بحوث معرفية في علم الكلام المجلد 4

هویة الکتاب

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

کربلاء المقدسة

ص.ب(233)

هاتف: 322600، داخلی: 175-163

الكتاب: بحوث معرفية في علم الكلام/ الجزء الرابع/المعاد - موضع الاجتهاد في منظومة التشريع – الغلو

تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، معهد تراث الأنبياء للدراسات

الحوزوية الإلكترونية.

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 500 .

ذو الحجة الحرام 1443 ﻫتموز 2021 م

ص: 1

اشارة

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

قسم اعداد المبلغات

بحوث معرفية

في علم الكلام

الجزء الرابع

المعاد - موضع الاجتهاد في منظومة التشريع – الغلو.

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

اصدارات: جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الأصل الخامس: المعاد

اشارة

إن بحوث المعاد بحوث مطولة، ومفصلة، ونحن سنقتصر على سبع نقاط مهمة:

النقطة الأولى: معنى المعاد وثمرة الإيمان به.

النقطة الثانية: بعض أدلة المعاد

النقطة الثالثة: الأقوال في المعاد.

النقطة الرابعة: النفخ في الصور والحشر

النقطة الخامسة: بعض خصائص يوم القيامة.

النقطة السادسة: الحساب

النقطة السابعة: الخلود

ص: 5

ص: 6

النقطة الأولى: معنى المعاد وثمرة الإيمان به

اشارة

المعاد مأخوذ من العود، وله هنا معاني(1):

الأول: المصير والمرجع، باعتبار أن الآخرة هي مصير الناس.

الثاني: زمان العود والمصير، أي يوم القيامة.

الثالث: مكان العود والمصير، أي مكان القيامة والمصير إلى الجنة أو النار.

وأما المعنى الاصطلاحي فهو بمعنى (عود أرواح الناس إلى أبدانهم بعد الموت، حيث يقوم الناس لله رب العالمين، ويُجازون على أعمالهم الحسنة والسيئة، في اليوم الموعود، وسيكون المصير إلى الجنة أو النار.)(2)

وقال الشيخ المظفر (رحمه الله تعالى): نعتقد أن الله تعالى يبعث الناس بعد الموت في خلق جديد في اليوم الموعود به عباده، فيثيب المطيعين ويعذب العاصين...(3)

وهذا المعنى إنما هو من مختصات الإلهيين، ولا يقول به الماديون، وإنما

ص: 7


1- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية- ج7 ص 11.
2- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية- ج7 ص 11و 12 بتصرف.
3- عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر- عقيدتنا في البعث والمعاد.

هم يقولون (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ)(1)

وفي اعتقادنا –نحن الإلهيين- أن يوم القيامة يتصف بأنه يوم مصير الناس ومرجعهم النهائي، وأنه اليوم الذي سيتم فيه الحساب، وأنه سيكون مهولًا مخوفًا على الظالمين والكافرين، لما سيجدونه من المصير السيء، في الوقت الذي يكون يوم سرور وفرح للمؤمنين، لما يرونه من مصير جميل وحسن.

وقد ذكروا ثمرات عديدة لهذا الاعتقاد، نذكر منها(2):

الثمرة الأولى: تحديد السلوك بالحسن

أن الإيمان بالمعاد من شأنه أن يحدد السلوك بالحسن، بعيدًا عن السيء، ذلك أن الفرد إذا آمن بيوم الحساب الذي لا تُنسى فيه صغيرة ولا كبيرة، وأن مصيره إما الجنة أو النار، فإن عقله –ومن باب دفع الضرر- يأمره أن يبتعد عن كل ما من شأنه أن يُهلكه، وبالاقتراب لكل ما من شأنه أن يُنجيه، فيُصدر العقل الأمر للإرادة أن تكون حيث النجاة، ويبقى التنفيذ بيد الإنسان –كما هو واضح- إذ لا جبر في هذه المسألة.

الثمرة الثانية: توفير الحافز للصبر على مصاعب الدنيا

أن الإيمان بالمعاد يُعطي الحافز للفرد بأن يصبر على بلاءات الدنيا

ص: 8


1- الجاثية 24
2- للتفاصيل يُنظر: الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية- ج7 ص 21 – 31 والكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 266 – 268.

وصعوباتها، إذ ما دام هو بعين الله تعالى، وأن الله تعالى عادل لا يجور، وأنه سيأخذ له بحقه، ويجازيه على ما صبر عليه من صعوبات الأحكام الشرعية في واجباتها ومحرماتها، فإذن لا بأس بالصبر، وبالالتزام بالدين، فإن الجائزة عظيمة.

هذا، وإن للإيمان بالمعاد من وجهة نظر القرآن الكريم ثمراتٍ عديدة، هذه بعضها على سبيل المثال لا الحصر(1):

* اجتناب الشرك وأداء الأعمال الصالحة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾(2).

فالآية تبين أن من يؤمن بالله تعالى وبالعود إليه يوم القيامة ولقائه، فعليه أن يبتعد عن الشرك بالله تعالى.

* تقديم العون المادّي للمحرومين وخشية الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾(3).

الآية واضحة في أن المؤمنين بيوم القيامة يعملون على دفع ما فيه من صعوبات من خلال إعانة المظلومين.

ص: 9


1- راجع: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 266 – 268.
2- سورة الكهف، الآية 110.
3- سورة الإنسان، الآيات 8 إلى 10.

* عبادة الله تعالى وحده وعدم الشرك به: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُون﴾(1).

* عدم إجحاف الناس حقوقهم الاقتصادية: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(2)

وهي واضحة في أن الاعتقاد –وعلى الأقل الظن- بيوم القيامة -حيث سيحاسب الله تعالى الناس على ما بدر منهم- دافع مهم للابتعاد عن أكل حقوق الناس بالباطل.

* الدور التعبوي للمعاد: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ واللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(3)

(... قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ واللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(4)

فمن يؤمن بالله تعالى وبأنه سيرجع إليه يوم القيامة، فإنه سيكون مستعداً

ص: 10


1- سورة يس، الآيتان 22 و 23.
2- المطفّفين 1 - 6
3- التوبة 44 - 45
4- البقرة 249.

لبذل نفسه في ساحات الجهاد في سبيل الله تعالى، واضعاً ثواب الله تعالى نصب عينيه.

ص: 11

ص: 12

النقطة الثانية: بعض أدلة المعاد

اشارة

هناك الكثير من الأدلة على المعاد، ونذكر منها:

الدليل الأول: الدليل القرآني

هناك الكثير من الآيات التي دلت على المعاد ولزومه والأحوال التي تجري فيه والجنة والنار، وهي أكثر من أن تُحصى هنا، والملاحظ أن القرآن الكريم يذكر تلك الآيات بطريقة منبّهة للمؤمن، وأن ذلك اليوم هو من الهول والصعوبة بحيث يستحق أن يلتفت إليه المرء ويحسب له حسابًا دقيقًا.

قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ. قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ

ص: 13

بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ.)(1)

وقال تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَىٰ النَّاسَ سُكارىٰ وَما هُمْ بِسُكارىٰ وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ.)(2)

وقال تعالى (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.)(3)

الدليل الثاني: روايات المعصومين (عليهم السلام)

وهي أيضًا كثيرة جدًا، وقد ذكرت تفاصيل أكثر مما ذكره القرآن الكريم، ولا ضير، إذ إن سنة النبي (صلى الله عليه وآله) وروايات أهل البيت (عليهم السلام) هي المبينة للقرآن الكريم، ومن تلك الروايات التالي:

روي أنه لما عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تبوك إلى المدينة، قدم عليه عمرو بن معدي كرب فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): أسلم يا عمرو، يؤمنْك الله من الفزع الأكبر. فقال: يا محمد، وما الفزع الأكبر، فإني لا أفزع !؟ فقال: يا عمرو، إنه ليس مما تحسب وتظن، إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقى ميت إلا نُشر، ولا حي إلا مات، إلا ما شاء الله، ثم يصاح بهم صيحة أخرى، فيُنشر

ص: 14


1- ق 20 – 35.
2- الحج 1 -2.
3- النور 24 – 25.

من مات ويُصفَّون جميعًا، وتنشقُّ السماء وتهدُّ الأرض وتخرّ الجبال، وتزفر النيران وترمي بمثل الجبال شررًا، فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبُه، وذكر ذنبَه وشُغِلَ بنفسه، إلا ما شاء الله، فأين أنت يا عمرو من هذا؟ قال: ألا إني أسمع أمرًا عظيمًا. فآمن بالله ورسوله، وآمن معه من قومه ناس، ورجعوا إلى قومهم.(1)

وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: يا عباد الله، إن بعد البعث ما هو أشد من القبر، يوم يشيب فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير، ويسقط فيه الجنين، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، يوم عبوس قمطرير، يوم كان شره مستطيرًا. إن فزع ذلك اليوم ليُرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم، وترعد منه السبع الشداد، والجبال الأوتاد، والأرض المهاد، وتنشق السماء فهي يومئذ واهية، وتصير وردة كالدهان، وتكون الجبال كثيبًا مهيلًا بعد ما كانت صمًا صلابًا، وينفخ في الصور فيفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله تعالى، فكيف من عصى بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن إنْ لم يغفر الله تعالى له ويرحمه من ذلك اليوم؟! لأنه يقضي ويصير إلى غيره، إلى نار قعرها بعيد، وحرها شديد، وشرابها صديد، وعذابها جديد، ومقامعها حديد، لا يفتر عذابها، ولا يموت سكانها، دار ليس فيها رحمة، ولا يسمع لأهلها دعوة.

واعلموا يا عباد الله أن مع هذا رحمة الله التي لا تعجز عن العباد، جنة

ص: 15


1- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 158.

عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين، (خيرٌ) لا يكون معها شر أبدًا، لذاتها لا تملُّ، ومجتمعها لا يتفرق، سكانها قد جاوروا الرحمن، وقام بين أيديهم الغلمان، بصحاف من الذهب فيها الفاكهة والريحان.(1)

الدليل الثالث: حكم العقل

إن العقل يحكم بضرورة وجود عالم غير عالمنا، باعتبار:

أ: أنه ثبت أن الله تعالى القادر على كل شيء هو حكيم، لا يفعل عبثًا، ولا يضيع عنده حق أحد.

ب: وأنه يقع في الدنيا الكثير من المظالم التي لم تُنتصف، فكم من ظالم مات من دون أن يؤخذ منه الحق، وكم من مظلوم مات بحسرة حقه وهو يتجرع مرارة الغصب والظلم.

ج: فلو كانت الدنيا هي الخاتمة لكان إيجاد الناس فيها على هذه الحال عبثًا، والحكيم يُجلُّ عن ذلك.

إذن، لا بد من وجود عالم آخر يتم فيه الانتصاف من الظالم وإرجاع الحق إلى المظلوم، وهو يوم المعاد.(2)

ص: 16


1- أمالي الشيخ المفيد ص 265 – 266.
2- هناك أدلة عقلية أكثر دقة من هذا، وهناك من يناقش في جدوى العقل في إثبات المعاد وأن المعاد لا يثبت إلا بالنقل، ولا يهمنا التعرض إلى تلك التفاصيل هنا.

النقطة الثالثة: الأقوال في المعاد

اشارة

يمكن أن نجد عدة أصناف لمنكري المعاد، علمًا أن بعض الإنكار يقوم على فلسفة معينة، وبعضه إنما كان لأجل جلب منفعة دنيوية أو تبعًا لنزوات النفس وشهواتها، والمنكرون باختصار هم التالي:

الأول: الماديون

حيث ذهبوا إلى أن الوجود منحصر بالمادة، فغير المادي ليس موجودًا، وبالتالي فلا وجود للغيب ولا لما وراء المادة، وبذلك أنكروا حتى وجود الروح.

وأكملوا نظريتهم بالقول: إن بداية الخلق إنما كانت صدفة ومن دون علة عالمة قادرة حية حكيمة، وبالتالي، فهذه الحياة هي كل الوجود، وما بعدها من حياة، فلا معاد.

وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ

ص: 17

صادِقِينَ)(1)

فهاتان الآيتان واضحتان في أن الماديين:

1/(يؤمنون بالدهر، أي الزمان، وأنه هو الفاعل المؤثر في الأشياء)(2) والقرآن يرد عليهم مدّعاهم هذا بقوله (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.).

وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى هؤلاء بقوله (عليه السلام): (... فَأَمَّا كُفْرُ الْجُحُودِ فَهُوَ الْجُحُودُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ لَا رَبَّ ولَا جَنَّةَ ولَا نَارَ وهُوَ قَوْلُ صِنْفَيْنِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ يُقَالُ لَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ وهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: (وما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) وهُوَ دِينٌ وَضَعُوه لأَنْفُسِهِمْ بِالاسْتِحْسَانِ عَلَى غَيْرِ تَثَبُّتٍ مِنْهُمْ ولَا تَحْقِيقٍ لِشَيْءٍ مِمَّا يَقُولُونَ قَالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)...)(3)

2/ أنهم يحصرون الوجود بالمادة، ولذلك طلبوا أن يتم إرجاع آبائهم ليروهم فيؤمنوا. (وَإِذا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

الثاني: إنكار المعاد الجسماني رغم الاعتقاد بألوهية الله تبارك وتعالى

وهو قول من آمنوا بوجود الله تعالى، وأنه هو الخالق للكون، ولكنهم في نفس الوقت أنكروا المعاد، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ

ص: 18


1- الجاثية 24 – 25.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج7 ص 85.
3- الكافي للكليني ج2 ص 389 بَابُ وُجُوه الْكُفْرِ ح1.

كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أَفْتَرىٰ عَلَىٰ اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ.)(1)

فهاتان الآيتان واضحتان في أنهم كانوا يؤمنون بالله تعالى، لذلك اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه يفتري عليه كذبًا بقوله بالمعاد!

وقد اعتمدوا على إنكارهم للمعاد على أن الموت عبارة عن إعدام، ولا يمكن إعادة المعدوم، (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)

الثالث: النفعيون

وهؤلاء لم ينكروا المعاد بناءً على دليل أو فلسفة معينة، وإنما أنكروه عمليًا ليفتحوا أمام أنفسهم اللهث وراء شهواتها وغرائزها من دون رادع، إذ عرفنا أن الإيمان بالمعاد يعني ضرورة التقيّد بالحدود التي ترسم خط النجاة، وهذا يلزم منه ترك الشهوات المحرمة، وحصر الانتفاع بالغرائز بالطريق الذي لا يخالف الشريعة، وحتى يتخلّصوا من هذا الرادع أنكروه بألسنتهم، وخالفوا مقتضاه بعملهم.

وإليه الإشارة بقوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلىٰ قادِرِينَ عَلىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ.)(2)

ص: 19


1- سبأ 7 -8.
2- القيامة 1 -6.

فالآيات واضحة في أن سبب إنكار البعض ليوم القيامة هو (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي (ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان)(1)

ويدخل ضمن هؤلاء السلاطينُ الظلمةُ، وأصحابُ المناصب، حيث إنهم يخافون على مناصبهم ويتمسكون بها، فإن الملك عقيم، ولو وجدوا أن إظهار الإيمان بالمعاد لا يحقق طموحهم، لأنكروه، ولكذّبوا به.

الرابع: المعاد الروحاني (دون الجسماني)

الرابع: المعاد الروحاني (دون الجسماني)(2).

الذين قالوا بأن المعاد روحاني فقط، ولا يمكن أن يكون بالبدن، لأن البدن سيُعدم بعد التحليل، ويستحيل إرجاعه.

وبالتالي فهم اعترفوا بالمعاد، ولكنه للروح فقط، فيكون الثواب والعقاب فقط للروح، واللذات والعقوبات ستكون معنوية روحية، ولا لذات مادية.

ولكن فاتهم أن الله تعالى الذي أوجد البدن من العدم، يمكنه أن يعيده بكل يُسْرٍ بعد أن يتحلل وينتشر بين ذرات التراب، إذ بالموت لا يُعدم البدن، وإنما يتحلل ويرجع إلى موادّه الأولية، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتىٰ بَلىٰ إِنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(3)

ص: 20


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج7 ص 30.
2- ذهب إلى هذا الرأي بعض الفلاسفة، من قبيل صدر المتألهين. انظر: الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة لصدر الدين محمد الشيرازي ج5 ص 121 الباب العاشر في تحقيق المعاد الروحاني والإشارة إلى السعادة العقلية والشقاوة التي بإزائها والى السعادة والشقاوة الغير الحقيقيتين وما قيل في بيانهما.
3- الأحقاف 33.

الرابع: المعاد الجسماني والروحاني

وهو ما عليه المشهور من علمائنا.

ص: 21

ص: 22

النقطة الرابعة: النفخ في الصور والحشر

اشارة

الحشر هو الجمع، وفي يوم القيامة سيتم حشر وجمع جميع الناس، بل سيتم حشر المخلوقات جميعاً، قال تعالى (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(1)

هذه الآية واضحة في (أن الحشر سيكون بنحو الجماعات لا الأفراد، وبالقهر، فلا يتخلّف عنه فرد أو جماعة)(2)

فالحشر هو (حشر الأموات بعد إحيائهم بأبدانهم، وعودة أرواحهم إليها، وبعثهم للحساب والجزاء بإرادة الله تعالى وقدرته).(3)

ولقد بيّن القرآن الكريم أن ذلك يتم من خلال النفخ في الصور، وأن النفخ في الصور يكون على مرحلتين، الأولى قبل يوم البعث والحساب، حيث يموت بها كل الأحياء إلا من شاء الله تعالى. قال تعالى: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(4)

ص: 23


1- الكهف 47.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج7 ص 375 – 376.
3- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج7 ص 376.
4- النمل 87.

والثانية نفخة الإحياء حيث يقوم الجميع لرب العالمين، يُبعثون إلى ساحة المحشر ليتم حسابهم.

وقد أشار لهما القرآن الكريم بقوله ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىٰ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(1)

ومن صفات هذا الصور أنه أداة واحدة يُفعل معها نفس الفعل، إلا أن أثره مختلف جدًّا، فبينما تكون النفخة الأولى لإماتة الجميع –إلا من شاء الله- تكون الأخرى لإحياء الجميع وعلى نحو الخلود والدوام بدوام الله تعالى وبإخلاده جل جلاله.

وقد أطلق القرآن الكريم على النفخ في الصور عدة أسماء أخرى، يشير كل اسم منها إلى صفة من صفات هذه المرحلة، ومنها: النقر بالناقور، قال تعالى (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَىٰ الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)(2)

(ولعله سُمي بالناقور هنا لأنه يصدر الصوت الذي يصكّ الأسماع ويؤثر فيها، فكأنه أحدث فيها نقبًا، وعلامة النقب هو التأثر والاستجابة لصوته بالخروج من القبر)(3)

والصيحة، وهي الصوت العالي، قال تعالى (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ

ص: 24


1- الزمر 68.
2- المدّثر 8 – 10.
3- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج7 ص 380.

بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.)(1)

من هو المستثنى في (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ)؟

يُحتمل في معنى هذا الاستثناء أمران:

الأمر الأول: الإشارة إلى شمول القدرة الإلهية

أن المقصود من الاستثناء ليس إثبات عدم موت مجموعة معينة بالنفخة الأولى، وإنما المقصود بيان أن كل حدث يقع في عالم الإمكان فإنما يكون بإذن الله تعالى وإقداره ومشيئته وحوله وقوته، وبالتالي فإن الخيار ما زال بيده جل وعلا، ويمكنه أن يمنع من صدور فعل معين، فيكون المعنى: أنه وبالنفخة الأولى سيموت الجميع، ولكن لو شاء الله تبارك وتعالى أن لا يموت بعضٌ لما مات، ولمَا تأثّر بالنفخ في الصور، ليس لوجود خلل في النفخ في الصور، وإنما لأن أثره مشروط بإذن الله تعالى، فلو شاء الله تبارك وتعالى أن لا يموت البعض، لمَا مات بكل تأكيد.

الأمر الثاني: مجموعة خاصة من المخلوقات

قال في مجمع البيان في بيان هذا المستثنى: (من الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم، وهم: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقيل: يعني الشهداء، فإنهم لا يفزعون في ذلك اليوم. وروي ذلك في خبر مرفوع.(2)

ص: 25


1- الفتح 42.
2- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج7 ص 409.

ويمكن القول:

إن المقصود بهم هم المعصومون (عليهم السلام) ومن تمسك بولايتهم بشكل مطلق، وله بيان تفصيلي.(1)

ص: 26


1- تفصيل هذا البيان هو التالي: إن آيات النفخة الأولى تؤكد على موت الجميع، فيموت من في الأرض، وهم المخلوقات الأرضية، ويموت أيضًا من في السموات، وهم (الملائكة وأراوح الشهداء والسعداء...) [معرفة المعاد- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني مج 5 ج10 ص 110.] وهذه الآيات هي ما صرّحت بأن (من شاء الله) سوف لا يُصعقون ولا يموتون بالنفخة، (فلا بد –إذن- أن يكونوا أفضل وأعلى من الملائكة ومن أرواح أصحاب اليمين والمحسنين، وأن يكون لهم من القدرة والتحمل إلى درجة لا تؤثر في قلوبهم وآذانهم أبدًا تلك الصيحة الشديدة المنبعثة من الصور...) [معرفة المعاد- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني مج 5 ج10 ص 111.] أما من هم؟ فهذا يتم بيانه عبر الخطوات التالية: الخطوة الأولى: إنه تعالى يقول (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ 87) [النمل 87] وفي نفس الوقت يقول جل وعلا بعد تلك الآية: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ.) [النمل 89] فهذه الآية تُصرّح بأن (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) آمنون من الفزع الذي يحصل بسبب النفخ في الصور. إذن، من جاء بالحسنة هو من يأمن من فزغ النفخ في الصور. الخطوة الثانية: ليس المراد من قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) هو كل من عمل الحسنة ولو على نحو الموجبة الجزئية، بأن جاء ببعض الحسنات، ولكنه خلَطها بعمل بعض السيئات، وإلا للزم أن يكون كل من عمل حسنة –ولو حسنة واحدة- آمناً من نفخة الصور، وهذا واضح البطلان. إذن، المراد من قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) هو من عمل الحسنة بالمطلق، بأن لم يعمل معها أي سيئة، وهذا يعني أن الآمن هو المعصوم. ويمكن بيان هذه الخطوة ببيان آخر: إن القرآن يُصرّح بأنّ الذين يشملهم الصعق بالنفخ في الصور سيُحضرون يوم القيامة ويقومون بين يدي الله تعالى، قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىٰ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ.) [الزمر 68] وقال تعالى (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ.) [يس 53] ولكن آية أخرى صرّحت بأن (المخلَصين) –بالفتح- سوف لا يشملهم الحضور، بل إنهم سيُعفون منه، قال تعالى (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ.) [الصافات 127 – 128] فالمخلَصون إذن لا يشملهم الصعق بالنفخ في الصور، وسيُعفون من الحضور بين يدي الله تعالى. ثم إن القرآن يبين أن المخلَص -بالفتح- هو معصوم لا ينال منه الشيطان شيئًا ولا يُغويه، قال تعالى (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.) [ص 82 – 83] وقال تعالى (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ...) [الحجر 39 – 42] إذن، المعصومون هم الذين لا يفزعون ولا يُصعقون بنفخة الصور. الخطوة الثالثة: روائيًا، فإن المقصود من قوله تعالى (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) هو من تمسك بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، فالحسنة هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ روي أنه دَخَلَ أَبُو عَبْدِ الله الْجَدَلِيُّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: (عليه السلام) يَا أَبَا عَبْدِ الله، ألَا أُخْبِرُكَ بِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه خَيْرٌ مِنْها وهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قَالَ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جُعِلْتُ فِدَاكَ. فَقَالَ (عليه السلام): الْحَسَنَةُ مَعْرِفَةُ الْوَلَايَةِ وحُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، والسَّيِّئَةُ إِنْكَارُ الْوَلَايَةِ وبُغْضُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْه هَذِه الآيَةَ. [الكافي للكليني ج1 ص 185 بَابُ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ والرَّدِّ إِلَيْه ح 14.] وعن عباد بن موسى الساباطي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أبا أمية يوسف بن ثابت حدَّث عنك أنك قلت: لا يضر مع الإيمان عمل، ولا ينفع مع الكفر عمل؟ فقال (عليه السلام): إنه لم يسألني أبو أمية عن تفسيرها، إنما عنيت بهذا أنه من عرف الامام من آل محمد (عليه السلام) وتولاه، ثم عمل لنفسه بما شاء من عمل الخير قُبِل منه ذلك، وضوعف له أضعافا كثيرة، فانتفع بأعمال الخير مع المعرفة، فهذا ما عنيتُ بذلك، وكذلك لا يقبل الله من العباد الأعمال الصالحة التي يعملونها إذا تولوا الامام الجائر الذي ليس من الله (تعالى). فقال له عبد الله بن أبي يعفور: أليس الله (تعالى) قال: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه خَيْرٌ مِنْها وهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ.) فكيف لا ينفع العمل الصالح ممن تولى أئمة الجور؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): وهل تدري ما الحسنة التي عناها الله (تعالى) في هذه الآية، هي والله معرفة الامام وطاعته، وقال (عز وجل): (ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وإنما أراد بالسيئة إنكار الامام الذي هو من الله (تعالى). ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): من جاء يوم القيامة بولاية إمام جائر ليس من الله وجاء منكرًا لحقنا جاحداً بولايتنا، أكبه الله (تعالى) يوم القيامة في النار. [أمالي الشيخ الطوسي ص 418 ح 939 / 87.] وهذا يعني أن الأمان يمكن أن يتعدى المعصومين (عليهم السلام) إلى من تمسك بولايتهم بصورة مطلقة، وليس مجرد أنه ادّعى التمسك بها ولكنه خالف هذا التمسك بارتكاب ما يخالف منهجهم (عليهم السلام) العقائدي والفقهي والأخلاقي، فمن تمسك بولايتهم ومقتضياتها إلى حد يصل إلى مرحلة ما يُسمى ب-(العصمة الكسبية) يمكن أن يكون آمنًا من فزع الصيحة والنفخ في الصور. [استفيد هذا البيان من كتاب: معرفة المعاد- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني مج 5 ج10 ص 111 – 120 بتصرف وتلخيص وإضافة.]

