التفکر في القرآن (سورة البقرة) المجلد 3

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، جعفر، 1338-1387.

عنوان واسم المؤلف: التفکر في القرآن (سورة البقرة) المجلد 3/ تأليف جعفر الحسيني الشيرازي.

تفاصيل المنشور: قم: دارالعلم، 1443ق = 1400ش.

مواصفات المظهر: 410ص.

فروست: التفكر في القرآن؛8.

شابك: 7-628-204-964-978

حالة الاستماع: فيپا

لسان: العربية

محتويات: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع: تفاسير (سوره اعراف)

موضوع: تفاسير شيعه -- قرن 14

موضوع: Qur'an -- Shiite hermeneutics -- 20th century

ترتيب الكونجرس: BP102/26

تصنيف ديوي: 297/ 18

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 8441086

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أوّل فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

ص: 2

التفكر في القرآن الجزء الثالث

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

دار العلوم

ص: 3

ص: 4

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ »

النحل : 44.

ص: 5

ص: 6

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة اللَّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .

ص: 7

ص: 8

الآيات 197 - 199

«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ »«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ »«ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »

197 - وقت الحج« أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ » وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، فلا يمكن تأخيرها بالنسيء كما كان يفعل الجاهليون، «فَمَنْ فَرَضَ »على نفسه وفيهن أي في الأشهر، «الْحَجَّ » والمعنى أنه أحرم لكي يؤدي الحج، فعليه الالتزام بتروك الإحرام «فَلَا رَفَثَ » إلى النساء بمباشرتهن، «وَلَا فُسُوقَ » أي خروج عن طاعة اللَّه بالكذب والسباب والمفاخرة على الوجه المحرم، «وَلَا جِدَالَ » أي قول «لا والله» و «بلى والله» «فِي الْحَجِّ» أي في حالة الإحرام، وحجكم وترككم لمحرماته من الخير «وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ» أيّاً كان هذا الخير «يَعْلَمْهُ اللَّهُ »فيجازيكم عليه، «وَتَزَوَّدُوا »في الحج لآخرتكم بالاستغفار وسائر الأعمال الصالحة، وبترك القبائح كعدم

ص: 9

حمل النفقة مما يؤدي إلى الاستعطاء من الناس «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ »للآخرة «التَّقْوَى» بعمل الخير وترك الشر «وَاتَّقُونِ »، خافوا عقابي « يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ».

198 - وحيث لا منافاة بين الحج وبين الكسب، فإنَّ اللَّه أمر بالتجارة أيضاً ف«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ »إثم وحرج « أَنْ تَبْتَغُوا »اي تطلبوا « فَضْلًا »أي رزقا بالتجارة والاسترباح « مِنْ رَبِّكُمْ » فقد أمركم اللَّه بطلبه وهو رازقكم . وعليكم الوقوف بعرفات « فَإِذَا أَفَضْتُمْ »أي خرجتم جموعاً بأن دفعتم أنفسكم بكثرة كفيض الماء «مِنْ عَرَفَاتٍ فَ»توجهوا نحو المشعر و«اذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ » وهو مزدلفة فإنَّ له حُرمة عند الله، «وَاذْكُرُوهُ »اذكروا اللَّه ذكرا شديداً «كَمَا هَدَاكُمْ »أي بإزاء هدايته لكم أو بالكيفية التي علمكم - لا كذكر المشركين - «وَإِنْ » مخففة من «إنَّ» أي وإنكم «كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ» قبل هدايته « لَمِنَ الضَّالِّينَ »عن دينه ولا تعرفون الرشاد .

199 -« ثُمَّ »بعد المشعر « أَفِيضُوا »إلى منى « مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ » أي بطريقة إبراهيم ومن تبعه، وهو أن تكون الإفاضة من عرفات مروراً بالمشعر، لا من حيث أفاضت قريش من المشعر إلى منى من غير توقف في عرفات، و« وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ »من ذنوبكم «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»

بحوث

الأول: قوله تعالى «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ »

ص: 10

ذكرت كلمة الحج في هذه الآية ثلاث مرات من غير إرجاع ضمير في الثاني والثالث، وذلك لاختلاف المقصود، فالأول: يراد به وقت الحج ، والثاني : أفعال الحج، والثالث : حالة المُحرِم، فالمعنى وقت الحج معلوم، ومن ألزم نفسه بأفعال الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في حال الإحرام .

ومعنى الآية : زمان الحج معلوم مؤقّت، فلا تغيير فيه كما كان يفعل الجاهليون بالنسيء، وقد قال تعالى عنه «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا»(1)، كما أن زمانه معلوم لدى الناس فهو مما سنه إبراهيم علیه السلام وكان يعرفه أهل الجاهلية، وأقرّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم.

الثاني : قوله تعالى: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ»

الفرض قد يكون بمعنى «التشريع»، وهو خاص باللَّه تعالى، فإنَّه يشرّع الأحكام، وقد يكون بمعنى «التكليف» وهو يتعلق بالمكلَّفين، فيقال هذا فرض زيد وذاك فرض عمرو أي تكليفه، فمعنى «فمن فرض» أي من ألزم نفسه بالحج، وذلك عن طريق الإحرام، فإنَّ من يُحرم فقد ألزم نفسه بالحج وعليه إكمال المناسك .

والإحرام هو أول أعمال الحج، ولذا كان تفسير (فرض) بالشروع تفسيراً باللازم، وينعقد الإحرام بالتلبية للمتمتع والمفرد، وأما القارن فبها أو بالإشعار أو بالتقليد(2) كما في الروايات(3) .

ص: 11


1- سورة التوبة، الآية: 37.
2- الإشعار هو شق سنام البعير وتلطيخه بالدم، والتقليد هو تعليق شيء على رقبة البعير للدلالة على أنه هدي.
3- راجع: البرهان ج2، ص129 عن الكافي.

الثالث : قوله تعالى :« فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ»

هذا نفي يراد به النهي، وهو أبلغ في المنع، كأنّ المكلّف التزم بالحكم فيقع الإخبار بأنه لم تقع هذه الأمور.

ومحرمات الإحرام أقسام:

1۔ منها ما هي محرمة على الكل - كالفسوق -، فذكره بالخصوص من بين سائر المحرمات لتعارفه في الحج ولكونه أقبح من الحاج.

2- ومنها ما هي محرّمة لحرمة الحرم فلا تجوز حتى للمُحِلّ، كصيد الحرم وقلع نباته.

3- ومنها ما هي محرّمة على المُحرِم فقط - في الحِلّ كان أم في الحرم - کالرفث.

ومحرماته تبلغ أربعة وعشرين، ذكرت الآية ثلاثة منها، والباقي تكفّلت به آیات أخرى كقوله«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ »(1)، أو السنة المطهرة .

وذكر هذه الثلاثة بالخصوص في هذه الآية، لكثرة الابتلاء بالرفث الشدة الرغبة إليه أكثر من سائر محرمات الإحرام، كما أن الفسوق والجدال أمور اجتماعية مظاهرها واضحة عكس سائر المحرمات التي هي أمور فرديّة، مضافاً إلى تعارف التفاخر على الوجه الحرام في الحج بين العرب، وهو مما يكثر فيه الكذب والمنازعة.

و(الرفث) قد مرّ أنه الملامسة أو ما يفضي إليها بقول أو إشارة .

ص: 12


1- سورة المائدة، الآية: 95.

و(الفسوق) هو الخروج عن طاعة الله، وفُسِّر في الروايات بالكذب والسباب والمفاخرة .

و(الجدال) فُسِّر في الروايات بقول (لا والله) و(بلى والله))(1)، أي اليمين - صادقاً كان أم كاذباً - إذ ذلك لا يناسب الحج وإن كان صدقاً قال سبحانه : «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ » (2)

والظاهر أن الروايات تُعيِّن المراد من الرفث والفسوق والجدال، وليست لبيان المصداق، لأنها تُحَدِّد المراد وتنفي غيره، وهذا ما فهمه الفقهاء منها(3).

الرابع : قوله تعالى : «وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» .

لما نهى اللَّه تعالى عن الرفث والفسوق والجدال - وهي شرّ في الحج -، عقّبه بالحثّ على الخير، ترغيباً لهم لفعل الخير، مع بيان أن منعهم عن بعض الأمور إنما هو لعدم كونها خيراً .

وفي التقريب : ولعلّ ذكره هنا لكثرة احتياج الحجاج بعضهم إلى بعض في مختلف الشؤون، فأريد التنبيه بأن كل خير يصدر من الإنسان إنما هو بعلم اللَّه فيجازيه على ذلك(4) .

والمقصود في الآية بيان الجزاء، أي يعلمه اللَّه فيجازيكم عليه، إذ الإنسان العالم بالخير يجازي صاحب الخير - ولو بالمدح أو الحبّ - فكيف باللَّه تعالى وهو الخير المطلق والقادر المطلق الذي لا تنقص

ص: 13


1- راجع الفقه ج42 ص401 - 402.
2- سورة البقرة، الآية: 224.
3- راجع الفقه ج42، ص397 - 407.
4- تقريب القرآن: ج1، ص232.

خزائنه شيئاً من كثرة العطاء ولا يعجزه شيء، فإن علمه بفعل الخير يستتبع جزاءه عليه حتماً - تفضلاً منه ورحمة - .

الخامس : قوله تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ».

إنَّ أحق شيء بالاستكثار منه هو التقوى فإنَّه النافع للدنيا والآخرة، فيخاطبهم تعالى بأنكم في سفركم إلى الحج اصطحبتم معكم ما تحتاجونه في الطريق وفي مكة، فأنتم أحوج إلى الزاد للآخرة، لأنها مقرّكم، وخير الزاد إليها هو التقوى .

وقيل : إن بعض الناس لم يكونوا يأخذون الزاد للحج بادِّعاء أنهم ضيوف الله، فكانوا يضطرون إلى الاستعطاء في الطريق، فأمروا بأخذ مؤونة الطريق، فإنَّها قرينة التقوى، دون الاستعطاء الذي فيه منقصة وذلَّة، ويكون حراماً أحياناً(1)، فالمعنى تزودوا للآخرة، ومن التزود أخذ نفقة السفر إذ تركه يؤدي إلى خلاف التقوى - من الذلِّ والاستعطاء ونحو ذلك -.

السادس :لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ».

لما قال سبحانه «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى » لعلّه يتوهَّم متوهِّم أنه لا يجوز التزود للدنيا، فأتبعه اللَّه سبحانه بقوله «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ...» فإنَّه لا تنافيَ بين الحج وبين طلب الرزق، فليس كصلاة الجمعة التي لا تجتمع مع البيع، قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

ص: 14


1- عن التقريب ج1، ص232 - بتصرف -، وراجع مجمع البيان ج2، ص67.

تَعْلَمُونَ » «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(1)

وذلك لأن اللَّه سبحانه شَرّع العبادات بطريقة لا تتنافى مع حياة الناس، بل هي بصالح معيشتهم، وذلك لطفٌ منه ورحمة ، فإذا كان وقت العبادة قصيراً فلا ضير في ترك العمل والانشغال بها، فهنا لأجل التزاحم أُمِرُوا بترك العمل والتوجه إلى العبادة كصلاة الجمعة التي لا تستغرق وقتاً، وهي في الأسبوع مرّة، ووقتها هو وقت خلود الناس إلى الراحة - عادة -، ولا يمكن الجمع بينها وبين التجارة.

أما إذا لم يكن تعارض بين العبادة والتجارة، كالصوم والحج، فلا مانع من الجمع بينهما بل لعلّه يكون مطلوباً. وسيأتي في الآيات اللاحقة قوله تعالى : «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ».

بل التكاليف الشرعية بشكل عام لا تزاحم الحياة اليومية للناس، ولذا يحاول بعض الناس إيجاد تصادم - قسراً - بین الالتزام بالفرائض وبين حياة الناس، وليس منع الحجاب في المدارس في بعض الدول إلَّا محاولة لذلك لكي ينسلخ الناس من الإسلام لمّا يرونه متصادما مع طلب أبنائهم للعلم.

ونُقِلَ أن بعض الدول الاستعمارية أجبرت المزارعين على زراعة العنب أكثر من مقدار الحاجة إلى الأكل وصنعوا معامل للخمور لتشتري ذلك العنب، فربطوا حياة أولئك المزارعين بالخمر، لتنعدم فيهم غيرة الإسلام لمّا ترتبط معيشتهم بواحد من أكبر المحرمات.

ص: 15


1- سورة الجمعة، الآيتان: 9- 10.

ثم إنَّ الحج فيه نفقات كثيرة، ورفع الجناح عن طلب الرزق فيه يرغب الناس فيه، ويرفع عن كاهلهم تلك النفقات، وفيه خدمة للحجاج لأنهم يجتمعون من مختلف البلدان فيتبادلون ما يحتاجون، كما فيه مصلحة لأهل بلدانهم لمّا يجلب الحجاج معهم بعض ما يحتاجون .

وقوله «فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» ظاهر في طلب الرزق وبهذا المعنى وردت بعض الروايات)(1). وروي أنه (أن تطلبوا مغفرة من ربكم)(2) ولعلّه تأويل الآية .

أقول: ويمكن أن يكون إشارة إلى الوقوف بعرفات، أي ليس عليكم جناح أن تقفوا بعرفات طالبين من اللَّه المغفرة، وذلك لأن قريشاً وأهل الحرم لم يكونوا يقفون بها ترفعاً - كما سيأتي -، فرفع عنهم الجناح وهذا لا ينافي وجوب الوقوف فيها ، لأنه نظير قوله «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا » فتأمل .

السابع : قوله تعالى: « فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ».

فاض الماء: بمعنى سال بسهولة، وأفاض إناءه : إذا ملأه حتى (3)، فمعنى « أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ » إذا دفعوا أنفسهم بكثرة كجريان السيل، لأن الحجاج يندفعون بمجرد حلول الليل من عرفات کالسیل سائرين نحو المشعر .

و(عرفات) علم للمكان المعروف، وروي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم : إنَّ العصر

ص: 16


1- البرهان ج2، ص136 عن تفسير العياشي.
2- مجمع البيان: ج2، ص71، التبیان ج2، ص168.
3- راجع مقاييس اللغة ص803، والمفردات ص648.

هي الساعة التي عصی آدم ربه، ففرض اللَّه على أمتي الوقوف والتضرع والدعاء في أحب المواضع إليه، وتكفل لهم بالجنة، والساعة التي ينصرف بها الناس هي الساعة التي تلقى فيها آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنَّه هو التواب الرحيم(1) وفي فضائل يوم عرفة وأرض عرفات روايات كثيرة . و(المشعر الحرام) هو المزدلفة، سُمي مشعراً لأنه معلم للحج كالشعائر - جمع شعيرة - فإنَّها أعلام الحج وأعماله(2)، و(الحرام) لأنّ له خرمة يجب أن تحفظ .

وعن الإمام الصادق عليه السلام : لأن جبرئيل أتى إبراهيم يوم التروية، فقال يا إبراهيم ارتو من الماء لك ولأهلك - ولم يكن بين مكة وعرفات ماء -، ثم مضى به إلى الموقف، فقال له: اعترف واعرف مناسكك، فلذلك سميت عرفة، ثم قال له : ازدلف إلى المشعر، فلذلك سميت المزدلفة(3)، أي اقترب .

الثامن : قوله تعالى : «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ »

تكرر في هذه الآيات الأمر بذكر اللَّه تعالى، «فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ »، و «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ »، و« فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا »، و«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ »، وذلك لأهمية ذكر اللَّه في كل هذه المشاعر والأيام، ولأن لكل مشعر مغفرة وثواب خاصاً به، ولأنها عبادة يشترط فيها القربة، ولكثرة الغفلة عن ذكره تعالى للانشغال بأمور أخرى .

ص: 17


1- الوسائل ج13، ص 550 أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، الباب 19.
2- راجع مقاييس اللغة ص507، ومفردات الراغب ص456.
3- الوسائل ج13، ص 552، وروي غير ذلك ولا منافاة إذ لعلّ سبب التسمية متعدد.

وفي الآيات تعليم لكيفية ذكره :

1- كما علمكم من الذكر لا بالطرق المبتدعة، حسب إحدى معاني قوله : «كَمَا هَدَاكُمْ » .

2- أن يكون من صميم القلب لا مجرد لقلقة لسان، قال : «كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ».

3- باستغفاره تعالى، قال : «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» .

4 - طلب الدنيا والآخرة منه، قال : «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ».

5- عن طريق التقوى، وتعدد الأمر بها كقوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ »«وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ »،«خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ».

6- التحذير من الآخرة، كقوله «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ » «سَرِيعُ الْحِسَابِ» «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ » .

7- التذكير بنعمه وفضله، كقوله «وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّين»، «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم»، و«أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا».

وقوله : «كَمَا هَدَاكُمْ » إما بمعني بإزاء هدایتكم، أي هو تفضل عليكم بأن هداكم للإيمان بعد أن كنتم أهل ضلال، فاذكروه لكي تستمر هذه الهداية ، فإنَّ استمرار فضل اللَّه إنما يكون إذا كان المحل قابلا لذلك الفضل، فإذا فقد الإنسان - بسوء اختياره وفعله - القابلية، فإنَّ اللَّه يتركه وشأنه فيضل، وقد مرّ تفصيل ذلك سابقا .

وإما بمعنى اذكروه بالكيفية التي علمكم الله، لا بطريقة أهل الشرك ،

ص: 18

فإنَّكم قبل تعليمه إياكم كنتم ضالين تذكرونه مشرکین به، فهداكم سبحانه إلى ذكره الصحيح .

التاسع : قوله تعالى: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاس»

أي بعد المشعر أفيضوا إلى منى، من المكان الذي يفيض منه الناس لا بطريقة قريش وأهل الحرم .

وذلك لأن قريشاً لم يكونوا يقفون في عرفات بل كانوا يقفون في المشعر رأساً، وكانوا يمنعون الناس من الوقوف معهم ترفعاً وتكبراً، ولما كانوا يشاهدون طلائع الناس قادمة من عرفات، كانوا ينصرفون من المشعر إلى منى لئلا يختلط بهم الناس .

فأمر اللَّه المسلمين بأن يذهبوا إلى منى بطريقة الناس، لا بطريقة قريش، فمعنى الآية ثم أفيضوا إلى منى من حيث أفاض الناس أي من عرفات مروراً بالمشعر، لا من حيث تفيض قريش أي من المشعر رأساً .

وبما ذكرناه يتضح أنه لا تنافي بين الروايات المفسرة - بأنه إفاضة من عرفات -، وبين ظاهر الآية الكريمة - من أنه إفاضة إلى منى بلا حاجة إلى التكلف: بأن كلا الإفاضتين من عرفات، لكن الأولى لتشريع الحكم، والثانية لإبطال بدعة قريش .

بل الأصح هو أن هذه الآية للإفاضة إلى منى فهي تبيّن منتهى الإفاضة (وهي منى)، والروايات تبيّن مبتدأ الإفاضة (وهي عرفات مروراً بالمشعر).

فعن الإمام الصادق علیه السلام : إنَّ أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام، ويقف الناس بعرفة، ولا يفيضون حتى يطلع عليهم أهل عرفة،

ص: 19

وكان رجل يكنى أبا سيّار وكان له حمار فاره، وكان يسبق أهل عرفة، فإذا طلع عليهم، قالوا : هذا أبو سيار، ثم أفاضوا، فأمرهم اللَّه أن يقفوا بعرفة وأن يفيضوا منه(1) .

وفي حديث آخر عنه علیه السلام : كانت قريش تفيض من مزدلفة في الجاهلية، يقولون: نحن أولى بالبيت من الناس، فأمرهم اللَّه أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفه(2).

فانه من الواضح أن إفاضة قريش من المزدلفة كانت إلى منى، وإفاضة الناس إلى منى كان من عرفات مروراً بالمشعر، فأمر اللَّه المسلمين بأن يفعلوا كما يفعل الناس لا كما تفعل قريش .

وذلك لأن فعل قريش كان بدعة بسبب تكبرهم، وأما ما يفعله الناس فهو من سنة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق علیهم السلام وأتباعهم، فعن الإمام الصادق علیه السلام : إنَّ إبراهيم أخرج إسماعيل إلى الموقف فأفاضا منه، ثم إنَّ الناس كانوا يفيضون منه، حتى إذا كثرت قريش، قالوا : لا نفيض من حيث أفاض الناس وكانت قريش تفيض من المزدلفة، ومنعوا الناس أن يفيضوا معهمإلَّا من عرفات، فلمّا بعث اللَّه محمداً صلی اللَّه علیه وآله وسلم أمره أن يفيض من حيث أفاض الناس، وعنى بذلك إبراهيم وإسماعيل علیهما السلام (3).

ص: 20


1- البرهان ج2، ص138 عن تفسير العياشي.
2- الوسائل ج13، ص 554.
3- البرهان ج2، ص138 عن تفسير العياشي .

الآيات 200 - 203

«فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)»«وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)»«أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)»«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)»

200 - «فَإِذَا قَضَيْتُمْ» أي أديتم« مَنَاسِكَكُمْ »أعمال الحج - وهي رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق أو التقصير، وطواف الزيارة، وركعتاه، والسعي، وطواف النساء، وركعتاه «فَاذْكُرُوا اللَّهَ »شكراً على النعمة والهداية والتوفيق لقضاء المناسك «كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ » حيث إنَّ الناس لا يغفلون عن آبائهم غالباً و«أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا»من ذكر الآباء، أي زيادة عليه في الكمّ والكيف، حيث إنه تعالی أحقُّ بالتعظيم، وفي هذا إبطال لعادةٍ جاهليةٍ بالتفاخر بالآباء في منى بعد الحج .

ولكن ذکرکم اللَّه يلزم أن يكون بالكيفية التي أمركم بها، لأن

ص: 21

الناس في ذكره قسمان: «فَمِنَ النَّاسِ مَنْ » يطلب عَرَض الدنيا ولا غرض له في الآخرة - لعدم اعتقاده بها أو لغفلته - فهو «يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا »أي أعطنا ما نتمتع به حسناً كان أم سيئاً «وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ »أي نصيب، فلا يطلب ثواب الآخرة لا بقولٍ ولا بعملٍ، ولا نصيب له فيها لعدم استحقاقه لها.

201 - «وَ»القسم الثاني «مِنْهُمْ »من الناس، «مَن »يطلب خير الدارين ف « يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً»جنس الحسنة الشامل لكل أنواعها، کالسعة والمعاش وحسن الخلق والزوجة الصالحة ونحوها، فطلبه خاص بما فيه الحُسن، لا كل ما يُستمتع به ولو لم يحسن، «وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً » کرضوان اللَّه والجنة ونعيمها «وَقِنَا »- من الوقاية أي الحفظ - «عَذَابَ النَّارِ » .

202 - «أُولَئِكَ »الطالبون للحسنة في الدنيا والآخرة «لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا »أي من جنس ما كسبوا، فيتفضل عليهم بالدنيا والآخرة «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ »فيجزي كلا القسمين بسرعة.

203 - «وَاذْكُرُوا اللَّهَ »في منى حيث يجب المبيت فيها «فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ» قليلة وهي ثلاثة أيام. أيام التشريق : الحادي عشر من ذي الحجة ويومان بعده، «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ » فنفر من بعد زوال اليوم الثاني عشر «فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» أي رجع مغفورة له، «وَمَنْ تَأَخَّرَ »بأن بقي إلى اليوم الثالث عشر« فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» يرجع أیضاً مغفوراً له، وهذا الغفران « لِمَنِ اتَّقَى »بترك الكبائر ومحرمات

ص: 22

الإحرام، ومن مصادیق الآية أن من لم يحفظ نفسه من الصيد والنساء فلا يجوز له التعجل في يومين .

«وَاتَّقُوا اللَّهَ»في كل أموركم وأوقاتكم، فليس التقوى خاصة بالحج «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ »فيجازيكم على أعمالكم، وقد شاهدتم الحشر الأصغر في الحج، فاعلموا أن هناك حشرة أكبر يوم القيامة .

بحوث

الأول : قوله تعالى : «فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ » .

القضاء هو الحكم، وفصل الأمر، وإتقانه، وإنفاذه(1)، ويلازمه الفراغ عن الشيء - سواء كان تكوينياً كقوله «فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ »»(2)ام تشريعياً كقوله «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ »(3)، والمراد هنا هو الانتهاء من العمل، وقد مرّ تفصيله .

والمناسك جمع منسك، وهو مصدر ميمي، بمعنى أفعال الحج، وأصل النسك العبادة والقربان بذبيحة، ثم أطلق على كل أعمال الحج بمناسبة تضمنه على الهدي(4).

ص: 23


1- انظر مقاييس اللغة ص 891، والمفردات ص 976.
2- سورة فصلت، الآية: 12.
3- سورة الإسراء، الآية: 23.
4- انظر مقاييس اللغة ص987، والمفردات ص802.

ومناسك الحج بعد الإفاضة إلى مني، هي: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير - وبه تحلّ كل محرمات الإحرام سوى الطيب والنساء -، ثم الذهاب إلى مكة وأداء أعمالها - ويمكنه أداء تلك الأعمال في كل شهر ذي الحجة لأنه من أشهر الحج - وهي طواف الزيارة، وركعتاه خلف مقام إبراهيم - وبه يحلّ الطيب -، ثم السعي بين الصفا والمروة، ثم طواف النساء، وركعتاه - وبه تحل النساء -.

الثاني : قوله تعالى: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا »

1- بعد الفراغ من العبادة قد ينشغل الإنسان بأموره فينسى اللَّه تعالى، ولذا احتاج إلى التنبيه بأنه يلزم أن يكون ذكر اللَّه تعالی بصورة دائمة وأن لا تلهيه أعماله عن ذكر اللَّه .

فقال تعالى: «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ »(1)، وقال : « وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا »(2)، ومن صفات المنافقين أنهم «وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)» »(3).

2 - ولأن أهل الجاهلية إذا فرغوا من الحج كانوا يذكرون مفاخر آبائهم في مني(4)، فنُهوا عن ذلك، وأمروا بذكر اللَّه تعالى، فإنَّ المكان هو مكان عبادة، فلا بد من ترك هذه العادة السيئة فيه وخاصة ما يختلط

ص: 24


1- سورة النساء، الآية: 103.
2- سورة آل عمران، الآية: 41.
3- سورة النساء، الآية: 162.
4- البرهان ج 2، ص 139 - 141 عن الكافي والعياشي.

بها من كذب وشحناء ونحو ذلك، مع تبديل ذلك بالأحسن. فإنَّ من خصوصيات الإسلام أنه أبطل كل عادة سيئة، وبدّل العادات الحسنة إلى أحسن منها، و إنَّ كانت ميراث الأنبياء هَذَّبها بأن نهی عن كل شائبة تعلقت بها.

مثلا بدّل قولهم (باسمك اللّهُمَّ )إلى أحسن منه وهو (بسم اللَّه الرحمن الرحيم)، وبدّل قولهم في النكاح (بالرفاء والبنين) إلى (على الخير والبركة)، لأن الدعاء بالبنين والرفاء - وهو الانسجام بين الزوجين - حسن، ولكن الدعاء بالخير والبركة أحسن، وفي الحديث: (لما زوج رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم فاطمة علیها السلام قالوا : بالرفاء والبنين، فقال رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، لا بل قولوا على الخير والبركة)(1)، ولعلّ ذلك لإبطال تشاؤمهم من البنات أیضاً . وهكذا في سائر الأمور.

ولمّا كان الحج ميراث النبي إبراهيم علیه السلام ولكن شَوّهه أهل الجاهلية بالشرك والتكبر والمفاخرة ونحو ذلك، شَذّبه الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم من كل تلك العوالق والشوائب حتى عاد نقيّاً كما أراده اللَّه تعالی.

3- وحيث إنَّ الناس يذكرون آباءهم بصورة مستمرة، وذكرهم لهم ليس مجرد لقلقة لسان، بل ينشأ من صميم القلب مع تعظيمهم ووصفهم بالصفات اللائقة وبيان مآثرهم، لذا طُلب منهم أن يكون ذكرهم اللَّه تعالی کذكرهم آباءهم، بأن يكون ذكراً حقيقياً وبصورة مستمرة، كما قال تعالى :«الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ »(2)، وقال: «وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ »(3).

ص: 25


1- الكافي ج 5، ص568.
2- سورة الأنفال، الآية: 2.
3- سورة الرعد، الآية: 28.

وقال : «رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ »»(1)، وقد مرّ أن الذكر بمعنى عدم النسيان، فهو عمل قلبي في الأساس لكنه يظهر على الجوارح وخاصة اللسان.

وقوله «أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا » ، من (الشَّدّ) وهو يدلُّ على القوة في الشيء (2)وشدّ فلان واشتدّ: إذا أسرع (3).فالمعنى ليكون ذکرکم اللَّه أقوى من ذکرکم آباءكم أو أسرع منه بمعنى تقديمه عليه، وهذه الأشدّیّة قد تكون في الكمّ وقد تكون في الكيف -.

لأن اللَّه سبحانه هو الأحق بالتعظيم من الآباء، فإن كان لهم إفضال على الإنسان بحيث يجب شكره كما قال :«أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ »(4)، فإنَّ فضل اللَّه على الإنسان لا يُعَدُّ ولا يحصى، بل فضل الآباء يرجع إلى فضل اللَّه تعالى، فهي نعم اللَّه عليهم ورثها الأبناء أو ورثوا سمعتها .

ولعلّه إشارة إلى الإخلاص في ذكر اللَّه تعالى، فإنَّ ذكر الإنسان الآبائه يشوبه حبه لذاته فهو يريد الرفعة على الآخرين عن طريق ذکر آبائه ، أما ذكر اللَّه فيلزم أن يكون خالصاً .

وقوله «أَوْ»هي للتخيير - كما هو الظاهر -، وقيل هي للإضراب بمعنی بل، كما في قوله «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُورا»(5).

الثالث : قوله تعالى« فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا »الآیة

ص: 26


1- سورة النور، الآية: 37.
2- مقاييس اللغة ص 501.
3- المفردات: ص447.
4- سورة لقمان، الآية: 14.
5- سورة الإنسان، الآية: 24، انظر مغني اللبيب ج 1، ص 91.

من هذا المقطع یبیّن اللَّه تعالى كيفية ذكره، وأن الناس في ذكره صنفان فصنف يطلب بذكره عرض الدنيا - سواء كان حسناً أم سيئاً ۔، والآخر يطلب بالذكر خير الدارین.

والغرض هو توجيه الناس ليكونوا من الصنف الثاني.

وأما الصنف الأول : فيقول «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا» ، ولم يقيّده بالحسنة لأنه يريد زخرف الحياة الدنيا من أية طريقة حصلت، وهو وإن كان يتصوّره حسنة، لكن لا حسن فيما استتبع عذاباً .

وقوله «وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ »إما بمعنى أن لا نصيب للآخرة في دعائه، فلا يدعو للآخرة لعدم اعتقاده بها، كأهل الجاهلية كانوا يحجّون ويدعون اللَّه مشرکین به مع اعتقادهم بأن الموت هو النهاية، أو لغفلته عن الآخرة وعدم الاهتمام بها، وإما بمعنى أن هذا الصنف لا نصيب له في الآخرة، لأنه لا يستحقها، وذلك لعدم طلبه لها الا بالدعاء ولا بالعمل.

قال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ »(1)، وقال سبحانه «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ »(2)

الرابع : قوله تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً » الآیة.

ص: 27


1- سورة الشورى، الآية: 20.
2- سورة الأحقاف، الآية: 20.

هؤلاء يعلمون أن الدنيا فيها الحسن والسَّيِّئُ، فهم يطلبون الحسن منه فقط، وكل ما أوجب رفع الدرجات فهو حسنة حتى وإن كان صعباً، فالشهادة في سبيله تعالی سوإن كان فيها فقد للحياة وهي من دعاء الصالحين، كما كتب أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر: (وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة)(1).

وفي الروایات ذکر مصادیق للحسنة في الدنيا والآخرة، فعن الإمام الصادق علیه السلام : (رضوان اللَّه والجنة في الآخرة، والسعة في المعيشة وحسن الخلق في الدنيا)(2). وهذه كلمة جامعة لأن أهم ما في الآخرة هو رضوانه تعالى، ثم الجنة ونعيمها، قال تعالى «وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ». وأهم ما في الدنيا من الجهة المادية : السعة في المعاش، ومن الجهة المعنوية : الأخلاق الحسنة - منه ومن أهله وأصحابه -

وقوله « وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ».

أي بالعفو والمغفرة احفظنا من عذاب النار، وذلك لأن بعض الناس يدخلون الجنة بعد أن يعذّبوا ببعض ذنوبهم، فقد آتاه اللَّه حسنة في الآخرة ولكنه تعالى لم يقِهِ عذاب النار.

ثم إنه تعالی ذکر حسنة الدنيا ولم يذكر سيئتها بالتعوذ منها :

1- إما لأجل أن كل مكروه يصيب المؤمن في الدنيا يزيد في درجاته في الآخرة فهو ليس سيئة حقيقة بل هو حسنة في واقعه لهذا المؤمن.

2- وإما لأجل أن إِيتاء الحسنة تتضمن دفع السيئة سواء في الدنيا أم في الآخرة فيكون قوله « وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » تأكيداً لأهمية الوقاية منه.

ص: 28


1- نهج البلاغة، الكتاب: 53.
2- البرهان ج2، ص162 عن العياشي، وقريب منه ما في الكافي.

3- وإما لأجل أن « عَذَابَ النَّارِ »عام للسيئة في الدنيا والآخرة لأن سيئات الدنيا - وهي المعاصي - تؤدي إلى النار .

4 - أو إنّ«عَذَابَ النَّارِ »يشمل مصائب الدنيا أیضاً - توسعاًو مجازاً - كما يظهر مما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : (وعذاب النار المرأة السوء)(1) وهو بيان لمصداق السيئة في الدنيا، فتأمل.

الخامس : قوله تعالى : «أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ».

الظاهر أن«أُولَئِكَ» إشارة إلى الصنف الثاني، وهم طالبو الحسنة في الدنيا وفي الآخرة، لأن الصنف الأول حدّد اللَّه مصيرهم بقوله « وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ » ، فتحديد مصير الصنف الثاني يكون في قوله «أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا » .

وقوله :«نَصِيبٌ» أي في الدنيا والآخرة فلهم ثواب الدنيا وثواب الآخرة .

وقوله :« مِمَّا كَسَبُوا» .

1. «من» قد تكون تبعيضية، أي لهم نصيب من بعض ما كسبوا وهو ما أَرسلوه للآخرة، أما ما لم يرسلوه للآخرة كأكلهم وشربهم فهو نصيبهم للدنيا لا ثواب فيه في الآخرة. قال تعالى «فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ »(2)، أما الكافر فلا نصيب له أصلاً بل عمله كان للدنيا وثوابه فيها فقط كما قال تعالى «وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا »(3).

ص: 29


1- تفسير الصافي ج 1، ص237.
2- سورة آل عمران، الآية: 148.
3- سورة آل عمران، الآية: 145.

وقيل : «كَسَبُوا» بمعنی دَعَوا، لأن الدعاء من الأعمال أیضاً فهو کسب، أي لهم نصيب من بعض دعائهم مما فيه المصلحة والاستحقاق أي يستجيب اللَّه دعاءهم الذي فيه المصلحة.

2 - وقد تكون «من» ابتدائية، أي لهم نصيب ناشیء من عملهم، وذلك بجزائهم حسن الجزاء، أو أن العمل يتجسم في الآخرة فلهم نصيب من جنس عملهم.

3- وقد تكون «من» للتعليل، أي لهم نصيب من أجل ما كسبوا، نظير قوله «مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا »(1)، أي بسببها .

السادس: قوله «وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ».

الغرض هو حثّ الناس على العمل ليكونوا من الصنف الثاني، وذلك بيان أن القيامة قريبة، فلا يظن الإنسان بُعدها فلا يعمل لها.

و(الحساب) إما بمعنى العدّ، فالمعنى أن اللَّه يتمكن من عدّكم فلا يتوهم أحد عدم تمكنه من الإحاطة بحوائج هذا الحشد الكبير من الحجاج، ورؤية أعمالهم، وعن أمير المؤمنين علیه السلام قال : (إنه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة)(2).

أو بمعنى إنه سريع الجزاء، فمن يتمكن من جزاء الخلق بسرعة لا يعجز عن سماع حوائجهم، قال تعالى« وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ »(3)، «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا »(4)

ص: 30


1- سورة نوح، الآية: 25.
2- التبيان ج 2، ص 17، ومجمع البيان: ج2، ص78.
3- سورة النحل، الآية: 77.
4- سورة النازعات، الآية: 46.

أو (الحساب) بمعنى الكفاية، قال في المقاييس : تقول شيء حساب أي كافي، ويقال أحسبت فلاناً إذا أعطيته ما يرضيه(1)، فالمعنى فاللَّه سريع في كفايتهم أي قضاء حوائجهم، فتأمل .

السابع : قوله تعالى« وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ »

الأيام المعدودات هي أيام التشريق - وهي 11 و12 و13 من ذي الحجة - التي فيها المبيت بمنى .

وذكره تعالى بالقلب، وباللسان، وبالعمل .

وذكره بالعمل هو برمي الجمرات الثلاث لأنها امتثال لأمره وبراءة من عدوِّه، وكذا بسائر الأعمال الصالحة. وقد مرّ أن الذكر هو بمعنى عدم النسيان فامتثال أمره ذكرٌ له .

ومن مصاديق ذكره باللسان هو التكبيرات في يوم العيد إلى زوال اليوم الثاني عشر لمن كان بمنى، ولغير الحجاج إلى فجر اليوم الثاني عشر بأن يقول : ( اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا الله، و اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ولله الحمد، اللَّه أكبر على ما هدانا، اللَّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام)(2) .

الثامن : قوله تعالى «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ »

1 - أي نَفَر إلى مكة في ثاني اليومين - وهو اليوم الثاني عشر - بعد الزوال، فقد رجع مغفوراً له، لأنه قد أتمّ الحج، وفي الحديث عن الإمام زين العابدين علیه السلام : (الحاج مغفور له، وموجوب له الجنة، ومستأنف

ص: 31


1- المقاييس ص244، وانظر المفردات: ص234.
2- البرهان ج2، ص143 عن الكافي.

العمل، ومحفوظ في أهله وماله)(1)، وكذا من بقي إلى اليوم الثالث - وهو اليوم الثالث عشر - فإنَّه يرمي بعد طلوع الشمس ثم ينفر إلى مكة، فهو يرجع أيضاً مغفوراً له . فالآية بصدد بيان غفران الذنب للمتقدم والمتأخر، وبالملازمة يستفاد جواز التقديم والتأخير .

2 - ويحتمل أن يكون «فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ » بمعنى عدم المانع، وفيه رد على أهل الجاهلية فإنَّ بعضهم كان يتأثم بالتعجيل وبعضهم كان يتأثم بالتأخير، فبيّن اللَّه جواز كليهما .

3 - ويحتمل أن يكون لبيان الفارق بين من اتقى الصيد والنساء وبين من لم يتق، فالمتقي مخير، وغير المتقي يلزمه المبيت في الليلة الثالثة عشرة أيضاً.

4 - وفي التأويل: أن التعجيل هو الموت، أي من مات في الحج مات مغفوراً له، وكذا من تأخر بشرط أن يتقي، فعن الإمام الصادق عليه السلام : ومنهم من غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه ، وقيل له أحسن فيما بقي من عمرك، وذلك قول اللَّه عزَّوجلَّ «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ »يعني من مات قبل أن يمضي فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى الكبائر(2).

التاسع : قوله تعالى «لِمَنِ اتَّقَى» .

أي هذه التوسعة بجواز التقديم والتأخير إنما هو لأجل المتقين حيث إن اللَّه يحبهم فوسع على الناس لأجلهم .

ص: 32


1- الوسائل ج11، ص9 عن الكافي.
2- الوسائل ج13، ص547 عن الكافي.

أو عدم الإثم للمُتَّقِين، فمن حج متَّقياً للذنوب ، مغفوراً له، أما رجع من حج وارتكب في الحج الذنوب فإنَّ اللَّه قد ينتقم منه، كما قال « وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ » (1)

وقد بيَّنت الروايات بعض مصاديق ومن اتقى، كاتقاء الكبائر،

والكبر، ومحرمات الإحرام - كالرفث والفسوق والجدال والصيد (2).

وعن الإمام الصادق عليه السلام - في تفسير الآية - : أنتم و اللَّه هم، إن رسول اللہ صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: لا يثبت على ولاية عليإلَّا المتقون(3) .

ومن الأحكام الفقهية : أن من لم يتق الصيد أو النساء في إحرامه يجب عليه المبيت في الليلة الثالثة عشرة، وبه روايات متعددة، وأما من لم يثق سائر محرمات الإحرام فيستحب له مبيتها أي الليلة 13 -(4).

العاشر : قوله تعالى :«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ».

«تُحْشَرُونَ» هو الجمع، فالمعنى اتقوه تعالى لأنكم تجتمعون إلى حکمه وجزائه يوم القيامة . وكلمة الحشر تناسب الحج، لأنه يُذَكِّر بالآخرة، حيث اجتماع الناس من كل حدب وصوب، وبملبس موحَّد، في بقعة واحدة، متوجهين إلى اللَّه ملبِّين دعوته .

ص: 33


1- سورة المائدة، الآية: 95.
2- راجع الروايات في تفسير البرهان: ج2، ص 144 - 147.
3- البرهان ج2، ص148 عن تفسير العياشي
4- راجع الفقه ج46، ص 50 - 54.

الآيات 206 - 207

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)»«وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)»«وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)»«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)»

فقال في الصنف الأول :

204 - «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ » منافق مراء، فهو « مَنْ يُعْجِبُكَ » أي يروق لك «قَوْلُهُ »لأنه يظهر الإسلام، والنبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم كان يفرح بإسلام الناس، وهذا الإعجاب إنما هو « فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » أما في الآخرة فلا، لظهور باطنه هناك، «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ»، لكي ينطلي الأمر عليك «وَ »لكن « وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ » أي أشد الأعداء.

«وَ» لكن أفعال هذا المنافق تفضحه، ف«إِذَا تَوَلَّى» أي انصرف عنك « سَعَى» أسرع في الأرض ليفسد فيها بالظلم وسوء السريرة ، «وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ » الزراعة «وَالنَّسْلَ »الذرية، «وَ» فعل هذا

ص: 34

المنافق مبغوض إذ «اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ » فهو تعالى يريد الصلاح، ولا يريد الشر ولا يأمر به .

206 - «وَ» يظهر نفاق هذا الشخص في رفضه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ف«إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ » واترك سوء صنيعك « أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ »أي القوة الظاهرية التي له وذلك بالحمية الجاهلية والأنفة التي اكتسبها « بِالْإِثْمِ ». «فَ-»هذا الشخص «فَحَسْبُهُ» تكفيه «جَهَنَّمُ» عقوبة لعمله «وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ»المقر الذي سيستقر فيه .

207 - ثم ذكر اللَّه تعالى علامة الصنف الثاني فقال :

«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي أي يبيع «نَفْسَهُ » عبر قيامه بأمر اللَّه تعالى فيتحمل المخاطر «ابْتِغَاءَ » أي طلباً «مَرْضَاتِ اللَّهِ » فهذا عمله دل على صدق قوله وسلامة قلبه، « وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» حيث جعل فيهم أمثال هذا الشخص، أو أن اللَّه سيجازيه أحسن الجزاء، نزلت في الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام حينما فدى بنفسه رسول اللہ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ليلة المبيت .

بحوث

الأول : ارتباط هذه الآيات بآيات الحج، هو أن اللَّه تعالى قسّم الداعين في الحج إلى صنفين : مريد الدنيا فقط، ومريد الحسنة في الدارين، ثم بيّن علائم وأوصاف كل من الصنفين في هذه الآيات ،

ص: 35

والغرض هو التحذير من أفعال المنافقين لكيلا يدخل الإنسان في طالبي الدنيا فقط، والتشويق إلى أفعال المؤمنين ليدخل الإنسان في طالبي حسنة الدنيا والآخرة .

الثاني: قوله تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » .

الآية عامة لكل منافق مُرَاءٍ وإن كان شأن نزولها خاصّاً ، فإنَّ المنافق المرائي، يتكلم بكلام حلو معسول، كما قال تعالى «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ »(1)، لكن حيث لا يضمر ما يقول فإنَّه يظهر نفاقه في لحن كلامه وفي عمله، قال تعالى «وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)»«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)»(2) .

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : ما أضمر أحد شيئاًإلَّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه (3).

وقوله « يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ »أي تُسَرّ بكلامه لحسنه، فإنَّ رسول اللہ صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يفرح بإسلام الناس، والمنافق حيث يُظهر الإسلام فإنَّ قوله - وهو الشهادتين - جميل، فقوله مستحسن، نظير إعجاب المؤمن بكلمة الحكمة وإن كان قائلها كافراً أو منافقاً، وعن أمير المؤمنين علیه السلام : الحكمة ضالَّة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق(4)، فالإعجاب بقوله لا ينافي العلم بنفاقه

ص: 36


1- سورة المنافقون، الآية: 4.
2- سورة محمد، الآيتان: 30 - 31.
3- نهج البلاغة، الحكمة رقم 26.
4- نهج البلاغة، الحكمة رقم 80.

وقوله «فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » متعلق ب- « يُعْجِبُكَ »أي هذا الإعجاب إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فلا إعجاب بقوله، لأن كلام أهل النار غير مستحسن .

أو لأن الرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان مكلّفاً بقبول إسلام كل أحد - حتى مع علمه بنفاقه - كما أمر اللَّه تعالى« وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا »(1)، لاختلاط المنافق بغيره في البيوت والقرابات، ولرجاء دخول الإيمان في قلوبهم ولو بعد حين كما قال «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)»(2)، ولأمل إيمان ذريتهم ، كما أنهم قد يكونون عوناً للدين - ولو لأجل مصالحهم كالغنائم - ولغير من الأسباب، فلذا كان الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم يعجب بإسلامهم، لكن كل هذه الأسباب تنقطع في الآخرة فلا مورد للإعجاب بهم وبأقوالهم هناك .

وقيل في الحياة الدنيام متعلق ب«قوله » أي قوله في الأمور الدنيوية، فإنَّه حيث لا همّ له إلَّا الدنيا، فلعلّ له أقوال لطيفة تتعلق بالقضايا الدنيوية كالزراعة وفنون الحرب ونحو ذلك، فتأمل .

الثالث : قوله تعالى «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ».

حيث إنه يتصور أن لا أحد يطلع على نفاقه، فإنَّه يُشهد اللَّه تعالى على قلبه، تغطية لنفاقه، مع أنَّ هذا استخفاف به تعالى، كأنه جعله أهون

ص: 37


1- سورة النساء، الآية: 94.
2- سورة الحجرات، الآية: 14.

الناظرين، كما قال «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ »(1) .

وأما في الحياة الآخرة فلا يتمكن من هذا الاستشهاد إذ هناك «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِر»(2) ، وتشهد عليه أعضاؤه فلا كتمان لما في قلبه إطلاقاً .

وقوله «وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ» : (اللدّ) هو شدة الخصومة، و(الخصام) إما جمع خَصم، أي أشد الأعداء، وإما مصدر باب المفاعلة أي الأشد خصومة، والمعنى إنه يكذب في كلامه وفي إشهاده اللَّه تعالى على ما في قلبه، لأن قلبه منطو على بغض شديد للرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم أو الإسلام أو المسلمين .

وفي الآية تحذير بعدم الاغترار بالأقوال، فلا يحكم على حُسن شخص بمجرد لطافة كلامه، بل لا بد من تصديق فعله لقوله، وإلّا فالجبابرة كلامهم قد يكون شبيهاً بكلام المصلحين، ونقلوا أن الحجاج إذا صعد المنبر تكلّم كلام الأنبياء - بوعظ وإرشاد - وإذا نزل منه فعل أفعال الجبابرة، وحكى اللَّه عن فرعون قوله « مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ »(3)، وكلامه شبيه بكلام مؤمن آل فرعون «وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ »(4)، لكن الفارق هو القصد والعمل، فقاله فرعون بقصد الإضلال وظهر ذلك في عمله، عكس مؤمن آل فرعون فكان قصده هدايتهم إلى نبي موسی علیه السلام ولذا كانت سائر أقواله وأعماله متطابقة مع واقعه .

الرابع : قوله تعالى«وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ»، الآية .

ص: 38


1- سورة النساء، الآية: 108.
2- سورة الطارق، الآية: 9.
3- سورة غافر، الآية: 29.
4- سورة غافر، الآية: 38.

أي إذا انصرف عنك فإنَّه يسرع ليعمل عمل الجبارين بظلمه وسوء سريرته، وفي قوله « سَعَى» دلالة على سرعة انكشاف أمر هؤلاء المنافقين، لأن ما في قلبهم يسوقهم إلى الفساد فوراً، فهو بمجرد أن ينصرف عن الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم ينسى كلامه بالشهادتين أو سائر كلماته اللطيفة ، فيظهر بمظاهر الجبارين .

وقوله «لِيُفْسِدَ فِيهَا» يمكن تصوير إفساده بثلاثة أنواع وقد تتداخل

1 - إفساد معيشة الناس - الاقتصادية والاجتماعية - كقوله «قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً »(1).

2 - ارتكاب الذنوب، قال تعالى « وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ »(2).

3 - الفساد في الدين، بمحاربته أو محاولة تحريفه، قال تعالى

«وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ »(3).

ومن مصاديقه القوانين والدساتير التي تخالف الشرع، قال سبحانه «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون»، «ُ الظَّالِمُون»«الْفَاسِقُونَ »(4) واللام في «لِيُفْسِدَ»إما لام العاقبة أي عاقبة هؤلاء هو الفساد في الأرض، وأما لام العِلّة أي سعيه هو بغرض الإفساد .

الخامس : قوله تعالى «وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ».

ص: 39


1- سورة النمل، الآية: 34.
2- سورة الأعراف، الآية: 142.
3- سورة يونس، الآية: 40.
4- سورة المائدة، الآيات: 44 - 45 - 47.

وإهلاكهما إما عن طريق إتلافهما مباشرة بحرق الزرع وقتل الأبناء - مثلاً -، أو بطريقة غير مباشرة حيث إن إثارة الفوضى والاضطرابات وسوء الحكم يوجبان خراب الزراعات لاشتغال أهلها بأمور أخرى، أو للخوف من الذهاب إليها لفقدان الأمن، وكذا فناء النسل بسبب الزواج أو مقتل الشباب .

وقد يستدل بالآية على عدم جواز إفناء الغابات مما يوجب التصحُّر، وعدم جواز قتل الحيوانات من غير حاجة، وقيل: بوجوب حفظ نسل الحيوانات المعرضة للانقراض بعدم السماح باصطيادها وبإيجاد محميّات لها .

أقول : إن صَدَقَ الفساد على التصحُّر وانقراض الأنواع فيكون داخلاً تحت عموم النهي عن الفساد، وإلّا فصدق إهلاك الحرث والنسل عليهما خلاف الظاهر، إذ الحرث ظاهر في الزراعة لا في مطلق النباتات ، والنسل ظاهر في الإنسان لا مطلق الحيوان، فتأمل .

السادس : قوله تعالى «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ».

بيان لحرمة الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، وذلك ببيان القاعدة العامة وهي حرمة كل فساد لأن الألف واللام في (الفساد) للجنس، وهو يفيد العموم .

ومعنى« لَا يُحِبُّ »هو لا يرتضي هذا العمل ويبغضه، وهذا التعبير ظاهر في الحرمة، وقال تعالى: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا »(1).

ص: 40


1- سورة الأعراف، الآية: 56.

ثم إن الفساد قد يكون في التكوين، وقد يكون في التشريع، وكلاهما مبغوض للّه تعالى .

فلا فساد في التكوين، وما يرى من تَحَلُّل الأشياء بعد وصولها إلى أقصى درجة لها، كفساد الفواكه والنباتات وفناء الأجسام ونحو ذلك فليس فساد على الحقيقة، بل هو مقتضى كمال الكون وتجديد طاقاته وتبديلها ، نعم لو نظر إلى الشيء مجرداً عن سائر الجهات قد يتراءى بأنه فساد، لكن ضمن منظومة متكاملة من العلل والمعلولات ليس بفساد حقيقة. وكذا موتُ الناس و تَحَلُّل أجسادهم ليس فساداً بالحقيقة بل هو إصلاح لأمر الكون .

وأما التشريع فقد شرّع اللَّه أفضل القوانين مما فيه صلاح الإنسان وفي الحديث : (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه)(1). وكل فساد في التكوين أم في التشريع فإنَّما هو بفعل الإنسان. قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » (2).

السابع : قوله تعالى :«وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ ... »الآية . وهذا أيضاً من علائم المرائي المنافق الذي لا يريدإلَّا الدنيا، فهو مفسد، ولا يسمع كلام الناصحين . فإنَّ من صفات المؤمنين هو الاستماع إلى النصح، وقبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذا يستفيدون من مواعظ الأنبياء وإرشاداتهم .

ص: 41


1- من لا يحضره الفقيه ج4، ص 334.
2- سورة الروم، الآية: 41.

أما غير المؤمنين فهم لا يحبون الناصحين ويتضايقون منهم، قال تعالى: «فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ »(1). بل قد يعاندونهم ويلجّون في باطلهم، لأنهم تنتابهم الحمية الجاهلية والأنفة الباطلة، فلكي يظُهروا قوتهم وعدم اكتراثهم بالناصح يعمدون إلى مخالفته جهراً .

فقوله « أَخَذَتْهُ » ، أي ألزمته، وقوله «الْعِزَّةُ» أي القوة التي يراها في نفسه، وقوله « بِالْإِثْمِ» أي العزة التي اكتسبها عن طريق الإثم، فهي عزة ظاهرية لا واقع لها، لأن القوة الحقيقية للَّه لا لمن خالفه، قال تعالى « وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)» (2)، وقال «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا »(3)

وقيل الباء في « بِالْإِثْمِ» للتعدية، فالمعنى أن هذه العزة الظاهرية التي له تأخذه إلى ارتكاب الإثم، والإصرار فيه، والحاصل أن هذا الشخص يرى نفسه عزيزاً ذا أنفة وحمية، فليس هو مستعداً لسماع النصائح بل يلجّ ويعاند فيفعل الإثم الذي أمر باتقائه .

«فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ »أي هذا الشخص جزاؤه جهنم، فهي تكفيه عقوبة لعمله، ولإرغام أنفه لتكبره عن الحق وترفعه عن اتّقا اللَّه تعالى، و(المهاد): الوطاء، وهو ما يُهَيَّؤُ للاستراحة عليه، جيء به هنا تهكماً بهذا المتكبر، فلئن أفسد هذا في الأرض فلقد هيا لنفسه مقعداً في نار جهنّم .

ص: 42


1- سورة الأعراف، الآية: 79.
2- سورة المنافقون، الآية: 8.
3- سورة فاطر، الآية: 10.

الثامن : قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ »

لأن اللَّه تعالى يرؤف بالعباد، فإذا كان هناك ناس مفسدون فإنَّه يجعل مقابلهم رجالاً مصلحين، امتحاناً للناس، ولكن لا يبطل الدين، قال تعالى «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا »(1) وقال سبحانه «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ »(2)، ولذا فالحجة مستمرة من لدن آدم وإلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها فلا تخلو الأرض من حُجَّة، كما لا تخلو من الشيطان الرجيم وأتباعه شياطين الإنس والجن.

وقد تواترت الروايات في أن هذه الآية نزلت في الإمام علیٍّ علیه السلام حينما بات ليلة الهجرة في فراش النبي صلى اللَّه علیه وآله وسلم ففدى بنفسه رسول اللَّه صلى اللَّه علیه وآله وسلم(3).

وقد زعم ابن تيمية أن هذا ليس فضيلة لعلي بن أبي طالب علیه السلام (4)لأن الشيعة تزعم بأنه كان يعلم بعدم مقتله في تلك الليلة!!

فأما على مذهبهم فإنَّه علیه السلام لم يكن يعلم ببقائه حيّاً ففداؤه رسول اللہ صلى اللَّه علیه وآله وسلم بنفسه هو من أعظم الفضائل، وإن كان علمه بإخبار الرسول فالفضيلة أعظم حيث شدة يقينه وإيمانه بصدقه صلى اللَّه علیه وآله وسلم.

ص: 43


1- سورة فاطر، الآية: 32.
2- سورة الأنعام، الآية: 112.
3- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص 150 – 155، ورواه من العامة الحاكم في المستدرك ج3، ص5 الحديث رقم 4264، وأحمد بن حنبل في المسند ج5، ص 300، الحديث رقم 3251، والنسائي في الخصائص ص63 والقرطبي في تفسيره ج3، ص21، وغيرهم.
4- راجع منهاج السنة ج، ص.

وأما على مذهبنا ، فإنَّ علم الإمام علیه السلام لا ينافي البداء، وقد قال علیه السلام : (لولا آية في كتاب اللَّه لأخبرتكم بما كان وما يكون وما هو كائن)(1)، مضافاً إلى أن الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم علّم الإمام العلوم قبيل وفاته قال علیه السلام (علّمني رسول اللہ صلى اللَّه علیه وآله وسلم ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب)(2).

وهذا شأن نزول الآية، وهذا لا ينافي عموم الآية لكل من يقتدي بالإمام أمير المؤمنين علیه السلام، فعن أمير المؤمنين علیه السلام: هم خيار أصحاب رسول اللہ صلى اللَّه علیه وآله وسلم عذّبهم أهل مكة ليفتنوهم عن دينهم(3) . وعنه علیه السلام: الرجل يقتل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4).

فالآية - كما في الجوهر الثمين - عامة وإن نزلت خاصة .

وقوله «يَشْرِي نَفْسَهُ» أي يبيع نفسه، وذلك عن طريق القيام بأوامر اللَّه تعالى، والثمن هو كسب مرضاة اللَّه تعالى .

التاسع : قوله «وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ » .

مرّ أن الرأفة هي شدة الرحمة بالمؤمنين، ولعلّ الغرض من ذكر هذا المقطع :

1 - إن اللَّه رؤوف بهذا الشخص الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاته تعالى، فيجازيه أحسن الجزاء، عكس الصنف السابق، حيث يجازيه اللَّه جهنم وبئس المهاد.

ص: 44


1- راجع بحار الأنوار ج 4، ص97.
2- الكافي ج1، ص296.
3- الجوهر الثمين ج1، ص209.
4- المصدر السابق نفسه.

2 - إن هذا البيع فيه أخطار جمَّة، لكن اللَّه تعالى سيجنب هذا الشخص هذه الأخطار رأفة به، ولذا أنقذ الإمام علياً علیه السلام في تلك الليلة - قبل أن يعرفوه وبعد معرفتهم به -.

3 - إن وجود هذا الشخص هو رأفة بالعباد حيث يواصل طريق الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم ويقاتل على التأويل كما قاتل رسول اللہ صلى اللَّه علیه وآله وسلم علی التنزيل(1) ويفقأ عين الفتنة(2) ويمنع من تحريف الدين، قال تعالى « فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ »(3).

ص: 45


1- بصائر الدرجات ص330.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 93.
3- سورة الأنعام، الآية: 89.

الآیات208-210

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)»«فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)»«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)»

لمّا بیّن اللَّه تعالى أن الناس في دعائهم في الحج على صنفين ، وأن لكلا الصنفين علامة، وجّه الخطاب لجميع المسلمين، وأمرهم بالانقياد له تعالى ليدخلوا في الصنف الأول، وحذّرهم من اتباع الشيطان فإنَّ ذلك سيؤدّي بهم إلى عذاب الله، حيث لا تنفع التوبة ولا الندم، فقال تعالى :

208 - « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » أظهروا الإيمان بألسنتهم « ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ» استسلموا لأمر اللَّه تعالى بالانقياد والطاعة حتى يظهر الإيمان في أعمالكم ويتحقق ذلك باتباع النبي صلى اللَّه علیه وآله وسلم وأهل بيته علیهم السلام ، «كَافَّةً » جميعكم بلا استثناء « وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ » بمخالفة أوامر اللَّه تعالى، لأنه يخرجكم من السلم، « إِنَّهُ » فإنَّه الشيطان « لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» مظهر لعداوتكم لأمره إياكم بما فيه ضرركم .

ص: 46

209 -«فَإِنْ زَلَلْتُمْ »من الزَّلَّة بمعنى العثرة أي انحرفتم عن الطريق الصحيح واتبعتم خطوات الشيطان «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ» الآيات الواضحة « فَاعْلَمُوا »أنكم غير معجزين، فستنالون عقابكم، إذ «أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يعجز عن الانتقام منكم، وحكيمه حيث لم يمنعكم بالقهر عن ارتكاب المعاصي، فهو بحكمته خلقكم مختارين وهداكم النجدين .

210 - هؤلاء العصاة أهل الزلل«هَلْ يَنْظُرُونَ »أي ينتظرون «إِلَّا أَنْ » تقوم القيامة!! ، والاستفهام للإنكار عليهم بعدم اعتبارهم بالآيات التي جاءتهم ففي ذلك اليوم «يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ » أي أمره تعالى بعذابهم وفي ظلله جمع ظُلَّة ما يظلّهم ويحيط بهم «فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ» السحاب الأبيض فينزل منه العذاب « وَ» تأتيهم «الْمَلَائِكَةُ » الموكلون بعذابهم وغير العذاب .«وَ» في ذلك الوقت، قد «قُضِيَ الْأَمْرُ » فلا مجال للتوبة«وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» فيجازي الجميع، فلا مجال للفرار من حكومته وعقوبته .

بحوث

الأول: قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ .

قد مرّ أن القرآن يخاطب المسلمين ب-« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » ويخاطب اليهود والنصارى ب-« أَهْلَ الْكِتَابِ » ، ويخاطب عامة الناس

ص: 47

ب-«يَا أَيُّهَا النَّاس» ، فالمراد من « الَّذِينَ آمَنُوا » هم من أظهروا الشهادتين - عن حقيقة، أم عن نفاق، أم بلا تجذّر في القلب -.

فلذا قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ » . الآية(1). والإيمان باللسان أول مراتب الإيمان - وهذه المرتبة قد تجتمع مع النفاق - وبتهذيب النفس وبالعمل يرتقي الإنسان إلى سائر مراتب الإيمان .

ومادة (س ل م) بمعنى التعرّي من الآفات الظاهرة والباطنة(2). فالمراد ب- «السِّلْمِ » : الإيمان المنزَّه عن كل ريب وشائبة، ويكون ذلك بالانقياد التام اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يحصل ذلكإلَّا بإطاعته وإطاعة رسوله والدخول في ولاية العترة الطاهرة، وفي الأحاديث تفسير السلم بولاية الإمام عليه السلام والأئمة علیهم السلام (3)، وذلك لأن كمال الدين بولايتهم، وبدونها لا تسليم لأمر اللَّه تعالى بل عصيان عليه، وولاية غيرهم اتباع لخطوات الشيطان حيث هي مخالفة لأمره تعالى . وقوله تعالى « وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبين» ، قد مرّ بيان المعنى في الآية 168.

الثاني : قوله تعالى « كَافَّةً»

« كَافَّةً»خاص بذوي العقول، فلا يقال (الأمور كافَّة)، بل يقال (الناس كافَّة)، قال ابن هشام في المغني : وتجويز الزمخشري الوجهين «ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً»، وَهمٌ، لأن كافة يختص بمن يعقل، ووهمه في قوله تعالى « وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاس» ، إذ قدَّر «كافة» نعتاً لمصدر محذوف - أي إرسالة كافة - أشدَّ، لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل

ص: 48


1- سورة النساء، الآية: 136.
2- مفردات الراغب ص421.
3- راجع الروايات في البرهان ج2، ص156 - 158 عن الكافي وغيره.

إخراجه عما التزم فيه من الحالية، ووهمه في خطبة المفصل إذ قال : «محيط بكافة الأبواب» أشدّ وأشدّ، لإخراجه إياه عن النصب البتّة(1).

فمعنى الآية : ادخلوا جميعكم أيها المؤمنون في السلم، وأما عموم

السلم فيستفاد من (الألف واللام) حيث إنها للجنس. فتأمل .

الثالث : قوله تعالى :«فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ »الآية .

(الزلة) العثرة باسترسال الرجل من غير قصد، والمراد ارتكاب المعصية بعدم الدخول في السلم وباتباع خطوات الشيطان، قال تعالى «وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ » (2)أي منحرفون عنه، فقد شُبّه العاصي بمن ينحرف عن الطريق بزلّة رجله، فإنَّ الانقياد لله تعالى هو الصراط المستقيم، قال تعالى «قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ »(3)وقال «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ »(4)ثم إن الآية تدل على أن الزلة التي تكون بعد قيام الحجة هي التي يأخذ اللَّه الإنسان بها أخذ عزيز مقتدر حكيم. وأما إن كانت قبل قيام الحجة وكان صاحبها قاصراً فهو من المستضعفين الذين عسى اللَّه أن يعفو عنهم.

أو بمعنى أن الزلة بعد قيام البينة أشد منها قبل مجيئها، وفي الحديث : (يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد)(5) .

ص: 49


1- مغني اللبيب، الباب الخامس، ج2، ص733.
2- سورة المؤمنون، الآية: 74.
3- سورة الحجر، الآية: 41.
4- سورة الحمد، الآية: 6.
5- الكافي ج1، ص47.

و« الْبَيِّنَاتُ »جمع بينة وهي الحجة الواضحة، والمراد إما الأدلة على أن الإسلام هو الحق وأن محمداً صلی الله علیه وآله وسلم رسول اللّه، أو الأدلة الواضحة على الأحكام بأن علمتم بإيجاب شيء وتحريم آخر - وهذا أقرب إلى سياق الآية لأنها خطاب للذين آمنوا - .

وقوله «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » إشارة إلى أنه لا يتصور العاصي بأنه قد تغلب على إرادة اللَّه تعالى، بل العزّة للّه جميعاً، وإنما المعصية بعمله، فقد قضى بأن يخلق الإنسان مختاراً قادراً، وهذا من حكمته في الخلق، إذ مع الجبر يبطل الامتحان، ومعه لا معنى للتكليف ولا للثواب ولا للعقاب، إذن هو تعالى عزيز غالب على أمره قادر على كل شيء، حكيم في قضائه تخيير الناس، حكيم في عقابه فلا يعاقبإلَّا بحق، وإذا عفا فلا يعفوإلَّا بفضل مع اقتضاء الحكمة للعفو .

الرابع : قوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ »

المعنى هل هؤلاء ينتظرون القيامة حتى يتوبوا إلى اللَّه من ذنوبهم، ويدخلوا في السلم ويتركوا اتباع خطوات الشيطان؟

و« يَنْظُرُونَ»من: (ن ظ ر) وهو في الأصل بمعنى طلب إدراك الشيء سواء كان عبر البصر كقوله «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ »(1)، أم الفكر كقوله «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ »(2)، أم بالانتظار - فقد يُدرك الشيء بانتظاره والصبر له - كقوله «ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً »(3).

فالمعنى هنا هل ينتظرون حلول القيامة لكي يؤمنوا؟

ص: 50


1- سورة الصافات، الآية: 88.
2- سورة الإسراء، الآية: 48.
3- سورة يس، الآية: 49

وقوله «إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ »تفسيره في قوله تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ »(1).کما قال : «أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ »(2). تفسيره بالعذاب كقوله : «فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ »(3). وقال سبحانه «فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ »(4)فليس المعنى هو ما توهمه بعض المجسمة من مجيء اللّه، فإنَّه تعالی ليس بجسم، والانتقال من صفات الأجسام، إذ الحركة وجود في مكان ثاني بعد الوجود في مكان أول، و اللَّه تعالى منزَّه عن المكان، إذ المكان مخلوق ولا يعقل إحاطة المخلوق بالخالق، كما أن الانتقال يستلزم خلق الشيء من المكان الأول، و اللَّه تعالی محیط بكل شيء علماً ًوقدرةً، وإن شئت التفصيل فراجع شرحنا على أصول الكافي.

أو المأتي به محذوف، مثلاً يأتيهم اللَّه بأمره وعذابه، كما قال «فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ»(5)، وإنما حذف لدلالة قوله «عَزِيزٌ حَكِيمٌ » عليه، ولمّا في هذا النوع من التعبير من تفخيم الأمر والتوعيد الأكيد - كذا قيل -

وأمر اللَّه كما يكون في القيامة بأتمِّ صورة وأجلاها، كذلك قد يكون في الدنيا، بنزول العذاب الدنيوي، كقوله تعالى «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ

ص: 51


1- سورة النحل، الآية: 33.
2- سورة النحل، الآية: 1.
3- سورة النحل، الآية:29.
4- سورة الأعراف، الآية: 5.
5- سورة البقرة، الآية: 109.

التَّنُّورُ »(1)، قال سبحانه«وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ »(2)، وقال « فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ »(3)، ومن هذا يتضح معنی الروايات التي وردت في تفسير أو تأويل هذه الآية بظهور الإمام المهدي علیه السلام ، فعن الإمام الباقر عليه السلام - في القائم عجل اللَّه تعالی فرجه الشريف -: كأني بقائم أهل بيتي قد علا نجمه، فإذا علا نجمه نشر راية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم، فإذا نشرها انحطت عليه ملائكة بدر، وقال أبو جعفر عليه السلام : إنه نازل في قباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة على الفاروق، فهذا حين ينزل، وأما « قُضِيَ الْأَمْرُ » فهو الوسم على الخرطوم يوم يوسم الكافر(4).

وفي الآية تفسير آخر: وهو أن الكفار إذا لم يؤمنوا مع هذه الحجج الظاهرة، فكأنهم بانتظار إتيان اللَّه حتى يؤمنوا، ولو أتي اللَّه أهلكهم وقضي الأمر، فإنَّ أهل الكتاب والكفار کانوا يزعمون أن اللَّه يأتي في الغمام ومعه الملائكة، فالآية تشير إلى أساطير أهل الكتاب تهکُّماً، ثم تهدد بأنه عند قضاء الأمر وقيام القيامة، فلا مجال بعد للتكليف)(5).

الخامس: قوله« فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ».

الظلل : جمع ظُلّة، وهي ما أظلّت من الشمس فلا يصل نورها إلى ذلك المكان.

ص: 52


1- سورة هود، الآية: 40
2- سورة هود، الآية: 58.
3- سورة البقرة، الآية: 109.
4- البرهان ج 2، ص 191 عن تفسير العياشي، وفي الرسم على الخرطوم راجع شرحنا على أصول الكافي.
5- راجع التبيين ص 43، والتقريب ج 1، ص238.

وهذا من الأمور الجلائل في القيامة، حين يكثر التهويل، فينزل العذاب من الغمام - وهو السحاب الأبيض - .

قيل: إن السحاب الأبيض هو مظنة المطر والرحمة فإتيان العذاب منه أشد في الإيلام(1).

ولعلّ التعبير بالظلل، لأنها حاجز عن وصول رحمة اللَّه تعالى إلى هؤلاء الكفار والمنافقين، نظير قوله تعالى «وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ »(2)، وقال «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ »(3).

السادس : قوله تعالی «وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ » .

أي حين إتيان أمر اللَّه وإتيان الملائكة هنالك قد قضي الأمر، فلا مجال للتوبة ولا للرجوع إلى الدنيا للعمل الصالح، كما قال تعالى «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا »(4).وقال تعالی « وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ »(5).

وقال : «فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ »(6).

وقوله: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» بمعنی منتهی كل أمر إليه، فيجازي الكل بما يستحقون ويتفضَّل على المؤمنين بالثواب.

ص: 53


1- قريب منه في الكاشف ج 1، ص 196.
2- سورة لقمان، الآية: 32.
3- سورة الزمر، الآية: 16.
4- سورة النساء، الآية: 18.
5- سورة الأنعام، الآية: 8.
6- سورة غافر، الآية: 78.

الآيتان 211 - 212

«سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)»

«زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)»

ثم بيّن اللَّه تعالى أن سنّته في عقاب أهل الزلل عامة حيث جرت في الأمم السابقة فقال تعالى:

211 -«سَلْ» یا رسول اللَّه سؤالاً لتوبيخهم وتقريعهم ولظهور الحقائق للناس، « بَنِي إِسْرَائِيلَ »علماءهم«كَمْ آتَيْنَاهُمْ » عبر أنبيائهم« مِنْ آيَةٍ »معجزة وحجة« بَيِّنَةٍ »ظاهرة، فمنهم من آمن ، ومنهم من جحد، ومنهم من أقرَّ، ومنهم من بَدّل «وَ »قد شاهدوا كيف عذبنا المبدِّلين، لأن «مَنْ يُبَدِّلْ »بالكتمان أو التحريف «نِعْمَةَ اللَّهِ» وآياته تعالى من أجلّ نِعَمه، «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ »أي بعدما وصلت إليه وتمكن من معرفتها، «فَ-» ليهيئ نفسه لعذاب اللَّه إذ «إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» .

212۔ وسبب تبديل النعمة والزلل هو أنه «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» والمزيِّن هو الشيطان وأولياؤه « الْحَيَاةُ الدُّنْيَا »فهم يعملون لأجلها

ص: 54

فقط،«وَ»حيث إنهم غافلون عن الآخرة ف«يَسْخَرُونَ »يستهزئون «مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لأن المؤمنين منصرفون عن الحياة الدنيا ويعملون للآخرة، فيتصور الكفار أن هؤلاء سفهاء، «وَ» لكن لا يضرّ المؤمنين استهزاؤهم لأن «الَّذِينَ اتَّقَوْا» المعاصي حيث لم يتمكن الشيطان من تزيين محرمات الحياة الدنيا لهؤلاء«فَوْقَهُمْ » فوق الكفار في الرتبة والكرامة والمنزلة في الجنة «يَوْمَ الْقِيَامَةِ » في حين أن الكفار في ذلّ وهوان في سجين من نار جهنم،«وَ»المؤمنون لهم الآخرة خالصة، وهم يشاركون الكفار في الدنيا لأن الرزق ليس بالكفر حتى يحرم منه أهل الآخرة، إذ «اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

بحوث

الأول : قوله تعالى «سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» .

السائل إما الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم فيكون سؤاله لتقريعهم وتوبيخهم والإنكار عليهم، وإما الناس فالمعنی سل أيها السامع - مثلاً - وذلك بغرض التوبيخ أو بغرض الاستعلام كقوله «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ »(1).

والمقصود بيان أن سنة اللَّه تعالی جرت في عقاب المخالفين الأوامره، فلا تستبعدوا ما ذكرته الآية السابقة «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » .

ص: 55


1- سورة يونس،الآیة: 94.

كما أن في الآية تهديداً لبني إسرائيل بأن اللَّه قد أتمَّ الحجة عليهم حيث ذكر الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم في كتبهم ومع ذلك عاندوا، فليعلموا بأن اللَّه تعالى كما أخذ أسلافهم بمخالفتهم كذلك سيأخذهم بعنادهم وإنكارهم للرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم، وقد أخذهم اللَّه في الدنيا قبل الآخرة بالجلاء والقتل والسبي واغتنام أراضيهم وأموالهم.

الثاني : قوله تعالى كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ .

«كَمْ» إما استفهامية للتقرير، وإما خبرية دالَّة على الكثرة .

«آتَيْنَاهُمْ» بمعني أعطينا أنبياءهم، وكذا آتيناهم جميعاً المعاجز على يد أنبيائهم فكلهم عبروا البحر ولكن بمعجزة على يد موسی علیه السلام - مثلاً -، وبمعنى ذكرها في التوراة فهم يعرفونها .

و« آيَةٍ بَيِّنَةٍ »تشمل المعاجز وتشمل الدلائل على نبوة محمد صلی اللَّه علیه وآله وسلم المذكورة في التوراة كما قال« الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ »الآیة(1).

الثالث : قوله تعالی «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ»

عن الإمام الصادق علیه السلام قال : فمنهم من آمن، ومنهم من جحد، ومنهم من أقر، ومنهم من بدّل «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ...»(2). ولعلّ المراد أن بني إسرائيل كانوا أصنافاً أمام آيات الله، فمن حيث القلب: قسم آمن وقسم کفر بالجحود، ومن حيث العمل : قسم أقرَّ - لساناً وعملاً -، وقسم بدّل تلك الآيات بالتحريف.

ص: 56


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- البرهان ج 2، ص 191، عن الكافي.

ثم بیّن اللَّه حكم المبدِّلين فقط، لأن سياق الآيات حول الذين يَزِلّون من الذين آمنوا (راجع الآية 109) فناسب بیان عقاب نظرائهم في الأمم السابقة - وهم المبدّلون - كما أنه يعرف مصير سائر الأقسام من سياق الكلام ومضامين الآيات.

و(التبديل) يكون بطرق مختلفة . إما بعدم الإيمان بها فيبدلها كفراً فيكون نظير قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا »(1). وإما بمعنی تحريفها نظير قوله تعالى «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ »(2).

ثم إن قوله «وَمَنْ يُبَدِّلْ ...»بيان لسنة عامة من سنن اللَّه تعالى - والتي انطبقت على المبدّلين من بني إسرائيل وتنطبق على أهل الزلل المسلمين - وهي أن نعم اللَّه تعالى التي أنعم بها على الناس يجب إبقاؤها على ما أراده اللَّه منها، وأما من يُخرجها عن المقصود منها فإنَّ اللَّه يعاقبه أشد العقاب، قال تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)»«ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)»(3).

«نِعْمَةَ اللَّهِ»عامة لجميع أنعُمه تعالى، ومنها: دلائله التي هي سبب للهداية ، وتبديلها قد يكون عن طريق تحريفها أو تأويلها لتكون سبباً للضلال، وهذا من أشد الجرائم بتبديل الهداية إلى الضلال، قال تعالى «وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ

ص: 57


1- سورة إبراهيم، الآية: 28.
2- سورة البقرة الآية: 59.
3- سورة الأنفال، الآيتان: 52 - 53.

آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)»«وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)»(1). وقال سبحانه «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا »(2).

الرابع : قوله تعالى : « مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ ».

مجيء الآية، بمعنى أنها وصلته فلم يعمل بمقتضاها، أو تمكن من معرفتها لكنه لم يحاول المعرفة، كالذي يضع أصابعه في أذنيه كما قال «وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)»(3)، أو عرفها ولكنه كتمها كقوله تعالى «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)»(4)، أو عرفها «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)»(5)، أو حرّفها - في معانيها أو ألفاظها - للتدليس على العامة كقوله تعالى «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ »(6).

الخامس: قوله تعالى «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا »

هذا الدليل لما ذُكر من اتباع خطوات الشيطان، والزلل بعد مجيء البينات، وتبدیل نعمة اللَّه بعد مجيئها .

ص: 58


1- سورة التوبة، الآيتان: 126 - 120.
2- سورة الإسراء، الآية: 82.
3- سورة نوح، الآية: 7.
4- سورة البقرة، الآية: 146.
5- سورة النحل، الآية: 83.
6- سورة البقرة، الآية: 75.

وحاصله أن هنالك عاملين يتسببان في اتباع الباطل وترك الحق الصراح المطابق للعقل والفطرة :

1- تزيين الحياة الدنيا ، كما قال أمير المؤمنين علیه السلام قال : فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام اللَّه سبحانه يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » بلى و اللَّه لقد سمعوها، وَوَعوها، ولكنهم حَلِيت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها(1).

2- عدم الاستماع إلى الناصحين، بل تحقيرهم والاستهزاء بهم كقوله «فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ »(2)، وقوله «وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ »(3) .

ثم إن التزيين إن كان في المخلوقات فهو من اللَّه تعالى، وإن كان في الأعمال الفاسدة فهو من الشيطان.

أولا : تزيين اللَّه تعالى: إن اللَّه تعالى خلق الدنيا جميلة كما قال تعالى « مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ » (4)وقال أمير المؤمنين عليه السلام : إن الدنيا دار صدق لمن صَدَقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غني لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتَّعظ بها ، مسجد أحباء اللَّه ، ومصلّی ملائكة اللَّه ، ومهبط وحي اللَّه ، ومتجر أولياء اللَّه ، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثّلت لهم ببلائها البلاء، وشوّقتهم بسرورها إلى السرور(5).

ص: 59


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 3، والآية في سورة القصص الآية: 83.
2- سورة الأعراف، الآية: 79.
3- سورة الحجر، الآية: 11.
4- سورة الملك، الآية: 3. سورة الملك، الآية: 3.
5- نهج البلاغة، الحكمة رقم 131.

فكل ما في الأرض من زينة فهو من اللَّه تعالى كما قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » (1)وقال سبحانه «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »(2).

والغرض هو امتحان الناس، فخلق اللَّه المشتهيات في الدنيا وجعل الشهوات في الناس، إذ التكليف لا يتم إلَّا بذلك، فإنَّه إذا دعي إلى شيء تنفر نفسه منه أو زُجر عن شيء تشتهيه نفسه فقد تمّ الامتحان.

كما أن استمرار الحياة يتوقف على هذه الشهوات، فلولا شهوة النساء لانقطع النسل، ولولا شهوة المال لانقطع العمران وهكذا.

ثانياً: تزيين الشيطان : إن الشيطان - وكذا النفس الأمارة بالسوء، والهوى -: يزيّن للإنسان الأعمال الفاسدة ، فتسوق الإنسان إلى الباطل التصرفه عن الحق، فهؤلاء يعملون لأجل الدنيا فقط ويغفلون عن الآخرة ، قال تعالى و« وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(3)، وقال «وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ »(4).

والحاصل إن تزيين المخلوقات من اللَّه تعالى، وتزيين أعمال السوء من الشيطان والنفس والهوى.

السادس : قوله تعالى «وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ».

أي يستهزئون منهم، إما لأنهم يزعمون أن المؤمنين يعملون لشيء مجهول، أو لزهدهم في الدنيا ، أو لفقرهم ونحو ذلك .

ص: 60


1- سورة الكهف، الآية: 7.
2- سورة الكهف، الآية: 46.
3- سورة الأنعام: 43.
4- سورة الأنعام، الآية: 137.

ومنشأ الاستهزاء التكبر والاستعلاء قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ»الآية(1).

وحيث إن سبب الاستهزاء هو التكبر لذا بيّن اللَّه تعالى أن العلوَّ الحقيقيَّ هو للمؤمنين فقال «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فهنالك يتبيّن أن المؤمنين عملوا للسعادة الأبدية لا لشيء مجهول، وأن زهدهم في الدنيا كان رغبة في ثواب الآخرة الذي ليس له نهاية، وأن الفقر ليس سبباً للحقارة، بل سبب الحقارة هو مخالفة أوامر اللَّه تعالى ونواهيه، فالمؤمن الفقير عزیز بطاعة اللَّه وبالجنة، والكافر الثريُّ ذلیل بعصيان اللَّه وبالنار.

فلذا لا يواجه المؤمنون في الدنيا الاستهزاءإلَّا بالمرور كراماً أو بطيب الكلام، قال تعالى«وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا » (2)وقال سبحانه« وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا »(3) بل هم يأسفون على هؤلاء الكفار كيف اختاروا الشقاء.

أما في الآخرة فإنَّ أهل الجنة يسخرون من أهل النار قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)»«وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ »الی قوله «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ »(4)، وليس ذلك إلَّا جزاءً وفاقاً، فليس استهزاء المؤمنين بهم في الآخرة من منطلقٍ نفسيٍّ حقير ، فإنَّ أهل الجنة منزهون عن كل الرذائل، بل هو جزاء لفعل الكفار ولذا كانت تتمة الآيات وهل ب الكفار ما كانوا يفعلونه.

ص: 61


1- سورة الحجرات، الآية: 11.
2- سورة الفرقان، الآية: 72.
3- سورة الفرقان، الآية: 63.
4- سورة المطففين، الآيات: 29 - 34.

السابع : قوله تعالى«وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».

عبر عن الذين آمنوا ب«وَالَّذِينَ اتَّقَوْا»لبيان أن علؤهم إنما هو بالتقوى، وإلّا فالمنافقون أيضأ آمنوا بألسنتهم، ولكن حيث لا تقوى لهم فإنَّهم في الدرك الأسفل من النار.

و« فَوْقَهُمْ » في المكان حيث إنهم في عليين، والكفار في سجين ، وفي الرتبة والمنزلة فهم في كرامة وأولئك في صغار وذلّ.

وقوله «يَوْمَ الْقِيَامَةِ »حيث تظهر مرتبة المتقين والكفار على حقيقتها .

أما في الدنيا فإنَّ المتقين أيضاً فوق الكفار في المنزلة والكرامة ، ولكن لا ظهور لذلك عند كثير من الناس لأنهم «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ »(1). بل الأمر مختلط كثيراً لعدم العلم بالنوايا والسرائر، بل لأن المناط عند الأكثر هو الأمور المادية فحسب من سلطة أو ثروة ونحو ذلك، كما أن غير المتقين كثيراً ما يظلمون المتقين بالقهر والغلبة، أما في الآخرة فكل شخص يظهر على حقيقته ولا عِزّ إلَّا لأولياء اللَّه تعالی.

الثامن : قوله تعالى« وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ » .

لعلّ المقصود هو دحض سبب استهزاء الكفار من المؤمنين، فإنَّ الكفار منشأ استهزائهم عادة الماديات فيرون أنهم فوق المؤمنين، لكن كما يرزق اللَّه الكفار في الدنيا كذلك يرزق المؤمنين فيها، وكما هناك فقراء مؤمنون كذلك يوجد في الكفار كثير من الفقراء، بل بعض المؤمنين أكثر ثراء وسلطة ومكنة من كثير من الكفار، مع أن الآخرة خالصة

ص: 62


1- سورة الروم، الآية: 7.

للمؤمنين كما قال تعالى«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ »(1).

و«بِغَيْرِ حِسَابٍ »إما كناية عن الكثرة، بحيث لا يمكن حسابه ، أو بمعنى أنه ليس الرزق - في الدنيا والآخرة - مقابل الأعمال بل هو بفضل منه تعالى. أو بمعنى أنه لا يؤاخذه أحد على رزقه فهو «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ »(2)، وقيل غير ذلك، والأول أقرب.

ص: 63


1- سورة الأعراف، الآية: 32.
2- سورة الأنبياء، الآية: 23.

الآية 213

«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)»

213 - ثم إن اللَّه سبحانه بیّن أنه لولا لطفه تعالى بإرسال الرسل الكانوا جميعاً في ضلال، كما كانوا على ضلال في بعض الفترات«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ »بين آدم ونوح علیهما السلام «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً » مجتمعة على الضلال، وذلك لأن الوصي الحجة خرج من عندهم خوفاً وتقية، فبقوا بلا هداية فضلّوا، وهؤلاء مع اجتماعهم على الضلال كانوا مختلفين في أمورهم «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ » لمن آمن وأصلح «وَمُنْذِرِينَ » لمن كفر أو عصي «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ»ليكون المرجع في العقائد والأحكام وغيرهما ولتستمر الهداية بعد الأنبياء، « بِالْحَقِّ»أي أنزل الكتاب مع الحق الذي فيه أو هذا الإنزال كان حقاً لا عبثاً ، وكان الغاية من البعث والإنزال هو «لِيَحْكُمَ » اللَّه تعالی بواسطة الأنبياء والكتاب «بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا »، لطفاً منه تعالى للناس الهدايتهم، وهؤلاء وإن كانوا مجتمعين على الضلال لكنهم كانوا

ص: 64

مختلفين فيما بينهم، لكن الكتاب لم يرفع الاختلاف، لا لنقص فيه ، بل بسبب أن طائفة من الناس كذّبوه، بل والذين آمنوا به ظاهراً اختلفوا في الكتاب في حقائقه ومعانيه «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ »في الكتاب أو الحق «إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ »أي الذين نزل عليهم الكتاب « مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ» الدلائل الشاهدة على صدق الكتاب، والدلائل على مراداته، وإنما اختلفوا «بَغْيًا بَيْنَهُمْ» أي لوجود بعض الظالمين فيهم حسداً أو مصلحة «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا»إيماناً حقيقياً فلم يكونوا طلاب رئاسة أو مال، فحيث كانت لهم القابلية للهداية بحسن اختيارهم فإنَّ اللَّه هداهم «لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ »بأن عرفوا مراده تعالی وعملوا به ، وكانت تلك الهداية «بِإِذْنِهِ» أي بلطفه ورحمته ، «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ » ممن كانت له القابلية«إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ »موصل إلى النجاة.

