم السلام) حيث کانوا يجيبون بالزيادة والنقصان وحسب مقتضی الحال، ولذا علی من يريد الوصول إلی الصورة المتکاملة ملاحظة الآيات أجمع، وکذا في الروايات، ليتعرّف علی العام والخاص، والمحکم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبيّن... الخ.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) - بعد تقسيم الناس إلی أصناف - أنه قال: «وآخر رابع لم يكذب علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، مبغض للکذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، لم ينسه بل حفظ ما سمع علی وجهه، فجاء به کما سمع، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإنّ أمر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ، وخاص وعام،

ص: 203

ومتشابه...» الحديث(1).

قال تعالی: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ}(2)،

أي فرقوه وجزّؤوه فأخذوا مايوافقهم وترکوا مايخالفهم، وقال: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ}(3).

وقوله: {مِنَ الْأيَٰتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} بيان لوصفين لما سبق من القصص فهي:

أولاً: آيات الله تعالی تدل علی عظمته سبحانه، حيث اصطفی خلقاً وحباهم بالمعجزات، کما هي آيات علی صدق النبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث أخبر بالمغيبات التي علّمه الله إياها، مع حسن بيان بحيث يعجز الناس عن الإتيان بمثله، وفيه تلميح إلی ردّ حجة النصاری في ألوهية عيسی وکونه ابناً لله تعالی، حيث زعموا أن کيفية ولادته ومعاجزه دليل علی ذلك، مع أن الصحيح أنها آيات الله حيث خلق عيسی (عليه السلام) بتلك الکيفية، وأقدره علی المعاجز، کما سيأتی بيانه في الآية التالية.

وثانياً: إن التأمل في هذه الآيات توجب تذکر الإنسان وإثارة دفائن العقول فيه، فهي {الذِّكْرِ الْحَكِيمِ} من الإحکام فلا باطل فيه ولا مداهنة ولا أسطورة، بل هو الحق الصراح الذي يذکر بحکمة بالغة وبما يتناسب مع الغرض والاحتجاج علی أولئك النصاری وعلی غيرهم.

ص: 204


1- الکافي 1: 63.
2- سورة الحجر، الآية: 90-91.
3- سورة النساء، الآية: 150.

وقد مرّ أن الحکمة من (الإحکام)، ولازمها هو وضع الشيء في موضعه المناسب له، وهکذا القرآن وکل آياته.

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ...} الآية.

بعد الانتهاء من بيان قصص عيسی (عليه السلام) وما يرتبط به، يبدأ الاحتجاج علی النصاری ودحض حججهم، فعيسی مخلوق لم يكن ثم کان، فلا يمکن أن يکون إلهاً، لأن الإله قديم واجب الوجود، فيستحيل أن يکون مسبوقاً بالعدم، کما أن خرق العادة في خلقه لاتقتضي ألوهيته، وإلاّ کان آدم (عليه السلام) أولی منه في ذلك، لأنه خُلق من غير أب وأم، فخلقه أغرب من خلق عيسی (عليه السلام) .

کما فيه إبطال لمزاعم اليهود، فهم يسلّمون بقدرة الله تعالی في خلق آدم (عليه السلام) من غير أبوين، فلا غرو في خلق عيسی (عليه السلام) من غير أب.

وقوله: {مَثَلَ عِيسَىٰ} قد مرّ أن «المثل» قد يأتي بمعنی الوصف ولذا يطلق علی تشبيه شيء بشيء إذ فيه وصف للمشبَّه بأوصاف المشبَّه به، أو بالعکس فهو بمعنی التشبيه، وحيث يتضمن الوصف أ ُطلق علی الوصف أيضاً کما في قوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}(1)، فالمعنی هنا هو وصف عيسی (عليه السلام) بما وُصف به آدم فهما يتشابهان في خرق العادة في خلقهما حين خلق أحدهما من غير أبوين والآخر من غير أب.

وقوله: {عِندَ اللَّهِ} بيان لطيف لبطلان مزاعمهم، فعند النصاري إنه إله

ص: 205


1- سورة الرعد، الآية: 35.

لأنه خُلق من غير أب، وعند اليهود متهم، لکن عند الله مثله کمثل آدم.

وقوله: {خَلَقَهُۥ} أي خلق آدم (عليه السلام) ، وهذا بيان لوجه الشبه، حيث صوّر الله من الطين صورته ثم نفخ فيه من روحه فصار بشراً سوياً، کذلك عيسی (عليه السلام) .

وقوله: {مِن تُرَابٖ} ردّ لمزاعم النصاری أنه ابن لله سبحانه، بل هو من تراب، لأنه لو کان ابناً له سبحانه لکان جزءاً منه بحيث ينفصل منه جزء يتحوّل إلی الابن، کالمواليد في الإنسان حيث ينفصل جزء من الأب يتحول إلی نطفة ثم علقة ثم مضغة إلی آخر المراحل حتی يتحول إلی إنسان، وعيسی لم يكن جزءاً لله سبحانه وتعالی بل کان تراباً ثم أنشأه الله بشراً من غير أب بقدرته کآدم (عليه السلام) .

وقوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُۥ} أي توجّه تعالی إلی التراب فصيّره إنساناً بقدرته و(القول) هنا قد يکون بمعناه الحقيقي أي خاطب الله التراب بخلق الصوت، أو معناه المجازي بمعنی إرادة ذلك، وقد مرّ تفصيله.

وقوله: {فَيَكُونُ} أي فکان، وهذه الجملة صارت مثالاً، لذا يؤتی بها علی طبق لفظها - کما في التقريب(1) - فاللفظة حکاية حال ماضية لذا لم يتصرّف فيها بتغييرها من المضارع إلی الماضي.

الثالث: قوله تعالی: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ}.

أي هذا هو الحق لا ما زعمته النصاري واليهود وغيرهم، فلا تشك فيه، وقوله: {مِن رَّبِّكَ} ولم يقل (مع ربك) لأن الحق ينشأ من إرادته سبحانه

ص: 206


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 348 (بتصرّف).

وتعالی، فهو تعالی الحق، وأفعاله وأقواله الحق، وکل حق في العالم فهو منه تعالی حيث خلق الأشياء بالحق وقدرها بالحق وجعلها حقاً، فقيد الحق ب {مِن} الدالة علی الابتداء، لأنه تعالی أوجد الأشياء، فالحقائق - حتی النفس الأمرية - إنما تنتزع من الوجود الذي قدّره الله ثم خلقه فالحق کلّه منه تعالی(1).

وقوله: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ} خطاب للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفيه جانبان:

أحدهما: ما يرتبط بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإنه لم يكن شاکاً ولا ممترياً أبداً، ولکن کان ذلك بفضل من الله تعالی وتثبيته، کما قال: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَٰكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَئًْا قَلِيلًا}(2)، وقال: {كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}(3).

والآخر: مايرتبط بعموم الناس، فيکون من قبيل (إياك أعني واسمعي ياجارة)، وهذا تأکيد لهم لئلا يمتروا ويشکّوا، حيث کثرت المعاجز وخوارق العادة في قصة عيسی، کما اشتهر بين النصاری واليهود غير الحق، وکل ذلك مثار شك الناس، فجاء الحق الصراح بتأکيد شديد.

و(المرية) هي الشك بشبهة أولئك مع تردد(4).

ص: 207


1- اقتباس بتصرف من الميزان في تفسير القرآن 2: 247.
2- سورة الإسراء، الآية: 74.
3- سورة الفرقان، الآية: 32.
4- معجم الفروق اللغوية: 70؛ مفردات الراغب: 766.

الآية 61

اشارة

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَٰذِبِينَ (61)}

61- وبعد ظهور الحق لايبقی مجال لإنکاره إلاّ من المعاند وهذا لاتنفعه حجة، بل يجادل بالباطل ويماري، فلابد من مجابهته بطريقة أخری هي المباهلة، فقال تعالی: {فَمَنْ حَاجَّكَ} جادلك {فِيهِ} في الحق أو في عيسی {مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بالوحي المتضمن للبرهان الساطع {فَقُلْ} لهذا المحاجّ بالباطل، {تَعَالَوْاْ} هلمّوا {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ} أي يدعو کل واحد منا ومنکم خاصّته، {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نجتهد في الدعاء، {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ} الطرد من رحمته {عَلَى الْكَٰذِبِينَ} في أمر عيسی (عليه السلام) .

بحوث

الأول: لمّا حاجّ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) نصاری نجران وأقام عليهم الحجة والبرهان بأنّ عيسی (عليه السلام) ليس إلهاً ولا ابناً لله، ودحض (صلی الله عليه وآله وسلم) حججهم في ذلك، أصرّوا وعتوا عن قبول الحق حباً في الصليب والخمر والخنزير، فاقترح عليهم المباهلة بالتوجه إلی الله تعالی بالدعاء علی الکاذب الذي

ص: 208

فوائد المباهلة

يخالف کلامه الواقع ويعاند فيُنکر الحق ولا يذعن له، وللمباهلة فوائد متعددة منها:

1- إنه لامعنی لاستمرار المجادلة مع المعاند الذي لاتنفعه حجة، لأنه يعلم بالحق ومع ذلك ينکره، فما هو الغرض بعد ذلك في الاستمرار في المحاجة معه؟ هل لکي يعلم بالحق - وهو متيقن به لکنه يجحده - ؟ هل لبيان الحق للآخرين - فقد تبين لهم الحق بالبرهان الجلي في المجادلة فلا زيادة في ذلك - ؟ مع أن في استمرار الجدال معه تضييعاً للوقت من غير وصول إلی النتيجة المرجوة، فکان مقتضی الحکمة دفع جداله بالباطل بأحسن الطرق کما قال تعالی: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}(1)، وهنا يأتي دور ترکيز العقيدة الحقة والمباهلة، أمّا ترکيز العقيدة الحقة فکما قال تعالی: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَٰحِدٌ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ}(2)، وأما المباهلة فهي طريق آخر لايقاف عنادهم وجدالهم بالباطل.

2- إن المباهلة توجه إلی الله تعالی لکي ينصر دينه، فقد أدّی العبد ما أمره الله به من المجادلة وإقامة الحجة ودحض الشبهات، مع الالتزام بالتکاليف العبادية وغيرها، وکل ذلک نصر العبد لله، فلم يبق إلاّ نصر الله للعبد کما قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(3).

ص: 209


1- سورة المؤمنون، الآية: 96.
2- سورة العنکبوت، الآية: 46.
3- سورة محمد، الآية: 7.

والدعاء والتضرع إليه طريق لتنجيز وعده بالنصر، لأنه يستجيب دعاء من دعاه.

3- وفي المباهلة أيضاً أثر نفسي علی المؤمنين بتقوية إيمانهم، حيث يرون شدة الإطمئنان بما أوحاه الله تعالی من العلم والبرهان، وأثر نفسي علی الکفار بهزيمتهم نفسياً وفکرياً، فلئن عاند المعاندون لکن عوامهم حيث يرون تخاذل أولئك المعاندين قد يكتشفون الحق فيذعنون به.

الثاني: قوله تعالی: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ...} الآية.

قوله: {حَاجَّكَ} أي جادلك، والمراد الاستمرار في الجدل عناداً بعد وضوح الحق.

وقوله: {فِيهِ} أي في الحق المذکور في الآية السابقة، أو في أمر عيسی (عليه السلام) فلم يذعن لما أقمت له من برهان.

وقوله: {مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي بعد البرهان الذي أنزله الله عليك وحاججته به، لکنه لم ينتفع به عناداً، وفي الآية إشعار بأن المباهلة إنما تکون بعد الاطمئنان بکون الإنسان علی حق، وبعد إقامة الحجج علی المخالف وبقائه معانداً مستمراً في عناده، فلا تصح المباهلة مع الشك، ولا قبل إقامة الحجج، ولا مع عدم عناد الطرف الآخر، وذلك لأن الغرض منها إحقاق الحق بعد استنفاذ کافة الطرق الأخری.

وقوله: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ} أي هلمّوا، وأصل الکلمة من العلو، وفيه إشعار إلی دعوتهم إلی الترفع عن العناد - الذي هو آفة ينشأ من التکبر وحب الشهوات الله

ص: 210

وحبّ الاستمرار علی المألوف من طريقة الآباء - وذلك بالتوجه إلی تعالی بالدعاء لينصر المحق ويخذل الکاذب.

وقوله: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ...} هذه الکيفية تبيّن شدة الاطمئنان بالحق حيث يأتي بأعز أقربائه للمباهلة، والمبطل لايعرّضهم لذلك، لعلمه بعدم کونه علی حق وأن اللعن سيصيبهم، إذ الإنسان يعرض نفسه للخطر ليحمي أعزاءه، أما أن يأتي بهم في موقع المباهلة ومع تقديمهم في الذکر حيث قدّم الأبناء والنساء علی الأنفس فهذا دليل علی شدة اليقين وقوة الحجة والبرهان.

وقد اتفق المسلمون أجمع في صحاحهم وتواريخهم أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) جاء إلی موقع المباهلة مصطحباً أمير المؤمنين علياً والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام) لاغير.

وقيل: مفهوم {أَبْنَاءَنَا} و{نِسَاءَنَا} و{أَنفُسَنَا} وإن کان عاماً، إلاّ أن المصداق کان منحصراً في الخمسة الطيبة، لأن المقصود کان أعزّ الأهل وأقربهم إلی المتباهلين، فقرابات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من بني هاشم ومن زوجاته وأصهاره کثيرون، إلاّ أن شدة القرب والمعزّة کانت منحصرة في هؤلاء الخمسة (عليهم السلام) ، ف {أَبْنَاءَنَا} وإن کان جمعاً إلاّ أنه لم يكن للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حينذاك أبناء سوی الحسنين (عليهماالسلام) ، و{نِسَاءَنَا} اسم الجمع لکن لم يدخل فيه زوجات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأن تلك المعزة والقرب کانت خاصة بفاطمة (عليهاالسلام) ، و{أَنفُسَنَا} أيضاً جمع لکنه لم يشمل سوی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، حيث إن عليا (عليه السلام) هو نفس الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي

ص: 211

ذلك منزلة عظيمة للخمسة الطيبة، وإبانة لأفضليتهم علی سائر الصحابة، حيث لم يكن أحد يليق بأن يُباهَل به إلاّ هؤلاء (عليهم السلام) .

معنی أنفسنا

ولايخفی أنه لايراد ب {أَنفُسَنَا} هنا القومية أو القرابة کما في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}(1)، وذلك لأن مقام المباهلة ليست مقام الإتيان بمطلق من کان من القومية أو القرابة حتی لو کان کافراً أو منافقاً أو مستضعفاً، بل هي مقام الإتيان بأعزّ الناس وأقربهم، ولذا لم يأت الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للمباهلة إلاّ بالإمام علي (عليه السلام) ، مما يدل علی انحصار أنفسنا فيه (عليه السلام) وفي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وحيث لم يكن المراد من الأنفس مطلق الأقرباء أو الأقوام فلابد أن يکون المراد منه ما هو کالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في کلّ المنازل سوی ما أُستثني من النبوة، وإلی ذلك يشير حديث المنزلة حيث قال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : «أنت مني بمنزلة هارون من موسی إلاّ أنه لا نبيّ بعدي»(2).

الثالث: قوله تعالی: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَٰذِبِينَ}.

(الابتهال) هو کل دعاء يجتهد فيه حتی لو لم يكن إلتعاناً، ولذا فرّع عليه قوله: {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ...}، وذلك لأن المباهلة دعاء عظيم يصيب وباله الکاذب فلذا لابدّ من شدة التضرع والإلتجاء إلی الله تعالی فيها، وقيل: الابتهال هو الدعاء باللعن فقوله: {فَنَجْعَل...} عطف توضيحي وتأکيد، أو تعليم کيفية الدعاء باللعن بأن يکون لعناً للکاذب.

وقوله: {فَنَجْعَل} کأنّه بيان لاستجابة الدعاء فوراً، فبمجرد الدعاء

ص: 212


1- سورة التوبة، الآية: 128.
2- حديث متواتر، راجع من مصادر الشيعة الکافي 4: 107؛ ومن مصادر العامة البخاري 4: 208.

يستجيب الله الدعاء ويطرد من رحمته الکاذب، فکأنّ الداعي هو الذي جعل اللعنة علی الکاذب، مع أن الجاعل هو الله استجابة للدعاء.

وقوله: {عَلَى الْكَٰذِبِينَ} فيه تعريض بهم بأنهم کاذبون في دعواهم، والمراد الکذب بخلاف الواقع وخلاف مايضمرون، لأن کلامهم باطل وهم يعلمون بطلانه، فکذبهم من الجهتين، لکن لم يقل (فنجعل لعنة الله عليكم) لأن مقتضی الإنصاف إبهام الکاذب بحيث يشترك کلا الطرفين في صيغة الدعاء.

قصة المباهلة

الرابع: وکان من قصة نصاری نجران ما رواه القمي بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أن نصاری نجران لمّا وفدوا علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وکان سيدهم الأهتم، والعاقب، والسيد، وحضرت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلّوا، فقال أصحاب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا رسول الله هذا مسجدك!! فقال: دعوهم، فلمّا فرغوا دنوا من رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إلی ما تدعو؟ فقال: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأني رسول الله، وأن عيسی عبدٌ مخلوق، يأکل ويشرب ويحدث، فقالوا: من أبوه؟ فنزل الوحي علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال لهم: ما تقولون في آدم، أکان عبداً مخلوقاً يأکل ويشرب ويحدث وينکح؟ فسألهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقالوا: نعم، قال: فمن أبوه؟ فبهتوا، فأنزل الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ...} وقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ...}، فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : باهلوني، فإن کنت صادقاً أنزلت اللعنة عليكم، وإن کنت کاذباً أ ُنزلت عليّ، فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للمباهلة، فلمّا رجعوا إلی منازلهم قال رؤساؤهم السيد والعاقب والأهتم: إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس بنبيّ، وإن باهلنا بأهل البيته

ص: 213

خاصة فلا نباهله، فإنه لايقدم إلی أهل بيته إلاّ وهو صادق، فلمّا أصبحوا جاؤوا إلی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فقال النصاری: من هؤلاء؟ قيل لهم: إن هذا ابن عمه ووصيه وختنه عليّ بن أبي طالب، وهذه بنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين، صلوات الله عليهم، فتفرّقوا وقالوا لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) علی الجزية وانصرفوا»(1).

ص: 214


1- تفسير الصافي 2: 58؛ عن تفسير القمي 1: 104.

الآيات 62-64

{إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِۢ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَئًْا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}

62- {إِنَّ هَٰذَا} المذکور في الآيات السابقة {لَهُوَ الْقَصَصُ} أي الحديث المقصوص {الْحَقُّ} لاباطل فيه، {وَ} أما ما قالته النصاری في ألوهية عيسی (عليه السلام) فهو باطل، إذ {مَا مِنْ إِلَٰهٍ} معبود {إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} فلا يضره کفرکم، ولايشارکه أحد في الألوهية ليعارضه في عزّته، کما لايحتاج إلی اتخاذ الولد، {الْحَكِيمُ} في تقدير کيفية ولادة عيسی (عليه السلام) وإقداره علی المعاجز.

63- {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإذعان إلی الحق مع وضوح آياته، أو أعرضوا عن المباهلة مع الإصرار علی العقائد الفاسدة {فَ} لايضرّك إعراضهم إذ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِالْمُفْسِدِينَ} فيجازيهم علی إفسادهم بالعقائد الباطلة والأعمال القبيحة.

64- ثم تتوجه الآيات إلی وعظهم ببيان الحق بعد أن لم ينفعهم البرهان ولا اقتراح المباهلة وبيان أن مصلحتهم في اتّباع الحق {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ}

ص: 215

ونصاری نجران مصداق، والآية عامة لجميعهم {تَعَالَوْاْ} هلموا {إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَاءِۢ} نتساوی فيها باتفاقنا عليها، وهي کلمة عدل لاعوج فيها {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} جميعاً، وتلك الکلمة هي {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} وهو توحيد العبادة، {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} وهو توحيد الذات، {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} بأن تکون إطاعتنا لله تعالی ولمن أمر الله بإطاعته، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن التوحيد وأطاعوا أحبارهم ورهبانهم {فَقُولُواْ} لساناً واستقامة عليه مخاطبين أهل الکتاب: {اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} والمراد بيان لزوم الحجة عليهم، والتعريض بهم، وثبات المسلمين علی إسلامهم.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}.

{الْقَصَصُ} بفتح القاف بمعنی المفعول أي المقصوص، والمراد ما ذکر في الآيات السابقة، و{الْحَقُّ} هو المطابق للواقع الذي لاکذب فيه ولا باطل، والغرض التعريض بهم بأن کلامهم باطل، کما أنه تأکيد علی ما بيّنته الآيات السابقة، وهو کالفاصل بين نهاية القصة والبرهان الذي أقيم علی الحق وبين وعظهم ودحض حججهم، وتنبيههم علی أن الدخول في الإسلام من مصلحتهم في الدنيا والآخرة.

ويکون تدرج الآيات هکذا، ففي البداية بيان قصة عيسی وأمه ويحيی وزکريا (عليهم السلام) ، وخرق العادة في ميلاد المسيح ومعاجزه وأنصاره وعاقبة أمره (الآيات 33-58)، ثم الاستدلال علی بشريته (الآيتان 59-60)، ثم المباهلة (الآية 61)، ثم وعظهم (الآية 64) ثم دحض حججهم (الآيات 65-68).

ص: 216

وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ} تعريض بهم بأن ما يقولونه في عيسی (عليه السلام) ليس بحق، وهو کالنتيجة لکون ما قاله القرآن هو القصص الحق، و{مِنْ} لإفادة العموم وتأکيده، فهذه حقيقة غير قابلة للاستثناء.

ثم إن قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} للدلالة علی أنه سبحانه لايضره کفرهم ولا اعتقادهم بألوهية غيره ولا سائر أباطيلهم، کما فيه دلالة علی عدم اتخاذه ولداً ولا شريكاً فهو العزيز الذي لايغلبه شيء، کما أنه تعالی حکيم حيث خلق عيسی (عليه السلام) بهذه الکيفية، وخلق الناس مختارين مع إقامة الحجة عليهم.

الثاني: قوله تعالی: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِالْمُفْسِدِينَ}.

بيان أن ترك الحق مع وضوحه والتمسك بالباطل إنما هو إفساد، وأن الله يجازي المفسد عليه، فهؤلاء أفسدوا أنفسهم ولم يصلحوها بالعقيدة الحقة والأعمال الصالحة، کما أنهم يفسدون الناس بإصرارهم علی الباطل وصدّهم عن سبيل الله تعالی.

والآيات تضمنت مجموعة من صفاتهم القبيحة، فهم کاذبون يستحقون لعن الله إياهم، کما أنهم أهل باطل في عبادتهم وفي عقيدتهم، مضافاً إلی إفسادهم لأنفسهم ولغيرهم.

وقوله: {عَلِيمُۢ بِالْمُفْسِدِينَ} الغرض منه بيان أنه تعالی يجازيهم علی سوء أفعالهم وعلی إعراضهم عن الحق، أو هو ردّ لزعم من زعم منهم أن الله لايعلم بأفعال عباده، فيکون ذلك من ضمن فساد عقيدتهم، کما فيه إيماء بعدم إکراههم علی قبول الدين الحق، بل بعد إتمام الحجة عليهم

ص: 217

فيُترکون وعقيدتهم ليجازيهم الله عليها، وإنما يتعامل معهم المسلمون بالمعاهدة إن کانوا خارج سيطرة المسلمين أو بأخذ الجزية إن کانوا داخلها، فإن رفضوا دفع الجزية ولم تکن معهم معاهدة جاز قتالهم.

الثالث: قوله تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ...} الآية.

هذه الآية رجوع إلی وعظهم بعد إقامة الحجة والبرهان علی کون عيسی (عليه السلام) بشراً مخلوقاً، وبعد اقتراح المباهلة عليهم، ويتضمن هذا الوعظ براهين ومطالب أخری:

1- الکلمة السواء، أي لنتفق علی هذه الکلمة، فنکون نحن وأنتم سواء، إذ قد يريد الإنسان الاحتفاظ بواقعه وأن لايکون تابعاً للآخرين، فالآية تبين لهم أن المسلمين جميعاً سواء إذا اجتمعوا علی الإيمان بالله والعمل الصالح، ولايوجد مسلمون من الدرجة الثانية، بل الکل سواء في عبادة الله وفي عدم اتخاذ الشريك له وفي عدم إطاعة أحد من دون الله إلاّ إذا أمر الله بطاعته، فإذا أسلمتم فلا يکون هناک تمايز عليکم.

2- اختصاص العبادة بالله، لأنه لا شريك له، إذ الناس بعضهم من بعض، فلا يصلح أحدهم للألوهية علی الآخرين، بل الإله هو الذي يختلف بالذات عن کل الناس في کل شيء فليس کمثله شيء.

وهذا برهان متسلسل من مقدمات ثلاث ذکرت في قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} إلی قوله: {أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}. ومن ذلك يتبين أنه لاتکرار في المقاطع الثلاث، فقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} هو بمعنی توحيد العبادة، وسبب ذلك أنه لا شريك له، إذ لو کان له شريك لاستحق العبادة أيضاً فقال: {وَلَا نُشْرِكَ

ص: 218

بِهِ شَيْءًا}، وسبب عدم کون أحد من البشر شريكاً لله هو أن البشر متشابهون في ترکيبتهم الجسدية، فبعضهم من بعض، فلا يصلح أحدهم للألوهية علی سائرهم، نعم يصح جعل الإطاعة للبعض من قِبَل الله تعالی إذا کان طريقاً إليه تعالی کما قال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(1)،

لکن ذلك لايرتبط بعبادته بل هو مرتبط بعبادة الله أيضاً.

3- التسليم المحض لله تعالی ينافي اتخاذ الشريك له، إذ لابد حينئذٍ من إطاعة الشريك أيضاً، قال تعالی: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٖ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۢ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ سُبْحَٰنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(2).

الرابع: قوله تعالی: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

أي بعد إقامة البرهان عليكم، وعدم استعدادکم للمباهلة، وعدم نفع الوعظ فيكم، بعد کل ذلك يتبيّن أنکم غير خاضعين لله تعالی ولاتسلمون له، لکنّا سلّمنا لله وصدّقنا برسله وأطعناه فيما أمر ونهی.

والمراد من هذه الکلمة:

أولاً: تأديب المؤمنين في عدم اعتناهم بأولئك، بل عليهم أن يستمروا في عقيدتهم وعملهم وأن يستقيموا عليها، کما قال تعالی: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(3)، وهذا شأن النفوس القوية بالإيمان

ص: 219


1- سورة النساء، الآية: 80.
2- سورة المؤمنون، الآية: 91.
3- سورة المائدة، الآية: 105.

حيث يتبعون الحق علی کل حال حتی لو کانت الأجواء غير ملائمة، عکس غالب الناس الذين يخذلون الحق لو قلّ أتباعه وکثر أعدائه.

وثانياً: بيان وضوح الحق وجلائه فيعلم بذلك حتی المعاند المعارض، علماً يقينياً، بحيث يصح الاستشهاد به، فقوله: {اشْهَدُواْ} کناية عن ذلك، والله العالم.

ص: 220

الآيات 65-68

اشارة

{يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَٰهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَٰجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}

65- بعد دحض حججهم في ألوهية عيسی وإثبات التوحيد ووعظهم بعدم الشرك، يأتي الدور إلی دحض حججهم الأخری، وأهمها مايرتبط بإبراهيم (عليه السلام) ، فقال تعالی: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ} وشأن النزول وإن کان نصاری نجران إلاّ أن الخطاب عام يشمل اليهود أيضاً {لِمَ تُحَاجُّونَ} تجادلون {فِي إِبْرَٰهِيمَ} فتزعمون أنه کان علی دينکم {وَ} الحال أنه {مَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِنۢ بَعْدِهِ} فشريعة موسی وعيسی (عليهماالسلام) کانتا متأخرتين عنه فکيف يکون المتقدم تابعاً للمتأخر؟! {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} لاتستعملون عقولکم حيث إن العقل يمنع عن ادّعاء ما لا دليل عليه فکيف بما ثبت فساده.

66- {هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ} «الهاء» حرف تنبيه، و«أنتم» مبتدا، و«هؤلاء» تأکيد، والخبر قوله: {حَٰجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ} حيث احتّجت اليهود علی النصاری في بطلان التثليث وألوهية عيسی (عليه السلام) ، واحتجت النصاری

ص: 221

علی اليهود في إثبات نبوة عيسی (عليه السلام) ومعاجزه وطيب أصله، واحتجوا جميعاً علی المشركين في نبوة موسی والأنبياء من قبله وبعده، فالاحتجاج بعلمٍ هو مقتضی العقل، {فَلِمَ} فلماذا تخالفون العقل في أنکم {تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} في شأن إبراهيم (عليه السلام) ، وهل العاقل يجادل فيما يجهل فيه؟! بل عليكم أن تطلبوا العلم حين جهلکم لا أن تجادلوا باطلاً، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فلذا عليكم أن تتلقّوا العلم من الله تعالی بواسطة رسله.

67- وممّا يعلمه الله أنه {مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا}، وليس معنی ذلك أنه کان علی باطل {وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا} مائلاً من الباطل إلی الحق، {مُّسْلِمًا} أي سلَّم أمره إلی الله {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا تعريض بهم لأنهم أشرکوا فليسوا علی ملة إبراهيم.

68- وهذا العلم علّمه الله لمجموعة فعليكم أن تتلقّوه منهم، ف {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ} أي أحقهم في أن ينسب إبراهيم إلی نفسه {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} في زمانه ومن بعده {وَهَٰذَا النَّبِيُّ} حيث ينصر إبراهيم (عليه السلام) بالحجة وهو علی ملته {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} بهذا النبي من المسلمين، {وَاللَّهُ وَلِيُّ} ناصر {الْمُؤْمِنِينَ} فلذا حجتهم تدحض حجتکم.

بحوث

الأول: الاحتجاج في بدايته کان في التوحيد بنفي ألوهية عيسی (عليه السلام) ونفي الشريك، وحصر الطاعة فيه تعالی ومن أمر بطاعته، ثم بعد ذلك ينتقل الاحتجاج إلی النبوة، المتمثلة في الشخصية المتفق عليها بين اليهود والنصاری والمسلمين، بل ومشرکي العرب أيضاً، وهو نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) ،

ص: 222

فکل طرف يريد إلصاق إبراهيم (عليه السلام) بنفسه، ليستنتج من ذلك أنه علی حق وغيره علی باطل.

ودحض حجتهم هو أن إبراهيم (عليه السلام) کان متقدماً علی شريعة موسی وعيسی (عليهماالسلام) فلم يكن تابعاً للشريعتين، وهذا أمر واضح وجلي يعرفه کل ذي مسکة، لذا قرّعهم الله تعالی بقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

فهنا يأتي السؤال فما کان دين إبراهيم؟

الجواب: الذي يتفق عليه أهل الکتاب والمسلمون:

فأولاً: إنه (عليه السلام) کان مائلاً عن باطل قومه إلی الحق الذي أوحاه الله إليه.

وثانياً: قد سلّم أمره إلی الله تعالی في کل شيء.

وثالثاً: لم يكن مشرکاً، فإن ولادة عزير وعيسی کانت من بعده، فکان اتخاذهما ابنين لله من بعد إبراهيم.

ويحتمل أن يکون قوله: {حَنِيفًا مُّسْلِمًا} ردّ لمزاعم أهل الکتاب، وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ردّ لمزاعم مشرکي مکة والعرب.

الثاني: قوله تعالی: {هَٰأَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَٰجَجْتُمْ...} الآية.

{هَٰأَ} حرف تنبيه، و{أَنتُمْ} مبتدأ، وخبره إما {حَٰجَجْتُمْ...}، و{هَٰؤُلَاءِ} تأکيد، أو الخبر {هَٰؤُلَاءِ} بمعنی الذين، و{حَٰجَجْتُمْ} صلة.

والغرض التأکيد علی دحض حجتهم، وهو أسلوب متعارف حيث يبتدأ الکلام بتقريعهم علی ضحالة فکرهم وضعف حجتهم، ثم بيان سبب ذلك بأن يقال: نحن نقبل کلامکم الصحيح المنطلق من العلم، لکن لامعنی لقبول کلام منشؤه الجهل.

ص: 223

وقوله: {فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ} بيان لصحة بعض احتجاجاتهم التي يحتج بها بعضهم علی بعض، فاليهود ينفون ألوهية عيسی ويستدلون لذلك بحجج صحيحة منطلقها العلم، وکذا في نفي التثليث ونحو ذلك، کما أن النصاری يثبتون نبوة عيسی (عليه السلام) ومعاجزه وهم في ذلك علی حق وأدلتهم صحيحة، وکلا الطرفين - من اليهود والنصاری - يحتجون علی المشركين بأن إبراهيم (عليه السلام) لم يكن عابد صنم، ويثبتون معاجز الأنبياء السابقين، ومنطلقهم العلم، فکل ذلك حق يصدقه الإسلام لأنه لم يطاله التحريف.

لکن زعم أن إبراهيم (عليه السلام) کان علی دينهم! لم ينطلق من علم، بل من أهوائهم حيث أرادوا إثبات صحة دينهم بشخصية متفق عليها بين الطرفين وهو إبراهيم (عليه السلام) .

وقوله: {فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} أعم من جهلهم بدين إبراهيم (عليه السلام) ، أو ضلالهم وکذبهم عليه، فلعلّ جمع منهم کانوا لايعلمون بدينه لکن حبّهم لدينهم صار سبباً لأن ينسبوه إلی أنفسهم، وجمع آخر کانوا يعلمون بأنه لم يكن علی طريقتهم لکن افتروا عليه عناداً بغياً.

قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} کالمقدمة لبيان حقيقة دين إبراهيم (عليه السلام) وأن ما يقوله رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) إنما هو بوحي من الله تعالی، فإذا کان قولکم رجماً بالغيب، فما يقوله المسلمون إنما هو بعلم من الله سبحانه وتعالی، ثم الآية التالية تبين حقيقة دين إبراهيم بما لايمکنهم إنکاره، لأنهم يعترفون به أيضاً.

الثالث: قوله تعالی: {مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا...} الآية.

ص: 224

في البداية بيان دحض حجتهم في تبعية إبراهيم (عليه السلام) لهم، فکيف تحتجون بإبراهيم، فهو لم يكن علی شريعة موسی (عليه السلام) ولا شريعة عيسی (عليه السلام) لأن شريعتهما نزلت بعد إبراهيم (عليه السلام) ، فلم تکن شريعته ما نزلت في التوراة والانجيل کما بينته الآية 65، ثم إنه لم يكن علی الدين الذي حرّفه الأحبار والرهبان، فلم يكن يهودياً ولا نصرانياً، وهذا ما بينته هذه الآية، وفي مجمع البيان: نَزّه إبراهيم وبرّأه عن اليهودية والنصرانية، لأنهما صفة ذم، وهذا يدلّ علی أن موسی أيضاً لم يكن يهودياً، ولم يكن عيسی نصرانياً، فإن الدين عند الله الإسلام، واليهودية ملة منحرفة عن شرع موسی، والنصرانية ملة منحرفة عن شرع عيسی، فهما صفتا ذم جرتا علی فرقتين ضالتين(1).

وقوله: {وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا} قد مرّ أن الحَنَف هو الميل من الباطل إلی الحق، وليس المراد أنه کان علی باطل ثم مال إلی الحق، إذ الأنبياء منزهون عن الباطل في المعتقدات والأعمال في کل حياتهم، بل المراد ميله عن باطل قومه بعدم اتّباعه لهم أصلاً إلی الحق الذي أوحاه الله إليه.

وقوله: {مُّسْلِمًا} أي منقاداً لله تعالی، فليس المراد الشريعة التي نزلت علی رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، حتی يستشکل بأن هذه الشريعة أيضاً نزلت بعد إبراهيم (عليه السلام) ، بل کانت لإبراهيم (عليه السلام) شريعة خاصة ثم نُسخت بشريعة موسی (عليه السلام) ، وهذه نُسخت بشريعة عيسی (عليه السلام) ، والتي بدورها نُسخت بشريعة رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير {مُّسْلِمًا} قال: خالصاً، مخلصاً ليس فيه شيء من عبادة الأوثان»(2).

ص: 225


1- مجمع البيان 2: 476.
2- الکافي 2: 15.

فالإسلام يرتبط بالعقيدة ثم الخضوع بالعمل، وهو دين کل الأنبياء لأن دين الله واحد، وقد مرّ أن الدين يترکب من العقائد الحقة وهي غير قابلة للتغيير لأنها الحقيقة المطلقة، والأعمال الصالحة وهي لاتغير فيها لأنها أمور ذاتية عادة، والأخلاق الفاضلة وهي أيضاً حقائق واقعية، وإنّما اختلاف الشرائع في خصوص بعض جزئيات الأعمال أو في بعض مصاديق الکليّات، مثلاً عبادة الله تعالی حقيقة غير قابلة للتغير، لکن کيفية العبادة وشروطها وأجزائها تختلف من شريعة لأخری، بل في الشريعة الواحدة أيضاً، فالکلي متفق عليه والمصاديق متغيرة.

وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تعريض بهم علی أنهم ليسوا علی ملة إبراهيم، لأنهم أشرکوا عزيراً والمسيح بالله.

وقيل: هذا القيد توضيح ل {حَنِيفًا} حيث کانت تزعم العرب أنها علی الحنيفية التي هي وثنيتهم، فکان لابدّ من بيان أن الحنيفية المقصودة هي الحنيفية الواقعية لا المحرّقة التي وضعوا الإسم عليها زوراً وافتراءً.

والحاصل أن هذه أمور ثلاثة متفق عليها بين أهل الکتاب والمسلمين، بأن إبراهيم (عليه السلام) لم يكن تابعاً لباطل قومه، وأنه کان منقاداً لله تعالی في کل أموره، وأنه لم يكن يُألّه عزيراً ولا المسيح لعدم وجودهما حينذاك، فما دامت ملة إبراهيم هي هذه فلنتفق عليها نحن المسلمين وأنتم أهل الکتاب، وهي الکلمة السواء التي مرّت في الآية 64.

الرابع: قوله تعالی: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَٰهِيمَ...} الآية.

بعد بيان أن أهل الکتاب لايعلمون بدين إبراهيم، وأن الله يعلم، وبيان

ص: 226

حال إبراهيم من حَنَفه وإسلامه وعدم شرکه، يأتي بيان أن أهل الکتاب لايحق لهم انتحال إبراهيم (عليه السلام) ونسبته إلی أنفسهم، بل أقرب الناس إلی إبراهيم وأحقهم في أن ينسبوه إلی أنفسهم وينسبوا أنفسهم إليه صنفان:

1- الذين اتّبعوه في زمانه وما بعد زمانه، کالمؤمنين الذين آمنوا به وبشريعته، وکالأنبياء الذين جاؤوا من بعده وکانوا علی ملته حتی بعد نسخ شريعته کموسی وعيسی (عليهماالسلام) ، فهؤلاء اتّبعوه فهم أولی الناس به.

2- رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والذين آمنوا به، فإنه وإن لم يكن تابعاً لإبراهيم (عليه السلام) - لأنه أفضل منه ولايصحّ تبعية الأفضل للفاضل - إلاّ أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) کان علی نفس الدين والمنهج الذي کان عليه إبراهيم (عليه السلام) .

ولايخفی أن رسول الله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) أفضل الخلق أجمعين، فهو أفضل من إبراهيم (عليه السلام) ، فلم يكن تابعاً له، إذ لاتصح التبعية إلاّ إذا کان المتبوع أفضل من التابع، ولذا لم يرد نص بتبعية الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لإبراهيم، بل تبعيته لملة إبراهيم، وهي دين الله الوحيد من آدم إلی أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإنما سُميت ملة إبراهيم لانتشارها عبر إبراهيم (عليه السلام) ، أو لاتفاق أهل الکتاب والمشركين والمسلمين عليه، قال تعالی: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ}(1)، ولذا صحّ اعتبار هذه الملة لسائر الأنبياء أيضاً کما قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَاءِي إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ}(2)، کما أن الله تعالی لم يأمر رسوله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) بالاقتداء بالأنبياء الماضين بل أمره بالاقتداء

ص: 227


1- سورة النحل، الآية: 123.
2- سورة يوسف، الآية: 38.

بهداهم الذي هو دين الله تعالی، فقال: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}(1)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «{مَا كَانَ إِبْرَٰهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} لايهودياً يصلّي إلی المغرب، ولا نصرانياً يصلّي إلی المشرق {وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا} يقول: کان علی دين محمد»(2)، والمقصود تطابق دينه مع دين رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لأن الدين واحد.

شريعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته

ثم إن الرسول محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) کان يعمل حسب الشريعة التي أوحاها الله إليه بعد بعثته، وأمّا قبل البعثة فقد کان نبيا - إذ خلقه الله نبيا قبل أن يخلق الخلق - لکنه لم يكن رسولاً إلی أن بعثه الله في الأربعين من عمره الشريف، وأما الشريعة التي کان يعمل بها قبل بعثته فلا شك في أنها کانت بوحي من الله تعالی، ولکن تحديد تلك الشريعة لم يرد فيه دليل، وقد رجّح العلامة المجلسي في مرآة العقول بأنه (صلی الله عليه وآله وسلم) کان يعمل بشريعة إبراهيم (عليه السلام) لابمعنی اتّباعه له، بل بمعنی أن الله کما أوحی تلك الشريعة علی إبراهيم (عليه السلام) کذلك أوحاها إلی النبيّ محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فهو في عرضه لافي طوله.

وقوله: {أَوْلَى} من الوَلْي والولاء بمعنی القرب، والمراد أحقهم بأن ينسب إبراهيم إلی نفسه، وينسبها إليه، أو الأولی في أن ينصر إبراهيم بالحجة ويبيّن عقيدته الصحيحة، إذ لاعلم لأهل الکتاب فلا أولوية لهم، وإنّما العالم بملة ابراهيم علماً مستنداً إلی الوحي والحقائق هو الذي له الأولوية.

وقوله: {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} اللام للتأکيد، والاتّباع بقبول شريعته وملته في

ص: 228


1- سورة الأنعام، الآية: 90.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 424-425؛ عن تفسير العياشي 1: 177.

زمانه، وباتّباعه علی ملته بعد نسخ شريعته.

وقوله: {وَهَٰذَا النَّبِيُّ} عطف علی (الذين اتبعوه)، أي نبي الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) في هذا الزمان هو أولی الناس بإبراهيم، لأنه نبي مثله والنبي أولی بالنبي من المنتحلين، فالآية کما بينت أصل الأولية کذلك بينت السبب، فأولئك باتّباعهم، والنبي محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لکونه نبيا مثله ولا تفرقة بين أنبياء الله ورسله.

وقوله: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي المسلمون لأنهم اتّبعوا ملة إبراهيم التی أوحاها الله إلی رسولهم محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي إن أوليتهم بإبراهيم (عليه السلام) لأن الجميع مشترکون في ولاية الله تعالی، وحيث إن الله وليهم جميعاً فبعضهم أولی ببعض، وکلّما کان الايمان أشد کانت الولاية آکد، ولذا کانت الإمامة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأولاده (عليهم السلام) لأنهم أولی بإبراهيم من غيرهم لشدة إيمانهم وعدم ظلمهم طوال حياتهم، کما قال تعالی: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّٰلِمِينَ}(1)، کما أنهم أقرب للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) رحماً فصاروا أولی بقوله تعالی: {وَأُوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٖ فِي كِتَٰبِ اللَّهِ}(2).

ص: 229


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- سورة الأنفال، الآية: 75.

الآيات 69-74

اشارة

{وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُواْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}

من أعمال أهل الکتاب

من هنا تبدأ الآيات بذکر بعض أعمال أهل الکتاب، ثم تنزيه الأنبياء عن أفعالهم، ثم بيان مصيرهم، فمحاولتهم لإضلال الناس عن التوحيد (الآيات 69-71)، ثم إضلالهم عن النبوة (72-74)، ثم فسادهم عملاً (75-77)، ثم تحريفهم الکتاب (78)، ثم تنزيه الأنبياء عن تحريفهم (79-82)، ويعقب ذلك بيان دين الأنبياء ليتبين عدم ارتباط أهل الکتاب بهم عملاً (83-84)، وختاماً مصيرهم في الآخرة (85-91).

69- {وَدَّت} أحبت وأظهرت حبها مهتمّةً {طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} أحبارهم ورؤساؤهم {لَوْ} للتمنيّ أي تمنّوا {يُضِلُّونَكُمْ} عن دينکم بأن

ص: 230

ترجعوا کفاراً، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} فعملهم زيادة في ضلالهم، لأن المُضِلّ ضالٌّ في نفسه وبالإضلال يزداد هو ضلالاً، أو بمعنی أنّ وبال الإضلال يرجع إليهم، {وَمَا يَشْعُرُونَ} تهکّم بهم وبيان إغلاقهم روافد الفهم عن أنفسهم.

70- ثم يقرّعهم الله تعالی علی ضلالهم وعلی إضلالهم، أما ضلالهم فقال: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ} دلائله وحججه في نبوة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وصحة ما نزل عليه {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} تلك الآيات أي تعلمون بها علماً يقينياً، وکذا ترونها بأعينکم.

71- وأما إضلالهم فقال: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ} لماذا تحرّفون وتُخفون، أما التحريف ف {تَلْبِسُونَ} تموّهون {الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ} فتصوّرون للناس الحق باطلاً، {وَ} أما الإخفاء ف {تَكْتُمُونَ الْحَقَّ} لئلا يتّبعه الناس {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق.

72- ومن طرق إضلالهم نصب المکائد للناس {وَ} منها: {قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي أظهروا الايمان بالإسلام کيداً {وَجْهَ النَّهَارِ} أي أوله {وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُۥ} آخر النهار، حتی تُظهروا أنفسکم بمظهر المنصف الذي يبحث عن الحق فلذا آمن صباحاً لکنه لمّا تبيّن له عدم صحته کفر عصراً!! أو آمنوا بما نزل أولاً مما يوافق معتقداتکم کالصلاة إلی بيت المقدس، واکفروا بما نزل آخراً مما يخالفها کالصلاة إلی الکعبة، وبهذه المکيدة {لَعَلَّهُمْ} لعلّ الذين آمنوا أي المسلمون {يَرْجِعُونَ} عن دينهم إلی الکفر.

ص: 231

73- {وَلَا تُؤْمِنُواْ} أي لاتصدّقوا {إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} من أهل الکتاب، أما الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمون فلا تصدّقوهم، {قُلْ} يا رسول الله في ردّهم، {إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ} فإذا أراد الله هداية أحد لم يضرّه کيدکم، فالهداية منه سبحانه.

وإنما لم يصدقوا غير أتباع ديانتهم حسداً وبغياً، مخافة {أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ} من غير بني إسرائيل {مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} من النبوة والکتاب، {أَوْ} مخافة أن {يُحَاجُّوكُمْ} يغلبوکم بالحجة {عِندَ رَبِّكُمْ} فيقولوا: إن هؤلاء کانوا يعلمون أن الإسلام حق ومع ذلك لم يتبعوه، فاکتموا ما تعرفونه من الحق عن هؤلاء لئلا تُؤخذوا بالحجة عند الله تعالی! زعماً منهم أنه تعالی لايعلم أسرارهم وما يُسِرّونه بين أنفسهم! {قُلْ} في جوابهم: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} لذا هو القادر علی أن ينسخ شريعتکم وأن ينزل الکتاب علی غيرکم {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} ممن کانت له القابلية، {وَاللَّهُ وَٰسِعٌ} فضلاً فلا ينفذ فضله بالإعطاء لکم أو لغيرکم، {عَلِيمٌ} بمصالح الخلق لذا يعلم أين يجعل الرسالة، ويعلم بما في قلوبکم.

74- {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} فلا يمکنکم منعه عن إيتائها غيرکم، وهذا الاختصاص إنّما هو لحکمته تعالی، وليس لقلة الفضل أو العجز أو الجهل {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ففضله عظيم فلا يليق إلاّ بمن له قابلية لذلك.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}.

ص: 232

(الودّ) إظهار الحبّ الذي في القلب، کما مرّ، وفيه إشعار بالاهتمام بالأمر والسعي له، وعامة الناس لا اهتمام لهم بدين الناس، وإنّما الذي يهتّم به کبار کل قوم في الدين أو الدنيا، أما کبار الدين فلا يريدون صعود نجم الأديان الأخری، وأما کبار الدنيا فيخافون تزلزل عروشهم لو اتّبع الناس ديناً آخر، وهؤلاء هم الملأ من القوم - أي الذين يملؤون العيون برفعتهم وزينتهم وأتباعهم - وهم الذين کانوا ولازالوا يعارضون الأنبياء وأتباعهم، ولذا کثر ذم أئمة الکفر من الأحبار والرهبان والحکّام، فلذا قال تعالی: {وَدَّت طَّائِفَةٌ} أي مجموعة منهم، وهم هؤلاء، وقوله: {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} للتمني، أي أحبوا ذلك واهتموا به متمنين إضلالکم عن دينکم، برجوعکم کفاراً، بمختلف السبل ولو بالقتال قال تعالی: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَٰعُواْ}(1)، وذلك لحسدهم أولاً، ولخوفهم من غلبة دين الحق عليهم فتزول مصالحهم ثانياً.

الثاني: قوله تعالی: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.

وذلك لجهات:

1- إن المُضِل هو ضالّ في نفسه، وکلّما إزداد إضلالاً زاد ضلالاً وابتعاداً عن الحق وتمسکاً بضلاله، فکأنه لم يضلّ الغير - حتی لو استجاب له - بل أضلّ نفسه.

2- إن هؤلاء لم يتمکنوا من إضلال المسلمين، بل أضلوا أمثالهم من ضعاف أهل الکتاب، فمعنی {أَنفُسَهُمْ} أي أمثالهم

ص: 233


1- سورة البقرة، الآية: 217.

في الدين، أو أمثالهم في طينة سجين.

3- إن الحصر إضافي، وبيان عدم الاهتمام بشأن من ينخدع بهم فکأنه لاوجود له، بل هؤلاء مع علمهم نقصوا حظ أنفسهم باشتراء خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فکأنهم لم يضلوا أحداً إلا أنفسهم.

وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} هذا تحقير لهم وبيان قلة عقلهم، حيث يفعلون ما يضرّهم زاعمين أنه ينفعهم.

الثالث: قوله تعالی: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}.

تقريع لهم بضلالهم وعدم قبولهم الحق مع وضوحه ومع علمهم علماً يقينياً به، فهي آيات لله، وهم يعلمون بها علماً کالمشاهدة.

وقيل: الکفر کفران: کفرٌ بالله وهو إنکار وجوده أو توحيده، وکفرٌ بآيات الله بإنکار شيء من المعارف الإلهية بعد ورود البيان.

والمراد هنا کفرهم بنبوة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) مع مشاهدتهم عياناً لمعاجزه وقرائتهم ماورد في کتبهم من أوصافه واسمه.

وتضمنت الآية بيان سببين لتقريعهم والإنکار عليهم، فهي آيات الله التي هي علائم ودلائل واضحة لاتخفی علی إنسان عادي فکيف بأهل الکتاب، کما أنهم يعلمون الحق ومع ذلك يكفرون به وهذا سبب آخر للتقريع، فالجاهل قد يکون معذوراً، لکن العالم غير معذور أبداً إذا خالف علمه.

الرابع: قوله تعالی: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ...} الآية.

تقريع لهم علی إضلالهم الناس، فهم لم يكتفوا بضلالهم بل يكيدون

ص: 234

طرق الإضلال

لإضلال غيرهم، وطريق الإضلال ثلاثه أمور:

1- التمويه علی الحق، بإظهاره بصورة الباطل، عبر المغالطات والتحريف، کما فعلوه في تحريف کتبهم التي نطقت بصفة الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) واسمه وشريعته.

2- إخفاء الحق، بعدم إظهاره للناس وکتمانه، کما أخفوا القراطيس من التوراة والإنجيل الدالة علی نبوة محمّد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

3- المکائد، وقد تضمنت الآية التالية نموذجاً منه.

قوله: {تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَٰطِلِ} من (اللَبس) بالفتح بمعنی التمويه الذي يوجب الاشتباه والخطأ، أو من (اللُبس) بالضم بمعنی إلباس الحق لباس الباطل لکي يزعم الناس أنه باطل، ومن ذلك زعم المعاجز أنها سحر، أو تحريف الکتاب في أوصاف النبي بأنه أشقر وأنه سيظهر بعد خسمائة سنة وأنه من بني إسرائيل وأمثال ذلك مما مرّ ذکره في سورة البقرة.

وقوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} فيما لم يمكن اللبس فيه، وذلك عبر إخفائه لئلا يصل إلی الناس.

وقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} بذلك الحق، وهذا بيان سبب لومهم وتقريعهم، کما مرّ في الآية السابقة، وقيل: الآية السابقة في عدم اهتدائهم بالآيات الواضحات من المعاجز ولذا أتمّها بقوله: {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}، وهذه الآية في عدم اهتدائهم بما في کتبهم ولذا أتمّها بقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

الخامس: قوله تعالی: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ...} الآية.

بيان لنموذج من مکائدهم في إضلال الناس وصرفهم عن الحق، وهي

ص: 235

طريقة واحدة ولها مصداقان:

1- أن يأتوا إلی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ويعلنوا إسلامهم، ليظهر للناس أنهم منصفون لذا دخلوا في الإسلام وترکوا دينهم، ثم بعد فترة وجيزة يعلنون ارتدادهم لاکتشافهم أن الدين ليس بحق، فيموّهوا علی الناس أن المنصفين ترکوا الدين وأنه لو کان حقاً لما ترکه هؤلاء!! وبذلك يتمکنون من إضلال الناس بإرجاعهم عن الدين الحق.

2- أن يؤمنوا بما يتوافق مع دينهم، وأن يرفضوا ما خالفه، وبذلك يبيّنون للناس إنصافهم بطريقة أخری بأنهم يقبلون الحق حتی لوجاء من غيرهم ويرفضون ما سوی ذلك، وقد روي في شأن نزول الآية أن تغيير القبلة کان في صلاة الظهر، فقالوا آمنوا بالقبلة التي کانت في النصف الأول من اليوم باتجاه بيت المقدس، واکفروا بالقبلة التي جائت بعد ذلك في النصف الثاني باتجاه الکعبة(1).

ولا منافاة بين الأمرين، لأن شأن النزول لايخصص الآية، بل هي عامة في کيدهم ومن مصاديقه ذلك وغيره مما تنطبق الآية عليه.

وعلی الأول يکون {وَجْهَ النَّهَارِ} متعلق ب {ءَامَنُواْ}، و{ءَاخِرَهُۥ} ب {وَاكْفُرُواْ}، وعلی الثاني يکونان متعلقين ب {أُنزِلَ}.

وفي الآية تلميح بعلمهم بالحق ومع ذلك کانوا ينکرونه، حيث قال عنهم: {بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فهم يعترفون بأنه منزل من الله وليس مختلق، کما في قوله في آيات القبلة: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَيَعْلَمُونَ

ص: 236


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 427-428، عن تفسير القمي.

أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ}(1).

السادس: قوله تعالی: {وَلَا تُؤْمِنُواْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ...} الآية.

هذا من تتمة الآية السابقة، أي إيمانکم وجه النهار بما أنزل علی الذين آمنوا هو إيمان صوري لاتصديق فيه ولا إذعان بل يراد منه المکيدة ولذا ترتدون عنه آخر النهار، أو هو إيمان بما وافقکم لابما خالفکم، لکن تصديقکم وإذعانکم الحقيقي ليكن لمن هو علی دينکم من الأحبار والرهبان والحکّام، فقولهم: {وَلَا تُؤْمِنُواْ} بمعنی لاتصدّقوا ولذا تمت تعديته باللام فقال: {إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ}، فإن الإيمان إن عُدِّي بالباء کان بمعنی الإذعان، وإن عُدِّي باللام کان بمعنی التصديق، کما قال: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}(2).

وحيث إن غرضهم من هذه المکيدة ومن اللبس والکتمان هو إضلال الناس لذلك أجابهم الله تعالی بقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ} فمکيدتهم لاتمنع هداية من يريد الله هدايته، أو بيان أن إيمانهم وجه النهار خداعاً ليس إيمانَ هدايةٍ لأنه من النفس الأمارة بالسوء، بل إيمانُ الهداية هو من الله، لذا هو حق لاباطل فيه ولاکيد ولاخداع، وهذه الجملة أي {قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ} جملة معترضة في وسط کلامهم، استباقاً للجواب وتثبيتاً لقلوب المؤمنين، ثم بعد ذلك ترجع الآية إلی تتمة کلماتهم مع دحضها.

فقوله: {أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ...} وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ...} من تتمه کلامهم

ص: 237


1- سورة البقرة، الآية: 144.
2- سورة التوبة، الآية: 61.

حيث قالوا: {وَلَا تُؤْمِنُواْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} وعلّلوا ذلك بأمرين:

1- {أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} أي مخافة ذلك، فإنکم إن آمنتم بدين هؤلاء فقد أقررتم بأن الوحي نزل علی غيرکم، وأن لغيرکم النبوة أيضاً، فلذا أ ُکفروا به لتنحصر النبوة والکتاب فيكم!!

والجواب في قوله تعالی: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} أي إنکارکم لايغير من الواقع شيئاً، فسواء آمنتم أم کفرتم فقد آتی الله رسوله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) النبوة والکتاب کما آتی موسی وعيسی (عليهماالسلام) ذلك.

2- {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} أي مخافة ذلك، بمعنی أنکم إذا صدّقتم بنزول الوحي والکتاب علی غيرکم مع عدم اتّباعکم له، فقد أعطيتم لهؤلاء الحجة عليكم، ففي يوم القيامة يشهدون بأنکم خالفتم الحق مع علمکم به!!

والجواب في قوله: {وَاللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ} أي إن الله عليم بنواياکم، فسواء أقررتم أم أنکرتم فإنه سبحانه يعلم بذلك فيحاسبکم عليه يوم القيامة، قال سبحانه: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٖ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}(1).

السابع: قوله تعالی: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} إلی قوله: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

تضمنت الآيتان - في معرض الردّ علی مزاعمهم - علی عدة من المعارف.

1- {الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} فإن النبوة وإنزال الکتاب فضل من الله وليسا حقاً

ص: 238


1- سورة البقرة، الآية: 76-77.

لأحد ليحصر ذلك الحق بنفسه، فکما آتی الله بني إسحق الحکم والنبوة فيما مضی، کذلك يؤتيها لبني إسماعيل ببعث نبي منهم.

2- {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} فلا تحديد لقدرته، ولا أنه في مشيئته تابع لأهواء هؤلاء، بل هو تعالی بحکمته ومشيئته يختار للنبوة من اصطفاه فکان قابلاً لها، قال سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ}(1)،

وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).

3- إنه {وَٰسِعٌ} ففضله عميم وقدرته غير محدودة بحدّ، فلا ينفذ فضله بإعطاء فضلٍ لأحد، وإنه {عَلِيمٌ} بأحوال عباده لذا يعلم بمن هو قابل لذلك الفضل ممن لم يكن قابلاً له، فصحيح أنه لاينقصه شيء بالفضل علی المخلوقات، لکنه عليم بمواقع ذلك الفضل بحکمته، فلذا لايفعل ما يخالف الحکمة.

4- ولذلك {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} ممن هو قابل لها، لا لعدم سعة الرحمة، بل لحکمته وعلمه، فإنه سبحانه {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} لذا لابد من إنزال هذا الفضل علی من يتحمّله ويکون قابلاً له، فقوله: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} کالعلة لقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ}.

ص: 239


1- سورة الأنعام، الآية: 124.
2- سورة القصص، الآية: 68.

الآيات 75-77

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَٰئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي الْأخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}

75- وکفر هؤلاء بسبب حبّهم للدنيا وحبهم التفوّق علی غيرهم، ولذا تکثر فيهم الخيانة والتکبر، {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} بعضهم {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ} تجعله أميناً {بِقِنطَارٖ} المال الکثير ملء جلد ثور ذهباً ومجوهرات {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يردّه عليك حين مطالبته، {وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٖ} وهو مال قليل {لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} بالإنکار أو المماطلة {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} تطالبه بشدة وعنف، {ذَٰلِكَ} أي فعل الطائفة الثانية بترك الأداء {بِأَنَّهُمْ} أي ناشٍ عن عنصريتهم وکذبهم علی الله، ف {قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ} الذين لاکتاب لهم والمقصود العرب {سَبِيلٌ} أي ليس لهم سبيل علينا في الشرع ولايتمکنون من مطالبتنا بحقهم يوم القيامة فهذا من عنصريتهم، {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بنسبة هذا الباطل إليه تعالی وهذا

ص: 240

من تحريفهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بأنهم يكذبون، فجريمتهم أعظم.

76- {بَلَىٰ} لهم عليكم سبيل، أو بلی لم يأذن الله في الخيانة بل أوجب أداء الأمانه، ف {مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ} عهد نفسه أو عهد الله ومنه أداء الأمانه {وَاتَّقَىٰ} المحرمات أو النار {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} يجازيهم بأحسن الجزاء.

77- ويقابلهم الخائنون ف {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} يستبدلون {بِعَهْدِ اللَّهِ} وهي أوامره ونواهيه {وَأَيْمَٰنِهِمْ} حيث أخذ الله ميثاقهم بتصديق رسوله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ونصره فحلفوا علی ذلك، فکان يجب عليهم الوفاء به لکنه استبدلوه بأن أخذوا بدله {ثَمَنًا قَلِيلًا} رئاسة ومالاً دنيوياً زائلاً {أُوْلَٰئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ} أي لانصيب لهم من الثواب {فِي الْأخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} بکلام يسرّهم کناية عن غضبه عليهم، {وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} کناية عن عدم شمول لطفه وإحسانه لهم، {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} بأن يطهرّهم من ذنوبهم بالمغفرة أو لايمدحهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ...} الآية.

الظاهر أن هذه الآيات بصدد بيان سبب کفرهم بآيات الله ولبسهم الحق بالباطل وکتمانهم الحق ومحاولتهم إضلال المؤمنين، مما هو مذکور في الآيات السابقة، والأسباب هي:

1- عنصريتهم واعتبارهم أنفسهم أعلی من غيرهم، ولذا لايراعون في غيرهم إلاًّ ولاذمة، ويزعمون أن الأحکام لهم دون غيرهم، وأثر ذلك هو أن يجوزوا سرقة أموال غيرهم بالخيانة أو غيرها.

ص: 241

ثم يفترون علی الله الکذب بنسبة هذه الأباطيل إليه وأنه هو الذي شرّعها!

2- طلبهم الدنيا برئاستها الزائلة وأکلتها، زعماً منهم أن قبولهم للحق يزيل متاع الدنيا عنهم.

لکن وبال ذلك يرجع إليهم فيخسروا الآخرة ويستحقوا اللعن الأبدي من الله تعالی.

ثم إن تصدير الآية بأمانة بعض أهل الکتاب، بيان للواقع حيث إن القليل منهم ذونفسية عالية ولذا آمن کعبدالله بن سلام، وتحريض للآخرين ليحذوا حذوهم، وأيضاً بيان کذب الطائفة الثانية، لأنه لو کانت خيانة غيرهم من دين الله فلماذا هذا البعض يؤدي الأمانة الکبيرة!! فهذا المقطع في الواقع کالمقدمة وکالعِلة لبيان الغرض الأصلي من هذه الآيات وهو خيانة الکثير منهم حيث خانوا الله فلا وازع لهم من خيانة الناس.

قوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} أي إلاّ مدة قيامك علی رأسه تطالبه بشدة بحيث يخافك ويضطر إلی أداء الأمانة، وفي الآية تلميح بعدم الاعتماد عليهم وأخذهم بالقوة لئلا يذهبوا بالحقوق کما قال تعالی: {حَتَّىٰ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٖ وَهُمْ صَٰغِرُونَ}(1)،

لأنهم بمجرد شعورهم بضعف الطرف الآخر ينقضون العهود والمواثيق، وإنّما يلتزمون بها لا بوازعٍ من دين أو ضمير وأخلاق بل خوفاً، وفي الآية تلميح بلزوم مراقبتهم مادام هناك حق عليهم أن يؤدّوه، وعدم الوثوق بهم.

الثاني: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا...} الآية.

ص: 242


1- سورة التوبة، الآية: 29.

أي سبب عدم أداء الأمانة هو الفرية علی الله تعالی بإباحة أموال غير أهل الکتاب، فکأنهم لم يعتبروهم بشراً فأباحوا أموالهم.

ولايخفی أن العقيدة هي أساس حرکة الإنسان في حياته، وعامة الأعمال تؤطِّرها العقيدة، ولذا کان ترکيز الأنبياء علی تصحيح عقائد الناس، ومن ذلك تنطلق الأعمال الصالحة، ومن سوء العقيدة تنشأ الأعمال الفاسدة، بل التطور والرقي والکمال أو التسافل والهوي ترتبط بالمنهج الفکري الذي يتبعه الإنسان، فإذا صحت العقيدة من کل الجهات صحّ العمل من کل الجهات، وإن صحت من جهة دون جهة تبعتها الأعمال أيضاً فتصح في الجهة المرتبطة بالصحيحة وتفسد في عکسها، وأما عصاة المسلمين فسبب عصيانهم ضعف عقيدتهم وعدم يقينهم قلباً وإن کانوا يقرّون لساناً.

وقوله: {فِي الْأُمِّيِّينَ} قد مرّ أن (الأمي) منسوب إلی «أم القری»، أو إلی «الأم» وهو الذي لم يتعلّم عند أحد، وهذا الوصف وصف عامة العرب، فهم لم يتعلّموا عند أحد، فلم يکونوا يعرفون القراءة والکتابة، وأما الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلم يتعلم عند أحد فهو أمي، لکنه کان يعرف القراءة والکتابة بالإعجاز بتعليم من الله تعالی.

وقوله: {سَبِيلٌ} أي لاسلطة لهم شرعية علينا فلذا لايتمکنون من مطالبتنا في الآخرة بحقهم.

وقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أي للتغطيه علی خيانتهم وتبريراً لمقولتهم ينسبونها إلی الله تعالی، فکأن خيانتهم قد أمر الله بها!! نظير المشركين، قال تعالی: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ

ص: 243

أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}(1).

ثم لعل قوله: {وَيَقُولُونَ}، بالواو لا بالفاء «فيقولون» لتعميم حالتهم في الکذب علی الله تعالی، فيکون المعنی هم يخونون الناس في أموالهم، ويخونون الله في الکذب عليه سبحانه.

الثالث: قوله تعالی: {بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ...} الآية.

{بَلَىٰ} نفي لما قبله وإثبات لما بعده، أي بلی يوجد سبيل عليكم، فيحاسبکم الله تعالی يوم القيامة علی خيانتکم الأمانات، وکذا في الدنيا، فعليكم الوفاء بعهدکم مع الناس بأداء الأمانه، والوفاء بعهد الله بالتقوی، وحينئذٍ لاسبيل عليكم، کما قال تعالی: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٖ}(2).

وقوله: {بِعَهْدِهِ} أي بعهد نفسه مع الناس ومنه أداء أمانتهم، وأمّا الوفاء بعهد الله فقد قال عنه {وَاتَّقَىٰ}، أو يقال: الوفاء بالعهد أداء الواجب، والتقوی ترك الحرام، وحينئذٍ يصح إرجاع ضمير {بِعَهْدِهِ} إلی الله أي وفى بعهد الله الذي منه أداء أمانة الناس.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي فإن الله يحبه، وجعل المتقين موضع الضمير للإشارة إلی علة حبّ الله تعالی له وهو تقواه، فليس المِلاك العِرق أو القومية أو النسب بل المِلاک هو التقوی، کما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(3).

ص: 244


1- سورة الأعراف، الآية: 28.
2- سورة التوبة، الآية: 91.
3- سورة الحجرات، الآية: 13.

و(حب الله) بمعنی ثوابه، لأنه سبحانه ليس محلاً للحوادث ولا کيف له، بل يُثيب المتقي وذلك حبّه، ويُعاقب العاصي وذلك غضبه.

ثم إن نوعية هذا الثواب تظهر من المقابلة مع الصنف الآخر کما سيأتي في الآية التالية، فهؤلاء لهم نصيب في الآخرة من ثواب الله والجنة، ويكلّمهم الله بما يسرّهم، وينظر إليهم نظرة رحيمة، ويزکيهم بتطهيرهم من الذنوب بالغفران وبمضاعفة أعمالهم، ولهم ثواب عظيم.

الرابع: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ...} الآية.

هذا تفصيل لما ذکره تعالی في قوله: {بَلَىٰ} أي بلی يوجد عليكم سبيل، مع بيان سبب السبيل، وهو مخالفة عهد الله وتبديله بمتاع قليل من الحياة الدنيا، وعدم الوفاء بالعهد، وأمّا تفصيل السبيل فهو:

1- لاخلاق - أي لانصيب - لهم في ثواب الآخرة.

2- لايكلّمهم الله بکلام يسرّهم، وهذا کناية عن غضبه عليهم، بل الکلام الذي يسمعونه تقريع وذم، قال: {قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}(1).

3- ولاينظر إليهم، کناية عن عدم إنزال رحمته عليهم.

4- ولايزکيهم، من الزکاة إمّا بمعنی الطهارة، فالمعنی لايغفر لهم ذنوبهم ليطهروا منها، وإمّا بمعنی النمو أي لايضاعف أعمالهم الحسنة بل يحبطها ويجعلها هباءً منثوراً.

5- ولهم عذاب أليم في النار.

فهذه خمس عقوبات لهم، الأول والثالث بعدم الثواب من الجنة والرحمة،

ص: 245


1- سورة المؤمنون، الآية: 108.

والثاني بعدم قربهم وعدم احترامهم لذا لايكلمهم بما يسرهم، والرابع بعدم الغفران لهم، والخامس بعذاب النار، والحاصل لاقرب لهم ولاثواب ولاغفران بل لهم العذاب، وقد مرّ بعض التفصيل في سورة البقرة، الآية 174 فراجع.

وقوله: {وَأَيْمَٰنِهِمْ} جمع يمين، بمعنی القَسَم والحلف، حيث أقسموا بالله لنصرة رسوله والإيمان به، أو عامة أيمانهم ثم حنثوا اليمين وعادوا الرسول، قال تعالی: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}(1).

ثم إن قوله: {فِي الْأخِرَةِ} في العقوبة الأولی، وقوله: {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} في العقوبة الثانية والثالثة، ولم يذکر قيد في العقوبة الرابعة والخامسة، ولعل ذلک لأنهم طلبوا ثمناً في الدنيا فقابله بأنه لانصيب لهم في الآخرة، ثم بيان حالهم في يوم القيامة بعدم کلام الله معهم وبعدم نظره إليهم لأن رحمته في الآخرة خاصة بالمؤمنين عکس رحمات الدنيا، ثم بيان حالهم في الدنيا والآخرة بعدم تزکيتهم وبأنهم في عذاب أليم، فالله لايثني عليهم بل يذمهم في کتابه، ولا يغفر لهم ذنوبهم فيعاقبهم في الدنيا والآخرة، ثم إن إعراضهم عن العهد والايمان يسبب صعوبة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، کما قال: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(2)، وقال: {قَٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}(3).

ص: 246


1- سورة آل عمران، الآية: 187.
2- سورة التوبة، الآية: 55.
3- سورة التوبة، الآية: 14.

الآيات 78-80

اشارة

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُۥنَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَٰبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَٰئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80)}

78- ومن جرائم هؤلاء هو تحريف الکتاب ليغطوا علی باطلهم وعدم اتّباعهم الحق {وَإِنَّ مِنْهُمْ} من أهل الکتاب {لَفَرِيقًا} من الأحبار والرؤساء {يَلْوُۥنَ} من لَوی يلوي بمعنی الفتل والميل {أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَٰبِ} أي بقراءة الکتاب، والمراد يحرفون الکتاب ثم يقرؤون المحرف، فوصف اللسان باللوي وصف باعتبار المتعلّق، قيل: لعلّهم کانوا يقرؤونه باللحن الخاص بقرائة الکتاب، {لِتَحْسَبُوهُ} لتظنوه {مِنَ الْكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَٰبِ} أي والحال أنه ليس من الکتاب، ثم هؤلاء لايكتفون بالقرائة بل {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} فيصرحون بذلك الافتراء تأکيداً، {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} ردّ عليهم وزيادة تشنيع، {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في مضمون ما حرّفوه وفي نسبته إلی الله تعالی {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بأنه کذب.

ص: 247

79- وکما کذبوا علی الله تعالی کذلك کذبوا علی أنبيائه فزعموا أن الشرك نزل في الکتاب ودعت إليه الأنبياء، ولکن کذبوا ف {مَا كَانَ} لايحق بل ولا يمکن {لِبَشَرٍ} مخلوق {أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ} أي الحکمة أو الشريعة أو السلطة {وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي} اعبدوني {مِن دُونِ اللَّهِ} فهذا ليس من حق البشر النبي، ولا يمکن ذلك لأن الله يصطفي للنبوة والکتاب والحکم، ومن اصطفاه الله يستحيل أن يدعو الناس إلی عبادة نفسه، {وَلَٰكِن} اللازم علی هذا البشر النبي والذي ينبغي له أن يقول: {كُونُواْ رَبَّٰنِيِّينَ} الرباني هو المنسوب إلی الرب بمعنی شديد الاختصاص به وذلك بشدة عبادته {بِمَا} أي بسبب أنکم {كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَٰبَ} لغيرکم فالمعلّم ينبغي أن يکون أول عامل بما يعلّمه {وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} أي تتعلمون الکتاب وتکررون قراءته، فالعالم المعلّم هو الذي يعلم بأنه لاتجوز عبادة غير الله.

80- {وَلَا} يکون لهذا البشر النبي أن {يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَٰئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} جمع رب، فلا يدعو لعبادة نفسه، ولا يدعو لعبادة الملائکة أو أنبياء آخرين، بل يدعو لعبادة الله الواحد الأحد {أَيَأْمُرُكُم} استفهام إنکاری أي هل يمکن أن يأمرکم هذا البشر النبي {بِالْكُفْرِ} عبر الإشراك في العبادة {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} منقادون لله تعالی بالإخلاص في عبادته؟!

تحريف أهل الکتاب للتوراة

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُۥنَ أَلْسِنَتَهُم...} الآية.

بعد بيان لبسهم الحق بالباطل وکتمانهم الحق، ومحاولة خداعهم

ص: 248

للمؤمنين، وخيانتهم لله وللناس، يأتي بيان جريمة أخری هي تحريفهم للکتاب تغطية علی أفعالهم وتبريراً لتبديلهم عهد الله تعالی، وهذه من أکبر الجرائم، لأنها تلاعب بعقائد الناس وإضلالهم وتعدي علی کتاب الله تعالی، وقد شنّع الله تعالی عليهم لعظم الجريمة وتحذيراً للناس من الاغترار بهم وبأمثالهم، ثم بيان الدليل العقلي علی بطلان المطالب التي أدخلوها في الکتاب، وفي ذلك حث وتحريض لاستعمال العقول فيما ينسب إلی الله تعالی من أمور، إذ الله جعل العقل حجة باطنة، فکل کلام يخالف العقل باطل، فنسبته إليه تعالی زور وافتراء، ولذا کثرت الآيات المادحة للعقل والعقلاء والتعبير عنهم بأولي الألباب، و(اللب) هو العقل الخالص عن شوائب الأوهام والتقليد الأعمی، وليس الحجة المغالطات والأوهام التي يسيمها البعض عقلاً، بل (اللب) الخاص، کما هو واضح، قال تعالی: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1)،

وقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(2)، وقال: {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}(3)، وقال: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَٰبِ السَّعِيرِ}(4)، وقال: {ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(5)، وقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَٰبِ}(6)، وغيرها آيات کثيرة، ففي هذه الآية (78) يبين الله تعالی تحريفهم للکتاب، ثم في

ص: 249


1- سورة البقرة، الآية: 44.
2- سورة البقرة، الآية: 73.
3- سورة آل عمران، الآية: 118.
4- سورة الملك، الآية: 10.
5- سورة الجاثية، الآية: 5.
6- سورة الزمر، الآية: 9.

الآية التالية (79) بيان الوجه العقلي لبطلان ما أفتروه علی الله تعالی.

قوله: {لَفَرِيقًا} هم الأحبار والرهبان والرؤساء الذين کانت التوراة والأنجيل بيدهم.

وقوله: {يَلْوُۥنَ} من لوی يلوي ليّاً، يقال: لَوی يده أي طواها وفتلها، وفي التقريب: کما أن لَيّ الشيء يخرجه عن الاستقامة - بالزيادة في جانب والنقيصة في جانب آخر - کذلك ليّ اللسان بالکتاب(1)، وفي کيفية ليّ ألسنتهم وجهان:

1- أنهم کانوا يقرؤون المحرّف بلحن قراءة الکتاب - بالترتيل والتجويد مثلاً - فيظن الجاهل أنه من الکتاب، ثم بعد ذلك کانوا يصرحون بأنه منه.

2- أو الليّ باعتبار المتعلَّق، أي کانوا يحرّفون الکتاب ثم يقرؤون هذا المحرّف علی أنه من الکتاب، فلم يكن طوياً للّسان بل طوياً للمقروء، وصحّ نسبة الليّ إلی اللسان مجازاً باعتبار المتعلَّق کما يقال: جری الميزاب، أي جری الماء في الميزاب.

وقوله: {بِالْكِتَٰبِ} قيل: کرر الکتاب ثلاث مرات من غير إرجاع الضمير في الثانية والثالثة، لأن الکتاب الأول أريد به المحرّف، والثاني أريد به الکتاب الحق، وأما الثالث فهو الکتاب الحق لکن لم يرجع الضمير إليه لئلا يتوهم رجوعه إلی الأول.

ويمکن أن يکون الإظهار وعدم استعمال الضمير لأجل أهمية الموضوع، وأن المحور هو الکتاب حيث حرفوه وأرادوا أن يلبسوا عليكم

ص: 250


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 359 (بتصرّف).

تحريفهم فيه، مع أنه ليس منه، وحيث کان المحور الکتاب مع أهميته البالغة لذا تمّ التصريح به في کل الموارد من دون إضمار.

الدليل العقلي علی بطلان تحريفهم

قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} أي لم يكتفوا بقراءة المحرّف فقط، بل زادوا علی افترائهم کذباً بأن صرّحوا بأنه نازل من عند الله تعالی.

ثم يردّهم الله تعالی بأنه ليس نازلاً من عند الله بل هؤلاء يكذبون متعمدين، والرد يتضمن أمرين:

أولاً: هذا المحرّف ليس من عند الله، وهذا يتعلّق بالکلام المحرّف.

وثانياً: تکذيبهم في ادّعائهم، بأنه لم يكن خطأً غير مقصود، بل کذب متعمد عن قصد، وهذا يتعلّق بهم، والحاصل لاالمحرّف من عند الله، ولا هؤلاء مخطئون بل متعمدون للکذب.

الثاني: قوله تعالی: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ...} الآية.

هذا کالدليل العقلي علی بطلان تحريفاتهم وما نسبوه زوراً وبهتاناً للأنبياء (عليهم السلام) وتنزيه لهم عن هذه الأقاويل.

فإن من أعظم إفتراءاتهم هو الشرك بالله تعالی مع نسبته إلی الکتاب وإلی الأنبياء (عليهم السلام) ، والبرهان يتضمن أمور:

1- إن الأنبياء بشر، ولايعقل ألوهية البشر، فأيّ فرق بينه وبين سائر الناس في الجانب البشري؟ فهو لم يكن ثم کان، وتعرض عليه الحالات البشرية من النمو في الرحم ثم الولادة طفلاً، ثم النمو التدريجي، مع الحاجة إلی الطعام والشراب، وعروض الحالات البشرية من المرض والصحة، والکهولة والشيخوخة... الخ، فهو يحتاج إلی کل هذه الأمور کغيره من الناس،

ص: 251

فکيف يعقل أن يکون إلهاً، مع أن الإله هو الغني المطلق الذي لايحتاج إلی شيء لافي وجوده فهو قديم أزلي أبدي، ولا في صفاته ولا في أفعاله!!

ولئن کانت للأنبياء والأوصياء معاجز وکرامات وکانوا أفضل الناس، فإن ذلك بسبب اصطفاء الله تعالی لهم وإذنه لهم في تلك المعاجز والکرامات، وذلك لايخرجهم عن حدّ البشرية، کما قال تعالی: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ}(1)، والحاصل أن الترکيبية الجسدية بشرية لذا لايعقل کونهم آلهة، نعم اصطفاهم الله فهم أفضل من سائر البشر في کل الجهات وقد مرّ تفصيل التفاضل في سورة البقرة فراجع.

2- إن الله حکيم فلا يختار لحمل الکتاب والحکم والنبوة إلاّ من هو لائق لها وذلك باصطفائه، فلا يعقل أن يدعي هذا الشخص أمراً غير معقول من کونه إلهاً فيدعو الناس إلی عبادته!!

3- إن نفس إيتاء الکتاب والحکم والنبوة سبب للعلم ولارتقاء النفس إلی أقصی درجات الکمال، فلا يعقل حينئذٍ التسافل إلی درجه إدّعاء الشرك.

4- إن الله يختار الأنبياء لهداية الناس لا لإضلالهم، فهل يعقل أن يختار الکاذب؟!

5- إن الذين يدّعون الشرك لأنفسهم ويدعون إليه، هم أناس يبحثون عن مصالح مادية زائلة ورئاسة فانية، أما الأنبياء فقد آتاهم الله أعلی الدرجات والفضائل من الکتاب والحکم والنبوة، فأية حاجة لهم إلی

ص: 252


1- سورة الکهف، الآية: 110.

الدعوة إلی عبادة أنفسهم؟ بل إيتاء هذه الثلاثة سبب لرفع درجاتهم زيادة علی الاصطفاء.

والحاصل أن بين امتلاك هذه الصفات الثلاث وبين الدعوة إلی الکفر تباين وتنافي، فلا يعقل الجمع بينهما أبداً، وعليه فقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ...} ليس في مقام النهي التشريعي أي يحرم عليه ذلك، بل في مقام استحالة ذلك فهو إخبار عن عدم تحققه أبداً.

وقوله: {أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَٰبَ} أي ينزل عليه الکتاب، فدرجة تلقي الوحي درجة عظيمة لاينالها إلاّ من اصطفاه الله تعالی فبلغ أقصی درجات الکمال والمعرفة والعبودية لله.

وقوله: {وَالْحُكْمَ} أي الحکمة أو الشريعة أو الفصل بين الناس ومن کان حکيماً عالماً صالحاً للفصل بين الناس يمتنع عليه إدّعاء الباطل في أهم الأمور.

وقوله: {وَالنُّبُوَّةَ} هي منصب إلهي تحتاج إلی نفسية عاليه رفيعة بالعلم والعمل والعبودية لله تعالی.

وقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} سواء بتخصيص العبادة بنفسه، أو إشراك نفسه مع الله في العبادة، وذلك لأن عبادة المشرك ليست عبادة لله تعالی، لأنه سبحانه لايقبل هذه العبادة، وهي تبعّد عن الله ولا تقرّب إليه، فلا فرق بين تخصيص العبادة لغير الله أو عبادة غير الله معه، فکلاهما عبادة من دون الله سبحانه.

وبعبارة أخری: عبادة غير الله مع الله تجعل العبادة باطلة غير مقبوله ولا

ص: 253

مقرّبة فصارت عبادة من دون الله.

وبعبارة ثالثة: عبادة من له شريك ليست عبادة لله بل هي عبادة لما توهّمه في ذهنه.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّينَ...} الآية.

أي لکن کانوا يقولون للناس {كُونُواْ رَبَّٰنِيِّينَ}، وفي (الرباني) احتمالان:

1- منسوب إلی (الرب)، والألف والنون من زيادة النسبة، کما يقال: جسماني وروحاني نسبة إلی الجسم والروح - إن صحّت - .

2- منسوب إلی (ربّان)(1)

مثل عطشان، بمعنی التدبير والإصلاح، وفي مجمع البيان: يقال: رَبَّ فلان أمره ربابة وهو ربّان، إذا دبّره وأصلحه(2)، ولذا يقال لقائد السفينة الربّان باعتبار تدبيره لأمرها.

والمعنی علی الأول: کونوا منسوبين إلی الرب تعالی، بشدة الاختصاص به، وذلك يستلزم الکمال في العلم والعمل، ومنه إرشاد الناس إلی التوحيد وعبادة الإله الواحد الأحد الفرد.

والمعنی علی الثاني: کونوا مصلحين بالدعوة إلی التوحيد، لامفسدين بالدعوة إلی الشرك.

وقوله: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} بيان لسبب کونهم ربانيين، وذلك السبب هو التعليم والتعلّم، والمعنی أن کونکم علماء يقتضي أن

ص: 254


1- مفردات الراغب: 336.
2- مجمع البيان 2: 495.

تکونوا ربانيين، کما قال تعالی: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(1).

قيل: تکرار {كُنتُمْ} لافادة کفاية کل واحد منهما.

وقوله: {تَدْرُسُونَ} بمعنی تکرار القراءة، وأصل الکلمة من التعهّد للشيء إلی أن يمحی أو يبلي، يقال درست الديار إذا خربت فبقي أثرها، ودرس الثوب إذا بلي، وتکرار قراءة الکتاب سبب لدروسه وانمحائه.

والحاصل: إن معلّم الکتاب العالم به لابد أن يکون ربانياً يدعو إلی التوحيد.

وفي هذا المقطع دعوة إلی تعليم الکتاب وتعلّمه، لئلا يخدع الإنسان بما يقوله الأحبار والرهبان، وکذا المسلمون لابد أن يتعلّموا القرآن ويعلّموه لئلا يخدعهم أصحاب الأهواء الباطلة، فلذا صرّح الفقهاء بوجوب معرفة الدليل علی أصول العقائد وعدم صحة التقليد فيها، وإنّما التقليد في الأحکام ولابد أن يکون المقلَّد فقيهاً عادلاً.