ص: 27

ص: 28

النقطة الخامسة: بعض خصائص يوم القيامة

اشارة

من خلال النصوص التي تعرضت ليوم القيامة، يمكن القول: إنه يوم يتميز عن عالمنا بعدة مميزات، تمثل قوانين خاصة بذلك اليوم، ومنها التالي:

الخصيصة الأولى: الدوام والثبات

واضحٌ جدًا أن الدنيا لا ثبات فيها، وأن كل شيء فيها هو إلى التغير والزوال، وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هذه الحقيقة بتعبيرات مختلفة، والواقع يشهد على ذلك أيضًا، فلا يمكن أن نطمئن بحالٍ معينة تكون هي السمة الثابتة في هذه الحياة، فلا ثبات في الدنيا إلا للتغير. وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «لو بقيت الدنيا علىٰ أحدكم لم تصل إلىٰ من هي في يده» (1).

أما في يوم القيامة، فالثبات هي السمة والقانون، فهو إما الجنة، وإما النار، ولا تغير من هذه الناحية.

ص: 29


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 417).

الخصيصة الثانية: بروز إدراك جميع الموجودات

يشير القرآن الكريم إلى أن الموجودات في هذا العالم لها نوع من الإدراك، ولكننا لا نفقه إدراكها، قال تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(1)

وقال تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(2)

وقال تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(3)

وقال تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(4)

فهذه الآيات تشير إلى أن الطيور والجبال والصخور وغيرها لها نوع من الإدراك، ولكننا في هذا العالم الدنيوي لم نطّلع على تفاصيل إدراكها ولا كيفيته.

ص: 30


1- الأنعام 38.
2- الإسراء 44.
3- البقرة (74).
4- الأحزاب (72).

أما في القيامة، فالإدراك والشعور سيكون شاملًا للجميع، وستبرز إدراكات تلك الموجودات، بحيث يتم التواصل بين الإنسان وبينها، وليس أوضح في ذلك من قوله تعالى (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَىٰ النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّىٰ إِذا ما جاؤُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.)(1)

وعن الصادق جعفر ابن محمد (عليهما السلام)، أنه قال: عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهرًا طهّره الله من ذنوبه، وكُتب من زواره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء، وصلُّوا من المساجد في بقاع مختلفة، فإنّ كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة.(2)

وفي وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: يا أبا ذر، ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة، وما من منزل نزله قوم إلا وأصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم.(3)

ص: 31


1- فصلت (19 – 23).
2- أمالي الشيخ الصدوق ص 440 ح 584 / 8.
3- أمالي الشيخ الطوسي ص 534 ح 1162 / 1.

الخصيصة الثالثة: تجسّم الأعمال

تذكر النصوص الدينية أن يوم القيامة سيشهد تجسمًا للأعمال، بحيث إن باطن الإنسان ونواياه وأعماله تظهر على أشكال معينة، وهذا باعتبار ما يُقال من أن للأعمال صورتين: صورة ملكية، وصورة ملكوتية، أو صورة مشهودة مرئية، وصورة غيبية مخفية، فالغيبة مثلًا في صورتها الملكية المشهودة عبارة عن ذكر المؤمن بما يكره، ولكنها في صورتها الملكوتية عبارة عما أخبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)(1)

وهكذا الربا، هو أخذ زيادة على القرض مثلًا، وفي صورته الملكوتية: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ)(2)

وهكذا أكل أموال اليتيم: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامىٰ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعيراً.)(3)

وفي يوم القيامة سيتم تجسم الأعمال على غرار هذه النصوص، وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له: ما أنت؟ فوالله، إني لأراك امرئ الصدق؟! فيقول له: أنا عملك، فيكون له نور أو قائد إلى الجنة، وإن الكافر، إذا خرج من قبره صور

ص: 32


1- الحجرات 12.
2- البقرة 275.
3- النساء 10.

له عمله في صورة سيئة وبشارة سيئة فيقول: من أنت؟ فوالله، إني لأراك امرأ السوء، فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخل النار.(1)

ومن ذلك ما روي عن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالسًا قريبًا من رسول (صلى الله عليه وآله) في منزل أبي أيوب الأنصاري، فقال معاذ: يا رسول الله، أرأيت قول الله تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)(2).

فقال (صلى الله عليه وآله): يا معاذ ! سألت عن عظيم من الأمر، ثم أرسل عينيه، ثم قال: يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتًا، قد ميّزهم الله من المسلمين، وبدّل صورهم بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكَّسون: أرجلهم من فوق، ووجوههم من تحت، ثم يُسحبون عليها، وبعضهم عُميٌ يترددون، وبعضهم صم بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فيسيل القيح من أفواههم لعابًا يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلَّبون على جذوع من نار، وبعضهم أشدُّ نتنًا من الجيف،

وبعضهم يلبسون جبابًا سابغة من قطران، لازقة بجلودهم.

فأما الذين على صورة القردة فالقتّات (النمام) من الناس. وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت. وأما المنكسون على رؤوسهم فأكلة الربا. والعمي: الجائرون في الحكم. والصم والبكم: المعجبون بأعمالهم. والذين يمضغون بألسنتهم فالعلماء والقضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم. والمقطعة

ص: 33


1- كنز العمال للمتقي الهندي ج14 ص 367 – 368 ح 38963.
2- النبأ 18.

أيديهم وأرجلهم: الذين يؤذون الجيران. والمصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان. والذين هم أشد نُتنًا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات، ويمنعون حق الله في أموالهم، والذين يلبسون الجباب فأهل الفخر والخيلاء.(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَا مِنْ مَوْضِعِ قَبْرٍ إِلَّا وهُوَ يَنْطِقُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَنَا بَيْتُ التُّرَابِ أَنَا بَيْتُ الْبَلَاءِ أَنَا بَيْتُ الدُّودِ.

قَالَ (عليه السلام) فَإِذَا دَخَلَه عَبْدٌ مُؤْمِنٌ قَالَ: مَرْحَباً وأَهْلاً، أَمَا واللهِ لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّكَ وأَنْتَ تَمْشِي عَلَى ظَهْرِي، فَكَيْفَ إِذَا دَخَلْتَ بَطْنِي، فَسَتَرَى ذَلِكَ. قَالَ: فَيُفْسَحُ لَه مَدَّ الْبَصَرِ، ويُفْتَحُ لَه بَابٌ يَرَى مَقْعَدَه مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: ويَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ رَجُلٌ لَمْ تَرَ عَيْنَاه شَيْئاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْه، فَيَقُولُ:يَا عَبْدَ الله، مَا رَأَيْتُ شَيْئاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا رَأْيُكَ الْحَسَنُ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْه، وعَمَلُكَ الصَّالِحُ الَّذِي كُنْتَ تَعْمَلُه. قَالَ (عليه السلام): ثُمَّ تُؤْخَذُ رُوحُه فَتُوضَعُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ رَأَى مَنْزِلَه، ثُمَّ يُقَالُ لَه: نَمْ قَرِيرَ الْعَيْنِ. فَلَا يَزَالُ نَفْحَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ تُصِيبُ جَسَدَه يَجِدُ لَذَّتَهَا وطِيبَهَا حَتَّى يُبْعَثَ.

قَالَ (عليه السلام): وإِذَا دَخَلَ الْكَافِرُ قَالَ: لَا مَرْحَباً بِكَ ولَا أَهْلاً، أَمَا والله، لَقَدْ كُنْتُ أُبْغِضُكَ وأَنْتَ تَمْشِي عَلَى ظَهْرِي فَكَيْفَ إِذَا دَخَلْتَ بَطْنِي، سَتَرَى ذَلِكَ.

ص: 34


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج10 ص 242 – 243. وبعض مفردات هذه الرواية تبين عقوبات بعض الذنوب، لا تجسم الأعمال، ولكن أبقيناها للفائدة التربوية.

قَالَ: فَتَضُمُّ عَلَيْه فَتَجْعَلُه رَمِيماً، ويُعَادُ كَمَا كَانَ، ويُفْتَحُ لَه بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيَرَى مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ إِنَّه يَخْرُجُ مِنْه رَجُلٌ أَقْبَحُ مَنْ رَأَى قَطُّ، قَالَ: فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، مَنْ أَنْتَ مَا رَأَيْتُ شَيْئاً أَقْبَحَ مِنْكَ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ السَّيِّئُ الَّذِي كُنْتَ تَعْمَلُه، ورَأْيُكَ الْخَبِيثُ. قَالَ: ثُمَّ تُؤْخَذُ رُوحُه فَتُوضَعُ حَيْثُ رَأَى مَقْعَدَه مِنَ النَّار، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ نَفْخَةٌ مِنَ النَّارِ تُصِيبُ جَسَدَه فَيَجِدُ أَلَمَهَا وحَرَّهَا فِي جَسَدِه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُ، ويُسَلِّطُ الله عَلَى رُوحِه تِسْعَةً وتِسْعِينَ تِنِّيناً تَنْهَشُه لَيْسَ فِيهَا تِنِّينٌ يَنْفُخُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فَتُنْبِتَ شَيْئاً.(1)

وقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: إِذَا بَعَثَ الله الْمُؤْمِنَ مِنْ قَبْرِه خَرَجَ مَعَه مِثَالٌ يَقْدُمُ أَمَامَه، كُلَّمَا رَأَى الْمُؤْمِنُ هَوْلاً مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ لَه الْمِثَالُ: لَا تَفْزَعْ ولَا تَحْزَنْ وأَبْشِرْ بِالسُّرُورِ والْكَرَامَةِ مِنَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ، حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ الله عَزَّ وجَلَّ، فَيُحَاسِبُه حِسَاباً يَسِيراً، ويَأْمُرُ بِه إِلَى الْجَنَّةِ، والْمِثَالُ أَمَامَه. فَيَقُولُ لَه الْمُؤْمِنُ: يَرْحَمُكَ الله نِعْمَ الْخَارِجُ خَرَجْتَ مَعِي مِنْ قَبْرِي ومَا زِلْتَ تُبَشِّرُنِي بِالسُّرُورِ والْكَرَامَةِ مِنَ الله حَتَّى رَأَيْتُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا السُّرُورُ الَّذِي كُنْتَ أَدْخَلْتَ عَلَى أَخِيكَ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا، خَلَقَنِي الله عَزَّ وجَلَّ مِنْه لأُبَشِّرَكَ.(2)

ص: 35


1- الكافي للكليني ج3 ص 241 – 242 بَابُ مَا يَنْطِقُ بِه مَوْضِعُ الْقَبْرِ ح1.
2- الكافي للكليني ج2 ص 190 بَابُ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ح8.

ص: 36

النقطة السادسة: الحساب

اشارة

تؤكد النصوص الدينية على أن من أهم منازل القيامة هو فتح محكمة إلهية عادلة، يتم فيها حساب البشر على كل صغيرة وكبيرة، قال تعالى (... وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً. وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.)(1)

وإن من غايات الحساب هو إظهار العدل الإلهي في عباده، وحكمته وجوده وكرمه في جزائهم، إذ هو يتضمن (إعطاء كل ذي حق حقه، بمجازاة العاملين على أعمالهم، بمعاقبة المسيء، ومكافأة المحسن بالأجر والثواب.)(2)

بالإضافة إلى أنه يدفع العبد إلى التزام العمل الصالح، والابتعاد عن القبيح، إذ ما دام وراءه حساب فلماذا الكسل عن الحسن؟!

ص: 37


1- الكهف 47 – 49.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج8 ص 9.