بحوث

الأول : لعلّ ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة . وخاصة آیات الحج -، هو أن اللَّه سبحانه أرسل الأنبياء لبيان الحق بحيث إذا اتبعه الناس انحل الخلاف وصار الوئام، والحج هو من ضمن التشريعات التي توحِّد الناس وترفع الاختلافات من بينهم، فلو التزم المسلمون بروح الحج وأدَّوه على حسب ما فرض اللَّه تعالى عليهم فإنَّه يدعوهم إلى الالتفاف حول الحق ونبذ الباطل.

ص: 65

ثم إن الغرض من الآية هو بيان إحدى أهم سُنن اللَّه تعالى، حيث إنه سبحانه أراد هداية الناس لأنه لم يخلقهم عبثاً ، بل خلقهم ليرحمهم «إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ » (1)ولأن الطريق إلى الرحمة التامة هو العبادة كما قال : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ »(2) ولا يمكن للإنسان بعقله أو فطرته الوصول إلى تفاصيل العبادات، لأجل ذلك كلّه بعث اللَّه الأنبياء ليبينوا للناس الحقائق التي توصلهم إلى الكمال بحيث تكون لهم القابلية للوصول إلى رحمة اللَّه تعالى الخاصة التي لأجلها خلق اللَّه تعالی الخلق.

فلا يصح القول بأنه لولا اختلاف الناس لما أرسل اللَّه الرسل بل تركهم وشأنهم، بحيث تنتج المقولة الباطلة بأنه لو تمكنّا من رفع الاختلاف بالقوانين الوضعية ونحوها لانتفت الحاجة إلى الأنبياء والكتاب!! وذلك لأن إرسالهم وإنزال الكتاب هو بغرض الهداية إلى الحق، وليس من حق في المعتقدات والعبادات إلَّا ما أنزله اللَّه عبر أنبيائه وكتبه، كما لا يوجد حق في المعاملات ونحوها إلَّا ما أقرّ الشرع وأمضاه.

وأما الاجتهاد فهو إنما يكون في فهم النص وتطبيقه على المصادیق، ولا اجتهاد في مقابل النص، لأن النص هو الحق وليس وراءه إلَّا الباطل، قال سبحانه :«فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ »(3).

الثاني: إن هذه الأمة كانت قبل نوح، فعن الإمام الصادق علیه السلام في تفسير هذه الآية ، قال : كان ذلك قبل نوح، فقيل: فعلى هدًى كانوا؟

ص: 66


1- سورة هود، الآية: 119.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- سورة يونس، الآية: 32.

قال : بل كانوا ضُلّالاً ، وذلك أنَّه لما انقرض آدم عليه السلام وصالح ذريته ، بقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين اللَّه الذي كان عليه آدم عليه السلام وصالح ذريته، وذلك أن قابيل توعده بالقتل، كما قتل أخاه هابيل فسار فيهم بالتقية والكتمان، فازدادوا كل يوم ضلالةً حتى لم يبق على الأرض معهم إلَّا من هو سلف، ولحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد اللَّه تبارك وتعالی أن يبعث الرسل - إلى أن قال : لم يكونوا على هدًى، كانوا على فطرة اللَّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق اللَّه ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع، يقول إبراهيم: « لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ »(1)أي ناسية للميثاق (2).

فعامة الناس كانوا على ضلال ولم يكن لهم إلَّا الفطرة، وهي وحدها لا تفي بالهداية، وأما حجة اللَّه فكان في واحد أو في جماعة قليلة غیر معتد بها .

سوال: ورد في بعض الأحاديث أن الناس في تلك الفترة لم يكونوا مهتدين ولا ضُلّالًا، مع أن أكثر الأحاديث دلت على كونهم على ضَلال (3)؟

والجواب: لعلّ مراد الروايات الدالة على عدم الضلال هو كونهم على الفطرة، متمسكين بما دلت عليه من الحق، وأما فيما سوى ذلك مما لا تناله الفطرة فإنَّهم كانوا على ضلال لم يكونوا مهتدين لعدم وجودرسل بينهم.

وبعبارة أخرى إن الضلال هنا نسبیٌّ، فبالنسبة إلى ما دلت عليه

ص: 67


1- سورة الأنعام، الآية: 77
2- البرهان: ج 2، ص193 - 196.
3- راجع البرهان ج 2، ص 192 - 196.

فطرتهم كانوا على الحق ملتزمين بها، وفيما لم تدل عليه فطرتهم كانوا ضالين عن الحق غير مهتدين، وفي مجمع البيان: فالمعنى أنَّهم كانوا متعبدين بما في عقولهم غير مهتدين إلى نبوة ولا شريعة، ثم بعث اللَّه النبيين بالشرائع لمّا علم أن مصالحهم فيها(1).

الثالث : قوله تعالى« فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ».

والمعنى أن اللَّه سبحانه وتعالى أنشأ تقديراً ببعث الأنبياء، لعلمه سبحانه بأن ذلك أصلح لشؤون الناس ليخرجوا من الضلال ويهتدوا .

وظاهر الآية - بمعونة الروايات - أن الحجة كانت مستمرة من بعد آدم عليه السلام وفي كل تلك الفترة بين وصي ونبي لكنهم لم يكونوا مأمورین بالتبليغ، فلما قدر اللَّه تعالى هداية الناس بعث الأنبياء، فكأنَّهم علیهم السلام كانوا ساکنین غیر متحركين بأمر اللَّه تعالى فقدّر سبحانه تحريكهم، ولذلك جاء بكلمة (البعث) التي تستعمل عادة في إيقاظ النائم وتحريك الساكن دون الإرسال) حيث إن مفهومه أعمّ.

وقد تواترت الروايات بأن الأرض لا تخلو من حجة من يوم أهبط اللَّه تعالی آدم عليه السلام إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، إما ظاهر مشهور أو خائف مغمور، ولولا الحجة لساخت الأرض بأهلها ، لأن اللَّه تعالی ربط بهم نظام التكوين والتشريع، وقد ذكرنا بعض التفصيل في كتاب الحجة من شرح أصول الكافي فراجع.

ثم إن الأنبياء على طبقات : فمنهم نبي غير مرسل، وبعضهم مرسل غير إمام، والقليل منهم مرسل إمام، كإبراهيم عليه السلام كان إماماً على

ص: 68


1- المجمع ج2، ص100.

لوط عليه السلام ، - وكلاهما نبي مرسل -، ومعنى الإمام أنَّه غير تابع لنبي آخر، وغير الإمام هو من كان تابعاً لنبي آخر وقد مرّ شرح قوله تعالى «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ »(1).

وأما وصف الأنبياء بالمبشرين والمنذرین، فلأجل أن إلزام الناس باتباعهم لا يكون إلّا عبر التبشير والإنذار، ولولا ذلك لم يكن للناس داع الاتباعهم، فإنَّ محرك عامة الناس المصلحة أو الخوف، وأما عبادة اللَّه لكونه أهلاً للعبادة فتلك درجة السابقين - وهم أقلّ القليل -

الرابع : قوله تعالى : «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ».

إنه لا يكفي وجود المصلح بل لا بد من وجود نظام تام كامل إضافة إلى من يبني ذلك النظام ويطبقه ، فلذا أرسل اللَّه الأنبياء هداةً ومصلحين، وأرسل معهم النظام الكامل وجعل ذلك النظام في كتاب ليكون المرجع .

ولا يخفى أن الوحي نزل - عادة - بشكل ألفاظ، وأما التدوين والكتابة فهي فعل الناس وبأمر من الأنبياء، ولذا نزلت ألفاظ القرآن، ولم تنزل كتابته ، بل أمر الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم بأن يكتب القرآن في أوراق أو ألواح وتجعل في المسجد عند المنبر ليستنسخ منها المسلمون(2)، كما أمر رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم الإمام علياً عليه السلام الي بجمع القرآن - بألفاظه وتفسيره وتأويله - في كتاب ليكون المرجع(3) فحفظ الناس رسم القرآن ولكنهم رفضوا تفسيره وتأويله عليه السلام .

ص: 69


1- سورة البقرة، الآية: 124.
2- راجع الكافي ج 5، ص 121.
3- البحار ج 38، ص303، الاحتجاج ج1، ص103.

ثم إن المسلمين اتفقوا على هذا الرسم المشهور بالرسم العثماني، وذلك لكيلا تختلف أشكال الكتابات ولسد الذرائع لمن يريد التحريف.

ولا يخفى أن طريقة الكتابة هي اصطلاح، والاصطلاح يرجع إلى من اصطلحه، ولذا قالوا لا مشاحَّة في الاصطلاح، فلا يمكن التخطئة فيه، ولذا فلا إشكال في هذا الرسم المعروف في المصاحف، مع كون بعض الكلمات على خلاف الرسم الشائع في طريقة كتابة اللغة العربية ، لأن الرسم الشائع اصطلاح، والرسم العثماني اصطلاح آخر وحتى في الكلمة الواحدة فإنَّها قد تكتب بطريقتين.

والآن بعض اللغات الحية - الإنجليزية - لا توجد قواعد لكتابتها، بل كما يتعلم المتعلّم ألفاظها فعليه أن يحفظ كتابتها أیضاً ، لأن الاصطلاح في كل كلمة يختلف عن الأخرى . فتأمل.

ثم إن المراد من( الكتاب) هو جنس الكتاب، وليس المراد كتاباً خاصاً، بل نزل الكتاب على بعض الأنبياء، وكان سائر الأنبياء يعملون على طبق ذلك الكتاب إلى أن كان ينسخ وينزل اللَّه كتاباً جديداً.

وفي بعض الروايات أن الكتب التي نزلت على الأنبياء مائة وأربعة کتب، نزلت مائة منها على آدم وإدريس ونوح وإبراهيم مضافاً إلى التوراة والزبور والإنجيل والقرآن(1).

الخامس : قوله تعالى «بِالْحَقِّ ».

1- إما بمعنى أن الكتاب نزل مع الحق، فهو بيان للحق، حيث إن أكثر مسائل المبدأ والمعاد وكيفية الطاعة والعبادة لا يمكن للإنسان

ص: 70


1- الاختصاص للمفيد ص 296.

الوصول إليها عبر عقله وفكره، والطريق للوصول إليها منحصر في الوحي.

نعم العقل يكتشف بعض الكليات وبشكل ضبابي، كمعرفته بأصل وجود اللَّه تعالى وأنَّه ذا كمالات ومنزه عن النقائص وبأنَّه لا بدّ من إرسال الرسل مع معاجز تثبت صدقهم، وأنَّه لا بد من شكر المنعم، وأما التفاصيل فلا طريق لأغلبها إلّا الوحي، ولذا انحرف الذين تركوا الوحي والتجؤوا إلى عقولهم الناقصة، فتوهموا بأذهانهم شيئاً زعموا أنَّه الخالق مع أنَّه مصنوع مخلوق لأذهانهم .

ثم إن تفاصيل المبدأ والمعاد ذكرها القرآن الكريم وبيَّنها الرسول العظیم صلى اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة المعصومون علیهم السلام

وغالب المتكلمين والفلاسفة كانوا بين إفراط وتفريط، فإمّا تركوا الآيات والروايات وأولوها حسب عقولهم القاصرة، وإمّا تركوا بيان الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام ورفضوا كل أنحاء التأويل، وسيأتي بإذن اللَّه

تعالى تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ »(1)

2 - وإما «بِالْحَقِّ ». بمعنى أن إنزال الكتاب كان حقاً، ولم يكن لغواً

وفي التقريب : «بِالْحَقِّ » قيد توضيحي لأن كل ما أنزله من اللَّه سبحانه فهو بالحق، وإنّما أكّد لمقابلته لسائر الكتب التي ترسلها الرؤساء ففيها الحق وفيها الباطل(2) .

ص: 71


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- التقريب: ج1، ص 240. بتصرف.

السادس : قوله تعالى«لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ »

أي ليحكم اللَّه تعالى بواسطة ذلك النبي أو الكتاب، ثم إن حكمه تعالى قد يكون في التشريع وذلك ببيان الأحكام التي تنظم حياة الناس العباديةوالاجتماعية والاقتصادية . . . . إلخ - ،وقد يكون في العقيدة ، ببيان ما هو الحق في الخالق وصفاته ونحو ذلك، وقد يكون في الأخبار ببيان القصص الحق وتمييزها عن الأساطير والخرافات، وما إلى ذلك .

ثم إن اختلاف الناس لا ينافي وحدة الأمة، وذلك لأنَّهم كانوا مجتمعاً واحداً متفقاً على الضلال لكن كيفية ضلالهم مختلف، كما تقول(الكفر كلّه ملة واحدة) حيث إنهم مجتمعون على رفض الحق، كاتفاق اليهود والنصارى في ضلالهم حول عيسى علیه السلام مع اختلافهم في أن النصارى انتهجوا الغلوَّ فيه، واليهود كذّبوه، صلوات اللَّه عليه. وقيل : إنهم كانوا متفقين في نمط الحياة ولكنهم اختلفوا في الكليات منالعقائد ونحوها

وقيل : في الجملة حذف، أي كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث اللَّه النبيين لرفع ذلك الاختلاف .

السابع : قوله تعالى « وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ».

والمعنى أن الأنبياء حينما جاؤوا بالكتاب، اختلف الناس في ذلك الكتاب فبعضهم صدّقه وبعض كذّبه كما قال تعالى «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا »(1)، وأما المكذبون فلم يكن تكذيبهم لضعف حجة الكتاب بل لظلمهم وبغيهم .

ص: 72


1- سورة الفرقان، الآية: 5.

وكذلك الذين آمنوا بالكتاب ظاهراً اختلفوا في مرادات الكتاب وحقائقه، وسبب هذا الاختلاف ليس لأجل قصور الكتاب وعدم وضوحه، بل لأجل تحكّم الأهواء في الكثيرين ففسروا بآرائهم وحسب أهوائهم. ولو إنهم اتبعوا ما أمر اللَّه تعالى لم يبق أي مجال للاختلاف .

ولفهم القرآن الكريم جعل اللَّه تعالى منهجاً واضحاً جلياً كما قال «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ»، فالمحكم واضح الدلالة وظاهره حجة، والمتشابه يرجع في تأويله إلى الراسخين في العلم - وهم الرسول صلى اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام - وباتباع هذه المنهجية لا يبقى أيّ اختلاف يذكر، لكنهم أقاموا رسم الكتاب وحرفوا معانيه، ولم يأخذوا من العترة بل عارضوهم وخالفوهم، فضَلّوا بذلك ضلالاً مبيناً .

الثامن : قوله تعالى « فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ »

قد مرّ مراراً أن الهداية وكل كمال إنما هو من اللَّه تعالى، وكذلك ترتيب النتائج على الأسباب إنما هو بإرادة اللَّه تعالى ومشيئته . ولكن اللَّه سبحانه لا يرتب النتائج اعتباطاً، وإنما جعل أسباباً وحث الناس على أسباب الخير، وحذرهم عن أسباب السوء، فمن اختار أسباب الهداية يوفقه اللَّه تعالى لتلك الهداية، ومن لم يختر تلك الأسباب يضلّه اللَّه تعالى، فالذين آمنوا إيماناً حقيقياً لم يكونوا طلاب رئاسة ولا مال، بل كانوا يريدون وجه اللَّه سبحانه فلذلك يجدهم اللَّه تعالى أهلاً لها فيهديهم إلى الحق، وذلك«بِإِذْنِهِ » أي حسب مشيئته ولطفه بهم .

ثم إن قوله: «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » إما بمعنى

ص: 73

الإيصال للمطلوب، بأن يأخذ اللَّه سبحانه بيده ويوصله إلى الهداية، وهذا ليس بواجب بالنسبة إلى الجميع - كما ذكرنا - ولذا قال سبحانه «يهدى من يشاء

وإما بمعنى إراءة الطريق، وذلك عبر إرسال الرسل وإنزال الكتب، ولذا في الفترة بين آدم ونوح لم يبعثهم، وبعد ذلك شاء تعالى إراءة الطريق للآخرين فأرسل الرسل وأنزل الكتب، وكذلك في الفترة بين عیسی علیه السلام وبين رسول اللَّه محمد صلی اللَّه علیه وآله وسلم ثم اكتفاء بالشريعة السابقة مع عدم إرسال رسول .

سؤال: وهل يعاقب أهل الفترة على ذنوبهم؟

الجواب : إنه لا محذور في معاقبة من خالف الفطرة والعقل، وذلك لأن العقل حجة اللَّه الباطنة - وكذا الفطرة لأنَّها على الأظهر مرتبة من مراتب العقل وأما ما لا يدل عليه العقل ولا الفطرة، فلا عقاب على مخالفته إن لم يكن قد وصلهم الشرع ولم يعلموا بالأنبياء والرسل، لأن عقابهم على ذلك ظلم، وهكذا المستضعفون من الرجال والنساء والولدان عسى اللَّه أن يتوب عليهم .

وفي بعض الأحاديث إن اللَّه تعالى يمتحن هؤلاء القاصرين في يوم القيامة، فمن نجح في الامتحان لم يعذَّب ونالته رحمة اللَّه تعالى، ومن عصی فإنَّه يدخل في نار جهنم (1).

ص: 74


1- راجع البحار ج69، ص158.

الآيات 214 - 219

«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)»«يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)»«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)»

ثم إن اللَّه تعالى یبیّن أن هذا الاختلاف والبغي أورث المؤمنين مصاعب جمّة، فعليهم أن يتحملوها وأن يعملوا جادّين لتجاوزها ، لكي يصلوا إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فخلال هذه الآيات الثلاث بيان أن الطريق صعب جدّاً، ففي الآية الأولى بيان لشدة المشاكل وفي الآية الثانية والثالثة بيان للزوم الكدّ والعمل - بالإنفاق والجهاد ، مع بيان لزوم تقوية الأواصر الاجتماعية لتكون الجبهة الداخلية منسجمة متحدة

214 - ثم إن اللَّه يسلِّي المؤمنين الذين وقعوا في متاعب هذا الاختلاف فيقول لهم «أَمْ حَسِبْتُمْ » أي هل ظننتم «أَنْ تَدْخُلُوا».

ص: 75

الْجَنَّةَ »اعتباطاً وبلا مشقة؟ «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ » أي من غير أن تبتلوا بالصعوبات التي ابتلي بها المؤمنون من قبلكم فصاروا مَثَلاً لكل من يتبع الأنبياء؟، فأولئك «مَسَّتْهُمُ »أي أصابتهم «الْبَأْسَاءُ » الشدة في العيش كالفقر، و«وَالضَّرَّاءُ »من الضرر، وذلك كالمرض، «وَزُلْزِلُوا » أي أصيبوا بالاضطرابات الشديدة، وقد بلغت هذه المصائب الغاية بحيث تطلعوا إلى الخلاص منها «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» فهؤلاء لم يبدلوا ولم يغيروا بانهيارهم أمام المشاكل، بل توجهوا إلى اللَّه بالدعاء لينصرهم، فاستجاب اللَّه دعاءهم ونصرهم « أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » لأن كل ما هو آت يكون قريباً، وكلّما مضى زمان صار أقرب .

215 وكما هناك امتحان في الشدة بالبأساء والضراء ونحوهما ، كذلك هناك امتحان في الرخاء وخاصة في المال، فلذا المؤمنون يوطّنون أنفسهم على الإنفاق، ولكي يكون إنفاقهم في محله توجهوابالسؤال «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ »وهو سؤال عن نوعية المُنفِق ؟ «قُلْ »في الجواب «مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ » «من خير» بيان «ما»، أي المهم أن يكون المُنفَق خيراً يرغب فيه، ثم يلزم أن يجعل هذا الخير في موضعه فلذا بیّن تعالى المصرف بقوله: «فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» وهذه أفضل المصارف، بدءاً من هم، فالوالدان أولى بالبر من غيرهم لعظيم حقهم ولما في ذلك من تقوية الأواصر الأسرية، وبعدها الأقربون للسبب نفسه حيث

ص: 76

إن الأقربين أولى بالمعروف، ثم اليتامى لضعفهم، والمساكين لحاجتهم، وابن السبيل لانقطاعه .

ثم يلزم أن يكون هذا الإنفاق على وجه الخير لا بالمنِّ والأذى ولذا عقّبه بقوله « وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ »فيجازيكم عليه .

216 - وأما الأمر الثالث الصعب فهو القتال، لأن أهل البغي يعارضون أهل الحق بأن يبدأوهم بقتال أو يقفون حجر عثرة أمامهم بما لا يمكن إزاحته إلّا بقتالهم ، ولذا «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ » الجهاد «وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » مكروه لطبعكم لمشقته «وَ» لكن قد يكون الخير فيما تكرهه النفوس ف«عَسَى» ربّما وأحياناً «أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ » لما فيه من الفوائد، والقتال كذلك فإنَّه سبب العزة والسعادة، «وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» لما فيه من المضارّ، وترك الجهاد كذلك تحبونه للراحة ولكن عدم الجهاد سبب لزوال العزة والذل والعذاب، « وَاللَّهُ يَعْلَمُ » بما يصلحكم عما يفسدكم حينما يأمركم بما تكرهون «وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »

بحوث

الأول : لما بیّن اللَّه تعالى أن الكتاب يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأن هناك ناساً يبغون فيختلفون في الكتاب نفسه، بعد هذا البيان أراد سبحانه تسلية المؤمنين بأن الرقي إلى المعالي - وأعلاها الجنة -

ص: 77

لا يكون اعتباطاً بل لا بد من تحمل المشاق والصعوبات، وإنكم تدخلون الجنة عبر تحملكم لتلك المصاعب التي تواجهونها بسبب بغي المبطلين .

حيث إن اللَّه سبحانه خلق الإنسان مختاراً وبيّن له طريق الحق وحذره عن طريق الباطل، ولو كان سبحانه يمنع الإنسان تكويناً عن ارتكاب المخالفات لبطل الاختيار، ولم يكن معنى للثواب والعقاب، فالاختيار يلازم قدرة الإنسان على ما يريده من خير أو شر، ولو كان الخير مطابقاً دائماً لشهوات الإنسان ورغباته وكان في الباطل الصعوبات لبطل الامتحان أيضاً، إذ حينذاك كان عامة الناس يختارون الخير ويتركون الشر، فلذا اقتضت الحكمة أن تكون هناك صعوبة في عمل الخير مع وجود نفس لها شهوات، لكي يرقى الإنسان إلى الكمال بتحمله الصعاب وبتحكمه في النفس والهوى، وهذه سنة اللَّه تعالى في الكون أجمع، فكل تقدم - حتى المادي منه - بحاجة إلى تعب وكد ونصب، وحيث إن أهم الكمالات هي نيل الجنة، لذلك كان الطريق إليها أصعب، وكلما كانت الصعوبات أشد كانت الدرجة أرقى .

ومع ذلك فإنَّ اللَّه سبحانه بیّن للناس سبيل الحق، ورغّب فيه عبر بيان فوائده وعبر بيان الأمثال، فلئن تمكن ناس من الماضين من الفوز في الامتحان ونيل الدرجات العلى، فلا قصور على اللحوق بهم والاقتداء بآثارهم، فإنَّ سماع أخبار الصالحين يرغب في أحوالهم .

الثاني : قوله تعالى «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ».

المعنى ولحدِّ الآن لم تأتكم الصعوبات والمشقات التي ابتلي بها السابقون فصاروا مثلاً، وقد مرّ أن المَثَل يقرب الفكرة إلى الأذهان، ومن

ص: 78

مصاديقه التشبيه بقوم ماضين ليعتبر الإنسان وليقتنع بالفكرة التي يراد إيصالها عبر ذلك التشبيه

وقيل : المثل هنا بمعنى النظير، أي ولم يأتكم لحد الآن نظير ما أتيالسابقون، ولا يخفى أن هذا المعنى قريب من سابقه .

وقوله «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ»يدل على توقع نزول المشاكل، لأن «لمّا» تدل على نفي ما يتوقع حصوله قريباً، ولعلّ من مصاديق تلك الصعوبات الهجرة من مكة، وغزوة أحد والخندق، فقد قيل كل ذلك في شأن نزول هذه الآية(1)، ولكن كما مرّ فإنَّ شأن النزول لا يخصص مفهوم الآيات عادة بل أكثرها آيات تدل على بصيرة عامة ونزولها بمناسبة إنما كان لحكمة التدريج ولتكون أوقع في النفوس أو أظهر من حيث المعنى أو أسهل للحفظ والاتعاظ أو لغير ذلك .

الثالث : قوله تعالى «مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ».

« مَسَّتْهُمُ»استئناف وهو بيان للمثل، ولعلّ في الكلمة إشعار بأن أمد المشاكل قصير - حتى لو طالت المدة على الناس -، وكأنَّه شيء عارض، لأن ما يلمسه الإنسان لا يتحول إلى جزء ملازم له بل يفارقه بعد . أمد قصير، وفي خطبة المتقين (صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة)(2)، فالدنيا بمتاعها وصعوباتها قليلة جدّاً .

والفرق بين « الْبَأْسَاءُ»و«الضَّرَّاءُ »و«زُلْزِلُوا » هو أن « الْبَأْسَاءُ»تتعلق بالشدة في أمور المعاش كالفقر، وضدها النعماء، و«الضَّرَّاءُ »

ص: 79


1- راجع مجمع البيان ج2، ص106.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 193.

تتعلق بالمصائب الجسدية كالمرض والجوع، وضدها السرّاء، و(الزلزال) يرتبط باضطرابات الحياة كالهجرة والسجن والتخويف، وقيل غير ذلك .

والحاصل أن أولئك ابتلوا بمختلف صنوف المصاعب جسدية كانت أم نفسية أم اجتماعية، فنالوا الجنة بصمودهم وعدم انهيارهم أمام الصعوبات، ولا يمكنكم أن تنالوا ما نالوه من الجنة إلّا أن تستقيموا وتصبروا كما فعلوا، فإنَّه ليس من الحكمة التساوي بين العامل وبين غير العامل، قال تعالى«لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ »(1) . وقال سبحانه « لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا »(2).

الرابع : «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ »

جملة و«حَتَّى ... »متعلقة بكل ما سبق أي مستهم وزلزلوا، والمعنى أن المشاكل كانت كبيرة جداً بحيث كثر التطلع إلى نهايتها، وفي الآية مدح لهم حيث إنهم حين بلوغ المشاكل غايتها لم ينهاروا ولم يبدلوا ولم يغيروا بل بقوا ثابتين في إيمانهم وعملهم، منتظرين إنجاز الوعد، فإنَّ اللَّه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر كما قال «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ »(3) وغيرها من الآيات، فقولهم «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ » ليس جزعاً بل انتظاراً لإنجاز الوعد، وذلك فضيلة تسجّل لهم، أو هو دعاء من الرسول والمؤمنين لتعجيل الوعد فإنَّهم يعلمون بأن اللَّه سبحانه يستجيب الدعاء وقد يغيّر المقادير بالدعاء، وليس في ذلك ما ينافي الرضا بالقضاء والتسليم لأمر اللَّه

ص: 80


1- سورة النساء، الآية: 95.
2- سورة الحديد، الآية: 10.
3- سورة محمد، الآية: 7.

تعالى، بل هم مع رضاهم بما قدّره وتسليمهم بما أراده يدعونه تعالی امتثالاً لأمره تعالى بالدعاء حيث يقول « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »(1). وقال سبحانه «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ »(2)، وقال تعالى «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ »(3).

وقيل(4): إن «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ »كلام المؤمنين، «أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ » هو كلام الرسول، ثم دمج الطلب والجواب اختصارة، نظير قوله تعالى «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ »(5)، أي لتسكنوا بالليل ولتبتغوا من فضله بالنهار.

الخامس: قوله تعالى «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ » الآية، الظاهر أن سؤالهم عن الوصف - أي نوع المُنفِق - فهل هو كالزكاة في أعيان خاصة - مثلا -؟.. فأصل الإنفاق معلوم حثت عليه مختلف الآيات، فهو لا يحتاج إلى السؤال عنه، ومعنى (ما) الاستفهامية هو السؤال عن حقيقة الشيء أو أوصافه، ولا يخفى أن الظاهر - بقرينة الجواب - هو عن التطوع المستحب لا عن الإنفاق الواجب کالزكاة والنفقة الواجبة للأرحام ونحوهما، ويؤيده ما روي في شأن نزول الآية أن عمرو بن الجموح کان شيخاً كبيراً ذا مال كثير، فقال : يا رسول اللَّه بماذا أتصدّق وعلى من أتصدق؟ فأنزل اللَّه هذه الآية(6).

ثم لا يخفى أن السؤال عن الإنفاق تکرر مرّتين في هذه الآيات فقال

ص: 81


1- سورة غافر، الآية: 60.
2- سورة القمر، الآية: 10.
3- سورة الأعراف، الآية: 56.
4- راجع مجمع البيان ج 2، ص109.
5- سورة القصص، الآية: 73.
6- مجمع البيان ج2، ص107.

في هذه الآية «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ » ، ثم في الآية 219 في قوله « وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ »(1)، قيل: في الآية 215 أجاب تعالی بمورد الإنفاق ومصرفه مع إشارة إلى لزوم كون المُنفَق خيراً، ثم لما لم يكن في هذه الآية تصريح بالمسؤول عنه صريحاً فقيل في الآية 219 العفو.

والظاهر أن السؤال واحد لكن أعيد مرّتين، مرّة لبيان المصرف، وأخرى لبيان المُنفَق، لأجل شدة ارتباط مسألة الإنفاق بالسياق في كلا الموردين، فحسن تفريق الجواب في موضعين مع ما يستلزمه من إعادة السؤال.

السادس: قوله تعالى قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ » الآية .

«مِنْ خَيْرٍ »بيان ل-«مَا أَنْفَقْتُمْ »، وهذا هو الجواب عن السؤال. وقد يطلق (الخير) ويراد به المال كقوله تعالى « إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ » (2)والمقصود أن يكون المنقق هو ما يرغب فيه لا من سقط المتاع، كما قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ »(3) أي لا تقصدوا إنفاق الذي تكرهه النفس، والحال أنكم غير مستعدين الأخذه لأنفسكم لرداءته إلّا إذا تساهلتهم كأنكم أغمضتم عيونكم كيلا تروه لرداءته ، وقال سبحانه «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ »(4).

ص: 82


1- سورة البقرة، الآية: 219.
2- سورة البقرة الآية: 180.
3- سورة البقرة الآية: 297.
4- سورة آل عمران، الآية: 92.

ثم إن عدم تعیین مصادیق الخير إنما هو لكثرتها وتنوعها بل ولتجدد المصاديق في الأزمنة المختلفة والأمكنة المتباعدة وكذلك لاختلاف حاجات المستحقين.

السابع : قوله تعالى«وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ » .

هذه التكملة للدلالة على أن إنفاق الخير يجب أن يكون على نحو الخير بأن لا يكون فيه مَنّ ولا أذى، قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ» (1)فكما أن عدم الإخلاص في أول العمل سبب لبطلانه ، كذلك العمل الصحيح قد يبطل بعد انتهائه بالمنِّ والأذى.

والحاصل أن الآية تضمنت:

1- المال المُنفَق ، بأن يكون خيراً يرغب فيه .

2 - المُنفق عليه ، كالوالدين والأقربين... إلخ.

3- نفس الإنفاق، بأن يكون فعلاً خيراً، وذلك بأن يكون لوجه اللَّه من غير مَنٍّ ولا أذى.

الثامن : قوله تعالى«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ » .

قد مرّ أن الكتابة في القرآن بمعنى الثبوت، فقد يكون تشريعاً بالفرض كالصلاة والصوم، كقوله و«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ »(2)، وقد يكون تشريعاً من غير فرض، كقوله «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ

ص: 83


1- سورة البقرة، الآية: 264.
2- سورة البقرة، الآية: 183.

خَيْرًا الْوَصِيَّةُ »(1)، وقد يكون تكويناً بمعنى القضاء المحتوم، كقوله«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي »(2). والحاصل أن الكتابة إما تشريعية سواء كانت فرضاً أم لا، وإما تكوينية بمعنى القضاء المحتوم، وتشخيص المورد يرتبط بالقرائن أو بالأدلة الأخرى.

وإنما كتب القتال لأجل رد التعدي كما قال : «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ »(3)، أو لأجل نجاة المستضعفين من المستكبرين، أو الأجل إعلاء كلمة اللَّه ونشر العدل ودفع الظلم، قال تعالى «وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ »(4).

وقيل : لم يذكر الأمر في (كتب)، لأنَّه في مورد الكره، فلم يناسب إظهار الآمر صوناً له من الهتك، ولذا لا تنسب الأفعال التي فيها مظنة النقص إلى اللَّه - حتى إذا كانت بحكمة - كما في قوله «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا »(5) فإنَّ مادة (ع ي ب )لا يناسب نسبتها إلى اللَّه تعالى وإن كان ذلك العمل بخرق السفينة بأمر من اللَّه لما فيه من المصلحة، ولذا نسب الخضر علیه السلام إرادة العيب إلى نفسه لأنَّه كان المباشر لتنفيذ الأمر.

التاسع : قوله تعالى «وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ».

أي تكرهه النفوس بطبعها وذلك لما في الجهاد من المشقة وخوف

ص: 84


1- سورة البقرة، الآية: 180.
2- سورة المجادلة، الآية: 21.
3- سورة البقرة، الآية: 190.
4- سورة النساء، الآية: 75.
5- سورة الكهف، الآية: 79.

القتل أو الضرر البالغ، ولكن مع ذلك قد يريده الإنسان لإيمانه أو لعلمه بما فيه من المصلحة، كالمريض الذي يشرب الأدوية المرّة فإنَّ نفسه تعافها ولكنه يرغب إليها لعلمه بأن فيها العلاج.

وبعبارة أخرى، إن كراهة المؤمنين للقتال إنما هي كراهة طباع لا كراهة سخط، فهذا النوع من الكره يجتمع مع الرضا بالفعل. نعم غالب الناس - حيث لم يستحكم فيهم الإيمان - فإنَّهم قد يكرهون ما أُمروا به سخطاً، ولعلّ هذه الآية حكاية عن الغالب، وإلا فإنَّ النفس إذا روّضت فقد ينعكس الأمر عليها .

أو يقال: إن القتال بذاته مكروه للجميع - لما فيه من الضرر وإزهاق الأرواح - ولكن حينما أمر به اللَّه لمصلحة لم يكرهه أولياؤه بل يتبدل الكره فيهم إلى الرضا، وفي الحديث (الرضا بمكروه القضاء من أعلى درجات اليقين)(1).

ثم إن (کُره) إما مصدر فوصف القتال به للمبالغة، وإما بمعنی المكروه كالخُبز بمعنى المخبوز، وإما بمعنى الإكراه مجازاً، كأنَّهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له(2).

العاشر : قوله تعالى « وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ » الآية .

وقد مرّ أن الترجي مستحيل في حقه تعالى، ولذا تكون كلمات الترجي ونحوها في القرآن بلحاظ حال المخاطب، أو أنَّها تنسلخ عن معناها فتكون لأجل بيان أن متعلقها محبوب له تعالى، أو تكون عسی

ص: 85


1- البحار ج18، ص 102.
2- راجع الكشاف، ج1، ص197.

- هنا - للتبعيض بمعنى ربّما وأحياناً، وذلك لأن ما تكرهه النفوس قد يكون بصالحها وقد يكون بضررها.

والجهاد من أصعب الأمور لمشقته ولخوف الضرر فيه . ولكنه طريق العزة فإنَّه يوجب دفع شر الأعداء وسيادة الأولياء وسعادتهم، ففيه إحدى الحسنيين: إما النصر والفوز بالسيادة والغنيمة، وإما الشهادة . في

حين أن النكول عن الجهاد يوجب تسلط الأعداء والذل والهوان والفقر وحرمان الأجر بل قد يؤدي إلى زوال الدين عن المناطق التي سيطروا عليها.

ص: 86

الآيتان 217 - 218

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)»«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)»

217 - وحيث إن الآيات السابقة كانت حول الحج وفوائده والصعوبات التي تواجه المؤمنين، فلذا خُتمت الآيات بذكر أمور ترتبط بالقتال والصدّ عن الدين، وعن الحج، وهتك حرمة المسجد الحرام، ونحو ذلك «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ »جنس الشهر حيث إن الأشهر الحُرم أربعة، أو كان السؤال عن خصوص شهر رجب، والسؤال عن «قِتَالٍ فِيهِ »في الشهر الحرام؟ «قُلْ » يا رسول اللَّه «قِتَالٌ فِيهِ»في الشهر الحرام ذنب « كَبِيرٌ » في نفسه، ولكن هناك أفعال أسوأ منه منها : «وَصَدٌّ » أي منع «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»وهو دخول الناس في الإسلام، « وَكُفْرٌ بِهِ» باللَّه تعالى، «وَ» صدّ

ص: 87

عن «الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ »بمنع الحجاج والمعتمرين، أو وكفر بالمسجد الحرام بعدم احترامه، «وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ » من المسجد الحرام، فإنَّ كل واحد من هذه الأعمال «أَكْبَرُ » ذنبا «عِنْدَ اللَّهِ »من القتال في الشهر الحرام. فمن يفعل الأسوأ عمداً لا يحق له الاعتراض على من خالف خطأً، وذلك حيث إن بعض المسلمين أَغاروا على قافلة من المشركين في غرّة شهر رجب وهم يزعمون أنَّه آخر جمادى الثانية ، فقتلوا رجلاً وأسروا آخرین وغنموا القافلة ، فاعترض المشركون على انتهاك حرمة شهر رجب فيقال لهم :

«وَالْفِتْنَةُ »التي أنتم مقيمون عليها بالشرك وبالصد عن سبيل اللَّه وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه «أَكْبَرُ » جرماً «مِنَ الْقَتْلِ »الذي صدر عن مسلم في شهر رجب .

ثم إن خطأ ذلك المسلم يمكن جبره بدفع دية المقتول وإطلاق الأسرى وإرجاع الغنائم، لكن هؤلاء الكفار مستمرون في جرائمهم «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا » صرفكم عن دینکم کي ترجعوا كفارة، فعليكم أن لا تضعفُوا أمامهم، «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ »، فلم يتب، «فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ»أي فسدت وبطلت « أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا »فيحرم من منافع الإسلام، «وَفِي الْآخِرَةِ»فيحرم من الثواب، بل يجازى النكال « وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» ملازمون لها « هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ».

218 - وأما الذين لم يرتدّوا وعملوا بالطاعات فهم يستحقون الجنة «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ

ص: 88

اللَّهِ»حتى وإن أخطأوا، « وَاللَّهُ غَفُورٌ » لذنوبهم لا يعاقبهم عليها،«رَحِيمٌ» بهم يعزّهم في الدنيا ويدخلهم الجنة في الآخرة.

بحوث

الأول: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ »

1- شأن النزول ما روي أن سرية من المسلمين أغارت على قافلة من قریش وقتلوا أحدهم وغنموا تلك القافلة وساقوها إلى المدينة، وكان ذلك في أول يوم من رجب من الأشهر الحُرُم، وعن بعض التفاسير أنَّهم لم يعلموا أن ذلك اليوم من رجب أم من جمادی الثانية .

فكتبت قريش إلى رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم: إنك استحللت الشهر الحرام وسفكت فيه الدم، وكثر القول في هذا، وجاء أصحاب رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم: فقالوا يا رسول اللَّه أیَحِلّ القتل في الشهر الحرام، فأنزل اللَّه الآية(1). ومن ذلك يظهر أن السائلين في «يَسْأَلُونَكَ » که هم المسلمون، ولكن سبب سؤالهم كان ما اعترضته قريش.

2- ثم إن السؤال والجواب في صدر الآية سؤال كلّي عن حكم القتال في الشهر الحرام، ولعلّ المسلمین احتملوا نسخه أو كان غرضهم كيفية الجواب عن اعتراض قریش، فبيّن اللَّه تعالى أن حكم الشهر الحرام بحرمة القتال فيه باقٍ، كما أن هنالك محرمات أشدّ من القتال في الشهر

ص: 89


1- راجع تفصيل الرواية في البرهان ج 2، ص199 من تفسير القمي، وكذا مجمع البيان ج 2، ص112.

الحرام كالصدِّ عن سبيل اللَّه وعن المسجد الحرام والكفر به تعالی وإبعاد أهل المسجد الحرام عنه -.

ثم بعد السؤال والجواب الكلّيِّ يأتي دور بیان المصداق - وهو ما فعلته تلك السرية - ويتمّ بيان أنَّه لا يحق لقريش أن تعترض على القتال في الشهر الحرام مع أنَّها أتت بما هو أعظم منه جرماً فقال تعالى« وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ»، فليست الآية في مقام تبرير ما فعله أولئك المسلمون كي يقال إنه لا يصح تبرير جريمة بالنقض بجريمة أكبر منها ، بل الآية في مقام ردّ اعتراض قریش.

3- واعلم أنَّه يمكن أن يكون الغرض من الآية بيان أن القتال في الشهر الحرام هو محرم بذاته، ولكن قد ترتفع حرمته لأمر أهمّ، فلو اضطر المسلمون للقتال في الشهر الحرام دفاعاً عن الدين وعن المسلمين فإنَّه ترتفع حرمة القتال فيكون معنى « وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ»هو بيان ذلك، حيث إن أفعال المشركين هي فتنة في الدين وذلك أسوأ من مقاتلتهم وقتلهم.

أو يقال إن ما فعلته قريش ذنوب متعمدة، في حين أن ما فعلته السرية كان خطأً، حيث لم يثبت عندهم أنَّه رجب فمقتضى إكمال العدة والاستصحاب هو كون ذلك اليوم من جمادی الثانية فما ارتكبوه كانوا معذورين فيه.

4-ثم إن تقديم «الشَّهْرِ الْحَرَامِ » على «قِتَالٌ فِيهِ »مع أن سؤالهم هو عن القتال فيه، لأجل أن المحور هو «الشَّهْرِ الْحَرَامِ » وحرمة القتال تابع لحرمة الشهر، فتأمل.

5- ثم إن التعبير ب-«الشَّهْرِ الْحَرَامِ » مع أن الأشهر الحرم هي أربعة

ص: 90

لأجل أن المراد نوع الشهر لا خصوص شهر واحد، أو أن مورد السؤال كان عن خصوص شهر رجب لخصوصية تلك الواقعة .

الثاني : قوله تعالى «وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ »

1- إما عطف على «سَبِيلِ اللَّهِ »فالمعني وصدّ عن المسجد الحرام ولا إشكال في توسط المعطوف عليه أي «سَبِيلِ اللَّهِ »بين عاطف ومعطوف آخر - أي (صدّ) و(كفر به) -، وذلك لأن الغرض هو البدء بالأهم فالأهم، فأكبر ذنوبهم صدهم عن سبيل اللَّه حيث إنهم صاروا أئمة الكفر، ثم كفرهم نفسه، ثم صدهم عن المسجد الحرام، ثم طرد أهله.

2- وأما عطف على الضمير في «وَكُفْرٌ بِهِ وَ»، أي وكفر بالمسجد الحرام، ولعلّ معنى الكفر به هو عدم احترامه وعدم أداء الشكر العملي بکفران نعمته، بجعله محلاًّ للأصنام وابتداع البدع فيه، ولا إشكال في عطف الظاهر على الضمير من غير تكرار حرف الجر، فإنَّه وإن لم يجزه غالب النحاة، لكنه ورد في الكلام الفصيح، فقد كثر في أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام قوله (صلى اللَّه عليه وآله) من غیر تکرار (على).

وقيل «الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ » عطف على «الشَّهْرِ الْحَرَامِ » لكن السياق لا يناسب هذا العطف.

الثالث : قوله تعالى «وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ »

فإنَّ تحريف العقائد أسوأ من الأضرار البدنية، كما أن حفظ المبادىء أهم من تلك الأضرار، ولذلك يضحي الناس من أجل مبادئهم ولو أدى ذلك إلى قتلهم، وذلك لأن المبادىء هي التي تنظم حياة الإنسان وتسوقه إلى الكمال وتخرجه عن دائرة الحيوانية، فلذا كان قتال

ص: 91

المؤمنين إنما هو في سبيل اللَّه تعالى لأنَّه غاية الغاية، وأما غيرهم فقد يقاتلون لأجل مبادیء يرشد إليها العقل، كصون العرض وردّ المعتدي، وقد يقاتلون لأهداف باطلة زعماً منهم أنَّها غایات سامية أو لتوهمهم أنَّها مصلحة لهم.

وعلى كل حال فإنَّ القتل يفسد دنيا المقتول، وأما الفتنة فإنَّها تورث خسارة الدنيا والآخرة.

الرابع : قوله تعالى «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ ...»الآية .

هذا دليل آخر على جواز قتالهم في الشهر الحرام، وهو أن الكفار لا يراعون حرمته، فإذا وجدوا من المسلمين غِرّة أغاروا عليهم من غير مراعاة لحرمته، كما قال تعالى «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ »(1)، وذلك لأن أولئك الكفار لا مباديء لهم بل تحركهم مصالحهم ولذا فلا يراعون حرمة، قال سبحانه «لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً »(2)

فالمعنى أن هؤلاء مستمرون في مقاتلة المؤمنين على كل حال، وقوله «إِنِ اسْتَطَاعُوا » قيد لقوله «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ »فالمعنى أنَّهم مستمرون في قتالكم في كل وقت إن تمكنوا من ذلك القتال، لأنَّهم أعداء الدينكم فلا يألون جهداً في تخريب هذا الدين وصرف الناس جميعاً عنه وهذا هدفهم الأساس، ولا يمنعهم عنه مانع لا من حرمة ولا مبدأ ، سوی عدم قدرتهم، فإنَّ لم يتعرضوا عليكم أحياناً فليس لحفظهم العهود والمبادىء بل لعجزهم.

ص: 92


1- سورة البقرة، الآية: 194.
2- سورة التوبة، الآية: 10.

ثم إن اللَّه تعالى يحذّر المسلمين من الضعف والانهيار أمام أولئك الكفار، فقد تدور الدوائر «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ »(1)، كما حدث في غزوة أُحُد، وفي حال الهزيمة قد يرغب البعض في النجاة، إما بالفرار وإما بالرضوخ إلى الكفّار كما أراد بعض المهزومين من المسلمين في أُحُد أخذ الأمان من الكفار والارتداد عن الدين فالآية في صدد بيان حالة عامة، وهو أنَّه في حال الهزيمة قد يرجح الناس العافية ولو على حساب الدين، فيبيّن اللَّه سبحانه أن هذه عافية كاذبة فيها ضرر الدنيا والآخرة.

وهذا ما ابتلي به بعض المسلمين في العصر الحاضر، حيث إن هزيمتهم العسكرية والسياسية أمام المستعمرين، بل وتأخرهم اقتصاديّاً وصناعيّاً وعلميّاً عنهم، أدّى بهم إلى هزيمة نفسية ودينية، وخاصة أن المستکبرین استعملوا أدوات الغزو الفكري والثقافي، باستعمال القوة الناعمة أحياناً والخشنة أحياناً أخرى.

مع ما ابتلي به المسلمون من حكم مستبدين يعيشون في الأرض فساداً ويمنعون أَية نهضة أو تقدم ثم هل المنهزمون نفسيّاً التابعون لركب الحضارة الغربية وصلوا إلى مبتغاهم من التطور والتقدم؟ كلّا بل كانوا هم زيادة في المشكلة وإيغال في التأخر، وهذا ما أوعده اللَّه تعالى بقولهَ« أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » .

ص: 93


1- سورة آل عمران، الآية: 140.

بحث حول الحبط

الخامس: قوله تعالى« حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ».

(الحبط) هو البطلان، والمعنى أن المرتد أعماله باطلة فليس لها الآثار الدنيوية الحسنة ، ولا يُجازي عليها بالجنة ، قال تعالى «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)»(1).

1. ثم اعلم أن الثواب تفضل من اللَّه تعالى وليس باستحقاق من أحد، فإنَّ اللَّه سبحانه أنعم على الإنسان بأن خلقه، ثم غمره بالنعم « وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا »(2)، وجميع طاعات الإنسان وعباداته لا تفي بمكافأة نعمة من هذه النعم، بل إنّ أمر اللَّه تعالى الناس بالعبادة وتعليمهم طريقتها هي نعمة أُخرى تضاف إلى تلك النعم ونفعها عائد للإنسان نفسه ، فلا معنى للقول بأن الإنسان بعبادته وطاعته يستحق شیئاً على اللَّه تعالی.

نعم إنه تعالى من رحمته وحكمته أكرم الإنسان بنعمة كبرى أخرى وهي أنَّه وعده بالثواب إن أطاع، وذلك الثواب تفضُّل منه تعالی.

وبمراجعة الآيات يتضح أن الوعد إنما هو لمن آمن وعمل صالحاً ومات على ذلك، وأما من ارتدَّ فإنَّ أعماله الصالحة السابقة لا وعد بمنح الثواب عليها .

فتبيّن أن حبط عمل المرتد ليس بمعنى أنَّه كان يستحق ثواباً عليها فأبطلها بكفره، بل لم يكن لعمله ثواب أصلاً من البداية لعدم وعده بالثواب بل إخباره بعدم الثواب.

ص: 94


1- سورة الفرقان، الآية: 23.
2- سورة إبراهيم، الآية: 34.

ولذا استعملت كلمة (الحبط) في القرآن في أعمال الكفار مع وضوح عدم الثواب عليها، قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)»«أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ » (1). «أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ »(2)

2-ويمكن أن يقال إن بعض الأعمال بذاتها لها القابلية لأن تكون صحيحة وأن ينال الإنسان بها رضاه سبحانه، لكن بشرط أن لا تبتلی بالمبطلات العملية أو القصدية ، وهذه الأعمال لم يَعِد اللَّه سبحانه وتعالى الثواب عليها إلّا إذا جاء بها الإنسان على الوجه الصحيح، فهو سبحانه الرحمته ورأفته بعباده جعل لتلك الأعمال القابلية لكن الإنسان بسوء اختياره أبطلها، قال سبحانه «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ »(3).

3- ثم إن اللَّه سبحانه وعد الثواب على العمل الذي يؤتى بوجهه الصحيح بقصد التقرب إليه ، فإذا كان الداعي غير ذلك فلا يستحق الفاعل ثواباً أصلاً.

فإنَّ الدواعي للأعمال الحسنة إما شهوات النفس كالرياء وحب السمعة ونحوها فهذا عمله مذموم لسوء نيته، وإما دواعي عقلية بلا ارتباط لها باللَّه تعالی كمن يترك بعض القبائح حفظاً لمنزلته الاجتماعية، وهذا عمله محمود لاتباعه الداعي العقلي، لكن حيث لم يأت بالعمل لوجه اللَّه فلا وعد بثوابه .

ص: 95


1- سورة آل عمران، الآيتان: 21 - 22.
2- سورة الكهف، الآية: 105.
3- سورة إبراهيم، الآية: 28.

4 - ومن ذلك يتضح أن الملحد الذي يساعد الفقراء ويصل الأرحام ويفعل بعض أعمال البرِّ، لا ترتبط أعماله باللَّه سبحانه وتعالى لينال ثوابه، وهكذا بعض الكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم أو خدماتهم، فهؤلاء عملهم محبط في الدنيا والآخرة، نعم قد تحصل لهم السمعة الطيبة والذكر الحسن وهذا ثوابهم في الدنيا كما قال تعالى «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)»«أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »(1)، فليس للعمل التأثير المرجوّ منه لا في الدنيا ولا في الآخرة، حيث إنّ هناك آثاراً وضعية للأعمال ترتبط بالإيمان فلا تترتب على العمل الذي لم يؤت به بقصد وجه اللَّه تعالی.

5- وأما المؤمن الذي يعمل عملاً صالحاً ثم يأتي بعده بالمعاصي، فإنَّ تلك الأعمال الحسنة لا تحبط، فللأعمال الصالحة آثارها وللمعاصي آثارها من غير أن يحصل حبط لأيٍّ منهما، نعم لو تاب وأصلح فإنَّه قد يكفّر اللَّه عن سيئاته بل قد يبدّل سيئاته حسنات، كما قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ »(2)، وقال « إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ »(3)، وقال سبحانه «إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا »(4).

السادس: قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...»الآية .

ص: 96


1- سورة هود، الآيتان: 10 - 19.
2- سورة التحريم، الآية: 8.
3- سورة هود، الآية: 114.
4- سورة الفرقان، الآية: 70.

هذه الآية تكملة لموضوع الآية السابقة، وتسلية للمؤمنين بأنَّهم إن أخطأوا في انتهاك حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه فإنَّ أعمالهم السابقة تبقى على حُسنها وعلى ثوابها، وورد في شأن نزولها أن السرية التي أغارت في رجب زاعمة أنَّه آخر جمادى الثانية، ظن قوم أنَّهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر، فأنزل اللَّه الآية فيهم بالوعد(1).

فحاصل معنى الآية أن المؤمنين العاملين بالصالحات لا تحبط أعمالهم حتى وإن ارتكبوا الذنوب، بل أولئك يطمعون في غفرانها .

وأما تخصيص الهجرة والجهاد بالذكر: فلأجل خصوصية القصة مع كون الحكم عامّاً - فإنَّ خصوصية المورد لا تخصص الوارد -، أو لأجل أنّ الهجرة والجهاد في سبيله تعالى من أصعب الطاعات، أو لارتباطها بالقتال المذكور في الآية السابقة.

السابع : قوله تعالى «أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ».

الرجاء هو الظن بوقوع الخير مع عدم العلم به، ولذا كان الأمل بالخير رجاءً، ولا يكون الرجاء إلّا عن سبب يدعو إليه، فحب ما يعلم عدم تحققه يكون تمنِّياً لا رجاءً .

فالإنسان المؤمن العامل بالصالحات قد هيّأ وسأل المغفرة، فلذا كان راجياً، أما غير العامل فلا رجاء له بل قد يكون له تَمَنٍّ باطل، قال سبحانه: «لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ »(2)، كما أن المؤمن الصالح لا يعلم ببقائه إلى النهاية على إيمانه

ص: 97


1- مجمع البيان: ج2، ص119.
2- سورة النساء، الآية: 123.

وصلاح عمله، فلا ضمانة له من الارتداد أو اختيار السيئات على الحسنات في مستقبل أمره، لذا يكون بين الخوف والرجاء.

فتحصَّل : أن الرجاء لا يكون إلّا مع صحة المعتقد والعمل، وهذا الرجاء يكون محفزاً للحذر وللاستمرار في تهذيب النفس، ولذا قيل: بأن الرجاء من مقدمات الإرادة وأنَّه يتعلّق بما هو متوقع الحصول بعد تمهید جميع أسبابه الاختيارية، فإنَّ اليائس لا يحرّك ساكناً، ولذا كان القنوط من رحمته تعالى من أكبر الكبائر لأنَّها داعية إلى ترك الحسنات والاشتغال بالسيئات، قال تعالى « إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ »(1).

ثم إن من مصادیق رجاء رحمته هو توقع غفران الذنوب التي ارتكبوها أو عدم المؤاخذة فيما أخطؤوا، وبذلك تنطبق الآية على ما رووه من شأن نزولها كما سبق.

ص: 98


1- سورة يوسف، الآية: 87.

فصل في جملة من الأحوال الشخصية

اشارة

ص: 99

ص: 100

فصل في جملة من الأحوال الشخصية

هذا القسم من سورة البقرة (الآيات 219 - 260) تتضمن مجموعة من الأحكام الشرعية التي ترتبط بالحياة العامة وعلاقة الناس بعضهم بالبعض، وذلك يرتبط بالإطار العام للسورة، حيث بدأت السورة بتقسيم الناس إلى أصناف ثلاثة - مؤمن وكافر ومنافق - ثم حثَّت الناس على اتباع الصنف الأول، مصحوبة ببعض الأمثلة، ثم اختيار نموذج بني إسرائيل وبيان نقاط قوتهم وضعفهم وبيان نتائج أعمالهم، لتأخذ الفكرة حيّز التأثير بإقناع الناس بمؤداها عبر ذكر نموذج حيّ ، وبعد ذلك الانتقال إلى مقومات الأمة الإسلامية، من قيادة صالحة متمثلة في النبي صلى اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام ، ثم العقيدة السليمة والقبلة والواجبات والمحرمات، وبعد ذكر جملة من العبادات كالصوم والحج والجهاد ينتقل الكلام إلى مجموعة من الأحكام الاجتماعية .

فتبدأ الآيات بالتحذير عما يوجب خَلَلًا في النظام الاجتماعي ويورث الضغائن والعداوات من الخمر والقمار وسوء معاشرة الأيتام، ثم بعد ذلك تذكر جملة من الأحكام المرتبطة بالحالة

ص: 101

الزوجية من النكاح والطلاق والعدَّة وبعض الأمور المرتبطة بالأسرة، ثم يختتم هذا القسم (الآيات 243 - 260) ببيان أن استقرار المجتمع بحاجة إلى تضحية بالمال والنفس مع ذكر قصة طالوت، ثم التذكير باللَّه سبحانه وتعالى وقدرته، كدأب القرآن الكريم في ربط كل شيء باللَّه جلّ جلاله، هذا إجمال ما في هذه الآيات المباركات، وأما التفصيل فهو كالتالي :

ص: 102

الآيتان 219 - 220

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)»«فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)»

219 – 220 -«يَسْأَلُونَكَ عَنِ » حكم «الْخَمْرِ» وهو كلُّ شراب مسكر« وَالْمَيْسِرِ » كلِّ أنواع القمار، «قُلْ» في جوابهم: « فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ»فهما مفتاح كل شرّ ويؤديان إلى ارتكاب سائر المحرمات وترك الواجبات، « وَ» فيهما «مَنَافِعُ لِلنَّاسِ » اقتصادية بالتجارة، وشهوية باللذة والطرب واللهو، وحيث إن هذه المنافع لا تقارن بالمضارّ فقال تعالى :«وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا »لما يوجبانه الفساد في العقل والجسم والمال، إضافة إلى عذاب الآخرة، وكل ما كان إثمه أكبر من نفعه لم يكن فيه خير أصلاً، لأن كل الشرور والمفاسد لها نفع لفاعلها، كالسرقة التي ينتفع بها السارق، وكالقتل الذي قد يكون فيه منافع للقاتل، فلذا على العاقل أن لا ينفق أمواله على الخمر والميسر بل عليه أن ينفقها فيما فيه الخير «وَ»لذا

ص: 103

حين «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ » في جوابهم : أنفقوا«الْعَفْوَ » بلا إسراف ولا تقتير بما لا يكون مضراً - لا كالخمر والميسر حيث إن الإنفاق فيهما مضرّ-

وكما بیّن اللَّه لكم هذه الأحكام«كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ »الحجج في الأحكام «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » فتؤثرون ما ينفعكم فيهما ولا تقدمون على ما فيه الإثم الكبير.

«وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى»عن كيفية معاشرتهم وكيفية التصرف في أموالهم؟ « قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ » في جميع شؤونهم من مراعاتهم وحسن تربيتهم وحفظ أموالهم، وهذا الإصلاح «خَيْرٌ »من مجانبتهم فإنَّ في ذلك ضياعهم وتلف أموالهم، «وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ» تعاشروهم « فَإِخْوَانُكُمْ » فتعاملوا معهم كما تتعاملون مع إخوانكم، ثم عليكم أن تكون المخالطة بغرض الإصلاح «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ »فلا تخفى عليه نيّاتكم ولا أعمالكم،«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ » أي لأمركم بما فيه مشقة عليكم تجاه الأيتام كأن يأمركم بالدِّقة الكثيرة في أموالهم واعتزالها في كل شيء لكنه سبحانه أمركم بمرعاة أموالهم بالمعروف وأن تتعاملوا معهم كما تتعاملون مع إخوتكم لا أكثر، «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ »قادر على كل حكم وقادر على الانتقام من المفسد «حَكِيمٌ » لذا كان حكمه بما فيه المصلحة من غير إيقاعكم في المشقة .

ص: 104

بحوث

الأول: في الآيتين مزج أربعة أسئلة : 1 - الخمر والميسر . 2 - الإنفاق . 3 - اليتامى، قيل : السبب هو أن هذه الأسئلة سُئلت في وقت واحد، وفيه تأمل مضافاً إلى عدم وجود دليل على هذا الادِّعاء .

فلعلّ السبب أن هذه الأمور هي من أهم مداخل الشيطان للإفساد:

1 - فالخمر مُزيلة للعقل، ومن المعلوم أن شرف الإنسان وامتيازه عن الحيوان بالعقل فقط، وإلا فالتركيبة الجسدية متقاربة، والعقل هو الذي يسوق الإنسان إلى الخير وإلى النظام الاجتماعي السليم، فكان من براعة الاستهلال تصدير بحث النظام الاجتماعي بالعقل وذلك بالنهي عمّا يزيله .

2 - وأما الميسر فهو يوجب الخمول، وأكل المال بالباطل عبر تحصيل الربح من غير كدّ ولا استحقاق، كما فيه زوال ثروة الخاسر وابتلائه بالمشاكل الاقتصادية والأسرية من غير استحقاق أيضاً وإنما اعتباطاً، والدين القويم يمنع من العبث وخاصة في الأموال وما يرتبط بها من الحياة الاجتماعية، قال تعالى «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى »(1) ، وقال

سبحانه «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ »(2).

3 - وأما الإنفاق فإنَّ قوام المجتمع على الصرف الصحيح للأموال بلا إسراف ولا إقتار، فعدم الإنفاق يوجب انهيار قسم كبير من المجتمع ، كما أن الإسراف يوجب هدر الثروات وفي المآل يؤدي إلى الفقر وما يستتبعه من مشاكل .

ص: 105


1- سورة النجم، الآية: 39.
2- سورة البقرة، الآية: 188.

4 - وأما الأيتام فلضعفهم وعدم وجود أب يرعاهم، فإنَّهم عرضة لسوء التربية، وكذلك أموالهم التي ورثوها عرضة للتلف والسرقة، ومن المعلوم أن عدم رعايتهم سبب لسوء تربيتهم ووقوعهم فريسة أصحاب الأهواء فيكون سبباً لنمو جيل من المجرمين لولا رعايتهم وفي ذلك أكبر الضرر على الاجتماع .

فتحصل أن المجتمع السليم يتوقف على منع كل ما يفسد العقل كالخمر أو يفسد الأموال كالقمار، كما يتوقف على حُسن الإنفاق، وكذلك على رعاية وتربية من لا راعيَ له كالأيتام .

الثاني : قوله تعالى يسئلونك عن الخمري إذا كان السؤال عن الأعيان، فإنَّ المراد هو السؤال على الفعل المقصود من ذلك العين، وهكذا لو تعلّق الحكم بالأعيان من غير سؤال فالخمر يقصد منها شربها، والميسر يقصد منه لعبه، وهكذا في قوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ...»(1) الآية، أي نكاحها، وقوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...»(2) أي أكلها أو شربها .

ثم لا يخفى أن الخمر كانت محرمة في كل الشرائع، من آدم علیه السلام إلى الإسلام، ولم يكن هناك تحليل للخمر، لأنَّها أم الخبائث مع عدم الحاجة إليها، فيدل على حرمتها العقل قبل الشرع، وأما التدرّج في الآيات، فلم يكن إلّا تدرجاً في إبلاغ الحكم، وأما قبل نزول تلك الآيات فكان سكوت عن حكم الخمر لا تحليل الخمر- كما زعمه بعض -

ص: 106


1- سورة النساء، الآية: 23.
2- سورة المائدة، الآية: 3.

فآيات التحريم لم تنسخ الحِلِّية، بل تلك الآيات بيّنت للناس التشريع ، وقبل ذلك لم يكونوا مؤاخذين على شربها لا أن الشرب كان حلالاً، بمعنى أن الشارع لم يصدر حكماً بتحليلها .

وهذا نظير الاعتقادات ، قال تعالى «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا »(1)، فليس معنى الآية أن الشرك كان جائزاً وأن اللَّه شرّعه لأولئك، بل قبل إرسال الرسل لم يكن الناس مؤاخذين ومعاقبين على تركهم الشريعة .

ولذا فأصل البراءة ليس تشريع حكم بل هو تعذير، بمعنى كونهم معذورين على ذلك، وبعبارة أخرى إن فعلية الحكم وتنجّزه توقف على نزول آيات التحريم، وأما في مرحلة الاقتضاء والإنشاء فكان الخمر محرّماً، فاتضح أن التدريج إنما هو في الإبلاغ لهم .

ويستفاد من مجموعة من الروايات أن اللَّه سبحانه أنزل عدة آيات وبالتدريج لينبّه الناس على ضرر الخمر وخبثها وتحريمها .

1 - فنزلت في مكة قوله تعالى «وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا »(2)، وفي ذلك تلميح بأن الخمر ليس من الرزق الحسن، للمقابلة .

2 - قوله تعالى«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى »(3)، وفيها بيان خبثها بحيث يجب تنزيه الصلاة والمسجد عنها، وحيث إن الصلاة في الأوقات الخمسة وهي متقاربة - مع وجوب مراعاتها ومراعاة وقتها .

ص: 107


1- سورة الإسراء، الآية: 15.
2- سورة النحل، الآية: 67.
3- سورة النساء، الآية: 43.

اقتضى ذلك الاجتناب عن شرب الخمر في الأوقات جميعاً لكيلا يكون سكران حين إقامتها .

3 - هذه الآية « فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ »، وفيها تصريح بالتحريم في الأوقات أجمع، لوضوح لزوم اجتناب الإثم، وقد نزلت آيات سابقة على هذه الآية في تحريم الإثم، قال تعالى «وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ »(1). وقال سبحانه «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ »(2)

4 - قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)»«إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ »(3). ولا يخفى أن التقريع الشديد في هذه الآية لأجل أن الآيات السابقة بينت التحريم بوضوح ولكن جملة من الناس استمروا في شربها، ولذا استدعى تقريعهم بهذه الشدة وكذلك منعاً لمن تسول له نفسه في المستقبل لتأويل الآيات كما تشتهيه نفسه .

وأما حكمة التدريج فقد روي : أن اللَّه عزَّوجلَّ إذا أراد أن يفترض فريضة أنزلها شيئاً بعد شيء حتى يوطن الناس أنفسهم عليها ويسكنوا إلى أمر اللَّه عزَّوجلَّ ونهيه فيها، وكان ذلك من فعل اللَّه عزَّوجلَّ على وجه التدبير فيهم أصوب وأقرب لهم إلى الأخف بها وأقل لنفارهم عنها(4).

ص: 108


1- سورة الأنعام، الآية: 120.
2- سورة الأعراف، الآية: 33.
3- سورة المائدة، الآيتان: 90 - 91.
4- البرهان: ج2، ص170 عن الكافي.

ثم لا يخفى أن التدريج إنما كان في بداية الأمر حيث إن اللَّه سبحانه أراد إكمال الدين وإتمام النعمة بهذا الدين الحنيف، فبدأ بأصل هو التوحيد، وختم بأصل هو الإمامة، وبينهما شرَّع الأحكام وكل ما يرتبط بسعادة الإنسان، وبعد إكمال الدين واستقرار أركانه فلا معنى للتدرج في الأحكام، بل يلزم الالتزام بكل أحكام الشرع جملة واحدة في كل الأمور، فلا معنى للقول بأنَّه لو قامت الحكومة الإسلامية فإنَّ عليها تطبيق أحكام الإسلام تدريجياً لكي لا تحدث اضطرابات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بل اللازم تطبيق كل أحكام الشرع منذ البداية، نعم يلزم التمهيد لذلك، بمعنى بمعنى أن الذين يريدون تطبيق الشرع ويعارضون الظَّلَمة والحكومات الاستعمارية عليهم أن يهيّئوا نظاماً متكاملاً متطابقاً مع الشرع في كل الأمور عبر الاستفادة من الخبراء في الشرع وسائر الخبراء في الأمور الإدارية والقانونية والاقتصادية وغيرها ، حتى إذا ما وصلوا إلى الحكم يطبقون ذلك النظام، لا أن يشتغلوا بالمعارضة فقط حتى إذا وصلوا إلى الحكم تحيّروا في كيفية تطبيق أحكام الإسلام ثم يرجعون إلى الأحكام السابقة مع إلباسها لباس الدين ظاهراً، أو التمسك بالأدلة الواهية كالقياس والمصالح المرسلة ونحو ذلك، فتنتج حركتهم تبديل ظالم بآخر، وهذا ما ابتلي به الكثير من الحركات الإسلامية، حيث إنهم حينما وصلوا إلى الحكم أبقوا على الأحكام الجائرة .

نعم قد يكون هناك عناوين ثانوية ولحالات اضطرارية، - كما لو تترس الكفار بالمسلمين -، لكن ذلك في الحالات الاستثنائية وضمن الضوابط الشرعية في الأحكام الثانوية، لا أن تجعل هذه الاستثناءات الأصل كما يحدث كثيراً، و اللَّه المستعان .

ص: 109

الثالث : قوله تعالى « وَالْمَيْسِرُ» .

هوكل أنواع القمار، وهو مصدر ميمي من اليُسر لأن فيه أخذ مال الغير ميسراً - أي بسهولة ومن غير كدٍّ وتعبٍ ومعاوضة -، أو هو سلب يساره - أي ثروته - وإفقاره، ومن الواضح أن القمار فيه أكل مال الغير بالباطل، وابتناؤه على الصدفة أو الخداع، وفي ذلك فساد للأموال، وابتلاء الخاسر بمشاكل جمَّة قد تؤدي به إلى انهيار أسرته ودخوله السجن إن عجز عن تسديد ما ضمنه، بل قد يؤدي إلى جرائم من القتل والسرقة ونحوها .

في حين أن امتلاك المال يلزم أن يبتني على الحق بسعي الإنسان فيه، قال تعالى «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى »(1)، أو بهبة وصلة مما يزيد من أواصر المجتمع مع مراعاة الحكمة فيه، ولذا يحجر على السفيه حيث إن تصرفاته ليست بحكمة وفيها فساد للأموال، وهكذا كل من لا يتمكن من التمييز ومراعاة المصلحة كالصبي إلى أن يبلغ سن الرشد.

وفي العصر الحاضر حيث زاد الجشع في الأموال وبصورة منظّمة، فإنَّ بعض أصحاب رؤوس الأموال أو الشركات الكبرى تُرَغِّب الناس في القمار، لأنَّها تأخذ نسبة كبيرة من الأرباح وإنما الخاسر أحد المتقامرين ، ولذا يوفرون مختلف الخدمات وبأرخص الأثمان لجذب الناس إلى محلات القمار، ليأكلوا أموال الناس بالباطل .

وحيث إن القمار وضع لذلك فإنَّ الشرع حرّمه حتى لو لم يكن فيه اشتراط مال بل كان لمجرد التسلية، فكل آلة صارت آلة قمار حرم اللعب بها .

ص: 110


1- سورة النجم، الآية: 39.

لأن الشارع أوجد سُوراً حول المحرمات لكي لا يقع الإنسان فيها ، وكلّما اقترب الإنسان إلى ما يؤدي إلى الحرام أوشك أن يغريه الشيطان بالحرام، وفي الحديث الشريف : (من رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه)(1)، وكلما كان الحرام أكبر كان السور حوله أشد، ولذا يحرم الجلوس على مائدة فيها خمر حتى وإن لم يشرب هو، كما لعن رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم في الخمر عشرة غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها(2)(2). وأيضاً جعلت عقوبة شديدة بالجلد ثمانين جلدة، وجملة من الأحكام الأخرى مذكورة في الفقه .

وهكذا القمار حرم حتى وإن لم يكن فيه اشتراط مال، ومن أقسام القمار المراهنات التي توضع لها أموال جمة، وخاصة من الشركات التي تكون مستفيدة على كل حال لحصولها على نسبة كبيرة من الأموال .

وقد جمع مضارَّ الخمر والميسر قولُه تعالى «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » (3)و«البغضاء» في القلب، و«العداوة» إظهار تلك البغضاء باللسان و الوجه أو الجوارح .

فالسكران تصدر منه أفعال تجاه الآخرين من حيث لا يعقل توجب العداوة، مضافاً إلى عدم شعوره في حال السكر فينسى اللَّه تعالى ويغفل عن العبادات وأهمها الصلاة التي هي عمود الدين .

ص: 111


1- الوسائل ج18، ص122.
2- الكافي ج6 ص429.
3- سورة المائدة، الآية: 91.

وكذا القمار يوجب عداوة المغلوب للغالب حيث يرى أمواله بيده ، وهكذا عداوات داخل الأسرة والمجتمع نتيجة الخسارة، كما أنَّه لهو باطل من غير فائدة، وهذا اللهو يسبب انغماس اللاعب فيه فيغفل عن كل شیء.

الثالث : قوله تعالى « وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ» .

الظاهر أن هذا المقطع أريد به دفع شبهة، حيث يستند من يُبيح الخمر والقمار إلى أن فيهما منفعة فلماذا يمنع عنهما!؟، وهذا ما يستند إليه أهل الباطل إلى يومنا هذا، وخاصة يستندون إلى النمو الاقتصادي وجلب السيّاح، عبر إنتاج الخمر وتصديرها وتوفرها في المطاعم والفنادق وكذلك توفر مقاهي القمار، ونحو ذلك من الحجج الواهية، وقد يكابرون ويستندون إلى بعض التقارير الطبية المشبوهة في وجود بعض المنافع الصحية لهما . فيقال في جواب هذه الشبهة أن كل محظور فيه بعض المنافع، أليس في الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال ونهب وسرقة الثروات منفعة اقتصادية؟ أليس فيها اللذة والراحة مثلاً؟ بلى ولكن العاقل لا ينظر إلى منافع الشيء بعيداً عن مضاره، بل يقارن بينهما ويرجح الراجح، فأكل الطعام المسموم أيضاً فيه لذة وقتية ولكن حيث إنه ينتهي إلى المرض الشديد أو الموت فلا خير فيه أصلاً .

فتحصل أنا الخمروالميسر لا خير فيهما إطلاقاً لأن ضررهما أشد من نفعهما - الاقتصادي أو الشَّهَوِيّ -.

الرابع : قوله تعالى« وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ».

مرّ في الآية 215 هذا السؤال نفسه، ولعلّ إعادة السؤال لاختلاف

ص: 112

الغرض، فكان الغرض هناك بيان الصعوبات التي تكتنف أهل الحق، وأن الجنة لا تنال إلّا بتحمل المشاق والتكاليف الصعبة كتحمل البأساء والضراء والإنفاق والقتال، ويكون الغرض هنا بیان جملة من الأحكام الاجتماعية، والإنفاق يدخل في صميم العلاقات الاجتماعية، وقد مرّ في المجلد الأول بيان عدم وجود التكرار في القرآن وإن كان تشابه ظاهري، وذلك لاختلاف الغرض، هذا مضافاً إلى النظر إلى ما أعيد من زوايا مختلفة، ولذلك في الآية 215 بين المصرف وفي الآية 219 تم بیان الشيء المُنفَق.

وأما (العفو) فهو الوسط بين الإسراف والإقتار كما قال تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا »(1)، وقال سبحانه«وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا »(2).

وأصل (العفو) بمعنى الترك(3)، وما لا يحتاج إليه الإنسان في ضروریاته كأنَّه تركه، ويرجع إلى هذا المعنى ما في بعض الروايات أو کلام المفسرين من أنَّه : الوسط، أو الكفاف، أو القصد، أو ما فضل عن قوت السنة(4)، أو الزيادة، أو ما تيسّر أو ما سهل إنفاقه، فإنَّ كل هذه المذكورات عبارة أخرى عن معنى العفو أو ذکر مصادیق له.

الخامس : قوله تعالى : «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ». أي تتفکرون حول الدنيا والآخرة، والمراد لعلّكم تستعملون عقولكم

ص: 113


1- سورة الفرقان، الآية: 17.
2- سورة الإسراء، الآية: 29.
3- مقاييس اللغة: ص 142.
4- راجع تفسير البرهان ج 2، ص 171 - 172.

في أمرهما، فإنَّ هذه الأحكام المذكورة يدل عليها العقل أيضاً، أو أن العقل بعد تنبيهه عليها يكتشف صحتها وأنَّها مطابقة للمصلحة .

فإنَّ ما يراه العقل على صنفين : فهناك أحكام يستقل العقل بإدراكها كقبح الظلم وحسن العدل، وهناك أحكام لا يدركها العقل إلّا إذا تمّ تنبيهه، ولذا يزداد العقل بازدياد العلم عادة ، وقد ذكرنا في شرح أصول الكافي تفصيل ذلك، وفي نهج البلاغة في علة بعث الأنبياء (وليثيروا لهم دفائن العقول)(1).

مضافاً إلى أن هناك مصاديق جزئية لكليات يدركها العقل، مثلاً أصل وجوب العبادة أمر يدركه العقل ولكن كيفية تلك العبادة تحتاج إلى بيان من الشرع .

والحاصل أن الإنسان إذا استعمل عقله وفكّر في الحجج التي أشار إليها اللَّه تعالى، فإنَّه يصدّق بعقله كل تلك الأحكام ويلتزم بها، ولذا أشار القرآن الكريم إلى علل الأحكام - ولو بإشارة إجمالية - لكي يكون التزام الناس بها عن قناعة، لأن ما اقتنع به الإنسان يقوم به حتى وإن كانت دونه الصعاب، بل لا يتركه على كل حال، وقد أشرنا إلى طرف من هذا البحث سابقاً .

وفي هذه الآية إشارة إلى علة تحريم الخمر، وكذلك إلى سبب الإنفاق وهو العفو، لأنَّه ليس من المناسب إبقاء المال جامداً غير مستثمر في الحاجات، بل على الإنسان أن يصرف على نفسه من غير إسراف ولا إقتار، وينفق على المحتاجين بعضاً من ذلك المال تلبية لحاجاتهم،

ص: 114


1- نهج البلاغة: الخطبة: 1.

ويُبقي قسماً من المال للاتجار به أو للحاجات المستقبليَّة، فقوله (العفو) مضافاً إلى كونه جواباً للسؤال يتضمن بيان علة الحكم، فتأمل . وأما قوله: «فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ »فلأنَّه يلزم أن لا يحصر الإنسان فكره في الماديات فقط، بل يلزم أن يجمع بين التفكر في الدنيا والآخرة فيؤثر ما فيه الصلاح لهما جميعاً، وأحكام الشرع كذلك الالتزام بها سبب السعادة في الدنيا والآخرة، ولذا يدعو المؤمنون «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ »(1)، وأما ترك تلك الأحكام فإنَّه يوجب الشقاء فيهما، قال سبحانه «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)»«قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)»«قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)»(2). وقال سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »(3).

السادس: قوله تعالى «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ...»- الآية .

أي عن كيفية التعامل معهم ومع أموالهم، فهل نخالطهم أو نجانبهم خوفاً من التلوث بأموالهم .

والأيتام يمثلون شريحة واسعة من المجتمع وخاصة في الأوقات التي تكثر فيها الحروب أو الأمراض، وهم لضعفهم من جهة ولامتلاكهم لأموال - قد تكون كثيرة ووصلتهم بالإرث - من جهة أخرى، يكونون عرضة لأصحاب المطامع ليبتزوا أموالهم، وكذلك يكونون عرضة للضياع بسبب عدم وجود من يهتم بشأنهم، ولذلك كثر الاهتمام بهم في القرآن

ص: 115


1- سورة البقرة، الآية: 201.
2- سورة طه، الآيات: 124 – 126.
3- سورة الأعراف، الآية: 152.

والأحاديث، وشدَّد اللَّه تعالى في عقوبة من يظلمهم - بجعل آثار وضعية في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة -، وكذا تفضّل سبحانه بالثواب الجزيل لمن يرعاهم ويترحم عليهم.

قال سبحانه «وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا »(1). وقال سبحانه «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)»«إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا »(2)، جمعت الآيتان الأثر الأخروي بدخول السعير، والآثار الدنيوية الوضعية بأن أثر ظلم اليتيم هو تحوّل ذلك الظلم إلى الظالم نفسه في ذريته، قال تعالى « وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ »(3)، وبأن الظالم لا ينتفع بذلك المال بل يجر ذلك المال الضرر عليه، فقوله: وإنما يأكلوت في بطونهم تارا که ظاهر في هذا المعنى، وعدم شعورهم بهذه النار کالمشلول الذي يضع يده في النار فإنَّها تحترق لكنه لا يشعر بسبب فقدان الأعصاب الموصلة إلى الدماغ، وهكذا آكل مال اليتيم يأكل ناراً تحرقه لكنه لا يشعر بها.

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه لما نزلت «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا »، خرج كل من كان عنده يتيم، وسألوا رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم في إخراجهم، فأنزل اللَّه « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» الآية(4).

ص: 116


1- سورة النساء، الآية: 2.
2- سورة النساء، الآيتان: 9. 10.
3- سورة فاطر، الآية: 43.
4- البرهان ج 2، ص 176 عن تفسير القمي.

فجاء الجواب بقوله «إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» وذلك بتربيتهم والقيام بشؤونهم ومراعاة أموالهم لكي لا تتلف .

ويحتمل أن تكون الآية في بيان شقين :

الأول: أن تقوموا بشؤونهم مجاناً فتكسوهم وتطعموهم من أموالكم وتحفظوا أموالهم، وهذا «خَيْرٌ»أي أفضل من الشق الثاني، لما فيه من عظيم ثواب هذا الإنفاق .

الثاني : أن تصرفوا عليهم من أموالهم، ولكن حيث يصعب فرز مصارفهم في كل شيء باعتبارهم يعيشون معكم وتحت رعايتكم، فيمكن أن تخلطوا أموالكم مع أموالهم، بالنسبة ومع حفظ المقدار، والجميع يستفيد من هذا الشيء المشترك، مثلاً في الأسرة التي فيها ستة أشخاص أحدهم يتيم، يوضع في المصروف من مال اليتيم بمقدار السُّدس في المصاريف العامة للمنزل كالأكل والشرب والتدفئة مثلاً، وهذه الطريقة أفضل من عزل اليتيم في أكله وشربه ونومه لما في ذلك من صعوبة بالغة على كافل اليتيم وضرر نفسي بالغ على اليتيم نفسه، بل قد يكون ضرراً مالياً عليه لتلف زائد الطعام أو بسبب أن الاشتراك في المصاريف يقلل من المصروف .

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم وتخرج من مالك مقدار ما يكفيك ثم تنفقه(1).

وعنه عليه السلام : لا بأس أن تخلط طعامك بطعام اليتيم فإنَّ الصغير يوشك

ص: 117


1- البرهان، ج2، ص173 عن الكافي.

أن يأكل كما يأكل الكبير، وأما الكسوة وغيرها فيحسب على كل رأس صغير وكبير كما يحتاج إليه(1).

وأما الذي يترك عمله لأجل رعاية اليتيم فيجوز له أن يأخذ من اليتيم أجراً على ذلك بالمعروف، وإن كان الأفضل التبرع في عمله، قال تعالى «وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ »(2) أي : من كان مشرفاً على إدارة شؤون اليتيم فلا يأخذ أجرة على عمله إذا كان غنياً، وإذا كان فقيراً فليأخذ من ماله بمقدار أجرة عمله لا أكثر .

وقوله « فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ » بمعنى التعامل معهم كما تتعاملون مع إخوتكم، وهذا حث على مخالطتهم بالحسنى .

وفي الحديث : قيل للإمام الصادق عليه السلام إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام، ومعهم خادم لهم، فنقعد على بساطهم، ونشرب من مائهم، ويخدمنا خادمهم، وربما طعمنا من الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى في ذلك؟ فقال : إن كان دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس، وإن كان فيه ضرر لهم فلا(3).

السابع : قوله تعالى «لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »

وهذا أيضاً كالعلة فيما ذكر من أحكام الأيتام، فإنَّ في الأمر بإصلاحهم ومخالطتهم كالأخ تسهيل لكم ولهم، مع حفظ مصالحهم ومصالحكم، وأموالهم وأموالكم .

ص: 118


1- البرهان ج2، ص 174 عن تفسير القمي.
2- سورة النساء، الآية: 6.
3- البرهان: ج2، ص 174 عن التهذيب.

فلا هو أمركم باعتزالهم ومجانبتهم ليكون مشقة عليكم وعليهم، ولا هو أمركم بالدقة الزائدة بفرز طعامهم ومصروفهم، بل أجاز أن تشاركوهم بالنسبة مع حفظ المقدار إجمالاً، وكل ذلك تسهيل منه تعالى لكم.

ولعل المقصود من هذا المقطع هو ترغيب الناس في إصلاح أمر الأيتام، فكما أن اللَّه سبحانه سهل عليكم رحمة بكم، كذلك عليكم أن ترحموا الأيتام فلا تأكلوا أموالهم فساداً وطمعاً .

ص: 119

ص: 120

فصل في مسائل النكاح

اشارة

ص: 121

ص: 122

فصل في مسائل النكاح

أولا: من يجوز نكاحهن

الآية 221

«وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)»

221 - وحيث ذكرت الآية السابقة مخالطة اليتيم انتقلت هذه الآية إلى المخالطة بالزواج : «وَلَا تَنْكِحُوا » أي لا تتخذوهن زوجات «الْمُشْرِكَاتِ » وهم غير المسلمين فإنَّ أولئك يشركون باللَّه غيره «حَتَّى يُؤْمِنَّ» يُصَدِّقن باللَّه وبالرسول وبالمعاد، « وَلَأَمَةٌ»مملوكة « مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ » حرة، «وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ » المشركة لمالها أو جمالها أو حسبها أو نسبها، لأن الملاك هو الإيمان فذلك الباقي، أما الاعتبارات الدنيوية فهي زائلة. «وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ»لا تزوجوهم المؤمنات « حَتَّى يُؤْمِنُوا

ص: 123

وَلَعَبْدٌ » مملوك «مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ »حرٍّ، وسبب هذا التحريم أن« أُولَئِكَ »المشركين والمشركات «يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ » أي الكفر المؤدي إلى دخول النار، ودعوتهم إما بالقول وإما بالتأثير العملي، فإنَّه يتأثر كل من الزوجين بأخلاق الآخر، وحيث إن المشركين والمشركات يدعون إلى النار وكذلك التأثير على الأولاد، فحقّ على المسلمين والمسلمات أن لا يخالطوهم، «وَاللَّهُ»خلق الناس لعبادته فهو تعالى « يَدْعُو إِلَى»إلى ما يوجب « الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ » فلا يشرّع ما يبعد الناس عنهما، ولذا حرّم هذا الزواج، «بِإِذْنِهِ »أي بلطفه بعباده المؤمنين وتوفيقه إياهم إلى الإيمان فلذا ينهاهم عن كل ما يبعدهم عنه، «وَيُبَيِّنُ » اللَّه «آيَاتِهِ »أحكامه وحججها «لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ »ما أودعه اللَّه في فطرتهم، وهذا الحكم أیضاً ما تكتشفه الفطرة.

بحوث

الأول : ذكرنا السياق العام لهذه الآيات، وأما ترتيب هذه الآية وارتباطها بما قبلها ، ففي المجمع : لما تقدّم ذكر المخالطة بیّن تعالی من يجوز مخالطته بالنكاح(1). وفي التقريب : ولعلّ الارتباط العام بين هذه الآية والآيات السابقة، أنَّها انتهت إلى حكم اليتيم، فاللازم بيان العش

ص: 124


1- مجمع البيان: ج 2، ص 128.

الذي يتربَّى فيه الفراخ، و أنَّه كيف يلزم أن يكون لينشأ الأولاد صالحين أصحاء جسماً وعقلًا وعاطفة(1).

وحيث إنه تعالى أراد ذكر أحكام الأسرة، صدّر تلك الأحكام بالزواج، وابتدأ تعالى بالحظر عن النكاح المضرّ، وهو النكاح مع أهل الشرك، لأن جميع أحكام الأسرة تبتني على تحقق النكاح، ولذا كان لا بد من تقديم ذكره، وابتدأ بالتحذير من الاغترار بالمظاهر المادية الزائفة ، و أنَّه لا بد أن يبتنى الزواج على الإيمان الذي يتحقق به الاطمئنان النفسي والفكري وكذلك الاطمئنان الديني - وهو الأهم -.

فبيَّنت الآية لزوم الكفاءة بين الزوجين في الدين، وهذه هي الكفاءة التي أقرها الإسلام، أما الاعتبارات المادية أو العرفية فلا دخل لها في الكفاءة الشرعية، فالعبد المؤمن كفؤ للحرة المؤمنة، والأمة المؤمنة كفؤ للحر المؤمن، فما في بعض المذاهب من تعميم الكفاءة إلى القومية أو النسب أو الثروة مخالفة صريحة لهذه الآية الكريمة.