الرابع: قوله تعالی: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَٰئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ...} الآية.

{لَا يَأْمُرَكُمْ} عطف علی {أَن يُؤْتِيَهُ} أي: وما کان لبشر أن يأمرکم باتخاذ الملائکة والنبيين أرباباً من دون الله.

أو عطف علی {يَقُولَ لِلنَّاسِ} و{لَا} للتأکيد، أي ما کان لبشر أن يقول للناس کونوا عباداً لي، ولا أن يأمرکم باتخاد أرباب آخرين، فالمعنی النبي لايدعو لعبادة نفسه، کما لايدعو لعبادة سائر المخلوقات من الملائکة والأنبياء، فلا تجوز عبادة روح القدس لأنه ملك مخلوق هو جبرئيل (عليه السلام) ،

ص: 255


1- سورة فاطر، الآية: 28.

ولا تجوز عبادة عيسی (عليه السلام) لأنه مخلوق، ولم يدعُ لعبادة نفسه، ولا دعا إلی عبادته نبي آخر کيحيی (عليه السلام) ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، نعم البعض حرفوا الکتاب ونسبوا إلی عيسی (عليه السلام) أنه دعا لعبادته، أو دعا إلی عبادة روح القدس، أو أنبياء آخرون دعوا إلی عبادته، وکل ذلك افتراء وبهتان.

الخامس: قوله تعالی: {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

هذا استنکار لما نسبوه إلی الأنبياء، مع بيان سبب الإنکار، وهو أن عبادة غير الله کفر، فکيف يدعو إليه الأنبياء بعد دعوتهم إلی الانقياد لله الواحد الأحد؟!!

وقوله: {أَيَأْمُرُكُم} أي البشر الذي آتاه الله الکتاب والحکم والنبوة.

وقوله: {مُّسْلِمُونَ} بمعنی منقادون إلی الله تعالی، فالنبي دعاکم إليه فآمنتم بالله، وهذه مهمة النبي، فکيف يتراجع عنها ويدعوکم إلی الکفر؟! وفي التبيين: فإن قول الأنبياء للناس: آمنوا، يسبّب إسلامهم، فکيف يقولون لهم أ ُکفروا؟!(1)

ص: 256


1- تبيين القرآن: 71.

الآيتان 81-82

اشارة

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُۥ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ الشَّٰهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ (82)}

81- بعد ذکر التوحيد يأتي ذکر النبوة - التي هي الأصل الآخر من أصول الدين - ، فالمحرّفون من أهل الکتاب کما حرّفوا في التوحيد کذلك فرّقوا بين الرُسل، فخالفوا بذلك العهد الذي أخذه منهم أنبيائهم {وَإِذْ} أي أذکر الوقت الذي {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ النَّبِيِّينَ} أخذه منهم ومن أممهم بواسطتهم، و«الميثاق» العهد الأکيد {لَمَا} «اللام» لتوطئة القسم، و«ما» شرطية، أي أَخَذ ميثاقهم إذا {ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ} «من» بيانية، {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} من بعدکم {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} من الکتاب والحکمة، لأن أنبياء الله تعالی يصدّق بعضهم بعضاً وهذا من علائم صدق النبي اللاحق، {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} وهذا جزاء الشرط، فالمعنی إذا أنزلت عليكم الکتاب والحکمة ثم جاء رسول من بعدکم يلزم عليكم الإيمان بهذا الرسول، {وَلَتَنصُرُنَّهُۥ} وذلك ببشارة أمتکم به ودعوتکم إياهم لتصديقه، {قَالَ} الله تأکيداً للميثاق: {ءَأَقْرَرْتُمْ} أي هل اعترفتم أيها الأنبياء؟ {وَ} هل {أَخَذْتُمْ} من أممکم {عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ} الايمان والنصر {إِصْرِي} عهدي الأکيد والشديد؟

ص: 257

{قَالُواْ} الأنبياء: {أَقْرَرْنَا} نحن الأنبياء، {قَالَ} الله: {فَاشْهَدُواْ} علی أممکم بأنکم بلّغتموهم، فمنهم من أقرّ، ومنهم من أنکر، {وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّٰهِدِينَ} علی أممکم، أو عليكم وعلی أممکم.

82- {فَمَن تَوَلَّىٰ} أعرض عن الإيمان بالرسول وعن نصره {بَعْدَ ذَٰلِكَ} أي أخذ الإصر {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ} الخارجون عن طاعة الله، بنقضهم العهد ومخالفة الإصر.

بحوث

الأول: نظم الآيات: هو أن الآيات السابقة (79-80) کانت حول مسائل التوحيد وتحريفهم الکتاب بإدخال الناس في الشرك، واتخاد الابن لله سبحانه، مع أن الأنبياء لم يدعوا ذلك أصلاً، بل کانوا يَدعُون الناس إلی أن يکونوا ربانيين عبر تعلّم وتعليم الکتاب.

حول مسائل النبوة

ثم بعد ذلك يأتي الکلام حول مسائل النبوة (الآيات 81-84) وأن الأنبياء السابقين أخذوا العهد من أممهم في الإيمان برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وبنصره، أو بعامة الرسل من بعدهم ومنهم الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فکانت البشارة به في التوراة والإنجيل کما قال تعالی: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ...} الآية(1)، لکن المحرّفون حرّفوا الکتاب، وکذّبوا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأنکروا بشائر الأنبياء السابقين، لکن المؤمنون لايبالون بتحريفاتهم فآمنوا بدين الله وبتوحيده وبأنبيائه أجمع من غير تفريق بينهم.

ص: 258


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

ثم بعد ذلك يأتي الکلام حول مسائل المعاد (الآيات 85-91) وسيأتي تفصيلها.

الثاني: قوله تعالی: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ النَّبِيِّينَ}.

بيان أن الأنبياء يصدّق بعضهم بعضاً، فالسابق يبشّر باللاحق ويدعو أمتّه إلی الإيمان به وبنصره، واللاحق يصدّق السابق في نبوته وکتابه وحکمته، وذلك لأن الله هو الذي اصطفاهم ونبّأهم وأرسلهم ليبلّغوا دينه، ودين الله واحد هو الانقياد التام والتسليم لله تعالی، فالعقيدة واحدة وأصول الشريعة لااختلاف فيها والأخلاق الفاضلة لاتغير فيها، وقد مرّ تفصيل هذا.

وعليه فلا اختلاف بين الأنبياء، فمرسلهم واحد ورسالتهم واحدة وکل واحد منهم يكمّل الآخرين في الدعوة، فلذا أخذ الله ميثاق السابق بالإقرار باللاحق، وأخذ ميثاق اللاحق بتصديق السابق.

أما هذه الآية فالظاهر أن المقصود منها هو بشارة الأنبياء السابقين برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولذا قال: {رَسُولٌ}، ولم يقل: (رسل)، ولذا غيّر التعبير من {النَّبِيِّينَ} إلی {رَسُولٌ} ولم يقل (نبي).

وکأنّ هذا الميثاق وعد بشرط، أي اشترط نبوتهم بالإيمان برسوله وبنصره، وأما زمان هذا الميثاق فقد ذُکر في بعض الروايات بأنّه کان في عالم الذر، ثم تکرّر الميثاق في هذا العالم، وعليه فما ذکرته بعض الروايات(1) من کون الميثاق في عالم الذر ليس مجرد تأويل للآية، بل بيان زمان هذا الميثاق، بل ظاهر هذه الآية أن أخذ الميثاق کان مرتين کما

ص: 259


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 436، عن تفسير العياشي.

سيأتي بيانه.

الثالث: قوله تعالی: {لَمَا ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ ثُمَّ جَاءَكُمْ...} الآية.

الظاهر أن اللام في {لَمَا} لتوطئة القَسَم، باعتبار أن أخذ الميثاق کالقسم، کقولك: «لئن فعلت کذا لأکرمنّك»، و(ما) اسمية شرطية، فالمعنی إذا اعطيتکم الکتاب والحکمة ثم جاء بعدکم رسول فعليكم أن تؤمنوا به وتنصرونه.

وهناك أقوال أخری في ترکيب العبارة، راجعها في کتب التفسير، والأظهر هو ما ذکرناه.

شرط النبوة

والمراد هو اشتراط نبوتهم بالايمان بالرسول وبنصره، وذلك لأن الله لايختار للنبوة إلاّ من اصطفاه ثم أخذ الميثاق منه، وبعبارة أخری: للنبوة شرطان:

1- غير اختياري بأن يصطفيه الله تعالی لتکون له القابلية لتلقي الوحي والقيام بأعباء النبوة.

2- اختياري بأن يأخذ الميثاق منه، ومن الميثاق الايمان بالرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ونصره.

قوله: {ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ} متعلّق بالميثاق، أي الميثاق هو إتيانکم النبوة مقابل إيمانکم بالرسول ونصره، ولعل هذا التعبير عن النبوة لأجل بيان أهمية الکتاب والحکمة بحيث کانا رکنين في النبوة، وليکون مقدمة لقوله: {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ}، فإن تصديقه بهما علامة رسالته، کما أن إتيانهم الکتاب والحکمة سبب للإيمان به ونصره، لعلمهم برسالته وحکمتهم، والحکمة تقتضي وضع الشيء في موضعه، ومنه الإيمان به

ص: 260

ونصرته إذ هما من الحکمة.

و{مِّن} في قوله: {مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ} إمّا بيانية فالمعنی الکتاب الذي نزل علی بعضهم وبقي بيد الآخرين منهم، أو تبعيضية فالمعنی آتيت بعضکم الکتاب وبعضکم الحکمة، إذ الکتب السماوية قليلة وهي مائة وأربعة حسب مايظهر من بعض الروايات نزلت علی القليل من الأنبياء، لکنها کانت نبراساً للأنبياء الذين من بعدهم.

وقوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ...} أي جاء بعدکم، أو باعتبار أممهم، فإن الميثاق أخذه الله من الأنبياء، ومن أممهم بواسطتهم، فالمجموع من الأنبياء والأمم أخذ ميثاقهم، وتلك الأمم بقيت إلی زمان الرسول، فصحّ خطاب الأنبياء بقوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ} باعتبار أممهم.

وقوله: {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} أي ما معکم من کتاب وحکمة، وتصديقه بمعنی بيانه لصحة تلك الکتب، وباعتبار أن الکتب بشرت به، فمجيئه تصديق عملاً بما أخبرت به الکتب، وقد مرّ تفصيله.

الرابع: قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُۥ...} الآية.

هذا جواب الشرط في {لَمَا ءَاتَيْتُكُم}، أو جواب القسم، سدّ أحدهما مسد الآخر، و{لَتُؤْمِنُنَّ} بمعنی الاعتقاد بنبوته، و{لَتَنصُرُنَّهُۥ} أمّا الأنبياء فنصرهم له هو بشارتهم به وأمر أممهم باتبّاعه إذا ظهر، وأمّا أمم الأنبياء المعاصرون للرسول فبنصره باليد واللسان وسائر وسائل النصر، وقد وردت روايات في تأويل الآية بالرجعة حيث يرجع الأنبياء فينصرونه عملاً(1).

ص: 261


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 433-437.

وفي جملة من الروايات بيان أنه نصر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1)

وهي من التفسير بالمصداق، لأن نصر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) هو إعانته في دين الله، ومن الدين الولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ونصره علی إقامة الدين وعلی أعدائه، وبعبارة أخری: نصر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في وصيه أمير المؤمنين (عليه السلام) .

وقوله: {ءَأَقْرَرْتُمْ} أي هل اعترفتم بذلك؟ والاستفهام تقريري، أي عليكم أن تُقِرّوا، وقوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي} أي هل أخذتم العهد من أممکم علی ذلك؟ إذ أقر الأنبياء أولاً ثم أخذوا العهد من أممهم علی ذلك، والإصر هو العهد... الشديد، وأصل الکلمة بمعنی الثقل لأن العهد ثقيل وشديد، أو من الإصار وهو الخيط أو الحبل الذي يشدّ ويعقد به الکيس ونحوه، فيکون کناية عن إحکام الميثاق.

قوله: {قَالُواْ أَقْرَرْنَا} أي اعترفنا بنبوته وبوجوب نصره، والمراد أن الأنبياء عاهدوا الله عليه، ثم وفوا بذلك العهد.

وقوله: {قَالَ فَاشْهَدُواْ} أي علی أممکم بأنکم بلّغتموهم وجوب الإيمان بالرسول ونصره.

وقوله: {وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ الشَّٰهِدِينَ} علی أممکم، والمراد أنهم شهداء علی أممهم ماداموا فيهم، وبعدهم فالشهيد عليهم الله تعالی، کما في قول عيسی (عليه السلام) : {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ شَهِيدٌ}(2).

ص: 262


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 433-437.
2- سورة المائدة، الآية: 117.

والحاصل: إن الأنبياء (عليهم السلام) أقرّوا، ثم بلّغوا، وهم شهداء علی أممهم يوم القيامة کما أن الله تعالی شهيد عليهم، ففي قوله: {قَالَ فَاشْهَدُواْ} إيجاز بليغ، أي قالوا: أخذنا الإصر، فقال: إشهدوا عليهم.

الخامس: قوله تعالی: {فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْفَٰسِقُونَ}.

أي من أعرض عن الإيمان بالرسول ونصره بعد أخذ الإصر، فهو فاسق خارج عن طاعة الله، ولعلّ التعبير بالفسق دون الکفر، لأن التولي والإعراض قد يکون عن الإيمان بالرسول فهو کفر، وقد يکون عن نصره مع الإيمان به فهو ليس بکفر لکنه من أکبر الکبائر، فقوله: {هُمُ الْفَٰسِقُونَ} جامع لهما، لأن أصل الفسق هو الخروج عن الطاعة، فتارة: خروج إلی الکفر، وأخری: إلی الضلال، وثالثة: إلی المعصية، وهذه الآية هي المقصودة من الآية السابقة في سياق الکلام، لأن المقصود إعراض أهل الکتاب عن التوحيد وعن النبوة، کما مرّ توضيحه في البحث الأول ولذا لم تذکر الآية من لم يُعرِض، لأنه ليس المقصود الأصلي، ولوضوح شأنه من بيان شأن مقابله الذي هو المُعرِض.

ص: 263

الآيات 83-85

اشارة

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُۥ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ (85)}

83- ثم أنکر الله عليهم توليهم {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} يطلبون بإعراضهم مع أنه دين الفطرة، {وَلَهُۥ أَسْلَمَ} خضع تکويناً وقلباً {مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ} من الملائکة {وَالْأَرْضِ} من الجن والإنس وغيرهم {طَوْعًا} برغبة {وَكَرْهًا} بغير رغبة، فالکل يقرّ قلباً بالتوحيد بفطرته وإن عاند البعض فکفر، {وَإِلَيْهِ} إلی حکمه حين الموت ويوم القيامة {يُرْجَعُونَ} فيحاسبهم علی دينهم وأعمالهم، فحيث إن الفطرة تدل عليه تعالی والمرجع إليه للجزاء فکان حريّاً بهؤلاء أن يطلبوا دينه لاغير دينه.

84- وعکس هؤلاء المؤمنون ف {قُلْ} يا رسول الله مُخبراً عن نفسك ومُعلِّماً أمتك: {ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} من القرآن وسائر الأحکام: وکذلك آمنّا بجميع الأنبياء وکتبهم {وَ} منها الصحف وهي {مَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} أولاد يعقوب وذريتهم،

ص: 264

فصحف إبراهيم (عليه السلام) أنزلت علی هؤلاء وکانت شريعتهم عليها إلی زمان موسی (عليه السلام) ، {وَ} منها {مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ} التوراة، {وَعِيسَىٰ} الانجيل {وَالنَّبِيُّونَ} أي ما أنزل علی سائر النبيين کآدم وإدريس ونوح (عليهم السلام) ، وسائر ما أوحاه الله إلی الأنبياء من غير الکتب {مِن رَّبِّهِمْ} أي ما أنزل عليهم من ربّهم، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّنْهُمْ} بل نؤمن بجميعهم، ولا کالنصاری الذين کفروا بمحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا کاليهود الذين کفروا به وبعيسی (عليه السلام) ، {وَنَحْنُ لَهُۥ} لله {مُسْلِمُونَ} مخلصون في أعمالنا.

85- {وَمَن يَبْتَغِ} يطلب {غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ} غير التوحيد والانقياد لله {دِينًا فَلَن يُقْبَلَ} دينه {مِنْهُ} في الدنيا إذ هو کافر لا دين له، وحيث کان مبتدعاً ضربت بدعته في وجهه، {وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ} خسر نفسه بإهلاکها بالعذاب الأبدي.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ...} الآية.

الهمزة استفهام إنکاري، والفاء عطف الجملة علی الجملة، أي من تولّی فطلب ديناً غير دين الله، أو أولئك هم الفاسقون فيطلبون ديناً آخر فخرجوا عن طاعة الله فطلبوا غير دينه.

ثم إنه تعالی بين وجه الإنکار عليهم:

فأولاً: إنه دين الله العالم الحکيم، فما سواه جهل وجهالة.

وثانياً: إن التکوين کلّه بيد الله فالجميع خاضع له تعالی تکويناً فکيف يکون التشريع لغيره؟ وأن الفطرة تدل علی هذا الدين فکيف خالفوا فطرتهم؟

ص: 265

وثالثاً: إن المرجع إليه فيعاقب المخالف، فکيف لم يخافوا عقابه؟

1- قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} بيان أن ما طلبوه ليس من الله تعالی، فکان الحريّ بهم أن يتبعوا دين الله، ومن المعلوم أنه الحق الذي بعده الضلال، وذلك لعلمه وحکمته ورحمته وبِّره بخلقه، فهل العاقل يترك الحق المطلق إلی الضلال المطلق الذي صنعته الأهواء والجهالات.

خضوع المخلوقات لله تعالی

2- قوله: {وَلَهُۥ أَسْلَمَ...} أي خضع تکويناً وقلباً ولساناً، فلهذا المقطع ثلاثة مصاديق:

المصداق الأول: الخضوع التکويني، وهو بيان هيمنة الله تعالی علی الوجود بأسره، فهو الجبار الذي يقهر الکون بقدرته وحسبما يريد بحکمته، فإذا کان الخلق والتکوين من الله فالتشريع أيضاً منه، ولا معنی لأن يکون الخلق منه والتشريع من غيره، وقد مرّ تفصيله في الآية السادسة من هذه السورة، وبعبارة أخری: إن الله خلق هذا الکون وهو عالم بکل تفاصيله وبما يصلحه وما يفسده وهو حکيم بارٌّ بعباده لذا من لطفه أنزل عليهم ديناً ينسجم مع تکوينهم فلابد لهم من الإيمان والعمل به، کما أنه يقدّر ما يشاء لعباده من صحة ومرض وفقر وغنی... الخ.

المصداق الثاني: الخضوع القلبي وهو بيان أن الفطرة تدل علی دينه، فإن التوحيد في فطرة کل ذوي العقول - سواء کانوا من أهل السماء أم من أهل الأرض - ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية أنه قال: «هي توحيدهم لله عز وجل»(1)، حيث رکب الله الفطرة علی الناس جميعاً في عالم الذر،

ص: 266


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 438-440، عن توحيد الشيخ الصدوق وتفسير العياشي.

ولايخفی أن هذا أيضاً نوع خضوع تکويني له تعالی، إذ لايمکن للإنسان تغيير فطرته أبداً.

المصداق الثالث: الخضوع باللسان، وهذا خاص بالبعض فالملائکة أقروا کلّهم طوعاً، والناس منهم من أقرّ طوعاً، ومنهم من أقر نفاقاً أو خوفاً من السيف، والمصداق الأتم هو بعد ظهور الإمام المهدي حتی لايبقی في المشارق والمغارب أحدٌ إلاّ وحّد الله تعالی، ولاتبقی أرض إلاّ نودي فيها بشهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وکل ذلك مروي(1)، ويحتمل أن يکون هذا المصداق من تأويل الآية، فتأمل.

3- قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي إلی حکمه وثوابه وعقابه، عند الموت وفي القيامة، فکيف لايخاف هؤلاء عقابه باتخاذهم ديناً غير دينه؟!!

الثاني: قوله تعالی: {طَوْعًا وَكَرْهًا}.

(الطوع) أي برغبة، و(الکره) أي بغير رغبة، حيث إنهم خاضعون لله تعالی تکويناً شاؤوا أم أبوا، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث حول عالم الذر، أنه قال: «ثم إن الله تبارك وتعالی نادی في أصحاب اليمين وأصحاب الشمال: ألست بربکم؟ فقال أصحاب اليمين: بلی يا ربنا نحن بريّتك وخلقك مقرّين طائعين، وقال أصحاب الشمال: بلی يا ربنا نحن بريّتك وخلقک کارهين، وذلك قول الله: {وَلَهُۥ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، قال: توحيدهم لله»(2).

ص: 267


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 439-441.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 438، عن تفسير العياشي.

ثم إن عدم الرغبة في شيء قد يکون بسبب الخوف کقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُۥ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}(1).

وأما الإکراه فمرجعه إلی الخوف أيضاً بأن يعمل أو يقول الإنسان مالا يريد تحت وطئة التهديد أو التعذيب، ولم يشرّع هذا النوع من الإکراه لأجل الدخول في الإسلام، وقد مرّ تفصيله في قوله تعالی: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(2).

الثالث: قوله تعالی: {قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا...} الآية.

الآية 81 دلت علی وجوب الإيمان بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبيان إعراضهم وتوليهم، وهذه الآية تبين وجوب الايمان بجميع الأنبياء وجميع ما أنزله الله تعالی عليهم، لأن الرسالات واحدة ولا تفرقة بين الرسل، حيث إن الله تعالی اختارهم لهداية الناس، وهذا هو مقتضی بشارة الأنبياء بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فهم (عليهم السلام) بشروا به وهو (صلی الله عليه وآله وسلم) صدّق ما معهم.

کما أن الآية تدل علی عدم الاعتناء بشأن المعاندين، فلئن اختاروا غير دين الله فعليكم أن تختاروه غير مهتمين بهم، کما قال تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(3).

قوله: {قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} أي قل مخبراً عن نفسك ومعلّماً لأمتك ولذا جاء

ص: 268


1- سورة غافر، الآية: 83-84.
2- سورة البقرة، الآية: 256.
3- سورة المائدة، الآية: 105.

{قُلْ} بالإفراد، و{ءَامَنَّا} بالجمع، أو قل عن نفسك وعن أمتك، والايمان بالله هو أصل العقيدة والذي يبتني عليه سائر العقائد.

وقوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} هي صحف إبراهيم (عليه السلام) حيث نزلت عليه، وکانت کتاب ذريته وفيها شريعته، فهي أنزلت علی إبراهيم مباشرة، وعلی ذريته بواسطته، کما أن القرآن نزل علی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلی أمته بواسطته، لذا قال تعالی: {أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ}(1). وقال: {نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَٰبِ}(2)،

وقال: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَٰبِ}(3).

وقوله: {وَالْأَسْبَاطِ} هم أولاد يعقوب، وذريتهم، حيث کانت صحف إبراهيم (عليه السلام) کتابهم، وعليه لاحاجة إلی تفسير الأسباط بالأنبياء منهم ومن ذريتهم، لما ذکرنا أن الصحف نزلت عليهم بواسطة إبراهيم (عليه السلام) ، نعم لو حملنا {أُنزِلَ} علی الوحي صحّ التخصيص.

قوله: {وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} تعميم بعد ذکر خصوص القران والصحف والتوراة والإنجيل، وهي سائر کتب الأنبياء، وقد مرّ أن الکتب التي نزلت مائة وأربعة، منها ما نزلت علی آدم، ونوح، وإدريس، وداود، إضافة إلی التوراة والإنجيل والقرآن.

وتخصيص المذکورات بالذکر، لأن إيمان المؤمنين متوقف علی

ص: 269


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة النساء، الآية: 140.
3- سورة البقرة، الآية: 231.

إيمانهم بالقرآن ولذا قدّمه في الذکر، ثم إن ما أنزل علی إبراهيم (عليه السلام) وذريته وکذا ما أنزل علی موسی (عليه السلام) محل اتفاق اليهود والنصاری والمسلمين، وأما ما أنزل علی عيسی (عليه السلام) فهو محل اتفاق بين النصاری والمسلمين، وحيث إن المحاجة مع أهل الکتاب کان لابدّ من ذکر هذه الکتب والأنبياء الذين نزلت عليهم.

وقوله: {وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ} الظاهر - بقرينة المقابلة مع الإيمان بالله والإيمان بالأنبياء وکتبهم - أن المراد هنا: الإسلام العملي أي تبعية الأحکام الشرعية، فالإيمان في الاعتقادات، والإسلام بمعنی الخضوع والانقياد للأحکام التي شرّعها الله تعالی.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَٰمِ دِينًا...} الآية.

بعد بيان أن الإسلام هو دين الله تعالی وأن أهل الکتاب أعرضوا عن دينه سبحانه، يأتی بيان بطلان دينهم ورجوع وباله وضرره عليهم، فالإسلام - الذي هو التوحيد والإيمان بالرسل وبما نزل عليهم والانقياد العملي - هو الحق، الذي لايکون بعده إلاّ الضلال والانحراف، فلا ينفعهم ضلالهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأعمالهم تکون هباءً منثوراً.

قوله: {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} تکويناً وتشريعاً:

أما تکويناً: فلأنه مبتدع ضال، فهو أولی ببدعته، فلا صلاحية لدينه وعمله لکي يقبل، قال تعالی: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ}(1).

وأما تشريعاً: فيجري عليه أحکام الکفار، لا أحکام المسلمين، فمجرد

ص: 270


1- سورة فاطر، الآية: 10.

انتحال اتّباع موسی أو عيسی (عليهماالسلام) لاينفع بعد شرکه وبعد تکذيبه رسول الله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {وَهُوَ فِي الْأخِرَةِ مِنَ الْخَٰسِرِينَ} حيث خسر نفسه بإهلاکها في جهنم أبداً، فعدم القبول هو في الدنيا، والخسران في الآخرة، ويمکن أن يکون عدم القبول بمعنی عدم الثواب بل يکون عمله هباءً منثوراً والخسران بمعنی العذاب، فکلاهما في الآخرة، أو عدم القبول في الدنيا والآخرة، والخسران في الآخرة.

ص: 271

الآيات 86-91

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ (86) أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ (91)}

بعد ذکر انحراف أهل الکتاب عن التوحيد وعن النبوة يتم بيان ما يرتبط بجزائهم في المعاد مع بيان سبب عذابهم.

86- {كَيْفَ} استفهام إنکاري للاستبعاد وبيان عدم الإمکان {يَهْدِي اللَّهُ} يلطف اللطف الخاص الموجب للهداية {قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} فآمنوا بموسی أو عيسی (عليهماالسلام) ثم کفروا برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو آمنوا به قبل بعثته ثم کفروا بها بعدها، {وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ} محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) {حَقٌّ} من عند الله تعالی، فکانوا يصرحون بذلك قبل البعثة إذ وجدوه مکتوباً عندهم في التوراة والانجيل، {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ} الدلائل الواضحة،

ص: 272

کالقرآن، والمعاجز، ثم بيّن الله تعالی سبب عدم هدايتهم بقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} إذ هم معاندون فما داموا ظالمين لايهديهم الله تعالی بالهداية الخاصة الموجبة للوصول إلی المطلوب وأما الهداية العامة بمعنی إراءة الطريق فهي حاصلة للجميع لتتم الحجة عليهم.

87- ثم أخبر الله تعالی عن مصير هؤلاء فقال: {أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ} علی کفرهم وعنادهم وظلمهم {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ} بإبعادهم عن رحمته، {وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالنَّاسِ} بالدعاء عليهم بأن يطردهم الله من رحمته، {أَجْمَعِينَ} کل الناس إمّا في الآخرة، أو بمعنی براءة کل الناس منهم قلباً في الدنيا، أو المراد من الناس المؤمنون.

88- {خَٰلِدِينَ فِيهَا} في تلك اللعنة التي تستوجب أشدّ العذاب لهم، {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} بأن يُقلّل، {وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} أي لايمهلون للتوبة، أو لاينظرون بعين رحيمة نظر لطف ورحمة، أو لايتقطع عنهم العذاب بل هو مستمر.

89- ثم إن الله تعالی يفسح المجال لهم لرجوعهم عن غيهم فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ} الکفر بأن آمنوا {وَأَصْلَحُواْ} ضمائرهم بأن لم يكن إيمان عن نفاق أو خدعة {فَإِنَّ اللَّهَ} يهديهم، إذ هو {غَفُورٌ} بقبول التوبة، {رَّحِيمٌ} بعدم مؤاخذتهم بسيئاتهم.

90- أما الذين لم يتوبوا ولم يصلحوا فهم صنفان: الصنف الأول: المرتدون ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا} بإصرارهم وعنادهم فتمکّن الکفر من صدورهم {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأنها توبة صورية کاذبة

ص: 273

لم تنطلق من قلوبهم، أو في لحظة الاحتضار عند المعاينة، أو بعد موتهم، لأن للتوبة شروطاً من أخلّ بها لم تقبل منه، {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} وهذا سبب عدم قبول توبتهم، إذ لو صدقوا في توبتهم لکانوا مهتدين لاضالين.

91- الصنف الثاني: الکفار الأصليون الذين لم يؤمنوا قط، ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} بلا توبة فهؤلاء لاتقبل منهم فدية يوم القيامة ولا لهم من ينصرهم، أما الفدية {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم} أيِّ واحدٍ منهم {مِّلْءُ} أي المقدار الذي يملأ {الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ} فلا تنفعه في دفع العذاب عنه {أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وأمّا النصر فليس لهم شفعاء ولايتمکن شرکاؤهم من نصرهم {وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ}.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ...} الآية.

کأنه جواب عن سؤال هو لماذا الله لايهدي هؤلاء إلی دينه؟

والجواب: أن الهداية إمّا عامة، بمعنی بيان الحقائق للناس، والاختيار بيدهم إن شاؤوا آمنوا وإن شاؤوا کفروا، کما قال تعالی: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ}(1)،

وهذه الهداية حاصلة لهؤلاء لذلك في البداية آمنوا وشهدوا بحقانية الرسول وجاءتهم البينات.

وإمّا هداية خاصة، بمعنی اللطف الخاص الخفي الموجب للتوفيق لاتّباع الحق، وهذه الهداية لابد أن تجد محلاً قابلاً، وإلاّ لزم وضعها في غير

ص: 274


1- سورة فصلت، الآية: 17.

موضعها وهو خلاف الحکمة، وبعبارة أخری - کما قيل -: إن اللطف الخاص بمن يعلم الله بعدم انتفاعه به لغو، والله يتعالی عن ذلك علواً کبيراً.

وإنّما فقدوا القابلية بسبب ظلمهم، فإذا غيّروا ما بأنفسهم من ظلم غيّر الله أحوالهم باللطف الخاص، کما قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(1)، فلا يغيّر الله ما بهم من عدم هداية إلاّ إذا غيّروا ما بأنفسهم من الظلم.

وقيل: أي کيف يهديهم إلی طريق الإيمان مع أنه أراه لهم وقد ترکوه، فهل يجبرهم ويكرههم علی الهداية؟ وذلك خلاف الحکمة، وبعبارة أخری: إن طريق الهداية منحصر فيما بيّنه الله تعالی فلا طريق غيره، فکيف يهديهم إلی الإيمان وقد ترکوه؟!

وقوله: {كَيْفَ} ليس لمجرد استبعاد، بل بيان استحالة ذلك في حکمته تعالی، فالله تعالی علی کل شيء قدير، لکنه حکيم لايفعل اللغو وکلّ ما يخالف الحکمة.

وقوله: {كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} سياق الآية في أهل الکتاب، لکن حکمها عام فتشمل غيرهم من المنافقين والمرتدين وسائر الکفار، فإن شأن النزول لايخصص مدلول الآيات غالباً، فالمعنی إن هؤلاء آمنوا بموسی (عليه السلام) أو آمنوا به وبعيسی (عليه السلام) لکنهم بعد ذلك کفروا برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو المعنی إن هؤلاء کانوا يؤمنون برسول الله قبل البعثة بل کانوا ينتظرونه لکنهم کفروا به بعد البعثة، کما قال تعالی: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى

ص: 275


1- سورة الرعد، الآية: 11.

الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}(1)، حسداً وبغياً، لأنه لم يكن منهم.

وقوله: {وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} عطف علی معنی إيمانهم، أي آمنوا وشهدوا، وهذه الشهادة إما شهادة تحمّل بمعنی علمهم بها حيث وجدوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مکتوباً عندهم في کتبهم، أو شهادة أداء، حيث کانوا يصرحون بذلك قبل البعثة.

وقوله: {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ} أي الأدلة الواضحة، کالقرآن وسائر معجزات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

ولعل ذکر هذين الأمرين - الشهادة ومجيء البينات - لبيان شدة عنادهم، وإلاّ فکل واحد منهما يكفي في قبول الحق وعدم الکفر، أو الشهادة من أحبارهم الذين کانوا يقرؤون الکتاب، ومجيء البينات لعامتهم من الذين لم يکونوا يعلمون الکتاب إلاّ أماني، فلئن کتم الأحبار ما في الکتاب لم يخفَ الحق عليهم لرؤيتهم البينات، ولکن مع ذلك عاندوا الحق.

وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ} بيان لعلة عدم هدايته تعالی إياهم، فهؤلاء تعمدوا الضلال فظلموا أنفسهم وظلموا أتباعهم وظلموا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فما داموا علی الظلم لاهداية خاصة لهم، نعم لو رجعوا عن ظلمهم لهداهم الله تعالی لزوال سبب عدم الهداية.

الثاني: قوله تعالی: {أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ...} الآية.

کأنّ هذا إخبار بأن جزاء هؤلاء هو الإبعاد عن رحمة الله تعالی، فالمعنی

ص: 276


1- سورة البقرة، الآية: 89.

إن الله لايهديهم أولاً لظلمهم، ونتيجة ذلك هو طردهم من الرحمة بحيث يخلدون في العذاب من غير تخفيف ولا إمهال أو رحم ثانياً.

وأما لعن الله لهم: فبمعنی الإبعاد والطرد عن الرحمة، وهذا الطرد هو سبب لعذابهم الدائم، أو إن اللعنة هي نفس العذاب - لا أنها سبب له - لکن للعذاب درجات، فاللعن في الدنيا بمنع اللطف والتوفيق، وفي الآخرة بجهنّم والنار، والأول أقرب.

وأما لعن الملائکة والناس: فهو بمعنی دعائهم عليهم بأن يطردهم الله من رحمته، وإنّما يلعنونهم لأجل البراءة منهم وبيان عدم الرضا بفعلتهم، ولتقديس الله سبحانه والتقرب إليه، کما لو تمرّد أحد العبيد علی مولاه فيتبرأ منه سائر العبيد لبيان خضوعهم للمولی وعدم رضاهم بذلك التمرد، مضافاً إلی ما في اللعن من تثبيت النفس علی الطاعة، وقد مرّ بحث اللعن في المجلد الأول فراجع.

وقوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} في الدنيا والآخرة، وأما في الآخرة فالجميع يلعن ويتبرأ من الظالمين حتی بعضهم من بعض کما قال تعالی: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٖ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا}(1)، وأما في الدنيا فقيل: إن المراد من الناس المؤمنون، وقيل: هو لعن بالفطرة أي کل إنسان بفطرته يتنفّر من الظالمين - وإن أخطأ في المصداق - ، أو هو بمعنی استحقاقهم اللعن من جميع الناس، أو هو خبر بقصد الإنشاء أي يجب علی الناس أجمعين لعنهم.

ص: 277


1- سورة العنکبوت، الآية: 25.

الثالث: قوله تعالی: {خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ...}.

أي خالدين في اللعنة - التي هي العذاب أو سبب للعذاب - ، فهنا أمور ثلاثة:

1- الخلود في اللعن والعذاب.

2- عدم تخفيف العذاب عنهم.

3- عدم إمهالهم للتوبة، أو عدم تأخير العذاب عنهم.

لأن سبب العذاب مستمر وهو عتوّهم وظلمهم، فهؤلاء وإن ندموا لمّا رأوا العذاب لکن لم يتغير ذاتهم ولانواياهم، قال تعالی: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ}(1).

وقوله: {وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} إما بمعنی عدم الإمهال للتوبة، کما قال تعالی: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٖ قَرِيبٖ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٖ}(2).

أو بمعنی الإمهال في العذاب بأن يرفع عنهم أحياناً، فيکون التخفيف في مقداره، والإمهال في زمانه.

أو بمعنی عدم رحمهم أي لاينظر إليهم بعين رحيمة، فيکون تأکيداً

ص: 278


1- سورة الأنعام، الآية: 27-28.
2- سورة إبراهيم، الآية: 44.

لعدم التخفيف، أو التخفيف في شدته والإنظار في أصله بمعنی رفعه نهائياً.

الرابع: قوله تعالی: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ...} الآية.

هذا لفسح المجال لهم ليعودوا عن غيهم، لئلا يکون يأسهم من روح الله سبباً لاستمرارهم علی کفرهم، فإن للعناد أسباب، وهي وإن کانت مستمرة عادة إلاّ أنه يمکن زوالها فيزول العناد، فيکون ذلك باعثاً لترك الظلم وسبباً لوجود قابلية الهداية فحينئذٍ يلطف الله تعالی به اللطف الخاص فيتوب ويصلح، وهذا صعب تحققه عادة، إلاّ أن الأمر لايخلو من أشخاص يکونون هکذا.

وقوله: {وَأَصْلَحُواْ} أي کانت توبتهم حقيقية منطلقة من صلاح ضمائرهم، أو أصلحوا أعمالهم بحيث کشف ذلك عن صلاح ضمائرهم، وهذا لاينافي قبول توبة من تاب حقيقة ثم مات قبل أن يعمل شيئاً، وذلك لأن المراد صيرورته بکيفية لاتکون أعماله بعدها إلاّ صالحة، وبعبارة أخری: لو صدرت منه أعمال کانت أعمالاً صالحة، والمعنيان قريبان لأن صلاح الضمير يلازم صلاح العمل، کالعکس.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بيان لعلة قبوله للتوبة عن إصلاح إذ هو تعالی غفور يستر ذنوبهم، ورحيم فلا يؤاخذهم بها، فهو ذوالفضل العميم، مع أنه لامحذور عقلاً في عدم قبول التوبة وفي عقاب المذنب حتی لو تاب وندم.

الخامس: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ...} الآية.

هذا وما بعده تصنيف للکفار إلی صنفين، فمنهم من ارتد فمات علی الکفر، ومنهم من بقي علی کفره الأصلي إلی حين موته، فهذه الآية تبين عاقبة الصنف الأول، والآية التالية تبين عاقبة الصنف الثاني.

ص: 279

فالصنف الأول: الذين ارتدوا بعد إيمانهم ثم أصرّوا علی الکفر إلی أن استحکم الکفر في أنفسهم، فهؤلاء ضالون غير قابلين للهداية، لذا يستمرون في کفرهم، حتی إذا اضطروا إلی الرجوع إلی الإسلام، أو أملته لهم مصالحهم، فهؤلاء قد يرجعون إلی الإسلام بشکل ظاهري مع تجذّر الکفر في قلوبهم، فيدخلون في زمرة المنافقين، فلا تکون توبتهم مقبولة لأنها لم تکن مع إصلاح ضمائرهم ولا إصلاح أعمالهم.

فقوله: {ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا} بمعنی تمکّن الکفر في صدورهم، ومن مصاديقه اليهود الذين کفروا بعيسی (عليه السلام) ثم ازدادوا کفراً بکفرهم برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وکذا المرتدون الذين کفروا بعد إسلامهم ثم ازدادوا کفراً بصدّهم عن سبيل الله وبنقض العهد وبکفرهم بکل آية جديدة.

وقوله: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأن للتوبة شروطاً من أخلّ بها لم تقبل، منها: الندم علی ما فعل، والعزم علی عدم العود، وإصلاح ما أفسده کأداء حقوق الناس وحقوق الله، والاستغفار باللسان، وهؤلاء بازديادهم الکفر وبضلالهم لم يتوبوا توبة حقيقية، بل صورية سببها المصلحة ونحوها، وقيل: المراد التوبة حين الاحتضار والمعاينة أو التوبة بعد الموت فکلاهما غير مقبولتين کما قال تعالی: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(1).

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} أي ضلوا عن طريق الهداية، فلايهديهم الله

ص: 280


1- سورة النساء، الآية: 18.

تعالی، وفي هذا المقطع بيان سبب عدم قبول توبتهم، إذ لو کانوا صادقين فيها لکانوا مهتدين فکان الله يقبلها منهم کما قال: {غَافِرِ الذَّنۢبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}(1).

السادس: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ...} الآية.

هذا بيان للصنف الثاني من الکفار، وهم الکفار الذين لم يسلموا أصلاً وبقوا علی کفرهم إلی حين موتهم، فهؤلاء لم يتوبوا - ولو توبة صورية - فلا منجی لهم من العذاب، إذ لافدية تقبل مهما عظمت في أعينهم، ولا شفيع يشفع لهم لينقذهم من العذاب.

1- أما عدم قبول الفدية: لأن جريمتهم أعظم من کل فدية متصورة، ولأن قبول الفدية إنما هو للإحتياج إليها عادة، والله سبحانه الغني الحميد الذي لايحتاج إلی شيء والوجود بأسره محتاج إليه في کل شيء، مضافاً إلی أنه المالك الحقيقي لکل شيء، فلا معنی لأن يفتدي أحد بما هو ملکه سبحانه وتعالی، وأيضاً فالقبول لأجل قابلية العامل والمنفق، فإذا لم تکن له القابلية فلا قبول منه، قال تعالی: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(2)،

فيقبل الله تعالی من المتقين لالحاجته بل لسعة رحمته ولطفه.

2- وأما عدم الشفاعة لهم، لأن الله يأذن بالشفاعة لمن ارتضاه، کما قال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ}(3)، ومن ابتغی غير الإسلام ديناً لايرتضيه الله تعالی، قال عنهم: {فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٖ}(4).

ص: 281


1- سورة غافر، الآية: 3.
2- سورة المائدة، الآية: 27.
3- سورة الأنبياء، الآية: 28.
4- سورة الشعراء، الآية: 100-101.

وقوله: {وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ} قيل: إن محاولته للفرار من العذاب تکون بصور مختلفة منها الوعد بالفداء، ومنها الافتداء فعلاً، فإذا لم ينفع الافتداء نقداً فعدم نفع تلك الحالات بطريق أولی.

وقيل: في الکلام تقديم وتأخير کما هو شأن کلام الفصحاء، أي فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدی بملء الأرض ذهباً، کما قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1).

وقيل: المعنی لن يقبل إنفاقه في الحياة الدنيا بهذا المقدار، ولو کان الإنفاق لأجل أن لايعذّب في الآخره من دون توقع ثواب.

ثم إنه ذکرت التوبة في الصنف الأول ولم تذکر في الصنف الثاني، وهذا يقوّي أن المراد بها التوبة الصورية، أما التوبة عند المعاينة أو في الآخرة فيشترکان فيها حيث لاتنفعهم، فذاك بتوبته الصورية وهذا بفديته - إن تمکن منها - يريدان دفع العذاب، ولکن هيهات، کما لايوجد أحد ينصرهم فلا شفيع يشفع لهم، ولا شرکاؤهم الذين کانوا يزعمون، فأولئک لايتمکنون من إنقاذهم من بطش ربهم سبحانه.

ص: 282


1- سورة المائدة، الآية: 36.

الآيات 92-95

{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}

بعد بيان تحريفات أهل الکتاب في أصول الدين وبيان الجزاء الأخروي علی ذلك، يتم بيان تحريفاتهم في فروع الدين ورفضهم لأحکام الشرع مع أنها من ملة إبراهيم (عليه السلام) وهم يعترفون بذلک، مع بيان أن سبب تلك التحريفات هي حبّهم للدنيا، فقال تعالی:

92- {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ} أي لن تصيروا أبراراً سواء في العقائد أم في الأعمال، وأصل «البِرّ» هو التوسع في الإحسان، {حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} ترغبون فيه، لأن ذلك دليل ترجيحکم لإرادة الربّ علی هواکم، {وَ} نفع ذلك سيعود عليكم إذ {مَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٖ} قليل أو کثير {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فيجازيكم عليه.

93- {كُلُّ الطَّعَامِ} الطيب {كَانَ حِلًّا} حلالاً {لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ} وهو يعقوب (عليه السلام) {عَلَىٰ نَفْسِهِ} بأن امتنع عن أکله لضرره

ص: 283

عليه وهو لحم الإبل، ولم يحرّمه علی الآخرين، وکانت الحلية {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}، لکن الله حرّم عليهم بعض الطيبات لظلمهم وبغيهم عقوبة لهم، وأهل الکتاب کانوا يدعون أن التوراة تدل علی تحريمها علی کل الأنبياء، {قُلْ} احتجاجاً عليهم: {فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} فإنها لاتدل علی قِدَم التحريم، بل ليس فيها إشارة إلی أيّ تحريم للطيبات، وإنما حُرّمت بعد نزولها لظلمهم وبغيهم، {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في دعواکم إن التحريم قديم، لکنهم لم يأتوا بها فتبيّن کذبهم.

94- {فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بأن قال إنها کانت محرّمة علی الأنبياء قبل نزول التوراة {مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ} بعد قيام الحجة عليهم {فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ} لأنفسهم بمنعها عن الهداية، ولأتباعهم بإضلالهم، وذلك لمکابرتهم الحق بعد وضوحه.

95- {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} فيما أوحاه إلی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) من عدم التحريم قبل نزول التوراة، وهذا تعريض بکذبهم، وحيث تبيّن لکم حليتها قبلها {فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ} طريقته سواء في العقائد أم في حلية الطيبات أجمع {حَنِيفًا} مائلاً إلی الحق {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فکان يتبع وحي الله في التشريعات، ولم يجعل التشريع لغيره تعالی.

بحوث

الأول: لعلّ وجه ارتباط الآيات بما قبلها، أن الآيات السابقة تضمنت بيان مسائل العقائد: من التوحيد، وتحريف أهل الکتاب بالشرك، ومن النبوة، وتحريفاتهم فيما يتعلق بها، وتمَّ ذکر المعاد وجزاء هؤلاء الذين ترکوا

ص: 284

التوحيد إلی الکفر وخالفوا الأنبياء، ثم بعد ذلك يأتي الکلام في أمرين:

1- في کيفية إنقاذ الإنسان نفسه من الحالة التي وقع فيها أهل الکتاب، وهو التخلّص من حبّ الدنيا والتعلّق بها، لأن سبب تحريفاتهم هو ما قال تعالی: {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}(1)،

وقال: {إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ النَّاسِ بِالْبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(2)، ولايمکن التخلّص إلا بترويض النفس بقطع تعلقاتها بالدنيا وزخارفها، وترجيح رضا الرب تبارك وتعالی علی حبّ الدنيا، ومن أظهر مصاديقه الإنفاق ممّا يحبه الإنسان، لا ممّا يريد التخلص منه، فإن حبّه للمال سبب تعلّقه به، ولذا قد يبيع آخرته بدنياه حفاظاً علی ذلك المال، أما لو قطع تعلق نفسه به فأنفق منه، فحينئذٍ يمکن لهذا الإنسان أن يسمو فينال البِرّ في العقائد والأعمال، فينزّه نفسه عن التحريف ويتبع دين الله ويصدّق رسله أجمع.

2- في اتّباع الشرع في فروع الدين أيضاً وعدم التحريف فيها، عکس أهل الکتاب الذين أضافوا إلی تحريفهم في العقائد کذبهم وتحريفهم في الأحکام أيضاً.

الثاني: قوله تعالی: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ...} الآية.

(البِر) هو التوسع في الإحسان، والمراد به هنا إصابة الحق في العقائد والأحکام، کما قال تعالی: {وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَالْمَلَٰئِكَةِ وَالْكِتَٰبِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَٰمَىٰ

ص: 285


1- سورة البقرة، الآية: 79.
2- سورة التوبة، الآية: 34.

وَالْمَسَٰكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَى الزَّكَوٰةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُواْ وَالصَّٰبِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(1).

ومن هذا يتضح معنی قول الإمام الصادق (عليه السلام) في الآية حيث قال: «نحن البر والتقوی وسبيل الهدی...» الحديث(2)، لأنهم (عليهم السلام) من أصول الدين، فهم من أجلی مصاديق {الْبِرَّ} في الآية الشريفة، فلا يمکن للإنسان الوصول إلی ولايتهم إلا بقطع تعلقاته بالدنيا، کسائر أصول الدين.

و{مِن} في قوله: {مِمَّا تُحِبُّونَ} إما تبعيضية، أي الإنفاق من بعضه، فيکون من قبيل قوله تعالی: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(3)، وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}(4).

وإمّا بيانية، أي ليكن ماتنفقونه محبوباً لکم لاماتکرهونه، فتکون الآية نظير قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}(5)، ولعلّه علی هذا يحمل ما ورد في قراءة (ما تحبون)(6)،

ص: 286


1- سورة البقرة، الآية: 177.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 444، عن تفسير العياشي.
3- سورة الإسراء، الآية: 29.
4- سورة الفرقان، الآية: 67.
5- سورة البقرة، الآية: 267.
6- الکافي 8: 183؛ تفسير العياشي 1: 184.

وهي قراءة تفسيرية لاقراءة النص، بمعنی أنه هکذا قرأها للتفسير.

وقوله: {مِن شَيْءٖ} بيان ل {مَا}، والمراد التعميم أي سواء کان ماتحبون قليلاً أم کثيراً، فإن الله يعلمه فيجازيكم عليه، أو سواء کان ماتنفقون محبوباً أم لا، فيکون الغرض بيان علمه بنواياکم وأن الإنفاق لوجه الله تعالی بأن کنتم تحبون الشيء أم کان الانفاق بقصد التخلّص عن المال المکروه لديكم.

ومن مصاديق الإنفاق إيتاء الحقوق الواجبة في الأموال، فإن الإنسان يحبّها لکنه يؤدي حقها بالزکاة والخمس ونحو ذلك، وفي تفسير القمي: «لن تنالوا الثواب حتی تردوا إلی آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) حقّهم من الخمس والأنفال والفيء»(1)، فسّر {الْبِرَّ} بالثواب لأنه سبب له، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه کان يتصدّق بالسکّر، فقيل له: أتتصدق بالسکّر؟ فقال: «نعم، إنه ليس شيء أحبّ إليّ منه، فأنا أحبّ أن أتصدّق بأحبّ الأشياء إليّ»(2).

الثالث: قوله تعالی: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَٰءِيلَ...} الآية.

من هنا يبدأ افتراء أهل الکتاب علی الله ورسله في فروع الدين، فقد انکروا علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) تحليله لحم البعير، وقالوا: إن ابراهيم (عليه السلام) حرّمه، وأن ذلک مذکور في التوراة، وکذا أرادوا الردّ علی قوله تعالی: {فَبِظُلْمٖ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوٰاْ وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَٰلَ النَّاسِ

ص: 287


1- تفسير القمي 1: 107.
2- الکافي 4: 61.

بِالْبَٰطِلِ}(1)، بزعم أن تلك المحرّمات کانت في ملة إبراهيم (عليه السلام) وذکرتها التوراة فليس تحريمها لأجل ظلمهم وبغيهم!!

والجواب عليهم أن التوراة خالية عن تلك التحريمات، فهي لم تذکر سوی تحريم الرجس من الحيوانات البرية والمائية والطيور(2)، وليس فيها من تحريم الطيبات أيَّ ذکرٍ، فمن أين جاؤوا بتحريمها؟!

فأما لحم البعير فقد امتنع يعقوب (عليه السلام) عن أکله، لاتشريعاً للتحريم، بل لضرره عليه، فلم يحرّمها علی بني إسرائيل بما حرّمها علی نفسه بمعنی امتناعه عنه، وحتی التوراة لم تذکر تشريع يعقوب (عليه السلام) تحريم لحم الإبل بل هو تشريع منهم(3).

ثم يتحدی القرآن أهل الکتاب بأنهم لو کانوا صادقين في دعواهم في أن التحريم مذکور في التوراة وأنه کان محرّماً علی الأنبياء السابقين فعليهم أن يأتوا بالتوراة فيقرؤوا ما زعموه، لکنهم حيث کانوا کاذبين لم يستجيبوا لذلك، فتبيّن کذبهم علی الله وعلی رسله.

قوله: {كُلُّ الطَّعَامِ} أي الطيبات، أو الألف واللام للعهد أي کل الطعام الذي ادّعی أهل الکتاب تحريمه.

وقوله: {حِلًّا} مصدر بمعنی اسم المفعول، أي کان حلالاً من الله تعالی عليهم.

ص: 288


1- سورة النساء، الآية: 160-161.
2- راجع آلاء الرحمن (للعلامة البلاغي): 311.
3- راجع سِفر التکوين الفصل الثاني والثلاثين وآلاء الرحمن: 311.

وقوله: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَٰءِيلُ} التحريم هنا بمعنی الامتناع وليس المراد التشريع، فيکون نظير قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}(1)، أي تمتنع عن فعل أو أکلة محلّلة عليك.

وقوله: {عَلَىٰ نَفْسِهِ} دليل علی أنه لم يحرّمه علی بني إسرائيل بل خصّ الامتناع بنفسه، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن إسرائيل کان إذا أکل من لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة، فحرّم علی نفسه لحم الإبل، وذلك قبل أن تنزل التوراة، فلمّا نزلت التوراة لم يحرّمه ولم يأکله»(2) أي لم يحرّمه موسی (عليه السلام) ولم يأکله.

وقوله: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} متعلّق بقوله: {كَانَ حِلًّا} أي الحلية قديمة فلا يصح ما افتروه علی إبراهيم (عليه السلام) وسائر الأنبياء بأنهم حرّموها، کذلك لايصح ما افتروه بأن تحريمها مذکور في التوراة، إذ التوراة خالية عن تحريمها.

وبناءً علی ذلك فلا وجه لإنکارهم تحليل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لحم الإبل، کما يثبت أن تحريم بعض الطيبات عليهم لم تکن إلاّ لبغيهم وظلمهم بعد نزول التوراة لذا لايوجد لها ذکر في التوراة أصلاً.

قوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ} لأنه کان من ضمن فرية هؤلاء أن التحريم مذکور في التوراة، حيث کانوا يزعمون أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لاعلم له بالتوراة لأنه أمي وقومه أميون، لکن الوحي فضحهم، فدعاهم إلی الإتيان بالتوراة - لا

ص: 289


1- سورة التحريم، الآية: 1.
2- الکافي 5: 306.

مجرد النقل کذباً عنها - وتلاوة الآيات المزعومة أمام الملأ! لکنهم نکصوا علی أعقابهم فتبيّن کذبهم وافتراءهم.

ولايخفی أن المقصود الاحتجاج عليهم بما في التوراة، لا الاحتکام إليها کي يقال: کيف يحتکم إلی کتاب محرّف؟ أو کانت التوراة غير المحرّفة موجودة عندهم فطلب الاحتکام إليها، أو أن هذا المقطع لم يكن محرّفاً فلم يكن مانع من الاحتکام إليه.

الرابع: قوله تعالی: {فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...} الآية.

أي استمر في الفرية بعد قيام الحجة والبرهان علی عدم وجود هذه التحريمات في التوراة، والظاهر أن الآية تشير إلی أن أغلب اليهود لم يکونوا يعرفون أن ذلك افتراء علی الله حيث کانوا يتوهمون صدق أحبارهم ورؤساؤهم، فهؤلاء کانوا ظالمين سواء قبل هذه المحاججة أم بعدها لأنهم کانوا يعلمون الحق وينکرونه، أما عوامهم فکانوا جهلة کما قال تعالی: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَٰبَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(1)،

فلو فرض کونهم معذورين قبل هذا لجهلم، لکنهم غير معذورين بعد قيام الحجة عليهم وتبيّن کذب أحبارهم ورؤسائهم، فدخلوا في سلك الظالمين.

الخامس: قوله تعالی: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا...} الآية.

أي بهذه المحاججة تبين أن هذه الطيبات کانت محلّلة، وأن الوحي الذي نزل علی رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) هو الحق الصادق، وفي هذا تعريض

ص: 290


1- سورة البقرة، الآية: 78.

عليهم بکذبهم.

وقوله: {فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ} إمّا بيان أن طريقة إبراهيم (عليه السلام) کانت تحليل الطيبات، فعليكم أن تتبعوا ملته في الفروع کما عليكم أن تتبعوا ملته في الأصول.

أو بيان أنه بعد تبيّن کذب أحبارکم ورؤسائکم عليكم طلب الدين الحق وهو ملة إبراهيم حيث کان مائلاً إلی الحق ولم يكن مشرکاً، وعلی هذا الدين رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فعليكم اتّباعه.

ص: 291

الآيتان 96-97

اشارة

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ (96) فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ (97)}

ومن الفروع المهمة مسألة القبلة، فبعد دحض حجج أهل الکتاب في أصول الدين وبعض الفروع يأتي إنکارهم تحويل القبلة إلی الکعبة باعتبار أنها خلاف ملة إبراهيم، فدحضت حجتهم بقوله تعالی:

96- {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ} فهو قبل بيت المقدس {وُضِعَ لِلنَّاسِ} لعبادتهم {لَلَّذِي} أي البيت الذي {بِبَكَّةَ} سميت بذلك لازدحام الناس فيها، حالکونه {مُبَارَكًا} کثير الخير والنفع، {وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ} فيه هدايتهم فإنه محل العبادة والتذکير بأولياء الله.

97- {فِيهِ} في البيت {ءَايَٰتُۢ} علائم علی التوحيد والنبوة وغيرهما {بَيِّنَٰتٌ} واضحات، فمنها: {مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ} الحَجَر الذي کان يقف عليه لبناء الکعبة وفيه أثر قدميه، {وَ} منها: أن {مَن دَخَلَهُۥ} دخل البيت {كَانَ ءَامِنًا} أي شرّع الله الأمان فيه فلايُمسّ أحد فيه بسوء حتی يخرج منه، {وَ} منها: تشريع الحجج إليه ف {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} أي يجب عليهم ويلزمهم {حِجُّ الْبَيْتِ} أي قصده بالحج أو العمرة {مَنِ اسْتَطَاعَ}

ص: 292

باستطاعة عرفية بأن يتملك الزاد والراحلة مع صحة البدن وإمکان السير والرجوع إلی کفاية {إِلَيْهِ} إلی البيت {سَبِيلًا} طريقة يحج بها، {وَمَن كَفَرَ} بترك الحجج، کفراً عمليا أو کفراناً بالنعمة {فَإِنَّ} ترکه لايضرّ {اللَّهَ} شيئاً لأنه سبحانه {غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ} لايحتاج إلی عملهم وإنّما أمرهم لمصلحتهم.

بحوث

الأول: سياق الآيات في دحض حجج أهل الکتاب، ففي البداية تم دحض حججهم في المسائل العقائدية - من التوحيد والنبوة - وتهديدهم بعذاب الآخرة، ثمّ دحض حججهم في الفروع ومنه حجتهم في القبلة، حيث زعموا أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلی الکعبة هو خلاف ملة إبراهيم (عليه السلام) ، والجواب أن بيت المقدس لم يكن في زمن إبراهيم (عليه السلام) ، وأما الکعبة فهي أول محلّ للعبادة فقد جعلها الله تعالی برکة وهداية للناس، وجعل فيها علائم واضحة علی ذلك، وهي بناء إبراهيم (عليه السلام) ، لابيت المقدس الذي بُني بعد إبراهيم بسنوات طويلة وذلک في زمن نبي الله سليمان (عليه السلام) .

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ...} الآية.

أي أول مکان جُعل للعبادة، وکان ذلك قبل خلق آدم (عليه السلام) حيث اختاره الله مسجداً لملائکته، وکان البيت درة بيضاء جعلها تعالی في موضع الکعبة، ثم رفعت الدرة بعد هبوط آدم (عليه السلام) وبقي أساسها(1)، إلی أن أمر الله تعالی إبراهيم (عليه السلام) بالبناء علی ذلك الأساس، فرفع القواعد، کما قال تعالی: {وَإِذْ

ص: 293


1- راجع في ذلک الروايات مفصلة في بحار الأنوار 96: 52-65.

يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ}(1)،

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «ونخبرکم أن آدم ونوحاً وسليمان (عليهم السلام) قد حجوا البيت بالجن والإنس والطير، ولقد حجّه موسی (عليه السلام) علی جمل أحمر»(2).

مراحل بناء الکعبة

ثم إن الروايات أشارت إلی ثلاث مراحل:

1- مرحلة أصل الخلق، فإن الله خلق موضع البيت ثم دحاه بأن بسط الأرض من تحته(3)، قال تعالی: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَىٰهَا}(4).

2- مرحلة جعله للعبادة، وهذه المرحلة قبل خلق آدم (عليه السلام) حيث شرَّع الله ذلك.

3- مرحلة البناء في زمن إبراهيم (عليه السلام) .

ولا يخفی أنه قبل هذا البناء کانت أبنية للناس في کل مکان(5)، فليس المراد أن بناء إبراهيم (عليه السلام) هو أول بناء علی وجه الأرض، بل المراد المرحلة الثانية وهي مرحلة اختيار البيت للعبادة، فهذا کان من قبل آدم (عليه السلام) .

وقوله: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} بمعنی خلقه واتخاذه مسجداً لهم.

وقوله: {بِبَكَّةَ} من البكّ بمعنی الازدحام والدقّ، والمراد بها المسجد الحرام، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «موضع البيت بکة، والقرية

ص: 294


1- سورة البقرة، الآية: 127.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 452، عن تفسير العياشي.
3- الکافي 4: 189.
4- سورة النازعات، الآية: 30.
5- البرهان في تفسير القرآن 2: 455، عن مناقب ابن شهر آشوب.

مکة»(1)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «مکة جملة القرية، وبکة موضع الحجر الذي يبك الناس بعضهم بعضاً»(2)، وإنّما سميت مکة بذلك لازدحام الناس فيها في الحج والعمرة وغيرهما، ولأن الله يدق أعناق الباغين فيها - کما في الحديث(3)- ، وأما ما روي من أنه لکثرة البکاء فيها(4)، فذلك من باب الاشتقاق الکبير، وقد مرّ بيانه.

وقوله: {مُبَارَكًا} من البرکة بمعنی الخير الثابت، وهذه البرکة مادية بالرزق وبکثرة الثمار في واد غير ذي زرع، ومعنوية بالاجتماع والألفة، وأخروية بالطاعة والعبادة ومضاعفة الثواب، وغير ذلك.

وقوله: {وَهُدًى} أي هادياً، من إقامة المصدر مقام إسم الفاعل، للدلالة علی الکثرة، والمراد هو أن البيت هادٍ للناس بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، ويرشدهم إلی الله تعالی، ويهتدون بسبب طاعاتهم وعباداتهم، فالبيت يذکّر بالله وفيه ذکريات رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ومعالم ومشاعر عبادته.

وقوله: {لِّلْعَٰلَمِينَ} لبيان عموم النفع للجميع، فلم يجعل البيت لطائفة خاصة أو قومية خاصة، بل هو عالميٌّ بعالمية الإسلام.

الثالث: قوله تعالی: {فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا}.

أي هذا البيت جعل الله تعالی فيه دلائل وعلائم علی التوحيد وعلی

ص: 295


1- علل الشرائع: 397.
2- تفسير العياشي 1: 187.
3- الکافي 4: 211.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 449، عن علل الشرائع.

النبوة وعلی الشرع، وتلك الآيات تکوينية وتشريعية، وقد ذکرت الآية ثلاث آيات بأسلوب بليغ يجمع بين بيان کونها آية، وبين بيان أحکام شرعية، وتلك الآيات:

1- مقام إبراهيم (عليه السلام) وهو الحجر الذي کان يقف عليه إبراهيم لبناء أعالي البيت، وهي صخرة صماء ألانها الله فغارت فيها قدما إبراهيم (عليه السلام) وبقي الأثر، وقد مرّ تفصيله في الآية 125 من سورة البقرة، فراجع، وهذه آية تکوينية.

2- تشريع الأمن فيه، وهذه آية تکوينية وتشريعية.

3- تشريع الحج إليه، وهذه آية تشريعية.

قوله: {فِيهِ ءَايَٰتُۢ} الآية هي العلامة، وهي أعم من المعجزة فليس المراد منها خصوص الخارقة للعادة، بل الآيات قد تکون معاجز، وقد تکون براهين عقلية، وقد تکون أدلة محسوسة، وقد تکون تشريعيات صحيحة، ومقام إبراهيم معجزة خارقة للعادة، والأمن فيه أحياناً معجزه تکوينية کما حدث في قصة أصحاب الفيل، وأحياناً تشريع الأمن فيه وهو آية لکنها ليست خارقة للعادة، وأما الحج إليه فهو آية تشريعية من غير خرق للعادة.

وإنّما ذکر هذه الثلاثة في مقام دحض حجة أهل الکتاب، حيث زعموا أن بيت المقدس أشرف وهو أولی بکونه قبلة، فالجواب أن الکعبة أشرف، لأنها أول بيت وضع للعبادة، ولأن بانيها إبراهيم (عليه السلام) ، ولأن الحج شُرّع إليها، فکل واحد من ذلك آية علی کونها أفضل وأشرف من بيت المقدس.

وقوله: {بَيِّنَٰتٌ} أي واضحات، تدل علی التوحيد والنبوة وعلی الشرع،

ص: 296

ولايخفی أنه ذکر ثلاث آيات کنموذج جليّ للآيات التي فيه - مما يکون في سياق دحض حجة أهل الکتاب - مع أن آيات البيت کثيرة، منها الحجر الأسود، ومنها منزل إسماعيل (عليه السلام) - ولعل المراد به حِجر اسماعيل - کما في بعض الروايات(1)،

وإنما خصّ المقام بالذکر، لأنه مورد الاحتجاج مع أهل الکتاب حيث أراد بيان ارتباط الکعبة بإبراهيم (عليه السلام) وأنها من ملته.

وقوله: {وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا} الظاهر أنه إخبار بقصد الإنشاء بمعنی تشريع الأمن فيه، أي تجب رعاية حرمته بأن يکون الجميع فيه آمناً، فالناس فيه آمنون، حتی من ارتکب جريمة خارج الحرم ثم هرب إليه لايجوز اعتقاله أو إجراء العقوبة عليه لأنه مکان أمن حتی لهؤلاء، بل يضيق عليه في المأکل ونحوه حتی يخرج هو من الحرم باختياره، فيؤخذ للعقوبة، نعم لو ارتکب الجريمة في داخل الحرم أ ُخذ وعوقب، لأن ذلک هتك حرمة الحرم فلابد من منعه، فأخذه بجُرمه أيضاً لأجل حرمة الحرم واستمرار الأمن فيه.

بل الحکم يعمّ غير الإنسان أيضاً فلايجوز صيد الحرم، بل ولاقلع نباته.

ثم إن للآية تأويلاً في الأمن التکويني في أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام) ، وکذا الأمن من عذاب الله في الآخرة وغفران الذنب وکفاية ما أهمّ لمن قصد البيت عارفاً بحق أهل البيت (عليهم السلام) .

أو يقال: إن الأمن في الآية أعم من التکويني والتشريعي في الدنيا والآخرة، فيکون هذان من مصاديق التفسير.

فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من أمّ هذا البيت وهو يعلم أنه البيت

ص: 297


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 447، عن الکافي.

الذي أمره الله عز وجل به، وعرفنا أهل البيت حق معرفتنا کان آمناً في الدنيا والآخرة»(1).

وعنه (عليه السلام) أنه قال: «من دخل مکة المسجد الحرام يعرف من حقنا وحرمتنا ما عرف من حقها وحرمتها، غفر الله له ذنبه، وکفاه ما أهمّه من أمر الدنيا والآخرة»(2).

وقال (عليه السلام) حول الآية: «في قائمنا أهل البيت، فمن بايعه ودخل معه ومسح علی يده ودخل في عقد أصحابه، کان آمناً»(3).

الرابع: قوله تعالی: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا...} الآية.

وهذه ثالث الآيات، فمِن فضيلة الکعبة هو أن الله أمر بالحج إليها.

وقوله: {لِلَّهِ} أي من حقه تعالی، وهذه الکلمة تستعمل عادة في بيان الوجوب والإلزام، کما يقال: (لي عليه درهم) أي من حقي عليه وفي ذمته، فيجب عليه أداؤه، فالآية إخبار في مقام الإنشاء والأمر.

وقوله: {حِجُّ الْبَيْتِ} أي قصده، فإن مادة (ح ج ج) بمعنی التوجه إلی الشيء وقصده، وقصد البيت إنما هو لإتيان المناسك فيه، وهو أعم من الحج والعمرة، فلذا کما يجب قصد البيت لإتيان الحج کذلك يجب قصده لإتيان العمرة، ولذا أفتی جمع من الفقهاء بأن من استطاع علی العمرة وجبت عليه حتی لو لم يستطع علی الحج، وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في

ص: 298


1- الکافي 4: 545.
2- تفسير العياشي 1: 189.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 449، عن علل الشرائع.

الآية: «يعنی به الحج والعمرة جميعاً لأنهما مفروضان»(1).

وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل عن الناس، والمراد القدرة العرفية، وأما القدرة العقلية فهي شرط في جميع التکاليف، فالاستطاعة هنا يراد بها قدرة عرفية، وهي امتلاك الزاد والراحلة، والتمکن من قطع المسافة بأن لايمنع مانع من الظالمين ونحوهم، وصحة البدن بحيث يتمکن من الإتيان بالمناسك، والرجوع إلی کفاية بمعنی أن لايسبّب صرف النفقة في الحج إلی احتياجه سؤال الناس بعد الرجوع، کأن يکون له رأس مال يتکسّب به فإذا صرفه في الحج عاد فقيراً سائلاً، والتفصيل يطلب من کتب الفقه.

وقوله: {وَمَن كَفَرَ} أي ومَن ترك الحج، وهو إما من کفران النعمة، أو من الکفر العملي، لا الکفر في العقيدة، أي عمل کعمل الکفار، وهذا لايخرج عن الملة، وقد يعاقب في الآخرة عقاب الکفار إلاّ أن يشاء الله مغفرته، وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «مَن سوّف الحج حتی يموت بعثه الله يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً»(2).

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَٰلَمِينَ} الجزاء محذوف، وهذا علتّه، أي فلا يضرّ الله شيئاً لأنه تعالی غني عن العالمين أجمعهم فکيف بهذا التارك، فلا يحتاج سبحانه إليهم وإنما أمرهم لحاجتهم. فلايظننّ العاصي أنه أعجزه، بل حرم نفسه الرحمة والمغفرة.

وفي الجوهر الثمين: أکّد الله تعالی أمر الحج بإيجابه بصيغة الخبر،

ص: 299


1- الکافي 4: 264.
2- من لايحضره الفقيه 4: 266.

والجملة الإسمية، وإيراده علی وجه يفيد أنه حق الله في رقاب الناس، وتخصيص الحکم بعد تعميمه - وهو تکرير للمراد وبيان بعد إبهام - ، وتغليظ ترکه بتسميته کفرا، کما سُمّي تارکه في الحديث يهودياً أو نصرانياً، وذکر الاستغناء الدالّ علی المقت والسخط، وأبدل (عنه) ب {عَنِ الْعَٰلَمِينَ} الدال علی الاستغناء عنه بالبرهان وعلی عظم السخط(1).

ص: 300


1- الجوهر الثمين 1: 351.

الآيات 98-101

{قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ كَٰفِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ (101)}

وبعد بيان انحراف أهل الکتاب في العقائد والأحکام عن ملة إبراهيم (عليه السلام) تم توبيخهم ليتعظوا ولتحذير المؤمنين منهم، فقال تعالی:

98- {قُلْ} يا رسول الله: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ} تخصيصهم بالذکر - مع عموم المقصود - لأنهم شأن نزول الآية، ولأنّ الکفر منهم أقبح {لِمَ} لماذا {تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ} دلائله الواضحة في التوحيد وفي نبوة الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وسائر البينات، {وَاللَّهُ} أي والحال أنّ الله {شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ} فهو سبحانه قائم علی کل نفس بما کسبت ويعلم أعمالها، فلاينفعکم التحريف والکتمان وعدم الإيمان، فإنه سيجازيكم عليها.

99- {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ} لماذا {تَصُدُّونَ} تمنعون وتصرفون عبر إلقاء الشبهات {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الطريق الذي أمر الله سلوکه فتصدّون

ص: 301

{مَنْ ءَامَنَ} حالکونکم {تَبْغُونَهَا} تطلبون السبيل {عِوَجًا} أي معوجّة، أي تريدون أن تکون السبيل حسب أهوائکم، فهذه الآية ذمهم علی إضلال الناس، والآية السابقة تقريع لهم علی ضلالهم في أنفسهم، {وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ} تعلمون في قرارة أنفسکم أنها سبيل الله تعالی، {وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بل هو تعالی عالم وسيجازيكم علی أفعالکم.

100- ثم يتوجه الخطاب إلی المؤمنين لتحذيرهم من هؤلاء فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا} جماعة وهم المضلّون الذين يريدون إضلالکم {مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} فلم يعملوا به وحرّفوه {يَرُدُّوكُم} يرجعوکم {بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ كَٰفِرِينَ} فهؤلاء لو کانوا طلاب حق لاتّبعوا الهدی، لکنهم ضلّوا فحريّ بکم عدم إطاعتهم لئلا تضلّوا.

101- {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} استفهام للتعجب وللاستبعاد، بغرض إبعادهم عن الکفر وإلفاتهم إلی ما يمتلکونه من وسائل الهداية، {وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ} تُقرأ {عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥ} وکل واحد منهما يكفي في عدم الکفر، لکن سبب الکفر مع وجود هذين النورين هو عدم الاعتصام بالله، فاعتصموا به {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} يتمسك بأوامره أو يلتجئ إليه تعالی في أموره {فَقَدْ هُدِيَ} اهتدی بهداية الله {إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ} وهو طريق الإسلام الموصل إلی طريق الجنة والرضوان.

بحوث

الأول: نظم الآيات أن الله تعالی بعد أن دحض حجج أهل الکتاب في مسائل التوحيد والنبوة وفي بعض فروع الدين، يبدأ بتقريعهم وذمهم علی

ص: 302

إصرارهم علی الکفر والعناد بعد تبيّن الحق لهم، وفيه ذمهم علی ثلاثة أمور - ضلالهم وإضلالهم وتحريفهم - والغرض وعظهم، فلعلّه يرعوي البعض - ولو القليل - منهم، وتحذير المؤمنين منهم بأن هؤلاء معاندون فعليهم أن يحذروا منهم ولاينخدعوا بأباطيلهم، إذ لو کانوا أهل الحق والهداية لبدأوا من أنفسهم، فلا تغترّوا بهم فتطيعوهم، مع توفر أسباب الهداية من تلاوة آيات الله ووجود الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بين أظهرهم ووجود الأئمة (عليهم السلام) من بعده - کما سيأتي بيانه - .

الثاني: قوله تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ...} الآية.

هذا التقريع الأول بضلالهم في أنفسهم من جهات ثلاث:

1- إنهم أهل کتاب، فيعلمون أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حق، فلئن کان الکفر من کل أحد قبيحاً فمنهم أقبح، ولئن کان بعض الجهلة معذورين لقصورهم فلا عذر لهؤلاء بعد ما رأوه في الکتاب من ذکره (صلی الله عليه وآله وسلم) وبيان صفاته.

2- إنها آيات الله، ودلائله لاتخفی علی عاقل فضلاً عن عالم بالکتاب، لأن آيات الله واضحة لاغموض فيها أبداً، لکنهم مع ذلك کفروا بها.

3- إن الله شهيد عليهم، فهذا أقبح ما في فعلهم، لأن مخالفة صاحب النعمة قبيح في غيابه فکيف في حضوره، والله تعالی لايعزب عنه شيء في السموات ولا في الأرض.

قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ} الاستفهام إمّا للإنکار أو للتعجب أي تعجبّوا أيها الناس من فعل هؤلاء.

قوله: {بِآيَٰتِ اللَّهِ} لأن الکفر ببعض الآيات کفر بجميعها، کما أن

ص: 303

رفض بعض ما في الکتاب رفض لجميعه، إذ يكشف عن عدم الايمان، لأن المؤمن الحقّ هو الذي يسلّم لله في کل شيء کما قال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(1).

قوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ} في هذا المقطع تذکير لهم وتهديد، أمّا التذکير فلأنهم کانوا يزعمون أنه لايعلم ما يكتمونه فکأنّهم يخادعون الله، أو کانوا يعلمون بأنه شهيد عليهم لکنهم يغفلون عنه لرين قلوبهم، فکان لابد في وعظهم وتذکيرهم بذلك، وأمّا التهديد فلأن المقصود بيان عقابهم علی أفعالهم وذلك يتوقف علی العلم بها، والله سبحانه قائم علی کل نفس بما کسبت، بل قد يراد بيان عدم نفع کفرهم وتحريفاتهم لأن الله القادر المهيمن الذي أنزل تلك الآيات شاهد علی أعمالهم، والله بالغ أمره ومکر أولئك هو يبور.

الثالث: قوله تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

وفي الآية تقريعان آخران: صدهم عن سبيل الله وطلب اعوجاج سبيله تعالی، فهؤلاء لم يكتفوا بکفرهم أنفسهم، بل تعدوا ذلك إلی إضلال الناس، وأيضاً تحريف سبيل الله تعالی عن الصراط المستقيم إلی الاعوجاج.

قيل: تکرار قوله: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ} مبالغة في التقريع، ونفي العذر، وإشعار بأن کل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه.

ص: 304


1- سورة النساء، الآية: 65.

وقوله: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} صدّهم عبر إلقاء الشبهات في الدين، أو تزيين الدنيا في أعينهم بالتطميع أو ببذل الأموال ونحو ذلك.

وقوله: {مَنْ ءَامَنَ} أي من آمن فعلاً، أو من يريد الايمان، حيث کان بعض الکفار يستطلعون أخبار الناس، فمن رأوا فيه ميلاً إلی الايمان رکزوا عليه ليصرفوه عنه.

وقوله: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} تقريع آخر علی محاولاتهم تحريف الدين حتی يُری الطريق الأعوج کانّه الصراط المستقيم، والجملة حالية أي تصدّون حالکونکم تطلبون الاعوجاج في سبيله تعالی، والضمير في {تَبْغُونَهَا} للسبيل فإنه يجوز تذکيرها وتأنيثها، و{عِوَجًا} مصدر بمعنی اسم الفاعل وهو مفعول ثاني ل (تبغون) أي معوجّة، والسبيل العوجاء تقابل الصراط المستقيم.

وقوله: {وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ} أي تعلمون علم اليقين بسبيل الله، ومع ذلك تصدّون عنه، وهذا أقبح أنواع الانحراف، فهؤلاء شهداء علی باطلهم والله ليس بغافل عنهم بل هو شهيد عليهم وسيجازيهم بأفعالهم.

وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تهديد لهم وإشعار بعدم نفع أفعالهم لأنه سبحانه يريد أن يحق الحق بکلماته، وأنهم يريدون إطفاء نور الله لکنه سبحانه متم نوره ويظهر دينه علی الدين کله ولو کرهوا ومهما حاولوا.

وقيل: إن کفرهم کان علنياً لذا ختم الله الآية السابقة بقوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ} وأما صدّهم عن سبيل الله تعالی فکان في الخفاء وبالمکر

ص: 305

عادة لذا أتم هذه الآية بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

الرابع: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا...} الآية.

بعد بيان ضلال وإضلال أهل الکتاب، تحذر هذه الآية عن اتبّاعهم وإطاعتهم، فأهل الکتاب يريدون العوج في سبيل الله تعالی ولذا يصدّون الناس عنها، فاحذروهم أيها المؤمنون.

وإنّما قال: {فَرِيقًا} لأن الذين تحتمل إطاعتهم ليسوا کل أهل الکتاب وفيهم الضعفاء والجهلة والأميين، وإنّما محتمل الإطاعة هم أحبارهم الذين يظهرون بمظهر العلماء، أو رؤساؤهم الذين بيدهم السلطة والمال، أو المراد الفريق المحرّف، أمّا الذين لم يحرّفوا وبينوا الحق وآمنوا فهؤلاء لابد من تصديقهم وإطاعتهم في الإيمان برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {يَرُدُّوكُم} أي إطاعتکم إياهم سبب لطمعهم فيكم حيث يرون ضعفکم وذُلّکم لذلك سيحاولون إضلالکم، فلابد لکم من قطع علقة التبعية لهم فلا تطيعوهم في شيء لئلا يطمعوا فيكم.

وعلی الإنسان المؤمن أن يغلق علی نفسه منافذ الشيطان سواء في المعتقدات أم في الأعمال، وليس معنی ذلك عدم الاستماع بل عدم الإطاعة في کبير أو صغير، وقد أغناکم الله عنهم فأمرکم بإطاعته وإطاعة رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأولي الأمر منکم، فلا حاجة لإطاعة أهل الکتاب أبداً.

الخامس: قوله تعالی: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ...} الآية.

استفهام علی سبيل التعجب، بمعنی أنه لاينبغي لکم الکفر أبداً، إذ لامجال للتأثر بالشبهات أبداً إذ آيات الله بيّنة وواضحة نصب أعينکم وهي

ص: 306

تتلی عليكم أولاً بأول، ومضافاً إلی کونها آية في نفسها فإنها تبين الحقائق وتدحض الشبهات، کما أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حضر بين أظهرکم، بمعجزاته ودلائله ومنطقه، وأصل رؤيته والاستماع إليه کفيل بدحض الشبهات، فضلاً عن المعاجز التي صدرت عنه، مضافاً إلی إمکانکم استفساره عن أيّ شيء وطلب جواب أية شبهة.

وأما قوله: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} فيمکن أن يراد به بيان أن سبب ارتداد ونفاق بعض الناس مع أنهم شاهدوا آيات الله تعالی ورأوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، هو عدم اعتصامهم بالله تعالی، فإن الهداية منه سبحانه کما قال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(1)، فلابدّ للمؤمن أن لايعتمد علی رؤيته وسماعه بل يعتمد علی الله سبحانه ويتوکل عليه ليوفقه علی الانتفاع بما حباه من سمع وبصر وعقل.

کما يمکن أن يکون المقصود بيان حالة أخری هي حالة انقطاع الوحي ورحيل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فحينئذٍ تکون الآية بصدد التعميم بعد التخصيص ببيان أنه لابدّ للإنسان من الالتجاء إلی الله تعالی ليحفظه من الضلال وليهديه سبيله، وهذا هو الذي بيّنه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين المتواتر لدی الفريقين حيث خلّف الرسول في الأمة کتاب الله وعترته أهل بيته وقال: «ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً» فهذا من الاعتصام بالله تعالی.

و(الاعتصام) بمعنی الامتناع، واعتصم به أي امتنع بسببه، فالاعتصام بالله بمعنی الامتناع عن الضلال بتوفيق منه تعالی، وسمّي المعصوم معصوماً لأنه

ص: 307


1- سورة القصص، الآية: 56.

الممتنع بالله من جميع محارم الله کما في الحديث(1).

وقوله: {فَقَدْ هُدِيَ} إخبار، أي اهتدی سواء في الدنيا بالحياة الکريمة البعيدة عن الضنك، أم في الآخرة إلی السعادة والجنة، وقيل: هذا وعد أي إن الله يعده بالهداية إلی الصراط المستقيم، لا السبيل الأعوج الذي کانوا يريدون إغوائه بإلقائه فيه.

ص: 308


1- معاني الأخبار: 132.

الآيتان 102-103

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}

وبعد تحذير المومنين من مکائد أهل الکتاب وأمرهم بالاعتصام بالله تعالی، يتم وعظهم وإرشادهم إلی کيفية الاعتصام به تعالی، وذلک بالتقوی والاستمرار علی الإسلام والاعتصام بحبل الله وتذکر نعمه فقال:

102- {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} حيث أظهروا الإسلام {اتَّقُواْ اللَّهَ} احذروا عذابه {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي التقوی الحق بأن تطيعوه ولاتعصوه، وتذکروه فلاتنسوه، وتشکروه فلا تکفروه، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي لتکونوا مسلمين في کل الأزمان والأحوال حتی إذا جاءکم الموت متّم علی الإسلام بمعنی التسليم المطلق لله تعالی في کل شيء.

103- {وَاعْتَصِمُواْ} تمسکوا وامتنعوا عن الانحراف {بِحَبْلِ اللَّهِ} بسبب حبله الذي هو الدين والقرآن والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) {جَمِيعًا} مجتمعين عليه {وَلَا تَفَرَّقُواْ} بأن يترك البعض حبل الله.

ثم يحث الله المؤمنين علی الاعتصام بحبله بتذکيرهم بما وُفّقوا له بسبب

ص: 309

الإيمان، من فائدتين عظيمتين دنيوية وأخروية {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وهي الإيمان {إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً} قبل الإسلام {فَأَلَّفَ} جمع وقرّب {بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ} بسببها {إِخْوَٰنًا} حالکم کحال الإخوة في النسب متحابين، فهذه نعمة دنيوية، {وَ} أما الأخروية فقد {كُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا} حافة {حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ} حيث کنتم علی الکفر ولم يكن بينکم وبين الوقوع في نار جهنم سوی الموت {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} من الحفرة أو من النار ببرکة هدايتکم إلی الإسلام، {كَذَٰلِكَ} کما في هذه الآية {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِ} علائمه وحججه ودلائله {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لأجل هدايتکم بالثبات علی الهدی والزيادة فيه.

بحوث

الأول: بعد أمرهم بالاعتصام بالله تعالی، يتم بيان کيفية هذا الاعتصام، وذلك في مراحل ثلاث.

1- ملازمة التقوی في کل حال.