مميزات الحساب الإلهي

ثم إن الحساب الإلهي يمتاز بأنه:

أولًا: لا يقتصر على الكمّ في الأعمال، وإنْ كان الكمُّ أيضًا مهم، إذ ورد مثلًا استحباب كثرة الحج حيث روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَن أرادَ الدُّنيا والآخِرَةَ فَليَؤُمَّ هذَا البَيتَ، ومَن رَجَعَ مِن مَكَّةَ وهُوَ يَنوِي الحَجَّ مِن قابِل زيدَ في عُمُرِهِ. (1)

ولكن الكمَّ لوحده ليس هو الملاك في القبول، وإنما المهم هو النوع والداخل والجوهر، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(2)

ولذلك ورد التأكيد على أن تكون النية صالحة في العمل، وعلى التركيز على أسباب قبول العمل وإن كان قليلًا.

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ، ليكن لك في كلِّ شيء نيَّة صالحة، حتَّىٰ في النوم والأكل»(3).

وروي عن زيد الشحّام، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّي سمعتك تقول: «نيَّة المؤمن خير من عمله»، فكيف تكون النيَّة خيراً من العمل؟ قال: «لأنَّ العمل ربَّما كان رياء للمخلوقين، والنيَّة خالصة لربِّ العالمين، فيُعطي تعالىٰ

ص: 38


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج2 ص 219 – 220 ح 2222 و 2223).
2- الملك (2).
3- مكارم الأخلاق للطبرسي: 464.

علىٰ النيَّة ما لا يُعطي علىٰ العمل»(1).

ثانيًا: أنه حساب بميزان الحق الذي لا يخطئ ولا يشتبه أبدًا، وهذا ما يولّد الاطمئنان للمؤمن بأن عمله لن يذهب سدىً مهما كان قليلًا، وحتى لو سرق أحدهم منك عملك الصالح في الدنيا ونَسَبه إلى نفسه وخَدَع الناس، فإن ميزان يوم القيامة لا يُخدع، فسيرجع لك عملك وأثره، وسيُعلن ذلك على رؤوس الأشهاد.

وقد روي في وصيَّة الإمام الصادق (عليه السلام) لابن جندب أنَّه قال له: «يا ابن جندب، لا تتصدَّق علىٰ أعين الناس ليزكُّوك، فإنَّك إنْ فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تُطلِع عليها شمالك، فإنَّ الذي تتصدَّق له سرًّا يُجزيك علانيةً علىٰ رؤوس الأشهاد، في اليوم الذي لا يضرُّك أنْ لا(2)

يطَّلع الناس علىٰ صدقتك»(3).

ثالثًا: أن الحساب يكون وفق مستندات وأدلة لا يمكن معها للمجرم أن يُنكر أبدًا، فيُكتفى بحسابه أن يقرأ هو كتابه فيُقِرّ بما فيه، قال تعالى (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(4)

رابعًا: أن الباب مفتوح فيه للشفاعة المقبولة، والتي تنفع في تخفيف

ص: 39


1- علل الشرائع للصدوق 2: 524/ باب 301/ ح 1.
2- هكذا في المصدر، ولعل المناسب هو حذف حرف (لا).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 305).
4- الإسراء 13 – 14.

الحساب أو في تمشية بعض الأخطاء والتجاوز عنها.

إن موضوع الشفاعة من الموضوعات الإسلامية، والتي دلت عليها الكثير من الأدلة، ورتبت عليها الكثير من الثمرات، وهي المقام المحمود الذي وُعد به النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، إذ روي عن الإمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام) في قوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(1) قال: هي الشفاعة.(2)

واعتبرتها بعض الروايات أرجى ما يمكن أن يرجوه العباد يوم القيامة، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) - لما سأله بشر بن شريح البصري: أية آية في كتاب الله أرجى؟ قال (عليه السلام): ما يقول فيها قومك؟ قال: قلت: يقولون (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(3)، قال: لكنّا أهل البيت لا نقول ذلك، قال: قلت: فأي شيء تقولون فيها؟ قال (عليه السلام): نقول (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ)(4) الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة.(5)

وعن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا قمت المقام المحمود تشفعت في أصحاب الكبائر من أمتي،

ص: 40


1- الإسراء 79.
2- تفسير العياشي ج2 ص 314 ح 148.
3- الزمر (53).
4- الضحى (5).
5- تفسير فرات الكوفي ص 570 و 571 ح 734 – 6.

فيشفعني الله فيهم، والله لا تشفعت فيمن آذى ذريتي.(1)

بل إن بعض الروايات صرحت أنْ لا أحد من الناس إلا وهو محتاج إلى شفاعة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فقد روي أنه دخل مولى لامرأة علي بن الحسين (عليه السلام) على أبي جعفر (عليه السلام) يقال له: أبو أيمن، فقال: يا أبا جعفر، يغرون الناس ويقولون: (شفاعة محمد، شفاعة محمد)؟!

فغضب أبو جعفر (عليه السلام) حتى تربّد وجهه ثم قال: ويحك يا أبا أيمن، أغرّك إنْ عفّ بطنك وفرجك؟! أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله)، ويلك، فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار؟

ثم قال: ما أحد من الأولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة.

ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): إن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الشفاعة في أمته، ولنا الشفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا الشفاعة في أهاليهم.

ثم قال: وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، فإن المؤمن ليشفع حتى لخادمه ويقول: يا رب حقّ خدمتي كان يقيني الحر والبرد.(2)

والشفاعة تكون وفق شروط خاصة، وهذا ما تذكره الروايات الشريفة في باب الأعمال التي تخفّف الحساب.

ص: 41


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 370 ح 462 / 3.
2- تفسير القمي ج2 ص 202.

ومن ذلك ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن صلة الرحم تهوّن الحساب يوم القيامة، ثم قرأ: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ.)(1)..(2)

وغيرها من الشروط والروايات التي فصّلها العلماء في حديثهم عن الشفاعة –التي سيأتي بعض الكلام فيها في السؤال الخامس من النقطة السابعة إن شاء الله تعالى-

خامسًا: أن الناس يُدعون في يوم القيامة كلٌّ مع إمامه، وهو مفاد قوله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً.)

وتؤكد النصوص الدينية على أن حساب الشيعة سيكون على يدي أئمتهم (عليم السلام)، فقد روي عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إذا كان يوم القيامة وَكَّلَنا الله بحساب شيعتنا، فما كان لله، سألْنا الله أن يهبه لنا فهو لهم، وما كان لنا فهو لهم، ثم قرأ أبو عبد الله (عليه السلام) (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(3).(4)

ص: 42


1- الرعد 21.
2- الزهد للحسين بن سعيد الكوفي ص 37 ح 99.
3- الغاشية 25 – 26.
4- أمالي الشيخ الطوسي ص 406 ح 911 / 59.

النقطة السابعة: الخلود

اشارة

الخلود معناه البقاء والدوام، بحيث لا يطرأ عليه العدم، وقد أوضح القرآن الكريم أن الدار الآخرة هي دار الخلود، فأهل الجنة مخلّدون في الجنة، وأما أهل النار فبعضهم مخلّد، وبعضهم يشمله العفو الإلهي أو الشفاعة، أو ربما يقضي فترة حكمه في النار ثم يخرج منها.

وإلى كون عالم الآخرة هو عالم الخلود يُشير ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، جيء بالموت فيُذبح كالكبش بين الجنة والنار، ثم يقال: خلودٌ فلا موتَ أبدًا.(1)

وهنا خمسة اسئلة:

السؤال الأول: هل يتنافى خلود الممكن مع بقاء الله تعالى؟

السؤال الثاني: ما هو الوجه في تعليق الخلود على المشيئة؟

السؤال الثالث: ألا يحصل مللٌ في الجنة؟!

السؤال الرابع: كيف يتناسب العذاب الدائم مع الذنب المؤقت؟

السؤال الخامس: هل الشفاعة تشجع على الذنب؟

ص: 43


1- تفسير القمي ج2 ص 223.

السؤال الأول: هل يتنافى خلود الممكن مع بقاء الله تعالى؟

قد يُقال: إن أدلة التوحيد قامت على أنه لا باقي على نحو الخلود غير المنقطع إلا الله تبارك وتعالى، وأما الممكن فليس له في حد ذاته إلا الفناء، فكيف يتناسب هذا مع القول بخلود أهل الجنة في الجنة وبعض أهل النار في النار؟

الجواب:

إن هذا صحيح لو كان النظر إلى ذات الممكن، فالممكن في حدّ ذاته ليس له الخلود، بل هو يحتاج في أصل وجوده وفي استمراره إلى علة فوقه تعطيه الوجود وتفيضه عليه.

ولكن هذا لا يُنافي بقاء الممكن؛ لأن علته التامة (وهو الله تبارك تعالى) أرادت له البقاء، فيكون بقاء الممكن وخلوده ليس من ذاته لينافي أدلة التوحيد الدالة على أن لا باقي إلا الله تعالى، وإنما هو بقاء بإذن الله تعالى وبإخلاد من الله تعالى، لا من ذات الممكن، وهذا لا ضير فيه أبدًا.

وقد صُرّح بهذا السؤال وجوابه فيما روي عن أبي زكريا يحيى بن أبي بكر، قال: قال النظّام [المعتزلي] لهشام بن الحكم: ان أهل الجنة لا يبقون في الجنة بقاء الأبد، فيكون بقاؤهم كبقاء الله تعالى، ومحال أن يبقوا كذلك.

فقال هشام: إن أهل الجنة يبقون بمبقٍ لهم، والله يبقى بلا مبقٍ، أوَ ليس هو كذلك؟!

ص: 44

فقال: محال أن يبقوا للأبد.

قال: ما يصيرون؟ قال يدركهم الخمود.

قال: فبلغك أنّ في الجنة ما تشتهي الأنفس؟

قال: نعم.

قال: فان اشتهوا وسألوا ربهم بقاء الأبد؟

قال: إن الله تعالى لا يلهمهم ذلك.

قال: فلو أن رجلًا من أهل الجنة نظر إلى ثمرة على شجرة، فمدّ يده ليأخذها، فتدلّت إليه الشجرة والثمار، ثم كانت منه لفتة فنظر إلى ثمرة أخرى أحسن منها، فمدّ يده اليسرى ليأخذها، فأدركه الخمود، ويداه متعلقة بشجرتين، فارتفعت الأشجار وبقي هو مصلوبًا، فبلغك أنّ في الجنة مصلوبين؟

قال: هذا محال.

قال: فالذي أتيت به أمحل منه، أن يكون قوم قد خُلقوا وعاشوا فأُدخلوا الجنان، تموّتهم فيها يا جاهل!(1)

(أي وأنت تنسبهم إلى الموت في النشأة الخالدة وتثبت لهم الممات في جنة الخلد يا جاهل.)(2)

ص: 45


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 552 ح 493.
2- من شرح المصدر.

السؤال الثاني: ما هو الوجه في تعليق الخلود على المشيئة؟

قد يُقال:

إن القول بخلود أهل الجنة في الجنة وبعض أهل النار في النار، يخالف قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.)(1)

حيث إن هذه الآيات تدل على أن الخلود معلّق على مشيئة الله تعالى، بمعنى أنه إذا شاء الله تعالى أخرج الطائفة التي يشاء مما هي فيه، وهو ما قد يشي بأنه لا خلود في الحقيقة.

والجواب:

أن معنى الآية هو أنه:

لا ريب بأن إرادة الله تعالى غالبة على كل إرادة، وأنه لا ندّ لإرادته تعالى، فإذا أراد الله شيئًا فإنما يقول له: كن، فيكون، وهذا المعنى شامل لعالم الدنيا والآخرة، ولا يُستثنى منه موجود ممكن على الإطلاق، فحتى لو دخل أهل الجنة في الجنة، فإن إرادة الله تعالى ما زالت على حالها من كونها قاهرة على كل إرادة، فيمكن والحال هذه أن يُخرج الله تعالى المؤمنين من الجنة لو شاء ذلك، فلو شاء فلا شيء يقف بوجهه أبدًا، هذا هو المعنى المقصود من الاستثناء.

ص: 46


1- هود 106 – 108.

وهكذا الكلام في أهل النار.

وبعبارة أخرى: (من الجلي –عقلًا ونقلًا- أن أصحاب الجنة لا يُغادرونها أبدًا، لذا فإن استثناء (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في شأن السعداء لا يدل على تحقق خروجهم ووقوعه في الخارج، بل ينحصر مدلوله في بيان قهّارية الحق سبحانه، وغلبة مشيئته، أي إن إرادة الله المتعال ومشيئته مقدمتان على كل شيء، وحاكمتان عليه، وأنّ أي قانون أو قاعدة لا يحيطان أبدًا بمشيئة الحق تعالى، ولا يُخضعها لحكمه، وإن إرادة الحق واختياره مما لا يُغلب ولا يقُهر أبدًا.