ثم إن سبب اشتراط الكفاءة في الدين هو أن اللَّه تعالی بیده التكوين والتشريع، وكلاهما متطابقان ولا يعقل تخالف تشريعه مع نظام تكوينه ، فلذا كان التشريع بيده تعالى لا بيد غيره كما قال سبحانه «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ »الی قوله «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ »(2). فإنَّ الخالق هو المشرع، وقال «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ »(3)، فلا يعقل أن يكون الذي يخلق غير الذي يختار

ص: 125


1- تقريب القرآن ج 1، ص 267.
2- سورة آل عمران، الآيات: 3- 6.
3- سورة القصص، الآية: 68.

المبلغين عنه، وحيث إنه سبحانه خلق الناس ليعبدوه فلا يعقل أن يشرّع ما يبعّد الناس عن عبادته فإنَّ في ذلك نقضاً للغرض وعبثاً، ولذا كل أحكامه تعالي تصب في اتجاه عبادته، قال سبحانه «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا »(1)، أي لم يشرّع ما يجعل الكفار مسلطين على المؤمنين، فلذا لا ولاية للأب الكافر على ابنه المسلم، ولا يصح شراؤه للعبد المسلم، وإن أسلم عبده أجبر على بيعه، ولا يصح نکاح المسلمة من الكافر لأن للزوج ولاية على زوجته، ولو أسلمت الزوجة بانت من زوجها الكافر إلّا أن يسلم هو في عدتها فهو أحق بها حينئذ، ولا يقتل المسلم بالكافر - ولو كان ذميّاً -، ولا تجوز إمارته على المسلمين وهكذا.

والحاصل أن اللَّه سبحانه جعل توافقاً تاماً بين التكوين والتشريع، نعم خلق الإنسان مختاراً وإذا حصل هناك خلل فبسبب سوء تصرفات الإنسان قال سبحانه «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ »(2) .

الثاني : قوله تعالى «وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ»

بالتتبع في الآيات القرآنية يظهر أن هناك ثلاثة استعمالات - أو مصطلحات .

1- «الَّذِينَ آمَنُوا» يراد به المسلمون - حتى وإن كانوا منافقین - ولذا قال تعالى«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا »(3) .

ص: 126


1- سورة النساء، الآية: 141.
2- سورة الروم، الآية: 41.
3- سورة النساء، الآية: 139.

2 - « أَهْلُ الْكِتَابِ»(1)التي يراد به اليهود والنصارى فقط، وأما المجوس فهم داخلون في حكمهم لا أن الخطاب يشملهم .

3- و« الْمُشْرِكُونَ »هم عباد الأصنام الذين أشركوهم في عبادتهم لله تعالى، ولذا كان هناك تقابل بينهم وبين أهل الكتاب في قوله تعالى «مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ »(2)

. وهذا الاصطلاح لا ينافي شرك أهل الكتاب، كما أن خطاب ويأيها الذين امواه لا ينافي نفاق بعضهم وشركهم الباطني .

إذا اتضح هذا تبيّن أن هذه الآية غير مخصَّصة ولا ناسخة ولا منسوخة بقوله تعالى«وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ »(3)

نعم قوله تعالى «وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ »(4)قيده قوله تعالى «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ».

وهنا روایات متعارضة دلت على أن إحدى الآيتين ناسخة للآخرى، فلا بد من ردّ علمها إلى أهلها، أو حملها على التقية لأن العامة أیضاً مختلفون في أن أيّهما ناسخة للأخرى، وقد اختلف الفقهاء فيه تبعاً الاختلاف الروايات، والتفصيل في الفقه(5).

ص: 127


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- سورة البقرة، الآية: 105.
3- سورة المائدة، الآية: 5.
4- سورة الممتحنة، الآية: 10.
5- لتفصيل حكم الزواج بالكتابية راجع موسوعة الفقه، ج65، ص190 - 101.

الثالث : قوله تعالى « أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ »

هذا التعليل للتحريم، وهذه الدعوة قد تكون بالتبليغ للشرك، أو بحكم تأثر الجليس بجلیسه، أو بتربية الأولاد على الشرك، فالدعوة إلى النار لا تنحصر في دعوة كل من الزوجين الآخر إلى معتقده بل هي عامة ، فإنَّ المصاهرة توجب ارتباطاً اجتماعياً بين العوائل، فدخول مشرك أو مشركة في أسرة مسلمة سبب لكثرة مجالسته إياهم، ومن المعلوم تأثير الجليس على جليسه ، وكذا الأولاد يتأثرون بآبائهم وأمهاتهم فيكونون عرضة إلى التأثر بالمشرك من الأبوين.

وهكذا كل أهل باطل أو عصيان ينبغي ترك مخالطتهم وترك تزويجهم إذا كان في تلك المعاشرة احتمال التأثر بهم، وفي الحديث: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوِّجوه)(1)، وهناك نهي شديد عن تزويج شارب الخمر (2).

وإن اضطر الإنسان إلى التعامل معهم فليقتصر بالمقدار الضروري، فإذا وصل الأمر إلى التشكيك أو الاستهزاء بالدين تركهم. قال تعالى «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ »(3). بل هناك نهي عن اتخاذ الكفار أولياء، قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ

ص: 128


1- التهذيب ج7، ص 396.
2- الكافي ج 5، ص300.
3- سورة النساء، الآية: 140.

مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)»(1)نعم لا مانع من البِرِّ إلى من لم يحارب الدين وأهله، قال تعالى «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)»(2).

وحيث إن تأثر المرأة بزوجها كبير جدّاً فلذا لم يجوز الشرع تزويجها إلى مطلق الكفار حتى أهل الكتاب ، بل يكره زواجها من أصحاب المذاهب الباطلة من المسلمين وقيل بالتحريم، وعن الإمام الصادق عليه السلام : تزوجوا في الشُّکّاك، ولا تزوّجوهم، المرأة تأخذ من أدب زوجها(3).

والحاصل : أن الغرض من تقديره تعالى الزواج هو الاطمئنان، قال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا » (4)،والزواج من المشركين والمشركات سبب للشقاء والعذاب فلذا لم يشرعه تعالی بل منع عنه .

الرابع : قوله تعالى« وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ » .

1- أي وحيث إن اللَّه يدعو إليهما، فلذا لا يشرّع ما يبعّد عنهما، فمعنی دعوته هو أنَّه يشرع الأحكام تکليفاً ويثبت الحق تكويناً كما قال

ص: 129


1- سورة الممتحنة، الآية: 1.
2- سورة الممتحنة، الآية: 8.
3- الكافي ج 5، ص368.
4- سورة الروم، الآية: 21.

«وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)»(1)، وكذا يرسل الرسل والمبلغين عنه .

2. وقيل : المعنى أن العبد المؤمن والأمة المؤمنة . وكذا كل زوج مؤمن وزوجة مؤمنة - يدعون إلى الإيمان امتثالاً لأمره تعالى وذلك يوجب الجنة والمغفرة، وحيث إنهم كانوا الواسطة في الدعوة والداعي الحقيقي هو اللَّه تعالى لذلك نسبت الدعوة إليه تعالى، فحاصلى المعنى أن اللَّه يدعو إليها وحيث إن المؤمنين يمتثلون أوامره تعالى فالزواج منهم يكون سبباً لبناء حياة مشتركة مبنية على الإيمان فتكون النتيجة هي الإيمان والطاعة وذلك استجابة لدعوته تعالى إليهما .

3- أو المعنى أن اللَّه تعالى يدعو إلى ما يكون سبباً إلى الوصول إلى الجنة والمغفرة لذا فهو يدعو إلى الزواج من المؤمنين والمؤمنات .

وقوله تعالى «وَالْمَغْفِرَةِ »بمعنى عدم العقاب وعدم دخول النار، كقوله تعالى « فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ »(2)، فالآية بيان لدخول الجنة وعدم دخول النار، حيث يمكن أن يدخل الإنسان النار بمعاصيه ثم بعد تطهيره تناله الشفاعة فيخرج منها إلى الجنة ، لكنه تعالی الرأفته يدعو المؤمنين إلى الالتزام بما يبعدهم عن النار دائما ويجعلهم مشمولين بلطفه ورحمته بغفران ذنوبهم وعدم معاقبتهم عليها، فقوله وبإذنده بمعنى بلطفه وتوفيقه، وقد مرّ أن دخول الجنة تفضل منه تعالى، وأن غفران الذنوب تفضل آخر من غير استحقاق.

ص: 130


1- سورة يونس، الآية: 82
2- سورة آل عمران، الآية: 180.

ثانيا: أحكام الزوجية

الآيتان 222 - 223

«وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)»

«نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)»

222 - بعد حكم أصل الزواج يأتي دور بعض خصوصیاته «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ » عن تكليف الأزواج حال حیض زوجاتهم «قُلْ هُوَ أَذًى»أي مكروه يصيبهنّ « فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ »بترك مباشرتهن «فِي الْمَحِيضِ » في زمانه أو مكانه، وهذا الاعتزال ليس بمعنی ترکهن بل «وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ » بالوطء «حَتَّى يَطْهُرْنَ » نقاء من الدم.

ثم إنه تعالی بین حکم الوطء : «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» من المحيض « فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ » أي أباحه بأن يكون حلالاً لا حراماً ، فلا توطأ إلّا الزوجة والمملوكة في غير صوم ولا اعتکاف ولا إحرام ولا أمثالها .

وحيث إن الكثيرين تغلبهم الشهوة فإنَّ اللَّه فتح باب التوبة وإن «إِنَّ

ص: 131

اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ »يجازيهم، «وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ »يراعون الطهارة ممتثلين لأوامره ونواهيه ولذا منع عن إتيانهن في حالة الحيض وأوجب الغسل .

223 - وإنما قدّر اللَّه الحيض لهن مع أنَّه أذى، لأن إنجاب النساء متوقف عليه عادة ف-«نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ »كالمزرعة فكما تراعون حرثكم فعليكم مراعاتهن، وكما أن الزرع ليس في كل الأوقات كذلك إتيانهنّ «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ » بأية كيفية وفي أي زمان ومكان إلّا ما نهيتم عنه، فالأصل هو جوازه وموارد التحريم استثناء .

وحيث علمتم الحلال من الحرام، فالتزموا بهما «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ » بالعمل الصالح،«وَاتَّقُوا اللَّهَ »بترك المعصية، «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ »أي تلاقون جزاءه، «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ »بأن جزاءهم الجنة .

بحوث

الأول : قوله تعالى «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ » .

«الْمَحِيضِ »هنا مصدر ميمي، والمراد السؤال عن تكليف الأزواج في حال حيض زوجاتهم، حيث كان اليهود والنصارى بين إفراط وتفريط، فكانت النصارى يأتونهن كسائر الأيام، وكانت اليهود يجتنبوهن حتى في المسكن والمأكل، والعرب الجاهليون بين متبع لليهود وبين متبع للنصارى، فبينت الآية أن التكليف هو الوسط بين إفراط أولئك وتفريط

ص: 132

هؤلاء، فالممنوع هو الوطء فقط، وأما سائر الأمور- من المأكل والمسكن ونحوهما - تكون الحالة الحالة الاعتيادية .

ويحتمل أن يكون سؤال عن علة الحيض، فلماذا قدّر اللَّه تعالى لهن ذلك، فيكون الجواب لبيان العلة مع إضافة بيان أحكام الحيض، فقوله «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ » يكون علّة لحيضهن، فإنَّ الإنجاب هو السبب، وكما ثبت في العلم الحديث فإنَّ الرحم ينتج بويضة فتبقى في الرحم لأيام وتنعقد النطفة إن خُصّبت هذه البويضة بالحيمن المنوي، وإن لم تخصب فسدت وسببت جرحاً في الرحم، فيلقيها الرحم عبر الدم الذي يُسمى حيضاً ، ولذا يكون عدم الحيض نقصاً في المرأة لأنَّها لا تكون قادرة على الإنجاب، نعم قد يكون هناك حالة استثنائية بأن لا تطمث مع قدرتها على الإنجاب فيكون عدم الطمث فضيلة لها، ومن معاني (البتول) الانقطاع عن الدم من غير نقص .

الثاني : قوله تعالى«قُلْ هُوَ أَذًى».

(والأذى) هو ما يصيب الإنسان من مكروه في نفسه أو جسمه، سواء كان ضرراً أم لا، وسواء كان فيه مشقة أم لا . والمحيض يترك آثاراً جسميّة ونفسية في النساء، بالضعف والقذارة والحساسية النفسيّة ونحوها . ولذا فإنَّ الشرع - ومراعاة لظروفهن الخاصة - شرّع جملة من الأحكام شخصية واجتماعية وعبادية، كسقوط العبادة عنهن، وعدم جواز وطئهن، وعدم صحة طلاقهن، فكونه أذى علة لهذه الأحكام.

فلا معنى للقول بأنَّه أذى للرجال أيضاً بترك المباشرة، فإنَّ هذا التشريع هو معلول للأذى وليس علّة له .

ص: 133

أما سقوط الصلاة فلأجل نجاسة الدم وعدم التمكن من السيطرة على نزوله فتكليفها به يستوجب إما رفع اشتراط الطهارة في الصلاة وهذا لا يناسب العبادة، وإما إلزامها بالطهارة وهذا تصعيب عليها وحرج. نعم لو كانت هناك مصلحة أهم أمكن الأمر بالصلاة، كالمستحاضة حيث يجب عليها الصلاة، ولعلّ ذلك لئلا تنقطع عن العبادة لفترة طويلة فإنَّ للحيض مدة معلومة قصيرة - بين الثلاثة والعشرة أيام -، وليس للاستحاضة مدة معينة فقد تستمر لأيام طويلة فلم يكن من الصالح انقطاعها عن ذكر اللَّه ، فلذا وجب على المستحاضة الصلاة لكن مع غسلها من الدم، وقد يجب عليها الاغتسال، والتفصيل موكول إلى الفقه.

وأما سقوط الصوم، فلأن النزيف يوجب الضعف والحاجة إلى الطعام والشراب . عادة فتمّ تسهيل الأمر عليها، هذا مضافاً إلى أن شأن العبادة أجل من أن تؤتي في هذه الحالة.

بل عليها قضاء الصوم في أيام أخر، وأما الصلاة فإنَّ تشريع قضائها كان فيه من الصعوبة بمكان - لكثرة الصلوات وصعوبة قضائها عکس الصوم - فلذا سقط عنها قضاء الصلاة دون الصوم.

ومن أحكامها الاجتماعية : عدم صحة طلاقها، ولعلّ من أسباب هذا التشريع هو مراعاة نفسيتها، لأن المرأة تكون حساسة جدّاً في حال الحيض، والطلاق من أسوأ ما يؤثر في نفسيتها، هذا مضافاً إلى جهات أخرى ترتبط بالطلاق نفسه - مثل تصعيب الطلاق بتكثير شروطه، وكذا تأجيله لعلّه تخمد سورة الغضب ويتراجع الزوج عن الطلاق، وسيأتي بعض التفصيل في الآيات اللاحقة إن شاء اللَّه .

ص: 134

الثالث : قوله تعالى «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ »

« الْمَحِيضِ » هنا بمعنى الزمان أو المكان - لذا كرر كلمة « الْمَحِيضِ »؟ من غير إرجاع الضمير -، فالمعنى اعتزلوهن مدة الحيض، أو في مكان الحيض - وهو الفرج - فلا مانع من سائر الاستمتاعات الأخرى غير الوطء، والظاهر أن قوله «وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ» عطف تفسيري على «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ »، ببيان أن الاعتزال المطلوب هو ترك الوطء، وليس معناه ترك مساكنتهن ومؤاكلتهنّ، ولا اعتزالهن بالقلب - فإنَّ الاعتزال قد يكون بالابتعاد جسماً وقد يكون بالبراءة قلباً وقد يكون بترك عمل - .

وقوله « يَطْهُرْنَ »بمعنى النقاء من الدم وانقطاعه وليس المقصود الغسل، فلذا يجوز الوطء قبله كما وردت به الروايات، وإن كان الأفضل الانتظار إلى ما بعد الغسل ولا أقل من التنظيف أولاً، وقد يكون سبب الإذن هو التسهيل عليهن لصعوبة الاغتسال مرّتين - مرّة من الحيض ومرّة أُخرى من الجنابة - فلذا أُبيح الوطء بعد انقطاع الدم وقبل غسل الحيض، فتأمل .

الرابع : قوله تعالى «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ».

(التطهر) هنا بمعنى الفعل المجرد أي فإذا طَهُرن بانقطاع الدم، وليس معنى (التطهر) هو فعل الطهارة بالغُسل أو الغَسل، وقد يستعمل باب (التَّفَعُّل) بمعنى المجرد مثل (تبيّن) بمعنى (بان) كقوله «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ »(1).

وليس هذا المقطع تكرار لمفهوم قوله «وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ»

ص: 135


1- سورة البقرة، الآية: 187.سورة البقرة، الآية: 187.

- حيث إن مفهوم الغاية هو جواز الاقتراب بعد الطهر بل الغرض مختلف :

1 - إن بيان «مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ »لا يتم إلّا بذكر «فَأْتُوهُنَّ » .

2- وإن قوله «فَأْتُوهُنَّ »كالمقدمة لقوله «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ » .

3 - وإن قوله «فَأْتُوهُنَّ » للدلالة على منَّته تعالى على العباد حيث أباح لهم الطيبات، وحيث إن المنع في حال الطمث كان لمصلحة لذا عقّبه بالامتنان على الناس بإباحة الوطء، وتقديم المنع على الإباحة أوقع في النفوس وأدلّ على الامتنان - عادة - .

الخامس : قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ».

حيث إن الصبر عن المباشرة في حال الحيض صعب على كثير من الناس وخاصة من أصيب بالشبق، فإنَّه تكثر المخالفة للأحكام المانعة عن المباشرة، نظير قوله «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ » (1). وقد مرّ بيانه، لذلك أمرهم اللَّه تعالى بالتوبة، ثم عقبه بقوله «وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » وهم الذين لم يختانوا أنفسهم فالتزموا بالأحكام، وحيث إن هؤلاء طائفتان، فالتوابون الذين أخطأوا ثم تابوا، والمتطهرون هم الذين التزموا ، لذلك كرر تعالى كلمة (يحب)، أو لأن من البلاغة تكرار ما تستأنس به النفوس وفي ذلك زيادة ترغيب . ثم إن الآية عامة، وما يرتبط بأحكام الحيض من مصاديقها ، وبعبارة أخرى إن قوله « يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » قانون عام كلي، جيء به هنا كالعلة لأحكام الحيض، وليس في ذلك حصر، فما ورد في التفاسير

ص: 136


1- سورة البقرة، الآية: 187

إنما هو ذكر بعض المصادیق : مثل تفسير المتطهر بالمرأة التي تغتسل بعد الحيض، والرجل لا يواقع إلّا في حالة الطهر، وکالتطهر بالماء من القذارات الظاهرة وبالاستغفار عن الذنوب.

وأما ما قيل من أن «إالتَّوَّابِينَ»من الكبائر و«الْمُتَطَهِّرِينَ »من الصغائر، فلا وجه له فلا هو ظاهر اللفظ ولا وردت به الروايات.

ثم إن التوابين صيغة مبالغة، وقد يكون المعنى كثرة التوبة عن كثرة الذنوب، فيكون باب التوبة مفتوحاً حتى إذا كثرت الذنوب وكثرت التوبة عنها ثم نقضها، وقد يكون المعنى شدّة التوبة حتى وإن كانت من ذنوب قليلة كما مرّ نظير ذلك في قوله « يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ »(1)فقد قيل إنهم كانوا اثني عشر، وكقوله« وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ »(2)، وكانت سبعة، لكن استعمل باب التفعّل دون المجرد ليس للتكثير بل للتهويل واستعظام الأمر.

«الْمُتَطَهِّرِينَ » أیضاً مطلق، وحذف المتعلّق يفيد العموم، ف اللَّه تعالى يحب كل أنواع الطهارة عن كل شيء قذر يتطهَّر منه .

السادس : قوله تعالى«نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ » .

لعلّ ارتباط هذه الآية بما قبلها هو:

1- إن الحيض لأجل الإنجاب، فمع كونه أذى هو مصلحة للإنسان الاستمرار النسل، فلذا قدّره اللَّه تعالی.

2 - إنه تعالى حيث أمر بإتيانهن، بين أن إباحة الوطء ليس لمجرد اللهو، بل الغرض الأصلي هو استمرار النسل، وأما جعل الشهوة فيه

ص: 137


1- سورة القصص، الآية: 4.
2- سورة يوسف، الآية: 23.

فلأجل أن الالتزام بالأسرة وبتربية الأولاد من الصعوبة بمكان، ولولا شعور الإنسان بحاجته إليه لما أقدم على الزواج والإنجاب وفي ذلك انقطاع للنسل، فإنَّ العبادة في قوله تتوقف على العابد، ولذا قال تعالى «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ »(1)أي من الولد، هذا مضافاً إلى أن الاختيار والاختبار يتوقفان على تمكن الناس من الخير والشر، والرغبة الجنسية من أقوى وسائل الامتحان .

ثم إن وجه تشبيه النساء بالحرث - مضافاً إلى بيان الغرض من المباشرة - هو الإشعار بلزوم مراعاتهن، فكما يرعى الزارع زرعه كذا ليرع الزوج زوجته بما يصلحها، وكما أن هناك أوقاتاً يترك فيها الحرث لعدم صلاحية التربة له كذلك هناك أوقات يلزم ترك المباشرة كزمان الحيض، أو لعلّه كالتعليل لخلق الإنسان رجلاً وامرأة وعدم خلقهم بشكل واحد حيث إن بقاء النسل يحتاج إلى المحل القابل للنمو والتربية ، فلذا كان دور الرجل الكد والعمل ودور المرأة الحمل والإنجاب والرضاعة، ولذا كان الاختلاف في الجسم وفي العواطف، فكل من الرجل والمرأة خلق - جسماً ونفساً - بما ينسجم مع دوره .

السابع : قوله تعالى «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ...»الآية.

أي ادَّخروا لآخرتكم بالطاعة والعمل الصالح، قال تعالى« وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ »(2)، والمقصود هو أن عليكم معاملة زوجاتكم بالتي هي أحسن كما قال «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » (3)فيكون هذا

ص: 138


1- سورة البقرة، الآية: 187.
2- سورة البقرة، الآية: 110.
3- سورة النساء، الآية: 19.

العمل الصالح زيناً لكم في الآخرة وذلك لأن سلطة الزوج قد توجب تعديه على الزوجة، لذلك حسن تنبيهه بأن عمله ينتظره في الآخرة و أنَّه يجازي عليه، وقيل: المقصود هو أن لا يكون غرضكم هو الشهوة فقط بل اطلبوا الولد الصالح فإنَّه يبقى لكم ذخراً، أو لأن الغرض من بقاء النوع البشري هو العبادة، فاستمرار النسل طريق له وفي ذلك تحفيز بتربية الأولاد، فتأمل .

ثم في الآية حث على الطاعة «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ »، وزجر عن وزجر عن المعصية «وَاتَّقُوا اللَّهَ »، وإخبار بالجزاء «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ »أي تُجازَون على للقوة أعمالكم، وبشارة للمطيعين «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ».

ص: 139

ثالثا: الإيلاء

الآيات 226-227

«وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)»«لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)»«لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)»

224 - ثم يأتي الكلام حول بعض مشاكل الحياة الزوجية، ومنها الإيلاء وهو حلف بترك مباشرتها على سبيل الإضرار بها، وقبل بیان حكم الإيلاء يذكر سبحانه وتعالى حكم مطلق الحلف فقال : «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً»معرضاً « لِأَيْمَانِكُمْ »بأن تحلفوا به لأجل ترك «أَنْ تَبَرُّوا » ترك البِر، «وَ» أن «َتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ» فللفرار من هذه الخيرات تحلفون به تعالی فتجعلون اسمه ذريعة لترك الخير من أنَّه تعالى هو الأمر بالخير فلا تحتجوا بالحلف به لترك الخير، وفي هذا المقطع معنى آخر سنذكره في البحوث،« وَاللَّهُ سَمِيعٌ » لأيمانكم «عَلِيمٌ » بنياتكم.

220 - «لَا يُؤَاخِذُكُمُ » بالعقاب ولا بالكفارة «بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ » بأن لا يكون القسم مقصودة بل جرى على اللسان من غير قصد لأجل

ص: 140

التعود به - مثلاً - «وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ»بالعقاب والكفارة « بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ »بالقسم الذي قصدتموه ثم خالفتم، «وَاللَّهُ غَفُورٌ » لمن خالف ثم تاب «حَلِيمٌ » فلا يعاجل بالعقوبة .

226 - 227 - وبعد بيان حكم الحلف يتم بيان حكم أحد مصاديقه المرتبط بالحياة الزوجية «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ»والإيلاء وهو الحلف على أن لا يباشرها أكثر من أربعة أشهر على وجه الإضرار بها، فهؤلاء يحق لهم « تَرَبُّصُ»انتظار« أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» ففي هذه الفترة يفكرون ليقرروا مصير حياتهم الزوجية،« فَإِنْ فَاءُوا» أي رجعوا عن اليمين وذلك بدفع الكفارة « فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ »لا يعاقبهم على حنث اليمين «رَحِيمٌ »بهم حيث أباح الحنث هنا وذلك لمصلحة بقاء الحياة الزوجية، وإن عزموا الطلق أي قصدوه ثم أوقعوه « فإنَّ اللَّه سميع لطلاقهم وعليم بنياتهم

بحوث

الأول: قوله تعالى «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)»

أي لا تجعلوه معرضاً للحلف بأن تحلفوا به، و«العُرضة» هي كل ما يصلح لشيء كما يقال الكتاب عرضة للبيع أي صالح له، وذلك لأنَّه تعالى أجلّ وأعلى من أن يؤتى باسمه لعرض الدنيا الزائلة، أو للأغراض الفاسدة .

وتدل الآية على حكمين - تكليفي ووضعي

ص: 141

1 - أما التكليفي فهو المنع عن الحلف به تعالى، فإن كان كاذباً فهو منع تحريم، وإن كان صادقاً فهو منع تنزيه وكراهة .

2 - وأما الوضعي فهو عدم تأثير هذا الحلف في الموارد المذكورة في الآية وتعددت الروايات في تفسير الآية، ففي بعضها ذكر الحكم الوضعي وفي جملة منها ذكر الحكم التكليفي، وفي رواية جمع بين الحكمين، قال : لا تحلفوا باللَّه صادقين ولا كاذبين، فإنَّ اللَّه يقول «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ »، قال: إذا استعان رجل برجل على صالح بينه وبين رجل فلا يقولن : إن عليّ يميناً ألّا أفعل وهو قول اللَّه عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ...» (1).

والحاصل أن الحلف لا يغير الشيء المحلوف عليه عن واقعه، فلا يصير بالحلف الحسن قبيحاً ولا القبيح حسناً، ولذا ذكر الفقهاء عدم انعقاد اليمين على المرجوح مطلقاً .

وفي الآية تحذير لمن يريدون جعل اسم اللَّه تعالى ذريعة لأهوائهم، فلكي لا يعترض عليهم أو ليصرفوا الأذهان عن باطلهم يتذرعون بالدين، فإن تمكنوا حرّفوا الألفاظ - كما فعله أهل الكتاب -، وإلا حرّفوا المعاني أو تلاعبوا بالأحكام الشرعية، والحلف باللَّه من تلك الطرق، فلذا اللَّه تعالى عن ذلك وبين القاعدة العامة بأن الفعل الحسن لا يصبح منهيّاً عنه بالحلف، وكذا العكس .

الثاني : قوله تعالى« أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ »

ص: 142


1- البرهان: ج2، ص 184، عن تفسير العياشي.

بتقدير (لا) النافية أي لئلا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا، ويكثر حذف لا الناهية مع وجود قرينة عليها كقوله تعالى « يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا »(1) أي لئلا تضلوا أو مخافة أن تضلوا . وقيل : المعنى أن اللَّه تعالى أجل من أن تحلفوا به لأجل هذه الأمور المحبوبة فكيف بغيرها ، فعلى هذا المعنى لا تقدير لحرف النفي .

وقيل : « أَنْ تَبَرُّوا ...» هو علة أي أنهاكم عن الحلف باللَّه لأجل إرادة برِّكم وتقواكم وإصلاحكم .

لكن الصحيح هو ما ذكرناه أولاً لأن الروايات فسرت الآية به فراجع البرهان(2)، ويؤيده قوله تعالى«وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »(3) أي لا يحلف الأغنياء منكم على أن لا يؤتوا من أموالهم صدقة لهؤلاء المذكورين .

ثم إن قوله «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ ...» تدل على النهي عن مطلق الحلف به تعالى لأجل هذه الأمور، وليس النهي خاصة بكثرة الحلف، إذ بالحلف مرّة واحدة يصدق جعله تعالى عرضة لليمين، وأما قوله «لِأَيْمَانِكُمْ » فإنَّما هو باعتبار المجموع حيث خاطبهم بقوله «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ ...» نعم كثرة الحلف مذموم أكثر، فإنَّه مظنة الكذب والمخالفة ولذا قيل من كثر يمينه يوثق بقوله، قال تعالى«وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ »(4)

هذا حال الحلف لترك الأمور الحسنة، وأما الحلف لأجل أمر اللَّه

ص: 143


1- سورة النساء، الآية: 176.
2- البرهان ج2، ص183 - 184.
3- سورة النور، الآية: 22.
4- سورة القلم، الآية: 10.

تعالى كأن يقول: «و اللَّه إنكم لتحاسبون يوم القيامة» أو «و اللَّه إن الغيبة محرمة»، ونحو ذلك مما يراد به الوعظ والإرشاد فلا بأس به. وكذا الحلف إذا كان بأمر اللَّه تعالى كاليمين صادقاً في المحاكم إذا أراد به إحقاق حق أو إبطال باطل، وإذا دار الأمر بين التنازل عن بعض حقوقه المالية وبين الحلف فالأفضل ترك الحلف .

ثم إن الحلف قد يكون في الإخبار عن الماضي، فإن كان كاذباً فهو محرّم ولا كفارة عليه، وقد يكون تأكيداً للطلب مثل أن يقول : «أسألك باللَّه إلّا ما فعلت كذا»، وهذا لا يترتب عليه أثر لا على السائل ولا على المسؤول منه، وقد يكون تأكيد لما سيفعله كأن يقول: «و اللَّه سأصوم غداً»، وهذا يجب الالتزام به إن لم يكن مرجوحاً، وإن حنث وجبت عليه الكفارة كما قال تعالى: «لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ»(1) ثم إن تخصيص هذه الثلاثة - البر والتقوى والإصلاح - بالذكر إما لأنَّها أهم الأمور، أو لأن سائر الأمور ترجع إليها، أو لأن غالب حلف الناس يتعلق بها

الثالث : قوله تعالى«لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ... »الآية .

(اللَّغو) من الكلام هو الهذر الذي لا فائدة فيه، والمعنى هنا هو عدم قصد الحلف ولكن يجري القسم على لسانه للتعود ونحوه، ككثير من الناس الذين يملؤون كلامهم بقولهم «لا والله» و«بلى والله» .

ص: 144


1- سورة المائدة، الآية: 89.

والمؤمن هو الذي يعرض عن اللغو مطلقاً فلا يلغو ولا يستمع إلى اللغو، قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ »(1)، وقال «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ »(2). ولا يوجد في كلام أهل الجنة لغو، قال سبحانه «لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا »(3).

وقيل : رفع المؤاخذة امتناناً لا يدل على إباحة الفعل، فقد لا يعاقب اللَّه تعالى على المعاصي للشفاعة أو التكفير ونحوهما ، كما قال بعضهم بحرمة الإيلاء مع عدم المعاقبة عليه وكما قالوا بذلك في الصغائر - المعبر عنها ب-«اللمم» -، ومعنى ذلك وجود المفسدة والحزازة والمنقصة في ذلك الفعل فيوجب المنع عن رفع الدرجات كما يوجب ظلمة في القلب ، فله كل آثار العصيان سوى العقوبة، كما قالوا في الصغائر .

وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنّه يخالف ما اصطلحوا عليه في معنى الحرمة والإباحة، ولا مشاحة في الاصطلاح .

الرابع : «وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » .

أي ما قصدتم اليمين وعقدتم النية عليه، كما قال تعالى«لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ »(4).

أي حلفتم عن قصد، وذلك لأن الأعمال بالنيات، فإن كان الحلف لقلقة لسان فهو لا ينعقد ولا كفارة عليه، ولكنه أمر مذموم، وأما

ص: 145


1- سورة المؤمنون، الآية: 3.
2- سورة القصص، الآية: 55.
3- سورة مريم، الآية: 62.
4- سورة المائدة، الآية: 89.

إذا قصد الحلف بأن التزم بأن يفعل أمراً ثم تركه عمداً فهو معصية وفيه الكفارة .

وفي الآية إشعار بأن الكلام الفارغ عن القصد لا اعتبار به ولا يترتب عليه الأثر، فقول العامة بصحة طلاق النائم والساهي والغالط مخالف للقرآن الكريم .

هذا إذا علمنا قصده من عدم قصده، ولكن مع الشك فالأصل العقلائي هو تطابق اللفظ النية - والذي يعبر عنه بأصالة الجِدّ - إذ استقرار النظام الاجتماعي يتوقف على ذلك .

الخامس : قوله تعالى«لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ »

الإيلاء هو الحلف المطلق، واصطلح على حلف خاص هو أن يحلف الرجل بأن لا يباشر زوجته أكثر من أربعة أشهر على وجه الإضرار بها، والآية في بيان حكم الإيلاء :

1 - انعقاد هذا اليمين بالخصوص، فإنَّ اليمين لا تنعقد في الأمور المرجوحة كما مرّ في قوله «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا ...»، لكن في خصوص هذا الحلف - بترك ملامسة الزوجة - شرّع انعقاده .

2 - جواز حنث هذا اليمين بالخصوص مع وجوب دفع الكفارة، ولعلّ سبب ذلك هو مراعاة استمرار الحياة الزوجية وتشريع ما يمنع عن انهيارها، لأنَّه قد يشتدّ خلاف الزوجين بحيث يصلان إلى طريق مسدود، وجعل الطلاق أول الحلول هو إغلاق الباب أمام حلول أخرى قد توجب حلّ المشكلة، ولذا كان الإيلاء حلاً مقدماً على الطلاق، بأن يحلف

ص: 146

الرجل بعدم وطء الزوجة لمدة أكثر من أربعة أشهر، وهذه المتاركة وبمقدار هذه المدة قد توجب خمود سورة الغضب ومراجعة كل من الزوجين لأسلوبه وتصرفاته مع إعطاء المجال للمصلحين لحلّ مشاكلهما وإصلاح بينهما، ولذا قدّم تعالى : الشق الأول - وهو الإصلاح - فقال« فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »، مضافاً إلى أن الفيء أحب إليه تعالى لأن الطلاق أبغض الحلال، فإذا عزم على الرجوع دفع الكفارة ورجع إليها .

3 - وإن لم يجدا حلاًّ وأرادا الانفصال فيطلق الزوج زوجته وعليها عدة الطلاق الرجعي .

وأما قوله « أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» فإنَّ تعيين هذه المدة لأنَّها فترة كافية للتفكير والمراجعة، ولأن في الزيادة على هذه المدة مشقة على الزوجة بترك المباشرة، ولذا كانت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، وقد ذكرت هذه الحكمة في بعض الروايات . فعن الإمام الجواد علیه السلام : فإنَّ اللَّه شرط للنساء شرطاً وشرط عليهن شرطاً - إلى أن قال - فلم يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء، لعلمه تبارك وتعالى أنَّه غاية صبر المرأة عن الرجل، وأما ما شرط عليهن : فإنَّه أمرها أن تعتدَّ إذا مات عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته . . . الحديث(1).

ولذا قالوا بعدم جواز ترك المباشرة لأكثر من أربعة أشهر، وإن رجح بعض الفقهاء وجوب كون تلك المدة متعارفة لقوله تعالى «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ »(2)، وترك وطئها في هذه المدة خصوصاً إذا كانت شابة ليس معاشرة بالمعروف .

ص: 147


1- البرهان ج2، ص186 عن الكافي.
2- سورة النساء، الآية: 19.

ثم إن قوله« يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ »«من» بمعنى «على» أي يحلفون على نسائهم، وقد مرّ أن الحكم إذا تعلق بالذات فإنَّما يراد منه الفعل المقصود منها، وهنا الحلف تعلق بالنساء والمراد مباشرتهن، وقيل لتضمين « يُؤْلُونَ » معنى البعد .

وأما تفصيل أحكام الإيلاء فليطلب من الكتب الفقهية .

السادس: هذه الآيات وصفت اللَّه تعالى تارة «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » وأخرى «وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ »، وثالثة «وَاللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »، وذلك من بلاغة القرآن وفصاحته مع ارتباط هذه الأوصاف بصميم الكلام أو الحكم المذكور في كل آية .

فأما الآية 224 حيث كانت للنهي عن جعله تعالى عرضة للأيمان فناسب التهديد بالمخالفة، فوصف تعالى بأنَّه سميع لما يلغون عليم بنياتهم الفاسدة، وهذا تهديد لهم مضافاً إلى دعوتهم إلى مراقبة أفعالهم .

وأما الآية 225 حيث كانت حول المؤاخذة أو العفو فناسبت وصفه بالغفور حيث لم يعاقب اللاغي ويقبل توبة المتعمد، ووصفه بالحليم أيضاً حيث لم يعاجل المتعمد بالعقوبة بل أمهله عسى أن يتوب، ويكون تقديم الغفور على الحليم من اللّفّ والنشر المرتب لأن اللاغي لا يؤاخذ، والمتعمد يمهل .

وأما الآية 226، فلأن الذي يرجع عن إيلائه ويصلح أمره مع زوجته فإنَّ اللَّه قد يغفر له ذنبه - ولا تخلو الخلافات الزوجية من ارتكاب البعض للمحرمات - أو لأنّ الإيلاء محرّم لكن اللَّه غفر له ذلك، وأنَّه تعالى حيث شرّع الرجوع فإنَّما هو لرحمته بهما . و اللَّه سبحانه العالم .

ص: 148

رابعا: العدة

الآية 228

«وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)»

228 - «وَالْمُطَلَّقَاتُ » كل المطلّقات إلّا ما استثني «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ »ينتظرن، أي يجب عليهن العدة «ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ »أي مدة ثلاثة أطهار، - طهر الطلاق، وطهران بعده فبمجرد انتهاء الطهر الثالث برؤية الحيضة الثالثة تنتهي العدة، «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ » من الولد أو الحيض «فِي أَرْحَامِهِنَّ »، أما كتمان الولد فلتقليل مدة العدة - لأن عدة الحامل وضع الحمل - أو درءاً من رجوع الزوج إليها لشفقته على ابنه، وأما كتمان الحيض بأن تدعي انتهاءه ودخولها في الطهر اللاحق لتنتهي العدة بسرعة، «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ » بأنَّه حكيم فلم يشرع حكم العدة اعتباطاً ولا إضراراً بها، «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » حيث الجزاء على الكتمان وما يستتبعه من تضييع الحقوق وارتكاب محرمات .

ص: 149

«وَبُعُولَتُهُنَّ » أي أزواجهن «أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ »بالرجوع إليهن، أحق منها فلا يحق لها الامتناع، وأحق من سائر الرجال الراغبين في زواجها«فِي ذَلِكَ » في زمان التربص العدة «إِنْ أَرَادُوا »أراد البعولة «إِصْلَاحًا»لا بقصد الإضرار بها لتطول المدة، « وَلَهُنَّ » للمطلقات في حال العدة من الحقوق على أزواجهن «مِثْلُ الَّذِي »لأزواجهن «عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ » أي ما يعرفه العقل والشرع، فلها النفقة والسكني وعليها عدم الخروج من المنزل وأمثال ذلك، «وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ » أي للرجل مزية أن الرجوع بيده لا بيدها،«وَاللَّهُ عَزِيزٌ » غيره يقدر على الانتقام ممن خالف الأحكام، «حَكِيمٌ » بتشريعه الأحكام لمصالحَ وحِكَم.

بحوث

الأول: إن تشريع الأحكام إنما هو لمصالح وحكم، ولم يشرع اللَّه تعالى الطلاق إلّا لضرورة هذا التشريع، وذلك لأن الحياة الزوجية قد تصل إلى طريق مسدود، فيدور الأمر بين فرض استمرارها بما فيها من استمرار للمشاكل الأسرية والاجتماعية وما قد يؤدي ذلك إلى المتاركة والانحراف، وبين السماح بالانفصال ليشق كل من الزوجين طريقه في الحياة وليختار من الأزواج ما هو أنسب له، ومن الواضح أن الفطرة والعقل يقتضيان الثاني .

ولا يخفى أن القرآن حثَّ على الزواج بشدة، قال تعالى «وَأَنْكِحُوا

ص: 150

الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ »(1)، ولم يأمر بالطلاق بل شرّع أحكامه فقط، ولذا سهّل أمر الزواج فلا يشترط فيه إلّا رضا الطرفين ورضا ولي أمر المرأة - في بعض الصور -، في حين أنَّه صعَّب أمر الطلاق فيجب فيه حضور شاهدين عادلین لقوله تعالی «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ »(2)، ولم يشترط حضور الشهود في الزواج نعم يستحب ذلك، كما لا يصح الطلاق في حال الحيض وفي الطهر الذي واقعها فيه، وكل ذلك تحديد للطلاق واستمهال للزوجين للتفكير في العواقب، كما جعل الإسلام العدة في الطلاق، ومدتها ليست بالقصيرة، مع إمكان الرجوع في العدة، كل ذلك لكيلا يكون الطلاق بمجرد انفعال نفسي ولإعطاء المهلة للتفكير ومداخلة المصلحين.

كما أن الطلاق هو آخر الدواء، فقبله تشريعات قد تساهم في حل المشكلة من جذورها، فبعضها يرتبط بالزوج کالوعظ والهجر والضرب، قال سبحانه «وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ »(3)، وبعضها يرتبط بالأقرباء قال تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا »(4) وبعد ذلك الرجوع إلى الحاكم الشرعي كما قال «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا »(5) ، وإن لم تنفع كل هذه الحلول فلا طريق آخر إلّا الطلاق أو استمرار حياةٍ زوجية تعيسة مع ما تستتبع من المشاكل،

ص: 151


1- سورة النور، الآية: 32.
2- سورة الطلاق، الآية: 2.
3- سورة النساء، الآية: 34.
4- سورة النساء، الآية: 35.
5- سورة المجادلة، الآية: 1.

ولذا شرّع اللَّه تعالى الطلاق مع أنَّه يبغضه وفي الحديث : (ما من شيء أحلّه اللَّه عزَّوجلَّ أبغض إليه من الطلاق)(1).

هذا مع أن الإسلام شرّع عدة أحكام تستلزم سعادة الحياة الزوجية، فلا تبقى مشاكل وفي ذلك حلّ لمشكلة الطلاق من أساسها، قال تعالى«وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ »(2). وقال سبحانه« لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » (3)كما حرّم النشوز وهو من أهم أسباب الخلافات الزوجية .

الثاني : قوله تعالى «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ».

هذا هو التشريع العام في التشريع العام في العدة ثم استثني من ذلك في أدلة أخرى الحامل، والتي لا تحيض، واليائسة، والصغيرة، وغير المدخول بها والأمة.

ودأب القرآن في التشريع هو ملاحظة الحالة الغالبة ثم تشريع حكم عام على ضوئها، ثم إخراج الحالات القليلة والاستثنائية بأدلة أخرى، وإنما يشرع الحكم العام لأجل الرجوع إليه في حالات الشك أو الفروض والصور الجديدة .

وحيث إن الطلاق عادة للزوجات المدخول بهن والحالة الطبيعية للنساء الشابات هو الحيض، وأما اليائسة فيندر طلاقها لأن المشاكل إن كانت توصل الزوجين إلى الطلاق فإنَّ ذلك يكون في بداية الحياة الزوجية

ص: 152


1- الكافي: ج6، ص 54.
2- سورة النساء، الآية: 19.
3- سورة الروم، الآية: 21.

أو في منتصفها عادة لا بعد بلوغ الخمسين والستين، وكذا يندر تحقق المشاكل بين الزوجين قبل الدخول، كما يندر عقد الصغيرة أو تحقق المشاكل في عقدها، وكذا يقل الزواج بالإماء، لأجل ذلك كلّه كانت الحالة العامة هو طلاق الحرائر الشابات المدخول بهنَّ اللاتي يحضن، فلذا جاء التشريع الأوليّ العام حسب الحالة الغالبة .

وأما قوله « يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ »، ففيه معنى منع النفس عن الرغبة في المباشرة، ولذا قيل: فيه بعث لهن على الصبر عن التزويج بقمع نفوسهن الطموح إلى الرجال(1)، حيث إن المطلقة قد ترغب في المباشرة لطول المدة أو أنَّها ترغب في التعجيل في الزواج برجل آخر لاعتبارها انقطاع عصمتها بزوجها الذي طلقها .

ثم إن قوله« يَتَرَبَّصْنَ »على صيغة الإخبار، فلأن الجملة الإخبارية أكد في الأمر والنهي من الجملة الإنشائية، فكأنَّ المكلف امتثل الأمر فصار يخبر عنه .

الثالث : قوله تعالى «ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ».

مادة «ق رأ» بمعنى الجمع، ومنه القراءة بمعنى جمع وهي من ألفاظ الأضداد تطلق على الحيض وعلى الطهر، أما الطهر فلجمع الرحم الدم وعدم قذفه، وأما الطهر فلجمع الرحم نفسه مما يؤدي إلى دفع الدم، وقيل: القرء هو اسم المركب منهما أي هو اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولذا لا يطلق على الدم المستمر ولا على الطهر الدائم وحيث إنه اسم للمركب جاز أن يطلق على كل واحد من أجزائه ،

ص: 153


1- الجوهر الثمين ج1، ص228.

کالمائدة التي هي اسم للسفرة وللطعام معاً ثم جاز إطلاقها على السفرة وحدها وعلى الطعام وحده(1).

و(القرء) في هذه الآية بمعنى الطهر، كما ورد تفسيره في روايات أهل البيت علیهم السلام ، فالقرء الأول هو الطهر الذي طلّقها فيه، ثم طهران، وتنقضي العدة بمجرد رؤية الدم بعد الطهر الثالث.

ثم إن الحكمة للعدة عدم اختلاط الأنساب باستبراء الرحم، كما يشعر به قوله تعالى «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ»مضافاً إلى المهلة بغية الرجوع، كما يشعر به قوله تعالى«وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ»، وأيضا لاستقرار الحالة النفسية للزوجة ليكون قرارها لمستقبل حياتها عن تروٍّ لا عن انفعال، ولولا العدة لاتخذ الزواج والطلاق ذريعة للزنی، ولعلّ ذلك كلّه من الحِكمة في تشريع العدة .

ولا يخفى أن المصالح في الأحكام إنما هي بملاحظة الحالة الغالبة ، فلا يقال بأن المرأة قد تكون عقيمة أو إن الزوجين قد لا يريدان الرجوع نهائياً أو نحو ذلك، وذلك لأن هذه الأسباب تراعي لتشريع حكم عام لكي لا تتخذ الأسباب ذريعة لمخالفة الأحكام، نعم قد تكون الحالات الاستثنائية كثيرة ولها جامع كليٌّ فقد يشرع حكم خاص لتلك الحالات.

الرابع : قوله تعالى «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ» .

حيث إن الطلاق هو نتيجة المشاكل والمنازعات، فقد يرتكب الزوجان بعض الذنوب تجاه بعضهما البعض، ولذا تمت في آیات متعددة

ص: 154


1- راجع مفردات الراغب: ص198.

توصيتهما بحفظ حدود الشرع بشكل عام، ثم التذكير بأهم تلك الذنوب والنهي عنها .

فقد تريد المرأة تعجيل انقضاء العدة، فلذا قد تكتم حملها ، لأن عدة الحامل هو إلى وضع حملها، ولو كان الحمل في أوائله لا يظهر لأحد، فلعلّها تريد انتهاء العدة في أقل من ثلاثة أشهر - لأن الأقراء الثلاثة قد تنتهي خلال شهر أو شهرين، ولا تتعدى الأشهر الثلاثة عادة - فلذا قد تكتم حملها لتتمكن من الزواج بسرعة، وفي ذلك مخالفة عظيمة حيث يستلزم نسبة الولد إلى غير أبيه وإلى الزني لبطلان زواجها الثاني لأنَّه في العدة، وإلى تضييع حق الزوج في الرجوع .

وقد تكتم الحمل لأنَّها لا تريد رجوع زوجها إليها فقد يرجع إليها لو علم بحملها شفقة على ولده منها .

وقد تريد المرأة التعجيل في انقضاء العدة أو إبطال حق الزوج في الرجعة أيضاً بإخفاء الحيض، مثل أنَّها تحيض عشرة أيام لكنها تدعي بعد ثلاثة أيام انتهاء حيضها وشروع الطهر الجديد، وفي ذلك تسريع لانقضاء العدة.

الخامس : قوله تعالى: «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».

فيه زجر شديد وتهديد للكاتمات، وتحريض وحث على مراعاة الدين حتى في مثل هذه الظروف العصيبة، فإنَّ الكثير من الناس حينما تسيطر عليهم القوة الغضبية أو الرغبة الجنسية يستولي عليهم الشيطان فالرغبة في الانتقام تنسيهم ذكر اللَّه تعالى، لذا استوجب التذكير باللَّه وباليوم الآخر وهذا الكتمان إما بداعي الانتقام من الزوج أو للرغبة في سرعة

ص: 155

الزواج، لكن عليها أن تخشى اللَّه تعالى وعقابه يوم الجزاء فلا تدع الغضب أو الرغبة تخرجها عن أحكامه تعالى .

فلو علمت هذه المطلّقة : بأن اللَّه لم يشرع الحكم للإضرار بها بل للمصلحة العامة - وفي ذلك مصلحتها أيضاً -، وأنَّه يعاقب العصاة في يوم الجزاء، لكان علمها رادعاً قوياً لها عن الكتمان وعن سائر المعاصي.

وهذا الشرط للحث على التقوى وليس له مفهوم، نظير قوله تعالى «وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا »(1) .

ثم إنه استفيد من قوله تعالى «وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ » قبول قولها في ادعائها الحمل أو الحيض، للملازمة العرفية بين النهي عن الكتمان وبين قبول قولها، وهذا على الأصل من حمل فعل المسلم وقوله على الصحة ، وحيث إن ذلك لا يعرف إلّا من جهتها كان قولها مسموعاً. وفي الحديث : (فوّض اللَّه إلى النساء ثلاثة أشياء: الطهر والحيض والحبل)(2)، نعم لو كان ادعاؤها خلاف المتعارف لزم التثبت، كأن تدعي انتهاء العدة خلال ستة وعشرين يوماً، وهذا أمر غير متعارف وإن كان ممكناً (بأن طلقها في الطهر - وهو الطهر الأول -، ثم حاضت بعد الطلاق مباشرة وكان حيضها ثلاثاً ثم طهرت طهراً ثانياً عشراً - لأن أقل الطهر ذلك - ثم حاضت ثلاثاً ثم طهرت طهراً ثالثاً عشراً ثم حاضت)، وروي أن امرأة ادعت أنَّها حاضت في شهر واحد ثلاث حِيَض، فقال

ص: 156


1- سورة النور، الآية: 33.
2- تفسير القمي ج1، ص74.

أمير المؤمنين عليه السلام : كلّفوا نسوة من بطانتها، إن كان حيضها فيما مضى على ما ادعت، فإنَّ شهدن صدقت، وإلا فهي كاذبة(1).

السادس : قوله تعالی«وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ».

اختيار كلمة (البعل) دون الزوج، لخصوصية في البعل، فلا يكون الرجل بعلاً للمرأة حتى يدخل بها ، وذلك أن البعال هو الملاعبة(2) وأصل الكلمة إما الارتفاع أو القيام بالأمر، وكلاهما مناسب لحكم الرجوع.

وقوله «أَحَقُّ » بمعنى له الحق في ذلك دون غيره، فالكلمة منسلخة عن التفضيل كقوله « فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ»(3)، وهذا الحق له دونها، فهي لا تتمكن من الرجوع إذا شاءت، وكذا لا حق لسائر الرجال في زواجها، وإنما جاء بصيغة أفعل التفضيل درءاً لتوهم وجود الحق لها أو لغيره، وهذا استعمال شائع حين توهم وجود أصل الفعل في كليهما.

وقوله « بِرَدِّهِنَّ» للدلالة على أن الرجوع ليس بزواج جديد بل هو الزواج السابق نفسه، ولذا قالوا بأن المطلقة الرجعية زوجة ولها جميع أحكام الزوجة من النفقة والمسكن وغير ذلك إلّا فيما استثني.

السابع : قوله تعالى « إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ».

وهذا الشرط أیضاً لا مفهوم له، بل هو حثٌّ على أن الرجوع ينبغي أن يكون بقصد الإصلاح، لا للإضرار كما قال تعالى «وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا

ص: 157


1- البرهان ج 2، ص192، عن التهذيب.
2- راجع معجم فروق اللغة ص 104 .
3- سورة التوبة، الآية: 13.

لِتَعْتَدُوا »(1) كأن يريد أن يؤذيها بتطويل مدة العدة وبتجديد المنازعة، فيطلقها ثم قبل انتهاء العدة يرجع إليها ثم يتركها فترة ثم يطلقها وهكذا .

والحاصل أن الآية في مقام بيان الحكم التكليفي وهو جواز الرجوع في العدة، لا في بيان الحكم الوضعي ببطلان الرجوع إن كان بقصد الإضرار، فالرجوع للإضرار مبغوض لكنه رجوع صحيح، وإنما صححه اللَّه تعالى لأجل عدم معرفة الناس بالنوايا فهل رجع للإصلاح أم للإضرار؟ فلذا صحّ الرجوع بأية نية كانت لكنه إن كان قصد الإضرار فقد ارتكب إثماً يستحق عليه العقوبة .

الثامن : قوله تعالى « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ».

ضمير (لهن) يرجع إلى المطلّقات، فليست الآية بصدد بيان حقوق الزوجين أو حقوق الرجال والنساء بشكل عام، بل هي بصدد بيان حقوق المطلّقات فلذا فالظاهر أن المراد ما في تقريب القرآن : ومن المحتمل أن يكون « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ»بيان حال العدة، أي إن لكل من الزوج والزوجة حقّاً على الآخر في حال العدة، مع أن الرجل له فضيلة على المرأة بأن الاختيار إلى الزوج فقط (2)أي الاختيار في الرجوع، فالمعنى أن حقوق الزوجة وحقوق الزوج لم تنته بالطلاق بل تستمر تلك الحقوق إلى انتهاء عدة الطلاق الرجعي كالنفقة والمسكن وجواز المباشرة - وبالمباشرة يتحقق الرجوع أيضاً - وغير ذلك من الحقوق .

ف «مِثْلُ» ليس بمعنى التساوي بل بمعنى المشاركة في أصل الحق

ص: 158


1- سورة البقرة، الآية: 231.
2- تقريب القرآن ج1، ص252.

كي لا يتصور الرجل بانتهاء وظيفته تجاهها كدأب بعض الرجال، ولذا قدم حقها فقال سبحانه « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ» .

نعم من أدلة أخرى ثبت اشتراك جميع الناس في الأحكام - تكيفية كانت أم وضعية - والاستثناء بحاجة إلى الدليل، وقد تكون الحقوق المتبادلة مختلفة من حيث الماهية بحس من حيث الماهية بحسب مقتضى الوظائف، كحق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، وحقوق الجاهل والعالم، والأقرباء بعضهم على بعض، فالحقوق متبادلة لكن لكلٍّ حق ينسجم مع عمله أو طبيعته. قال أمير المؤمنين علیه السلام : (إن لي عليكم حقّاً ولكم عليًّ حقٌّ . . . وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب ، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين أمركم(1)، وقد تعارف اصطلاح الحقوق والواجبات، فقالوا - مثلاً - واجبات الناس تجاه الحكومة يقابلها حقوقهم عليها .

التاسع : قوله تعالى «بِالْمَعْرُوفِ» .

تكررت كلمة المعروف اثنتا عشرة مرّة في هذه الآيات (228 - 242) التي تتحدث عن الحالات الزوجية، من الطلاق والرضاع والإنفاق ونحوها، وذلك لقوة النوازع النفسانية في الخروج عن الاعتدال، وكذلك لانتشار عدم المعروف بين مختلف الأمم في الأمور المتعلقة بالمرأة، فجاء القرآن ليؤكد على مقولة (المعروف) وأن جميع التعاملات يجب أن تكون منسجمة مع روح الإنسان وجسمه .

إذ (المعروف) هو ما تقبّلته الفطرة فعرفه العقل وأمر به الشرع، وليست العادات والتقاليد من المعروف إلّا إذا انسجمت مع الفطرة .

ص: 159


1- نهج البلاغة، خطبه:216

فمن الغريب تفسير المعروف بعادات الناس مع العلم بأن عاداتهم - وطوال التاريخ - كانت ولا زالت تخالف الفطرة والعقل والشرع إلّا القليل ممن التزم بالشرع الأقدس، فالمجتمعات البشرية بين تفريط في حقها كإنسانة، فيتعاملون معها كالرقيق، وبين إفراط في تجاوز الحد كما دأب عليه الغرب، وهذا في الحقيقة استعباد لها بطريقة أخرى بالإباحية والاتِّجار بها، فهو إرجاعها إلى هضم حقها ولكن بشعارات التساوي والحرية ونحو ذلك، ولذا لا توجد في واقع مجتمعاتهم ذلك التساوي المزعوم إلّا حالات هي أشبه بالديكور، وكانت النتيجة الاستغلال الجنسي وانتشار الرقيق الأبيض حسب تعبيراتهم أنفسهم، وتهديم الأسرة وانتشار الأمراض الجسمية والنفسية، ولتفصيل البحث في ذلك موضع آخر.

والحاصل أن اللَّه بحكمته ولانتظام شأن الخلق ولاستمرار الناس خلق الإنسان ذكر وأنثى، وجعل تكوين كل واحد منهما يناسب المهمة الموكلة إليه، ولذا اختلفت أعضاء ونفسيات الجنسين، وكان التشريع متطابقة للتكوين لا تفاوت بینهما.

العاشر: قوله تعالى«وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ».

إنما عبر ب(الرجال) دون الأزواج، لأن الأحكام الخاصة بالرجل في الزواج والطلاق والرجوع ونحوها ترتبط بكونه رجلاً.

والمقصود - كما ذكرنا - أن حقوق الزوجية من كلا الزوجين تستمر في فترة العدة ولكن مع تخصيص الرجل بحكم - وهو أن الرجوع بيده لا بيد الزوجة -.

ص: 160

وذلك لأن كل اجتماع إذا أراد أن يكون ناجحاً مستقراً لا بد له من مدير، ولا يصح إيكال الأمر فوضى، فللدولة حاكم، وللمؤسسات مدیر، قال أمير المؤمنين عليه السلام (لا بد للناس من أمير بَرّ أو فاجر)(1)أي نظم المجتمع بالحاكم لا بالفوضى فإنَّها أسوأ من الحاكم الجائر، ولابدّ أن تكون للمدير مزية أي سلطة يتمكن من تنفيذ ما يرتبط بجهات الإدارة .

والأسرة مؤسسة اجتماعية صغيرة، تتكون من زوج وزوجة ثم أولاد، فلا بد لها من مدير له صلاحيات، ولا يصح ترك الأسرة من غير مدير للزوم اتخاذ القرارات دائماً، كما لا يصح جعل المرأة هي المدير لغلبة العاطفة عليها ولانقطاعها عن المجتمع غالباً ولانشغالها بمسائل المنزل عادة، والرجل هو الأنسب للقيام بهذه المهمة، ولذا قال تعالى «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا »(2)فقد فضّل اللَّه المرأة على الرجل بعاطفتها التي تناسب تربية الأولاد وفضّل الرجل على المرأة بقوته وتعقله فناسب أن يكون هو المدير، مضافاً إلى أن النفقة واجبة على الزوج فيكون في مقابلها القيمومة، لتبادل الحقوق والواجبات - كما ذكرنا -.

وحيث كان هذا التكوين ثم التشريع بقدرة اللَّه وبعلمه بالمصلحة، كما أنَّه يعاقب المخالف، لذلك ختمت الآية بقوله تعالى «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »

ص: 161


1- نهج البلاغة، الخطبة 40.
2- سورة النساء، الآية: 34.

خامسا: مرّات الطلاق

الآيتان 229 - 230

«الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)»

«فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)».

229 - وحيث انتهى الأمر إلى الرجوع عن الطلاق، بینت هذه الآية أن مرات الرجوع ليست إلى ما لا نهاية : ف-«الطَّلَاقُ »الذي يجوز فيه الرجوع «مَرَّتَانِ»، وبعد كل منهما « فَإِمْسَاكٌ » بالرجوع «بِمَعْرُوفٍ» بالعشرة الحسنة لا بقصد الإضرار بها لتطول العدة ، « أَوْ تَسْرِيحٌ»وذلك بالطلاق الثالث « بِإِحْسَانٍ» بإعطائها حقها وعدم إيذائها، « وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ »أيها الأزواج «أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ»من المهر وسائر الهبات « شَيْئًا » ولو قليلاً «إِلَّا » في طلاق الخلع

حيث تكرهه أو طلاق المباراة حيث يتكارهان ب-«أَنْ يَخَافَا » لأجل الكراهة بينهما «أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ»أي ما شرّعه في النكاح من

ص: 162

حقوق، « فَإِنْ خِفْتُمْ» أيها الحكّام الذين تريدون فصل قضايا الأزواج « أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا » على الزوجين «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ » بذلته كفدية لخلاص نفسها، فيجوز للزوجة الاقتداء ويجوز للزوج أخذه ، «تِلْكَ »الأحكام المذكورة المرتبطة بالزوجين«حُدُودُ اللَّهِ »أحكامه - أوامره ونواهيه - «فَلَا تَعْتَدُوهَا » لا تتجاوزوها بالمخالفة «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ »يظلمون أنفسهم ويظلمون الآخرين.

230 - حيث ذكرت الآية السابقة أحكام المرتين - بجواز الرجوع وبجواز التسريح - جاءت هذه الآية لبيان حكم الطلاق الثالث «فَإِنْ طَلَّقَهَا » للمرة الثالثة «فَلَا تَحِلُّ »الزوجة «لَهُ » للزوج «مِنْ بَعْدُ» الطلاق الثالث « حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا » الزوج الثاني «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا »هي والزوج الأول «أَنْ يَتَرَاجَعَا » بعقد جدید بعد انقضاء عدة الثاني «إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ»أي الحقوق الزوجية التي شرّعها اللَّه « وَتِلْكَ »الأحكام المذكورة «حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » فإنَّهم المنتفعون بهذه الأحكام أما الجهال فلا تهمهم المخالفة.

بحوث

الأول : قوله تعالى «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ».

حيث كان البعض يطلق ثم قبل انتهاء العدة يراجع وهكذا يكرّر

ص: 163

الطلاق والرجوع للإضرار بالزوجة، درءاً لهذا الإضرار مع فسح المجال للزوجين للرجوع بعد الطلاق - حيث قد يندمان ويقرران إصلاح ما فسد بينهما - لذلك شرّع تعالي الرجوع لمرتين فقط، حتى إذا قصد الزوج الإضرار لم يتمكن من الإسفاف فيه، وحتى إذا أراد الإصلاح أمكنه الرجوع.

فلذا يجوز له الطلاق والرجوع ثم الطلاق ثانياً والرجوع بعده ، وحيث إن أحكام هذين الطلاقين متحدة لذلك جمعهما معا فقال تعالى «الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ»، وأما الطلاق الثالث فينفرد بأحكام خاصة به ولذلك أفرده بآية أخرى حيث قال «فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ ...»الآية .

وفي قوله «مَرَّتَانِ»دلالة على عدم إمكان الجمع بين الطلاقين بلفظ واحد، لأن معنى المرتين هو مرّة بعدة مرّة، فيكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق لا الجمع، نظير قوله تعالى «سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ »(1)، «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ »(2)، « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ »(3)، فلو جمع بلفظ واحد كأن يقول أنت طالق مرتين أو أنت طالق ثلاثة لم تقع إلّا طلقة واحدة، وهذا كان الجاري على عهد الرسول صلی اللَّه علیه وآله وبه صرّح الأئمة علیهم السلام ، وأما إمضاء الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد فهو من البدع التي استحدثت بعد وفاة الرسول صلی اللَّه علیه وآله .

الثاني : قوله تعالى «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ».

أي شرّع اللَّه تعالي الرجوع بعدهما أو الطلاق الثالث، فحيث إن

ص: 164


1- سورة التوبة، الآية: 101.
2- سورة الإسراء، الآية: 4.
3- سورة القصص، الآية: 45.

الشرع أراد إبقاء الحياة الزوجية، ولأنَّه قد يندم الزوجان ويحاولان إصلاح الأمر بينهما بعد أن ذاقا مشاكل الطلاق، والتجربة علم مستحدث، فلذا شرّع للزوج الرجوع إلى عش الزوجية، وقد رأينا زيجات مليئة بالمشاكل الزوجية حتى إذا انتهى الأمر إلى الطلاق، فافترق الزوجان وجرَّبا المشاكل الأسرية والاجتماعية والنفسية للطلاق، وخاصة ما يتعلق بضياع الأولاد، ودخل المصلحون للإصلاح، عند ذلك يشعر كل من الزوجين بالخطأ في تصرفاتهما أو العبثية في العناد أو وطنَّا نفسيهما بالصبر و تحمل بعضهما البعض.

وقد لا تكون المرة كافية في التنبيه فلذا شرّع الطلاق والرجوع ثانياً، ولكن قد لا يحصل الانسجام أو الصبر في المرة الثانية، لذا شرّع الطلاق للمرة الثالثة مع عدم إمكان الرجوع درءاً لقصد الزوج للمضارة، وكذا التشريع نکاحها بزوج آخر- وسيأتي البحث عنه -.

وأما قوله «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ»فهو الرجوع بالعشرة الحسنة وعدم قصد الإضرار، وقد مرّ أن (المعروف) هو ما يستحسنه العقل والشرع، والرجوع بقصد الإضرار أمر منكر، ولذا أمر تعالى بالإمساك بالمعروف الا بالمنكر.

وأما قوله «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ » فالمراد به الطلاق للمرة الثالثة - كما فسرته الروايات(1)-، فالمعنى أنَّه حيث طلقها طلاقاً ثالثاً ولا أمل بالرجوع فلا يؤذيها ولا يحاول الانتقام منها ، بل يسرحها سراحاً جميلاً ، فالإحسان إليها هو بأداء حقوقها بل وزيادة جبراً لخاطرها المكسور.

وقد يقال « تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ » له معنى أعم أي الطلاق مرتان وفي

ص: 165


1- راجع البرهان ج2، ص199 - 198.

هاتين المرتين إما أمسكوهن بمعروف بالرجوع إليهن وحسن العشرة معهن وإما سرحوهن بإحسان وذلك قد يكون بترکهن حتى تنقضي عدتهن وقد يكون بإطلاق الثالث الذي لا رجعة فيه ، فيكون ما في الروايات - من تفسيره بالطلاق الثالث تفسيرة بالمصداق -، فتأمل.

ثم إن التسريح في هذه الآية « تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ »وفي الآية 231 «سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف»، ولعلّ الفرق أن هذه الآية في الزوجة التي يراد تطليقها فيكون الإحسان - وهو الزيادة على الحق - مطلوباً بالنسبة إليها جبراً لخاطرها المكسور، وأما الآية الثانية فهي التي انتهت عدتها أو قاربت الانتهاء - وقد أخذت حقّها وأحسن إليها فيما مضى من أيام العدة - والمطلوب في وقت الانتهاء إخراجها من البيت فقط عادة فليكن ذلك الإخراج بطريقة مناسبة معروفة، ولا معنى للتعبير عن ذلك بالإحسان، فتأمل.

الثالث : قوله تعالى «وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ».

سواء كان مهراً أم هبة، أما المهر فهو حقها ثبت لها بالعقد، واستثني من ذلك ما لو طلقها قبل المسّ فيجب نصف المهر إن كانا قد عيّناه وإلّا وجب التمتيع وذلك حسب دلالة الآيتين، وأما الهبة فلإطلاق هذه الآية وقد استدل بذلك في بعض الأخبار(1).

ثم إن الجمع في «تَأْخُذُوا » إما للقضاة لأنَّهم يأمرون بالأخذ أو پنهون عنه، وإما للرجال الأزواج. ولا يخفى أنَّه كلّما كان التكليف متوجهاً إلى الزوجين جميعاً جاء الضمير للتثنية باعتبار الزوج والزوجة ، وكلّما كان للأزواج فقط جاء الضمير بالجمع باعتبار مجموع الأزواج.

ص: 166


1- راجع البرهان ج2، ص199.

وقوله«شَيْئًا »فيه إشعار بأن حقها المالي - حتى وإن كان قليلاً - يجب إعطاؤها إياه، بل الحق القليل ما دام حقاً حتى وإن لم تكن له مالية فإنَّه محترم يجب إيصاله إلى صاحبه، قال تعالى « وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ »(1)، أي لا تمسكوهن ضراراً لتأخذوا المهر، فقد كان الرجل يبقي على زوجته بلا نفقة يريد بذلك جبرها على أن تفتدي بمهرها مقابل إطلاقه لها، وقال تعالى « وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا »(2).

الرابع : قوله تعالى «إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ».

أصل الأشياء، هو إقامة حدود اللَّه تعالى عبر الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، فلذا لو تعارضت الحياة الزوجية مع حدود اللَّه تعالى فإنَّ الترجيح للحدود، فإنَّ جميع قوانين تنظيم الحياة - ومنها الأمور الزوجية - إنما هي طريق لتحقيق مرضاة اللَّه تعالى عبر الالتزام بها، فلا قيمة لها لو تعارضت مع مرضاته تعالى، والزوجان إنما يخافان ألَّا يقيما حدود اللَّه للتباغض بينهما وحينئذٍ تقوی دواعي المخالفة لسيطرة القوة الغضبية.

وبعبارة أخرى : إن اللَّه تعالى إنما يبغض الطلاق لما فيه من المشاكل والتبعات، لكن لو كان في استمرار الحياة الزوجية مشاكل أكثر فيدور الأمر بين السيِّئ والأسوأ، فيدرأ الأسوأ بالسيِّئ.

الخامس: قوله تعالى« فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ».

أي بذلته كفدية لخلاص نفسها، ومن المعلوم أن ذلك لا يكون إلّا

ص: 167


1- سورة النساء، الآية: 19.
2- سورة النساء، الآية: 20.

مع کراهتها له، فإن كرهها الزوج أیضاً كان طلاق المباراة، وإن لم يكرهها كان طلاق الخلع.

ولا حدّ لهذه الفدية سواء كانت بمقدار المهر أم أقل أم أكثر، الإطلاق قوله تعالى «فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ »، نعم في طلاق المباراة بشرط أن لا يكون الفداء أكثر من المهر وذلك لتقييد هذا الإطلاق بالأخبار الخاصة .

ولعلّ تشريع الإفتداء لأجل أن لا يكون عدم قدرة الزوج على دفع المهر عائقاً عن الانفصال فيؤدي ذلك إلى مضارة الزوجة وتركها کالمعلّقة.

وأما عدم تحديد الفداء في الخلع دون المباراة، فلعلّه لأجل أنَّها إن كانت هي الكارهة له دونه فقد يكون في هذا الانفصال ضرر على الزوج فعدم تحديد مقدار الفداء - وذلك عبر إرجاع ما دفعه من المهر أو إسقاطه مضافاً إلى زيادة - ليتمكن الزوج من تعويض ما خسره بالطلاق، وإن كان الكره منهما فكلاهما يريد التخلص من الآخر فلا وجه لأن تتحمل الزوجة ضرراً أكثر من الزوج بل ترجع له المهر أو أقل منه فقط.

وأما قوله « فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا » فلأن الخلع والمباراة بحاجة إلى رضا الطرفين، فلا جناح على الزوجة بالاقتداء ولا جناح على الزوج في أخذه، فعدم الجناح عليهما يفيد الإباحة للطرفين.

السادس : قوله تعالى «فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ ...»الآية .

بعد أن ذكر اللَّه تعالى الطلاق الثالث بقوله « تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ »أراد تعالی بيان أحكامه التي ينفرد بها عن الطلاق الأول والثاني، وهو أن هذا الطلاق لا رجعة فيه، وعن ابن فضال قال : سألت الرضا عليه السلام عن العلة

ص: 168

التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنکح زوجاً غيره؟ فقال عليه السلام : ... ولدخوله فيما كره اللَّه عزَّ وجلّ من الطلاق الثالث حرّمها عليه، فلا تحلّ له حتی تنکح زوجاً غيره، لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق، ولا يضاروا النساء(1).

بين الإمام عليه السلام أن الحكمة في عدم إمكان المراجعة بعد الطلاق الثالث هو درء المضارَّة بأن يطلقها ويرجع إلى ما لا نهاية لتطول مدة کونها کالمعلّقة مع عدم تحمل الزوج المسؤولية عنها باعتبارها معتدّة ، مضافاً إلى عقوبة الزوج بتكراره ما يبغضه اللَّه تعالى، فإنَّه تعالى وإن أحلّ الطلاق لمصلحة أهم إلَّا أن بغضه للطلاق باق بحاله فتكرار الطلاق تكرار لما يبغضه اللَّه تعالی فاستوجب هذا الزوج أن يعاقب بذلك.

ومن فوائد عدم إمكان الرجوع هو فسح المجال للزوجة لكي تبني حياتها من جديد فلعلّها تجد زوجاً تنسجم معه من غير أن يكون هناك طريق للضغط عليها للرجوع إلى زوجها الأول.

ثم إنه تعالى لم يغلق الباب بالمرّة عليهما للرجوع بل أباح الرجوع لو طلقها الزوج الثاني، فلعلّ هذه التجربة تسبب رجوع الزوجين إلى رشدهما وقرارهما بحلّ المشاكل العالقة أو الصبر .

ثم إن هنا جملة من الأحكام ذكرها الفقهاء بالتفصيل في الفقه، ونشير إجمالاً إلى بعضها.

1- لو طلقها في المرة الأولى أو الثانية ولم يرجع إلى أن انتهت العدة، فلا تحسب هذه الطلقة من الثلاث، ولعلّ ذلك لعدم وجود

ص: 169


1- البرهان ج2، ص199 عن الفقيه.

المضارَّة فيها، حيث إنها بانتهاء العدة تتمكن من التزويج بمن شاءت ويتبيّن أن الزوج لم يقصد مضارتها بترکها کالمعلقة عبر الرجوع قبل انتهاء العدة ثم الطلاق من جديد.

2- لا يجوز في الزواج من الزوج الثاني اشتراط طلاقه منها لترجع إلى الأول ويكون هذا الشرط باطلاّ ، نعم لو كان بناؤهما الطلاق ولم يشترطا ذلك في العقد فلا بأس بهذا الزواج ويكون سبباً لتحليل الزوجة لزوجها الأول لو طلقها الزوج الثاني، لأن هذه النية لا أثر لها ولذا يمكن للزوج الثاني عدم الطلاق.

3 - يشرط في تحقق التحليل بالزواج الثاني أن يكون الزواج دائماً لا منقطعاً لقوله تعالى وحتى تنكح زوجا غيره فإن طلقهاه الآية، ونكاح المتعة لا طلاق فيه . كما يشترط فيه أن يطأ الزوج الثاني الزوجة فلا يكفي مجرد العقد، وفي الحديث : (حتی تنکح زوجاً غيره ويذوق عُسيلتها)(1).

ولعلّ سبب ذلك هو تقليل الطلاق فإن الزوجين إذا علما بعدم إمكان الرجوع بعد الطلاق الثالث إلَّا لو نكحها زوج آخر ووطئها، فلعلّهما يقرران حلّ مشاكلهما أو الصبر والتحمل لئلا ينجرَّ الأمر إلى الطلاق الثالث، هذا مضافاً إلى أن الزوجة قد تجد انسجاماً مع الزوج الثاني فتهنأ بحياتها الجديدة من غير أن يتمكن أحد من الضغط عليها للرجوع إلى زوجها الأول الذي لا تنسجم معه.

السابع : قوله تعالى «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ».

ص: 170


1- البرهان ج 2، ص202 عن الكافي.

أي لو طلق الزوج الثاني زوجته، فيجوز للزوج الأول الزواج منها لو ظنّا بأنَّهما يتمكنان من القيام بوظائفهما الشرعية .

وقوله «يَتَرَاجَعَا » بمعنى الزواج من جديد، وإنما عبر عنه بالتراجع باعتبار كونهما زوجين سابقاً فيرجعان إلى الحالة السابقة، وأما قوله وإن ظناه التعبير بالظن لأجل عدم العلم بما سيؤول إليه أمرهما فإنَّه لا يعلم الغيبإلَّا تعالى أو من أطلعه اللَّه عليه .

ثم إن هذا الشرط «إِنْ ظَنَّا ...» ليس شرطاً لصحة العقد بل هو بيان لحكم تكليفي، فإن لم يظنا صح الرجوع لكنه سبب للمعصية، فيكون نظير من غسل المتنجس بماء مغصوب فإن الحكم الوضعي - وهو الطهارة - يتحقق بهذا الغسل وإن كان مرتكباً معصية .

ويحتمل أن لا يكون للشرط في «إِنْ ظَنَّا » مفهوم، بل هو حث على مراعاة حدود اللَّه تعالى وترغيب في عدم الزواج إذا كان يؤدي إلى المحرمات فيكون الزواج مباحاً وإنما المحرّم هو عدم مراعاة الحدود بعد ذلك، وتفصيل حكم مقدمة الحرام والتعاون على الإثم يطلب من كتب الفقه وأصوله .

الثامن: قوله تعالى « يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ».

إنما خصهم بالذكر - مع أن الحكم عام - تشريفاً لهم، أو لأنَّهم هم المنتفعون بالأحكام، وأما الجاهل العاصي فلا ينتفع، قال تعالى « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »(1).

ص: 171


1- سورة فاطر، الآية 28.

سادساً: ما بعد العدة

الآيتان 231 - 232

«وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)»

«وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)»

231 - «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ »طلاقاً رجعياً «فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» بأن اقترب انتهاء العدة « فَأَمْسِكُوهُنَّ» بالرجوع إليهن في العدة « بِمَعْرُوفٍ »من غير إيذاء لهن ومع أداء حقوقهن «أَوْ سَرِّحُوهُنَّ » بعدم التعرض لهن حتى تنتهي العدة «بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا»بالرجوع لا بقصد الزوجية وبالتضييق عليهن في النفقة ليضطررن إلى هبة المهر خلعاً « لِتَعْتَدُوا »أي لتظلموهن في المعاشرة أو في ابتزاز مهورهن، «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ » الإمساك بقصد الإضرار «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ». لأنَّه لا يحيق المكر السیِّئُ إلَّا بأهله، فيتضرر دُنیا بالشقاء والاضطراب وسوء السمعة، وآخرةً

ص: 172

بالعذاب، «وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ»أحكامه« هُزُوًا »بالاستخفاف بها كالمستهزىء الذي يظهر الإيمان لكنه لا يلتزم بلوازمه من العمل، «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»حيث أنعم عليكم بالأزواج لتسكنوا إليها ، فأدّوا شكر هذه النعم بالطاعة « وَ» كذلك اذكروا«مَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ » حيث شرّع الأحكام بصالحكم، حال كونه «يَعِظُكُمْ بِهِ»بواسطة ما أنزل عليكم، « وَاتَّقُوا اللَّهَ »حتى تنتفعوا بما أنزل، والمقصود أنكم حيث علمتم بنعمته التكوينية والتشريعية في الأزواج فاتقوه بترك معاصيه التي تؤدي إلى عقابه، «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » فإن هذه التشريعات إنما هي لعلمه بالمصلحة فيها وأن اللَّه يراقب أعمالكم فيجازيكم عليها .

232 - «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ » هنا بمعنى انتهاء العدة «فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ» أي لا تمنعوهن « أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ » من يردن الزواج منه سواء كان الزوج السابق أم رجلاً آخر «إِذَا تَرَاضَوْا » الأزواج والمطلّقات «بِالْمَعْرُوفِ»بما أباحه الشرع من شروط النكاح وآداب العشرة، « ذَلِكَ» الحكم بتحريم العضل « يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» فإن المؤمن هو المنتفع بهذا الحكم فيؤثر رضا اللَّه على رغباته، « ذَلِكُمْ » الأحكام المذكورة في النكاح والطلاق «أَزْكَى لَكُمْ » أنفع فإن في الالتزام بها نموّ المجتمع بالصلاح «وَأَطْهَرُ»لقلوبكم من دنس الآثام « وَاللَّهُ يَعْلَمُ »فاتبعوا أحكامه «وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ »فلذا يعلمكم اللَّه لطفاً بكم ورحمة .

ص: 173

بحوث

الأول: كلتا الآيتين ابتدأتا بقوله تعالى«وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» ، والظاهر - بقرينة الروايات والسياق - أن الآيتين بصدد بيان أحكام حالتين :

1 - قبل انتهاء العدة الرجعية، فمعنى (بلغن) يكون القرب والمشارفة أي قاربن الأجل - وهو انتهاء العدة - وحينئذٍ فإن أراد الزوج الرجوع حقيقة مع القيام بالحقوق والوظائف جاز له ذلك «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ »، وإن

لم يرد الرجوع الحقيقي فعليه أن يسرحها بأن يتركها وشأنها حتى تنتهي العدة، لا أن يقصد الإضرار بها بأن يرجع إليها ثم يطلقها مرة أخرى لتعتدَّ من جديد، وهكذا ثلاث مرّات ليطوّل العدة عليها .

2 - بعد انتهاء العدة الرجعية، وحينئذٍ فالمرأة تملك نفسها وتتمكن من الزواج ممن شاءت، فلا يجوز منعها من الزواج الجديد سواء بزوجها السابق أم بزوج آخر .

أما دلالة السياق على أنَّهما حالتان ففي الآية الأولى القرار للزوج في قوله « فَأَمْسِكُوهُنَّ» « سَرِّحُوهُنَّ » « وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا»، وفي الآية الثانية القرار للزوجة في قوله أن ينكحن مع اشتراط رضاها في قوله « إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ » .

الثاني : قوله تعالى«وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ».

لأن اللَّه تعالى قدّر الزواج لأجل السعادة قال تعالى «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً »(1)، ثم شرّع سبحانه أحكاماً تنسجم مع ما قدّره تكويناً - لتطابق

ص: 174


1- سورة الروم، الآية: 21.

التكوين والتشريع کاملاً ، فكل إخلال بالأحكام الشرعية يوجب اضطراب الحياة كما قال سبحانه «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا»(1)، فالظلم يرجع وباله على الظالم نفسه قال تعالى «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ »(2)، فمن يقصد إضرار زوجته يعيش حياة قلقة مضطربة ويسيء إلى سمعة نفسه لدى الناس، مضافاً إلى أنَّه حرم نفسه من نيل الفضائل والعواطف الإنسانية النبيلة فهو ليس إلَّا كالأنعام بل أضلّ، هذا مضافاً إلى العقاب الأخروي وذلك هو الخسران المبين، وأما المظلوم فهو وإن حرم من بعض حقوقه لكن اللَّه تعالى ينتصر له في الدنيا بأن يعوضه في نفسه أو ذريته عمّا لاقاه من الظلم مضافاً إلى التفضل عليه بالثواب إن كان مؤمناً.

الثالث : قوله تعالى«وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ».

آياته هي أحكامه، لأنَّها تدل عليه تعالى، إذ العقل بالتدبر والتفكر في الأحكام الشرعية في مختلف الأبواب يستدل على أن المشرّع عالم بكل شيء حكيم، فشرّع ما ينسجم مع تكوين الإنسان بدقة متناهية، فنفس هذه الأحكام من علائم اللَّه سبحانه وتعالی.

ومن أظهر الإيمان باللَّه تعالى ثم خالف أحكامه، هو مستهزئ بها لأن قوله يخالف فعله وهذا دأب المستهزئين.

وعن أمير المؤمنین عليه السلام : من قرأ القرآن من هذه الأمة فدخل النار فهو ممن يتخذ آيات اللَّه هزوا(3).

ص: 175


1- سورة طه، الآية: 124.
2- سورة فاطر، الآية: 43.
3- البرهان ج1، ص209، عن تفسير العياشي.

والحاصل : أن الإعراض عن الآيات والتهاون في العمل بها والاستخفاف بها ، هو استهزاء بآيات اللَّه تعالى .

ولا يخفى لطف الترتيب بين هذه المجموعة من الإرشادات :

فيجب أولاً التفكر في آياته تعالى وعدم النظرة إليها نظرة المستهزىء «وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا »ب، وذلك يسوق الإنسان إلى معرفة المنعم ونعمه «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...»، والمعرفة تستلزم الاعتبار والاتِّعاظ «يَعِظُكُمْ بِهِ »، والاتِّعاظ سبب التقوى بالطاعة والامتثال«وَاتَّقُوا اللَّهَ».، ثم بالخشية من عذاب الآخرة « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ...» .

الرابع : قوله تعالى «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...»الآية .

إن ذكر النعمة توجب قبول قول المنعم، وحيث إن اللَّه تعالى أنعم عليكم بالزوجة لتكون سكناً وترفع حوائجكم، ثم أنزل عليكم الأحكام الشرعية التي هي بصلاحكم، فقابلوه تعالى بالشكر العملي بامتثال أوامره .

وقوله « نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»تكويناً وذلك بخلق الأزواج وتهيئة الجسم والنفس لذلك، فهناك دقة في وظائف الجسم والنفس بين الزوجين، وقوله «وما أنزل عليكم تشريعاً، فالآية بصدد بيان نعمته تكويناً وتشريعاً .

أو أن « نِعْمَتَ اللَّهِ »عام شامل لنعمه التكوينية والتشريعية ثم أفرد الكتاب والحكمة بالذكر تشريفاً لهما فيكون من عطف الخاص على العام.

وقيل في الفرق بين «الْكِتَابِ »و«الْحِكْمَةِ » وجوه، منها: أن الكتاب هو الأحكام والحكمة هي المواعظ، أو القرآن والشريعة، أو

ص: 176

القرآن والسنة، أو ظاهر الشرع وباطنه، أو العطف تفسيري فالحكمة مفسرة للقرآن ، . . . إلخ .

الخامس : قوله تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ».

اتقوه حتى تنتفعوا بهذه الأحكام التي أنزلها عليكم، وكأن كل ما سبق بيانه من الأحكام كالمقدمة لهذا الأمر، لأنَّه الغرض من الخلقة «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1)، وقد مرّ أن التقوى من الوقاية، وهي حفظ النفس من المكروه، فالمعنى احفظوا أنفسكم من المعاصي، أو احفظوها من العذاب وذلك بترك المعاصي .

وأما قوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » فهو كالعلة للأحكام السابقة، أي إن كل تلك الأحكام صحيحة ومطابقة للحكمة، لأن المشرّع هو العالم بكل شيء، فلا يفوته ما يصلحكم وما يضركم، كما يعلم بحاجاتكم وبتكوينكم، ولذا شرّع هذه الأحكام فالتزموا بها .

هذا مضافاً إلى اشتمال الآية على التهديد إن خالفوا، فاعلموا أنَّه رقيب عليكم ويعلم تصرفاتكم، وسيجازيكم عليها .

السادس : قوله تعالى « ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ »

(العضل) هو الشدة والمنع، والمعنى أنَّه بعد انتهاء العدة تملك المرأة أمر نفسها فلا يحق لأحد أن يمنعها من الزواج - سواء من زوجها السابق أم من سائر الأزواج - .

ص: 177


1- سورة الذاريات، الآية: 56.

وفي الآية دلالة على عدم ولاية أحد على الثيّب، بل لا يحق لأي أحد منعها من الزواج ممن ترغب لأن النهي «فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ »عام يشمل الأقرباء وغيرهم ولذا قال «أَنْ يَنْكِحْنَ ».

فإن بعض الأزواج حتى بعد طلاق زوجاتهن يريدون الانتقام منهن، فيستعملون نفوذهم الاجتماعي لمنع الخُطّاب، أو بإثارة الشائعات ضد الزوجة، أو ببيان عيوبها للناس، وكل ذلك يؤدي إلى عزوف الخُطّاب عن نكاحهن.