2- التمسك بحبل الله - من الدين والقرآن والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) - لأنهم الطريق إلی الله تعالی، فالدين هو الإرادة التشريعية لله تعالی الذي نَهَجَه للعباد، والقرآن هو الجامع لکل ما يريده الله من الناس، والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) هم المبلّغون عن الله والشارحون لکتابه.

3- تذکر نعم الله تعالی - دنيوية وأخروية - وماکانوا عليه من سوء الحال قبل الإسلام، ليکون ذلك محفّزاً لهم للاستمرار في الإسلام والاستزادة من التقوی والعمل الصالح.

ص: 310

الثاني: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}.

بيان للمرحلة الأولی، و{اتَّقُواْ} من الوقاية بمعنی حفظ النفس، و{اتَّقُواْ اللَّهَ} بمعنی الحذر من عقابه وعذابه، وذلك بإطاعته في جميع الأحوال.

و{حَقَّ تُقَاتِهِ} أي بالکيفية التي تستحقها التقوی، من ملازمتها وبأقصی درجاتها، وفي جميع الأحوال والأزمنة والأمکنة، ولايکون ذلك إلاّ بطاعته في جميع أوامره وترك معصيته في جميع نواهيه، وبأن يذکر دائماً من غير نسيان، وبأن يشکر من غير کفر، کما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «يطاع ولا يعصی، ويذکر فلا ينسی، ويشکر فلا يكفر»(1).

ومن المعلوم أن هذا يتوقف علی معرفة جميع الأحکام الواقعية من جهة، وعلی إفراغ النفس والفکر من جميع التعلقات المادية وبشکل دائم، وهذا لايطيقه غالب الناس إلا من اصطفاه الله وعصمه، فلذا خفف الله عنهم فأنزل قوله تعالی: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(2)، أي إن لم تتمکنوا من حق تقواه إمّا لعدم علمکم ببعض الأحکام الواقعية - وهذا ما حصل الآن حيث إن بعض الأحکام أحکام ظاهرية وبأدلة مظنونة أو بأصول عملية - وإمّا لعدم تمکنکم من الذکر الدائم والشکر المتواصل بعروض الغفلة والتعلقات الدنيوية، فعليكم بالتقوی بمقدار استطاعتکم.

وهذا ما دلت عليه الأحاديث الشريفة، فعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالی: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أنه قال: «والله ما عمل بها غير أهل بيت

ص: 311


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 463، عن معاني الأخبار والمحاسن وکتاب الزهد.
2- سورة التغابن، الآية: 16.

رسول الله، نحن ذکرنا الله فلا ننساه، ونحن شکرناه فلا نکفره، ونحن أطعناه فلم نعصه، فلما نزلت هذه الآية قالت الصحابة: لانطيق ذلك! فأنزل الله تعالی: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(1).

وبذلك يتضح معنی ماورد من نسخ آية {حَقَّ تُقَاتِهِ} بآية {مَا اسْتَطَعْتُمْ}(2)،

فإن المراد الاکتفاء بما يستطيع الإنسان مع عدم إيجاب الدرجة العليا من التقوی عليه، وبعبارة أخری: إن (حق التقوی) هي الدرجة العليا منه لمن تمکّن - ولم يتمکن منها إلا المعصومون (عليهم السلام) - ولکن خفّف الأمر علی سائر الناس بجعل حق التقوی عليهم بما يستطيعون، وبعبارة ثالثة: ليس هناك نسخ في الحکم، وإنما توسعة للموضوع، وذلك بإدخال تقوی سائر الناس في حق التقوی کلٌ بحسبه، وهذا ما يعبّر عنه في أصول الفقه بالحکومة، التي من مصاديقها التوسعة في الموضوع ليدخل فيه ما لم يكن منه، وذلك بغية شمول الحکم له.

وقيل: إن مفاد الآيتين - آية حق تقاته، وآية ما استطعتم - واحد، لأن الاستطاعة شرط عقلي للتکليف، فکل مؤمن وحسب مرتبة کماله وإيمانه يکون متقياً حق تقاته، مع تأويل رواية النسخ بأن المراد من النسخ هنا هو نزول المفسِّر الذي يرفع توهم أن حق التقاة هو ما فوق الاستطاعة.

لکن الأقرب هو ما ذکرناه لتطابقه مع الأخبار ومع الاعتبار العقلي، فالجمع بين الآيتين يعطي معنی أن علی الإنسان أن يتقي الله حق تقاته، فإن

ص: 312


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 464، عن مناقب ابن شهر آشوب عن تفسير وکيع.
2- تفسير العياشي 1: 193.

لم يستطع ذلك فبالمقدار الذي يتمکن منه.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

هو نهي عن الکفر الذي قد يصادف موت الإنسان عليه، وليس نهياً عن الموت لأنه ليس من أفعال الإنسان ولا هو يقدر عليه، فالمراد هو الاستمرار علی الإسلام دائماً وعدم التسويف في الإيمان والتوبة أو بناء الأمر علی التمني والآمال، إذ لايعلم الإنسان متی يموت، فعليه أن يکون علی الإسلام دائماً حتی إذا مات مات علی الإيمان.

وقوله: {مُّسْلِمُونَ} بمعنی مسلِّمون من التسليم لله في کل شيء، کما في دعاء إبراهيم (عليه السلام) : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}(1)، قال سبحانه: {ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(2)، وعليه فالخطاب في صدر الآية بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} يراد به مطلق من أظهر الشهادتين، ولذا أمرهم بالإيمان في قوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...}(3)،

وقد مرّ أن الاصطلاح القرآني هو أنّ {الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لمطلق المسلمين فيشمل کل من أظهر الشهادتين، و{أَهْلِ الْكِتَٰبِ} لليهود والنصاری، و{الْمُشْرِكُونَ} لعبدة الأصنام، وأما الإسلام في قوله: {إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} يراد به التسليم لله في کل شيء وهو أرفع درجات الإيمان، فما روي من أن التنزيل الذي نزل به جبرئيل هو

ص: 313


1- سورة البقرة، الآية: 128.
2- سورة النساء، الآية: 65.
3- سورة النساء، الآية: 136.

مسلِّمون(1) يراد به تنزيل المعنی، إذ کما نزل نص القرآن کذلك نزل تفسيره وتأويله، کما قال: {فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥ}(2) والله العالم.

معنی حبل الله تعالی

الرابع: قوله تعالی: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}.

هذه المرحلة الثانية، فبعد تقوی الله، يکون الوعظ بالتمسك بحبله تعالی، وتم تشبيهه بالحبل لأن الحبل الوثيق يمنع المتسلّق من السقوط في الهاوية، کما يرفع به من کان في بئر ونحوها، فکذلك حبل الله يمنع الإنسان من السقوط في نار جهنم، ويرفعه إلی الدرجات الراقية من الکمال والجنة والرضوان.

فحبل الله هو ما يوصل الإنسان إلی الله تعالی، وهو دينه والقرآن والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ، حيث إن ذلک يرفع الإنسان إلی درجات الکمال ويمنعه من الهويّ في الرذائل ونار جهنم، ولذا ترك رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في أمته الثقلين وبيّن أن التمسك بهما أمان من الضلال أبداً، فقال: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً کتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتی»(3).

وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه أشار إلی الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: «هذا حبل الله الذي من تمسك به عُصم به في دنياه ولم يضلّ في آخرته»(4)،

ص: 314


1- تفسير العياشي 1: 193.
2- سورة القيامة، الآية: 18-19.
3- حديث متواتر بمضامين قريبة، راجع بحار الأنوار 23: 106 فما بعد.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 468، عن غيبة النعماني.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «نحن الحبل»(1)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «آل محمد هم حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به»(2)،

وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أيها الناس إني قد ترکت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدی، أحدهما أکبر من الآخر: کتاب الله حبل ممدود من السماء إلی الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا إنهما لن يفترقا حتی يردا عليّ الحوض»(3).

وقيل: الفرق بين قوله: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} في الآية 101، وقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ}، أن الباء في الأولی للتعدية فالاعتصام بالله هو الالتجاء إليه، والباء في الثانية للسببية أي الاعتصام بسبب الحبل، فمعنی الآيتين هو الاعتصام بالله بواسطة حبله.

وقيل: الباء في الآيتين، بمعنی واحد، لکن الثانية شارحة للأولي أي الاعتصام بالله يکون عبر الاعتصام بحبله.

وقيل: ذاك في الاعتصام الفردي فقال: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ} وهذا في الاعتصام الجمعي.

وقوله: {جَمِيعًا} إمّا أمر الجميع، أي هذا واجب عيني علی الکل وليس کالأمر بالمعروف والنهي عن المنکر - المذکورين في الآيات التالية - حيث إنهما واجبان کفائيان، فيکون قوله: {وَلَا تَفَرَّقُواْ} بمعنی النهي عن ترك البعض.

وإمّا بمعنی مجتمعين، أي اعتصموا حالکونکم مجتمعين، فيکون قوله:

ص: 315


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 468، عن أمالي الشيخ الطوسي.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 468، عن تفسير العياشي.
3- مجمع البيان 2: 534.

{وَلَا تَفَرَّقُواْ} تأکيداً أي مجتمعين غير متفرقين.

الخامس: قوله تعالی: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...} الآية.

هذه المرحلة الثالثة وهي تذکيرهم بفائدتين مهمتين في إسلامهم، والغرض هو حثّهم علی الاستمرار علی الايمان والاعتصام، إحداهما دنيوية يلمسونها وهو تبدل العداوة إلی الألفة الشديدة بحيث صاروا کالإخوان، وتبدل الخوف بالأمن والأمان، والثانية أخروية بإنقاذهم من نار جهنم مع أنهم کادوا أن يقعوا فيها بکفرهم.

وقوله: {نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وهي إرسال الرسول إليكم وهدايتکم إلی دين الله، کما قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}(1)، وقال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَىٰكُمْ لِلْإِيمَٰنِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ}(2).

قوله: {إِذْ كُنتُمْ...} بيان للنعمة الأولی، وقوله: {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا...} بيان للنعمة الثانية.

قوله: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} من الألفة بمعنی الإلتئام القلبي والمودة بين الأشخاص، بحيث اقتربت قلوبهم وحصلت المودة بعد طول التباغض والحروب بينهم، حيث طالت الحرب بين الأوس والخزرج أکثر من مائة سنة، وکانت الغارات دأب القبائل، فکان شعارهم الخوف ودثارهم السيف، فکان الجميع - باستثناء أهل مکة - في خوف دائم.

ص: 316


1- سورة الجمعة، الآية: 2.
2- سورة الحجرات، الآية: 17.

وقوله: {فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَٰنًا} بيان أن تلك الألفة بلغت إلی أعلی المراتب، حيث صار أحدکم کأخ للآخر، فيتعامل معه کما يتعامل مع أخيه.

وقوله: {شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ النَّارِ} بيان للفائدة الأخروية و{شَفَا} بمعنی الحافة، فالمعنی کنتم کفاراً، والکافر في حافة نار جهنم، ليس بينکم وبين الوقوع فيها إلاّ الموت، وهو قريب جداً، فکأنکم ساقطون في جهنم.

وقوله: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} أي من الحفرة، لأنهم کانوا سيقعون فيها لامحالة إن لم يرسل الله تعالی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) إليهم، کما قال تعالی: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}(1).

ص: 317


1- سورة التوبة، الآية: 109.

الآيات 104-109

اشارة

{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ (107) تِلْكَ ءَايَٰتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَٰلَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}

104- ولابد من حفظ الاعتصام بالله وبحبله واستمرار نعمه، وذلك بهداية الناس ومنعهم عن الانحراف {وَلْتَكُن} يجب أن تکون {مِّنكُمْ أُمَّةٌ} جماعة وعلی رأسهم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} کالإسلام بإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل، {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} أي ما يعرفه الشرع والعقل بالحُسن {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ما لايعرفاه بالحُسن بل يستقبحانه، {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون، أو الکُمّل في الفلاح.

105- ثم حذرهم من نسيان هذه النِعم الجسام کما نسته الأمم السابقة {وَلَا تَكُونُواْ} بعد الألفة والأخوة {كَالَّذِينَ} من قبلکم کاليهود والنصاری حيث تألفت قلوبهم بسبب الأنبياء ثم {تَفَرَّقُواْ} عن حبل الله {وَ} اَدّی ذلك إلی أن

ص: 318

{اخْتَلَفُواْ} في دين الله فصاروا فِرقاً کثيرة {مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَٰتُ} الأدلة الواضحة في العقيدة والشريعة، ولکنهم ترکوها عمداً وعناداً فضلّوا {وَأُوْلَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فعليكم أن لاتحذوا حذوهم لئلا ينالکم هذا العذاب.

106- ووقت هذا العذاب العظيم {يَوْمَ} أي في يوم القيامة الذي فيه {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} بالنور فهم فرحون وعليهم نضرة النعيم، {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} بعدم النور عاليهم الحزن والبؤس والذل، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم سبب ذلك تقريعاً لهم وبياناً لعدله تعالی: {أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ} وهذا يشمل أهل الکتاب الذين آمنوا بالأنبياء السابقين وکفروا برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أو آمنوا به قبل مبعثه ثم کفروا به بعده، کما يشمل المرتدين، ويشمل المنافقين الذي آمنوا لساناً وکفروا قلباً {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} وهو إسوداد الوجه ويليه سائر العذاب {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب کفرکم.

107- {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} وهم المؤمنون حقاً المعتصمون بالله وبحبله {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} وبدايتها بياض الوجه ويليه الجنة والرضوان {هُمْ فِيهَا} في الرحمة {خَٰلِدُونَ}.

108- {تِلْكَ} الأمور التي ذکرت من الأمر والنهي والوعد والوعيد وأحوال المؤمنين والکافرين {ءَايَٰتُ اللَّهِ} دلائله وحججه {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} مباشرة وعلی أمتك بواسطتك {بِالْحَقِّ} ملازمة للحق فهي حق وتلاوتها حق، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَٰلَمِينَ} فليست التشريعات ثم الجزاء من الظلم في شيء بل هي حسب الحکمة والمصلحة.

109- {وَ} إنّما شرّع تعالی ويجازي لأنه المالك المطلق ف {لِلَّهِ مَا فِي

ص: 319

السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فکما أن التکوين له کذلك التشريع له {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} کل شؤون الخلق والمخلوقات فهي بيد الله تعالی، ولذا شرّع ثم يعاقب المخالف ويثيب المطيع.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ...} الآية.

بعد أن بيّن الله تعالی الطريق المستقيم وکيفية الاهتداء إليه، وحذّر من الضلال وأسبابه، بعد ذلك يبيّن أن من واجب الناس الحفاظ علی طريق الهداية، وذلك عن طريق الدعوة إلی الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، وبعبارة أخری: إن الله تعالی شرّع ورُسله بلّغوا، لکن لاينتهی الأمر عند هذا الحدّ، بل لابدّ من وجود مجموعة تساهم في التبليغ.

وقوله: {مِّنكُمْ} أي من المسلمين لامن الکفار، فأنتم أولی بذلك من غيرکم، و(من) إما للتبعيض أو بيانية، وعلی کلا التقديرين فالمعنی واحد، إذ علی التبعيض يکون المعنی ليكن بعضکم، وعلی البيانية يکون المعنی لتکونوا أمة داعيةً آمرةً ناهيةً، ومن المعلوم أنه يكفي في کون المسلمين هکذا وجود مجموعة فيهم تقوم بهذه المهمة، لأن الغرض يحصل بدعوة البعض وأمرهم ونهيهم، ومع حصول الغرض لاوجه لتکليف الآخرين.

وقوله: {أُمَّةٌ} أي مجموعة، وأصل الکلمة من (ا م م)، بمعنی القصد، وفيه إشعار بکونهم ممن يقصدون لعلمهم وورعهم، إذ لافائدة في دعوة من لم يلتزم بنفسه لجهله أو لفسقه، ولا في أمر من لم يأتمر بنفسه، ولا في نهي من لم ينتهِ بنفسه، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «وانهوا عن المنکر

ص: 320

وتناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي»(1) وقد دلت الأدلة الشرعية علی أن التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر من الواجبات الکفائية التي إذا قام بها من فيه الکفاية سقط الوجوب عن الآخرين.

وأفضل هؤلاء الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم، لأنهم عرفوا الحق ثم بلّغوه، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «هذه الآية لآل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن تابعهم»(2)، وهناك روايات في تفسير الأمة بالأئمة(3)، حيث أريد نزول معنی الأمة بالأئمة (عليهم السلام) ثم أتباعهم من بعدهم، وأما من توهم أن هذه الأمة کل الأمة الإسلامية فکلامه مستنکر لأن فيهم قتلة أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني علي (عليهم السلام) (4).

وقيل: في هذا التبعيض وتنکير {أُمَّةٌ} تنبيه علی قلة العاملين بذلك، وأنه لايخاطب به إلاّ الخواص(5).

وقوله: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} مطلق الخير فيشمل الأفعال والتروك، وأصل الخير الإسلام والإيمان، فتدل الآية علی وجوب التبليغ وهداية الکفار والمنافقين ووجوب إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل.

وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وهو کل ما عرفه الشرع والعقل بالحُسن، ولايکون کذلك إلا ما کان حسنه ذاتي أو عرضت عليه جهة محسِّنة،

ص: 321


1- نهج البلاغة، الخطبة 105.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 473، عن تفسير القمي.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 476، عن تفسير القمي والعياشي.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 476، عن تفسير القمي.
5- الکشّاف 1: 303 (الحاشية).

وليس المراد مجرد تعارفه بين الناس، إذ کثيراً ما تتعارف بينهم القبائح حتی يتعودوا عليها، لکنهم بفطرتهم يدرکون قبحها، فهي متعارفة عندهم لکنهم ينکرونها بعقولهم.

وقوله: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وهو کل ما لم يعرفه الشرع والعقل بالحُسن بل استقبحاه، وهذا يشمل ما شاع من القبائح بين الناس حتی تعودوا عليه، فهو منکر واقعاً يدرکون نکارته بفطرتهم أو بعقولهم.

نعم هناك أمور لايدرك الإنسان حسنها أو قبحها لقصور علمه، وقد بيّنها الشارع رحمة للناس ولطفاً من الله تعالی بهم، فکل ما أباحه الشارع معروف حتی لو لم يعرفه الناس، وکل ما منع عنه منکر حتی لو تعارف بينهم.

وقيل في الفرق بين الخير والمعروف، والشر والمنکر: أن المعروف والمنکر من صفات الفعل في مرحلة الطاعة والعصيان، وأما الخير والشر فهما أعم من ذلك فيشملان ما لم يكن باختيار الإنسان کالبلايا والنعماء ونحو ذلك(1).

وفي المناهج: الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر من أفضل فرائض الله تعالی، لأنهما کاشفان عن أعلی درجات الايمان، فإن الآمر والناهي لايرضيان أن يعصی الله في أرضه، فهما يذبان عن حريم الله تعالی ويدافعان عن حرماته(2).

وقوله: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي الفلاح الکامل وذلك لأنهم سبقوا

ص: 322


1- مناهج البيان 4: 31.
2- مناهج البيان 4: 44 (بتصرّف).

غيرهم إلی هذه الفضيلة، فإن الواجب الکفائي يسقط عن الآخرين بفعل من فيه الکفاية، لکن العاملين به فازوا بقصب السبق، فالفلاح الکامل لهم، وقيل: هذا کالعلة لدعوتهم وأمرهم ونهيهم، أي لأنهم کانوا مفلحين بحسب تربية النفس لذلك قاموا بهذه المهمة، أو الأمة التي فيها هذه المجموعة هي أمة مفلحة فائزة، وهذا لاينافي عدم فلاح البعض بنفاقهم أو معاصيهم، فتأمل.

الثاني: قوله تعالی: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ...} الآية.

بعد إرشاد المؤمنين بمواصلة الاعتصام بالله وبحبله، يتم تحذيرهم من التماهل والغفلة عن ذلك بأن يطول عليهم الزمان فيترکوا الاعتصام، فإن ذلك يؤدي بهم إلی الانحراف عن طريق الحق إلی سبل الباطل، وهذا ليس مجرد أمر نظري، بل قد وقع مثله في الأمم السابقة، قال تعالی: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ}(1)، والفرق بين {تَفَرَّقُواْ} و{وَاخْتَلَفُواْ} أن التفرّق هو بمعنی عدم الاعتصام بالله وبحبله، فأدّی ذلك إلی أخذهم بالآراء المختلفة فاختلفوا إلی فرق ومذاهب شتی وکثيرة.

وقيل: تفرقوا بالعداوة واختلفوا في المعتقد، وقيل: تفرقوا في البداية، واختلفوا باستمرار التفرقة، وقيل: تفرقوا بالأبدان فاختلفوا في الأفکار، وقيل: کلمتان بمعنی واحد تأکيداً.

وقد استفاضت الروايات بافتراق أمة موسی (عليه السلام) إلی إحدی وسبعين فرقة، وأمة عيسی (عليه السلام) إلی اثنتين وسبعين، وستفترق أمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی

ص: 323


1- سورة البقرة، الآية: 253.

ثلاثة وسبعين فرقة(1)، وسبب ذلك عدم عمل الأکثر بوصية الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بالتمسك بالثقلين الذي مَن تمسك بهما لن يضلّ أبداً، لکنهم شرّقوا وغرّبوا فحفظوا رسم القرآن وکلماته وحرّفوا معانيه، وأقصوا العترة عن السلطة ثم شردّوهم وقتلوهم.

افتراق المسلمين وعدد فِرَقهم

ومن فذلکة القول إن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يذکر زمان حدوث هذه الفرق، لکنه أخبر عن الافتراق إليها في المستقبل، وتأسيس هذه الفرق کان بالتدريج، لکن بعض کتّاب الملل والنحل تصوروا أن هذه الفرق کلها قد تأسست قبل زمانهم لذلك کلّما نقص العدد اخترعوا بأوهامهم فرقاً أخری ليكمّلوا العدد إلی ثلاثة وسبعين!!

ومع کل هذا التحذير من التفرق لم يراع الأکثر کلام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فاختلفوا وتفرقوا في زمانه، وحديث القرطاس مشهور روته العامة والخاصة حيث اتهموا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأنه يهجر - والعياذ بالله - لما طلب کتاباً وقلماً ليكتب لهم کتاباً لن يضلوا بعده أبداً، ثم خالفوا وصيته ونقضوا العهود حتی حاربهم أمير المؤمنين (عليه السلام) علی التأويل کما حاربهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) علی التنزيل.

ثم إعلم أن الاختلاف المذموم هو الاختلاف في الدين الناتج عن ترك الاعتصام بالله وبحبله، وهذا أمر اختياري للإنسان لذا تعلّق به التکليف والذم، وأما الاختلاف الطبيعي غير الاختياري في مقدار الادراك وفي الفوارق الخَلقية والاجتماعية فذلك من آيات الله تعالی، کما قال سبحانه: {وَمِنْ ءَايَٰتِهِ خَلْقُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ إِنَّ فِي

ص: 324


1- الکافي 8: 224.

ذَٰلِكَ لَأيَٰتٖ لِّلْعَٰلِمِينَ}(1)، وقد أشرنا في المجلد الأول أن سنة الله تعالی هي إيجاد التفاضل في کل شيء فراجع.

الثالث: قوله تعالی: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ...} الآية.

بعد الأمر بالاعتصام بالله وبحبله، والنهي عن التفرق والاختلاف، بيّن الله تعالی جزاء الطائفتين، فحيث إن الله تعالی نور السموات والأرض، وحبله، نور لذلك الاعتصام بهما سبب النور، فيظهر هذا النور، علی الوجه في الآخرة، کما أن ترکهما ضلال، والضلال ظلمات في الدنيا والآخرة، قال تعالی: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَٰتِ}(2)، وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِم} إلی قوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُورًا}(3).

وقيل: بياض الوجه کناية عن السرور والنضارة والبهجة، کما قال: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}(4)، وسواد الوجه کناية عن الحزن والبؤس والخوف والذل کما قال: {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِمًا}(5)، وقال: {فَلَمَّا

ص: 325


1- سورة الروم، الآية: 22.
2- سورة البقرة، الآية: 257.
3- سورة الحديد، الآية: 12-13.
4- سورة المطففين، الآية: 24.
5- سورة يونس، الآية: 27.

رَأَوْهُ زُلْفَةً سِئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}(1)، وذلك لأن السرور والعزّ وکذا الحزن والذل ونحوها أول ظهورها علی الوجه، فينبسط أو ينقبض فکُنّي عنهما بالبياض أو السواد، وقيل: السواد والبياض هنا بمعناهما الحقيقي، ولا وجه للحمل علی المجاز مع عدم المحذور من الحمل علی المعنی الحقيقي!! إلاّ أن الحمل علی الکناية أفصح وهو استعمال شائع.

وقوله: {أَكَفَرْتُم} بحذف القول اختصاراً لدلالة الجملة عليه، أي فيقال لهم أکفرتم، وذلك لتوبيخهم وتعنيفهم، فيکون ذلك مزيداً لعذابهم، وأيضاً وعظاً للناس لئلا يسلکوا ما يؤدي بهم إلی هذا المصير، فإن البعض قد يتعظ عبر التهديد بالعذاب النفسي أکثر مما يتعظ من التهديد بالعذاب الجسدي.

وقوله: {بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ} حيث إن الکلام حول الذين تفرقوا من بعد ما جائتهم البينات وهم أهل الکتاب، أو أهل الکتاب من مصاديقهم البارزة، فهؤلاء آمنوا بالبداية بالرسل لکنهم ارتدوا بعدهم وهذا أسوء أنواع الکفر لأنه کفر بعد الإقرار، ولکن شأن النزول لايخصص الآيات عادة فلذا الآية تشمل أهل الکتاب الذين کفروا برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بعد إيمانهم بموسی أو عيسی (عليهماالسلام) .

وقوله: {فَذُوقُواْ} الأمر للإهانة، والتعبير بالذوق مع أن العذاب محيط بکل أعضائهم وجوارحهم إمّا للتوسع في الذوق، أو هو إشارة إلی الاسوداد حيث إنه بداية العذاب الأکبر فکأنهم بذلك ذاقوا العذاب قبل أن يحيط بهم من کل جانب.

الرابع: قوله تعالی: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

ص: 326


1- سورة الملك، الآية: 27.

أي ثوابه ورضاه والجنة، وکل ذلك رحمة من الله تعالی علی عبده المؤمن، قيل: هو تنبيه علی أن ذلك رحمة من الله من غير استحقاق بالذات، وإنما بفضله تعالی، وحيث أراد تعالی التنبيه علی أمرين: أنهم في رحمة الله، وأن هذه الرحمة مستمرة من غير انقطاع أبد الآبدين لذلك کرّر حرف الجر فقال: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} وهو الأمر الأول، ثم قال: {هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ} وهو الأمر الثاني، ولو قال: «ففي رحمة الله خالدون» لأفاد المعنی، لکن من المطلوب التفصيل في الشيء المحبوب لزيادة الرغبة فيه.

الخامس: قوله تعالی: {تِلْكَ ءَايَٰتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ...} الآية.

لعلّ المقصود من هذه الآية والآية التي بعدها هو بيان أن هذه الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، وذکر أحوال المؤمنين والکافرين ليس لغواً باطلاً، بل لهداية الناس وإرشادهم، وذلك هو الحق فلذا يريده الله تعالی ولا يترکه لأن في ترکه الظلم وهو تعالی منزه عنه، فکما أن خلق السموات والأرض کان بالحق ولغرض سامي کذلك تکليف العباد، وحيث إن أزمة الأمور کلها بيدالله تعالی لذا شرّع لهم الأحکام - من أمر ونهي - ولا ضمانة للامتثال إلا بالجزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ.

فقوله: {تِلْكَ} أي ما ذکر في الآيات السابقة وفيها الوعظ والأمر والنهي والإنذار والتبشير وبيان الجزاء، کل تلك من علائم الله ودلائله وحججه.

وقوله: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} تلاوتها متلبسة بالحق تلازم کونها حقاً في نفسها، لأن الباطل لايُتلی إلاّ بالباطل، وأما الحق فقد يتلی بالباطل بتحريفه عن مقصده، کما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لما سمع استشهاد الخوارج

ص: 327

بآية قرآنية فقال: «کلمة حق يراد بها باطل»(1)، وقد يتلی بالحق أي يجعل الحق في مساره وللغرض الذي نزله له، فالتلاوة بالحق تلازم الأمرين معاً، فالمقصود أن ما ذکر کلّه حق وتلاوته أيضاً بالحق لأن الله أنزله لهداية الناس لأنه العدل الذي لايجور، فقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَٰلَمِينَ} کالدليل لهذا الکلام، أي إن عدم التلاوة ظلم والله منزه عنه، فلذا أرسل الرسل وأنزل الکتب وأراهم طريق الهداية، وبعبارة موجزة: إن الهداية من العدل وترکها - بترك الناس هملاً وبلا هادي أصلاً - ظلم، فلذا أنزل الله الآيات لأنه عادل لايريد ظلماً لأحد.

وفي قوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ} إشارة إلی أن الله لايصدر منه ظلم أبداً، بل ولايريده لا من نفسه ولا من غيره، لأن صدور الظلم بل وإرادته لايکون إلاّ من الجاهل أو المحتاج أو الخبيث، فقد يظلم شخص لجهله بأنه ظلم، وقد يظلم لاحتياجه فيرفع الاحتياج عبر الظلم، وقد يعلم ولايحتاج لکنه يتلذذ بالظلم لخبث باطنه، وقد تنزه الله عن کل ذلك فلذا لايظلم ولا يريد الظلم.

وقوله تعالی: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، کالتتمة للآية السابقة، فالتشريع والجزاء بيدالله تعالی لأنه الحق، کما أن خلق السموات والأرض کان بالحق، وبعبارة أخری: إن التشريع بيده کما أن التکوين بيده، فلذا خلق وشرّع ويجازي، فقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} کالدليل، أي أزمة الأمور کلها بيده، تکويناً وتشريعاً وجزاءً.

ص: 328


1- نهج البلاغة، الحکمة 198.

الآيات 110-112

اشارة

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ (110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُو بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنۢبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (112)}

وکما في الآخرة تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الکافرين، کذلك في الدنيا المؤمنين خير جماعة والنصر لهم، والکفار من أهل الکتاب أذلّاء مغضوب عليهم مضروب عليهم المسکنة، فقال تعالی:

110- {كُنتُمْ} منذ أسلمتم {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} ظهرت {لِلنَّاسِ} أجمع، فاختارکم الله لنفع الناس، وإنّما کنتم خير الأمم لاتصافکم بصفات ثلاث: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} هذا في جانب العمل، {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} في جانب العقيدة، والايمان به تعالی لاينفك عن الإيمان بکل ما أمر تعالی بالإيمان به، {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} حيث سيصبحون مثلکم خير أمة، {مِّنْهُمُ} بعضهم القليل {الْمُؤْمِنُونَ} کعبدالله بن سلام وربعه، {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ} خارجون عن طاعة الله تعالی.

ص: 329

111- وهؤلاء الفاسقون في معارضتهم إياکم {لَن يَضُرُّوكُمْ} فلا تخشوا منهم {إِلَّا أَذًى} وهو المکروه الذي لايبلغ حدّ الضرر، کالطعن باللسان والتهديد، حتی لو اجتمعوا لاضرارکم لايتمکنون {وَإِن يُقَٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} أي ينهزمون {ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} أي لاناصر لهم من بطشکم.

112- وأما هم بأنفسهم فقد {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} کناية عن ملازمتهم لها، تکويناً بسلطة غيرهم عليهم، وتشريعاً بفرض الجزية عليهم وهم صاغرون {أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} في أي بقعة وجدهم الناس {إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ} بأن يؤمنوا فيکونون کسائر المسلمين أعزاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما علی المسلمين، {وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ} بأن تحميهم دولة أو مجموعة قوية أو يدخلوا في عهود وذمام مع الناس فيدافعوا عنهم، {وَبَاءُو} رجعوا {بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ} بتقديره عقابهم، {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} انکسار وهوان وضعف نفسي، وسبب {ذَٰلِكَ} العقاب الدنيوي المذکور {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ} منذ الأول ولحدّ الآن {يَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنۢبِيَاءَ} فأسلافهم قتلوا أو سبّبوا القتل، وهؤلاء رضوا بفعلهم، و{بِغَيْرِ حَقّٖ} تشنيع عليهم بأن فعلهم کان بغير حق حتی في الظاهر وفي اعتقادهم، {ذَٰلِكَ} الکفر والقتل {بِمَا عَصَواْ} بسبب عصيانهم {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} وبسبب اعتدائهم، فالعصيان والاعتداء کانا سبباً للکفر وقتل النبيين، وهذا صار سبباً لعقوبتهم بالذلة والغضب والمسکنة.

بحوث

الأول: الظاهر أن السياق هو في ذکر المثوبة الدنيوية للمؤمنين، والعقوبة الدنيوية علی الکافرين، بعد أن ذکر الله تعالی مثوبة وعقاب الطائفتين في

ص: 330

الآخرة، ففي الآخرة إبيضاض الوجه والرحمة مع الخلود فيها للمؤمنين، وإسوداد الوجه والتقريع والعذاب للکافرين، وأما في الدنيا فمثوبة المؤمنين أنهم خير أمة، فلا أمة أفضل منهم من لدن آدم (عليه السلام) إلی أن يرث الله الأرض ومن عليها، مع بيان أن ذلك يختص بالمؤمنين الحقيقيين الذين التزموا عملاً بالأوامر والنواهي مع أمرهم ونهيهم عن المنکر، کما صحت عقيدتهم بلا انحراف فيها بأن آمنوا بالله وبکل ما أمر بالايمان به، ويتبع ذلك بأن الله ناصرهم علی الکفار من أهل الکتاب کما قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1)، فلا يتمکنون من الإضرار بهم سوی أذی بلسان کالطعن في الدين والتهديد، ولو تطوّر الأمر إلی أن جمعوا عدداً وعدة لقتال المسلمين، فإنهم لايتمکنون من الصمود فينهزمون فوراً، ولا أحد ينصرهم من بطش المسلمين، وبعد ذلك يتم بيان عقوبات دنيوية عاقبهم الله بها، مثل ملازمتهم للذلة أمام غيرهم في أية بقعة وجدوا فيها سواء کان فيها المسلمون أم النصاری أم غيرهم، کما أنهم في أنفسهم منکسرون يشعرون بالهوان والضعف، مع طردهم من رحمة الله تعالی.

ثم بيان أن عقوبتهم هذه ليست ظلماً عليهم بل بما کسبت أيديهم، حيث خالفوا أوامر الله واعتدوا علی حرماته حتی آل أمرهم إلی الکفر بآيات الله تعالی وقتل أنبيائه (عليهم السلام) .

الثاني: قوله تعالی: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...} الآية.

{كُنتُمْ} من کان الناقصة والفعل ماضي، والمعنی من زمان دخولکم في

ص: 331


1- سورة محمد، الآية: 7.

الإسلام أصبحتم خير أمة، وسبب ذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر والايمان بالله، فإن استمرت هذه الصفات فيكم استمر کونکم خير أمة، وإلاّ فلا، فلا داعي لسلخ {كُنتُمْ} عن ظاهره في الدلالة علی الزمان الماضي والنقصان - أي الاحتياج إلی الخبر - ، وبعبارة أخری: إن هذه قضية حقيقية، فمتی ما تحقق الموضوع تحقق الحکم، وحيث إنه في الماضي التزمتم بالشروط الثلاثة لذلك أصبحتم خير أمة، فإن واصلتم الالتزام استمر کونکم خير أمة، والاّ فلا.

قوله: {خَيْرَ أُمَّةٍ} أي أفضل جماعة، ولايخفی إن أجلی مصداق لهذه الأمة هم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، بل نفس الأمة التي هي خير الأمم فيها تفاضل فبعضهم أفضل من بعض، وکلّما ازداد الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر ازدادت درجة الفضيلة، ولذا کان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) أفضل هذه الأمة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «في قراءة علي (عليه السلام) : کنتم خير أئمة أخرجت للناس»، قال: «هم آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) »(1). والمقصود أنه (عليه السلام) هکذا کان يقرأ تفسيرها، أي يقرأ الآية فيفسرها هکذا، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «يعنی الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم (عليه السلام) ، فهم الأمة التي بعث الله فيها ومنها وإليها، وهم الأمة الوسطی، وهم خير أمة أخرجت للناس»(2)، ويحتمل أن يکون شأن النزول في الأئمة (عليهم السلام) مع عموم المقصود لکل من تحلّی بالصفات الثلاث.

ص: 332


1- تفسير العياشي 1: 195.
2- تفسير العياشي 1: 195؛ البرهان في تفسير القرآن 2: 476.

قوله: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي ظهرت، والنفع منها يرجع لعامة الناس لأن هذه الأمة تنشر الخير وتبيّن طريق الصلاح لعامة الناس، فنفعها يعود عليهم أجمع، ولعلّ التعبير بالخروج، لأنها کانت کامنة غير ظاهرة، فبإرسال رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ظهرت هذه الأمة، کالحب تحت الأرض کامن فبنزول المطر يخرج نباتاً لصالح الناس، قال تعالی: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ}(1)،

فکما أخرج للناس الثمار المادية لينتفعوا بها کذلك أخرج هذه الأمة لينتفعوا بها في طريقة حياتهم.

وقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} بيان للجانب العملي في صيرورتهم خير أمه، وفي الآية إيجاز بليغ، والمراد تعملون بالمعروف وتأمرون به، وتنتهون عن المنکر وتنهون عنه.

وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} بيان للجانب الاعتقادي، والمراد الإيمان بالله وبکل ما أمر بالايمان به، إذ عدم الإيمان بالبعض هو کفر بالله تعالی وعدم إيمان به، قال سبحانه: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٖ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (150) أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ حَقًّا}(2).

وإنما قدّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر علی الايمان بالله، مع أن الايمان هو الأصل، لأنه تعالی ذکر أنها أخرجت للناس فقدّم الأمر والنهي لأن انتفاع الناس بهما مباشر.

وقوله: {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَٰبِ...} حث لأهل الکتاب علی الإسلام

ص: 333


1- سورة إبراهيم، الآية: 32.
2- سورة النساء، الآية: 150-151.

وأن سبق المسلمين إلی الإسلام وصيروتهم خير أمة لاينافي لحوق الآخرين بهم، فالخيرية لاترتبط بالقومية أو العرق أو اللون ونحو ذلك من الفوارق الطبيعية بين بني البشر بل بالعقيدة والعمل، کما قال تعالی: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1).

والظاهر أن المراد هنا من {أَهْلُ الْكِتَٰبِ} اليهود، لأن السياق في الآيات السابقة حولهم، ولأن العقوبات المذکورة - من الذلة والسکنة والغضب - خصّ بها اليهود في آيات أخری.

وقوله: {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} في دنياهم وآخرتهم، أمّا الدنيا فتخلو من الضنك والإصر والأغلال التي کانت عليهم، والنجاة من الجلاء والقتل وغنم أموالهم وغير ذلك، وأمّا الآخرة ففي نعيم الله ورضوانه خالدين فيهما.

الثالث: قوله تعالی: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى...} الآية.

هذه الآية لبيان عدم تأثير مؤامراتهم وأقوالهم وأفعالهم التي يعارضون بها المسلمين، وفيها تطمين للمسلمين وتسكين لخواطرهم، وخاصة من آمن من أهل الکتاب حيث کانوا يؤذونهم بألسنتهم ويهددونهم.

1- إيذاؤهم للمؤمنين لايتطور إلی الضرر، فقوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ} لنفي التأبيد، و(الضرر) نقصان في النفس أو المال، و{أَذًى} المکروه الذي لايبلغ حدّ الضرر، فالاستثناء في {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} منقطع، وهذا الإيذاء بالکلام عادة إما بشتم أو تعنيف ولوم أو تهديد أو بالإشاعات، ونحو ذلك.

2- قتالهم للمؤمنين يتحول إلی هزيمة لهم، فحتی لو تطور إيذاؤهم إلی قتال

ص: 334


1- سورة الحجرات، الآية: 13.

فاجتمعوا ليستأصلوا المؤمنين فلايتمکنون، بل ينهزمون فارين من المعرکة، قال تعالی: {لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرِۢ}(1).

3- عدم نصرهم وذلك بدفع بأسکم عنهم، أي لاينصرهم أحد، أو لاينصرهم قومهم أو من تعاهدوا معه، کما تعاهدوا مع المشركين في غزوة الأحزاب ثم خذلهم المشرکون ورحلوا فترکوهم لوحدهم أمام جيش الإسلام، و{ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} عطف علی {لَن يَضُرُّوكُمْ}.

فيکون المعنی: لن يتمکنوا من إضرارکم، وينهزمون أمامکم، ولا ناصر لهم من بطشکم، فهي مراحل ثلاث في معارضتهم لکم.

سؤال: کيف نجد اليهود الآن في فلسطين وقد احتلوها منذ سنوات طويلة فهجّروا أهلها وشکّلوا دويلتهم اللقيطة، وخاضوا حروباً مع الدول الإسلامية وانتصروا فيها!؟

والجواب: إن الآية في مقام مقابلتهم لخير أمة - والتي تأمر بالمعروف وتنهی عن المنکر وتؤمن بالله - أما المسلمون الآن فعلی الأعم الأغلب ترکوا هذه الأوصاف الثلاث، فتفشت فيهم المنکرات وتَرْك المعروف وانحرفوا عن العقيدة السليمة، لذا تسلط عليهم الشرق والغرب قتلاً وتنکيلاً ونهباً وغير ذلك، ولو عاد المسلمون إلی ماکانوا عليه في عهد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) عادت إليهم عزتهم ومنعتهم، وقد قال تعالی: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2)، وأما اليهود في فلسطين فتمسکوا بحبل من الناس کما سيأتي

ص: 335


1- سورة الحشر، الآية: 14.
2- سورة الرعد، الآية: 11.

توضيحه في الآية التالية.

معنی «ضربت عليهم الذلة»

الرابع: قوله تعالی: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ...} الآية.

کانت الآية السابقة حول مؤامراتهم تجاه المسلمين، وهذه الآية حول حالتهم أنفسهم، حيث عاقبهم الله بکفرهم وعصيانهم اللذين أدّيا بهم إلی الکفر بآيات الله وقتل الأنبياء، بثلاث عقوبات دنيوية، إحداها حالتهم مع الناس، والأخری حالتهم مع الله تعالی، والثالثة حالتهم في أنفسهم.

1- {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} هذا حالهم مع سائر الناس، فهم أذلاء أينما کانوا سواء مع المسلمين أو النصاری أو غيرهم، و(الضرب) کناية عن الملازمة، کما تُضرب النقود بسکة عليها تلازمها دائماً فعبّر عن لزوم الذلة عليهم بالضرب، و{الذِّلَّةُ} تکويناً، بهوانهم علی الناس وإذلال الناس إياهم، لما جُبل عليه الناس من تحقير المتکبّر الذي يری نفسه فوق الآخرين الذي يتحيّن الفرص للمؤامرة علی الناس لابتزازهم وسلبهم أموالهم، واليهود يزعمون أنهم أبناء الله وأحبائه وأن الناس کالبهائم بالنسبة إليهم، وأن أموالهم ونفوسهم مباحة لهم متی ما استطاعوا علی ذلك.

وقيل: وأيضاً الذلة تشريعاً بفرض الجزية عليهم، وفي المناهج: الأمان تشريعي لاتکويني، أي إذا اعتصموا (بحبل من الله) - أي إلی حکم من أحکام الکتاب - يحفظون به دماءهم وأعراضهم وأموالهم، {وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ} ما جعله الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقرره عليهم(1).

لکن هذا لاينسجم مع قوله: {أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ}، حيث معناه في أي مکان

ص: 336


1- مناهج البيان 4: 41-42 (بتصرّف).

تواجد فيه اليهود - سواء بلاد المسلمين أم النصاری أم سائر الکفار - فهم أذلاء يحتقرهم الناس.

وقوله: {إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ} أي لو آمنوا بالله واعتصموا بحبله فإن الذلة تتبدل إلی عزة، حيث يدخل المؤمن منهم في ربقة المسلمين فيکون له ما لهم وعليه ما عليهم، قال تعالی: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(1)، وقد مرّ معنی حبل الله في الآية 103.

وقوله: {وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ} الواو للتقسيم أي أو بحبل من الناس، والمعنی أن يحتموا في ظل حکومة قوية سواء کانت إسلامية أو غير إسلامية، بحيث يکونون علی ذمتها فتدافع عنهم وتُؤمنهم وتمنع من ظلمهم...

أما الحکومة الإسلامية: فإنها تأخذ منهم ضريبة الجزية، وتمنع الناس من إيذاء أهل الذمة أو ظلمهم، ولعلّ ما ورد في تفسير الآية من أن حبلاً من الناس هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2) يراد به هذا حيث إن أهل الذمة عاشوا بأمان في ظل حکمه (عليه السلام) ، کما يحتمل أن يکون من بطون الآية.

وأما الحکومات غير الإسلامية: کالحکومات الاستعمارية فهي مستعدة لحماية من يعمل طبقاً لمصلحتها ما دامت المصلحة مستمرة، وحيث استعد اليهود في العصر الحاضر أن يکونوا أدوات للدول الغربية الکبری، وکانت لهذه الدول المصلحة في التخلص من اليهود القاطنين فيها، لذلك منحوهم فلسطين وأسسوا لهم دولتهم اللقيطة المسماة زوراً وبهتاناً باسم نبي الله

ص: 337


1- سورة المنافقون، الآية: 8.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 477، عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) وتفسير العياشي.

يعقوب (عليه السلام) ، ولا زالوا يواصلون دعمهم ولحد الآن، لاستمرار المصلحة وهذا من حبل الناس الذی ذکرته الآية، حتی إذا انتهت المصلحة ترکوهم لوحدهم ليستأصلهم المسلمون من شأفتهم، وهذا يوم قريب بإذن الله تعالی.

2- {وَبَاءُو بِغَضَبٖ مِّنَ اللَّهِ} هذا بيان حالهم مع ربّهم، وفي التقريب: فکأنّ الناس جاؤوا للاغتراف من مناهل الإسلام وکانت اليهود فيهم، فالناس رجعوا بالإسلام وحبّ الله سبحانه، وهؤلاء رجعوا بالکفر وغضب الله تعالی(1)، وفي التبيين: کأنهم جاؤوا لأخذ الحق فلم يأخذوه فرجعوا بغضب من الله أي والله ساخط عليهم(2).

3- {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} هذا حالهم في أنفسهم، وذلك بانکسار وهوان وضعف، فهم بين فقراء جائعين فهذه مسکنة بدنية(3)، وبين أثرياء لکن نفوسهم فقيرة حقيرة، فهم علی ثروتهم الظاهرة من أفقر خلق الله نفساً، وقد مرّ بيان ذلك في الآية 61 من سورة البقرة فراجع.

الخامس: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ...} الآية.

بيان أن هذه العقوبات ليست ظلماً لهم بل بما کسبت أيديهم، والآية تبيّن سببين طوليين، أي أحدهما سبب للآخر.

فالسبب الأصلي هو عصيانهم واعتداؤهم، وهذا صار سبباً لکفرهم

ص: 338


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 381.
2- تبيين القرآن: 75.
3- ذکر القمي في تفسيره: أن المسکنة الجوع، راجع البرهان في تفسير القرآن 2: 477.

وقتلهم الأنبياء فعاقبهم الله بهذه العقوبات، وبعبارة أخری حالتهم النفسية من التمرّد أدّت بهم إلی المخالفة العملية بالکفر والقتل.

فقوله: {ذَٰلِكَ} أولاً بيان للسبب القريب، و{ذَٰلِكَ} ثانياً بيان للسبب الأصلي.

وقوله: {وَيَقْتُلُونَ الْأَنۢبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ} أمّا المتأخرين منهم فرضوا بفعل أسلافهم لذا شارکوهم في الجريمة ونسبت إليهم أيضاً، وأما سلفهم فکان قتلهم الأنبياء بالمباشرة تارة، وأخری بتأليب الجائرين عليهم فقتلهم الجائرون بوشاية أولئك أو بإذاعة کلامهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «أذاعوا سرّهم وأفشوا عليهم فقتلوا»(1).

وقوله: {بِغَيْرِ حَقّٖ} تأکيد، إذ لايکون قتل الأنبياء إلا بغير حق، ولعلّ الغرض هو بيان أنهم کانوا يعلمون أن قتلهم بغير حق، فحتی في الظاهر لم تکن حجة لقتلهم، إذ کان غالب عمل الأنبياء الوعظ والإرشاد فقط بما هو في صالح الناس وذلك لايستوجب القتل حتی عند من لايعتقد بما يقولون.

وقوله: {عَصَواْ} أي بناء أمرهم علی العصيان، فاستمر بهم إلی أن أوصلهم إلی الکفر والقتل، وقوله: {يَعْتَدُونَ} أي يتمادون في الاعتداء کما قال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}(2) فعصيان أوامر الله ونواهيه أدّی بهم إلی الکفر، کما أن الاعتداء علی الناس أدّی بهم إلی قتل الأنبياء، فالمخالفات تبدأ صغيرة حتی تنتهی إلی أعظم المخالفات.

ص: 339


1- الکافي 2: 275.
2- سورة الروم، الآية: 10.

الآيات 113-115

{لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَٰتِ اللَّهِ ءَانَاءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالْمُتَّقِينَ (115)}

113- بعد ذکر الفاسقين من أهل الکتاب يتم بيان المؤمنين منهم، حثاً للباقي إلی الالتحاق بهم، {لَيْسُواْ سَوَاءً} ليس أهل الکتاب متساوين فيما ذکر من الأوصاف بل {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} بعضهم {أُمَّةٌ} مجموعة {قَائِمَةٌ} مستقيمة علی الحق {يَتْلُونَ ءَايَٰتِ اللَّهِ ءَانَاءَ} ساعات {الَّيْلِ} أي بإخلاص لارياءً أو نفاقاً {وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.

114- {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إيماناً حقيقياً {وَالْيَوْمِ الْأخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} ومنه الدعوة إلی الإقرار بنبوة رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} کإنکار نبوته، {وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ} يبادرون إليها کالإنفاق المالي، فجمعوا بين صحة العقيدة، والعبادة بإخلاص، وعمل الخيرات، والسعي لهداية الآخرين، {وَأُوْلَٰئِكَ} الموصوفون بهذه الأوصاف {مِنَ الصَّٰلِحِينَ} صلحت نفوسهم وأعمالهم فصلحوا لنيل المقامات العالية.

115- فيجازيهم الله أحسن جزاء {وَمَا} «ما» موصولة تفيد معنی الشرط

ص: 340

{يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ} سواء طاعة أو عبادة، قليلاً أم کثيراً {فَلَن يُكْفَرُوهُ} أي لايحرمون جزاءه بخلاف سائر الکفار حيث تحبط أعمالهم، {وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالْمُتَّقِينَ} لذا يميز بين الطائفتين فيعلم أن هؤلاء متقون فيجازيهم أحسن الجزاء، وأولئك غير متقين فيحبط أعمالهم، وهذا يدل علی أن التقوی هي سبب الخير.

بحوث

الأول: بعد أن ذکر الله تعالی صفات الکفار من أهل الکتاب والعقوبات الأخروية والدنيوية التي يصابون بها، مع بيان أن الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لتحلّيها بمجموعة من الصفات، وأن أهل الکتاب المعاصرين للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَٰسِقُونَ}، بعد ذلك أراد بيان أن أهل الکتاب السابقين علی عصر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) کالذين کانوا في زمن موسی أو عيسی (عليهماالسلام) وما بعدهما، هؤلاء کان فيهم مجموعة من أهل الإيمان والتقوی، صحيح أن الأمة الإسلامية الموصوفة بالصفات المذکورة هي خير أمة أخرجت للناس، لکن في الأمم السابقة أيضاً کانت مجموعات عملت بتکليفها باتّباع الرسل مع صحة العقيدة والعمل فهؤلاء أيضاً متقون ومن الصالحين.

وقيل: هذه الآيات (113-115) تفصيل لما ذکره تعالی في الآية 110 بقوله: {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} بمدح من آمن بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) منهم والتزم عقيدة وعملاً! لکن ما ذکرناه أقرب إلی السياق، ولأن هؤلاء بإسلامهم دخلوا في جماعة المسلمين وصاروا من خير أمة واتصفوا بصفاتها.

الثاني: قوله تعالی: {لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ أُمَّةٌ...} الآية.

ص: 341

(سواء) مصدر أقيم مقام إسم الفاعل تأکيداً أي ليس أهل الکتاب متساوين في العقيدة والعمل، فلئن ذمّت الآيات السابقة فساقهم، فهذا لايعنی أن جميعهم کذلك، بل هناك طائفة أخری حفظت عهد الله تعالی، فاتصفت بصفات تخالف صفات أولئك الفاسقين، فهي جماعة متقية ولذلك يجازيها الله سبحانه وتعالی جزاء المتقين، والصفات التي تتحلّی بها، أنها:

1- {قَائِمَةٌ} من القيام بمعنی الاعتدال والاستقامة، کما تقول: أقمت العود فاستقام، قال تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}(1)، وقال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}(2)، والحاصل أن نفوس هؤلاء مستقيمة معتدلة.

عکس أکثرهم حيث فيهم اعوجاج في النفس والدين والعمل، کما مرّ في قوله تعالی: {يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا}(3).

2- {يَتْلُونَ ءَايَٰتِ اللَّهِ} أي يتلونها حق تلاوتها، بما يستلزم التدبر فيها ومن ثَمّ العمل بها، قال تعالی: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَتْلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}(4)، فهؤلاء نفوسهم مستقيمة ثم قرأوا الکتاب فاهتدوا بهديه.

وقوله: {ءَانَاءَ الَّيْلِ} أي في أوقاته وساعاته، وتقييد التلاوة بالليل لأجل

ص: 342


1- سورة المائدة، الآية: 68.
2- سورة الروم، الآية: 43.
3- سورة آل عمران، الآية: 99.
4- سورة البقرة، الآية: 121.

أن القراءة حينئذٍ تکون أبعد عن النفاق والرياء، کما أن هدوء الليل وعدم انشغال الفکر سبب للتدبر والفهم، وفي التقريب: حيث هدوء النفس وهدوء الجو يوجبان وقوع الآيات في النفس أکثر منه في النهار(1)، عکس أکثرهم حيث کفروا بآيات الله، کما مرّ في قوله تعالی: {قُلْ يَٰأَهْلَ الْكِتَٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ}(2).

3- {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} لله تواضعاً في صلاتهم وفي غيرها، والمعنی وهم مع تلاوتهم يسجدون أيضاً، أي تارة يتلون وتارة يسجدون، أو المعنی أن تلاوتهم يتخللها سجود کما قال: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لَا يَسْجُدُونَ}(3)، أو يتلون في حالة السجود، ولعل ذلك کان في شريعتهم بأن يتلو الکتاب في حالة السجدة، وعلی کل حال فهذه صفة ثالثة يراد منها خضوعهم لله تعالی وتذلّلهم له وعبادتهم إياه، فهم غير مستکبرين، عکس أکثرهم الذين لايخضعون لله بل يصدون عن سبيله سبحانه وتعالی، قال تعالی: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَٰتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(4).

4- {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ} قيل: أخّر الإيمان لأنه نتيجة استقامة النفس وتلاوة آيات الله والخضوع له، فمن کانت له نفسية صالحة وتلی آيات الله وعبده فلا محالة يؤمن إيماناً حقيقياً لانفاق فيه ولاشرك، وأما الإيمان بالرسل فهو مقتضی کون هؤلاء من أهل الکتاب حيث آمنوا

ص: 343


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 114.
2- سورة آل عمران، الآية: 98.
3- سورة الإنشقاق، الآية: 21.
4- سورة الأنعام، الآية: 93.

برسولهم، وکذلك هو لازم تلاوة آيات الله لأنها نزلت علی الرسل کما أنها تدعو إليهم، مضافاً إلی أن الإيمان باليوم الآخر هو فرع الإيمان بالرسل، لأن طريقه السمع غالباً، وقيل: الإيمان بالرسل هو المراد من أمرهم بالمعروف بتصديق الرسل، ونهيهم عن المنکر بإنکارهم، عکس أولئك الذين کفروا بالله وآياته ولم يصدّقوا باليوم الآخر لذا تجاوزوا الحدود في الباطل.

5- {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} وهذا في هداية غيرهم وإرشادهم إلی مسائل العقيدة والشريعة، ويدخل فيه الأمر بالإقرار بنبوة رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) والنهي عن إنکارها، عکس اولئك الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً.

6- {وَيُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ} أي يبادرون إليها، وهذا بيان لشدة رغبتهم فيها، فإن من يرغب إلی شيء سارع فيه، والمسارعة من باب المفاعلة کأنه لبيان تسابق بعضهم بعضاً للوصول إليها، و{الْخَيْرَٰتِ} مطلق الأعمال الحسنة، لکن شاع استعمالها في الإنفاق، عکس أولئك الذين ضربت عليهم المسکنة فحرصوا علی الأموال وعلی جمعها وعدم إنفاقهم.

والحاصل: إن نفوس هؤلاء المؤمنين سليمة، وعملهم صالح بالتلاوة والسجود، وعقيدتهم صحيحة بالإيمان بالله واليوم الآخر، ويحاولون هداية الآخرين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، کما يبادرون إلی فعل الخير من الإنفاق وغيره.

الثالث: قوله تعالی: {وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ...} الآية.

ص: 344

هذا بيان نتيجة اتصاف هؤلاء بالصفات المذکورة.

فأولاً: {وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّٰلِحِينَ} فنفوسهم سامية، نالوا الکمال فهم أشخاص صالحون في المجتمع، کما صلحت أحوالهم عند الله تعالی فاستحقوا ثنائه، کما صلحوا لنيل المقامات العالية.

وثانياً: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ فَلَن يُكْفَرُوهُ} أي لن يحرموا جزاء الله تعالی عليه، ولن يمنعوا عن ثوابه، وذلك لأن الله تعالی شکور فلا يجعل المتقين کالفجار، قال سبحانه: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}(1)، أما الکفار فأعمالهم تحبط فيحرمون ثوابه بسوء عملهم، قال سبحانه: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَٰلُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٖ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَٰلُ الْبَعِيدُ}(2).

وقيل: وصف الله بالشکر بمعنی إعطاء الثواب وافياً بلانقص، فنفی ضد الشکر وهو الکفران عنه تعالی لأن عدم إعطاء الثواب لمن يستحقه - ولو کان استحقاقه بالوعد والتفضّل - کفرانٌ.

وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِالْمُتَّقِينَ} الذين يحفظون أنفسهم عن عذاب الله بتجنب المعاصي فهو سبحانه يعلم بهم فيجازيهم، والمقصود بيان أن سبب عدم کفران عملهم هو تقواهم، فهي مبدأ الخير وحسن العمل، وبها الجزاء والثواب.

ص: 345


1- سورة التغابن، الآية: 17.
2- سورة إبراهيم، الآية: 18.

الآيتان 116-117

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٖ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}

116- بعد بيان أن الطائفة المؤمنة من أهل الکتاب ما فعلته من خير لن تُکفره بل تجازی عليه لتقواها، يأتي بيان حبط أعمال الطائفة الکافرة ف {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالله ورسوله {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ} لاتفيدهم {أَمْوَٰلُهُمْ وَلَا أَوْلَٰدُهُم مِّنَ} عذاب {اللَّهِ شَيْئًا} ولو بمقدار ضئيل {وَأُوْلَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ} ملازمون لها {هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.

117- وکما لم تنفعهم في الآخرة، کذلك لاتنفعهم في الدنيا، إذ {مَثَلُ} أي صفة {مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} أي شأنه وحاله في الدنيا أنه ضاع المال بلا فائدة دنيوية {كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ} برد شديد {أَصَابَتْ} تلك الريح {حَرْثَ} زراعة {قَوْمٖ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالکفر أو العصيان، عقوبة لهم، فهم حرثوا لکن عاقبهم الله بظلمهم فلم ينتفعوا من عملهم بالحرث {فَأَهْلَكَتْهُ} أهلکت الريح الزرع.

{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} لم يظلم أولئك الکفار حينما لم ينفعهم عملهم لا في

ص: 346

الآخرة ولا في الدنيا {وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بکفرهم فهو سبب إحباط أعمالهم، ولو اتّقوا لقبل الله أعمالهم.

بحوث

الأول: الظاهر أن سياق الآيات متصل، فحيث ذکر الله تعالی الطائفة المؤمنة من أهل الکتاب وأنه تعالی يشکرهم علی أعمالهم فلن يكفروها، بعد ذلك بيّن أن الطائفة الفاسقة لاتنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولاأعمالهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم ظلموا أنفسهم باختيارهم الکفر، ولم يظلمهم الله تعالی، لأن الثواب شرطه التقوی ولم يلتزموا بها، والمخالفة نتيجتها العذاب وقد ارتکبوها، فهم بسوء اختيارهم جلبوا علی أنفسهم الخزي والشقاء.

وهذا لاينافي عموم معنی الآية لکل الکفار، لما مرّ مراراً من أن شأن النزول لايخصص مفهوم الآيات غالباً.

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ...} الآية.

مرّ في الآية العاشرة شبيه هذه الآية، مع اختلاف في آخر الآيتين، وکان الغرض هناك بيان عقاب عامة الکفار مع بيان کيفية العقاب ولذا قال: {وَأُوْلَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}، والغرض هنا بيان أصل عقوبة الطائفة الفاسقة من أهل الکتاب، وهذه العقوبة:

1- أخروية: بالخلود في عذاب النار، ولا دافع لهم من مال يفتدون به أو أولاد ينصرونهم، فلئن نفعتهم الأموال والأولاد في الدنيا، لکن لايفيدان في دفع عذاب الله تعالی في الآخرة.

أما الأموال فانقطعت علقتهم بها بموتهم فصارت للوارث، وفي الآخرة

ص: 347

تبطل الملکيات المجازية إذ لاظهور إلاّ للملکية الحقيقية التي هي ملکية الله تعالی لکل الوجود بأسره، قال سبحانه: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَٰحِدِ الْقَهَّارِ}(1)، بل حتی لو افتدوا بالدنيا لن يتقبل منهم کما مرّ في الآية 91 فراجع.

وأما الأولاد فکل إنسان يوم القيامة مشغول بنفسه، قال سبحانه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِيٕٖ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٖ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(2).

وقوله: {مِّنَ اللَّهِ} أي من عذابه وبطشه، أو {مِّنَ} بمعنی البدل أي بدلاً عن طاعته ورحمته(3)، فعلی هذا يکون المعنی الأولاد والأموال من دون الله أي من غير ارتباطهما بالله تعالی، إذ کل شيء لايرتبط بالله سبحانه لانفع فيه إطلاقاً، أما لو ارتبطت الأموال بالله بأن انفقها المتقي في سبيله تعالی فهي تنفع لأنها ارتبطت بالله فيضاعفها، وکذا لو ارتبط الأولاد بالله بأن أمنوا مع إيمان أبيهم، فحينئذٍ يکونون قرّة عين لأبيهم ويلحقهم الله به في الآخرة کما قال: {وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٖ}(4).

2- ودنيوية: بالخسارة من غير عوض فلئن نفعتهم أموالهم وأولادهم في الدنيا دون الآخرة، لکن أعمالهم لاتنفعهم حتی في الدنيا، فلو أنفقوا شيئاً فهو نقصان من أموالهم من غير وصولهم إلی مبتغاهم.

ص: 348


1- سورة غافر، الآية: 16.
2- سورة عبس، الآية: 34-37
3- راجع مغني اللبيب 1: 422.
4- سورة الطور، الآية: 21.

الثالث: قوله تعالی: {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا...} الآية.

أي کما لاتنفعهم الأموال والأولاد في الآخرة، کذلك لاتنفعهم أعمالهم في الدنيا فضلاً عن الآخرة، فيکون مثلهم کمثل الزارع الظالم الذي يعاقبه الله بإتلاف زرعه، فقد ضاع عمله في الدنيا حيث لم يحصل علی ثمر زرعه من غير تعويض له بثواب، لأن الإتلاف کان عقوبة، عکس الزارع المؤمن إذا تلف زرعه فإن الله يستبدله بما هو خير له في الدنيا، أو ثواب جزيل في الآخرة، لصبره ولفضل الله عليه.

وقوله: {مَثَلُ} في المناهج: يقال المثل للانتقال من أمر محسوس واضح إلی معقول يصعب علی المخاطب فهمه، أو من أمر ضروري عادي إلی أمر يحتاج العلم به إلی التدبر والتفکر، فالمثل ليس من باب التشبيه حتی يحتاج إلی أرکانه من المشبّه والمشبّه به ووجه التشبيه، بل هو بمعنی النعت والصفة والإخبار عن الشيء وإن کان في بعض موارد استعماله تشبيه أيضاً(1).

وفي التقريب: ليس المراد أن الإنفاق کالريح، بل يضرب المثل فيما کان المجموع من الأصل والشبه مرتبطين، کما تقول:زيد في تکلّمه کمثل صوت الحمار، فالجملة شبيهة بالجملة، لا أنّ الصوت شبيه بزيد، والحمار بالتکلّم(2).

ومن ذلك يتضح عدم الحاجة إلی تقدير شيء نحو (کمثل ما أهلکته ريح) ونحو ذلك.

والمعنی إنفاقهم کالحرث، وکفرهم الموجب لبطلانه کالصِّر.

ص: 349


1- مناهج البيان 4: 46.
2- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 385.

وقوله: {يُنفِقُونَ} بأي قصد کان سواء کان رياءً أم لکسب المآثر وثناء الناس أم عداوة أم خوفاً، بل حتی لو قصدوا القربة لله تعالی، فإن إنفاقهم لايکون مقبولاً أبداً لاشتراط القبول بالتقوی کما قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(1)، قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(2).

وقوله: {فِي هَٰذِهِ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا} الظاهر أن {فِي} متعلق ب {مَثَلُ} أي المثل الدنيوي لأعمالهم، والغرض هو بيان عدم انتفاعهم في الدنيا بأعمالهم، کما أنهم يعذبون في الآخرة.

ويحتمل تعلق حرف الجر بالإنفاق، وحينئذٍ ف {فِي} إمّا للتعليل أي إنفاقهم لأجل الحياة الدنيوية لا لأجل الله تعالی وفي سبيله، وإما للظرفية فيکون ذکر هذا القيد مع وضوحه للإشارة إلی أن الحياة التي هي مزرعة ومن المقتضي أن تنمو ويبقی أثرها للانتفاع به في الآخرة، لاتنفع الکافر، کذا في التقريب(3).

وقوله: {صِرٌّ} بمعنی الريح التي فيها برودة شديدة، وتلك البرودة تضرّ الزرع فيموت بإثرها.

وقوله: {ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} أي بالکفر أو العصيان، فعاقبهم الله بأن سلّط الله عليهم هذه الريح، فضاع جهدهم في الدنيا من غير تعويض أو مثوبة، لأنه

ص: 350


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة الفرقان، الآية: 23.
3- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 384.

کان عقوبة، ولا تعويض منها، فيکون نظير قوله تعالی: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا} إلی قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا}(1)، وأما الزارع المؤمن الذي هلك زرعه فحيث لم يكن الهلاك عقوبة له فعسی الله أن يعوّضه بلطفه وفضله، ومن ذلك يتضح وجه التقييد بقوله: {ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث لااحتمال للتعويض أصلاً وأبداً.

الرابع: قوله تعالی: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

أي هؤلاء الذين هم أصحاب النار والذين حبطت أعمالهم وبطل إنفاقهم، هم قد ظلموا أنفسهم بالکفر والعصيان، ولم يعملوا أعمالهم بشروطها لتُقبل، فلم يكن إنفاقهم إنفاقاً يستتبع قبولاً، فإذا أحبط الله عملهم ولم يثبهم عليه فإنما هو بسببهم أنفسهم، لأنه سبحانه يتعالی عن الظلم وعن کل قبيح، فقد اشترط سبحانه قبول العمل بالتقوی وهؤلاء لم يتقوا، کما أوعد الکفار بالعذاب وهؤلاء کفروا، وليس اشتراطه التقوی عبثاً بل لأجل أن العمل من غير تقوی لاقابلية له للارتفاع ولرفع صاحبه، وکذلك مقتضی المخالفة والمعصية العقوبة، ولولا الإيعاد بالعقوبة لبطل التکليف إذ المحرّك لغالب المؤمنين خوف العقاب فقط دون الوعد بالثواب، ولو لم تکن للمخالفة عقاب وانحصر الثواب في الطاعة لخرج أکثر المطيعين عن الطاعة.

ص: 351


1- سورة الکهف، الآية: 35-43.

الآيات 118-120

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَٰهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَٰأَنتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَٰبِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}

118- وحيث علمتم بأن هؤلاء الکفار ظالمون فعليكم أن تجتنبوهم ف {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} أي خواص بحيث تسرون إليهم أسرارکم ويستبطنون أخبارکم، {مِّن دُونِكُمْ} من غير أهل ملّتکم کالکفار والمنافقين، وذلك للضرر الکبير في ذلك. إذ {لَا يَأْلُونَكُمْ} أي لايقصرون بالنسبة لکم {خَبَالًا} أي فساداً، والمعنی: لايترکون جهداً في إفسادکم وإفساد أمرکم هذا من جهة عملهم، وأما قلوبهم: فقد {وَدُّواْ} أحبّوا مظهرين ذلك في عملهم {مَا عَنِتُّمْ} أي عَنَتکم بمعنی شدة الضرر والمشقة، و{قَدْ بَدَتِ} ظهرت {الْبَغْضَاءُ} شدة العداوة {مِنْ أَفْوَٰهِهِمْ} أي لايتمالکون أنفسهم في کتمان العداوة بل تظهر في فلتات ألسنتهم لشدة

ص: 352

بغضهم لکم {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} مما ظهر علی ألسنتهم، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ} وهي الأحکام الشرعية الدالة علی معاداة أعداء الله والتحذّر منهم {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} تستعملون عقولکم لتدرکوا أن الله تعالی لايشرّع إلاّ ما هو خير لکم.

119- ثم إن الله تعالی يحذر المؤمنين ببيان الفوارق الجوهرية بينکم وبينهم بحيث تستدعي حذرکم منهم فهم لايحبونکم، ولا يؤمنون بالکتاب کله فيخالفونکم في العقيدة، وينافقون معکم، ولايريدون مصلحتکم لذا يفرحون بمشاکلکم وتسوؤهم نجاحاتکم.

{هَٰأَنتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ} «ها» للتنبيه، و«أنتم» مبتدأ، و«أولاء» خبر موصول، و«الواو» حالية، والمعنی: کيف تحبونهم مع عدم توفر أسباب الحب أصلاً لاعاطفياً، ولا دينياً، ولا عقلياً، أما عاطفياً: فهم {لَا يُحِبُّونَكُمْ}، وأما دينياً: فالقرآن نهاکم عن موالاتهم {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَٰبِ كُلِّهِ} بما فيه هذا الحکم، وأما عقلياً: فلنفاقهم معکم {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا} يظهرون التصديق لکم {وَإِذَا خَلَوْاْ} مع أنفسهم أو مع شياطينهم {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} فبغضهم لکم شديد {قُلْ} أي أخبرهم بعلمك بنفاقهم وغيظهم: {مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} دعاء عليهم، بغرض تسكين خاطر المؤمنين بإخبارهم بأن الله يعزّهم بحيث يزداد غيظ هؤلاء من غير تشفي إلی أن يموتوا غيظاً، ولا يظنوا بأنهم بمفازة من العذاب إذ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فيجازيهم عليها، و«ذات» بمعنی صاحبة أي عليم بالنفاق والکيد والغيظ التي ملکت صدورهم.

ص: 353

120- وکيف تتخذونهم بطانة مع بلوغ عداوتهم إلی أقصی درجاتها، ف {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} من خير أو نعمة أو ظفر بالأعداء ونحو ذلك {تَسُؤْهُمْ} تحزنهم {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} بلية أو مصيبة ونحوهما {يَفْرَحُواْ بِهَا} بإصابتکم.

ثم إن الله تعالی يبين للمؤمنين کيفية الخلاص من شرّهم بقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ} علی عداوتهم وعلی مقاطعتهم {وَتَتَّقُواْ} کيدهم أو تتقوا موالاتهم أو مطلق المعاصي، {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَئًْا} لأن الله ناصرکم حيث إلتزمتم بأحکامه ف {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} إحاطة علم وقدرة.

بحوث

الأول: سياق الآيات هو أنه بعد تبين اختلافکم معهم في العقيدة والعمل وأنهم ظالمون، عليكم التحذّر منهم لأنهم أعداء لکم ولايريدون خيرکم، فلذا لاتجعلونهم من خواصکم إذ ليس من المصلحة أن يطلعوا علی أسرارکم، کما أنهم لايريدون خيرکم فلذا قد يزينون لکم الباطل أو يخدعونکم بالخيانة في المشورة، وبعبارة أخری کما قيل: لابد من أن تکون أسرار المجتمع الإسلامي محفوظة عن أعدائه وخاصة العدو المتصف برذائل الأخلاق، وبعبارة ثالثة کما قيل أيضاً: إن اتخاذهم بطانة ليس من مصلحة الأمة الإسلامية، وخاصة فيما يرتبط بين المسلمين وأعدائهم، ولا فرق في ذلك بين زمان قوة المسلمين أو زمان ضعفهم، لأن القوي أيضاً لابد أن يتحذّر من أعدائه حتی لو کانوا ضعافاً.

الثاني: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن

ص: 354

دُونِكُمْ...} الآية.

(البطانة) الخواص الذين يطّلعون علی الأسرار ويخبرون ببواطن الأمور، فهم موضع الثقة ويُستشارون في مختلف الأمور، وتُستَمع إلی نصائحهم عادة، وأصل الکلمة من بطانة الثوب، شُبِّهوا بها للصوقها بالجسم، ولصوقهم بالإنسان.

قوله: {مِّن دُونِكُمْ} أي من غير أهل ملتکم - سواء من الکافرين أم من المنافقين - ، وفيه إشعار بجواز اتخاذ البطانة من إخوانکم المؤمنين إذ هم بمنزلة أنفسکم، فأنتم أولياء لهم، وهم أولياء لکم.

ثم إن الله تعالی بيّن الحکمة في هذا النهي، وهو أن عملهم في إفساد أمرکم، وقلوبهم معادية لکم:

1- فمن جهة العمل {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} أي يحاولون إفساد أمرکم، وألَا، يألو، ألْواً بمعنی التقصير، وهو فعل لازم يتعدی بحرف الجر أو بتضمين معنی فعل آخر، يقال: لم يأل جهداً بمعنی استفرغ الوسع ولم يقصّر في جهده، فالمعنی لايقصرون لکم من جهة الخبال، أو لايمنعونکم الخبال، و(الخبال) هو الفساد، ويقال للمجنون المخبّل لفساد عقله.

2- ومن جهة قلوبهم: يحبون مشقتکم ويبغضونکم بشدة بحيث تظهر آثارها في فلتات لسانهم.

وقوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} من (الود) بمعنی إظهار الحب، أي يحبون ذلك بحيث يظهر علی أقوالهم وأفعالهم، و{مَا} مصدرية، و(العنت) بمعنی المشقة الشديدة، ومنها الضرر الشديد، أي يحبون أن تقعوا في الصعوبات.

ص: 355

وقوله: {قَدْ بَدَتِ...} أي ظهرت بغضاؤهم في ألسنتهم، فهم يريدون کتمان ما في قلوبهم لئلا تعلموا ببغضهم لکم، لکن لشدة بغضهم لايتمالکون أنفسهم فتظهر البغضاء في فلتات لسانهم، وعن أمير المومنين (عليه السلام) : «ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(1).

وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأيَٰتِ} أي الحکم الشرعي في عدم جواز موالاة الکفار والمنافقين، مع بيان سبب ذلك، فقد حرّمنا عليكم اتخاذهم بطانة لأنهم يريدون فسادکم ويعادوکم، فعليكم اتّباع الآيات والالتزام بالأحکام.

وقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إن استعملتم عقولکم علمتم لزوم اتّباع هذا الحکم لأنه فيه مصلحتکم وفي ترکه مضرتکم، فالعقل يسوقکم إلی اتّباع حکم الشرع في هذا النهي وفي غيره من الأحکام، کما يكشف لکم حکمة هذا التشريع، أما من يخالف هذا التشريع فلا عقل له إذ لم يطع الشرع، وسفه عن إدراك الحکمة الواضحة لهذا التشريع.

الثالث: قوله تعالی: {هَٰأَنتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ...} الآية.

هذا ذم وتقريع لمن لايعقل فيتخذهم بطانة، وإرشاد وتحذير لسائر المؤمنين ببيان عدم توفر أسباب الحب فکيف يتخذون بطانة؟

و{هَٰا} حرف تنبيه، و{أَنتُمْ} مبتدأ، و{أُوْلَاءِ} إمّا موصول بمعنی الذين وهو الخبر، فقوله: {تُحِبُّونَهُمْ} صلة، وإمّا اسم إشارة فيکون تأکيداً لأنتم، فأصل الجملة هؤلاء فصل بين الهاء وأولاء بأنتم تأکيداً، فقوله:

ص: 356


1- نهج البلاغه، الحکمة 26.

{تُحِبُّونَهُمْ} الخبر.

وقوله: {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} حال، وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ...} عطف عليه، فالمعنی والحال أنه لاتتوفر أسباب الحب لاعاطفياً ولا دينياً ولا عقلياً:

1- أما عاطفياً فإنهم لايحبونکم، والإنسان السويّ يحب من يحبه، ولا يمکن أن يحب من لايحبه بل يبغضه.

2- وأما دينياً فقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَٰبِ كُلِّهِ} أي جميع من نزل في القرآن، ومنه النهي عن موالاة الکافرين والمنافقين، فکيف تخالفون هذا التشريع النازل في القرآن مراراً وتکراراً وأنتم تدعون الإيمان بکل القرآن؟!

وقيل: المقصود من (الکتاب) هو جنس الکتاب أي تؤمنون بجميع الکتب السماوية ومنها التوراة والانجيل غير المحرّفين، فالمعنی حينئذٍ: إنهم لايحبونکم مع إيمانکم بکتابهم، فما بالکم تحبونهم مع أنهم لايؤمنون بکتابکم، ففيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منکم في حقکم.

3- وأما عقلياً: فإنهم منافقون يبطنون غير ما يظهرون بل يحاولون خداعکم، ومن هذا شأنه کيف تتخذونه بطانة يتعرّف علی أسرارکم وأخبارکم الخاصة.

وقوله: {قَالُواْ ءَامَنَّا} إمّا بمعنی التصديق أي يصدّقونکم في أقوالکم ليحافظوا علی الصداقة وليواصلوا معرفة مخابرکم، أو بمعنی إظهار الإسلام أي يظهرون الإسلام أمامکم نفاقاً لخداعکم.

وقوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ} إمّا بمعنی الخلوة مع أنفسهم فهنالك لايجدون طريقة لإظهار غيظهم وإشفاء غليل باطنهم إلاّ بالعض علی الأنامل، وإما

ص: 357

بمعنی الاختلاء مع أمثالهم کما قال تعالی: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}(1).

الرابع: قوله تعالی: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

هذا تشنيع عليهم وتوبيخ لهم، وهو مع ذلك يتضمن مجموعة أمور - إمّا بدلالة اللفظ، أو الغرض من هذا المقطع، أو النتيجة والمآل - :

منها: الدعاء عليهم باستمرار سبب غيظهم، وهو قوة الإسلام وعزّ المسلمين، ولحوق الخزي والذل بالأعداء.

ومنها: إعلامهم بأن أسلوبهم مکشوف، قد علم به الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ويعلمه المسلمون، وفي ذلك تحذير لهم من الاستمرار في کيدهم.

ومنها: تطييب خاطر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمين والبشارة لهم بعزة الإسلام وذلّ أعدائه.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ} کالعلة لأمر الرسول لأن يخاطبهم بقوله: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ}، أي إن الله تعالی يعلم ما تنطوي عليه صدورکم من البغض والغيظ لذلك أخبر رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) به، وحذّر المؤمنين من اتخاذکم بطانة، کما أنه سبحانه سيجازيكم علی کفرکم وعداوتکم، قال سبحانه: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}(2).

وقوله: (ذات) مؤنث (ذو) بمعنی الصاحب کما يقال ذوعلم أي صاحب علم، و(ذات الصدور) أي صاحبة الصدر، فکأن الحالات النفسية تستولي

ص: 358


1- سورة البقرة، الآية: 14.
2- سورة الهمزة، الآية: 6-7.

علی القلوب وتمتلکها فغيظ هؤلاء ملك قلوبهم لاستيلائه عليها.

الخامس: قوله تعالی: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ...} الآية.

هذه الآية لبيان شدة عداوتهم للمسلمين بحيث لايريدون خيراً لهم ولو يسيراً ويريدون کل شر لهم.

وقوله: {تَمْسَسْكُمْ} أي تصيبکم، وقيل: (المس) أقل تمکناً من الإصابة، وکأنّه أقل درجاتها، و{تَسُؤْهُمْ} بمعنی تحزنهم فکأنّ الکلام إن تصبکم الحسنة أدنی إصابة تحزنهم ويحسدوکم عليها، وإن تمکنت الإصابة منکم لايَرثُون عليکم، ولا ينفکون عن حسدهم حتی في هذه الحال بل يفرحون.

السادس: قوله تعالی: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا...} الآية.

هذا تعليم للمسلمين بکيفية مقابلة کيدهم، فإن عدم اتخاذهم بطانة قد يجرّ عدائهم الظاهري أيضاً، وهذا ما يخشی منه البعض، لکن العدو الظاهري أهون من العدو الباطني الذي يحوك المؤامرات ويحاول الإفساد خفية.

فقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ} علی مشاکل عدم اتخاذهم بطانة، أو علی مشاق التکليف، أو علی عداوتهم.

وقوله: {وَتَتَّقُواْ} أي تحفظوا أنفسکم من کيدهم بمعنی الحذر منهم ومراقبتهم وعدم ترکهم يعيثون في الأرض فساداً، أو تتقوا الله في اطاعته فيما أمرکم ونهاکم، وهذا مفتاح النصر علی العدو أي تحمل مشاق

ص: 359

المسؤوليات، والتحذر من الأعداء، فکل عامل حَذِر يتمکن من التغلب علی أعدائه.

والحاصل أن الأمن من کيدهم مشروط بالصبر والتقوی. وقد قيل: إذا أردت أن تکبت عدوك فازدد فضلاً في نفسك.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي إحاطة علم وقدرة، فهو يعلم أعمالهم وقادر عليهم وعلی إفشال خططهم، لذلك أمرکم بما فيه صلاحکم ونهاکم عمّا فيه ضررکم، فإن أطعتموه نصرکم عليهم.

ص: 360

القسم الثاني من سورة آل عمران

غزوة أُحد وتوابعها

وحيث وصلت الآيات إلی هذا الموضع انتهی القسم الأول من سورة آل عمران، وهو المتضمن للتحدي الفکري الذي واجهه المسلمون من أهل الکتاب بإثارة الشبهات ومحاولة خلق البلبلة في صفوف المسلمين، فأجاب الله تعالی عن شبهاتهم، وبيّن الحقائق ووعظهم، وحذّر المسلمين من مغبة الاغترار بهم، وبعد ذلك يبدأ القسم الآخر من السورة (الآيات 121-175) وهو التحدي العسکري الذي واجهه المسلمون من المشركين حيث أرادوا استئصالهم بقتلهم واطفاء نور الله تعالی، فتبدأ الآيات بذکر ما جری في غزوة أ ُحد ثم غزوة حمراء الأسد، وما تضمنته من أحداث، مع ذکر جملة من أحوال المنافقين وذکر مجموعة من الأحکام التشريعية.

ويمکن بيان تسلسل الآيات کالتالي:

أولاً: (الآيات 121-138) في مقدمات غزوة أحد: تهيأة مقاعد للقتال، وما جری علی طائفتين کادتا أن ترجعا - ولعلّ ذلک کان من أسباب الوهن - ووعود الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لهم، والتحذير من بعض الذنوب - أي الربا - ولعلّه هو الذنب الذي سبّب زللهم أو کان من أهم الذنوب، والتحذير من سائر الذنوب

ص: 361

التي توجب النار، والدعوة إلی إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، والدعوة إلی عمل الطاعات ومنها الإنفاق والتوبة.

ثانياً: (الآيات 139-145) بيان أن المسلمين هم الأعلی، وأن المصائب لها أسباب ومنها تداول الأيام لکن لايضرّ ذلک بعلوّ الإسلام والمسلمين، ومنها تمييز المؤمنين عن غيرهم، ومنها اتخاذ الشهداء، ومنها تمحيص المؤمنين، ومنها محق الکافرين، وبيان أن نيل الجنة يحتاج إلی جهاد وصبر، وأن الدين لايتوقف علی بقاء حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بل هو باق ببقاء الله تعالی.

ثالثاً: (الآيات 146-171) تقسيم الناس في غزوة أ ُحد إلی طوائف:

1- الصابرون الثابتون (146-148).

2- الکافرون المحاربون (149-151).

3- المسلمون المنهزمون - وهم بين تائب ومنافق - (152-154).

4- الرماة الذين أخلوا مواقعهم (155).

5- سائر الکفار الباقون في مکة (156-158).

6- حول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وتخطيطه وفائدته وتنزيهه (159-165).

7- المنافقون الذين لم يذهبوا إلی الغزوة أصلاً (166-168).

8- الشهداء في الغزوة (169-171).

رابعاً: (الآيات 172-175) غزوة حمراء الأسد.

ص: 362

الآيتان 121-122

اشارة

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}

121- {وَإِذْ} أي أذکر الوقت الذي {غَدَوْتَ} أي خرجت في الغداة وهي أول النهار {مِنْ أَهْلِكَ} أقربائك في المدينة {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} تتخذ لهم وتختار {مَقَٰعِدَ} أماکن {لِلْقِتَالِ} في غزوة أحد، حيث اختار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مکان القتال وأماکن تواجد المسلمين في سفح الجبل وعلی الشعب بدقة، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لأقوالهم {عَلِيمٌ} بنياتهم.