إن أصحاب الجنة ماكثون فيها أبدًا، ولكن بإرادة الله ومشيئته، وأصحاب النار ماكثون فيهًا أبدًا، إلا أن يشاء الله سبحانه، أي إن إرادة الله ومشيئته في حقهم أعلى من كل قانون ووعد، وأنهم –في حال خلودهم- خاضعون لإرادة الله عز وجل، فإن شاء أخرجهم منها دون أي يصدّه مانع أو يردعه رادع.

وهذا الاستثناء الذي يُعرف في تعبير أصحاب التفسير والعرفان باستثناء المشيئة يفيد هذا المعنى)(1)

وقال الشريف المرتضى في بيان هذه الاستثناء:

(أن يكون الاستثناء غير مؤثر في النقصان من الخلود، وإنما الغرض فيه: أنه لو شاء أن يخرجهم وأن لا يخلدهم لفعل، في أن التخليد إنما يكون بمشيئته

ص: 47


1- معرفة المعاد- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني مج 5 ج10 ص 215 – 216.

وإرادته، كما يقول القائل لغيره: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وهو لا ينوى إلا ضربه. ومعنى الاستثناء ههنا: أني لو شئت أن لا أضربك لفعلت وتمكّنت، غير أني مجمع على ضربك.)(1)

وقال الشريف المرتضى (قدس سره) في بيان وجه آخر لهذا الاستثناء:

(أن يكون تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج؛ لأن الله تعالى لا يشاء إلا تخليدهم على ما حكم به ودل عليه، ويجري ذلك مجرى قول العرب: والله لأهجرنك إلا أن يشيب الغراب ويبْيض القار، ومعنى ذلك: أني أهجرك أبدًا من حيث عُلّق بشرط معلوم أنه لا يحصل، وكذلك معنى الآيتين والمراد بهما: أنهم خالدون أبدًا لأن الله تعالى لا يشاء أن يقطع خلودهم.)(2)

السؤال الثالث: ألا يحصل مللٌ في الجنة؟!

بعد وضوح أن أهل الجنة عندما يدخلونها فإنهم سيكونون من الخالدين فيها، وسيتنعمون بلذائذها المختلفة، من أكل وشراب وقصور وحور وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكن ماذا بعد ذلك؟ أَلا يُحتمل أن المؤمن وهو في الجنة يحصل عنده الملل من الأكل والشرب وغيرها؟

الذي سيدخل الجنة هو المؤمن نفسه الذي كان في الدنيا، ونحن بالوجدان

ص: 48


1- أمالي الشريف المرتضى ج4 ص 8 وهو الوجه الخامس الذي ذكره.
2- أمالي الشريف المرتضى ج4 ص 8. وهو الوجه السادس الذي ذكره.

نجد أنفسنا أننا نملُّ من أمرٍ ما إذا تكرّر علينا عدة مرات، فكيف إذا بقي معنا إلى أبد الآبدين؟!

فكيف سيتم علاج الملل المتوقّع في الجنة؟

والجواب:

1/ لا شكّ أن لعالم الآخرة قوانين تختلف عن عالم الدنيا، فلعل الإحساس بالملل هو من خصائص الدنيا، وأما في الآخرة فيُرفع هذا الإحساس، تمامًا كما كان الإصر والأغلال من خصائص عالم الدنيا، وأما في الآخرة فيُرفع الغلُّ من قلوب المؤمنين، ولا يبقى فيها سوى الودّ والحب لبعضهم البعض، قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.)(1)

وقال تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ.)(2)

2/هناك العديد من الأمور واللذائذ الدنيوية، التي لا يملّ منها الإنسان، بل تجده في كل مرة يشتاق إليها، بل بعضها لا يستطيع أن يستغني عنها.

ص: 49


1- الأعراف 42 – 43.
2- الحجر 45 – 47.

انظر مثلًا إلى طعام معين، عندما تشبع منه ستملُّه، ولكنك بعد سويعات قليلة سترجع تشتهيه وكأنك لم تأكل أي طعام من قبل.

وخذ مثالًا على ذلك الحاجة إلى إشباع الغريزة الجنسية.

بل نجد أننا لا نمل من استنشاق الهواء مهما طال بنا الزمن، وفي كل مرة نستنشقه نجد لذة جديدة فيه.

وهكذا مثلًا النوم، فإنك كلما شبعت منه وهجرته، فإنك سرعان ما تعود إليه وتلتذّ به تمامًا بعد سويعات قليلة من العمل والحركة.

بل الماء رغم استعماله المستمر، فإننا نجد لذة في كل مرة نرتشف شيئًا منه، وشوقًا إليه إذا ابتعد عنا سويعات قليلة.

إذن، ملل الإنسان ليس شاملًا لكل اللذائذ والموجودات.

ومعه، فيمكن أن تكون اللذائذ في الآخرة من النوع الذي لا يُملّ، بحيث لا يشبع الإنسان من شيء منها، بل يتجدد له الشوق إليه.

3/ حيث إن نعيم الآخرة لا حدود له، فليكن في الجنة إذن أنواع من اللذائذ غير متناهية، بحيث إنها تكون متجددة على طول الوقت، وكلما وجد المؤمن لذة معينة، جاءته لذة أخرى، وكلما شبع من لذة، اشتاق إلى لذة أخرى، وهكذا دواليك.

خصوصًا مع الالتفات إلى أن الجنة هي من رحمة الله تعالى، والله تعالى غير متناهي، فرحمته جل وعلا كذلك.

ص: 50

وهذا ما تشير له بعض الروايات الشريفة، ومنها ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تعالى خلق بيده جنة لم ترها عين، ولم يطّلع عليها مخلوق، يفتحها الرب تبارك وتعالى كل صباح فيقول: ازدادي طيبًا، ازدادي ريحًا.(1)

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن أهل الجنة توضع لهم موائد، عليها من سائر ما يشتهونه من الأطعمة التي لا ألذّ منها ولا أطيب، ثم يُرفعون عن ذلك إلى غيره.(2)

وحتى لو قيل: بأن اللذائذ هناك متناهية، لكنها على كل حال أكثر بكثير جدًا مما في الدنيا، ومعه، فيمكن القول: إن كثرتها تبعد الملل عنها، فلو فرضنا أن الإنسان يحتاج إلى سنة كاملة ليدور حول كل لذائذ الجنة، فلا شك أنه بعد انتهاء السنة سيكون مشتاقًا جدًا للّذة الأولى التي رآها في أول السنة الفائتة، وهكذا بدون أن يحصل له ملل.

4/لا شك أن رغبات الإنسان غير متناهية، وأنّ عنده القدرة على تخيُّل أمور تُشبع رغباته هي غير موجودة في عالمنا، أو لا يمكن أن تتحقّق في عالمنا، وحيث إن من قوانين الجنة أن المؤمن يحصل على أي نعمة بمجرد أن يتمنّاها، إذن، يمكن القول: إن أماني الإنسان غير المتناهية تمنعه من الملل من نعم الجنة غير المتناهية، يقول تعالى (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَىٰ الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ. لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ

ص: 51


1- الزهد للحسين بن سعيد الكوفي ص 102 باب 19 (باب أحاديث الجنة والنار) ح 278.
2- الزهد للحسين بن سعيد الكوفي ص 102 باب 19 (باب أحاديث الجنة والنار) ح 279.

ما يَدَّعُونَ.)(1)

ملاحظة:

هذا السؤال لا يأتي فيما يتعلق بالعذاب في جهنم والعياذ بالله، إذ لا شك أن الإنسان لا يتعوّد على الألم، وسيبقى يتألم منه ما دام الألم موجودًا عنده ويشعر به، بالإضافة إلى أن بعض الآيات أجابت عن مثل هذا التساؤل، كما في قوله جل جلاله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً)(2)

بالإضافة إلى أنه لا معنى لهذا الكلام في ما يتعلق بالعذاب في جهنم، فإن اللحظة الواحدة منه هي أعظم بكثير من تحمل الإنسان، والنصوص التي ذكرت أنواع العذاب فيها وشدته تكفي لأن يحكم العقل بضرورة العمل على الهرب عنها بعيداً جداً، ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: «وَاعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَىٰ النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا، أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُه، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيه، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُه؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ، ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ؟ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَىٰ النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِه، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِه؟...»(3).

ص: 52


1- يس 55 – 57.
2- النساء 56.
3- نهج البلاغة: 267/ الخطبة 183.

السؤال الرابع: كيف يتناسب العذاب الدائم مع الذنب المؤقت؟

بعد تسليم دلالة الآيات الكريمة على أن بعض أهل جهنم خالدون فيها، وعلى الأقل أن البعض منهم يأخذ فترات زمنية طويلة جدًا –بالقياس إلى عمر الإنسان كله في الدنيا- يأتي السؤال:

كيف يتناسب العذاب الدائم أو الطويل جدًا مع الذنب المؤقت؟

فالإنسان المذنب في الدنيا مهما طال زمن ذنبه فإنه أقل بكثير من الفترة الزمنية لمن يدخل جهنم.

وقد يتطور هذا السؤال إلى السؤال حول تكييف الخلود في جهنم أو المكث فيها فترات طويلة مع العدل الإلهي، فيُقال: هل من العدل أن يُعذّب الإنسان خالدًا في جهنم إزاء أعمال فتراتها الزمنية قليلة جدًا؟

والجواب:

1/أشارت بعض الروايات الشريفة إلى أن الخلود ليس هو فرع فعل السيئة فقط، وإنما هو فرع النية السيئة على دوام فعل الذنب.

وبعبارة أخرى: أن بعض المذنبين يكون قد بنى أمره على أن يعصي الله تعالى وعلى الدوام، بحيث لو أتيح له الخلود في الدنيا لبقي على المعصية، وعلى هذا الأساس يتمُّ تخليده في جهنم.

وإلى هذا المعنى يشير ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّما خُلِّد أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً،

ص: 53

وإنَّما خُلِّد أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يُطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: ]قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ[(1)، قال: «علىٰ نيَّته»(2).

بل البعض منهم وبعد أن يدخلوا جهنم في يوم القيامة، وشعورهم بعذابها بوجدانهم المباشر، لو أتيح لهم الرجوع إلى الدنيا لرجعوا إلى المعصية، فيكون خلودهم في جهنم متناسبًا مع بناء أمرهم وعزمهم على المعصية أبدًا.

قال تعالى (وَلَوْ تَرىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَىٰ النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.)(3)

وقد ورد في تفسير هذه الآية عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: فقد علم الله عز وجل أنه لو ردّهم لعادُوا لما نُهوا عنه.(4)

وهذا المعنى هو ما قد يُعبّر عنه القرآن الكريم بإحاطة السيئة والخطيئة، فالبعض من المذنبين –والعياذ بالله- تحيط به سيئته بحيث تصبح هي الوجه الثابت له، لا تفارقه في أي عالم من العوالم، قال تعالى (بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.)(5)

ص: 54


1- الإسراء: 84.
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 330 و331/ح 94).
3- الأنعام 27 – 28.
4- التوحيد للشيخ الصدوق ص 137 ح8.
5- البقرة 81.

2/إن السؤال مبني على أن العدل يقتضي المساواة بين زمن المعصية والمخالفة وزمن العقوبة، وهذا الأمر ليس صحيحًا إطلاقًا حتى في بعض الأحكام الوضعية بين العقلاء؛ (لأن العلاقة بين الإثم والعقاب ليست علاقة زمانية، بل كيفية، أي إن زمان العقاب يتناسب مع كيفية الإثم لا مع زمانه، فمثلًا قد يُقْدم شخص في لحظة على قتل نفس محترمة، وطبقًا لما في بعض القوانين يُحكم عليه بالحبس الدائم، فهنا نلاحظ أن زمن الإثم لحظة واحدة، في حين أن العقاب قد يبلغ ثمانين سنة، إذن المهم في الإثم هو كيفيته لا كمية زمانه)(1)

3/عالمنا عالم الأسباب والمسببات، ونحن نجد أن النتيجة ليست دائمًا تكون بحجم السبب من حيث الزمن، بل قد يكون زمن النتيجة أطول بكثير من زمن السبب.

لاحظ مثلًا لو أن (شخصًا يُبتلى بالقرحة المعدية نظرًا لإدمانه على المشروبات الكحولية لمدة سبعة أيام تباعًا، فيكون مجبورًا على تحمل الألم والأذى إلى آخر عمره، تُرى هل هذه المعادلة بين هذا العمل السيء ونتيجته مخالفة للعدالة؟!)(2)،

كلا طبعًا، لأن هذا هو مقتضى كون عالمنا عالم الأسباب والنتائج المترتبة، وليس هناك من قانون يقول بضرورة مساواة زمن النتيجة لزمن السبب كما في هذا المثال.