كما أنَّه قد يندم الزوج فيريد أن يرجع إلى زوجته السابقة، وهي ترغب في ذلك أيضاً ، لكن بعض أقرباء الزوجة لا يريدون ذلك لسخطهم على الزوج فيمنعون من هذا الزواج.

فالحكم هو أن تراعي رغبة الزوجة لا رغبة غيرها، فهي التي تريد أن تتزوج وتعيش مع من ترضاه، فيلزم أن لا تكون رغبات الآخرين وحالاتهم النفسية - من الانتقام والسخط - مانعاً عن سعادة الزوجة.

كما أن الآية تدل على اشتراط رضا المرأة في الزواج فقال «إِذَا تَرَاضَوْا»فلا يجوز تزويجها من غير رضاها، كأفعال أهل الجاهلية، فهي إنسانة لها رغبات وعواطف، وتزويجها بغير رضاها سبب عادة لعدم حصول الانسجام بينها وبين زوجها، وفي ذلك تحطيم لحياتهما .

السابع : قوله تعالی « ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ».

أما كون الأحكام المذكورة (أزکی) - والزكاة من النمو - فلأنَّها قوانین بصالح المجتمع، والمجتمع التي تكون قوانینه صالحة ويعمل بها مجتمع في تطور ورقي فتتفتح القابليات وتنمو المواهب والاستعدادات .

ص: 178

وذلك لأن القوانين إنما جعلت لتنظيم أمور الحياة، ولكن قد تكون قوانين وضعية كابتة للحريات مقيدة للناس فتكون تلك القوانين عائقاً أمام تطور المجتمع وبها تقمع الحريات وتؤدي إلى الخمول وعدم إمكان التقدّم والرقي، قال تعالى «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ »(1)، فالرسول صلى اللَّه عليه وآله وسلم ألغى جميع القوانين الكابتة والعادات الضارَّة التي كانت تعيق حركة المجتمع، وعوضها بقوانين تنسجم مع تكوين الإنسان وفطرته .

وأما كونها (أطهر) فلأن تطبيق هذه القوانين سبب لعدم الوقوع في الأدناس المادية والمعنوية فهذه القوانين متطابقة من موازين الأسرة وفيها تحصين للمرأة وللرجل عن الزني، لأن تركها كالمعلّقة أو عضلها بيئة سيئة للفساد، كما أنَّها أطهر للنفوس، فإن النفس المؤذية التي تريد الانتقام وتنساق للسخط هي نفس مريضة .

ص: 179


1- سورة الأعراف، الآية: 157.

سابعاً: أحكام الرضاع

الآية 233

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)»

233 - وقد يكون للمطلّقة رضيع فناسب ذكر أحكامه بشكل عام«وَالْوَالِدَاتُ » حتى لو كنَّ مطلقات يحق لهن أن « يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ» سنتين« كَامِلَيْنِ » بلا نقيصة بالتسامح « لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ » من الأمهات، و«مَن» يراد به الوالدة، فليس إرضاع السنتين بواجب عليهن بل هو حق لهن إن شئن أخذن به، « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ »وهو الأب « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» أجرة على الرضاع « بِالْمَعْرُوفِ »المقدار الذي أمر به الشرع وهو اللائق بحالها - من نفقتها أو أجرة رضاعها ، هذا إذا تمكن منه الزوج وإلا فبالمقدار الذي يتمكن ف-« لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا» ما تقدر عليه من غير حرج، « لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا » بأن يضرها الأب بأخذ الولد منها قهراً، أو لا ينفق عليها ، أو يترك

ص: 180

مباشرتها رعاية للولد، وغير ذلك، « وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ »بأن تضرّ الأمُّ الأبَ بمنعه من الاستمتاع بحجة الولد، أو تمنع الوالد عن رؤية ولده ، أو تطلب النفقة أكثر من وسعه، « وَعَلَى الْوَارِثِ » وارث الأب إن مات « مِثْلُ ذَلِكَ » مثل ما كان على الأب فلا يحق له أن يضار الوالدة وعليه أن يرزقها ويكسوها من نصيب الرضيع من الإرث -.

ورضاعة الحولين ليست بواجبة بل المهم مراعاة مصلحة الرضيع « فَإِنْ أَرَادَا» الأبوان « فِصَالًا »فطم الرضيع « عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ »في مصلحة الرضيع « فَلَا جُنَاحَ » لا إثم « عَلَيْهِمَا »في هذا الفصال.

وإن أسقطت الأم حقها في الإرضاع أو طلبت أجرة أعلى، أو لم تتمكن منه لمرض أو جفاف لبن أو موت، وحينئذ« وَإِنْ أَرَدْتُمْ»أيها الآباء « أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ»أي تأخذوا مرضعة لهم « فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ» للمرضعة « مَا آتَيْتُمْ » لهنّ من الأجر « بِالْمَعْرُوفِ »بدون نقصان أجرتها ولا مطل ولا منّ، وذلك أدعى لها لمراعاة الولد« وَاتَّقُوا اللَّهَ» فالتزموا بهذه الأحكام المذكورة « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ »يشاهد أعمالكم فيجازيكم عليها .

بحوث

الأول : قوله تعالى «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»

سياق الآية في بيان حكم المطلّقات، ولكن حيث إنه لا فرق في

ص: 181

إحكام الأولاد بين الزوجة والمطلّقة، فلذا عممت الآية الكلام بقوله تعالی «وَالْوَالِدَاتُ».

والآية في صدد بيان حق الأم في إرضاع ابنها، وليست في مقام بیان الحكم التكليفي - من وجوب الإرضاع أو استحبابه -، فالمعنى أن الوالدات أحق بإرضاع أولادهن، فلا يجوز انتزاع الأولاد منهن وإعطاؤهم لمرضعة أخرى إذا تبرعت الأم بالإرضاع أو رضيت بما رضي به غيرها، وإنما جعل اللَّه هذا الحق لهنَّ رعاية لهنَّ ولأولادهنّ، فالأم أبّر بولدها من غيرها، ولبنها أوفق به من لبن غيرها، كما أن الطفل انس بها من غيرها ، وقد ثبت أن الإرضاع أفضل لنمو الطفل جسماً وعاطفة.

ويستفاد استحباب إرضاعهن من أدلة أخرى، بل قد يجب عليهن إذا لم يرتضعإلَّا من أمه، أو لم توجد له مرضعة، أو عجز الوالد عن الاستئجار، مع عدم وجود بديل كالحليب المجفّف - مثلاً -.

وتقييد الحولين ب-(الكاملين) لكثرة التسامح عرفاً في المقادير، وخاصة أنَّهم يلغون الكسور عادة فإن تجاوز الكسر عن النصف ألحقوه بالعدد الأكبر، وإن قلّ ألحقوه بالعدد الأقل، وحيث إن الأحكام المرتبطة بالرضاع ترتبط بالزمان الدقي لذلك قيّده بالكاملين لبيان أنَّه لا تسامح في هذا العدد.

والآية تدل على أنَّه لا رضاع بعد الحولين، فلذا لا يتبعه أحكام الإرضاع، فلا تجب نفقة الإرضاع بعد الحولين، ولا تتحقق المحرمیّة بهذا الإرضاع.

ولا يخفى انسجام التكوين والتشريع في كل شيء - كما مرّ مراراً -

ص: 182

والطفل لا يحتاج إلى الإرضاع بعد السنتين، بل قد يعيق ذلك نموّه العقلي والجسمي، فلذا كان الإرضاع بعد تمام الستين مكروهاً .

الثاني : قوله تعالى « لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ » .

الظاهر أن المراد ب-(مَنْ) الأم، أي إذا أرادت الأم إتمام الرضاعة فيكون تذكير «أَرَادَ »و« يُتِمَّ » باعتبار رجوع الضمير إلى (من) الموصولة .

ويحتمل أن يكون المراد به الرضيع، أي للرضيع الذي يريد الاستمرار في الارتضاع، وقيل : المراد به الأب أي إذا أراد الأب إتمام الرضاعة فللأم أیضاً الإرضاع، فتدل الآية على أن الحق بينهما - بین الأب والأم -، وهذا الاحتمال الثالث بعيد، لأنَّه للأمّ الحق في الإرضاع سواء رضي الأب أم لم يرضَ.

الثالث : قوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» .

بيان لأجرة الرضاع، فعلى الوالد أن يدفع أجر رضاعها إلى أن تنتهي الرضاعة في الحولين، فيكون قوله « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» بيان لمصادیق الأجرة - من الطعام واللباس -، فإن كانت الأم مطلّقة بائنة وجب لها الأجرة فقط، وإن كانت زوجة فتستحق النفقة أیضاً مضافاً إلى الأجرة .

هذا إذا لم تكن متبرعة في الإرضاع، فالآية في صدد بيان حقها في الأجر، ولكنها يمكنها إسقاط حقها، كل ذي حق مالي يحق له إسقاط حقه.

وقيل: قوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ »سواء كانت المرضعات زوجات أم مطلقات بائنات، أما الزوجة فيجب الإنفاق عليها

ص: 183

لجهتين - باعتبارها زوجة وأجرأً على إرضاعها -، وأما المطلقة البائنة فالإنفاق لأجل الأجر فقط.

ثم إن قوله «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ...» - عبر عن الأب ب-(المولود له) - للإشارة إلى علة وجوب الأجر عليه، فإن الأم ولدته له، ونفعه في المستقبل يكون له أكثر من نفعه لأمّه - عادة -، ومن له الغُنم فعليه الغرم، مضافاً إلى أن في هذا التعبير إثارة لعاطفة الأب فالولد ولده فاللازم أن يشفق عليه، فلا يجعل الولد محل تصفية حساباته مع أمّه المطلّقة، وبعبارة أخرى إن الخلافات الزوجية يلزم أن لا تسري إلى الولد فتلك الخلافات غير مرتبطة به، بل على كل من الأب والأم أن ينظر إلى الطفل باعتباره ولده ولذا قال «أَوْلَادَهُنَّ »و« الْمَوْلُودِ لَهُ».

وأما قوله «بِالْمَعْرُوفِ»أي الأجر المتعارف لمثلها اللائق بحالها مع مراعاة حال الزوج - ماليّاً واجتماعيّاً -.

الرابع: قوله تعالى« لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ».

أي تكليف الأب والأم إنما هو بما يسعهم ودون طاقتهم، فالشريعة سهلة سمحاء لاحظت مصلحة الجميع مع التيسير عليهم، فلا تتحمل الأم الإرضاع بلا أجر، فسعتها أن ترضع بأجر، ولا الأب ينتفع في المستقبل بولده مجاناً، فسعته أن يدفع الأجر بما يعود نفعه إليه.

والحاصل أن الأم ترضع حسب قدرتها ببدل، والأب مكلف بالنفقة حسب وسعه، قال تعالى «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)»«لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ

ص: 184

سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)»(1). و(الوسع) هو دون الطاقة من «السعة» ، فلم يكلف اللَّه الناس بمنتهی قدرتهم بل جميع التكاليف دون الطاقة، رحمة بهم ولطفاً عليهم.

الخامس : قوله تعالى«لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ».

«لَا تُضَارَّ» إما مبني للفاعل أي «لا تُضارِر» أو مبني للمفعول «لا تُضارَر»، والمقصود هو أنَّه لا يجوز لكل من الأب والأم أن يلحق الضرر بالآخر، ولا يحق لهما أن يلحقا الضرر بالولد، وهذا حكم عام شامل لجميع مصاديق الإضرار، وعدم جواز الإضرار بالغير حكم عقلي قبل أن يكون شرعيّاً .

وفي حالات الطلاق تغلب حالة السخط وحب الانتقام فإن تمكن أحدهما من الإضرار بالآخر فعل، وإن لم يتمكن فقد يلحق الضرر بالولد للانتقام من أبيه أو أمه.

وكذا في الحياة الزوجية قد يحاول كل من الزوجين اختلاق الأعذار للتملّص من حق الآخر، فالمرضعة - سواء كانت زوجة أم مطلقة - عليها أن لا تضرر بالرجل ولا بالولد، وكذا الرجل.

وللإضرار مصادیق مختلفة .

فمن مصادیق مضارة الرجل :

1- عدم الإنفاق عليها، استغلالاً لحالة عطفها عليه .

ص: 185


1- سورة الطلاق، الآيتان: 6 -7

2- أخذه منها وإعطاؤه لمرضعة أخرى، انتقاماً منها.

3 - منعها عن حضانته ورؤيته .

4- عدم ملامستها بحجة مراعاة مصلحة الولد لئلا يولد بعده آخر .

ومن مصادیق مضارة المرأة :

أ- منع الزوج من الاستمتاع بحجة الولد.

ب - طلب النفقة أكثر من الأجرة أو من وسعه استغلالاً لعطف الأب عليه .

ج- عدم السماح للوالد برؤية ولده وحجبه عنه .

ولا يخفى أن ما ذكر في الروايات من منع الملامسة (1)فهو بيان لبعض المصادیق، خصصت بالذكر لشيوعها.

وقوله «تُضَارَّ»من باب التفاعل، وهو فيما إذا كان الفعل بين اثنين مثل تضارب زید وعمرو أي ضرب كل واحد منهما الآخر، واستعمال هذا الباب هنا إما للمبالغة إذا كان الفعل من واحد، وإما لأن الضرر يرجع - عادة - إلى المضار أیضاً ، فمن يلحق الضرر بالآخر يرجع الضرر إليه أیضاً ، وخاصة في القضايا الاجتماعية والخلافات الزوجية، فالمرأة التي تلحق الضرر بزوجها تسبب المشاكل العائلية، وضرر ذلك يعود إليها بالمآل، وكذا الرجل الذي يضر زوجته، وهكذا في الطليقين فالضرر يكون عليهما وعلى الولد أیضاً ، فقد ينشأ نشأة غير سويّة فيكون وبالاً على الأبوين في المستقبل.

ص: 186


1- راجع البرهان ج2، ص207 - 210.

السادس : قوله تعالى : « وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ » .

أي مثل الذي كان على الأب من أجرة المرضعة، ومثل عدم مضارته، فلومات الأب فعلی وارث الأب أن يدفع أجر الإرضاع من حصة الرضيع من الإرث، فلا يمنع الأجر عليها، وكذا لا يحق لوارث الأب أن يُضارّ الأم فينتزع الرضيع منها أو يبخسها حقها، فقوله « وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ » يرتبط بكلا الجملتين « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» و««لَا یُضَارَّ » قال الإمام الصادق عليه السلام : قضى أمير المؤمنين عليه السلام قال في رجل توفي وترك صبيّاً فاسترضع له، قال: أجر رضاع الصبي مما يرث من أبيه وأمه (1).

ثم إن هنا تفاصيل فقهية كثيرة في الإرضاع والأجرة تطلب من الكتب الفقهية المفصلة (2).

السابع : قوله تعالی «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا » .

أي يجوز فطام الرضيع قبل الحولين، فهذا حق للزوجين معاً فلذا يلزم اتفاقهما في ذلك، فالأب لولايته ولوجوب النفقة عليه، والأم لأن الإرضاع عليها وحضانته لها، وحيث إن الحق لهما فلا بد من اتفاقهما ، فقال «عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا» ، وحيث إن الرضا المجرد لا يكفي فلا بد من التشاور، فإن تقليب وجوه الرأي ينتج القرار الأفضل، وفي ذلك مصلحة للرضيع، فقد يتضرر إذا استقلَّ أحدهما بالفطام.

ص: 187


1- الوسائل: ج21، ص456.
2- مثلا راجع موسوعة الفقه ج98 ص 132 فما بعد.

وفي الآية دلالة على لزوم أخذ رأي النساء فيما يرتبط بهن من حقوق فلا يجوز استبداد الرجال في القرار فيما يتعلق بحق المرأة ، سواء كان حقا ماليّاً أم اجتماعيّاً أم سائر الحقوق، وقد يقال بأنَّها لا تستشار في الأمور العامة ولا يؤخذ برأيها فيها، ولعلّ الأصح أن الأمور العامة إن ارتبطت بالتصرف في حقوقها فلا بد من رضاها، إلّا إذا دل الدليل على سقوط حقها أم عدم اشتراط رضاها، و اللَّه العالم.

الثامن : قوله تعالی«وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا ...»

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ»أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ »«مَا آتَيْتُمْ »«بِالْمَعْرُوفِ»« وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)» الآية .

بعد إثبات أن حق الإرضاع للأم حصراً ، يأتي بيان حكم ما لو لم تسقط الأم حقها، أم لم تتمكن من الإرضاع، أو أرادت مضارَّة الزوج بطلب أجرة أكثر، أو أرادت أخذ الأكثر مع وجود مرضعة تريد الإرضاع مجاناً أو بأجرة أقلّ، ففي هذه الصور يجوز للأب بل قد يجب أن يسترضع امرأة أخرى، ولذا كان الخطاب للآباء فقط فقال«وَإِنْ أَرَدْتُمْ » ولم يقل «وإن أرادا»، وحيث إن المرضعة ليست أمّاً للرضيع فحنانها أقل وقد لا تراعيه أو تضره، فلذا حثت الآية على إرضاء المرضعة وإعطائها حقها فوراً وبالمعروف ليكون ذلك حافزاً لها على مراعاة الرضيع، لأن بخسها حقها قد يؤدي بها إلى إهماله أو محاولة الانتقام من الأب عبر إضرار الرضيع، فقوله «إِذَا سَلَّمْتُمْ » كأنَّه للحث على إعطائها الأجر فوراً ويداً بيد، وقوله «مَا آتَيْتُمْ » أي ما أردتم إيتاءه إليها من الأجر، وقوله «بِالْمَعْرُوفِ» بأن لا تُنقص حقها ومن غير إيذائها بالتسويف والمنّ والإذلال ونحو ذلك.

وفي الكشاف: يجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه

ص: 188

المرضع من أهنأ ما يكون، لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره، فأمرنا بإيتائه ناجزاً ويداً بيد(1).

التاسع : قوله تعالی «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » .

حثّ من جديد على تقوى اللَّه بمراعاة الأحكام المذكورة في الآية ، ووعيد للمخالفين بأنَّه تعالى يراهم فيجازيهم على أفعالهم.

وقيل إن الأحكام المذكورة في هذه الآية حيث إنها مرتبطة بالعمل وبأمور ظاهرة للعيان، لذا ختمت الآية بأنَّه تعالى بصير «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » ، وأما المذكورة في الآية 231 حيث إنها ترتبط بالنية وهي أمر غير معلوم بالعيان، لذلك ختم تلك الآية بأنَّه تعالى عليم «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » ، و اللَّه العالم.

ص: 189


1- الكشاف: ج 1، ص309.

ثامناً: أحكام وفاة الزوج

الآيتان 234-235

«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)»«وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)»

236 - «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ » يموتون «مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ » يخلّفون من بعدهم «أَزْوَاجًا » حرة كانت أم أمة، دائمة أم منقطعة، مدخول بها أم لا، صغيرة أم كبيرة أم يائسة، «يَتَرَبَّصْنَ»تنتظر الزوجات « بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا »فعليها الحداد بترك الزينة والزواج، «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ »بأن انقضت مدة العدة «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ » من الزواج أو ترکه، فلا ولاية لكم عليهن، «بِالْمَعْرُوفِ » بما يجوزه الشرع، فلو أردن المنكر فعلیکم منعهن، «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ

ص: 190

خَبِيرٌ »عالم ببواطن الأمور وهذا ترغيب للطاعة وترهيب عن المعصية .

235 -«وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» عليك أيها الرجال « فِيمَا عَرَّضْتُمْ »بالإشارة الخفية لا بالتصريح «بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ» بتوجيه الكلام إليهنَّ تلويحاً في رغبتكم في الزواج بهنَّ بعد العدَّة، « أَوْ أَكْنَنْتُمْ »أي أضمرتم «فِي أَنْفُسِكُمْ » من أمرهنّ، «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ»لذا بیّن لكم المباح من الحرام، « وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا » أي لا تذكروا ما يستقبح ذكره في العلانية كالوطء ومقدماته ، أو بمعنى لا تتحدثوا معهنَّ في السرّ «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا»مما لو ظهر إلى العلن لم يكن به بأس، « وَلَا تَعْزِمُوا »لا تقصدوا «عُقْدَةَ النِّكَاحِ » بإجراء صيغة عقد النكاح «حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ » ما كتبه اللَّه عليهنَّ من العدّة «أَجَلَهُ»نهايته، « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ » من العزم وقصد الطاعة أو المعصية «فَاحْذَرُوهُ » احذروا عقابه فلا تعزموا على ما لا يجوز، «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ »يستر عاجلا «حَلِيمٌ » لا يعاجل بالعقوبة فلا تغتروا بعدم عقابه العاجل فتمادوا في الغيّ.

بحوث

الأول : بعد ذكر أحكام المطلّقات وأولادهن تنتقل الآيات إلى بيان حكم المتوفى عنها زوجها، فبيّنت عدة أحكام ترتبط بهنَّ وبالرجال، وأبطلت عادات جاهلية.

ص: 191

1- تشريع العدّة، وحيث إن الغرض منها احترام الزوج واحترام العُلقة الزوجية، مع مراعاة مشاعر الزوجة وأولاد الميت وأقربائه، لذا كانت العدَّة لجميع من يتوفى عنهنَّ أزواجهنَّ، سواء كانت مدخول بها أم الا، وسواء كانت يائساً أم صغيرة أم لا، وسواء كان حرّة أم أمة، زواجهما دائم أم متعة، حامل كانت أم لا، ومن الواضح أن هذه العدَّة تتضمن الأقراء الثلاثة - في عدة المطلقة - فبها يتم استبراء الرحم أیضاً .

والحامل عليها الالتزام بهذه العدَّة أیضاً ، فإن تجاوز الحمل هذه المدة عليها الانتظار إلى وضع حملها، وقد صرّحت الروايات أن عدَّة الحامل المتوفى عنها زوجها هو أبعد الأجلين من الأربعة أشهر وعشراً ومن وضع الحمل، وأما قوله «وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ » (1)فذاك خاص بالمطلّقات كما يشهد به سياق الآيات هناك.

وحيث إن الغرض هو احترام المتوفي ورعاية المشاعر فيكون بدء العدة من حين بلوغ نبأ الوفاة - ولو كان بعد حين -.

2- تحديد العدة بأربعة أشهر وعشراً، رعاية للزوجات ودرءاً الأسباب الانحراف، لصعوبة صبرهن أكثر من هذه المدة، وقد دل على ذلك بعض الأحاديث كما مرّ، وكانت العرب في الجاهلية تعتد نساؤهم طوال عام كامل، فخفف اللَّه على النساء بأن أسقط ما يقارب الثمانية أشهر، وللأسف فإن هذه العادة الجاهلية سارية لحدّ الآن في بعض المجتمعات الإسلامية، وكان بعض الأقوام يمنعونهنَّ من الزواج ما بقي من عمرهن كما ينسب ذلك إلى النصارى.

ص: 192


1- سورة الطلاق، الآية: 4.

3 - عدم ولاية أحد على المتوفى عنها زوجها في أن تتزوج أو تترك الزواج بعد العدة، فولايتها لنفسها، فابطل هذا التشريع بعض العادات من جعل الحق لأقربائها في اكراهها على الزواج بأخ الميت أو بعض أقربائه، أو في جبرها على الحداد وعدم الزواج لمدة طويلة، أو تزويجها بمن يشاؤون .

نعم يستثنى من ذلك البكر إذا مات زوجها قبل الدخول فترجع الولاية لأبيها وجدّها من أبيها على المشهور، والتفصيل يطلب من الكتب الفقهية .

4 - إبطال عادة جاهلية بعدم التحدث مع النساء، لكن مع جعل إطار مشروع له وهو أن لا يتجاوز الآداب، وأن لا يكون سراً -حذراً من أن يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه -وقد يرغب أحد الرجال في الزواج بها ويخشى أن يسبقه غيره إليها، فلذا أجيز التعريض بالخطبة دون التصريح لتعلم المرأة بأنَّه يرغب في الزواج بها فتختاره إن شاءت بعد العدة .

5 - تشريع عدم جواز العقد في العدة حتى إذا كان الزواج بعد العدة، فهو عقد باطل بل قد يستلزم تحريماً أبدياً في بعض الصور - وهي مذكورة في الفقه -، وذلك رعاية لحرمة الزوج وللمشاعر وتنظيماً للعلاقات الاجتماعية

الثاني : إن الآية في حكم المتوفى عنها زوجها، ولكن ابتدأت الآية بذكر الميت في قوله «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ »، مع أن القاعدة الابتداء بمحور الكلام، ولذا كان (المبتدأ) هو قطب رحى الكلام - عادة -، ولعلّ أن الخطاب في كلا الآيتين للرجال باعتبار أنَّهم

ص: 193

المتحكمون في أمر النساء - عادة -، وأنَّهم هم الذين يتقدمون في خطبتهنَّ ونكاحهنَّ، فإن الأحكام وإن كانت ترتبط بالنساء لكن تنفيذها والالتزام بها يرتبط بالرجال باعتبار قیمومتهم عليهن وضعفهن وتأثرهن

بهم، فقال «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ »،«وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ »، «سَتَذْكُرُونَهُنَّ »، «لَا تُوَاعِدُوهُنَّ » ، « وَلَا تَعْزِمُوا »وهكذا .

الثالث : قوله تعالى «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ».

أي يحفظن أنفسهن عن الأزواج، وقد مرّ في قوله تعالى «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ » (1)سبب ذكر (أنفسهنَّ).

والحداد على المتوفى أمر يتطابق مع الفطرة، فإنَّه تعالى جعل مودة ورحمة وعلقة بين أفراد المجتمع وخاصة في الأقرباء، ولذا فإنّ فقدان أحدهم يؤثر نفسياً على الآخرين، وفي الحديث: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ(2).

فمراعاة هذا الأمر الفطري أهم من رعاية الشهوات الجسدية، ولذا وجب الحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها، باعتبار شدة ارتباطها بالزوج وقيمومته عليها، فلذا كان الأمر بحاجة إلى فترة زمنية تستعيد فيها المرأة توازنها بعد أن تؤدي احترام زوجها المتوفی -بترك الزينة وترك النكاح - وبعد أن تحترم مشاعر أقرباء الميت، وليكون لها فرصة كافية للتفكير في مستقبلها لئلا تقرر قراراً خاطئاً في حالة عدم التوازن النفسي.

ثم إن الشرع لم يجعل مدة العدّة طويلة جداً رعاية لحال النساء من

ص: 194


1- سورة البقرة، الآية: 228.
2- الكافي ج 3، ص 263.

الحاجة إلى من يرعاهن وحفظاً لهن من الأطماع، ولذا شرّع العدة بمقدار تحفظ فيه جميع المصالح من احترام الزوج ورعاية المشاعر وحاجة الزوجة، و اللَّه العالم.

الرابع: قوله تعالى«فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ».

الخطاب للرجال حيث إنهم قد يستغلون قوتهم وسطوتهم في منع النساء من حقهن، وخاصة أقرباؤها كالأب والأخ وغيرهما، فقد يمنعونها من الزواج نهائية أو لأمد طويل، وقد يجبرونها على الزواج ممن لا تريد، أو يجبرونها على ترك الزينة طويلاً وهكذا، فجاء التشريع على أن لها الحق في أن تقرر مصيرها بنفسها بشرط أن لا تتجاوز الحدود الشرعية، ولذا قال تعالى « فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ».

وفي الآية إشعار على لزوم مراقبتها كي لا تتجاوز الشرع، فمع أنَّه لا يجوز إكراهها على ما لا تريد وهي أملك لنفسها، في الوقت نفسه يلزم أن لا تترك وشأنها بل تراقب - من غير جبر -، ويدخل في هذا إرشادها ورعايتها وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر... إلخ.

الخامس : قوله تعالى«وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ».

(الخبرة) ترجع إلى العلم، ومعناها العلم بالتفاصيل من البواطن والحقائق والكيفيات، و اللَّه تعالی عالم بحقائق الأمور، عالم بالمصالح، عالم بالأعمال، ولذا أمر بالتربص في العدة، وأباح ما تريد فعله بالمعروف بعدها، فاختلاف الأحكام إنما هو لاختلاف الأوقات وما تستتبعه من تغيّر المصالح والمفاسد فلذا حكمه في كلا الحالتين هو مطابق للمصلحة، كما أنَّه تعالی خبير بأعمال العباد يعلمها ويعلم نواياهم

ص: 195

فلا يمكن إخفاء شيء منه، ففي قوله «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » ترغيب إلى طاعته وترهيب عن معصيته .

والحاصل أن الأحكام في هذه الآية ترتبط بالأعمال، والخبير هو الذي يتمكن من تشخيص الأعمال، و اللَّه سبحانه عالم بكل عمل ولذا أباح ومنع، كما أنَّه عالم بكل تصرف لذا يُثيب ويعاقب .

السادس : قوله تعالى «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ »

تدل الآية على كيفية التعامل مع المتوفى عنها زوجها ، وبينت بعض أهم الأمور الاجتماعية المرتبطة بها، فيمكن التحدث معها مع مراعاة الحياء .

فإن كان الرجل يريد الزواج بها وكتم ذلك في نفسه لكي يخطبها بعد العدة فلا بأس بذلك ولا محذور فيه، لأن ذلك ليس إضماراً لسوء بل إضمار لخير، والقبيح هو إضماراً لسوء، أما إضمار خطبة المتوفى عنها زوجها بعد عدتها فهو أمر حسن .

وإن أراد الرجل التعجيل في بيان رغبته في الزواج منها، حذراً من أن تفوته بعد العدة، فقد أجاز الشارع التعريض بخطبة النكاح .

ولا يخفى أن هذا التعريض قد يكون بالتحدث معها مباشرة أو بواسطة، أو بالتحدث إلى أقربائها ومن ترجع إليه في أمر زواجها تأدباً كأمّها وأبيها وغيرهم، ومن المعلوم أن التحدث مع أقربائها لا يكون إلّا في شأن الزواج معها فلا يكون إلّا معروفاً، ولكن التحدث معها قد لا يكون بالمعروف وخاصة إذا كان من غير اطلاع أحد، ولذا احتاج إلى

ص: 196

التنبيه إلى ذلك فقال «وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا».و هو التعریض بخطبة النکاح .

والحاصل أن التعريض قد يكون لها أو لأقربائها وذلك ما ذكر في قوله «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ ... »، وقد يكون بالتحدث معها بانفرادها وهنا يخشى أن يكون كلاماً غير لائق، فلذا كرّر تعالى الحكم مع تقييده بالمعروف «وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا».

و(التعريض) هو أن يتفوّه بكلام له معنی ولكن بغرض إفهام شيء آخر.

فيكون التعريض بخطبة النكاح هو الإشارة من طرف خفيّ بحيث تفهم المرأة بأن الرجل راغب في زواجها .

وإنما لم يجز التصريح لأنَّه خلاف الظرف الذي يحيط بامرأة المتوفي عنها زوجها، فظرفها ظرف حزن وحداد لا فرح وسرور .

السابع : قوله تعالى «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ».

لرغبتكم فيهنّ وخوفاً من أن يسبقكم أحد إليهنَّ، فأباح لكم التعريض، والظاهر أن لحن الآية هو لحن التهديد لبيان أنَّه تعالى لا يفوته شيء مما تعملون فاحذروه فلا تتعدّوا ما أباحه لكم، فقد أباح لكمالإضمار والتعريض فقط دون الأكثر من ذلك.

وقيل : المقصود بيان أمر فطري وهو الميل إليهنَّ، والشرائع الإلهية لا تقمع الميول الفطرية بل تضبطها وتهذبها .

ص: 197

لكن في ذلك خلط بين الأحكام الفطرية والشهوات النفسانية، فليس ذكرهن أمر فطري بل رغبة جنسية، لكنه تعالى لم يمنع من الرغبات إلّا ما فيه المضرّة، ولا ضرر في الإضمار أو التعريض لذا أباحه.

الثامن: قوله تعالى «وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا».

أي لا تواعدوهنَّ في السر بأنكم ستنكحوهنَّ بعد العدة، فإن هذا تصريح بالنكاح وهو لا يجوز، مضافاً إلى أن ذلك قد يؤدي إلى محرمات من الخلوة بالأجنبية أو التلفظ بكلمات خادشة للحياء، وقد يؤدي ذلك إلى ارتكاب المعصية، نعم إذا كان الكلام بالمعروف - بأن عرّض بالخطبة بحيث لا يسمعه إلّا هي - فذلك لا بأس به.

وقوله «سِرًّا » إما مفعول به فيكون كناية عن الملامسة، أي لا تواعدونهن بذلك فإنَّه تصریح وفحش من القول فيكون قوله «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا ...»استثناء منقطع، فالمعنى لا تواعدوهن بالملامسة لكن عرّضوا بالنكاح.

وإما مفعول فيه، أي لا تواعدوهن بالسرِّ إلّا بالقول المعروف فيكون الاستثناء متصلا. وعن علي بن أبي حمزة قال : سألت أبا الحسن علیه السلام قال عن قول اللَّه عزّ وجلّ «وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا » ؟ قال: يقول الرجل : أواعدك بيت آل فلان، تعرض لها بالرفث ويرفث، يقول اللَّه عزَّوجلَّ «إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا» والقول المعروف: التعريض بالخطبة على وجهها وحلّها(1).

ص: 198


1- البرهان ج 2، ص210، عن الكافي.

التاسع : قوله تعالى «وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»

لما أباح اللَّه تعالى التعريض بالخطبة وبالقول المعروف، أراد التأكيد على الوقوف عنده وعدم تجاوزه، كي لا يتوهم أحد أن عقد النكاح من المعروف، فيتصوّر أنَّه مباح مع انتظار انتهاء العدة لتحلّ المباشرة، فجاء قوله « وَلَا تَعْزِمُوا ...» للتأكيد على أن العقد في العدة لا يدخل في المعروف، بل زاد التأكيد بالنهي عن العزم على العقد، فإن المحرم وإن العقد ولكن العزم من مقدماته القريبة، فلذا تمّ النهي عنه بغرض جعل طوق حول الحرام، فكلّما كان الإنسان أبعد عن مقدمات الحرام كان أبعد عن الحرام نفسه، ولذا حُسن الاحتياط في الدين وعن كان هو الشبهات .

ثم إنَّ في قوله «عُقْدَةَ النِّكَاحِ » بيان أن النكاح - وهو من الأمور الاعتبارية - يشبه الربط الخارجي فكما أن الحبلين والخيطين المنفصلين يتصلان بالعقد، كذلك الرجل والمرأة يرتبطان ارتباطاً وثيقاً عبر النكاح .

والحاصل أنَّه يجب الانتظار إلى حين انتهاء العدة، وبعدها يجوز عقد النكاح .

العاشر: قوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ... »الآية .

عقّب اللَّه تعالى هذه الأحكام بالموعظة والتذكير بعلمه والتحذير من عقابه، وخاصة أن هذا الموضوع مما يكثر الزلل فيه، وهو من مداخل الشيطان، فبيَّنَ :

1 - علمه تعالى بما في النفوس، فضلاً عن عن الأعمال، فقد يعرّض

ص: 199

أحدهم بالنكاح ولكن قصده إغراء المرأة ليوقعها في الحرام، أو قصده الإضرار بها لكي لا تتزوج الخطاب ثم يتركها كالمعلّقة، أو أنَّه يعرّض لكي يعزم على النكاح قبل انتهاء العدة بالتحايل على المدة ونحو ذلك، فإن للقلب أحكاماً من واجبات ومحرمات وقد يكون حِليّة أو حرمة العمل مرتبطة بالنية.

2 - الربط بين التشريع وبين الخشية منه تعالى، فعلى الإنسان الحذر من مخالفة أحكامه ، نعم لو لم يكن حكم كان الأصل الإباحة.

3 - فتح باب التوبة، فإن المخالف يمكنه الرجوع لأنَّه تعالى غفور .

4 - تحذير من العقاب، وبيان أن عدم التعجيل في العقوبة ليس بسبب العجز أو النسيان بل بسبب الحلم.

ص: 200

تاسعا: الالتزامات المالية

اشارة

ثم إن الالتزامات المالية قد تكون حقّاً أوليّاً، وقد لا تكون واجبة لكن يستحب دفعها وهذا ما تكفلت بيانه الآيات (236 - .242 ).

1- الحقوق الواجبة

الآيتان 236-237

«لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)»

«وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)».

236 -«لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ»فلا إثم ولا مهر « إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ »بالجماع، «أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً » أي ولم تسموا لهنَّ مهراً معيناً، و«أو» بمعنى الواو، فلو لم يكن لا دخول ولا تعيين مهر فلا بأس بالطلاق، «وَمَتِّعُوهُنَّ »أي يجب إعطاؤهن شيئاً تنتفع به جبراً الخاطرها المكسور، «عَلَى» الرجل« الْمُوسِعِ» أي الغني « قَدَرُهُ » ما

ص: 201

يطيقه ويليق به فلا يدفع الأقل، «وَعَلَى الْمُقْتِرِ »الفقير الضيق الحال «قَدَرُهُ » فلا يلزمه الأكثر، فمتعوهنّ «مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ »بحيث يكون إحسانا لها لا إيذاء ومَنّ، «حَقًّا» واجبة هذا المتاع « عَلَى الْمُحْسِنِينَ »خُصوا بالذكر أنَّهم المنتفعون بهذا الحكم، فهم يحسنون الأنفسهم بامتثال التكاليف، ويكونون أصحاب نفسیات کریمة فيحسنون إلى مطلقاتهم.

237 - «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً » عينتم مهراً «فَ-» يجب عليكم «نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ » لهن، إلّا أن يتوب يسقطن هذا النصف فلا يأخذن منه شيئاً ، «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ» بأن كان له الولاية من الشارع کالأب والجد للأب على الصغيرة، أو كان وكيلاً لها في ذلك، « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى» فإنَّ من يتنازل عن حقه أقرب إلى أن يتقي اللَّه فلا يطلب ما ليس له بحق، ثم توجه الخطاب إلى الزوج فقال « وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ »وهو الزيادة الممدوحة بأن يدفع كل المهر «بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ».

بحوث

الأول : آخر مقطع من تشريع أحكام الحياة الزوجية يتعلق بالشؤون المالية، حيث إنَّه يلزم في الزواج المهر، وهو حق مالي - عادة - فعلی الزوج الوفاء بهذا الحق وخاصة حين الطلاق فيجب أن لا تكون

ص: 202

الخلافات الزوجية سبباً لتضييع الحقوق، فحلّ الخلاف بالطلاق - إنَّ لم يتيسر الصلح أو الصبر - وتبقى الحقوق على حالها فيجب أداؤها.

ثم إنَّ هناك تعليمات أخرى تتعلق بما ليس بحق مالي للمطلقة، وكذا للمتوفى عنها زوجها، ولكنها تعليمات مستحسنة وتخفّف وقع الطلاق عليها وكذا تُجفّف جذور الخلافات الأسرية بين أقرباء الزوجين أو تقلّلها.

وتنقسم المطلّقات إلى أربعة أقسام تختلف فيها أحكامهن المالية .

1- التي طلقها زوجها قبل الملامسة ولم يعيّن لها مهراً حين العقد -فإنَّ ذكر المهر ليس بواجب في العقد الدائم -فعلى الزوج أن يدفع إليها شيئاً تطييباً لخاطرها، وهذا الحكم تكفلت ببيانه الآية الأولى.

2 - التي طلقها قبل الملامسة، وقد عيّن لها مهراً، فيجب على الزوج دفع نصف المهر، وإن كان قد سلّمها كل المهر وجب عليها إرجاع النصف، وهذا الحكم بُيّن في الآية الثانية .

3- سمّى المهر وواقعها، فيجب لها كل المهر، سواء طلقها أم لم يطلقها، قال تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)»«وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)»(1)، فقوله «وَآتَيْتُمْ ...»هو ذكر المهر، وقوله «وَقَدْ أَفْضَى... »كناية عن المواقعة.

ص: 203


1- سورة النساء، الآيتان: 20. 21.

4- لم يذكر المهر وواقعها، فيجب عليه مهر المثل - أي بمقدار مهر أمثالها - وهذا ما بَیَّنَته السنَّة المطهرة .

الثاني : قوله تعالى : «إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ».

«أَوْ»هنا بمعنى الواو، نظير قوله تعالى «وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ »(1)، فالمعنى أنَّه لو طلقها ولم يكن شيء من الأمرين لا المس ولا الفرض، فالحكم حينئذٍ التمتيع.

وقيل : الآية في صدد بیان جواز هذا الطلاق، فيجوز طلاق غير المدخول بها، كما يجوز طلاق التي لم يُعيّن لها مهر، فعلى هذا التفسير يكون المعني جواز طلاق غير المدخول بها - سواء عين لها مهراً أم لا - وكذا في صدد بیان جواز طلاق التي لم يعيّن مهرها - سواء دخل بها أم لا-، وليست الآية بصدد بیان ثبوت المهر أو عدم ثبوته، ثم تذكر الآية حكماً عاماً بالتمتيع بإرجاع ضمير «وَمَتِّعُوهُنَّ »للنساء المطلّقات بشكل عام وعليه يكون عدم ثبوت المهر لغير المدخول بها التي لم يعين مهرها إنما ثبت بالسنة.

لكن الظاهر بقرينة الآية الثانية، أن الآية في صدد بيان الأحكام المالية للمطلقات، وأن المطلقة التي لم تمس ولم تفرض لها فريضة فيجب لها التمتيع، هذا مضافاً إلى أن الطلاق من أبغض الحلال، فلا يناسبه التعبير ب-(لا جناح)، بل الأظهر أنَّه في صدد بيان عدم التبعة في

ص: 204


1- سورة الصافات، الآية: 167.

المهر، أي لا تبعة واثم عليكم في عدم دفع المهر، لكن عليكم التمتيع، و اللَّه العالم.

الثالث : قوله تعالى « وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ».

أي أعطوا هذه المطلقة - التي لم تمسّ ولم يعيّن لها مهر - شيئاً تتمتع به .

ثم إنَّ المتعة واجبة في هذه المطلقة كما دلت عليه الآية، ومستحبٌّ في سائر المطلّقات إلّا المختلعة وقيل بوجوبه، كما يدل عليه قوله تعالى «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ »(1)، وتدل عليه الأخبار أیضاً (2)، وفيه جبر لخاطر المطلقة المكسور، وخاصة أن المهر معجّل عادة يسلّم للمرأة حين الزواج، فحين الطلاق لا يصل إليها شيء إلّا عبر المتعة، كما أنَّه سبب لتقليل العداوة، فإنَّ الطلاق هو نتيجة الاختلاف - عادة - فالتمتيع نحو تسريح بإحسان، كما أن فيه تعليم الزوج الإحسان إلى المطلّقة لا الانتقام منها.

وقد يقال إنَّ ضمير ومونه يرجع إلى و اللَّه فتكون الآية هي الدالة على المتعة في جميع المطلّقات، وأما وجوبه واستحبابه فهو يستفاد في الروايات.

هذا حكم المطلّقة قبل المس والفرض، أما لو مات عنها زوجها قبلهما فلها الميراث وعليها العدة لعموم أدلة الإرث وأدلة عدة المتوفی عنها زوجها ، مضافاً إلى الروايات والإجماع .

ص: 205


1- سورة البقرة الآية: 241
2- راجعها في تفسير البرهان ج 2، ص 217 - 218.

الرابع : قوله تعالى«عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ».

حيث إنَّ الزوجين لم يتفقا على مبلغ معين من المهر، ولا حصلت ملامسة، وإنَّما مجرد عقد لفظي، لذلك لا التزام بمبلغ معين ليجب الوفاء به، ولذا أوكل الشارع ذلك إلى مقدار طاقة الزوج.

فإنَّ الإنسان إذا التزم بشيء فعليه الوفاء بذلك الالتزام حتى لو كان صعباً لأنَّه صار حقاً للآخر، وما دام التزم فإنَّ الصعوبة نشأت منه لا من الشرع، نعم لو عجز عن ذلك فإنَّ للشرع حلولاً للخروج عن عهدة ما التزمه

أما لو لم يلتزم الإنسان بشيء فإنَّ تصرّف تصرفاً أوجب الضمان أو جعل حقاً معيناً في ذمته فالشرع يوجب أداء ذلك الحق كما لو وطىء الزوجة التي لم يعيّن مهرها فوجب لها المهر مثل أمثالها، ولكن إنَّ لم يتصرف هذا التصرف بل كان مجرد اتفاق لفظي فحينئذٍ لم يحدد الشرع شيئاً معينا بل أوكل الأمر إلى استطاعة الشخص، ولذا في المطلقة قبل المس والفرض أوجب على الغني ما يليق به ويطيقه فلا يجوز له دفع الأقل، وأوجب على الفقير قدره كذلك فلم يكلّفه بالزيادة، والحَكَم في ذلك العرف، وأما المتوسط الحال فلم يذكر إما لاتضاح الحكم فيه بعد ذكر الغني والفقير، وإما لأن المتوسط داخل في أحدهما لأن له درجات، وإما لأن (الموسع) يشمل المتوسط الحال.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : أما إنَّ الرجل الموسع يمتع المرأة بالعبد والأمة، ويمتّع الفقيرُ بالحنطة والزبيب والثوب والدراهم(1).

ص: 206


1- تفسير البرهان: ج 2، ص 230 عن الكافي.

وسُئل الإمام الباقر علیه السلام قال : ما أدني ذلك المتاع إذا كان معسراً لا يجد؟ قال: خمار أو شبهه(1).

ومن الواضح أن هذه الأمور مصاديق للمتعة، ذكرها الإمام علیه السلام كمثال، أو أنَّها كانت في زمانه قدر الموسع والمقتر.

ثم إنَّ اللازم مراعاة حاله ومراعاة حالها، أما حاله فلدلالة الآية «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ » ، وأما حالها فلدلالة الأخبار فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: وإنَّ لم يكن فرض لها فليمتعها على مثل ما يمتع مثلها من النساء(2).

والظاهر أن مراعاة حالها مدلول للآية أیضاً ، فقدر الموسر للمرأة الرفيعة غير قدره للمرأة الوضيعة، فتأمل.

الرابع : قوله تعالى «مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ » .

أي متعوهن متاعاً بالمعروف، و(المعروف) مطلق يشمل كل ما رآه الشرع حسنة، فلا يكون فيه إسراف ولا تقتير، ويكون إحساناً لا إيذاءً ، فإنَّ ما يدفع من المال بقصد الإيذاء يكون من المنكر حتى لو كان كثيراً، وأن يليق بشأنها حسب منزلتها الاجتماعية، وإلا لا يكون من المعروف حتى وإنَّ كان ثميناً، وأن تتمكن من الانتفاع به - ولو بيعه -، وهكذا .

الخامس: قوله تعالى« حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ».

إنَّما خصّ «الْمُحْسِنِينَ»بالذكر مع أن الحكم عام للجميع، لأجل أنَّهم هم المنتفعون بهذا الحكم، أو هم المتوقع منهم تطبيقه، وبعبارة

ص: 207


1- تفسير البرهان: ج 2، ص 221 عن التهذيب.
2- للتفصيل راجع موسوعة الفقه ج19 ص 360 فما بعد.

أخرى - كما في المناهج(1) - العمل بهذا التكليف يتوقع من أهل الكرامة والفضيلة يتواصلون ويتزاوجون ويتفارقون بإكرام وحیاء، لا الأجلاف الذين يتفارقون بعداوة وجفاء وبغضاء ويُصرّون على إبطال الحقوق والشؤون(2) و«الْمُحْسِنِينَ»لأنفسهم بامتثال الأوامر، وللمطلقات بإكرامهن، أو بمعنى يحسنون ويعرفون كيفية الطاعة.

ثم إنَّ في تسميتهم ب-(المحسنین) حثّ وترغيب لهم على الالتزام بهذا الحكم، ولا يخفى أن التمتيع هو نوع تسريح بإحسان المأمور به في آيات الطلاق.

السادس : قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ».

أي تعفو المطلّقات إما كلّه أو بعضه، أو يعفو من بيده عقدة النكاح وهو وليّ الصغيرة أو الوكيل عنها ، وهذا ما دلت عليه الأخبار.

وقيل إنَّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج فيدفع كل المهر، وفيه نظر لأن دفع الزيادة ليس عفواً بل هو فضل.

ولا يخفى أن أمر المهر بين ثلاثة : المرأة، وولي أمرها أو وكيلها، والزوج، أما المرأة فلها الحق أن تعفو عن حقها وذكرتها الآية«إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ»، وأما ولي أمرها أو وكيلها فيحق له العفو رعاية لمصلحتها ودل عليه قوله « أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ »، وأما الزوج فيمكنه أن لا يسترجع شيئاً من المهر إن كان دفعه كلّه إليها أو يسوق إليها المهر

ص: 208


1- مناهج البيان ج2، ص298.
2- المصدر السابق نفسه.

کاملاً إن لم يكن دفعه، وهذا فضل وزيادة على الحق ومكرمة ولعلّ قوله « وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » إشارة إلى ذلك، وقد يقال إنه أیضاً خطاب للمطلقات ومن بيده عقدة النكاح، فالفرق أن العفو عن كلّه والفضل عن بعضه .

السابع : قوله تعالى «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ».

« تَعْفُوا »إما مفرد أي تعفو المطلّقة، أو جمع حذفت النون للنصب أي تعفون أنتم - المطلّقات ومن بيده عقدة النكاح ، وجيء به مذكراً تغليباً .

أما إنه أقرب للتقوى فلأجل أنَّه طلب فضل من اللَّه تعالى وأنَّه استرضاء للزوج الذي كانت صفقته في هذا الزواج خاسرة، وفي ذلك تقليل للبغضاء ووأد للقيل والقال وما يلحقه من الكذب والافتراءوسائرالمحرمات.

وأيضاً من يترك حق نفسه أقرب إلى أن يتقي اللَّه من المعاصي وأن لا يطلب ما ليس له، وأن لا يظلم صاحبه.

الثامن : قوله تعالى «وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ».

في الخلافات الاجتماعية والزوجية تسيطر على الناس القوة الغضبية وتكون رغبة جامحة في الانتقام، وهنا الشرع لا يأمر بأداء الحقوق فحسب بل يرغّب إلى الزيادة على ذلك لأن من يتفضل أبعد من المعصية ، وكما ذكرنا فإن الدين جعل حواجز عن المحرمات لأن: من رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه كما في الحديث(1) -.

ص: 209


1- وسائل الشيعة ج18، ص 122.

والتعبير ب-«وَلَا تَنْسَوُا »فيه إيحاء بأن الخلافات تسبب نسيان الوجه الآخر المشرق، لذا اقتضى التنويه والتذكير.

و«الْفَضْلَ» هو الزيادة في المكارم بما يكون حسناً وممدوحاً، فإن لم يكن حسناً كان فضولاً - هكذا قيل - .

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : يأتي على الناس زمان عضوض يعضّ كل امرىءٍ على ما في يديه،وينسى الفضل، وقد قال اللَّه عزَّوجلَّ «وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ »ينبري في ذلك الزمان أقوام يعاملون المضطرين، هم شرار الخلق (1)

ص: 210


1- البرهان ج 2، ص 220، عن الكافي والتهذيب.
الآيتان 238 - 239

«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)»«فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)»

وحيث إن الخلافات الزوجية وخاصة ما يرتبط بالمال تلهي الإنسان عن الذكر لذا تمّ التذكير بها فقال تعالى:

238 - «حَافِظُوا » بمعنى المراعاة أي راقبوا واهتموا وواظبوا «عَلَى الصَّلَوَاتِ» اليومية الخمس،« وَ» خصوصاً على «الصَّلَاةِ الْوُسْطَى » أي الظهر فهي وسط النهار ووسط صلاتين نهاريتين ، «وَقُومُوا لِلَّهِ » أي بين يديه بنية الإخلاص «قَانِتِينَ »خاضعين عبر الرغبة إليه وإطاعته ودعائه.

239 - «فَإِنْ خِفْتُمْ » من القيام قانتين بسبب لصّ أو سبع أو عدو وغير ذلك من أسباب الخوف فلا تتركوا الصلاة خوفاً بل صلّوا بأية كيفية قدرتم «فَرِجَالًا» جمع راجل وهو غير الراكب سواء كان في حالة مشي أم لا« أَوْ رُكْبَانًا» جمع راكب، « فَإِذَا »زال الخوف و«أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ » بالصلاة التامة «كَمَا عَلَّمَكُمْ » أي بالكيفية التي بينها لكم عبر الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، أو بمعنى اذكروه شكراً له على نعمة

ص: 211

الشريعة فقد علّمكم «مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ »من كيفية الصلاة ومن سائر الأحكام.

بحوث

الأول: لعلّ سبب ذكر الصلاة وبعض أحكامها بين أحكام الحالات الزوجية من الطلاق والوفاة والمهر ونحوها، هو:

1- أن لا تلهيهم عن ذكر اللَّه مشاكل الحياة والخلافات الزوجية والأمور المالية، فلذا استدعى التنبيه على الصلاة في وسط هذه الأحكام، مع مراعاة الارتباط المناسب وهو ذکر حكم الصلاة في حال الخوف والأمن مما يعترض الإنسان في حياته، فكما يلزم أن لا ينتهي الإنسان عن الصلاة في حال الخوف كذلك في حال الخلافات العائلية .

2 - إن المشاكل العائلية وخاصة ما يرتبط منها بالأموال مظنة للتعدّي على الحقوق والإعراض عن الأحكام، وذلك من الفحشاء والمنكر، وحيث «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ »(1)، لذا كان التوجه إلى اللَّه بالصلاة معيناً للإنسان على البقاء على الصراط المستقيم.

3- إن الالتزام بأحكام الشرع - وخاصة في الخلافات - لا تكون إلّا ممَّن كانت نفسه مستعدة لقبول الحق، والصلاة - إذا كانت بحدودها وشرائطها - من أهم الأعمال التي توجب سموّ النفس والروح، فيسهل على صاحبها قبول الحق وإن كان مُرّاً صعباً .

ص: 212


1- سورة العنكبوت، الآية: 45.

4 - هذا مضافاً إلى مناسبة ذكر الصلاة بما ذكر في الآية السابقة حيث قال «وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » ، فالآيات تدل على لزوم عدم نسيان الأعمال الحسنة في الحالات الصعبة سواء كانت اجتماعية أم عبادية ، ففي حال الخلافات الزوجية لا تنسوا الفضل، وفي حال الخوف لا تنسوا العبادة، و اللَّه العالم.

الثاني : قوله تعالى«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى».

«الحفظ» هو مراعاة الشيء(1) ويقال لتذكر الشيء وعدم نسيانه لأجل أن مراعاته توجب بقاءه في الذهن، فمعنى الآية راعوا الصلاة ولا تضيِّعوها، ويكون ذلك بحفظ حدودها وشروطها وأجزائها وأدائها في أوقاتها مع توقیرها وعدم الاستخفاف بها، وذمّ اللَّه الذين يتركونها أو يتهاونون فيها فإن ذلك من علائم الكفر والنفاق، قال تعالى:

«فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)»«الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ»(2)، وقال«وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى »(3).

و« الصَّلَوَاتِ » هي الصلوات اليومية، كما اتفقت على ذلك الروايات فليست الآية في مقام تشريع وجوب الصلوات كي يستدل بها على وجوب جميع الصلوات المأثورة إلّا إذا دلّ الدليل على الاستحباب، بل الآية في مقام بيان الكيفيّة، أي تريد الحث والترغيب إلى المحافظة على الصلوات اليومية التي أمر بها الشارع، بأن تؤتي بنحو صحیح مع الاهتمام بها وبآدابها، لا بالاستخفاف والاستهزاء.

ص: 213


1- راجع مقاييس اللغة ص209.
2- سورة الماعون، الآية: 5.
3- سورة التوبة، الآية: 54.

« وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى »هي صلاة الظهر كما في مستفیض الروايات(1). فوقتها وسط النهار - وقت الزوال -، وكذا هي وسط الصلوات النهارية حيث تتقدمها صلاة الصبح وتتأخر عنها صلاة العصر - كما في الحديث (2)-.

وإنما أفردها تعالى بالذكر مع أنَّها من( الصلوات):

1- لأهمية وقتها. فعن زرارة ومحمد بن مسلم أنَّهما سألا الإمام الباقر علیه السلام عنها، فقال: صلاة الظهر، وفيها فرض اللَّه الجمعة وفيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم فيسأل اللَّه خيراً إلّا أعطاه اللَّه إياه(3).

2۔ ولأنَّها في وقت اشتغال الناس بأعمالهم ويصعب عليهم ترك عملهم وإقامة الصلاة، لذا تمّ التأكيد عليها .

3- وقد تكون في الحرّ الشديد، فقد قيل : كان الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم يصليها في القيظ ولم يكن للمسجد سقف فشقّت عليهم.

وتدخل صلاة الجمعة في« وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى » لأنَّها صلاة الظهر نفسها حقيقة مع اختلاف في الكيفية لا في الحقيقة، وعن الإمام الباقر علیه السلام : ونزلت هذه الآية يوم الجمعة، ورسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم في سفره ، فقنت فيها رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم وتركها على حالها في السفر والحضر، وأضاف للمقيم ركعتين، وإنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام، فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات صلاة الظهر في سائر الأيام(4).

ص: 214


1- راجع الوسائل ج 4، ص 22.
2- البرهان ج 2، ص 225 عن الكافي.
3- البرهان ج2، ص227، عن تفسير العياشي.
4- الكافي ج 1، ص 271 وعنه في البرهان ج 2، ص 224.

والمعنى أن هذه الآية نزلت يوم الجمعة في السفر فصلی رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم ركعتين، فكل واحد من المسافر والمقيم عليه هاتان الركعتان ، ثم أضاف الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم و للمقيم ركعتين في غير صلاة الجمعة ، وأضاف في صلاة الجمعة خطبتين بدلاً عن الركعة الثالثة والرابعة .

الثالث : قوله تعالى «وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ» .

(القيام) هنا بمعنى العزيمة والنهوض بالأمر(1) ، تقول (قام بهذا الأمر) أي نهض به، فالمعنى انهضوا بهذه الصلاة لوجه اللَّه تعالی متواضعين، فليس «وَقُومُوا » تكرار ل-«حَافِظُوا »- وإن كانا بمعنى واحد - إذ الغرض من«حَافِظُوا » الحث على الاهتمام بالصلاة، والغرض من «وَقُومُوا » بیان لزوم الإخلاص والخضوع في هذه الصلوات، فقوله « لِلَّهِ » يدل على أن الصلاة يجب أن تكون له تعالی خالصاً بلا رياء أو خلط مع أغراض أخرى، وقوله « قَانِتِينَ»من «القنوت» بمعنى الخضوع قال تعالى «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا...»(2).

ولهذا الخضوع مصادیق متعددة ذكرت الروايات بعضها(3)، فمن مصاديق الخضوع الإقبال على الصلاة والمحافظة على وقتها، والدعاء، والطاعة، والخشوع، وعدم التكلم وسطها، وغير ذلك.

وأما القنوت بمعنی رفع الیدین فهو أحد مصادیق القنوت بمعناه الأعم، ودلت الروايات على استحبابه في الركعة الثانية من الصلوات .

ص: 215


1- راجع مقاييس اللغة ص 839.
2- سورة الزمر، الآية: 9.
3- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص226 - 227.

الرابع : قوله تعالى «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ...» الآية .

في الآية السابقة ذكر الحكم بشكل عام فقال تعالى «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ...» ، وفي هذه الآية ذكر لحالتين متعاقبتين هما حالة الخوف وحالة الأمن بعد الخوف.

ففي حالة الخوف سهّل اللَّه الأمر على الناس برفع بعض الشروط كالطمأنينة والاستقبال والركوع والسجود، بل يأتي بما تيسر له ولو في حال المشي والركوب ويركع ويسجد بالإيماء، فاللازم على الإنسان أن يذكر اللَّه تعالى على كل حال، ولا تكون حالة الخوف سبباً للغفلة عنه تعالی، بل في ذلك الوقت يكون الإنسان أحوج إلى ذكره تعالی فعليه أن يذكره بالصلاة بأية كيفية تمكن.

ولا فرق في سبب الخوف سواء كان لصّا أم سَبُعاً أم عدوّاً ، في حالة حرب أم غيرها، وقد ذكرت الروايات بعض هذه المصادیق المذكورة.

ثم بعد زوال الخوف ينتهي حكمه ويرجع إلى الحكم في حالة الأمن وهو لزوم المحافظة على الصلاة بأركانها وشرائطها وما إلى ذلك.

ولعلّ التنبيه على حكم حالة الأمن - مع أن قوله «حَافِظُوا » يدلّ عليها - هو غفلة الناس عن ذكره تعالی بعد تجاوز الصعاب، قال سبحانه «وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ »(1)، كما أن الإنسان قد ينجو من الخطر بإعانة الغير أو بجهوده فیشکر الغير ويفخر وينسى أن الفضل يرجع كلّه للّه تعالى، قال سبحانه«قُلْ مَنْ

ص: 216


1- سورة الزمر، الآية: 8.

يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)»«قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ»(1).

وقوله «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ»أي فأقيموا الصلاة كاملة بأجزائها وشروطها، أو بمعنى اشكروه على نعمة الأمن، أو اشكروه مقابل نعمه ومنها تعليمكم الشريعة.

وقد استدل بهذه الآية على توقيفية العبادات، وكذا على توقيفية أسمائه .

ص: 217


1- سورة الأنعام، الآية: 63 - 64.
الآيات 260 - 242

«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)»«وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)»«كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)»

ثم إن المصارف المالية قد تكون حقاً أوليّاً، وقد لا تكون واجبة لكن يستحب دفعها، فيستحب الوصية للزوجة، كما يستحب دفع المتعة لجميع المطلّقات إلّا التي لم توطأ ولم يفرض لها فرض، وأما الواجب فهو المهر والمتعة للتي لم يعيّن لها مهراً ولم يدخل بها .

وأما الوصية للزوجة فهو ما بيّنه تعالی :

240 - «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ » تقرب وفاتهم«وَيَذَرُونَ» يخلّفون من بعدهم « أَزْوَاجًا » ، فليوصوا «وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ» ، كما يستحب وصيتهم للوالدين والأقربين(1)، ومحتوى الوصية هو: أن یُمَتَّعن « مَتَاعًا»ينتفعون به « إِلَى الْحَوْلِ» سنة كاملة بعد الوفاة« غَيْرَ

ص: 218


1- كما مرّ في قوله تعالى«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ»سورة البقرة، الآية: 180.

إِخْرَاجٍ » أي غير مخرَجات عن بيوت أزواجهن، لكن لا يجب على الزوجات الالتزام بهذه الوصية بل هو حق لهن إن شئن التزمن بالوصية وإن شئن تركنها،«فَإِنْ» اخترن عدم الالتزام بها و« خَرَجْنَ» عن بيوت أزواجهن « فَلَا جُنَاحَ» لا إثم ولا تبعة « عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ»من الزواج والزينة « مِنْ مَعْرُوفٍ » ما لا يخالف الشرع بأن كان الزواج والزينة بعد عدة الوفاة، «وَاللَّهُ عَزِيزٌ »فلا يقهر في حكمه «حَكِيمٌ » في تشريعه للأحكام.

وأما المتعة للمطلقات فهو ما بيّنه بقوله تعالى «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ » جميعاً يستحب «مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ » بما يعرفه الشرع - بمقدار متناسب مع إمكانات الزوج من غير أذى -، وهذا التمتيع يحقّ «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»، نعم المطلقة غير المدخول بها والتي لم يعين لها مهراً فتجب المتعة لها كما مرّ في الآية 236.

241 - كما بیّن اللَّه هذه الأحكام «كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ»علائمه - سواء في التشريع أم في التكوين - « لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »لتكمل عقولكم أو لتستعملوا عقولكم.

بحوث

الأول: الفرق بين هذه الآية وبين الآية 234، أن تلك الآية كانت في مقام بيان التكليف الواجب للزوجات المتوفى عنهنَّ أزواجهنَّ وفي

ص: 219

تكاليف غير مالية، وهذه الآية في مقام بيان ما يستحب للأزواج قبل موتهم بالوصية في القضايا المالية أو المرتبطة بالمال.

وروي أن هذه الآية منسوخة بأية العدة والميراث(1)، والظاهر أن المراد نسخ وجوب الوصية على الأزواج ووجوب الالتزام بها على الزوجات، وكذا نسخ وجوب إعطاء المتعة، فبقي الاستحباب بالوصية وبالمتعة على حاله.

فعن رسول اللَّه صلی الله علیه وآله وسلم : إن المرأة منكنَّ إذا توفي عنها زوجها، أخذت بعرة فرمت بها خلف ظهرها ثم قالت: لا أمتشط ولا أكتحل ولا أختضب حولاً كاملاً، وإنما أمرتكن بأربعة أشهر وعشرة ثم لا تصبرن!!!(2).

وعنه صلی الله علیه وآله وسلم: كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بَعرة فألقتها خلفها في دُویرتها ، ثم قعدت، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتقتها، ثم اكتحلت بها، ثم تزوجت، فوضع اللَّه عنكنَّ ثمانية أشهر(3).

فهذه كانت عادتهن ثم أقر الإسلام ذلك بقوله تعالى «وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ »، ثمّ نُسخ الوجوب وبقي استحباب الوصية بحاله، وعليه فيلزم إخراج ثمن المتاع وأجرة السكن في الدار من ثُلث الميت، لأن الوصية نافذة إلى حدّ الثلث فما زاد عن ذلك يشترط فيه رضا الورثة.

كما أن من عادتهم كانت عدم إرث الزوجة والاكتفاء بالإنفاق عليها با

ص: 220


1- راجع تفسير العياشي ج 1، ص 129.
2- البرهان: ج 2، ص212 عن الكافي ج6، ص117.
3- البرهان: ج 2، ص213، عن تفسير العياشي ج 1، ص 121.

طيلة السنة ثم أخرجت بغیر میراث، فأقر الإسلام ذلك في البداية ثم نُسخ عدم الإرث بتشريع إرثها الرُّبع والثُّمن. هذا ما ظهر لي في معنى الآية والروايات، و اللَّه العالم.

الثاني : قوله تعالى«وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ » .

قوله «وَصِيَّةً» مفعول مطلق محذوف الفعل أي ليوصوا وصية ، وقوله «مَتَاعًا»أیضاً مفعول مطلق أي ليُمتعن متاعاً، أو مفعول به ل_«وَصِيَّةً » أي : وصية متاعاً واللام في قوله « الْحَوْلِ» للعهد أي الحول المعهود المتعارف عند العرب - كذا قيل -، وقوله «غَيْرَ إِخْرَاجٍ » حال أي حال كونهنَّ غير مخرجات إخراجاً فحذفت مخرجات وأقيم إخراجاً مقامها.

وحيث إن الظاهر من لفظة المتاع هو المصاريف من الطعام والكسوة لذلك عقّبه بقوله «غَيْرَ إِخْرَاجٍ » ، لبيان أن تكون الوصية بشيئين : الرزق - من الطعام والكساء - والإسكان.

ولعلّ وجه استحباب هذه الوصية هو عدم امتلاك الزوجات للمال والمسكن عادةً، وقد تطول المدة في تقسيم الإرث، وقد لا تجد من يؤويها وينفق عليها، فإلقاؤها في الشارع فور وفاة زوجها بلا مأوى ولا نفقة ليس من المروءة، وإيكال الأمر إلى الوراث قد لا يفي بالغرض، إذ قد تكون بينهم وبينها خلافات عائلية، أو يكون بعضهم صغاراً فيجب حفظ حقوقهم كاملة، فالسنة هي فترة كافية لترتيب أوضاعها، لكل ذلك ولغيره من الأسباب استحبت هذه الوصية لتكون ملزمة لسائر الورثة مع عدم التعدي على حقوقهم وخاصة الصغار منهم، لكن ليس في ذلك إكراه

ص: 221

على المرأة، فقد تريد الانتقال إلى بيت أقاربها أو يكون لها مسكن تأوي إليه ومال تنفق منه على نفسها، فيجوز لها الخروج من غير سلطة لأحد عليها لكن شريطة أن تكون تصرفاتها ضمن دائرة الشرع. الثالث: قوله تعالي وواطلقت مع المعوي حقا على التنقيب .

هذا حكم استحبابي آخر، وهو إعطاء جميع المطلّقات المتاع - وهو ما تمتع به وتنتفع به -، ويستثنى من الاستحباب المطلقة غير المدخول بها التي لم يعين لها مهر فيجب تمتيعها كما مرّ في الآية 2396.

وقد مرّ أنَّه في العادة تعطى المرأة مهرها فور العقد معجلاً، فحين الطلاق لا شيء لها، فيكون التمتيع إرضاءً لها وجبراً لخاطرها المكسور، وفي ذلك درء للمشاكل حيث إن الإحسان يقلّل البغضاء والتوتّر، ولذا عقّبه بقوله « بِالْمَعْرُوفِ» أي معروف من حيث مقداره، ومعروف من جهة الإحسان وعدم الإيذاء، ومعروف من سائر الجهات.

ثم إن كان الطلاق بائناً استحب له تعجيل المتاع قبل طلاقها، وأما إن كان رجعيّاً فحيث إنها بحكم الزوجة وعليها البقاء في بيته وعليه الإنفاق عليها كما يرجى الرجعة، فلذا يستحب دفعه بعد انتهاء العدة ، فعن الإمام الصادق عليه السلام : متاعها بعدما تنقضي عدتها، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وكيف يمتعها وهي في عدتها ترجوه ويرجوها؟!، ويحدث اللَّه بينهما ما يشاء(1).

ثم إن قوله « حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ »ظاهر في الوجوب، لأن المستحب ليس حقّاً بل هو فضل، ويبدو أن المراد هو تنفيذ الوصية أي إن الوصية

ص: 222


1- الكافي ج6، ص105، وعنه في البرهان ج 2، ص 230.

بالمتاع والسكن إلى الحول يجب على الورثة تنفيذها، وأن يراعوا اللَّه فيها لا أن يستضعفوا الزوجة ويمنعوها من حقها الثابت لها بالوصية ، فيكون المراد من« الْمُتَّقِينَ » الورثة.

ويحتمل أن يكون المراد بالحق الوصية نفسها فنرفع اليد عن الظهور في الوجوب للروايات المفسرة وللإجماع على عدم الوجوب، فيكون المراد من« الْمُتَّقِينَ » الزوج الموصي نفسه فإن هذه الوصية هي مقتضی التقوى فتأمل.

الرابع : قوله تعالى «كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .

أحكام الشريعة هي آيات ودلائل على اللَّه تعالى، فإن التفكر فيها يسوق الإنسان إلى اكتشاف بعض المصالح والعلل، فيذعن بأن هذه الأحكام لیست تلفيقاً من بشر، بل هي من الخالق العالم بكل شيء لما فيها من المطابقة للفطرة، والمصلحة نوع الناس، وفي تنفيذها السعادة .

وحيث إن سموّ الإنسان بعقله، وبه يمتاز عن البهائم لذا كان تنمية العقل من أولى مهام الأنبياء، ولأنَّه بالعلم ينمو العقل كما قال تعالى « وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ »(1) لذلك كان من الوظائف تعليم الناس كل ما يرتبط باللَّه تعالى من إقامة البراهين على وجوده وعلى صفاته وعلى بطلان الأضداد والأنداد، وكذا بيان الأحكام والآداب والفضائل، فقوله«كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» أي بعلمكم بها عساكم تستعملون عقولكم أو تزداد عقولكم فتأتمروا بأوامره وتزدجروا عن نواهيه، وفي الآية إشارة إلى أن المنتفع بهذه الآيات هو الإنسان لأن اللَّه

ص: 223


1- سورة العنكبوت، الآية: 43.

غنيٌّ حميدٌ فلا تضرُّه المعصية ولا ينتفع بالطاعة، فبيانه للأحكام لكي يعقل الناس وفي ذلك سعادتهم.

وبعبارة أخرى - كما قيل - قرّرنا هذه الأحكام لتعقلوا ثم تعملوا بها، فإنَّ اللَّه قد یبیّن الشيء للعلم به ، وقد يبيّنه للعمل به، وقد يبيّنه للتعقل ثم العمل .

ص: 224

فصل في الجهاد

اشارة

ص: 225

ص: 226

فصل في الجهاد

بعد ذكر أحكام الصلاة والصوم والحج، وأحكام الموت والزواج والنكاح وغيرها، يأتي دور الجهاد في الآيات (243 - 260) ، ففي البداية يتمّ ذكر قصتين من بني إسرائيل، ثم بيان أن الجهاد يكون جهاد النفس أولاً، ثم الجهاد بالكلمة وبالمال وبالنفس، وفي بداية هذه المقاطع يتم بيان أن الإحياء والإماتة والرزق بيد الله، ثم تنتهي المقاطع بالتأكيد على ذلك مرّة أخرى، كما تتضمن الآيات تذكيراً باللَّه تعالى وبصفاته وبحوثاً أخرى سنشير إليها تباعاً ضمن مطالب.

ص: 227

المطلب الأول قصة أموات أحياهم الله تعالى

الآيات 243-245

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)»«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)»«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)»

243 - «أَلَمْ تَرَ» الرؤية بمعنى العلم، والاستفهام تقريري « إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ » مدينة من مدن الشام« وَهُمْ أُلُوفٌ » كانوا سبعين ألف بيت« حَذَرَ الْمَوْتِ » خوفاً من الموت بالطاعون، « فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا » أماتهم دفعة واحدة، « ثُمَّ أَحْيَاهُمْ » استجابة لدعاء حزقیل علیه السلام وإظهاراً لقدرته تعالى، فعاشوا ما شاء اللَّه حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء ثم ماتوا بآجالهم، « إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» عامة وعلى أولئك خاصة لذا أحياهم بفضله عليهم، « وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ » فضله ونعمه، فلا يعتبرون بهذه القصة وغيرها .

244 -« وَ»حيث علمتم عدم فائدة الفرار من الموت وأن

ص: 228

الفرار غير منجٍ عنه ف-«قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ » أي بما أمر به تعالی ونبيه خالصة لا للتسلط والتجبر، « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ »لأقوالكم، في التثبيط عن الجهاد أو الحث عليه،« عَلِيمٌ»بنياتكم وأعمالكم فيجازيكم عليها .

245 - وحيث إنَّ في الجهاد خطراً على النفس ويستتبع الإنفاق كثيراً ، فإنَّه تعالى يعوض تعويضاً كبيراً ف-«مَنْ ذَا الَّذِي » أي من هو ذلك الإنسان الذي « يُقْرِضُ اللَّهَ » يعطيه نفسه وماله« قَرْضًا حَسَنًا» حسب ما أمر تعالی مقروناً بالإخلاص وطيب النفس ومن مصادیقه صلة الإمام علیه السلام « فَيُضَاعِفَهُ » اللَّه تعالی له « لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً »لا تحصى كثرةً - في الدنيا والآخرة ،« وَ» لا تخافوا من الجهاد والإنفاق إذ « اللَّهُ يَقْبِضُ» بالإماتة والإفقار « وَيَبْسُطُ»بالإحياء والإغناء « وَإِلَيْهِ »إلى حسابه « تُرْجَعُونَ »على كل حال، فلا ينفعكم الفرار عن الجهاد والإنفاق، كما أن أولئك لم ينفعهم الفرار من الطاعون.

بحوث

الأول : بعد أن ذكرت السابقة جملة من أحكام الأسرة من الزواج والطلاق والوفاة والشؤون المالية والمشاكل الأسرية، انتقلت الآيات إلى ذكر أحكام الجهاد بما فيه من المخاطر على النفس، ومن الإنفاق عليه ، فابتدأت الآيات ببيان عدم جدوى ترك الجهاد والإنفاق حذراً من الموت والفقر، وذلك لأنَّه تعالى قدّر الموت والحياة لجميع الناس فلا ينفعهم

ص: 229

الفرار، كما أن الرزق بيده تعالی فيوسع على من شاء ويضيِّق على من شاء ، فلا الإنفاق يكون سبباً للفقر، ولا البخل يكون سبباً للغنى.

وحيث إنّ للقصة تأثيراً بليغاً في تنبيه الإنسان، ابتدأت أحكام الجهاد بذكر قصة قومٍ من بني إسرائيل فرُّوا من الطاعون، لكنهم ماتوا كلّهم دفعة واحدة من حيث أنَّهم ظنوا الهرب، ثم أحياهم اللَّه تعالى إظهاراً لقدرته ، وليكونوا مثلاً سائراً في الناس، فعن الإمام الباقر علیه السلام أنَّه قال : إن هؤلاء أهل مدينة من مدن الشام، وكانوا سبعين ألف بيت - إلى أن قال علیه السلام - فلمّا أحسّوا بالطاعون خرجوا جميعاً، وتنحَّوا عن الطاعون، حذر الموت، فساروا في البلاد ما شاء اللَّه ، ثم إنهم مروا بمدينة خربة قد جلا عنها أهلها، وأفناهم الطاعون، فنزلوا بها . فلما حطّوا رحالهم واطمأنُّوا بها، قال اللَّه عزَّوجلَّ : موتوا جميعاً، فماتوا من ساعتهم، وصاروا رميماً يلوح، وكانوا على طريق المارَّة، فكنستهم المارَّة فنَحَّوهم وجمعوهم في موضع، فمرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقیل، فلمّا رأى تلك العظام بکی واستعبر، وقال : يا رب لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتَّهم فعمروا بلادك، وولدوا عبادك، وعبدوك مع مَن يعبدك من خلقك، فأوحى اللَّه إليه : أفَتُحِبُّ ذلك؟ قال : نعم يا رب فأحيِهم، قال: فأوحى اللَّه عزَّوجلَّ إليه أن قل كذا وكذا، فقال الذي أمره اللَّه عزَّوجلَّ أن يقوله - فقال أبو عبد اللَّه علیه السلام وهو الاسم الأعظم - فلما قال حزقيل ذلك الكلام نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياءً ينظر بعضهم إلى بعض يسبِّحون اللَّه عزَّوجلَّ ويكبِّرونه ويُهلِّلونه، فقال حزقيل : أشهد أن اللَّه على كل شيء قدير(1).

ص: 230


1- الكافي ج8، ص198 وعنه في البرهان ج2 ص 233 - 234.

الثاني : قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ» .

الاستفهام هنا للتقرير سواء لم يكن السامع عالماً وأريد أن يعلم، أم كان عالماً، والرؤية هنا بمعنى العلم كقوله «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ »(1)، وأصل الرؤية هو النظر بالعين ثم استعملت في العلم أیضاً بمناسبة أن النظر هو من أقوى أسباب العلم، والمخاطب في«أَلَمْ تَرَ»إمّا الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم على طريقة «إياك أعني واسمعي يا جارة»، أو باعتباره صلی اللَّه علیه وآله وسلم واسطة في الفيض، وإما المخاطب الناس عموما فيكون المعنى ألم تر أيها السامع.

وقيل هكذا خطاب «أَلَمْ تَرَ»ونحوه للتعجيب أي تعجبوا من هذه الحالة فاعتبروا بها.

الثالث : قوله تعالى «فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا» .

في هذا التعبير بدل «فأماتهم »إشعار بأن موتهم لم يكن بحسب الأسباب الطبيعية، بل كان بحسب إرادته تعالى التكوينيّة وبقولة واحدة ، كما قال «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(2). ثم إن قوله قد يراد به مشيئته أو القضاء الحتم، أي شاء اللَّه موتهم فماتوا أو قضي عليهم الموت فماتوا، وقد يراد به خلق قول كانت الإماتة بذلك القول، فإنَّه تعالى جعل لكل شيء سبباً ، وكما جعل ملك الموت سبباً للإماتة بإذنه تعالى، كذلك يمكن أن يخلق قولاً يكون سبباً للإماتة ، وقيل : عبر عنه بالقول تنبيهاً على أنَّهم ماتوا موتة رجل واحد بمشيئة منه تعالی.

ص: 231


1- سورة إبراهيم، الآية: 19.
2- سورة النحل، الآية: 40.

وقد يقال : إن موتهم كان بس بسبب طبيعي - وهو الطاعون الذي فرّوا منه - فيكون الغرض من ذكر موتهم هو أنَّهم فرُّوا من الموت، ولكنه تعالى أماتهم بنفس السبب الذي فرُّوا منه، نظير قوله تعالى «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ »(1) أي إلى محل مقتلهم أو إلى قبورهم .

والحاصل أن هذا كالمقدمة لتشجيع المسلمين على الجهاد، حيث إن الموت لا مفرّ منه فليكن موتكم بالشهادة وهي أفضل ميتة .

الرابع : قوله تعالى «ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ».

عن الإمام الباقر علیه السلام قال: بل ردّهم اللَّه حتى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء ولبثوا بذلك ما شاء الله، ثم ماتوا بآجالهم (2).

وأما سبب إحيائهم :

1 - أراد اللَّه تعالى أن يُرِيَ خلقه قدرته -كما عن الإمام الصادق علیه السلام فبذلك ظهرت قدرته تعالى بالإماتة والإحياء (3).

2 - استجابة لدعاء النبي حزقيل علیه السلام ، وإظهار معجزة له، حيث إن اللَّه أحياهم بدعائه وبما علّمه من الاسم الأعظم كما مرّ في حديث الكافي لقصتهم -.

3 - وليصبحوا مثلاً في الآخرين، لتكون قصتهم موضع عبرة واتِّعاظ، وأن الفرار من الموت لا ينفع .

ص: 232


1- سورة آل عمران، الآية: 154.
2- تفسير العياشي ج1، ص130، وعنه في البرهان ج2، ص 234.
3- البرهان ج2، ص234 عن الاحتجاج.

4 - بيان فضله تعالى عليهم، وكما تفضل عليهم، فإنَّه يتفضّل على سائر الناس، حسب ما يراه من المصلحة، وللفضل مصادیق غیر منحصرة، وليس بالضرورة أن يكون فضله على الناس بشكل واحد، فهو القادر على كل أنواع الفضل.

فأصل خلقهم فضل منه تعالى، ثم رزقهم وتدبير أمورهم، ونعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب، وحتى أخذهم بالبأساء والضراء نعمة منه حتى يتنبهوا ويتضرعوا ويتركوا غيَّهم أو لرفع درجاتهم.

ومن مصادیق فضله على الناس أن قدّر قضايا الأمم سابقة ليكونوا مثلاً وعظةً للأمم اللَّاحقة، وقصة هؤلاء وبيانها في القرآن الكريم من ذلك الفضل.

الخامس: قوله تعالى:«وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1).

لما بیّن تعالى قصة إماتة وإحياء أولئك القوم وعدم فائدة الفرار من الموت، حثّ المؤمنين على الجهاد، فإن الفرار عن الجهاد حذراً من الموت غير مجدٍ، فإن الجميع سيموتون - سواء المجاهد والقاعد - فلتكن الميتة بالشهادة وهي أفضل أنواع الموت لما فيها من العِزّ ودفع العدّو والذكر الحسن والمقام الرفيع، والعقلاء يتحملون الأضرار الدنيوية التحصيل الربح في كل شؤونهم، وأيُّ ربح أكبر من رضا اللَّه والثواب والعزّ... إلخ، بل قد يكون الجهاد سبباً لتقدير طول الحياة وذلك لأن التخاذل عنه يوجب سيطرة العدو بما فيه من البطش والقتل، وليس كل

ص: 233


1- سورة البقرة، الآية: 244.

مجاهد يقتل، بل غالب المجاهدين فازوا بالنصر والغنيمة والسمعة الطيبة والعزّ لهم ولذراريهم. هذا مضافاً إلى الثواب الأخروي للجهاد في سبيل اللَّه .

و«سَبِيلِ اللَّهِ»هو شرط صحة الجهاد والثواب عليه، وذلك بأن يكون قتالاً عن أمر اللَّه تعالى، وبمراعاة شروط الجهاد من إخلاص النية ، والإيمان، والقتال تحت لواء من أمر اللَّه بالائتمار بأمره - وهو الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ومن بعده الأئمة ا أو من أمروا باتباعه -.

وأما القتال تحت لواء أئمة الجور وأشياع الضلالة من غير إذن من الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام فذاك ليس قتالاً في سبيل اللَّه تعالی بل هو قتال من غير إذنه تعالى فيكون قتالاً في سبيل الطاغوت.

ولو فرض انتفاع الدين والمؤمنين بذلك القتال فهو من مصادیق قوله صلی اللَّه علیه وآله وسلم إن اللَّه ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم(1).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : فليحكم امرؤ لنفسه، وليُرها كتاب اللَّه عثر وجل ويعرضها عليه، فإنَّه لا أحد أعلم بالمرء من نفسه، فإن وجدها قائمة بما شرط اللَّه عليه في الجهاد فليقدم على الجهاد، وإن علم تقصيراً فليصلحها وليقمها على ما فرض اللَّه تعالى عليها من الجهاد، ثم ليقدم بها وهي طاهرة مطهرة من كل دنس يحول بينها وبين جهادها، ولسنا نقول لمن أراد الجهاد وهو على خلاف ما وصفنا من شرائط اللَّه عزَّوجلَّ على المؤمنين والمجاهدين لا تجاهدوا !، ولكن نقول : قد علّمناكم ما شرط اللَّه عزَّوجلَّ على أهل الجهاد الذين بايعهم واشترى منهم أنفسهم

ص: 234


1- الكافي ج5، ص19.

وأموالهم بالجنان، فليصلح امرؤ ما علم من نفسه من تقصير عن ذلك ، وليعرضها على شرائط الله، فإن رأى أنَّه قد وفى بها وتكاملت فيه فإنَّه ممن أذن اللَّه عزَّوجلَّ له في الجهاد، وإن أبى إلّا أن يكون مجاهداً على ما فيه من الإصرار على المعاصي والمحارم والإقدام على الجهاد بالتخبيط والعمى والقدوم على اللَّه عزَّوجلَّ بالجهل والروايات الكاذبة، فقد لعمري جاء الأثر فيمن فعل هذا الفعل : إن اللَّه ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم (1)وحج الإمام زين العابدين علیه السلام فقال له رجل: تركت الجهاد وخشونته وأخذت بالحج وليونته! فقال له علیه السلام :

ثم بیّن اللَّه تعالى أن اللَّه سميع عليم بالنوايا والأعمال، فيعلم من يثبط عن الجهاد، ومن يتخلّف عن الجهاد،كما أنَّه يعلم بالمجاهدين وأن جهادهم هل هو في سبيله أم لا، ويعلم بمن يحث الناس على الجهاد، فيجازيهم جميعاً على أعمالهم وعلى ما يضمرون .

السادس : قوله تعالى«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ...»الآية .

هذه الآية المباركة غاية في الحث على الجهاد، فقد شبّه تعالى الجهاد بالقرض الحسن الذي لا يخسر صاحبه رأس المال بل يرجع إليه رأس ماله مع أرباحه، فالمُقرض هو المجاهد، والمستقرض هو تعالى، والقرض هو نفس المجاهد وماله، والربح هو أضعاف لا يحصيها إلّا اللَّه تعالى . فالقتال في سبيله تعالى المستتبع لصرف المال والخطر في النفس لا يذهب هدراً، وإنما المقاتل العامل بالبِرِّ يستوفي ثوابه أضعافاً مضاعفة .

ص: 235


1- الكافي: ج5، ص19.

ولا يخفى أنَّه تمَّ تشبيه الجهاد - بالمال والنفس - تارة بالقرض، وتارة أخرى بالبيع والشراء، كما قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ »(1)، ولعلّه لأجل أن إنفاق المال يخلفه اللَّه تعالى كما قال«وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ »(2) فكان الإنفاق كالقرض، وأما القتال فقد يسلم المجاهد ولا يصاب بأذى، فيكون كالقرض حيث أقرض نفسه لله ثم استرجعها بربح، وقد يقتل المجاهد فيكون الجهاد کالبيع والشراء فباع نفسه واشترى رضا اللَّه والجنة.

ثم إن (القرض) هو مجرد تشبيه لتقريب الفكرة إلى الأذهان وتليين القلوب، وليس كما زعمته اليهود إفكاً وطغياناً من حاجة اللَّه تعالى، قال سبحانه«لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ...»(3)، وهذا من مصادیق تحريف الكلم عن مواقعه وذلك بتحريف المعنى والمقصود.

وقوله «مَنْ ذَا الَّذِي »«من» استفهامية مبتدأ، و«ذا » خبر، و«الذي» بدل عنه، فالمعنى من هو هذا الذي يقرض، والغرض هو الأمر بالإقراض لكن جيء بالاستفهام ليكون أوقع في النفوس وأنسب للجزاء في «فَيُضَاعِفَهُ »

وقوله «َ قَرْضًا حَسَنًا » أي متَّصفاً بما يُحسّنه، من کون ذلك التصرف بإذن اللَّه تعالی وبإخلاص النية من غير رياء، ولا مَنّ، ولا إكراه، ولا سائر ما يشين القرض.