122- {إِذْ} کان ذلك في الوقت الذي {هَمَّت} قصدت {طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ} من المؤمنين {أَن تَفْشَلَا} أي تضعفا عن جبن، حيث أراد ابن أبي سلول أن يصرفهما عن الجهاد، {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} يلی أمورهما بمعنی أنه عاصمهما عن الالتحاق بالمنافقين، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ} يعتمد {الْمُؤْمِنُونَ} حيث وعدهم بالنصر إن أطاعوا الله ورسوله، لا أن ينخدعوا بکلام المنافقين.

بحوث

الأول: من هذا المقطع تبدأ قصة غزوة أحد، وهو أهم تحدي عسکري واجهه المسلمون، إذ کان يمکن أن تُستأصل شأفتهم ويقضی علی الإسلام

ص: 363

نهائياً بمقتل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المخلصين وارتداد باقي المسلمين، لکن الله تعالی نصرهم وذلك بثبات الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام) وثلة قليلة من المؤمنين، وکذا بحنکة وحکمة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقيادته الدقيقة لدفة المعرکة، سواء قبل بدئها أم حين هزيمة المسلمين أم بعدها، وکانت الغزوة رحمة من الله للمؤمنين حيث التفتوا إلی أهمية إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعدم الاستعجال في الأمور وعدم طلب الدنيا، کما عرفوا حکمته (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وهذا المقطع من السورة وإن کان بداية فصل جديد عنوانه التحدي العسکري، إلاّ أنه لايخلو من ربط بالآيات السابقة، حيث بيّن الله تعالی في الآية 120 {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَئًْا} أمّا في أ ُحد فعصی البعض ولم يصبروا لذلك حولوا النصر إلی هزيمة، أمّا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن معه فصبروا واتقوا فمنعوا من الهزيمة النهائية، بل حولوها إلی نصر مرة أخری حيث لم يصل المشرکون إلی مبتغاهم من استئصال شأفة المسلمين، بل هربوا من لقائهم مرة أخری في غزوة حمراء الأسد التي کانت بعد غزوة أ ُحد مباشرة.

ثم اعلم أن الکلام حول غزوة أ ُحد وما جری فيها (الآيات 120-175) لکن جری في أثنائها ذکر جانب من غزوة بدر، وذلك لبيان أنهم في بدر مع ضعفهم الشديد انتصروا علی المشركين لتقواهم وإطاعتهم، أما في أ ُحد فکان عددهم وعدتهم أقوی مما کانوا عليه في بدر وانتصروا في البداية لکنهم عصوا وخالفوا فأصيبوا، فليس الآيات في صدد ذکر غزوة بدر إلاّ بالمقدار الذي يرتبط بالغرض من بيان قصة غزوة أحد، وأما تفاصيل معرکة بدر فقد ذکرت في سورة الأنفال.

ص: 364

قصة غزوة أحد

الثاني: کان من قصة غزوة أ ُحد أن المشركين لما انهزموا في بدر فقتل منهم سبعون وفيهم بعض کبارهم ورؤسائهم، وأ ُسِر منهم سبعون لم يطلق سراحهم إلاّ بفدية، قرّروا الانتقام، فجمعوا العدد والعُدة لمدة عام، ثم ساروا إلی المدينة بثلاثة آلاف - وروي خمسة آلاف - مقاتل بکامل عددهم وعُدتّهم، وساقوا معهم النساء لئلا ينهزموا وليثبتوا للدفاع عنهن، فجمع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أصحابه واستشارهم في الحرب، فأشاروا عليه بالخروج إليهم، وکان رأيه التحصّن بالمدينة مما يؤدي إلی استنزاف قوی المشركين وتفتّتهم من غير قتال - کما حدث نظيره في غزوة الخندق - لکنهم أصرّوا علی رأيهم، فاستجاب لهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لعدم المصلحة في مخالفتهم، ولعله کان فيه درساً لهم بإطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حتی في أوامره الإرشادية التي لم ينزل فيها وحي في الظاهر.

فخرج رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وکانوا ألف رجل، لکن انخزل رأس النفاق عبدالله بن أبيّ بن أبي سلول بثلاثمائة من المنافقين فرجعوا إلی المدينة، وکاد أن يلتحق بهم طائفتان من المؤمنين وهما بنو سلمة وبنو حارثة لکن الله ربط علی قلوبهما فثبتوا، فکان عدد المسلمين في غزوة أ ُحد سبعمائة مع عُدّة أقل من المشركين.

وخطط الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للقاء العدوّ بخطة متقنة، فاتخذ للمسلمين أفضل موقع، في سفح الجبل حتی يلاقوا العدو من جهة واحدة وبجنب السفح شِعب جعل عليه خمسين من الرماة ليحموا ظهر المسلمين، وأمرهم الرسول بأن لايترکوا الموقع سواء انتصر المسلمون أم انهزموا، وحتی عند الهزيمة

ص: 365

نفعهم الموقع إذ تمکن المنهزمون من الفرار إلی الجبل فلم يقعوا فريسة المشركين ليحصدوهم حصداً، فکانت الخطة رحمة حتی للعصاة.

وحينما بدأت الحرب سقطت راية المشركين لمّا قَتَل أمير المؤمنين (عليه السلام) حملة الراية - وروي أنه تعاقبها تسعة قتلهم أمير المؤمنين بأجمعهم - فانهزم المشرکون شر هزيمة، وکان أبوسفيان کلّف خالد بن الوليد أن ينحاز بمأتي فارس إلی جانب الشِعب ليهجموا علی المسلمين من الخلف، وقد هجموا في بداية المعرکة لکن رشقهم الرماة فأرجعوهم خائبين، لکن لما انهزم المشرکون وبدأ المقاتلون في جمع الغنائم، ترك أکثر الرماة موقعهم وکلّما نهاهم قائدهم وذکّرهم بأمر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يصغوا له، فبقي في الشِعب اثنا عشر رجلاً، فهجم خالد بن الوليد مرة أخری وقتلوا هؤلاء الاثني عشر وأغاروا علی المسلمين من خلف ورفعوا راية المشركين من جديد، ثم رجع المشرکون المنهزمون وحاصروا المسلمين في جهتين، فانهزم أکثر المسلمين إلی الجبل ولم يبق إلاّ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وأشخاص قلائل قُتل أکثرهم.

ثم إن مشرکاً قتل مسلماً زاعماً أنه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وانتشر الخبر بين المسلمين فزادهم هزيمة، وبين المشركين فکفّوا عن القتال وقفلوا راجعين.

وفي هذه المعرکة مثّلت هند زوجة أبي سفيان وأم معاوية بجثة حمزة (عليه السلام) فلاکت کبده وقطعت أطرافه، وهکذا تمّ التمثيل بجثث شهداء آخرين، فصار ذلك عاراً وشناراً علی آل أمية أبد الدهر وصار لقب آکلة الأکباد وصمة عار عليهم وخزي في الدنيا وعذاب في الآخرة.

ص: 366

ولما بدأ المشرکون في الانسحاب بلغهم نبأ حياة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فندموا حيث لم يستأصلوا المسلمين، فقرروا الرجوع، لکن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) سبقهم حيث أعاد الجيش ونظم صفوف المسلمين وأمرهم بالمسير إلی المشركين ليلاقوهم من جديد، وهذا ما عرف بغزوة حمراء الأسد، فلما وصل خبرهم إلی المشركين دبّ الرعب فيهم وکانوا يعلمون أن الحرب سجال فلعل الدائرة تدور عليهم مرة أخری، فقرروا الاکتفاء بما حصلوا عليه من الانتقام والرجوع إلی مکة، فقفلوا راجعين إليها ريثما يعودوا من جديد في معرکة أخری، فرجعوا بعد عامين تقريباً في غزوة الأحزاب.

وکانت هذه الغزوة درساً قاسياً للمسلمين، ليطيعوا الله ورسوله وليثبتوا وليحذروا المنافقين، فتحولت الهزيمة ببرکة حکمة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی نصر استراتيجي ونبراس للمسلمين في جميع الأعصار، وفي المثل الضربة التي لاتقصمك تقوّيك.

الثالث: قوله تعالی: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ...} الآية.

{إِذْ} ظرفية متعلقة بمحذوف أي أذکر ذلك الوقت، و{غَدَوْتَ} بمعنی الخروج في الغدوة وهي الفترة الصباحية.

وقوله: {أَهْلِكَ} يراد به الأقرباء، والمقصود خروجك من المدينة، قيل: يستفاد من الآية قرب موقع المعرکة من المدينة، إذ خرج من أهله وهو يتخذ مواقع للقتال، وهذا ما عليه أکثر المفسرين وهو مروي، فلا وجه لحمل الآية علی غزوة بدر لأنها کانت علی مسافة عدة أيام من المدينة.

وقوله: {تُبَوِّئُ} بمعنی تتخذلهم وتختار، وأصل الکلمة من باء يبوء

ص: 367

بمعنی الاستمکان والتمکن، ويقال: باء بالذنب أي رجع به، لأنه استمکن منه، وقيل غير ذلك.

وقوله: {مَقَٰعِدَ} أي مراکز وأماکن، وشاع استعمال مقعد ومقام بمعنی المکان.

وفي هذا المقطع براعة الاستهلال، وذلك ببيان أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) خطط واختار أماکن القتال بدقة، فلم يكن هو (صلی الله عليه وآله وسلم) سبب القتال بل المشرکون هم الذين اعتدوا فاضطر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يخرج من أهله لقتالهم، کما أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يكن سبباً لهزيمة المسلمين لأنه اختار أماکن القتال لکن أکثر الرماة ترکوا موقعهم فکانت الهزيمة منهم، ثم بعد ذلك في الآية التالية يتم بيان سبب الهزيمة، حيث بدأ الوهن من همّ طائفتين بالفشل إلی الأسباب الأخری التي تذکرها الآيات تباعاً.

الرابع: قوله تعالی: {إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا...} الآية.

(الهم) هو قصد الشيء والعزيمة علی فعله، فلا يطلق علی مجرد التمني أو حديث النفس، و(الفشل) هو ضعف في جبن، و(الولي) هنا بمعنی المتولّي للأمور والناصر، والمعنی أن هاتين الطائفتين عزمتا علی الالتحاق بالمنافقين الراجعين إلی المدينة ضعفاً وجبناً عن القتال لکن الله ربط علی قلوبهم فانصرفوا عن هذا العزم وثبتوا وجاهدوا.

أما ما قيل: من أنها کانت مجرد حديث نفس، إذ لو کانت عزيمة ما ثبتت معها ولاية الله تعالی مع أنه يقول: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}، بل کان ذمهم أولی من مدحهم!! وما قيل: من أنه عتاب وذم بمعنی أنه لاينبغي لمؤمن أن

ص: 368

يفشل وهو يری أن الله تعالی وليّه!!

فليس بصحيح، إذ (الهم) ليس بمعنی حديث النفس - الذي قد لايخلو منه إلاّ من عصمه الله - ، کما أن {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} بيان للواقع وليس بمعنی أنهم يرون أن الله وليهما، بل الأقرب هو أن المؤمن قد يعزم علی العصيان لکن حيث إن الله وليّه فيوفّقه للانصراف عن هذا العزم إلی عزم الطاعة، فما دامت المعصية لم تصدر منه لم يخرج من ولاية الله تعالی، قال سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(1) والحاصل: إن الآية ليست في مقام الذم ولا في مقام المدح، بل في مقام بيان الواقع، وبيان قصة أولئك الذين عزموا علی الفرار من الزحف لکن الله حفظهم فوفّقهم.

وأما قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فلعلّه تعريض بابن أبي سلول والثلاثمائة من المنافقين الذين انخزلوا ورجعوا إلی المدينة فنزلت فيهم سورة المنافقون، فهؤلاء لم يکونوا مؤمنين لذا لم يتوکّلوا علی الله وفرّوا من المعرکة، وأما الطائفتان فهم وإن عزموا علی الفشل لکنهم توکّلوا علی الله فثبتوا فکانوا بذلك مؤمنين.

وأما التوکل فهو بمعنی الاعتماد علی الله تعالی، وذلك بإطاعته في ما أمر ونهی وإيكال الأمر إليه لأن أزمّة الأمور کلها بيده، أما من لايطيع فليس بمتوکّل، وبعبارة أخری: إن التوکّل هو أن يؤدي الإنسان ما عليه ويعتمد عليه تعالی في تهيأة الأسباب الخارجة عن قدرة الإنسان.

ص: 369


1- سورة البقرة، الآية: 257.

الآيات 123-129

اشارة

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129)}

123- وکيف تهمّون بالفشل {وَلَقَدْ} أي والحال أنه {نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ} في غزوة بدر، {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} ضعفاء عدداً وعُدّة، {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} واثبتوا في الحرب في غزوة أ ُحد ولا تهنوا {لَعَلَّكُمْ} بتقواکم {تَشْكُرُونَ} ما أنعم الله عليكم من النصر في بدر، والحاصل أن الله أنعم عليكم بالنصر في غزوة بدر فاشکروه بالثبات وعدم الفشل في غزوة أحد.

124- {إِذْ} أي کان همّ الطائفتين بالفشل في الوقت الذي {تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} حين الخروج إلی غزوة أ ُحد {أَلَن يَكْفِيَكُمْ} استفهام إنکاري، أي کيف لاينفعکم {أَن يُمِدَّكُمْ} يرفدکم ويساعدکم {رَبُّكُم

ص: 370

بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُنزَلِينَ}؟ فکيف هممتم بالفشل في غزوة أ ُحد وقد رأيتم نصر الله تعالی لکم في غزوة بدر وسمعتم کلام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

125- {بَلَىٰ} يكفيكم هذا الإمداد بل يزيد الله عدد الملائکة لکن {إِن تَصْبِرُواْ} علی الجهاد فلا تخدعکم الغنائم {وَتَتَّقُواْ} المعاصي فلاتخالفوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في خططه الحربية {وَيَأْتُوكُم} المشرکون بأن يرجعوا إليكم لحربکم مرة أخری {مِّن فَوْرِهِمْ} بسرعة {هَٰذَا} الفور الذي شاهدتموه، إذ لم يفصل بين غزوتي بدر وأحد إلاّ عام وشهر واحد، فکأنهم رجعوا فوراً طلباً للانتقام، فحينئذٍ {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ الْمَلَٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وسموا أنفسهم بعلامة مثل علامتهم يوم بدر حيث کانوا معتمرين العمائم البيض وقد سدلوا طرفها.

126- {وَمَا جَعَلَهُ} لم يجعل قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بوعده بالملائکة بشرط الصبر والتقوی {اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ} بشارة بالنصر، {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم} لتسکن من الخوف {بِهِ} بقوله (صلی الله عليه وآله وسلم) أو بالنصر، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ} الذي يغلب کل أحد {الْحَكِيمِ} ينصر بحکمة، والمعنی أنه لم يكن بحاجة إلی هذا العدد من الملائکة إلاّ لربط قلوبکم، وإلاّ فالله قادر علی نصرکم بدون واسطة، أو بواسطة ملك واحد مثلاً.

127- وإنّما ينصرکم ليخزي الله الکافرين في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا ف {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ} أي ليهدم رکناً من أرکان {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فقطع الأنفس بالقتل والأسر، والأموال بالغنيمة، والأراضي بالفتح، {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} يخزيهم ويوهن قلوبهم، فيقطع طرفاً ويكبت طرفاً آخر {فَيَنقَلِبُواْ} يرجعوا

ص: 371

إلی مواطنهم {خَائِبِينَ} منقطعي الآمال لم ينالوا ما قصدوه.

128- وأما في الآخرة ف {لَيْسَ لَكَ} يا رسول الله {مِنَ الْأَمْرِ} المرتبط بما يفعله الله بهؤلاء الکفار {شَيْءٌ} بل هو مرتبط بالله تعالی، وإنّما الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) له شيء فيما فوض الله تعالی إليه، لافيما لم يفوّضه، فالأمر مرتبط بمشيئة الله تعالی {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إذا أسلموا، {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} إن لم يسلموا {فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} استحقوا العذاب بظلمهم.

129- {وَ} إنما ليس لك من الأمر شيء إذ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فالتکوين کلّه بيده، {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} فالجزاء أيضاً بيده سبحانه وتعالی {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

بحوث

الأول: إن سياق الآيات من الآية 121 حول غزوة أحد، لا حول غزوة بدر وإنّما آية واحدة هي الآية 123 فيها تذکير بنصر الله تعالی للمسلمين في غزوة بدر مع أنهم کانوا أضعف عُدة وأقل عدداً، ومن هذا يتضح أن قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ...} هو بيان قوله لهم في غزوة أحد، لا في غزوة بدر، والسياق هکذا: خرجت يا رسول الله تعيّن مواقع قتال المؤمنين، في الوقت الذي قصدت طائفتان الفشل، بأن همّتا بالرجوع ضعفاً وجُبناً، والحال أن الله وليهما، کما أنهما شاهدا نصر الله للمؤمنين في غزوة بدر، وقد سمعا أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يعدهم بنصر الله بالملائکة بشرط الصبر والتقوی، فما بال الطائفتين همتا بالفشل؟ ألم يعلما بأن الله وليهما؟! ألم يشاهدا نصر بدر؟ ألم يسمعا وعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بالإمداد بالملائکة؟!

ص: 372

الثاني: قوله تعالی: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٖ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ...} الآية.

عطف علی {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي همتا بالفشل والحال أن الله وليهما وقد شاهدا نصر الله في بدر.

وقوله: {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} أي ضعفاء عُدّة، قليليون عدداً، وليس المراد الذلة عن هوان، فإن مادة (ذ ل ل) قد تکون بمعنی الهوان وهو عن قهر غالباً کقوله: {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}(1)، وقد تکون بمعنی التواضع کقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٖ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ}(2)، وليس ذلهم للمؤمنين من هوان بل عن تواضع لهم وذلك مما يزيدهم عزاً، وقد تکون بمعنی التسهيل والتمهيد کقوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}(3)، أي يسهل اقتطافها، وقد تکون بمعنی الضعف والحاجة کقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ}(4)، أي من ضعف أو حاجة تعالی الله عن ذلك، وعلی هذا المعنی قوله: {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} أي ضعفاء، حيث کان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، أکثرهم راجلون، ولم يکونوا يمتلکون إلاّ القليل من الأسياف والدروع، وکان المشرکون ثلاثة أضعافهم بين فارسٍ أو راکب، مع امتلاکهم العدة الکاملة، ولذا فسرت الروايات (الأذلة) بالضعفاء دفعاً لتوهم ذلّ الهوان، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «لقد نصرکم الله ببدر وأنتم

ص: 373


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- سورة المائدة، الآية: 54.
3- سورة الإنسان، الآية: 14.
4- سورة الإسراء، الآية: 111.

ضعفاء، وما کانوا أذلة ورسول الله فيهم»(1).

وقوله: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي فلا تهمّوا بالفشل بل أثبتوا.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي إن اتقيتم الله بالثبات في غزوة أ ُحد فإن ذلك يکون شکراً عملياً لنعمته عليكم بالنصر في غزوة بدر.

الثالث: قوله تعالی: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم...} الآية.

قوله: {إِذْ تَقُولُ...} بدل عن قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ}، فالآيات ترتبط بالسياق العام وهو ذکر غزوة أحد، وليست تتمة للآية السابقة بأن يکون {إِذْ تَقُولُ...} متعلقاً بالنصر في بدر، کما ذکرنا قبل قليل، وذلك لأن السياق العام هو ذکر أخبار معرکة أ ُحد وما جری فيها، مع بيان أنه لاوجه لقصد الفشل إذ کلّ أسباب النصر مهيأة، فالولي هو الله، ونصره ببدر نصب أعينکم، والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يعدکم بنصر جديد من الله بالملائکة، بل هناك وعد بزيادة بعد وعد أوليّ، لکنه مشروط بثباتکم، فلماذا الفشل؟ بل جبنکم وعدم ثباتکم يزيدکم فشلاً إلی فشل، کما حدث حينما عصوا الله ورسوله، فلم يصبروا ولم يتقوا فانقلب الأمر عليهم، ولکن مع ذلك نصر الله رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين.

وقوله: {أَلَن يَكْفِيَكُمْ} الهمزة للاستفهام الإنکاري، أي کيف لاينفعکم إمداد الله لکم بأعداد کبيرة من الملائکة؟! وليس الغرض من هذا الإنکار الذم أو التقريع، بل الحثّ والربط علی القلوب، فکما ذکرنا ليست الآيات في مقام الذم.

ص: 374


1- تفسير العياشي 1: 196.

الرابع: قوله تعالی: {بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ...} الآية.

(بلی) تصديق للوعد، أي يفعل کما وعدکم، و(بلی) تأتي بعد النفي وذلك لإثبات ماتمّ نفيه، کما يقال: لم يجئ زيد؟ فيقال: بلی قد جاء، وکقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ}(1).

وقوله: {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} شرط للوعد، أي إن الوعد بإرسال الملائکة مشروط بصبرکم وتقواکم، نظير قوله: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(2)، فإنهم في البداية صبروا بالثبات في الجهاد کما أنهم اتقوا المخالفة فأطاعوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في الخطط الحربية، فلذلك انتصروا علی المشركين، لکنهم بعد ذلك لم يصبروا علی إغراء الغنائم وخالفوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فانقلب النصر إلی هزيمة.

وقوله: {وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ} أي بسرعة حيث لم يفصل بين معرکة بدر وأحد إلاّ ثلاثة عشر شهراً، بمقدار جمع المشركين للعدد والعُدة ولملمة الجراح، فرجعوا إلی القتال فوراً، وأصل الفور بمعنی غليان الماء، وحيث إن في صعود الماء سرعة لذلك اطلقت الکلمة علی السرعة في العمل.

وقوله: {هَٰذَا} أي هذا الذي شاهدتموه بسرعتهم في المجيء، وکأنّ المقصود بيان شدة بأسهم وعزيمتهم لأن حبّ الانتقام أصمّهم وأعماهم فلم يدع مجالاً لهم للتريث.

وقوله: {بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٖ} أي يزيد الثلاثة آلاف ألفين ليتم العدد إلی

ص: 375


1- سورة الأعراف، الآية: 172.
2- سورة محمد، الآية: 7.

خمسة آلاف، وقيل: خمسة آلاف زيادة علی الثلاثة آلاف ليکون المجموع ثمانية آلاف، وهذا وعد بعد وعد فيکون أقوی لشحذ الهمم، کما لو قلت: إن فعلت کذا أعطيتك ديناراً وديناراً آخر، فهذا أکثر تأثيراً من أن تقول منذ البداية: أعطيك دينارين.

وقوله: {مُسَوِّمِينَ} من السوم بمعنی جعل العلامة بحيث يعرفهم بذلك المسلمون والمشرکون، وکانت علائمهم في معرکة بدر العمائم البيضاء مرسلين أذنابها(1) ولو کان المسلمون يصبرون ويتقون في معرکة أ ُحد لأرسل الملائکة بهذه العلامة، ولعلّ العلامة لأجل أن يعرفهم المؤمنون بأنهم ملائکة.

الخامس: قوله تعالی: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ...} الآية.

الغرض من هذا هو بيان أن الله تعالی في نصره المؤمنين لايحتاج إلی شيء، وإذا قدّر الأسباب فليس لحاجة إليها بل لحکمة في ذلك، فهو القادر علی أن يصنع مايشاء من غير تقدير سبب، کما أنه قادر علی تقدير الأسباب - سواء قليلة أم کثيرة، طولية أم عرضية - ، مثلاً أهلك قوم لوط بأقل من عشرة من الملائکة، کما أهلك أصحاب الفيل بطير أبابيل، کما أهلك أقوام آخرين من غير واسطة، فإذن إخبار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن الله سيرسل الملائکة لنصرهم إن صبروا واتّقوا لم يكن لأجل أن النصر متوقف عليهم بل لأن الله أراد النصر بواسطتهم، فيکون خبره بشارة للمؤمنين بالنصر وإزالة الخوف من قلوبهم.

قوله: {وَمَا جَعَلَهُ} الظاهر أن الضمير يرجع إلی قول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في {إِذْ تَقُولُ}، لا إلی الإمداد في {يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم}، وذلك لأن الإمداد لم يحصل

ص: 376


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 489-490.

في معرکة أحد، فلم تکن بشارة ولا اطمئنان بسببه، مضافاً إلی أن الحاجة إلی البشارة والاطمئنان کانت قبل المعرکة حيث انخزل ابن أبي سلول وثلاثمائة معه، وقد همت طائفتان بالرجوع، فکان المسلمون بحاجة إلی دعم معنوي، فجاء هذا الدعم عبر وعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لهم، فکان بشارة وسکون خاطر، فأمّا البشارة فبما يوجب سرورهم، وأمّا الاطمئنان فبإزالة أسباب الخوف.

وقوله: {وَمَا النَّصْرُ...} إشارة إلی أنه ليس متوقفاً علی العدد فإنه يكفي واحد، بل ولا بتوسيطهم أصلاً، بل هو من الله تعالی أجراه بواسطتهم، وهذا في کل الأمور، کما في قوله: {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُۥ أَمْ نَحْنُ الْخَٰلِقُونَ}(1)، وقد مرّ أن کل کمال من الله تعالی، وهو الذي أذن في کمال مخلوقاته أو جعلهم وسائط فيه، بل کل ما يجري في الکون فإنما هو بقضاء وقدر من الله تعالی، حتی في الأفعال الاختيارية، إذ لاجبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين.

ولذا قيل: فيه تنبيه علی أنه لاحاجة إلی المدد، وإنّما وعدهم بذلك بشارة لهم وربطاً علی قلوبهم لأن نظر عامة الناس إلی الأسباب أکثر، کما أن فيه حثّاً وتحريضاً لهم بأن لايبالوا بمن تأخّر عنهم.

السادس: قوله تعالی: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ}.

هذا بيان لعلة نصره تعالی لهم، وحاصله هو تقليل عدد وعُدة الکفار، أي هذا النصر سبب لانهدام رکن من أرکان الشرك بحيث:

ص: 377


1- سورة الواقعة، الآية: 58-59.

1- يقطع طرفاً من الکفار، أي جانب من جوانبهم، فالقطع من نفوسهم هو بالقتل أو الأسر، وذلك نقصان في عددهم، والقطع من أموالهم بما يغتنمه المسلمون منها أو يأخذوه فدية عن أسراهم، والقطع من أراضيهم بفتحها، وبذلك يضعف الکفار وتعلو کلمة الله تعالی عليهم وتکون العاقبة للمؤمنين.

2- کبت طرف آخر من الکفار، بأن يخزيهم وتقل شوکتهم، وأصل (الکبت) بمعنی منع العدو من تحقيق غرضه، فيکون ذلك سبباً لشدة غيظه، ولذا قيل: الکبت شدة غيظ أو وهن يقع في القلب.

فالمعنی أن نصر الله تعالی سبب لهلاك مجموعة منهم ومن أموالهم وأراضيهم کما أنه سبب لعدم وصولهم إلی مبتغاهم، فيضطرون إلی الانهزام في حالة الخيبة، أي منقطعة آمالهم إذ کانوا يأملون استئصال المسلمين.

السابع: قوله تعالی: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ...} الآية.

الظاهر أن هذا بيان لمصير هؤلاء في الآخرة، فإضافة إلی قطع طرفهم وکبتهم في الدنيا، فإن عذاب الآخرة ينتظرهم إن لم يتوبوا، فهؤلاء رغم جرائمهم باب التوبة مفتوح أمامهم، وإلاّ فعذاب الله ينتظرهم بسبب ظلمهم.

وقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ} أي ما يتعلق بشأنهم، ثم بيّن هذا الأمر بأنه التوبة أو العذاب، ومن ذلك يتضح أنها ليست جملة معترضة، بل استيناف لبيان مطلب آخر.

وقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} باضمار (أنْ)، و(أن يتوب) إمّا في حکم اسم معطوف ب {أَوْ} علی {الْأَمْرِ} أي ليس لك شيءٌ من أمرهم، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم، وإما معطوف علی {شَيْءٌ} أي ليس لك من أمرهم

ص: 378

شيء أو توبة أو تعذيب(1).

وقوله: {فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} بيان أنهم استحقوا العذاب بظلمهم، وليس الله يظلمهم بعذابهم.

کل ما للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فهو من الله تعالی

ثم اعلم أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لايملك شيئاً من نفسه، لافي تکوين ولا في تشريع ولا في شفاعة ونحوها، وکل ما للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فإنما هو فضل من الله تعالی، قال سبحانه: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}(2)، وقال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}(3)، وقال: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُۥ فَلَن تَمْلِكَ لَهُۥ مِنَ اللَّهِ شَئًْا}(4) وغيرها آيات کثيرة تدلّ علی أنه لا إرادة تعلو إرادة رب العالمين، وهذا لاينافي تفويض أمور من التکوين أو التشريع إلی غير الله بإذنه وإرادته سبحانه وتعالی، فجعل ملائکة مدبرات بإذنه تعالی، کما جعل لأنبيائه ولاية تکوينية أو تشريعية ليتصّرفوا بإذنه، فکما أن الله تعالی خلق الإنسان مختاراً وأعطاه القدرة في أن يفعل مايشاء لکن ذلك لم يخرجه عن قدرة الله وقضائه وقدره، کذلك شاء أن يؤدّب نبيه بآدابه ويفوض إليه الدين وأمور الکون وأمور أخری ترتبط بالدنيا أو الآخرة، ومع ذلك کلّه فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لايخالف إرادة الرب تبارك وتعالی، وقد فصلنا مسألة التفويض في شرح أصول الکافي فراجع(5).

ص: 379


1- الکشّاف 1: 413.
2- سورة يونس، الآية: 49.
3- سورة الجن، الآية: 21.
4- سورة المائدة، الآية: 41.
5- شرح أصول الکافي 4: 193 فما بعد (للمؤلف).

ثم اعلم أنه وردت روايات(1) في تأويل قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فإنما کانت تعييناً من الله تعالی ولم يكن للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيها اختيار، وذلك لعظمة هذه الولاية بحيث أن تعيين الإمام هي من مختصات الباري جلّ وعلا، کما قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).

الثامن: قوله تعالی: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...} الآية.

المعنی: ليس لك من الأمر شيء والحال أن الله هو مالك الکون وهو مالك المغفرة أو العذاب، أي کما هو مالك التکوين کذلك هو مالك التشريع ومالك الجزاء، فيتصرف في ملکه کما يشاء بحکمته، فليست مشيئته اعتباطاً أو ظلماً فإنه سبحانه يتعالی عن ذلك.

وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لعلّ الغرض منه بيان أن الله إن غفر فلأنه غفور رحيم، وإن عذب فلعدم قابلية ذلك الکافر لأن تناله الرحمة والغفران، فعذابه للکفار ليس لنقص في رحمته أو غفرانه بل لحکمته حيث إن الکافر غير قابل لهما، أو يقال: إن عذاب أولئك أيضاً من رحمته وغفرانه، لأن الوعيد بالنار سبب اهتداء کثير من الناس، فمن رحمته للناس خلق النار ويعذّب الکفار فيه إذ إخبار الناس بجهنم وعذابها ووعيد الکفار والعصاة بها کفيل بارتداع الکثير من الناس، فمن هذه الجهة صار رحمة ومغفرة لا للمعذّبين بل للمهتدين، فتأمل.

ص: 380


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 491-492.
2- سورة القصص، الآية: 68.

الآيات 130-133

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ الرِّبَوٰاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ (131) وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}

130- وکان سبب الهم بالفشل ثم ترك الموقع الحربي في غزوة أ ُحد هو حب الدنيا وزخارفها، فنهاهم تعالی عن التعلّق بها، فنهی عن أکل المال بالباطل وأمر بالإنفاق، فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ الرِّبَوٰاْ} وهو في القرض: کل ما جرّ نفعاً، وفي المعاملة: زيادة وزن أو کيل أحد المتماثلين عن الآخر {أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً} أي زيادة مکررة، وهو من أسوء أنواع الربا، حيث يربي إلی أجل، ولما يحين الأجل ويعجز المديون عن التسديد زاد في الربح إلی أجل آخر، وهکذا حتی يستغرق مال المديون کلّه، إذ الزيادة تصاعدية هندسية، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} حافوه بترك معاصيه التي منها الربا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تفوزون بالثواب والرضوان.

131- {وَاتَّقُواْ النَّارَ} احفظوا أنفسکم منها بترك المعاصی التي توجب استحقاقها {الَّتِي أُعِدَّتْ} هُيأت {لِلْكَٰفِرِينَ}، فلا تفعلوا مايوجب دخولکم معهم فيها.

ص: 381

بعض أسباب الهزيمة في أحد

132- {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ} في أوامره ونواهيه {وَالرَّسُولَ} في الأحکام وفي التنظيمات الإدارية والحربية وغيرهما {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

133- {وَسَارِعُواْ} بادروا {إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ} بالعمل الصالح الموجب للمغفرة کأداء الفرائض، وإلی {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا} أي سعتها کعرض {السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ} هُيأت {لِلْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الله بطاعته، ويتقون النار بترك موجباتها، ويتقون المعاصي بترکها.

بحوث

الأول: من الآية 130 إلی 136 يتم بيان بعض أسباب الهزيمة في غزوة أحد، حيث بدأت بهمّ طائفتين بالفشل ثم عصيان أکثر الرماة بترك مواقعهم، ثم فرار الأکثر من الزحف وغير ذلك مما سيأتي ذکره في الآيات اللاحقه، فإنه من أهم الأسباب هو الحالة النفسية التي کان عليها الناس حيث کانوا قريبي عهد بالجاهلية، فإن الحالة النفسية وطريقة تفکير الإنسان يؤثران الأثر الکبير في کيفية عمله، وحيث إن بين العمل والنفس تفاعلاً شديداً لذلك تمّ الارشاد إلی تهذيب النفس وتصحيح العمل، فالنفس تؤثر في العمل، والعمل يؤثر في النفس.

فحبّ المال واستغلال الناس في حوائجهم وعدم الإنفاق وحالات الإفراط في العداء والانتقام ونحو ذلك کلّها سبب التعلق بالدنيا والخروج عن جادة الصواب، ولذا جائت هذه الآيات لتهذيب النفوس وتصحيح الأعمال، مما يؤدي إلی التمسك بالشرع حتی في الحالات الخطرة، وعدم ترجيح الدنيا علی رضا الله والآخرة.

ص: 382

حول الربا

فلذا تم ذکر الربا مع النهي عنه، ثم الدعوة إلی الإنفاق في حالة اليسر والعسر، لئلا يکون هناك تعلق بالمال يؤدي إلی المخالفة، کما حدث لأکثر الرماة حيث عصوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وترکوا موقعهم في شِعب الجبل طمعاً في الغنيمة، کما تمّ الحث علی اطاعة الله تعالی ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنهما سبب الرحمة، وکذلك الحث علی أعمال الخير التي هي سبب المغفرة والجنة مع التحذير عن الأعمال السيئة التي هي سبب النار ثم الحث علی التوبة.

والحاصل أن هذه الآيات وما بعدها دلت علی:

1- تقوی الله، وإطاعته تعالی واطاعة رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فالفلاح والرحمة الخاصة ترتبط بها.

2- وقاية النفس من نار جهنم التي أ ُعدت للکافرين، وذلك بترك المعاصي.

3- المسارعة إلی المغفرة والجنة التي أعدت للمتقين، وذلك بامتثال الواجبات.

4- النهي عن ابتزاز أموال الناس عبر الربا والأمر بمساعدتهم بالإنفاق في اليسر والعُسر.

5- الإحسان إلی الناس وعدم الانتقام منهم، وذلك عبر کظم الغيظ والعفو.

6- التوبة من الذنوب وعدم الإصرار عليها.

الثاني: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ الرِّبَوٰاْ أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً...} الآية.

ص: 383

(الربا) في اللغة بمعنی الارتفاع والزيادة، وأطلق علی الزيادة في القرض أو المعاملة:

أما في القرض: فهو أن يقرض إلی أجل مع زيادة، کأن يقرض ألف لشهر فيسترجعه ألف ومائة مثلاً، وأما في المعاملة: فهو أن يتبادلا بضاعة من جنس واحد مع اختلاف في الوزن أو الکيل کأن يبيعه کيلو من الحنطة بکيلو ونصف منها.

والظاهر أن هذه الآية ناظرة إلی الربا القرضي، لقوله: {أَضْعَٰفًا مُّضَٰعَفَةً} أي زيادة تصاعدية - والتي يعبّر عنها بالزيادة الهندسية - ، وذلك لأنه کثيراً ما لايتمکن المديون من تسديد الدين في الوقت المحدّد، ويطلب تأجيل التسديد، وحينئذٍ يستغل الدائن حاجة المديون مرة أخری بأن يجعل أصل القرض مع زيادته رأساً للمال ويجعل الربا علی رأس المال الجديد، مثلاً أقرضه ألف لشهر بربا عشرة بالمائة، فلما حان الشهر وعجز المديون من التسديد، أجّله لشهر آخر مع جعل رأس المال ألف ومائة وجعل العشرة بالمائة من الربا علی رأس المال الجديد - الذي هو ألف ومائه - بحيث يسترجع منه ألف ومأتين وعشرة، وحيث إن المديون يعجز باستمرار يتضاعف الدين، وکثيراً ما يستغرق مال المديون حيث أقرضه قليلاً واسترجع منه أضعاف کثيرة، وهذا استغلال لحاجة الفقراء مع أکل الدائن المال بالباطل، وفي ذلك زيادة ثروة الأثرياء علی حساب زيادة فقر الفقراء في حين أن اللازم علی الثري مساعدة الفقير لااستغلال فقره، ليزيد من ثروة نفسه، وقد مرّ في سورة البقرة الآية 275 بعض الکلام حول مضار الربا فراجع.

ص: 384

وقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أمر عام ومن مصاديقه ترك الربا، وتقوی الله الخشية منه والحذر من بطشه بالکفار والعصاة.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تقواه سبب فلاحکم بالفوز بالجنة والرضوان.

الثالث: قوله تعالی: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ}.

هذه الآية بيان شناعة الربا وأنه يستوجب استحقاق دخول النار، تلك النار التي هُيأت بالأساس للکافرين، لکن بعض المعاصي لشدة قبحها توجب استحقاق غير الکافر للنار التي أ ُعدت للکافرين، فالمسلم المرابي يستحق بعصيانه النار التي لم تهيأ للمسلمين في الأساس - إذ هُيأت لهم الجنة - .

فهذا التعبير لبيان غاية شناعة الربا، کما في قوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَوٰاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٖ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}(1)، وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَوٰاْ وَيُرْبِي الصَّدَقَٰتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}(2).

ويحتمل أن يکون المراد الکفر العملي، لاالکفر الاعتقادي، فالنار قد أ ُعدت لکل کافر عقيدة أو عملاً بأن کان مسلماً اعتقاداً لکن عمله عمل الکفار بالعصيان، أو أن الکثير من المرابين يستحلون الربا وبذلك يكفرون، لأن إنکار الضروري من الدين مع العلم بکونه ضرورياً سبب للکفر والخروج عن الملة.

ص: 385


1- سورة البقرة، الآية: 278-279.
2- سورة البقرة، الآية: 276.

والتقوي من الوقاية، و{اتَّقُواْ اللَّهَ} و{اتَّقُواْ النَّارَ} إما تأکيد لأن تقوی الله بمعنی حفظ النفس من عذابه التي هي النار، وإما تقوی الله أعم من إتقاء النار، لأن النار إحدی مصاديق غضبه وعذابه، وإما تقوی الله يراد منها سببها أي خشيته وحفظ حرماته وأن يقدره حق قدره.

الرابع: قوله تعالی: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

إرشاد إلی لزوم إطاعتهما، وإطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هي إطاعة لله تعالی کما قال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(1)، لکن قرنها معاً في هذه الآية وفي آيات أخری دفعاً لتوهم أنه لاتجب إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلاّ فيما بلّغه عن الله مباشرة، کما شاعت هذه السفسطة بين أدعياء المعرفة مؤخراً، بل إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) واجبة بشکل مطلق. وکذلك وجوب إطاعته فيما فوّض الله إليه، کما تجب إطاعته في القضايا الإدارية والتنظيمات الحربية ونحو ذلك.

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بيان أنه لايمکن نيل رحمة الله الخاصة بالجنة والرضوان إلاّ عن طريق إطاعة الله والرسول، فمن لم يطعهما لايستحق تلك الرحمة.

الخامس: قوله تعالی: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ...} الآية.

بعد الأمر بأصل الطاعة، يتم في هذه الآية بيان محبوبية المبادرة إليها، فعلی الإنسان أن لايسوّف في تنفيذ الواجبات، إذ لايدري ماذا يحدث له بعد ذلك، وحتی الواجبات الموسعة ينبغي للإنسان الإتيان بها في أول وقتها، و(المغفرة)

ص: 386


1- سورة النساء، الآية: 80.

هي من فعل الله تعالی، فالمسارعة إليها بمعنی المسارعة إلی أسبابها التي هي فعل العباد، والظاهر أن المراد بها المسارعة إلی امتثال الواجبات وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «إنها أداء الفرائض»(1)، وأما ترك المحرمات فقد مر ذکره في قوله تعالی: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ}.

ثم إن عطف الجنة علی المغفرة، لأن الجنة نتيجة المغفرة، فمن غفر الله له ارتقی بحيث يليق بدخول الجنة، وأما غير المغفور له فلا يليق بها، وحيث إن الله حکيم - ولازم الحکمة وضع الشيء في موضعه - فيغفر ثم يدخل الجنة.

وقوله: {عَرْضُهَا السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ} أي سعتها کسعتهما، قيل: وإنما عبّر بالعرض مبالغة في وصفها بالسعة لأن العرض أقل من الطول، فإذا کان عرض الجنة هکذا فما بالك بطولها؟ وقيل: إن هذا لبيان سعتها لالتحديد السعة، إذ لانهاية للسموات والأرض في تصور الإنسان.

وقد يسأل: إذا کانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ والجواب: إن الآية لاتدل علی أن الجنة في هذه السموات والأرض بل دلت علی أن عرضها کعرضهما، والله قادر علی أن يخلق الجنة في مکان آخر، فليست يده مغلولة کما زعمت اليهود، بل خلق السموات بقدرته وهو يزيد في الخلق ويوسع قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَيْيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}(2)، وقال: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}(3)، ويستفاد من بعض الآيات والرويات أن الجنة

ص: 387


1- مجمع البيان 2: 584.
2- سورة الذاريات، الآية: 47.
3- سورة فاطر، الآية: 1.

فوق السموات عن يمين العرش، عند سدرة المنتهی، قال تعالی: {وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ}(1).

وقوله في هذه الآية: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وفي تلك الآية: {أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ} دليل علی أن النار والجنة مخلوقتان حالاً، لا کما زعمته بعض المعتزلة من أنهما سيخلقان، إذ ذلك صرف لظاهر الآيتين وغيرهما من الآيات من غير وجه.

ص: 388


1- سورة النجم، الآية: 13-15.

الآيات 134-136

{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَٰمِلِينَ (136)}

134- وللمتقين صفتان رئيسيتان جامعتان هما: العمل الصالح والتوبة من الأعمال السيئة، والأول في علاقتهم بالناس، والثاني في علاقتهم بالله تعالی، أمّا العمل الصالح في اتجاه الناس فهم: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ} من أموالهم {فِي السَّرَّاءِ} حالة الرخاء التي تُسرّ صاحبها، {وَالضَّرَّاءِ} حالة الشدة والعسر، {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ} يتجرعون شدة الغضب فيوقفون سورة الغضب مع تمکنهم من إمضائه، {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} بترك مؤاخذة من جنی عليهم فاستحق العقاب، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الذين فعلوا الفعل الحسن الذي من مصاديقه الإحسان إلی الغير، وهذا کالعلة لمدحهم في الإنفاق والکظم والعفو.

135- وأما علاقة المتقين بالله تعالی فهي ذکر الله والتوبة {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً} الذنب العظيم المتجاوز للحدّ کالزنا والفرار من الزحف {أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بارتکاب سائر الذنوب {ذَكَرُواْ اللَّهَ} بتذکر عظمته تعالی،

ص: 389

وحقه العظيم، ونهيه، وعقابه ونحو ذلك، وهذا التذکر بالقلب ويظهر أثره باللسان، {فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} طلبوا غفرانه، {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} هذا استفهام بمعنی النفي والمقصود الحثّ علی التوبة، فالمعنی لايغفرها إلاّ الله تعالی فأنيبوا إليه، {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ} لم يقيموا علی الذنب وذلك بأن أقلعوا عنه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه خطيئة وقبيح وأنه لاغافر سوی الله تعالی.

136- {أُوْلَٰئِكَ} المتقون الموصوفون بهذه الصفات {جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} بستر الذنوب والعفو عنها {وَجَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ} هذا الجزاء بالمغفرة والجنة {أَجْرُ الْعَٰمِلِينَ} عملاً بإحسان وتوبة.

بحوث

الأول: بعد أن حذّر الله تعالی من النار التي أعدت للکافرين، وبعد أن أمر سبحانه بالمسارعة إلی المغفرة والجنة التي أعدت للمتقين، بيّن الله تعالی بعض صفات المتقين مما يناسب السياق العام المرتبط بأحداث غزوة أحد، ولايخفی أن للمتقين صفات کثيرة مبثوثة في آيات کثيرة من القرآن الکريم، وفي کل مقام ذکرت الصفات التي تتناسب مع الغرض، وفيما نحن فيه ذکر مايرتبط بالناس في الآية الأولی ومايرتبط بالله تعالی في الآية الثانية، وهي کالتالي:

1- الغزوات بحاجة إلی جهاد بالمال، کما أنه بعد انتهاء الغزوة تزداد الحاجات، وذلك بسبب استشهاد جمع وجرح آخرين ممن کانوا يعولون أهليهم، فأصبحوا من غير معيل، فلذا قال: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}.

ص: 390

2- في الهزائم يزداد لوم بعض بعضاً إذ يريد الأشخاص التملّص عن تحمل مسؤولية الهزيمة وإلقائها علی الآخرين، کما يزداد الغيظ تجاه من صاروا سبباً للهزيمة، فقال تعالی: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} حيث من مصاديقه عدم لوم الآخرين والتجاوز عن خطيئتهم، وذلك لأن اللوم والذم والتقريع والانتقام يزيد الهزيمة هزيمة، فهم مهزومون عسکرياً ومتشتتون اجتماعياً، أما الکظم والعفو فيساعدان في لملمة الجراح.

3- إن تجاوز المحنة بحاجة إلی تجديد القوی فقال تعالی: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي بالفعل الحسن الذي منه الإحسان إلی الآخرين، ويمکن أن يکون هذا المقطع بيان علة الاتصاف بالإنفاق والکظم والعفو، فإن ذلك إحسان والله يحب المحسنين.

4- إن الهزيمة کانت بسبب عصيانهم لله سبحانه وللرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلابد من إصلاح مافسد وذلك بالتوبة بأن يتذکر الإنسان ربّه فيستغفر وينقلع عن القبيح الذي ارتکبه فلا يكرّره.

الثاني: قوله تعالی: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}.

لعلّ تقديم الإنفاق لأن السياق العام کان حول أن سبب الهزيمة کان حب الدنيا - بجمع الغنائم أولاً، وبخوف القتل في الفرار من الزحف ثانياً - ، والإنفاق المالي من أفضل الأسباب لترويض النفس علی حبّ المکارم والانقلاع من حبّ الدنيا، وليكن الإنفاق في کل الحالات لأن النفس بحاجة إلی ترويض دائم ومستمر، فحتی حالة الضراء التي هي حالة الفقر وشدة الحاجة لابد فيها من الإنفاق أيضاً، ولذا قيل: لو لم يحسن بحجة

ص: 391

الفقر والعُسر لابتلي برذيلة المنع واعتاد قساوة القلب وعدم النظر إلی حوائج المضطرين، وقد وردت في الروايات أن زکاة الفطرة لاتجب علی الفقراء لکن يستحب أن يأخذ معيل الأسرة صاعاً من حنطة أو نحوه وينفقه علی أحد أفراد الأسرة وهذا ينفقه علی الثالث، والثالث علی الرابع، وهکذا ثم يخرجون الصاع إلی فقير آخر، فينالوا کلهم ثواب زکاة الفطرة، ولعلّ فيه ترويض نفوسهم علی الإنفاق إضافة إلی تحصيل الثواب.

و{السَّرَّاءِ} حالة السرور، وهي حالة الرخاء، لأنها توجب مسرّة الإنسان، و{الضَّرَّاءِ} حالة الشدة، لوقوع الإنسان في المضرّة.

الثالث: قوله تعالی: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

أما (کظم الغيظ) فبمعنی إمساکه وتجرعه وعدم إظهاره، ومن أبرز مصاديقه عدم التقريع واللوم وعدم تشفي النفس، والکظم هو من أصعب أنواع الصبر، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من کظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه يوم القيامة رضی»(1).

و(الغيظ) هو شدة الغضب، وفي المقاييس: کرب يلحق الإنسان من غيره(2).

وأما (العفو) فهو ترک عقاب من استحقه، بأن کان من حقوقه، فيغضّ الطرف عنه ويتنازل عن حقه، نعم لو کان من حقوق الله کما في غالب

ص: 392


1- الکافي 2: 11.
2- مقاييس اللغة: 780.

الحدود فلا يجوز العفو، إلاّ في حالات خاصة مذکورة في الفقه.

وأما قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فهو إما بيان صفة أخری من صفات المتقين، فهؤلاء لايکتفون بالکظم والعفو بل يحسنون حتی إلی من ظلمهم، فقد يعفو الإنسان ويقاطع الخاطئ، وقد يعفو عنه ويحسن إليه.

وإما بيان سبب الکظم والعفو، بأنهما إحسان والله يحب المحسنين بمعنی يجازيهم ويکافئهم علی إحسانهم.

و(الإحسان) هو صنع الفعل الحسن، سواء کان متعلّق الإحسان النفس، فمن يطيع الله فقد أحسن إلی نفسه، أم کان متعلقه الغير کالتصدق عليه، فلا ينحصر الإحسان في الإحسان إلی الغير وبالکظم والعفو، فكما يحسن الإنسان إلی الخاطئ، کذلک يحسن إلی المجتمع بشدّ القلوب وتقوية الأواصر، وکذلک يحسن إلی نفسه بفعل ما ينال به رضا الله تعالی وثوابه.

الرابع: قوله تعالی: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ...} الآية.

الآية عطف علی قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ...} فتکون بياناً لصفة أخری من صفات المتقين، وهي فيما يرتبط بعلاقتهم بربهم سبحانه وتعالی، بأنهم في ذکر الله تعالی بحيث لو غفلوا فارتکبوا خطيئة تذکروا الله سبحانه وتابوا إليه.

والتوبة بمعنی الرجوع إلی الله تعالی، وهي تتکون من أمور ثلاث:

1- قلبي: بالندم علی المعصية، وهذا يلازم العزم علی عدم العود إليها.

2- ولساني: بأن يقول: استغفر الله، ونحو ذلک.

3- وعملي: بأن يُصلح ما أفسده، فإن کان في حق الناس أرجع إليهم حقوقهم أو استرضاهم، وإن کان في حق الله أدّاه أو قضاه إن کان

ص: 393

الموضوع باقياً، کمن فرّ من الزحف ولا زالت المعرکة قائمة فعليه الرجوع إليها ومواصلة الجهاد، أما لو لم يبق الموضوع، کما لو وضعت الحرب أوزارها، کفی في التوبة الندم والاستغفار.

وفي هذه الآية إشارات إلی أرکان التوبة الثلاثة، لأن ذکر الله قلباً يلازم الندم علی الفعل، والاستغفار هو طلب المغفرة فيشمل الاستغفار اللساني والاستغفار العملي بإصلاح ما أفسد، وعدم الإصرار يلازم الندم والعزم علی عدم العود.

و(الفاحشة) من الفُحش وهو تجاوز الحدّ، يقال: غلاء فاحش، والقبيح قد يکون متناهياً في القبح فيطلق عليه الفاحشة کالزنا، وما سوی ذلک لايطلق عليه الفاحشة کاللمم وهي صغائر الذنوب، ولايخفی أن تقسيم الذنوب إلی کبيرة وصغيرة وفاحشة وغير فاحشة إنما هو باعتبار الذنب في نفسه، وأما إذا لوحظ فيه أنه عصيان للرب العظيم فکل ذنب عظيم، وبهذا يتبيّن أن قوله: {أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بمعنی ارتکاب سائر الذنوب غير الفواحش.

وقوله: {ذَكَرُواْ اللَّهَ} أصل (الذکر) بمعنی حضور الشيء في القلب، ويقابله النسيان والغفلة، فذکر الله بمعنی عدم الغفلة عنه، بأن يلاحظ الإنسان عظمة الله وحقه العظيم ونهيه وعقابه وأمثال ذلک، وأما الذکر باللسان فهو فرع الذکر القلبي ومکمّل له، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: من أشدّ ما فرض الله علی خلقه ذکر الله کثيراً، ثم قال: لا أعني «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله اکبر» وإن کان منه، ولکن ذکر الله عندما أحلّ وحرّم،

ص: 394

فإن کان طاعة عمل بها، وإن کان معصية ترکها(1).

وقوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} جملة فاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه، والغرض تليين القلوب وحثّها علی الاستغفار ببيان سعة رحمة الله تعالی وأنه يغفر جميع الذنوب لمن توجه إليه بالتوبة والإنابة و{مَن} استفهام يراد به النفي.

وقوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} أي لم يقيموا علی الذنب، بل انقلعوا منه نادمين قاصدين عدم تکراره، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلک الإصرار(2).

وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حال عن {مَا فَعَلُواْ} والمعنی انهم لو يصروا علی الذنوب وهم يعلمون أنها ذنب، فقد لايعلم الإنسان الحکم أو قد لايعلم الموضوع فيُخطئ، فهذا تکراره ليس إصراراً إذا کان معذوراً في جهله، وحتی العقلاء لايعتبرون ما ارتکبه ذنباً وإصراراً، مثلاً لو لم يعلم العبد أمر مولاه أو نهيه، وکان معذوراً في جهله فلا يعاقب بل ولا يُلام علی مخالفته.

نعم لو کان الجهل عن تقصير فهذا يلام ويعاقب، لکن من يخالف عن علم وعمل أسوأ حالاً وأشد عقاباً.

الخامس: قوله تعالی: {أُوْلَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّٰتٌ...} الآية.

ص: 395


1- الکافي 2: 80.
2- الکافي 2: 219.

أي هؤلاء المتقون المتصفون بهذه الصفات يجازيهم الله بالمغفرة والجنات، وهذه الآية ليست تکراراً للآية 133 لإحدی الجهات التالية أو لغيرها:

1- إن تلك الآية کانت حول أسباب المغفرة والجنة، وهذه الآية حول نفس المغفرة والجنة.

2- أو تلك وعد بهما، وهذه إخبار عن تحقق الوعد.

3- أو تلك بيان سعة الجنة، وهذه بيان أوصافها وخلود أهلها، فتمّ تفريق المطالب في آيتين ليکون آکد وأقوی في إثارة الشوق إليها.

4- وقيل ذکر الله صنفين: فصنف المتقون الذين لم يرتکبوا المعاصي بل ارتقوا إلی فعل الفضائل، وصنف ثان هم الذين لم يتقوا المعاصي لکنهم تابوا عنها، مع بيان أن الجنة أ ُعدت للصنف الأول، لکن الصنف الثاني أيضاً يدخلونها بفضل الله تعالی، وهذا تشريف للصنف الأول أيّما تشريف، کما لو أقيمت مأدبة علی شرف شخص ودُعي إليها آخرون أيضاً.

وقوله: {جَنَّٰتٌ...} قد مرّ أن الجنة هي البستان الذي غطته الأشجار، فهي مرکب من أرض وشجر، ففوقها الاغصان المتشابکة وتحتها الأرض، وعليه فلا داعي لتقدير تجري من تحت أشجارها، بل تجري من تحت نفس الجنة باعتبار أن الأرض جزء منها.

وقوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَٰمِلِينَ} بيان أن الجنة لاتنال إلا بالعمل، وعن أمير المومنين (عليه السلام) أنه قال: «لاتکن ممن يرجو الآخرة من غير عمل»(1)، وقال الله

ص: 396


1- تحف العقول: 157.

تعالی: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}(1)، وقوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ} بيان لعظمة هذا الأجر، فإنه لا أجر يبلغ هذا الأجر - لا کماً ولا کيفياً ولا دواماً - ولذا قيل: لو کانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف، لرجّح العاقل الخزف الباقي علی الذهب الفاني، کيف والأمر علی العکس إذ لاعين رأت ولا سمعت أذن ولا خطر علی قلب بشر مثل الجنة وما فيها.

ص: 397


1- سورة النساء، الآية: 123.

الآيات 137-139

اشارة

{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)}

137- ثم إن الله تعالی يحث المؤمنين علی الطاعة وترک المعصية، بالاعتبار بما جری علی الأمم السابقة الذين کذبوا الرسل: {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِكُمْ} في الأمم السابقة {سُنَنٌ} سنّها الله تعالی في الأمم المکذّبة، وهي تجري فيکم أيضاً إن کذّبتم، {فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ} في البلاد التي کانوا فيها، {فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} حيث أهلکوا ولم تبق من مساکنهم إلاّ الأطلال.

138- {هَٰذَا} السير والنظر في عاقبة المکذبين {بَيَانٌ} أي إيضاح الحق {لِّلنَّاسِ} عامة لتتم الحجة علی الجميع، {وَهُدًى} أي إرشاد إلی طريق الحق، {وَمَوْعِظَةٌ} أي نصح وتذکير بالعواقب {لِّلْمُتَّقِينَ} فمن لم يکن يعلم يهتدي، ومن کان يعلم يُذکَّر.

139- وحيث تبين لکم أن سنة الله جارية في إهلاک المکذبين وإزالة نعمهم فعليکم أن تستقيموا وتتحملوا صعوبات طريق الحق لتجري فيکم سنته تعالی في المؤمنين {وَلَا تَهِنُواْ} أي لاتضعفوا عن العمل ومنه جهاد

ص: 398

الأعداء، {وَلَا تَحْزَنُواْ} علی ما أصابکم من المصائب، {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ} الغالبون {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بامتثالکم أوامر الله ورسوله، وهکذا کان في غزوة أ ُحد حيث امتثلوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في البداية فانتصروا، ثم خالفوا فانهزموا ونُکّل بهم، ثم استجابوا لله تعالی ولرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) وصبروا فانقلبوا بنعمة الله وفضل لم يمسسهم سوء، فالعلو مشروط بالايمان.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ...} الآية.

بعد الدعوة إلی المسارعة إلی أسباب المغفرة والجنة، والدعوة إلی التوبة عن المخالفات، وبيان أن المصير سيکون إلی الجنة، بعد ذلک يتم بيان مصير المکذبين، فإنهم أهلکوا وزالت نعمهم وانقرضت حضارتهم، فعلی الإنسان أن ينظر إلی آثارهم الباقية ليعتبر بها، وليعلم أن مبادلة الخلود في الجنة بدنيا فانية زائلة ليس من شأن أولي الألباب.

واعلم أن الأمور العقلية الصرفة لا تؤثر في الکثير من الناس، فلا تبتدل عندهم تلک المعلومات إلی قناعات حقيقية بحيث تؤثر في تصرفاتهم وأعمالهم، إلاّ إذا اقترنت بإدراک الشيء عبر الحواس، فغالب الناس لايکترثون بالمعلومات الطبية - مثلاً - إلاّ بعد تجربة المضار أو المنافع، وهکذا في غالب أمورهم، وحيث إن مسائل الآخرة من الغيب الذي لايمکن إحساسه فدعوتهم إليها اقترنت بذکر الأمثال المحسوسة، وايجاد طرق محسوسة لإدراکها، وأهم الحواس في هذا المضمار البصر والسمع، فالعاقبة الدنيوية للظلم أو العدل إذا کانت ماثلة بين أيدي الناس ينظرون

ص: 399

إليها ويستمعون إلی قصصها کان لها الأثر الکبير في ايجاد قناعة لدی الإنسان بحسن العدل وقبح الظلم، بحيث تؤثر تلک القناعة في سلوکه وأعماله.

وهکذا النظر في آثار الماضين وخاصة أطلال قصور حکام الدنيا، حيث يری الإنسان زوال نعيمهم وهلاکهم بعد أن کانت حياة الناس وأرزاقهم رهن إشارتهم، فلم تشفع لهم عساکرهم ولا أموالهم ولا سطوتهم من الله شيئاً.

حفظ آثار الماضين

ثم إن الغرض من النظر إلی آثار الظالمين والاستماع إلی قصصهم هو الاعتبار، وليس الغرض إحياء أمجادهم وحث الناس إلی الاقتداء بهم، کما دأب عليه بعض الحکام الظلمة في العصر الحاضر، حيث قصدوا بذلک تثبيت دعائم حکمهم الاستبدادي عبر إيهام أنهم يعيدون الأمجاد الغابرة، فيکون نظير: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَٰرِهِم مُّقْتَدُونَ}(1).

فحفظ الآثار أمر حق لکن لابد أن يکون بغرض صحيح، وأهم تلك الأغراض هو الاعتبار بهم، قال تعالی: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ}(2).

فالغرض الأساسي هو معرفة تبعات الظلم والاستکبار علی الله تعالی.

وأما الصالحون فآثارهم تُذکّر بهم وبالله سبحانه وتعالی فلذا يلزم حفظها من هذه الجهة، وأيضاً تساعد في فهم کثير من قضاياهم المروية في کتب الآثار، وفي تصحيح أخطاء بعض الروايات التاريخيّة، وقد حفظ الله تعالی

ص: 400


1- سورة الزخرف، الآية: 23.
2- سورة يونس، الآية: 92.

مقام ابراهيم (عليه السلام) تذکيراً به وتخليداً لتضحياته کما مرّ، ولذا کان من أهم الأمور حفظ آثار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في مکة والمدينة، والذي أزال الوهابيون کثيراً منها وهم يسعون إلی إزالة ما تبقی منها، سعياً لاطفاء نور الله تعالی، وليتمکنوا من تزوير بعض حقائق التاريخ أو التشکيک فيها بعد زوال آثارها.

قوله تعالی: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} أي لله تعالی سنن في خلقه، وهذه السنن غير قابلة للتغيير والتحويل کما قال: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(1)

وهذه السنن تحکم التاريخ، وهناك علم يسمی (فلسفة التاريخ) يبحث عن هذه السنن.

وفي هذه الآيات تُذکر سُنّتان - مما يرتبط بغزوة أ ُحد - .

1- سنته سبحانه في المکذبين، بإهلاکهم وإزالة نعمهم.

2- سنته تعالی في المؤمنين، بأنهم الأعلون، بشرط إلتزامهم بلوازم الايمان.

ولکن لمّا کان المؤمنون قد يضعفون ويخالفون أو قد يختلط بهم غير المؤمنين لذا کانت له تعالی سنة أخری أيضاً هي تداول الأيام بين الناس، فيکون رفعاً لدرجات المؤمنين وتمييزاً لهم عن غير المؤمنين ولغير ذلک من العِلل التي ذکرت في الآيات التالية.

وقوله: {سُنَنٌ} جمع سنة بمعنی الطريقة والعادة، و(سنة الله) هي الوقائع التي قدّرها الله تعالی بجعل شيء علة لشيء آخر وخاصة فيما يرتبط بأفعال الناس بحيث تکون لها آثار لاتنفک عنها.

ص: 401


1- سورة فاطر، الآية: 43.

وقوله: {فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ} بيان لعدم الاکتفاء بالاستماع عن بعيد، بل الذهاب والنظر بالعين والاستماع للقصص عن قرب، فإن ذلک أکثر تأثيراً وأشد إقناعاً.

الثاني: قوله تعالی: {هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}.

أي السير في الأرض والنظر إلی عاقبة المکذبين ينفع الناس عموماً، والمتقين خصوصاً، فليس الأمر اعتباطياً، إذ إن الله تعالی حکيم، والحکيم لايضع الشيء إلاّ في موضعه، فيتعالی سبحانه عن اللغو والعبث والتکليف من غير مصلحة.

1- بيان للناس، أي ايضاح الحقائق للناس عامة، وذلک ليهتدي من شاء الهداية، ولتتم الحجة علی من شاء الضلالة، فمن طرق البيان القول، ومن طرقه ترک الآثار، کما هناک طرق أخری قال تعالی: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا ءَايَةَۢ بَيِّنَةً لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَ}(1)، وقال: {وَتَرَكْنَا فِيهَا ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}(2)، وأما الغرض من البيان فکما قال تعالی: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(3)، وقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(4)، وقال: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(5)، وقال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(6)، وقال: {لَعَلَّكُمْ

ص: 402


1- سورة العنکبوت، الآية: 35.
2- سورة الذاريات، الآية: 37.
3- سورة البقرة، الآية: 187.
4- سورة البقرة، الآية: 219.
5- سورة البقرة، الآية: 221.
6- سورة البقرة، الآية: 242

تَهْتَدُونَ}(1) وغيرها.

ولايخفی أن البيان أعم من الإيضاح بالقول أم بالفعل، تشريعاً أم تکويناً.

2- هدی للمتقين، أي زيادة هداية لهم وتثبيتهم علی تقواهم، کما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ}(2)، وفي سورة الحمد: {اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فالمراد هنا الهداية التکوينية بتوفيقهم في الاستمرار في هدايتهم وتقواهم.

3- موعظة للمتقين، أي بتذکيرهم للعواقب، فإن أصل الموعظة هي القول الذي يرق له القلب(3)، ثم تُوسّع فيه فأطلق حتی علی الأفعال التي تُنبِّه الإنسان وتزيده بصيرة.

ومن هذا يتبين الفرق في هذه الآية بين الهداية والوعظ، فالهداية تثبيت علی طريق الرشد والتقوی، والموعظة تذکير بالعاقبة، ويحتمل أن يراد بالهداية الابتداء بها لمن کانت له القابلية فأراد أن يتقی، وبالموعظة الاستمرار بالهداية لمن کان متقياً فتکون تثبيتاً له.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

هذا بيان لسُنّته تعالی في جانب المؤمنين، وهو علّوهم وغلبتهم علی الکفار بشرط الإيمان، قال تعالی: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَٰلِبُونَ}(4)، وقال: {فَإِنَّ حِزْبَ

ص: 403


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- سورة محمد، الآية: 17.
3- العين 2: 228؛ مفردات الراغب: 876.
4- سورة الصافات، الآية: 173.

اللَّهِ هُمُ الْغَٰلِبُونَ}(1)، وقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(2).

ولا يخفی أن الإيمان هو بمعنی الالتزام بجميع ما أمر الله تعالی، ومن ذلك التمسک بالأسباب الطبيعية للغلبة، کإعداد القوة، وعدم اطاعة الکفار، وعدم عصيان القيادة المشروعة، وعدم التنازع، وعدم الفرار من الزحف.

وقد بيّن الله تعالی هذه الأسباب في القرآن الکريم، بعضها في الآيات التالية تبياناً لأسباب هزيمتهم يوم أحد، وکقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ}(3).

وفي هذه الآية تثبيت لقلوبهم لتطمئن، ولئلا تضعضع بسبب کثرة الخسائر في غزوة أحد، فيقال لهم إرشاداً وتبصرة: {وَلَا تَهِنُواْ} أي لايُصِبکم الضعف في أفعالکم وجهادکم في المستقبل، و{وَلَا تَحْزَنُواْ} علی هزيمتکم الماضية وکثرة خسائرکم، بل عليکم بالإيمان الذي هو سبب لعلوکم وغلبتکم علی الکفار، ولذا قيل: فأنتم الأعلون وکلمة الکفار السفلی لأنکم علی الحق وهم علی باطل، وقتالکم لله وقتالهم في سبيل الطاغوت، وشهداؤکم في الجنة وقتلاهم في النار، وأنکم منصورون في العاقبة وغالبون عليهم ولو بعد حين.

والحاصل: إنه بعد علمکم بهذه الحقيقة بأنکم الأعلون فلا مُبرِّر للضعف

ص: 404


1- سورة المائده، الآية: 56.
2- سورة محمد، الآية: 7.
3- سورة الأنفال، الآية: 60.

والحزن، فانظروا إلی المستقبل بنظرة متفائلة، والتزموا بدينکم وبما يأمرکم من إعداد وسائل النصر، وانتهوا عما ينهاکم عنه من أسباب الهزيمة، واعتبروا بما جری عليکم يوم أ ُحد حيث التزمتم فانتصرتم، ثم عصيتم فانهزمتم، ثم أطعتم فردّ الله الکفار عنکم.

ص: 405

الآيات 140-143

اشارة

{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّٰبِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143)}

140- ثم يبين الله تعالی أن المصائب التي يبتلی بها المؤمنون إنما هي لحکمة إلهية فلا تُنافي علوّ المؤمنين، فلابد أن لايهنوا ولا يحزنوا إن ابتلوا بها، ف {إِن يَمْسَسْكُمْ} يُصبکم {قَرْحٌ} جراح، والمراد القتل والجرح في غزوة أُحد {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ} کفار قريش {قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ} في غزوة بدر، فما وهنت عزيمتهم عن الانتقام فجمعوا عددهم وعُدّتهم إلی يوم أحد، فأنتم أولی منهم في عدم الوهن والحزن، لأنکم الأعلون، ولأنکم ترجون من الله ما لايرجون، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ} أي وهکذا هي أيام الدنيا {نُدَاوِلُهَا} ننقلها {بَيْنَ النَّاسِ} فتارة لهم وتارة عليهم، {وَ} الغرض من التداول أولاً: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} أي يظهر ما علمه الله تعالی أزلاً بمن يختار الإيمان، إذ الجزاء إنما يکون بعمل الإنسان لا بما علمه الله تعالی فقط، فلابد أن يتحقق ما علمه، والمقصود بيان أن تمييز المؤمن عن غيره يکون

ص: 406

في المداولة، إذ لو کانت الدنيا للمؤمنين دائماً لما رغب أحد عن الإيمان ولبطل الامتحان، {وَ} ثانياً: ل {يَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} يشهدون علی الخلق، إذ هي مرتبة رفيعة لاتُنال إلاّ بالعمل الشاق، ثم عند المداولة کما يظهر المؤمن يظهر الکافر والمنافق {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ} فلا يرفعهم إلی الدرجات العالية، ولايتخذهم شهداء، بل يشهد أولئک عليهم.

141- {وَ} ثالثاً: {لِيُمَحِّصَ} يخلّص من الذنوب ويطهر {اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} فإن صمودهم واستقامتهم في الصعاب يکفّر عنهم ذنوبهم {وَ} رابعاً: ل {يَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ} يُفنيهم بإنقاصهم وإهلاکهم.

142- وأما الفائدة الخامسة فهي نيل الجنة التي يستحقها من استقام فقال: {أَمْ} منقطعة وقد تضمنت معنی الاستفهام الإنکاري أي بل أ {حَسِبْتُمْ} ظننتم {أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} أي قبل أن يظهر عياناً ما علمه الله تعالی أزلاً {الَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ} «الواو» للجمع أي وقبل أن يظهر علمه في {الصَّٰبِرِينَ}؟ کلا لايکون ذلک، فالجزاء علی العمل لا علی العلم الأزلي.

143- ثم ذمّ الله الذين فرّوا فقال: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} شهادةً في سبيل الله {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} حيث کانوا يأسفون لعدم نيلهم الشهادة يوم بدر، {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} شاهدتم الموت عياناً في غزوة أ ُحد حيث رأيتم من قُتل {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي تنتظرونه، فکما شاهدتم القتلی کذلک کنتم تنتظرون أن يحصدکم المشرکون قتلاً، فکيف فررتم ثم اعترضتم علی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مع أنکم کنتم تصرّحون بحبکم للشهادة؟!

ص: 407

بحوث

الأول: قوله تعالی: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُۥ}.

من هذه الآية يبدأ بيان تفاصيل غزوة أحد، بما تتضمن من بيان سبب الهزيمة وإجابة عن اعتراضات وتوهمات، وبيان سنن الله تعالی ونتائج الطاعة والمعصية وغير ذلک.

ففي البداية يتم بيان أن من سنن الله تعالی مداولة الأيام بأن تکون تارة للمؤمنين وتارة عليهم، وکذا تارة للکفار والمنافقين وتارة عليهم، بل حتی حينما تکون للکفار أو المنافقين فإنها لاتبقی لمجموعة دون مجموعة، ولذا عبّر عن ذلک بقوله: {بَيْنَ النَّاسِ}، وهذا الأمر قد ثبت في علم التاريخ، واکتشف سببه في علم فلسفة التاريخ، حيث ذکروا أن الحضارة تدور بين الأمم وفي أقطار الأرض، فالحضارات کالأجسام لها فترة ولادة وطفولة ونضج في قوة ثم کهولة وشيبة ثم الفناء، وکما يمکن تطويل فترة الشباب والقوة في الجسم کذلک يمکن تطويل فترة قوة الحضارة وفتوّتها، لکن دون التمکن من إيقاف قوسها النزولی وانحدارها إلی حدّ الزوال، نعم يمکن أن تحيا حضارة من جديد وبيد أشخاص آخرين، فتکون کحضارة جديدة ولدت من جديد.

وقوله: {يَمْسَسْكُمْ} من المس إشارة إلی أن الضربة لم تکن قاصمة بل هي مسّ يمکن تجاوزه، کما أن المشرکين في بدر مسّهم القرح لکنهم أعادوا قواهم فرجعوا إلی أحد.

وقوله: {قَرْحٌ} بمعنی الجرح، والمراد القتل والجراحات التي أصيب بها

ص: 408

المسلمون والکفار في أ ُحد وبدر.

وقوله: {مِّثْلُهُۥ} إما المثليّة من حيث الکم، فقد قتل في بدر سبعون من المشرکين وأصيب جمع منهم، کذلک استشهد في أ ُحد سبعون من المسلمين وأصيب آخرون، وأما المثلية في أصل القرح أي کما انهزمتم کذلک هم انهزموا، وعليه يمکن أن يکون کلا القرحين في غزوة أ ُحد فالمعنی إن مسکم قرح في آخر غزوة أحد، کذلک مس المشرکين قرح مثله في بداية غزوة أ ُحد حيث انهزموا وقتل جمع منهم في بداية الأمر.

سبب مداولة الأيام

الثاني: قوله تعالی: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...} الآية.

أي هذا هو شأن أيام الدنيا، حيث تنتقل الهزيمة والنصر بين مختلف الناس - بمؤمنهم وکافرهم - .

ثم إن الله تعالی يذکر خمسة أسباب لتقدير مداولة الأيام بين الناس، وبعض هذه الأسباب متداخلة لذا استعملت لام العلة تارة ولم تستعمل تارة أخری، وتلک الأسباب هي:

1- التمييز بين المؤمن وغيره، إذ لو کانت الدولة للمؤمنين دائماً لآمن الناس کلهم، واختلط من آمن واقعاً بمن آمن طمعاً، ولکن حين دولة المؤمنين يؤمن الناس ثم حينما تکون الدولة عليهم يبقی المؤمن الحقيقي مستقيماً وينکشف المنافق أو الذي غرّته نفسه فتوهم أنه مؤمن حقيقي، وهکذا حدث في غزوة أ ُحد حيث انخزل عبدالله بن أبي بثلاثمائة، وفرّ الأکثر، وصمد الأقل.

2- إن الصمود والاستقامة سبب الرقي وصعود مدارج الکمال، وحينئذٍ

ص: 409

تکون لهکذا إنسان قابلية أن يُمنح المقامات العالية، وحيث إن الله تعالی أراد اختيار من يشهدون علی الناس، وهي درجة عالية جداً لأنها درجة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ومن يلونهم في المرتبة، فلذا جعل المسلمين في مواقف حرجة ليرتقي بعضهم بالصمود والصبر والاستقامة بحيث ينال درجة الشهادة علی الخلق.

ولا يخفی أن هؤلاء الشهداء هم بعض من علم الله إيمانهم، فکأنّ هذين السببين متداخلان لذلک لم يکرر لام التعليل في قوله: {وَيَتَّخِذَ...}.

3- تخليص المؤمنين من ذنوبهم، لأن الاستقامة حسنة کبيرة، والحسنات تکفّر عن السيئات.

4- محق الکافرين، بإنقاصهم وإهلاکهم.

وأيضاً هذان سببان متلازمان عادة، لأن الحرب کما يقتل ويجرح فيها المؤمن کذلک الکافر، فهي تمحيص للمؤمنين وفي الوقت نفسه محق للکافرين، ولذا لم تتکرر لام التعليل في قوله: {وَيَمْحَقَ...}.

5- نيل الجنة ومقاماتها العالية لايکون إلاّ بالجهاد والصبر، وفي مداولة الأيام تتهيأ الفرصة لکلا الأمرين - أي الجهاد والصبر - فيستحق الجنة من جاهد وصبر.

وقوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ} الظاهر أن (تلک) مبتدأ، و(الأيام) خبر، أي هکذا هي الأيام وهذا هو شأنها، ثم وصفها بقوله: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} من المداولة بمعنی الصرف والانتقال، والمقصود بيان أن هناک أسباباً طبيعية سنّها الله في الناس، فمن أخذ بالأسباب وصل إلی النتائج سواء کان

ص: 410

المؤمنون أم الکفّار، مع إضافة أن الله تعالی ينصر المؤمن الذي أطاعه وأطاع رسوله باتخاد الأسباب الطبيعية مع التمسک بالأسباب الغيبيّة، فحاصل الأية هو أن تقدير الله هو تداول الأيام بين الناس بأن ينصر الله تعالی المؤمنين الذين ينصرونه، ويُملي للکافرين الذين يتمسکون بالأسباب، کما قال: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}(1)، کما مرّ قوله تعالی: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبْلٖ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٖ مِّنَ النَّاسِ}(2).

الثالث: قوله تعالی: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ}.

هذا بيان العِلة الأولی لمداولة الأيام بين الناس، والمقصود تمييز المؤمن عن غيره، إذ الامتحان يکون في الشدة لا في الرخاء، وبالصعوبات لا بالشهوات، فلم يجعل الله الدنيا دار کرامة أوليائه بل خصّ الآخرة بهم. وأما الدنيا فلا قيمة لها عند الله ولو بمقدار جناح بعوض - کما في بعض الأحاديث -(3) فلذا جعلها ثواباً للکفار مع تداول الأيام بينهم وبين المؤمنين، فإن کانت الدولة للمؤمنين فهو نصر من الله لهم، وإن کنت الدولة للکافرين فهو استدراج واملاء لهم، کما قال تعالی: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}(4)، وهذا ليس نصراً من الله لهم، إذ ما عاقبته الذل والهوان والخزي ليس نصراً کما

ص: 411


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- سورة آل عمران، الآية: 112.
3- الکافي 2: 247.
4- سورة الأعراف، الآية: 182-183.

قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَٰتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}(1).

معنی «ليعلم الله»

وأما قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} بمعنی ليظهر ما علمه الله تعالی أزلاً، فليس الغرض هو إثبات علمه سبحانه وتعالی، فإن ذلک أمر مفروغ منه لاشبهة فيه، وإنما الغرض إثبات متعلق العلم وهو المعلوم، ولذا قيل: إن العلم إنما هو بين العالم والمعلوم ف (عَلِم) قد يکون باعتبار العالم فيما کان جاهلاً ثم علم وهذا يستحيل في الله تعالی، وقد يکون باعتبار المعلوم فيما لم يکن المعلوم موجوداً ثم کان، وحيث إن الله تعالی عالم إذ لا معلوم فمعنی ليعلم الله هو تحقق معلومه في الخارج، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: لم يزل الله عزوجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور، فلما أحدث الأشياء وکان المعلوم، وقع العلم منه علی المعلوم، والسمع علی المسموع والبصر علی المبصر والقدرة علی المقدور(2)، وعنه (عليه السلام) : إن الله أعلم بما هو مکوّنه قبل أن يکوّنه - وهم ذرّ - ، وعلم من يجاهد ممن لايجاهد، کما علم أنه يُميت خلقه قبل أن يميتهم، ولم يسرهم موتهم وهم أحياء(3).

وقيل: العلم يتعلق بالمعلوم، فنُزِّل نفي العلم منزلة نفي متعلّقه، لأنه ينتفي بانتفائه، تقول: ما علم الله في فلانٍ خيراً، تريد ما فيه خير حتی يعلمه الله!!

ص: 412


1- سورة المؤمنون، الآية: 55-56.
2- الکافي 1: 107.
3- تفسير العياشي 1: 199.

ثم إن إستعمال واو العطف في قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ...} مع أن هذا هو العلة الأولی، لعلّه کما قيل: من أنه عطف علی مقدّر لبيان أن العلل کثيرة وهذه منها، فتأمل.

الرابع: قوله تعالی: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ}.

هذا بيان للعلة الثانية لمداولة الأيام، والمقصود لترتفع قابلية بعض المؤمنين - بسبب إطاعتهم لله تعالی ولرسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) - فينالوا درجة الشهادة.

والظاهر - بقرينة السياق - هو الشهادة علی الخلق، فإنها درجة الأنبياء والأوصياء والأئمة (عليهم السلام) وأما من سواهم فلابد أن يکون تالي تلوهم وذلك بالعمل الصالح الشاق، ومن أصعبه الجهاد في سبيل الله والاستقامة في مواضع الهزيمة، فليس المراد من {شُهَدَاءَ} القتلی في سبيل الله تعالی، وإن کان من هؤلاء شهداء علی الخلق أيضاً، إذ إصطلاح الشهيد علی القتيل في سبيل الله حقيقة متشرعية، ولا تحمل ألفاظ القرآن الکريم علی الاصطلاحات المتأخرة، نعم ما ورد في الروايات يراد به عادة هذا الاصطلاح، فتأمل.

وأما قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّٰلِمِينَ} فهو بيان الشق الآخر المقابل للذين آمنوا وللشهداء، فإنه في الامتحان کما يتميّز المؤمن کذلک يتميّز الظالم لنفسه المنهزم العاصي.

الخامس: قوله تعالی: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَٰفِرِينَ}.

بيان للعلة الثالثة والرابعة لمداولة الأيام، فإن بعض الناس مؤمنون وهم يثبتون في الامتحان ويتميزون عن غير المؤمنين، لکن لهم ذنوباً قد

ص: 413

ارتکبوها، فهؤلاء بحاجة إلی تطهير منها، لئلا تعوقهم تلک الذنوب عن المقامات العالية، لذا يمحّصهم الله بالأعمال الصعبة فيطهروا من تلک الذنوب، وأصل التمحيص هو تخليص الشيء، مما فيه من عيب، يقال: مَحَصتُ الذهب ومَحّصتُه إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث(1).

فالفرق بين قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} وقوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} هو أن الأول في تمييزهم عن غير المؤمنين، والثاني في تطهيرهم عن الأدران العالقة بهم من أنفسهم أو من أعمالهم.

وأما محق الکافرين: فهو بمعنی إنقاصهم وإهلاکهم.

قيل: تمحيص المؤمنين إن کانت الدولة عليهم، ومحق الکافرين إن کانت الدولة للمؤمنين!

لکن الأقرب أنه سواء کانت الدولة للمسلمين أم للکافرين فذلک تمحيص للمؤمنين ومحق للکافرين، لأن (المحق) هو النقصان شيئاً فشيئاً إلی حدّ الهلاک، والکفار حتی لو کانت الدولة لهم لکن لايصلون إلی الأثر الذي يرجونه، فلاخير ولا برکة لانتصارهم فهو کالبطلان والهلاک، کما قال تعالی: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ}(2)، وأي نقصان وهلاک أسوء من الإملاء والاستدراج الذي يسوق إلی نار جهنم؟!

السادس: قوله تعالی: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا...} الآية.

هذا بيان للعلة الخامسة للمداولة، وحاصله بيان أن للجنة ثمن لابد

ص: 414


1- مفردات الراغب: 761.
2- سورة محمد، الآية: 8.

للإنسان أن يدفعه لينالها، وفي تداول الأيام يحصل هذا الشيء، فالجهاد بالمال والنفس والصبر عن المعاصي وعلی الطاعات وفي الأزمات طريقان مهمّان إلی الجنة.

وقوله: {الَّذِينَ جَٰهَدُواْ} يراد به الجهاد بمقاتلة الأعداء لاجهاد النفس، لأن السياق حول المعرکة، مضافاً إلی أن جهاد النفس داخل في الصبر بل هو أحد أرکانه وأعمدته، فلا تکرار في الکلمتين، والمقصود هو إن کانت ظروف الجهاد متحققة فثمن الجنة بالجهاد والصبر، ولکن إن لم تکن ظروف الجهاد متحققة فثمن الجنة سائر الطاعات وترک المعاصي.

وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} (أم) منقطعة وبتقدير الاستفهام الانکاري فالمعنی بل أزعمتم، والواو في (ويعلم) للجمع بتقدير (أن) المصدرية، قيل: جيء بهذه العلة بصيغة الاستفهام تفننا في التعبير وهو من أوجه البلاغة والفصاحة.

السابع: قوله تعالی: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ...} الآية.

هذا کالتتمة للآية السابقة، أي لايکون نيل الجنة بالتمني بل بالعمل، وأنتم کنتم تتمنون الشهادة لمّا فاتتکم في بدر، فهل کنتم تظنون أن يترککم الله تعالی وتمنيّکم من غير تمييز الصادق عن الکاذب؟ کلا، بل داول الأيام في أ ُحد فکانت الدولة للمشرکين فأين ذهب أولئک الذين تمنوا الموت؟ إنه قد هرب أکثرهم من القتال خوفاً من الموت لمّا رأوا أصحابهم قد قتلوا وأوشک القتل أن يصل إليهم، فالغرض من هذه الآية بيان مصداق عملي لفائدة هکذا إمتحان وبأن للجنة ثمناً ليس هو مجرد تمنّي الشهادة.