ص: 55


1- صراط الحق للشيخ محمد آصف المحسني (قُدس سره) ج4 ص 169 الناشر: سلسلة الذهب 1395 ش إيران مطبعة ثامن.
2- صراط الحق للشيخ محمد آصف المحسني (قُدس سره) ج4 ص 169 – 170.

(ولو كان عمر هذا الإنسان بدل الثمانين سنة ألف سنة، أو مليون سنة، ولأجل نزوته النفسية بشرب الخمر أسبوعًا يتألم طول عمره، تُرى هل هذا التألم لمليون سنة –مثلًا- مخالف لأصل العدالة؟ في حين أنه أُبلغ حال شرب الخمر بوجود هذا الخطر وعلم بنتيجته؟

ولنفرض أيضًا أن سائق سيارة لا يلتزم بأوامر المرور وضوابطه... وفي لحظة قصيرة تقع له حادثة... ويفقد بذلك عينه أو يده أو رجله في هذه اللحظة، ونتيجة لما وقع يعاني الألم سنين طويلة لفقد البصر أو اليد أو الرجل، فهل تتنافى هذه الظاهرة فيه مع أصل عدالة الله تعالى؟!)(1)

من هذا كله نخلص إلى التالي:

أنه لا ضرورة تستدعي أن يكون هناك مساواة زمنية بين السبب والنتيجة.

فإذا علمنا أن الثواب -وكذا العقاب- في الآخرة إنما هو على ما صدر من الإنسان من أفعال في الدنيا، أي إن الثواب والعذاب في الآخرة إنما هو أثر لسببه -وهو العمل في الدنيا- حينها لا ضرورة تستدعي أن يكون إخلاد أهل جهنم فيها مخالفًا للعدل الإلهي؛ لأن الله تعالى كان قد أبلغ الجميع بما يلزمهم فعله، وأخبرهم أن أثر هذا الذنب المعين هو الخلود في جهنم، فإذا تجاوز البعض على القانون الإلهي وفعل ذلك الفعل الذي يستوجب الخلود في جهنم، لم يكن إخلاده فيها مخالفًا للعدل الإلهي، بل هو مقتضاه ومقتضى

ص: 56


1- صراط الحق للشيخ محمد آصف المحسني (قُدس سره) ج4 ص 170. وانظر أيضًا: نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج6 ص 368.

قانون الأسباب والمسببات.

ولذلك يؤكد القرآن الكريم على أن الجزاء –سواء أكان ثوابًا أم عقابًا- إنما هو لأجل العمل الذي صدر من الإنسان في الدنيا، قال تعالى (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلىٰ نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.)(1)

وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.)(2)

وقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.)(3)

ص: 57


1- الطور 11 – 19.
2- التحريم 6 – 7.
3- الأعراف 42 – 43.

وغيرها من الآيات العديدة في هذا المجال.

السؤال الخامس: هل الشفاعة تشجع على الذنب؟

اشارة

تبين مما تقدم أن من يدخل إلى الجنة فإنه يكون خالداً فيها، وأما من يدخل جهنم، فإنه يمكن أن لا يكون خالداً فيها، وهكذا من يكون مستحقاً للعقاب عند الحساب، فإنه يمكن أن لا يُعاقب.

يمكن للمذنب أن يخرج من جهنم، ويمكن لمن يستحق العقوبة أن تسقط عنه، وذلك بفضل (الشفاعة) التي تعني: تدخّل من يأذن لهم الباري جل وعلا، ليكون وسيلة إليه في تخفيف العقوبة أو إلغائها أصلًا.

وقد يخطر إلى الذهن: أن هذا المعنى يستلزم عدة محاذير، وأهمها: أن معرفة المذنب بالشفاعة يعني تغريره بالمعصية اعتماداً على الشفاعة، وبالتالي سيتجرّأ الكثير من الناس على تقحّم المعصية اعتماداً عليها، هذا فضلاً عن أنه خلاف العدل الإلهي حيث يسمح بالشفاعة للبعض دون غيرهم.

والجواب:

أولاً: لو ضمن جميع المذنبين شمولهم بالشفاعة من دون أي شرط ولا قيد، بحيث إن كل مذنب فهو يدخل تحت دائرة الشفاعة وبضمان تام، فيمكن أن يكون لهذا التساؤل معنى، أما وقد دلت النصوص على أن الشفاعة ليست مطلقة، وليست متاحة للجميع، وإنما هناك شروط لا بد أن يتوفر عليها الفرد ليكون ضمن نطاق الشفاعة، فلا معنى لهذا السؤال.

ص: 58

وهذا يعني: أن على الفرد أن يتوفر على الشروط الخاصة بالشفاعة، ليكون مؤهلاً لنيلها، وتلك الشروط لو اطلعنا عليها لوجدناها تشترط أن يكون الفرد من المؤمنين في هذه الحياة، لا من العاصين، وقد ذكر العلماء تبعاً للنصوص الدينية عدة شروط لها، وخلاصتها(1):

- عدم الإشراك بالله تعالىٰ.

- الإخلاص في الشهادة بالتوحيد، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلَّا الله مخلصاً، يُصدِّق لسانه قلبه»(2).

- عدم كونه ناصبياً، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إنَّ المؤمن ليشفع لحميمه إلَّا أن يكون ناصباً، ولو أنَّ ناصباً شفع له كلُّ نبيٍّ مرسل وملك مقرَّب ما شُفِّعوا»(3).

- عدم الاستخفاف بالصلاة، فعن أبي بصير، قال: قال أبو الحسن الأوَّل (عليه السلام): «إنَّه لمَّا حضر أبي الوفاة قال لي: يا بنيَّ، إنَّه لا ينال شفاعتنا من استخفَّ بالصلاة»(4).

- عدم التكذيب بشفاعة النبيِّ (صلى الله عليه وآله): قال الإمام عليُّ بن موسىٰ الرضا (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من كذب بشفاعة رسول الله لم تنله»(5).

ص: 59


1- انظر: محاضرات في الإلهيّات للشيخ جعفر السبحاني: 467 و468.
2- علل الدارقطني 9: 45.
3- المحاسن للبرقي 1: 186/ ح 198.
4- الكافي للكليني 3: 270/ باب من حافظ علىٰ صلاته أو ضيَّعها/ ح 15.
5- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق 1: 71/ ح 292.

إن الالتزام بهذه الشروط يتنافى مع كون الشفاعة تدفع إلى الجرأة على الذنوب، بل على العكس، هي تدفع الفرد إلى أن يلتزم بالأحكام الشرعية بشروطها التي ذكرتها هذه النصوص.

وبهذا يتبين: أن شمول الشفاعة لمن التزم بهذه الشروط دون غير الملتزم بها، هو عين العدالة ووضعٌ للشيء في موضعه، ولا ظلم ولا تجاوز فيها.

ثانياً: إن هذه الشروط التي ذكرت في الجواب الأول، ليست على نحو العلة التامة للحصول على الشفاعة، بل هي على نحو المقتضي، مما يعني احتمال عدم نيل الشفاعة للفرد رغم أنه التزم بتلك الشروط، بسبب مانع من الموانع.

وبعبارة أخرى:

أن الشفاعة ليست أمراً يستحقه الفرد، حتى إذا لم تشمله كان له الحق بالاعتراض، كلا، بل هي أمر تفضلي من الله تبارك وتعالى، فإن شملت المذنب فهو تفضل من الله تبارك وتعالى، وإلا، فلا يستحق المذنب شيئاً، بل هو يأخذ استحقاقه من العقوبة الإلهية من دون ظلم ولا تجاوز.

فحتى لو توفر الفرد على تلك الشروط، فلا ضمان تماماً بالدخول تحت مظلة الشفاعة، مما يعني بقاء الفرد المذنب داخل دائرة استحقاق العقوبة.

فأين التغرير بالمعصية؟ وأين دفعه نحو الجرأة على الذنب؟

ثالثاً: لو فرضنا أن الفرد المذنب ضمن الشفاعة (وهذا أمر غير ممكن

ص: 60

لعدم اطلاعنا على حقيقة الحال في ذلك)، فإن الشفاعة الكبرى إنما تقع في الآخرة، وبالتالي، فهي تنفي عقوبة الآخرة، لكن يبقى البرزخ الذي هو أيضاً محكمة إلهية، والقبر الذي هو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، فالعقوبة محتملة جداً فيه، وبالتالي، فإن هذا الأمر يدفع الفرد إلى التوبة والأوبة قبل الموت، حتى لا يواجه العقوبة البرزخية.

والحاصل: (أنّ الإنسان قبل أن يصل إلى القيامة والشفاعة الموعودة، سيبقى لمدّة مديدة في عالم البرزخ ويتكبّد أنواع العذاب ولن تنفعه الشفاعة الموعودة، إذاً، أمام الإنسان المجرم في العالم الآخر أنواع العذاب التي تنتظره بعد موته مباشرة، ووجود هكذا وضع يمنع الإنسان من التجري على الذنب بذريعة الشفاعة.)(1)

ومن هنا، وردت بعض الروايات التي تصرح بأن على المؤمن أن يخاف من عذاب البرزخ، حتى لو ضمن الشفاعة في الآخرة، فقد روي عَنْ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنِّي سَمِعْتُكَ وأَنْتَ تَقُولُ: كُلُّ شِيعَتِنَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى مَا كَانَ فِيهِمْ. قَالَ: صَدَقْتُكَ، كُلُّهُمْ والله فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ الذُّنُوبَ كَثِيرَةٌ كِبَارٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا فِي الْقِيَامَةِ فَكُلُّكُمْ فِي الْجَنَّةِ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ الْمُطَاعِ أَوْ وَصِيِّ النَّبِيِّ، ولَكِنِّي والله أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ فِي الْبَرْزَخِ. قُلْتُ: ومَا الْبَرْزَخُ؟ قَالَ: الْقَبْرُ مُنْذُ حِينِ مَوْتِه إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(2).

ص: 61


1- أجوبة الشبهات العقائدية (المعاد) ج5 ص 316.
2- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج3 ص 242 بَابُ مَا يَنْطِقُ بِه مَوْضِعُ الْقَبْرِ ح3.

مع الالتفات إلى أمر مهم جداً، وهو:

أن ما ذكرناه في (ثالثاً) لا يعني أبداً أن الشفاعة لا يمكن أن تنال العبد المؤمن في البرزخ والقبر، كلا، بل إن بعض الروايات دلت على أن عمل العبد ينفعه في قبره، وهو نوع من الشفاعة، ولنسمها شفاعة الأعمال الصالحة، بل ورد أن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) تنفع كثيراً فيه، وأن الدفن في وادي السلام مثلاً ينفع في دفع العذاب في أول ليلة في القبر، ولكن كل ذلك لا يدفع نحو التملص من العمل في الدنيا، لأنه يبقى أمراً غير جزمي، وعلى العبد أن يزيد من أعماله الصالحة والتزامه بالدين ليفسح لنفسه المجال ليلج نعمة الشفاعة.

ومن تلك الروايات ما روي عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستة صور، فيهن صورة هي أحسنهن وجها، وأبهاهن هيئة، وأطيبهن ريحا، وأنظفهن صورة، قال: فيقف صورة عن يمينه، وأخرى عن يساره، وأخرى بين يديه، وأخرى خلفه، وأخرى عند رجليه، ويقف التي هي أحسنهن فوق رأسه، فإن أتى عن يمينه، منعته التي عن يمينه، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست قال: فتقول أحسنهن صورة: من أنتم جزاكم الله عني خيرا؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك، ثم يقلن: من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً،

ص: 62

وأبهانا هيئة، فتقول: أنا الولاية لآل محمد (صلوات الله عليه وعليهم).(1)

4/ فضلاً عن كل ما تقدم، فإن من المتفق عليه، والمنصوص عليه، أن الله تعالى رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنها سبقت غضبه، وأن الله تعالى ينشر رحمته يوم القيامة حتى إن إبليس ليطمع فيها، فلماذا لم يستشكل البعض على سعة هذه الرحمة ولم يقل: إنها تغرّر بالعبد ليفعل المعصية؟

فقد روي عن إبراهيم بن زياد الكرخي، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام): «إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالىٰ رحمته حتَّىٰ يطمع إبليس في رحمته»(2).

وعن الإمام الرضا (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): «إذا كان يوم القيامة تجلىٰ الله عزوجل لعبده المؤمن فيوقفه علىٰ ذنوبه ذنباً ذنباً، ثمّ يغفر الله له لا يُطلِع الله علىٰ ذلك ملكاً مقرَّباً ولا نبيّاً مرسلاً، ويستر عليه ما يكره أن يقف عليه أحد، ثمّ يقول لسيِّئاته: كوني حسنات»(3).