ص: 236


1- سورة التوبة، الآية: 111.
2- سورة سبأ، الآية: 39.
3- سورة آل عمران، الآية: 181.

وقوله «فَيُضَاعِفَهُ »أي يضاعف جزاءه، أو يضاعف نفس العمل بناء على تجسّم الأعمال، وإنما قال «يُضَاعِفَهُ » من باب المفاعلة - مع أن التضعيف هو فعل اللَّه سبحانه - للمبالغة.

وقوله « أَضْعَافًا كَثِيرَةً» وذلك حسب النية والعقل والعلم والمعرفة والتقوى ونوع العمل وغير ذلك مما هو دخيل في سمُّو العمل وصلاحه ، قال تعالى «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا »(1)، وقال «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا »(2)، وقال«مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ »(3).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية ومن جاء بالحسنة فله خير ينهاه قال رسول اللَّه صلی اللله علیه وآله : ربّ زدني، فأنزل اللَّه : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » والكثير عند اللَّه لا يحصى(4).

السابع : قوله تعالى : « وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » .

(القبض) هو الأخذ بالقبضة، فكان فيه معنى الاستيفاء والتجمع، وقبضه تعالی بمعنى الإماتة لأنَّها قبض للأرواح، وبمعنى الإفقار.

و(البسط) بمعنى الإحياء وبمعنى التوسعة في الرزق، وإن كان الغالب استعماله في الرزق كما قال تعالى«اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ

ص: 237


1- سورة القصص، الآية: 84.
2- سورة الأنعام، الآية: 160.
3- سورة البقرة، الآية: 261.
4- البرهان ج 2، ص 236 عن تفسير العياشي.

وَيَقْدِرُ » (1)وفي الآية بيان أن ترك الجهاد وعدم الإنفاق لا ينفع في الفرار من الموت والفقر، كما أن الجهاد والإنفاق لا يوجبان سرعة الموت أو الفقر، فإن الموت والحياة والرزق وكل شيء بيد اللَّه تعالى يقدّر حسب الحكمة، فكم من مجاهد رجع سالماً غانماً، وكم متخاذل عجّل اللَّه موته بذل - بالقتل أو بغيره -، وكم منفق ضاعف اللَّه أمواله، وكم بخيل افتقر من حيث كان يظن غناه، كل ذلك دليل على أن الأمور كلّها بيد الله، فلو أطعتموه في أوامره وخاصة الجهاد بالمال والنفس لكان خيراً لكم، ثم الجميع - المطيع والعاصي - يرجعون إلى اللَّه تعالى فيحاسبهم ثم يجازيهم إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ.

ثم إن من أفضل مصاديق إقراض اللَّه تعالى هو صلة الإمام علیه السلام ، لأن في ذلك تنفيذ أوامر اللَّه تعالى بمودتهم وإطاعتهم، كما أن فيه إقامة الدين لأن الأئمة علیهم السلام أعرف الناس بصرف الأموال في وجوه البِرّ ونشر الدين، فما في الأخبار من أن الآية في صلة الإمام علیه السلام (2) هو بيان لأهم المصاديق وأولاها.

ص: 238


1- سورة الرعد، الآية: 26.
2- راجع البرهان ج2، ص235 عن الكافي ج1، ص251 وتفسير العياشي ج1، ص131.

المطلب الثاني قصة طالوت

الآيتان 246- 247

«أَلَمْ تَرَإِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)»«وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)»

246 - «أَلَمْ تَرَ» استفهام تقريري « إِلَى الْمَلَإِ» الجماعة أو جماعة الأشراف « مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى» بعد وفاته بزمان، حيث تفشّى فيهم العصيان فسلط اللَّه عليهم الظالمين « إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ » اشموئيل بالعبرية، إسماعيل بالعربية، وروي أنَّه كان أرميا : « ابْعَثْ» هیِّئ وعَيِّن « لَنَا مَلِكًا » سلطاناً أميراً علينا ، لتأتمر بأوامره

ص: 239

و« نُقَاتِلْ »تحت لوائه « فِي سَبِيلِ اللَّهِ » لننجو من الظلم، وحيث كان النبي يعرفهم بالعصيان والخذلان فأراد استیضاح نياتهم وأخذ العهد منهم وإتمام الحجة عليهم ف- « قَالَ» النبيُّ : « هَلْ عَسَيْتُمْ »استفهام عما هو متوقع، أي لعلَّكم « إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ» أمركم اللَّه به « أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ » أي ما هو الدَّاعي لترك القتال « فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، بل الواعي للقتال شديدة « وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا »بالطرد منها« وَأَبْنَائِنَا » بقتل بعضهم وسبي آخرين، « فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ»أمرهم اللَّه به « تَوَلَّوْا» أعرضوا عنه « إِلَّا قَلِيلًا »كانوا ستين ألفاً،« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » فهم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم بترك الجهاد وهذا وعيد لهم.

247 - ثم بعد إتمام الحجة عليهم استجاب اللَّه الدعاء وعيّن ملكاً «و َقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ »عيّن عليكم « طَالُوتَ »من ذرية بن یامین بن يعقوب « مَلِكًا » ، لكنهم تمرَّدوا و« قَالُوا أَنَّى» كيف ومن أين « يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا »إذ هو ليس من سبط النبوة ولا من سبط الملك كما أنَّه فقير « وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ » لشرافتنا في النسب فقد كانت النبوة في بني إسرائيل في ذرية لاوي بن يعقوب، والملك في ذرية يهوذا أو يوسف، « وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ» فهو فقير!!

ف-« قَالَ »النبي في جوابهم : أما النسب فليس سبباً للملك، بل سببها الصلاحية، وطالوت أصلح منكم « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ »اختاره « عَلَيْكُمْ» و اللَّه لا يصطفي إلّا الأصلح، وأما المال فليس بمهمٍّ « وَزَادَهُ » اللَّه

ص: 240

« بَسْطَةً » زيادة « فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ » أي يلزم كون المَلِك ذا علم ليتمكن من إدارة المملكة، ويكون شجاعاً مهيوباً ينفذ قراراته ويجلب الأمن، وهذان يأتيان بالمال وليس العكس، ثم لا وقع لاعتراضكم أصلاً فإن اللَّه كما أتى الملك والنبوة في سبط لاوي ويهوذا أو يوسف، كذلك يؤتيه الآن في سبط بنيامين « وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ »عطاءً وقدرة فيتفضل على من يشاء « عَلِيمٌ »فلذلك يقدر ما هو الصلاح .

بحوث

الأول: تضمنت قصة طالوت مجموعة من أحكام الجهاد : منها : لزوم كون الجهاد بإذن اللَّه تعالى، بأن يكون تحت لواء من عيَّنه اللَّه تعالى، أو بإذن من عيَّنه اللَّه

ومنها : أن الدفاع عن النفس والأبناء والديار من مقاصد الجهاد، ولا تنافيَ بين هذا الدفاع وبين كون الجهاد في سبيل اللَّه تعالى، وذلك لأن اللَّه أمر بالدفاع فيكون الدفاع في سبيله تعالى .

ومنها : أن ترك الجهاد ظلم، فهو حرام .

ومنها : أن الإمام علیه السلام لابدَّ أن يكون أعلم من المأموم، وأن يكون شجاعاً، غير ذي نقص في جسمه، فلا تصح إمامة المفضول على الفاضل، ولا إمامة الجبان، ولا إمامة المعوّق جسماً .

ومنها : أن المعيّن من قبل اللَّه تعالى لابدَّ أن تكون له آية ومعجزة .

ومنها : لزوم اتباع الأمير المعين من قبل اللَّه تعالى، وحرمة مخالفته .

ص: 241

ومنها : لزوم الإعداد من العدد والعدة .

ومنها : الصبر وعدم الفرار من الزحف .

ومنها غير ذلك مما سيتضح في مطاوي الكلام، هذا مضافاً إلى اشتمال الآيات على العقائد وبيان فضل اللَّه تعالى، وشروط متولي الأمر، وصفات الأمة، وبطلان ملك أئمة الجور، وغير ذلك .

الثاني: قوله تعالى «أَلَمْ تَرَإِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ...»الآية .

وكان من قصتهم ما عن الإمام الباقر علیه السلام : أنّ بني إسرائيل من بعد موسی علیه السلام عملوا بالمعاصي، وغيَّروا دين الله، وعَتَوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبيٌّ يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه -وروي أنَّه أرميا النبي علیه السلام (1)-، فسلط اللَّه عليهم جالوت وهو من القبط(2)، فأذَلَّهم، وقتل رجالهم، وأخرجهم من ديارهم وأموالهم، واستعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم، وقالوا سل اللَّه أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، لم يجمع اللَّه تعالى لهم النبوة والملك في بيت واحد - إلى أن قال - وكانت النبوة في وُلد (لاوي)، والملك في وُلد (يوسف)(3)، وكان طالوت من ولد بنيامين أخي يوسف لأمّه لم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة . . . الحديث(4) .

ص: 242


1- هذه جملة معترضة ذكرها صاحب تفسير القمي في وسط كلام الإمام الباقر علیه السلام .
2- لعلّ المراد أن أصله كان من القبط، ويمكن القول بأن التواريخ التي ذكرت أنَّه كان من العمالقة ليست صحيحة، أو يقال إن العمالقة كانوا في أصولهم من القبط.
3- وفي تفسير العياشي ج1، ص132: وقد عرفت أن النبوة والمملكة في آل لاوي ويهوذا.
4- البرهان ج2، ص238. عن تفسير القمي.

ولا يخفى أنَّ القرآن الكريم لم يذكر القصص إلّا للاعتبار وللوعظ ولبيان الأحكام والعقائد، لأنَّها أكثر تأثيراً وأسهل للاعتبار والحفظ، ولذا اكتفى القرآن من القصص بما يصبُّ في الهداية لا أكثر، فلم يذكر التفاصيل الزائدة ولا الأمور الهامشية، ثم إن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام بينوا بعض التفاصيل إما إجابة لسؤال من سألهم أو لأجل البيان لمن شاء أن يعلم التفاصيل .

و(الملأ) الجماعة، أو الجماعة من الأشراف، لأنَّهم يملؤون العيون والصدور هيبةً، أو لا مزيد على شرافتهم الظاهرية .

الثالث : قوله تعالى «إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »

فزعوا إلى نبيّهم لعلمهم بأنَّه مرتبط باللَّه تعالى، وهذا دأب الكثير من الناس يعصون ويعرضون عن اللّه وأوليائه في الرخاء فلمّا يصابون بالشدة يلتجئون إلى اللَّه وإلى أوليائه بفطرتهم ولتقطع الأسباب عندهم، وقد يكون الابتلاء من لطف اللَّه تعالى بهم ليتضرَّعوا وليرجعوا إلى الصراط السويِّ كما قال سبحانه «... فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)»«فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا »(1)، مضافاً إلى أن سنن اللَّه تعالى لا تتغير فمن أفسد حصد النتائج المرة، قال سبحانه «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا »(2)، وبتعبير آخر إن اللَّه جعل أسباباً طبيعية وأخرى غيبيّة فمن أطاعه وتمسك بتلك الأسباب حصد النتائج المرجوّة، ومن ترك الأسباب الطبيعة وأعرض عن أحكامه تعالى فإنَّه يحصد المشاكل

ص: 243


1- سورة الأنعام، الآية: 42 - 43.
2- سورة طه، الآية: 124.

والخزيَ والعار، ولا يمكنه الخروج عن واقعه المزري إلّا بالرجوع إلى سنن اللَّه تعالى، وهؤلاء الملأ من بني إسرائيل لعصيانهم وخلودهم إلى الدعة والراحة وتركهم للجهاد تسلط عليهم أعداؤهم فساموهم خسفاً، وحيث شاهدوا الخزي والذُّلّ توجهوا إلى النبي صلوات اللَّه عليه يريدون تهيئة الأسباب الطبيعية وفي إطار مرضاة اللَّه تعالى، ولذا قالوا وأبعث لنا ملكا تقتل في سبيل اللَّه ؟

فأولاً : مراجعته : مراجعتهم للنبي هو تمسك بسبب طبيعي وغيبي معاً، لأنَّه مرتبط باللَّه وباب إليه تعالى كما قال تعالى« وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ »(1). ولأنَّه مسموع الكلمة بين الناس لعلمهم أنَّه نبيٌّ .

وثانياً : طلبوا تعيين الملك الذي به ينتظم الأمر فإنَّه لا بدَّ للناس من أمير، ولا يمكن التوجه للقتال إلّا بعد أن يكون هناك قائد يدير أمر المعركة، كما أعلنوا تهيؤهم للقتال إذ لا يمكن للأمير تنظيم الأمور إلّا برعيّة مطيعة، وإلا فلا رأي لمن لا يطاع - كما عن أمير المؤمنين عليه السلام(2).

وثالثاً : بَيَّنوا أن عملهم خالص لله تعالى، فليس جهادهم للسيطرة أو الغنيمة بل في سبيل الله، ومن المعلوم أن إنقاذ النفس والأهل والمال هو بأمر اللَّه تعالى فيكون في سبيله إذا أخلصوا النيَّة .

فلما بينوا استعدادهم للامتثال للأوامر استحباب اللَّه لطلبهم بعد دعاء النبي صلوات اللَّه عليه، وبعد تحذيرهم من المخالفة .

ولكن لماذا لم يطلبوا أن يكون نبيهم بنفسه الملك عليهم؟

ص: 244


1- سورة المائدة، الآية: 35.
2- الكافي ج 5، ص6.

والجواب : ما عن الإمام الباقر علیه السلام قال: وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، لم يجمع اللَّه تعالى لهم النبوة والملك في بيت واحد، فمن ذلك «قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »(1) ثم بعد ذلك جمع اللَّه الملك والنبوة في داود وسليمان علیهما السلام .

الرابع : قوله تعالى «قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا» .

وذلك لما كان المعهود منهم من اللّجاج والمخالفة، وما كان معروفاً منهم من أنَّهم أهل الدعة والراحة، ولصعوبة القتال وإحداق المخاطر بالمقاتلين، وكما قال أسلافهم لموسى علیه السلام «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ »(2)

وهذا دأب الكثيرين فيتكلمون في الفضائل والجهاد ويبيّنون استعدادهم لكل شيء حتى إذا حان وقت العمل تخاذلوا وجبنوا وتحججوا بمختلف الحجج والأوهام للفرار من المسؤولية، وها هم أصحاب الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم كانوا يتمنون الشهادة قبل أحد لكنهم انهزموا لمّا جدَّ الجدّ، قال تعالى «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »(3)

بل لعلَّ بعض هؤلاء الملأ من بني إسرائيل أرادوا إلقاء لوم مشاكلهم على اللَّه وعلى نبيّهم، فبقاؤهم في الذل والاستعباد هو نتيجة عدم تعيين

ص: 245


1- البرهان ج2، ص238، عن تفسير القمي.
2- سورة المائدة، الآية: 24.
3- سورة آل عمران، الآية: 143.

الملك عليهم، ولكن كان البعض الآخرون صادقين في كلامهم، فهم وإن كانوا أقلية لكن اللَّه سبحانه لما علم منهم الصدق استجاب لهم، وكان النصر على يدهم .

وقوله « هَلْ عَسَيْتُمْ » الاستفهام للتقرير، و«عسى» للتوقع، فالمعنى هو الاستفهام عما هو متوقع منهم بغرض إتمام الحجة عليهم بإقرارهم، وقد تكون وهل عسيتم إشفاقاً عليهم من مخالفة الأمر بالقتال فتكون المخالفة مزيداً في عصيانهم، فالعاصي كلما زادت تکالیفه زاد عصیانه قال تعالى«وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)»«وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ »(1).

الخامس : قوله تعالى «قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا ...»

غرضهم أن الداعي إلى الجهاد قوي فيهم فكيف تتوقع منهم المخالفة، فهم مظلومون أخرجوا من ديارهم أو سُبي أبناؤهم وغير ذلك فتكون الحمية والمصلحة قوية جدّاً في هذا القتال، لكنهم نسوا أن الذات وخوف الموت أقوى - كما ثبت في علم النفس - فهي تفوق كل الغرائز الأخرى، وفي القتال خوف الموت وتلف النفس فتكون أرجح من الأموال والأبناء، فلا يكون الإقدام على القتال إلّا بسببٍ قويٍّ جداً وذلك بقوة الإيمان في المؤمنين، أو بقوة الانتصار للذات بحيث يعتبر الإنسان عرضه أو شرفه أو ماء وجهه أهم من حياته، ولذا قد يتفانى بعض الناس - حتى غير المتدينين - في صون العِرض والسمعة وهذا يرجع في الحقيقة

ص: 246


1- سورة التوبة، الآيتان: 124 - 125.

إلى الانتصار للذات ومراعاتها، فتكون السُّمعة أو العرض في نظره أهم من الحياة حينئذ، أما الغالب فيرجح الحياة ولو كانت بذُلٍّ، على الجهاد وإن كان فيه العِزّ.

ثم يستفاد من تقرير القرآن لكلامهم هو أنَّه لا تنافي بين أن يكون القتال في سبيل اللَّه وبين الدفاع عن المال والأهل، لأنّ اللَّه تعالى أمر بحفظ الأهل والمال والعرض، والدفاع عنهم مقابل الظالمين، فيكون نفس الدفاع ضد الظالمين عملاً محبوباً، فإذا اقترن بالإخلاص استحق الثواب، نظير إعانة الفقير فإنَّه عمل محبوب في نفسه، فإذا اقترن بنية الإخلاص استحقَّ عليه الثواب تفضلاً من اللَّه تعالى .

السادس : قوله تعالى «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ »

والقليل منهم كانوا ستين ألفاً - كما روي ذلك(1)- ولكن الأكثر أعرضوا عن الجهاد فلم يمتثلوا للأمر به، وقد مرّ هؤلاء بمراحل مختلفة، وفي كل مرحلة سقط جمع منهم، منها :

1 - وجوب الجهاد والانطلاق له، وهنا سقط الأكثر إلّا ستين ألفاً ، وذلك لصعوبة الجهاد وإحساسهم بالخطر المحدق بهم، وكانت الحجة تامة عليهم «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ » (2) : حيث كان إيجاب الجهاد باقتراحهم وبأخذ نبيهم الإقرار منهم .

2 - اختيار اللَّه طالوت ملكاً عليهم، وهنا سقطت مجموعة موعة منه

ص: 247


1- البرهان ج2، ص238 عن معاني الأخبار ص151.
2- سورة الأنعام، الآية: 149.

لتكبرهم حيث زعموا أنَّهم أفضل وأعلى، لشرافة نسبهم ولامتلاكهم للثروة .

3 - امتحانهم بمدى التزامهم بأوامر أميرهم في الحرب، وكان ذلك بابتلائهم بالعطش ومنعهم من شربه إلّا بمقدار غرفة، فسقط الأكثر، ولعلّ سبب هذا الامتحان هو أن من يعصي الأوامر البسيطة سيولّي الدبر وينهزم في المعركة وذلك سبب الهزيمة، فأراد اللَّه تعالى أن يصفّي الجيش من أولئك .

فامتحنهم اللَّه بالتكليف الصعب أولاً، ثم امتحنهم بأمرٍ نفسيٍّ وهو اختيار من كانوا يزعمونه وضيعاً، ثم امتحنهم بحاجة جسمانية وهي العطش .

السابع : قوله تعالى «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » .

1 - فإنَّه كان يعلم بسقوطهم فلم يكن التكليف والامتحان لكي يعلم، فهو العالم بكل شيء، بل لتتم الحجة عليهم، ولكي لا يعاقب من غير استحقاق، فإن من لم يرتكب جرماً لا يستحقُّ عقاباً حتى مع العلم بأنَّه سيرتكبه، قال سبحانه«وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى »(1)

2 - كما أنَّه تعالى عليم بالذين خالفوا ولم يمتثلوا للتكليف فيجازيهم، وهؤلاء ظلموا أنفسهم بالذنب .

3 - كما أنَّه تعالى عليم بالعصاة الذين ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم بعصيانهم الذي سبّب ضعف بني إسرائيل وسيطرة الأعداء عليهم ليسوموهم سوء العذاب ويخرجوهم من ديارهم وأبنائهم .

ص: 248


1- سورة طه، الآية: 134.

الثامن: «قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ...»الآية .

تكبروا واعترضوا على تعيين طالوت لجهتين شرافة في النسب وامتلاك الثروة ودحض نبيّهم كلتا الحجتين .

1 - زعموا أنَّهم أحق بالملك وراثةً لكونهم من سبط النبوة أو سبط المملكة، والجواب أن المدار على اختيار اللَّه تعالى لا على الاعتبارات التي لا قيمة لها واقعاً، ومن المعلوم أن اللَّه لا يختار إلّا الأصلح، وكما أن اللَّه اختار الأنبياء والملوك سابقاً من سائر الأسباط كذلك يختار الملك الآن من سبط آخر، فما هو المرجح لتلك الأسباط من قبل مع أن -جميعهم كانوا من ذرية يعقوب علیه السلام- ؟ المرجح المرجح هو اصطفاء الله، كذلك الان.

2 - قالوا إنَّ طالوت فقير وهم أغنياء، وهذا من تكبرهم حيث زعموا الغنيَّ أولى من الفقير، والجواب أنَّه لا يشترط في إدارة المملكة في تجييش الجيش الثروة الشخصية للملك، بل يشترط أن يكون مديراً مدبراً وشجاعاً مهاباً، فيتمكن من جمع المال بإدارته وشجاعته، وإلا فهل يتمكن أحد بثروته الشخصية إدارة مملكة وجيش بأكمله، بل غير المدير الجبان حتى لو كانت أموال طائلة تحت تصرّفه فإنَّه سيبدّدها .

ويمكن أن يكون جواب نبيهم بجواب تعبدي وجواب إقناعي، أما التعبدي فإن اللَّه اصطفاه فعليكم أن ترضخوا لاختياره تعالى، وأما الجواب الإقناعي فهو علمه وشجاعته

التاسع : قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ».

دلت الآية على أن اللَّه قد يصطفي ملوكاً، كما يصطفي الأنبياء

ص: 249

والأوصياء، وقد يجمع الملك مع النبوة والإمامة، كما جمعهما في داود وسليمان .

وذلك لأنَّه تعالى مالك كل شيء، فكل تصرف في ملكه يحتاج إلى إذنه تعالى، ولذا قال جملة من الأصوليين بحق الطاعة - لا بأصالة الإباحة - بمعنى أن العقل يحكم بحرمة كل تصرف إلّا إذا أذن المولى تعالى، وعليه يكون كل إمارة ومملكة عدوانية وبالظلم إلّا إذا كان بتعيين من اللَّه تعالى أو بإذنه، وتفصيل أصالة الإباحة أو الحظر عقلاً يطلب من كتب أصول الفقه .

ثم إن الآية دلت على اشتراط العلم في الخلافة الإلهية، فلا بد أن يكون الإمام أعلم من غيره، وعلى اشتراط الشجاعة، فإنَّه من المعلوم أن البسطة في الجسم لا تراد بما هي هي، بل لأجل تلازمها مع الشجاعة والمهابة، هذا ولا يخفى أن العلم يلازم التقوى لقوله تعالى «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »(1).

وهذا ما دل عليه العقل أیضاً .

العاشر : قوله تعالى «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

إيتاء الملك قد يكون تكوينيّاً وقد يكون تشريعيّاً .

1 - أما التشريعي : فهو إعطاؤه صلاحية الأمر والنهي، وجواز التصرف في الشؤون العامة، ولا يثبت هذا إلّا بالإعجاز أو النص، وقد يجتمعان كما في طالوت حيث نصّ عليه نبيّهم، كما جعل اللَّه له آية لمُلكه .

ص: 250


1- سورة فاطر، الآية: 28.

وحيث إن تشريعاته كلّها بحكمة فلذا لا يكون الإيتاء التشريعي إلّا لمن اصطفاه اللَّه تعالى، - وهو يساوق العصمة - لأن اللَّه لا يأمر بإطاعة من يعصي أو يخطئ إطاعة مطلقة، ولذا اصطفی طالوت وزاده بسطة في العلم والجسم.

2- وأما التكويني، فهو يرتبط بتقديره تعالى وبجعل الأسباب والمسببات، ومن سار طبقاً لتلك الأسباب وصل إلى المسبَّب وهو المُلك - عادلاً كان أم ظالماً . فقال عن نمرود «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ »(1)، وقال سبحانه «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ »(2).

وقوله« وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» أي واسع عطاءً، فالمعنى هو سعة فضله وقدرته فيوسّع على من يشاء، وهو تعالی علیم لذلك يوسع حسب ما يعلم من المصلحة .

ص: 251


1- سورة البقرة الآية: 208.
2- سورة آل عمران، الآية: 26.

الآية 248

«وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)»

6. 248 - ثم إن اللَّه أراهم معجزة لينصاعوا إلى طالوت، ولشدِّ عزيمتهم على الجهاد، «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ »أي العلامة الظاهرة الاختيار اللَّه طالوت ملكاً عليكم : «أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ» وهو صندوقٌ خشبي أنزله اللَّه على أم موسى فوضعته ، ووضع موسى علیه السلام قالت فيه الألواح وآثار النبوة، وكان معظماً عند بني إسرائيل، فلمّا استخفّوا به رفعه اللَّه عنهم، فأصابهم الذلّ، وحيث أراد اللَّه إعزازهم أرجع التابوت، « فِيهِ سَكِينَةٌ»ما يوجب اطمئنان النفس« مِنْ رَبِّكُمْ»« وَبَقِيَّةٌ»أي في التابوت ما تبقى « مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ »أي مواريث الأنبياء من موسى وهارون وأوصيائهم علیهم السلام ، حال کون هذا التابوت «تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ » لقدسيَّته وأهميَّته، «إِنَّ فِي ذَلِكَ»رجوع التابوت « لَآيَةً لَكُمْ » لكي تعلموا باختيار اللَّه طالوت «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » مهتدين، وإلاّ فالمنافق لا تنفعه الآيات.

ص: 252

بحوث

الأول : قوله تعالى «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ...»الآیة.

ذكرنا أن دلالة اختيار اللَّه تعالی لشخص قد يكون بالنص من النبيّ أو الوصي السابق، وقد يكون بالإعجاز بأن يظهر اللَّه معجزة دالَّةً على هذا الاختيار، وقد يجتمع النص والإعجاز، أما المؤمنون حقًّا فهم يكتفون بالنص لقوة إيمانهم وشدة تصديقهم، ولكن حيث إن غالب الناس ليسوا بتلك المنزلة فيكون الإعجاز دليلاً قاطعاً لهم.

نعم إذا لم يكن هناك مجال للنصّ، كما لو ابتدأ اللَّه بإرسال نبيّ من غير أن يكون وصيّا لنبيٍّ آخر، أو كان النص منحصراً في أيدي مجموعة قليلة - قد تحرف الكلم عن مواضعه . ففحینئذٍ يكون الإعجاز أقوى شاهد ودليل.

ولذا كثرت معجزات النبي الأعظم صلی اللَّه علیه وآله وسلم - حتى روي أنَّها بلغت أربعة آلاف معجزة -، وأظهرها وأعمّها وأدوَمها القرآن الكريم، مع وجود بشارة الأنبياء السابقين به في التوراة والإنجيل، لكن طالهما التحريف والكتمان، وكذا تعددت المعجزات الظاهرة لأمير المؤمنین عليه السلام لأن تلك الفترة كانت فترة التجذير ومنع التحريف، مع كثرة نصوص النبي الأعظم صلی اللَّه علیه وآله وسلم على إمامته علیه السلام ، وكذا تكثر المعجزات الظاهرة للإمام المهدي (عجل اللَّه فرجه الشریف) لأن زمانه زمان بسط العدل في كل ربوع الأرض فلذا يحتاج الناس إلى مشاهدة تلك المعجزات، وأما سائر الأئمة علیهم السلام فحباهم اللَّه بمعجزات كثيرة لكن غالبها لم تكن ظاهرة لعامة

ص: 253

الناس ليجري قضاء اللَّه تعالى في اختبار الناس - مع استمرار دین الحق وعدم زواله - وليكون النص أدك دليل على إمامتهم، مضافاً إلى سماتهم الشخصية من العلم والورع والعمل الصالح وسائر علائمهم وآياتهم .

الثاني : قوله تعالى «أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ».

«التابوت» صندوق خشبي، وهو على وزن فَعَلُوت، نظير جبروت وملكوت ومادته (ت و ب) بمعنی رجع، وذلك لرجوع الأشياء إلى الصندوق بعد إخراجها منه أو لرجوع صاحبه إليه كلما احتاج إلى ما في الصندوق .

وعن الإمام الباقر علیه السلام قال : وكان التابوت الذي أنزل على موسی فوضعته فيه أمّه وألقته في اليمِّ، فكان في بني إسرائيل معظماً يتبركون به، فلمّا حضرت موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آیات النبوة، وأودعه يوشع وصيّه، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفّوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو اسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه اللَّه عنهم، فلما سألوا النبي، بعث اللَّه تعالی طالوت عليهم ملكاً يقاتل معهم، فردّ اللَّه عليهم التابوت (1).

ثم إن هذا التابوت کان علامة النبوة أو الملك في بني إسرائيل فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : كانت بنو إسرائيل أي أهل بيت وجد التابوت على بابهم أوتوا النبوة(2)، وعنه عليه السلام حيثما دار التابوت دار الملك (3)والظاهر

ص: 254


1- البرهان ج 2، ص 239 عن تفسير القمي.
2- أصول الكافي: ج 1، ص238.
3- المصدر نفسه.

أن التابوت كما كان علامة للنبوة كذلك كان علامة للمُلك، فإن وجد التابوت عند أهل بيت أوتوا إما الملك وإما النبوة، وقد يؤتيان كليهما كما في داود وسليمان.

الثالث : قوله تعالى: « فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ».

أي نفس التابوت يكون سبباً للسكينة، كما أن ما يتضمنه من المعارف في الألواح سبب آخر للسكينة، وذلك لأن الأمة المنهارة المغلوبة لا يمكنها أن تلمّ شعثها ولا أن تنهض إلّا إذا وجدت العزيمة القوية واطمئنان خاطر وبال، فإنَّه لا يفيد العدد ولا العُدة مع الانهيار النفسي، ولذا ارتفاع المعنويات في الأمم من أهم أسباب نهوضها ، لكن مع الشعور بالانهزام النفسي وخور المعنويات لا يمكن النهوض وتغيير الحال أبداً .

ولذلك الأمم المغلوبة إن فقدت معنوياتها ستذوب تدريجياً في الأمم الغالبة، وما أكثر الشعوب التي انقرضت فلم يبق منهم أحد، وليس ذلك بمعنی عدم بقاء ذريتهم بل بمعنی ذوبانهم في الأمم الأخرى فبادت لغتهم وعاداتهم وتاريخهم وتطبًّع الأجيال اللَّاحقة بطابع الأمم الغالبة حتى صاروا جزءًا منهم.

ولدفع خطر الانهيار والذوبان قد تفكر الأمة المغلوبة بالانعزال والعيش في دوائر خاصة بها، وهذا حلّ مفيد في الظروف الخاصة، ولعلّه إلى ذلك يشير ما قاله موسی علیه السلام « وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً »(1) أي يتقابل بعضكم مع بعض حتى تكونوا مجتمعين في مكان واحد، لكن هذا حلّ موقت لا يمكن استمراره إلى ما لا نهاية .

ص: 255


1- سورة يونس، الآية: 87.

وقد تجعل نُظم شخصية واجتماعية تمنع من الذوبان، وهذا ما يشاهد في أحكام الإسلام حتى إنها تربط الإنسان بالدين من المهد إلى الأحد، وفي كل أموره، وفي كل أوقاته، ولذا من الصعوبة ذوبان المسلمين المستضعفين في الأمم الغالبة القوية حتى وهم في دار المهجر، ولذا شعرت بعض بلدان الغرب بالخطر المحدق على ثقافتها وتاريخها من المسلمين المهاجرين رغم أنَّهم أقلية مضطهدة، وذلك لمّا شاهدوا ذوبان سائر الأمم بحيث أصبح أبناؤهم وأحفادهم جزءاً من المجتمع والثقافة الغربية، ولكن حافظ المسلمون على خصوصياتهم رغم مرور أجيال متعددة .

على كل حال فإن استعادة المعنويات من أسباب تجمع القوى ومقاومة الأمة الغالبة عسكرياً ومن ثمَّ الانتصار عليها، فلذا أنزل اللَّه تعالى السكينة على بني إسرائيل بإنزال التابوت، كما أنزل السكينة على رسول اللَّه صلی اللَّه وعلیه وآله وسلم وعلى المؤمنين من أصحابه في المواقف العصيبة، فإن (السكينة) هي ما يوجب سکون البال واطمئنان القلب وارتفاع اضطرابه .

وهذه السكينة قد تنشأ من أمر باطني، وقد تنشأ من أمر ظاهري، فإن الإنسان قد يطمئن بسبب ما أدرکه بقوى الإدراك الباطنية، وقد يطمئن بسبب ما رآه وأحسَّه بحواسه الظاهرية.

أما الأول: فهو الإيمان والمعرفة والعلم، حيث توجب اطمئنان القلب وسكونه، قال تعالى «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا »(1)، وهذا الإيمان هو روح من اللَّه تعالى قال تعالى:« أُولَئِكَ

ص: 256


1- سورة الفتح، الآية: 4.

كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ »لأن حياة القلوب بالإيمان

كما قال تعالى «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا »(1).

ولا يخفى أن معرفة اللَّه تعالی ليست لها نهاية، لأنَّه تعالی غیر متناهٍ فلا تناهي لمعرفته، ولذا يزداد الرسول صلی اللَّه وعلیه وآله وسلم والأئمة عليه السلام معرفة به باستمرار، وقد شرحنا هذا المعنى في شرح أصول الكافي فراجع، قال تعالى «إ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى »(2).

وأما الثاني: فهو المعجزات الظاهرة التي توجب الاطمئنان القلبي، قال سبحانه «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي »(3).

والسكينة التي كانت في التابوت تضمنت كلا الأمرين، فهي:

1- تضمنت الألواح التي فيها العلم والمعرفة وبها حلّ المنازعات والخلافات، وقد أنزل اللَّه الإيمان في قلوب المؤمنين مع نزول التابوت .

2 - كما تضمنت معجزات ظاهرية يراها الجميع بحيث تطمئن قلوبهم إلى صدق الادِّعاء ورعاية اللَّه لهم، وتجتمع قلوبهم على العمل والتقوى .

فعن الإمام الرضا علیه السلام في معنى السكينة، قال : ريح تخرج من الجنة، لها صورة كصورة الإنسان، ورائحة طيبة، وهي التي نزلت على

ص: 257


1- سورة الأنعام، الآية: 122.
2- سورة الفتح، الآية: 26.
3- سورة البقرة الآية: 260.

إبراهيم عليه السلام فأقبلت تدور حول الكعبة وهو يضع الأساطين (1)والظاهر أن هذا سبب السكينة وهو أمر ظاهر للعيان.

وعن الإمام الكاظم علیه السلام في معناها ، قال : روح اللَّه يتكلّم إذا اختلفوا في شيء كلّمهم وأخبرهم بما يريدون(2)والظاهر أن المراد العلم الذي كان في الألواح فإنَّه روح - بفتح الراء أو ضمها - من اللَّه تعالى، وهو كلامه عزَّوجلَّ ، وبذلك العلم فصل الخلافات.

وعن الإمام الباقر علیه السلام قال : السكينة الإيمان(3)وهذا الأمر المعنوي حيث إنها سبب للإيمان كما ذكرنا، واللَّه العالم.

الرابع : قوله تعالی : « وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ » .

أي موسى وآله، وهارون وآله، فإنَّه قد يطلق الآل ويراد به نفس الشخص وآله، كقوله :«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ »(4) أي إبراهيم وآله وعمران وآله، وقال«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ » (5)أي أدخلوا فرعون وآله .

والمعنى أن الألواح التي نزلت على موسى كان يتوارثها الأنبياء من ذرية موسى وهارون، وقد جعلوه في التابوت، وهذه الألواح قد تكسرت إما بسبب طول المدة أو بسبب كثرة مراجعة الأنبياء لها، أو بسبب عبث الصبيان بالتابوت قبل رفعه، فعن الإمام الباقر علیه السلام في تفسير الآية ، قال :

ص: 258


1- الكافي: ج 3، ص 471.
2- البرهان ج 2، ص 242 عن معاني الأخبار.
3- الكافي: ج 2، ص15.
4- سورة آل عمران، الآية: 33.
5- سورة غافر، الآية: 46.

رَضراض الألواح، فيها العلم والحكمة، العلم جاء من السماء فكتب في الألواح وجعل في التابوت(1)، والرضراض هو المتكسر من الشيء.

الخامس: قوله تعالى «تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ».

يظهر من بعض الأخبار أن التابوت خرج من يد بني إسرائيل وذلك بنهب العمالقة - قوم من الأقوام كانوا يسكنون فلسطين ومنهم جالوت - فعن أمير المؤمنين عليه السلام : ويوم الأربعاء أخذت العماليق التابوت(2).

أما كيفية رجوعه إلى بني إسرائيل، ففي مجمع البيان: وقيل : لما غلب الأعداء على التابوت أدخلوه بيت الأصنام فأصبحت أصنامهم منكبَّة، فأخرجوه ووضعوه ناحية المدينة فأخذهم وجع في أعناقهم، وكل موضع وضعوه ظهر فيه بلاء وموت ووباء، فأشير عليهم بأن يخرجوا التابوت، فأجمع رأيهم على أن يأتوا به ويحملوه على عجلة ويشدّوها على ثورین، ففعلوا ذلك فأرسلوا الثورين، فجاءت الملائكة وساقوا الثورين إلى بني إسرائيل(3)، وإنما نقلنا هذا القول لأنَّه يصلح بياناً لمعنی ما روي عن الإمام الباقر علیه السلام قال : كانت تحمله في صورة البقرة(4)، وقد يقال إن قوله (في صورة البقرة) حال عن الملائكة أي الملائكة كانوا بتلك الصورة لأنَّهم يتشكلون بأشكال مختلفة، فتأمل.

والظاهر أن كيفية رجوع التابوت وحمل الملائكة له كانت بطريقة إعجازية لتكون آية ، فلا يكون مجالا للتشكيك .

ص: 259


1- البرهان ج 2، ص 244 عن تفسير العياشي
2- البحار ج 21، ص 451.
3- مجمع البيان ج2، ص219.
4- البرهان: ج2، ص241، عن الكافي.

الآية 249

«فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)».

249 - فلما جاء التابوت مع ما فيه من السكينة وبقية آل موسی وآل هارون اجتمع ستون ألفاً في جيش طالوت، «فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ» انفصلوا عن مقرِّهم وخرجوا للجهاد،« قَالَ» طالوت بوحي اللَّه إليه أو بإخبار النبي له: « إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ»مختبركم« بِنَهَرٍ» من الماء على عطش منكم ليميز الصادق من الكاذب ، وأما حكم شربه :

أ- « فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ » من النهر« فَلَيْسَ مِنِّي» ليس تابعاً لي وساقط في الامتحان، لأ من لا يصبر على العطش سینهزم في المعركة ولا يصبر على القتال.

ص: 260

ب - « وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ » أي لم يذقه إطلاقاً « فَإِنَّهُ مِنِّي »تابع لي، فهو يتمكن من ضبط شهواته فيصمد في مواجهة الأعداء.

ج-« إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» أي شرب بمقدار ما يتجمع في الكف، فهذا ليس من القسم الأول ولا الثاني، فهو مؤمن وناجح في الامتحان لكن ليس إيمانه بدرجة أولئك الذين هم من القسم الثاني

« (249)».

فلما وصلوا إلى النهر سقط الأكثر « فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ»كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وهؤلاء بين من لم يذق الماء أصلاً وبين من اغترف غرفة، ولم يتمكن الشاربون من عبور النهر « فَلَمَّا جَاوَزَهُ » عبر طالوت النهر « هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ » من لم يذق الماء ومن اغترف غرفة، « قَالُوا» الذين اغترفوا :« لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ » قائد جيش الكفار « وَجُنُودِهِ» لكثرتهم وقوتهم، « قَالَ» الذين لم يذوقوا الماء « الَّذِينَ يَظُنُّونَ»أي يتيقنون« أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ» يلاقون جزاءه في القيامة - في جوابهم تشجيعاً لهم -:« كَمْ مِنْ فِئَةٍ »مجموعة « قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ »بإذنه التكويني لمّا عملوا بالأسباب الظاهرية، وبإرادته الغيبية لمّا تضرعوا إليه وتوسلوا « وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»ينصرهم وينجّيهم.

بحوث

الأول : مع أنَّهم شاهدوا التابوت تخاذل أكثرهم، فلم يستعدَّ للقتال

ص: 261

إلا ستون ألفاً - كما في الأخبار -، وهؤلاء أیضاً كانوا بحاجة إلى اختبار وتمحيص، إذ لعلَّ البعض كان اختياره بتأثّر وقتيّ وخاصة في فترة الحماس والهيجان، فإن الاستمرار في الشيء أصعب من الشروع فيه، وما أكثر الناس الذين يقررون قراراً ويبدأون بالعمل لكنهم ينصرفون بعد فترة ويغيّرون قرارهم لما يرون من الصعوبات، وكذلك قرارهم بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)»«وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(1) فما أكثر من تأخذه أجواء حماسية أو أسباب أسريّة أو اقتصادية ونحوها فيظهر الإيمان لكن الإيمان لم يكن متجذّراً فيه.

هذا مضافاً إلى أنَّ تقوية الإيمان أیضاً تكون عبر تجاوز الصعوبات، كالتلقيح الذي هو تدريب للجسم عن مقارعة الجراثيم، وقد مرّ أن الامتحان كما يكون لتمييز الكاذب عن الصادق، كذلك يكون لتقوية إيمان الصادق عبر تمحیصه .

وغير المؤمنين والذين لا يمتثلون أمر قائد الجيش والذين يرجحون شهواتهم على الطاعة، إن وجود هؤلاء قد يكون سبباً لانكسار الجيش وهزيمته، فلعلّه لذلك أراد اللَّه تعالی غربلة جيش طالوت ليخلص الجيش من الحثالات ويصفو المؤمنون المطيعون الذين يمتثلون الأمر.

ثم إن اللَّه امتحنهم بأمر ظاهر للعيان لكي لا تبقى حجة لأحد منهم.

وحيث إن الإيمان درجات، لذلك روعي في الامتحان درجاتهم أيضاً فكان هنالك حرام ومستحبٌّ:

ص: 262


1- سورة العنكبوت، الآيتان: 2- 3.

أما الحرام، فلكي يتميز العصاة من المؤمنين، فحرّم تعالى الشرب .

وأما المستحب، فلكي تتبين درجة إيمان المؤمنين .

ولذا صدر الحكم بأن من يشرب فهو عاصٍ غير تابع لطالوت، ومن لم يذق الماء أصلاً فهو كطالوت في قوة إيمانه وشدة عزيمته، ومن شرب غرفة من الماء فقد ترك مستحبّاً ولم يرتكب حراما فهذا أیضاً مؤمن ناجٍ لأنَّه لم يرتكب مخالفة لكنه ليس بدرجة أولئك الذين لم يتذوقوا إطلاقاً، وسيأتي ذكر الأخبار في هذا المعنى.

وحيث إن حقيقة الإنسان تظهر في مواقفه لذلك تبين درجة إيمان هؤلاء حین عبور النهر، فالذين اغترفوا قالوا لا طاقة لنا بجالوت وجنوده، والذين لم يتذوقوا قالوا كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ الآية ، وهذا من لطف اللَّه تعالى على الناس فلم يشقّ عليهم رأفةً ورحمةً، وجعل علائم لما في النفوس لكي يحاول الإنسان تربية نفسه وتزكيتها، ولكي يعرف القادة المؤمنون حقيقة أتباعهم فيتعاملون معهم حسب طاقتهم وقابلياتهم.

الثاني : قوله تعالى« إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ».

الظاهر أن هذا استثناء من قوله «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» ، فيكون المعنى: ومن لم يذقه إلّا بمقدار الغُرفة فإنَّه منّي، وقيل : هو استثناء من « فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي » فالمعنى فمن شرب فليس مني إلّا الشرب بمقدار الغرفة فهو مني، وقيل : هو استثناء من كلا المقطعين، أي من اغترف لا هو منه، ولا هو ليس منه .

والأقوى هو الأول، لأن الاستثناء المتعقب للجمل يرجع إلى

ص: 263

الجملة الأخيرة، كما أن معنى«فَإِنَّهُ مِنِّي »و«فَلَيْسَ مِنِّي »هو الاتّباع، كما قال«مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »(1)أي من تبعني فهو من زمرتي وجماعتي، ومن المعلوم أن الذين اعترفوا غرفة لم يكونوا عصاة بل أباح لهم طالوت ذلك، فلذا هم ينطبق عليهم «فَإِنَّهُ مِنِّي » حيث إنهم من زمرة طالوت وحزبه وجماعته، ولذا أطلق اللَّه تعالی لفظ الإيمان فقال «فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ » وهذه العبارة تشمل كلا الفريقين- الذي لم يطعم، والمغترف غرفة فقط -.

وقوله «وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ » أي لم يذقه، حيث إن هذا الصنف لم يشربوا حتى بمقدار الغرفة فلم يذوقوا الماء أصلاً - لا بمقدار الغرفة ولا أقل منها حتى بمقدار التذوق -.

وعن الإمام الباقر علیه السلام : ... فشربوا منه إلّا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، منهم من اغترف، ومنهم من لم يشرب، فلما برزوا قال الذين اغترفوا « لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ»، وقال الذين لم يغترفوا «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(2) .

الثالث : قوله تعالى «قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ » .

قالوا تشجيعاً لأولئك وتصبيراً لهم، كما قال تعالى« وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ »(3)، فإن الانهيار النفسي مقدمة للفشل، ولذا فمن لاحظ بروز ضعفٍ نفسيٍّ في المؤمنين عليه أن يشجّعهم ويرفع معنوياتهم، قال

ص: 264


1- سورة إبراهيم، الآية: 36.
2- الكافي: ج 8، ص317، وعنه في البرهان ج 2، ص 241.
3- سورة العصر، الآية: 3.

تعالى «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ...»(1).

وليكن التشجيع بالصدق، لا بالكذب والتمني الباطل والخداع، ولذا

فإنَّ هؤلاء المؤمنين قد بينوا عدة حقائق مشجِّعةً:

1- تذكير بنماذج ومصادیق فازت الأقلية على الأكثرية، فإن بیان حقائق قد وقعت خارجاً أكثر تأثيراً.

2 - بیان لزوم اتخاذ كافة الأسباب الطبيعية والغيبية، وحينئذٍ لله المشيئة، فإن شاء نصرهم وإلا اختارهم للشهادة، فقالوا« بِإِذْنِ اللَّهِ»وسيأتي الكلام عنه.

3- بيان حقيقة أن الصبر لازم في المواقع الصعبة، وقد أمر اللَّه تعالی به ، فاصبروا فإن اللَّه ينصركم بما شاء.

وقوله « يَظُنُّونَ» بمعنی يعلمون ويتيقنون، وفي مقاييس اللغة : «ظنّ» يدل على معنيَينِ مختلفين : يقين وشكّ(2)، وفي المفردات «الظ» اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدّاً لم يتجاوز حدّ الوهم(3)، فهؤلاء كانوا على يقين بيوم الجزاء وأن اللَّه سيجازي الجميع، ولذلك ثبتوا على الإيمان وأطاعوا من أمر اللَّه بإطاعته، بل وارتقوا إلى المراتب العالية من الإيمان فلذلك قالوا هذا الكلام حثّاً وتوصية لأولئك .

قوله «مُلَاقُو اللَّهِ» أي لقاء حسابه وجزائه في يوم القيامة، وعن أمير

ص: 265


1- سورة الأنفال، الآية: 65.
2- مقاييس اللغة، ص 615.
3- المفردات ص539.

المؤمنین علیه السلام : فافهم جميع ما في كتاب اللَّه من لقائه فإنَّه يعني بذلك البعث(1).

وفي مناهج البيان: الظاهر أن إطلاق اللِّقاء على البعث بلحاظ شدة المعرفة وزوال الحجب، فيزداد المؤمنون إيماناً ولا يمكن للكافرين الترديد(2).

فالجميع سيلاقي اللَّه تعالى من المؤمنين وغيرهم، قال«تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا »(3)، وقال «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ »(4).

والحاصل أن الكافر لا يتمكن من التشكيك، قال تعالى«هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)»«أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ »(5) وهو استفهام بقصد التوبيخ حين كانوا يشككون في المعجزات بأنَّها سحر، وأما المؤمن فيزداد معرفة وإيماناً حينما تزول الحجب يوم القيامة، وعن أمير المؤمنين عليه السلام : وكذلك قوله «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ »(6)يعني أنَّه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون(7) .

الرابع: قوله تعالى «»كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً...الآية

(کم) خبرية ومعناها التكثير، فقد يحدّثنا التاريخ كثيراً بانتصار جماعة

ص: 266


1- توحيد الصدوق، ص267.
2- مناهج البيان ج 2، ص308.
3- سورة الأحزاب، الآية: 44.
4- سورة التوبة، الآية: 77.
5- سورة الطور، الآية: 14 - 15.
6- سورة الأحزاب، الآية: 44.
7- توحيد الصدوق، ص267.

قليلة على جماعة كثيرة، وهؤلاء المشجعون لم يقولوا «يمكن الغلبة» إذ كما قد ينتصر القليل على الكثير كذلك قد ينتصر الكثير على القليل، ولكل واحد من هذين الاحتمالين نماذج كثيرة في التاريخ، ولكنهم ذكروا الجانب الإيجابي - وهو غلبة القليل على الكثير - لأن ذلك بيان للنموذج، والمصداق الذي يوجب التشجيع واستعادة المعنويات مع أنَّه كلام حقّ وصدق، مثلاً المريض الذي يخشى عليه الموت لا يقال له : مرضك قد يعالج وقد لا يعالج، بل يذكرون له النماذج التي عولجت وشُفیت تقوية المعنوياته.

وأما قوله « بِإِذْنِ اللَّهِ» فقد مرّ أن إذنه هو الأسباب الظاهرية والتقديرات الإلهية .

1- بمعنى أن من يلتزم بالأسباب التي جعلها اللَّه في الكون يصل عادة إلى المسبَّب وهو الغلبة، ولذا انهزم المسلمون يوم أحد لأن بعضهم تركوا الأسباب فخالفوا أوامر الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وتركوا جبل الرماة وهو الثغر الذي أغار منه المشركون.

2 - وكذا إن اللَّه سبحانه قد يقدّر الغلبة بدون أسباب ظاهرية فتتهیّا الأسباب الغيبيّة كيفما شاء فتتحقق الغلبة، وهذا مرتبط بمشيئته تعالی، فقد يشاء وقد لا يشاء.

ص: 267

الآيات 250 - 252

«وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)»«فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)»«تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)».

250 -«وَلَمَّا بَرَزُوا » طالوت والذين آمنوا معه «لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ » لحربهم، تضرعوا إلى اللَّه و«قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا»صَبَّه علينا صبّا « وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا» لكي لا نفرَّ من المعركة « وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ »، فاستجاب اللَّه دعاءهم.

251 -«فَهَزَمُوهُمْ » هزم المؤمنون الكافرين «بِإِذْنِ اللَّهِ »بنصره، «وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ» رأس الكفر، وبسقوطه حلت الهزيمة بالكفار، « وَآتَاهُ اللَّهُ » أعطىاللَّه داود «الْمُلْكَ» الإمارة « وَالْحِكْمَةَ»النبوة، فاجتمعتا له « وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ »اللَّه تعالى، کالزبور، وقوة العبادة، وصنعة الحديد، ونحوها.

ثم بیّن اللَّه حكمة الجهاد، وذلك ببيان قاعدة عامة وهي: «وَلَوْلَا

«(250)»«(251)»«(252)».

ص: 268

دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ »يدفع المصلحون المفسدين، ومن مصادیقه جهاد المؤمنين ضد الكافرين، ومن مصادیقه صلاح المؤمنين والتزامهم بقوانين اللَّه تعالى، لولا ذلك «لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ » أي عم الفساد في الناس ففسد الاجتماع، وفسدت الطبيعة بفعل الناس،«وَلَكِنَّ اللَّهَ » تعالى منع ذلك الفساد عبر أحكامه فإنَّه تعالى «ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ » أجمع، فإن دفع الفساد يصل خيره إلى الجميع.

202 -«تِلْكَ»الأحكام والقصص المذكورة ، « آيَاتُ اللَّهِ » تدل عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته وسائر صفاته«نَتْلُوهَا » نقرأها «عَلَيْكَ» يا محمد « بِالْحَقِّ »بالصدق فلا كذب فيها، ولغرض الهداية لا لأجل الباطل«وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ »فتتلو تلك الآيات على الناس ليتبعوا الحقّ.

بحوث

الأول : قوله تعالى «قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ».

المؤمنون الذين نجحوا في الابتلاء والتمحيص هؤلاء قد فعلوا كل ما أمرهم اللَّه تعالى - من اتخاذ الأسباب الطبيعية والغيبية -، فوصلوا إلى المرحلة الأخيرة وهي ساحة المعركة فلم ينكلوا بل برزوا للقتال، ولكنهم

ص: 269

يعلمون أن كل شيء بيد اللَّه تعالى لذا تضرعوا إليه، ودعوا بثلاثة أدعية : الصبر وهو أمرٌ نفسيٌّ، ثم الثبات وهو أمرٌ خارجيٌّ، والنصر وهو النتيجة .

1. الصبر: سألوا اللَّه أن يرزقهم صبراً کاملاً ، فقالوا: «أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا » تمَّ تشبيه الصبر بالإناء الذي يُقلّب فينصب كل ما فيه فيصبح فارغاً، وذلك لأن موقف المعركة مع قلة العدد وكثرة العدو - من أصعب المواقف التي تنازع النفس عليه للفرار، فأول مرحلة تبدأ من الصمود، وذلك بحاجة إلى غاية في الصبر، ثم إن تنكير «صَبْرًا » لإيكال الأمر إلى اللَّه تعالى فهو الذي يعلم ما هو الصبر المحتاج إليه في تلك الحالة، لأن كل حالة وكل شخص بحاجة إلى نوعية خاصة مِنَ الصفات.

2- تثبيت الأقدام : سألوا اللَّه تعالى أن يكون موقفهم في المعركة موقفاً مناسباً ليتمكنوا من القتال بطريقة مناسبة ، فإنَّ العوامل الطبيعية في المعركة مؤثرة جدّاً في سير المعركة، فموقع المقاتلين، والأرض التي يقفون عليها، وجهة الشمس والرياح... إلخ، كلّها لا تخلو من تأثير، ولذا أرسل اللَّه المطر في معركة بدر لئلَّا تكون الأرض الرملية رخوة حين القتال فتزلَّ أقدام المجاهدين كما قال تعالى «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ »(1).

3- النصر: سألوا اللَّه أن ينصرهم، وهذه هي النتيجة للصبر والثبات، «وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ».

فهؤلاء لم يطلبوا النصر جزافاً ، بل هم عملوا بكل ما أمرهم اللَّه

ص: 270


1- سورة الأنفال، الآية: 11.

تعالى ثم سألوه سبحانه أن يساعدهم على أداء التكليف - بالصبر والثبات - وبعد ذلك سألوه تعالى النصر .

فمن يريد النصر من غير أسباب فهو متوهِّم، وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر(1) فإن سنة اللَّه تعالى جرت على أن ينصر المؤمنين المؤمنين المطيعين المؤدِّين لتكاليفهم المتضرِّعين إلى اللَّه في عونهم في أداء المهمة، قال تعالى«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ »(2).

وهذا رسول اللہ صلی اللَّه علیه وآله وسلم وهو أشرف المخلوقات تحمّل كلَّ الصعاب في سبيل الدعوة، وقاتل في مواطن كثيرة، وراعي جميع الأسباب الظاهرية ، وتضرع إلى اللَّه تعالى فنصره اللَّه سبحانه .

ثم إن في قولهم«وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ » بيان أن دعاءهم إنما هو لأمر محبوب للّه تعالى، فأولئك قوم کافرون باللَّه سبحانه، فنريد أن تنصرنا عليهم لأنّا عبادك ومؤمنون بك، فإن اللَّه تعالى لا يستجيب الدعاء في الحرام، قال تعالى« أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(3)،«فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ »(4) ،«وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ »(5)

وعن الإمام الصادق علیه السلام : من أطاع اللَّه فيما أمره ثم دعاه من جهة

ص: 271


1- نهج البلاغة، الحكمة: 337.
2- سورة آل عمران، الآية: 146.
3- سورة البقرة، الآية: 186.
4- سورة غافر، الآية: 14.
5- سورة الرعد، الآية: 14.

الدعاء أجابه . . . الحديث(1)، وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم ما من مسلم دعا اللَّه سبحانه دعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلّا أعطاه اللَّه أحد خصال ثلاث : إما أن يعجل دعوته، وإما أن يدَّخر له، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها(2).

الثاني : قوله تعالى«فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ » .

أي فاستجاب اللَّه دعاءهم فنصرهم، وكان سبب تحقق النصر هو مقتل رأس الكفر جالوت، وإنما ذكرت الهزيمة أولاً قبل ذكر مقتل جالوت لبيان سرعة استجابة اللَّه لدعائهم، فلما دعوا استجاب دعاءهم، ولأنَّه تعالى أراد ذكر داود بقوله «وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ...» فنسق الكلام اقتضى تأخير ذكره، وبعبارة أخرى : الآيتان تضمنتا موضوعين : 1 - دعاء المؤمنين واستجابته . 2 - عمل داود ولطف اللَّه به، فذكر الموضوع الأول بتمامه، ثم انتقلت الآية إلى الموضوع الثاني، مع أن الموضوعين متداخلان زماناً.

وفي الآية بيان لاستراتيجيّة مهمة يتبعها المحاربون عادة، وهي ضرب رأس العدو ليختلَّ انتظامهم ولينهزموا نفسيّاً ثم عسكريّاً، وداود علیه السلام استعمل سلاحاً بسيطاً - هو المقلاع مع حجر - ضرب به جبهة جالوت فانتثر دماغه وخرَّ ميتاً(3)فانهزم جيشه الكثير المدجَّج بالسلاح .

فإنَّه وإن لزم تهيئة العدد والعُدَّة واستعمال الأساليب النفسية كما قال تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ

ص: 272


1- أصول الكافي ج2، ص486.
2- الوسائل، ج7، ص27.
3- راجع تفصيل القصة في روايات تفسير البرهان ج2، ص 240 فما بعد.

اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ »(1)، لكن أیضاً لا بدّ من أن تكون الاستراتيجية صحيحة والأولويات معلومة، وسقوط رمز العدو من العوامل المؤثرة في هزيمته نفسيّاً وعسكريّاً .

الثالث : قوله تعالى«وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ».

بعد أن عظُمت منزلة داود بين بني إسرائيل وتهيَّأت النفوس ليكون أميراً ونبياً، جعله اللَّه ملكاً على بني إسرائيل، وجعله نبياً أيضاً، فجمع الأمرين له .

وحينما يصطفي اللَّه تعالى شخصاً لأمر ما ، فإنَّه يجعله قابلاً لتحمل تلك المسؤولية، فيزوده بما يحتاج إليه، ولذا علّم اللَّه تعالى داود ما تحتاج إليه المملكة من القوة والإدارة، وما يحتاج إليه النبي من العلم والمعجزة، فأنزل عليه الزبور وصوتاً حسناً لتلاوته، ووهبه القوة على العبادة وكذلك علّمه صنع الدرع ولَيَّن له الحديد لتكون مملكته محصنة بالقوة أمام الأعداء قال تعالى«وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ » (2)، وقال «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ »(3)، وقال «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ »(4)، وقال « وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا »(5).

ص: 273


1- سورة الأنفال، الآية: 60.
2- سورة الأنبياء، الآية: 80.
3- سورة سبأ، الآية: 10.
4- سورة ص، الآية: 26.
5- سورة الإسراء، الآية: 55.

الرابع : قوله تعالي«وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ...»(1) الآية .

هذا المقطع هو بيان لحكمة الجهاد، وذلك ببيان سنة إلهية عامة تنطبق على تشريع الجهاد، وذلك أن اللَّه تعالى خلق الخلق لعبادته، فقال«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ »(2)، وذلك يقتضي كونهم مختارين، والاختيار يلازم التمكن من فعل الخير والشرّ، وحيث يختار الكثيرون الشرّ فسيطرتهم توجب فساد المجتمع، وينتج عن ذلك أن يعم الكفر فلا يبقى عابد لله تعالى، وهو نقض للغرض، ولذا هيا اللَّه أسباباً تكوينية وأخرى تشريعية لكي يتوجه الناس إلى عبادته تعالى، من ذلك إرسال الرسل وإنزال الكتب وعدم خلو الأرض من حجة - من نبيٍّ أو وصيٍّ -، ومن ذلك تشريع الجهاد لنصرة الحق في سبيله تعالى، وحينئذٍ لا يزول أهل الإيمان بل يبقون عابدين اللَّه تعالى، ولولاهم لانتفى الغرض من الخلقة، وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت(3)، وعن الإمام الباقر علیه السلام لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله(4)، وذلك لأن الإمام حافظ للدين وبه يعبد اللَّه تعالى - مضافاً إلى آثاره التكوينية حيث ربط اللَّه نظام الكون به - .

وبهذا يتضح أن لدفع اللَّه الناس بعضهم ببعضٍ مصداقان :

أحدهما دفع المؤمنين المصلحين للكافرين المفسدين عبر الجهاد، قال تعالى «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39) »

ص: 274


1- سورة الحج، الآيتان: 39 - 40.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.
3- أصول الكافي: ج1، ص179.
4- أصول الكافي: ج1، ص179.

«الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)»(1)

والمصداق الآخر: هو نفس وجود المؤمنين، فوجودهم سبب لاستمرار فضل اللَّه تعالى على الجميع، ولولاهم لكان استمرار وجود الناس وتواتر فضله عليهم عبثاً، وقد تعالى اللَّه عن العبث، كما عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إن اللَّه أجلُّ وأعظمُ من أن يترك الأرض بغير إمام عادل(2)، وقد وردت عدة روايات في بيان هذا المصداق، منها ما عن

الإمام الصادق عليه السلام قال: إن اللَّه يدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا - إلى أن قال - وهو قول اللَّه عزَّوجلَّ «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ...»الآية(3). وعن أمير المؤمنين عليه السلام يدفع الهلاك بالبر عن الفاجر(4) .

الخامس : قوله تعالى «تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ».

أي لم يكن ذكر هذه القصص والأحكام إلّا لأجل الهداية، فهي قصص صادقة وليست كاذبة أو خيالاً، كما أن إنزالها لم يكن بغرض باطل بل بغرض هداية الناس ورحمة ولطفاً بهم، ثم إنها نزلت على الرسول سول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ليبلغها للناس ليتعظوا ويهتدوا .

ص: 275


1- سورة الحج ،الآیتان :39-40
2- أصول الكافي ج 1، ص187.
3- البرهان ج1، ص247 عن الكافي وتفسير العياشي وتفسير القمي.
4- الجوهر الثمين: ج1، ص 255.

وقوله «تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ » ليس بمعنى أن هذه قصص حدثت في التاريخ وأنت علمتها بوحي من اللَّه وهذا دليل نبوتك، وذلك لأنَّها مذكورة في التوراة المحرّفة وبشكل مختلف، وكان المشركون يشككون فيها وفي طريقة تعلّم الرسول إياها قال تعالى«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ »(1) ، وقال تعالى«وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا »(2) فلا يكون مجرد تلاوتها آية، بل المعنى أن من تدبر في هذه الآيات علم وجه الإعجاز فيها .

أو بمعنى أنك تعلم صدق هذه القصص بوحينا فهي آيات اللَّه إليك ثم أنت مكلّف ببيانها للناس لأنك مرسل إليهم .

ص: 276


1- سورة النحل، الآية: 103.
2- سورة الفرقان، الآية: 5.

المطلب الثالث

الآيتان 253 - 254

«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)»«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)»

253 - ثم إن اللَّه بعد أن ذكر سبب تشريع الجهاد في قوله «ولولا دفع الناس» الآية، یبیّن سبب حدوث القتال وأنَّه ليس بسبب الأنبياء بل بسبب بغي المبطلين، فقال:«تِلْكَ الرُّسُلُ»التي أشير إليهم في الآية السابقة «وإنك لمن المرسلين» « فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ »فهم وإن اشتركوا في أصل الفضيلة لكن منزلتهم متفاوتة، ف-«مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ » إياه وهو موسى علیه السلام ، «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ»على بعض « دَرَجَاتٍ »بأن كان التفضيل من وجوه متعددة، «وَآتَيْنَا » أعطينا «عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ »الأدلة الواضحة كإحياء الموتى وخلق الطير وغير ذلك«وَأَيَّدْنَاهُ » قويناه «بِرُوحِ الْقُدُسِ» أي روح مطهَّرة، فهؤلاء الأنبياء لم يكونوا سبباً للاختلاف والقتال لأناللَّه نزّههم وفضلهم وأراهم الحق

ص: 277

والصواب، « وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ » مشيئته تكوينية «مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ » بعد الأنبياء من أتباعهم «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ » فإن من شأن الأدلة الواضحة اتفاق الناس عليها «وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا » لأن البعض يبغي حسداً وظلماً «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ» بالتزامه بتعاليم الأنبياء « وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ»بإعراضه عن البينات، وكان ذلك القتال، « وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا »بإزالة أسباب الخلاف تكويناً، «وَلَكِنَّ اللَّهَ »بحكمته «يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ » من خلق الإنسان مختاراً وعدم إلجاء الناس واضطرارهم إلى الإيمان أو إلى ترك القتال .

254 - وحيث علمتم بأنَّه لا بد من الجهاد، فإن الجهاد يحتاج إلى إنفاق ف-«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا »الأمر للجميع ولكن المؤمنين هم المنتفعون منه لذا خص الخطاب بهم «أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ » هو القيامة حيث يجازي المخالفون ولا يتمكنون من التخلص من العقاب، ف-«لَا بَيْعٌ» في ذلك اليوم ليشتري الإنسان نفسه بشيء فينجيها من عذاب الله، «وَلَا خُلَّةٌ »صداقة ليراعي

» المذنب باعتبار صديقه، «وَلَا شَفَاعَةٌ » ، كشفاعات الدنيا، «و»ليس عذاب المخالفين ظلم من اللَّه بل «َالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ »فلذا استحقوا العقاب .

بحوث

الأول: بعد أن بیّن اللَّه تعالى في الآيات السابقات سبب تشريع

ص: 278

القتال، بیّن في هذه الآية أنَّه تعالى كان يمكنه منع التجاوزات والظلم منعاً تكوينياً، لكن ذلك كان خلاف الحكمة في خلق الإنسان مختاراً، وبين تعالى أن سبب الاختلاف ليس الرسل وتعاليمهم، لأنَّهم في درجات عالية من الإيمان - وإن كان بعضهم أفضل -، فالمرسلون متفقون فيما بينهم لعصمتم ولارتباطهم باللَّه تعالى، فكل ما جاءوا به كان حقّاً اللَّه بدلائل واضحة، فكلّهم مشتركون في أصل الرسالة والفضيلة، وتفاوتهم في الفضل ليس سبباً للاختلاف، بل سبب لمزيد ترابطهم وتوادّهم، واتباع فاضلهم لأفضلهم، وتصديق لاحقهم لسابقهم، وبشارة سابقهم للاحقهم، فكلّهم على دين واحد كما قال تعالى«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ »(1)، وقال«لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » (2)، وقال «لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ » (3)

وإنما نشأ الاختلاف من البغي والظلم، وذلك في الأتباع، فبعضهم آمن بكل ما جاء به الأنبياء علیهم السلام والتزم بتعاليمهم، والبعض الآخر بغى ورغبة في الحطام، وحيث إن الباغي يريد التحريف أو يرفع السلاح لذا شرّع اللَّه للمؤمنين قتالهم لئلا يزول الحق، فالأنبياء فضَّلهم اللَّه ورفع بعضهم درجات وذلك ليس سبباً للاختلاف، لكن الأتباع جعلهم اللَّه مختارين فبغى بعضهم فاختلفوا، فشرّع الجهاد للمؤمنين، قال تعالى «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ »(4)وقال سبحانه «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا

ص: 279


1- سورة آل عمران، الآية: 19.
2- سورة البقرة، الآية: 285.
3- سورة البقرة، الآية: 136.
4- سورة آل عمران، الآية: 19.

وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى »الی قوله«وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ »(1)

وقيل : تضمنت الآية جواباً عن سؤالين :

1 - إرسال الرسل كان بغرض الهداية، فلماذا لم تتحقق الهداية للكثيرين حتى أنَّهم تقاتلوا؟

2 - أرسال الرسل كان لأجل إيمان الناس، فماذا ينفع القتال، إذ لا سيطرة للسيف على القلوب؟

والجواب : إن الرسالة وبيِّناتها تدحض الباطل وتزيل الشبهات، وأما الخلاف الحاصل من البغي واللّجاج فلا سبيل إلى تصفية الأرض منه إلّا بالقتال، فالحجة لا تنفع إلّا إذا تمّ الدفاع عنها أمام المعتدين، لأنَّه تعالى لم يرد إلجاء الناس(2).

الثاني: قوله تعالى «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ»

قد مرّ في المجلد الأول أن بناء هذا العالم كلّه على التفاضل في كل شيء والرسل ليسوا استثناء من هذه القاعدة، فاللَّه تعالى فضَّلهم جميعاً على سائر الناس بالمقامات العالية بحيث كانوا جديرين بحمل رسالته تعالى فاصطفاهم وعصمهم ... إلخ، وفي نفس دائرة الرسل فضل بعضهم على بعض، لاقتضاء الحكمة ذلك، وقد يكون من الأسباب تنوّع المهمات الموكلة إليهم، فكل واحد منهم ناسب ما اختير له- هكذا قيل

ص: 280


1- سورة الشورى، الآيتان: 13 - 14.
2- راجع الميزان ج2، ص313 - بتصرف -.

-، ثم إن اصطفاءهم لم يكن باختيار منهم - كما توهم - بل هو باختيار منه تعالی فخلقهم من طينة أرفع وعصمهم، ثم ابتلاهم ليزيد من درجاتهم بما يفعلونه باختيارهم.

أما ما يقال : من أن استعداد الماهيات مختلف فأفاض تعالی علی كل ماهية ما تسعه من الوجود والقابلية .

فكلام غير صحيح، لأن الماهيات قبل وجودها أعدام، والعدم لا يتصف بشيء من القابلية ولا بغيرها، بل حتى بعد الوجود لا حقيقة خارجية للماهية بل هي أمر ذهني، ولذا قالوا بأصالة الوجود، وتفصيل البحث ليس هذا موضعه .

ثم إنه تعالی أراد بيان أن الأنبياء ليسوا سبباً للاختلاف والاقتتال لذا بيّن أنَّهم يتلقون الوحي منه تعالى، ويؤيدهم اللَّه تعالى، فلذا هم الحق ولا اختلاف فيه، وضرب لذلك مثالين : موسى وعيسی علیهما السلام، فكان نبي اللَّه موسی علیه السلام کلیم اللَّه تعالى، وكان عيسی علیه السلام مؤيداً بروح القدس من قِبل اللَّه سبحانه، فلم تكن أعمالهما إلّا بوحي منه وتأييدٍ وهو الحق المطلق، فلم ينشأ الاختلاف منهما، بل نشأ من الباغين من بعدهم.

ولعلّ وجه التمثيل بهما علیهما السلام الي هو وضوح اختلاف أتباعهما من بعدهما واستمرار الأتباع واختلافاتهم بمذاهبهم المختلفة ورغباتهم المتضاربة.

الثالث : قوله تعالى «مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ » .

وهو موسی علیه السلام قال كما قال «« وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا »»(1)، وقال :

ص: 281


1- سورة النساء، الآية: 164.

« إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي»(1) و اللَّه تعالى لا يصطفي الباغي ولا يكلّمه، فمن ذلك يتبيّن أن موسى علیه السلام قال لم يكن سبباً للاختلاف.

وكلامه تعالى هو بخلق الصوت، لأنَّه منزه عن اللسان والحلق ونحوهما مما يحتاج إليها الإنسان، فيكون الكلام من صفات الفعل وقد فصّلنا هذا البحث في كتاب شرح أصول الكافي فراجع.

الرابع : قوله تعالى «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ».

قيل المراد به رسول اللَّه محمد صلى اللَّه عليه و آله وسلم، لأنَّه فوق جميع الأنبياء، قال صلى اللَّه عليه و آله وسلم: ما خلق اللَّه خلقاً أفضل منّي، ولا أكرم عليه منّي، إن اللَّه فضّل أنبياءه على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، وإن الملائكة لخدامنا وخدّام محبينا(2).

لكن الظاهر أن «رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ» يشمل كل الأنبياء الذين فضلوا على غيرهم، كإبراهيم علیه السلام، كما قال سبحانه«وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ »(3)، فقد اختلفوا من بعده كما قال تعالى «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ »(4)، وقال«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا »(5)، وكیوسف عليه السلام حيث قال

ص: 282


1- سورة الأعراف، الآية: 144.
2- الجوهر الثمين ج 1، ص207.
3- سورة الأنعام، الآية: 83.
4- سورة آل عمران، الآية: 65.
5- سورة آل عمران، الآية: 68.

تعالى «كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ »(1)، وقال سبحانه «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ »(2)، وعلى كل حال فالمعنى أن اللَّه رفع بعض الأنبياء على بعض درجات فلا يعقل أن يبغوا وأن يتسببوا في الخلاف.

وقد يقال : إن قوله «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ» كالعِلّة لتكليم اللَّه ، فهل يمكن وصول إنسان إلى درجة يكلّمه الله؟ الجواب نعم بإيجاد القابلية فيه وذلك برفعه درجات.

ثم إنَّ (المفضَّل به) هو الإيمان، وقد مرّ أن معرفة اللَّه تعالى لا حدّ لها، والرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم والأئمة علیهم السلام لا يزدادون معرفة باللَّه تعالی دائماً، وجميع الأنبياء والرسل هم فوق سائر الناس في الإيمان والمعرفة، لكن بعضهم أعلى إيماناً ومعرفة من البعض الآخر، مع اشتراكهم جميعاً في قوة الإيمان وسموِّه على سائر الناس، ومن كان هذا شأنهم لا يعقل اختلافهم بغياً .

وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن الإمام الصادق عليه السلام قال: بالزيادة في الإيمان يتفاضل المؤمنون بالدرجات عند اللَّه ، قلت : وإن للإيمان درجات و منازل يتفاضل بها المؤمنون عندالله؟ قال: نعم، قلت: صف لي ذلك - رحمك اللَّه - حتى أفهمه، قال : ما فضل اللَّه به أولياءه بعضهم على بعض، فقال:«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ

ص: 283


1- سورة يوسف، الآية: 79.
2- سورة غافر، الآية: 34.

مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ »الآية، وقال : « وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ »(1)، وقال «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ »(2)، وقال«هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ »(3)، فهذا ذکر درجات الإيمان ومنازله عنداللَّه (4).

الخامس: قوله تعالی «وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ».

أي إن عيسی علیه السلام أیضاً لم يكن سبباً للاختلاف ومن ثَمَّ الاقتتال، لأنَّه كان الحق فقد حباه اللَّه بالبينات التي هي أدلة واضحة كإحياء الموتی وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير كل ذلك بإذنه تعالى، كما أن اللَّه سبحانه قواه بروح طاهرة، فهو علیه السلام مع الحق ومؤيد من قبل الحق، فلم يكن باغياً، كما قال « وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا »(5).

وأما سبب ذكر اسم عیسی علیه السلام مع عدم ذكر اسم موسی فلوُجوه :

1- في التقريب : إنه لمن التفنن في القرآن الحكيم في التعبير، حيث لم يصرح باسم موسى وصرح باسم عیسی علیه السلام (6) .

2 - إن نفس اسم عيسى ابن مريم فيه بينة، حيث ولد من غير أب.

3 - وكون موسی کلیم اللَّه تعالى واضح، حيث ذكر ذلك في آیات

ص: 284


1- سورة الإسراء، الآية: 55.
2- سورة الإسراء، الآية: 21.
3- سورة آل عمران، الآية: 163.
4- البرهان: ج 2، ص 250- 251 عن تفسير العياشي ج 1، ص136.
5- سورة مريم، الآية: 32.
6- التقريب ج 2، ص277.

متعددة وقد خصه اللَّه بالكلام دون غيره من سائر الأنبياء، فلذا لم تكن حاجة إلى التصريح باسمه، وأما إتيان البينات والتأييد بروح القدس فهو أمر عام لجميع الرسل فلهم المعجزات ومؤيدون بهذه الروح، وحيث إن المقصود کان عیسی علیه السلام لذلك لزم التصريح باسمه، قال تعالى « يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ » (1).

وعن الإمام الصادق عليه السلام : فالسابقون هم رُسل اللَّه وخاصة اللَّه من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا اللَّه عزَّوجلَّ ... الحديث(2).

واعلم أن روح القدس، تطلق على جبرئيل كما مرّ في الآية 87، وقد تطلق على الروح الذي هو أعظم من الملائكة، وقد تطلق على العلم الخاص الذي يفيضه اللَّه على الرسل والأئمة فبه يعرفون نبوتهم وإمامتهم وما عهده اللَّه إليهم، والتفصيل في شرح أصول الكافي .

السادس: قوله تعالى «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ...»الآية .

مشيئته تعالى لعدم الاقتتال قد تكون عبر أمور.

1- إكراههم جميعاً ، وهذا ما لم يرده اللَّه تعالى، إذ لا يصحّ التكليف إلّا مع القدرة والاختيار، لذا لم يُلجئ اللَّه تعالى أحداً على قبول الدعوة والعمل بها، فالمعنى: لو تعلقت الإرادة التكوينية في عدم حصول القتال، لما تقاتل أحد من بعد الأنبياء ولاجتمعوا كلّهم على التقوى

ص: 285


1- سورة غافر، الآية: 15.
2- اصول الكافي ج 1، ص 271 - 272، راجع شرح الحديث في شرح أصول الكافي للمؤلف.

والعمل الصالح ونبذ البغي والتفرقة، فتنتفي أسباب القتال، أو لما تمکَّن أحد من القتال حتى لو أراده لمنعه قهراً عن ذلك، لكن عند ذاك كان يبطل الامتحان وهو خلاف الحكمة، قال تعالى «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا »(1).

2 - إهلاك الكافرين والمخالفين أو عقابهم فوراً، وبهذا كان يبطل الامتحان أیضاً ، ولذا أَخّر اللَّه تعالى الجزاء إلى أجل مسمى كما قال سبحانه « وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(2).

3 - إزالة الدواعي النفسية للخلاف من الحسد والبغي ونحوهما ، وفي ذلك أیضاً إبطال للامتحان، مع كون هذه الدنيا مبتنية على التفاضل، فلذا لزم وجود جنود العقل وجنود الجهل في الإنسان مع إراءته طريق الحق وتحذيره من الباطل، قال سبحانه «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)»«فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)»«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)»«وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)»(3).

السابع : قوله تعالی«وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ».

أي إن اللَّه تعالى لم يُلجئهم تكويناً على عدم القتال لذلك تحرکت الدواعي النفسانية في أهل الباطل فأوجدوا الاختلاف وأدّى ذلك إلى القتال.

وهذا الذي حذّر اللَّه تعالى منه أمم الأنبياء، حدث في أمة رسول الإسلام صلى اللَّه عليه و آله وسلم لأن ذلك من سنن اللَّه تعالى في العالم، فعن الأصبغ بن

ص: 286


1- سورة يونس، الآية: 99.
2- سورة يونس، الآية: 19.
3- سورة الشمس، الآيات: 7- 10.

نباتة قال : كنت واقفاً مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الجمل، فجاء رجل حتى وقف بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، كبّر القوم وكبّرنا، وهلّل القوم وهلّلنا، وصلّى القوم وصلّينا، فَعَلَامَ نقاتلهم؟، فقال: على هذه الآية «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» فنحن الذين من بعدهم« مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ » فنحن الذين آمنَّا وهم الذين كفروا، فقال الرجل : كفر القوم ورب الكعبة، ثم حمل فقاتل حتى قتل رحمه اللَّه(1).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام قال فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرى وقسط آخرون، كأنَّهم لم يسمعوا كلام اللَّه حيث يقول «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » بلى و اللَّه سمعوها ووعوها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها(2)، وكفر هؤلاء هو كفر نفاق وقد قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم: لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق(3)، وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم: ستقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل (4)

ص: 287


1- البرهان ج 2، ص 251، عن تفسير العياشي وغيره.
2- نهج البلاغة، الخطبة 3.
3- أمالي الصدوق ص 197، ومن مصادر العامة: سنن الترمذي ج 5، ص306، الحديث رقم 3819، وقريب منه ما رواه مسلم في الصحيح عندهم.
4- بصائر الدرجات ص329، ومن مصادر العامة: مسند أحمد بن حنبل ج 3، ص 82 ومستدرك الحاكم ج 2، 123.

الثامن : قوله تعالى «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ».

تكرار المشيئة مرتين ليس لمجرد التأكيد فقط، بل لعلّه لجهات منها :

1- أن الأول كان قتال الذين من بعدهم بشكل عام فيشمل قتال الكافرين مع الكافرين أیضاً ، والثاني خصوص قتال المؤمنين مع الكافرين.

2- أن الأول في المشيئة التكوينية، والثاني في المشيئة التشريعية فالمعنى لو لم يشأاللَّه قتال المؤمنين لم يشرع لهم القتال فيلتزم المؤمنون بحكمه تعالی فما كان يقع قتال بينهم وبين الكفار.

3 - إن الثاني هو نفس الأول لكن تمّ تكراره بغرض آخر وذلك ليكون مقدمة لقوله «وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ » ، فالمعنى أن اللَّه يفعل ما يريده مما فيه الحكمة والصلاح وذلك بجعل الناس مختارين لذلك لم يشأ جبرهم على عدم القتال، وقد مرّ أن المطلب الواحد قد يتعدد فيه الغرض ولذا يذكر مرات متعددة بتعدد الأغراض، من دون أن يكون ذلك تكراراً .

التاسع : قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا ...»الآية.

لمّا ذكراللَّه تعالى الرسل وذكر المؤمنين والكافرين، حثّ على الطاعة وخاصة في مجال الإنفاق، فإن القتال بحاجة إلى مال فلا بد من الجهاد بالنفس والثروات، مع بيان أن هذا المال ليس لكم حقيقة بل هو رزق ساقه اللَّه إليكم ثم أمركم بصرف بعضه في سبيله، وإن المخالف لهذا التكليف لمستحق لأشد العقوبة حيث بخل بما رزقه اللَّه عن امتثال أمر الله، فلذا هدده اللَّه تعالى بالجزاء في يوم القيامة مع بيان أنَّه لا يوجد مفرّ من العقاب ولا تنفع الوسائل الدنيوية في الهروب منه .

ص: 288

ففي الدنيا قد يدفع الإنسان غرامة فيخلِّص نفسه، أو يتمكن من الفرار من العقاب عبر صداقة مع من له السلطة، أو عبر وسائط يشفعون

وكل هذه لا توجد في القيامة ف-« لَا بَيْعٌ فِيهِ » ليتمكن الإنسان من شراء نفسه أو شراء عقوبته بغرامة.

«وَلَا خُلَّةٌ »وهي خالص المودة قال تعالى «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ »(1).

و« وَلَا شَفَاعَةٌ » لهؤلاء وذلك لأنَّ الشفاعة كلّها بيداللَّه «قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا»(2) ولا أحد يشفع إلّا إذا أذن اللَّه« مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ »(3)« وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى »(4)، وأما الكفار فلا يستحقون الشفاعة، قال سبحانه «فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ »(5)، وقال سبحانه«قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)»الی«فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)»«وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ »(6)

والشفاعة هي انضمام العنصر القوي إلى العنصر الضعيف لإيصاله إلى كماله أو إزالة النقص عنه، وهي قد تكون تشريعية كشفاعة النبي صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة علیهم السلام ، وقد تكون تكوينية كالبذرة التي لا تنمو إلّا إذا شفعت بالماء والشمس ونحو ذلك فهي لها القابلية للنمو مع هذه الضميمة، وكذا

ص: 289


1- سورة الزخرف، الآية: 67.
2- سورة الزمر، الآية: 44.
3- سورة البقرة، الآية: 255.
4- سورة الأنبياء، الآية: 28.
5- سورة المدثر، الآية: 48.
6- سورة الشعراء، الآيات: 96 - 101.

الشفاعة التشريعية إنما هي لمن له القابلية لها، وذلك إذا رضي اللَّه عنه لحسن أفعاله ومعتقداته، وقد مرَّ تفصیل بحث الشفاعة في المجلد الأول فراجع.

العاشر : قوله تعالى «وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

لا ظلم أعظم من الكفر والشرك، قال سبحانه«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ »(1) لكن المقصود في هذه الآية بيان أن عقابهم بسبب ظلمهم لأنفسهم وغيرهم، وليس ظلماً من اللَّه تعالى لهم، فإنَّه سبحانه ليس بظلام اللعبيد.

ص: 290


1- سورة لقمان، الآية: 13.

فصل في المبدأ والمعاد

اشارة

ص: 291

ص: 292

فصل في المبدأ والمعاد

بعد ذكر جملة من الأحكام العبادية والاجتماعية والشخصية ، التي كان آخرها الجهاد، وذكر اقتتال المؤمنين مع الكافرين، ينتقل الكلام إلى بيان المبدأ وهو اللَّه سبحانه وتعالى وصفاته، ثم إلى ذكر المعاد وكيفية إحياء الموتى، ولعلّ سبب ذلك هو بيان عدم حاجة اللَّه سبحانه وتعالى إلى خلقه، وأن تشريع الجهاد ليس إلّا لكونه لمصلحة الناس لينتشر الإيمان ولينعموا بالطمأنينة والرفاه في الدنيا والفوز في الآخرة، فإن اللَّه تعالى هو الغنيُّ عن عباده ولا يمكن لأحد التصرف بأي شيء إلّا بإرادة منه تعالى ثم الجميع في قبضته وسيجازي الجميع على أعمالهم في اليوم الآخر.

ص: 293

الآية 255

«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)».

255 - تجمع الآية أهم الأمور المرتبطة باللَّه تعالی .

(1) «اللَّهُ »وهو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال المنزّه عن جميع صفات النقص، واشتقاق الكلمة من «اله» بمعنى المعبود ولذا عقبه بقوله «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ » فلا يستحق العبادة شيء غيره.

(2) «الْحَيُّ »والحياة يرجع إليها جميع صفات الذات، عکس سائر الآلهة المتفرقة فهي إما جمادات کالأصنام أو حياتها زائلة عارضة كالآلهة البشرية.

(3) «الْقَيُّومُ » والقيمومة أصل صفات الفعل، فهو سبحانه قائم على جميع الأمور بالعلم والقدرة والرعاية، في الإنشاء والاستمرار والرزق وغيرها.

(4) «لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ» وهي فتور قبل النوم كالنعاس« وَلَا نَوْمٌ »

ص: 294

وهذا نفي لصفات النقص، فهو منزه عنها ، وهو كالعلة لكونه قیُّوماً ، فهذه من صفاته تعالی.

(5) وأما نسبته إلى سائر الخلق فهو المالك لكل شيء ف-«لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» فكل الوجود ملکه تعالی.

(6) ولا أحد يتصرف في هذا الملك إلّا بمشيئته تعالی ف-« مَنْ » استفهام إنكاري «ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ »شفاعة تكوينية أو تشريعية «إِلَّا بِإِذْنِهِ»، ومشيئته .

« (255)».

(7) وهو تعالى لا يأذن بالشفاعة عبثاً إذ « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » أيدي الشفعاء أي ما حضر لديهم «وَمَا خَلْفَهُمْ » أي ما خفي عليهم «وَلَا يُحِيطُونَ» إحاطة علم واطِّلاع« بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ» معلوماته « إِلَّا بِمَا شَاءَ» اللَّه تعالی.

(8) وسلطته تعالى عامة لكل الوجود ف-« وَسِعَ كُرْسِيُّهُ» وهو الجسم المحيط بكل شيء أو بمعنی ملکه أو بمعنى علمه « السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ»أي كل الكون.