وکان من قصة هؤلاء أن قوماً فاتتهم غزوة بدر فتحسروا لذلک لمّا علموا

ص: 415

فضل الشهداء عند الله، فتمنّوا لو کانوا في بدر واستشهدوا فيه! وقيل: إن هؤلاء کانوا من أکثر الناس إلحاحاً للخروج إلی أ ُحد وعدم التحصن في المدينة، لکن عند الامتحان تبيّن عدم صدق أکثرهم إلاّ القليل، وفي ذلک تنبيه لهم ولغيرهم بأن لايغتروا بالنفس ولايکتفوا بالتمنّيات، بل عليهم أن يسيئوا الظن بها، وأن يواصلوا تهذيب النفس ولا يغفلوا عنها آناً ما.

وقوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي رأيتم الموت حينما رأيتم شهداء المسلمين.

وقوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي تنتظرون وصول الموت إليکم لذا هرب أکثرکم، وقيل: تنظرون بمعنی الرؤية لکن المقصود منه عدم إقدامکم علی القتال کراهية الموت، فيکون المعنی فقد رأيتم الموت رؤية الناظر لا رؤية المقدام الذي لايبالي بالموت أ وقع هو علی الموت أم وقع الموت عليه.

وقيل: هو تأکيد لرأيتموه أي لم يکن مجرد رؤية علمية لاتثير خوفاً ولا خطراً، بل کانت رؤية بصرية بما فيها من احساس الخوف والخطر.

ص: 416

الآيتان 144-145

اشارة

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَئًْا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّٰكِرِينَ (145)}

144- ثم يقرّع الله المنهزمين بأن دين الله مستمر سواء بقي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أم ارتحل فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} فهو بشر اختاره الله لرسالته وليس إلهاً لايموت، {قَدْ خَلَتْ} مضت {مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فهو ليس بدعاً منهم، {أَفَإِيْن مَّاتَ} موتة طبيعية {أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} أي رجعتم إلی الکفر ارتداداً کالذي يمشي القهقری؟! {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} بل يضر نفسه، لأنه سبحانه الغني الحميد الذي لايحتاج إلی إيمان أحد کي يضره ارتداده، کما أنه تعالی لم يکن بحاجة إلی اطاعة المطيعين، بل هم الذين انتفعوا {وَسَيَجْزِي اللَّهُ} جزاءً حسناً {الشَّٰكِرِينَ} الذين شکروا نعمة الإيمان والهداية وذلک بعدم الارتداد.

145- ثم لماذا انهزم أولئک الفارّون؟ هل لکي يدرأوا عن أنفسهم الموت؟! ألايعلمون أن الموت والحياة بيد الله تعالی {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} لأن الله تعالی مهيمن علی الوجود کلّه فلا يقع شيء

ص: 417

في ملکه تعالی من غير قضائه وقدره وإذنه، وقد کتب الله تعالی الموت {كِتَٰبًا مُّؤَجَّلًا} أي ذا أجل معين، فلا ينفع الفرار من الموت بالارتداد أو الفرار من الجهاد، ثم عرّض الله تعالی بمن شغلته الغنائم يوم أ ُحد عن الإطاعة أو شغلته النفس عن الجهاد فقال: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا} خيرها فاهتمَّ بذلک {نُؤْتِهِ مِنْهَا} من الدنيا أي بعضها، لکن الاعطاء استدراج له فلا يغترّ به، {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْأخِرَةِ} بأن أطاع وعمل عملاً صالحاً {نُؤْتِهِ مِنْهَا} من الآخرة، وهذا الإيتاء إحسان وإکرام له {وَسَنَجْزِي} جزاءً حسناً {الشَّٰكِرِينَ} الذين أطاعوا.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.

بيان أن الله تعالی اختار بشراً لرسالاته، فترکيبتهم الجسدية کسائر البشر، فيجري عليهم ما يجري علی سائر الناس، ومنه الموت الذي کتبه الله تعالی علی الجميع، قال تعالی: {وَمَا جَعَلْنَٰهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَٰلِدِينَ}(1)، وذلک لأنه تعالی أراد أن يکونوا أسوة وقدوة يقتدي بهم الناس، فلابدّ من کون ترکيبتهم الجسدية کسائر الناس کي يتمکنوا من الاقتداء بهم، وحتی لو کانوا ملائکة کان لابدّ من جعلهم بشراً کما قال تعالی: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}(2).

ولايخفی أن الله تعالی خلق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) أنواراً محدقين بعرشه، ثم أنزلهم إلی الدنيا رحمة ولطفاً منه تعالی بالعالمين أجمع، وهذا

ص: 418


1- سورة الأنبياء، الآية: 8.
2- سورة الأنعام، الآية: 9.

الغرض يتحقق بوجودهم فترة ثم رجوعهم إلی منازلهم التي شرفهم الله بها، فلم تکن من الحکمة خلودهم في الأرض، وکذا سائر الناس إنما جيء بهم إلی الدنيا للامتحان قال تعالی: {ثُمَّ جَعَلْنَٰكُمْ خَلَٰئِفَ فِي الْأَرْضِ مِنۢ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(1)، وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(2)، فلذا قدّر لهم البقاء في الدنيا لفترة محدودة ليکملوا الامتحان، ولينتقلوا بعدها إلی دار کرامته أو عذابه، فلذا کان الموت من الحکمة، وعدمه خلاف الحکمة، والله تعالی منزه عن العبث.

الثاني: قوله تعالی: {أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ}.

(الهمزة) للإستفهام الإنکاری التوبيخي، أي حيث علمتم أنه رسول، وأن رسلاً قبله سبقوه وقد ماتوا، واستمرت شريعتهم بعد موتهم، فکيف انقلبتم بمجرد سماعکم نبأ موت رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟! ألم تکونوا تعلمون أن الله أرسله ليبلّغ، لا لکي يعيش بين أظهرکم أبد الدهر؟! فدينُه دين الله، ودين الله لايموت بموت من أرسله الله لتبليغه، وفي الحقيقة هذا توبيخ لهم لضعف إيمانهم بحيث يبقی ما دامت الدولة لهم، ويزول إذا صارت عليهم، کما قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْأخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(3)، وأما

ص: 419


1- سورة يونس، الآية: 14.
2- سورة المؤمنون، الآية: 115.
3- سورة الحج، الآية: 11.

المؤمن کامل الإيمان فليس إيمانه طمعاً في الدنيا ولا خوفاً من القتل، ولذا يثبت في کل الحالات قال تعالی: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}(1).

و(الموت) هو زهوق الروح عن الجسد سواء کان بسبب طبيعي أم بحادث کالقتل، إلاّ أنه لو عطف القتل عليه کان المراد منه الزهوق الطبيعي ومن القتل الزهوق المتعمد ونحوه، وقد ورد في بعض الأحاديث أن القتل ليس موتاً(2) والظاهر أن المراد فيما لو اجتمع ذکرهما معاً، حتی لايکون من التکرار.

وغير خفي أن شأن نزول الآية في غزوة أحد، لکن معنی الآية غير منحصر بها، ولذا ارتد الکثيرون بعد رحيل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، بل قاتل بعضهم بعضاً کما قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖۘ} إلی قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(3).

الانقلاب بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

(والانقلاب) بمعنی الانصراف عن الوجهة إلی غيرها و(الأعقاب) جمع عقب وهو مؤخر القدم، فکأن المؤمن يسير في الطريق المستقيم وفجأة يتحوّل عنه إلی طريق الباطل، وفي هذا التعبير وجهان:

ص: 420


1- سورة الأحزاب، الآية: 23.
2- تفسير العياشي 1: 199.
3- سورة البقرة، الآية: 252-253.

1- بمعنی أنه أدار ظهره إلی الوجهة الصحيحة، لکن عبّر بالأعقاب بدلاً عن الظهر زيادةً في التشنيع عليه.

2- أن يراد التشبيه بمشية القهقری، إذ المتقهقر يضع عقبه علی الأرض أولاً.

الثالث: قوله تعالی: {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ...} الآية.

هذا وعد ووعيد، أما الوعيد فبيان أن المنقلب يضرّ نفسه، ولايتضرر الله تعالی من ذلک، لأنه الغني المطلق الذي لاينفعه إيمان ولا يضره کفر، وإنما المتضرر هو من يکفر قال تعالی: {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُۥ}(1)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَئًْا}(2)، بل يضرون أنفسهم بحرمانها من الکمال والثواب وبإيقاعها في العذاب، فالله تعالی خلق الناس ليرحمهم بلا حاجة منه إلی طاعتهم ولا ضرر من عصيانهم، فإذا عصوا حرموا انفسهم من الثواب الجزيل.

وأما الوعد فهو جزاء الشاکرين، و(الشکر) هو عرفان المنعم بالقلب، والثناء عليه بالسان، وإطاعته بالجوارح، فمن أطاع الله تعالی فقد شکره، والذين استقاموا ولم يفروا من الزحف ولم ينقلبوا علی الأعقاب إطاعةً لله ولرسوله، فقد شکروه سبحانه وقد وعدهم بالجزاء الجزيل، فقوله: {الشَّٰكِرِينَ} هم الذين لم يرتدوا علی أعقابهم.

ولا يخفی تکرار جزاء الشاکرين في هذه الآية والآية التي بعدها،

ص: 421


1- سورة فاطر، الآية: 39.
2- سورة آل عمران، الآية: 177.

والظاهر ان {الشَّٰكِرِينَ} في الآية الأولی يراد بهم الذين لم يرتدوا علی الاعقاب فهم الشاکرون في أصول الدين بأن شکروا نعمة الإسلام بالثبات عليه، فشکرهم هو إيمانهم، ويراد بالشاکرين في الآية الثانية العاملين بإخلاص، فهم الشاکرون في فروع الدين فشکرهم بطاعتهم.

والحاصل أن من صحت عقيدته ولم يرتد يجازيه الله، وکذا من عمل بالصالحات يجازيه، وقيل: الأول في الآخرة، والثاني في الدنيا لئلا يتوهم أحد حرمان المؤمنين من جزاء الدنيا!

أسباب الموت

الرابع: قوله تعالی: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ...} الآية.

هذا تشجيع علی الاستقامة والجهاد، فالذين ارتدوا، أو فرّوا من الجهاد إنما کان ذلک لحبّهم الحياة وأماناً من الموت، وقد رُوي أن بعضهم أراد توسيط رأس النفاق عبد الله بن أبيّ ليأخذ لهم أماناً من أبي سفيان(1).

والآية تبين أن الارتداد والفرار من الجهاد ليس أماناً من الموت، فکم من غير مجاهد مات حتف أنفه أو بحادث، قال تعالی: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ}(2)، وکم من مجاهد رجع سالماً غانماً.

قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} الإذن إما بمعناه أي الإيجاد تکويناً، أو المراد المعنی الخاص المذکور في قول الإمام الصادق (عليه السلام) : لايکون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن

ص: 422


1- جوامع الجامع 1: 333.
2- سورة آل عمران، الآية: 154.

وکتاب وأجل، فمن زعم أنه يقدر علی نقض واحدة فقد کفر(1).

والحاصل أن السبب الحقيقي للموت هو إرادة الله تعالی قبض روح العبد، وأمره لملک الموت، وليس الجهاد هو سبب الموت ولا الفرار منه سبب بقاء الحياة.

وعليه فلو مات أو قتل الرسول فقد کان ذلک باذن الله تعالی، وهو يستدعي الثبات علی الدين لا الخروج منه، لأن الأمر کلّه بيد الله تعالی، فله المشيئة التشريعية في الدين وأمرکم به، وله المشيئة التکوينية في موت الجميع ومنهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا تناقض بين التشريع والتکوين بل هما متلازمان متطابقان، کما مرّ توضيحه في أوائل السورة.

قوله: {كِتَٰبًا} أي کتب الموت کتاباً أو حالکونه کتاباً {مُّؤَجَّلًا} أي ذا أجل ووقت، والمعنی أن کل إنسان سيموت يوماً ما فيرجع إلی حساب الله تعالی، فليکن موتاً في طاعة الله لينال الثواب، لا أنه يعصي الله تعالی حباً للبقاء فيفر من الجهاد أو يرتد، فإن ذلک لا يدفع عنه الموت، وحتی لو أخّر الله موته فإنه سيلاقيه عاصياً قد استوجب الخذلان والعقاب.

سؤال: في الحروب نری حصد أرواح الکثيرين، ونحن نعلم يقيناً بأنه لو لم تکن حرب أو لم يشارکوا فيها لم يکونوا يموتون معاً وفي ذلک الوقت؟!

والجواب: أن الآية ليست في صدد بيان الأجل المحتوم، وسيأتي توضيحه في الآيات 154-156، بل في بيان أصل الموت، بمعنی أنهم لايتمکنون من دفع الموت عن أنفسهم دائماً، فالأجل أما محتوم أو غير محتوم، فالمحتوم

ص: 423


1- راجع شرح أصول الکافي 2: 467-468 (للمؤلف)، ففيه شرح لمعنی الحديث.

هو الذي لا مناص منه أبداً ولا يتقدم ولا يتأخر، وأما غير المحتوم فهو الذي علّقه الله تعالی علی الأسباب الخاصة، فيمکن تأخيره بتأخير أسبابه أو تقديمه بتقديم أسبابه، قال تعالی: {ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُۥ}(1)، ولذا کان الدعاء والصدقة وصلة الأرحام ونحوها من أسباب زيادة العمر، وهناك أسباب في تنقيص الأعمار، وهذه من موارد البداء، کما في قوم يونس لما عصوا قرب منهم العذاب فلما تضرعوا کشفه الله عنهم.

والحاصل: إن الارتداد أو الفرار من الجهاد قد يؤخر الأجل المعلّق غير المحتوم، لکنه لا يؤخر الأجل المحتوم وسيلاقيه - ولو بعد حين - ولکن مع خسارة الآخرة والعذاب الأليم، بل قد يکون مع الهلکة في الدنيا أيضاً.

الخامس: قوله تعالی: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا...} الآية.

کأنّه بيان أن الذين يفرون من الجهاد أو يرتدّون حين سيطرة الأعداء يتمتعون قليلاً فقد نجوا بأرواحهم عادة، والذين يصمدون ويقتلون في سبيل الله تعالی ينالون ثواب الآخرة، ومن ذلک يتضح سبب عدم تقييد ارادتهم بالعمل کما في قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْأخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}(2)، وذلک لأن الصامدين إنما هم مؤمنون ساعون بجهادهم إلی طلب مرضاته تعالی، فتأمل.

وقيل: هو تعريض بمن شغلتهم الغنيمة عن الجهاد وعن إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بلزوم مواقعهم، فمن يجاهد لأجل الغنيمة قد يحصل عليها

ص: 424


1- سورة الأنعام، الآية: 2.
2- سورة الإسراء، الآية: 19.

لکن لاخلاق له في الآخرة، وأما من يجاهد في سبيل الله تعالی فينال ثواب الآخرة، وقوله: {مِنْهَا} للتبعيض، إذ الارادة قد لاتتفق مع الأسباب أحياناً فهو يريد لکن لايتمکن من الوصول إلی ما يريد، لکنه لايخلو من الوصول إلی بعض خيرات الدنيا، وکذا الذي يعمل للآخرة فيؤتی بعضاً منها قد يحبط عمله أو يفرّط فلاينال کل ما يحب.

وقيل: قوله: {وَمَن يُرِدْ...} بيان لسبب الانقلاب وسبب الشکر، فأما المنقلبون فقد أرادوا الدنيا لذا لمّا دارت الدائرة ارتدوا وفرّوا، وأما الشاکرون فقد أرادوا الآخرة لذا يجازيهم الله تعالی بأحسن الجزاء.

السادس: في شأن نزول الآية...

في مجمع البيان: قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية أنه لما أ ُرجف بأن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قد قتل يوم أ ُحد وأشيع ذلک، قال أناس: لو کان نبياً لما قتل! وقال آخرون: نقاتل علی ما قاتل عليه حتی نلحق به، وارتد بعضهم، وانهزم بعضهم، وکان سبب انهزامهم وتضعضهم إخلال الرماة لمکانهم من الشِعب... فلما رأی خالد بن الوليد قلة الرماه واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأی ظهورهم خالية صاح في خيله من المشرکين، وحمل علی أصحاب النبي من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم... حتی قتل مصعب بن عمير، قتله ابن قميئة، فرجع وهو يری أنه قتل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقال: إنی قتلت محمداً، وصاح صائح: ألا إنّ محمداً قد قُتل، ويقال: إن ذلک الصائح کان ابليس لعنه الله(1).

ص: 425


1- مجمع البيان 2: 603-604.

وفي الکافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: لما انهزم الناس يوم أ ُحد عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) انصرف إليهم بوجهه وهو يقول: أنا محمد، أنا رسول الله، لم أقتل ولم أمت، فالتفت إليه فلان وفلان وقالا: الآن يسخر بنا أيضاً وقد هُزِمنا.

وبقي معه علي (عليه السلام) وسمّاک بن خرشة - أبو دجانة - فدعاه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا أبا دجانة انصرف وأنت في حلّ من بيعتک، فأما عليّ فهو أنا، وأنا هو، فتحوّل وجلس بين يدي النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وبکی، وقال: لا والله، ورفع رأسه إلی السماء وقال: لا والله، لا جعلت نفسي في حلّ من بيعتي، إني بايعتک، فإلی من أنصرف يا رسول الله؟ إلی زوجة تموت! أو ولد يموت! أو دار تخرب! أو مال يفنی! أو أجل قد اقترب؟! فرَقّ له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فلم يزل يقاتل حتی أثخنته الجراحة، وهو في وجهٍ، وعلي (عليه السلام) في وجه، فلمّا أ ُسقط احتمله عليّ (عليه السلام) ، فجاء به إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فوضعه عنده، فقال: يا رسول الله أوفيت ببيعتي؟ قال: نعم، وقال له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) خيراً.

وکان الناس يحملون علی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الميمنة فيکشفهم علي (عليه السلام) ، فإذا کشفهم أقبلت الميسرة إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فلم يزل کذلک حتی تقطع سيفه بثلاث قِطع، فجاء إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فطرحه بين يديه وقال: هذا سيفی قد تقطع! فيومئذٍ أعطاه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ذا الفقار.

ولمّا رأی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) اختلاج ساقيه من کثرة القتال رفع رأسه إلی السماء وهو يبکي، وقال: يا ربّ وعدتني أن تُظهر دينک، وإن شئت لم يعيک، فأقبل علي (عليه السلام) إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أسمع دويّاً شديداً،

ص: 426

وأسمع: أقدم حيزوم، وما أهمّ أضرب أحداً إلاّ سقط ميتاً قبل أن أضربه؟! فقال: هذا جبرئيل وميکائيل واسرافيل في الملائکة، ثم جاء جبرئيل (عليه السلام) فوقف إلی جنب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد إن هذه لهي المواساة، فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : إن علياً منّي وأنا من عليّ، فقال جبرئيل: وأنا منکما... الحديث(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه أصاب علياً (عليه السلام) يوم أ ُحد ستون جراحة، وأن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه، فقالتا: إنا لا نعالج منه مکاناً إلاّ انفتق منه مکان، وقد خفنا عليه، ودخل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة، فجعل (صلی الله عليه وآله وسلم) يمسحه بيده، ويقول: إن رجلاً لقي هذا في الله فقد أبلی وأعذر، فکان القرح الذي يمسحه رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يلتئم، فقال علي (عليه السلام) : الحمد لله إذ لم أفرّ ولم أ ُوَلِّ الدبر، فشکر الله له ذلک في موضعين من القرآن، وهو قوله: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّٰكِرِينَ} {وَسَنَجْزِي الشَّٰكِرِينَ}(2).

ص: 427


1- الکافي 8: 318-321.
2- مجمع البيان 2: 610.

الآيات 146-148

اشارة

{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْأخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}

القسم الأول من الناس: الصابرون الثابتون

قد مرّ أن الناس في غزوة أ ُحد انقسموا إلی أصناف ثمانية، فهذا القسم الأول.

146- ثم يحرضهم علی الاقتداء بأصحاب الأنبياء السابقين حيث لم ينهزموا {وَكَأَيِّن} بمعنی «کم» للتکثير {مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ} مع النبي {رِبِّيُّونَ} عارفون بالرب {كَثِيرٌ} أي جماعات کثيرة، نسبت إلی الرب لإيمانهم به وعبادتهم له وطاعته، {فَمَا وَهَنُواْ} لم تفتُر عزيمتهم {لِمَا أَصَابَهُمْ} من الشدائد {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فحيث کانوا يريدون الله شدّوا عزائمهم {وَمَا ضَعُفُواْ} في القتال {وَمَا اسْتَكَانُواْ} للعدو بالخضوع والتذلل له، فبقيت عزيمتهم قوية واستمروا في القتال ولم يتذللوا للعدو، فکان هذا الصبر منشأ حب الله تعالی لهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ} يجازي ويثيب {الصَّٰبِرِينَ} هذا کلّه من حيث العمل.

ص: 428

147- وأما من حيث القول {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} قول الربييّن عند ملاقاة العدو {إِلَّا أَن قَالُواْ رَبَّنَا} أي التضرع إلی الله تعالی بأن يدرأ عنهم أسباب الهزيمة ويهيّأ لهم أسباب النصر وهي:

أ - {اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} التي قد تکون سبباً للزلل والفرار من الزحف.

ب - {وَإِسْرَافَنَا} بمعنی الإفراط ومجاوزه الحد {فِي أَمْرِنَا} أمر القتال، فقد يکونون قصّروا في العدد والعدة، ولم يعدوا لهم ما استطاعوا من قوة.

ج - {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} لئلا تزل، وذلک بتقوية القلوب وبالألطاف الخفية والجلية.

د - {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ} بالإعانة عليهم، کإلقاء الرعب في قلوبهم، والإمداد بالملائکة، أو عبر تهيأة الأسباب الظاهرية للنصر.

148- فلما رأی الله صدقهم بصبرهم عملاً وتضرعهم إليه لساناً وقلباً نصرهم {فَآتَاهُمُ اللَّهُ} جزاءً لهم {ثَوَابَ الدُّنْيَا} منافعها: بالنصر والغنيمة تارة، وبالعزة والذکر الحسن تارة أخری، أو في ذرياتهم ثالثة، وقد يجمع کل ذلک لهم، {وَ} آتاهم {حُسْنَ ثَوَابِ الْأخِرَةِ} أي ثوابها الحسن، فإنه هو الثواب الأهم والمعتد به، وذلك لاحسانهم {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} حيث أحسنوا إلی أنفسهم بطاعة ربهم، وأحسنوا إلی غيرهم من سائر الناس بجهادهم، لأن فائدة الجهاد تصل إلی سائر الناس المعاصرين والأجيال القادمة.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}.

بعد أن قرّعهم الله ووبّخهم علی انهزامهم، أراد تشجيعهم وحضّهم علی

ص: 429

الجهاد، وذلک بذکر الأمثال من الأمم السابقة، حيث قاتل کثير من الأنبياء ومعهم أصحاب مؤمنون، قد ابتلوا بالشدائد من القتل والجرح، لکنهم لم يترکوا مواقعهم وواصلوا الجهاد، ولم تتضعضع عقيدتهم بل ازدادوا ايماناً فتوجهوا إلی الله متضرعين له ومعترفين بتقصيرهم - الذي قد يکون هو سبب ما لاقوه من شدائد - وطالبين نصره، وکان نتيجة ذلک أن أثابهم الله في الدنيا والآخرة.

قوله: {كَأَيِّن} بمعنی (کم) ويراد به التکثير، أي لم يکن ذلک صدفة غير قابلة للتکرار، بل تکرر مرات کثيرة، فعليکم الاقتداء بهم، لئلا تهزموا في الحروب اللاحقة.

وقوله: {رِبِّيُّونَ} بکسر الراء، منسوب إلی الربّ تعالی، والکسرة من تغييرات النسبة، فقد يغيرون في الکلمة حين النسبة، کالأموي بفتح الهمزة نسبة إلی أمية بضمها، وقيل: نسبة إلی (رِبية) بمعنی الجماعة الکثيرة أو (رِبوة) بمعنی عشرة آلاف أو آلاف مؤلّفة، وبعضها مرويّ(1)،

والأقرب أنه نسبة إلی الرب، وأمّا آلاف أو عشرة آلاف أو الجماعة الکثيرة فهي تفسير لقوله (کثير) فالمعنی مؤمنون کثيرون.

وإنما قيده بالکثرة حثاً وتحريضاً لهم بأن حالات الصبر والاستقامة لم تکن نادرة وبالصدفة فکثير من الأنبياء قاتل معهم کثير من العارفين بالرب تعالی فنُسبوا إليه لإيمانهم وعبادتهم وطاعتهم.

الثاني: قوله تعالی: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} الآية.

ص: 430


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 513.

هذا تفريع علی کونهم رِبييّن، فهؤلاء قلباً وعملاً وقولاً صمدوا واستقاموا، فصبروا وأحسنوا فأحبهم الله تعالی وجازاهم في الدنيا والآخرة.

قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} قلباً، فعزائمهم لم تفتر ولم تصب بالوهن، وأول الهزيمة هي الهزيمة النفسية، وأول النصر قوة المعنويات، فمن خارت عزيمته انهزم حتی لو کان له العدد والعُدة، وکونهم ربانيين انتج قوة العزيمة، لأن ضعف الإيمان سبب ترجيح الدنيا علی الآخرة، والذلة علی العزة والکرامة.

وقوله: {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} کالعلة لعدم وهنهم، لأنهم يعملون في سبيل الله ويطلبون رضاه، فيرضون بما يقدّره سواء کان شدة أم رخاءً، أو ما يحبونه بالطبع أم يکرهونه، عکس المنافقين وضعاف الإيمان في غزوة أ ُحد حيث کان قتال بعضهم لا عن قناعة ولا عن إيمان مستقر، کما أن الربيّين يعلمون بأنه حيث کان في سبيل الله فهو تعالی سيعوّضهم بأحسن الجزاء، فيهون عليهم ما أصيبوا به.

ويحتمل أن يکون {فَمَا وَهَنُواْ...} بمعنی التزلزل لما اصيبوا به و{وَمَا ضَعُفُواْ} بمعنی التزلزل خوفاً من الإصابة فيما لم يصابوا به لحدّ الآن.

وقوله: {وَمَا اسْتَكَانُواْ} أي لم يخضعوا للعدو ولم يتذلّلوا له بطلب رضاه، کما فعل بعض المنافقين في غزوة أُحد حيث أرادوا توسيط المنافق عبد الله بن أبيّ عند أبي سفيان، وأراد بعضهم الإرتداد ليرضی عنهم المشرکون، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: بين الله سبحانه أنه لو قُتل (صلی الله عليه وآله وسلم) کما أ ُرجف بذلک يوم أحُد، لما أوجب ذلک أن يضعفوا أويهنوا کما لم

ص: 431

يهن من کان مع الأنبياء بقتلهم(1).

و(الاستکانة) قيل: هي من باب الافتعال من السکون، فهي «استکن» أ ُشبعت الفتحه فصارت ألفاً، إذ الذليل يسکن لصاحبه ليصنع به ما يشاء، وقيل: هي من باب الاستفعال من الکينة وهي الحالة السيئة.

وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّٰبِرِينَ} بيان أن حالتهم هذه هي الصبر أو نتيجة للصبر، إذ لايمکن الوفاء بعهود الله تعالی إلا بالصبر والثبات، فحيث إن الدنيا دار امتحان والعوض هو کرامة الله تعالی الأبدية، فلابد من صعوبة في الامتحان وإلاّ لم يکن امتحاناً، فلو سئل طالب الجامعة أسئلة الابتدائية لم يکن امتحاناً حقيقة، ولو أعظمت له الجائزة لم يکن ذلک من الحکمة.

الثالث: قوله تعالی: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُواْ...} الآية.

في هذه الآية تذکر أقوالهم بشکل دعاء، فاولئک لم يقولوا شيئاً يدل علی ضعفهم أو علی إلقاء اللوم علی الله أو النبي، بل قولهم أيضاً يکشف عن سموّ أنفسهم والتوسل بالأسباب التي جعلها الله تعالی متضرعين إليه سبحانه أن يوفقهم إلی تلک الأسباب، وهذا عکس المنافقين وضعاف الإيمان في غزوة أ ُحُد حيث ألقوا اللوم علی الله وعلی الرسول، وأرادوا تبرير فعلتهم، وعدم الاعتراف بها، وعدم تصحيح الأخطاء.

مع أنه في الهزيمة أو حين الشدة والإصابة لابد من الالتجاء إلی الله تعالی، والبحث عن أسباب المشکلة، ومن ثم محاولة إيجاد الحلول، مع الاستعانة بالله تعالی للتوفيق إلی ذلک، أما توقع النصر من دون امتثال أوامر

ص: 432


1- تفسير الصافي 2: 133، عن مجمع البيان.

الله تعالی فهو من التواکل المذموم، والله تعالی لاينصر المخالفين عن أمره، بل ينصر رسله والذين آمنوا فأطاعوه وامتثلوا أوامره ومنها الاستغفار عن الذنوب وعن ترک أسباب النصر والتي أمر الله بها.

فلا بد من الاقتداء بالربانيين من أصحاب الأنبياء السابقين حيث کان دعاؤهم کالتالي:

1- {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} لأن الذنوب مُعوِّق عن الاستقامة والصبر قال تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ}(1)، کما أن للذنوب عقوبات دينوية وأخروية، فلعل بعض تلک الذنوب هي سبب لعقوبتهم بالهزيمة، فأرادوا تطهير نفوسهم منها بالاستغفار ليرحمهم الله تعالی برفع تلک العقوبة، قال تعالی: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(2)، وقال: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}(3)، وقيل: أرادوا غفران ذنوبهم استعداداً للقاء الله تعالی طاهرين.

2- {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (الإسراف) هو مجاوزة الحد، کالإفراط، قيل: وليس الاسراف متعلقاً بالمال فقط، بل بکل شيء وضع في غير موضعه اللائق به، کما وصف قوم لوط بقوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}(4)، ووصف فرعون بقوله: {إِنَّهُۥ كَانَ عَالِيًا

ص: 433


1- سورة آل عمران، الآية: 155.
2- سورة آل عمران، الآية: 11.
3- سورة المائدة، الآية: 49.
4- سورة الأعراف، الآية: 81.

مِّنَ الْمُسْرِفِينَ}(1)-(2)، وقيل: أصل الاسراف في المال ثم تُوسع فيه فأ ُطلق علی الإفراط في رفض الحق.

وکأنّ قولهم: {فِي أَمْرِنَا} أي أمر الجهاد والقتال، فلعلّهم أفرطوا وتجاوزوا الحدود في مسائل الجهاد فلذلک أصيبوا، فيدعون بغفران ذلک الإسراف، ومن المعلوم أن الدعاء يتضمن إصلاح الأمر أيضاً، إذ لامعنی لطلب الغفران مع الإصرار علی الذنب والإسراف وعدم اصلاح الأمر، إذ يشترط في التوبة إصلاح ما أفسده، وقيل: شدة الحال قد توجب صدور بعض الهفوات وقد تکون تلک سبباً للهزيمة، فغفرانها هو بسترها ومحو أثرها، وذلک أمر مهم في تحقق النصر.

3- {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} بعد طلب محو السلبيات، يأتي دور طلب الايجابيات التي تکون سبباً للنصر، وذلک بالاستقامة حتی النهاية، ويکون ذلک بتقوية القلوب وفعل الألطاف الخفية والجليّة.

4- {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَٰفِرِينَ} وذلک لأن الاستقامة وحدها لا تکفي بل لابد من شفعها بالنصر من الله تعالی، مع تضرعهم أن طلبهم للنصر ليس إلاّ لإعلاء کلمته تعالی، فنحن نقاتل لا لأجل الدنيا بل نقاتل قوماً کافرين فنطلب منک نصرنا عليهم، وفي ذلک غاية التواضع والتذلل والإخبات له تعالی.

والنصر قد يکو ن بأسباب غيبية کإرسال الملائکة، أو بأسباب طبيعية کإلقاء الرعب في قلوب الکافرين، أو هداية المؤمنين لأسباب النصر

ص: 434


1- سورة الدخان، الآية: 31.
2- ([3]) معجم الفروق اللغوية: 115.

واستثمار نقاط ضعف العدو وعدم اهتداء العدو لأسباب ضعف المؤمنين، وغير ذلک.

قيل: قدموا الدعاء بالاستغفار ليکون طلبهم النصر عن زکاة وطهارة وخضوع فيکون أقرب للإجابة.

وقيل: أضافوا الذنوب والإسراف إلی أنفسهم هضماً لها، وأضافوا ما أصابهم إلی سوء أعمالهم فاستغفروا منها، ثم طلبوا التثبيت والنصر.

الرابع: قوله تعالی: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْأخِرَةِ...} الآية.

أي فاستجاب الله دعائهم، وأثابهم في الدنيا والآخرة، لأنه سبحانه يحب المحسنين ويجازيهم.

و{ثَوَابِ} هو ما يرجع إلی الإنسان من جزاء أعماله، ويستعمل في الخير والشر، إلاّ أن استعماله في الخير أکثر(1).

قوله تعالی: {ثَوَابَ الدُّنْيَا} لاينحصر في الغلبة العسکرية أو الغنيمة والرفاه ونحو ذلک، حتی يقال: کيف ذلک والبعض منهم قُتل فلم ير ثواب الدنيا، وأحياناً کانت الهزيمة العسکرية فقتلوا وأسروا!! بل ثواب الدنيا أعم من ذلک ومن العزة والکرامة وحسن الذکر والبرکة في الذرية، فإن الدنيا ليست، تنحصر في التمتع بلذائذها المادية، بل منافعها المعنوية أهم من تلک، فالجندي الذي يقتل في المعرکة دفاعاً عن وطنه وعرضه قد انتصر هو بتخليد ذکره وحسن سمعته وعزة ذويه وذريته، وکان من دعاء إبراهيم (عليه السلام)

ص: 435


1- مفردات الراغب: 180.

قوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ فِي الْأخِرِينَ}(1)، نعم من ينظر إلی الدنيا نظر البهائم بأنها أکل وشرب ونکح ورفاه فقط يعتبر القتيل دون عرضه ووطنه خاسراً، لکن حتی الملاحدة لايفکرون هکذا!!

وقوله: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْأخِرَةِ} أي الثواب الحسن، من إضافة الوصف إلی الموصوف، وفيه إشعار بأن المهم هو ثواب الآخرة لأن الدنيا زائلة لا بقاء للذّاتها فلا اعتداد به، أو لأن ثواب الآخرة درجات فأحسن درجاته للمجاهدين الصابرين، أو لأن ثواب الدنيا مشوب بالکدر والمنغصات وأولها عدم دوامه وعدم إمکان الاستفادة منه أحياناً لمرض أو عارض، وأما ثواب الآخرة فهو حسن خالصاً لا کدر فيه.

وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} هذا کالعلة لإثابتهم، فهؤلاء احسنوا في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم فأحبهم الله تعالی بجزائهم في الدنيا والآخرة، فهؤلاء بجهادهم أحسنوا إلی أنفسهم وإلی غيرهم فاستحقوا الثواب تفضلاً منه تعالی.

ص: 436


1- سورة الشعراء، الآية: 84.

الآيات 149-151

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا وَمَأْوَىٰهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّٰلِمِينَ (151)}

القسم الثاني: الكفار الغالبون

149- بعد الحث علی الاقتداء بالربيين وبيان ما نالوه في الدنيا والآخرة من الثواب، حذّر الله تعالی عن اتباع الکفار وبيّن سوء عاقبتهم فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ} تُصغوا وتعملوا بما يقوله لکم {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فلا تنتفعون بل {يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} يرجعونکم کفاراً کما کنتم وهذا ضرر حيث تحرمون من نعمة الايمان وفوائده {فَتَنقَلِبُواْ} ترجعوا {خَٰسِرِينَ} وهذا ضرر آخر.

150- {بَلِ} اللازم عليکم إطاعة الله تعالی ف {اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ} أي الأولی بکم إذ هو خالقکم ورازقکم فعليکم ترجيح إطاعته علی إطاعة غيره، فمن القبيح ترجيح طاعة عدو المولی علی طاعة المولی، {وَ} أيضاً إذا کان سبب اطاعتکم الکفار طلب النصر والنجاة فعليکم أن تطلبوه من الله إذ {هُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ} أي حسن النصرة.

ص: 437

151- عکس الأعداء الذين نصرتهم سبب لخسارتکم إذ هم بانفسهم خاسرون في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا ف {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} وهو الانقطاع من شدة الخوف، فکيف تتوقعون منهم نصراً بإطاعتکم إياهم؟ {بِمَا أَشْرَكُواْ} أي بسبب شرکهم {بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا} أي ليس لهم علی شرکهم حجة وبرهان فافتروا علی الله تعالی وذلک سبب لإلقاء الرعب في قلوبهم، {وَ} أما في الآخرة ف {مَأْوَىٰهُمُ} محلهم {النَّارُ وَبِئْسَ} هذا المأوی الذي هو النار {مَثْوَى} محل مکث {الظَّٰلِمِينَ} بيان أن سبب استحقاقهم النار هو ظلمهم.

بحوث

الأول: نظم الآيات هو أن الله تعالی في الآيات السابقة حثّ المؤمنين علی الاقتداء بالربيين أنصار الأنبياء الذين قاتلوا معهم فاستقاموا وتضرعوا إلی الله تعالی، وأن يعتبروا بما جازاهم الله تعالی حيث أثابهم خير الجزاء في الدنيا والآخرة نتيجة لحسن عملهم وقولهم.

ثم في هذه الآيات يحذّر الله تعالی عن اتّباع الکفار طلباً للنصر والنجاة، فيبيّن ضرر أولئک علی المؤمنين بأن اطاعتهم سبب الانقلاب علی الأعقاب فهو أکبر الضرر حيث يرجع الإنسان إلی الظلام بعد النور، وإلی الضلال بعد الهداية، وينتج من ذلک خسارة الدنيا والآخرة، فإطاعتهم نقض لغرض النصر والنجاة، ثم إن أولئک الکفار هم مهزومون وخاسرون فکيف تتوقعون منهم النصر؟ فهم في الدنيا مرعوبون، وهل المرعوب يتمکن من نصر غيره! ثم هم في الآخرة في النار فهل ينصرونکم من بأس الله تعالی!

ص: 438

الثاني: قوله تعالی: {إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ...} الآية.

الآية عامة مفهوماً وإن کان شأن نزولها في غزوة أحد، فقد أرجف الکفار والمنافقون بأن محمداً إن کان نبياً لما غُلب، أو إن استأمنتم أبا سفيان واستکنتم له نجوتم، کما ذکره بعض المفسرين، والآية نهت عن إطاعة الکفار مطلقاً وفي کل شيء، لأنهم لايريدون خير المسلمين، ولا يرضون إلا باتبّاعهم، قال تعالی: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(1)، وما الذي يدفعهم إلی نفعکم؟ هل دينهم؟ وهو لايعترف بکم بل دينهم قد يأمرهم بإضلالکم! هل المصلحة؟ ومصلحتهم في ضعفکم وانسلاخکم عن دينکم الذي هو نقطة قوتکم! هل الإ نسانية؟ وهم قد رجّحوا المصلحة والباطل عليها، فجعلوها سلعة حينما تتطابق مع مصالحهم ونبذوها وراء ظهورهم حينما تتعارض معها قال تعالی: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا}(2)، وقال: {وَلَا تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}(3).

ثم بينت الآية ضرر إطاعة الکفار:

1- {يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَٰبِكُمْ} أي يسلبوا منکم نور الإيمان والهداية، لأنّهم لايرضون إلا بإرجاعکم إلی دينکم السابق، فإذا أطعتموهم في الصغيرة جرّ ذلک إلی إطاعتهم في الکبيرة إلی حدّ إخراجکم عن الدين

ص: 439


1- سورة البقرة، الآية: 120.
2- سورة الکهف، الآية: 28.
3- سورة الشعراء، الآية: 151-152.

الحق، فالذي يطلب النجاة ولو بمعصية الله وخذلان رسوله والاستکانة إلی الکافر، إذا رأی أن استمرار نجاته متوقف علی الارتداد فلا شک في أنه سيرتد، لأن حياته الزائلة الدنيوية کانت أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله!

2- {فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ} هذا تفريع علی الضرر السابق، أي ونتيجة الارتداد هو الخسارة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن حياة الجاهلية هي حياة بؤس وفقر وظلم وسواد الوجه في الدنيا، مع ذلة للکافر المنتصر عليکم الذين استکنتم له، وأما في الآخرة فبالنار. عکس الربيين الذين آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وأحبّهم.

الثالث: قوله تعالی: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ}.

بعد أن حذرهم الله من إطاعة الکفار، حثّهم علی إطاعته، مع بيان سبب وجوب إطاعته.

فأولاً: {اللَّهُ مَوْلَىٰكُمْ} أي الأولی بکم، لأنه خالقکم ورازقکم، ولابد لکم من شکره علی نعمة الخلق والرزق وسائر النعم، فالعقل يرشدکم إلی وجوب طاعته، فکيف ترجحون طاعة عدوه علی طاعته؟ أليس هذا من أقبح أنواع کفران النعمة.

و(المولی) هو المتولّي للأمر، أو من يُتولّی أمره، فلذا يطلق علی السيد وعلی العبد، وليس معناه الناصر والمحب ونحو ذلک فهي من معاني الولي لا المولی، لکن حيث قال الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من کنت مولاه فعلي مولاه»، أرادوا صرف معناها بتوسيع المعنی وجعله ذا مصاديق متعددة أو بالاشتراک

ص: 440

اللفظي، لإخراج هذا الحديث عن مدلوله، ولکن تلک المحاولات غير مجدية، فحتی لو کان للمولی معانٍ مختلفة إلا أن القرينة اللفظية تدل علی إرادة خصوص الأولی بهم، ففي الحديث المتواتر قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : ألست أولی بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقلنا: بلی يا رسول الله، قال: فمن کنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(1).

وثانياً: {وَهُوَ خَيْرُ النَّٰصِرِينَ} أي أحسنهم، فلماذا تطلبون النصر من الکفار، ولا تطلبوه منه تعالی، ففي نصره خير الدارين، وغيره لايمکن أن ينصر إلا بإذنه، وقد وعد نصر المؤمنين وهزيمة الکافرين، وفي الآية اللاحقة نموذج من نصره تعالی حيث نصر رسوله بالرعب.

الرابع: قوله تعالی: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ...} الآية.

وهذا بيان مصداق من مصاديق نصره تعالی للمؤمنين، وبيان عدم نفع الالتجاء إلی الکافرين، فعليکم أن لا تنظروا إلی هذه الهزيمة الوقتية التي مُنيتم بها في غزوه أ ُحد بسوء اختيارکم وعصيانکم، بل لتکن لکم رؤية عامة، فالأيام تتداول بين الناس، ولکن النصر النهائي والکامل في الدنيا للمؤمنين، قال تعالی: {وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(2)، وقال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ الدَّارِ}(3)، وقال: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَٰهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}(4).

وإلقاء الرعب عام فقد يکون أمراً غيبياً يستند إلی أسباب غير طبيعية،

ص: 441


1- الحديث متواتر، راجع کمثال مسند أحمد 1: 118.
2- سورة الأعراف، الآية: 128.
3- سورة الأنعام، الآية: 135.
4- سورة النمل، الآية: 51.

فکما نصر الله رسله بالملائکة وبعذاب الأقوام وبالمعاجز ونحو ذلک، فکذلک ينصرهم بالقاء الرعب في قلوب الأعداء من غير سبب طبيعي، وقد يکون أمراً طبيعياً يستند إلی قوة الإسلام وانتشاره، ولذا يخافه ويهابه الأعداء، وحتی الآن حيث المسلمون في حضيض الضعف فإن الکفار يخافون من الإسلام، فهم لايخافون من المسلمين لضعفهم حيث ترکوا الايمان کما قال: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(1)، لکنهم يخافون من الإسلام لقوته، قال تعالی: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(2).

و{الرُّعْبَ} هو الانقطاع من امتلاء الخوف - کما في المفردات(3) - فمعناه العجز وعدم التمکن من فعل شيء جرّاء الخوف، فهو بنفسه عاجز فکيف تطلبون النصر منه.

والنصر بالرعب هو من خصائص الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي الحديث: «ونصرت بالرعب مسيرة شهر»(4)، وهذا من نعم الله تعالی علی هذه الأمة المرحومة، حيث القاء الرعب يسهّل الانتصار ويمنع الأعداء من الإقدام ويقلل الخسائر.

قوله: {بِمَا أَشْرَكُواْ} الباء سببيّة، أي إن سبب القاء الرعب هو الشرک، عقوبةً دنيوية للمشرکين، وهذه السببيّة أيضاً غيبيّة وطبيعية، وذلک لأن المشرک لم يبن أمره علی يقين ولا يعتقد بالآخرة، ولا يتوقع نصراً من الله

ص: 442


1- سورة آل عمران، الآية: 139.
2- سورة التوبة، الآية: 40.
3- مفردات الراغب: 356.
4- وسائل الشيعة 3: 350، عن الخصال.

تعالی، ويعتبر الموت نهاية کل شيء، فلذا تجده متمسکاً بالحياة، ويصاب بالرعب من کل قوة أخری خاصة إذا کانت معنوية، والإسلام هو الذي يعلو ولا يُعلی عليه فلذا کان رعبهم منه أمراً طبيعياً، هذا مضافاً إلی الإلقاء الغيبي، کرامة للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وإظهاراً للدين، والحمد لله رب العالمين.

قيل: الشرک هو سبب إلقاء الرعب، فلذا لو اشرک المسلمون - ولو بالشرک الخفي - سيعاقبون بالقاء الرعب في قلوبهم، بل ومن الشرک الخفي الإعراض عن أحکام الله تعالی وعبادة الشيطان والأهواء والتمسک بالقوانين الوضعية بدلاً من أحکام القرآن.

وقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَٰنًا} أي لا حجة للشرک کي ينزلها الله تعالی، فالله هو الحق وينزّل الحق، فلو کان الشرک حقاً لأمر به ولأنزل حجته، کما قال: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ الْعَٰبِدِينَ}(1)، قال تعالی: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُۥ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ}(2).

وفي الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: کل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل(3)، أي في علوم الدين ولذا قيل: العلوم الحقة والحجج الواقعية تفاض من الله تعالی، وأما غيرها فباختلاف النفوس وإلقاء الشياطين(4).

وقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} أي محلهم في الآخرة، و(المأوی) ما يأوي

ص: 443


1- سورة الزخرف، الآية: 81.
2- سورة الشوری، الآية: 16.
3- وسائل الشيعة 27: 75، عن بصائر الدرجات.
4- مناهج البيان 4: 108.

الإنسان إليه للاستراحة، فالتعبير عن جهنم بمأواهم هو نوع تبکيت لهم.

وقوله: {مَثْوَى} اشارة إلی طول بقائهم فيه، من (الثواء).

وقوله: {الظَّٰلِمِينَ} للإشارة إلی سبب عقابهم، وهو ظلمهم أنفسهم بالکفر، وظلمهم غيرهم بالصد عن سبيل الله.

ص: 444

الآيتان 152-153

اشارة

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُۥ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَا أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْأخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُۥنَ عَلَىٰ أَحَدٖ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَىٰكُمْ فَأَثَٰبَكُمْ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)}

القسم الثالث: المسلمون المنهزمون

152- وکان من إرجاف المنافقين أن محمداً وعدکم بالنصر ولم يتحقق! فانقلبوا علی دينکم، فقال الله تعالی: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ} وفی لکم {اللَّهُ وَعْدَهُۥ} بالنصر وکان ذلک الوفاء {إِذْ} أي في الوقت الذي {تَحُسُّونَهُم} أي تقتلونهم، لأن قتلهم إبطال لِحسّهم {بِإِذْنِهِ} التشريعي في تشريع قتالهم، والتکويني بإنزال النصر عليکم، وقد استمر الوفاء {حَتَّىٰ إِذَا} خالفتم الشرط الذي جعله لنصرکم وهو الصبر والتقوی، فما دمتم عليهما کان النصر، لکنه تعالی رفع نصره حينما {فَشِلْتُمْ} أي ضعف رأيکم فقد أعمتکم الغنائم عن الإدراک الصحيح لقواعد القتال {وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أمر القتال {وَعَصَيْتُم} أي خالفتم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث خالفه

ص: 445

المقاتلون فتوجهوا إلی جمع الغنائم وترکوا مواقعهم {مِّنۢ بَعْدِ} أن وفی الله بوعده حيث {مَا أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ} من النصر علی المشرکين، لکن ليس کلهم کانوا کذلک، بل {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} ومنها الغنائم وهم الذين فشلوا وتنازعوا وعصوا، {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْأخِرَةَ} وهم الصابرون المطيعون، والحاصل أن الله وفی بوعده إلی حين مخالفتکم، {ثُمَّ} بعد وفائه ومخالفتکم {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي منعکم عنهم بأن ترکتم قتالهم ولم تلتفتوا إلی مخططهم للإيقاع بکم، والمراد أنه تعالی ترککم وشأنکم ولم يلطف بکم باستمرار النصر، وذلک {لِيَبْتَلِيَكُمْ} ليمتحنکم ليتميّز المؤمن من المنافق والصابر من الجازع {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} بعد الإمتحان، وسقوط الأکثر أي عفا عنکم ترککم للجهاد وتوجهکم إلی جمع الغنائم، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وهذا هو سبب عفوه.

153- وکان کل ذلک {إِذْ} في الوقت الذي {تُصْعِدُونَ} أي تفرّون ولا تثبتون في مواقعکم، فإن «الإصعاد» بمعنی الذهاب في الأرض، {وَلَا تَلْوُۥنَ عَلَىٰ أَحَدٖ} لاتلتفتون لأحد من خلفکم لشدة دهشتکم، {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} يناديکم {فِي أُخْرَىٰكُمْ} أي من ورائکم، {فَأَثَٰبَكُمْ} أي جزاکم {غَمَّۢا} حزناً بالهزيمة والقتل {بِغَمّٖ} أي بعد غمِّ غلبة الکفار وإشرافهم عليکم، وإنما أثابکم بالغم المتواتر حتی تقوی نفوسکم وليکون درساً لکم للمستقبل {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ} من الغنيمة وأمور الدنيا {وَلَا مَا أَصَٰبَكُمْ} من المکروهات {وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَ} عالم بالخفايا فجزاؤه ليس اعتباطاً.

ص: 446

بحوث

الأول: قد مرّ أن أهل المدينة في غزوة أ ُحد کانوا أصنافاً، ومنهم:

الرماة في الشِعب وکانوا خمسين رجلاً، وقد ذکرهم في الآية 155 في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ...} الآية.

والمقاتلون المنهزمون، وهم المذکورون في الآيتين 152-154، وهم علی صنفين: صنف تاب، وصنف نافق، وقد ميّز الله الصنفين بأن ألقی النعاس علی التائبين فقط.

ومن ذلک يتبيّن أن قوله تعالی في الآية 152: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ...} وفي الآية 155 {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ليس تکراراً، بل الأول عفو عن توجههم إلی جمع الغنائم حيث فشلوا وتنازعوا وعصوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، والثاني عفو عن خصوص الرماة، وأما سائر المنهزمين فلم يکن هناک تصريح بالعفو عنهم بل تلميح إلی العفو عن خصوص من ألقی عليه النعاس، ولا عفو عن المنافقين الراجعين قبل الغزوة، کما لاعفو عن المنهزمين الذين أهمتهم أنفسهم وظنوا بالله ظن الجاهلية.

الثاني: قوله تعالی: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُۥ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ}.

لقد وعدهم الله تعالی بالنصر کما مرّ في قوله: {بَلَىٰ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ...} الآية(1)، لکن وعده کان مشروطاً بالصبر والتقوی وقد وفی الله لهم بوعده مادام أنّهم التزموا بالشرط، فلذا انتصر المسلمون في بداية الأمر وهزموا المشرکين هزيمة نکراء، ولو استمروا في الالتزام بالشرط لأتمّ الله النصر لهم، بمعنی وفاء

ص: 447


1- سورة آل عمران، الآية: 125.

لکنهم رغبوا في الحطام فخالفوا، فترکهم الله وشأنهم ولم ينصرهم حينذاک، وکان في ذلک درساً مهما للمسلمين في غزواتهم اللاحقة وسائر أمورهم بأن التوکل لا يعني التواکل، إذ التوکل إنما هو الإنسان بإلتزاماته جميعاً وايکال الأمر إلی الله تعالی لينزل عونه ونصره، فالله عزوجل ينصر المؤمنين لکن بشرط کما قال: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}(1).

وفي هذه الآية جواب عن المرجفين من الکفار والمنافقين، حيث أرادوا استغلال هزيمة المسلمين لتشکيکهم في دينهم وبإرجاعهم إلی الکفر، ومن صفات المبطلين هو المغالطة ومحاولة ربط المسببات بغير أسبابها، کما يشاهد في الحال الحاضرة حيث يوهمون الناس أن غلبتهم عسکرياً وقوتهم اقتصادياً وصناعياً إنما هو بسبب أنظمتهم الاجتماعية والفکرية، والتي منها نبذ الدين وإباحة المحظورات، مع أن السبب الواقعي هو نبذ الاستبداد وطلب العلم وشدة العمل، لا الإلحاد والخمور والفجور والسفور، وکذلک ليس سبب ضعف المسلمين دينهم، کيف وکان الإسلام سبب تقدمهم وحضارتهم وتطورهم بعد الجاهلية الجهلاء، فکيف يکون سبب القوة سبباً للضعف!؟ بل سبب ضعفهم هو إعراضهم عن تعاليم دينهم بطلب العلم وشدة السعي وإعداد القوة ونحو ذلک من الأحکام.

وعلی کل حال أراد الکفار والمنافقون استغلال الهزيمة بتکذيب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم الدعوة إلی الارتداد عن الدين، فکان الجواب أن الله تعالی أنجز وعده فأنزل النصر، لکنکم خالفتم الشرط فترککم وشأنکم ولو

ص: 448


1- سورة محمد، الآية: 7.

کنتم تستمرون في الوفاء بالشرط لأتمّ الله النصر کما في بدر، ولکنه مع ذلک تفضل عليهم بأن عفا عنهم وجعلهم يعتبرون من الهزيمة لتکون تجربة لهم في المواقف الأخری.

قوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُم} أي وقت الوفاء بالوعد کان في بداية الغزوة حيث انتصر المسلمون و(الحَسّ) بمعنی القتل، قيل: هو القتل علی جهة الاستئصال، وقيل: هو بمعنی أبطل حِسّه، لأن الميت تتعطّل حواسه الظاهرية، فإن من معاني باب الإفعال: السلب، يقال: أعذر من أنذر أي أزال العذر، ويقال: أشکيتُه أي أزلت شکايته(1).

وقوله: {بِإِذْنِهِ} أي بإجازته تکويناً وتشريعاً، ولعل هذا لبيان نصره تعالی وأنّ قتلهم من مصاديق وعده تعالی.

الثالث: قوله تعالی: {حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم}.

{حَتَّىٰ إِذَا} بيان نهاية النصر، فحيث کان وعداً بشرط فما دمتم التزمتم بالشرط وفی الله بوعده، ولمّا أخللتم به ترککم وشأنکم، و{إِذَا} ظرفية منسلخة عن الشرطية فلا جزاء لها، أي صدقکم الوعد حتی الوقت الذي أخلفتم الوعد، وقيل: هي باقية علی الشرطية، والجزاء محذوف أي حتی إذا فشلتم خذلکم أو ابتلاکم أو منعکم نصره ونحو ذلک مما يناسب المقام.

وقوله: {فَشِلْتُمْ} أي ضعف رأيکم، فلم تراعوا مقتضيات الحروب، بالغفلة والانشغال بالغنائم، والعدو لازال موجوداً يتربص بکم.

وقوله: {وَتَنَٰزَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} في أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بالاستمرار في

ص: 449


1- شرح النظام: 139.

الجهاد، فبدلاً من توحيد الجهود ضد الأعداء انشغلتم بالنزاع بين أنفسکم.

وقوله: {وَعَصَيْتُم} أي خالفتم أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أي تنازعتم ثم غلب رأي المخالفين علی رأي المطيعين.

قيل: هذا في الرماة الذين ترکوا مواقعهم.

لکن لايخفی أن التقريع عام، والرماة الذين ترکوا الثغر کانوا سبعة وثلاثين فقط، وکان عدد المسلمين ما يقارب الألف، وهذا التقريع العام لايکون إلاّ لو خالف الغالب، فالأظهر أن غالب المسلمين فشلوا وتنازعوا وعصوا، فقد ضعف رأيهم حتی المقاتلين في الوادي فانشغلوا بجمع الغنائم، فلحق بهم أکثر الرماة، ولعل التنازع لم يکن في خصوص أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وإنما علی الغنائم أيضاً، وکذا العصيان لم يکن خاصاً بأ ُولئک الرماة بل بغالب المسلمين.

والحاصل: إن الغالب فقدوا جاهزيتهم وتهيأتهم، لذا باغتهم الکفار من طرف الشِعب، فلعلّه لو کان العسکر في الوادي جاهزاً للقتال لما أضرهم هجوم خيل خالد بن الوليد من خلفهم، لکنهم أخلوا مواقعهم العسکرية فدبّت الفوضی فيهم حين الهجوم مباغتة لهم، فإنّ خطة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) کانت محکمة، فوضع الرماة في الشِعب، فلو ثبت کلّهم لما تمکن خالد من الاختراق والهجوم بغتة، کما أن سائر المسلمين في ساحة المعرکة لو کانوا علی جاهزيتهم واستعدادهم ومواقعهم لتمکنوا من صدّ الهجوم، لکن الأکثر أخلوا مواقعهم، فلا رماة بمقدار الکفاية ليصدوهم، ولا مقاتلين جاهزين في ساحة المعرکة ليُناجزوهم.

فالأقرب أن الآية لاترتبط بالرماة أصلاً، بل بالمقاتلين في ساحة المعرکة وأما الرماة فسيأتي ذکرهم في الآية 155.

ص: 450

أسباب الهزيمة

وفي هذه الآية بيان أن أسباب الهزيمة هي أمور ثلاثة عادة فلابد من تجنبها:

1- ضعف الرأي، وعدم تقدير الأمور بشکل صحيح، والغفلة عن العدو حتی إذا کان مهزوماً.

2- التنازع في أمر قيادة الحرب، أو في کل ما يرتبط بمسائل الحرب، وقد قال الله تعالی: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(1).

3- عصيان أمر قادة المعسکر.

وهذا ما حدث في معرکة صفين أيضاً حيث انخدعوا برفع المصاحف وتنازعوا وعصوا أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ففاتهم النصر، وبدأ أمرهم في ضعف ووهن إلی أن غلبهم معاوية، فسيطر علی العراق وسامهم الخسف.

الرابع: قوله تعالی: {بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}.

أي بعد النصر الابتدائي حيث وفی الله بوعده فنصرکم، وکنتم تحبون ذلک النصر، فکان لابدّ لکم من شکر هذه النعمة بزيادة الإطاعة، لا أن تقابلوا نعمته بما تحبون بالکفران، فتبطرکم النعمة، لأن البطر يعرّض النعمة للزوال، قال تعالی: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2).

الخامس: قوله تعالی: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْأخِرَةَ}.

1- کأنّ هذا المقطع لإخراج الصابرين الثابتين عن اللوم والتقريع العام،

ص: 451


1- سورة الأنفال، الآية: 46.
2- سورة الأنفال، الآية: 53.

فالأغلب فشلوا وتنازعوا وعصوا لذلک جاء التقريع عاماً، لکن کان لابد من استثناء الصابرين المطيعين.

2- أو هذا تفصيل لقوله: {مَّا تُحِبُّونَ} أي أنتم کنتم تحبون النصر، لکن البعض أحبه لأجل الدنيا، والبعض أحبّه لأجل الآخرة، وکان الذين يحبونه للدينا هم الأکثر لذلک انهزموا حين أحسّوا بالبأس والخطر، ففي الآية تحذير من کون الغرض هي الدنيا، وحثّ علی صدق النية وخلوصها ليکون الإنسان طالباً للآخرة، أي يکون فرحه من النصر لأجل تقدم المسلمين وإعزاز أولياء الله تعالی، لا لأجل الغنائم والأمور الدنيوية، لأن الأول لايتضعضع في المواقف الحرجة عکس الثاني.

3- أو هذا بيان سبب النزاع، فمن أراد الآخرة نازع من أراد الغنيمة، فأراد الله تعالی تنزيه أحد طرفي النزاع من الذم واللوم - وهم طلاب الآخرة - ، فإن ظاهر {تَنَٰزَعْتُمْ} ذم کل الأطراف المتنازعة، فأراد تعالی تخصيص الذم بطلّاب الدنيا، فيکون قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ...} قيداً توضيحياً ولذا لم يأت بواو العطف قبله.

4- أو هو بيان قوله: {مَّا تُحِبُّونَ} أي أنزل النصر عليکم، فکلکم رأيتم ما تحبون سواء منکم طلاّب الدنيا أم طلاب الآخرة، ففي إطاعة الله والرسول خير للجميع، فمن أطاع لا للدين نال الدنيا، ومن أطاع للدين نال الدارين.

السادس: قوله تعالی: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}.

عطف علی {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ} فلمّا بيّن أنه تعالی وعدهم بالنصر ووفی بوعده إلی حين مخالفتهم، فبعد ذلک غفلوا عن المشرکين وتوجهوا إلی

ص: 452

الغنائم، وکان ذلک ابتلاءً لهم، فقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي غفلتهم عنهم وانشغلتم بالغنائم، مع أنه کان لابد لهم من الترکيز علی المشرکين ولا يغتروا بهزيمتهم في البداية، فالحرب سجال، فالنصر أولاً ليس بمعنی استمراره، وکذلک في الهزيمة.

وقوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يمتحنکم وذلک عبر الغنائم التي خلّفها المشرکون المهزومون.

ومن سنن الله تعالی ترک العصاة وشأنهم وعدم اللطف بهم، وفي التقريب: نسبة الصرف إلی الله کسائر الإضافات مثل {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ}، أو باعتبار أن الصرف کان عقوبة لهم علی إرادتهم الدنيا(1).

فحاصل معنی الآية: أنه تعالی صدقکم، ثم لما فشلتم وتنازعتم وعصيتم عاقبکم الله تعالی بصرفکم عنهم، ونتج عن ذلک الصرف الامتحان لتمييز المؤمن من المنافق والمطيع من العاصي.

السابع: قوله تعالی: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.

هذا لبيان فضله تعالی ولطفه للمؤمنين، فأولئک العصاة سببوا الهزيمة، وکان وعده تعالی مشروطاً، فلما خالفوا لم يکن وعداً بالنصر، بل استحقوا الخذلان والعقاب، ولکن مع ذلک تفضل الله عليهم فلم يؤاخذهم بذنبهم، بل عفا عنهم.

أو أنه لما امتحنهم وظهر مکنون أمرهم أعطاهم فرصة أخری بفضله ليصلحوا أمرهم، فعفا عنهم ولم يؤاخذهم فضلاً منه مع استحقاقهم للعقوبة.

ص: 453


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 404.

وقيل: بعد الصرف والابتداء تفضل عليهم بالعفو، وقد ظهر أثر هذا العفو في انقلاب هزيمة المسلمين إلی النصر حيث لملموا جراحهم وتجمعوا حول الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وتعقبوا المشرکين إلی منطقة حمراء الأسد، فلم يقو المشرکون علی لقائهم ورجعوا مکتفين بقتلهم لسبعين من المسلمين في غزوة أحد، من غير أن يتحقق ما أرادوه من استئصال المسلمين وقتل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

و(العفو) إما بمعنی قبول التوبة، فقوله: {ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لتقييد العفو بالمؤمنين دون المنافقين، أو بمعنی عدم العقوبة علی جريمة العصيان والفرار من الزحف.

وأما فضل الله علی المؤمنين فهو بتقوية عزيمتهم والعفو عن مسيئهم، ومنحهم النصر حتی لو لم يکن موعوداً.

الثامن: قوله تعالی: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُۥنَ عَلَىٰ أَحَدٖ...}.

{إِذْ} ظرفية، ومتعلقها إما (صرفکم) أو (يبتليکم) أو اذکر المقدرة أو ب (ذو فضل) أو ب (عفا عنکم)، والأقرب أنها متعلقه ب (اذکر) المقدّرة، لأن الآيات في بيان قضايا غزوة أحد، ففي الآية السابقة ذکر وفاءه تعالی بوعده، وفي هذه الآية ذکر نقضهم لعهدهم وقوله: {تُصْعِدُونَ} أي تفرون، فإن الإصعاد بمعنی الذهاب في الأرض أو الإبعاد فيه، وأصله من الصعود وهو ارتقاء الأماکن المرتفعة ثم استعمل في الذهاب للمکان البعيد حتی لو لم يکن فيه ارتقاء، والفارون أکثرهم صعدوا الجبل وبعضهم تفرقوا يمنة ويسرة.

وقوله: {وَلَا تَلْوُۥنَ عَلَىٰ أَحَدٖ} بيان لشدة خوفهم ودهشتهم، والمعنی لم تکونوا تلتفتون إلی وراء ظهورکم، وهذا کناية عن سرعة الفرار، وأصله من

ص: 454

لوی يلوي ليّاً.

وقوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَىٰكُمْ} هذا بيان لعدم عذرهم في الفرار، فإن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) کان يناديهم فعلموا بعدم قتله، کما علموا باستقامته واستقامة جمع معه، وهذا مما يزيد شناعة فرارهم، بل کان عليهم أن يرجعوا للدفاع عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لکنهم لم يفعلوا.

و{أُخْرَىٰكُمْ} أي من ورائکم، أو بمعنی الجماعة الأخری وهم الصامدون الذين بقوا مع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وکانوا أقلية لايتعدون أصابع اليدين، فقتل بعضهم وجرح الباقون، وکان علی رأس المدافعين عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .

التاسع: قوله تعالی: {فَأَثَٰبَكُمْ غَمَّۢا بِغَمّٖ لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ...} الآية.

أي إصعادکم وفرارکم من الزحف زاد حزنکم الشديد، فالمعنی {أَثَٰبَكُمْ} أي جزاکم الله تعالی علی فرارکم من الزحف {غَمَّۢا} حزناً شديداً بالهزيمة والقتل {بِغَمّٖ} أي إضافة علی الحزن الشديد أولاً الذي کان بسبب إشراف خالد بن الوليد بخيله عليهم، فالمعنی إنهم اغتمّوا أولاً لما داهمتهم خيول المشرکين بقيادة خالد بن الوليد، ثم حين فرارهم ازدادوا غماً بسبب أن فرارهم سبّب الهزيمة والقتل في صفوف المسلمين، والباء في {بِغَمّٖ} إما بمعنی (مع) أو (علی) أو (بعد) والمعنی واحد، وفاعل {أَثَٰبَكُمْ} هو الله أي جزاکم الله بذلک، وقيل: هو الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أي دعاء الرسول سبّب زيادة غمّکم بعذاب نفسي وشعور بالتقصير، لأن المنهزم إذا علم باطلاع من فوقه علی هزيمته يزداد غماً وحزناً.

ص: 455

قيل: دلت الآية علی أن مخالفة الله تعالی والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) سبب زيادة الغموم والهموم النفسية مضافاً إلی الخسارة المادية والهزيمة العسکرية.

وقوله: {لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ...} اما متعلق ب {أَثَٰبَكُمْ} أو ب {عَفَا عَنكُمْ} أي إنّما زاد الله غمّکم ليکون لکم عبرة للمستقبل، أو إنما عفا عنکم حتی لاتکرروا هذه المعصية في المستقبل، وفي التقريب: فإن الإنسان إذا وقع في الشدائد وجرّبها ومارسها، تصلب نفسه، وتقوی روحه، فلا تتزحزح بمصيبة، ولا تهتز بکارثة، وهکذا کانت هزيمة أ ُحد درساً وعبرة، حتی يصغر في نفوس المسلمين کل ما يفوتهم من خيرات وکل ما يصيبهم من شرور وآلام(1).

وفي التبيين: وإنما أصابکم الله بهذا الغم لکيلا تحزنوا علی ما فاتکم من الغنيمة، فإن حزنهم علی فوت الغنيمة سبّب مخالفتهم التي أوجبت غلبة الکفار، ولا ما أصابکم من الأضرار، ومعنی هذه الجملة أنه إذا أصابکم بسبب طاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الحزن بضرر أو فوت نفع فإن أردتم زوال ذلک الحزن بمخالفة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يصيبکم الله حزناً آخر فلا يفيد الفرار من الحزن(2).

وقوله: {وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيه ترغيب وترهيب، وذلک لأن الخبير هو العالم بالأمور الخفيّة وبواطن الأمور، فهو عالم بأعمالکم سرها وجهرها کما يعلم بنياتکم، فيجازيکم علی أعمالکم فاحذروه واطلبوا رضاه.

ص: 456


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 405.
2- تبيين القرآن: 80.

الآيتان 154-155

اشارة

{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٖ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}

154- {ثُمَّ} أراد الله تعالی تمييز المؤمن التائب من المنافق الکاذب ليعرفهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وکذا سائر المؤمنين فجعل علامة للمؤمن التائب ف {أَنزَلَ} الله {عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ الْغَمِّ} أي غمّ الهزيمة والقتل والجرح {أَمَنَةً} حيث شعرتم بالأمان بعد ذهاب المشرکين، وکان ذلک {نُّعَاسًا} لأن الآمن ينام بخلاف الخائف {يَغْشَىٰ طَائِفَةً} أي يحيط ذلک النعاس بمجموعة {مِّنكُمْ} وهم التائبون، {وَطَائِفَةٌ} أخری وهم الکاذبون لم ينزل عليهم الأمن والنعاس ف {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} قلقون عليها واستولی الرعب عليهم، خوفاً من رجوع الکفار {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ} ظناً {غَيْرَ الْحَقِّ} حيث ظنوا بأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) خدعهم بوعد النصر، وهذا ظن باطل {ظَنَّ الْجَٰهِلِيَّةِ} أي

ص: 457

کظن أهل الجاهلية حيث کانوا يسيئون الظن بالله وبرسوله، وکان هؤلاء منافقين فحينما يأتون الرسول {يَقُولُونَ} بشکل استفهام: {هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ} أي أمر النصر {مِن شَيْءٖ} أي نصيب؟ {قُلْ} في جوابهم: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُۥ} سواء کان نصراً أم هزيمة أم في غيرهما {لِلَّهِ} فهو المالک والمدبّر لعباده، لکن هؤلاء منافقون ف {يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا} أي کفراً {لَا يُبْدُونَ} لا يُظهرون ذلک الکفر {لَكَ} ف {يَقُولُونَ} في أنفسهم أو لإخوانهم الشياطين: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ} أمر النصر الموعود {شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا} في أ ُحد {قُل} في جوابهم: إن الأمر لله، لذلک قدّر القتال لجهات ثلاث:

الأولی: اتخاذ شهداء فإن الأجل والموت والقتل بتقدير من الله تعالی ف {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} فلم تخرجوا للقتال {لَبَرَزَ} أي خرج {الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} أي قدّر الله القتل لهم {إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ} إلی مقتلهم أو قبورهم.

{وَ} الجهة الثانية: {لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ} أي ليُظهر {مَا فِي صُدُورِكُمْ} فإنه في الأزمات يتبيّن واقع الأشخاص.

{وَ} الجهة الثالثة: {لِيُمَحِّصَ} ليخلّص {مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من الوساوس، کالنار التي تفصل الشوائب عن الذهب.

{وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فليس الامتحان لأجل أن يعلم، بل لأجل أن يظهر ما علمه أزلاً، إذ لا يصح العقاب إلاّ علی العمل، کما أن بعض درجات الثواب تتوقف علی العمل أيضاً.

القسم الرابع: الرماة الذين أخلوا مواقعهم

155- وأما الرماة فقد عفی الله عنهم، ف {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ} ترکوا

ص: 458

مواقعهم في شِعب الجبل {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وهم الذين قاتلوا في ساحة المعرکة - جمع المؤمنين وجمع الکفار - {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ} حملهم علی الزلة فزيّن لهم مخالفة أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} أي بسبب بعض ذنوبهم السابقة {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} بعد ما ندموا ورجعوا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لهم زلتهم وآثامهم السابقة وکذا لسائر التوابين {حَلِيمٌ} فلا يعاجل بالعقوبة بل يمهل عساهم يتوبوا.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ}.

هذا من تتمة الآية السابقة في المنهزمين، فقد رجعوا معتذرين يظهرون التوبة، فأراد الله تعالی أن يُعرِّف رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) الصادق من الکاذب، فجعل لذلک علامة وهي النعاس، لأن التائبين کانوا مؤمنين قد علموا بصدق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث أخبرهم بالنصر بشرط، وقد علموا أن الله لم يخلف وعده، بل وفی به حيث انتصروا مادام أنّهم التزموا بالشرط، وأن الهزيمة کان بسببهم حيث أخلّوا بالشرط، فالآن قد رجعوا يريدون الوفاء بالشرط، فهم علی علم بأن النصر سيکون حليفهم لذلک کانوا مطمئنين، ولذا اعتراهم النعاس، لأن المطمئن إذا تعب غلبه النعاس، هذا من الجانب الطبيعي، ومن جانب آخر فإن إلقاء النعاس کان بطريقة غيبية فلذا شعروا جميعهم به وغلبهم حتی رُوي عن بعضهم أن السلاح سقط من يده جرّاء النوم ولذا قال: {يَغْشَىٰ} من الغشيان بمعنی الاشتمال والإحاطة، بحيث لم

ص: 459

يتمکنوا من مقاومة النوم، وقد يکون من أسباب ذلک تجديد قواهم للّحوق بالمشرکين في حمراء الأسد کما سيأتي.

قوله: {أَمَنَةً} بمعنی الأمن، وهو إما مفعول به أي أنزل الله الأمن، وقوله: {نُّعَاسًا} بدل عنه لبيان أن ذلک الأمن ظهر في النعاس، وإما مفعول لأجله و{نُّعَاسًا} مفعول أنزل أي أنزل النعاس لأجل الأمن.

وقوله: {مِّنۢ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} يدل علی أن أحد الغمين المذکورين في قوله: {غَمَّۢا بِغَمّٖ} کان بمعنی عدم الأمن، وقد ورد في بعض الروايات تفسيره بإشراف خالد بن الوليد عليهم، وفي بعضها بالهزيمة والقتل(1).

فهؤلاء بعد ذهاب المشرکين وتوبتهم والتزامهم بالشرط شعروا بالاطمئنان بأن الله تعالی سيفي بوعده مستقبلاً کما وفی به في الماضي، لذا شعروا بالأمن فناموا.

الثاني: قوله تعالی: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ...} الآية.

وهم جماعة أخری من المنهزمين وکانوا من المنافقين، فهؤلاء لم يکونوا يؤمنون بوعد الله تعالی بالنصر، وحين الهزيمة زعموا أن ذلک خلف للوعد، فلذا کانوا في خوف من رجوع المشرکين، والخائف لايعتريه النعاس حتی لو کان تعباً، وقد وصفهم الله تعالی بالأوصاف التالية:

1- {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي أوقعتهم في الهمّ خوفاً من رجوع الکفار، أو کان اهتمامهم بها دون الاهتمام بالدين وبالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبسائر المسلمين، فيريدون النجاة بأنفسهم بأيّ ثمن کان ولو بالانقلاب علی

ص: 460


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 513، عن تفسير القمي.

الأعقاب، قال تعالی: {قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَٰسِقِينَ}(1).

2- {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي ظنوا بأن الله تعالی قد خدعهم في وعد النصر، کما کان أهل الجاهلية يسيئون الظن بالله تعالی، فقد کانوا ينسبون إليه النقائص، ومن تلک عدم الوفاء بالوعد أو الکذب، سبحانه وتعالی عمّا يقولون علواً کبيراً، وظنهم بالله إما في ذاته تعالی أو في وعده سبحانه، والمآل واحد هو نسبة النقص اليه.

أو المراد أنهم يظنون بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) غير الحق، حيث أخبرهم بوعد الله تعالی، فقد کانوا من المنافقين المکذبين لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فکان زعمهم أن خداعهم من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، لکن حيث إنه رسول الله، وکان وعده تبليغاً عن الله تعالی، فسوء ظنهم بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) هو سوء ظن بالله تعالی، کما أن إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إطاعة الله تعالی.

وقوله: {ظَنَّ الْجَٰهِلِيَّةِ} هو مفعول مطلق نوعي أي يظنون بالله ظناً منشؤه الجاهلية، أو بمعنی کظن أهل الجاهلية في الله تعالی وفي رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) .

3- {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٖ} واستفهامهم هذا يکشف عن عدم ايمانهم أيضاً، لأنهم لوکانوا مؤمنين ما سألوا هذا السؤال بعد علمهم بوعد الله تعالی بالنصر، و{هَل} هنا في صورة استفهام حقيقي، کأنهم بهذا

ص: 461


1- سورة التوبة، الآية: 24.

السؤال يريدون إخفاء تکذيبهم، وقيل: هو استفهام انکاري بمعنی أنه لانصر لنا علی الکفار!! وهذا دأب المنافقين في ساعات الشدة حيث إنهم بدلاً عن الفکر في الحلول وتقوية المعنويات يظهر واقعهم في شکل تعريض وطعن واستهزاء ونحو ذلک.

4- {يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم...} أي يخفون نفاقهم، لکن يظهر ذلک في فلتات لسانهم أو في کلامهم مع شياطينهم کما قال: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ...}.

الثالث: قوله تعالی: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٖ...} الآية.

فهم لايتجرأون علی إظهار التکذيب، فلذا يظهرونه بصورة استفهام وکأنهم طالبون للنصر، لکنهم يبطنون إنکاراً وتکذيباً، و{الْأَمْرِ} هنا بمعنی النصر أي هل لنا نصيب من النصر بعد هذه الهزيمة، وکيف إذا رجع الکفار ليستأصلونا ونحن مثخنون بالجراح؟!

وجوابهم هو: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ} أي ليس مجرد أمر النصر فحسب بل أمر الهزيمة وسائر القضايا کلّها لله تعالی، فهو المدبّر للکون، وأجری سنناً حسب الحکمة، وجعل أسباباً ومسبّبات، فکل من تمسک بالأسباب وصل إلی المسببات سواء کان محقاً أم مبطلاً کما قال تعالی: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ}(1) وقال: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}(2)، ولذا قيل(3): إن الله

ص: 462


1- سورة الإسراء، الآية: 20.
2- سورة الکهف، الآية: 89.
3- اقتباس من الميزان في تفسير القرآن 4: 50.

تعالی رتّب نظام الدينا علی الأسباب والمسببات، ولدی تعارض الأسباب يترجح ما کان سببه أقوی حتی لو کان باطلاً أو شراً أو ضلالاً أو ظلماً، ولا فرق في ذلک بين المؤمن والکافر، نعم لله تعالی عناية خاصة بدينه وبأوليائه بحيث رتب أسباب ظهور الدين وغلبته علی الدين کله وجعل العاقبة للمتقين، وذلک لأنه تعالی أراد امتحان الناس، فلو کانت الغلبة دائماً للحق لبطل الامتحان، والله سبحانه منزه عن العبث.

وکون الأمر کلّه لله لاينافي الاختيار، لأن نفس خلق الإنسان مختاراً هو تدبير من الله تعالی، بل حتی مع تحقق الأسباب فإن تأثيرها بإذن الله تعالی، ولو أراد لسلبها تأثيرها کما في نار إبراهيم (عليه السلام) .

الرابع: قوله تعالی: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا}.

وهذه مقولتهم إما في أنفسهم، أو إذا خلوا إلی شياطينهم، وحاصل توهمهم أن هذا الدين لو کان علی حق وأنّ وعد النصر لو کان صادقاً لما قُتل من قتل منا!!

وقيل: قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} يراد به من أمر الحرب لا النصر، وذلک لأن المسلمين قبل غزوة أ ُحد اختلفوا في کيفية لقاء المشرکين، فمن قائل بالخروج إليهم إلی أ ُحد لقتالهم، ومن قائل بالبقاء في المدينة والاحتماء بحصونها، وحيث کان رأی الأکثر بالخروج رجّح رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) رأيهم، فيقول هؤلاء المنافقون: لو کان هؤلاء يسمعون کلامنا بالتحصّن بالمدينة لما قتلوا!!

الخامس: قوله تعالی: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ...} الآية.

ص: 463

هذا جواب عن شبهتهم، مع بيان منافع الخروج للقتال، وهي کالتالي:

1- اتخاذ شهداء، فإن الله تعالی يکرم بعض أوليائه بالشهادة کما قال: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}(1).

و حاصل الجواب: إن الله تعالی قدّر القتل لهؤلاء، فسواء خرجتم أنتم أم لا فإن هؤلاء کانوا سيخرجون وسيقتلون کما قدّره الله تعالی لهم، لأن تقديره فيهم کان تقدير حتم، ولا رادّ لقضائه.

أو بمعنی أنه حيث قدّر الله قتلهم فحتی لو بقيتم في المدينة لقتل هؤلاء، وما أکثر المدافعين المتحصنين الذين يقتلون وهم خلف حصونهم.

أو بمعنی أن الله تعالی قدّر الموت علی الجميع، فهؤلاء حتی لو لم يخرجوا وفرضتم أن قتلهم لم يکن قضاء حتم، فإنه لابدّ من أن يلاقوا حتفهم في يوم ما، کما سيأتي في الآية 168.

2- {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أي إن الأزمات والشدة لابدّ منها في النظام الأتمّ الأکمل، وذلک لتميّز المؤمن من المنافق، ومادة (بلو) بمعنی الظهور والکشف، لذا يقال ثوب بالي أي رقّ بحيث يحکي عمّا تحته، قال تعالی: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}(2) والحاصل أن الله بالشدائد يُظهر ما في صدورکم فينکشف المؤمن من المنافق.

3- {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} فقد يکون إعطاء فرصة للناس ليصلحوا شأنهم، فإن الکثير لايعرف حقيقة نفسه ويتصورها علی أحسن مايرام، لأن

ص: 464


1- سورة آل عمران، الآية: 140.
2- سورة آل عمران، الآية: 179.

الإنسان يحب نفسه، والحب يُعمي ويُصمّ، فلذا لايلتفت إلی نقائصها والخلل فيها، حتی إذا جاء وقت الامتحان تبيّن له حقيقة أمرها، وفي ذلک إعطاء فرصة له لإصلاحها وتهذيبها بعد الالتفات إلی نقصها وخللها.

و(التمحيص) هو التخليص، کالذهب يلقی في النار ليخلص من الشوائب، فالابتلاء لتمييز المؤمن عن المنافق، والتمحيص لتخليص المؤمن من الرين والدرن في قلبه.

وفي الکشاف: کتب في اللوح المحفوظ من يُقتل من المؤمنين، وکتب مع ذلک أنهم الغالبون، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر علی الدين کلّه، وأن ما ينکبّون به في بعض الأوقات تمحيص لهم وترغيب في الشهادة مما يحرضهم علی الجهاد فتحصل الغلبة(1).

فتحصل أن خلاصة جواب الشبهة هو أن الله قضی قضاءً حتماً بأن يقتل هؤلاء فنفذ قضاؤه، وهذا دليل علی کون الأمر کلّه لله، وليس دليلاً علی بطلان الدين، کما أن الله يريد الابتلاء والتمحيص، فبخروجکم إلی الجهاد نال أولئک درجة الشهادة وتمّ تمييز المؤمن من المنافق وتمّ تخليص قلوب المؤمنين من الرين، فکل ذلک دليل علی أن الأمر لله تعالی وأنه الحکيم الذي قدّر ما فيه الحکمة.

وقوله: {مَضَاجِعِهِمْ} جمع مضجع وهو محل النوم، والمراد هنا محلّ قتلهم أو محل دفنهم، وکأنّ فيه إشارة إلی أن الموت کالنوم مؤقت، فکما يقوم النائم من مضجعه بعد النوم کذلک هؤلاء سيقومون للحساب.

ص: 465


1- الکشّاف 1: 328.

السادس: قوله تعالی: {وَاللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.

بيان أن الامتحان ليس لأجل أن يعلم الله تعالی، بل هو عالم أزلاً بما يکون ويعلم المؤمن من غيره.

و(ذات) مؤنث (ذو) بمعنی الصاحب والمالک، والمراد القلب فکأنه يملک الصدر کلّه، فالابتلاء والتمحيص إنما هو ليتحقق ما علمه أزلاً، لأن الجزاء علی العمل لا علی ما علمه الله تعالی، ولولا ذلک لکان ظلماً.

وقد مرّ أن العلم الأزلي ليس سبباً لأعمالنا الاختيارية، وعدم تخلّف علمه لايجعلنا مضطرين مجبورين علی أعمالنا، وذلک لأنه تعالی يعلم باختيارنا هذه الاعمال، ولو علم عدم اختيارنا لها لکان يعلم بعدم تحققها، نظير الاستاذ الذي يعلم برسوب التلميذ الکسول في نهاية السنة، وليس علمه سبباً لرسوبه، کما أن تدريسه لم يکن عبثياً، ولو کان التلميذ شاطراً لعلم بنجاحه لکنه لسوء اختياره اختار الکسل فيعلم الاستاذ بسقوطه.

السابع: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ...} الآية.

هذه الآية خاصة بالرماة الذين أخلوا مواقعهم وکانوا سبعة وثلاثين رجلاً من خمسين، ففي تفسير العياشي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «هم أصحاب العقبة»(1)، أي الشِعب في الجبل.

ويؤيد ذلک أن قوله: {الْتَقَى الْجَمْعَانِ} له اِشعار بأن هؤلاء المتولين لم يکونوا من الجمعين، لأنهم کانوا مشغولين بحراسة الشِعب فلم يلتقوا مع الکفار، فقوله: {تَوَلَّوْاْ} أي أدبروا عن الشِعب أو عن أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 466


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 515، عن تفسير العياشي 1: 201.