فما أجاب به المستشكل عن سعة الرحمة الإلهية، فنحن نجيب به عن الإشكال في موردنا.

تنبيه:

لا يعني ما ذكرناه من أجوبة أن الشفاعة لا نفع فيها ولا ثمرة ولا أثر في

ص: 63


1- المحاسن للبرقي ج1 ص 288 ب47 باب الشرائع ح 432.
2- أمالي الصدوق: 273 و274/ ح (301/2).
3- عيون أخبار الرضا (علیه السلام) للصدوق 1: 36/ ح 57.

هذه الحياة، بل على العكس، إن فيها العديد من الثمرات، نذكر ثمرتين منها:

الثمرة الأولى: بوابة الأمل

أنها تفتح باب الأمل أمام المذنبين بأن يعملوا على تصحيح أخطائهم بما استطاعوا، وأنهم بسعيهم هذا يقتربون من الدخول تحت الشفاعة، إذ من الواضح أن المذنب لو علم بأنه ستتم معاقبته جزماً، وأنه لن ينفعه ما يعمل من الصالحات -مهما كان- في تخليصه من العقوبة، فإن هذا يؤدي به إلى اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى.

أما لو علم أن باب التوبة مفتوح، وأن الشفاعة يمكن –لاحظ: يمكن وليس جزماً- أن تناله ويتخلص من عقوبة الذنوب، فإنه سيعمل جاهداً على التصحيح، وعلى أن يبقى متعلقاً بالعطف الإلهي والرحمة الإلهية، وهذا أمر مهم جداً في دفع الفرد نحو الرجوع إلى ساحة القدس، والابتعاد على مواطن الرذيلة والذنوب.

الثمرة الثانية: التقرب من الشفعاء

لا شك أن الشفعاء هم مخلوقات مختارة من الله تبارك وتعالى، وهم على درجة عالية من الكمال والقرب الإلهي، قد تعالى (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً.)(1)

وقال تعالى (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ

ص: 64


1- مريم 87.

قَوْلاً.)(1)

وبالتالي، فمن أراد الحصول على الشفاعة، فعليه أن يعمل على أن يتقرب من أولئك الشفعاء، مما يعني أن الفرد سيعمل على أن يربي نفسه ليكون عند حسن ظن أولئك الشفعاء، الأمر الذي يصب في صلاحه بلا أدنى شك.

وقد ذكرت بعض الروايات الشريفة أهم الشفعاء، الذين ينبغي لنا أن نتقرب منهم ونعمل على خلق صلة معهم، ومنها التالي:

عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): الشفعاء خمسة: القرآن، والرَّحم، والأمانة، ونبيكم، وأهل بيت نبيكم.(2)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): لَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ.(3)

ص: 65


1- طه 109.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج2 ص 14.
3- نهج البلاغة ج4 ص 87 الحكمة (371)

ص: 66

بحثان تكميليان

اشارة

في نهاية المطاف في هذه البحوث، نتعرض لبحثين تكميليين مهمين، بشيء من التفصيل، هما:

البحث التكميلي الأول: موضع الاجتهاد في منظومة التشريع

نتعرض فيه إلى موضع الاجتهاد في التشريع الإسلامي، وهل أنه مصدر من مصادر التشريع –كما ذهب إليه العامة- أو أنه عملية بذل الجهد في مصادر التشريع لاستخراج الأحكام الشرعية منها وفق ضوابط منهجية معرفية محدّدة –كما عليه الإمامية، وما يتعلق به من بحوث مهمة، ومنها ما يتعلق بالتقليد ومعناه وبعض الأدلة عليه.

البحث التكميلي الثاني: الغلو، حقيقته، ومصاديقه

حيث نتعرض فيه لمعنى الغلو، وما قيل في مصاديقه، وبيان ما هو من الغلو فعلاً من غيره، ضمن مفردات ومقالات عديدة.

ص: 67

ص: 68

البحث التكميلي الأول: موضع الاجتهاد في منظومة التشريع

اشارة

هنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: مصادر التشريع الإسلامي والعلاقة بينها.

النقطة الثانية: العلاقة بين مصادر التشريع.

النقطة الثالثة: معنى الاجتهاد.

النقطة الرابعة: المشتركات والفوارق بين الاجتهاد الشيعي والسني.

النقطة الخامسة: حدود الاجتهاد الشيعي.

النقطة السادسة: ضرورة الرجوع إلى الفقهاء في زمن الغيبة الكبرى.

ص: 69

ص: 70

النقطة الأولى: مصادر التشريع الإسلامي والعلاقة بينها

اشارة

الكلام هنا حول مصادر التشريع لدىٰ أتباع أهل البيت (عليهم السلام).

كلُّ تشريع يحتاج إلىٰ مصادر يستقي منها موادَّه وفقراته، والتشريع الإسلامي له مصادره الخاصَّة التي لا يمكن تجاوزها إلىٰ غيرها، وتلك المصادر مترابطة فيما بينها ترابطاً وثيقاً جدّاً، لتُكوِّن مجموعاً واحداً تمخض عن التشريع الإسلامي الأكمل.

ومصادر التشريع هي:

1- القرآن الكريم

ففيه كلُّ ما يحتاجه الناس إلىٰ يوم القيامة، وهذا هو مقتضىٰ كونه الكتاب السماوي لآخر الأديان وخاتمها.

وللقرآن الكريم سمات متعلِّقة بالتشريع، أهمُّها شموليته ومرونته، أي قابليته للاستمرار والانطباق علىٰ الموارد المختلفة، فعن الشمولية يقول تعالىٰ: ]وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي

ص: 71

الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ[(1)

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلَّا وله أصل في كتاب الله (عز وجل)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(2).

ولذا يمكن أن تستخرج من القرآن الكريم أهم ما تحتاجه من قوانين تخصُّ الفرد والمجتمع والأُمَّة والبشرية جمعاء، لكن هذا يحتاج إلىٰ متخصِّص في القرآن، ولذا ورد المنع من تفسير القرآن بالرأي، بمعنىٰ التفسير من دون الاعتماد علىٰ الأُصول الصحيحة للتفسير المتمثِّلة بالرجوع إلىٰ المتخصِّص به، وليِّ عنق الآيات حسب المشتهيات والاستحسانات، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «قال الله عزوجل: ما آمن بي من فسَّر برأيه كلامي، وما عرفني من شبَّهني بخلقي، وما علىٰ ديني من استعمل القياس في ديني»(3).

وعنه (صلى الله عليه وآله): «أكثر ما أتخوَّف علىٰ أُمَّتي من بعدي رجل يتأوَّل القرآن يضعه علىٰ غير مواضعه، ورجل يرىٰ أنَّه أحقّ بهذا الأمر من غيره»(4).

وعن مرونته يقول الصادق (عليه السلام) لمَّا سُئِلَ: ما بال القرآن لا يزداد علىٰ النشر والدراسة(5) إلَّا غضاضةً؟ فقال (عليه السلام): «لأنَّ الله لم يُنزله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلِّ زمان جديد، وعند كلِّ قوم غضٌّ إلىٰ

ص: 72


1- الأنعام: 38.
2- الكافي للكليني 1: 60/ باب الردِّ إلىٰ الكتاب والسُّنَّة.../ ح 6.
3- أمالي الصدوق: 55 و56/ ح (10/3).
4- المعجم الأوسط للطبراني 2: 242 و243.
5- أي بالرغم من أنَّه يُنشَر ويُدرَس كثيراً.

يوم القيامة»(1).

2- سُنَّة النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)

المتمثِّلة بأقواله وأفعاله وتقريراته (صلى الله عليه وآله)، فإذا قال النبيُّ (صلى الله عليه وآله) قولاً فيه تشريع، فيجب علىٰ جميع المسلمين امتثال أمره، لأنَّه (صلى الله عليه وآله) ]ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ [(2)

وإذا فعل النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) فعلاً، فهذا يدلُّ علىٰ أنَّ هذا الفعل جائز وليس بمحرَّم، لأنَّ النبيَّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) معصوم في جميع أحواله، فلا يُعقَل أنَّه يفعل فعلاً مخالفاً للقانون الإلهي.

وهكذا تقرير النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فإذا فعل أحدهم فعلاً أمام النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو أجاب عن مسألة شرعية، ولم يعترض عليه النبيُّ (صلى الله عليه وآله)، فهذا يدلُّ علىٰ قبول النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بفعل ذلك الشخص وقوله، وبالتالي يدلُّ علىٰ شرعية الفعل والقول المذكورين بحضرته (صلى الله عليه وآله)، وإلَّا لبيَّن النبيُّ (صلى الله عليه وآله) موضع الخطأ في الفعل أو القول، لأنَّه (صلى الله عليه وآله) مكلَّف بالبيان المطابق للواقع، ولو ترك الخطأ من دون بيان لأوقع الناس في مخالفة الشارع.

والدليل علىٰ لزوم المتابعة التامَّة المطلقة للنبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) كثير من الآيات والروايات، يقول تعالىٰ: ]وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا

ص: 73


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق 2: 93/ ح 32.
2- النجم: 3 و4.

وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [(1)

ويقول تعالىٰ: ]وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ [(2)

ومن السُّنَّة النبويَّة أحاديثُ أهل البيت (عليهم السلام)، لما سنعرف –إن شاء الله تعالى- من رجوعها إلىٰ سُنَّة النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله).

3- الإجماع

بمعنىٰ أنَّنا قد لا نجد دليلاً ما علىٰ حكم شرعي، ولكنَّنا عندما نبحث في أقوال علمائنا نجدهم أطبقوا علىٰ فتوىٰ معيَّنة، وإطباقهم وإجماعهم عليها يكشف لنا عن أنَّهم ربَّما استندوا إلىٰ دليل شرعي تامٍّ، ولكن ذلك الدليل لم يصل إلينا لسبب وآخر، فيمكن حينذاك الاعتماد علىٰ الإجماع في إصدار حكم شرعي، لكن مع الالتفات إلىٰ ما سنذكره بعد قليل عن علاقة الإجماع بالسُّنَّة النبويَّة.(3)

ص: 74


1- الحشر: 7.
2- النجم: 3 و4.
3- بحث الأصوليون معنى وحجية الإجماع في كتبهم الأصولية، ونذكر هنا للفائدة ما ذكره الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره) في أصوله (ج3 ص 102 وما بعدها) ما نصه: الإجماع أحد معانيه في اللغة : الاتفاق ، والمراد منه في الاصطلاح : اتفاق خاص، وهو : إما اتفاق الفقهاء من المسلمين على حكم شرعي ، أو اتفاق أهل الحل والعقد من المسلمين على الحكم ، أو اتفاق أمة محمد [ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ] على الحكم ، على اختلاف التعريفات عندهم . ومهما اختلفت هذه التعبيرات ، فإنها - على ما يظهر - ترمي إلى معنى جامع بينها ، وهو: (اتفاق جماعة، لاتفاقهم شأنٌ في إثبات الحكم الشرعي)... وعلى كل حال ، فإن هذا الإجماع بما له من هذا المعنى قد جعله الأصوليون من أهل السنة أحد الأدلة الأربعة - أو الثلاثة - على الحكم الشرعي ، في مقابل الكتاب والسنة . أما الإمامية فقد جعلوه أيضا أحد الأدلة على الحكم الشرعي ، ولكن من ناحية شكلية واسمية فقط ، مجاراة للنهج الدراسي في أصول الفقه عند السنيين ، أي أنهم لا يعتبرونه دليلا مستقلا في مقابل الكتاب والسنة ، بل إنما يعتبرونه إذا كان كاشفا عن السنة ، أي عن قول المعصوم . فالحجية والعصمة ليستا للإجماع ، بل الحجة في الحقيقة هو قول المعصوم الذي يكشف عنه الإجماع عندما تكون له أهلية هذا الكشف...

والمسألة من هذه الناحية تابعة لاجتهاد المجتهد، فلربما يقبل دليلية الإجماع، ولربما لا يقبلها إلا كمؤيد ينفع في الاحتياط مثلاً.

4- العقل

4- العقل(1):

فللعقل قدرة علىٰ اكتشاف بعض الأحكام التي تكون موضوعاً لحكم شرعي، فمثلاً إذا كان واجبٌ ما لا يتحقَّق إلَّا إذا تحقَّقت مقدّمته، فحتَّىٰ لو لم يحكم الشرع بوجوب مقدّمته، فيمكن للعقل أن يحكم بوجوبها، لتوقُّف الواجب المأمور به عليها.