(9) « وَلَا يَئُودُهُ »أي لا يشق عليه «حِفْظُهُمَا » السماوات والأرض.

(10) «وَهُوَ الْعَلِيُّ » الرفيع مقاماً «الْعَظِيمُ» شأناً .

بحوث

الأول: آية الكرسي من أعظم آيات القرآن الكريم، وذلك لاشتمالها

ص: 295

على كل معارف التوحید، ببيان صفات الذات والفعل وتنزيهه عن النقص أولاً، ثم بيان نسبته إلى الموجودات وذلك ببيان ملکه وسلطته وتصرفه في الكون أجمع، وأنَّه لا سبب سواه إلّا إذا أذن، وهو العالم بكل شيء ولا أحد يعلم شيئاً إلّا إذا شاء وبمقدار ما شاء، وأن عظمة السماوات والأرض لا شيء أمام علوّه وعظمته فلا يتعب من رعايتهما وحفظهما .

ولما أراد اللَّه سبحانه تنزيل سورة الحمد، وآية و«شَهِدَ اللَّه »، وآية الكرسي، وآية الملك، جعل لهن من الفضل الكثير، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : لما أمر اللَّه عزَّوجلَّ هذه الآيات (1)أن يهبطن إلى الأرض تعلقن بالعرش (2)وقلن : أي رب إلى أين تهبطنا؟ إلى أهل الخطايا والذنوب! فأوحى اللَّه إليهنَّ : أن أهبطنَ، فوعزتي وجلالي لا يتلوكنَّ أحَدٌ من آل محمد وشيعتهم في دبر ما افترضت عليه من المكتوبة في كل يوم إلّا نظرت إليه بعيني المكنونة(3) في كل يوم سبعين نظرة، أقضي في کل نظرة سبعين حاجة، وقبلته على ما فيه من المعاصي، وهي: أمُّ الكتاب، «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ »، وآية الكرسي، وآية الملك (4).

ص: 296


1- المقصود هي الآيات التي ذكرها الإمام علیه السلام في آخر الحديث، وهي أم الكتاب - أي الحمد - وآية«شَهِدَاللَّه » وآية الكرسي وآية الملك، وقد توهم بعض أن هذه الآيات هي آية الكرسي فزعم أن قوله علیه السلام « هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ » إشارة إلى آية الكرسي. مع وضوح أن أم الكتاب هي سورة الحمد.
2- عن مرآة العقول - كما في هامش الكافي : هذا إما كناية عن تقدسهن وبعدهن عن دنس الخطايا، أو المراد تعلق الملائكة الموكلين بهن، أو أرواح الحروف كما اثبتها جماعة والحق أن تلك الأمور من أسرار علومهم وغوامض حكمهم ونحن مكلفون بالتصديق بها إجمالا وعدم التفتيش عن تفصيلها، و اللَّه يعلم.
3- أي الألطاف الخاصة - على ما قيل -
4- أصول الكافي ج 2، ص 620.

وعن أبي ذر أنَّه سأل النبي صلی الله علیه وآله وسلم : أيُّ آية أنزلها اللَّه عليك أعظم؟ قال : آية الكرسي(1)، ولا يخفى أن «أعظم» هنا نسبي فإن «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » أیضاً «أعظم» كما في أحاديث أخرى(2) وذلك لأن تمجید اللَّه وتنزيهه أعظم الأمور فالآيات المتضمنة لذلك تكون أعظم الآيات، وقد مرّ بعض الكلام في أفعل التفضيل في قوله تعالی «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ...»الآیة(3) .

الثاني : اشتملت الآية المباركة على ستة مقاطع ولم يعطف بعضها على بعض بحرف العطف:«الْحَيُّ الْقَيُّومُ »«لَا تَأْخُذُهُ»«لَهُ مَا »« مَنْ ذَا »«يَعْلَمُ»«وَسِعَ ».

قيل : لأن كل جملة لاحقة هي تبيين للجملة السابقة، وفي عطف البيان لا يذكر حرف العطف.

وقيل : لأن كل جملة لاحقة هي كالعلة للجملة السابقة «لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ »كالعلة لكونه قیومة، لأن من ينام لا يكون قيُّوماً في حال نومه ، وحيث إنه لا تأخذه سِنة ولا نوم فهو المالك لكل شيء فقال « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ »، وحيث إنه مالك لكل شيء فلا يشاركه أحد في الأمر فقال ومن ذا الذي يشفع عنده إلّا بإديو، ولأنَّه يعلم كل شيء لذلك يأذن في الشفاعة أو لا يأذن فقال «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ...» وعدم إحاطتهم بعلمه لأن سلطته عامة على كل شيء ف-«وَسِعَ كُرْسِيُّهُ...»

ص: 297


1- البحار ج 89، ص262 عن الخصال .
2- راجع البحار ج 89، ص238 عن تفسير العياشي.
3- سورة البقرة، الآية: 114.

الثالث : قوله تعالى « اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .

أصل صفات الذات هي الحياة، وجميع الصفات ترجع إلى الحياة ، فالعلم والقدرة والاختيار والخلق والرزق ... إلخ لا يمكن أن يوجد إلّا في الحيّ، وليس معنى الحيّ هو من يصح أن يعلم ويقدر کما عن بعض المتكلمين، بل العلم والقدرة من لوازم الحياة .

نعم جميع صفاته الذاتية هي عين ذاته بلا اثنينية ولا تركب وذاته المقدسة، وهي منشأ أفعاله من الخلق والرزق وغيرهما .

ثم إن صفاته الذاتية هي عين ذاته فهي وجوده سبحانه، وليست تلك الصفات سلوب في حقيقتها ، نعم باعتبار عدم تمكننا من إدراك كنه ذاته فلا يمكننا فهم کنه صفاته الذاتية - لأنَّها عين ذاته، والمقدار الذي نحن نتعقله من تلك الصفات هو سلب أضدادها عنه، فمقدار فهمنا من قدرته هو عدم عجزه عن أي شيء، ومن علمه عدم جهله بشيء، ومن حياته عدم موته تعالى اللَّه عن كل ذلك علوّاً كبيراً ، وإلى ذلك تشير بعض الروايات.

فقوله «الْحَيُّ » لنفي الشركاء والأضداد، فهو كالعلة لقوله تعالى «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ»، فالأصنام جمادات لا حياة فيها، والطبيعة عادمة للحياة وللشعور فلا يعقل أن تكون سبباً لهذا الخلق العظيم المتقن في كل الجهات، كما أنَّه لا سبيل للموت عليه، كما قال «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ »(1) فلا يمكن الفرار من حكومته أو انتظار موته للهرب من عقابه ، أما الآلهة البشرية فحياتها لفترة وجيزة تموت بعدها فلا يعقل أن

ص: 298


1- سورة الفرقان، الآية: 58.

تكون الإله الخالق الرازق، وكما ذكرنا فإن «الْحَيُّ »هو أصل كل صفات الذات.

وقوله«الْقَيُّومُ » أي قائم على جميع الأمور بالعلم والقدرة والرعاية ، فليس كبعض الملوك الذين لا يهتمّون بما يجري في مملكتهم، بل هو الربُّ الذي يخلق ويرزق ويدبر، فلا يمكن الاختفاء منه، وقيمومته هي بالعدل في كل شيء كما قال سبحانه«قَائِمًا بِالْقِسْطِ »(1)، والقيمومة هي أصل صفات الفعل، فالخلق والرزق والإحياء والإماتة والرحمة ... إلخ كلّها بسبب قیمومته تعالى على الخلق أجمع.

الرابع : قوله تعالى « لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ » .

تنزيه للَّه تعالى عن صفات النقص، ومن أظهر مصادیق النقص هو الغفلة التي تنشأ من النعاس أو النوم، كما أن هذا المقطع كالعلة لكونه قیّوماً - كما قيل - فإن القيمومة الدائمة لا تنسجم مع غفلة النوم والنعاس، فهو تعالى لا يغفل عن تدبير أمر الخلق ورعايتهم، بل كما هو سبحانه علة الإيجاد كذلك هو علّة البقاء، فلو قطع لطفه لحظة واحدة لانمحى الوجود بأسره، وقال سبحانه «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ »(2). ولا يخفى لطف التعبير عن النوم والنعاس بولا تأخذه، لأن القائم بالأمور من الناس لا يتمكن من التيقظ لفترة طويلة فحتى لو أراد اليقظة وقاوم فإنَّه سينهار ولو بعد أيام فيتغلّب النوم علیه قهراً ومن غير اختيار ،

ص: 299


1- سورة آل عمران، الآية: 18.
2- سورة فاطر، الآية: 41.

وأما اللَّه تعالى فهو العزيز القاهر الذي لا يغلبه شيء، فهو منزه عن النوم والسِّنة لأنَّهما نقص، ولا يستوليان عليه لأنَّه قاهر غير مقهور.

الخامس : قوله تعالى « لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ » .

بعد أن بیّن تعالى من صفات الذات والفعل والتنزيه عن النقص، بعد ذلك بين نسبته إلى سائر الموجودات، وأنَّه مالكها أجمع، فلا يشاركه أحد في ذلك، وهذا نتيجة أُلوهيته وحياته وقيوميته، إذ سائر الخلق عاجزون كانوا غير أحياء ثم يموتون، وتعرض عليهم الغفلة والنوم فلا يمكن لهم أن يضادوه تعالی في ملكه أو ينادوه.

ومعنى « لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ » له السماوات والأرض وما فيهما ، فإن الظرف تابع للمظروف - كما في التقريب -

السادس : قوله تعالى«مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ».

بعد بیان ملكيَّته لكل الوجود بأسره، بينت الآية أن تصرفات الموجودات كلّها ليست باستقلال منها من دون إذن من اللَّه تعالى، فحيث إن الوجود كلّه ملك لله تعالى فلا يمكن لأحد التصرف في هذا الملك إلّا إذا شاء اللَّه تعالى، قال سبحانه «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)»(1)، وقال « وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»(2)، وقال «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ »(3)، وغيرها آیات كثيرة فراجع مادة (ش ی ء) و(اذن) في المعجم المفهرس لتجد الآيات القرآنية الكثيرة في هذا المجال، فكل ما يتحقق في هذا الكون حتى أفعال

ص: 300


1- سورة التكوير، الآية: 29.
2- سورة البقرة، الآية: 102.
3- سورة يونس، الآية: 100.

الإنسان فهي بمشيئة اللَّه تعالى وإذنه، وليس ذلك بمعنى الجبر كما توهمته الأشاعرة، فإن ذلك سلب للاختيار وظلم على عقاب العصاة، وتعالى اللَّه ذلك، بل بمعنى أن اللَّه سبحانه شاء أن يكون الإنسان مختاراً قادراً، وشاء جعل أسباب، وشاء جعل مسببات لتلك الأسباب، وشاء عدم جعل موانع. ، وشاء إرسال رسل، وشاء إصدار أحكام تكليفية من واجب وحرام، فلذا لو فعل الإنسان شيئاً فإنَّما يفعله باختياره فيستحق عليه الثواب والعقاب ولكن من دون خروجه عن سلطة اللَّه تعالى ومملكته، وهذا معنى (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين) كما ورد في أحاديث مستفيضة، وقد فصلنا شرح هذه الروايات وبيان معنى الاختيار في شرح أصول الكافي فراجع .

و«الشَّفَاعَةُ» هنا قد يراد بها الشفاعة التكوينية فيكون المعنى جعل الأسباب والمسببات، وقد يراد بها الشفاعة التشريعية وهي الأنبياءعلیهم السلام والأئمة علیهم السلام والملائكة وغيرهم فيكون ذكرها من باب ذكر أظهر مصاديق، لأن هؤلاء عباد مقربون مكرمون فإذا لم يتمكنوا من التصرف إلّا بإذنه تعالى فغيرهم بطريق أولى لا يتمكن من التصرف من غير إذنه سبحانه . والحاصل أن ما من سبب إلّا وتأثيره بجعل من اللَّه تعالى، ولو شاء سبحانه لسلبه ذلك الأثر، فالنار تحرق بإذنه وقد سلب إحراقها في نار إبراهيم .

وقد ذكرنا فيما سبق أن الصحيح هو (التوافي) أي إن الأسباب هي أسباب ظاهرية لا تأثير لها واقعاً وإنما اللَّه سبحانه هو الذي يرتب المسببات على الأسباب الظاهرية، وقيل ب-(التوليد) أو (الإعداد) وهي أنَّها أسباب حقيقية فهي التي تولد المسببات لكن بجعل منه تعالى، أو هي

ص: 301

مُعدّة بتفصيل مذكور في محلّه، لكن يظهر من مختلف الروايات الأول - أي التوافي - وخاصة الأخبار التي تبين دور الملائكة في التدبير قال تعالى «وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا» إلى قوله«فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا »(1)، وأظهر شاهد له الموت حيث إن هناك أسباباً طبيعية من قتل أو مرض ونحو ذلك، ولكن السبب الواقعي هو قبض الملك للروح، بل السبب الحقيقي هو مشيئة اللَّه تعالی وقبضه قال سبحانه «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ »(2).

السابع : قوله تعالى «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)»«لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)»

«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)»(3).

السياق يدل على أن الضمير يرجع إلى الشفعاء في قوله « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » ، كما يظهر ذلك من بعض الأخبار أیضاً ، فعن الإمام الرضا علیه السلام قال : « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» فأمور الأنبياء وما كان ، «وَمَا خَلْفَهُمْ » أي ما لم يكن بعد(4)، وكذا يظهر من قوله تعالى.

ثم إن « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ »و يشمل ما فعلوه في حياتهم كأنَّه أمامهم، وما كان في الماضي، وما يقدمون من أعمال، والحاضر المشهود، فكل هذه من مصادیق « مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ »

ص: 302


1- سورة النازعات، الآيات: 1- 5.
2- سورة الزمر، الآية: 42.
3- سورة الأنبياء، الآيات: 26- 28.
4- البرهان ج 2، ص 252 عن تفسير القمي.

وأما«وَمَا خَلْفَهُمْ » فيشمل آثارهم التي خلفوها، وما سيكون في المستقبل - لأنَّه يحدث خلفهم أي من بعدهم -، والغائب المستور عنهم زمان أو مكانة، فكل هذه من مصادیق «وَمَا خَلْفَهُمْ »، والحاصل أن اللَّه سبحانه وتعالى عالم بكل أحوالهم وأمورهم من غير أن يغيب عنه شيء.

والمقصود أن إذنه بالشفاعة لهم ليس اعتباطاً بل بحكمة لأنَّه سبحانه عالم بكل شيء فيعلم وجه الصلاح فلذا يأذن أو لا يأذن، وليس كالملوك الذين قد يفوّضون أحداً في شيء فيتصرف كما يشاء من غير علمهم ولا استئذان منهم في التفاصيل.

الثامن : قوله تعالى« وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ».

بعد أن أثبت علمه تعالي بكلِّ شيء، بيّن جهل الناس بكل شيء إلّا بالمقدار الذي يشاؤه تعالى، لأن كل كمال يرجع إلى اللَّه تعالى حيث إنه الكمال المطلق الذي لا نقص فيه، وكل كمال يكون في سائر الموجودات فهو بفضل منه تعالى قال سبحانه وقل إن الفضل يريد اللَّه يؤتيه من يشاه).

و(الإحاطة العلميَّة) هي معرفة كل التفاصيل وذلك بمعرفة حقيقة الشيء كما هو، وهذا غير متيسر للناس، فإن حقيقة الأشياء مجهولة لدينا وإنما نعرف منها بعض الآثار، و(الوجود) الذي هو أعرف الأشياء لا نعرف حقيقته وكنهه، بل نعرف بعض آثاره، نعم قد يفيض اللَّه سبحانه هذا العلم على من يشاء.

التاسع: قوله تعالى « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ».

للكرسي معان متعددة : منها : الجسم المحيط بالسماوات والأرض وهو تحت العرش

(1) آل عمران، الآية: 73.

ص: 303

ومنها : الملك، فيكون كناية عن السلطة، فهو تعالی مسلط على كل الوجود سواء السماوات والأرض أو العرش .

ومنها : العلم، وقيل في وجه هذه التسمية: إنها بعلاقة الحال والمحل، فالعالم يجلس على كرسي الدرس، فكأنَّ العلم على الكرسي، فسُمِّي العلم كرسيّا .

ولا يخفى أن الكرسي بالمعنى الأول يكون تحت العرش الجسماني - الذي هو محيط بكلِّ الموجودات -، ولذا ورد في بعض الروايات أن العرش يحيط بالكرسي، وأما الكرسي بالمعنى الثاني والثالث فهو شامل للعرش أيضاً لأن سلطته تعالى تشمل العرش، وعلمه يحيط بالعرش أيضاً، ولذا ورد في روايات أخر أن الكرسي محيط بالعرش .

فقد عرفت أن كلاًّ من هذه الروايات لا تنافي الأخرى بل سبب توهم المنافاة عدم الالتفات إلى تعدد المعاني، وهكذا للعرش أيضاً معانٍ، وقد ذكرنا التفصيل في شرح أصول الكافي فراجع(1).

والظاهر أن معنى الكرسي في قوله «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ »هو الملك والسلطة، والمعنى كما أن اللَّه سبحانه مالك لجميع الوجود كذلك مسيطر عليه، وليس كما تزعم اليهود، قال سبحانه«وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ »(2) وقال تعالى «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ »(3).

ص: 304


1- شرح أصول الكافي، ج2، ص 325.
2- سورة المائدة، الآية: 64.
3- سورة آل عمران، الآية: 181.

العاشر : قوله تعالى: «وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ».

مادة «أ و د» في الأصل بمعنى الاعوجاج بسبب الثقل، يقال : آدني الشيء یَؤُودُني كأنَّه ثقل عليه حتى ثنّاه وعطفه(1)، فالمعني هنا : لا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض، وذلك لأن التعب والنصب والثقل عوارض الأجسام وهي بسبب العجز، وتعالى اللَّه سبحانه عن ذلك، وهذا بیان لاستمرار قيمومته تعالى، وأنَّه لا فرق في قدرته بين إنشاء الشيء وبين حفظه، بل هو رب كل شيء فيحفظ السماوات والأرض وما فيهنَّ وما بينهنَّ بالتربية والتنمية والإصلاح حسب ما تقتضيه حكمته، قال سبحانه « كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»(2) أي تدبيره للأمور مستمر دائماً، والتغيير في المخلوقات لا في الخالق.

وقوله«وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ »كالتعليل لكل ما سبق فخلقه وملکه وعلمه وقهره للمخلوقات وسعة سلطته وعدم عجزه، كل ذلك لعلوِّه الذاتي وعظمته الذاتية، فهو القديم المستجمع لكل صفات الكمال المنزّه عن كل نقص، فلذا كان الخالق المدبر وكان سائر الموجودات هي المخلوقات المحتاجة إليه.

الحادي عشر : ورد في بعض الأحاديث أن تنزيل آية الكرسي کان هكذا : له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم من ذا الذي يشفع عنده ... الآية (3)، وفي حديث آخر: كذا نزلت(4).

ص: 305


1- راجع مقاييس اللغة ص 80 .
2- سورة الرحمن، الآية: 29.
3- البرهان ج2، ص252 عن تفسير القمي.
4- تفسير القمي ج 1، ص85.

وذلك لأن الذي نزل على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم نص القرآن مع تفسيره وبيانه، قال تعالى«إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)»«فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)»«ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)»(1) فكما أنزل اللَّه القرآن كذلك أنزل بیان القرآن، ولذا ورد في الحديث أن القرآن سبعة عشر ألف آية (2)، وذلك لأن البيان ضعف النص، فستة آلاف ونيف هي النص وأحد عشر ألف ونيف هي البيان.

وفي آية الكرسي من المعلوم أن المراد بقوله وله ما في الموت وما في الأرض هو ملکه لجميع الكون بأسره فمعنى الآية يشمل «ما بين السماوات والأرض ويشمل ما تحت الثرى أيضأ»، ومعنى قوله «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ...»هو كونه تعالى «عالماً لما في الغيب والشهادة » كما شرحناه ، و(رحمته» داخلة في قيوميته ، فهو قائم على كل نفس بالعلم والقدرة والتدبير بعدل ورحمة .

فتبيّن أن قوله علیه السلام هكذا تنزيلها ليس بمعنى أن هذه الجُمل هي إحدى القراءات وقد قرأ بها أهل البيت علیهم السلام كما تُوهِّم، ولا بمعنى التحريف كما زعمه المخالفون، بل بمعنی بیانها وتفسيرها النازل، وللشيخ الصدوق كلام في نزول التفسير نقلناه في شرح الكافي فراجع.

ص: 306


1- سورة القيامة، الآيات: 17 - 19.
2- الكافي ج 2، ص 634.

الآيتان 256 - 257

«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)»«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)»

256 - بعد بيان صفات اللَّه وملكه، بينت هذه الآية أن ذلك واضح جدّاً لكن الإنسان مختار في قبوله والعمل طبقه ف-«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»لا تكويناً ولا تشريعاً، وسبب ذلك أنَّه « قَدْ تَبَيَّنَ » بسبب الآيات الواضحات «الرُّشْدُ »وهو طريق الهداية،«مِنَ الْغَيِّ »وهو طريق الضلال، وبعد التبيّن فالإنسان مختار لا إكراه ولا إلجاء،«فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ»كثير الطغيان وهو كل ما يصرف الإنسان عن عبادة اللَّه واتّباع تعاليمه « وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ » أخذ بإحكام واعتصم «بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى »، أي المقبض الأكثر استحكاماً، فتُنجّيه من المهالك، «لَا انْفِصَامَ » أي لا انقطاع«لَهَا» لتلك العروة، « وَاللَّهُ سَمِيعٌ»لأقوالكم « عَلِيمٌ » بنياتكم، فيعلم من تمسك حقيقة - قلباً وقولاً - من المنافق أو الكافر .

ص: 307

257 - ونتيجة هذا التمسك هو النجاة ف-«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» ، أولى بهم فلذا يوقفّهم بالاستمرار في الإيمان وبالحجة وبالثواب ف-« يُخْرِجُهُمْ »بلطفه وتوفيقه«مِنَ الظُّلُمَاتِ » كظلمات الكفر والجهل والذنوب وجميع الظلمات«إِلَى النُّورِ »نور الإيمان والمعرفة والمغفرة وغيرها، «وَ» عکس هؤلاء«الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ »كل من يصرف عن عبادة اللَّه كالشيطان وأعداء آل محمد صلی الله علیه وآله وسلم «يُخْرِجُونَهُمْ »يخرج الطاغوتُ أولياءَهم بالإغواء والتزيين«مِنَ النُّورِ » نور الفطرة والإسلام «إِلَى الظُّلُمَاتِ» ظلمات الكفر والضلال في الدنيا والعذاب في الآخرة « أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» ملازمون لها « هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » .

بحوث

الأول: لما بين اللَّه تعالى في آية الكرسي التوحيد، وصفات الذات ، وصفات الفعل، والتنزيه عن النقص، وملكه، وعلمه، وقدرته، مع عجز الناس وجهلهم إلّا بالمقدار الذي يأذن ويشاء، بعد ذلك بيَّن في هاتين الآيتين سائر أصول الدين - من العدل والنبوة والإمامة والمعاد - فأما عدله تعالى فأشار إليه بقوله تعالى « لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»وبقوله « قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » وباختیار الانسان «فَمَنْ يَكْفُرْ ...»الآية .

وأما النبوة والإمامة فبقوله «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ... »

ص: 308

وأما الجزاء فبقوله «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»وبقوله «يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ » وبقوله «أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ...»

لأجل ارتباط هاتين الآيتين بآية الكرسي ورد في بعض الروايات استحباب تلاوتها معاً، بل قال بعض بأن آية الكرسي هي كل هذه الآيات الثلاث، ولكن الظاهر من الأخبار أنَّها هي الآية الأولى ولكن مع استحباب اقترانهما معها في التلاوة، فعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم قال: من قرأ أربع آيات من أول البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعدها، وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئاً يكرهه، ولا يقربه الشيطان، ولا ينسی القرآن(1).

الثاني : قوله تعالى«لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ » .

«إِكْرَاهَ » مطلق فيشمل الإكراه التكويني، والإكراه التشريعي، قال تعالى «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ »(2)، دلت الآية على أن اللَّه لم يشأ إكراه الناس تكويناً ولو شاء لجعلهم كلّهم مؤمنين، كما لم يشرّع للرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم إكراه الناس على الإيمان.

وأما قوله تعالى« وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ »(3)، فمعناه أنكم لما اخترتم الإيمان نوّر اللَّه قلوبكم بالمعرفة وكشف لكم بلطفه أسواء الكفر والفسوق والعصيان، فلذا كرهتموها.

ص: 309


1- البرهان ج2، ص266 عن الكافي.
2- سورة يونس، الآية: 99.
3- سورة الحجرات، الآية: 7.

وهنا مطالب :

1 - سبب عدم الإكراه تكويناً هو أن اللَّه تعالى خلق الإنسان مختاراً فيجازي حسب ما اختاره إن خيراً فخير وإن شرا فشر، وفي قوله « قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » إشعار بهذا السبب، فإن اللَّه سبحانه بين طريق الهداية وطريق الضلال فيختار الإنسان ما شاء وسيجازي على اختياره، أما لو كان إكراه فلا معنى لهذا التبيّن بل يكون لغواً لأنَّه أمر لا يحتاج إليه حينئذٍ، و اللَّه تعالى عن اللغو والعبث، ولذا زوّد اللَّه الإنسان بالعقل وخلق الحيوانات من غیر عقل لعدم تكليفهم فلم يكونوا محتاجين إليه فلا يجتمع العقل مع عدم التكليف لأنَّه عبث، فكل عاقل مكلّف وكلّما كان العقل أكثر كان التكليف أشد وأكثر، وحيث إن الموجود المختار أشرف من غيره لذا قال سبحانه : «ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(1)

2-وسبب عدم الاكراه تشريعاً، هو أن هذا الإكراه لغوٌ لا فائدة فيه، وذلك لأن الإكراه يتعلق بما هو محسوس، كالإكراه على الأكل والشرب والقول وسائر الأفعال، وأما القلب فهو منطقة حرّة لا سيطرة عليها لأحد إلّا اللَّه سبحانه وتعالى، ومن أظهر الإيمان بلسانه عن إكراه من غير اعتقاد ولا عقد قلب يكون منافقاً وهو أسوأُ من الكافر وأشد ضرراً، فأن يكون كافراً يدفع الجزية خير من أن يكون منافقاً ينخر في جسم المسلمين من الداخل، بل لا قيمة في الآخرة لإيمان المكرَه، كما لا ضرر في كفر المكرَه بلسانه، قال سبحانه «إلا من أكره وقلبه ملمين بالإيمن»(2).

ص: 310


1- سورة المؤمنون، الآية: 14.
2- سورة النحل، الآية: 106

نعم إذا جاء أحد وأظهر الإيمان لا يجوز التفتيش عن نواياه ولا رفض إسلامه، قال تعالى «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا »(1)، وذلك لعدم اطلاعنا على النوايا ، ولعلّه سيحسن إيمانه حتى وإن لم يكن سبب إظهار الإسلام في البداية هو الاعتقاد، ولعلّ القبول يكون ترغيب للآخرين في الدين، فقد يُسلم الرأس نفاقاً لكن الأتباع قد يُسلمون حقيقة، وكذا مراعاة للذرية فكم من منافق كانت ذريته مؤمنة حقاً، ولغير ذلك.

3- الإكراه المنفي هو الإكراه في أصل العقيدة، ولكن في تفاصيل الأحكام قد يكون إكراه لتنظيم شؤون العباد والبلاد، وهذا أمر يقرّه جميع العقلاء، فحتى العالم المُسمَّى بالمتحضِّر قانونهم هو حرية الاعتقاد، لكن على الجميع مراعاة القوانين -التي سُنّت لتنظيم الحياة - ومن يخالف يعاقب بالغرامة والسجن وغير ذلك.

فمن اختار الإسلام عليه أن يلتزم بأحكامه، وإن أراد المخالفة أو خالف یُنبَّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يعاقب على بعض المخالفات، فالضريبة الواجبة تُؤخذ من الناس ولو بالجبر، قال تعالى« وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ »(2)، والتجنيد الإجباري في أوقات القتال أمر معقول، ولذا كتب اللَّه الجهاد حتى مع كرههم قلباً، ومن لا يريد الخروج يُجبر قال سبحانه«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » (3).

4 - إن هنالك التزامات اختبارية، فمن اختار الالتزام لا يحق له

ص: 311


1- سورة النساء، الآية: 94.
2- سورة التوبة، الآية: 54.
3- سورة البقرة الآية: 216.

التنصّل عنه، ولذا كانت غالب العقود لازمة لا يحق لأحد المتعاقدين الفسخ، نعم قد تجعل طرق لفسخ هذه الالتزامات ضمن الضوابط القانونية، كما لو تراضى المتعاقدان بالفسخ، وكالطلاق والخلع، واختيار الإسلام من الأمور التي لم يُكَره الكفار عليه، لكن لو اختاروه فلا يحق لهم الارتداد، وهذا من الالتزامات الاختيارية التي لا يمكن التخلص منها أبدا، وكذا من يولد على الإسلام لا يحق له الارتداد، لأن اللَّه سبحانه مالك كل شيء والغاية من الخلق هو عبادته سبحانه، ولا تتحقق هذه العبادة إلّا بالإسلام، فلا يعقل أن يشرّع قانوناً يخالف التكوين، وقد ذكرنا فيما مضى أن التشريع مطابق للتكوین کاملاً، ولذا لم يشرع اللَّه سبيلاً للكافرين على المؤمنين، كذلك لم يجوّز الارتداد لأنَّه تشريع يخالف التكوين قال تعالى «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ »(1) فشرّع سبحانه ما يقرّب إلى العبادة ولم يشرّع ما يبعّد عنها .

5 - هذه الآية من الآيات المحكمة والتي لم تنسخ، وتوهم نسخها بآيات القتال غير صحيح:

أولا : لأن علّة عدم الإكراه وهي قوله « قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » مستمرة، ولا معنى للنسخ مع بقاء علة التكليف، بل إنما ينسخ الحكم مع انتهاء أمد عِلّته- كما مرّ سابقاً -.

وثانيا : إن آیات الجهاد ليست لإكراه الناس على الإيمان، وإنما هي الدفع الاعتداء، أو تسهيل أمر الدعوة إلى اللَّه ، فقد يظلم الظالمون عباد اللَّه فالجهاد لرفع الظلم، وقد يمنع الحكام الظلمة التبليغ والإرشاد

ص: 312


1- سورة الإسراء، الآية: 44.

ويزاحمون المبلغين فالجهاد لإزالة المانع كما قال تعالى«وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا »(1).

الثالث : قوله تعالى«قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » .

هذا كالعلّة لما قبله، أي إن أمر الدين من الوضوح بمكان فلا حاجة إلى الإكراه أصلاً .

و« الرُّشْدُ » هو طريق الهداية، و«الْغَيِّ » هو طريق الضلال، فالنسبة بين الرشد والهداية هي النسبة بين المقدمة وذي المقدمة، وكذلك النسبة بين الغي والضلال، وفي المقاييس: الرشد يدل على استقامة الطريق (2)، وفي المناهج : والظاهر من موارد الاستعمال أن الرشد هو الهداية والعلم مع عناية الاقدام للعمل طبق العلم، قال تعالى « فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا »(3)، فإن استيناس الرشد إنما يحصل مع تتّبع أعمالهم وأقوالهم، فيكون الغي الضلال نفسه بعناية الإقدام والجري العملي طبق جهله وعماه، فعلى هذا يكون المتبيّن هو نفس العمل الحق من الباطل(4).

وهذا التبيّن إنما هو بالفطرة والعقل أولاً، وبالبراهين والآيات المعجزة ثانياً، فإن هناك انسجاماً تاماً بين الفطرة والعقل و آیات الأنبياء والأوصياء.

ص: 313


1- سورة النساء، الآية: 75.
2- المقاييس: ص 385.
3- سورة النساء، الآية: 6.
4- مناهج البيان ج 3، ص 20 - 21.

الرابع: قوله تعالى « فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا».

إن تبين الرشد من الغي لوحده لا يكفي في هداية الإنسان، فلا بد من عامل قوي يسوق الإنسان إلى طريق الهداية ويصرفه عن طريق الضلال، فكان ذلك الأنبياء، وكلّما طال التحريف تشريعاتهم وما جاؤوا به واتر اللَّه إرسال أنبياء آخرين، إلى أن بعث اللَّه آخر الأنبياء رسوله محمداً صلى اللَّه عليه و آله وسلم ، فجاء بالتشريع النهائي وبيَّن تفاصيل العقيدة في كل شيء، ولضمان عدم تحریف الدين فإن اللَّه سبحانه جعل خليفتين للرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم و لا يفترقان وهما باقيان في الناس إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وهما القرآن وأهل البيت فلا ، فقال الرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى یردا عليّ الحوض (1). روته العامة والخاصة متواتراً وبألفاظ متقاربة، ولذا كان القرآن وأهل البيت علیهم السلام معاً ضماناً لعدم الانحراف، وقد انحرف الذين تركوهما معاً أو تركوا أحدهما فإن ذلك ترك لكليهما معاً، وقد أكّد الرسول صلى اللَّه عليه و آله وسلم على التمسك بهما في مواطن كثيرة وأراد أن يكتب ذلك قبل رحيله فقال : إيتوني بكتاب ودواة لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا من بعدي أبداً . ومن المعلوم أن قوله: (لن تضلوا من بعدي أبداً) هو إشارة إلى ما قاله في حديث الثقلين : (ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً)، فقال قائلهم: إن الرجل ليهجر حسبنا کتاب اللَّه ! !(2).

و« الطَّاغُوتُ»مبالغة في الطغيان من فَعَلُوت كالجبروت والملكوت،

ص: 314


1- أمالي الصدوق ص 500، بصائر الدرجات ص 433، ومن مصادر العامة سنن الترمذي ج5، ص663، الحديث رقم 3788، والدر المنثور ج 7 ص 349.
2- رواه من العامة البخاري في الصحيح عندهم في مواضع متعددة في كتابه.

وفيه قلب لام الفعل مكان العين، ويطلق على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث.

وكثرة الطغيان هي بالصد عن عبادة اللَّه تعالی وعن تنفيذ أوامره، لذلك كان من مصادیق الطاغوت : الأصنام، والشيطان، وحكام الجور، والذين غصبوا حق آل محمد صلى اللَّه عليه و آله وسلم .

قوله : « بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» و(العروة) هي مقبض الإناء والكوز ونحوهما و(الوثقی) تأنيث الأوثق بمعنى الأشد استحکاماً وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس، فكما أن الشخص المعرَّض للسقوط لو تمسك بقوة بمقبض أو بحبل النجاة فإنَّه لا يسقط فينجو، كذلك من يكفر بالطاغوت ويؤمن باللَّه فهو متمسك بطوق النجاة فلا يسقط في مهاوي الضلال ولا ينهار به في نار جهنم، قال تعالى «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ »(1).

وفي هذا التشبيه إشارة إلى أنَّه كما أن إناء السقي أو الطعام فيه الخير والبركة لمن أخذ بمقبضه كذلك في المعنويات - كذا قيل - وفسرت الروايات (العروة الوثقی) بالإيمان باللَّه وحده، وبأمير المؤمنين علیه السلام ، وبالأئمة عليهم السلام ، وبحبّهم(2) وذلك لأن الدين وحدة متكاملة فالإيمان باللَّه تستلزم إطاعة من أمر اللَّه بإطاعتهم وحبّ من أمر اللَّه بحبهم .

وقوله «لَا انْفِصَامَ لَهَا » لبيان أن التمسك بالطواغيت إنما هو تمسك بعروة واهية تنفصم في الآخرة، قال سبحانه «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ

ص: 315


1- سورة التوبة، الآية: 109.
2- راجع الروايات في تفسير البرهان ج2، ص262 - 264.

الَّذِينَ اتَّبَعُوا»(1) بل في الدنيا أیضاً كما قال :«إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)»(2).

فلمّا قال« بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» و«الوثقی» أفعل تفضيل، تبين أن هناك عروة غير وثقى، والفرق أن الوثقى لا انفصام لها أبداً، وأما غير الوثقی فهي تنفصم فينهارون في الذلة وغضبه تعالى ثم في نار جهنم.

الخامس : قوله تعالى «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا » .

لمّا بيّن أن الكفر بالطاغوت والإيمان باللَّه هو العروة الوثقى، بيّن في هذه الآية النتيجة في الدنيا والآخرة وأن اللَّه سبحانه - باعتبار أن حبل هذه العروة بيده سبحانه هو الذي يسحب هؤلاء المتمسكين بهذه العروة إلى النور فيكون في تمسكهم بها نجاتهم، وأما الطاغوت فمن أخذ بعروتهم فإنَّها تنقطع فيكونون سبباً في انهيار أتباعهم في الظلمات.

وولاية اللَّه هي من شؤون مالكيته المطلقة، فهو المالك لهم ويتصرف كما يشاء، وحيث إن هؤلاء المؤمنين بحسن اختيارهم صاروا لائقین للنجاة لذلك يتولّى اللَّه سبحانه أمورهم، وذلك بإراءتهم الطريق وبإيصالهم إلى المطلوب، فقوله «وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا »(3)أي هو أولى بهم من أنفسهم، فيلي أمورهم بلطفه ورحمته، ومن مصادیق ولايته لهم أنَّه يؤيدهم بالهداية قال سبحانه : «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى»، وبالحجة والبرهان قال سبحانه «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ » (4)،

ص: 316


1- سورة البقرة، الآية: 116.
2- سورة الأعراف، الآية: 152.
3- سورة محمد، الآية: 17.
4- سورة الأنعام، الآية: 83.

وبالنصر قال سبحانه «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ »(1)، في الآخرة قال سبحانه «أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »(2)، وبغير ذلك من أنواع الولاية .

السادس: قوله تعالى «يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ».

أي ظلمات الكفر والجهل والذنوب وجهنم، فكل شرّ وإثم هو ظُلمَة، سواء كان عقيدة أم عملاً أو نتيجة، وسواء كان في الدنيا أم الآخرة، وهي ظلمات متعددة بتعدد الباطل والشر.

وأما النور فهو واحد وهو نور الإيمان والمعرفة والهداية والمغفرة ، ولذا كان الصراط المستقيم واحداً وأما غيره فهي سبل متكثرة متضاربة ، قال سبحانه « هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ »(3)، نعم قد يكون الخير الواحد له مصادیق متعددة كمن ينفق ماله في سبيل الله، فقد يعطيه فقيراً أو يتيماً أو يطعم به أو يكسو به أو يفعل سائر وجوه البر فكلّها مصاديق للإنفاق المرغوب إليه، فبهذا الاعتبار صح تسميتها بالسُّبُل كما قال تعالى : «وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا »(4) فهي مصادیق مختلفة لكنها كلّها في سبيل واحد هو الصراط المستقيم .

السابع : قوله تعالى « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ...» الآية .

فالكفار لا يتولى اللَّه شؤونهم بالهداية والنصرة والثواب، بل

ص: 317


1- سورة غافر، الآية: 51.
2- سورة يونس، الآية: 62.
3- سورة الأنعام، الآية: 153.
4- سورة إبراهيم، الآية: 12.

يخذلهم، لأنَّهم بسوء اختيارهم رغبوا إلى الكفر وازدادوا كفراً ، فلما فقدوا القابلية قطع اللَّه لطفه عنهم، مع أنَّه سبحانه ابتدأهم بألطافة العامة لكنهم رفضوها وعتوا فلذا فقدوا القابلية ، وهؤلاء يغويهم الطاغوت - الشيطان وأعداء آل الرسول صلی الله علیه وآله وسلم- ، فيطفئون نور الفطرة ونور الإسلام من قلوبهم ويدخلونهم في ظلمات الكفر والضلال والشبهات والجهل في الدنيا ثم عذاب الآخرة، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : لا دين لمن دان اللَّه بولاية إمام جائرٍ ليس من الله، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من اللَّه - إلى أن قال - ألا تسمع لقول اللَّه عزَّوجلَّ «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»يعني من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة بولاتهم كل إمام عادل من الله، وقال «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ» إنما عنى بهذا أنَّهم كانوا على نور الإسلام، فلمّا تولوا كل إمام جائر ليس من اللَّه عزَّوجلَّ خرجوا بولايتهم إياه من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب اللَّه لهم النار مع الكفار ف-«أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(1).

ص: 318


1- البرهان ج 2، ص 261 - 262 عن الكافي.

الآية 258

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)»

بعد أن بيّن اللَّه أنَّه تعالى ولي المؤمنين يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، بعد ذلك بين ثلاثة أمثلة:

المثال الأول

258 - «أَلَمْ تَرَ »استفهام تقريري لإيجاد العلم، أي ألم تعلم «إِلَى »الطاغية نمرود «الَّذِي حَاجَّ»جادل وخاصم « إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ» رب إبراهيم،« أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ »أي وكان سبب مجادلته وإنكاره اللَّه هو البَطَر الذي نشأ من سلطته، فبدل أن يشكر اللَّه عليها بغى وكفر، «إِذْ»سأل نمرود: من ربُّك يا إبراهيم؟ ف- « قَالَ إِبْرَاهِيمُ» في جوابه مستدلاًّ بقدرة اللَّه : « رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ »يحول الجماد إلى الحيّ، وبالعكس،«قَالَ»نمرود مغالطة « أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» فأتي بسجينين أطلق أحدهما وقتل الآخر، فقال له

« (258)»

ص: 319

إبراهيم عليه السلام : أحي الذي قتلته إن كنت صادقاً، ثمَّ أكمل إبراهيم عليه السلام الدليل بإثبات عجز نمرود ف- « قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ » إن كنت تزعم بأنك الربُّ!!«فَبُهِتَ » تحيّر وانقطع عن الكلام «الَّذِي كَفَرَ»، وكان تمّرد نمرود وطغيانه ومحاججته بالباطل كلّها ظلم « وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

بحوث

الأول : هذه الآية وآيتان بعدها تتضمن ثلاثة أمثلة لما ذكر في الآيات السابقة - من الهداية والضلال -، فقد هدى اللَّه تعالى إبراهيم عليه السلام بالحجة، وهدى عزيراً إلى البعث والنشور، كما هدى إبراهيم عليه السلام لذلك أیضاً ، ثم إنه تعالى بعد هدايتهما نقل قصصهما ليهتدي سائر الناس أیضاً .

وأما نسق الأمثلة :

فالمثال الأول: الإثبات اللَّه وعموم قدرته وعجز سائر الأرباب حتى وإن كانوا في أوج سلطتهم وملكهم، وفيه تعليم طريقة الاحتجاج أیضاً ، واختيار مادة الاحتجاج من أهم ما يرتبط بالناس وبمعاشهم بحيث يعلمه ويفهمه كل أحد، فاحتجَّ بأهم الأمور - وهو الحياة والموت - ثم بشروق الشمس فإنَّها سبب الحياة على الأرض، ولا يخفى مناسبة هذا المثال . حيث ذكر الحياة والموت - مع المثالين الآخرين ففيهما إحياء وإماتة أیضاً .

ص: 320

والمثال الثاني : الإثبات القيامة عبر إحياء الأموات، فأمات اللَّه عزيراً مائة عام ثم أحياه وأحيا حماره.

والمثال الثالث: الإثبات كيفية الإحياء، وأن تفرق الأجزاء واختلاط بعضها بالبعض لا يعجزه تعالى عن جمعها وتركيبها كما كانت.

ومن ذلك يتضح سبب التفريق بين المثال الأول والثالث مع كونهما يرتبطان بإبراهيم عليه السلام وتخلل قصة عزير بينهما، وذلك لمراعاة نسق المطالب، ففي البداية إثبات للخالق وعموم قدرته ثم لبيان الحشر وإحياء الموتی ثم لبيان كيفية إحيائهم.

الثاني :«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ » .

روي عن الإمام الصادق عليه السلام : أن المحاجة كانت بعد إلقائه في النار وصيرورتها برداً وسلاماً عليه(1)، وهذا ما يقتضيه العادة أیضاً ، فإن إبراهيم عليه السلام كان من عامة الناس في الظاهر، وما كان الملك الطاغوت ليتكلم معه إلّا بعد مشاهدة آية بينّة .

ويبدو أن تدرج الأمور كانت في محاولة إبراهيم عليه السلام هداية آزر، ثم محاججته لعباد الكوكب والقمر والشمس، ثم كسره للأصنام، ثم إلقاؤه في النار، فلما خرج سالماً أراد نمرود المحاججة معه.

وقوله «حَاجَّ»أي جادل وخاصة في أمر الرَّبِّ تبارك وتعالی.

وقيل : (الحجة) هي البرهان الصحيح فهي الدلالة المبينة للمحجّة - أي المقصد المستقيم -، فمحاجة نمرود إما من باب إلقائه ما يزعم أنَّها حجة أو من باب المقابلة أي ذكر إبراهيم حجة وذکر نمرود أمر، وسمی

ص: 321


1- البرهان ج2، ص271 عن مجمع البيان.

ذلك الأمر حجة للمقابلة كقوله « تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ »(1)وكقوله « فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ »(2).

لكن الظاهر أن الحجة هي الاستدلال سواء كان صحيحاً أم لا، وقد استعمل في القرآن كليهما فراجع مادة (ح ج ج) في المعجم المفهرس.

وقوله «فِي رَبِّهِ»الضمير يرجع إلى إبراهيم عليه السلام لأن نمرود کان يزعم أنَّه الرب، فلذا سأل عن رب إبراهيم عليه السلام .

الثالث : قوله تعالى : « أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ » .

إما مفعول لأجله، أو ظرف، والمعنى أنَّ احتجاجه كان بسبب سلطته وملکه فلذا بطر وطغى فادعى الألوهية، فإن للسلطة سكراً وغروراً تودي بالطاغي إلى شعوره بأنَّه المالك لكل شيء فهو الأولى ليكون ربّاً ، وهذا لا ينافي اعتقاده بآلهة أخرى أیضاً ، فإن عامة الوثنيين يعتقدون بألهة كثيرة، وقد يعتبرون بعضها أقوى من بعض، وبعض الملوك والجبارة كانوا يعتقدون بأنفسهم أنَّهم من الآلهة أو من الأرباب، وهذا فرعون كان يعتقد بأنَّه رب وفي الوقت نفسه كان يتخذ آلهة قال تعالى«وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ »(3)، وقال سبحانه «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ»(4)، وقيل إن ذلك تدرج في الطغيان، ففي البداية يزعم أنَّه

ص: 322


1- سورة المائدة، الآية: 116.
2- سورة البقرة، الآية: 194.
3- سورة الأعراف، الآية: 127.
4- سورة القصص، الآية: 38.

من الآلهة ثم لما تجذر الطغيان في نفسه يزعم بأنَّه الإله الوحيد لا إله غيره.

فحاصل معنى قوله « أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ » أن سبب طغيانه هو ملکه، وفي الآية تفنيد لأساس هذا الزعم فإن هذا الملك كان من اللَّه تعالى «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(1).

ولا يخفى أن كل ما يعطيه اللَّه سبحانه وتعالى فهو نعمة منه لعبيده ، ولكن الظالمين يحوّلون النعمة إلى نقمة، قال سبحانه «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ »(2)، ثم إن اللَّه سبحانه جعل أسباباً ظاهرية من تدرّج فيها وصل إلى السلطة - مؤمناً كان أم كافراً - ليتمَّ الامتحان فلا يمنع اللَّه سبحانه الكافر عن السلطة قهراً، ولا يمنحها للمؤمن من غير أسبابها، ثم إنه تعالى يمهل الطغاة لأجل مسمی لیتمّ امتحان الخلق، وهذا الإمهال ليس على سبيل الكرامة بل للاستدراج والإملاء كما قال سبحانه «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ »(3).

الرابع : قوله تعالى « إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ...»الآية .

استدل إبراهيم عليه السلام بآيات اللَّه وقدرته سبحانه وتعالى ولعلّ وجه اختياره للحياة والموت، لأن هذه المحاجة كانت بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالماً - كما مرّ في البحث الثاني - فأرادعليه السلام بيان أن بقاءه

ص: 323


1- سورة آل عمران، الآية: 26.
2- سورة إبراهيم، الآية: 28.
3- سورة آل عمران، الآية: 178.

حيّا وعدم احتراقه بالنار لأن ربّه تبارك وتعالى مالك الموت والحياة ولذا أبقاه حيّاً ولم يُمته حرقاً بالنار.

مضافاً إلى أن كل أحد يعرف أن الأصنام والآلهة البشرية عاجزة عن الإحياء والإماتة، ففي هذه الآية بيان لكمال قدرته تعالی وعجز من سواه، فلذلك هو الذي يستحق العبادة لا غيره .

ولمّا غالط نمرود أراد إبراهيم عليه السلام إزاحة المغالطة ودحضها عبر بيان عجز نمرود ولذا طلب منه إتيان الشمس من المغرب، وذلك ليس حجة أخرى، بل هو نفس هذه الحجة لكن في البداية استدلال بقدرة اللَّه ثم بعجز نمرود، وفي ذلك دحض للمغالطة وإبطال ألوهية نمرود.

وفي تفسير القمي: أنَّه لما ألقى نمرود إبراهيم عليه السلام في النار، وجعلها اللَّه برداً وسلاماً ، قال نمرود: يا إبراهيم من ربك؟ قال «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ » قال له نمرود «أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ » فقال له إبراهيم عليه السلام كيف تحيي وتميت؟ قال: أعمد إلى رجلين ممن قد وجب عليهما القتل فأطلق عن واحد وأقتل واحداً، فأكون قد أحييت وأمتّ، قال إبراهيم عليه السلام إن كنت صادقاً فأحي الذي قتلته(1)، فلم يترك إبراهيم عليه السلام مغالطته بلا دحض لها، بل أبطلَها ثم ذكر آية أخرى وهي حركة الشمس.

ومن ذلك يتبين أن طريقة استدلال إبراهيم عليه السلام كانت كالتالي :

1- استدلال بما شاهدوه من عدم موت إبراهيم بالنار، وبيان أن ربّه تعالى هو المحيي والمميت، وهذا ما لم يتمكن نمرود من ردّه، فلم يمكنه

ص: 324


1- البرهان ج2، ص370 - 371 عن تفسير القمي.

القول بأنَّه ما هو الدليل على أن ربك يحيي ويميت؟ وذلك لما شاهده الجميع من عدم احتراق إبراهيم عليه السلام بالنار.

2- لما أراد نمرود إثبات الشيء ذاته لنفسه - بالإحياء والإماتة - حيث أراد أن يحوّل برهان إبراهيم عليه السلام إلى دليل لإثبات ألوهيته، فغالط بإطلاق سراح محكوم بالإعدام وقتل آخر، أجابه إبراهيم عليه السلام بعجز نمرود عن الإحياء وذلك لعدم تمكنه من إحياء القتيل الذي قتله.

3- استدلال بعجز نمرود وبقدرة اللَّه تعالى عبر حركة الشمس، وساق الكلام بحيث طلب من نمرود تغییر تلك الحركة، فعجز نمرود حتى عن المغالطة.

وبعبارة أخرى استدل إبراهيم أولاً بقدرة اللَّه ثم استدل بعجز نمرود.

الخامس: قوله تعالى « قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ».

هذا المقطع - كما ذكرنا - لإثبات عجز نمرود، فكيف يكون إلهاً وهو عاجز، فلذلك بهت نمرود لأن في ذلك إبطالاً لألوهيته بأمر يشاهده الجمع، ولما بطلت بذلك ألوهيته لم يتمكن من معارضة إبراهيم عليه السلام بطلب أن يأتي اللَّه تعالى بالشمس من المغرب، مضافاً إلى أن نمرود لما شاهد عدم احتراق إبراهيم كان يعلم بأن ربه قادر على إتيان الشمس من المغرب ولو كان يطلب ذلك لفعله إبراهيم عليه السلام فكان مزیداً في فضيحة نمرود وبطلان ألوهيته .

كما لم يتمكن نمرود من ادِّعاء أنَّه هو الذي يأتي بالشمس من

ص: 325

المشرق لعلم الجميع بأن الشمس تطلع من المشرق قبل ولادة نمرود، فلا يمكنه أن ينسب شیئاً إلى نفسه في حين أن ذلك الشيء يسبقه .

السادس: قوله تعالى« وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » .

أي إن نمرود مع مشاهدته للآية الكبرى في عدم احتراق إبراهيم، وسماعه لاحتجاج إبراهيم مع انقطاعه وعجزه عن جوابه، مع ذلك كلّه لم يؤمن باللَّه واستمر في غيّه وطغيانه، وذلك لأنَّه كان ظالماً، فأغلق على نفسه باب الهداية، لذلك تركه اللَّه وشأنه ولم يهده، قال سبحانه «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا »(1)، وقال تعالى «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ »(2)، فهؤلاء بسبب سوء اختيارهم منعوا عن أنفسهم الخير فخذلهم اللَّه تعالى وتركهم وشأنهم فلم يلطف بهم اللطف الخاص، وقد مرّ الكلام حول الهداية والضلال مِراراً.

ص: 326


1- سورة الأنعام، الآية: 25.
2- سورة الأعراف، الآية: 146.

الآية 259

«أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)».

المثال الثاني

259 - «أَوْ كَالَّذِي» عطف على «الذي حاجّ» أي: ألم تر كالذي - وهو أرميا أو عزير - « مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ » هي بيت المقدس بعد تخریب بخت نصر لها وقتله أهلها،« وَهِيَ خَاوِيَةٌ » ساقطة « عَلَى عُرُوشِهَا » سقوفها، فتهدم السقف أولاً ثم تهدمت الجدران عليه، في إشارة إلى طول المدة، « قَالَ» في نفسه معترفاً بقصوره عن معرفة طريقة الإحياء واستعظاماً لقدرة اللَّه : « أَنَّى» أي كيف ومتى، فقوله كان يتضمن سؤالين: الكيفية وطول المدة« يُحْيِي هَذِهِ»، هذه القرية والمراد أهلها « اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا» ، فأراد اللَّه أن يريه عياناً « فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» أحياه،« قَالَ »اللَّه وحياً له ليجيبه عن طول المدة « كَمْ

ص: 327

لَبِثْتَ» بقيت هنا؟ « قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» أي مدة قليلة جداً ، وهكذا البعث يوم القيامة فكأنّ مدة الموت قليلة، والذي حدث في هذه المدة هي أن جسد أرميا أو عزير لم يتغير ولكن حماره صار رميماً لم يبق منه إلّا عظاماً نخراً ، وهما آيتان على قدرة الله، « فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ » التين« وَشَرَابِكَ » العصير أو اللبن « لَمْ يَتَسَنَّهْ» لم يتغير طوال هذه المدة، فكذلك جسدك بقدرة اللَّه ، « وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ » كيف تفرقت عظامه وصارت نخرة لتعلم طول المدة وإنَّما أَمتناك وأحييناك لجهتين: الأولى: جواباً عن سؤالك عن إحياء الأموات وطول المدة. والثانية : « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً» علامة للمعاد ولقدرته تعالى « لِلنَّاسِ».

ثم لكي تشاهد كيفية الإحياء وتجمع الأوصال المتفتتة« وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ » عظام الحمار أو عظام موتى القرية أو عظامك« كَيْفَ نُنْشِزُهَا» نرفع بعضها فوق بعض « ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا » فنحييها مثل سيرتها الأولى،« فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ »إحياء الأموات وكيفيته عياناً بعد أن كان يعلم برهاناً « قَالَ أَعْلَمُ» من قبل « أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »لكني ازددت علماً بهذه المشاهدة .

بحوث

الأول: إن هذا المارّ بالقرية كان وليًّا من أولياء اللَّه إما نبي أو

ص: 328

صِدِّیق -، روي أنَّه أرميا وروي أنَّه عزير(1) ولعلّهما اسمان لشخص واحد، فلم يكن سؤاله عن إنكار أو عن شك بل استعظاماً للأمر.

وذلك لأن من أسباب السؤال الشك، وهو الغالب في الاستفهام الحقيقي حيث هو طلب الفهم لما لا يعلمه ويشك فيه ، أو الاستفهام إنكاراً ، أو الاستفهام تقريراً بغرض استعظام الأمر.

ولم يكن هذا الوليّ شاكّاً في قدرة اللَّه ولا في المعاد، فإن مقام الأنبياء والصديقين أجل من ذلك، بل اعترافاً منه بقصوره عن إدراك هذا الأمر مع علمه ويقينه به، واستعظاماً لقدرة اللَّه سبحانه وتعالى بحيث إنه قادر على هذا الأمر الذي لا يمكن تصور کيفيته ، فأراد اللَّه سبحانه أن يريه عظمته وقدرته ليتحول علمه من علم اليقين إلى حق اليقين وعين اليقين، فيزداد يقيناً على يقينه، وقد مرّ سابقاً الفرق بين هذه العلوم وأن لليقين درجات باعتبار منشئه، وهذا من لطف اللَّه على أوليائه، فيريهم آيات عظمته ليزدادوا معرفة وكمالاً ويقيناً كما قال«وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » (2)، وقال سبحانه«لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى »(3)، كما أراد سبحانه أن يجعله آية للناس - سواء من عاصروه بعد إحيائه أم من تنقل له قصته - فلذلك أماته اللَّه ثم أحياء وأراه الآيات.

الثاني : قوله تعالى : « أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا » .

لمّا ازدادت معاصي بني إسرائيل سلط اللَّه عليهم بخت النصر ملك بابل وكان ظلوماً کفوراً، وهكذا سنة اللَّه تعالى في الناس «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ

ص: 329


1- راجع البرهان ج 2، ص 272 فما بعد.
2- سورة الأنعام، الآية: 75.
3- سورة النجم، الآية: 18.

لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ »(1)، وقال سبحانه: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ »(2)، وقال «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)»(3)، فأبادهم بخت النصر قتلاً وخرّب بيت المقدس، ثم أراد اللَّه إحياءهم ولعلّه لكي تستمر هذه الحضارة الدينية بعد تأديبهم وعقوبتهم في زمان عمت الوثنية أرجاء الأرض، فقد فضّل اللَّه بني إسرائيل على العالمين في زمانهم واختار منهم الأنبياء وحباهم بالنعم لكن عتى الكثيرون فاستحقوا التأديب لتستمر الحضارة الدينية بعد التهذیب، فلذا كان إرادة عزير أو أرميا هذه الآية في هؤلاء القوم، لذا أحياهم اللَّه جميعاً كما يظهر من الروايات(4).

لا يبقى منها إلّا الأطلال، وفيها إشعار أیضاً بشدة بطش بخت النصر بحيث أهلك الحرث والنسل والبناء، وهذا دأب الظلمة يبطشون بالناس وبكل ما يرتبط بهم.

الثالث : قوله تعالى « قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا » .

« أَنَّى» للسؤال عن الزمان وعن الكيفية، أي متى يحييها وقد نخرت أو كيف يحييها، وقد أجابه اللَّه عن كلا السؤالين كما ذكرنا.

و«هَذِهِ »، إما إشارة إلى العظام التي رآها في القرية - ويُعلم المشار

ص: 330


1- سورة الأنفال، الآية: 53.
2- سورة النحل، الآية: 112.
3- سورة الإسراء، الآية:16.
4- في تفسير القمي والعياشي راجع البرهان ج2، ص272 فيما بعد.

إليه من سياق الكلام - فلا يكون مجازاً في الكلام، وإما إشارة إلى القرية ولكن مع كون المقصود أهل القرية كقوله «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا »(1) ، وليس المراد إحياء القرية ببنائها من جديد فذلك أمر طبيعي لا يستدعي التعجب ولا الاستعظام.

الرابع: قوله تعالى « قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ»

قول اللَّه تعالی بمعنى الوحي وليس بمعنى الكلام بخلق الصوت والتكلّم مباشرة معه، قال سبحانه «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)»(2).

وهذا السؤال هو في الحقيقة لجواب سؤاله عن المدّة حينما قال و يخيه، فكما أحياك اللَّه بعد موتك بمائة عام ولم تشعر بطول هذه المدة ، كذلك اللَّه قادر على الإحياء حتى بعد مضي أطول من هذه المدّة، وفي يوم القيامة يقول اللَّه تعالى للناس : «قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)»«قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ »(3)استقلالاً للمدة، أو لعدم شعورهم بطولها . أو لأن كل ماضي قليل حتى وإن طالت المدّة.

ودلت الأحاديث على أن الناس في البرزخ على أقسام ثلاثة، من مَحَضَ الإيمان فهو منعّم كما قال «بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ »(4)س. ومن مَحَضَ الكفر فهو معذب كقوله :«فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)»«النَّارُ

ص: 331


1- سورة يوسف، الآية: 82.
2- سورة الشورى، الآية: 51.
3- سورة المؤمنون: 112 - 113.
4- سورة آل عمران، الآية: 169.

يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا »(1). والقسم الثالث - وهم المستضعفون - یُلهی عنهم أي يتركون كالنائم إلى حين الحساب في يوم القيامة، وقد ذكرنا تفصيله في شرح أصول الكافي فراجع.

وفي بعض الأخبار أن اللَّه أماته في بداية النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار(2)، فلذا قال « يَوْمًا»ثم لما رأى الشمس قال «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ »، وبذلك حصل على جواب أحد سؤاليه وهو عن المدة، فإن اللَّه لا تعجزه طول المدة ولا قصرها فكلّها بالنسبة إليه سواء لأنَّه سبحانه محیط بالزمان والزمانیات وقادر على كل شيء.

سؤال: لماذا أماته اللَّه مائة عام دون الأكثر أو الأقل؟

والجواب : أولاً إنه لو كان يختار الأكثر أو الأقل لجاء السؤال نفسه، وحيث إن المقصود يحصل بأيٍّ عدد فلا بأس باختيار أيٍّ منها - وسيأتي توضيحه .

وثانيا : لعلّ في ذلك وضوح الآية، لأن بعض من شاهده کان حياً حين بعثه اللَّه فكان من المعمّرين، ولذلك أمكنهم معرفته فاتضحت الآية وصار مثلاً، وأما لو كانت المدة أكثر من ذلك فلعلّ جميع من شاهده کان يموت فلم يمكنه إثبات أنَّه هو إلّا بإعجاز آخر ولم يكن داعٍ لذلك.

وأما ما قيل من عدم معرفتهم به إلّا بعد أن أراهم آية وذلك بقراءة التوراة عن حفظه إلى آخر ما ذكروه فلم أجده إلّا في رواية العامة، ولا يعتمد عليها، لأن الإسرائيليات دخلت في تفاسيرهم عن طريق كعب

ص: 332


1- سورة غافر، الآيتان: 45 - 46.
2- عن تفسير القمي، وتفسير العياشي. راجع البرهان: ج2، ص279 - 277.

الأحبار وغيره. فلا وثوق لما نقلوه، وفيما وصلنا عن طريق أهل البيت علیهم السلام في الكتب المعتبرة الكفاية، مع عدم تعارضها مع القرآن الكريم بل وجود شواهد من الكتاب العزيز عليها .

الخامس : قوله تعالى « فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ » .

قد يتساءل عن سبب أمره بالنظر إلى طعامه وهو التين، وشرابه وهو العصير أو اللبن مع عدم فساده كل هذه المدة خلافاً للمتعارف، فكان ذلك من آيات الله، ولكن أيُّ ارتباط لهذه الآية بالموضوع وهو البعث؟

وقد يقال في الجواب : إن اللَّه أراد أن یبیّن له قدرته على كلا الأمرين، حفظ ما يفسد، وإرجاع ما فسد، والأول دل عليه حفظ الطعام والشراب . وهما مما يفسدان بسرعة طوال هذه المدة، والثاني دلّ عليه إرجاع العظام إلى حالتها الأولى وإحيائها .

وأما جسمه هل بلي أم لا، فقد يقال : إن جسمه كان سالماً لم يُبلَ فأراد اللَّه تعالى أن یبیّن له أن ذلك بقدرته عزَّوجلَّ كما أبقى التين والعصير أو اللبن وهما مما يفسدان بسرعة، وذلك لأن أجساد الأنبياء والأوصياء لا تُرمّ ولا يصيبها الحدثان كما في أخبار متعددة ذكرناها في شرح أصول الكافي.

ولكن يظهر من بعض الروايات أن جسده بلي وأن أول ما أعاد اللَّه إليه عينيه، ثم أرجع إليه الروح فجعل ينظر إلى عظامه كيف اجتمعت وكيف تركبت العروق واللحم فوقها(1)، وأما بلي جسده فلأجل أنَّه لم يثبت كونه من الأنبياء الذين لا تبلى أجسادهم. أو أن ذلك كان استثناء

ص: 333


1- عن تفسير العياشي ج 1، ص 140 وعن الاحتجاج راجع البرهان: ج2، ص278 - 279.

لأجل الأهم وهو إراءته کيفية اجتماع العظام وكيفية تجمع اللحم والعروق وغيرها، فتأمل.

وقوله : «لَمْ يَتَسَنَّهْ » بمعنى لم يصر كالشيء الذي تأتي عليه السنوات فتُغيّره، وفي المقاييس: يقال : سنهت النخلة إذا أتت عليها الأعوام(1) وقيل غير ذلك.

وتكرار (انظر) ثلاث مرات لعلّه للإشارة إلى أمور ثلاثة :

1- عدم فساد ما تقتضي الطبيعة فساده، بقدرة اللَّه تعالی .

2 - الدلالة على طول المدة بحيث فسد ما يلزم فساده .

3 - إرجاع ما فسد، فيكون الثاني - مع كونه على مجرى الطبيعة - کالمقدمة للثالث.

والحاصل : انظر إلى عظمة اللَّه تعالى، حيث حفظ ما يلزم فساده وجمع ما فسد فأرجعه إلى حالته الأولى.

السادس : قوله تعالى « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ»

. المقصود أنَّه كما أريناك قدرتنا في إحيائك لتُشاهد بنفسك البعث، كذلك هناك غرض آخر وهو جعلك آية للناس، فقوله « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً»عطف على « بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ...»فتحقق بهذا الإحياء والإماتة غرضان.

وفي المناهج: إن ذکر موت الحمار وإحيائه إنما هو من حيث الدلالة على طول اللبث، لا لكونه آية للناس، والآية للناس هو نفس هذا

ص: 334


1- المقاييس: ص 471.

المبعوث، والعناية في إنشاز العظام هي مشاهدة هذا المبعوث عظام نفسه كيف ينشزها اللَّه سبحانه ويكسوها لحماً حتى قام حياً وقام حماره أیضاً (1).

ومن هذا البيان يتضح سبب إدراج « وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً»في وسط الأوامر الثلاثة بالنظر، فإن اللَّه بيّن إحياءه وجعله آية للناس فالأمر بالنظر إلى طعامه وشرابه والنظر إلى حماره ليعاين قدرة اللَّه وليعلم بطول المدة ، ثم أراه اللَّه سبحانه كيفية الإحياء فأمره اللَّه بأن ينظر إلى العظام... إلخ.

والحاصل أن الترتيب في الكلام هو أن اللَّه :

1- أماته وبعثه ليعاين قدرته سبحانه على البعث فأظهر له طول المدة وأظهر له القدرة بما شاهده في الطعام والشراب وعظام الحمار.

2- ثم قال له إنه تعالى جعله آية للناس.

3- ثم أراه كيفية البعث بالتفصيل .

ثم إن إرجاعه بعد إماتته يدل على تحقق الرجعة في الأمم الماضية ، وقد دلت الأحاديث بأنَّه سيقع في هذه الأمة جميع ما وقع في الأمم السابقة، فلا بد من وقوع الرجعة في هذه الأمة، فليس القول بالرجعة إلّا تمسكاً بالآيات والأحاديث مع إثبات کامل القدرة اللَّه تعالی.

السابع : قوله تعالى « فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .

دلّت الآية على أنَّه كان يعلم بالبعث، لكن استعظم ذلك فأراد اللَّه أن

ص: 335


1- مناهج البيان: ج3، ص36.

يشاهده عياناً، ولذا لم يقل : «الآن علمت» بل قال «أَعْلَمُ»أي من الأول كنت على علم بقدرته تعالى لكن لم أكن رأيته فرأيته الآن، وبعبارة أُخرى كنت أعلم به وهو غيب، والآن صار شهادة بالعيان، وقد مرّ أن هناك علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، كمن يعلم بالنار ولم يرها، ومن يعلم بها مشاهدة، ومن يعلم بها باللمس والاحتراق، فهي درجات في اليقين باعتبار منشئه، و اللَّه العالم .

ص: 336

الآية 260

«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)».

المثال الثالث:

260 - «وَإِذْ» أي وكما علمت قصة نمرود وقصة الذي مرّ على قرية، كذلك اذكر الوقت الذي « قَالَ إِبْرَاهِيمُ » لمّا شاهد سباع البر والبحر تأكل جيفة ثم يأكل بعضها بعضاً فقال : «رَبِّ أَرِنِي » رؤية عين «كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى»سأل عن كيفية الإحياء لا عن أصل الإحياء « قَالَ» اللَّه تعالى : « أَوَلَمْ تُؤْمِنْ » استفهام تقريري، كي لا يتوهم أحد أن إبراهيم عليه السلام كان شاکًّا،«قَالَ» إبراهيم عليه السلام : « بَلَى» فإني مؤمن « وَلَكِنْ » أحب رؤية كيفية الإحياء عياناً «لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»اطمئناناً ناشئاً عن الرؤية بالحسّ كما أني مطمئن علماً،« قَالَ »اللَّه تعالی «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ »من أربعة أنواع: الحمام والغراب والطاووس والديك كما روي، وروي غير ذلك «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ»أي اضممهن إليك لتأنس بهن، أو بمعنی قطّعهن وامزج بعضها بالبعض جيداّ حتى لا تتميّز، « ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ » وكانت عشرة جبال «مِنْهُنَّ جُزْءًا»

ص: 337

من هذا الخليط،« ثُمَّ ادْعُهُنَّ» بأسمائهم آخذاً منقارها بيدك « يَأْتِينَكَ سَعْيًا » مسرعات وذلك بتجميع أجزاء كل طير والتحاقه بمنقاره «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ »لا يعجزه شيء فهو الغالب القاهر،«حَكِيمٌ» في تقديره للمعاد وفي كيفية الإحياء.

بحوث

الأول : قوله تعالى:«وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى » .

هذا هو المثال الثالث لكون اللَّه تعالى ولي الذين آمنوا وأنَّه يخرجهم من الظلمات إلى النور، فيستجيب دعواتهم ويريهم آياته ويزيدهم معرفة به.

وفي هذه الآية يسأل إبراهيم عليه السلام ربَّهُ عن كيفية الإحياء، لا عن أصل الإحياء، فإن أصل المعاد أمر يعرفه كل موحد، فما بالك بسادة الموحدين، بل أفضل الأنبياء بعد رسول اللَّه محمدصلی الله علیه وآله وسلم وهو إبراهيم عليه السلام ، وأما طلب زيادة المعرفة من اللَّه تعالى فهو عين العبودية ، وكمال للأنبياء علیهم السلام الي بإظهار الفقر والاحتياج إلى اللَّه تعالی .

وحيث إن الإحياء من صفات اللَّه تعالى الخاصة والدالة على ربوبيته ، فإن مشاهدته عیاناً مزید معرفة، وذلك عين اليقين الذي هو أقوى درجات اليقين كما مرّ، ولا حُدود لمعرفةً اللَّه تعالی لعدم تناهيه لذلك يزيد اللَّه تعالى أولياءه معرفةً وبشكل مستمر، ولذا يفيض اللَّه العلم على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم والأئمة دائماً .

ص: 338

ولم يكن سؤاله عليه السلام ظليت عن كيفية فعل اللَّه أي الإحياء باعتباره صفة لله تعالى، بل عن طريقة الإحياء أي عن الإحياء باعتبار تحققه في المخلوق، وذلك لعدم إمكان الإحاطة بصفاته تعالى - حتى صفات الفعل - لأن منشأ صفات الفعل هي ذاته تعالى فلا يمكن معرفة كُنهها إلّا بمعرفة منشئها، وحيث استحالت معرفة الذات استحالت معرفة كنه الصفات.

وفي المناهج: و(الكيف) معنی حادث، من علامات الشيء المحدَث المخلوق، فيجب تنزيه الصانع - جل شأنه - عنه ، وكذلك يجب تنزيه فعله تعالی عنه أیضاً ، فعلى هذا يكون مورد السؤال غير الموارد التي قامت الضرورة والبرهان على استحالة تكيّفه بكيف وطور، فلا يقال له تعالى «كَيْفَ» لأنَّه هو الذي كيف الكيف، ولا يقال أیضاً لأمره سبحانه - وهو كلمة کن - (کیف)، إذ به خلق الكيف، والكيف متأخر عنه رتبة ، فيستحيل أن يكون مقدماً عليه أو يكون في عرضه، وحيث إن إحياء الموتی - بالمعنى المصدري - فعل من اللَّه تعالى منزه عن التصور والتعقل والتفكر فضلاً عن الكيف، فلا محالة يكون مورد سؤال الخليل عليه السلام هو الإحياء بالمعنى الإسم المصدري وهو حصول الحياة وصيرورة الشيء حياً على مرأى منه عليه السلام، فمفاد الآية ومورد السؤال إراءة حصول الحياة للموتى بالحس والعيان(1).

ويؤيد ذلك أن سبب سؤاله عليه السلام ما روى أنَّه عليه السلام التفت فرأى جيفة على ساحل، بعضها في الماء وبعضها في البَرّ، تجيء سباع البحر فتأكل ما في الماء، ثم ترجع فيشدّ بعضها على بعض ويأكل بعضها بعضاً ، وتجيء سباع البر فتأكل منها فيشدّ بعضها على بعض ويأكل بعضها بعضاً ،

ص: 339


1- مناهج البيان: ج3، ص37.

فعند ذلك تعجب مما رأى وقال«رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى» قال كيف تخرج ما تناسخ؟ هذه أمم أكل بعضها بعضاً(1).

والمعنى أن المعاد الجسماني هو رجوع کل میت بجسمه، فكيف ترجع الحيوانات بأجسامها كما قال «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ»(2) وقد أكل بعضها بعضاً؟ فإن ما كان جزءاً من حيوان صار جزءاً في حيوان آخر، فذلك الجزء يحشر مع أيٍّ منهما، وهذه تعرف بشبهة الأكل والمأكول، كما أنَّه قد ثبث في العلم الحديث أن خلايا الجسم تتبدل باستمرار بحيث تتبدل عامة خلايا الجسم خلال سبع سنوات ما خلا المخ والأعصاب حسب ما نقله بعض أهل الاختصاص -.

وقد أجاب المتكلمون بأن هناك أجزاء - وهي طينته التي خلق منها - تنحصر به ولا تصير جزءاً من آخر، حتى لو أكلها فإنَّها تخرج منه .

وقد يتساءل : عن ارتباط فعل إبراهيم - بمزج الحيوانات الأربعة - بهذه الشبهة ؟

والجواب : هو أن الآكل امتزج بالمأكول لكن لم يصر المأكول جزءاً من الأكل، كما أن أجزاء الحيوانات الأربعة امتزج بعضها بالبعض ولم يصر أيّاً منها جزءً من الآخر.

الثاني : قوله تعالى« أَوَلَمْ تُؤْمِنْ».

الاستفهام هنا للتقرير، كي لا يتوهم أحد أن إبراهيم عليه السلام كان شاکًّا

ص: 340


1- البرهان ج 2، ص283 عن تفسير العياشي، وقريب منه ما في تفسير القمي.
2- سورة التكوير، الآية: 5.

ولذا سأل هذا السؤال، بل كان إبراهيم عليه السلام كان مؤمناً لا شاکًّا فإن الشاك لا خير فيه كما في الحديث وسيأتي.

قيل : إن التقرير يستفاد من مكان (الواو)، فلو قال: (ألم تؤمن) من غير (واو) لكان عتاباً لعدم إيمانه فلو كان كذلك لكانت الهمزة للإنكار.

وهو محل تأمل لأن الواو للعطف أو الاستئناف، ولا دخل لها في موارد استعمال الهمزة من التقرير أو الإنكار أو الاستفهام الحقيقي أو نحو ذلك بل يستفاد كل ذلك من القرائن، كما في قوله تعالى « أَ لَمْ تَر»وکذا فی قوله«أَ لَسْتُ بِرَبِّكُم » بدون واو مع أن الهمزة للتقرير .

الثالث: قوله تعالى« بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ».

1- عدم اطمئنان القلب لا ينافي اليقين، وذلك لما ذكرناه من أنّ لليقين - حسب منشئه - درجات، من علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، وعن الإمام الكاظم علیه السلام إن إبراهيم كان مؤمناً وأحب أن يزداد إيمان. وقال علیه السلام : إنما الشك ما لم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك(1). فقد كان يعلم وهو مطمئن علماً، فأراد أن يطمئن رؤية أیضاً .

2- إن قوى الإدراك في الإنسان متعددة، فما يرتبط بانکشاف الأشياء يكون علماً - وباختلاف منشئه ومتعلقه وخصوصياته يُسمى فهماً ومعرفة وشعوراً ويقيناً وقطعاً ... إلخ -، وما يرتبط بتخيل الأشياء فهو الوهم ونحوه.

ص: 341


1- الكافي: ج2، ص470.

وقد يجتمع العلم والتوهم، وقد يفترقان كالذي يخاف من الظلام مع علمه بعدم الضرر فيه، ولذا قد يكون العالم قلقاً ، وقد شاهدت أنا من سمعت بنجاة عزيزها من الخطر - ولم تكن تعلم لا بالضرر ولا بالنجاة وإنما أخبرت بعد النجاة - فأصيبت بالحمى والخوف والاضطراب مع علمها بالسلامة، وما ذلك إلّا بسبب القوة الواهمة، وقد تعتري الإنسان حالات نفسية مختلفة مع يقينه ، كالذي يغضب بسبب سيطرة القوة الغضبية عليه مع علمه بعدم وجود داع عقلاني لذلك، وهكذا .

3- وروي أنَّه علیه السلام علم أن اللَّه يتخذ خلياً إذا سأله إحياء الموتی أحياها، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يطمئن بأنَّه هو(1).

4 - وقيل المعنى : ليزول تفكيري في كيفية الإحياء وليستقر فكري على أمر واضح فيه.

ولا منافاة بين هذه الوجوه، فلعلّ كلّها أو بعضها كان السبب، و اللَّه العالم، وعلى كل حال فإن مقام إبراهيم علیه السلام منزه عن الشك وعدم العلم.

5. وقيل : إنه أراد الاستزادة من المعرفة، لأن المعرفة بالحس - في كل أمر محسوس - هو أقوى المعارف، كما أن معرفة وجه اندفاع الشبهات أیضاً من العلم المطلوب، فقد يعرف الإنسان بطلان شبهة لكن لا يدري الوجه في ذلك فيستزيد المعرفة.

6- وقيل إنه بعد أن أراه ملكوت السماوات والأرض استزاد من المعرفة فأراد رؤية ملكوته تعالى في الآخرة أیضاً .

ص: 342


1- عيون أخبار الرضا ، ج 2، 176.

الخامس: قوله تعالى: «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ».

هنا خمسة أوصاف فيما أمره اللَّه تعالى، وحيث إن كل شيء يصدر منه تعالى إنما يصدر لحكمة، فلعلّ وجه هذه الأوصاف كالتالي:

1- أن تكون طيوراً، ولعلّ ذلك لأن قتلها ومزجها أسهل، فأراد اللَّه تعالی تسهيل الأمر على إبراهيم عليه السلام وتسريع إجابة طلبه، أو لأن للطيور ريشاً أیضاً ، أو لأن اختلاط لحومها وعظامها أسهل لليونة أعضائها فيكون جمع أجرائها مع ريشها أدلّ على القدرة من الحيوانات الملساء كالبهائم ونحوها.

2- أن تكون أربعة . وكانت من أربعة أنواع - فإن فرز أعضاء حیوانات مختلفة بعد امتزاجها کاملاً أدلّ على القدرة .

وأما كونها أربعة فلأن ذلك عدد يفي بالغرض، وإذا كان الكلي وافياً فاختيار عدد خاص - لا أقل ولا أكثر - لا يحتاج إلى علة خاصة بل باعتباره مصداقاً للمراد، أو لأن الميسور إبراهيم في ذلك الوقت كان هذا العدد أو هناك حكمة أخرى لم تظهر لنا.

3- أن تكون مأنوسة له كما يظهر من قوله «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ » بناء على کونه بمعنى الضم ، فلعلّه لكي يعلم بأنَّها هي هي دون غيرها لأنَّه أنسها .

4 - وأما التفريق على رؤوس الجبال، فليكون أبين وأوضح له في اجتماعها لمّا تتطاير الأجزاء حيث إن الارتفاع خالٍ من الأشياء التي تشغل النظر، ولعلّها كانت جبالاً متباعدة فيكون أدلّ على اجتماع أجزاء الموتى المتناثرة في أرجاء الأرض.

ص: 343

وأما أنواع هذه الطيور الأربعة فاختلفت فيها الأخبار(1)، وجميع الروايات متفقة على وجود الطاووس.

ويمكن الجمع بين الأخبار بأن اللَّه تعالى خيّره في الأربعة بين هذه التي وردت في الأخبار، أو أن تعيين الأربعة إنما هو للأقل وكان يمكنه عليه السلام الأكثر فذبحها جميعاً وصرّها، وهذان احتمالان خلاف الظاهر لكن ذكرناهما من باب الاحتمال لعدم طرح الأخبار، أو يقال إن الخطأ كان من بعض الرواة ، و اللَّه تعالى العالم.

وقوله «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ » إما بمعنی اضممهن إليك لتتأملها جيداً فلا تشتبه عليك بعد الإحياء فإنَّه كلما كانت الحواس أكثر كان اليقين أشدّ - كذا قيل -، وإما بمعنى التقطيع فيكون التعدية ب_(إلى) بتضمین معنی الميل والاقتراب، فإن ذلك من مستلزمات التقطيع الجيّد.

السادس: قوله تعالى « ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا».

أي خذ منقار كل واحد منها - كما في الأخبار - ثم ادعها بأساميها، فيكون أشبه بيوم الحشر، لأنَّه تعالى يدعوهم فيقومون سراعاً قال تعالى « ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»وقال سبحانه«مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ»(2).

وقد يقال إن دعاءه لي هو نفخة الإحياء كصور إسرافيل، فإن الموت والحياة بيد اللَّه تعالى لكنه سبحانه جعل لهما أسباباً بإذنه كقبض عزرائیل

ص: 344


1- راجع البرهان: ج 2. والروايات: (نسر، بط، طاووس، ديك) و(حمام، غراب، طاووس، ديك) و(طاووس، نيك، وزة، نعامة) و(طاووس، ديك، حمامة، هدهد) و(طاووس، غراب، صُرَد هدهد).
2- سورة القمر، الآية: 8.

وأعوانه للروح «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ »(1)، « تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا »(2)، كذا الإحياء عبر الصُّور أو الدعاء.

وأما عدم ذكر «بإذن الله» في قوله « »مع وضوح أن ذلك الإحياء كان بمشيئة اللَّه تعالى، مع تكرار «بِإِذْنِ اللَّهِ » في قصة عیسی علیه السلام ، فلأجل أن النصاری توهموا ألوهية عيسی علیه السلام لما شاهدوا تلك المعاجز، فلذا تكررت الكلمة كي يعلم الجميع بأن عیسی علیه السلام عبد اللَّه ظهرت المعاجز على يديه بإذن اللَّه سبحانه، وأما إبراهيم عليه السلام فلم يتوهم ذلك فيه.

مضافاً إلى أن قصة إبراهيم عليه السلام كانت بانفراده ولأجل اطمئنانه في حين أن إحياء عيسی علیه السلام للأموات كان أمام الناس معجزة له علیه السلام .

وأيضاً أنَّه من بداية الآية تمّ بیان دعاء إبراهيم وأنَّه طلب من اللَّه أن يريه الإحياء، وفعل ما فعل بأمر منه تعالى، فاستغني بذلك عن التصريح بإذنه تعالی لوضوحه.

وأما قوله «سَعْيًا » فللإشارة إلى سرعة حياة الطيور وسرعة إجابتهم لدعوة إبراهيم عليه السلام ليتطابق مع الآخرة في سرعة إجابة الناس - تکویناً ۔ لدعوته تعالى وإسراعهم إلى الحساب كما قال : «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ»(3)وقال « سِرَاعًا »(4).

السابع : قوله تعالى : «وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » .

قيل إن قوله «وَاعْلَمْ » إنما هو لإيجاد الاطمئنان القلبي، فإن المعرفة

ص: 345


1- سورة السجدة، الآية: 11.
2- سورة الأنعام، الآية: 61.
3- سورة القمر، الآية: 8.
4- سورة المعارج، الآية: 43.

أمر بيد اللَّه تعالى وليس للناس فيها صنع - كما يظهر من أخبار كثيرة - وإنما يُفيضها اللَّه على من يستحقها بإطاعته تعالى، فمن كان قابلاً لها هداه اللَّه إليها، وطلب إبراهيم عليه السلام إنّما كان للاستزادة وللاطمئنان ولم يكن للتعنت لذلك أفاضها اللَّه تعالى عليه، في حين أن كثيراً من الناس يرون آيات اللَّه ولكن ينكرونها فلا تزيدهم إلّا بعداً من اللَّه تعالى بسبب سوء اختيارهم.

فأفاض اللَّه المعرفة وذلك بعزّته فهو القادر الذي لا يُعجزه شيء فلا يمتنع عليه جميع الأجزاء المتناثرة وإرجاعها إلى ما كانت عليه وإحيائها .

مع أن فعله ذلك ليس إلّا بحكمة، حيث يتعالى عن فعل العبث.

ص: 346

فصل في الأمور المالية

اشارة

ص: 347

ص: 348

فصل في الأمور المالية موضوع الآيات 261 - 284 هو الأمور الاقتصادية، وتُبيّن هذه الآيات المباركات أحكام ثلاثة مواضيع : البذل بالإنفاق، ثم التحذير من ابتزاز أموال الناس بالربا ، ثم كيفية حفظ الأموال.

الموضوع الأول: الإنفاق (الآيات 261 - 274) .

1- تبتدئ بثواب الإنفاق لترغيب النفوس إلى الاستماع والعمل.

2- ثم بیان شرط الإنفاق وهو أن لا يكون بمَنٍّ ولا أذى ولا رياء، وبيان أن هذه الأمور تبطل الصدقة .

وبعد ذلك ولتقريب المطلب إلى الأذهان بيان مثالين : للإنفاق بشروطه، وللإنفاق الذي يكون بأذى.

3- ثم الكلام حول المال المنفق به .

4 - ثم عوائق الإنفاق.

5- ثم بيان كيفية الإعطاء، وبيان أن فائدة الإنفاق ترجع إلى المُنفِق ، فهي تجارة مربحة إن روعيت شروطها .

ص: 349

6- وأخيرا بيان مصرف الإنفاق، أي المُنفَق عليهم . والموضوع الثاني : حول الربا (الآیات 275 - 281) . والموضوع الثالث : حول الدَّين (الآیات 282 - 284).

ص: 350

الموضوع الأول: الإنفاق

أولاً، ثواب الإنفاق

الآية 261

«مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)».

261 - «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »في مرضاته لا رياء وسمعة، والمثل في رقيّهم وكمالهم «كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ »بإرادة اللَّه تعالى «سَبْعَ سَنَابِلَ» وهي العيدان التي عليها الحب « فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ »والزيادة بهذا المقدار لیست لكل أحد «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ » فتختلف باختلاف النية والعمل والقابلية ، كالمحاصيل التي تزداد وتنقص بحسب الأرض والماء ونحوهما، «وَاللَّهُ وَاسِعٌ » قدرة وكرماً فلا يضيق بالزيادة، «عَلِيمٌ »بالإنفاق وبالنيّة ونحوهما .

بحوث

الأول: نظم الآيات هو أنَّه تعالى بعد أن ذكر الجهاد - بما فيه من مصاعب جمة وخطر القتل، وبعد ذكر قدرته تعالى على الإحياء تطميناً للمجاهدين بأنَّهم إن قتلوا ليبعثنّهم من جديد، بعد ذلك يأتي دور الجهاد

ص: 351

بالمال، فهنا يبتدأ الكلام بذكر الإنفاق في سبيل اللَّه تعالى وشروطه وتفاصيله ليكون ذلك مدخلاً إلى ذكر جملة من الأمور الاقتصادية، وما يجب فيها، وما تلزم محاربته، ونحو ذلك.