بالثبات فيه مهما کان الأمر، فالتولي هنا ليس بمعنی الفرار من الزحف لأن هذه المادة إذا استعملت في القرآن بمعنی الفرار ضمّ إليها الأدبار کقوله: {تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}(1)،

بل المعنی هنا الإعراض کقوله: {مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا}(2).

ويؤيد ذلک أن المراد لو کان جميع المسلمين المنهزمين لکان قوله تعالی: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} تکراراً لقوله في الآية 152: {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}، کما أن بعض المنهزمين کانوا منافقين والذين أشار إليهم الله تعالی في قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} ولا وجه للعفو عنهم وهم منافقون يظنون بالله غير الحق وفي حالة کذبهم علی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَٰنُ} أي طلب زلتهم فأطاعوه، وزلتهم کانت بعصيانهم أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بعدم مغادرة الشِعب، وترجيحهم الغنيمة علی أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

وقوله: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} الباء سببيّة، أي إنما طمع فيهم الشيطان فطلب زلتهم، لأنهم أطاعوه سابقاً في بعض الذنوب، فإن الذنوب کالحلقات المتواصلة يتبع بعضها بعضاً، وکذلک الطاعات فکل طاعة تجرّ أختها، وقد عدّ من الموبقات استصغار الذنب، وفي المجمع: وفي ذلک الزجر عمّا يؤدي إلی الفتور فيما يلزم من الأمور(3). وفي الکشاف: کان سبب توليهم أنهم

ص: 467


1- سورة الأنفال، الآية: 15.
2- سورة البقرة، الآية: 142.
3- مجمع البيان 2: 630.

کانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوباً، فلذلک منعتهم التأييد وتقوية القلب حتی تولّوا(1). وفي التبيين: إذ المعصية توجب تزلزل الإيمان فإذا صار وقت الامتحان ظهر الضعف في العاصي(2).

والحاصل: إن من يقع فريسة الهوی في الشهوة، کيف لايقع فريسته فيما فيه قوام حياته وأحب الأشياء إلی نفسه؟! وإنما قال {بِبَعْضِ} لأن الله تعالی يعفو عن کثير، أو إن آثار الذنوب مختلفة وهذا أثر بعضها، قال تعالی: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٖ}(3).

ص: 468


1- الکشّاف 1: 328.
2- تبيين القرآن: 81.
3- سورة فاطر، الآية: 45.

الآيات 156-158

اشارة

{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}

القسم الخامس: الكفار الباقون في مكة

156- ثم يذکر الله تعالی موقف جماعة أخری من الغزوة، وهم الکفار وهو موقف سلبي يکشف عن عدم اعتقادهم بالله واليوم الآخر والغرض تحذير المؤمنين وإبطال کلام الکافرين فقال: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ} بعدم الاعتقاد بالله واليوم الآخر، ثم يثبطون المؤمنين {وَقَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ} أي حول إخوانهم، والأُخوّة في العشيرة أو القوم {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ} هاجروا {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} جمع غازي أي جاهدوا: {لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا} ولم يهاجروا ولم يجاهدوا {مَا مَاتُواْ} في طريق الهجرة {وَمَا قُتِلُواْ} في الجهاد، {لِيَجْعَلَ اللَّهُ} اللام للعاقبة، أي عاقبة کفرهم وقولهم هو أن الله يجعل {ذَٰلِكَ} الکفر والقول {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} في الآخرة، حيث يرون درجات المهاجرين والمجاهدين فيتحسرون علی فوات

ص: 469

ذلک عنهم، وفي الدنيا أيضاً حيث تفوتهم الغنائم ونحوها من فوائد الهجرة والجهاد، {وَ} لکن ليعلم أولئک أن الموت لايرتبط بالهجرة أو الجهاد بل {اللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ} فکم مهاجر ومجاهد رجع سالماً، وکم من مقيم قد مات، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، أي عالم به، وهذا ترغيب إلی الهجرة والجهاد وتحذير عن اتبّاع الکفار.

157- ثم لو مات المهاجر في طريق هجرته أو قتل المجاهد فلا يضرّه {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في الجهاد {أَوْ مُتُّمْ} في سبيله تعالی فجزاؤکم المغفرة والرحمة ف {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ} لذنوبکم {وَرَحْمَةٌ} بالثواب الجزيل {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} يجمع المقيمون من الأموال.

158- ثم الجميع سيموت المؤمنون والکفار، المهاجرون والمقيمون، المجاهدون والقاعدون {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} فليس الموت نهاية کل شيء حتی يترک الإنسان الفضائل والمقامات العالية خوفاً منه.

بحوث

الأول: ذکرنا أن الله تعالی يبين موقف کل مجموعة من غزوة أحد، وما آل إليه أمرها، وهذه الآيات لبيان موقف مجموعة من الکفار الذين أسلم أقرباؤهم وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، لکن مات بعضهم في طريق الهجرة وقتل بعضهم في الغزوة، فهؤلاء الکفار يتحسرون عليهم بأنهم أخطأوا في الهجرة أو الجهاد، فلو بقوا في بيوتهم لکان خيراً لهم، يتاجرون ويتنعمون بملذات الحياة!

ولعلّ التدبر في مجمل هذه الآيات يدلنا علی أن {الَّذِينَ كَفَرُواْ} يراد

ص: 470

بهم جمع من کفار مکة الذين أسلم أقرباؤهم، لا المنافقين، فإن المنافق وإن کان کافراً باطناً إلاّ أنه لايطلق عليه لفظ الکافر، کما أن الآيات المبارکات السابقة واللاحقة تذکر موقف المنافقين في الآيات 154-167-168، وقد ذکرت الآيات 149-151 موقف الکفار المقاتلين، وأما هذه الآيات فهي في ذکر سائر الکفار، والظاهر أنهم الکفار الباقين في مکة.

ومن ذلک يتبيّن أن قوله: {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ} يراد به خصوص الهجرة، لا سفر التجارة ونحوه فإن ذلک کان يفعله الجميع ولا ينهی أحد أحداً عنه، بل کان من أهم مقومات حياة الکفار في مکة رحلة الشتاء والصيف، والله العالم.

الثاني: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ...} الآية.

هؤلاء قسم من الکفار مثبّطون، والتثبيط قد يکون مؤثراً حين الأزمات والهزائم، فالمتخاذل يستغل هذه الأوقات لبيان صحة موقفه وخطأ موقف العاملين، ولذا نشاهد أن العاملين المتطلعين للرقي والتقدم إذا أرادوا البدء في عملهم ثبطهم البعض، وهؤلاء العاملون قد لايصلون إلی ما أرادوا، وهذا أمر طبيعي، إذ ليس کل ما يتمناه المرء ويعمل له يدرکه، فحينئذٍ يشعر المتخاذل بأن الفرصة قد أتيحت له لينتصر لنفسه ويغطي علی تخاذله، فيبدأ باللوم وأحياناً يکون لومه بشکل إظهار الشفقة والحزن علی العامل، وأما إذا وصل العاملون إلی ما أرادوا عند ذاک يتحسّر المتخاذلون ويتمنون لو کانوا معهم کما قال الله تعالی: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ

ص: 471

قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنۢ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}(1).

والله تعالی يبيّن أن الأمر کله بيده، فإن قدّر النصر للمؤمنين فقد اغتنموا غنائم إلی إيمانهم، وإن قتلوا فإلی المغفرة والرحمة، فهم الرابحون الفائزون علی کل حال، وأما الکفار فإن قتلوا فقد خسروا الدنيا والآخرة، وإن کانت الدولة لهم فذلک تمتع قليل ثم يضطرهم الله تعالی إلی العذاب الدائم وبئس المصير.

وقوله: {كَالَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لاتکفروا ککفر أولئک، أو لاتکونوا مثلهم في طريقة التفکير، وعطف {وَقَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ} لبيان التثبيط القولی، والحاصل لاتکونوا مثلهم في الکفر أو في الفکر، وکذا لاتکونوا مثلهم في التثبيط.

وقوله: {لِإِخْوَٰنِهِمْ} أي حول إخوانهم المقتولين أو الميّتين، ويحتمل أن يکون المراد سائر المؤمنين الأحياء فيکون الضمير في قوله: {لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} للقتلی أو الأموات من باب الاستخدام، أي قالوا للأحياء لو کان الأموات والقتلی عندنا لم يصابوا.

و(الأخوة) قد تکون في القرابة والقوم أو الدين، والمراد هنا الأول، وإنما قالوا ذلک لدعوة المؤمنين الباقين إلی الارتداد والرجوع إلی الکفر.

وقوله: {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الْأَرْضِ} بمعنی السفر، لأن المسافر يقطع الطريق

ص: 472


1- سورة النساء، الآية: 72-73.

بضرب رجله علی الأرض، ثم صار اصطلاحاً للسفر حتی لو کان بحراً أو لم يکن ضرب.

وقد ذکر بعض المفسرين بأن المراد السفر للتجارة وحتی عمّمه بعضهم إلی السفر لطلب العلم، لکن الأقرب أن المراد الهجرة کما ذکرناه، فلا ملامة لسفر التجارة ونحوه، بل اللوم يکون علی الهجرة في سبيل الله تعالی قال: {وَمَن يَخْرُجْ مِنۢ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى اللَّهِ}(1).

الثالث: قوله تعالی: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ...} الآية.

قد ذکر المفسرون للتعليل في قوله: {لِيَجْعَلَ} وجوهاً، منها:

1- إنه مرتبط بقوله: {لَا تَكُونُواْ} واللام للعاقبة، فالمعنی لمّا لم تصغوا إليهم واستقمتم علی نهجکم، فإن استقامتکم ستکون سبب فوزکم بالمغانم والنصر في الدنيا، وذلک سيکون سبباً لحسرتهم وتمنيهم لوکانوا مثلکم، والمراد تشجيع المؤمنين بأن لاتنظروا إلی الحالة التي انتم عليها الآن حيث يلومکم الکفار، بل وسّعوا افق فکرکم وأبعدوا النظر، فسوف لاتمضي إلاّ أياماً معدودة وينقلب الأمر فالمثبطون سيتحسّرون علی عدم اتّباعکم، وهذا ما يشاهد في عامة المجاهدين والمتخاذلين، فصعوبات الجهاد سبب طعن المتخاذلين، لکن حسن نتيجة الجهاد سبب حسرتهم.

2- أو بمعنی لاتقولوا مثل قولهم ليبقی حسرة في قلوبهم، لأنهم يفرحون لو صرتم مثلهم، لکن لو فشلوا في إغوائکم فإنهم سيتحسرون علی فشلهم،

ص: 473


1- سورة النساء، الآية: 100.

قال تعالی: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ}(1).

3- أو بمعنی أن موت أو قتل إخوانهم سيکون حسرة عليهم، فيضاف حسرة فقدانهم إلی حسرة کفرهم، أي لاينفعهم قولهم هذا لأن عاقبة أمرهم الحسرة علی الأموات.

4- أو الحسرة في الآخرة، أي کفرهم وتثبيطهم سيکون حسرة عليهم في الآخرة، قال تعالی: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}(2).

والأولی التمسک بالإطلاق، فالحسرة في الدنيا والآخرة، وعلی ما فاتهم من المنافع وعلی إخوانهم.

الرابع: قوله تعالی: {وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

هذا دحض لکلامهم حيث ربطوا الموت بالهجرة والجهاد وربطوا الحياة بالإقامة، وذلک لأن الموت والحياة بيد الله تعالی، وقد جعل لهما أسباباً کثيرة، فکم من مهاجر مجاهد رجع سالماً غانماً، وکم من مقيم مات حتف أنفه أو بحادث، بل ترک الهجرة والجهاد قد يکون سبباً لتسلط الأعداء فيکثروا من القتل والتنکيل، وقد مرّ في قوله: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(3).

ص: 474


1- سورة النساء، الآية: 89.
2- سورة الأنعام، الآية: 31.
3- سورة البقرة، الآية: 195.

والحاصل أنه لامحيص عن الموت فهو من سننه تعالی في الناس وقضاؤه تعالی نافذ کما مرّ في قوله: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ...}.

وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ترغيب للمؤمنين بأن أعمالکم لاتضيع عند الله تعالی، فهو عالم بجهادکم وهجرتکم وسائر أعمالکم، کما أنه عالم بنواياکم، وهذا تمهيد لبيان الجزاء في الآية اللاحقة، کما أنه ترهيب للکفار بأن کفرکم وأقاويلکم لاتخفی عليه، فسيحشر الجميع إلی الله تعالی فيحاسبکم ثم يجازيهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

الخامس: قوله تعالی: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ...} الآية.

هذا کالتکملة للاستدلال، أي نقول أولاً: إن الموت والحياة بيد الله تعالی ولا تنحصر أسبابها بالهجرة والاقامة أو الجهاد والقعود، ثم نقول ثانياً أنه ما الغرض من الإقامة؟ الغرض هو جمع الأموال للتمتع بالحياة الدنيا، فالموت في طريق الهجرة أو القتل في الجهاد منافعه أعظم بما لايقاس بمنافع جمع الأموال، وذلک بالمغفرة والرحمة من الله تعالی.

وقوله: {أَوْ مُتُّمْ} أي متم في سبيله تعالی، عطف علی قتلتم فلم تکن حاجة إلی تکرار في سبيل الله، وقد عمّم بعض المفسرين الموت في سبيله تعالی بالموت في طريق طلب الرزق أو الحج أو اکتساب العلم ونحو ذلک، لکن قد عرفت أن السياق بعيد عن ذلک، بل المراد الموت في طريق الهجرة، نعم يمکن التعميم بأن المورد وإن کان في الهجرة إلاّ أن الوارد أعم، فتأمل.

قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هو طريق الأئمة (عليهم السلام) ، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه

ص: 475

قال: «سبيل الله علي وذريته (عليهم السلام) ، ومن قُتل في ولايتهم قُتل في سبيل الله، ومن مات في ولايتهم مات في سبيل الله»(1) وذلک لأن سبيلهم هو سبيل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو سبيل الله تعالی، حيث أمر الله تعالی بولايتهم، وبلّغه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للناس في مواطن کثيرة منها يوم غدير خم.

وقوله: {خَيْرٌ} منسلخ عن التفصيل، إذ لاخير فيما يجمعه الکفار من الأموال، فيکون نظير قولنا الجنة خير من النار، وقيل: التفضيل باعتبار تصور غالب الناس حيث يرون الخير في جمع الأموال فيقال لهم إن المغفرة والرحمة أکثر خيراً.

وقوله: {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ} قدّم المغفرة لأن بعض درجات الرحمة لاتنال إلاّ الطاهر المطهّر، فلا بد أولاً من الطهارة من درن الذنوب بالمغفرة ثم نيل الرحمة الخاصة، أو إن المغفرة دفع ضرر المواخذة بها والرحمة جلب منفعة الثواب.

قوله: {مِّمَّا يَجْمَعُونَ} کأنه تلميح إلی أن بقاءهم علی کفرهم وفي بلدهم وطلبهم للمال لايصل نفعه إليهم، لأنهم يجمعون الأموال ثم يترکونها للورثة!! فهو بقي ليجمع المال فخسر الدنيا والآخرة! والحاصل أنهم أمام عملين ونتيجتين:

الکفر والاقامة: وذلک يجلب حسرة في قلوبهم، ولا يدفع موتاً، ونتيجته جمع مال فقط ولا خير في ذلک.

أو الهجرة والجهاد، وذلک لايقرّب موتاً، ويجلب سروراً ومنافع مادية،

ص: 476


1- تفسير العياشي 2: 202.

مضافاً إلی المغفرة والرحمة لو مات.

أو نقول: إنه تقابل بين المغفرة والرحمة من الله من جهة، والجمع للأموال من المقيمين من جهة أخری، ولا قياس بين المغفرة والرحمة وبين المال، کما لا قياس بين واهب المغفرة والرحمة وهو الله تعالی، وبين جامع المال وهم الکافر!!

السادس: قوله تعالی: {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}.

بعد بيان أن من مات أو قتل في سبيل الله ينال المغفرة والرحمة من الله، تم بيان أن الجميع سيحشر إلی الله تعالی حتی الکفار، قوله: {وَلَئِن مُّتُّمْ} يعني بأيّ وجهٍ وسببٍ کان.

ولا يخفی أن الحشر إلی الله عام للجميع کما قال: {وَمَا مِن دَابَّةٖ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَٰئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَٰبِ مِن شَيْءٖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(1)، فلا وجه لما ذکره بعضهم بأن هذه الآية خاصة بالمؤمنين أيضاً، فالآية السابقة في بيان المغفرة والرحمة لهم وهذه الآية لبيان ثواب أعظم وهو الحشر إلی الله تعالی! وقد اتضح لک أن الحشر إليه تعالی عام، وليس نفس الحشر ثواباً حتی يخص به المؤمنون، فالغرض من هذه الآية بيان حشر الجميع بما فيهم الکفار، وفي ذلک ترهيب لهم، کما أنه ترغيب لسائر الناس ليحذو حذو المهاجرين والمجاهدين لينالوا الثواب الجزيل کما نالوه.

ثم إن هذه الآية ذکرت الموت والقتل ثلاث مرات، وفي الأولی والثالثة

ص: 477


1- سورة الأنعام، الآية: 38.

قدّم الموت علی القتل، وعکس في الثانية، قيل: إن الأولی بحسب الترتيب الزماني لأن بعض المهاجرين مات ثم قتل البعض في الجهاد، والثالثة حسب الترتيب الطبيعي لأن الموت أکثر وأعم، وأما الثانية فلأنه کان في سبيل الله فالقتل فيه أشرف من الموت فلذا قدّمه لشرفه.

ص: 478

الآيتان 159-160

اشارة

{فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}

القسم السادس: حول قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

اشارة

159- ثم تعطف الآيات العنان إلی بيان حُسن قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للمعرکة ولسائر الشؤون، وأن الله ينصر المؤمنين، فإن کانت هزيمة فبسبب عصيانهم {فَبِمَا رَحْمَةٖ} «ما» للتأکيد أي بسبب رحمة {مِّنَ اللَّهِ} عليک بأن فضّلک بالمکارم، ورحمته عليهم لتسلک بهم سبيل الهداية {لِنتَ لَهُمْ} کنت ليناً معهم، فاستشرتهم قبل الغزوة، وصفحت عنهم بعد الهزيمة، {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا} خشن الکلام والفعل {غَلِيظَ} قاسي {الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ} تفرقوا {مِنْ حَوْلِكَ}، وحيث تحليت بالمکارم بفضل الله {فَاعْفُ عَنْهُمْ} إذا أخطؤوا بحقّک، {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ذنوبهم فيما يرتبط بالله تعالی، أي أ ُدع الله ليغفر لهم، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} في أمر الحرب وغيره، تحبيباً لقلوبهم وتعليماً لهم، {فَإِذَا عَزَمْتَ} عقدت النية علی ما رأيته صلاحاً متفرعاً علی مشورتهم {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ليوطأ لک الأمور ويذلّل الصعاب ويرتب الأسباب الغيبية، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

ص: 479

الْمُتَوَكِّلِينَ} يجازيهم بالجزاء الحسن، ومنه فوزهم بما يريدون.

160- فاتضح لکم أن الهزيمة أو النصر ليست من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه يوکل أمره إلی الله تعالی، والله تعالی هو الذي يفعل ما يريد بحکمته ف {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} لا يغلبکم أحد، {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} بأن يترککم وشأنکم ولم يُعنکم {فَمَن} استفهام إنکاري {ذَا} إشارة {الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعْدِهِ} بعد خذلان الله أو من بعد الله إذا ترکتموه والتجأتم إلی غيره {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

بحوث

الأول: وجه ارتباط هذه الآيات وما بعدها (الآيات 159-165) هو بيان حُسن قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) للمعرکة، وأن الهزيمة لم تکن منه، بل منکم حيث عصيتم، فإن الله تعالی قد تفضّل عليکم وأرسل رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) متحلياً بصفات الکمال، عالماً بالحکمة معلماً لها، زاکياً في نفسه مزکيّاً لغيره، حسن التدبير في کيفية معاملته معکم، متوکلاً علی الله في أموره، عادلاً في تقسيم المال، ولکن الأمر کلّه لله تعالی، وهو سبحانه بحکمته ينصر من نصره، ويخذل من عصاه، وحيث عصيتموه خذلکم فانهزمتم، فلا ترتبط تلک الهزيمة بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بل بکم بسوء اختيارکم، ومع ذلک لطف الله بکم حيث رتب فوائد جمّة لکم علی هزيمتکم من الابتلاء والتمحيص وغيرهما.

الثاني: قوله تعالی: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ...} الآية.

(الفاء) إما للاستئناف - کما عن بعض النحاة - او عاطفة تفريعيّة فالمعنی

ص: 480

حيث إنکم تحشرون إلی الله لذلک هيّأ أسباب هدايتکم عبر أخلاق رسوله الکريم (صلی الله عليه وآله وسلم) .

و(الباء) سببيّة أي بسبب هذه الرحمة کنت ليناً شفيقاً لهم.

وقوله: {رَحْمَةٖ} تنکرها لتعظيمها، ولتعميمها، فقد أدّب الله تعالی نبيّه بأحسن الآداب حتی قال عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1)،

وذلک رحمة منه تعالی علی نبيّه، کما أن ذلک کان رحمة علی الناس لأنه صار سبباً لهدايتهم حيث جذبت هذه الأخلاق الناس إلی الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وحبّبته اليهم، ومن ثمَّ زيّنت الإيمان في قلوبهم، قال تعالی: {وَمَا أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}(2).

وقوله: {لِنتَ لَهُمْ} من الليونة بمعنی رقة القلب، وحسن الفعل، وطيب الکلام.

وقوله: {وَلَوْ كُنتَ} لم يقل «ولا تکن» لان فيه إيهام أنها فيه، لکن هذا التعبير صريح بنفی الفظاظة والغلظة عنه - هکذا قيل - .

وقوله: {فَظًّا} بمعنی الجفو والخشونة في القول أو الفعل.

وقوله: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} بمعنی قاسيه، ولا يخفی أن قساوته سبب للفظاظة، ولکن الناس يرون القول والعمل ويستدلون بهما علی قساوة القلب، ففي الظاهر والإثبات الفظاظة مقدمة علی القسوة في کونها سبباً لتفرق الناس، فقد يکون هناک مَن هو قاس القلب لکنه يتحکّم في أقواله

ص: 481


1- سورة القلم، الآية: 4.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.

وأفعاله ويتحلّم، فقد يبقی معه الناس لفترة، إلاّ أنهم في المآل سينفضون عنه، لأن تلک القساوة القلبية - إن لم تعالج - لابدّ أن يظهر أثرها في الفلتات والصفحات، وکما قال الشاعر:

ومهما تکن عند امرءٍ من خليقة***وإن خالها تخفی علی الناس تُعْلَم

قوله: {لَانفَضُّواْ} من الانقضاض أي التفرّق، وهذا دليل علی أن بقاء الناس علی الإسلام إنما هو بسبب الأخلاق المحمدية في سيرته الوضاءة (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي ذلک إبطال لمقولة انتشار الإسلام بالسيف بمعنی إکراه الناس عليه، ولو کان کذلک لزال الإسلام بزوال السيف، کما حدث مع کل الفاتحين والغزاة حيث أجبروا الناس المغلوبين علی أمور فلما زالت دولتهم رفضهم الناس، وعليه فيجب تبيين السيرة الصحيحة للرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) للناس وذلک سبب اهتدائهم، فکما کان في زمانه أخلاقه سبب اجتماعهم، والأکاذيب والشائعات عنه انخدع بها البعض لکن برؤيته وسماع أخباره ذهبت کل تلک الأکاذيب أدراج الرياح، فکذلک الأن حيث نفقد شخصه الکريم لکن عندنا سيرته فلابد من تنزيهها من الدس والوضع وفصل المختلقات التي تصدّ الناس عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليعلم الناس بواقع سيرته فيهتدون بإذن الله تعالی.

الثالث: قوله تعالی: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.

أي حيث کنت الرحمة، وکنت ليناً معهم، وجمعتهم حولک بأخلاقک فعليک أن تستعمل لينک في جهات ثلاث:

1- {فَاعْفُ عَنْهُمْ} أي أ ُترک مؤاخذتهم، فيما يرتبط بشخصک، فقد

ص: 482

کانوا يسيئون الأدب، أو ينتقصون من حق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، کما نسبوا الهزيمة إليه مع أنها کانت من فعلهم، وکما اتهموه بالغل وبغير ذلک، فعفوک عنهم من لينک تجاههم.

2- {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي ادعُ الله ليغفرلهم ذنوبهم التي ارتکبوها مخالفة لأمره تعالی، کترک مواقعهم وفشلهم وتنازعهم وعصيانهم وانهزامهم.

وفي تقريب القرآن: والله - وإن کان أرحم بهم - لکن ذلک لزيادة عطف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فإن من يطلب المغفرة لأحد لابدّ أن يزول من قلبه ما علق به من الکراهية، ولتکثير محبة المؤمنين له حيث يعلمون بأنه يستغفر لهم(1).

حول المشورة والشوری

3- {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي کل الأمور ومنها أمر الحرب، کما فعله (صلی الله عليه وآله وسلم) في غزوة أ ُحد حيث استشارهم في التحصّن بالمدينة أو الخروج إلی أ ُحد، فکان رأي الغالب الخروج.

ولا يخفی أنه لا مشورة في التشريعات والأحکام الإلهية، فإن التشريع خاص بالله تعالی، وقد أدّب نبيه بآدابه ففوض إليه ذلک، ولا تفويض للتشريع للناس أبداً فليس لهم حق التشريع، قال تعالی: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}(2)، نعم يمکن المشورة في کيفية تطبيقها وهذا لايرتبط بالتشريع، ولذا فلا حقّ للمجالس النيابية بتشريع أحکام مقابل الحکم الشرعي، نعم يمکنها - إن استکملت الضوابط الشرعية - أن تجعل آلية لتطبيقها، ولذا قد غيّر الوالد رضوان الله عليه، في بعض کتبه عبارة السلطة التشريعية إلی التأطيرية،

ص: 483


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 411.
2- سورة يوسف، الآية: 40.

أي جعل إطار للحکم حتی يتسنّی تطبيقه بأحسن الوجوه.

کما لا مشورة فيما أنزل الله الوحي فيه سواء کان من الأمور العامة والخاصة، کما قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٖ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(1)، کبطلان الشوری في تعيين الخليفة لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد قال تعالی: {يَٰأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(2)، وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَٰنَ اللَّهِ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(3).

وإنما المشورة فيما لا وحي فيه ولم يکن من التشريعات، بل کان من إدارة الأمور وتنظيمها، سواء کان في الشؤون العامة أو الخاصة.

وأما وجوبها أو استحبابها، ومن يکون طرف المشورة، وإلزامها وعدم إلزامها، والفرق بين الشوری والمشورة فيطول بحثه، وقد ذکر بحوثها الوالد رضوان الله عليه في جملة من کتبه، فراجعها.

وهنا بحث آخر: وهو أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مستغنٍ عن مشورتهم وذلک لتسديده بالوحي، وعصمته في أموره کلها، فسبب أمره بمشورتهم هو تحبيب قلوبهم، وفي ذلک تزيين الإيمان لهم، وأيضاً تعليمهم ليستشيروا، ولئلا يتکبّر أحدهم عن المشورة وعن قبول الاستشارة.

وأما غير المعصوم فمشورته استخراج للرأي الأصح عبر مشارکة الناس

ص: 484


1- سورة الأحزاب، الآية: 36.
2- سورة المائدة، الآية: 67.
3- سورة القصص، الآية: 68.

في عقولهم، وايضاً استظهار بهم، ففي الحديث: «من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً»(1).

معنی التوکل

الرابع: قوله تعالی: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ...} الآية.

(الفاء) للتفريع، أي عزمت بعد المشورة، أي آخذاً بها عاملاً عليها، فذلک لايکفيک، لأن المستشيرين قد يخطؤون، وقد لايحيطون بجميع الأسباب، فالمشورة وإن کانت تقلّل نسبة الخطأ إلاّ أنها لا تعصم عنه، کذلک قد يکون الرأي صحيحاً لکن تحدث طوارئ وأمور لم تکن بالحسبان، کما حدث في غزوة أ ُحد حيث کان الرأي بالخروج عن المدينة وعدم التحصّن بها رأياً صائباً لذا انتصروا في البداية، لکن آل الأمر إلی مخالفتهم وعصيانهم مما لم يحتمله المستشارون، وعليه فلا بد من التوکل علی الله ليرتب الأسباب الأخری ويرفع الموانع.

و(التوکل) من (وکل) بمعنی الاعتماد علی الغير في أمرک(2)،

لکن ليس بمعنی عدم فعل شيء والکسل والتماهل، فذاک التواکل وليس التوکل.

ولذا أمر الله تعالی نبيه بالتوکل بعد المشورة والعزم، وفي الحديث اعقل وتوکّل(3)، وقال تعالی في قصة يعقوب (عليه السلام) : {وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدْخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(4) فهو (عليه السلام) أمر أبناءه

ص: 485


1- جامع أحاديث الشيعة 16: 78.
2- مقاييس اللغة: 1063.
3- عوالي اللئالي 1: 75.
4- سورة يوسف، الآية: 67.

باتخاذ المنهج الطبيعي بالدخول من أبواب متفرقة لئلا تصيبهم العين، لکن صرّح بأنه يتوکل علی ربّه.

ثم بعد التوکّل يکون التوفيق، حيث إن التوکّل من العبد والتوفيق من الله تعالی، بأن يجعل الأسباب بعضها وفق بعض حتی تحصل النتيجة المرجوة قال: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(1)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إذا فعل العبد ما أمره الله عزوجل به من الطاعة کان فعله وفقاً لأمر الله عزوجل وسُمّي العبد موفقاً، وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي الله فحال الله تبارک وتعالی بينه وبين تلک المعصية فترکها کان ترکه لها بتوفيق الله تعالی ذکره، ومتی خلّی بينه وبين المعصية فلم يحل بينه وبينها حتی يرکبها فقد خذله ولم ينصره ولم يوفقه(2).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} بمعنی يجازيهم علی توکلهم، فقد يکون ذلک عبر إرشادهم للأصلح، أو تهيأة الأسباب الأخری الخارجة عن اختيارهم وإرادتهم، وأما لو لم تکن المصلحة في ذلک فنوع آخر من الثواب الدنيوي مضافاً إلی الثواب الجزيل في الآخرة، مثلاً من توکلوا واستشهدوا في المعرکة کانت شهادتهم وما يترتب عليها من الذکر الحسن ونحوه هو نوع ثواب علی توکلهم وحسن نيتهم وعملهم مضافاً إلی ثواب الآخرة، وهذا هو نصر الله تعالی للمؤمنين المتوکلين حتی لو انهزموا

ص: 486


1- سورة هود، الآية: 88.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 519، عن توحيد الشيخ الصدوق: 242.

عسکرياً وقتلوا أو أصيبوا.

وفي المناهج: ليس معنی التوکل أن کل من توکّل فله الظفر والسعادة - سواء کان توکله بتهيأة الأسباب أم بدونها، بناءً علی کون التوکل يوجب الاتصال بسبب غير مغلوب، فيکون للسبب الغالب أثره في مجری التوکل - لإمکان أن يکون ما وراء التوکل شرائط وأسباب في قضاء الحوائج(1).

بمعنی أن هناک أسباباً متعددة غيبية، والتوکل أحدها، فللوصول إلی النتيجة لابد من توفرها أجمع.

الخامس: قوله تعالی: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ...} الآية.

الظاهر أن هذه الآية تتحدث عن النصر العسکري والهزيمة، بقرينة قوله: {فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} ولأن الغرض بيان أن الهزيمة لم تکن من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بل بسبب سوء عملکم فخذلکم الله تعالی فانهزمتم، وذلک لأن الله ينصر الرسل والمؤمنين حتماً کما قال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ}(2)، وطرق نصره في الدنيا کثيرة، فقد تکون غلبة عسکرية، وقد تجتمع مع الهزيمة والشهادة کما قتل کثير من الأنبياء (عليهم السلام) ، لأن مصداق النصر حينئذٍ هو غلبة المنهج والذکر الحسن والفوز بکرامة الشهادة وبرکة في الذرية ونحو ذلک.

والحاصل: إن الآية تأکيد علی أن الأمر کلّه لله تعالی، وهو يقدّر بحکمته، فقدّر غلبتکم في بدر لمّا أطعتم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وقدّر هزيمتکم

ص: 487


1- مناهج البيان 4: 178.
2- سورة غافر، الآية: 51.

في أ ُحد لمّا خالفتموه.

و(الخذلان) هو الامتناع عن المعونة علی العدو في وقت الحاجة إليها، وأما لو لم يحتج فلا يکون خذلاناً - هکذا قيل - .

وقوله: {مِّنۢ بَعْدِهِ} أي من بعد خذلانه، أو من بعد الله، کأنکّم أعرضتم عنه تعالی إلی غيره لينصرکم، فهل يتمکن؟! کلا لا ناصر لکم بعد الله تعالی، لأنه مالک کل شيء وکل شخص وهو العزيز القدير.

وأما قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فليس تکراراً لما في الآية السابقة، لأنها کانت دعوة للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بخصوصه، کما أنها کانت لبيان حبّه للمتوکلين، وهذه الآية دعوة لکل المؤمنين للتوکل لينالوا حبه تعالی لهم، وفي هذا الأسلوب حثّ أکثر وترغيب أشد، حيث أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أولاً، ثم بيّن فائدة التوکل، ثم دعا سائر المؤمنين ليقتدوا برسولهم ولينالوا حبه تعالی.

ص: 488

الآيات 161-165

اشارة

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَ اللَّهِ كَمَنۢ بَاءَ بِسَخَطٖ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ (165)}

161- ثم کان من أسباب ترکهم لمواقعهم هو الجشع علی الغنيمة والظن بأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لايقسمها بينهم بالعدل، والله نزّه رسوله بقوله: {وَمَا كَانَ} لا يمکن {لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} يخون في الغنيمة، {وَمَن يَغْلُلْ} أيّاً کان {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} أي يؤمر بذلک الشيء ليحضره مهانة وفضيحة له {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} فيحاسب علی غلوله، {ثُمَّ} ينال جزاءه العادل إذ {تُوَفَّىٰ} تعطی جزاءها کاملاً {كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ} من خير أو شر، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} فلا يزداد عذاب المسيء، ولا ينقص ثواب المحسن، نعم قد يعفو الله عن المسيء ويزيد ثواب المحسن وذلک فضل منه تعالی واحسان.

162- ثم يحرضهم الله تعالی علی الثبات وإطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 489

ويحذرهم عن معصيته وعن الهزيمة {أَفَمَنِ} «الهمزة» للاستفهام الإنکاری و«الفاء» للتفريع لبيان کيفية جزاء کل نفس بما کسبت، فليس الذي {اتَّبَعَ رِضْوَٰنَ اللَّهِ} بطاعته تعالی، ومن أجلی مصاديقهم الأئمة (عليهم السلام) {كَمَنۢ بَاءَ} رجع {بِسَخَطٖ مِّنَ اللَّهِ} أي المعصية التي توجب شدة غضبه تعالی، {وَ} أما الجزاء الوافي فالراجع بالسخط {مَأْوَىٰهُ} محله الذي يرجع إليه {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

163- وأمّا الذين اتبعوا الرضوان ف {هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ اللَّهِ} باختلاف معرفتهم {وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي طاعاتهم، فکلّما کانت المعرفة أکثر کانت الدرجة أرفع، وکذلک أعمالهم.

164- ثم يؤکد الله تعالی بأن الهزيمة لم تکن بسبب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لأنه منبع الفضائل ف {لَقَدْ مَنَّ} أنعم نعمة عظيمة {اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} خصّهم بالذکر لأنهم المنتفعون {إِذْ بَعَثَ} أرسل {فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} بشراً مثلهم، {يَتْلُواْ} يقرأ {عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ} القرآن الکريم، {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهّرهم من الرذائل والأدناس، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ} يفسّر لهم القرآن {وَالْحِكْمَةَ} يعلّمهم الشريعة وسائر الأمور ومواضع خيرها وشرها، {وَإِن} مخففة من المثقلة {كَانُواْ مِن قَبْلُ} أي قبل إرساله {لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} واضح، وهذا يزيد المِنّة عليهم، فهکذا رسول لاتنشأ منه الهزيمة بل النصر.

165- لکن معصيتکم إياه صارت سبباً لهزيمتکم {أَوَلَمَّا} «الهمزة» للاستفهام الانکاري، و«الواو» عاطفة علی الجملة السابقة، و«لمّا» ظرفية {أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ} حيث قُتل سبعون من المسلمين في أ ُحد {قَدْ أَصَبْتُم

ص: 490

مِّثْلَيْهَا} في بدر حيث قتلتم سبعين من المشرکين وأسرتم سبعين {قُلْتُمْ} مستنکرين {أَنَّىٰ} من أين {هَٰذَا} الإنکسار؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} حيث دعتکم نفسکم إلی الغنائم فخالفتم أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} فينصرکم إن أطعتم ويخذلکم إن عصيتم.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ...} الآية.

لمّا بين الله في الآيات السابقة حسن قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وحسن تدبيره للأمور، أراد تحذيرهم من سوء الظن به، فقد أساؤوا الظن حيث توهموا أنه لايقسّم بينهم الغنائم بالعدل، وکان ذلک سبباً لترکهم مواقعهم، ثم أساؤوا الظن به بعد الهزيمة مع أنهم بعصيانهم کانوا السبب فيها، وکانوا قد شاهدوا بطلان ما اتّهمه به بعض المنافقين في غزوة بدر حيث فُقدت قطيفة حمراء وکان أحدهم قد سرقها واحتفر لها فخبّأها، حتی اکتشف أمره، فنزّه الله رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) من الغلول(1)، ومع ذلک في غزوة أ ُحد أساؤوا الظن فعصوا ليحوزوا علی الغنائم.

والحاصل: إنّ الآية تبيّن سبب الهزيمة وهو سوء ظنهم بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، مما أدّی إلی عصيانهم، ومن ذلک يتبيّن أهمية صحة العقيدة في صحة العمل والوصول إلی النتائج المرجوة، فمن اعتقد بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وانقاد له ولم يجد حرجاً في نفسه مما قضی أطاعه في کل شيء فيستوجب فضل الله عليه بالنصر، ومن لم يعتقد به ولم يسلّم وشعر بالحرج عصاه فيستوجب خذلانه.

قوله: {وَمَا كَانَ} بمعنی عدم الإمکان عقلاً أن يختار الله رجلاً خائناً

ص: 491


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 523، عن أمالي الشيخ الصدوق.

لرسالته، فحکمته تعالی تقتضي اصطفاء من يرسلهم وأن يعصمهم وأن يحليهم بالفضائل ويجنبهم الرذائل.

قوله: {أَن يَغُلَّ} من الغلول وهو الخيانة الخفيّة، کأن يأخذ شيئاً من المغنم سِراً.

وقوله: {وَمَن يَغْلُلْ} للتعميم أي الغلول کبيرة، ولا يحق للإنسان أياً کانت درجته ومنزلته أن يرتکبها، فالمحرمات محرّمة علی الجميع، ولا محاباة فيها.

وقوله: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} أي يُفضح علی رؤوس الأشهاد يوم القيامة بأن يؤمر بإحضار مادة الجرم - وهو ما غلّه - فيحاکم عليها، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: ومن غلّ شيئاً رآه يوم القيامة في النار، ثم يکلّف أن يدخل إليه فيخرجه من النار(1).

ولا يخفی أن هذا شيء لايرتبط بتجسم الأعمال، فالمذکور في الآية هو إحضار مادة الجرم وهي ليست العمل بل متعلّقه ، وأما تجسّم العمل فيستفاد من أيات أخری، وقد مضت الإشارة إليه.

الثاني: قوله تعالی: {ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.

أي بعد الحساب في يوم القيامة - والذي يتضمّن إحضار مادة الجرم - ينال الجميع جزاءهم العادل، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

والکلام کان حول الغلول لکن تمّ تعميم الکلام حول الجزاء... .

1- إما ليکون کالبرهان علی المقصود، أي حيث إن الله يوفي الجميع

ص: 492


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 523، عن تفسير القمي.

جزاءهم لذلک يُؤمر الغال باحضار ما غلّ - هکذا قيل - .

2- أو لبيان أنه کما يوفّی الغال جزاءه، کذلک المغلول منه أيضاً يوفی جزاءه، فهو أيضاً لايبقی بغير جزاء، فيکون تحذيراً للمظلومين بأن لايتعدوا حدود الله تعالی کما قال: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَٰنًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورًا}(1).

3- والأقرب أن التعميم لأجل بيان حال المطيعين والعاصين بشکل عام لينطبق علی الحالة في غزوة أحد، لأن الغرض حثّ المؤمنين علی الإطاعة وتحذير العصاة عن المعصية، ولذا أتبعه بآيتين في تفصيل الجزاء.

قوله: {تُوَفَّىٰ} بمعنی الاعطاء کاملاً من غير بخس، وهذا لاينافي التفضّل بالعفو عن بعض الذنوب أو بمضاعفة الثواب فوق الاستحقاق، لأن الوفاء بمعنی عدم زيادة عقاب المسيء وعدم بخس المحسن، مثلاً عامل تعاقد علی مائة، فإذا أعطاه صاحب العمل مأتين قيل: وفّاه أجره وزاده من فضله، وإذا أجرم أحد وکان الحکم الحبس عشر سنوات فتمّ التخفيف إلی خمسة فيقال: نال عقابه وتمّ التفضّل عليه، وفي قوله: {مَّا كَسَبَتْ} إشارة لذلک أيضاً، لأن الفضل ليس مما کسبت ولا منافاة بينهما.

وقوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} في مجمع البيان: وفي هذه الآية دلالة علی فساد قول المجبّرة: أن الله لو عذّب أولياءه لم يکن ذلک ظلماً! لأنه قد بيّن أنه لو لم يوفّها ما کسبت لکان ظلماً(2).

ص: 493


1- سورة الإسراء، الآية: 33.
2- مجمع البيان 2: 644.

الثالث: قوله تعالی: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَٰنَ اللَّهِ...} الآية.

شروع في بيان کيفية الجزاء الأوفی، فالمؤمنون طلبوا رضوان الله تعالی فيجازيهم بالدرجات، وأما العصاة فقد فعلوا ما أوجب سخطه سبحانه فکان جزاؤهم جهنم.

وفي الآية تحريض علی الثبات والإطاعة بأنهما طلب رضاه تعالی، وتحذير من الهزيمة والعصيان بأنهما سبب لسخطه.

قوله: {أَفَمَنِ} الاستفهام للإنکار، والمراد بيان الفرق بين الفريقين.

قوله: {اتَّبَعَ} بمعنی اقتفاء الأثر، ويدل علی التبعية اکثر من (تَبَع)، لأن من معاني باب الافتعال: المبالغة في طلب الشيء، أو شدة طلبة والمعاناة فيه، وهکذا طلب رضوان الله تعالی محفوف بالصعوبات والمعوّقات من النفس والدنيا والشياطين وغيرهم.

وقوله: {رِضْوَٰنَ اللَّهِ} أي ما يوجب رضاه وهي الأعمال الصالحة، أو طلب نفس الرضوان وذلک عبر الطاعة وترک المعصية، وأشرف من اتّبع رضوان الله تعالی الأئمة (عليهم السلام) کما سيأتي بيانه.

وقوله: {كَمَنۢ بَاءَ} أي رجع إلی أهله من الغزوة منهزماً أو حاملاً ثقل الذنوب، ولا يخفی لطف التعبير حيث عبّر عن المؤمنين بأنهم يتبعون رضوان الله، وعبّر عن العصاة بأنهم باؤوا بسخطه سبحانه، لأن العصاة لايطلبون غضبه غالباً، وإنما يطلبون ما فيه هواهم وذلک يؤدي إلی سخطه.

وقوله: {بِسَخَطٖ} وهو الغضب الشديد المقتضي للعقوبة.

ثم إنه تعالی بيّن جزاء من باء بالسخط، في قوله: {وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ

ص: 494

الْمَصِيرُ} وأما جزاء المؤمن المتبع لرضوانه تعالی فقد تمّ بيانه في الآية التالية:

الرابع: قوله تعالی: {هُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعْمَلُونَ}.

أي لمن اتبع رضوان الله، ثواب جزيل منه تعالی، لکن هذا الثواب مختلف في الزيادة، فکلما کانت العقيدة أقوی والعمل أصح کانت الدرجة أرفع.

قوله: {هُمْ} الضمير يرجع إلی من اتبع رضوان الله.

وقيل: ويمکن ارجاعه إلی کلا الفريقين: المطيعين والعصاة! لکنه بعيد، لأن الدرجة تستعمل عادة في الثواب، ولذا اضطروا إلی القول بأنها تشمل الدَرَکات تغليباً، وهو محل تأمل.

والحاصل أن قوله: {دَرَجَٰتٌ} قرينة علی أنّ مرجع الضمير إلی المؤمنين فقط.

وقوله: {دَرَجَٰتٌ} أي مراتب في الارتفاع والعلو، قيل: هو بمعنی ذوو درجات، وقيل: هو تشبيههم بالدرجات للتفاوت بينها فبعضها أعلی من بعض کذلک هؤلاء.

وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي يراها، وهذا کالعلة لکونهم درجات لأن أعمالهم ونياتهم تختلف شدة وضعفاً فلذلک اختلفت درجاتهم، وفي التقريب: فلا يزهد الإنسان في الإحسان لأن الناس لا يُقدّرونه، ولا يجري العاصي في عصيانه لأنهم لايرونه، فالکل مرئي لله تعالی(1).

وأيضاً تدلّ الآية علی أن نيل الدرجات ليس علی التوهم بل العمل.

ص: 495


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 413 (بتصرّف).

وقد سأل عمار الساباطي الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الآية فقال (عليه السلام) : الذين اتبعوا رضوان الله هم الأئمة، وهم - والله يا عمار - درجات للمؤمنين، وبولايتهم ومعرفتهم إيانا يضاعف الله لهم أعمالهم ويرفع الله لهم الدرجات العلی(1).

وذلک لأن الأئمة (عليهم السلام) في أعلی درجات القرب والرضوان والثواب، وهم الميزان، فکلّما کان المعرفة بهم أشد واتّباعهم أکثر ارتفعت درجات المؤمنين بتلک النسبة، وکلّما کانت المعرفة والاتباع أقل انخفضت تلک الدرجات، فقوله (عليه السلام) «هم والله يا عمّار درجات للمؤمنين» بمعنی أنهم (عليهم السلام) الميزان للمؤمنين، ولذلک وضّحه بالعطف التفسيري بقوله: «وبولايتهم ومعرفتهم ايانا...» الخ، والولاية بالمحبة والاتّباع والنصرة، والمعرفة بالعلم بمنزلتهم ومقامهم، وهما متلازمان في الجملة، وهما يزيدان من قيمة العمل ومن قابلية العامل لزيادة الفضل.

وفي المناهج: فاختلاف الدرجات ومنشأ ارتفاعها إنما هو العلم بالحقائق والمعارف الواقعية، والعمل بالصالحات، ومعرفة الأئمة (عليهم السلام) من أجلّ العلوم والمعارف القرآنية، وولايتهم من أفضل الصالحات، لأنها تنتهي إلی ولاية الله، فإنه لا ولاية لأحد عند الله إلاّ ولاية أوليائه والتبرّؤ من أعدائه(2).

الخامس: قوله تعالی: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.

هذه الآية تبيّن أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) نعمة عليهم، وباتّباعه يخرجون من ظلمات الضلال إلی نور الهداية فلا يجوز أن يسيئوا الظن به ولا أن يرموا عليه

ص: 496


1- الکافي 1: 356.
2- مناهج البيان 4: 139.

أخطائهم، وقد قال تعالی: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}(1)، فکيف باتهام سيد الخلق الذي بعث رحمة للعالمين وقد بيّن وجه الصواب لکنهم عصوه ثم يرمونه بنتائج أعمالهم؟

قوله: {لَقَدْ مَنَّ} «المِنّة» النعمة العظيمة، تارة تکون بالفعل، فيقال: منّ فلان علی فلان: إذا أثقله بالنعمة، وذلک علی الحقيقة لايکون إلاّ لله تعالی، وتارة يکون ذلک بالقول، وذلک مستقبح فيما بين الناس إلاّ عند کفران النعمة، ولقبح ذلک قيل: المنّة تهدم الصنيعة، ولحسن ذکرها عند الکفران قيل: إذا کفرت النعمة حسنت المِنّة کذا في المفردات(2)، وقد تُعرّف المنّة القولية بأنها التذکير بالنعمة علی وجه الاستعلاء، فيکون ذلک خاصاً بالله تعالی.

قيل: إن کل نِعم الله تعالی علی الإنسان هي مِنن منه تعالی، لکنه سبحانه لم يُمن علی المؤمنين إلاّ بنعمة الهداية وإرسال الرسل، لأن الإرسال صلاح الدين والدنيا والآخرة وإکمال للبشرية حسب قابلياتهم.

بل إنه تعالی لايسأل عنها ولا يحاسب إذا لم تصرف في الحرام، کما ورد في تفسير قوله تعالی: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(3)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إن الله عز وجلّ أکرم وأجلّ أن يطعمکم طعاماً فيسوّغکموه، ثم يسألکم عنه، ولکن يسألکم عمّا أنعم عليکم بمحمّد وآل محمد صلی الله عليه وعليهم»(4).

ص: 497


1- سورة النساء، الآية: 112.
2- مفردات الراغب: 777 (بتصرّف).
3- سورة التکاثر، الآية: 8.
4- الکافي 6: 280؛ البرهان في تفسير القرآن 10: 398 فما بعد.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «إنما يسألکم عمّا أنتم عليه من الحق»(1).

حول مِنّة الله تعالی علی عباده

والحاصل أن الله منّ علی الإنسان بالنعم الجِسام، ثم مَنّ عليه قولاً في خصوص الهداية، ثم لا يسأل يوم القيامة عن سائر النِعم المسوغة التي صرفها الإنسان في الحلال وإنما عن خصوص الهداية.

ثم إنه يستفاد من قوله: {مَنَّ} أمران:

1- إن إرسال الرسل فضل من الله تعالی لا أنه واجب عليه، فکان يمکنه خلق الناس کالحيوانات، لکن حکمته اقتضت المنّ عليهم بنعمة العقل ثم إرسال الرسل ليثيروا لهم دفائن العقول ويعلموهم ما لا طريق للعقل إليه، وبذلک يکملوا لينال کل أحد الجزاء بالمقامات العالية حسب قابليته وطاعته، وحيث کان ذلک مِنّة حَسُن صُنعه فضلاً منه تعالی.

فيلزم أن تُری النعم جميعاً مجتمعة، لا أن نُجزّءها ثم نحکم بالوجوب عليه في بعضها، بمعنی أن علينا أن ننظر بشکل مجموعي إلی نعمة الخلق ونعمة العقل ونعمة الهداية بإرسال الرسل وکذلک سائر النعم وحينئذٍ نری جميعها مِنن من غير وجوب عليه تعالی، نعم لمّا نظر بعض المتکلمين إلی هذه النِعم نظرة متجزأة ذهبوا إلی وجوب الهداية عليه، لأنه لولاها کان الخلق عبثاً، والله يتعالی عن العبث والقبيح!! فهؤلاء جزّؤوا نعمه بأن نظر إلی أصل الخلق بنظرة منفصلة وبعد ذلک حکموا عليه بوجوب الهداية، وهذا خطأ منهجي، والله العاصم.

2- إن العقل هو أداة الإنسان لتمييز الصالح عن غيره، لکنه لوحده

ص: 498


1- الکافي 6: 280؛ البرهان في تفسير القرآن 10: 398 فما بعد.

لايکفي، بل لابدّ مِن أن يقترن بالعلم، فالعاقل الذي لايعلم بخطر محدق به لايتخذ الإجراءات اللازمة کالهرب مثلاً، ولذا لابد من اقتران العقل بالعلم، وذلک العلم نوعان: فقد يحتاج الإنسان إلی سنوات طوال للوصول إليه عبر التأمل والتجربة وأحياناً بحاجة إلی آلاف السنين، وقد لايتمکن الإنسان من الوصول إليه بنفسه أبداً، فکان من لطف الله تعالی علی الأنام بأن أرسل الرسل حتی يختصروا الطريق في النوع الأول ويتمکنوا من الوصول إلی النوع الثاني.

قوله تعالی: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} هي مِنة عامة لکن خصّ المؤمنين بالذکر لأنهم المستفيدون، أو لتحريضهم لزيادة الاتّباع، أو لأنه صار نقمة علی الکفار بسوء اختيارهم.

السادس: قوله تعالی: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ...} الآية.

مضی بعض الکلام في تفسير الآية 129 و151 من سورة البقرة، فراجع.

والآية تتضمن بيان نِعم جِسام وهي:

1- {بَعَثَ فِيهِمْ} وهذه نعمة عظيمة، بمعنی أن الله شرّفهم بأن أرسل لهم ما يُصلح أمورهم، ولم يترکهم هملاً، فأن يُرسل العالي رسالة إلی الداني مفخرة وعزة، ولذا تری الناس يفتخرون برسالة عظيم لهم، کيف والمرسل هو الله تعالی والمرسل إليه هم المخلوقون المملوکون له سبحانه.

2- {رَسُولًا} فلم يکن البعث مجرد إرسال قرطاس فيه التعاليم، کما طلب ذلک بعض المشرکين، بل کان ذلک عبر رسول، وهذا زيادة في التشريف، ومزيد في سبب الهداية.

ص: 499

3- {مِّنْ أَنفُسِهِمْ} أي من البشر يرونه ويقتدون به ويتعلمون منه، ولم يکن من الملائکة حيث إن ترکيبتهم تختلف عن ترکيبة البشر فلا يمکن الاقتداء بهم، إلاّ لو ظهروا بشکل بشر قال تعالی: {وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}(1) فأيّ حاجة إلی التلبيس بأن يکون ملکاً ملبساً بصورة البشر بعد إمکان إرسال بشر مباشرة.

4- {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ} أي القرآن، أو البراهين والدلائل، يذکّرهم بما في فطرتهم ويثيرلهم دفائن عقولهم، والأول - أي کون المراد من الآيات القرآن - أنسب.

5- {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهّر نفوسهم وقلوبهم وأجسادهم وأعمالهم من الرجس والرين، بوعظه وإرشاده وبما يعلّمهم من الأحکام.

6- {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ} أي يفسّر لهم القرآن وما فيه من المعارف والحقائق.

7- {وَالْحِكْمَةَ} أي إحکام الأمور وذلک بوضع الأشياء في مواضعها، ومنه تعليم الشريعة والأخلاق والآداب ونحوها.

قوله: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} وهذا يزيد النعمة کالماء بعد العطش والطعام بعد الجوع الشديد.

والحاصل: إن هذه النِعم العظيمة التي جمعها الله تعالی في إرسال رسوله کان لابد لهم من شکرها بإطاعة هذا الرسول وتوقيره والاعتذار منه عند مخالفتهم إياه، لا أن يقابلوها بالکفران، فما فعلوا يوم أ ُحد کان کفراناً،

ص: 500


1- سورة الأنعام، الآية: 9.

فلابد لهم من تصحيح أمورهم.

السابع: قوله تعالی: {أَوَلَمَّا أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا...} الآية.

رجوع لتذکيرهم بأن الهزيمة کانت بسبب عصيانهم، وتذکير لهم بأنهم لما أطاعوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في غزوة بدر انتصروا انتصاراً عظيماً کان ضِعف انتصار المشرکين في غزوة أحد.

أو لمّا ذکر تعالی أنهم من قبل کانوا في ضلال مبين أراد تحذيرهم من الارتداد والانقلاب علی الأعقاب، فلا زال آثار ذلک الضلال موجود، ولحدّ الأن لم تنتفعوا الانتفاع الکامل من بعث الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فعليکم الزيادة في الاهتداء من نوره.

وقوله: {قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} حيث قتلوا سبعين من المشرکين وأسروا سبعين في غزوة بدر، وأما في غزوة أ ُحد فقد قُتِل من المسلمين سبعون فقط.

وقوله: {أَنَّىٰ هَٰذَا} استفهام علی سبيل الإنکار، أي کيف قُتلنا وقد وعدنا الله النصر؟ أو کيف لم ينصرنا الله ونحن مسلمون وهم کفّار.

وقوله: {قُلْ هُوَ...} بيان لأمرين إجابة عن سؤالهم واستنکارهم.

1- إنکم سبب الهزيمة حيث خالفتم أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) .

2- إن الله لم يعجز عن نصرکم حيث إنه علی کل شيء قدير، وإنما خذلکم بترک نصرکم عقوبةً لکم علی مخالفتکم.

وقد روي أن الحُکم الابتدائي في أسری بدر کان القتل، فاختار المسلمون الفداء، وشرط عليهم أنکم إن قبلتم الفداء قتل منکم في القابل

ص: 501

بعدتهم، فقالوا رضينا بذلک فإنا نأخذ الفداء وننتفع به، وإذا قتل منا فيما بعد کنّا شهداء(1).

فالمعنی أن استشهاد هؤلاء کان بسبب اختيارکم أنتم في بدر فکيف تستنکرون الآن ذلک؟ ويؤيده أنهم تمنّوا الشهادة يوم بدر کما قال تعالی: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ}(2)

کما مرّ، فحيث أرادوا أخذ الفدية من أسری بدر وکان ذلک محبوباً لهم، کما أنهم تمنوا الشهادة وکانت محبوبة لهم فقبلوا الشرط حيث جمعوا محبوبين المال والشهادة في العام القابل.

لکن من المعلوم أن الإنسان قد يتمنی الأمر المحبوب الصعب، لکنه مجرد لقلقة لسان أو خاطرة في القلب، فإذا جدّ الجدّ تبيّن عدم صحة تمنّيه، فهکذا حال کثير من الناس يحبون الثواب والمقامات العالية ويتمنون التضحية لأجل الوصول إليها، لکن حين العمل ينکصون علی أعقابهم.

ص: 502


1- التبيان في تفسير القرآن 3: 40.
2- سورة آل عمران، الآية: 143.

الآيات 166-168

اشارة

{وَمَا أَصَٰبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَٰكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَٰنِ يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ قُلْ فَادْرَءُواْ عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (168)}

القسم السابع: المنافقون الذين لم يشاركوا في الغزوة

166- ثم يعطف الله تعالی الکلام إلی موقف صنف آخر حول غزوة أ ُحد وهم المنافقون الذي رجعوا قبل الغزوة، ومهّد لذلک تمهيداً فيه ردّ لکلامهم وموقفهم فقال: {وَمَا أَصَٰبَكُمْ} من القتل والجرح {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} المسلمون والمشرکون يوم أ ُحد {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} إذنه التکويني الذي هو إيجاد الأشياء فالله أنزل المصيبة عليکم عقوبة أو تمحيصاً.

وهناک فائدة أخری: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أي ليظهر ما علمه الله وذلک بتمييز المؤمنين من غيرهم.

167- {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} بفعلهم حيث انخزلوا يوم أ ُحد، وکانوا ثلاثمائة رجل مع رأسهم عبد الله بن أبي، {وَ} کفروا بقولهم قبل القتال وبعده، أما قبل القتال فقد {قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ} مع المسلمين إلی الغزوة

ص: 503

و{قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ} عن بلدکم وأهلکم وأموالکم ف {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا} أي ليس هذا قتالاً بل هو إلقاء النفس في التهلکة إذ کان عليکم أن تتحصنوا في المدينة {لَّاتَّبَعْنَٰكُمْ} في الخروج إلی أ ُحد، وهؤلاء بفعلهم النفاق وبقولهم هذا {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ} يوم نافقوا وقالوا قولتهم {أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَٰنِ} لأنهم أظهروا کفرهم الباطني حيث إن المنافق يتظاهر بعمل المسلمين، لکنهم هنا لم يتظاهروا فکانوا أقرب إلی الکفر عملاً بعد کونهم کفاراً قلباً، {يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم} بإظهار الإسلام {مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} التي أحاط بها الکفر، أو قولتهم هذه يعلمون کذبهم فيها، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} فيجازيهم عليه، وهذا تحذير منهم، أو لبيان أن التمييز ليس لأجل أن يعلم الله بل لأجل أن يظهر علمه إذ هو أعلم بهم وبما في قلوبهم.

168- وأما نفاقهم بقولهم بعد القتال فهُم {الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ} أي حول إخوتهم في النسب وهم المؤمنون الذي استشهدوا في المعرکة {وَقَعَدُواْ} أي والحال أن هؤلاء المنافقين لم يجاهدوا، قالوا رجماً بالغيب: {لَوْ أَطَاعُونَا} بعدم الخروج عن المدينة {مَا قُتِلُواْ} کما نجونا نحن! {قُلْ} دحضاً لشبهتهم: إن کان الموت بأيديکم {فَادْرَءُواْ} ادفعوا {عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ} حين يأتيکم {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} في أن قعودکم کان سبباً لبقائکم.

بحوث

الأول: تتضمن هذه الآيات بيان موقف طائفة أخری من غزوة أ ُحد وهم المنافقون الذين لم يشارکوا في المعرکة ورجعوا عنها، وذلک لأن رسول

ص: 504

الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قد استشار أصحابه، فأشار عبد الله بن أبيّ بالتحصّن بالمدينة، وأشار الأکثر بالخروج إلی أ ُحد، فرَجّح الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الرأي الثاني، فخرج الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وانخزل عبد الله بن أبي وثلاثمائة معه مثبطين الباقين بحيث کاد يتبعه طائفتان من المسلمين، وقد مرّ تفصيله في تفسير الآية 122، فلما انهزم المسلمون وجد المنافقون ذريعة للهجوم وتکذيب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فأتبعوا کلامهم السابق بکلام آخر هو في صورة الشفقة والتأسف علی القتلی لکن واقعه تکذيب ودعوة إلی الارتداد.

والله تعالی يمهّد لردّهم وبيان نفاقهم بجواب عن شبهتهم، وهو من بديع الأسلوب، حيث تُردّ الشبهة قبل بيانها، لئلا تستمکن في النفوس إن ذکرت أولاً، وذلک لأن الأذهان قد تکون فارغة وقد تتقبل أول ما يُلقی إليها بحيث يصعب اِقتلاعه بعد ذلک، ولذا قد يکون ذکر الشبهة أولاً هو سبب قبولها من بعض أصحاب النفوس الضعيفة بحيث لايمکن اقتلاعها بعد ذلک بالجواب الصحيح، فلابد حينئذٍ من ذکر الجواب أولاً أو التمهيد له، وبعد ذلک يتم ذکر الشبهة ثم الرجوع إلی جوابها مرة أخری بالجواب السابق أو بجواب جديد، وهذا من دأب القران الکريم في تفنيد کثير من الشبهات.

الثاني: قوله تعالی: {وَمَا أَصَٰبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}.

بيان لحقيقة وهي أن کل شيء ومنه المصائب ومنها مصائب يوم أ ُحد کلّها بإذن الله تعالی، لأنّه المالک والمدبّر والمهيمن، فلا يقع شيء في ملکه إلا بإذنه، والمراد هنا الإذن التکويني، وهذا الاذن قد يُراد به الخذلان أي ترککم وشأنکم ولم يمنع الکفار عنکم، وقد يراد به الايجاد أي إن الله

ص: 505

تعالی أنزل المصائب عليکم من الهزيمة واستشهاد سبعين وجرح آخرين، نعم إنه حکيم فهذا التدبير کان بسبب عصيانکم، فأراد تعالی عقوبة العصاة وتمحيص المؤمنين واتخاذ شهداء وتعليمکم الأمور، وفي الحقيقة هذه الآية کالتتمة للآية السابقة، فإنه تعالی حيث قال: {هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} أراد أن لايتوهم أحد التفويض الکامل بحيث يعزل الله تعالی عن ملکه بزعمه، بل بيان أن العصيان سبب تقدير الله تعالی لعقوبة العصاة وقد يکون ذلک بشکل مصائب، فکل الأمور بتقدير وقضاء منه تعالی لکن ليس ذلک بمعنی الجبر أيضاً فللإنسان الاختيار وبحسب ما يختار يُجازي، وهذا هو معنی (الأمر بين الأمرين) المذکور في الروايات الشريفة(1).

الثالث: قوله تعالی: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ}.

هذا إما استيناف لبيان فائدة أخری من فوائد غزوة أحد، حيث تمّ تمييز المؤمنين عن المنافقين، وقبل ذلک لم يکونوا مُمَيَّزين لعدم مرورهم بامتحان صعب يظهر به حقيقة کل شخص، فلم يکن قبل ذلک إلا غزوة بدر وکان النصر فيها کاسحاً بما لايترک مجالاً لإظهار نفاق أيِّ منافق، بل لعلّ کل منافق کان يريد أن يکون له سهم من النصر، وکما في المثل (للانتصار ألف أب والهزيمة يتيمة).

أو عطف علی {هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}، فيکون ذاک لبيان سبب المصيبة، وهذا لبيان الغاية منها.

أو عطف علی {بِإِذْنِ اللَّهِ} وذلک لبيان سبب هذا الإذن.

ص: 506


1- الکافي 1: 158.

أو عطف علی قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} أي الله قادر ويريد أن يظهر علمه.

وفي معنی قوله: {وَلِيَعْلَمَ} وجوه ثلاثة:

1- أن يکون العلم بمعنی التمييز، بوضع السبب موضع المسبّب، لأن العلم سبب للتمييز، فالمعنی إن الله کان يعلم أزلاً فأراد أن يميز بينهم خارجاً.

2- أو بمعنی ليظهر ما علمه الله أزلاً، بمعنی أن الله شاء أن تعلموا أنتم أيضاً بما هو عالم به فجعل غزوة أ ُحد سبباً لعلمکم، قال تعالی: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٖ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}(1).

3- أو بمعنی ليتحقق معلومه خارجاً، أي عَلِم أزلاً بأن هؤلاء سينافقون فأراد أن يتحقق المعلوم خارجاً.

وليس بمعنی حدوث العلم له سبحانه، لأنه منزه عن الجهل، فهو عالم بما کان قبل کونه، وعالم بما لم يکن، ولا حدود لعلمه تعالی.

والحاصل: إن هذا الامتحان العسير صار سبباً لظهور إيمان المؤمنين بصبرهم وثباتهم وحسن معتقدهم، ولظهور نفاق المنافقين بانخزالهم وبأقوالهم.

وقوله: {الَّذِينَ نَافَقُواْ} ولم يقل المنافقين کما قال: {الْمُؤْمِنِينَ}، لعلّه لأجل أن أکثرهم لم يکونوا منافقين، لکنهم نافقوا حينذاک، بمعنی أنهم أسلموا في البداية لا عن إيمان مستحکم وإنما أسلموا مع الناس عامة فلم يکونوا مؤمنين لعدم کون إيمانهم عن قناعة، ولم يکونوا منافقين لأنهم لم يبطنوا الکفر، بل کانوا مسلمين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، لکن هذا

ص: 507


1- سورة البقرة، الآية: 255.

الموقف الصعب جعلهم ينافقون بأن يبطنوا الکفر، عکس الثابتين الذين آمنوا من البداية ولم تکن الغزوة إلا سبباً لزيادة إيمانهم ولذا عبّر عنهم بالمؤمنين.

ويحتمل أن يکون قوله: {نَافَقُواْ} بيان لزيادة نفاقهم، أي هؤلاء کانوا منافقين، والمصيبة يوم أ ُحد زادتهم نفاقاً، قال تعالی: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَٰنًا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ}(1).

الرابع: قوله تعالی: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ}.

بيان لصفة أخری من صفات المنافقين بعد ذکر تخاذلهم وذلک بطعنهم في المؤمنين وتحيّن الفرض للايقاع بهم وإلقاء الشبهات خاصة حين المصائب، وهذا دأب المبطلين عادة حيث يحاولون ربط انتکاسات المؤمنين بدينهم، وربط انتصارات الکفار بطريقتهم، وهو استغلال حالة الضعف النفسي، في المهزوم لإلقاء الباطل، عکس المؤمنين الذي ينتهزون الفرص للتذکير بالفطرة واستثارة العقول وتقريب الناس إلی الحق، فلا يربطون القضايا إلاّ بعللها الواقعية.

وقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ} عطف علی نافقوا، وفي الحقيقة إن العطف هو في {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا} أي الذين نافقوا وقالوا کفراً، لکن قدّم {وَقِيلَ لَهُمْ...} للتمهيد لأن قولهم کان جواباً لهذا القول، فالمعنی نافقوا بعملهم بعدم المشارکة في الجهاد کما أنهم قالوا کلمة الکفر بأفواههم، ومن ذلک يتضح

ص: 508


1- سورة التوبة، الآية: 124-125.

أنه عطف کفر قولي إلی نفاق عملی، کما قال تعالی في وصف المنافقين: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَٰمِهِمْ}(1).

وقوله: {أَوِ ادْفَعُواْ} يدل علی محبوبية القتال دفاعاً عن النفس والأهل والمال حتی لو لم يکن بقصد القربة، وهذا وإن لم يکن جهاداً وليس فيه أجره، إلاّ أنه حسن عقلاً حيث إنه دفع للظلم ودفاع عن النفس وما يتعلّق بها تجاه المعتدي، ومحبوب شرعاً بدلالة هذه الآية وغيرها، وقد يتفضل الله عليه بالثواب کما يظهر من بعض الأخبار کقوله: «المقتول دون ماله شهيد»(2)،

وقوله: «من قتل دون عياله فهو شهيد»(3). لکنه لايبلغ ثواب المجاهد في سبيل الله تعالی.

فيکون نظير الأمور التوصلية المحبوبة شرعاً التي لايشترط فيها قصد القربة، کالکدّ علی العيال لتحصيل الرزق وکالنظافة وغيرها التي حث عليها الدين واستحبّها ولم يشترط فيها قصد القربة، نعم لو أمکن قصد القربة وقصدها کان ثوابه مضاعفاً.

سؤال: هؤلاء المنافقون کانوا قد أمنوا جانب الکفار فکيف يقال لهم {ادْفَعُواْ}؟

والجواب: إن المنتصرين في الحروب لا يميزون عادة بين من کان معهم ومن لم يکن، فإذا فتحوا مدينة نهبوها ونکّلوا بأهلها من غير تمييز

ص: 509


1- سورة التوبة، الآية: 74.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 132.
3- تهذيب الأحکام 6: 157.

عادة، وفي المدينة کان منافقون بکثرة وقد انخزل معهم قبل المعرکة ثلاثمائة ولهؤلاء بيوت مبثوثة في المدينة وبعضهم غير معروف للکفار کما أن جيش الکفار کان متشکّل من أصناف مختلفة وفيهم الرعاع والأحباش وحتی أشرافهم کانوا جشعين، فلم يکن هناک ضمان للمنافقين أبداً لو کان الکفار يستولون علی المدينة.

وحتی في عکس ذلک في جيش الإسلام بقيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وانضباط الجيش لم يکن هناک أحياناً ضمان من بعض أفراد الجيش، ولذا أمر الله تعالی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بالصلح في الحديبيّة لحفظ المسلمين المتخفين في مکة فقال: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَُٔوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيْرِ عِلْمٖ}(1) أي لأذن الله لکم في قتال أهل مکة يوم الحديبيّة.

الخامس: قوله تعالی: {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَٰكُمْ...} الآية.

والمعنی إنهم قالوا ليس هذا قتال بل هو إلقاء للنفس في التهلکة، وذلک لأن عبد الله بن أبيّ کان يری لزوم البقاء في المدينة والتحصّن بأسوارها أو قتالهم في أزقتها لخوفه من قوة المشرکين وکثرة عددهم وعدتهم، ولکن أکثر المسلمين کانوا يرون الخروج فرجّح الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الرأي الثاني، فما کان من عبد الله بن أبي والمنافقين معهم إلاّ أن رجعوا قبل المعرکة خوفاً من المشرکين، فلما قيل لهم: تعالوا للقتال، قالوا: لايصح أن يُسمّی هذا قتالاً، بل هو تهلکة، وذلک لأن (القتال) مصدر باب المفاعلة، وهو ما يکون بين طرفين أي يقتل هذا من ذاک ويقتل ذاک من هذا، فزعم المنافقون أن

ص: 510


1- سورة الفتح، الآية: 25.

معرکة أ ُحد ليست قتالاً بل هي قتل من طرف واحد أي سيحصد المشرکون کل المسلمين!!

وقوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ...} لأنهم عصوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وترکوا فريضة الجهاد التي هي من أعظم الفرائض، والمنافقون يبطنون الکفر لکنهم يتظاهرون بالإسلام فيؤدون الفرائض العلنية خداعاً للمؤمنين، فإذا ترکوا الفرائض علناً کان ذلک إظهاراً لکفرهم، وبعبارة أخری المنافق يقع في نقطة الوسط فقلبه کافر مع الکفار وعمله مع المسلمين کما قال تعالی: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلًا}(1)، لکن إذا ترک فريضة علناً ترجّح جانب الکفر عنده.

أو المعنی هم لأهل الکفر أقرب منهم لأهل الإيمان، لأن فعلهم بترک الجهاد وقولهم تثبيطاً للمؤمنين کانا تقوية للمشرکين.

وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَٰهِهِم...} إنما ذکر الأفواه مع أن القول لايکون إلا من الفم، لتأکيد نفي تساوي قلوبهم مع أقوالهم، أي هذا القول لم يخرج من القلب وإنما منحصر باللسان ففي أفواههم الإيمان وقلوبهم خالية منه.

ويمکن أن يکون المراد أن قولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا...} لايعتقدون به وإنما يذکرونه فراراً من المشارکة في القتال، أو عناداً للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حيث خالف رأيهم في عدم الخروج، کما قال تعالی: {وَيَسْتَْٔذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}(2).

ص: 511


1- سورة النساء، الآية: 143.
2- سورة الأحزاب، الآية: 13.

وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}.

کالتفسير لقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ}، فليس الاختبار لأجل أن يعلم بل أن يظهر علمه کما مضی.

وقوله: {أَعْلَمُ} بصيغة أفعل التفضيل إما بمعنی أعلم من أنفسهم بنفاقهم لأن الإنسان قد يغفل عمّا يکتمه أو عن بعض تفاصيله لکن الله تعالی محيط بهم، أو بمعنی أعلم من المسلمين بهم، لأنه تعالی يعلمه مفصلاً بإحاطته، والمسلمون يعلمونه إجمالاً وبالقرائن.

السادس: قوله تعالی: {الَّذِينَ قَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمْ وَقَعَدُواْ...} الآية.

هذا قولهم بعد المعرکة کما أن الآية الماضية ذکرت قولهم قبل المعرکة، فلما انهزم المسلمون وقتل منهم سبعون استغل هؤلاء المنافقون المصيبة لبيان صحة موقفهم فأظهروا نفاقهم بصورة تأسف وتحسّر علی الشهداء الذين قتلوا في المعرکة.

قوله: {لِإِخْوَٰنِهِمْ} أي حول إخوانهم القتلی، أو قالوا لإخوانهم الأحياء الناجين من المعرکة وضمير أطاعونا وقتلوا يرجع إلی القتلی من باب الاستخدام.

وقيل: إنما ذکر أخوتهم لهم ليکون مع انضمام قوله: {وَقَعَدُواْ} أوقع تعيير وتأنيب عليهم، فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتی أصابهم ما أصابهم من القتل.

وقوله: {وَقَعَدُواْ} أي ذمّوا الشهداء مع خذلانهم لهم، فأضافوا رذيلة الذم إلی رذيلة القعود.

ص: 512

وقوله: {فَادْرَءُواْ عَنْ أَنفُسِكُمُ...} هذا جواب علی شبهتهم، وحاصله أن أسباب الموت کثيرة ولا تنحصر في الجهاد، کما أن أسباب النجاة متعددة فلا تنحصر في القعود، فأکثر المجاهدين رجعوا بالسلامة حيث کانوا سبعمائة استشهد منهم سبعون، کما أن أکثر القاعدين لم يموتوا وقد روي أنه مات بعضهم في ذلک اليوم.

بل کان لابد للقتال أن يقع سواء خرج المسلمون أم تحصنوا في المدينة وقاتلوا في أزقتها، فهل کان يضمن المنافقون عدم قتلهم لو کان الرأي رأيهم بالبقاء في المدينة؟

بل قد يکون العکس بأن يُدفع العدو بالقتال، ويغلب العدو بالقعود فيَغلب ويَقتل.

والحاصل: إن الموت والحياة بيد الله تعالی، وقد قضی الموت علی الجميع فأن يموتوا وهم ممتثلون لأمره تعالی خير لهم من أن يموتوا وهم عصاة.

وقيل: المعنی إذا کنتم قادرين علی دفع الموت عمّن کتب عليه القتل لو تبع نصائحکم المزعومة، فادرؤوا عن أنفسکم الموت فإن ذلک أحری لکم، لکنکم غير قادرين علی دفع الموت عن أنفسکم وهي أعز عليکم من أيّ نفس أخری فکيف تدفعونه عن غيرکم؟!

ص: 513

الآيات 169-171

اشارة

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَۢا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}

القسم الثامن: شهداء غزوة أحد

اشارة

169- ثم يذکر الله تعالی حال طائفة أخری وهم الذين استشهدوا في غزوة أحد، وفيه ردّ علی مقولة المنافقين أيضاً فيقول: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} لا تظن أيها السامع {الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو کل ما شرعه الله تعالی لإقامة الحق ودحض الباطل {أَمْوَٰتَۢا} کسائر الأموات، {بَلْ} هم {أَحْيَاءٌ} بحياة برزخية طيّبة تفوق حياة سائر الموتی، فهم {عِندَ رَبِّهِمْ} في قُربه المعنوی وهذا أکبر النعم، ثم إنهم {يُرْزَقُونَ} بالأکل والشرب ونحوهما.

170- ومرتاحون نفسياً فيما يتعلق بهم وبإخوانهم حالکونهم {فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} شرف الشهادة، {وَيَسْتَبْشِرُونَ} أي يفرحون بالبشارة المتعلّقة {بِالَّذِينَ} بالمؤمنين الأحياء الناجين من المعرکة ف {لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} بالشهداء {مِّنْ خَلْفِهِمْ} بقوا في الدنيا، وتلک البشارة هي {أَلَّا} أن لا {خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من المشرکين فهم في أمان، وهذا ما حدث حيث لم يتمکن

ص: 514

المشرکون من الرجوع لاستئصال المسلمين، {وَلَا هُمْ} الشهداء أو الباقون {يَحْزَنُونَ} فالشهداء لايحزنون ما فقدوه من الدنيا، أو الباقون لايحزنون علی ما أصيبوا به من فقد الشهداء لعلمهم بالکرامة التي نالوها.

171- أولئک الشهداء کما فرحوا بثواب البرزخ کذلک {يَسْتَبْشِرُونَ} بثواب الآخرة: {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} بالثواب الجزيل الموعود {وَفَضْلٖ} زيادة علی ما وُعدوا أو ما توقعوا هذا بالنسبة إلی ثوابهم بأنفسهم، {وَ} کذلک يستبشرون ب {أَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} إخوانهم الذين جاهدوا ولم ينالوا درجة الشهادة.

بحوث

الأول: هذه الآيات الثلاث تتضمن حال الشهداء الذين قتلوا في غزوة أ ُحد وبيان حالتهم الطيّبة في البرزخ وفي الآخرة، وأنهم غير نادمين علی عدم إطاعتهم للمنافقين الذين قالوا عنهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ}، بل الشهداء فرحون لأنفسهم ومستبشرون للمؤمنين الذين لم ينالوا درجة الشهادة، عکس المنافقين الذين هم قلقون علی أنفسهم ويظهرون الأسف علی مقتل إخوانهم، وهم مع ذلک کله لا أجر لهم بل تنتظرهم عقوبة شديدة في البرزخ وفی الآخرة.

الثاني: قوله تعالی: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتَۢا}.

قد مضی بعض البحث في سورة البقرة في قوله تعالی: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُۢ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}(1)، فراجع.

ص: 515


1- سورة البقرة، الآية: 154.

فالمنافقون کانوا يظهرون أسفهم علی إخوانهم لأنهم يزعمون أن الموت هو نهاية کل شيء ويتحول الإنسان بعده إلی جماد! لکن الحقيقة هي أن هناک حياة بعد الموت في البرزخ وفي الآخرة، والمؤمنون منعّمون في البرزخ، فأيُّ ضير علی الشهداء بانتقالهم إلی حياة طيّبة خير من هذه الحياة الدنيوية.

قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} أي لاتزعم أيها السامع، أو الخطاب موجّه إلی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) من باب (إياک أعني واسمعي يا جارة).

معنی الشهيد

وقوله: {الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} کل الآيات التي تتحدث عن الشهداء عبرت عنهم بهذا التعبير، واصطلاح الشهيد في القتيل في سبيل الله حقيقة متشرعيّة، ولذا لابد من حمل لفظ الشهيد في القرآن علی معناه اللغوي أي الشاهد، وفي الروايات علی معناه الاصطلاحي أي القتيل في سبيل الله.

ولعل سبب التأکيد علی هذه اللفظة في القرآن الکريم لبيان أن الأجر إنما يکون لکون القتل في سبيله تعالی، فمن قتل لا لإيمانه ولا في طريق الله تعالی أو کان جهاداً ولکن کانت نيته أمراً آخر ليس له هذا الأجر، فلا بد لتحقق کونه في سبيل الله أن يکون سبب الشهادة أمراً دينياً مرضيّاً لله تعالی، وأن يکون غرض الشخص هو ذلک الأمر الديني، فالمقتول لأمر دنيوي - حتی لوکان حسناً کالدفاع عن المال أو العرض - لا يقال له مقتول في سبيل الله، وکذلک من شارک في الجهاد لا لأجل الدين بل بطمع الغنيمة مثلاً فقتاله ليس في سبيل الله بل في سبيل الغنيمة.

و{سَبِيلِ اللَّهِ} هو کل أمر شرّعه الله تعالی وأمر به، فيشمل الجهاد

ص: 516

والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر والوعظ والإرشاد، ولذا کان شهداء بئر معونة من المقتولين في سبيل الله تعالی، وکانوا سبعين قارئاً للقرآن أرسلهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی نجدٍ ليدعوا الناس إلی الإسلام بعد غزوة أ ُحد بأربعة أشهر، فأغار عليهم المشرکون وقتلوهم، ولعلّ ذلک کان من تداعيات الهزيمة في معرکة أحد، حيث تجرّأ المشرکون علی المسلمين.

ومن مصاديق الآية من قتلوا في ولاية الأئمة (عليهم السلام) ، لأن ولايتهم سبيل الله تعالی، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: هم والله شيعتنا حين صارت أرواحهم في الجنة، واستقبلوا الکرامة من الله عزوجل، علموا واستيقنوا أنهم کانوا علی الحق وعلی دين الله جلّ ذکره، فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم من إخوانهم من خلفهم من المؤمنين(1).

ويحتمل کون الحديث تأويلاً للآية وبيان أن موتی الشيعة کالشهداء، وقد روت العامة والخاصة عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال من مات علی حب آل محمد مات شهيداً(2).

وقوله: {أَمْوَٰتَۢا} قيل: الموت هو بطلان الشعور والفعل، وليس کذلک هؤلاء الشهداء لأن شعورهم موجود وذلک بالفرح والاستبشار، وفعلهم مستمر بالرزق.

نعم الأحياء بالحياة الدنيوية لايشعرون بتلک الحياة کما قال تعالی: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَٰتُۢ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}(3)، وذلک لأن عالم البرزخ غيب بالنسبة إلی من کان في عالم الدنيا، إذ لکل

ص: 517


1- الکافي 8: 156.
2- بحار الأنوار 23: 233؛ تفسير الرازي 27: 165؛ تفسير الثعالبي 5: 157 وغيرها.
3- سورة البقرة، الآية: 154.

عالم وسائل إدراک خاصة به، لذا يری المحتضر ما لا يراه الجالسون عنده قال تعالی: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(1).

الثالث: قوله تعالی: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.

حياة الجسد بالروح، وأمّا الموت فهو انفصال الروح عن الجسد، ولا تموت الروح بل تبقی حيّة إلی نفخ الصور، ثم يُفني الله کلّ شيء، ثم يعيدها يوم القيامة للحساب والجزاء، فجميع الأرواح بعد الموت تبقی حية، إلاّ أن أرواح الکفار معذّبة فلا خير لها في حياتها، وأرواح المؤمنين منعّمة إلا أن أرواح الشهداء في نعمة أکبر من أرواح المؤمنين الموتی الذين يتساوون معهم في الرتبة، فلذا الحياة البرزخية مختلفة فالکافر کالميت والمؤمنون درجات.

النّعَم للشهداء

ثم إن الله تعالی يکرم الشهداء بالنعم الجسمية العظيمة، وهي نعم مادية ومعنوية ونفسية.

1- أما النعمة المعنوية: فهي قربهم لله تعالی قرباً معنوياً لامکانياً - حيث إنه تعالی خالق المکان وهو منزه عن إحاطة المکان به - قال تعالی: {وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}(2).

2- وأما النعمة المادية: فهي رزقهم، فإنهم يأکلون ويشربون ويتنعمون بسائر النعم، وذلک لأن الأحاديث دلّت علی أن الروح حينما تنفصل عن الجسد العنصري، تحلّ في جسد مثالي بصورة الجسد العنصري وهي من

ص: 518


1- سورة ق، الآية: 22.
2- سورة التوبة، الآية: 72.

عالم البرزخ لذلک لا نشعر بها، وأما العامة فقد رووا أنها في حواصل طير خضر(1)

لکن الأئمة (عليهم السلام) ردوا ذلک وبينوا أن المؤمن أکرم عند الله من أن تجعل روحه في حواصل هذه الطيور، بل تجعل في أجسام مثالية إلی يوم القيامة حيث ترجع إلی نفس الأجساد العنصرية التي کانت متعلقة بها في الدنيا وقد ذکرنا تفصيله في شرح أصول الکافي فراجع.