الثاني: إن المجتمع بحاجة إلى توازن بين كافة طبقاته بحيث لا يكون طغيان للثروة من جهة وحرمان مطلق من جهة أخرى، لذا جاءت التشريعات الإلهية لإيجاد هذا التوازن.

فمن جهة تمَّ تحريم كل ما يوجب طغيان المال، قال تعالى «كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ »(1)ومن ذلك تحريم الربا الذي هو استغلال الحاجة الناس في سبيل استنزاف ثرواتهم.

ومن جهة أخرى تم تشريع الضرائب التي ترفع حاجات الفقراء والمساكين كالخمس والزكاة مع جعلها بمقدار لا توجب ضرراً على صاحب المال، فتمّت ملاحظة كلا الطرفين الأغنياء والفقراء، وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله وسلم: أمرت أن آخذ من أموال أغنيائكم وأضعه في فقرائكم(2). وأما أهل الكتاب فحيث لا يؤخذ منهم الخمس والزكاة فجعل بدلاً عنهما الجزية -مع مراعاة حال كل واحد منهم في مقدارها من ثروته أو فقره -، ثم إن المقدار الذي يعطي لذوي الحاجات هو بمقدار استغنائهم بحيث ترفع حاجاتهم مع توفير عيشة كريمة لهم. وحول هذا الموضوع راجع (الفقه : الاقتصاد) للوالد رضوان اللَّه عليه .

ومراعاة لذلك شُرّع الإسلام أنواع من الإنفاق، فالإنفاق الواجب هو

ص: 352


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- علل الشرائع، ج1، ص217.

الخمس والزكاة والجزية والخراج. وهذه تكفي لحوائج المحتاجين ومصاريف الدولة كاملة، وعن الإمام الصادق عليه السلام : إن اللَّه عزَّوجلَّ جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولولا ذلك لزادهم (1)بمعنى أنَّه تعالى علم بكفاية هذا المقدار منها .

ولكن حيث إن الأنظمة الفاسدة - المستأثرة بالسلطة والمال - لا تصرف هذه الضرائب في موردها، أو بسبب بخل بعض الأثرياء وعدم دفعهم للواجب من الإنفاق مع عدم إمكان جبرهم على ذلك، أو بسبب ظروف اضطرارية أو لجهات أخرى، فكل ذلك قد يكون سبباً لوجود کثیر من الحاجات التي لم تلبَّ، لذا شرّع الإنفاق المستحب بدفع الصدقات ونحوها .

الثالث : قوله تعالى «مَثَلُ الَّذِينَ ... »الآية .

(المثل) هو وصف الشيء بكيفية تجعل صورته ماثلة ومنتصبة في ذهن المخاطب، ويكون ذلك بالتشبيه غالباً ، حيث يعرف المخاطب الشبيه وخصوصياته، فيضرب له المثل بذلك لتقريب المعنى المراد إفهامه، وخاصة في الأمور المعنوية البعيدة عن الحواس حيث تقرب بمثال محسوس.

وقد يكون المثل مجرد وصف من غير تشبيه، كقوله تعالى«مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ »(2)حيث لم يتمّ تشبيهها بشيء بل مجرد وصفها .

ص: 353


1- وسائل الشيعة، ج 9، ص12.
2- سورة الرعد، الآية: 30.

وفي هذه الآية تمّ تشبيه الإنسان المُنفِق في سبيل اللَّه بالحبة، فكما تنمو الحبة إلى أضعاف كثيرة ، كذلك ينمو المؤمن بنيل الكمالات والدرجات الرفيعة، وعليه لا حاجة إلى تقدير شيء كأن يقال «مثل مال الذين ينفقون» أو «كمثل زارع حبة» .

وفي مناهج البيان: «المثال» ليس هو التشبيه ، بل المراد الانتقال من أمر محسوس إلى أمر معقول يصعب نيله بالنسبة إلى المخاطب، أو معلوم ضروري عادي إلى معلوم يحتاج نيله إلى التدبر والتفكر، فإراءة الممثل وحكايته بواسطة المثل باب عظيم من أبواب التعاليم وتلقين الحقائق والعلوم الدائرة بين الناس، ويشمل بعض الأمثال على الخطابة والحجة ، وبعض منها على الوصف والتقريب، وبعض منها التشبيه، فعلى هذا لا يحتاج في الأمثال إلى ذكر أركان التشبيه من «المشبَّه» و«المشبّه به» و«وجه الشَّبَه» إذ ليس كل مثل تشبيهاً (1).

الرابع : قوله تعالى «فِي سَبِيلِ اللَّهِ » .

أي في مرضاته تعالى - كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام (2).

ولا يكون ذلك إلّا بصرف المال فيما أمره اللَّه تعالى من وجوه الخير والبر وبقصد القربة وسائر الشروط، فلو صرفه فيما لم يأمره به اللَّه بشكل خاص أو عام فلا يكون من سبيله تعالى، ولو خلط العمل بنية الرياء والسمعة فلا يكون في سبيله.

ومن ذلك يتضح أنَّه يلزم أن يكون الدافع إلى الإنفاق هو الدافع

ص: 354


1- مناهج البيان: ج 3، ص 50.
2- تفسير الصافي: ج1، ص493 عن تفسير القمي.

الديني، وأما لو لم يكن لدافع ديني بل كان بدافع عقلي أو عاطفي أو للهوى فلا يكون في سبيله تعالی.

أما الدافع العقلي، فهو وإن كان محبذاً إلّا أنَّه لا ثواب فيه كمن يدفع مالاً للفقير لدفع شره، أو للخوف منه، أو مراعاة لماء وجهه، أو الدفع الحرج، ونحو ذلك من الأغراض العقلائية، لكن حيث أراد المُنفِق من ذلك النفع الدنيوي لنفسه فلا يستحق ثواباً على اللَّه تعالى، لأنَّه تعالی لم يَعِد الثواب إلّا على الأعمال التي أتى بها لأجله وفي سبيله، نعم هذا النوع من الإنفاق محمود ولا عقاب فيه.

وأما الدافع العاطفي، كمن ينفق شفقة أو لاحتراق قلبه من منظر راه من غير أن يقصد وجه اللَّه تعالى، فكذلك هو محمود ولا ثواب فيه.

وأما الدافع الشهوي، فإن كان لأجل الرياء والسمعة فيكون مذموماً ، فإن كان في عبادة كان حراماً أیضاً . وعن الإمام الصادق عليه السلام : وكل عمل تعمله لله فليكن نقياً من الدنس (1).

والحاصل أن نظرة الإسلام إلى الإنفاق نظرة سامية بتجريده عن الدواعي الدنيوية وربطه باللَّه سبحانه وتعالى، وحينئذٍ تترتب عليه المصالح الدنيوية أیضاً من غير مفاسدها، فإن الأغراض الدنيوية مصالحها مشوبة بالمفاسد وقد يكون ما تفسده أكثر مما تصلحه، وقد يوجب هكذا إنفاق البغضاء والشحناء والعداوات والنظرة الفوقية والتكبر وسائر الرذائل والحاصل أن المصالح وإن كانت علة للأحكام لكنها ليست ثواباً لها ، بل هي تترتب على العمل السليم الذي لا شوب فيه، وأما الثواب فهو أمر أخروي، فتأمل.

ص: 355


1- البرهان: ج2، ص288، عن المحاسن والعياشي.

الخامس : قوله تعالى«وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ » .

وذلك لمراعاة الباذل والمبذول له والمال المبذول وكيفية البذل ، فكل ذلك يلزم أن يكون ضمن الموازين الشرعية وبحسب ما يريده تعالى حتى ينطبق عليه أنَّه في سبيل اللَّه ، وذلك ما بيّنته مجموع هذه الآيات.

أما الباذل فيلزم أن يكون مؤمناً متقياً، كما قال تعالى « إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(1)، وباختلاف درجات إيمانه يختلف الثواب، فعن حمران عن الإمام الباقر علیه السلام قال : ولكن للمؤمن فضلاً على المسلم في أعمالهما وما يتقربان به إلى اللَّه تعالى، قلت: أليس اللَّه يقول «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا »(2)؟ قال : فقال : أليس اللَّه قد قال «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ » أضعافاً كثيرة؛ فالمؤمنون هم الذين يضاعف اللَّه لهم الحسنات، لكل حسنة سبعين ضعفاً، فهذا من فضلهم، ويزيد اللَّه المؤمن في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافاً مضاعفة كثيرة، ويفعل اللَّه بالمؤمن ما يشاء (3) يتبيّن من هذا الحديث أن مشيئته ليست اعتباطاً بل بحسب حال المُنفِق ، كما يستفاد من مجموعة من الآيات والأحاديث الأخرى أن مقدار الإخلاص والمشقة وحال المُنفِق عليه وأثر ذلك الإنفاق ونحو ذلك مما لها التأثير في التضاعف.

كما أن التضاعف ليس منحصراً في الكمية بل قد يكون في الكيفية وفي سائر الخصوصيات .

ص: 356


1- سورة المائدة، الآية: 27.
2- سورة الأنعام، الآية: 160.
3- البرهان: ج 2، ص 290 عن تفسير العياشي.

ثم إن قوله «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ » له ظاهر و باطن:

أما الظاهر فبمعنى أن اللَّه تعالى يضاعف على السبعمائة لمن يشاء .

وأما الباطن فهو التعليل للتضاعف، أي إنه تعالى يضاعف إلى السبعمائة لأنَّه شاء ذلك، وهذا ما يظهر من بعض الأخبار، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : إذا أحسن العبد المؤمن عمله ضاعف اللَّه عمله بكل حسنة سبع مائة ضعف، وذلك قوله «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ »(1) .

ص: 357


1- البرهان، ج2، ص289 عن أمالي الشيخ، وتفسير العياشي

ثانيا: شرط الإنفاق

الآيتان 262 - 263

«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)»«قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)» .

262 - بعد ذكر ثواب الإنفاق جاء التأكيد على أن هذا الثواب مشروط، فقال تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ » لا يلحقون «مَا أَنْفَقُوا » الأموال التي أنفقوها «مَنًّا »على الآخذ، وهو التذكير بالفضل على وجه الاستعلاء «وَلَا أَذًى »بقولٍ كأن يتطاول عليه، أو فعل أن يعبس في وجهه، فهؤلاء الذين لا يمتون ولا يؤذون «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ »فلا يضيع الأجر لأنَّه عند اللَّه القادر العادل، «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ » بتوقع العذاب وفوات الأجر ونحوهما ، «وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »على خسران ما أنفقوا.

263 - ولو دار الأمر بين الصدقة بمنٍّ وأذى وبين عدمها باحترام فالثاني أولی، ف-«قَوْلٌ مَعْرُوفٌ » ردّ طالب الصدقة بجميل«وَمَغْفِرَةٌ » أي الستر عليه بعدم فضحه وتحمل إساءته «خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى» لا عقاب فيه، وهذا فيه الخسران والعقاب، « وَاللَّهُ غَنِيٌّ » لا يحتاج إلى صدقاتكم، وإنما أمركم بها لنفعكم،«حَلِيمٌ »لا

ص: 358

عاجل بالعقوبة لمن عصاه، فتخلّقوا بأخلاقه وتعاملوا مع السائلين بلطف وتحمّل.

بحوث

الأول : بعد أن بيّن اللَّه تعالى في الآية السابقة ثواب الإنفاق في سبيله، یبیّن في هاتين الآيتين وما بعدهما أن هذا الثواب مشروط، فهو وعد بشرط، فلا يكفي مجرد صدور العمل في سبيل الله، بل لا بد من استمراره في سبيله، فلو خرج عن سبيل اللَّه لحبط وبطل فلا يكون له الثواب، وبعبارة أخرى: إن العمل قد يقع صحيحاً لاستيفائه للشروط لكنه يُحبط بعد ذلك بعدم الثواب له بسبب أمور تلحقه.

وليس معنى البطلان هنا هو عدم براءة الذمة بل معناها عدم الثواب ، فلذا من دفع الصدقات الواجبة مستوفية للشروط لا يجب عليه تكرارها لو أبطلها بالمنّ والأذى أو بسائر المبطلات، وكذلك من أتي بالصلاة - مثلاً ۔ صحيحة ثم بعد انتهائها رآعي فيها، فإن الرياء اللاحق يبطلها لا بمعنی لزوم إعادتها أو قضائها بل بمعنی حبط ثوابها، والحاصل : أنَّه لا محذور في التفكيك في الآثار الوضعية، فقد يترتب بعضها ولا يترتب بعضها الآخر، كما يمكن التفكيك بين الآثار التكليفية والوضعية.

الثاني : قوله تعالى «مَنًّا وَلَا أَذًى ».

أصل (المنّ) هو التذكير بفضله عليه على وجه الاستعلاء، وهو ملازم للتكبّر، وهذا عمل لا يليق بالمخلوق وهو من الرذائل فيه .

ص: 359

نعم اللَّه سبحانه وتعالى - لعلّوه الذاتي - هو المتكبّر المنّان، قال سبحانه بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ »(1) ولم يقل بل الرسول يمن عليكم، وقال «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(2)، ف اللَّه تعالى هو المنّان وليس الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم وإن كان فضل الرسول عليهم كبيراً جداً فإن ذلك يرجع إلى اللَّه تعالى أیضاً قال تعالى «وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)»(3)

فأما قبح مِنّة المخلوق على غيره، فلأن سبب المنّة هو توهم أن ما أنفقه هو من نفسه وأنَّه عظيم، مع أن ما أنفقه إنما هو من اللَّه سبحانه وتعالى، وأن كل فعل لا يكون مرتبطاً باللَّه فهو حقير وضيع، مع ما يتضمن الامتنان من حالة التكبر والاستعلاء.

وأما مجرد تذكير الغير بفضله عليه لا على وجه الاستعلاء، ولا بغرض تعظيمه، بل لأجل التذكير بالحقوق الواجبة، أو لردع الغير عن الظلم، أو لبيان فضل اللَّه تعالى لا لأجل الرياء والسمعة، فلا يكون من المين، كقوله :

أعلّمه الرماية كل يوم ***فلمّا اشتد ساعده رماني

يريد تقبيح نكرانه للجميل لا المنّ عليه ، وكقول الأم لولدها : ألم تكن ضعيفاً فقويتك، وصغيراً فربيتك.. ونحو ذلك تريد تذكيره بحقوقها، ونظائر ذلك كثير.

وقد يكون مناً عملياً بأن يتنازل عن حقه في عقاب الغير، أو أن يعطيه

ص: 360


1- سورة الحجرات، الآية: 17.
2- سورة آل عمران، الآية: 164.
3- سورة المدثر، الآية: 6.

من غير استحقاق، فذلك لا بأس به بل هو أمر محمود، لكن من غير منّ بالقول، قال تعالى « فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً »(1)، وقال سبحانه «هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ » (2).

قيل : وللمنّ مصادیق :

منها : أن يذكر إحسانه عليه عند الناس .

ومنها : أن يقول عند إحسانه أو بعده بما لا يتحمّله ويشق عليه .

ومنها : أن يريد بالإحسان إلى الغير أن يحمّله أمراً لا يتوقع منه لولا الإحسان(3).

ولا يخفى أن الثالث ليس من مصاديق المنّ، بل بيان الغرض من المَنّ، فإن المنّان قد يقصد مجرد السمعة أو الإيذاء وقد يقصد ذلك الأمر غير المتوقع لولا الاحسان ثم المنّ.

وأما (الأذي) فهو ما يُكره من القول أو الفعل، والإيذاء هو التسبيب إلى ما يكرهه الغير من فعل أو قول، وهو قد يكون في الجسم فيكون بمعنى الضرر اليسير، وقد يكون في القلب، بأن يقول أو يفعل ما يجرح قلبه .

والأذى حين الإنفاق قد يكون بقول أو بفعل كالعبوس في وجهه أو إتعابه في الدفع بالتسويف والمماطلة .

وأما بعد الإنفاق فالغالب أن يكون بالقول كأن يتطاول عليه بسبب ما

ص: 361


1- سورة محمد، الآية: 4.
2- سورة ص، الآية: 39.
3- راجع مناهج البيان: ج3، ص56.

أنعم عليه، وقد يكون بالفعل كأن يكلّفه بأعمال وأفعال ما كان يمكنه تكليفه بها لولا صدقته عليه.

وأما الإتيان ب-«ثُمَّ » في قوله «ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا» فلأجل أن المنّ والأذى إن كانا حين الإنفاق فلا يكون إنفاقة في سبيل اللَّه أصلاً ، فيكون الكلام في هذه الآية حول إنفاق كان في سبيل اللَّه فبقاؤه كذلك مشترط بعدمهما .

الثالث : قوله تعالى«وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ».

قد مرّ أن (الخوف) هو من مکروه مستقبلي متوقع، و(الحزن) من مكروه واقع فعلاً، فهؤلاء لا يخاف عليهم من العذاب، ولا هم يحزنون على الأموال التي خسروها حسب الظاهر بالإنفاق.

ثم إنه قال :«وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ»ولم يقل (لا يخافون)، لأجل أن المؤمن في خوف دائم، لأنَّه يحتمل عدم قبول عمله أو عدم استمراره على الهداية ، فكم من صالح ضلّ فأصبح من الغاوين، كبلعم بن باعورا الذي آتاه اللَّه آیاته فانسلخ منها فاتبعه الشيطان.

وأما الحزن فلأن أولياء اللَّه لا يحزنون على الأمور المادية التي فاتتهم، قال تعالى «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ »(1) نعم هم يحزنون إذا فاتتهم فضيلة أو إذا رأوا ضلال الناس أو في المصيبة ، فذلك حزن لا بأس به بل هو محمود، وفي هذه الآية متعلق الحزن هو الأمور المادية فلذا قال «هُمْ يَحْزَنُونَ »على ما فاتهم من الأموال التي أنفقوها .

ص: 362


1- سورة الحديد، الآية: 23.

ولا يخفى أن متعلق الخوف والحزن غير مذكورين، وحذف المتعلّق يفيد العموم، فلا خوف عليهم من العذاب ومن الفقر وسائر ما يخاف منه، وذلك لأن من ينفق هكذا مع قوة الدواعي النفسانية إلى عدم الإنفاق وإلى المنّ فهو ذو نفسيّة رفيعة وإيمان قويّ يظهران في سائر الأعمال والأقوال.

الرابع : قوله تعالى ««قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ ...» الآية .

قد لا يتمكن الإنسان من الإنفاق، أو لا يريد الإنفاق لجهة من الجهات، فإن عليه أن يردّ السائل بأحسن رد، فأمر اللَّه تعالى بالقول المعروف.

و(المعروف) هو ما يعرفه العقل أو الشرع ولا ينكرانه، والقول المعروف يكون بكلام رزين مع لين، لأن الكلام الخشن في هكذا موقف ينكره العقل والشرع، ومن مصادیقه الدعاء للسائل كأن يقول له : اللَّه يعطيك، أو أن يعتذر منه بلباقة وأن يتواضع للفقير ونحو ذلك.

وأما (المغفرة) فهي من الغفران بمعنى الستر، بأن يستر على السائل، ومن مصاديقها عدم فضح السائل، أو إعلام الناس بفقره، وتعييره على ذلك، وكثيراً ما يذكر السائل بعض أسراره ليبيّن سبب استعطائه فلا بدّ أن يكتمها له، ومن مصاديقها التجاوز عن السائل إذا أساء وأغلظ في الكلام، كدأب بعض المتسولين الذين يشتمون من لا يعطيهم.

وأما كون قول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، لأجل أنَّهما لا يجرحان قلب السائل عكس الصدقة مع الأذى، كما أنَّهما لا يورثان الحقد والضغينة عكسه، مضافاً إلى أنَّهما لا عقاب فيهما بل قد

«قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)»

ص: 363

يكون فيهما الثواب بسبب الدعاء والحلم عکس الصدقة بأذى حيث قد يكون فيها العقاب إذا استلزمت بعض المحرمات کهتك المؤمن مثلاً .

ثم إن الآية «خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى» من غير ذكر للمنّ، إما لأجل الإيجاز مع وضوح كونه مراداً أیضاً لذكره في الآية السابقة واللاحقة، أو بتعميم الأذى هنا ليشمل المنّ أیضاً فإنَّه نوع أذيّة.

الخامس : قوله تعالى «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ».

هذا كالعلّة لما قبله، فإن اللَّه أمركم بالإنفاق لا لحاجته إليكم بل الأجل تهذیب نفوسكم وتطهير أموالكم، كما قال «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا »(1)، ولا يمكن هذا التطهير والتزكية بواسطة رذيلة أخرى كالمن والأذى، فالغرض تزکیتکم لا حاجته سبحانه وتعالی.

كذلك اللَّه تعالى«حَلِيمٌ »، فلا يعاجل بالعقوبة ويعفو عن السيئة ، فكذلك كونوا إذا جابهكم السائل بكلام خشن، فاحلموا عنه كما يحلم اللَّه عنكم.

ص: 364


1- سورة التوبة، الآية: 103.
الآيات 264 - 266

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)»«وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)»«أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)»

ثم إن اللَّه تعالى يضرب ثلاثة أمثلة لبيان أنواع الإنفاق.

المثال الأول: في الإنفاق الباطل من أساسه، وهو إنفاق المرائي فمثله كمثل الحجر الأملس الذي لا يقبل المطر فلا ينمو عليه شيء.

والمثال الثاني: في الإنفاق الصحيح المستمرة صحته، وهو إنفاق المؤمن الذي لا يُبطله بالمنّ والأذى، كالبستان الذي ينمو بالأمطار.

ص: 365

والمثال الثالث: في الإنفاق الذي كان صحيحاً في البداية، لكنه بطل بالمنّ والأذى، فهو كالبستان الذي أصابه إعصار فيه نار في وقت يكون الإنسان في أمسِّ الحاجة إليه.

264 - المثال الأول:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى» فإنَّه لا فرق بين بطلان العمل بعد صحته وبين بطلانه من رأس، « كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ » فتكونون مثله في حبط ثواب عملكم «وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ »هذا المرائي «وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ليطلب مرضاته وواليوم الأخره ليسعى إلى ثوابها، « فَمَثَلُهُ »مثل هذا المرائي «كَمَثَلِ صَفْوَانٍ » وهو الحجر الأملس وهو غير قابل لنفوذ الماء فيه «عَلَيْهِ تُرَابٌ »مما جعل ظاهره قابلا للزراعة «فَأَصَابَهُ وَابِلٌ » أي المطر الشديد الكبير القطر«فَتَرَكَهُ صَلْدًا » عرّاه من التراب فظهر على حقيقته «لَا يَقْدِرُونَ » لا ينتفع المراؤون «عَلَى شَيْءٍ » من الثواب «مِمَّا كَسَبُوا »من صدقاتهم، کهذا الصفوان الذي لا ينتفع بالمطر، «وَاللَّهُ لَا يَهْدِي» بالألطاف الخفية والتوم الكفرين .

« الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ».

265 - المثال الثاني : «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ»طلباً لها بلا رياء « وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ » أي يبقون على نية الإخلاص في نفوسهم بلا منّ وأذى«كَمَثَلِ جَنَّةٍ» بستان كثيف الأشجار « بِرَبْوَةٍ» مرتفع من الأرض، فهو أقرب إلى الشمس والهواء، وأبعد عن السيل والمياه الآسنة، وله بهجة ترى من بعيد « أَصَابَهَا وَابِلٌ» مطر شديد كبير القطر « فَآتَتْ أُكُلَهَا »ثمارها«ضِعْفَيْنِ » مثلي سائر الأشجار الواقعة في أسفل الوادي، «فَإِنْ لَمْ

ص: 366

يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ»أي فأصابها «طلّ» وهو مطر صغير القطر وذاك كاف في إثمارها، « وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ »فيعلم النيّات ومقدار الإخلاص وكمية الإنفاق، فالثواب يتضاعف حسب هذه الأمور.

266 - المثال الثالث : «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ » يُحب متمنياً «أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ » غالب أشجارها «مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا » تحت الجنة وأشجارها «الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ» فالغالب التمر والعنب وفيها سائر الثمار، « وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ» الشيخوخة، « وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ» فهو في أمسّ الحاجة إلى ذلك البستان مع فقدان سائر وسائل تأمین معیشته ومعيشة ذريته، « فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ » ریح شديدة الهبوب تدور من شدتها «فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ »الجنة ، فكذلك من يتصدق حال كونه مؤمنا لكنه يبطل صدقته بالمن والأذى، في حين هو في أمس الحاجة إليها يوم القيامة، «كَذَلِكَ »کهذا البيان بضرب الأمثال «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ » فتعتبر ون، فتعملون لمرضاته تعالی.

بحوث

الأول: لما بیّن اللَّه في الآيتين السابقتين«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » إلى قوله «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ»اشتراط أجر الإنفاق بعدم المنّ والأذى، وأن الردّ الجميل هو أفضل من صدقة مع الأذى، أراد التأكيد على هذا الأمر ببيان أنَّهما محبطان للأجر، وتقريباً للفكرة إلى الأذهان لكي يعتبر الناس ذكر تعالى ثلاثة أمثلة، وفيها بيان أن العمل الصحيح

ص: 367

الذي يُبطله الإنسان لا يفترق عن العمل الباطل من أساسه، فلا ثواب الكليهما، فتم أولاً تشبيه الذي يمنّ ويؤذي بصدقته بالمرائي الذي لا يؤمن باللَّه ولا باليوم الآخر، فلا فرق في عملهما، كما لا فرق في نفسياتهما ، فالذي يرائي في أعماق قلبه لا يؤمن باللَّه وإلّا لرجح مرضاة اللَّه على مرضاة الناس، قال تعالى «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ »(1)، كما أنَّه لا يؤمن باليوم الآخر، وإلا لما رجح رضی زائل من الناس على ثواب اللَّه سبحانه وتعالى، وفي بعض الأخبار التعبير عن الرياء بالشرك الخفي(2).

ثم إن تشبيه المنّان المؤذي في صدقته بالمرائي وختم الآية بقوله «وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»، يدل على أن المنّ والأذى من صفات الكفار التي يجب أن يتنزه عنها المؤمنون.

الثاني : قوله تعالى« لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى» .

قد مرّ البحث عن معنى البطلان والمنّ والأذى في الآيتين السابقتين، وإنما تُبطله لأنَّه بذلك يتحول إلى عمل قبيح بشع حتى في نظر العرف.

وفي بعض الأخبار تأويل الأذى بأذى محمد وآل محمد(3)فيحتمل أن يكون المراد أن إيذائهم علیهم السلام كل من محبطات الأعمال - التي منها الصدقات -، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا »(4)، أو كان ذلك شأن نزول الآية فلعلّ

ص: 368


1- سورة التوبة، الآية: 62.
2- بحار الأنوار: ج19، ص300.
3- البرهان: ج2، ص292 عن تفسير العياشي.
4- سورة الأحزاب، الآية: 57.

الرجل قد تصدّق على قوم ثم جاء يؤذي الرسول وآله علیهم السلام ويمنّ عليهم بصدقته ، كما كان بعضهم يمن على الرسول إسلامه كما قال «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا »(1).

الثالث : قوله تعالى« كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ...»الآية .

المثل هو المرائي الذي لا يؤمن باللَّه ولا باليوم الآخر، لا كل مرائي، لأن قوله «وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» عطف على « يُنْفِقُ مَالَهُ » ، فالمعنى المُنفِق الذي جمع هذه الصفات الثلاث : الرياء، وعدم الإيمان باللَّه ، ولا باليوم الآخر، وبذلك يتضح أن ختم الآية بقوله «وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» يراد به الكفر الاعتقادي لا مجرد الكفر العملي، فليست الآية لبيان عدم إيمانه في خصوص إنفاقه بل لبيان عدم إيمانه أساساً ، وبذلك يكون المثل أوقع في النفوس، فيقال للمنّان المؤذي أنت كالكافر رأساً، وهذا أدعى للاحتراز عن بطلان الصدقة بالمن والأذى.

الرابع : قوله تعالى « فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ...»الآية .

إنّ تشبيه المرائي بالصخرة الملساء التي عليها تراب، لبيان أن نفسه غير قابلة للخير فهي كالحجارة أو أشد قسوة، لكنه قد غطّى تلك النفس ببعض الأمور الحسنة في الظاهر، كالصفوان الذي عليه تراب حيث يتوهم الناظر أنَّه أرض قابلة للزراعة.

ثم إن الصدقة كالوابل، فكما أن المطر الشديد الكبير القطرات هو خیر محض فإذا أصاب أرض لها قابلية نفذ فيها وأخرج زرعها ومحاصيلها، لكنه إذا أصاب الصخرة المغطاة بالتراب أزال ذلك التراب

ص: 369


1- سورة الحجرات، الآية: 17.

وكشف حقيقتها وأنَّها غير قابلة للزراعة، كذلك الصدقة من المرائي كهذا المطر، فإنَّها تكشف عن حقيقته وعدم قابليته للحق ووسوء نيته، فإن اللَّه يفضح المرائي، فيكون قد أضرّ نفسه من حيث أراد نفعها بالمباهاة وبالسمعة أمام الناس، وهذا عكس إنفاق المؤمن طلباً لمرضاة اللَّه تعالى، حيث إن ظاهر المؤمن جميل فتزيده الصدقة الخالصة لوجه اللَّه جمالاً وبهجة كالجنة في الربوة يزيدها الوابل عطاءً وثمراً .

الخامس: قوله تعالى « وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ »

الظاهر أن المعنى أن هؤلاء يوطّنون أنفسهم على استمرار طلب مرضاة اللَّه تعالى، فأصل العمل كان لمرضاته تعالى واستمراره أیضاً على الوتيرة نفسها، فوصف «ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ» مقابل المرائي الذي لا يطلبها من الأول، ووصف « وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ » مقابل المنّان والمؤذي الذي تصدق بإخلاص لكن لم تدعه نفسه في الاستمرار في إخلاصه بل ساقته إلى إبطال عمله بالمنّ والأذى.

ثم إن قوله « مِنْ أَنْفُسِهِمْ »بمعنى أن هذا التثبيت على الإخلاص ناشیء من أنفسهم، فهي نفس مرتفعة قابلة للخير، فزادتها الصدقة خيراً، فهذه النفس العالية لا تنحرف إلى الأغراض الدنيوية الزائلة والأفعال القبيحة.

وهذه الآيات تدل على أن العمل المقبول إنما هو العمل الذي كان منطلقه الإخلاص لله تعالى، ولولا الإخلاص لم يكن للعمل ثواب، بل قد يكون فيه العقاب كما في الرياء في العبادات.

السادس: قوله تعالى«كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا ...»الآية .

ص: 370

(الربوة) المرتفع من الأرض، والبستان فيها أجود وذلك لمنظره من بعدُ أولاً، وشروق الشمس عليه باستمرار كما قال«شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ »(1) حيث هي في معرض الاستفادة من الشمس من الطلوع إلى الغروب، ولأنَّه أقرب إلى الهواء الطلق، وأبعد عن السيل والمياه الآسنة التي تجتمع في أسفل الوادي.

كما أن التمثيل بالربوة أنسب، فإنَّه تشبيه أنفسهم الرفيعة بالربوة، كما تمّ تشبيه نفس المرائي بالحجر.

ثم إن قوله «فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ »لبيان أن إنفاق هؤلاء مقبول مثمر سواء كان كثيراً أم قليلاً، فشُبَّه إنفاقهم بالمطر ونفوسهم بالجنة في ربوة، فهذه الجنة تثمر على كل حال لكن مقداره مرتبط بكمية المطر، كذلك هؤلاء كلّما زادوا في الإنفاق زاد ثوابهم، وحتى إنفاقهم القليل مقبول، نعم تختلف درجات الثواب كما مرّ بحسب المُنفِق و المُنفَق إليه وكميّة الإنفاق وسائر الظروف والأمور.

السابع : قوله تعالى : «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ... » الآية .

هذا مثل للذي ينفق مخلصاً ثم يبطل عمله بالمنّ والأذى، ففي يوم القيامة حيث هو في أمسّ الحاجة إلى ثواب إنفاقه يجد عمله محبطاً، ولا يتمكن من فعل شيء للتعويض، فتكون حسرته كبيرة جداً .

والمثل هو الذي أصابته الشيخوخة فلا يتمكن من اكتساب الرزق، وله أولاد صغار يعولهم، وله بستان بهيج كثير الثمر هو مصدر رزقهم الوحيد، فإنَّه في حاجة ماسة إليه، فلو احترق هذا البستان بإعصار فيه

ص: 371


1- سورة النور، الآية: 35.

نار، فلا هو شاب بحيث يتمكّن من إيجاد بديل له، ولا هو وحيد بحيث تقلّ حسرته على زوال مصدر رزقه فيسكّن نفسه بأنَّه شمس في أفول قريباً، ولا الذرية كبيرة بحيث تعتمد على نفسها، فهذا الشيخ يكون أسفه شديداً جداً على بستانه البهيج، كذلك المتصدق يُهيّئ لآخرته ثواباً جزيلاً لكن يراه في القيامة هباءً منثوراً لمنٍّ أو أذى في وقت الحاجة مع عدم إمكان التعويض.

و(الجنّة) البستان الكثيف الشجر بحيث سترت غصونها الأرض، وأصل المادة ( ج ن ن) بمعنى الستر ومنه الجن والجنين ونحوهما، وحيث إن الجنة هي هذا البستان المغطّى، ففوق البستان الأغصان الكثيفة وتحت البستان هي الأرض التي عليها الأشجار، ولذا تم التعبير ب-«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ »، فيكون لفظ التحت بمعناه الحقيقي بلا حاجة إلى تقدير تحت أشجارها.

وقوله:«فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ »بعد قوله: « جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ» ، إما باعتبار أن الجنة فيها جميع الأشجار لكن تم تخصيص النخيل والأعناب بالذكر لأنَّهما أكرم الأشجار وأجملها منظراً، أو باعتبار أن الغالب تلك الأشجار، لذا نُسبت الجنة إلى غالب أشجارها، فيكون التفصيل في ذكر أنواع شجر الجنة ليكون ذكرها أوقع في النفوس وأبرع في التصوير، وقيل: المراد كل ثمرات النخيل والأعناب من الفواكه والورق وما ينتج منهما كالدبس والعصير .... إلخ.

وقوله «إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ» لبيان سرعة اجتثاث تلك الجنة بحيث لا يتمكن من حفظها أو إعادتها بأية صورة، فالإعصار ریح سريعة مستديرة فلا يمكن لشيخ كبير السن من الحيلولة دونها، ولعلّ إعصاراً يأتي فتبقى

ص: 372

بعض الأشجار أو جذورها مما يأمل نموها بعد حين، لكن وجود النار فيها تزيل أيَّة بارقة أمل في ذلك البستان.

الثامن : قوله تعالى«كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ » .

أي کهكذا بيان في الصدقة، وهذه الأمثال، فإن اللَّه يبيّن أحكامه لينبّهكم بها، فإن الرياء والمنّ والأذى ونحوها من الأفعال والنوايا الخبيثة تصدر من الإنسان لغفلته عن الآيات بسبب استيلاء الشهوات والهوى والرذائل الخلقية، فلو تنبّه الإنسان عبر ذكر هذه الأمثال لعلّه يخرج عن غفلته فيتفكر ثم يعتبر،والمستعان باللَّه .

ص: 373

ثالثاً: المال المُنفِق به

الآية 267

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)» .

267 - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ » طيباً واقعياً بكونها حلالاً، وظاهرياً بكونها جيدة مرغوب فيها، والكسب بالتجارة ونحوها، «وَمِمَّا»أي ومن طيبات ما « أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» من الزرع والحبوب والفواكه ونحوها ،« وَلَا تَيَمَّمُوا » أي لا تقصدوا «الْخَبِيثَ » الرديء أو الحرام، «مِنْهُ »من ذلك الخبيث «تُنْفِقُونَ » ، وميزان الرديء هو: «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ»ذلك الخبيث في حقوقكم ومعاملاتكم « إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ » تسامحوا فيه «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ » لا يحتاج إلى صدقاتكم وإنما يريد تطهیر کم فلا يأخذ إلّا الطيب،«حَمِيدٌ » محمود على نعمه، أو يحمد من ينفق الطيب بالرضا عنه وبثوابه .

بحوث

الأول : بعد بيان شروط الإنفاق، جاء دور بيان المال المُنفَق به،

ص: 374

وأنه يلزم أن يكون مما ترغب فيه النفوس، لا ما تعافه ولا تحبه، وذلك لأن الغرض من الإنفاق هو:

أولاً : تهذيب النفس، وحيث إن النفس متعلّقة بالأموال الجيدة فتبخل بها، فالتصدق منها ترويض للنفس إلى الكمال، قال تعالى «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ »(1)، وقال: «مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ »(2).

وأما إنفاق الرديء فهو نوع تخلّص منه ، وليس فيه من تهذيب النفس شيء، بل قد يتطابق مع الهوى.

وثانياً : رفع حاجة الناس، والناس إلى الاحترام أحوج منهم إلى المال، وهذا النوع من الإنفاق هو استخفاف بالفقراء، وهو رذيلة كبيرة، ولا يمكن أن تكون الرذيلة سبباً للفضيلة من رقي النفس وكمالها، ومن ثَمَّ ثواب الآخرة، ولذا قال: « إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(3)، وقال: «أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا»(4).

الثاني : قوله تعالى : « مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ » .

(الطيّب) لغة هو ما ترغب النفس إليه، عکس الخبيث الذي تتنفر النفس عنه، وقد يخطئ الإنسان فيستلذ بالخبيث لجهله بأضراره کالطعام المسموم الذي هو خبيث واقعاً لكن الأكل لجهله بالسم يأكله بشوق، ولو علم لكرهته نفسه وعافته ، ولذا كان (الطيّب) شرعاً هو ما حلّله الشرع،

ص: 375


1- سورة آل عمران، الآية: 92.
2- سورة المائدة، الآية: 27.
3- سورة محمد، الآية: 38.
4- سورة الأحقاف، الآية: 16.

والخبيث هو ما حرّمه، كما قال تعالى« وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ »(1)، وكثير من الناس يرغبون في الخمر مع أنَّها أم الخبائث، وفي لحم الخنزير مع أنَّه من أخبثها ، وفي المحرمات مع أنَّها خبيثة، قال تعالى « وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ »(2).

نعم قد يدرك الناس الخبث الواقعي للشيء فتنفر نفوسهم منه كالعذرة والجيفة والسموم القاتلة، وقد لا يدركون لجهلهم بالمضار أو لسوء التربية أو لغلبة الهوى فيبيّن الشرع لهم وينهاهم، كالخمر والزنا والغيبة والرذائل الأخلاقية ... إلخ.

فاتضح أن الطيب هو الطيب الواقعي وإن نفرت منه النفوس أو استثقلته، كالأدوية المُرّة، وكالعبادات الصعبة، والخبيث هو الخبيث الواقعي وإن رغبت إليه النفوس کالمحرمات التي تتطابق مع الهوى والشهوات، فمجرد رغبة النفوس إلى شيء لا يجعله من الطيبات ومجرد نفرتها منه لا يجعله من الخبائث.

وفي هذه الآية قوله تعالى «وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ » أريد منه معناه الأعم أي ما نفرت منه النفس وما كان خبيثاً واقعاً . ولذا فسر في الروايات بالمال الحقير التي لا ترغب النفس فيه، وبالمال الذي اكتسب من الحرام. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: كان أُناس على عهد رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم و يتصدقون بشرّ ما عندهم من التمر الرقيق القشر الكبير

ص: 376


1- سورة الأعراف، الآية: 157.
2- سورة المائدة، الآية: 100.

النوى - يقال له : المُعافارة . ففي ذلك أنزل اللَّه « وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ »(1) .

وعنه عليه السلام قال : كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية، فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها، فأبى اللَّه تبارك وتعالى إلّا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا(2).

وعن رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم : لا يصل إلى اللَّه صدقة من کسب حرام (3).

الثالث : قوله تعالى «مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ...»الآية.

الكسب عادة يكون بالتجارة والإجارة كعامل البناء، فيدخل فيه استخراج المعادن من الذهب والفضة ونحوهما .

و(ما أخرجه اللَّه من الأرض )بالزراعة كالفواكه والحبوب والبقول وسائر الثمار .

وإنما خص هذين بالذكر مع أن أموال الإنسان قد تحصل بالهبة والإرث والالتقاط فلا هي كسب ولا هي زرع، لأجل أن الإنفاق مما عمل الإنسان لأجله وكدّ عليه أصعب على النفس، وخاصة من طيباته ومما يحبه الإنسان، أو لأنَّهما أغلب.

ثم إن قوله «كَسَبْتُمْ» و «أَخْرَجْنَا» لأجل أن الكسب فعل مباشري للإنسان وإن كانت مقدماته من اللَّه تعالى، وأما الزرع فبالعكس فإن المقدمات من الإنسان والإنبات من اللَّه تعالی.

ص: 377


1- البرهان: ج 2، ص 290 عن تفسير العياشي، وقريب منه في الكافي.
2- المصدر: ص 290 عن الكافي.
3- المصدر: ص290، عن تفسير العياشي.

وأما قوله«َمِمَّا أَخْرَجْنَا»فالمراد من طيبات ما أخرجنا، ولم يذكر الطيبات لوضوح أنَّها مرادة بقرينة المعطوف عليه في قوله «مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ »، أو لأجل أن الإخراج لما نسب إلى اللَّه تعالى لم يكن من المناسب تقسيمه إلى الطيب والخبيث كي يقال إنه تعالى أخرج الطيب وأخرج الخبيث، فإنَّه سبحانه وإن كان خالقاً لهما لمصلحة التفاضل في أمور الكون، لكن مقتضى الأدب تنزيهه عن بعض الكلمات، كما في قول الخضر « فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا »، ثم قوله« وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي»(1)حيث لم يكن من المناسب نسبة فعل العيب إليه تعالى، فتأمل.

الرابع : قوله تعالى :« وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» (2).

« تَيَمَّمُوا » يمَّم بمعنى القصد والتعمد، فقد ينفق الإنسان مما عنده من غير أن يفصل بين الجيد والرديء، فهذا لا بأس به، وهو أمر متعارف، كمن اقتطف ثمار بستانه من غير تمييز ثم ينفقها في سبيل اللَّه ، وأما أن يقصد الرديء فيتبرع به ويحتفظ بالجيد لنفسه، فهذا دليل على اللؤم وخساسة النفس وشحّها.

وقوله «مِنْهُ »يرجع إلى الخبيث، أي لا تقصدوا الخبيث لتنفقوا منه، ولا يرجع الضمير إلى ما أخرجنا لما ذكرناه في البحث السابق.

الخامس : قوله تعالى: «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ».

هذا بيان لميزان الخبيث في الإنفاق، بإرجاعه إلى وجدان المتصدّق فهل أنت تتقبل هكذا مال برحابة صدر لو كان لك الحق؟ مثلاً لو كنت

ص: 378


1- سورة الكهف، الآية: 79.
2- سورة الكهف، الآية: 82.

تطلب شخصاً مالاً فجاء به فهل تقبل أم لا؟ فإن وجدت من نفسك عدم قبول ذلك إلّا بتسامح وتنازل فاعلم بأنَّه رديء فلا تنفق منه.

والحاصل أن الإنسان لا يأخذ الرديء في حقوقه ، فعليه أن لا ينفق منه، لأن إنفاقه حينئذٍ كالتخلص منه، وفيه زيادة في اللؤم واستخفاف بالمُنفَق عليه، وما كان منشؤه خسة النفس لا يمكن أن يكون مقرباً إليه تعالی.

وقوله « إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ »كناية عن التسامح فيه، كمن يغمض عينيه استبشاعاً للشيء لئلا يرى رداءته، وقيل الغمض هنا كناية عن تقليل القيمة، فإن الإنسان لا يشتري الشيء الرديء إلّا بقيمة منخفضة .

السادس: قوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ .

«غَنِيٌّ »أي أمركم بإنفاق الطيب وعدم قصد الخبيث ليس لأجل حاجته تعالى، فهو سبحانه غني عنكم، لا فرق بين عدم إنفاقكم أو إنفاقكم الطيب أو الخبيث، وإنما يأمركم لنفعكم لطفاً بكم، لتزكوا نفوسكم، ولتنالوا ثوابه تعالی.

وقوله «حَمِيدٌ » إما بمعنى أنَّه يحمدكم على فعالكم فيثيبكم على إنفاق الطيب فالحمید بمعنی حامد.

وإما بمعنی احمدوه على نعمه عليكم، وذلك ببذل الطيب في سبيله ، فإن من يحترم شخصاً يبذل أحسن ما عنده له لا أنَّه يختار له الرديء ، فعلى هذا يكون الحميد بمعنى المحمود.

ص: 379

رابعا: عوائق الإنفاق

الآيات 268 - 270

«الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)»«يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)»«وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)».

268 - أما عوائق الإنفاق فهي: خوف الفقر أو تجاوز الحد بالمعصية،«الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ »بتسويلاته «الْفَقْرَ» بأن يخوفكم من الفقر بسبب الإنفاق« وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ» ما تجاوز الحدّ من المعاصي، فقد لا يخاف صاحب المال من الفقر لكنه لا يُنفق بخلاً وشحاً،« وَاللَّهُ» في مقابله « يَعِدُكُمْ»إن أنفقتم « مَغْفِرَةً مِنْهُ »غفران ذنوبكم وكفارة لها بالإنفاق«وَفَضْلًا » زيادة على ما أنفقتم بالبذل والثواب، «وَاللَّهُ وَاسِعٌ »عطاءً فيمكنه التعويض، «عَلِيمٌ » بنیّاتكم وأعمالكم، فيجازي على الحسن والسيّئ.

269 - ما تضمنته الآيات السابقة في الإنفاق هو من الحكمة، و اللَّه سبحانه «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ » وهي وضع الشيء في موضعه «مَنْ يَشَاءُ » لكونه مستعداً لقبولها، «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» لأن من اتَّبع أوامره تعالی فاز في الدارين وذلك الخير

ص: 380

الكثير، عكس الجاهل الذي إن أعطي كل خير فخيره ناقص بسبب جهله « وَمَا يَذَّكَّرُ» بالاتّعاظ بما مضى « إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ » أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الجهل والهوى.

270 - «وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ»في سبيل اللَّه - صغيرة كانت أم جليلة - « أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ »لله تعالى «فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ »فيجازيكم عليه، وأما من ترك الإنفاق أو خالف النذر فهو من الظالمين «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ »ينقذونهم من عذاب اللَّه تعالی.

بحوث

الأول: تتضمن هذه الآيات أهم المعوقات عن الإنفاق، وهي خواطر تعرض للإنسان بسبب تسويلات الشيطان، ثم بيان كيفية التخلص منها.

أما أهم المعوقات فهي:

1۔ خوف الفقر، فيسوّل الشيطان للنفس بأن تشح وتبخل وتدّخر المال لئلا يفتقر صاحبها، لذا قال تعالى «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ»فقابله اللَّه تعالی بوعده بالفضل فقال «وَفَضْلًا»مع أنَّه من الواضح أن الإنفاق باقتصاد لا يوجب الفقر، بل قد يكون من عوامل زوال الفقر أو تقليصه في المجتمع، فالمجتمع المتضامن الذي يُنفق الثري فيه على الفقير ، ويُؤثِر الإنسان على نفسه ولو كان به خصاصة ، مجتمع متماسك لا يخشی

ص: 381

على أحد فيه من الإعواز، فإن هذا المُنفِق لو افتقر بأثر حادث أو خسارة اقتصادية فإنَّه سرعان ما يجد من يأخذ بيده ويعاونه على فعله.

2- تجاوز الحدّ في المعاصي، فإن البعض لا يخشى الفقر، لكنه يطغى بثروته كما قال تعالى«كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)»«أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى »(1)، فيصاب بالكبر وبنظرة دونية للفقراء والمستضعفين، وتنعدم فيه الشفقة والرحمة فلا ضمير له ليتألم بما يتألم به الفقراء والمساكين، وهكذا حالة تؤدي بالإنسان إلى ارتكاب كل أنواع المعاصي وتجاوز كل الحدود، ولذا قال تعالى: «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ».

3- الجهل وعدم وضع الأمور في مواضعها، فقد لا يكون الغني يخاف الفقر، ولا يريد الفحشاء، لكنه لجهله يصرف ماله في أمور لا تجلب عليه إلّا الخسارة والوبال، كما قال تعالى :«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً »(2)، فلذلك قال تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ... »الآية، فعلاج هذا الجهل بالحكمة بشرط أن يجعل الإنسان نفسه قابلة لها ليفيضها اللَّه تعالى عليه.

4- ضعف الإيمان باللَّه تعالى، وبأنَّه سيُخلف المال كما قال تعالى«َمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ »(3). ودرءاً لهذا العائق بیّن تعالى بأنَّه يعلم بمن أنفق فيجازيه على ما فعل، مع تهدید الظالمين المانعين للحقوق الواجبة في أموالهم.

الثاني : قوله تعالى «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ » .

ص: 382


1- سورة العلق، الآيتان: 6- 7.
2- سورة الأنفال، الآية: 36.
3- سورة سبأ، الآية: 39.

(الفحش) هو تجاوز الحدّ، و(الفحشاء) صفة مشبهة تستعمل في القرآن في المعاصي التي فيها تجاوز للحدّ، كالكبائر من الذنوب، قال تعالى : «وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ »(1)، فالمعنی:

1- إن الشيطان يسول لكم تجاوز الحد في أموالكم بارتكاب المعاصي الشنيعة بتلك الأموال، مما يمنعكم عن الإنفاق وأداء الحقوق الواجبة .

2. وقيل : البخل هو من أسباب الوقوع في الفحشاء، حيث إن مخالفته تعالی تبدأ من الاستهانة بالفقراء ومنعهم حقوقهم أو عدم التصدق عليهم، وذلك يؤدي إلى حالة النفاق، وعندها لا يرعوي الإنسان من أيّ حرام، كما قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)»«فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)»«فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ »(2).

3. وقيل : إن نتيجة الشح والبخل هو شيوع الفقر وذلك يؤدي إلى شیوع المعاصي في الفقراء بسبب فقرهم، وفي الأغنياء بسبب بطرهم وتكدّس الثروة عندهم، فتنتشر الرذيلة والسرقة والفساد وبيع الدين بذلك السبب، فيكون قوله «وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ »إقامة المسبب مقام السبب أي يأمركم بالبخل الذي ينتج الفحشاء .

4- وقيل : الفحشاء هنا بمعنى البخل فإن العرب تسمي البخيل

ص: 383


1- سورة الأنعام، الآية: 151.
2- سورة التوبة، الآيات: 70 - 77.

فاحشاً كما في الكشاف(1) ولعلّ سبب ذلك هو تجاوزه للحدّ بردّه الضيوف والسائلين.

الثالث : قوله تعالى « وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ».

وعده تعالى بالفضل مقابل وعد الشيطان الفقر، وبالمغفرة مقابل أمره بالفحشاء، حيث إنه يريد زيادة الذنوب و اللَّه تعالی پرید غفرانها، فيأمر بما يكفر عنها، كما قال تعالى « إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ »(2) وقال «فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ »(3)، والتبديل إما بمعنی محو السيئة وكتابة الحسنة بدلاً عنها، وإما تبدیل ماهية السيئة إلى الحسنة، كما يشاهد في الماديات أیضاً فالجيفة تتبدل إلى تراب خصب، والسماد الخبيث يتحول إلى فاكهة طيبة، وكذا العكس.

ثم لا يخفى أن وعد الشيطان إغواء وتسويل ثم لا يفي به، قال تعالى «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا »(4)، وقال: «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ »(5).

وكما أن أمره إنما هو بما يضّر الناس ولا ينفعهم لأنَّه عدوّ لهم. قال سبحانه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ »(6)، وقال «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ »(7).

ص: 384


1- الكشاف: ج 1، ص396 .
2- سورة هود، الآية: 114.
3- سورة الفرقان، الآية: 70.
4- سورة النساء، الآية: 120.
5- سورة إبراهيم، الآية: 22.
6- سورة النور، الآية: 21.
7- سورة فاطر، الآية: 6.

وقوله «فَضْلًا » مطلق يشمل الزيادة في الدنيا والآخرة وقوله«مِنْهُ » التعظيم شأن هذه المغفرة حيث إنها منه تعالی.

الرابع : قوله تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ».

(الحكمة) مصدر نوعي، وجذرها بمعنى الإحكام، فمعناها كيفية من الإحكام والإتقان بحيث لا يكون مجال للخلل والنقص.

و اللَّه تعالى حكيم لعلمه وإيجاده الأشياء في غاية الإحكام.

والحكمة في الإنسان لها سبب ونتيجة:

أما السبب: فهو معرفة الواقعيات الحاكمة في عالم الوجود، إذ لا يمكن الإحكام والإتقان مع الجهل بالحقائق، ولذا فسرت الحكمة في الروايات (1)بالعقل والفهم، وبالمعرفة، وبمعرفة الإمام، وبالتفقه في الدين - الذي هو العلم بالأصول وبالشريعة -.

وأما النتيجة : فهي وضع الأشياء في مواضعها، ولذا تمّ تفسيرها في بعض الروايات : بطاعة اللَّه تعالى وباجتناب الكبائر التي أوجب اللَّه عليها النار.

فمجرد العلم الذي لا يدعو إلى العمل لا يُسّمى حكمة، لأنَّه مجرد معلومات غير مذعن بها، بل هو صورة علم وليس علماً حقيقياً، فمن يعلم بخطر محدق يمكنه التخلص منه بسهولة، لا بد وأن يفرّ منه ، فعدم فراره يكشف عن عدم تصديقه وإذعانه لما علمه - حتى إن كرّره في لسانه - فهو أشبه بلقلقة اللسان، وفي الحديث : العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا عنه ارتحل(2).

ص: 385


1- الكافي: ج1، ص19، وفي تفسير البرهان ج2، ص299 فما بعد.
2- الكافي: ج 1، ص 44.

وعن الإمام الصادق عليه السلام : الحكمة ضياء المعرفة، وميزان التقوى، وثمرة الصدق، وما أنعم اللَّه على عباده بنعمة أعظم وأنعم وأرفع وأجزل وأبهي من الحكمة للقلب(1).

ثم لعلّ الإتيان باية الحكمة في وسط آیات الإنفاق باعتبار أن معرفة حقيقة الإنفاق المقبول من المرفوض، والعمل طبق ذلك، وعدم الانسياق وراء تسويلات الشيطان في ذلك، والاطمئنان بوعد اللَّه تعالى في الإنفاق، كل ذلك من أجل مصاديق الحكمة، حيث يتوقف هذا الفهم والعمل به على العقل والفهم والإخلاص والإقدام بوضع الصدقة في مواضعها مما أمر اللَّه بها .

الخامس : قوله تعالى« وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»

إن كل خير هو إفاضة من اللَّه تعالى، ولكنه حكيم فيجعل ذلك الخير في مواضعه المناسبة، وحيث إن الحكمة من أعظم النعم حيث إنها جامعة السعادة الدارین باتباع الحقائق العلمية والعملية، فلذا تحتاج إلى المحلّ القابل لها، ولا يكون الإنسان قابلاً لها إلّا بمثابرته وحسن نیته وعمله ، فإن اللَّه تعالى أعطى لكل إنسان فطرة سليمة وعقلاً، ويبتدئه باللطف والرحمة، فإن استجاب لها وعمل على طبقها زاده اللَّه لطفاً، وإلا فإنَّه سبحانه لا يقطع عنه لطفه فجأة، بل يستمر في لطفه عسى أن يرعوي ويرجع إلى جادة الصواب، إلى أن لا يبقى في قلبه منفد للخير فحينذاك يطبع اللَّه على قلبه ويجعل غشاوة على سمعه وبصره نتيجة سوء سريرته ، ولذا قال تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ» و ولا تكون مشيئته اعتباطاً .

ص: 386


1- بحار الأنوار: ج 1، ص215.

ثم إن التعبير بالخير الكثير، لأن الخير قد يكون قليلاً زائلاً كزينة الحياة الدنيا ، تُعار أياماً ثم تسترد العارية، وقد يكون خيراً دائماً بل في نمو وزيادة فهذا هو الخير الكثير، ومن المعلوم أن الحكمة توجب سعادة الدارين، فهي سبب الخير الدائم كما بيّناه آنفاً، قال تعالى «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ »(1).

السادس: قوله تعالى :«وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» .

(التذكر) هو الاتعاظ، وأصله الالتفات إلى الشيء المنسي أو المغفول عنه، وذلك لأن اللَّه أودع جملة من الحقائق في فطرة الإنسان وعقله، لكن قد يغفل عنها أو ينساها بسبب سوء التربية أو الانغماس في الشهوات والملذات، وهذا قد لا ينفع معه الوعظ والتذكير كما قال وقال « فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ »(2)، وإنما ينفع التذكر لمن كان ذا لب أي عقل خالص عن شوائب الأوهام والهوى، قال أمير المؤمنین عليه السلام : بلی و اللَّه سمعوها ووعوها ولكن حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها(3).

السابع : قوله تعالى«وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ...»الآية .

هذه الآية تتضمن وعداً وعيداً ، وهي كالتتمة للآيات السابقة التي بيّنت أقسام المصّدّقين من المخلصين والمرائين والمنّانين والمؤذين.

أما الوعد: فقوله«وَمَا أَنْفَقْتُمْ »إلى قوله « فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ»، فهو سبحانه يعلمه فلا يضيّع هذا العمل. بل يجازيه بأحسن الجزاء .

ص: 387


1- سورة القصص، الآية: 60.
2- سورة الحديد، الآية: 16.
3- نهج البلاغة: الخطبة رقم 3.

وأما الوعيد: فقوله «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ»، فهم يظلمون أنفسهم بالمعصية أو بإبطال عملهم، فأولئك محسنون لأنفسهم، وهؤلاء ظالمون لها.

وقيل: إن صدر الآية عام أي ما أنفقتم من نفقة بحق أو باطل بإخلاص أو ریاء فإن اللَّه يعلمه فلا تختلط عنده النوايا والأعمال.

لكن هذا يستلزم أن يكون صدر الآية عامة بلا تبشير، وآخر الآية تهديد، مع أن الأنسب أن يجتمع الأمرين بأن يكون صدرها تبشیر، ورأسها - أي تتمتها - تهديد.

ثم إن الإتيان بالنذر في وسط آیات الإنفاق، لأجل أن الإنفاق قد يجب بالنذر، فإن وجوب الشيء قد يكون بتشريع من اللَّه مباشرة بجعل حق واجب في المال كالخمس والزكاة ونحوهما، وقد يكون أصل العمل مستحباً لكنه تعالى أذن للإنسان بأن يفرضه على نفسه ويكون ذلك بالنذر ونحوه، فمن نذر مساعدة فقير وجب عليه الوفاء بذلك، فيكون حاصل المعني: إن ما دعاكم اللَّه إليه أو ما أوجبتموه على أنفسكم فإن اللَّه يعلمه فيجازيكم عليه .

ص: 388

خامساً: كيفية الإنفاق

الآيتان 271 - 272

«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)»«لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)» .

271 - «إِنْ تُبْدُوا »تظهروا «الصَّدَقَاتِ » في الصدقات الواجبة بدفعها في العلن «فَنِعِمَّا هِيَ » أي نِعم الشيء تلك الصدقة، لأن فيها الخير من اقتداء الناس ودفع تهمة البخل وغيرها من الفوائد، «وَإِنْ تُخْفُوهَا »في الصدقات المستحبة «وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ»بأن تصيبوا في مصرفها « فَهُوَ» الإخفاء « خَيْرٌ لَكُمْ »أي أحسن لأنَّه أقرب إلى قصد القربة وأبعد عن الرياء، «وَيُكَفِّرُ » اللَّه بسبب صدقة السر أو مطلق الصدقة «عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ » أي بعضها، «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ »فيعلم نواياكم، وعلى حسبها يكون ثواب العمل.

272 - إن تكليف الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم و هو الإبلاغ وتطبيق الشرع في الظاهر، وأما كيفية نيتهم - من الإخلاص أو غيره - فخارج مهمّته، ف-«لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ » بأن ينفذ الإيمان في قلوبهم ليتصدقوا .

ص: 389

بإخلاص «وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي » إلى الإيمان والعمل الخالص «مَنْ يَشَاءُ »ممن كان قابلا للهداية بحسن عمله وسريرته، فإذا هداكم اللَّه إلى العمل الخالص فإن نفعه يعود إليكم، «وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ »أي نفعه عائد إليكم، لا إلى المتصدق عليهم فإن نفعهم مادي زائل ونفعكم بالثواب الباقي، فلماذا عدم الإخلاص أو المن والإيذاء المبطلة للعمل؟ «وَمَا تُنْفِقُونَ » الواو للحال أي ثوابه عائد إليكم حال کونكم لا تنفقون «إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ » أي طلباً المرضاته تعالى، «وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ»يرجع إليكم في الآخرة بثوابه، فلا عذر في ترك الإنفاق وفي ترك أحسنه، « وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ » لا تُنقصون من الثواب ، بل تأخذونه وافياً كاملاً.

بحوث

الأول : قوله تعالى«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ».

(الصدقة) ما يُصدَّق الإنسانُ به اللَّه تعالى سواء كان في مال أو غيره ، وفي الحديث : كل معروف صدقة (1)وفي آخر: إماطتك الأذى عن الطريق صدقة(2)، ولكن شاع استعمالها في دفع المال على وجه الثواب من غير إرادة الجزاء والشكور من المتصدَّق عليه.

وهذا المقطع وإن كان مطلقاً في الصدقات الواجبة وفي النوافل، إلّا

ص: 390


1- الكافي: ج 4، ص26.
2- بحار الأنوار: ج 72، ص50.

أن التدبر التام في كل الآية يدل على أن المراد هو خصوص الصدقة الواجبة من الزكاة، حيث إنه تعالى لم يبيّن المصرَف، بل مدحها بشكل مطلق عكس الصدقة الخفية حيث بیّن مصرفها فقال «وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ»

وذلك لأن الصدقة الواجبة تسلّم إلى الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم وإلى ولاة الأمر من بعده وهم يصرفونها في مصارفها وهي مصارف كثيرة لا تختص بالفقراء، كما قال تعالى«إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ...» (1)الآية . فتكليف دافع الصدقة ينحصر في تسليمها إلى الرسول وولاة الأمر من بعده، مضافاً إلى أن تسليمها إليهم لا يكون إلّا علناً عادة لكونهم في مقرّ إدارة الحكم .

وأما الصدقة المستحبة فصاحب المال يسلّمها مباشرة، ولا يكون مصرفها إلّا الفقراء عادة، فلذا ينبغي عليه التحرّي لتقع تلك الصدقة في محلّها ، بأن يكون المتصدَّق عليه محتاجاً.

نعم هنا شيء آخر وهو عدم رد السائل وعدم لزوم التفحص حوله، وهذا يختلف عن الابتدار بدفع الصدقة حيث الأفضل التحري عن الفقراء لأجلها .

وهذا المعنى هو ما دلَّت عليه الروايات أيضاً، فعن الإمام الباقر علیه السلام في قوله تعالى «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ »؟ قال: يعني الزك-اة المفروضة، قلت : «وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ» قال : يعني النافلة إنهم يستحبون إظهار الفرائض وكتمان النوافل(2) .

ص: 391


1- سورة التوبة، الآية: 60 .
2- الكافي ج 4، ص60، وراجع سائر الروايات في البرهان ج2، ص301.

وإنما كان الإعلان في الفرائض أفضل، لأن المجتمع الإيماني يقوم بظهور الحق والصلاح فيه، فلذا كثرت العبادات الجمعية، فالصلاة الواجبة يستحب إقامتها جماعة، وصلاة الجمعة لا تصح إلّا جماعة، فإن تمييز المجتمع المؤمن عن غيره إنما هو بالمظاهر، وعندما تكون العبادة عامة يؤديها الجميع فإنَّها تكون أبعد عن الرياء لاستواء الجميع فيها . وأما النوافل فإن الغرض منها هو التقرب إليه تعالى مع عدم إلزام الناس بها، لذا قد يتركها غالب الناس، فيكون العمل بها في معرض الرياء والسمعة وسائر الآفات والمبطلات، لذا كان إخفاؤها أفضل لتكون أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص، كما يترتب على إخفائها صون ماء وجه الفقير بل قبولهم لها فإن بعض الفقراء يأنفون عن قبول الصدقات العلنيّة لكنهم يقبلونها إذا لم تكن ظاهرة .

الثاني : قوله تعالى «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ...»الآية .

أي بسبب الصدقة - سراً وعلناً - نكفر عنكم بعض سيئاتكم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، وحيث تختلف درجات الحسنات والسيئات ، فلا تكون كل حسنة كفارة لكل سيئة، بل لا بد من التناسب بينهما ، كما قال تعالى « وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ »(1)وقال: « أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ » (2).

فالصدقة تكفّر بعض الذنوب، ولذا قال «وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ

ص: 392


1- سورة المائدة، الآية: 89.
2- سورة المائدة، الآية: 95.

سَيِّئَاتِكُمْ »، وأما تكفير كل الذنوب فبالإيمان والعمل الصالح، كما قال : «يوَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ »(1).

الثالث : قوله تعالى «لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ » الآية .

حيث كان الكلام حول الإنفاق المقبول من غيره مع اختلاف نيّات المنفقين، تمَّ في هذه الآية بيان أن على الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ظاهر الأمر، فتكليفه هو الإبلاغ بتلاوة الآيات وتزكية النفوس وتعليم الكتاب والحكمة وحفظ ظاهر الشرع بأن يمنع الناس عن المجاهرة بالمعاصي وترك الواجبات، قال تعالى «فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ » (2)، وقال «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ »«لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ »(3)، وقال «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ »(4)، وقال «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ»(5)، وقال «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ »(6). هذه هي من وظائف الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، أما اهتداؤهم واقعاً وخلوص نياتهم فليس من تكليفه بل هو من اللَّه تعالى قال سبحانه «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ »(7)ولعلّ ذكر الآية هنا هو نوع تسلية للرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، حيث كان يكثر المنافقون حوله وكانوا يخالفون أوامره، فكان يرى عدم إنفاقهم أو مَنَّهم وأذاهم أو اختيارهم الخبيث أو عدم إخلاصهم في نيّاتهم، مع حرصه

ص: 393


1- سورة التغابن، الآية: 9.
2- سورة الرعد، الآية: 40.
3- الغاشية، الآية: 22،21.
4- سورة يونس، الآية: 99.
5- سورة الأعراف، الآية: 157.
6- سورة المائدة، الآية: 49.
7- سورة القصص، الآية: 56.

على هدايتهم وبذل وسعه إلى تقريبهم إلى الحق، فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ »(1)، وقوله «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ »(2).

الرابع : قوله تعالى « وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ . . .» الآية .

هذا المقطع إلى آخر الآية يتضمن ثلاثة أمور - بلا تكرار تأكيداً -.

1 - الترغيب في الإنفاق ببيان أن نفعه عائد إلى أنفسكم، فقال«وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ » فلماذا إبطاله بالرياء أو المنّ والأذى أو بقصد الرديء؟ كما أن فيه بيان أن الإنفاق ليس للرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم ، فالزكاة الواجبة تُعطى له لا لنفسه بل ليصرفها في الموارد المذكورة في آية الزكاة، وفي ذلك رقيّ المجتمع بما يعود نفعه إلى الجميع بما فيهم المتصدّقين .

2 - بيان اشتراط نفع الإنفاق بكونه لوجه الله، فقوله «وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ » جملة حالية أي فلأنفسكم في حال كونكم مخلصين لله، فهذه النفقة هي التي يعود نفعها إليكم، وأما لو لم تكن خالصة فلا نفع فيها بل قد يكون فيها الوبال والويل .

وبهذا يتضح سبب عدم الجزم بحذف النون في هذا المقطع، عكس المقطع السابق واللاحق، فإنَّهما جُزِما بحذف النون وذلك لمعنى الشرط، أما هذا المقطع فهو جملة خبرية حالية لبيان اشتراط الإنفاق بقصد القربة .

وقيل: المراد بهذا المقطع أيضاً الشرط إلّا أنَّه أخرجه بصورة

ص: 394


1- سورة فاطر، الآية: 8.
2- سورة النحل، الآية: 127.

الإخبار تفنناً في العبارة لئلا تترادف ثلاث جمل شرطية، فيكون المعنى إذا أنفقتم فابتغوا وجه اللَّه تعالى .

3 - بيان رجوع نفس المال إلى المتصدق، فيكون فرقه عن المقطع الأول أن ذاك في الترغيب وبيان أن النفع عائد إلى المُنفِق ، وهذا بيان لكيفية عود النفع وأنَّه برجوع نفس المال كاملاً غير منقوص بجزائه في الآخرة بل في الدنيا أيضاً بتعويضه وإخلافه .

الخامس : قوله تعالى « ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ».

أي طلباً لمرضاته تعالى، والمعنى الحقيقي للوجه هو المُحيّا، وهو أشرف ما يُقابل به، ولذا تم إطلاقه مجازاً على الشيء الشريف، فيقال : وجه الرأي مثلاً، وأما وجه اللَّه تعالى فهو ذاته، أطلق عليها الوجه لشرفها وعلوها وتعاليها، وكذلك يطلق وجه اللَّه على دينه وعلى أوليائه، لأن الوجه هو ما يُواجه ويُقابل به الشيء، والتوجّه إلى اللَّه يكون عبر دينه وأوليائه، قال تعالى :« كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ »(1)أي ذاته ودينه وأولياؤه، كما ورد ذلك في روايات كثيرة(2)، ثم لا معنى لإرادة ذات اللَّه تعالى إلّا بإرادة مرضاته، قال تعالى «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ »(3).

سادساً: مصرف الإنفاق

الآيتان 273 - 274

«لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)»«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)»

ص: 395


1- سورة القصص، الآية: 88.
2- راجع شرح أصول الكافي للمؤلف.
3- سورة الكهف، الآية: 28.

273 -وأفضل الإنفاق هو «لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا »ضُيّق عليهم «فِي سَبِيلِ اللَّهِ » إما بمصادرة المشركين أموالهم لإيمانهم، أو لزمانة أصابتهم في الجهاد، أو لانشغالهم بفريضة أهم من الكسب، وأمثال ذلك، «لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ» مشياً فيها بسفر التجارة ونحوها،« يَحْسَبُهُمُ »يظنّهم «الْجَاهِلُ» بحالهم لعدم تفرّسه وتوسمه «أَغْنِيَاءَ » مستغنين غير محتاجين «مِنَ التَّعَفُّفِ » بسبب عفّتهم في ترك السؤال والتظاهر بالفقر، «تَعْرِفُهُمْ»أنت يا رسول اللَّه لتفرسّك وتوسّمك «بِسِيمَاهُمْ » فعلائم الفقر بادية عليهم رغم محاولتهم كتمانها، «لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا » أي بإلحاح، والمعنى لا يسألون أصلاً كي يكون إلحافاً،«وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ

ص: 396

خَيْرٍ » إنفاق أيِّ شيء يطلق عليه الخير «فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ »فيجازيكم عليه .

274- ولما بدأت آيات الإنفاق بالترغيب إليه بذكر ثوابه (الآية261)، ختمت هذه الآيات بالترغيب وذكر الثواب فقال تعالى : «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ » في جميع الحالات: «بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً »فهم حريصون على الخير في كل الحالات ولا يؤخرونه ولا يسوّفون فيه «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ»من مکروه متوقع مستقبلاً « وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» على ما فاتهم في الماضي، نزلت الآية في أمير المؤمنين عليه السلام .

بحوث

الأول: تضمنت الآية أفضل مصارف الإنفاق المستحب، وهو ما يستجمع الأمور التالية : الفقر، والحصر في سبيل الله، وعدم القدرة على الكسب، والتعفف عن السؤال .

فهذا قوي الدين رفيع النفس، وقد أوذي في الله، أو حبس نفسه على سبيل اللَّه فلم يستطع التجارة، لكنه في الوقت نفسه لا يبتذل نفسه بل صانها بالتعفف وعدم السؤال، فمن أحسن من هذا في الإنفاق له، فهو مجمع للفضائل، ومن أعلاها أن فضائله سببت فقره وذلك لدينه وعلو نفسه .

و لعلّ تخصيص هؤلاء بالذكر - مضافاً إلى دينهم وعلوّ نفسهم - هو أن الناس عادة لا يتفحصون عن المحتاجين الواقعيين وإنما يتصدقون

ص: 397

على السائلين وخاصة الملحفين منهم -تخلصاً منهم عادة- وهؤلاء يحصلون على ما يحتاجون بل وزيادة عليه بسبب سؤالهم، فيبقى أولئك في ضنك وضيق، لذا حثّ اللَّه تعالى على الفحص عنهم والإنفاق عليهم .

فقوله «لِلْفُقَرَاءِ»متعلق بأمر مقدّر يدل عليه ما مضى من الآيات ، مثل : الإنفاق للفقراء، أو صدقاتكم لهم، أو اعمدوا في إنفاقكم لهم ونحو ذلك .

الثاني : قوله تعالى «الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ».

معنى الآية عام لكل نوع منع ناشيء عن سبيل الله، فيشمل من طرده أهله وصادروا أمواله لإيمانه كبعض أهل الصفة، وكذا من جرح في الجهاد فصار معوّقاً لا يتمكن من الكسب، وكذا من هاجر في سبيل اللَّه ثم لم يجد عملاً ولا رأس مال ليتكسب بهما، وكذا من حبس نفسه للأهم کذهابه إلى الجهاد أو للتفقه في الدين، وغير ذلك، سواء كان الإحصار بسبب الغير أو هو حصر نفسه في سبيل اللَّه تعالى، فلا وجه لتخصيص الآية ببعض هذه الموارد .

وأما ما في بعض التفاسير من تفسيرها بمن شغلته العبادة عن الكسب، فغير صحيح إذ تضافرت الأخبار بالنهي عن ترك الكسب للانشغال بالعبادة، فإن ذلك سبب صيرورته عالة على المجتمع، ولا خير في عبادة تورث فقراً وعالة وكلّاً على الناس، بل لا بد من إعطاء الروح نصيبها والجسم نصيبه، قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً »(1)، بل حتى لو كان للإنسان ما يستغني به

ص: 398


1- سورة البقرة، الآية: 201.

فلا ينبغي له ترك الكسب، وفي الحديث : أُغدُ إلى عزك(1)، وفي آخر لمن ترك الكسب استغناء بما عنده : إذاً لذهب ثُلثَا عقله(2)، إلّا إذا ران كانت الطاعة أهم كالجهاد في سبيله تعالى أو التفقه في الدين ونحوهما من الأمور المهمة.

وبذلك يتضح أن قوله «لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ »له مصاديق، فمنها : عدم القدرة والعجز للزمانة أو عدم رأس المال، ومنها : عدم الاستطاعة اختياراً لإلزام أنفسهم بما هو أهم، كقولك: لا أستطيع ترك والدي المريض، تعني أنك قد ألزمت نفسك خدمته .

الثالث : قوله تعالى«يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ»الآية .

أي الجاهل بحالهم وبفقرهم، وإنما عبر عنه ب(الجاهل) وهو صفة ذم باعتبار أن المؤمن كيّس فطن وله فراسة وتوسّم فلا يكون جاهلاً بحالهم، ولذا قابله بقوله «تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ». وقال سبحانه «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)»(3) أي الذين يعرفون الأشياء بعلائمها، و«السيماء» و«التوسم» من مادة واحدة، وهؤلاء لهم فراسة وفطنة، وفي الحديث : اتقوا فراسة المؤمن فإنَّه ينظر بنور الله(4)

وإنما يحسبهم الجاهل أغنياء لتعوّد الناس على سؤال الفقراء، فمن لم يسأل زعموه مستغنياً .

و(العفة) الكف عما لا ينبغي(5)، وعُرِّفت في الأخلاق : بأنَّها هي

ص: 399


1- الكافي: ج5، ص149.
2- تهذيب الأحكام: ج7، ص 4.
3- سورة الحجر، الآية: 75.
4- الكافي: ج1، ص218.
5- مقاييس اللغة: ص621.

الخوف عن الظهور بمظهر النقص، ولذا غلب استعمالها في الكف عن شهوات البطن والفرج، لأنَّها أساس غالب الرذائل، فالمعنى في هذه الآية أنَّهم يمنعون أنفسهم من السؤال لئلا يظهروا بمظهر الذل والنقص والهوان وقوله: «تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ»أي بعلائم الفقر، فهؤلاء يحاولون كتمان فقرهم بعدم السؤال، لكن بعض علائم الفقر غير اختيارية، كالبؤس في الوجه عکس «نظرة النعيم» في المتنعمين، وكالرثاثة في الملابس، ونحو ذلك

الرابع : قوله تعالى «لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا»

«الإلحاف» هو شدة الإلحاح، والمقصود: عدم السؤال أصلاً فلا يكون هناك إلحاف، من باب السالبة بانتفاء الموضوع، بقرينة قوله تعالى « يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» . فلو سألوا ولو لمرة واحدة لعرفهم الناس بالفقر، ولعلّ سبب هكذا تعبير هو أن من تعلّم السؤال لازمه الإلحاف أيضاً، إذ صون ماء الوجه سبب عدم الإقدام على السؤال وعلى عدم الإلحاف، فمن أراق ماء وجهه بالسؤال تهون عليه نفسه فلا يمانع عن الإلحاف، بل إيذاء المسؤول عنه، بل وشتمه إن لم يعطه شيئاً أو إعطاء دون ما يتوقع .

ثم لا يخفى أن السؤال عن حاجة ليس بحرام وخاصة السؤال من ذوي المروءات وكرام الناس، وقد يجب إن اضطر إليه أو توقفت عليه حياته، لكن كيفية السؤال لها دخل كبير في إخراجه عن المنقصة، كأن يطلب قرضاً، أو يطلب من حقه من الزكاة أو الخمس، أو يطلب من إمام المسلمين، أو من الكرام بطريقة لبقة .

وأما السؤال من غير حاجة فهو من المحرّمات كما دلّت عليه جملة

ص: 400

من الروايات، فعن الإمام الصادق عليه السلام ما من عبد يسأل من غير حاجة فيموت حتى يحوجه اللَّه إليها ويثبت اللَّه له بها النار(1).

بل السؤال من غير حاجة من أسباب الفقر، فعن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم أنَّه قال: من فتح على نفسه باب مسألة فتح اللَّه عليه باب فقر(2)، وهذا مضافاً إلى كونه أمراً غيبياً، فإنَّه أيضاً أمر طبيعي فإن من تعلّم السؤال يتكاسل عن طلب الرزق والعمل وذلك يؤدي به إلى الفقر حقيقة.

الخامس: قوله تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. . . »الآية .

ابتدأت آيات الإنفاق بالترغيب إليه ببيان الثواب وختمت ببيان الثواب أيضاً، وذلك نهاية في الترغيب والتشويق إليه، والمعنى أن هؤلاء ينفقون في جميع الأزمان، ولا يؤخرون الإنفاق لأيِّ سبب، حتى نتى التأخير لوقت أفضل، فإن الحاجة قد تكون ماسة فالتعجيل خير من انتظار ظرف آخر، فهؤلاء كلّما نزلت بهم حاجة أو شعروا بها عجلوا قضاءها، وفي الأحاديث ترغيب إلى تعجيلها لتكون أهنأ وأبعد عن تسويلات الشيطان بتركها .

ومعنى هذه الآية عام وإن كان شأن نزولها في أمير المؤمنين الإمام علي علیه السلام ، كما روته الخاصة والعامة في مستفيض الروايات(3)، فإنَّه علیه السلام كانت له دراهم أربع أنفقها في الحالات الأربع، والمعنى ينفقون بالليل سواء كان سراً أم علانية، وينفقون في النهار كذلك سراً وعلانية .

ص: 401


1- الكافي: ج 4، ص19.
2- المصدر نفسه.
3- راجع البرهان: ج2، ص303 فما بعد.

الموضوع الثاني حول الربا

الآيات 275 - 277

«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)»«يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)»«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)»

كان ما مضى في الصدقة وهي إعطاء المال، ومن هذه الآيات يكون الكلام حول الربا وهو أخذ المال فقال تعالى :

275 - «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ » يأخذون «الرِّبَا »وهو استرجاع أو أخذ ما أعطوه مع زيادة «لَا يَقُومُونَ»في أمورهم باستواء واعتدال ، بل لا يكون قيامهم « إِلَّا كَمَا يَقُومُ » المصروع «الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ »و«الخبط الضرب بغير استواء«الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ » أي مس الجنون، فكما أن المصروع لا اتزان في حركاته ، كذلك لا اتّزان في حركات المرابي، حيث إن عمله خلاف الفطرة والعقل، فهو لا يسير

ص: 402

على الأسلوب الصحيح في الحياة، «ذَلِكَ » التخبط في المرابين «بِأَنَّهُمْ »أي بسبب ضلال في الفكر وقياس باطل حيث «قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا »فلو كان الربا حراماً لكان البيع مثله، لكن البيع حلال فالربا مثله ! حيث إنهما للاسترباح بالمال برضى الطرفين فما الفرق؟، لكن قولهم وقياسهم باطل «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ »لما فيه من الفوائد وقوام المعيشة «وَحَرَّمَ الرِّبَا»لما فيه من المضار وإبطال معيشة معطيه، « فَمَنْ جَاءَهُ » بلغه «مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ » بحرمة الربا «فَانْتَهَى» اتعظ واتبع النهي بأن كفّ عن الربا وتاب « فَلَهُ مَا سَلَفَ » لا يعاقب على ما مضى من أكله الربا «وَأَمْرُهُ» في العقوبة أو المغفرة وكذا في عدم الضمان « إِلَى اللَّهِ »لا إلى الناس، فلا حق لهم في مطالبته بما أخذه منهم بل الحكم الله، «وَمَنْ عَادَ»إلى الربا بعد بلوغ النهي إليه « فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ »ملازمون لها «هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ »فالربا يقتضي الخلود إلّا أن يغفر اللَّه له.

276 - هؤلاء يرابون لتزداد أموالهم ويمتنعون عن الصدقة خوفاً من نقصان أموالهم، لكن «يَمْحَقُ » يبطل «اللَّهُ الرِّبَا» فلا ينتفع المرابي بالزيادة بل تتحول إلى وبال عليه « وَيُرْبِي »ينمّي اللَّه «الصَّدَقَاتِ »، والأهم من المنفعة والضرر المادي هو رضا اللَّه وسخطه، فهو ساخط على المرابي «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ»كثير الكفر يضم كفراً إلى كفر « أَثِيمٍ » متمادٍ في الإثم، والمرابي من هؤلاء فهو يكفر بالنعم كفراً عملياً قد يؤدي به إلى الكفر الاعتقادي ويأثم بفعل الربا .

ص: 403

277 - وأما المتصدق ف-«إِنَّ» اللَّه راضٍ عنه، لأنَّه من « الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ » خصّهما بالذكر مع أنَّهما من الصالحات لأهميتهما، فهؤلاء «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ »محفوظ عنده ولا يضيع وهو أجر عظيم يليق بكرم الله، «وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ »من مكروه - متوقع كالفقر والعذاب - ،«وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »على ما فاتهم في الماضي .

بحوث

الأول: سياق الآيات هو بيان أن الربا يقابل الصدقة، فهناك بعض الناس يساعد الآخرين بإعطائهم المال بلا عوض تصدّقاً عليهم، وآخر يبتزّ الناس فيستغل حاجتهم فيأخذ منهم ولكن في صورة إعطاء - حيث يعطي المال ثم يسترجعه بزيادة -، وكلما كانت حاجتهم أكثر كانت الزيادة أكثر، أو إنها تتضاعف حين حدوث حاجة جديدة، كما في تأخير الأداء بزيادة إضافية، فجاءت الآيات لبيان أن الربا يضادّ الصدقة في كل شيء، فالصدقة خير وتوجب التآلف والتضامن الاجتماعي وتُنمي المجتمع وتسمو بالأخلاق وترفع الحاجات، عكس الربا الذي يوجب التنافر والاستغلال ويزيد في الرذائل ويزيد الحاجة بدلاً عن رفعها ونحو ذلك مما سنذكره في البحوث القادمة .

الثاني : يظهر من الآيات القرآنية أن تحريم الربا كان في مراحل .

ففي البداية بيان عدم إنمائه عند اللَّه حيث قال سبحانه «وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ

ص: 404

رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ »(1)

ثم تشريع تحريمه وبيان أنَّه كان محرماً في الشرائع السابقة أيضاً، قال تعالى«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(2)، وقال حول اليهود «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ »(3).

ثم لما تهاون البعض فيه نزلت هذه الآيات تغليظاً للحرمة وتشديداً للعقوبة مع بيان بعض أحكام الربا والدَّين .

ولعلّ سبب ذلك التدرج هو أن الربا كان كالخمر مستشرياً في المجتمع الجاهلي بحيث لم يخل منه غالب الناس، فكان يصعب على الطرفين - المرابين وآخذي الربا - الاستغناء عنه، مضافاً إلى وجود أموال كثيرة في ذمة الناس يطالبون برباها مما يصعب عليهم إسقاطه .

الثالث : قوله تعالى« لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ...»الآية .

الظاهر أن هذا هو حالهم في الدنيا، وأما حالهم في الآخرة فالآية ساكتة عنها بل بيّنتها الروايات، فهذا التشبيه لأن المرابي زائغ عن الحق ينسجم مع نظام التكوين والتشريع، فأفعاله وإن كانت اختيارية لكنها تنشأ فكر منحرف وتصور باطل، فيتخبط في أعماله، فيكون شبيهاً بالمصروع الذي لا توازن في حركاته وسكناته، فالمرابي يمدّ عينيه إلى أموال الناس زيغاً، وكلامه كلّه يدور حول ما يتعلّق بالربا، وإذا أراد

ص: 405


1- سورة الروم، الآية: 39.
2- سورة آل عمران، الآية: 130.
3- سورة النساء، الآية: 161.

التوبة وترك الربا انجرف مرّة أخرى إليه فسقط فيها، کالمصروع الذي تدور عيناه ويخرج الزبد من فهمه ولا توازن لجسده فيسقط كلّما قام.

والحاصل أن وجه التشبيه هو أن المرابي خارج عن الصراط المستقيم، منحرف عن الأسلوب الصحيح في الحياة كالمصروع، فكان تشبيهاً لأمر معنوي بأمر مادي، وهو تشبيه بليغ يظهر بشاعة الربا بأوضح صورة، وبيان قبح المرابي، حيث إنه تشبيه للمرابي وليس تشبيهاً للربا ، وذلك زيادة في الاستبشاع، فقد يقال صدر قبیح عن إنسان معتدل، وقد يقال إن ذلك الإنسان بنفسه قبيح وهذا أبلغ في التصوير، فتأمل.

الرابع : قوله تعالى : « الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ » .

لا يخفى أن الأسباب كلّها هي بتقدير من اللَّه تعالى، فقد شاءت حكمته أن يخلق الكون في نظام متكامل متدرج، بأن يكون لكل شيء سبب أو أسباب، وقد تتوارد الأسباب المتعدّدة على شيء واحد، وقد تكون أسباب كثيرة طولية بأن يكون شيء مسبباً لشيء وهو سبب لشيء آخر، وبعض هذه الأسباب طبيعية، بمعنى كونها ضمن الانفعالات المادية يحسّها الإنسان بحواسه وتكون ضمن قدرته واختياره کعِلّية النارللإحراق والقتل للموت، وبعضها أسباب غيبية بمعنی عدم كونها مادية وعدم كونها ضمن محيط حواس الإنسان، وهذه هي الأسباب الحقيقية وهي مهيمنة على عالم المادة، فسبب الموت هو قبض الملك للروح بإذن اللَّه تعالى، والقتل إنما هو سبب ظاهري في طول هذا السبب الواقعي، وهكذا في كل الأسباب الطبيعية، قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا »(1)، فإمساکه تعالى هو السبب الحقيقي، والجاذبية

ص: 406


1- سورة فاطر، الآية: 41.

وسائر القوى الطبيعية أسباب ظاهرية، وقال سبحانه «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ»(1)، ف اللَّه يمسك الطيور عن الوقوع، لكن جعل أسباباً طبيعية ظاهرية كالريح والطاقة وكيفية خاصة في التصميم تتغلب على الجاذبية .

وهكذا التخبط من المس له أسباب ظاهرية قد يعرفها الأطباء لكن السبب الواقعي هو مس من الشيطان وهو إبليس وذريته أو المارد الخبيث من الجن، وكما أن تقدير قبض الروح يتزامن مع القتل مثلاًكذلك الشيطان يتزامن مع الأسباب الطبيعية .

سؤال: كيف أذن اللَّه للشيطان في إيذاء الإنسان، وهل هذا ينسجم مع العدل؟

الجواب : إن حكمة الامتحان والكد والعمل ونحوها كانت السبب في إمهال الشيطان ليُغوي، وإغواؤه أكثر ضرراً من إيذائه، فإن هذا ضرر في الجسم وذاك فيه خسران الدنيا والآخرة، وكما لم يمنع اللَّه الظالمين تكويناً من ظلمهم بالقتل والنهب والإضلال، وكما قدّر اللَّه تعالى الأمراض والأسقام والضراء والبأساء، وقدّر لها أسباباً، كذلك في مسّ الشيطان، فالجواب في كل هذه واحد .

وأما عدم سلطنة الشيطان على الإنسان كما قال « وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ »(2)فيراد السلطنة على الإغواء قهراً، فهو لا يستطيع أحد على الضلال وإنما غاية قدرته هي الإغواء بالدعوة إلى الشر، وأما سلطته على الضرر في الجسم أحياناً فذاك مما دلّ عليه جبر

ص: 407


1- سورة الملك، الآية: 19.
2- سورة إبراهيم، الآية: 22.

القرآن الكريم، قال تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ » (1).

الخامس : قوله تعالى « ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ...»الآية .

الظاهر أن « ذَلِكَ»إشارة إلى قوله « لَا يَقُومُونَ»، أي انحرافهم عن الاستواء في عملهم وعدم اهتدائهم إنما هو بسبب خلل في أفكارهم ومعتقداتهم، حيث يعتقدون بأن الربا كالبيع، فيه رضي الطرفينواسترباح لأحدهما!، وهذا منطق المرابين إلى يومنا هذا فيقولون البائع يعرض بضاعته للبيع مع زيادة في القيمة التي اشتراها بها والمشتري إنما هو محتاج إلى تلك البضاعة فيرضى بأخذها بزيادة، فكذلك الربا !

مع أن هذا قياس باطل، وذلك لأن الحاجة في البيع من الطرفين، فالبائع يحتاج إلى البيع بزيادة ليرتزق بها والمشتري يحتاج إلى البضاعة في معيشته، فصار تبادل احتياج باحتياج بلا استغلال من أحدهما للآخر، نعم لو تحوّل البيع إلى استغلال كما في الغش والاحتكار ونحوهما كان ممنوعاً، مضافاً إلى أن البيع هو طريق الرزق فكل بائع هو مشترٍ وكل مشتر هو بائع - عادة - وبذلك تدور الحياة ويرزق الناس بعضهم بعضاً .

وأما الربا فهو حاجة من طرف واحد- هو معطي الربا -يتمّ استغلالها من الطرف الآخر وهو المرابي، ثم الإمعان في الاستغلال بزيادة الأرباح كلّما عجز المقترض عن التسديد، مع ما يتضمن ذلك من سحق الكرامات وابتزاز المقترض وتهديده وسلبه سائر أمواله وعرضه، إلى آخر مساوي الربا .

ص: 408


1- سورة ص، الآية: 41.

والحاصل أن البيع هو أخذ شيء وإعطاء شيءٍ مقابله، والربا هو إعطاء شيءٍ، موقتاً ثم استرجاعه بنفسه مع أخذ زيادة فلم تكن هذه الزيادة في مقابل شيء حقيقي، وأما قولهم هي مقابل الزمان فهو أمر موهوم لا حقيقة له .

قال الوالد رضوان اللَّه عليه في التقريب : ويكفي أن نلمح إلى ضرر واحد هو أن معطي الربا إما ساقته الضرورة إلى الاقتراض كمرض أو نحوه مما أُلجأ للاقتراض برباء، فما أقبح أن يستغل الإنسان أخاه في مثل هذا الموقع مما يجدر به أن يساعده ويسعفه.

وإما اقترض للتجارة، وهذا لا يخلو من أحوال ثلاثة :

الأول: أن يخسر.

الثاني : أن لا يربح ولا يخسر، وما أقبح أن يأخذ صاحب المال زيادة بينما خسر العامل في الأول ولم يربح في الثاني.

والثالث: أن يربح، وقد قرر الإسلام المضاربة والاشتراك في المربح، فيما يجبر المقترض أن يدفع بمقدار خاص إلى المقرض، بينما قد ربح بمقداره وقد ربح أقل وقد ربح أكثر (1).

كما أن الربا يزيد حالة الجشع وضمور العواطف الإنسانية النبيلة، فعن الإمام الصادق عليه السلام : إنما حرم اللَّه الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف (2).

السادس : قوله تعالى «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا » .

هذا ردّ لقولهم بإنكار التسوية وإبطال القياس، ويكفي هذا الكلام في

ص: 409


1- تقريب القرآن: ج1، ص299 – 297.
2- الكافي: ج5،ص146.

ردّ المرابي إذا كان مسلماً فيقال له لا بد لك في أن تتعبّد بما أمرك ونهاك اللَّه تعالى .

وأما المرابي غير المسلم، فما هو فيه من الكفر والشرك أشد من ارتكاب موبقة الربا، فيمكن منعه بالقهر امتثالاً لأمر اللَّه تعالى، ويمكن أن يترك هو وشأنه إذا أخذ الربا من أهل مِلّته غير مجاهر به علی حسب قاعدة ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، فحينئذٍ يقال له نحن المسلمون نمنعك من أخذ الربا من المسلم أو من المجاهرة بأخذه من أهل ملّتك لأنا ملتزمون بأمر اللَّه وهو تعالى قد حرّم الربا .

ويحتمل أن يكون المخاطب بهذه بالآيات المسلمين فقط بقرينة قوله «فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى »، فانتهى، حيث إن الانتهاء بعد الموعظة هي فعل المسلم، أما غير المسلم فلا ينتهي بالموعظة إلّا بعد إسلامه، إذ من غير المتعارف الالتزام بالفرع مع إنكار الأصل .

ويحتمل أن تكون الآية في مقام التعليل، باعتبار أن عامة الناس يؤمنون باللَّه تعالى - إلّا القليل من الملحدين - ويعترفون بحكمته وسلطته ، فما دام قد حرّم شيئاً وأحلّ شيئاً فلا يخلو ذلك عن حكمة، فتأمل .

ثم لا يخفى أن الربا قسمان: قرضي ومعاملي .

أما الربا في القرض : فهو أن يقرضه مالاً بأجل ليرجعه بزيادة، وهذا النوع هو غالب أقسام الربا، ومضارّه بيّنة واضحة .

وأما الربا في المعاملة : فهو تبديل الشيء بما يماثله مع زيادة سواء في النقد أم النسيئة، كأن يعطيه كيلو من حنطة بكيلو ونصف، فإن كان في النسيئة فهو أشبه بالربا القرضي وفيه مضارّه، وإن كان نقداً فيكون ذلك

ص: 410

عادة مع تفاوت البضاعتين في الجودة والرداءة، فيعطي كيلو من حنطة جيدة مقابل كيلو ونصف من حنطة رديئة - مثلاً -، وهذا يكون في المكيل والموزون دون المعدود، ولعلّ سبب تحريمه هو استغلال فقر الفقراء، فإنَّهم عادة يأخذون الرديء لكونه أرخص فيعطون محاصيلهم الجيدة ليأخذوا الرديئة بوزن أكثر لتطول استفادتهم منها، ولعلّ هذا يفتح باب غبن لهم واستغلال لفقرهم.

السابع : قوله تعالى «فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...»الآية .

(الموعظة) هي الكلام الذي يرق له القلب، والمراد من بلغه حکم تحريم الربا، إذ أحكام اللَّه تعالى من مواعظه، (فانتهى) بأن تاب مما كان فيه، وذلك باتباع النهي والامتناع عن أكل الربا .

ثم إن الظاهر أن الآية بصدد بيان حكم الربا في الحالات الثلاث :

قبل الإسلام، وقبل تشريع تحريمه، وبعد تشريع حكمه .

1. أما قبل الإسلام وقبل تشريع تحريمه فحكمه هو: «فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ»، فالمال له، وأمر عقابه إلى اللَّه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، لكنه لرحمته ولطفه يغفر له، فكل من أكل الربا في الجاهلية أو في الإسلام قبل تحريمه فلا شيء عليه فلا يُطالب بالربا الذي أخذه، حتى وإن كانت عين المال موجودة، ولذا قال تعالى : «فَلَهُ مَا سَلَفَ » أي ما أخذه في الماضي من المال الربوي، فقوله «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ» يراد به أمره من حيث العقاب والعفو، نظير قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ »(1)، فالمعنى لا يحق لأحد أن يعاقبهم علی رباهم في الجاهلية أو قبل تشريع حكمه، بأن يسترد منهم

ص: 411


1- سورة الأنعام، الآية: 159.

المال أو يُغرّمهم أو يطعن فيهم - مثلاً - بل الأمر إلى الله، وكان من أمره فيهم هو أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فلا يعاقب على ما ارتكبه في كفره ، كما لا يعاقب على ما فعله قبل التحريم .

2 - وأما بعد الإسلام والعلم بالحكم فقوله «وَمَنْ عَادَ . . . »الآية، حيث تضمنت الآية العقوبة باستحقاق الخلود في النار مقابل القسم الأول الذي أمره إلى الله، كما تضمنت حكم الربا - تكليفاً ووضعاً - مقابل القسم الأول الذي له ما سلف، فقال «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا » حيث يشمل المحق التشريعي وذلك بانتزاع الربا من المرابي وإرجاعه إلى صاحبه .

الثامن: قوله تعالى «وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ »الآية .

أي عاد إلى الربا بعد الاسلام وبعد تحريمه، فالمعنى فمن جاءه وعظة من ربه فلم ينته بل عاد إلى الربا الذي كان فيه قبل الإسلام وقبل التحريم، فهذا يستحق الخلود في النار، إلّا أن يلطف اللَّه به فيغفر له ذنبه كما قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ »(1) ففي التبيين : لا يخفى أن الخلود طبيعي أي ما تقتضيه طبيعة الربا فلا يكون علة تامة وإن نالته الشفاعة بسبب إسلامه وما أشبه(2) .

وبذلك يتضح أن لا وجه لما ذكرته المعتزلة من الاستدلال بهذه الآية على ما زعموه من خلود مرتكبي الكبائر في النار حتى وإن كانوا مؤمنين .

وكذا لا وجه لما ذكره جملة من المفسرين بأن المراد من استحلّ

ص: 412


1- سورة النساء، الآية: 48.
2- تبيين القرآن: ص58.

الربا فأنكر ضرورياً من ضروريات الدين عامداً عالماً، وذلك كفر صريح يخلد صاحبه في النار.

وذلك لأن اللازم ملاحظة الآيات القرآنية كلّها عامّها وخاصّها، ناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وهذه الآية وإن دلت على خلود المرابي في النار إلّا أن الآية الأخرى دلت على أن اللَّه يغفر لمن يشاء إذا لم يكن مشركاً، وليس في هذه الآية دلالة على عوده مستحلاًّ، بل حتى لو كان مستحلًّا فإن ذلك لا يوجب كفره إلّا إذا رجع إلى تكذيب اللَّه تعالى أو رسوله صلی اللَّه علیه وآله ، هذا مضافاً إلى الروايات الكثيرة التي وردت في غفران الذنوب وفي الخالدين في النار، حيث دلت على أن من صحت عقيدته لا يخلد في النار وإن عوقب على ما ارتكبه من الكبائر .

فمقتضی مجموع الآيات والروايات أن بعض الذنوب - ومنها الربا - تكون مقتضية للخلود في النار إلّا أن يحدث مانع عن الخلود كغفرانه تعالى، فليتأمل.

التاسع : قوله تعالى «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا » .

(المحق) هو نقصان الشيء إلى حدّ هلاکه وبطلانه ، ومحقه تعالی للربا تشريعي وتكويني وغيبي.

1- أما التشريعي فبحكمه تعالی ببطلان الربا، وبقائه على ملك مالكه، وعدم ملك المرابي له.

2- ومحق تکویني طبيعي: لأن الربا من أهم أسباب الحروب والثورات، حيث يتكدس المال في جهة ويخلو من جيوب الفقراء، وذلك يسبب سخطهم وغضبهم، ويتراكم ذلك إلى أن يتحول إلى حروب

ص: 413

وثورات تبيد الأخضر واليابس وتحرق الأموال التي تكدست بسبب الربا ونحوه، بل قد تذهب بالأصل والربا معاً، بل قد يوجب الربا أزمات اقتصادية في الدول الفقيرة بحيث تعجز عن تسديد أصل المال فضلاً عن رباه -المعبر عنه بالأرباح -.

وإذا أردنا أن ننظر نظرة شاملة، فنقول: إن المحق يشمل آخذ الربا ومعطيه.

أ- أما المعطي فإنَّه يقترض لرفع حاجته، فإذا بالربا يزيده حاجة ، وذلك بتراكم الديون عليه، فكلما أراد التخلص من دين اضطر إلى أخذ قرض آخر بأرباح أكثر، وبمرور الزمان تتراكم عليه الديون وتزداد حاجة إلى حاجته، لذا المديون الذي يستدين بربا لا يستفيد من الربا في المدى المتوسط بل يذهب الربا بجميع ثرواته الحالية والمستقبلية.

وقد نشاهد في العصر الحاضر أن الدول التي تستدین بربا فإنَّها لا تخرج من فقرها بل يزيد أمثال هذه القروض من کاهلها ويجعلها مستعبدة للدول الدائنة والبنوك العالمية.

ب - وأما آخذ الربا فلا ينتفع بتلك الثروة لأنَّه تعلّم على تراكمها من غير استثمار لها في الإنماء، بل تكون ثرواتهم كالحبر على الورق فهي في البنوك أو في أيدي المقترضين، وقد شاهد الجميع كيفية حياة كثير من المرابين من المسكنة والفقر والتقتير على النفس، فلا يتمتعون بثرواتهم، مضافاً إلى أن كثيراً من المديونين لا يتمكنون من إرجاع القروض فيكون مصيرهم إلى المحاكم والسجون من غير رجوع المال إلى المرابي غالباً ، وحتى البنوك العالمية والدول الثرية فإن أخذها للربا وإن جرّ إليها نفعاً

ص: 414

موقتاً لكن ذلك بذرة سيئة للأزمات الاقتصادية وإفلاس البنوك وكذا الحروب التي تهلك الحرث والنسل .

3 - ومحق غيبي، بسلب البركة منه، وتحويله إلى عقاب في الآخرة، فيتحول ذلك الربا إلى علائم للذل والهوان في الآخرة، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : قال رسول اللہ صلی اللَّه علیه وآله وسلم : لما أُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا . . . الآية(1) .

فقد قيل إن لكل طاعة ومعصية علامة تناسب الفعل من حيث الظاهر والمحتوى يعرف بها أصحابها كما قال« سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ »(2)وقال «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ »(3)، وعلامة المرابي في الآخرة هو عظم البطن بما لا يقدر أن يقوم، ولعلّه ممتلئ ناراً كمن يأكل أموال اليتامى ظلماً .

العاشر: قوله تعالى (و اللَّه لا يحب كل كفار أنيم هذا حكم عام، والمرابي من مصاديقه، و(الكفّار) صيغة مبالغة يراد منه المقيم على الكفر والمصرّ على تحليل المحرمات، وقيل هو بمعنى ضم كفر إلى كفر فالمرابي يكفر بالتشريع ويكفر بنعمة الإسلام والتشريع والفطرة وبمكارم الأخلاق . . . إلخ .

ولا يخفى أن المراد الكفر العملي بمعنى أنَّه يعمل عمل الكفار وإن

ص: 415


1- البرهان: ج2، ص 305 عن تفسير القمي.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- سورة الرحمن، الآية: 41.

كان مسلماً في الظاهر، أو كفران النعمة - كما مرّ نظائره - قال تعالى : «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ »(1).

ويمكن أن يؤدي أكل الربا إلى الكفر باطناً بتكذيب آيات اللَّه تعالی كما قال : «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ »(2).

و(الأثيم) هو المتمادي في الإثم، المنهمك في ارتكابه ، وهكذا هو دأب المرابي الذي تكون كل حياته في معصية اللَّه تعالى، لأن أصل الربا من الكبار، ثم التصرف في المال الذي اكتسبه بالربا أيضاً حرام، وهكذا يكون طعامه وشرابه ونكاحه وملبسه و مسکنه وكل حياته من السحت فتحيط به خطيئته من كل جانب، والعياذ باللَّه .

ص: 416


1- سورة إبراهيم، الآية: 7.
2- سورة الروم، الآية: 10.

الآيات 278 - 281

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)»«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)»«وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)»«وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)».

بعد بيان حرمة الربا وآثاره، يأتي بيان حكم ما بقي منه وأحكامه، فقال تعالى :

278 - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » بألسنتهم «اتَّقُوا اللَّهَ»احفظوا أنفسكم من عقابه فخافوه « وَذَرُوا » اتركوا «مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا » مما کنتم تطلبون الناس في الجاهلية أو قبل النهي عنه «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » حقاً بقلوبكم، فإن امتثال الأمر والنهي دليل صدق إيمانكم.

279 - «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا » فلم تنقادوا إلى النهي وأخذتم البقايا ، کشف ذلك عن عدم إيمانكم قلباً «فَأْذَنُوا »اعلموا متيقنين «بِحَرْبٍ »عداوة «مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»وهذا تعظيم لهذه المعصية ، إذ الحرب هي غاية العداوة، « وَإِنْ تُبْتُمْ» من استحلال الربا ومطالبة بقاياه « فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ»أصولها دون الزيادة الربوية « لَا تَظْلِمُونَ »المديون

ص: 417

بأخذ الزيادة «وَلَا تُظْلَمُونَ » بتحريم أصل مالكم أو تنقيصه أو المطل فيه .

280 - «وَإِنْ كَانَ » في المديونين «ذُو عُسْرَةٍ » أي معسراً لا يتمكن من أداء الدين «فَنَظِرَةٌ »فانتظار، أي يجب إمهاله «إِلَى مَيْسَرَةٍ »حالة يسره فلا يجوز تأخير الأجل بزيادة، «وَأَنْ تَصَدَّقُوا» بإبراء ذمة المعسر « خَيْرٌ لَكُمْ» أكثر ثواباً « إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » الخير من الشر علماً نافعاً يؤدي إلى العمل.

281 - «وَاتَّقُوا يَوْمًا»تأهبوا لمصيركم إليه بالائتمار بالأوامر والانزجار عن النواهي « تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» إلى حسابه فلا تأكلوا الربا ولا تضغطوا على المعسرين، وتصدّقوا« ثُمَّ » بعد الحساب «تُوَفَّى» تعطی کاملاً غير منقوص « كُلُّ نَفْسٍ » جزاء«مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» لا ينقصون حقوقهم ولا يزدادون عقاباً .

بحوث

الأول: بعد بيان أصل الربا، جائت هذه الآيات لبيان حكم ما بقي من ربا الجاهلية، فيشمل الحكم أيضاً غير المسلمين إذا دخلوا في الإسلام، أو من كان جاهلاً بحكم الربا ثم التفت إليه، وهنا جملة أحكام :

1 - سقوط ما بقي من الربا ، وأما ما أخذوه سابقاً فقد مرّ حكمه في قوله «فَلَهُ مَا سَلَفَ ».

ص: 418

2- عدم سقوط أصل المال، بل على المديون إرجاعه کاملاً غير منقوص .

3- لو كان المديون معسراً لا يتمكن من وفاء الدين فيجب إمهاله إلى يساره، مع كون الإبراء أفضل.

كما تتضمن الآيات أموراً أخرى، كالدعوة إلى تقوى الله، وأن العمل يكشف عن الإيمان القلبي، فالعاصي ضعيف الإيمان غير صادق في دعواه، وأن الاستمرار في أخذ الربا معاندة مع اللَّه ورسوله إلى حدّ إعلان الحرب، وأن القاعدة في الأموال هو أن لا يَظلم صاحبُ المال أحداً، ولا يظلمه أحد، وأن الاقتصاد في الإسلام مبني على مراعاة الجوانب الإنسانية، ونتيجة كل ذلك هو الجزاء في الآخرة إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

وهذا دأب القرآن الكريم، فهو ليس کتاب قانون مجرداً عن المبدأ والمعاد والأخلاق والنبل ، بل كل حكم فيه يربط الإنسان بمبدئه ومعاده وروعي في الحكم مصلحة الشخص والنوع، مع جعل الأخلاق روحاً في كل قانون، فهذه الآيات صدرت بالدعوة إلى التقوى «اتَّقُوا اللَّهَ»وختمت بالتحذير من الآخرة «وَاتَّقُوا يَوْمًا» .

الثاني: في الربا، يكون المشرِّع والمشرَّع له، ودائن ومديون، وأصل المال وزيادته، وثواب وعقاب .

1. أما المشرِّع فهو اللَّه تعالى، والرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم يبلغ ذلك التشريع، فعلى الناس الامتثال، فالعصيان هو إعلان لأشدّ أنواع العداوة وهي الحرب.

ص: 419

2- وأما الدائن : فإنّ التائب من الربا لا يَظلم ولا يُظلم، والعاصي معلن للحرب، وحربه خاسرة لأنَّه الضعيف المطلق الذي يريد مقابلة القوي الذي لا حدّ لقوته.

3- وأما المديون فإن كان موسراً فلا بد من إرجاعه لرأس المال كما قال «فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ » ، وإن كان معسراً فلا بد من انتظار يساره أو الصدقة عليه.

4 . وأما الجزاء، فمحو ذنب التائب وإعطاؤه حقوقه، وأما العاصي فإعلان الحرب عليه وقد يكون من ضمنه قتله في بعض الصور .

ثم في الآخرة الثواب أو العقاب.

الثالث: قوله تعالى: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ».

هذا تغليظ للحرمة وتشديد لها إلى أقصى درجة، فليس فوق حربهما شيء، كما أن هذه الحرب تتضمن عقوبة المرابي بالقتل، كما في الروايات أن المرابي يؤدّب مرتين فإن تمادى في غيّه قتل في المرة الثالثة ، وهذه عقوبة رادعة، لأن بعض النفوس لا يفيدها الوعظ والإرشاد فلا بد من وجود عقوبات مادية ، وخير العقوبات ما حسم مادة الفساد.

وتنقسم العقوبات على أقسام: منها الإيذاء الجسدي بالضرب والجرح، ومنها الغرامة المادية، ومنها الحبس.

1- وخير العقوبات هو الأول، نظراً إلى كونه رادعاً مع عدم وجود كلفة اقتصادية ولا اجتماعية إلى الدولة، مع مراعاة حقوق الجاني أیضاً ، فالزاني يجلد لدقائق يشعر فيها بالألم الشديد ثم يطلق سراحه ليرجع إلى

ص: 420

أهله وعمله، فيكون ذلك الألم مقابل تلك اللذة غير المشروعة، وهذا يكفي لردعه في المستقبل عن ارتكاب الجريمة مرّة أخرى.

2. وأما الغرامة المالية فلا تكون رادعاً للأثرياء المترفين، ولذا كان غالب مواردها في القضايا المالية أو تعويضاً للمتضرّر، فهي ليست عقوبة اللجاني، ولذا في بعض المخالفات تكون غرامة مع تعزير، فالغرامة التعويض المتضرر والتعزير عقوبة للجاني.

3. وأما الحبس فهو لا ينسجم عادة مع الجرائم، وفيه عادة تضييع حقوق الجاني بمنعه من الكسب، وهو مظنة ضياع أهله، ولذا لما شُرّع حبس الزانيات في البداية تمّ نسخه بالجلد وهو السبيل الذي جعله اللَّه

الهن، قال سبحانه «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا »(1)، ثم قال تعالى «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ »(2).

فتبيّن أن «الحرب من اللَّه ورسوله» تهويل وتشديد للمعصية أولاً، وبيان غلظة عقوبتها الدنيوية ثانياً، وليس المراد الحرب التكويني فإن ذاك من اللَّه لا من الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم وقيل : ضم الرسول إلى اللَّه مع أن الحرب هي مع اللَّه تعالى، لأن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم و هو المنفذ لما أراده اللَّه تعالى، مع أن ذكره أوقع في نفوسهم لأنَّهم يأمنون مكر اللَّه لعدم إيمانهم أو ضعفه، لكن يشاهدون قوة الرسول وشدّته في تنفيذ أحكام الشرع.

ص: 421


1- سورة النساء، الآية: 15.
2- سورة النور، الآية: 2.

الرابع : قوله تعالی «وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ».

(التوبة) بمعنى الرجوع، والمقصود رجوعهم إلى اللَّه تعالى بالالتزام بأوامره ونواهيه، وذلك بعدم أخذ ما بقي من الربا، وهذه التوبة مقابل الحرب من اللَّه ورسوله، فأخذه حرب، وترکه توبة، ونتيجة هذه التوبة هو أن لا يظلموا أحداً ولا يظلمهم أحد، وهو العدل الذي يبغيه الإنسان بفطرته ، عكس أخذ بقايا الربا فإن المال إلى كلا الأمرين، فالمرابي يظلم نفسه بحرمانها من رحمة اللَّه واستحقاقها العذاب، ويظلم المديون بابتزاز أمواله، ويظلم المجتمع لما في الربا من آثار مخرّبة عليه، ونتيجة هذه المظالم هي انعكاس الظلم على المرابي نفسه، فالمجتمع الذي يبتني على هضم الحقوق وابتزاز الأموال يعمّ فيه الظلم حتى إنه يشمل الظالمين أنفسهم، كما قيل : وما ظالم إلّا سیُبلی بأظلم.

ولا يخفى عدم المفهوم للآية، فليس معناها إن لم تتوبوا فليست لكم رؤوس الأموال، كما زعم البعض بأنَّها تكون فيئاً للمسلمين، بل المقصود هو الترغيب إلى التوبة وبيان خصوصيتها كما يقال : «إن جاء زید فأكرمه» فليس له مفهوم إن لم يجيء فلا تكرمه، بل المقصود بیان خصوصية المجيء، وأنَّه أدعى للإكرام لأنَّه ضيف. وقد ذكروا في أصول الفقه أن الشرط إنما يكون له مفهوم لو كان علة منحصرة، أما لو لم يكن عِلة أو لم يكن عِلة منحصرة فلا مفهوم له.

الخامس : قوله تعالى: «وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ».

بعد منع ما بقي من الربا وبيان أن الدائن له رأس ماله يسترجعه من المديون من غير ظلم لأيِّ منهما، يتم بيان أن المديون إذا كان معسراً فلا يحق للدائن الضغط عليه ، فكما سقط باقي الربا كذلك يسقط التعجيل في

ص: 422

استرداد أصل المال، بل عليه الانتظار إلى حين تمكن المديون من تسديد دينه .

و(كان) هنا تامة أي إن وجد معسر، أو هي ناقصة مع تقدير خبرها أي إن كان في المديونين ذو عسرة، أو إن كان ذو عسرة مديوناً لكم، ونحو ذلك.

و (العُسرة) ضيق وشدّة، بمعنى صعوبة تسديد الدين لقلة موارده المالية، وحدّدها اشرع بأن لا تفيض أمواله عن نفقته ونفقة عياله، فعن الإمام الصادق عليه السلام : «إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد»(1). ولذا يستثنى من أمواله بيته ومركبه وخادمه وضروريات حياته، فلا يجوز أخذها في الدين .

والدائن عليه أحد أمور:

1- إما الانتظار إلى حين يسار المديون.

2 - وإما رفع أمره إلى حاكم الشرع، فيسدّد الدين إن كان عنده شيء من الزكاة من سهم الغارمين - المديونين - الذي هو أحد مصارف الزكاة بشرط أن لا يكون المديون صرف ما استدانه في معصية اللَّه تعالی.

وإلا خير الحاكم الديّان بين الانتظار أو إعلان إفلاس المديون بأن يقسّم بينهم أمواله - غير المستثنیات - وبذلك يسقط باقي الدين وتبرأ ذمة المديون نهائياً .

3 - إبراء ذمة المديون واعتبار ذلك صدقة ، سواء من الصدقات

ص: 423


1- مجمع البيان، ج 2، ص 320.

المستحبة، أو من الصدقات الواجبة ، فيجوز احتساب ما في ذمته من الزكاة أو الخمس ونحوهما بالشروط المقررة في الفقه.

فقوله «فَنَظِرَةٌ » أي الواجب نظرة بمعنى الانتظار والإمهال .

و(ميسرة) بمعنى يسار المديون، إما بأن يكسب المال، أو بأن يدفعه الحاكم الشرعي، ولذا لم تحدد الآية سبب اليسار ولم تذكر يسار المديون بل صرّحت بالميسرة وهي حصول اليسار سواء من المديون أو ممن يسدد دينه -.

السادس : قوله تعالى«وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ » .

أي تتصدقوا بذلك المال على المديون بإبراء ذمته، «خَيْرٌ » إما أفعل التفضيل فيكون أحسن وأفضل من النظرة، وإما صفة مشبهة فالمعنى أن الإبراء أیضاً خير كما كان الانتظار خيراً، والأول أظهر فيكون المعنى أن الإبراء أكثر ثواباً في الدنيا بالمحبة والبركة وفي الآخرة بتضاعف الأجر، فتكونون قد بدّلتم الربا الممحوق بالصدقة الرابية - كما قيل - .

ص: 424

الموضوع الثالث حول الدين

الآيات 282-283

اشارة

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)»«وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)» .

بعد ذكر إعطاء المال بالإنفاق، وعدم ابتزاز أموال الناس بالربا ،

ص: 425

يأتي بيان طريقة حفظ الأموال في ضمن حدود عشرين حكماً، فقال تعالى:

282 - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » الخطاب لهم لأنَّهم المنتفعون بهدي القرآن «إِذَا تَدَايَنْتُمْ»تعاملتم بمعاملة فيها دَين، كالنسيئة والسلف والقرض ونحوها « بِدَيْنٍ » سواء كنتم معطين أم آخذين«إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى » وقت مذکور فلا تصح المعاملة مع جهالة الأجل.

(1) «فَاكْتُبُوهُ » اكتبوا الدَّين كيلا يحصل نسيان أو جحود أو خلاف.

(2) «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ »باستقامة واستواء ، فلا يزيد ولا ينقص في الدين أو الوصف أو الأجل، مراعياً عدم الإجمال والإبهام.

(3) «وَلَا يَأْبَ » لا يمتنع «كَاتِبٌ»سواء كان من المتعاملين أم من غيرهما « أَنْ يَكْتُبَ »وثيقة الدين «كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ » بمراعاة أحكامه تعالی وعدم الظلم والبخس .

(4)«فَلْيَكْتُبْ» هذا الكاتب، وإنما كرّر الأمر بالكتابة للتمهيد إلى الحكم التالي.

(5) « وَلْيُمْلِلِ»بمعنى الإملاء أي يذكر مقدار الدين « الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» أي المديون، حتى يكون إقراراً وليكون حجة عليه، إذ إملاء الدائن ليس حجة على المديون فإنَّه ادعاء منه لنفسه، عکس المديون حيث إن إملاءه إقرار على نفسه .

ص: 426

(6) « وَلْيَتَّقِ » الكاتب «اللَّهَ رَبَّهُ» كما رباه وعلّمه الكتابة والأحكام، فعليه أن يتقيه « وَلَا يَبْخَسْ» لا ينقص ظلماً « مِنْهُ »من الحق«شَيْئًا ».

(7) «فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» المديون « سَفِيهًا »سفهاً مالياً بمعنی جهله بأمور المعاملة «أَوْ ضَعِيفًا » أبله قليل العقل «أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ» لخرس أو انشغال أو كبر أو صغر ونحو ذلك « فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ» أي القائم بأمره « بِالْعَدْلِ» باستقامة لا يزيد ولا ينقص، فيراعي مصلحة المولى عليه لا مصلحة نفسه .

(8) « وَاسْتَشْهِدُوا » إضافة إلى الكتابة اطلبوا «شَهِيدَيْنِ »يوقعان على الكتاب ويتحملان الشهادة«مِنْ رِجَالِكُمْ » لا من الكفار ولا من الأطفال ولا من النساء.

(9) «فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ» الشاهدان ورجلينه لعدم حضورهما أو لعدم إرادتكم ذلك« فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ» بأن يكونوا عدول ثقات، وإنما اشترط المرأتان لأجل التذكير حین الخطأ، فلإرادة« أَنْ تَضِلَّ » بمعنى الخطأ أو النسيان «إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا » المتذكرة «الْأُخْرَى » الناسية، حيث إن بُعد النساء عن أمور المعاملة وانشغالهم بأمور المنزل يجعلهن أكثر عرضة للخطأ والنسيان في أمور المعاملات من الرجال، كما أنَّهن أحفظ لأمور المنزل من الرجال.

(10) «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا »لتحمل الشهادة ثم لأدائها .

ص: 427

(11) «وَلَا تَسْأَمُوا»ضجراً ومللاً « أَنْ تَكْتُبُوهُ» أي الدَّين، سواء كان الدين « صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا »فقد يتهاون الناس في كتابة الديون القليلة، أو إذا كثرت الديون والمعاملات کتبوا المهم وتركوا الصغير «إِلَى أَجَلِهِ »أي مع أجله فلا تهملوا ذكر الأجل لكثرة حصول الخلاف فيه.

«ذَلِكُمْ»الكتابة، أو كل ما مضى من الكتابة والإشهاد فيه فوائد ثلاث:

أ- « أَقْسَطُ »أي أقرب إلى العدل «عِنْدَ اللَّهِ» في حكمه، حيث إن الكتابة تمنع أكل المال بالباطل، وتحفظ حقوق الناس، فهي تمنع عن مجموعة من المعاصي.

ب-«وَأَقْوَمُ»أثبت وأحفظ « لِلشَّهَادَةِ» فلا تدع مجالاً للشهود في الكذب أو الجحود، كما تقوم مقام الشهادة حال غياب الشهود أو موتهم أو نسيانهم.

ج-« وَأَدْنَى» أقرب إلى « أَلَّا تَرْتَابُوا » في أصل الدين أو مقداره أو أجله، فقد يضطر المؤمن لأن يعطي أكثر أو يأخذ أقل أو يبرئ ذمة الآخر حينما يشك في أصل الدين أو تفاصيله ، فلئلّا يقع في أكل المال بالباطل يتنازل عن حقه الواقعي، فكان عدم الكتابة مظنة ضياع الحق.

(12)«إِلَّا أَنْ تَكُونَ » المعاملة «تِجَارَةً حَاضِرَةً » نقداً بلا دین «تُدِيرُونَهَا»تنقلونها يداً بيد « بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ »غضاضة

ص: 428

وكراهة «أَلَّا تَكْتُبُوهَا » لعدم حصول تنازع عادة في ذلك ولا هضم للحق.

(13) «وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ »في التجارة الحاضرة، فلا جناح في عدم الكتابة لكنه ينبغي الإشهاد، ولعلّه منصرف إلى التبايع في الأمور الجليلة دون محقراتها.

(14)«وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ» بأن يضرّهم المتعاملان وغيرهم بإحراجهم أو لمزهم أو تكليفهم بما يشق عليهم.

(15) « وَإِنْ تَفْعَلُوا » المضارّة «فَإِنَّهُ فُسُوقٌ » خروج عن طاعة اللَّه «بِكُمْ » أي تابع ولاحق لكم.

«وَاتَّقُوا اللَّهَ» في أحكامه، « وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ»ما ينفعكم لدنياكم وآخرتكم، « وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» فلا تخالفوه فإنَّه يراكم ويعلم بجميع تصرفاتكم.

283 - ثم بیَّن اللَّه تعالى حالة عدم وجود الكاتب أو عدم إرادة الكتابة ، فقال سبحانه :

(16) «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ»وتخصيصه بالذكر لأنَّه مظنة عدم وجود الكاتب« وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ »جمع رهن أي وثيقة.

(17) «مَقْبُوضَةٌ»لأنَّه لا يحصل التوثيق إلّا بالقبض، فلا يصح الرهن إلّا به.

(18) « فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا »فلم يكتب ولم يستشهد ولم يأخذ

ص: 429

الرهن«فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ»المديون«أَمَانَتَهُ» فلا ينكر ولا يمطل« وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» عقوبته تعالى على الجحود أو البخس.

(19) « وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ» بعدم إعلانها بما يستلزم ضياع الحقوق « وَمَنْ يَكْتُمْهَا»مع علمه بالمشهود به وتمكنه من أدائها « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » لأن القلب محل الكتمان «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ»فيجازيكم عليه .

بحوث

الأول: محور البحث في هاتين الآيتين هو الكتابة في المعاملات، وكل الأحكام تدور حول هذا المحور، وأركان الأحكام ثلاثة :

1- المعاملة التي فيها دَين، كالنسيئة والسلم والقرض وأمثالها، فالتوثيق يكون بالكتابة وبالشهود.

2 - المعاملة الحاضرة النقدية ، فلا حاجة إلى الكتابة لأن كل طرف يأخذ حقه فوراً، ولكن الأولى الإشهاد لئلا يقع النزاع في الأمور الجليلة دون المعاملات على الأمور الصغيرة.

3- في صورة عدم توثيق المعاملة التي فيها دین بالكتابة ، بل صاحب الحق استأمن صاحبه، فلا بد من تقوى اللَّه تعالى وأداء الحق، مكافأة على ثقة صاحب الحق بصاحبه المديون.

ومراعاة هذه الأحكام توجب حفظ الأموال من الضياع، ومنع

ص: 430

حدوث النزاع من أصله، وإن حصل تنازع کان الوصول إلى الحق سهلاً ، فلا يُتوی حق أحد.

ومن ذلك يتبيّن أن غالب الأحكام المذكورة إنما هي أحكام إرشادية لا مولوية، فإن الحكم ينقسم إليهما:

أما المولوي: فهو الحكم الذي تجب إطاعته ويستحق المخالف العقاب ، كأوامر العبادات ونحوها.

وأما الإرشادي، فهو الذي كان الغرض منه بيان الفائدة المادية للإنسان بمعنى أنَّه لو التزم استفاد مادياً وإن خالف تضرر مادياً ، ولذا لا تجب إطاعته ، كأوامر الطبيب في الأمراض الطفيفة مثلاً.

وأحكام هاتين الآيتين تصبّ في اتجاه بیان فائدة الكتابة بحيث إن راعاها المتعاملان لا تضيع حقوقهما المادية، وإن لم يراعياها عرّضا حقوقهما المادية إلى التلف، فتأمل.

الثاني : قوله تعالى «إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» .

(التداين) بمعنی داین بعضكم بعضاً، فالمقصود معاملة فيها دین، واستعمال باب التفاعل - وهو بمعنی کون الفعل بين الطرفين - باعتبار أن الدين من الطرفين أحدهما أخذاً والآخر إعطاءً، فأحدهما يسلّم بضاعته أو نقوده نقداً والآخر يؤجّل، أما إذا كان التأجيل من الطرفين فهو معاملة الكالي بالكالي وهي معاملة باطلة.

وقوله « إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» يُشعر بأنَّه لا بد من تحديد المدة في الديون، فلا تصح معاملة فيها جهالة من حيث المدة، وإن لم تذكر المدّة كانت نقداً .

ص: 431

وقوله «بِدَيْنٍ »إما تأكيد، أو لدفع توهم أن يكون التداین بمعنی المجازاة، أو للتعميم بمعني بأيِّ دين كان، ولذا جاء به منكراً، ويقابل التداين التجارة الحاضرة، وذكر حكمها في آخر الآية.

وقوله «فَاكْتُبُوهُ» لا يدل على الوجوب لكونه إرشادياً كما مرّ، ولدلالة قوله «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا»على الاستحباب.

الثالث : قوله تعالى «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ».

(العدل) هو الاستقامة والاستواء، فالمقصود أن لا ينقص ولا يزيد الكاتب شيئاً، وأن يكون عارفاً بالكتابة حتى لا تكون كتابته بإجمال أو إبهام مما يكون منفذاً للإرتياب والإختلاف، وقيل : وأن يكون عارفاً بأحكام المعاملات فقيهاً فيها ! لكن الظاهر عدم دلالة الآية على ذلك، بل المتعاملان يلزم أن يتعاملا بالطريقة المشروعة وليكتب الكاتب كما تعاملا بلا نقص أو زيادة، فإن تقويم المتعاملين ليست مهمة الكاتب بما هو كاتب، ويقابل الكاتب بالعدل الكاتب بغير العدل وسيأتي ذكره في قوله «فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ» .

الرابع : قوله تعالى «وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ».

في البداية أمر تعالى بالكتابة بالعدل ثم نهى عن الكتابة بغير العدل ، والجمع بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده أدعى للامتثال وإن كانت حقيقة الحكم واحدة .

وقيل : هو حكم آخر، وهو النهي عن ردّ الدعوة إلى الكتابة، فلا يبخل العارف بالكتابة من خدمة الآخرين بها، فكما أنعم اللَّه عليه بأن علّمه الكتابة -وذلك بجعل القابلية في الإنسان وتهيئة الظرف لتعلمها -

ص: 432

كذلك عليه أن يشكر هذه النعمة بقضاء حوائج الناس بها، فلكل نعمة شكر خاص بها، نظير قوله تعالی «وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ »(1).

وقوله (كاتب) بالتنكير بمعنى أيّ كاتب کان سواء من المتعاملين أم من غيرهما .

الخامس : قوله تعالى-«وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» .

الإملال والإملاء بمعنى واحد، فالمعنى أن يلقي الكلام إليه ليكتبه ، وقوله « الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ»أي المديون، وإنما خص الإملاء به لكي يكون إقراراً على نفسه أیضاً ليكون حجة عليه مضافاً إلى ما سيأتي من الشهود، وإلا فإملاء الدائن وإقراره ليس بحجة لأنَّه إقرار لصالح نفسه.

قيل : لئلا تكتب زيادة، لأن المديون لا يزيد في الدين الذي عليه، لكن هذا منقوض بأن الدائن لا ينقص من حقه، فالصحيح هو ما ذكرناه من ضمّ الإقرار إلى الشهود.

السادس: قوله تعالى«وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا » .

فاعل (ليتق) إما المديون الذي عليه الحق، لأنَّه هو الذي له المصلحة في البخس، كما أنَّه أقرب إلى الضمير، وإما الكاتب فيكون تأكيدا لقوله « يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ » ، وهذا الاحتمال أولى بقرينة قوله «رَبَّهُ» اي مربّيه الذي علّمه الكتابة فليقابل نعمته بالشكر بأن لا يخرج عن طاعته تعالى، وبخس الكاتب كما يكون في النقيصة بأن يكتب الدين أقلّ، كذلك يكون في الزيادة لأنَّه نقصان لحق المديون بأخذ الزيادة منه فتأمل .

ص: 433


1- سورة القصص، الآية: 77.

السابع : قوله تعالى«فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ ...»الآية.

(السفيه) في المعاملات هو الذي لا يراعي الميزان المتعارف في المعاملات العقلائية، كمن يشتري الدرهم بأضعافه، ففي عقله المعاملي خلل، وهذا يحجر عليه فلا يتعامل معه إلّا بوليٍّ

و(الضعيف) هو الأبله القليل العقل في كل أموره، وهذا أیضاً يحجر عليه، وهذين المعنيين هو المستفاد من الروايات(1).

و(الذي لا يستطيع أن يمل) العاجز لكبر أو خرس ونحوها، أو المشغول والغائب وأمثالهما .

وقوله « لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ »قيل : إضافة الضمير الظاهر - مع إمكان الاستغناء عنه بالضمير المستتر -، لبيان الفرق بينه وبين السفيه والضعيف، لأنَّهما محجور عليهما لا شأن لهما بالمعاملة بل وليهما هو الذي يجري المعاملة عنهما بالاستقلال مع مراعاة المصلحة، لكن الذي لا يستطيع أن يملّ مستقل في المعاملة لعدم كونه محجوراً عليه، لكن العجزه عن الإملاء يوکّل شخصاً آخر فيه، ففائدة الضمير التشريك بمعنی أنَّه لا يستطيع الإملاء بنفسه لكنه يتمكن منه بمعونة آخر، عکس الأولين حيث لا دخل لهما لا في أصل المعاملة ولا في إملائها .

الثامن : قوله تعالى«وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ... »الآية .

هذا في تحمّل الشهادة، أي اطلبوا شاهدين ليتحملوا الشهادة، وذلك بحضورهما المعاملة ورؤيتهما وسماعهما لها ، وكذا للتوقيع على الكتاب .

ص: 434


1- راجع تفسير الصافي: ج 1، ص 480 عن التهذيب

وقوله «مِنْ رِجَالِكُمْ»يدل على اشتراط الذكورة والإسلام والبلوغ في الشاهدين، ولا دلالة له على اشتراط الحرية، فيجوز تحمّل العبد للشهادة ثم أداؤها إذا لم يكن مانعاً عن حقوق سيده أو كان بإذنه .

كما يدل على اشتراط الوثاقة والعدالة قوله تعالى «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ » ، إذ غير الثقة لا يرضى به أحد، والفاسق لا يرضى به المؤمنون وهم المخاطبون بهذه الآية ولا يخفى أن الناس عادة يرضون بالثقة في كلامه الصادق عليه السلام فيما يقول وإن لم يكن ملتزماً في أموره الأخرى، لكن الشرع أضاف العدالة- بمعنی الالتزام بتعاليم الشرع الكاشف عن ملكة نفسانية تردعه عن المخالفة -إعزازاً للعدول وغلقاً لباب الفسق والفجور، ولذا ضيّق على الفسقة في جملة من الأحكام، ومنها ردّ شهادته حتى لو كان ثقة في قوله.

ولا يخفى أن هذه الآية بضميمة الروايات تدل على أن ثبوت الحقوق المالية بالطرق التالية - والتفصيل موكول إلى الفقه -:

1- شهادة رجلين عدلين.

2- شهادة رجل وامرأتين من العدول.

3- شهادة رجل واحد مع اليمين - بمعنی حلف المدعي -(1).

التاسع : قوله تعالى «»الآية .

هذا تعليل لكون شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وحاصله : أن النساء بعيدات عن المعاملات مشغولات بأمور أخرى عنها، والرجال هم الذين يزاولون المعاملات والتجارات ونحوها، وكلّما قلّ ارتباط

ص: 435


1- راجع الكافي: ج 7، ص416.

إنسان بشيء قلّ ضبطه له وكثر خطؤه فيه ، نعم الأمور المرتبطة بالنساء كالحمل والعذرة ونحوها تقبل فيها شهادة النساء منفردات لارتباط الأمر به ومعرفتهن بها.

ولذا اشترط الشرع انضمام امرأة إلى أخرى، فالشهادة من كليهما معا فإن أخطأت إحداهما ذكرتها الأخرى.

وقوله تعالى :« إِحْدَاهُمَا » : في المناهج: فكلمة إحداهما الأولى فاعل «تَضِلَّ»، وإحداهما الثانية فاعل «فَتُذَكِّرَ » فلا تكرار في المقام، وسرّ الإتيان بالاسم الظاهر وعدم الاكتفاء بالضمیر - بأن يقول : وتذكرها الأخرى - هو أن يكون صريحاً في المقصود، وهو تقوم إحدى الشهادتين بالأخرى، ولو بدّلنا الظاهر مضمراً لأوهم أن شهادة الواحدة كافية في الحكم إلّا أنَّها تحتاج إلى المرأة الثانية لتكون مذكرة للأولى حين نسيت الشهادة وغفلت عنها(1).

وقيل : لاختلاف معناهما فإحداهما الأولى لا على التعيين، والثانية هي إحداهما بعد ضلال الأخرى.

لكن هذا ليس سبباً وجيهاً وذلك لفصاحة الاستخدام - بإرادة معنی من اللفظ، وإرادة معنى آخر من ضميره .

التاسع : قوله تعالى «وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ ...»الآية.

(السأم) هو الملالة مما يكثر لبثه(2)، فلعلّ المقصود هو الضجر من الكتابة لكثرة المدائنات، أو لطول الكتاب فقد تكون معاملة مفصلة

ص: 436


1- مناهج البيان: ج 3، ص 112 - بتصرف .
2- المفردات ص438.

تستدعي كتاباً طويلاً، أو باعتبار أن السوم كان طويلاً حتى حصول الاتفاق على المداينة فيريد كل واحد منهما التخلّص بسرعة فيضجر عن الكتابة ، كما يقع ذلك كثيراً في الأمور التي تستغرق وقتاً طويلاً حيث يحصل الملل والكسل في آخره، لكن هذا الكسل عن الثبت بالكتابة قد يؤدي إلى نزاع وخلاف وضجر أكبر فالأولى دفع ذلك الضرر بعدم السام في الكتابة حين التداین.

وقوله «صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ». إما حال من الدين، أي اكتبوا الدين سواء كان قليلاً أم كثيراً، فالصغر والكبر باعتبار حجمه ومقداره، أو حال من الكتاب، أي سواء كان الكتاب طويلاً أم قصيراً، فالصغر والكبرباعتبار مساحة الورق أو مقدار الكلمات والخطوط.

وإنما قدّم الصغير لأن السام فيه والتهاون عنه أكثر، مع أن الخلافات والتنازع في الديون الصغيرة ليست قليلة، وقد تُترك فتُنسى لصغرها فيؤدي ذلك إلى انشغال الذمة بحقوق الناس والعذاب في الآخرة .

وقوله «إِلَى أَجَلِهِ» الظاهر أن « إِلَى » هنا بمعنی (مع)، كقوله تعالی «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ »(1) أي معها، فالمعنى اكتبوا الدين مع أجله، وإنما خص الأجل بالذكر لأنَّه قوام الدین به ولكثرة التنازع فيه ، وقيل : هو تنبيه إلى أن الكتابة تبقى إلى الأجل فتنفع، عکس الشاهد فقد يموت أو يغيب أو ينسى أو يجحد ونحو ذلك.

العاشر : قوله تعالی « ذَلِكُمْ أَقْسَطُ...» الآية .

هذا المقطع بيان لفوائد الكتابة، كدأب القرآن من ذكر عِلل الأحكام

ص: 437


1- سورة المائدة، الآية: 6.

وحكمتها، لتكون أوقع في النفوس وأدعى إلى العمل بها والتزامها، والفوائد هي:

1- في الكتابة حفظ حدود اللَّه تعالى، حيث تمنع من أكل المال بالباطل، كما تمنع من حدوث الخلاف والتنازع وما يستتبعانه من بعض المحرمات أحياناً كالكذب والجحود والتساب والقطيعة... إلخ، مما يؤدي إلى مفاسد اجتماعية كثيرة، أهونها انشغال الناس بالترافع والتنازع عن السعي لمعاشهم ومعادهم، ولذا قال «ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ».

2- في الكتابة حفظ للشهادة أیضاً ، لأن الشاهد إذا علم بها يرتدع عن الكذب لئلا يفتضح، وكذا قد ينسى فتكون الكتابة عاملاً مهماً في تذکره، بل تقوم مقام الشهادة في حال موت الشهود أو غيبتهم أو عدم تذكرهم ونحو ذلك فقال تعالى «وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ».

3- قد يحصل ارتياب من الدائن أو المدين، والريب هو الشك بشبهة، فهل يصدق الدائن في طلبه أم لا، وهل أدّى الدَّين أم لا، وكم كان مقداره؟ وكثيراً ما لا يطالب الناس بحقوقهم لشكهم فيها أو في مقدارها وذلك يوجب ضياع الحقوق، وأحياناً يدعي المديون مقداراً لكن يظن الدائن بأكثر منه فيرتاب في صدق المديون، وفي ذلك ازدياد حالات سوء الظن مما يضر المجتمع، فكانت الكتابة وقاية من كل ذلك، ولذا قال تعالى «وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا».

وأما (القسط) فهو النصيب، وسُمي العدل قِسطا - بالكسر - لأنَّه إعطاء كل ذي حق نصيبه وحقه من غير بخس ولا زيادة، وسُمّي الجور قَسطاً - بالفتح - لأنَّه أخذ لنصيب الآخرين، وقد استعمل باب الإفعال

ص: 438

المعنى العدل كقوله« فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا »(1)، وقوله « فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ »(2)، كما استعمل المجرد لمعنی الجور كقوله «وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا » وللتفصيل راجع لمفردات والمقاييس (3).

وأما قوله «وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا »فالمراد منه بيان أمر تكويني، وهو أن الكتابة رافعة للريب عادة ، كما أنَّها تدل على أن الكتابة هي المرجع لو حصل الريب فيزول الريب بها، إلّا إذا رجع الريب في الكتاب نفسه باحتمال التزوير فيه، فحينئذٍ لا حجية فيه.

والحاصل أن الكتابة هي لأجل أن لا يحصل الريب أو ليرتفع الريب بها، وليس المعنى أنَّها المرجع في حال الريب حتى لو لم يرتفع بها باحتمال تزوير ونحوه، فدقق.

الحادي عشر : قوله تعالى « وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ» .

لما بیّن تعالی عدم لزوم الكتابة في التجارة الحاضرة التي تكون نقداً من غير دَين، بيَّن استحباب الإشهاد عليها، وأما الإشهاد على الدين فقد ذكر في أواسط الآية.

وهذا الإشهاد خصّصه بعض المفسرين بالإشهاد في الأمور الجليلة ، ودليل ذلك السيرة حيث لم يتعارف الإشهاد على الأمور الحقيرة منذ زمن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم إلى يومنا هذا، وسيرة المتشرعة حجة إذا كانت متصلة

ص: 439


1- سورة الحجرات، الآية: 9.
2- سورة المائدة، الآية: 42.
3- المفردات: ص670، المقاييس: 856.

بزمان المعصومين علیهم السلام وكشفت عن تقريرهم لها، وبذلك تصلح السيرة مخصصاً أو مبيناً للكتاب لرجوعها إلى تقرير المعصوم .

الثاني عشر : قوله تعالى «وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ ...»الآية .

« يُضَارَّ» يحتمل أن يكون ببناء الفاعل أي «یُضارِر» فكاتب فاعله، أي ليكتب الكاتب بالعدل لا أن يكتب بضرر أحد الطرفين وكذا الشاهد، فالزيادة ضرر على المديون والنقصان ضرر على الدائن، فإذا لم يفعل فإنَّه فسوق، فيكون الكاتب بالعدل مقابل الكاتب بالضرر والفسوق.

ويحتمل أن يكون ببناء المفعول، أي «يضارَر» فكما بیّن اللَّه الحكم على الكاتب والشهيد بعدم الإباء، كذلك بیّن الحكم لهما بعدم إضرارهما وذلك كأن يُعنَّفا أو يُلمزا أو يُكذَّبا من غير وجه حق، أو يُكلّفا مصارف كأجرة الطريق إلى الشهادة أو ثمن الورق أو عدم إعطاء أجر الكاتب ونحو ذلك، فإن كل ذلك يوجب زهادة الناس في الشهادة والكتابة فتضيع الحقوق، بل حتى لو لم تقبل الشهادة أو الكتابة فاللازم احترام الكاتب والشاهد وردّهما بلباقة ومن غير تجريح، وفي بعض الأحاديث دلالة على أن الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم كان يرسل من يحقِّق عن الشاهد بطريقة غير مباشرة ومن غير علم الشاهد ثم لو أراد ردّ شهادته لعدم ثبوت وثاقته أو عدالته ردّه بطريقة مناسبة.

وهذا الاحتمال أقرب إلى السياق لقوله بعد ذلك «وَإِنْ تَفْعَلُوا » ولو كان « يُضَارَّ»بصيغة الفاعل لقال «وإن فعلا»، فتأمل.

وقوله «فُسُوقٌ بِكُمْ » بمعنى الخروج عن الطاعة و«بِكُمْ» إما بمعنى السببية أو بتقدير شيء مثل لاحقٌ بكم ونحو ذلك.

ص: 440

الثالث عشر : قوله تعالى « وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » .

قيل : التقوى هي سبب زيادة العلم! لكن لا يظهر ذلك هذه من الآية ولا من غيرها من الأدلة، فإن للتقوى طريق جعله الله، كذلك جعل لتحصيل العلم طريق آخر، فليست التقوى سبباً لزيادة العلم، بل العكس العلم الحق هو سبب التقوى قال سبحانه «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »(1) بل من أراد سلوك طريق التقوى من غير علم زاده ذلك ضلالاً وانحرافاً عن الحق، بلى من اتقى اللَّه عن علم زاده اللَّه هداية ولطفاً قال سبحانه «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ » (2)وفي المناهج: نعم لا بد في تحصيل العلم الإلهي وطلب الهداية من استعمال العلم وسلوك هذه الجادة الوعرة بالتقوى، فالجاهل العامل بسنن الدين ومناهج التقوى مبتدع ضال، والعالم العامل الهاتك حرمات ربه أبعد الناس من اللَّه سبحانه، وهو المخذول المطرود، فقد جرت سنّته تعالى في الوصول إلى العلم والهداية بالتعلّم والتفقه(3).

والحاصل أن رأس الآية - أي آخرها - تدل على أمور ثلاثة مستقلة، أحدها : الدعوة إلى التقوى، والثانية : بيان أن اللَّه لطيف بالمؤمنين فلذا يعلمهم، كما قال تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ

ص: 441


1- سورة فاطر، الآية: 28.
2- سورة محمد، الآية: 17.
3- مناهج البیان ج3، ص119 - 120 بتصرف.

قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ »(1)، والثالثة : تحذير المخالفين وتبشير المطيعين ببيان أنَّه تعالى بكل شيء عليم .

الرابع عشر : قوله تعالى «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ...»الآية .

بيان لحكم صورة عدم إمكان الكتابة ولا الشهود، وتشريع جواز أخذ الوثيقة على الدين لئلا تضيع الحقوق، وتخصيص السفر بالذكر من باب أن الغالب في السفر عدم التمكن منهما عكس الحضر، فالسفر قيد غالبي، وليس تخصيصاً للرهن به .

وقوله « مَقْبُوضَةٌ » ، لأن الوثيقة لا تكون إلّا بقبضها، فإن لم يقبضها فلا أثر لها أصلاً لأن المديون إن كان ورعاً ردّ الدين حتى لو لم تكن وثيقة، وإن لم يكن ورعاً فكما يمكنه جحد الدين كذلك يجحد الوثيقة ، ولذا اشترطوا القبض في صحة الرهن، نعم قبض كل شيء بحسبه فقد يكون بأخذه أو أخذ مفتاحه أو سنده أو نحو ذلك، فتأمل .

الخامس عشر : قوله تعالى «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا...»الآية .

هذا آخر أركان الأحكام - بعد الوثيقة بالكتابة والشهود أو بالرهن - ما إذا وثق الدائن بالمديون فلم يكتب ولا استشهد ولا أخذ رهناً، فعلى المديون أن يكون عند حسن ظن الدائن، فكما وثق به ورآه أهلاً للأمانة كذلك يكافئة بأدائها وإنما سُمِّيَ هذا الدين أمانة لأن الدائن ائتمن المديون فلم يأخذ منه رهناً، وأداء الأمانة هو عدم إنكارها وعدم المطل والتسويف فيها ثم تمّ تأكيد ذلك بدعوته إلى تقوى اللَّه سبحانه وتعالى، لأنَّها السبب الأصلي في حفظ حقوق الناس .

ص: 442


1- سورة آل عمران، الآية: 164.

السادس عشر : قوله تعالى «وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ »الآية . الظاهر أن هذا في أداء الشهادة، كما أن قوله في الآية السابقة «ولا ياب الشهداء إذا ما دعوام كان في تحمل الشهادة، فإن كان تحمّل الشهادة مستحباً فإن أداءها واجب وكتمانها حرام . وقوله «آثِمٌ قَلْبُهُ » لأن الكتمان محلّه القلب، مع عدم سببيّة اللسان لهذا الكتمان، فاللسان ليس مشاركاً في الجريمة وإنما مركز الجريمة هو القلب، وللقلب ذنوب ومعاصي ولذا يعاقب كما تعاقب الأعضاء الفاسقة، قال سبحانه «نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)»

«الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ »(1) ، كما أن للقلب تكاليف ومسؤولية كما قال «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا »(2)

ص: 443


1- سورة الهمزة، الآيتان: 6 و7.
2- سورة الإسراء، الآية: 36.
الآیة284

«لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)»

بعد بيان جملة من أحكام الأموال، بیّن اللَّه تعالى أن ملكية الناس اعتبارية وأنَّه سبحانه هو المالك الحقيقي فلا بد لهم من إطاعته فيما يأمره وينهاه في ملكه فقال سبحانه :

284 - «لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» فهو المالك الحقيقي، فعليكم إطاعته، « وَإِنْ تُبْدُوا » تظهروا « مَا فِي أَنْفُسِكُمْ »من خير أو شر « أَوْ تُخْفُوهُ » فلا تظهروه « يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ » مقدمة للجزاء، فهو سبحانه العالم والمهيمن على عباده، « فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ »فضلاً منه تعالى لمن كان محلاً قابلاً للمغفرة « وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ » عدلاً منه سبحانه لمن لم يستحق المغفرة،« وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» من المحاسبة والغفران والعذاب وغيرها « قَدِيرٌ »

بحوث

الأول: هذه الآية كالتكملة لآيات هذا الفصل والذي كان يرتبط

ص: 444

بالأمور المالية من الإنفاق والربا والدين ونحو ذلك، وفيها بيان أن المالك الحقيقي هو اللَّه سبحانه وتعالى فهو يملككم ويملك كل ما تملكون ويملك كل الوجود بأسره ملكاً حقيقياً، ومن رحمته ولطفه بكم أن أقرّ لكم الملكية الاعتبارية، وشرّع أحكاماً لتنظيم ملكيتكم بما يعود نفعه إليكم وفي سبيل معاشكم ومعادكم، فعليكم أن تطيعوه فتأتمروا بأوامره وتنزجروا بنواهيه، وإلّا فإنَّه القادر على عقابكم، حتى ما أضمرتموه في قلوبكم فإنَّه يحاسبكم عليه، فقد يغفر لكم زلاتكم فضلاً ولطفاً، وقد يعذبكم عدلاً .

والحاصل أن معنى الآية عام، والموارد المالية من مصاديق الآية، أو شأن نزولها، وخصوصية المورد لا تخصص الوارد.

ولا يخفى أن المالكية من صفات الذات، ولا يشترط في صدقها وجود المملوك، بل هو المالك قبل الخلق وبعده، كالعلم إذ هو سبحانه عالم إذ لا معلوم، وقد ذكرنا التفصيل في شرح أصول الكافي فراجع .

الثاني: قوله تعالى «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ...» الآية .

بما أن القلب هو مصدر الأعمال الجوارحية، وهو الذي يعطي اللون للعمل، لذا كان الإبداء والإخفاء مرتبطان به، فالعامل بالصالحات نقطة انطلاقته هي قلبه وفكره قال سبحانه« وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ » (1)، وكذا العامل بالسيئات قال سبحانه : « بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا »(2)، كما أن العمل الحسن يفقد قيمته إذا جيء به بنية سيئة بل قد يتحول إلى وبال

ص: 445


1- سورة البقرة، الآية: 265.
2- سورة يوسف، الآية: 18.

وويل كالعبادات إذا اقترنت بالرياء، وعكسه إذا أتى بعمل قبيح ظانّاً بأنَّه حسن فإنَّه منقاد ولا يعاقب على عمله إذا كان جهله عن قصور، قال تعالی : «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ »(1)، بل قد يثاب على انقياده، نعم إذا قصّر في المقدمات فهو كالعامد، وينطبق عليه قوله تعالى «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا »(2)

فقوله «وَإِنْ تُبْدُوا » بمعنى إظهاره، وهذا الاظهار يكون بالجوارح سواء باللسان أم باليد أم بغيرهما، وقوله «أَوْ تُخْفُوهُ » بمعنى عدم إظهاره بيد ولا بلسان فيبقى كامناً في النفس .

وأما قوله «مَا فِي أَنْفُسِكُمْ»، فلفظ الآية عام يشمل ما استمكن في النفس من الصفات كالحسد والحب والبغض ونحوها ، كما ويشمل ما كان عارضاً كالخواطر وحديث النفس ونحوهما .

وقوله « يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ » بمعنى إظهار تلك السرائر في يوم القيامة، ولا يخفى أن المحاسبة لا تعني الثواب أو العقاب، بل هي مقدمة لهما والنوايا السيئة والخواطر القبيحة هي أمور اختيارية عادة - ولو باختيارية مقدماتها - و اللَّه سبحانه وعد عدم العقاب عليها ، كما في حديث الرفع حيث قال النبي صلی اللَّه علیه وآله وسلم : رفع عن أمتي تسع - وعدّ منها - والوسوسة في التفكر في الخلق والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد(3)، فهذه مرفوعة مِنّة من اللَّه تعالى على عباده مما يكشف عن كونها اختيارية -ولو بمقدماتها -

ص: 446


1- سورة الأحزاب، الآية: 5.
2- سورة الكهف، الآية: 104.
3- الكافي: ج5، ص463.

ولو لم تكن اختيارية لم يجز التكليف بها ولا كان رفعها مِنّة ، لكن دلت آيات وروايات على أن سرائر الإنسان تظهر في يوم القيامة ويحاسب عليها من غير عقاب كقوله تعالى«يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ »(1)

والحاصل أن النفس هي نقطة انطلاق العمل، وهي التي تلوّن العمل، كما أن للقلب واجبات ومحرمات وغالبها يتعلّق بأصول الدين، وكل ما في النفس والقلب يظهر يوم القيامة ويحاسب الإنسان عليه، لكن العقاب يختلف

1 - ففي أصول الدين لا بدّ من الاعتقاد والإذعان، وذلك الإيمان وسبب الثواب والنجاة .

وأما عدم الاعتقاد والإذعان فهو كفر ونفاق وسبب العقاب والشقاء

2 - في غير أصول الدين فالملكات النفسية والأفكار والنوايا والخواطر يحاسب عليها الإنسان وهي قد توجب سمُوُّ النفس أو انحطاطها من دون عقاب على السيِّئ منها، ومع ثواب على الحسن منها تفضلاً منه تعالى .

3 - الخواطر غير الاختيارية - ومن غير سبب اختياري - قد لا يحاسب عليها الإنسان، ولعلّ الآية منصرفة عنها، اللّهم إلّا إذا قيل بأنَّها ترجع في النهاية إلى تقصير من الإنسان نفسه، و اللَّه العالم بحقائق الأمور.

وعن الإمام الصادق عليه السلام : وأما ما فرض على القلب من الإيمان : فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلّا هو وحده لا

ص: 447


1- سورة الطارق، الآية: 9.

شريك له إلهاً واحداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند اللَّه من نبي أو كتاب، فذلك ما فرض اللَّه على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله(1)

الثالث : قوله تعالى «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ...» الآية .

قدّم المغفرة على العذاب، ترغيباً للنفوس إلى التوبة، وتشويقاً إلى اضمار الخير لينال غفرانه تعالى، ولأن رحمته سبقت غضبه، وكذلك ليبقى الباب مفتوحاً على العصاة لئلَّا يقنطوا من رحمة اللَّه سبحانه، وقد مرّ مراراً أن مشيئته ليست اعتباطاً بل بحكمته سبحانه وتعالى لمن كان قابلاً للمغفرة أو لمن لم يكن قابلاً لها، وفيه ردّ على من زعم عِلِّية الأعمال للثواب أو العقاب فإن ذلك بمعنى الترتب القهري، وليس الأمر كما زعموا فهو سبحانه الذي يرتب النتائج على المقدمات .

ص: 448


1- البرهان: ج2، ص334 عن تفسير العياشي.

خاتمة السورة

الآيات 285 - 286

«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285)»«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)».

في ختام السورة تذكير بأصول الدين وحثّ على الطاعة ودعاء فكان كالتلخيص لما في هذه السورة المباركة .

285 - «آمَنَ الرَّسُولُ»وتخصيصه صلی الله علیه وآله وسلم بالذكر تعظيم لشأنه « بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» كذلك،« كُلٌّ » من الرسول والمؤمنين«آمَنَ بِاللَّهِ »بتوحيده «وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ»، لأنَّها كلّها مرتبطة باللَّه تعالى، ولا يمكن الإيمان به إلّا مع الإيمان بوسائل هدايته، يقولون:« لَا نُفَرِّقُ » في التصديق «بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » فنؤمن بالجميع «وَقَالُوا » الرسول والمؤمنون «سَمِعْنَا» بالإذعان إلى الأحكام « وَأَطَعْنَا » بالانقياد والامتثال للأوامر والنواهي، فاغفر لنا

ص: 449

«غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ » إلى حسابك وجزائك«الْمَصِيرُ» أي المرجع بعد الموت .

286 - «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ » من التكاليف المذكورة في هذه السورة وغيرها «نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» ما تطيقه، فبالإطاعة « لَهَا مَا كَسَبَتْ » الحسنات، «وَعَلَيْهَا » بالعصيان «مَا اكْتَسَبَتْ »من السيئات، وهذا المقطع كالجملة المعترضة لبيان أن ما سمعوه وأطاعوه مقدور لهم وأن عليه الجزاء، ثم يقولون «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا »بالعقوبة والذم «إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا »بتقصيرنا في أعمالنا مما أدى إلى النسيان أو الخطأ،«رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا » ثقلاً من التكاليف الشاقة «كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا »عقوبة لهم بسبب سوء اختيارهم، «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ » من البلايا والعقوبات الدنيوية، «وَاعْفُ عَنَّا » بمحو الذنوب،«وَاغْفِرْ لَنَا»بسترها لئلا ننفضح« وَارْحَمْنَا »بالنعم علينا، «أَنْتَ مَوْلَانَا »ناصرنا الأولى بنا من أنفسنا «فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ »لنتمكن من أداء حق العبودية ولنطبّق شرعك في كل مكان .

بحوث

الأول: الآيتان كالتلخيص لكل ما في السورة، فاشتملتا على :

1 - أصول الدين من الإيمان باللَّه وبتوحيده «آمَنَ بِاللَّهِ » ، والإيمان بعدله تعالى «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا ...»الآية، والإيمان بالأنبياء

ص: 450

وبكتبهم، وبالملائكة الذين هم الواسطة في ذلك، والإيمان بما أنزل على الرسول صلی الله علیه وآله وسلم، ومن أجَلّ ما نزل الولاية التي بها كمال الدين وتمام النعمة ورضى الرب تعالى، والإيمان بالمعاد .

2 - وعلى فروع الدين من التكليف بما يسع الناس، وأن عليهم السمع والطاعة مما يؤدي إلى مغفرته تعالى لهم.

3- وعلى الدعاء بالتوفيق وعدم المؤاخذة على التقصير بتشديد التكليف أو بإنزال البلايا، كما فعله بالأمم السابقة لما عصوا، وقد تضمنت السورة قصصاً كثيرة عن بني إسرائيل في عتوِّهم وفي التشديد عليهم، وفي عقابهم بالتيه والرجز والصاعقة والذلة والمسكنة والمسخ... إلخ فيستعيذ المؤمنون باللَّه منها ومن أمثالها .

الثاني : قوله تعالى «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ » .

إفراد الرسول صلی الله علیه وآله وسلم بالذكر تشریف له وتعظيم لشأنه، فهو صلی الله علیه وآله وسلم أول المسلمين، كما قال« قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»(1)،وقال «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ »(2) ومن المعلوم أن الإيمان الكامل هو الذي يستتبع العمل، إذ سبب الخلل في الأعمال هو نقصان الإيمان وفي الحديث : الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان(3)، وحيث إنّ إيمان الرسول صلی اللَّه علیه وآله وسلم هو الإيمان الكامل فعمله في أقصى درجات الصحة والكمال، فهو أولى المؤمنين إذعاناً وعملاً، وليس کرؤساء الباطل الذين يخالفون القوانين ويحاسبون من يخالفها.

ص: 451


1- سورة الأنعام، الآية: 14.
2- سورة الأنعام، الآية: 163.
3- مستدرك الوسائل ج 11 ص 144.

وأحكام الشرع كلّها بحسب المصالح أو المفاسد في متعلقاتها، ولكن تلك المصالح والمفاسد أخذت كحكمة للحكم، فجری ضرب قانون عام حتى لو لم تكن تلك المصلحة أو المفسدة في مورد جزئي، درءاً للهرج والمرج ومنعاً عن التلاعب في الأحكام، وهذا دأب العقلاء أیضاً حيث يلاحظون المصلحة الغالبة ثم يشرّعون قانوناً عاماً ، فإشارات المرور مثلا جعلت لتنظيم السير لكن يلزم الالتزام بها حتى مع خلوّ الشوارع وهكذا في سائر قوانينهم، نعم لو كان الاستثناء كثيراً شرّعوا قانونين مع فرز وتمييز مانع عن التلاعب.

وعلل الأحكام الشرعية كذلك هي حِکَم في الغالب، لكن التشريع يجري على الجميع حتى على رسول اللَّه صلی اللَّه علیه وآله وسلم بملاحظة كونه أسوة ولئلا تتخذ ذريعة إلى ترك الحكم الشرعي أو تحريفه، ولذا وجب غسل جسده الشريف بعد رحيله مع بقائه طاهراً مطهراً فقال أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك (لجريان السنة)(1).

الثالث : قوله « وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ...» إلخ.

الظاهر أن«الْمُؤْمِنُونَ » عطف على الرسول، فقوله «كُلٌّ» مبتدأ، والجملة بعده خبره، فالمعنى آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إلى الرسول، ثم تفصيل هذا الإيمان بقوله « وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ...»الآية، «كُلٌّ» أي كل واحد من الرسول والمؤمنين.

وقد مرّ أن الإيمان باللَّه يستدعي الإيمان بكل ما يرتبط به تعالی فالرسل كلّهم من طرف اللَّه تعالى فإنکار أحدهم تکذیب اللَّه سبحانه

ص: 452


1- تهذيب الأحكام ج1 ص469.

وتعالى، ولذا كان كفراً، وكذا الملائكة هم المنفذون لأوامر اللَّه تعالی ومنهم الوسائط في الوحي فإنكارهم يرجع إلى تكذيبه تعالی فكان كفراً، وكذا الكتب السماوية، فيلزم الإيمان الإجمالي بجميع الأنبياء - وإن لم نعرف أسماء أكثرهم -، وكذا بجميع الملائكة وبجميع الكتب المنزلة غير المحرفة، فهي وإن لم تصلنا لكن الإيمان الإجمالي بها بمعنى الاعتقاد بها وتصديقها واجب، إلّا القرآن فإنَّه وصلنا سليماً عن التحريف بإرادة الرب تعالى فيجب تصديقه مع الإيمان بما فيه والعمل به .

الرابع : قوله تعالى « لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا...» الآية.

لعل سبب عدم ذكر «قالوا» قبل « لَا نُفَرِّقُ» ثم الإتيان به في «وَقَالُوا سَمِعْنَا » ، هو أن الأول لسان حال أي حالهم هو تصديق جميع الأنبياء وعدم التفريق بينهم، والثاني هو تلفظهم وإقرارهم بالسمع والطاعة.

وعدم التفريق والإقرار بالسمع والطاعة هو عكس ما فعله أهل الكتاب حيث آمن اليهود بموسی عليه السلام دون عيسی عليه السلام ومحمد عليه السلام ، والنصاری بموسى عليه السلام وعيسی عليه السلام دون نبي الإسلام صلی الله علیه وآله وسلم ، وكذا عکس قولهم « سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا »

وأما قوله «غُفْرَانَكَ »فهو إما مفعول لسمعنا وأطعنا ، فيكون المراد سمعنا وأطعنا سبب غفرانك وهو الأوامر والنواهي، أو هو كالعلة للسمع والطاعة أي سمعنا وأطعنا لتنال غفرانك وطلباً له، فلا بد من تقدير فعل، أو هو دعاء مستأنف أي فاغفرنا غفراناً منك. وقيل : هو کالمقابلة أي نحن فعلنا ما كان حقاً علينا - وهو السمع والطاعة - فأنجز ما وعدته لنا من الغفران في قولك «فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »(1).

ص: 453


1- سورة البقرة، الآية: 38.

وأما قوله«سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا »، فالسمع هنا بمعنى الإجابة والقبول، لا بمعنی قرع الأسماع، فإن ذلك مشترك بينهم وبين الكفار، كما قال«وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ» (1)وقال :«إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ »(2)، وقال«إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ »(3). ثم إن قولهم وسيعنا وأطعنا يدل على قدرتهم على ذلك، إذ لو كان متعلّق التكليف غير مقدور لما أمكنتهم الإطاعة.

الخامس : قوله تعالى : « لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا » .

هذا بيان لعدله تعالى وبأن ما في هذه السورة وغيرها من أحكام وتشريعات إنما هي في دائرة قدرة الإنسان وسعته، فإنَّه تعالى لم يفترض حرجاً كما قال « وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ »(4).

و(الوسع) بمعنى القدرة، فالمعنى لم يكلّفها إلّا بما تقدر عليه، والذي يقدر عليه الإنسان قد يكون بمقدار نهاية قدرته وقد يكون دون ذلك لكنه سبحانه مَنّ على الناس بأن كلّفهم دون قدرتهم، بل رفع بعض الأحكام إذا اتفق ضرر أو حرج کرفع الصوم عن المريض وأمثال ذلك، فعن الإمام الصادق عليه السلام : ما كلّف اللَّه العباد إلّا ما يطيقون، وإنما كلّفهم في اليوم والليلة خمس صلوات، وكلفهم في كل مئتي درهم خمسة دراهم، وكلّفهم صيام شهر رمضان في السنة، وكلّفهم حجة واحدة، وهم يطيقون أكثر من ذلك، وإنما كلفهم دون ما يطيقون ونحو هذا(5).

ص: 454


1- سورة الأنفال، الآية: 21.
2- سورة الأنعام، الآية: 36.
3- سورة النمل، الآية: 81.
4- سورة الحج، الآية: 78.
5- البحار:ج 5، ص 41 عن المحاسن.

السادس: قوله «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ» .

لعل المقصود أن اللَّه إنما يكلّف الإنسان لا لحاجة منه تعالى إلى ذلك التكليف، بل لحاجة الإنسان نفسه، فالطاعات فيها مصلحة للإنسان فهي له حيث ينتفع بآثارها الوضعية في الدنيا وبثوابها في الآخرة ،والمعاصي فيها ضرر الإنسان دنیا وآخرةً.

ثم إن قوله«كَسَبَتْ» في الطاعات « اكْتَسَبَتْ» في المعاصي، لأجل أن باب الافتعال يدل على التعب والصعوبة، فالطاعات تطابق الفطرة وتطابق نظام التكوين فليس فيها مشقة حقيقية، عكس المعاصي فإن ارتكابها قد يكون متطابق مع الشهوات والهوى لكن حيث كانت متخالفة مع الفطرة ومع تركيبة الإنسان ومع نظام التكوين كان فيها الأعمال والنصب والشقاء، أو كان ذلك باعتبار النتيجة فلوحظت سهولة النتيجة أو صعوبتها.

ثم إن قوله «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ»إلى قوله «مَا اكْتَسَبَتْ»كالجملة المعترضة في وسط دعاء المؤمنين وكالعلة لقولهم «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» أي نسمع ونطيع لأن التكليف ضمن دائرة قدرتنا ولأن نفعه وضرره يعود إلينا، ثم يرجع السياق إلى إكمال الدعاء بقولهم « رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا... » الآية.

السابع : قوله تعالى « رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» .

لما قصّ اللَّه في سورة البقرة كثيراً من مخالفات أهل الكتاب وما نالوه من تشديد وعقوبة دنيوية وعذاب أخروي، كان دعاء المؤمنين من هذه الأمة المرحومة بأن لا يبتليهم اللَّه تعالی بتلك العقوبات إن خالفوا،

ص: 455

مع استرحام بأن تلك المخالفات وإن كانت عن تقصير لكنها ليست متعمّدة بل بسبب النسيان والخطأ، فلذا ندعو بعدم قطع اللطف وباستمرار الرحمة .

و(المؤاخذة) بمعنى العقوبة، ويمكن إدخال الذم واللوم فيها .

وقولهم « إِنْ نَسِينَا » إذا كان عن تقصير بإهمال وإغفال، وإلا فلا يعقل المؤاخذة من غير تقصير فإن ذلك خلاف العدل، أما إذا كان الأمر غير اختياري لكن كانت مقدماته اختيارية فإن العقوبة عليه لا مانع فيها عقلاً، لأن ما بالاختيار لا ينافي الاختيار، كمن يلقي بنفسه من شاهق، فإنَّه لا يتمكن من منع الارتطام بالأرض حتى وإن ندم في حال سقوطه، لكن عمله اختياري باعتبار اختيارية مقدمته فتصح عقوبته .

والنسيان غالباً يكون بسبب الإهمال وعدم الاهتمام بالشيء، وقد ذكر بعض أهل الخبرة من علماء النفس بأن الإنسان إنما ينسى الأمور التي لا يرغب فيها ولا يحبها أما ما يهتمّ به ويشتاق إليه فلا ينساه عادة، وحيث كان النسيان بسوء الاختيار صح العقاب عليه، لكنّ اللَّه تعالى مَنَّ على المسلمين بأن رفع المؤاخذة عمّا نسوه .

وقولهم« أَوْ أَخْطَأْنَا» ما في الحكم أو في تطبيقه بلا نسيان، والفرق بينهما أن (النسيان) هو ترك العمل للغفلة عنه، و(الخطأ) هو الإتيان بالعمل بشكل غير صحيح، وقيل : هو بمعنى الذنب.

الثامن : قوله تعالى « رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا...» الآية .

الإصر) هو الثقل، والمراد التكاليف الشاقة، فإن اللَّه كلّف الأمم السابقة بتكاليف سهلة لكنهم لمّا خالفوا وعصوا وظلموا عاقبهم بأن

ص: 456

صعّب عليهم التكليف كما قال «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ »(1)، وقال«وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ »إلی قوله« ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ »(2).

ومن التشديد عليهم حكمه تعالی بقتل أنفسهم لمّا عبدوا العجل، والتشديد عليهم في أوصاف البقرة لما لم يمتثلوا الأمر فوراً وجعلوا يتحججون، وغير ذلك، كل ذلك وغيره عقوبة لهم لظلمهم وبغيهم.

التاسع: «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ » .

الظاهر أن المراد إنزال العقوبات الدنيوية كالآفات والبلايا الأرضية والسماوية، فيكون قولهم «لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ» بمعنى عدم القدرة على تحمّله، وهذا هو الأقرب لئلا يكون هذا المقطع تكراراً لما قبله ، ويؤيده استعمال باب التفعيل هنا والمجرد هناك.

ويحتمل أن يكون المراد التكاليف الشاقة التي يقدر عليها الإنسان بصعوبة بالغة لكنها تعتبر عرفاً مما لا يطاق، کالأمر بالامتناع عن الأكل إلى حدّ الموت فإن الإنسان يقدر على هذا ولذا قد يُضرب البعض عن الطعام حتى الموت احتجاجاً، لكن يعتبر مثل هذا التكليف مما لا يطيقه الإنسان عرفاً، ولذا قالوا : شرط صحة التكليف هو القدرة العقلية، ولكن من لطفه تعالى أنَّه لم يكلّف المسلمين بالتكاليف الصعبة بما لا يقدر عليها الإنسان عرفاً - وإن قدر عليها عقلاً - وعليه: فيكون الفرق بين هذا المقطع وسابقه أن قوله «وَلَا تَحْمِلْ

ص: 457


1- سورة النساء، الآية: 160.
2- سورة الأنعام، الآية: 146.

عَلَيْنَا إِصْرًا » في التكليف الشاق، «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ » في التكليف الأشق.

العاشر : قوله تعالى «وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا...». الآية .

(العفو) هو المحو، فالمعنى الدعاء بمحو أثر الذنب - وهو العقوبة -، و(الغفران) هو الستر فالمراد الدعاء بعدم الفضح، فقد يعفو اللَّه على الإنسان لكن بعد فضحه عقوبة له، و(الرحمة) هنا بمعنى إنزال النعم وتواترها، أو هي ذكر العام بعد الخاص، لأن العفو والغفران من رحمته لعباده .

ولعل العفو في مقابل النسيان، والغفران مقابل الخطأ، والرحمة مقابل تحميل الإصر وتحميل ما لا يطاق.

وقيل : «وَاغْفِرْ لَنَا »يختلف عن «غُفْرَانَكَ»في الآية الماضية فلا تکرار، فإن هذا مقابل الذنب، وذاك مقابل الطاعة.

الحادي عشر: قوله تعالى « أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» .

قوله «فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»كالتعليل لهذه الأدعية ، أي أنت سیدنا ومالكنا وأولی بنا من أنفسنا فلذلك نسترحمك وندعوك بعدم مؤاخذتنا وعدم تحميلنا الإصر وما لا يطاق وندعوك بالعفو والمغفرة والرحمة.

وأما قوله وفانصرنا على القوم الكافيه فهو دعاء للتوفيق على تطبيق الشرع في كل الأماكن، حيث إن الكفار حجر عثرة أمام انتشار الدين فوفقنا لكي ننتصر عليهم لتعلو كلمتك في ربوع الأرض كلّها .

ص: 458

أو لأن الكفار يدعوننا إلى المخالفة فانصرنا لنتغلب عليهم كما قال« أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ »(1).

أو بمعنى أن سيطرة الكفار قد يؤدي بنا إلى الانحراف لضعفنا، فانصرنا عليهم لئلا يكون هناك مانع على عبادتك وطاعتك، فإن العائق قد يكون من النفس وهنا كان الدعاء بعدم المؤاخذة على النسيان والخطأ، وقد يكون بعامل خارجي فالدعاء بالنصر على القوم الكافرين .

والحمد لله رب العالمين وصلى اللَّه على محمد وآله الطاهرين .

تم في يوم الجمعة 14/ شهر رمضان المبارك/ 1433ه.

ص: 459


1- سورة البقرة، الآية: 221.

الفهرس

الآيات 197 - 199 ...9

الآيات 200 - 203 ...21

الآيات 206 - 207 ...34

الآيات 208 - 210 ...46

الآيتان 211 - 212 ... 54

الآية 213 ...64

الآيات 214 - 216 ...75

الآيتان 217 - 218 ... 87

بحوث في الحبط ...94

فصل في جملة من الأحوال الشخصية ...99

الآيتان 219 - 220 ...103

فصل في مسائل النكاح ...121

أولا: من يجوز نكاحهن ...123

الآية 221 ...123

ثانيا: أحكام الزوجية ...131

الآيتان 222 - 223 ...131

ص: 460

ثالثا: الإيلاء...140

الآيات 224-227 ...140

رابعا: العدة ...149

الآية 228 ...149

خامسا: مرات الطلاق...162

الآيتان 229 - 230 ...162

. سادسا: ما بعد العدة ...172

الآيتان 231 - 232 ...172

سابعا: أحكام الرضاع ...180

الآية 233 ...180

ثامنا: أحكام وفاة الزوج ...190

الآيتان 234-235

تاسعا: الالتزامات المالية...201

1- الحقوق الواجبة ... 201

الآيتان 236-237 ...201

الآيتان 238 - 239 ...... 211

الآيات 240 - 242 ...218

فصل في الجهاد ...225

المطلب الأول: قصة أموات أحياهم اللَّه تعالى ...228

الآيات 243-245.....228

المطلب الثاني: قصة طالوت ...239

الآيتان 246- 247...239

ص: 461

الآية 248 ...252

الآية 249 ...260

الآيات 250 - 252 ...268

المطلب الثالث ...277

الآيتان 253 - 254 ...277

فصل في المبدأ والمعاد ...291

الآية 255 ...294

الآيتان 256 - 257 ...307

الآية 258 ...319

الآية 259 ...327

الآية 260 ...337

فصل في الأمور المالية ...347

الموضوع الأول: الإنفاق ...351

أولا: ثواب الإنفاق ...351

الآية 261 ...351

ثانيا: شرط الإنفاق ... 358

الآيتان 262 - 263 ...358

الآيات 264 - 266 ...365

ثالثا: المال المُنفِق به...374

الآية 267 ...374

رابعا: عوائق الإنفاق ...380

الآيات 268 - 270 ...380

ص: 462

خامسا كيفية الإنفاق ...389

الآيتان 271 - 272 ...389

سادسا: مصرف الإنفاق ...396

الآيتان 273 - 274 ...396

الموضوع الثاني: حول الربا ...402

الآيات 275 - 277 ...402

الآيات 278 - 281 ...417

الموضوع الثالث: حول الدَّين ...425

الآيتان282- 283....425

الآية284....444

خاتمة السورة....449

الآيتان285-286.....449

ص: 463

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.