وعلی کل حال فإن المؤمنين منعمون في البرزخ يأکلون ويشربون بأجسامهم المثالية، والکفار معذّبون إلی يوم القيامة.

3- وأما النعمة النفسية: فهي سرورهم بالشهادة، واستبشارهم بإخوانهم المؤمنين الأحياء، واستبشارهم بما سينالونه في الآخرة.

فقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} بيان للثواب المعنوي بالقرب، وقوله: {يُرْزَقُونَ} بيان للنعمة المادية کالأکل والشرب.

الرابع: قوله تعالی: {فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.

بيان للنعمة النفسية، وهو أنهم غير نادمين علی شهادتهم وفقدانهم الحياة الدنيوية ولا يأسفون عليها، عکس الإنسان الذي قد يفقد شيئاً ويعوّض عنه بآخر لکن تبقی نفسه تتوق إلی ما فقده أو يرجّحه علی ما أ ُعطي، کمن يسافر للقاء عظيم فقد يکرمه بأحسن الطعام والشراب ويجعله في قربه، لکن تبقی نفس الرجل مشتاقة إلی الرجوع إلی أهله! وليس کذلک الشهداء بل هم فرحون بالشهادة ولا يرغبون في العودة إلی الدنيا.

وقوله: {فَرِحِينَ} حال أي الرزق مقرون بالفرح، ولذا لم يعطف.

ص: 519


1- الکافي 1: 67.

وقوله: {مَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ} أي الشهادة، وقيل: النعم التي رزقهم الله في البرزخ، أو فرحين بذلک الرزق والقرب، والأول أنسب.

وقوله: {مِن فَضْلِهِ} من غير استحقاق، لأن کل نعمه تعالی فضل علی العباد، وقد مرّ أن الله تعالی أنعم علی الإنسان من غير وجوب عليه ولا حق عليه، بل ابتدأ بالفضل بأن خلقه ثم غمره بالنعم التي لا تُعد ولا تحصی وذلک فضل آخر، ثم أمره ونهاه وشرّع له الدين وذلک فضل ثالث لأن نفعه يعود للإنسان نفسه من غير حاجة لله تعالی، ثم وعده ثواباً علی طاعاته وذلک فضل رابع لعدم استحقاق ثواب عقلاً علی الشکر علی النعم، ثم يزيده علی ما وعده وهو فضل خامس.

ولا يخفی أن الشهادة منزلة عظيمة وبها تُنال الدرجات العلی فتقديرها لأحد فضل من الله عليه، لذا کثرت الأدعية في طلب الشهادة.

الخامس: قوله تعالی: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ}.

وهذا نعمة نفسية أخری، حيث إن الإنسان يهتم بأعزته وأحبابه، ويحب أن لايصيبهم مکروه، ويفرح بما نالوه من خير، ويحزن بما يصيبهم من شر.

و(الاستبشار) استفعال من البشارة، وباب الاستفعال يأتي لمعان(1)، لکن المناسب هنا أحد معنيين:

1- التحوّل، کقولهم استحجر الطين، أي تحوّل إلی حجر، وهذا في واقعه يرجع إلی الطلب فکأنه طلبه، وهذا المعنی مناسب لما نحن فيه، أي حين المعرکة کانوا في قلق علی مصير إخوانهم، لکن بعد الشهادة يتحولون

ص: 520


1- شرح النظام: 152.

إلی سرور وبشارة لمصير المؤمنين الباقين.

2- وبمعنی المجرد مثل قرّ واستقرّ حيث إنهما بمعنی واحد، ويمکن استفادة الزيادة والمبالغة منه، وهذا المعنی أيضاً مناسب أي مسرورين بالباقين.

وليس المعنی هنا طلب البشاره، وذلک لأن الشهداء يعلمون بها کما قال تعالی: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

ولا وجه لحمل الاستبشار علی معنی التمني بأنهم يتمنون أن يعلم إخوانهم الباقون أنهم نالوا هذه الکرامة کما في قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}(1) وذلک لقوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ} حيث عدّاه بالباء ولو کان المراد سؤالهم عن أخبارهم لکانت التعدية بعن أو من.

کما أنه لا وجه لحمل الاستبشار علی التمني، لأنه معنی مجازي ولا وجه للحمل عليه، فقوله تعالی هنا نظير ما قاله في الآية التالية: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٖ} وما قاله في: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ}(2).

والباء إما للتعدية أي استبشارهم تعلق بالباقين، أو للسببية أي استبشارهم کان بسبب الباقين.

والحاصل: إن الآية تبيّن شفقة الشهداء ومحبتهم للمؤمنين الباقين، فالشهداء لم يکتفوا بتقديم أرواحهم بل يحبون دفع الضرر عن الباقين فيبشّرهم الله بذلک.

ص: 521


1- سورة يس، الآية: 26-27.
2- سورة التوبة، الآية: 111.

وفي التقريب: فهؤلاء المقتولون جمعوا بين خيرين: خير أنفسهم حيث تنعموا بنعمة الله سبحانه، وخير إخوانهم الذين من خلفهم حيث علموا بأنهم لاخوف عليهم، وذلک بخلاف من بقي ولم يجاهد، فإنهم جمعوا بين شرين: مشاکل حياة أنفسهم ومشاکل حياة إخوانهم، حيث لا يعلمون ماذا تکون عاقبة أمر أنفسهم وأمر إخوانهم(1).

وفي التبيين: فإن الإنسان إذا کان علی نعمة، وعلم أن إخوانه الذين ليسوا معه لهم مستقبل زاهر يکون في أشد أحوال الفرح والسرور(2).

وفي الکشاف: وفي ذکر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم علی ازدياد الطاعة، والجدّ في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء، وإصابة فضلهم، وإحماد لمن يری نفسه في خير فيتمنی مثله لإخوانه في الله، وبشری للمؤمنين بالفوز في المآب(3).

وقوله: {لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي لم يستشهدوا معهم، فالشهداء سبقوا، والباقون - وإن جاهدوا وأصيبوا - إلاّ أنهم لم يلحقوا بالشهداء، وکأنّ فيه إشعاراً بأنّ علی الباقين أن يأسفوا لفوت سعادة الشهادة عنهم.

وقوله: {مِّنْ خَلْفِهِمْ} أي في الدنيا، وکأنّ فيه إشعاراً بأن المؤمنين الباقين هم علی طريق الشهداء، فلعلّهم سيفوزون بالشهادة ولو بعد حين، کما قال تعالی: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن

ص: 522


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 418.
2- تبيين القرآن: 83.
3- الکشّاف 1: 336.

قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا}(1).

السادس: قوله تعالی: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

(أن) مفسرة أي سرورهم من جهة أنّ الباقين لاخوف عليهم، فکأنهم يقولون لهم ذلک، أو هو أمر بصيغة الخبر أي لاتخافوا، فأنتم آمنون وقد دفع الله شر الکفار عنکم.

ولعل المقصود حثّ الباقين علی الاستقامة والثبات وأن مستقبلهم زاهر ووعد لهم بالنصر.

وقوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} إما عطف علی لاخوف عليهم، أي الباقون لا خوف عليهم من المستقبل ولا يحزنون علی الماضي کما قال: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(2).

وأما عطف علی يستبشرون، فيکون وصفاً للشهداء، أي ولا يحزنون علی ما فاتهم من الدنيا وملذّاتها، لأن الله عوّضهم بخير منها، وهو يکفيهم أهلهم وأولادهم، والأول أنسب للسياق.

ثم إن عدم الخوف إمّا يرتبط بالدنيا أو البرزخ، فلا ينافي الفزع حين نفخ الصور حيث قال تعالی: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَٰخِرِينَ}(3)، وإمّا لدخول هؤلاء في الاستثناء.

السابع: قوله تعالی: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ...} الآية.

ص: 523


1- سورة الأحزاب، الآية: 23.
2- سورة الحديد، الآية: 23.
3- سورة النمل، الآية: 87.

1- الظاهر أن هذا تتمة استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم، فقد بينت الآية السابقة أنهم يستبشرون بالباقين بأن لاخوف عليهم ولاهم يحزنون، وهذه الآية تکمّل جهة الاستبشار بأن الباقين في نعمة الأمن وفضل من الله بانتصارهم علی المشرکين في المستقبل، مع ما ادّخر الله لهم من الأجر في الآخرة، فليست هذه الآية لبيان ثواب الشهداء، إذ قد بين أجرهم بقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ...}.

2- وقيل: الآية تأکيد لما في الآيتين الماضيتين، وذلک لتمکين وترکيز المعنی في النفس، لأن تکرار الأمور الغيبية يجعلها کالأمور المشاهدة، فيکون قوله: {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ} تأکيداً لقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ...} فهو في أجر الشهداء، ويکون قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ...} تأکيداً لقوله: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ...} فهو في أجر المؤمنين الباقين.

3- وقيل: يستبشرون الأول بالنسبة إلی إخوانهم، والثاني بالنسبة إلی أنفسهم، وعليه فيکون الفرق بين هذا الاستبشار وبين قوله: {فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} أن فرحهم بالشهادة، واستبشارهم بالثواب. وما ذکرناه أولاً هو الأقرب.

و(النعمة) هي الحالة الحسنة التي يکون عليها الإنسان کالجِلسة(1)، وتعريفها: المنفعة التي يستحق بها الشکر إذا کانت خالية من وجوه القبح(2).

ص: 524


1- مفردات الراغب: 814.
2- مجمع البيان 2: 654.

و(الفضل) الزيادة والخير(1).

و(الأجر) الکِراء علی العمل(2)،

فهو عوض له.

ولايخفی أن کل نعمة هي فضل من الله تعالی، ولا استحقاق للإنسان بذاته عوضاً علی أعماله، کما مرّ مراراً.

فالآية في صدد بيان أمرين:

أحدهما: بيان رحمته تعالی، حيث يعطيهم ما وعدهم، ويزيدهم عليه بما لم يکونوا يتوقعون فقال: {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} وهو الذي وعدهم به من الجزاء الحسن، و{فَضْلٖ} زيادة علی ذلک بما لم يکن قد وعدهم به.

وثانيهما: بيان عدله وأنه سبحانه لا يظلم، حيث إنّ من الظلم أن تأمر أحداً بعمل وتعده بثواب ثم لا توفيه ذلک الثواب، والله تعالی منزه عن الظلم وعن کلّ قبيح.

وذلک لأنه لا أحد يستحق شيئاً علی الله تعالی، لکنه سبحانه جعل حقاً عليه برحمته کما قال: {كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}(3)

وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(4).

والحاصل باعتبار هذا الحق العَرَضي - الذي لم يکن جعله عن استحقاق بل عن فضل - کان عدم الوفاء إضاعة، والله تعالی منزه عن ذلک.

وفي مجمع البيان: إنما ذکر ذلک - وإن کان غيرهم يعلم به أيضاً - لأنهم

ص: 525


1- مقاييس اللغة: 819.
2- مقاييس اللغة: 46.
3- سورة يونس، الآية: 103.
4- سورة الروم، الآية: 47.

يعلمونه بعد الموت ضرورة، وإنما يعلمونه في دار الدنيا استدلالاً، وليس الاستدلال کالمشاهدة، ولا الخبر کالمعاينة، فإن مع الضرورة والعيان يتضاعف سرورهم ويشتدّ ارتباطهم(1).

الی هنا ينتهي الکلام حول غزوة أحد.

ص: 526


1- مجمع البيان 2: 659.

الآيات 172-175

اشارة

{الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنۢ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَٰنَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)}

ثم يذکر الله تعالی غزوتين وقعتا بعد غزوة أحد، وهما غزوة حمراء الأسد وغزوة بدر الصغری، في سياق مدح المؤمنين بأنهم يطيعون الله ورسوله، وأنهم لايخافون من المشرکين، فقال:

172- أولئک المؤمنون موصوفون بأنهم {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ} أطاعوا الأمر بالخروج إلی حمراء الأسد {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنۢ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ} في غزوة أ ُحد {الْقَرْحُ} الجرح {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ} بفعل الطاعات {وَاتَّقَوْاْ} تجنبوا المعاصي {أَجْرٌ عَظِيمٌ} فهؤلاء جرحوا في أ ُحد ولم يتوانوا فاستجابوا للأمر إلی الخروج لمطاردة المشرکين في اليوم الثاني.

173- أولئک المؤمنون لم يتوانوا مرة أخری حيث خرجوا في العام القابل إلی بدر الصغری مع التثبيطات، فهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} کنعيم بن مسعود محذوراً لهم {إِنَّ النَّاسَ} أبا سفيان والمشرکين {قَدْ جَمَعُواْ

ص: 527

لَكُمْ} هيأوا العدد والعُدّة {فَاخْشَوْهُمْ } خافوهم فلا تخرجوا إليهم، {فَزَادَهُمْ} هذا التحذير {إِيمَٰنًا} إصراراً وعزماً علی المضيّ إلی الجهاد، {وَقَالُواْ حَسْبُنَا} يکفينا {اللَّهُ} فهو القادر علی دفع الضرر عنا {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} يتوکل أمورنا فيدبرها ويحفظنا.

174- {فَانقَلَبُواْ} رجع المؤمنون من کلتا الغزوتين {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} کالعافية من الحرب والسلامة في أنفسهم {وَفَضْلٖ} زيادة في الثواب وربح في تجارة، حالکونهم {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} کالجراحة والکيد {وَاتَّبَعُواْ} أي وقد طلبوا {رِضْوَٰنَ اللَّهِ} بامتثالهم لأمره تعالی بالخروج {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} سيجازيهم في الآخرة بالثواب الجزيل.

175- {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ} المثبط عن الخروج {الشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ} أي يخوّفکم {أَوْلِيَاءَهُۥ} أي اتباعه من المشرکين {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} فامتثلوا أوامری {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حيث إنهم يؤثرون خوف الله علی خوف الناس.

بحوث

الأول: اختلف المفسرون والمرويات حول شأن نزول هذه الآيات فبعضهم علی أنها نزلت في غزوة حمراء الأسد والتي کانت في اليوم الثاني بعد غزوة أحُد، وآخرون علی أنها نزلت في غزوة بدر الصغری والتي کانت بعد سنة من أحُد، والأقرب أن الآية 172 حول غزوة حمراء الأسد، والآية 173 حول غزوة بدر الصغری، لأن آثار الهزيمة في أ ُحد کانت کبيرة علی المسلمين، فلذا لمّا أمرهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في اليوم الثاني للخروج إلی مطاردة المشرکين لم يستجب منهم إلاّ القليل، وکذا لمّا أمرهم

ص: 528

بالخروج إلی بدر الصغری في العام القابل لم يستجب إلا سبعين، وکان من آثارها قتل مشرکي نجد سبعين مبلّغا أرسلهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بعد أربعة أشهر من غزوة أ ُحد إلی نجد حيث قتلوهم عند بئر معونة کما مرّ.

غزوة حمراء الأسد

أما غزوة حمراء الأسد:

فقد روي القمي في تفسيره أنه لما دخل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) المدينة، يعني بعد غزوة أحد، نزل عليه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إن الله يأمرک أن تخرج في أثر القوم، ولا يخرج معک إلاّ من کانت به جراحة... فأقبلوا يضمّدون جراحهم ويداوونها، فأنزل الله علی نبيّه: {وَلَا تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}(1) ... فخرجوا علی ما بهم من ألم الجراح، فلمّا بلغ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بحمراء الأسد، وقريش قد نزلت الروحاء، قال عکرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع فنُغير علی المدينة، فقد قتلنا سَراتهم - أي أشرافهم - ، وکبشهم يعنون حمزة، فوافاهم رجل من المدينة فسألوه الخبر، فقال: ترکت محمداً وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونکم أجدّ الطلب، فقال أبو سفيان: هکذا النکد والبغي، قد ظفرنا بالقوم وبغينا، والله ما أفلح قوم قط بغوا، فوافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي، فقال أبو سفيان: أين تريد؟ قال: المدينة لأمتار لأهلي طعاماً، قال: هل لک أن تمُرّ بحمراء الأسد وتلقی أصحاب محمد وتُعلمهم أن حلفاءنا وموالينا قد وافونا من الأحابيش، حتی يرجعوا عنا، ولک عندي عشرة قلائص أملأها تمراً وزبيباً؟ قال: نعم،

ص: 529


1- سورة النساء، الآية: 104.

فوافی من غد ذلک اليوم حمراء الأسد، فقال لأصحاب محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) : أين تريدون؟ قالوا: قريش! قال: ارجعوا، فإن قريشاً قد اجتمع إليهم حلفاؤهم، ومن کان تخلّف عنهم، وما أظن إلاّ أوائل القوم قد طلعوا عليکم الساعة، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوکيل، ما نبالي أن يطلعوا علينا، فنزل جبرئيل علی رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: ارجع يا محمد، فإن الله قد ارعب قريشاً، ومرّوا لايلوون علی شيء، فرجع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی المدينه(1).

غزوة بدر الصغری

وأما غزوة بدر الصغری:

فقد روي في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) : أن أبا سفيان قال يوم أ ُحد حين أراد أن ينصرف: يا محمد موعدنا بيننا وبينک موسم بدر الصغری القابل إن شئت، فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ذلک بيننا وبينک، فلما کان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مکة... ثم ألقی الله عليه الرعب، فبدا له الرجوع، فلقي نعيم بن مسعود - وقد قدم معتمراً - فقال له أبو سفيان: ... وقد بدا لي أن لا أخرج، وأکره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلک جرأة، فالحق بالمدينة فثبطهم، ولک عندي عشرة من الإبل - ثم ذکر أنه جاء إلی المدينة وثبّط أصحاب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فکرهوا الخروج - فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدی، فأما الجبان فإنه رجع، وأما الشجاع فإنه تأهّب للقتال وقالوا: حسبنا الله ونعم الوکيل، فخرج رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في أصحابه حتی وافوا بدر الصغری... ولم يلق رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه أحداً من المشرکين ببدر، ووافق السوق، وکانت لهم تجارات، فباعوا، وأصابوا

ص: 530


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 501-502، عن تفسير القمي.

للدرهم درهمين، وانصرفوا إلی المدينة سالمين غانمين(1).

الثاني: قوله تعالی: {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...} الآية.

قوله: {الَّذِينَ} صفة للمؤمنين المذکورين في الآية السابقة، بأنهم يطيعون الله والرسول حتی في أشد الحالات والظروف.

ولعلّ التوصيف لزيادة تمييزهم عن المنهزمين أو المنافقين، ولذا خصّ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الدعوة بمن کانت به جراحة، لأن هؤلاء اثبتوا صدق نيتهم عکس المنهزمين الذين لم يُصابوا بکلم ولا جرح.

أو لأن الله تعالی أراد أن يخصّهم بميزة ويشرّفهم بفضيلة، فلعل بعض المنهزمين تاب وکان يريد الخروج إلاّ أن الله تعالی أمر بخروج خصوص المجروحين ليخصّهم بالثواب من غير مشقة جزاءً لحسن موقفهم وثباتهم في غزوة أحُد، والتائب من الذنب وإن کان کمن لا ذنب له إلاّ أن المطيع الثابت قد نال ثواب إطاعته فيزيده الله من فضله فيوفقه لثواب آخر، ولعل هذا من الفروق بين المطيع وبين التائب.

أو إن ذلک کان أرعب لقلوب المشرکين، فالجريح الراجع إلی الجهاد أشد عزيمة وأقوی داعياً للانتقام، فکما لم ينهزم أولاً سوف لاينهزم ثانياً، أما الذي انهزم قبل القرح فاحتمال انهزامه بعده وارد بل الدواعي أقوی.

قوله: {الَّذِينَ} قيل: کان مجموعهم سبعين، وکان طلائعهم عشرة بقيادة أمير المومنين (عليه السلام) .

قوله: {اسْتَجَابُواْ} من الجواب، بأن يُطلب منه شيءٌ فيجيب بالقبول،

ص: 531


1- مجمع البيان 2: 665-666.

بمعنی أطاعوا.

وقوله: {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} إنما ضمّ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إلی الله، لأن المنهزمين عصوا الله في نهيه عن الفرار من الزحف، وعصوا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما أمرهم به من تفاصيل الموقف کعدم تخلية الثغر في الجبل.

أو لأن الجهاد بأمر الله تعالی، وأما کيفيته فهو استنباط من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بما علّمه الله تعالی وعصمه، فکما تجب إطاعة الله في أوامره ونواهيه، کذلک تجب إطاعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما له فيه الولاية.

وقوله: {مِنۢ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} قرينة علی أن المراد بهذه الآية غزوة حمراء الأسد، حيث کانت بعد غزوة أ ُحد بيوم واحد فقط و{الْقَرْحُ} الأثر من الجراحة.

وقوله: {مِنْهُمْ} «من» للتبعيض، فليس الوعد لجميعهم وإنما لبعضهم مع تعليق الوعد علی الإحسان والتقوی، فهو وعد بشرط والغرض من التبعيض هو حثّهم جميعاً علی المواصلة في العمل الصالح وأن لايتّکلوا علی موقف حسن صدر منهم، فإن الإنسان إذا ضمن الجائزة يتکاسل عادة، ولابد من کون المؤمن بين الخوف والرجاء، ولذا لا وعد مقطوع للأشخاص في القرآن الاّ للمعصومين (عليهم السلام) وللشهداء، وأما غيرهم من الأحياء فالوعد دائماً مشترط بالإيمان والعمل الصالح، وإذا کان هناک وعد للاشخاص فيقترن بالتبعيض أو يعلّق علی الاستمرار، ففي زوجات النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال تعالی: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}(1)، وقال في أصحابه:

ص: 532


1- سورة الأحزاب، الآية: 29.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَۢا}(1).

ويمکن أن يکون التبعيض لأجل أن البعض منهم انقلب علی الأعقاب بعد ذلک، فأحبط عمله وأبطل أجره.

وقيل: {مِنۢ} بيانية، وفيه نظر، لأنه لابد في البيان من کون مدخول (من) توضيحاً وشرحاً لما قبله کقوله: {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَٰنِ}(2) حيث الأوثان تفسير للرجس، وليس هنا کذلک.

وقوله: {أَحْسَنُواْ} لبيان الطاعة بفعل الصالحات، لأن الأحسان هو فعل الحسن.

وقوله: {وَاتَّقَوْاْ} لبيان الطاعة بترک المعاصي، لأن التقوی هي حفظ النفس وکفّها، والحاصل ائتمروا بالأوامر وانزجروا بالنواهي.

الثالث: قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ...} الآية.

وصف آخر للمؤمنين لبيان عدم خوفهم من المشرکين، بل لايخافون إلاّ الله لذا يطيعونه، وشأن نزولها غزوة بدر الصغری کما مرّ.

قوله: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} بيان لدأب الکفار المنافقين وضعاف الإيمان حيث يشککون المؤمنين أو يحاولون تشکيکهم.

إما لأنهم يحبون أن يکون المسلمون مثلهم - حسداً أو جهلاً - کما قال: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً}(3)، أو لأنهم ارتشوا کما

ص: 533


1- سورة الفتح، الآية: 29.
2- سورة الحج، الآية: 30.
3- سورة النساء، الآية: 89.

أرشی أبو سفيان نعيم بن مسعود ليخوّف المسلمين، أو تودداً للکفار وانبطاحاً لهم، کما يکثر هذا في عصرنا الحاضر.

وقوله: {قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} أي جمعوا العدد والعُدّة، وهذا قرينة علی أن هذه القضية لم تکن في حمراء الأسد، لأن المشرکين حينذاک کانوا مجموعين بعددهم وعدتهم وإنما أرادوا الرجوع فقط، وأما في غزوة بدر الصغری والتي کانت بعد سنة من وقعة أحد، فکانوا في منازلهم في مکة، حتی إذا حان الموعد جمعوا عددهم وعدتهم وخرجوا لمسافة قصيرة إلا أنهم أرعبوا فرجعوا.

وقوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا} أي هذا القول زاد المؤمنين إيماناً، بدلاً عن الخشية من الکفار، وزيادة الإيمان من جهتين:

الأولی: إن کل طاعة هي زيادة في الإيمان العملي.

الثانية: إن هذا القول زاد يقينهم، فالزيادة في الإيمان القلبي.

قيل: لأن الممنوع إذا رأی نفسه علی حق زاده ذلک إصراراً وخاصة إذا لم يحسن الظن بمن ينهاه.

وقد مرّ أن الإيمان - بأجزائه وشروطه - هو اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأرکان، فالمؤمنون لم يخشوا بالتحذير من الکفار وإنما أصروا علی عملهم وزاد يقينهم.

وتدل الآية علی أن الإيمان يزداد وينقص، وکذلک آيات أخری کقوله تعالی: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(1)، وقال: {وَلَمَّا

ص: 534


1- سورة التوبة، الآية: 124.

رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَٰنًا وَتَسْلِيمًا}(1).

وقوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ} «حسب» مصدر بمعنی الفاعل أي يکفينا الله تعالی.

وقوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي أحق بأن توکل الأمور إليه لأنه المالک القادر المهيمن، و{الْوَكِيلُ} المتولي لأمر الإنسان حيث يوکل الإنسان أموره إليه ويعتمد عليه.

الرابع: قوله تعالی: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٖ...} الآية.

تبيّن الآية عاقبة ازدياد إيمانهم وثباتهم، وهو عدم توجه ضرر عليهم، وانتفاعهم مادياً ومعنوياً، فقد انقلبوا أي رجعوا إلی أهلهم سالمين غانمين:

1- {بِنِعْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ} الباء للمصاحبة أي رجعوا بالنعمة، ومن تلک النعمة إعادة الهيبة للمسلمين بعد هزيمة أحُد، وهذا ما کان تنبأ به أبو سفيان حيث قال: وأکره أن يخرج محمداً ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلک جرأة(2)،

وأيضاً ربط قلوب سائر المسلمين، مضافاً إلی نعم أخری کالتثبت والزيادة في الإيمان والتوفيق للمبادرة إلی الجهاد ونحو ذلک.

2- {وَفَضْلٖ} قيل: هو التجارة حيث ربحوا في منطقة بدر الصغری في سوقها بالدرهم درهمين، والربح الحلال فضل من الله تعالی کما قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوٰةُ فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ}(3)، وقال:{لَيْسَ

ص: 535


1- سورة الأحزاب، الآية: 22.
2- بحار الأنوار 20: 42.
3- سورة الجمعة، الآية: 10.

عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ}(1).

وتعقيب النعمة بالفضل للدلالة علی أنها ليست استدراجاً لهم کالإنعام علی أهل البطر والبغي، کما قال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَٰنِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}(2)، وقال: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(3)، بل هي نعمة توجب مزيداً من الخير قال تعالی: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ}(4)، وقال تعالی: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}(5).

3- {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي حالکونهم لم يلتقوا مع المشرکين للحرب، فلا حاربوا ولا قتل منهم أحد ولا جُرح، أي کانت النعمة کاملة من غير منغّصات.

4- {وَاتَّبَعُواْ رِضْوَٰنَ اللَّهِ} عطف علی لم يمسسهم، فهو حال ثانية أي وحالکونهم قد أطاعوا الله تعالی بالخروج إلی الجهاد وامتثلوا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي هذا تحسير للمتخلفين، حيث لم يطيعوا الله ورسوله ولم يربحوا في التجارة، کما قال: {وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنۢ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُۥ مَوَدَّةٌ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}(6).

الخامس: قوله تعالی: {ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمْ...} الآية.

ص: 536


1- سورة البقرة، الآية: 198.
2- سورة فصلت، الآية: 51.
3- سورة البقرة، الآية: 211.
4- سورة المائدة، الآية: 6.
5- سورة النمل، الآية: 19.
6- سورة النساء، الآية: 73.

أي إن المنافقين أو الکفار أو ضعاف الإيمان إذا ثبطوکم عن الجهاد وخوّفوکم، فإنما في الحقيقة المخوّف الأصلي هو الشيطان، وهؤلاء أدوات له، وفي قباله الله تعالی المالک القادر المهيمن، فأنتم أولياء الله، والمشرکون أولياء الشيطان، فالتقابل بين الله وبين الشيطان، ومن المعلوم أن کيد الشيطان ضعيف، فلا تهنوا ولا تخافوا

قوله: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَٰنُ} (إنما) للحصر أي المخوّف هو الشيطان فقط و(ذا) إسم إشارة مبتدأ، و(کم) للخطاب، و(الشيطان) خبره، أي هذا هو الشيطان لاغير.

وقوله: {يُخَوِّفُ} أي يخوّفکم، لأن مادة الخوف متعدية إلی مفعول واحد فإذا ابتني منها باب التفعيل صارت ذا مفعولين، فالمعنی الشيطان يخوّف المؤمنين أوليائه وهم المشرکون.

وقوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} أي لاتخافوا أولياء الشيطان وهم الذين يقال إنهم جمعوا لکم، لأن کيد الشيطان ضعيف، فأولياؤه أضعف منه، والمراد عدم ترتيب أثر الخوف، لا الخوف الطبيعي الذي قد لايخلو منه أحد.

وقوله: {خَافُونِ} أي خافوا الله تعالی، والخوف إما بمعنی الخشية منه تعالی أو الخوف من عقابه حين المخالفة، وقد مرّ تفصيله.

وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بيان للعلامة الفارقة بين المؤمنين وغيرهم، فالمؤمن يخاف الله، وغيره يخاف أولياء الشيطان!

ص: 537

الآيات 176-178

اشارة

{وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَئًْا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْأخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَئًْا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178)}

کأنّ الآيات 176-180 هي تتمة لموضوع غزوة أ ُحد وتلخيص لها، وفيها تسلية وتثبيت للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وللمؤمنين، بأن کون الدولة للکفار أحياناً وکذلک مصائب المؤمنين ليست إلا بتقدير من الله تعالی، لغرض أسمی وهو التمحيص والامتحان ليتميز المؤمن من المنافق، ولينال المؤمن ثوابه والکافر عقابه، ثم بيان أن الامتحان کما يکون في الجهاد في النفس کذلک الجهاد بالمال.

والحاصل أن الله تعالی غالب علی أمره، فغلبة الکفار أحياناً إنما هو بتقدير منه تعالی املاءً لهم، وأن الصعوبات التي تنال المؤمنين أحياناً إنّما هي لتمييزهم عن المنافقين، وأن النجاح في الامتحان يتوقف علی الإطاعة، والسقوط فيه علی المعصية.

176- فبعد أن نهی تعالی عن الخوف من أولياء الشيطان عقّبه بالنهي عن الحزن عليهم {وَلَا يَحْزُنكَ} يا رسول الله {الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ} يبادرون إليه، وکأن المراد مبادرتهم إلی العمل طبقاً لعقيدتهم الفاسدة

ص: 538

کمحاربة المؤمنين، {إِنَّهُمْ} هذا علة النهي عن الحزن عليهم {لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ} أي لن يضروا دينه وأولياءه فالإسلام يتقدم حتی يُظهره الله علی کل الأديان {شَئًْا} ولو قليلاً فالعزة لله تعالی دائماً، بل لم يمنعهم من المسارعة في الکفر بحکمته تعالی إذ {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا} أن لا {يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا} نصيباً من الثواب {فِي الْأخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وذلک يتوقف علی عدم منعهم تکوينا، فهؤلاء لايضرون الله بل يضرون أنفسهم.

177- کما لا تضرّ مسارعتهم، کذلک لا يضرّ أصل کفرهم، ف {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ} استبدلوا {الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ} أي کفروا بدلاً عن إيمانهم {لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا} بتبديلهم هذا، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فارتداءهم ليس خسارة وضرراً لله تعالی بل أضروا أنفسهم.

178- ثم إن إمهالهم وانتصاراتهم أحياناً إنما هي بإرادة من الله تعالی بحکمته ف {وَلَا يَحْسَبَنَّ} لايتوهموا {الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا} «أنّ» للتأکيد و«ما» مصدرية {نُمْلِي لَهُمْ} أي إملاءنا لهم، بمعنی الإمهال وأعطائهم المال والجاه والسلطة وطول العمر {خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ} فهو وإن کان خيراً في نفسه إلاّ أنهم حولوه إلی شر لأنفسهم، بل {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نمهلهم ونرزقهم {لِيَزْدَادُواْ} اللام للعاقبة أي عاقبة هذا الإملاء هو ازديادهم {إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} فيه إهانة وإذلال لهم في جهنم مضافاً إلی کربه وألمه.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ...} الآية.

ص: 539

بعد أن حذّر الله المؤمنين ونهاهم عن الخوف من الکفار وأمرهم بالخوف من الله تعالی، عطف الکلام إلی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) بعدم الحزن بسبب أعمالهم، فإن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) کان يحب هداية الناس أجمع، لکنه لمّا کان يری شقاء البعض ورفضهم للهداية کان يحزن عليهم، کما أن أعمالهم کانت توجب حزنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فأرشده الله تعالی إلی أنه (صلی الله عليه وآله وسلم) قد أدّی المهمة بأحسن وجه حيث کانت مهمته التبليغ، وأما الهداية فهي بيد الله تعالی يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) کان ناجحاً في وظيفته غير مقصّر فيها، ولم تکن الهداية التکوينية من مهامّه، بل هي بيد الله تعالی يمنحها لمن شاء، قال تعالی: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}(1)، وقال: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَٰغُ الْمُبِينُ}(2)، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصْنَعُونَ}(3).

وقوله: {وَلَا يَحْزُنكَ} أي لايتسبّبوا في حزنک.

وقوله: {الَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي الْكُفْرِ} بيان لسبب الحزن أي الکفار بسبب مسارعتهم إلی الکفر، إذ تارة يکون الحزن عليهم شفقة کما قال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}(4)، وتارة الحزن بسبب أعمالهم کما في هذه الآية، فالحزن

ص: 540


1- سورة الغاشية، الآية: 21-22.
2- سورة التغابن، الآية: 12.
3- سورة فاطر، الآية: 8.
4- سورة النمل، الآية: 70.

لم يکن شفقة بل بسبب الأضرار التي وجهوها إلی المسلمين بالقتل والجرح وغير ذلک، ولذا عقّبه بقوله: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَئًْا} فمسارعتهم في الکفر وإن أضرّت المسلمين لکنها لم تضرّ الله تعالی، وحتی الضرر الذي لحق بالمسلمين فهو بصالحهم وضمن تقدير الله تعالی بحکمته کما سيأتي في الآية 179.

وقوله: {فِي الْكُفْرِ} ولم يقل إلی الکفر، لأنهم کفار فلا يتسابقون إليه بعد کونهم فيه، بل مسارعتهم في دائرة کفرهم، وحيث إن الکفر زاهق وباطل فکذلک مسارعتهم إنما هي مسارعة ضمن إطار زاهق وباطل.

ومن ذلک يتبيّن أن الآية وإن کانت في سياق غزوة أ ُحد وحول خصوص الکفار إلاّ أن معناها عام لجميع الکفار والمنافقين في جميع الأزمنة والأمکنة.

وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ...} بيان لعدم ضررهم علی الله، فهو تعالی الذي لم يمنعهم عن کفرهم بل ترکهم وشأنهم فلم يوفقهم بسوء اختيارهم وجعل لعقابهم أجلاً هم بالغوه، والضرر إنما يلحق لو نقص من الملک شيء أو تحقق شيء خلاف الإرادة، وليس مسارعتهم في الکفر کذلک، إذ لاينقص منه شيء، بل عمل الجميع ضمن دائرة إرادته تعالی التکوينيّة، بأن أراد أن يکونوا مختارين وأراد عقاب المخالف وثواب المطيع، فاختيار هؤلاء الکفر ومن ثمَّ عقابهم عليه کان ضمن الارادة التکوينية، وقد مرّ مراراً أن إرادته التکوينية هي خلقهم مختارين بأن يطيعوا أو يعصوا باختيارهم وليس معناها جبرهم علی أحد الأمرين.

ص: 541

وقوله: {أَلَّا يَجْعَلَ} في التقريب: وإنما أراد ذلک لأنهم أعرضوا عن الحق، کما أنک إذا أديت إلی عبدک مالاً ليتاجر به، ثم ذهب يقامر به وأمهلته فلم تضرب علی يده، تقول: أريد أن أ ُبدي سوءته وأعاقبه بعقاب کبير(1).

نعم إرادته تعالی التشريعية هي هداية الکل، قال تعالی: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(2)، وقال: {وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}(3).

والحاصل: إنه تعالی خلق العباد ليرحمهم، وجعل طريق نيل رحمته التامة عبادته عن اختيار، فلذا شرّع الأحکام والشرائع، وهي إرادته التشريعيّة، ثم أراد ثواب المطيع وعقاب العاصي وذلک من إرادته التکوينية.

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ...} الآية.

هذه الآية في اختيارهم الکفر، والآية الماضية حول مسارعتهم في الکفر فلا تکرار، فالمعنی کما أن مسارعتهم في الکفر لا تضرّ کذلک أصل اختيارهم للکفر لايضر، وهذا عکس الأضرار التي تتوجه للبشر، مثلاً يأبق عبد فذلک ضرر علی مولاه، ثم يفعل أعمالاً يزيد ضرر المولی، وقد يکون الضرر في أحدهما - أي أصل العمل أو ما يرتبط به - لکن الله سبحانه غنيّ عن العالمين، فکما لا تضرّه أعمالهم الکفرية کذلک لا يضرّه أصل کفرهم.

وقيل: الآية الأولی حول خصوص المسارعين وهذه الآية حول کل

ص: 542


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 422.
2- سورة الزمر، الآية: 7.
3- سورة المائدة، الآية: 6.

الکفار، فالمعنی المسارعون لايضرّون لأن الکفار جميعاً لايضرّون، وقيل: الأولی للکفار والثانية للمنافقين، وقيل العکس، والأظهر ما ذکرناه.

قوله: {اشْتَرَوُاْ} في المناهج: في التعبير بالاشتراء دلالة علی أن الثمن الذي هو الإيمان کان - هو وأسبابه - حاصلاً عندهم وفي قبضتهم، لتوارد الحجج القيّمة عندهم، وسطوع براهين الحق وشعاع الفطرة لديهم، فباعوه وأضاعوه واستبدلوه بالکفر، بزعمهم أن ما اشتروه أعم نفعاً مما بذلوه(1).

ثم إن قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} في هذه الآية، وقوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الآية السابقة، وقوله: {عَذَابٌ مُّهِينٌ} في الآية اللاحقة، لأجل أن أصل الکفر سبب للعذاب وهذا العذاب مؤلم، لکن المسارعة في الکفر سبب لتضاعف العذاب ولذا عبرّ عنه بالعظيم، کما أن هؤلاء زعموا أن ما يمنحون من الإمکانات هو خير وعزة، لکنه لم يکن کذلک لأنه أعقب عذاباً فيه إهانتهم.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ}.

قد يکون سبب البقاء علی الکفر، والمسارعة فيه هو توفر الإمکانات من المال والجاه والسلطة والغلبة العسکرية ونحو ذلک.

وهذا ما يشاهد في کثير من الناس حيث يقصرون نظرهم إلی متاع الحياة الدنيا وزينتها لکنهم غافلون عن الحقائق والعاقبة، قال تعالی: {يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ}(2)، وقد يحاول

ص: 543


1- مناهج البيان 4: 182-183.
2- سورة الروم، الآية: 7.

المبطلون تحويل غلبتهم العسکرية أو قوتهم سياسياً واقتصادياً وصناعياً ونحو ذلک إلی غلبة فکرية دينية، بأن يقولوا إن سبب انتصارهم أو قوتهم هو دينهم أو مناهجهم الفکرية، مع عدم التلازم واقعاً بين ذلک، بل کل علة تنتج معلولها ولا يهمّ الفاعل، فإيقاد النار سبب الحرارة من غير فرق بين المُوقِد، والمُجِدّ في العلوم التجربية والصناعات يصل إلی تطور صناعي کائناً من کان، وهکذا في سائر العلل.

والحاصل: إن امتلاک الکفار الدنيا ومتاعها أو الغلبة عسکرياً لاتنفعهم في الحصول علی ثواب الآخرة والأمن من عذابها، فإنهما يرتبطان بالإيمان والعمل الصالح.

فليست الغلبة في غزوة أ ُحد دليل علی صحة منهج الکفار، بل کانت بسبب مخالفة المسلمين وعدم مراعاتهم للقواعد الحربية التي أمرهم بها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ثم إن هذه الغلبة موقتة وليست خيراً واقعياً.

وقوله: {أَنَّمَا} هي «أن» التأکيدية، و«ما» المصدرية، وتکتبان منفصلتين في رسم الخط المتعارف، إلاّ أن رسم الخط اصطلاح ويمکن اختلاف الاصطلاحات بل وتعدد الکيفية في اصطلاح واحد، وهکذا رسم خط القرآن هو اصطلاح خاص ولا يُقاس عليه وقد التزم المسلمون بعدم تغيير هذا الرسم - مع أن النازل الألفاظ فقط دون الکتابة - وقايةً للقرآن من التحريف والتبديل.

وقوله: {نُمْلِي} من «الإملاء» وهو الإمداد، ويقال: للمدة الطويلة مليّ من الدهر، فيفيد الإمهال والتوسعة والإمداد بالمال والجاه والسلطة ونحوها،

ص: 544

والمعنی لايتوّهمّن الکفار أن المهلة والإمکانات التي يتمتعون بها هي خير لهم، کلاّ ليست خيراً، وذلک لأن الخير هو الذي لايسبب شراً وعقاباً، أما لو استتبعهما فهو شر وليس بخير، کمن يأکل طعاماً مسموماً مستلذاً به، فلا يقال: إن إعطائه هذا الطعام کان خيراً له بل هو شر له.

ولا يخفی أن أصل هذه النعم هي خير لأن الغرض منها إصلاح المعاش واکتساب المعاد، لکن الإنسان بسوء عمله يحوّلها إلی شر قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}(1).

کما أن أصل الإمهال إنّما هو بمقتضی الحکمة، فهو خير ضمن النظام العام العادل لکنه شر لهؤلاء، وهذا کعقوبة القاتل بالقصاص فهو شر للقاتل لکنه خير حسب النظام العام، وإنما کان شرا له بسوء اختياره حيث عصی وارتکب جريمة القتل.

الرابع: قوله تعالی: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.

اللام في {لِيَزْدَادُواْ} للعاقبة، أي عاقبة الإملاء هو زيادتهم في الإثم، وليس المعنی أن الله تعالی يريد العصيان، فهو تعالی لا يرضی لعباده الکفر، قال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا}(2)،

أي عاقبة إمهالهم هو زيادة إثمهم حيث يواصلون المعاصي في کل يوم فيزداد إثمهم ومن ثمَّ يزداد عقابهم.

والحاصل: إن الله تعالی يبدأ الجميع باللطف والهداية، ثم يمتحنهم

ص: 545


1- سورة إبراهيم، الآية: 28.
2- سورة النساء، الآية: 27.

وذلک للتمحيص والتمييز، فمن رفض الهداية وسقط في الامتحان ترکه الله وشأنه وذلک عقوبة له، فيزداد إثماً وعذاباً في الآخرة.

الإملاء والاستدراج للکفار

وفي المناهج: الإملاء والاستدراج مرتبة السقوط، ويکون ذلک بعد الامتحان لمن سقط فيه، فقوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} إشارة إلی أن الإملاء بعده، لأن الامتحان عام للمؤمن وغيره، فليس کل ما يصح به الامتحان يکون اعطاؤه لغاية الامتحان، بل ربما يکون إعطاؤه لغاية الإملاء، فبعد ذلک يستحق العذاب المهين(1).

والحاصل أن الإملاء في مرتبة متأخرة عن الکفر، فلا يکون إلاّ عقوبة ومجازاة علی کفرهم.

سؤال: قد نری بعض الکفار يعمل الخير، وکلّما طال عمره زاد في خيره کما نری بعض الکفار بعد الإملاء يتوب ويؤمن ويعمل الصالحات؟

والجواب: أما الکافر العامل بالخيرات فلا قيمة لعمله، إذ يشترط في صحة العمل وقبوله قصد القربة، وحيث لا قربة له فلا فائدة في عمله، فيکون استمراره علی الکفر وترکه لسائر الفرائض وعمله بالمعاصي الناشئة عن الکفر هو ازدياده في الإثم، وقد مرّ تفصيله سابقاً.

وأما الکافر التائب بعد الإمهال، فإن املاء الکافر وتوفيق المؤمن ليسا علة تامة بحيث لايمکن توبة الکافر أو کفر المؤمن، بل الاختيار مستمر سواء بعد توفيق المؤمن أم بعد إملاء الکافر، بل قد تکون هناک عوامل ومقتضيات أقوی تأثيراً فتصير سبباً لإيمان الکافر أو ارتداد المؤمن.

ص: 546


1- مناهج البيان 4: 184.

بيان ذلک: إن هناک أسباب تقتضي مسببات، لکنها ليست الأسباب الوحيدة، فقد يزاحمها أسباب أخری، مثلاً النار سبب للإحراق لکنها قد لا تؤثر أثرها إذا حدث سبب أقوی منها کالماء الذي يُلقی علی النار فيمنعها عن أثرها، أو قد يکون مانع عن تأثيرها کالألسبة الواقية من النار فتمنع عن إحتراق مُرتديها.

فإملاء الکافر سبب لزيادته في إثمه ومن ثمّ إلقائه في العذاب المهين لکن قد يزاحمه سبب آخر أقوی منه، مثل دعوة من مؤمن، فقد يستجيبها الله فتؤثر أثرها في هدايته.

وکذا المؤمن الذي وفقه الله تعالی لطاعاته، قد يفشل في امتحان بسوء اختياره فيسلبه الله تعالی التوفيق.

وعلی کل حال فمن مصاديق الآية غلبة الکفار ورجوعهم سالمين يوم غزوة أ ُحد واستشهاد کثير من المسلمين، فلم يکن إطالة عمر الکفار خيراً لهم بل ازدادوا غياً وکفراً فازدادوا عقاباً، ولم يکن استشهاد شهداء أ ُحد شراً لهم بل قتلوا في سبيل الله فأورثهم خيراً دائماً وعزة أبدية بفضل من الله تعالی.

ص: 547

الآيتان 179-180

اشارة

{مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}

179- بعد ذکر الکفار يأتي ذکر المنافقين وأنه لابد من تمييزهم عن المؤمنين ف {مَّا كَانَ اللَّهُ} ليس من سنته تعالی في خلقه {لِيَذَرَ} يترک {الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} من إختلاط المؤمن بالمنافق وتساويهم في الإقرار اللساني والأعمال الظاهرية، بل لابد من الامتحان مکرراً {حَتَّىٰ} أي إلی أن {يَمِيزَ} الله {الْخَبِيثَ} المنافق {مِنَ الطَّيِّبِ} المؤمن، وذلک عبر التکاليف الشاقة فيطيع المؤمن ويعصي المنافق، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} بأن يجعلکم أنبياء کلّکم حتی لايکون مورداً للتمييز، أو بمعنی أن يخبرکم بما في قلب کل أحد حتی تميّزوهم، {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} يختار لإطلاعه علی الغيب {مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} فيرسله إلی الناس وعن طريقه يتمّ الامتحان والتمييز، {فَآمَنُوا بِاللَّهِ} إيماناً صادقاً {وَرُسُلِهِ} أي آمنوا

ص: 548

بهم فأطيعوهم، {وَ} نفع ذلک يعود إليکم ف {إِن تُؤْمِنُواْ} حق الإيمان بالله ورسوله {وَتَتَّقُواْ} المعاصي بترکها {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

180- وکما أن التمييز يکون بالجهاد بالنفس کذلک بالجهاد بالمال {وَلَا يَحْسَبَنَّ} لايتوهم {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} عبر منع الحق الواجب {بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وهذا زيادة في القبح، حيث منحهم المال فعصوا أمره {هُوَ خَيْرًا لَّهُم} حيث زعموا أنهم يوفّرون المال ويحتفظون به {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} وذلک لأنهم {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ} يکون وبالاً عليهم وطوقاً في أعناقهم {بِهِ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ وَ} أما في الدنيا فلا يبقی المال لهم إذ {لِلَّهِ مِيرَٰثُ} أي الملک الحقيقي، فهو مالک {السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فليس أمره بالإنفاق لحاجة منه بل لحاجتکم ولاختبارکم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فليس الاختبار إلاّ لأجل أن لايکون عقابه ظلماً، ولأجل أن يرتقي المطيع فينال الثواب الجزيل.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ...} الآية.

بيان لسبب الامتحان، وهو أن الذين آمنوا بألسنتهم ناس مختلفون من حيث مقاصدهم وباطنهم، فمنهم من أمن عن اعتقاد راسخ، ومنهم من آمن عن إيمان ضعيف، وآخرون لدواعي مادية أو اجتماعية أو قبلية ونحوها، وجمع نافق، فکان لابد من تمييزهم، لا لمجرد أن يعرف الناس المؤمن من المنافق، بل لأجل نيل الدرجات العلی لمن کان إيمانه حقاً، إذ إن الله تعالی

ص: 549

هو المتفضل بکل الثواب، لکنه حکيم ففضله تابع لحکمته سبحانه، وقد مرّ أن الرحمة من صفات الفعل، والحکمة من صفات الذات، ومنشأ صفات الفعل هي صفات الذات، فلا يعقل التخالف بينها، وعليه فإن الله خلق الناس ليرحمهم فحباهم جميعاً بالرحمة العامة، وتفضل بالرحمة الخاصة لمن کان أهلاً لها، ولا يکون الإنسان أهلاً لها إلا بعمله، فکان الامتحان لذلک، لينجح المؤمنون ويرتقوا الدرجات العلی، ولکن البعض يسقط في الامتحان فکان لابد من عقابه، والله تعالی عالم بمن ينجح وبمن يسقط إلا أن الرحمة الخاصة وکذلک العقاب لا يکونان بالعلم، إذ العقاب قبل الجرم ظلمٌ، والفضل لمن لا يليق به خلاف الحکمة.

ومن ذلک يتضح قوله (ليميز) حيث لم يقل: لتميّزوا أنتم، لأن الغرض الأصلی من الامتحان ليس تميز الناس بأن يعرفوا المؤمن من المنافق - وإن کان هذا أيضاً نتيجةً للإمتحان - وإنما الغرض أن يتحقق ما علمه الله تعالی أزلاً، فهو سبحانه بهذا الامتحان يميّز بينهم ليثيب فضلاً وليعاقب عدلاً.

وقوله: {عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} من إظهار الإسلام والالتزام الظاهري بالفرائض، وقد يقال: بأن التمييز قد حصل بعد غزوة أ ُحد فلماذا لم يقل: علی ما کنتم عليه؟ ويجاب بأن الامتحان الواحد قد لا يکفي لإظهار حقيقة الاشخاص، فقد يسقط الإنسان في امتحان لکنه يتنبّه فيُصلح أمره ويزکّي نفسه ويخلص نيته فينجح في الامتحانات اللاحقة، کما أن البعض قد ينجح في إمتحان لدواعي أخری غير الداعي الإلهي ويسقط في امتحانات أخری، کما أن بعض المؤمنين لهم قابلية السمو أکثر من ذي قبل، فکلّ امتحان

ص: 550

يزيدهم إيماناً ودرجة، فکان لابد من تکرار الامتحان، قال تعالی: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}(1)،

وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}(2).

الثاني: قوله تعالی: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ...} الآية.

قيل: المعنی وما کان الله ليجعلکم أنبياء تطلعون علی الغيب، وحينئذٍ لايکون سبباً للتمييز، لأن الله تعالی قد اصطفی الأنبياء وعصمهم فهم طيبون معصومون، فلا يخالفون أوامره، بل امتحانهم يکون لرفع مقاماتهم فحسب، وحيث إن عامة الناس ليسوا أنبياء فکان لابد من التمييز.

والأکثر علی أن المعنی: إنکم لا تعلمون الغيب فلا تميّزون الطيب من الخبيث، إذ لا طريق من الحواس أو العقل لمعرفة باطن الناس وما يدور في خلدهم، ولکن الله تعالی - رأفة ورحمة - جعل علائم ظاهرة للعيان يکتشف بها عمّا في القلوب، ولذا يمتحنکم عبر إرسال الرسل، فإطاعتهم تکشف عن الإيمان ومعصيتهم تکشف عن ضعفه أو عن النفاق.

حول علم الغيب

وقوله: {عَلَى الْغَيْبِ} وهو ما غاب عن الحواس، ويقابله الشهود وهو ما أمکن احساسه بالحواس الخمس.

ولا يخفی أن ما غاب عن الحواس قد يکون العلم به عن طرق طبيعية،

ص: 551


1- سورة التوبة، الآية: 126.
2- سورة البقرة، الآية: 214.

کالإخبار عن حوادث في البلاد النائية وکالعلائم التي تجعل للأمور المخفيّة.

وقد لا يکون له طريق طبيعي أبداً، وإنما ينحصر العلم به عن طريق البرهان العقلي أو عن الوحي، فالله تعالی من الغيب لعدم إمکان إدراکه بالحواس وإنما نعلم به عن طريق البرهان العقلي والفطري، وتفاصيل البرزخ والمعاد لايمکن العلم بها إلا عن طريق الوحي حصراً، ومن ذلک يتضح التأمل في ما ينقل عن غير المعصومين مما يسمی بالکشف والشهود أو بالخلع للروح أو العين البرزخية، فکل ذلک من الغيب الذي قال الله تعالی عنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، وقال: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ}(1)، بل الإطلاع عليه خاص بالمعصومين (عليهم السلام) ، ولا يوجد دليل يُخصّص الآيتين.

وقوله: {يَجْتَبِي} من الاجتباء، ومعناه قريب من الاختيار والاصطفاء، وأصله من (جبي) بمعنی جمع، فکأنه جمع نُخبةً هي خير الناس وصفوهم.

وقوله: {مِن رُّسُلِهِ} بيانية، أي يجتبي من يشاء من رسله، وإنما خصّ الرسل ولم يذکر الأنبياء بشکل عام لأجل أن التمييز إنما يکون ببعث الأنبياء وإرسالهم للناس فأمروهم ونهوهم، وقبل الرسالة لم يکن تمييز لعدم الدعوة إلی شيء ولعدم التکاليف الشاقة، وأما إطلاع الأئمة (عليهم السلام) علی الغيب فبتخصيص الآية بالأحاديث المتواترة، أو إنه بتعليم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إياهم، وفي نهج البلاغة: «تعلّم عن ذي علم»(2).

ص: 552


1- سورة الجن، الآية: 26-27.
2- نهج البلاغة، الخطبة 128.

قوله: {فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}. أي حيث علمتم أن الله يميز الخبيث من الطيب، وأنه أرسل رسله لذلک، فاطيعوا الله والرسل ولا تعصوهم، کي تکونوا ضمن الطيب، وفي الآية دلالة علی أن الطِيب والخُبث باختيار الإنسان نفسه، فمن خَبُث فبسوء اختياره، ومن طاب فبُحسن اختياره، وأما الطينة فقد مرّ أنها لا تأثير لها في اختيار الإنسان، وإنما علم الله أن الکافر سيختار الکفر بسوء اختياره لذلک خلقه من سجين، وأن المؤمن سيختار الإيمان بحسن اختياره فلذلک خلقه من عليين.

وقوله: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} لبيان ثواب الإيمان والعمل الصالح، فلئن أطعتم الله والرسول في التکاليف الشاقة فقد اخترتم الطِيب، وجزاؤکم الأجر العظيم الذي لايقاس بصعوبات الدنيا، وفي الحديث: صبروا أياماً قصيرة اعقبتهم راحة طويلة(1)،

وعظمة هذا الأجر من جهة کميّته وکيفيته ودوامه بلا انقطاع.

الثالث: قوله تعالی: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ...} الآية.

الجهاد کما يحتاج إلی تضحية بالنفس کذلک يحتاج إلی إنفاق وبذل المال، ولذا يُذکر الجهاد بالنفس وبالمال مقترنين عادة، وأيضاً إن من أسباب عدم الجهاد أو الفرار من الزحف أو النفاق هو حب المال والتعلّق بالدنيا، وإن أداء الحقوق المالية الواجبة طريق إلی ترجيح مرضاة الله تعالی علی هوی النفس، وترويضها بحيث لو تعارض رضاه مع بقائها کلها لرجح رضاه تعالی، فترک الکل يتوقف علی التمرين علی ترک البعض.

ص: 553


1- نهج البلاغة، الخطبة 193.

وقوله: {يَبْخَلُونَ} بمنع الحق الواجب، وفي الروايات ذکر الزکاة(1)، وهو بيان المصداق.

وقوله: {بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} تشنيع علی بُخلهم، لأنهم يبخلون علی الله بما هو ملکه وقد تفضّل عليهم به من غير استحقاق منهم، قال تعالی: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}(2).

وقوله: {هُوَ خَيْرًا} المفعول الأول مقدّر أي بخلهم، و{هُوَ} ضمير فصل بين المفعولين و{خَيْرًا} مفعول ثان، أي لا يحسبنّ البخلاء بخلَهم خيراً.

وقوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ} أي بخلهم شر، وأما المال الذي آتاهم الله من فضله فقد کان خيراً، فرزق الله تعالی لايکون إلاّ خيراً حلالاً، لکنهم حوّلوه إلی شر بسبب بخلهم، وهذا الشر کما يکون في الآخرة کذلک يکون في الدنيا، وفي التقريب: إن ذلک البخل شرّ لهم يعود عليهم في الدنيا بالشر حيث إن ذلک موجب لسوء السمعة، الذي بدوره يوجب عدم التمکن من اکتساب المزيد من المال، ويوجب ذهاب الکائن منه بمصادرات الحکام وثورات الفقراء، والأسوء من ذلک أنهم سيطوقون...(3).

وقوله: {سَيُطَوَّقُونَ} قيل: هو بيان لقوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} أي إن ذلک الشر هو تطويق ما بخلوا علی أعناقهم في يوم القيامة، لکن الأنسب عموم

ص: 554


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 531-532.
2- سورة الحديد، الآية: 7.
3- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 425.

کونه شراً، وذکر سيطوقون من باب أسوء أنواع الشرور لا لحصر الشر في ذلک.

والمعنی يلزمهم تبعة هذا المال، ومن مصاديق التبعة: تجسّم البخل أو المال يوم القيامة بشکل ثعبان من نار وتطويقه به ونهش لحمه، کما في الأحاديث(1).

وقوله: {وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} بيان لعدم نفع بخلهم، فإن کل السموات والأرض هي ملک لله تعالی بالذات، وملکية غيره إنما هي ملکية اعتبارية وبالظاهر ومعرضة للزوال، ولذا حين زوالها يخاطبون بقوله: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَٰحِدِ الْقَهَّارِ}(2).

وفسّر أکثر المفسرين {مِيرَٰثُ} بمعنی الارث أي انتقالها منهم إلی الله تعالی بعد بطلان ملکياتهم المجازية، وفسره بعضهم بأن المعنی المال أي المال الذي يتوارثونه ينتقل إليه تعالی!

لکن قوله: {السَّمَٰوَٰتِ} لاينسجم مع المعنيين إذ لايملک أحد السموات بالملکية المجازية لينتقل منه إليه تعالی! فالأقرب أن المراد من الميراث: الملک، وإنما عبّر عن الملک بالميراث مجازاً لمناسبة أنهم سيترکون هذه الاموال عاجلاً لورثتهم.

والحاصل: إن المعنی هو أن الله لايحتاج اليهم حينما أمرهم بالإنفاق، وذلک لأن جميع السموات والأرض ملکه بالذات، وهو الذي قد آتاهم

ص: 555


1- الکافي 3: 502.
2- سورة غافر، الآية: 16.

بعضه من فضله، وسينتقل عنهم عن قريب، فإن بخلوا به فالضرر يعود عليهم مع عدم بقاء المال بيدهم.

الرابع: قوله تعالی: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.

کأنّه لبيان أن التمييز ليس لأجل أن يعلم الله، بل هو عالم أزلاً بکل ما ستختارونه، وکذلک لکي لايتوهم أحد أن الله تعالی غافل عن عمله أو لا يعلم بتفاصيله أو بنواياه، فکل ذلک في علمه سبحانه فيجازيهم عليه، و(الخبير) هو العالِم تفصيلاً بجميع شؤون المعلوم وتفاصيله ودقائقه.

ص: 556

الآيات 181-184

{لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٖ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُو بِالْبَيِّنَٰتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَٰبِ الْمُنِيرِ (184)}

181- بعد ذکر الکفار والمنافقين يتم ذکر اليهود الذين کانوا يلقون الشبهات، وحيث کانت الآية السابقة حول البخل ابتدأت هذه الآية به فقال تعالی: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ} فلم يَخفَ عليه، وهذا تهديد لهم {قَوْلَ} اليهود {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} لأنه يستقرض ولأن أولياءه فقراء فلو کان غنياً لأغناهم! {وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُۘ}! وکما سمع الله قولهم کذلک {سَنَكْتُبُ} في سجل أعمالهم {مَا قَالُواْ} وذلک لعقابهم وعدم إهمال مقولتهم {وَ} کذلک سنکتب {قَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ} فأسلافهم سبّبوا قتلهم والأخلاف رضوا به، {بِغَيْرِ حَقّٖ} فکان عن معرفة وعمد وهو أشنع، {وَنَقُولُ} يوم القيامة بمعنی الحکم عليهم {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} لهب النار أو المُحرِق.

182- {ذَٰلِكَ} العذاب {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي بالأعمال التي

ص: 557

أرسلتموها إلی الآخرة، {وَأَنَّ} أي وذلک العذاب بأن {اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ} أي ذلک العذاب هو بمقتضی العدل.

183- وهؤلاء اليهود مضافاً إلی فساد عقيدتهم في الله فإنهم يکذبون عليه فهم {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} أوصانا وأمرنا {أَلَّا} أن لا {نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا} يجيء ذلک الرسول إلينا {بِقُرْبَانٖ} ما يُتقرب به إلی الله {تَأْكُلُهُ النَّارُ} تأتي نار من السماء فتحرقه، {قُلْ} معاجز الأنبياء لاتنحصر في القربان ف {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ} الأدلة الواضحة {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} أي القربان الذي تأکله النار {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} صار أسلافکم سبباً لقتلهم ورضيتم أنتم بذلک {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} بأنکم تؤمنون إذا أتيتکم بالقربان.

184- ثم يسلّي الله رسوله فيقول: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} کذّبهم أقوامهم وغيرهم، فلا يضق صدرک، مع أن اولئک الأنبياء قد {جَاءُو بِالْبَيِّنَٰتِ} الأدلة الواضحة {وَالزُّبُرِ} جمع زبور وهي کتب الأنبياء بالنبوة {وَالْكِتَٰبِ الْمُنِيرِ} ذي النور الذي فيه الحلال والحرام.

بحوث

الأول: حيث إن الآيات (176-189) من سورة آل عمران کالتتمة لذکر غزوة أ ُحد فقد ذکر أولاً المشرکين (الآيات 176-178) ثم ذکر المنافقين وطريقة تمييزهم عن المؤمنين (الآيتان 179-180)، وبعد ذلک يعطف العنان إلی ذکر اليهود المتربصين بالمؤمنين عبر التکذيب وإلقاء الشبهات، وبيان سوء معتقدهم في الله والرسول، وسوء عملهم بالکذب علی الله وقتل

ص: 558

الأنبياء ونبذ ميثاق الله وراء ظهورهم وإيذائهم للمؤمنين، مع تهديد الله لهم بالعذاب، ودعوة المؤمنين إلی الصبر والتقوی ووعدهم بالجنة.

أما سوء معتقدهم في الله فقوله: {قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ}، وامّا سوء معتقدهم في الرسول فقوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ}، وأما سوء عملهم بالکذب علی الله فقوله: {قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا...}، وأما سوء عملهم بالنسبة إلی الأنبياء فقوله: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ}، وأما مخالفتهم للعهود فقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ...}، وأما إيذاؤهم للمؤمنين فقوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...}، وأما تهديدهم بالعذاب فقوله: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ...} وقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ الْعَذَابِ}، وأما دعوة المؤمنين للصبر والتقوی فقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ}، وأما الوعد بالجنة فقوله: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ...}.

الثاني: قوله تعالی: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُۘ}.

بمعنی علمه تعالی بما قالوا، وقد مرّ أن السمع والبصر في الله تعالی بغير آلة، فهو الغني عن الأجزاء، ويتعالی عن الکيفيات، عکس الإنسان الذي سمعه عبر الأذن وبدخول الأمواج الصوتية فيها، وبصره عبر العين بدخول الأمواج النورية فيها، فلا يکون سامعاً بصيراً قبل ذلک، وأما الله تعالی فهو سميع بصير أزلاً، بمعنی کونه عالماً بالمسموعات وبالمرئيات قبل کونها وحينه وبعده، وهو عالم بکل شيء، إلاّ أنه باعتبار علمه بالمسموعات يقال له سميع، وباعتبار علمه بالمرئيات يقال له بصير، وذلک لامتلاء النفوس من هيبته تعالی، وإلاّ فکل صفات الذات هي شيء واحد، ولا اثنينية بينها وبين

ص: 559

ذاته المتعالية، فلا فرق بين ذاته وعلمه وحياته وقدرته واختياره وسائر صفاته الذاتية، لأنه بسيط لاترکّب في ذاته، إذ المرکب يحتاج إلی أجزائه وهو سبحانه منزّه عن الاحتياج، کما أن الترکّب يعني فقدان هذه الأوصاف في مرتبة ذاته وهو محال في حقه تعالی.

وقوله: {لَّقَدْ سَمِعَ...} تهديد لهم، بمعنی أنه سمع ثم کتبه الحفظة فلا نسيان ولا غفلة، ثم بعد ذلک العذاب، لأن المجرمين يفرّون عن عقاب السلاطين إما بعدم علمهم أو بنسيانهم، وليس الله سبحانه کذلک.

وقوله: {الَّذِينَ قَالُواْ} کانوا يقولون ذلک اعتقاداً، وليس مجرد استهزاء بالمسلمين أو احتجاج عليهم، وذلک لأن عقيدتهم في الله تعالی عقيدة باطلة مشوبة بالخرافات والتشبيه بالخلق، لأنهم حرّفوا الکتاب لأجل مصالحهم وأهوائهم، وأول التحريف هو نسبة الجهل والعجز إلی الله تعالی ليتسنّی لهم فعل ما يحلو لهم زاعمين عدم إحاطته بما يفعلون أو عدم تمکنه من مؤاخذتهم تعالی الله عن ذلک علوّاً کبيراً، وأيضاً لقصورهم عن إدراک الحقائق التي بيّنها الأنبياء (عليهم السلام) لهم فکانوا يميلون إلی الوثنية والتشبّه بعبدة الأصنام، کما في طلبهم جعل إله لهم: {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ}(1).

ولا يخفی أن جميع الانحرافات العملية والعقدية مرجعها إلی عدم معرفة الله تعالی، وفي الدعاء: «اللهم عرّفني نفسک، فإنک إن لم تعرّفني نفسک لم أعرف نبيک، اللهم عرّفني رسولک فإنک إن لم تعرّفني رسولک لم أعرف حجتک، اللهم عرّفني حجتک فإنک إن لم تعرّفني حجتک ضللت

ص: 560


1- سورة الأعراف، الآية: 138.

عن ديني»(1).

وإنما قالوا إنه تعالی فقير لمّا رأوا فقر أوليائه فزعموا أن إلههم إن کان غنياً لأغناهم، وهذا من جهلهم بالله تعالی وأنه خالق السموات والأرض ويملک کل شيء، وحتی هم بأنفسهم ملک له تعالی، وکل ما يملکون مخلوقاته وقد رزقهم إياها.

وفي المناقب عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «هم الذين يزعمون أن الإمام يحتاج إلی ما يحملونه إليه»(2) وهذا بيان لإحدی المصاديق، أو الجري بمعنی أن الآية نزلت في قوم وجرت في آخرين أيضاً.

وقيل: إن اليهود قالوا قولتهم هذه لما سمعوا قوله تعالی: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}(3).

الثالث: قوله تعالی: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّٖ...} الآية.

والمعنی إنا لا نهمل قولهم هذا، فکما سمعناه فکذلک قد أمرنا الحفظة بأن يسجلوه عليهم، وذلک لأن الإنسان قد يسمع شيئاً فيتغاضی عنه، لکن کتابته دليل علی عدم إغماضه وأنه مُهتمٌّ به ويريد ترتيب الأثر عليه، قال تعالی: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَٰفِظِينَ (10) كِرَامًا كَٰتِبِينَ}(4)، وقال: {وَوُضِعَ الْكِتَٰبُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً

ص: 561


1- الکافي 1: 337.
2- تفسير الصافي 2: 158، عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 4: 48.
3- سورة البقرة، الآية: 245.
4- سورة الإنفطار، الآية: 10-11.

وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَىٰهَا}(1)، وأما سبب الکتابة: فلأن الإنسان إذا علم بذلک کان أدعی له في الطاعة، وليتبيّن عدله يوم القيامة حين يعطي الناس کتبهم.

والسين في قوله: {سَنَكْتُبُ} إما للتأکيد، أو باعتبار أنه لاتثبت الکتابة إلا حين موتهم، إذ لو تابوا مُحيت، أو باعتبار العقاب لأن الکتابة وإن کانت حين العمل إلاّ أن العقاب في المستقبل، فالسين باعتبار المآل والغرض من الکتابة الذي هو العقاب، أو بمعنی سنقرأ عليهم يوم القيامة ما کتبناه في الدنيا، ولذا لم يقل وسنقول لهم بل قال: {وَنَقُولُ} عطف علی {سَنَكْتُبُ}.

وقوله: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنۢبِيَاءَ} أي وسنکتب ذلک أيضاً، لبيان أن سوء اعتقادهم بالله تعالی جرّهم إلی سوء الاعتقاد بالأنبياء (عليهم السلام) إلی حدّ قتلهم، أو لبيان شناعة قولهم بأن الله فقير فهو کقتلهم الأنبياء (عليهم السلام) ، أو لبيان أن ما قالوه ليس أوّل جريمة يرتکبونها فقد قتلوا الأنبياء من قبل.

وأما قتلهم الأنبياء، فأسلافهم المعاصرون لهم وشوا علی بعض الأنبياء وأذاعوا أسرارهم مما سبب تأليب السلطات الجائرة عليهم فأخذوهم وقتلوهم کما في مقتل يحيی (عليه السلام) ، وکذلک أرادوا لعيسی (عليه السلام) إلاّ أن الله سبحانه رفعه إليه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «أما والله ما قتلوهم بأسيافهم، ولکن أذاعوا أمرهم وأفشوا عليهم فقتلوا»(2).

وأما الأخلاف المعاصرون للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد رضوا بفعل أسلافهم، والراضي بفعل قوم داخل فيهم، وخاصة في أصول الدين، فعن الإمام

ص: 562


1- سورة الکهف، الآية: 49.
2- الکافي 2: 371.

الصادق (عليه السلام) أنه قال: «کان بين القاتلين والقائلين خمس مائة عام فألزمهم الله القتل لرضاهم بما فعلوا»(1).

وهکذا کل من رضي بمنکر في أصول الدين فهو شريک مع الفاعلين، فعن محمد بن الأرقط عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لي: «تنزل الکوفة؟ قلت: نعم، قال: فترون قتلة الحسين بين أظهرکم؟ قال: قلت: جعلت فداک ما رأيت منهم أحداً! قال: فإذن أنت لا تری القاتل إلاّ من قتل، أو من وَلِي القتل، ألم تسمع إلی قول الله: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} فأيّ رسول قتل الذين کان محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بين أظهرهم، ولم يکن بينه وبين عيسی (عليهماالسلام) رسول؟ إنما رضوا قتل أولئک فسُمّوا قاتلين»(2).

وقوله: {بِغَيْرِ حَقّٖ} قيد توضيحي، أو لبيان أن قتلهم کان عن معرفة وعمد، فهو أشنع وأقبح.

وقوله: {وَنَقُولُ} أي نحکم عليهم بذلک، أو إن هذا القول عذاب نفسي لهم کما أن النار عذاب جسدي لهم، لأن المعذّب إذا خوطب بمثل هذا الکلام زاده عذاباً وخزياً.

وقوله: {ذُوقُواْ} يقال للمنتقم منه: ذق، وقد استعمل الذوق في العذاب في حدود خمسين آية من القرآن الکريم، ولعل ذلک لبيان إحساسهم بالعذاب، فإن الذائقة أقوی الحواس إدراکاً - علی ما قيل - ، أو لما في المفردات: اختير في القرآن لفظ الذوق في العذاب، لأن ذلک وإن کان في

ص: 563


1- الکافي 2: 409.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 534-535، عن تفسير العياشي.

التعارف للقليل، فهو مستصلح للکثير، فخصّه بالذکر ليعم الأمرين(1).

وقوله: {الْحَرِيقِ} أي النار أو لهبها فالإضافه بمعنی اللام أو من.

الرابع: قوله تعالی: {ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ}.

بيان عدله تعالی وأن هذا العذاب هو نتيجة أعمالهم وليس ظلماً من الله سبحانه، فللعذاب سببان مجتمعان معاً: سوء العمل وعدل الرب.

وقوله: {بِمَا} (الباء) سببيّة، و(ما) موصوله أو مصدرية.

وقوله: {قَدَّمَتْ} بمعنی الأعمال التي عملتموها في الدنيا، فکأنکم أرسلتموها قبلکم إلی الآخرة، لأن الأعمال تتجسّم في الآخرة، فمن عمل عملاً فقد أرسله إلی الآخرة، أو لأنها تسجّل إلی يوم الجزاء فکأنه قدّمها باعتبار أثرها.

وقوله: {أَيْدِيكُمْ} أي أنفسکم، فالمعنی ذلک بما قدمتموه، وإنما عبر بالأيدي لأن أکثر الأعمال بها.

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ} عطف علی ما قدمت، أي وبسبب أن الله ليس بظلام، أي عدله اقتضی عذابهم وعدم العفو عنهم، وذلک لأنه ليس من العدل العفو عن جميع الظالمين وجميع الجرائم، فلابد في العدل من عقوبة المخالفين ولو في الجملة.

بيان ذلک: إن الله تعالی ذو رحمة وفضل، لکن ليس من العدل وضع الفضل والرحمة في غير موضعهما، فذلک خلاف الحکمة، وکل ما کان

ص: 564


1- مفردات الراغب: 332.

خلاف الحکمة فهو ليس من العدل، مثلاً ترک عقاب من ظلم الناس خلاف العدل، ولذا يتمنی الکافر أن يکون تراباً کما قال: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا}(1)،

أو أن يقضي الله عليه قال: {وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}(2)، أو أن يخفف عنه العذاب قال: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ}(3).

فليس العقاب لمجرد الردع کي يقال: لايتمکن الکافر من العصيان يوم القيامة أو إذا أفناه الله تعالی، ولذا تری المحاکم تصدر أحکامها عقوبةً للمجرمين حتی لو أمنوا من تکرار جرمهم، لأن عدم العقوبة علی الجرم ظلم وليس بعدل.

وبهذا يتضح سبب عطف عدم ظلمه في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ} علی عملهم في قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، ويتبيّن أن سبب العقاب کلا الأمرين مجتمعين: عصيان العبد وعدل الرب.

نعم من آمن وعمل صالحاً قد يستحق التخفيف عليه بالعفو والغفران، ولا يخالف ذلک العدل، وليس بظلم، کما قد تخفف المحاکم أو تعفو عن بعض المخالفين.

وقوله: {ظَلَّامٖ} إما للنسبة أي ليس بذی ظلم، لأن صيغة فعّال قد تستعمل لذلک مثل عطّار وتمّار، وإمّا صيغة مبالغة لتشنيع الظلم وبيان قبحه

ص: 565


1- سورة النبأ، الآية: 40.
2- سورة الزخرف، الآية: 77.
3- سورة غافر، الآية: 49.

فلا يصدر منه تعالی مطلقاً، أو لبيان کثرة المتعلّق لأنه لو کان ظلم في قضيّة لعمّ الظلم کل من يرتکبها!

وفي التقريب: ولعل اختيار هذه الکلمة لردّ التوهم، وهو أن الإحراق بالنار إنما يصدر من إنسان کثير الظلم، فيکون الإتيان به للمجانسة اللفظية(1).

وقوله: {لِّلْعَبِيدِ} لبيان حسن عقوبته لهم حيث إنهم عبيده، ولو کانوا عبيد غيره لأوکل أمرهم إليه، لکن لا ربّ سواه وکل ما في الکون ملکه، وکل الناس عبيده، قال تعالی: {وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهِۢ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ سُبْحَٰنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(2).

وإنما لايصدر منه الظلم سبحانه وتعالی، لأن الظلم لايصدر إلا من جاهل أو عاجز أو خبيث، فالظالم قد يجهل بکون عمله ظلماً، ولو علم لما فعله، أو الظالم ضعيف يريد تغطية ضعفه والاستقواء بالظلم کما يفعل الحکام الظلمة بمصادرة أموال الناس وقتلهم أو سجنهم ليغطوا علی ضعفهم وليستقووا بالظلم، أو الظالم خبيث يلتذ بظلمه لاعن جهل ولا عن ضعف، والله منزه عن کل ذلک.

الخامس: قوله تعالی: {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ...} الآية.

بيان لافترائهم علی الله تعالی، وذلک من سوء عملهم، فزعموا أن الله تعالی أمرهم بأن لايؤمنوا بأيّ رسول إلاّ لو جاء بهذه المعجزة، وهي أن يأتي بشيء يتقرب به إلی الله کالذبائح ونحوها ثم تأتي نار من السماء

ص: 566


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 427.
2- سورة المؤمنون، الآية: 91.

تحرق ذلک القربان.

وبهذا الزعم کذّبوا عيسی (عليه السلام) حيث کانت معاجزه غير ذلک، وکذبوا الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لنفس السبب.

وکلامهم يتضمن الکذب علی الله من جهتين:

الأولی: إن الله لم يأمرهم بهذا، بل أمرهم بالإيمان بعيسی (عليه السلام) وبرسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) مع ذکر أوصافهما بدقة في التوراة، وحيث قد علموا انطباق تلک الأوصاف عليهما کان لابد لهم من تصديقهم فوراً من غير احتياج إلی معجزة أصلاً.

الثانية: إن الله تعالی لم يحصر المعاجز بشيء معين، بل بحکمته کان يختار لکل رسول معجزة أو معاجز، فلا وجه لحصر المعاجز بشيء خاص، وحتی نبيّ الله موسی (عليه السلام) لم تکن معجزة القربان من معاجزه.

سؤال: لماذا لم يستجب الله لطلبهم، فينزل هذه المعجزة علی رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ؟

والجواب: کان يکفيهم بما وجدوه من صفاته واسمه في التوراة وبما رأوا من معاجزه الأخری، فلذا لم يکن داع للاستجابة لطلبهم، وکما مرّ فإن المعاجز ليست ألعوبة لکلّ صاحب هوی ليطلب ما يشاء کيفما يشاء، فإن في ذلک فساد نظام العالم قال تعالی: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَٰوَٰتُ وَالْأَرْضُ}(1)، فلو کانت معجزة القربان تتحقق لافتروا علی الله تعالی بأمور أخری، أو ادّعوا السحر ونحو ذلک من أباطيل، والحاصل: إن

ص: 567


1- سورة المؤمنون، الآية: 71.

القربان معجزة فهو وسائر المعاجز سواء.

قوله: {عَهِدَ إِلَيْنَا} أي أوصانا وأمرنا بحفظه ورعايته.

وقوله: {بِقُرْبَانٖ} قيل: وکان طريقته في بني إسرائيل أن توضع ذبيحة في طشت ثم تأتي نار من السماء فتحرقها، وأول قربان بهذه الکيفية ما قدّمه ابني آدم (عليه السلام) ، فقدّم هابيل خير غنمه، فنزلت نار فأحرقته وکان ذلک آية قبول قربانه.

وقوله: {تَأْكُلُهُ النَّارُ} کناية عن إحراقه بها، فکأنها أکلته.

السادس: قوله تعالی: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَٰتِ...} الآية.

هذا ردّ لقولهم وتکذيب لهم بأنهم سيؤمنون لو رأوا هذه المعجزة، وذلک لأن الله أرسل أنبياءً في أسلافهم ظهروا بالمعجزات الواضحة، وکان من معجزاتهم القربان، ومع ذلک لم يؤمنوا بهم، بل وتمادوا في الغي بأن قتلوهم، وهؤلاء الأخلاف راضون بفعل أسلافهم.

ولعل قوله: {بِالْبَيِّنَٰتِ} لتکذيب دعواهم أن الله عهد إليهم بما قالوا، إذ لو کان العهد هکذا لم يکن وجه لتلک البينات، لأن سبب المعاجز هو بيان صدق الأنبياء ليتبعهم الناس، فإذا أمر الله بعدم الايمان برؤية المعجزات سوی معجزة القربان فلماذا أعطی الأنبياء السابقين البينات؟ أليس هذا خلاف الحکمة ونقضاً للغرض، ومن ذلک يتبيّن کذب هؤلاء اليهود في افترائهم علی الله تعالی.

وقوله: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} أي قتلهم أسلافکم ورضيتم أنتم بفعلهم؟ وهذا

ص: 568

ليس تکرار لما في الآية 186، لأن ذاک کان في بيان تماديهم علی الله ورسله، وهذا في مقام الاحتجاج عليهم وبيان إفترائهم.

وفي المناهج: الظاهر من بعض الروايات أن الخروج عن مظلمة الظالمين متوقف علی البراءة والتبرؤ منهم، ولا يکفي في ذلک صِرف السکوت، بل لابد من الإظهار والإعلان، سواء کان الظالم معاصراً أو متقدماً لئلا يسري الفساد والإنحراف إلی اللاحقين، ولا تستحکم أصول البدع والمظالم فيهم، فتطهير المجتمع والأفکار العمومية متوقف علی البراءة والإنکار. فإن التولي لأولياء الله تعالی والبراءة من أعدائه سبحانه من أصول الإيمان، فإن لم يستطع الإنکار والجهر به فلابد أن يعرض في خلواته إلی ربه، وينکره بقلبه(1).

وقوله: {إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} أي قتلهم دليل علی کذبکم فيما ادّعيتموه وافتريتموه علی الله من العهد إليکم، وبأنکم ستؤمنون إن جاءکم رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) بالقربان.

السابع: قوله تعالی: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ...} الآية.

هذا تسلية للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأنه ليس بدعاً من الرسل، وأن تکذيب الناس للأنبياء شيء عهدوه، وهؤلاء المکذبون علی أثر أولئک المکذبين، ولم يکن تکذيبهم عن بينة أو برهان بل کان الدليل الواضح للأنبياء (عليهم السلام) ، فلهم المعاجز وبشارات الأنبياء السابقين والکتاب السماوي:

قوله: {بِالْبَيِّنَٰتِ} أي الدلائل الواضحة، وهي معاجزهم کعصی موسی، وناقة صالح، وإحياء عيسی للأموات ونحو ذلک.

ص: 569


1- مناهج البيان 4: 200.

وقوله: {وَالزُّبُرِ} جمع زبور وهي الأوراق، وکأن المقصود بشائر الأنبياء السابقين بهم.

وقوله: {وَالْكِتَٰبِ الْمُنِيرِ} أي الکتاب الجامع الذي فيه الحلال والحرام.

وبهذا البيان يتضح الفرق بين الزبر والکتاب، فالزبر ما کتبه الأنبياء السابقين الذي فيه بشارة للأنبياء اللاحقين، والکتاب هو الکتب السماوية المشتملة علی المعارف والأحکام الشرعية والمواعظ، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «{بِالْبَيِّنَٰتِ} هي الآيات، {وَالزُّبُرِ} هو کتب الأنبياء بالنبوة، {وَالْكِتَٰبِ الْمُنِيرِ} الحلال والحرام»(1) وکأنّ ذکر الحلال والحرام هو من باب المصداق، فخصّ (عليه السلام) الزبر بکتب الأنبياء بالنبوة دون غيرها، وهذا ظاهر بالبشارة بهم.

وقوله: {الْمُنِيرِ} أي ذي النور، الهادي من ظلمات الکفر والرذائل، فيُظهر الحق حتی لايبقی وجه التباس وشبهة.

والحاصل: إن کل أسباب تصديقهم اجتمعت، لکن کذبوهم عناداً، وهکذا من کذّب برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) .

ص: 570


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 535، عن تفسير القمي.

الآيتان 185-186

{كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}

ثم إن عدم الجهاد بالنفس أو المال وعدم الإيمان إما لخوف الموت أو خوف نقصان الأموال أو لطلب الدنيا، فبينت الآيات عدم کون ذلک عذراً.

185- ف {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي تلاقيه، فالفرار عن الجهاد لاينفع في الفرار عن الموت، بل جاهدوا، {وَإِنَّمَا} سيجازيکم الله في الدنيا والبرزخ ثم {تُوَفَّوْنَ} تعطون وافياً تاماً {أُجُورَكُمْ} ثواب أعمالکم {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ} أ ُقصی وبُعِّد {عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أي ربح وظفر بالنجاة، {وَ} أما المنهزم عن الجهاد الذي يحسب أنه نجی من الموت فليس بفائز إذ {مَا} ليست {الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} التي يتمتع بها غير المجاهد {إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ} الخداع والغفلة، کالمشتري الذي يُدلّس له المتاع حتی يشتريه فيخسر رأس ماله ويحصل علی شيء رديء، والغارّ الخادع هو الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.

186- وأما الأموال فلا بقاء لها فلا تبخلوا بالجهاد بها ف {لَتُبْلَوُنَّ فِي

ص: 571

أَمْوَٰلِكُمْ} تمتحنون بها وذلک بنقصانها أو زوالها، ومن الاختبار وجوب إخراج الزکاة وسائر الحقوق الواجبة، {وَأَنفُسِكُمْ} فتموتون فتورث الاموال إلی الورثة فتنتقل عنکم!

ثم إن هناک مثبطات أخری {وَ} منها: {لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ} اليهود والنصاری {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} ککفار مکة {أَذًى كَثِيرًا} أي تسمعون منهم أقوالاً فيها إيذاء لکم کالطعن في دينکم والاستهزاء بکم ونحو ذلک، {وَإِن تَصْبِرُواْ} علی البلايا والأذی {وَتَتَّقُواْ} تحفظوا أنفسکم من المعاصي حين البلاء والأذی {فَإِنَّ ذَٰلِكَ} الصبر والتقوی {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي من المعزومات بمعنی الواجبات، والعزم هو ثبات الرأي والاستقامة في الفعل.

بحوث

الأول: سياق الآيات وارتباطها بما قبلها هو في الحث علی الجهاد والاستقامة علی الدين وتحمل الصعوبات والمشقات، وذلک لأن عدم الجهاد والعمل الصالح له أسباب متعددة، لکن لدی التأمل والتعقل يتبيّن عدم إجداء ترک الجهاد والعمل للوصول إلی مطلوب النفس.

1- فقد لايجاهد خوفاً من الموت، لکن ليعلم أن الموت لاقيه، فلا ينفعه الفرار منه، کما أنّ الفرار من الموت لأجل التمتع بالحياة الدنيا، لکن الجهاد سبب الفوز بالنعيم الأبدي في الجنة والبُعد عن النار، فلا يُقارن عاقبة الجهاد بعاقبة الفرار منه.

2- وقد لا يجاهد بماله، خوفاً من نقصانه أو زواله، لکن البلاء قد يصيب

ص: 572

الأموال المکدّسة فيخسرها الإنسان، وحتی لو فرض أنه في ربح دائم لکنه سيترک هذه الأموال لغيره بمجرد موته، فلا تبقی له، إذن لماذا يبخل بها عن أداء حقها الواجب.

3- وقد تکون هناک مثبّطات مثل کلام الکفار بالطعن والاستهزاء فيهم وفي دينهم، لکن ما قيمة کلامهم وطعنهم، فهل إذا اتبعتموهم في کلامهم تفوزون؟

الثاني: قوله تعالی: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ...} الآية.

أي فحيث لامناص من الموت، فلا بد أن لايکون الموت حاجزاً عن نيل المعالي والمکرمات، بل عليکم طلبها حتی لو کان في ذلک خطر الموت، لأن الحياة في ذل وهوان أو الحياة لمجرد المتمتع بالأکل والشرب والنکاح لاقيمة لها، بل ذلک سقوط الإنسان إلی الحيوانية بل أسوء کما قال تعالی: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَٰمُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ}(1)، وقال: {أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَٰفِلُونَ}(2).

والحاصل: إنه حيث لامفرّ من الموت فعلی الإنسان أن يعمل بما يوجب ارتقاءه وکماله، ولا يقولنّ أحدٌ إن القتيل لم يأخذ أجره! لأنه يقال له: إن المجاهد إن رجع سالماً فقد فاز بالدنيا والآخرة، وإن قتل في سبيل الله فله أجر في الدنيا بالذکر الحسن وآثار أخری تترتب لذريته، وله أجر في

ص: 573


1- سورة محمد، الآية: 12.
2- سورة الأعراف، الآية: 179.

البرزخ، فإن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار - کما في الحديث(1)- وأما الأجر التام الوافي فهو في الآخرة کما قال تعالی: {وَأَنَّ سَعْيَهُۥ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَىٰهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ}(2).

وقوله: {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي ملاقيته، والموت أمر وجودي مخلوق لله تعالی کما قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(3)، وهو انفصال الروح عن الجسد، وانتقاله إلی عالم البرزخ، والروح حية فيه في أجساد مثالية إما منعّمة إن کان مؤمناً، أو معذّبة إن کان کافراً، أو يُلهی عنها إن کان مستضعفاً، وقد مرّ تفصيله.

ولا موت للروح إلا حين النفخة الأولی للصور، فتفنی کل الأشياء ثم يعيدها الله في النفخة الثانية.

وقد يقال: إن الحياة لازم ذاتي للروح، فلا معنی لموتها إلا إنعدامها وهو ما يحصل في النفخة الأولی حسب ما يظهر من الأخبار، وأما ما ذکره بعضهم من استحالة إعادة المعدوم! فأدلته ضعيفة مردودة عقلاً، مع دلالة الأخبار علی انعدام کل شيء ثم إرجاعه، والتفصيل في مقام آخر.

وقوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} الظاهر إنّه في الثواب، لأن العقاب لايقال له الأجر، وکذلک کل استعمالات الأجر في القرآن الکريم فإنها في الثواب، وأما ما ذکره بعض المفسرين من أن الأجر هو الجزاء إن خيراً فخير

ص: 574


1- نور الثقلين 3: 553.
2- سورة النجم، الآية: 40-41.
3- سورة الملک، الآية: 2.

وإن شراً فشر فبعيد، بل يخالف سياق الآية الکريمة لأنها في مقام الحث علی الجهاد.

الثالث: قوله تعالی: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}.

الزحزحة من الزحّ، بمعنی البُعد، وقيل: هو الجذب بعنف وعجلة، والمعنی من بُوعد عن النار وأقصي عنها، فکأن النار - بسبب الشهوات والشبهات - تجذب الإنسان إليها بقوة، لکن الله تعالی هيّأ وسائل النجاة عنها بحيث يُبعّد الإنسان عنها بشدة وقوة.

واستعمال الفعل المجهول لأن وسائل النجاة عنها متعددة وهي الفطرة والعقل والرسل وأوصياؤهم (عليهم السلام) والکُتب والأعمال الصالحة والشفعاء وأمثال ذلک فکلها تجتمع حتی يختار الإنسان الإيمان والعمل الصالح ليزحزح عن النار.

وقوله: {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} کذلک، فإن الجنة بلطف من الله تعالی ومنّه وکرمه حيث هيّأ للإنسان ما به يصير قابلاً لهذا الفضل.

وقوله: {فَقَدْ فَازَ} والفوز هو الظفر بالخير مع حصول السلامة(1)، أي فحيث لامنجی من الموت فالفائز الذي نال الخير بسلامة هو الناجي عن النار النائل الجنة.

الرابع: قوله: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ}.

المراد من {الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا} خصوص ما يتمتع بها العاصي القاعد عن الجهاد الواجب، بقرينة المقابلة مع الذي يزحزح عن النار ويدخل الجنة،

ص: 575


1- مفردات الراغب: 647.

وذلک لأن الدنيا قد تکون قنطرة للآخرة وثوابها، حيث يفوز المؤمنون فيها عبر إطاعة الله تعالی فهذه دنيا محمودة، وأما إذا کانت الدنيا وسيلة للعصيان والسقوط إلی درکات الضلال وعالم الحيوان، فهي الدنيا المذمومة، والتي نزّه أولياء الله تعالی أنفسهم عنها، وإنما کثر ذم الدنيا لأن النفس تنساق إلی رذائلها بقوة، فکان لابد من الترکيز علی شرّها وظلمتها.

ثم إن الدنيا قد تلاحظ بنفسها فلا قيمة لها، لأن الله تعالی لم يجعل لها منزلة وقدراً، وفي أحاديث متعددة أنه لو عدلت الدنيا عند الله عز وجل جناح بعوضة ما سقی عدوّه منها شربه ماء(1)،

ولذا لم يجعلها الله ثواباً لمؤمن لأن عمله عظيم ولا تکافئه الدنيا أبداً.

وقد تلاحظ بالنسبة إلی الأعمال فيها، فقد تکون ممدوحة باعتبار تلک الأعمال، ففي نهج البلاغة: «إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنیً لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلّی ملائکة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اکتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة»(2).

والحاصل: إن الحصر في قوله: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ} بيان لحقيقة الدنيا بشکل عام، فهي المتاع الذي يستغلّه إبليس وأعوانه ليخدعوا الناس جميعاً، لکن المؤمنون لاينخدعون لمّا زکوا أنفسهم واهتدوا بهدی الله تعالی والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) .

ص: 576


1- الکافي 2: 246.
2- نهج البلاغة، الحکمة 131.

فالمقصود بيان انخداع العصاة وتارکي الجهاد بالدنيا.

والحاصل: إن المؤمن لاينخدع بالدنيا، بل يأخذها بقيمتها الحقيقية، وذلک بأن يطلب منها ما يصلح به معيشته ويتزود لآخرته، وهو ما يُعبّر عنه في الأخبار بدنيا البلاغ(1)، وأما غالب الناس فينخدعون بالتدليس، فيأخذون الدنيا بثمن بيع الآخرة وبالغفلة والمعاصي.

فتلخص: أن الحصر في قوله: {وَمَا الْحَيَوٰةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَٰعُ الْغُرُورِ} حصر حقيقي أي کل الحياة الدنيا فيها تدليس، فلا بد للمؤمن أن لاينخدع فيأخذ من الدنيا بالمقدار الذي أباحه الله تعالی، لا أن يشتريها بالعصيان والکفر!

وقوله: {الْغُرُورِ} بمعنی الخداع بغفلة، ومن أسماء الشيطان {الْغُرُورِ} وهو صيغة مبالغة کما قال: {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}(2).

الخامس: قوله تعالی: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ}.

بيان لسنة من سنن الله تعالی فيما يتعلّق بالمال، وحثّ للجهاد به، وعدم البخل به خوفاً من زواله أو نقصانه، وذلک لأن الأموال في زوال، إما بالخسارة والآفات، فکم من بخيل خسر في تجارته أو زالت أمواله بأسباب طبيعية أو غير طبيعية، أو بالموت، فمن لم يخسر ماله ولم يصبه آفة سرعان ما يموت وحينئذٍ يترک الأموال لورثته أو لغيرهم، فهم يتمتعون بتلک الأموال وهو يحاسب عليها، وفي الحديث: «وشر منه من باع آخرته بدنيا غيره»(3).

ص: 577


1- الکافي 2: 131.
2- سورة لقمان، الآية: 33.
3- من لايحضره الفقيه 4: 353.

ومن ذلک يتضح أن قوله: {وَأَنفُسِكُمْ} ليس تکراراً لقوله: {كُلُّ نَفْسٖ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} کما لا حاجة إلی تفسيره بأن المراد الأمراض والأسقام ونحوها، لأن ذلک خلاف السياق، بل الظاهر أن المقصود - والله العالم - هو أن المال لايبقی لکم إما بزواله أو بزوالکم.

وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أن {فِي أَمْوَٰلِكُمْ} بإخراج الزکاة {وَأَنفُسِكُمْ} بتوطين النفس علی الصبر»(1) وذلک من مصاديق بذل المال في سبيل الله تعالی حيث يمتحن الله الناس به، کما أن توطين النفس علی الصبر قد يکون بمعنی الابتلاء بأمور تستدعي الصبر عليها.

السادس: قوله تعالی: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} الآية.

بيان لمصيبة أخری تصيب المجاهدين، وإنما ذکرها ليوطنوا أنفسهم عليها، فإن الذي يتوقع حدوث مشکلة يکون تحمله لها أهون وأسهل من الذي تأتيه بغتة من غير استعداد.

فالمجاهد قد يصاب في نفسه وقد يصاب في ماله، لکن الأصعب من ذلک شماتة الأعداء وطعنهم في الدين وأهله، وقد لايتحمل بعض الناس ذلک فيقعون في المخالفة والمعصية، مع أن الصحيح هو کسب رضا الله تعالی والرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لا رضا الناس وخاصة إذا کانوا أعداءاً، قال تعالی: {وَرَسُولُهُۥ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}(2).

وقوله: {أَذًى} أي قولاً فيه أذی، و(الأذية) دون الضر أي أقل منه،

ص: 578


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 540، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) .
2- سورة التوبة، الآية: 62.

فهؤلاء لايتمکنون من ضررکم ضرراً جسيماً، بل کل ما يصنعونه هو ايذاؤکم بکلامهم کما قال: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}(1).

وقوله: {كَثِيرًا} بمعنی مواصلتهم في الطعن والشماتة وإلقاء الشبهات، فهم لايتوانون في باطلهم، فعليکم أن تستقيموا علی حقکم.

السابع: قوله تعالی: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.

تعليم لکيفية الاستقامة، وعدم التأثر بالبلاء والأذی:

فأولاً: الصبر، بمعنی التحمل وعدم الانهيار.

وثانياً: التقوی، بمعنی کف النفس وحفظها عن المحرمات.

وهذان علاجان للبلاء والأذی، فأمامهما البلاء لابد من الصبر والتقوی، ويحتمل أن يکون الصبر في البلاء والتقوی في الأذی.

وقوله: {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} «العزم» إما مصدر بمعنی المفعول فالمعنی من واجبات الأمور أي أوجبها الله تعالی، أو بمعنی أنه لابد من العزم عليها أي إثبات الرأي وإمضائه وعدم التراجع عنه.

ولا يخفی أن النتيجة العظيمة - کالفوز بالجنة والبُعد عن النار - بحاجة إلی مقدمات صعبة، وتلک المقدمات لابد من اقترانها بالعزم الأکيد، وإلاّ لوهن الإنسان عنها فلا يصل إلی مبتغاه، وقد مرّ أنه في الدنيا کلّما کانت النتيجة أعظم کان الوصول إليها أصعب، وثواب الآخرة أشرف من الدنيا وهو أعلی الغايات وأسماها فکانت مقدماته أصعب فلابد فيها من الصبر وکف النفس.

ص: 579


1- سورة آل عمران، الآية: 111.

وفي التقريب: {عَزْمِ الْأُمُورِ} فيه مجاز إذ نُسب العزم الذي هو للإنسان إلی الأمر، کقولک: أصرّت الأمور عليّ، لبيان أن الأمر قد صار عزماً من شدة لزومه وفرض وجوبه(1).

ص: 580


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 430.

الآيات 187-189

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ (189)}

187- ومن البلايا التي يبتلي بها المؤمنون هو کتمان أهل الکتاب للحق مضافاً إلی ما مرّ من تکذيبهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَإِذْ} اذکر الوقت الذي {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ} العهد الأکيد عبر الأنبياء وعبر ما أودعه في فطرتهم {الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} علمائهم: {لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ} أي بيان الکتاب وما فيه من البشارة برسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) {وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ} أي عدم کتمان الکتاب إذا بُعث محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {فَنَبَذُوهُ} الميثاق أو الکتاب {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} کناية عن الإهمال وعدم الاعتناء، {وَاشْتَرَوْاْ بِهِ} بدلّوه عمداً {ثَمَنًا قَلِيلًا} حطام الدنيا من رئاسة وأموال وأهواء، {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} تحقير لما حصلوا عليه.

188- وهؤلاء هم الذين يقلّبون الحقائق ف {لَا تَحْسَبَنَّ} لاتتوهم أيها السامع {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ} ماصنعوا من الکتمان والتحريف والتدليس {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ} يمدحهم الناس {بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} من

ص: 581

الوفاء بالميثاق {فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ} نجاة وبُعد {مِّنَ الْعَذَابِ} فهم يستحقونه، {وَ} لايغفر لهم ف {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

189- {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} فلا يضره کفر ونفاق وسوء صنيع بعض الناس، {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ} فإمهالهم عن حکمة لا عن عجز، کما أنهم لايفوتونه فيقدر علی عقابهم.

بحوث

الأول: سياق الآيات في بيان ابتلاء المؤمنين، فکما ابتلوا بالتکذيب وبسماع أقوال تؤذيهم وبغير ذلک من البلايا، کذلک ابتلوا بعلماء أهل الکتاب حيث کتموا الحق ولم يبيّنوه، وهم مع ذلک يظهرون أنفسهم بمظهر الحق ويتوقعون من الناس مدحهم والثناء عليهم، ثم يُسلّي الله تعالی رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بأن تجارة هؤلاء خاسرة، لأنهم استحقوا بها العذاب والله تعالی لايغفر لهم لذا سينالونه، إذ هو تعالی المالک لکل شيء القادر علی فعل ما يشاء.

الثاني: قوله تعالی: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَٰقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ...} الآية.

(الميثاق) هو العهد الأکيد، وهو ما جعله الله تعالی في فطرتهم تکويناً بقبح الظلم وحسن العدل وعدم حجب الحق عن الناس لأجل الأهواء والمصالح، وکذلک أخذ الله العهد عنهم بواسطة أنبيائه (عليهم السلام) قال تعالی: {فَخَلَفَ مِنۢ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُۥ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَٰقُ الْكِتَٰبِ أَن لَّا يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْأخِرَةُ خَيْرٌ

ص: 582

لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(1)،

وهذا الميثاق کان في رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) کما عن الإمام الباقر (عليه السلام) (2).

وقوله: {أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} أي علمائهم، لأن الجهال منهم لم يکونوا يعلمون الکتاب إلاّ أماني کما مرّ في سورة البقرة، والتعبير ب {أُوتُواْ الْكِتَٰبَ} للدلالة علی أنهم لم ينسوا العهد بسبب طول المدة، وذلک لوجوده في الکتاب الذي بأيديهم.

وقوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ} البيان مؤکد بلام القسم ونون التأکيد الثقيلة، ولا يخفی أن البيان لايکون إلاّ بعد العلم.

وفي المناهج: فوجوب طلب العلم والتفقه في الدين ليس لأجل العلم الإجمالي بوجود أحکام واجبة أو محرّمة للخروج عن عهدتها، بل لأجل بداهة وجوب القيام بحمل الدعوة الإلهية والعلوم الربانية والذب عنها من التحريف والانتحال والتأويل بالباطل(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «ما أخذ الله علی أهل الجهل أن يتعلّموا حتی أخذ علی أهل العلم أن يعلّموا»(4).

وقوله: {وَلَا تَكْتُمُونَهُۥ} إما تأکيد للبيان إذ الکتمان يستلزم عدم البيان، کما أن البيان يستلزم عدم الکتمان.

وإما أن البيان هو الشرح والتوضيح وبيان المصداق، وعدم الکتمان

ص: 583


1- سورة الأعراف، الآية: 169.
2- تفسير الصافي 2: 163.
3- مناهج البيان 4: 211 (بتصرف).
4- نهج البلاغة، الحکمة 477.

بمعنی الإظهار للناس، وذلک لأنه قد لايُخفي أحد الکتاب ولا يحرّف فيه لکن لايدعو الناس إليه ولا يوضّحه لهم بل يسکت عنه، فالآية تنهی عن السکوت وتأمر بالدعوة إليه.

وإما البيان مقابل التحريف، وعدم الکتمان مقابل الإظهار، فکما نُهوا عن الإخفاء کذلک نُهوا عن التحريف.

الثالث: قوله تعالی: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا...} الآية.

أي بدلاً عن الوفاء بالميثاق ترکوه وأهملوه، لأنهم زعموا أنه خطر علی مصالحهم الدنيوية، لکنهم قد أخطؤوا إذ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فلو کانوا يؤمنون لکان الله يعزّهم بعزّة حقيقية في الدنيا والآخرة، لکنهم بنقضهم الميثاق خسروا دنياهم حيث حاکوا المؤامرات وأوقدوا الحروب فخسروا فيها نفوسهم وأموالهم وديارهم وأهليهم، کما اشتروا لأنفسهم العذاب الدائم الخالد.

وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} کناية عن عدم الإهتمام، کالذي يلقي ما لايريده خلف ظهره، ولذا کتموه وحرفوه وأوّلوه بالباطل، ويقابله «جعله نصب عينيه»، کنايه عن شدة الإهتمام به.

وقوله: {وَاشْتَرَوْاْ} أي بدّلوه بالثمن القليل، والاشتراء کما يطلق علی أخذ المثمن، کذلک يطلق علی أخذ الثمن، فهو بمعنی التبديل سواء کان تبديل ثمن ببضاعة أو بالعکس، فالمعنی: إن هؤلاء عوّضوا الميثاق بحطام الدنيا، فلم يحفظوه، وفي قوله: {وَاشْتَرَوْاْ} بيان أن عملهم هذا لم يکن عن

ص: 584

غفلة أو جهل بل تعمّدوا ذلک لينالوا الحطام.

وقوله: {ثَمَنًا قَلِيلًا} لأن الدنيا متاع قليل من حيث الکمّيّة والکيفية وعدم الاستمرار، فأخذوا أموالاً قليلة من عوامّهم الذين دلّسوا وترأسوا عليهم، وحکّموا أهوائهم، لکن کل ذلک قليل ولمدة محدودة.

وقوله: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} هذا لتحقير ما حصلوا عليه، فلا قيمة لتلک الأموال والرئاسة والأهواء، التي کانت ثمناً لنقض العهد، فإنه رذيلة لابد من اجتنابها، لا ارتکابها ولو بثمن کل الدنيا وما فيها، فإنسانية الإنسان أسمی من کل ذلک.

الرابع: قوله تعالی: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ...} الآية.

بعد أن ذکر تعالی سوء صنيعهم، يبيّن سبحانه عذابهم علی عملهم، فهم يفرحون بما صنعوا من الکتمان وعدم البيان واشتراء الثمن القليل، وقد حصلوا علی مدح من عوامّهم، لکن لاينفعهم ذلک کلّه، لأنهم استحقوا العذاب بسوء صنيعهم وسوف لايغفر الله تعالی لهم، فلا يتوهموا أنهم وإن استحقوا العذاب إلا أن المغفره ستشملهم! کلاّ، فليس ذلک مجرد وعيد قد لاينفّذ، بل هو إخبار وتأکيد علی فعلية ذلک العذاب.

وقوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ} أي يفرحون علی الباطل الذي صنعوه وهو التدليس علی العوام بالکتمان وعدم البيان، وإنما يفرحون لأنهم قبضوا ثمنه من الحطام، فانتفاعهم بتدليسهم صار سبباً لفرحهم.

وقيل: فرحهم بعموم أعمالهم حتی الصالحة منها، فإن ذلک مذموم، بل المؤمنون في وجل کما قال تعالی: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ

ص: 585

أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَٰجِعُونَ}(1)، وقال تعالی: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَىٰكُمْ}(2).

نعم المؤمن يفرح بفضل الله تعالی وبالحق، کما أنه يفرح بالحسنة نفسها لا بما يفعله، قال تعالی: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(3)، وقال: {وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}(4).

لکن الفرح بالأعمال الصالحة - وإن کان مذموماً - إلاّ أنه غير مراد في هذه الآية، وذلک لأنّ الفرح بنفسه ليس حراماً حتی يستوجب العذاب، فالعذاب الموعود في هذه الآيه قرينة علی أن المراد فرحهم بما أتوا من عدم البيان والکتمان.

أو بمعنی أنهم يفرحون بکل أعمالهم حقاً کانت أم باطلاً، عکس المؤمن الذي لايفرح بما صدر منه من الباطل، وفي الحديث: «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»(5).

والأنسب أن الذم منصب علی ما أتوا من القبائح، لا علی مجرد الفرح به، کما سيأتي بيانه بعد قليل.

وقوله: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} أي لم يفوا بالميثاق ولم يُظهروا الحق ولم يُصدقوا، ولکنهم مع ذلک يحبون أن يمدحهم الناس

ص: 586


1- سورة المؤمنون، الآية: 60.
2- سورة الحديد، الآية: 23.
3- سورة يونس، الآية: 58.
4- سورة الرعد، الآية: 36.
5- الکافي 2: 232.

بالوفاء والعمل بالحق وبالصدق، وهذا دأب کل أهل الباطل حيث يحبون أن يمدحهم الناس بأنهم أتباع الحق وعاملون به، ولو بيّن الناس أعمالهم القبيحة ونواياهم الشنيعة لانزعجوا، وکفی ذلک علامة علی حسن الحق وقبح الباطل، وکفاه حجة علی أهل الباطل.

وفي التقريب: ومن الناس من لايدخل في عمل الخير مع العاملين، فإذا خسر العاملون ما أرادوا وصف نفسه بالحصانة والتعقل، وإذا ربحوا جعل نفسه من المؤيدين لهم، وتوقّع أن يُثنی عليه ثناء العاملين(1).

ثم إن قوله: {بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} يدلّ علی أن الذم خاص بمن يحب أن يمدح بما لم يفعله، وأما إذا فعل الصالحات فلا بأس بأن يحب المدح، بل قد قيل: إنه خلق حسن ومن الأمور الفطرية أن يحب الإنسان المحمدة علی عمله الصالح، کما قال ابراهيم (عليه السلام) : {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٖ فِي الْأخِرِينَ}(2).

لکن الأقرب أن هذا الحب وإن لم يکن مذموماً إلاّ أن الإنسان لابد من أن ينزّه نفسه عنه بل يکون همّه رضا الله تعالی، وأما قول ابراهيم (عليه السلام) فليس لأجل أن يُمدح بل لأجل أن يُتخذ أسوة.

والحاصل: إن ذمّهم بأنهم يحبون أن يمدحوا بما لم يفعلوا إما علی نفس هذا الحب باعتبار أنه غرور وعجب، أو علی عدم الفعل نظير قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(3) حيث إن الذم منصب علی عدم الفعل لا علی القول، وهذا أنسب بالسياق حيث وعد العذاب من جهتين: فعل القبائح بقوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا

ص: 587


1- تقريب القرآن إلی الأذهان 1: 431.
2- سورة الشعراء، الآية: 84.
3- سورة الصف، الآية: 2.

أَتَواْ}، وترک الطاعات بقوله: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ}، وفي ذلک تشنيع عليهم بأنهم لم يکتفوا بفعل المعاصي حتی زادوا عليه الفرح عليها، کما لم يکتفوا بترک الطاعات حتی زادوا حبهم بأن يحمدوا عليها.

وقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُم} تأکيد لما في أول الآية، لطول الفصل بالمفعول الأول.

وقوله: {بِمَفَازَةٖ مِّنَ الْعَذَابِ} مصدر ميمي من الفوز، أي فائزين بالنجاة عن العذاب، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ببُعد من العذاب»(1)

وهذا لبيان استحقاقهم للعذاب.

وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إخبار عن عدم العفو عنهم، فهذا ليس تأکيداً لقبله، بل ذاک لبيان الاستحقاق وهذا لبيان الوقوع.

أو لأنه تعالی لما ذکر جريمتين من جرائمهم بفرحهم بما أتوا وبحبهم بالمدح بما لم يفعلوا، أراد تأکيد العذاب مرتين.

الخامس: قوله تعالی: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ...} الآية.

هذا کحسن الختام لهذا المقطع من سورة آل عمران، وکأنه لبيان عدم خروجهم عن سلطته بعصيانهم، وعدم عجزه عن عقابهم، فهؤلاء جميعاً ملکه ولايمکنهم الفرار من مملکته، لأن جميع السموات والأرض في قبضته، وهو علی عذابهم قدير، فلا يفوته ما يريد، ولئن أمهلهم أياماً معدودة فلحکمته ولتظهر حقيقتهم حتی لايکون عقابهم ظلماً، لأنه لايعاقب بعلمه وإنما يعاقبهم بعملهم سبحانه وتعالی.

ص: 588


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 541.

الآيات 190-194

اشارة

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُۥ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}

خاتمة السورة

وعند ختام السورة تلخيص لما ورد فيها، وتضرع إلی الله تعالی وابتهال إليه عزوجل، فيذکر فيه أصول الدين کلّها، ودعوة إلی الإيمان والعمل الصالح والجهاد في سبيله:

190- أما التوحيد: ف {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} أي إيجادهما وإنشاؤهما، {وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} تعاقبهما بإتقان {لَأيَٰتٖ} دلائل واضحة علی وجود الله تعالی وتوحيده وعلی صفاته کقدرته وعلمه {لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} أصحاب العقول الخالصة من الشوائب، ولهؤلاء موقف ذکر وموقف خشية وموقف رغبة، ذکرتها الآيات التالية.

ص: 589

191- هؤلاءهم {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} بقلبهم وبلسانهم وبصلاتهم، حالکونهم {قِيَٰمًا} قائمين، {وَقُعُودًا} قاعدين، {وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ} مضطجعين، {وَيَتَفَكَّرُونَ} تفکر اعتبار {فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} قائلين: يا {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا} الخلق {بَٰطِلًا} عبثاً وبدون غاية {سُبْحَٰنَكَ} ننزهک تنزيهاً من العبث، بل خلقت بالحق لترحم المخلوقات وتعذب من رفض الرحمة فلابد من بعث {فَقِنَا} احفظنا {عَذَابَ النَّارِ} الذي هيّأتَهُ للکفار.

192- أما معادهم: فيقولون {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُۥ} والخزي ذلّ مع افتضاح، وسبب ذلک ظلمه نفسه {وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ} بالکفر والعصيان {مِنْ أَنصَارٖ} ينجونهم من عذاب الله تعالی.

193- وأما تصديقهم الرسول: فيقولون {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) {يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ} يدعو إليه، {أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} فاستجبنا له {رَبَّنَا فَاغْفِرْ} أ ُستر {لَنَا ذُنُوبَنَا} فإنها ذات تبعات وأذناب {وَكَفِّرْ} أُمح وبدّل {عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} فإنّها مستقبحة {وَتَوَفَّنَا} اقبض روحنا فاجعلها {مَعَ الْأَبْرَارِ}، وذلک بأن توفّقنا للعمل الصالح حتی تکون منهم.

194- وحيث أطاعوا - عقيدة وعملاً - طمعوا في أن يتقبل الله عملهم، فيقولون: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ} أي علی لسانهم أو علی تصديقهم، وهو الثواب والجنة، {وَلَا تُخْزِنَا} لا تذلّنا بافتضاح {يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} بعدم قبول أعمالنا {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} حيث وعدت بالمغفرة والجنة لمن آمن وعمل صالحاً.

ص: 590

بحوث

الأول: من الآية 190 إلی نهاية السورة کالتلخيص لکل ما ورد فيها من أصول الدين وأهم فروعه، والوعد بالثواب والجنة لمن آمن وعمل صالحاً، والوعيد بالنار لمن کفر وعصی، وبذکر أن بعض أهل الکتاب انتفعوا بالحجج فآمنوا ولم يشتروا به ثمناً قليلاً، وانتهاءً بالدعوة إلی الصبر والاستقامة والتقوی.

فالتوحيد في قوله تعالی: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ...} حيث إن أولي الألباب تفکروا فرفعوا الغشاوة عن قلوبهم، فرأوا الله بقلوبهم بمعرفة حقة يقينية وعلموا بأنه الکمال المطلق لانقص فيه، والمعاد في قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ...}، والنبوة والإمامة في قوله: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا...}، وأما عملهم الصالح ففي قوله: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم...}، مع ذکر أهم الاعمال التي ذکرتها السورة أي الجهاد في سبيله وما استتبعه من الأذی والشهادة في قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ...} وسيأتي بيان سائر الآيات.

وقد مرّ أن السور عادة تبدأ بمقدمة تمهّد لما يُراد ذکره، ثم يتمّ بيان المقصود منها، ثم تنتهي بخاتمة کالتلخيص لها، وهذا أسلوب انجع وأحسن في تهيأة النفوس بدايةً، وترکيز المطالب في الأذهان نهايةً.

کما أن هذه الآيات تذکر أصناف الناس، من المؤمنين والمشرکين وأهل الکتاب، فالمؤمنون يذکرون الله ويعتبرون بآياته ويرغبون في ثوابه ويخشونه، وأما الکفار فيتمتعون قليلاً ثم مصيرهم إلی النار، وأما أهل الکتاب فمنهم من يؤمن والله تعالی يجازيه بالثواب الجزيل.

ص: 591

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَٰفِ...} الآية.

حيث ذکرت الآية السابقة أن الله تعالی مالک السموات والأرض وأنه علی کل شيء قدير، بدأت هذه الآية في التوحيد ببيان الدلالة علی ذلک، والآية تتضمن موضوعين، أصل الخلق، والتدبير.

أما أصل الخلق، فإن إيجاد السموات والأرض دليل علی خالق.

وبيانه بمقدمتين بديهيتين عقلاً:

1- بداهة وجود الموجودات، فالإنسان يعلم بوجود نفسه ووجودات حوله، أما السوفسطائيون الذين ينکرون الوجود ويعتبرون کل شيء خيالاً فقد عطّلوا عقولهم، فلا کلام معهم.

2- بداهة استحالة تبدل العدم إلی الوجود من غير علة.

وحينئذٍ فضرورة العقل قائمة علی وجود شيء قديم، لم يسبقه عدم، وهذا القديم هو الله تعالی، وأما الماديون فقد کانوا بدايةً يزعمون أن العالم وُجد صدفة، لکنهم لمّا اصطدموا ببداهة العقول باستحالة تبدّل العدم إلی الوجود من غير علة، اضطروا إلی أن يغيّروا کلامهم إلی أن القديم هو المادة، لکن کلامهم يصطدم بواقع تغيّر المادة، فهذا التغيّر إما بدون عِلّة ويستحيل عند العقل المعلول من غير عِلة، وإما العِلة نفس المادة فهي التي تغيّر نفسها وهذا أيضاً غير ممکن لأن المادة فاقدة للحياة والشعور والاختيار، وإما أن يکون هناک مُغيّر يغيّرها وليس إلا القديم الذي هو الله سبحانه وتعالی.

ولذا تجد الماديين محتارين فيما يقوله العلم الحديث من أن جميع الأجرام السماوية کانت کتلة واحدة مجتمعة بصورة متراکمة بحجم صغير،

ص: 592

ثم حدث الانفجار الکوني الکبير فتفرقت وتشکّلت منها السموات والنجوم والأرض، فما هو سبب ذلک الإنفجار؟ الإلهيون منهم يقولون هو الله تعالی، وأما الماديون منهم ففي حيرة، لأن المادة لو کانت قديمة ومن الأزل کانت مجتمعة في کتلة متراکمة فلماذا انفجرت؟! ولماذا في هذا الوقت بالذات؟! ومرجع ذلک إلی أن التغيّر دليل الحدوث، وأن القديم يستحيل عليه التغيّر.

قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ} أي إيجادهما وإنشاؤهما، فأصل خلق المخلوقات دليل علی وجود الخالق، فالعاقل إذا رأی شيئاً مصنوعاً يرفض أنه من غير صانع، مع أن هذه الصنائع إنما هي مجرد تغيير في صورة المواد الموجودة من الحديد والنفط وسائر المعادن، وبعبارة أخری: أصحاب الحرف والصنائع يغيّرون صورة المواد الموجودة، فهل يعقل أن تکون نفس المادة وبهذه العظمة من غير خالق؟!

وأما التدبير ففي قوله: {وَاخْتِلَٰفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي فکما أن أصل الخلق آية، کذلک تدبير الله تعالی لما خلقه بأحسن تدبير، وأظهر مصاديق تدبيره تعالی هو تعاقب الليل والنهار بهذا الاتقان، بحيث صارت الأرض صالحة لحياة الإنسان والنبات والحيوان قال تعالی: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَٰمَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٖ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(1).

ص: 593


1- سورة القصص، الآية: 71-73.

ولعل ذکر خصوص اختلاف الليل والنهار مع أن کل ما في هذا الکون آية علی تدبيره سبحانه وتعالی، هو وضوح نفع هذا التدبير وحسنه، فکل إنسان من صغير أو کبير يدرکه ويعلم فائدته.

ولولا هذا التعاقب لما أمکنت الحياة، فالقمر مثلاً - کما يقوله علماء الفلک - وجه منه بطرف الشمس دائماً وهو الوجه المضيء، ووجه آخر منه في الجهة المقابلة وهو الوجه المظلم منه، فلذا کان الوجه المضيء حاراً جداً والوجه المظلم بارداً جداً لايصلحان للحياة أبداً، وحتی في هذه الکرة الأرضية القطبان غير صالحين للحياة، بل المناطق القريبة منهما تصعب الحياة فيهما لقصر نهارها تارة وليلها تارة أخری.

وقوله: {لَأيَٰتٖ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} أي آيات تُذکّر بالخالق تبارک وتعالی، وهذا قد يکون بالاستدلال النظري بأن يری الإنسان الوجود وحسن النظم فيستدل علی خالق حکيم، وتارة أخری يکون برفع الغشاوة والغفلة عن القلوب فتری نوره تبارک وتعالی فلا يکون استدلالاً نظرياً بل رؤية بالقلب، نظير من علی عينه غطاء فقد يستدل علی النهار باستدلال نظري کأن يقول قد مرّ علی غروب الشمس کذا ساعة فإذن الآن نهار، وقد يرفع الغطاء عن عينه فيری النهار فهذا لايستدل علی النهار بشيء بل يدرکه إدراکاً بحواسه، وليس الله سبحانه جسماً حتی يدرک بالحواس، لکن نوره ظاهر للعقول، لکن الإنسان بحاجة إلی رفع الغشاوة والغفلة، ولذا عبر عمّن يعتبر بالآيات بقوله: {لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ} أي العقل الخالص من الشوائب، وفي الحديث: «اعْر ِفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ»(1).

ص: 594


1- الکافي 1: 85.

الثالث: قوله تعالی: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}.

هذا هو سبب کونهم أولي الألباب، أي لايغفلون عن الله تعالی، وذلک لايدع تراکم الجهل والغفلة علی قلوبهم بحيث يتراکم رين علی قلوبهم فيکون حاجباً لهم عن الله تعالی.

ولعل هذا من أسباب تشريع الصلوات الخمس في کل يوم، فيبدأ الإنسان يومه بالصلاة، وينهيه بالصلاة، مع توسط صلاة في وسط النهار أيضاً، حتی لاتشغل الدنيا وأمورها الإنسان عن ذکر الله تعالی فيغفل عنه، ومن غير ضرر علی معيشة الإنسان، وکلّما أراد الإنسان زيادة معرفة بالله أمکنه الإکثار من الصلوات، فلذا شرعت النوافل في آناء الليل وأطراف النهار، بل يمکن للإنسان الصلاة المستحبة في کل وقت فإنها خير موضوع، لأنها تشتمل علی الذکر باللسان والطاعة بالاعضاء والجوارح.

وهذه الآية عامة لذکر الله تعالی بأية کيفية مشروعة وبکل حالة، والصلاة أهم مصداق لها، ولذا ورد عن الأئمة (عليهم السلام) بيان هذا المصداق، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «الصحيح يصلي قائماً وقعوداً، والمريض يصلي جالساً، وعلی جنوبهم أضعف من المريض الذي يصلي جالساً»(1).

الرابع: قوله تعالی: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ}.

أي ليس ذکرهم مجرد لقلقة لسان أو رکوع وسجود من غير فهم لحقيقة العبادة، فالخوارج کانوا يکثرون من تلاوة القرآن ومن الصلاة لکن من غير فهم کما قال عنهم رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «يقرؤون القران لايتجاوز

ص: 595


1- البرهان في تفسير القرآن 2: 549، عن تفسير العياشي.

تراقيهم»(1) أي لاينفذ في قلوبهم، فهذه عبادة لاتنفع، بل عنه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «رُبّ تالٍ للقران والقران يلعنه»(2) بل لابد من ضميمة الفهم إليه، وذلک يکون عبر التفکر في عظيم آيات الله تعالی، فقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ} أي تفکر اعتبار واستبصار، فهو الذي يرفع الغشاوة عن القلوب، فعن الإمام الکاظم (عليه السلام) أنه قال: «إن لکل شيء دليلاً، ودليل العقل التفکّر، ودليل التفکّر الصمت»(3)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «التفکر يدعو إلی البِّر والعمل به»(4)، وفي المناهج: نتيجة التفکر هي التذکرة والمعرفة بالآيات، وتکون تلک تذکرة ومعرفة واقعية، إذ معرفة الحقيقة النورية لاتمکن إلاّ بظهورها الذاتي وبتعريفها نفسها، فليس ذو الآيات أمراً مشکوکاً فيه مجهولاً ليحتاج إثباته بإقامة البرهان علی وجوده، بل مرجع الإثبات إلی الظهور الذاتي بلا تشبيه وتعطيل(5).

ثم إن هذه الآية تدعو إلی التفکر في آيات الله أي في الخلق، لا في ذات الخالق، فإنه منهي عنه، وذلک لعدم تمکن الإنسان من الوصول إلی حقيقة ذات الله تعالی، لأنه سبحانه غير محدود ولا شبيه له، فلا يمکن للإنسان المحدود معرفة کنه ذاته، فإذا فکّر في ذلک ازداد حيرة أو ضلالاً، فعليه أن يفکر في آياته ليزداد معرفة به تعالی بوجوده وبصفاته.

ص: 596


1- بحار الأنوار 33: 338.
2- مستدرک الوسائل 4: 249.
3- الکافي 1: 10.
4- الکافي 2: 45.
5- مناهج البيان 4: 216.

وقوله: {فِي خَلْقِ} إما بمعنی المخلوق والإضافة بيانية أي مخلوق هو السموات والأرض، أو بمعناه المصدري أي يفکرون في إيجادهما وإنشائهما بأنه بالحق لا بالباطل.

وإنما لم يذکر اختلاف الليل والنهار في هذه الآية مع ذکره في الآية السابقة، لأن تلک کانت في مقام معرفته تعالی عبر خلقه وتدبيره، وأما هذه الآية ففي مقام بيان الفائدة، وفائدة تعاقب الليل والنهار لا تخفی علی کل أحد فلا داعي لذکرها هنا، وإنما فائدة أصل الخلق خافية علی کثير من الناس، فهؤلاء يتفکرون في الفائدة والغرض من الخلق فيتوصلون إلی نتيجة بأنه ليس الخلق عبثاً، بل هناک غرض سامي وحکمة بالغة.

قيل: لابد من کون التفکر بعد ذکر الله تعالی حتی يکون بالطريقة الصحيحة ولولا ذلک لم يکن التفکر موصلاً إلی المقصود.

الخامس: قوله تعالی: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

هذا القول يصاحب التفکر، وهو فائدة هذا التفکر وما ينتج منه.

وحاصله: أن الله تعالی حکيم قدير غني، فلا يفعل شيئاً عبثاً ولعباً ولهواً، وإنما يعبث السفيه أو المحتاج أو الضعيف، فالطفل مثلاً يلعب لحاجته إلی اللعب ليملأ فراغه وليطّور قدراته وعقله، والکبير قد يلعب أو يلهو دفعاً لتعبه من العمل أو ليرجع نشاطه أو لتقوية قدراته البدنية أو العقلية أو ليغفل عن بعض مصائبه، وقد يلعب سفاهة وجهلاً وغفلة، وأما الله عز وجل فهو الحکيم القدير الغني فلا يعبث، وکل أفعاله سبحانه لحکمة ومصلحة.

ص: 597

وأما خلقه الخلق فلأجل أن يرحمهم، بل عدم الخلق في الجملة نقص، والله منزه عن کل نقص، إذ القادر الحکيم الرحيم الذي لا يکلّفه الخلق شيئاً ولا ينقصه شيئاً، فلا يصاب بتعب ولا تنقص خزائنه، إذا لم يخلق ليرحم کان محلاً للسؤال لماذا لم يخلق، أما إذا خلق ليرحم فلا وجه للسؤال أصلاً، نعم الضعيف المحتاج الذي يکلّفه الصنع ويستنزف طاقاته الجسدية والمادية لابدّ أن يصرف تلک الطاقات فيما يحتاج هو إليه، فإذا لم يحتاجه يقال له انت لم تکن تحتاجه وقد کلّفک وقتاً وطاقة واستنزف امکاناتک فلماذا صنعت؟

فلذا کان أصل الخلقة بحکمة.

ثم إن الله تعالی قادر علی أعلی درجات الرحمة، فمن الحکمة خلق الجنة ونعيمها، کما أن هناک ظلماً يحدث في الدنيا وأکثر الأحيان يفلت الظالم من العقاب، فمن الحکمة خلق النار وعقوباتها، فلولا الآخرة لکان الاقتصار علی الدنيا عبثاً ومن غير حکمة، ولذا في عدة آيات فرّع الآخرة علی عدم العبث في الخلق، کما في هذه الآية، وکقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(1).

ثم إن المؤمن إذا علم بحکمة الخالق، فلا يضيره عدم علمه بسبب أفعاله تعالی، فمادام أنّه حکيم فلابد أن يکون فعله عن حکمة لا عن باطل، فالذي يخلق هذا الخلق العظيم ويدبّره بأحسن تدبير لايعقل عدم کونه حکيماً، إذ لايعقل حسن الصنيع مع نقص في الصانع، ولذا المؤمن الحق هو من يسلّم

ص: 598


1- سورة المؤمنون، الآية: 115.

لقضاء الله وتشريعاته سواء علم بوجه الحکمة فيها أم لم يعلم.

وقوله: {بَٰطِلًا} أي بالباطل أو للباطل، والمراد عبثاً وبدون غاية، فأصل الغايات الإنسان، قال تعالی: {إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، ثم علّمهم طريقة نيل الرحمة الخاصة حيث قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، والأرض بما فيها خلقها لأجل الإنسان قال تعالی: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}(3). وقال: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(4). وأما السموات فقسم منها يرتبط بنظام الأرض کالشمس والقمر، وقسم منها يرتبط بحاجة الإنسان قال تعالی: {وَعَلَٰمَٰتٖ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}(5)، وکلها دلائل علی عظمته وهداية إلی دينه، قال تعالی: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٖ}(6)، وقال تعالی: {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا...} الآية(7).

وقوله: {سُبْحَٰنَكَ} مفعول مطلق أي أسبّحک سبحاناً، حذف الفعل وأضيف المصدر إلی الضمير، والإضافة بمعنی اللام، والمعنی ننزهک تنزيهاً

ص: 599


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة الرحمن، الآية: 10.
4- سورة البقرة، الآية: 29.
5- سورة النحل، الآية: 16.
6- سورة الأعراف، الآية: 185.
7- سورة الأنعام، الآية: 75-79.

عن العبث.

وقوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الفاء للتفريع، فحيث علموا أن الخلق ليس عبثاً وإنما هناک جزاء، تضرعوا إلی الله تعالی أن يحفظهم من عذاب النار، وبعبارة أخری: عِلمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض دعاهم إلی الاستعاذة بالله تعالی، وقيل: الفاء لبيان أنهم يطلبون جزاء تصديقهم وإيمانهم وتفکّرهم، أو لمّا يتذکرون عظمة الله تعالی يخشون عقابه فيستجيرون به، أو بسبب الذکر تنزل الخشية في قلوبهم، أو لمّا يشاهدون عظمة الله تعالی يخافون من تقصيرهم في طاعته وعبادته وشکر نعمه.

وشأن نزول الآية - وإن کان معناها عاماً - في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فعنه أنه قال: «وأنا الذاکر يقول الله تبارک وتعالی: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}»(1)، وفي تفسير البرهان تفصيل الشأن حيث إن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد هجرة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) خرج من مکة بالفواطم، فتلقاه المشرکون يريدون إرجاعهن فقاتلهم وهزمهم، وسار علي (عليه السلام) بأصحابه وقد کلّوا من الحرب والقتال، فأمرهم بالنزول ليستريحوا، فنزلوا وصلّوا علی مايتمکنون وطرحوا أنفسهم عجزاً يذکرون الله تعالی في هذه الحالات کلها إلی الصباح يمدحونه ويشکرونه ويعبدونه، ثم سار بهم إلی المدينة إلی النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ونزل جبرئيل (عليه السلام) قبل وصولهم وتلا عليه الآيات(2).

ص: 600


1- سورة آل عمران، الآية: 191.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 547.

السادس: قوله تعالی: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُۥ...} الآية.

الظاهر أن هذه الآية وقوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} في الآية السابقة يرتبطان بالتوحيد، أي إننا اعتقدنا بالله وبصفاته ونرجو أن يحفظنا الله من النار، وأما قوله في الآية 194 {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} فليس تکراراً للتأکيد، بل يرتبط بالأعمال، أي اغفر ذنوبنا وکفر سيئاتنا واقبل أعمالنا لئلا نخزی في نار جهنم. وذلک لأن استحقاق الخزي في نار جهنم قد يکون للکفر وبطلان المعتقد وهذا ما تکفلت هذه الآية بيانه، وقد يکون بسبب الذنوب کالقتل والزنا، وهذا ما تکفلت الآية 194 بيانه.

وقوله: {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُۥ} من الخزي وهو ذلّ مع افتضاح(1)،

فأصل الإدخال في النار ذلّ وفضيحة فضلاً عن إيلامها، قال تعالی: {وَتَرَىٰهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَٰشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ}(2)،

وبعکس ذلک المؤمنون فلا يخزيهم الله تعالی قال: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَٰنِهِمْ}(3).

وقوله: {وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٖ} بيان لسبب خزيهم بإدخالهم النار، حيث ظلموا أنفسهم فاستحقوا العذاب، فهم حرموا أنفسهم من رحمة الله تعالی ولا أحد هناک يشفع لهم، فإن الشفعاء لايشفعون إلاّ لمن ارتضاه الله

ص: 601


1- معجم الفروق اللغوية: 215.
2- سورة الشوری، الآية: 45.
3- سورة التحريم، الآية: 8.

تعالی، وهو سبحانه کما لايرضی بالکفر کذلک لايرضی عن الکافر، قال تعالی: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}(1)، وقال: {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَٰسِقِينَ}(2).

و(الانصار) هم الشفعاء، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «ما لهم من أئمة يسمونهم بأسمائهم»(3) أي أئمة حق، بل أئمتهم يدعون إلی النار ويتبرؤون منهم لمّا يرون العذاب.

وقد زعم البعض أن هذه الآية تدلّ علی أن من تناله الشفاعة من المؤمنين لايدخل النار أبداً، فلا شفاعة بعد دخول النار!!

والجواب: أولاً: قد اتضح لک أن الآية في بيان حکم الکفار، فالمراد من الظالمين هنا خصوص الکفار، فلا تشمل المؤمن الذي ظلم نفسه بالمعصية.

وقد دلت روايات کثيرة بل متواترة علی أن بعض من صحت عقيدته يدخل النار إلی حين تصفيته من درن الذنوب، ثم تناله الشفاعة فيخرج من النار إلی الجنة.

وثانياً: ما في مجمع البيان: بأن لا ينافي الشفاعة، لأن النصرة هو الدفع عن المنصور علی وجه المغالبة، وأما الشفاعة فهو علی سبيل المسألة والخضوع والتضرع إلی الله تعالی وليس من النصرة في شيء(4)

فتأمل.

السابع: قوله تعالی: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ أَنْ ءَامِنُواْ

ص: 602


1- سورة الزمر، الآية: 7.
2- سورة التوبة، الآية: 96.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 549، عن تفسير العياشي.
4- مجمع البيان 2: 703.

بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}.

فأشرف من نادی هو رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وأول من استجاب لدعوته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) کما اتفقت عليه کلمة المسلمين، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «هو أمير المؤمنين (عليه السلام) نودي من السماء أن آمن برسول الله، فآمن به»(1).

وهذا القول تصديقهم للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بعد إيمانهم بالله تعالی، فهؤلاء بعد أن تذکروا وذکروا الله واعتقدوا به وبجماله وجلاله، عرفوا بفطرتهم أنه تعالی لايترکهم هملاً، بل يبيّن لهم دينه عن طريق رسول يبعثه فيهم، إذ لاطريق للوقاية من النار ولنيل الرحمة العظمی إلا بطاعة الله تعالی، فلا بد من رسول يبلّغ عن الله تعالی ما يريد ولذا لما سمعوا نداء الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أمنوا به.

وقوله: {يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ} لتمييز المحق من المبطل، فما أکثر من تنبأ بالباطل، وطريقة تميزه عن المحق لذوي الألباب هو کلامه، وأما لعامة الناس فهو معاجزه، ومن ذلک يتضح أن قوله: {يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ} کالعلة لتصديقهم، فهم لم يصدقوا کل منادي بل المنادي الذي ينادي للإيمان.

فاتضح سبب الجمع بين قوله: {مُنَادِيًا} وقوله: {يُنَادِي}، وعدم کفاية أن يقال (منادياً للإيمان)، لأن الغرض هو التصديق بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فلذا قدّم (المنادي) حيث إنه محور التصديق، وأراد بيان علّة التصديق فقال: {يُنَادِي لِلْإِيمَٰنِ}.

وقيل: ذکر النداء مطلقاً ثم مقيداً بالإيمان لتفخيم شأن المنادي، لأنه لا

ص: 603


1- البرهان في تفسير القرآن 1: 549، عن تفسير العياشي.

منادي أعظم من مناد ينادي للايمان، لأن ما يُنادی به مختلف، کالنداء للحرب أو للإغاثة أو للکفاية أو نحو ذلک، وأعظمهم من ينادي للإيمان، کما يقال: هادي يهدي إلی الله(1).

وقوله: {أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ} أي بأن أمنوا به وهذا تفسير لقوله: {لِلْإِيمَٰنِ} ولا يخفی وجوه عدّة في تفخيم هذا الإيمان، فأولاً ذکر المنادي ثم بين المنادی به، وأنه للإيمان، ثم بين أن هذا الإيمان هو الإيمان بالله تعالی، ثم بيان استجابتهم بقوله: {فَآمَنَّا} ففي کل ذلک تفخيم للمنادي والمنادی به.

الثامن: قوله تعالی: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا...} الآية.

(المغفرة): الستر، وهي من الله بمعنی أن يصون العبد من أن يمسه العذاب، ويقابلها العذاب قال تعالی: {أُوْلَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَٰلَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}(2).

و(الذنب): الجرم لأنه ذو تبعات وأذناب.

و(التکفير): إزالة أثر الکفر والکفران، کالتمريض في کونه إزالة للمرض.

و(السيئة): الفعلة القبيحة التي تسوء صاحبها أو غيره، وضدها الحسنة.

فالمعنی غفران الذنب بعدم العقاب عليه، وتکفير السيئة بتبديلها إلی الحسنة، کما قال تعالی: {أُوْلَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَٰتٖ}(3).

ص: 604


1- الکشّاف 1: 348.
2- سورة البقرة، الآية: 175.
3- سورة الفرقان، الآية: 70.

أو باعتبار أن المعاصي قسمان: ما لايمکن تلافيها وجبرانها فهي بحاجة إلی المغفرة، وما يمکن جبرانها وتلافيها فهي بحاجة إلی تکفيرها بأن يفعل الإنسان عملاً حسناً يعادلها ويزيلها.

وقيل: الذنوب هي الکبائر، والسيئات هي الصغائر المکفّرة لقوله تعالی:

{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}(1).

وقيل: المعنی اغفرها حتی لو لم نتب منها، وکفّرها مع التوبة، لأن التکفير لايکون إلا عند فعل العبد.

وقوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} بمعنی اجعلنا أبراراً حتی تتوفانا معهم، يقال: يَبِرُّ ربّه أي يطيعه، وهو من الصدق(2).

وللأبرار مصاديق، فأفضلهم الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ثم من يتبعهم، وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) : «وأصحابک الأبرار»(3)

وغير خفي أنه لايمکن للإنسان أن يکون من الأبرار إلاّ بعد أن يتطهر من ذنوبه، فلذا قدّموا الدعاء بالمغفرة والتکفير علی التوفي مع الأبرار.

التاسع: قوله تعالی: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا...} الآية.

هذا دعاء آخر يرتبط بالمصير يوم القيامة، وهو الإدخال في رحمة الله تعالی کالجنة والإبعاد عن انتقامه کالنار، وهذان يترتبان علی الدعاء السابق إذ محو الذنوب والسيئات والتوفيق للعمل الصالح الذي يجعل الإنسان في

ص: 605


1- سورة النساء، الآية: 31.
2- مقاييس اللغة: 89.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 549، عن تفسير العياشي.

زمرة الأبرار تجعل الإنسان محلاً قابلاً للرحمة الإلهية، فهؤلاء يتضرّعون إلی الله تعالی لتشملهم رحمته.

ودعاؤهم بذلک ليس من باب احتمال خلف الوعد، إذ إنهم يعلمون جزماً بأنه تعالی لايخلف الميعاد، بل لأجل احتمالهم تقصيرهم في نيتهم أو عملهم بحيث لايشملهم الوعد، ففي الحقيقة دعاؤهم بأن يوفقهم الله للعمل الصالح وأن يتقبل عملهم حتی ينالون ما وعده، فما أکثر من يعمل لکن عمله يتحول إلی هباء منثور، وما أکثر من يضلّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.

وقوله: {عَلَىٰ رُسُلِكَ} أي علی لسانهم، أو علی تصديقهم بمعنی الجزاء عليه.

وقوله: {وَلَا تُخْزِنَا} بالإذلال بفضيحة، بمعنی وفقنا لئلا نرتکب ما يوجب خزينا من ترک الطاعات وفعل المعاصي.

ثم إن في تکرار {رَبَّنَا} في بداية کل دعاء إنما هو زيادة تضرع واستکانة له تعالی.

ص: 606

الآيات 195-198

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّنۢ بَعْضٖ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ (196) مَتَٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ (198)}

195- وحيث کانوا صادقين في دعائهم {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ} لبّی دعاءهم {رَبُّهُمْ} قائلاً ب {أَنِّي لَا أُضِيعُ} لا أ ُبطل {عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم} من المؤمنين المتقين، ثم بيّن تعالی عموم العامل بقوله: {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّنۢ بَعْضٖ} تجتمعون علی الدين والطاعة، ثم فصّل الله تعالی العمل والعامل بقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} ترکوا أوطانهم طوعاً لمّا رأوا عدم تمکنهم من إقامة الدين فيها {وَأُخْرِجُواْ} أخرجهم المشرکون جبراً {مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ} آذاهم الکفار {فِي سَبِيلِي} بسبب إيمانهم بالله {وَقَٰتَلُواْ} جهاداً ودفاعاً عن الدين {وَقُتِلُواْ} في سبيل الله {لَأُكَفِّرَنَّ} محواً وتبديلاً {عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ}، وکل ذلک

ص: 607

أجازيهم {ثَوَابًا} وهذا الثواب عظيم لأنه {مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَ} هو تعالی قادر عليه إذ {اللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ الثَّوَابِ} أي الثواب الحسن، هذا بالنسبة إلی المؤمنين.

196- وأمّا الکفار ف{لَا يَغُرَّنَّكَ} لايخدعک أيها السامع {تَقَلُّبُ} تصرّف {الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ} بأن تتوهم حسن حالهم لما اُوتوا من ثروة وإمکانات.

197- فذلک {مَتَٰعٌ قَلِيلٌ} أي خسيس ويتمتعون به لفترة وجيزة، {ثُمَّ مَأْوَىٰهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} المستقر الذين مهدوه لأنفسهم، فلا خير في متاع قليل يستتبع عذاباً دائماً.

198- {لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} بالإيمان والطاعة، فأذيتهم في الدنيا قليلة تعقبها راحة أبدية ف {لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا} حالکون الجنات {نُزُلًا} وهو ما يُهيّأ للضيف من الکرامة والبِّر {مِّنْ عِندِ اللَّهِ}، بل هناک لهم کرامة اعظم {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ} من الجنة {لِّلْأَبْرَارِ} جمع بَرّ وهو الصادق في الطاعة، ولعلّه الرضوان منه تعالی.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ}.

هؤلاء قد أطاعوا الله تعالی بأن ذکروه في مختلف حالاتهم واعتبروا بآياته واستجاروا به من النار وصدّقوا رسوله المنادي بالايمان فآمنوا وأطاعوا واستغفروا، فکانوا صادقين في دعائهم، لذلک استجاب الله دعائهم، بأن تقبّل أعمالهم من غير إضاعة، وخاصة الاعمال العظيمة - والتي ترتبط

ص: 608

بهذه السورة - من الهجرة وتحمل الأذی والجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالی، ووعدهم بتکفير سيئاتهم وإدخالهم الجنات.

فکان من دعائهم: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} فکانت الاستجابة ب {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم}.

وکان من دعائهم: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} فکانت الاستجابة ب{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}.

وکان من دعائهم: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ} فکانت الاستجابة ب{لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّٰتٖ...}.

وکان من دعائهم: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ} فکانت الاستجابة ب {ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ}.

ثم إن قوله: {فَاسْتَجَابَ} بالفاء وبصيغة الماضي لبيان أن هذه الاستجابة تحققت بمجرد دعائهم، وإن کان الزمان الموعود فيه هو يوم القيامة، أو لبيان حتمية هذه الاستجابة، کما يتعارف في بعض الشخصيات إذا طُلب منهم شيء قالوا: صار! لبيان حتمية الوقوع فکانّه قد تحقق ما وعدوه.

قيل: (الاستجابة) و(الاجابة) بمعنی واحد، إلاّ أن الاستجابة هي الجواب بالقبول دائماً، والإجابة أعم من الجواب بالقبول أو الرد.

وقد مرّ في سورة البقرة بحث الدعاء والاستجابة فراجع.

الثاني: قوله تعالی: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ...} الآية.

هذا کالتعليل للاستجابة، وهو أن الله تعالی کريم رحيم لطيف بعباده بارّ

ص: 609

بهم، فلذا يتقبل عمل العامل إذا کان للعمل قابلية القبول بأن کان من مؤمن مخلص، قال تعالی: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ}(1)، فقوله: {مِّنكُم} لبيان تقيّد العمل المقبول، وأما لو کان العمل من کافر أو لم يُرَد به وجه الله تعالی فلا قابلية له للقبول فمقتضی الحکمة ردّه، قال تعالی: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٖ فَجَعَلْنَٰهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(2)، وقال: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَٰلَكُمْ}(3).

وقد مرّ أن الله رحيم لکن الرحمة من صفات الفعل، ومنشؤها صفات الذات ومنها الحکمة، فلا يعقل التضاد بين صفاته تعالی، بل صفات الفعل تکون مترتبة علی صفات الذات، وحيث إن الباطل لا قابلية له لذلک يبطله الله تعالی بحکمته کما قال: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(4)، وقال: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(5)، وقال: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(6)، وأما العمل الصالح الصادر عن مؤمن فهو حق لذلک له قابلية النمو والرفع، فيتفضل الله تعالی علی المؤمن بقبول عمله وتزکيته.

وقوله: {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} لبيان عدم الفرق بينهما من جهة قبول العمل،

ص: 610


1- سورة فاطر، الآية: 10.
2- سورة الفرقان، الآية: 23.
3- سورة محمد، الآية: 33.
4- سورة الأعراف، الآية: 118.
5- سورة الأنفال، الآية: 8.
6- سورة هود، الآية: 16.

وذلک لأن الاختلاف التکويني في ترکيبة الرجل عن المرأة أوجب اختلافاً في بعض أحکامهما التشريعية، لکن ذلک لايضرّ بالثواب والمنزلة في الآخرة.

بيانه: أن الحکمة لاستمرار النسل ولتقسيم الأدوار في أداء وظائف الحياة اقتضت خلق الإنسان ذکراً وأنثی، والترکيبة الجسدية والنفسية لکل منهما تتناسب مع الوظيفة المخوّلة إليهما، لکن أکثر الأمور مشترکة، فلذا اشترکا في غالب الأحکام من واجبات أو محرمات، کالصلاة والصوم والحج وحرمة الزنا والسرقة والغش ونحو ذلک، وأما في اختلاف الترکيبة التي استدعت اختلاف الوظائف اختلفت أحکامهما، کوجوب النفقة علی الزوج دون الزوجة، وکوجوب الستر علی المرأة دون الرجل، وحتی دعاة مساواة حقوق الرجل والمرأة في کل شيء يصطدمون بواقع اختلاف الترکيبة الجسدية، مثلاً الموظفة إذا حملت وانجبت تُجاز لأشهر مع إعطائها راتبها کاملاً، وليس مثل ذلک للرجل، ولا اعتراض علی هذا التفضيل کما هو واضح، أما الآخرة فهي ترتبط بالإيمان والعمل الصالح - أياً کان - فلذا لاتفضيل لأحد علی أحد فيها، بل کل من أدّی تکاليفه نال الجنة وکلّما کان إخلاصه أکثر وعمله أحسن زادت درجته ذکراً کان أم أنثی.

وروي في شأن نزول الآية أنها نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) والفواطم لما هاجروا من مکة إلی المدينة، وقد ذکرنا شطراً من الرواية في تفسير الآية 191 فراجع.

وقوله: {بَعْضُكُم مِّنۢ بَعْضٖ} أي بعض العاملين من بعض، والمقصود أن

ص: 611

الحکم في جميعکم واحد، فلا طبقيات ولا أشرافيات ولا امتياز لأحد علی أحد، فالمعنی إنکم حيث اشترکتم في الإيمان والعمل الصالح فجميعکم علی صفة واحدة، کما قال تعالی: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ}(1)، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٖ}(2) ومن ذلک يتبيّن أن قوله: {بَعْضُكُم مِّنۢ بَعْضٖ} کالتعليل لقوله: {لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم}.

الثالث: قوله تعالی: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي...} الآية.

هذا تفريع علی عدم إضاعته تعالی عمل العاملين واستجابة دعائهم، وإنما خصّ هذه الطاعات بالذکر لکونها أشق، ولارتباطها بمضامين السورة.

وقوله: {هَاجَرُواْ} أي ترکوا أوطانهم، وبقرينة قوله: {وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ} يکون المراد من المهاجرة الترک طوعاً لمّا رأوا عدم تمکنهم من إقامة الدين في أوطانهم، وأما ما قيل من أن معنی هاجروا ترک الشرک وهجره فخلاف ظاهر الکلمة واستعمالها القرآني، قال تعالی: {وَمَن يَخْرُجْ مِنۢ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ...}(3)، والعطف بالواو إما لکونها بمعنی (أو)، فکل واحد من هذه الأعمال موعود عليه الجنة فتکون إشارة إلی أن بعض المهاجرين خرجوا طوعاً وبعضهم أ ُخرجوا من ديارهم.

ص: 612


1- سورة الحجرات، الآية: 13.
2- سورة التوبة، الآية: 71.
3- سورة النساء، الآية: 100.

الرابع: قوله تعالی: {ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ الثَّوَابِ}.

أي تکفير السيئات والجنات هو ثوابهم، فليس الثواب منحصراً في النعيم، بل عدم العقاب علی السيئات بتکفيرها أيضاً نوع ثواب، أو يقال: إنما سُمّي التکفير ثواباً لأنه مقدمته، إذ لاينال الإنسان الجنة إلا بعد تطهيره من درن الذنوب والسيئات.

وقوله: {ثَوَابًا} مفعول مطلق، لأن قوله لأکفرن ولأدخلنهم بمعنی أثيبهم، أو مفعول لأجله أي ذلک لأجل ثوابهم بمعنی جزائهم.

وقوله: {مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي بفضله، لا باستحقاقهم، وقيل: هو بمعنی أن الثواب يختص بالله تعالی وذلک لکونه ملکه وبقدرته، ولا يتمکن غيره من ذلک الثواب، وقيل: هو تشريف للثواب وإلاّ فالعقاب أيضاً بقدرته تعالی.

وقوله: {وَاللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ الثَّوَابِ} أي الثواب الحسن، وهذا کالتعليل لکل ما سبق في الآية من الاستجابة وعدم الإضاعة والتکفير وإدخال الجنة، وحاصله: أن الله تعالی قادر علی الثواب الحسن فلذا يثيبهم بحسن اختيارهم وعملهم.

الخامس: قوله تعالی: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَٰدِ * مَتَٰعٌ قَلِيلٌ...} الآية.

بعد أن ذکر حال المؤمنين العاملين بالصالحات يذکر الکفّار، ومقايسة حالهم بحال المتقين، فقد نری الکفار منعّمين وأصحاب سلطة وجاه ومال، وفي المقابل نری المؤمنين مطاردين مشردين فقراء محکومين فکيف ذلک، مع أن الله تعالی ناصر المؤمنين وخاذل الکافرين؟

ص: 613

والجواب: أن تمتع الکفار إنما هو في الدنيا الفانية، لا علی وجه الکرامة بل استدراج لهم وإملاء، ويعقبه عذاب أبدي في نار جهنم، وأما المؤمنون فبلاياهم ومصائبهم في الدنيا کرامة لهم تطهيراً لهم أو رفعاً لدرجاتهم يعقبه ثواب دائم.

وقوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ} الخطاب للسامعين، أو الخطاب للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من باب إياک أعني واسمعي يا جارة، من (الغرور) وهو إيهام يحمل الإنسان علی فعل ما يضرّه، وقيل: إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه(1)،

والنهي إنما هو عن الاغترار، وإنما تعلق بالتغرير لأنه سبب للإغترار، فالمعنی لاتغتبط بما هم فيه، إذ ليس من الخير ما کان من الخسيس القليل الذي عاقبته إلی النار.

وقوله: {تَقَلُّبُ} بمعنی تصرفهم، وذهابهم وإيابهم، والتوسعة عليهم في مکاسبهم ورفاهم وعيشهم.

وقوله: {مَتَٰعٌ} هذا کالعلة لعدم الاغترار، أي هو شيء يتمتع به الکافر، ومعنی المتاع هو النفع الذي تتعجل به اللذة، وذلک إمّا لوجود اللذة، أو بما يکون معه اللذة نحو المال الجليل والملک النفيس(2).

وقوله: {قَلِيلٌ} إما لخسته، أو لقلة أيامه، أو لکونه مشوباً بالکدر.

وقوله: {بِئْسَ الْمِهَادُ} تهکم بهم، لأن المهاد هو الفراش الذي يمهّده الإنسان لراحته، فهؤلاء مهّدوا لأنفسهم بسوء أعمالهم جهنم.

ص: 614


1- معجم الفروق اللغوية: 383-484.
2- معجم الفروق اللغوية: 476.

السادس: قوله تعالی: {لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِي...} الآية.

قيل: حرمان المؤمنين عن بعض حظوظ الدنيا هو من سُبُل التقوی، فلا يتوهم أحدٌ بأنه من موجبات شقائهم.

وقوله: {نُزُلًا} هو ما يقدم للضيف النازل علی وجه الإکرام، فالمعنی إن الجنة إنما هي علی جهة الکرامة للمؤمن کإکرام الضيف بالطعام والشراب والراحة، وفيه دلالة علی عظمة الجنة، لأن صاحب الدار يکرم ضيفه بأجود وأحسن ماعنده، والله تعالی يکرم المتقين في الجنة بأفضل ثواب بمقتضی الحکمة، ولذا تتفاوت الدرجات بحسب درجة الإيمان والعمل الصالح.

وأما قوله: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ} فالأنسب هو أن المراد أن هناک درجة أعلی من درجة المتقين، وهي درجة الأبرار، فلهؤلاء ثواب أعظم من ثواب المتقين، فللمتقين النُزُل بالجنة، وللأبرار خير من ذلک، ولعله الرضوان أو الدرجة العالية منه کما قال تعالی: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّٰتِ عَدْنٖ وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}(1).

ويحتمل أن يکون بيان أمرين: التقوی بحفظ النفس وذلک بطاعة الله تعالی، والبِرّ بمعنی التوسّع في أعمال الخير، فبتقواهم استحقوا الجنة بفضل من الله تعالی، وببرّهم استحقوا أفضل من ذلک بفضله تعالی.

وقيل: إن الأبرار نفس المتقين، وحيث کان المقام مقام مقايسة ومقارنة بين تقلّب الکافر في الدنيا وثواب المؤمن في الآخرة ففي البداية تم بيان أن

ص: 615


1- سورة التوبة، الآية: 72.

المتقين ينالون الجنة لطاعتهم، ثم المقايسة بأن ما لهؤلاء وهم أبرار خير مما للکفار من متاع الدنيا.

وليس المراد من التفضيل في قوله: {خَيْرٌ} هو حُسن ما بيد الکفار من متاع الدنيا لکن الثواب الأخروي أحسن، بل ذلک لتوهم الناس کون متاع الدنيا حسناً، أو أن {خَيْرٌ} منسلخ عن التفضيل نظير قوله: {أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}(1).

ص: 616


1- سورة الصافات، الآية: 62.

الآيتان 199-200

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}

199- وأما أهل الکتاب فالغالب مع الکفار وقد ورد ذمهم في الآيات السابقة، ولکن منهم من آمن {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ} بعضهم {لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} يصدق بوحدانيته ويذعن بما أذعن به المؤمنون {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي القرآن، وهذا يستلزم إيمانه بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من التوراة والانجيل غير المحرفتين، فلا يحرفون وصف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فيهما ولا يحرّمون حلالاً ولا يحلّلون حراماً، حالکونهم {خَٰشِعِينَ لِلَّهِ} خضوع بخوف في القلوب يظهر علی الأعضاء، وحالکونهم {لَا يَشْتَرُونَ} لايستبدلون {بِآيَٰتِ اللَّهِ} في رسوله وفي أحکامه {ثَمَنًا قَلِيلًا} رئاسة زائلة أو دنيا فانية، {أُوْلَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} يجازيهم بما صنعوا من الخيرات {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

200- ثم يختم الله تعالی السورة بموعظة بليغة تجمع کل المواعظ بقوله: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ} تحمّلوا الصعوبات، {وَصَابِرُواْ} أي

ص: 617

في مواجهة أعدائکم اغلبوهم في الصبر، {وَرَابِطُواْ} واظبوا علی الأمور، ومن مصاديقه رباط الخيل في الثغور، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} بالأمر بالمعروف والنهي عن المنکر {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تظفرون بما تريدون.

بحوث

الأول: قوله تعالی: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...} الآية.

لما ذکر الله تعالی غالب أهل الکتاب بکفرهم وکتمانهم الحق واشترائهم به ثمناً قليلاً کما مر في الآيات 181-188، أراد أن ينزّه بعضهم القليل ممن آمن وعمل صالحاً، کدأب القران حينما يذمّ أناساً علی کفرهم أو سوء صنيعهم يستثني منهم البعض المؤمن العامل بالصالحات، وذلک من باب بيان الواقع أولاً، ولترغيب الآخرين باتباع هذه الأقلية المؤمنة، وحسب القاعدة يتم الذم العام ثم التخصيص، کما أنه ذم الأعراب بقول مطلق بقوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}، ثم مدح المؤمنين منهم بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأخِرِ}(1)، وإنما بدأ بالذم ثم استثنی لأن أکثرهم لايؤمنون.

أما أهل الکتاب المستثنون فهم من توجد فيهم الأوصاف التالية، المضادة للأوصاف التي يتصف بها کفارهم:

1- {لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} أي يذعن بوحدانيته وبصفاته، عکس غالبهم حيث أشرکوا أو وصفوه بما لايليق به کالوصف بالفقر والعجز تعالی الله عما يقولون علواً کبيراً.

ص: 618


1- سورة التوبة، الآية: 97-99.

2- {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي القرآن الکريم وما فيه من أحکام ومطالب، وذلک يستلزم تصديق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والإيمان به، لأنه الواسطة في الکتاب.

3- {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من غير تحريف وتبديل، فلمّا وجدوا وصف الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في کتبهم صدّقوا بها فآمنوا به، ولم يکذبوها بالتحريف والکتمان کما أنهم لم يغيّروا أحکامها ولم يتلاعبوا بها.

وإنّما قدّم الإيمان بالقرآن علی الإيمان بما أنزل إليهم، لأن القرآن هو المهيمن والناسخ، ولأنه أشرف، فهم يؤمنون بالتوراة والانجيل غير المحرفين لکن يعلمون أن بعض شرائعهما قد نسخت بالقرآن الکريم.

4- {خَٰشِعِينَ لِلَّهِ} من الخشوع وهو خوف في القلب يظهر علی البصر والصوت، ويستلزم الإطاعة والخضوع لله تعالی.

5- {لَا يَشْتَرُونَ بِآيَٰتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} کما فعله أحبارهم بالتحريف والکتمان ليحفظوا رئاستهم الزائلة، ومصالحهم الدنيويه الفانية.

وقوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي إن الله تعالی يشکرهم علی حسن صنيعهم فيجازيهم خيراً، أما مقدار هذا الثواب وکيفيته فليس مقصوداً بالذکر في هذه الآية بل ذُکر في آيات أخری کقوله: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلی قوله: {أُوْلَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ}(1).

الثاني: قوله تعالی: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

ليس المراد قِلّة زمان المحاکمة، ولا المراد مجرد علمه تعالی بأفعال

ص: 619


1- سورة القصص، الآية: 52-54.

العباد مما يسبب قصر المدة، بل المراد: إما کتابة أعمالهم وحسابها عليهم، کما قال: {جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا}(1) أي أعطاه ما حسبه له کاملاً، ومن المعلوم أن أعمال العباد تسجل عليهم ليحاکموا عليها في الآخرة، وإما أن يوم الجزاء قريب سريع وليس ببعيد کما قال: {وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَۢا}(2)، وذلک لأن کل آتٍ قريب، وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ}(3)، وفي المناهج سرعة الحساب في المؤمنين بمعنی الحساب اليسير أي عدم المناقشة والمداقّة، وفي غيرهم بمعنی المبادرة إلی الأخذ وعدم الإمهال(4).

الثالث: قوله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ...} الآية.

هذه الآية کالموعظة الأخيرة في هذه السورة وهي تلخيص لکل التعاليم الواردة فيها بعبارة بليغة وموجزة، وبيان أن العمل بها هو طريق الفلاح، وهي:

1- {اصْبِرُواْ} والصبر هو عدم الانهيار أمام المشاکل، سواء کان صبراً علی طاعة صعبة أو عن معصية يدفع الهوی إليها، أو علی مصيبة ألمّت بالإنسان، أو علی الأذی.

2- {وَصَابِرُواْ} من باب المفاعلة، وهي من الصبر أيضاً، إلاّ أن الصبر

ص: 620


1- سورة النبأ، الآية: 36.
2- سورة الطارق، الآية: 16-17
3- سورة يونس، الآية: 45.
4- مناهج البيان 4: 227 (بتصرف).

شخصي، والمصابرة بين أفراد المجتمع، ولذلک مصاديق، منها: أن يصبّر بعضهم بعضاً، وذلک أقوی للقلب وأسهل للإطاعة وبتعبير آخر - کما قيل - اعتماد صبر البعض علی صبر الآخرين، وذلک لأن للإنسان وعياً فردياً ووعياً جمعياً، والوعي الجمعي يتکوّن من خلال الاجتماع والتربية الاجتماعية، ولذا حثّ الإسلام علی العبادات الجمعية الظاهرة کالصلاة والصوم والحج لتتشکل هوية الأمة الإسلامية ويتربی علی ذلک المسلمين، قال تعالی: {وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}(1)، وقال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ}(2).

3- {وَرَابِطُواْ} بمعنی المواظبة علی الأمور، کالمواظبة علی الصلوات، وکرباط الخيل في الثغور ونحو ذلک، وليست الآية خاصة بالرباط بالثغر، فذلک هو أحد المصاديق، بل لم يکن متعارفاً في زمن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وإنما تعارف بعده، فلا تحمل ألفاظ القران عليه، بل الآيات عادة معناها عام فتشمل المصاديق الجديدة بعد ذلک، ومن أهم مصاديق المرابطة ملازمة الأئمة (عليهم السلام) .

4- {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي احفظو انفسکم من عقابه، وذلک بالأمر بالمعروف والنهي عن المنکر کما عن الإمام الصادق (عليه السلام) (3)، فلا يکون تکراراً لقوله: {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ}، أو بمعنی أن صبرکم ومصابرتکم ومرابطتکم يجب

ص: 621


1- سورة العصر، الآية: 3.
2- سورة البلد، الآية: 17.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 553، عن تفسير العياشي.

أن تکون من منطلق التقوی، فلا تفيد من غير تقوی کمن يصبر لا لله وإنما للمسائل القبلية والعشائرية أو ينصر الحق لئلا يفقد وجاهته بين الناس.

ومن ذلک کلّه يتضح أن ما تضمنته الروايات في تفسير الآية هو بيان لبعض المصاديق، وقد تکون مصاديق متداخلة، مثلاً ترک المعصية هو مصداق للصبر وللمصابرة وللتقوی، ولذا لاتعارض أو تنافي بين الأخبار.

منها ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «اصبروا علی الفرائض وصابروا علی المصائب ورابطوا علی الأئمة (عليهم السلام) »(1).

وعن الإمام الکاظم (عليه السلام) أنه قال: «اصبروا علی المصائب، وصابروهم علی التقية، ورابطوا علی من تقتدون به»(2).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «اصبروا علی أداء الفرائض، وصابروا عدوکم، ورابطوا إمامکم المنتظر»(3).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «اصبروا عن المعاصي، صابروا علی الفرائض... ورابطوا في سبيل الله، ونحن السبيل فيما بين الله وبين خلقه»(4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «(اصبروا) علی الأذی فينا (وصابروا) قال: علی عدوکم مع وليکم (ورابطوا) قال: المقام مع إمامکم»(5).

وحيث وصلنا إلی هذا الموضع، فإني أحمد الله تعالی أن وفقني لإتمام

ص: 622


1- الکافي 2: 66.
2- البرهان في تفسير القرآن 2: 551، عن معاني الأخبار.
3- البرهان في تفسير القرآن 2: 551، عن غيبة النعماني.
4- البرهان في تفسير القرآن 2: 554، عن تفسير العياشي.
5- البرهان في تفسير القرآن 2: 554، عن تفسير العياشي.

التفکر في سورة آل عمران، وأسأله سبحانه أن يجعلني من المتفکرين في القرآن ومن العاملين به، وأن يشفّعه لي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتی الله بقلب سليم.

سبحان ربک رب العزة عما يصفون، وسلام علی المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلی الله علی محمد وآله الطاهرين.

21/ شهر رمضان / 1436

ص: 623

ص: 624

الفهرس

الإطار العام للسورة...5

الآيات 1-6...7

اشتراك الکفار والمؤمنين في نعيم الدنيا ومشقتها...15

سبب العذاب الأخروي...16

الآيات 7-9...23

حول المحکم والمتشابه في القرآن...24

المطلب الأول: معنی المحکم والمتشابه...24

المطلب الثاني: مصاديقهما...26

المطلب الثالث: سبب وجودهما في القرآن...26

المطلب الرابع: المحکمات أ ُم الکتاب...29

المطلب الخامس: کيفية رجوع المتشابهات إلی المحکمات...29

معنی التأويل...32

معنی أولي الألباب...35

الآيات 10-13...39

عدم عقوبة المؤمن مرتين في الدنيا والآخرة...44

الآيات 14-17...52

سبب تقدير الشهوات...54

ص: 625

معنی رضی الله تعالی...60

الآيات 18-20...65

شهادة الله وملائکته...67

معنی الدين وعدم تغيّره...71

الآيات 21-25...77

الناس وحبط أعمالهم...81

بطلان العمل تکويناً وتشريعاً...83

الرحمة لاتنافي تقدير العذاب...87

الآيتان 26-27...89

الخير والشر وجوديّان...96

الآيات 28-32...100

الحب والبغض في الله...104

حول التقية...105

حول حب الله تعالی...111

کلام حول الحب...113

الآية 34...119

حول الاصطفاء...120

الآيات 35-37...131

الآيات 38-41...141

الآيات 42-44...153

معنی اصطفاء مريم (عليهاالسلام) ...154

الآيات 45-47...161

تعريب الکلمات الأعجمية...164

ص: 626

وجاهة عيسی (عليه السلام) ...166

مراحل کيفية الخلق...170

الآيات 48-51...173

عموم شريعة عيسی (عليه السلام) لکل الناس...177

آيات عيسی (عليه السلام) التکوينية والتشريعية...179

سبب تنوع معاجز عيسی (عليه السلام) ...180

کلام حول المعاجز...181

الآيات 52-54...187

معنی «شُبّه لهم» وکيفيته...193

الآيات 55-57...195

معنی وفاة عيسی (عليه السلام) ...196

الآيات 58-60...202

الآية 61...208

فوائد المباهلة...209

معنی أنفسنا...212

قصة المباهلة...213

الآيات 62-64...215

الآيات 65-68...221

شريعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته...228

الآيات 69-74...230

من أعمال أهل الکتاب...230

طرق الإضلال...235

الآيات 75-77...240

ص: 627

الآيات 78-80...247

تحريف أهل الکتاب للتوراة...249

الدليل العقلي علی بطلان تحريفهم...251

الآيتان 81-82...257

حول مسائل النبوة...258

شرط النبوة...260

الآيات 83-85...264

خضوع المخلوقات لله تعالی...266

الآيات 86-91...272

الآيات 92-95...283

الآيتان 96-97...292

مراحل بناء الکعبة...294

الآيات 98-101...301

الآيتان 102-103...309

معنی حبل الله تعالی...314

الآيات 104-109...318

افتراق المسلمين وعدد فِرَقهم...324

الآيات 110-112...329

معنی «ضربت عليهم الذلة»...336

الآيات 113-115...340

الآيتان 116-117...346

الآيات 118-120...352

القسم الثاني من سورة آل عمران...361

ص: 628

غزوة أحد وتوابعها...361

الآيتان 121-122...363

قصة غزوة أحد...365

الآيات 123-129...370

کل ما للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فهو من الله تعالی...379

الآيات 130-133...381

بعض أسباب الهزيمة في أحد...382

حول الربا...384

الآيات 134-136...389

الآيات 137-139...398

حفظ آثار الماضين...400

الآيات 140-143...406

سبب مداولة الأيام...409

معنی «ليعلم الله»...412

الآيتان 144-145...417

الانقلاب بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ...420

أسباب الموت...422

الآيات 146-148...428

القسم الأول من الناس: الصابرون الثابتون...428

الآيات 149-151...437

القسم الثاني: الکفار الغالبون...437

الآيتان 152-153...445

القسم الثالث: المسلمون المنهزمون...445

ص: 629

أسباب الهزيمة...451

الآيتان 154-155...457

القسم الرابع: الرماة الذين اخلوا مواقعهم...459

الآيات 156-158...469

القسم الخامس: الکفار الباقون في مکة...469

الآيتان 159-160...479

القسم السادس: حول قيادة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ...479

حول المشورة والشوری...483

معنی التوکل...485

الآيات 161-165...489

حول مِنّة الله تعالی علی عباده...498

الآيات 166-168...503

القسم السابع: المنافقون الذين لم يشارکوا في الغزوة...503

الآيات 169-171...514

القسم الثامن: شهداء غزوة أحد...514

معنی الشهيد...516

النّعَم للشهداء...518

الآيات 172-175...527

غزوة حمراء الأسد...529

غزوة بدر الصغری...530

الآيات 176-178...538

الإملاء والاستدراج للکفار...546

الآيتان 179-180...548

ص: 630

حول علم الغيب...552

الآيات 181-184...557

الآيتان 185-186...571

الآيات 187-189...581

الآيات 190-194...589

خاتمة السورة...589

الآيات 195-198...605

الآيتان 199-200...615

الفهرس...625

ص: 631

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.