ص: 75


1- انظر: أصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر ج2 ص 261 بحث الملازمات العقلية، وكذا ج3 ص137 تحت عنوان: (وجه حجية العقل)

ص: 76

النقطة الثانية: العلاقة بين مصادر التشريع

في الحقيقة إنَّ الأصل في كلِّ تلك المصادر هو القرآن الكريم، ولكن المعتمد الأكثر في أخذ الأحكام هو السُّنَّة النبويَّة.

أمَّا الإجماع، فيُشتَرط فيه أن يكون كاشفاً عن قول المعصوم، فيرجع بالتالي إلىٰ السُّنَّة، ولذا قالوا بعدم حجية الإجماع المدركي بل ومحتمل المدركية، لأنه مع وجود المدرك فهو الحجة لا الإجماع.

وليس للعقل أحكام إلَّا في موارد قليلة نسبياً، وذلك في بعض مفردات أصول الدين –كما تقدم في بدايات هذا الكتاب- والموضوعات التي يصلح العقل كحدٍّ أوسط لإثباتها.

أمَّا أنَّ الأصل في أخذ الأحكام هو القرآن الكريم، فهو من الوضوح بمكان، إذ إنَّ المشرِّع هو الله تعالىٰ، وقد نقل إلينا تشريعاته أوَّلاً وبالذات بواسطة القرآن الكريم.

ولكن - وكما قلنا قبل قليل - علينا أن نلتفت إلىٰ أنَّ القرآن الكريم لا يمكن لأيِّ أحد أن يستخرج منه الأحكام وبقيَّة ما يحتاجه، وهو ما عبَّر عنه الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله المتقدِّم قبل قليل: «ولكن لا تبلغه عقول الرجال».

ص: 77

وإنَّما ذلك موكول إلىٰ المتخصِّصين بالقرآن الكريم، والمتخصِّصون هم النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام)، يقول تعالىٰ: ]هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ 7[(1)

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله»(2).

وعن بريد بن معاوية، عن أحد الباقرين (عليهما السلام) في قوله الله (عز وجل): ]وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[: «فرسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم، قد علَّمه الله (عز وجل) جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله ليُنزل عليه شيئاً لم يُعلِّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلَّه، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله بقوله: ]يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا[، والقرآن خاصٌّ وعامٌّ، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه»(3).

ومن هنا كانت أحاديث النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) هي الأساس في التشريع، بمعنىٰ أنَّها الأساس في تفصيل مجملات القرآن الكريم

ص: 78


1- آل عمران: 7.
2- الكافي للكليني 1: 213/ باب أنَّ الراسخين في العلم هم الأئمَّة (عليهم السلام)/ ح 1.
3- الكافي للكليني 1: 213/ باب أنَّ الراسخين في العلم هم الأئمَّة (عليهم السلام)/ ح 2.

وتوضيح التشريعات التي لم تُذكر بالصراحة فيه.

ويدل علىٰ أنَّ القرآن الكريم هو الأساس في تلك الأحاديث هو ما ورد من أنَّه إذا أردت أن تعرف الحديث الصادق من الكاذب فما عليك إلَّا أن تعرضه علىٰ القرآن الكريم، فما وافقه فهو صحيح، وإلَّا فاضرب به عرض الحائط.

فقد قال النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في حجَّة الوداع: «قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه علىٰ كتاب الله وسُنَّتي، فما وافق كتاب الله وسُنَّتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسُنَّتي فلا تأخذوا به»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «خطب النبيُّ (صلى الله عليه وآله) بمنىٰ فقال: أيُّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله»(2).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «كلُّ شيء مردود إلىٰ الكتاب والسُّنَّة، وكلُّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»(3).

ولذا نجد أنَّ الإمام الجواد (عليه السلام) قد أبطل الكثير من الأحاديث التي عرضها عليه يحيىٰ بن أكثم، وذلك بإرجاعها إلىٰ كتاب الله تعالىٰ والكشف

ص: 79


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 246.
2- الكافي للكليني 1: 69/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح 5.
3- الكافي للكليني 1: 69/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح 3.

عن مخالفتها له(1).

ص: 80


1- روىٰ الطبرسي ; في الاحتجاج (ج 2/ ص 245 - 249)، قال: روي أنَّ المأمون بعدما زوَّج ابنته أُمَّ الفضل أبا جعفر، كان في مجلس وعنده أبو جعفر (عليه السلام) ويحيىٰ بن أكثم وجماعة كثيرة. فقال له يحيىٰ بن أكثم: ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي أنَّه نزل جبرئيل (عليه السلام) علىٰ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: يا محمّد، إنَّ الله (عز وجل) يقرؤك السلام ويقول لك: سَلْ أبا بكر هل هو عنّي راضٍ فإنّي عنه راضٍ؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): «لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب علىٰ صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجَّة الوداع: قد كثرت عليَّ الكذابة وستكثر بعدي، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه علىٰ كتاب الله وسُنَّتي، فما وافق كتاب الله وسُنَّتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسُنَّتي فلا تأخذوا به. وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله، قال الله تعالىٰ: ]وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 16[ [ق: 16]، فالله (عز وجل) خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتَّىٰ سأل عن مكنون سرِّه؟ هذا مستحيل في العقول. ثمّ قال يحيىٰ بن أكثم: وقد روي أنَّ مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء. فقال [(عليه السلام)]: «وهذا أيضاً يجب أن يُنظَر فيه، لأنَّ جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقرَّبان لم يعصيا الله قطُّ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا بالله (عز وجل) وإن أسلما بعد الشرك. فكان أكثر أيّامهما الشرك بالله، فمحال أن يُشبِّههما بهما». قال يحيىٰ: وقد روي أيضاً أنَّهما سيِّدا كهول أهل الجنَّة، فما تقول فيه؟ فقال (عليه السلام): «وهذا الخبر محال أيضاً، لأنَّ أهل الجنَّة كلّهم يكونون شباباً ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو أُميَّة لمضادَّة الخبر الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحسن والحسن (علیهما السلام) بأنَّهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة». فقال يحيىٰ بن أكثم: وروي أنَّ عمر بن الخطّاب سراج أهل الجنَّة. فقال (عليه السلام): «وهذا أيضاً محال، لأنَّ في الجنَّة ملائكة الله المقرَّبين، وآدم ومحمّد، وجميع الأنبياء والمرسلين، لا تضيء الجنَّة بأنوارهم حتَّىٰ تضيء بنور عمر؟». فقال يحيىٰ: وقد روي أنَّ السكينة تنطق علىٰ لسان عمر. فقال (عليه السلام): «لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر فقال - علىٰ رأس المنبر -: إنَّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا ملت فسدِّدوني». فقال يحيىٰ: قد روي أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) قال: لو لم أُبعث لبُعِثَ عمر. فقال (عليه السلام): «كتاب الله أصدق من هذا الحديث، يقول الله في كتابه: ]وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسىٰ وَعِيسَىٰ ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً 7[ [الأحزاب: 7]، فقد أخذ الله ميثاق النبيِّين، فكيف يمكن أن يُبدِّل ميثاقه؟ وكلُّ الأنبياء (عليهم السلام) لم يُشركوا بالله طرفة عين، فكيف يُبعَث بالنبوَّة من أشرك وكان أكثر أيّامه مع الشرك بالله؟ وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نُبِئت وآدم بين الروح والجسد». فقال يحيىٰ بن أكثم: وقد روي أيضاً أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) قال: ما احتبس عنّي الوحي قطُّ إلَّا ظننته قد نزل علىٰ آل الخطّاب. فقال (عليه السلام): «وهذا محال أيضاً، لأنَّه لا يجوز أن يشكَّ النبيُّ (صلى الله عليه وآله) في نبوَّته، قال الله تعالىٰ: ]اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 75[ [الحجّ: 75]، فكيف يمكن أن ينتقل النبوَّة ممَّن اصطفاه الله تعالىٰ إلىٰ من أشرك به؟». قال يحيىٰ: روي أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) قال: لو نزل العذاب لما نجا منه إلَّا عمر. فقال (عليه السلام): «وهذا محال أيضاً، لأنَّ الله تعالىٰ يقول: ]وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 33[ [الأنفال: 33]، فأخبر سبحانه أنَّه لا يُعذِّب أحداً ما دام فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما داموا يستغفرون».

موقع أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) من مصادر التشريع الإسلامي.

إنَّ أحاديثهم (عليهم السلام) هي بمستوىٰ أحاديث النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لأنَّهم يستقون أحاديثهم منه (صلى الله عليه وآله)، وهذا ما أكَّدته الروايات الشريفة، فقد روىٰ جابر، قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر(عليهما السلام): إذا حدَّثتني بحديث فأسنده لي، فقال: «حدَّثني أبي، عن جدّي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله (عز وجل)، وكلُّ ما أُحدِّثك بهذا الإسناد»، وقال: «يا جابر، لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها»(1).

وروىٰ حفص بن البختري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): نسمع الحديث منك، فلا أدري منك سماعه أم من أبيك؟ فقال: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)»(2).

ومن هنا كانت واحدة من طرق معرفة صحَّة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) هي نفس الطريقة التي نكشف بها صحَّة أحاديث النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهي

ص: 81


1- أمالي المفيد: 42/ ح 10.
2- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي 27: 104/ ح (33331/86).

طريقة العرض علىٰ القرآن الكريم.

عن عبد الله بن يعفور...، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومن لا نثق به، قال: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإلَّا فالذي جاءكم به أولىٰ به»(1).

ص: 82


1- الكافي للكليني 1: 69/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب/ ح 2.

النقطة الثالثة: معنى الاجتهاد

اشارة

إنَّ اصطلاح الاجتهاد يُطلَق علىٰ معنيين(1):

المعنىٰ الأوَّل: الاجتهاد مقابل النصِّ

أو الاجتهاد بالرأي، وهذا هو الذي يرفضه الشيعة، إذ معناه أنَّ الفقيه

ص: 83


1- قال السيد المرعشي في (القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد، ج 1 ص 127 و 128) ما نصه: كما اختلف معناه عند السنّة والشيعة ، فإنّه في مدرسة أبناء العامّة جعل الاجتهاد في عرض النصّ من الكتاب والسنّة ، فيفتي أوّلًا بهما وإلَّا فبرأيه الاجتهادي ولو مثل القياس والمصالح المرسلة الظنّية التي لا تغني من الحقّ شيئاً ، حتّى أدّى الأمر إن اجتهدوا في مقابل النصّ ، فحرّموا ما كان حلالًا في زمن الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله ) كتحريم المتعتين ، وقتلوا سيّد الشهداء سبط رسول الله الحسين بن علي ( عليهما السّلام ) اجتهاداً من يزيد شارب الخمور سفّاك الدماء . وعلى مثل هذا الاجتهاد بالرأي الذي امتاز به أصحاب المدرسة السنّية شنّ أئمة أهل البيت ( عليهم السّلام ) هجوماً عنيفاً ، وتبعهم على ذلك رواتهم وأصحاب مدرسة المذهب الإمامي من العلماء الأعلام حتّى القرن السابع ، إلَّا أنّ العلَّامة الحلَّي ( قدّس سرّه ) المتوفّى ( 676 ه ) هذّب الاجتهاد وفتح باباً جديداً فيه وجعله في طول النصّ ، وإنّه عبارة عن عملية الاستنباط ، أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلَّتها التفصيلية من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ثمّ توسّع هذا الاجتهاد ، ممّا أوجب التوسّع في علم أُصول الفقه الذي يبتنى عليه الفقه ، لما فيه من القواعد العامّة والكبريات والعناصر المشتركة السيّالة في كلّ الفقه ، وصار الاجتهاد عبارة عن عملية تفاعل بين الفقه وأُصوله من أجل استنباط الحكم الشرعي . وكان الاجتهاد مفتوح الباب في المدرسة الشيعية ، يتقدّم ويتطوّر بتقدّم العلم وتطوّر الزمان ، فيزاد على ثروته العلمية والعملية ، وتثرى مباحثه ومحتوياته بين آونة وأُخرى .

إذا لم يجد نصّاً علىٰ الحكم الشرعي، فإنَّه يُعمِل فكرَه ورأيَه، فيحكم حسب ما يراه هو ويستحسنه، بل قد يحكم علىٰ خلاف ما ثبت شرعاً، لأنَّ رأيه يرىٰ ذلك! ممَّا يعني سلب الحجّية عن أحاديث النبيِّ (صلى الله عليه وآله) ولو بطريق غير مباشر.

وقد أُطلق علىٰ أتباع هذا الاجتهاد بأتباع مدرسة الرأي، في قبال أتباع أهل البيت (عليهم السلام) الذين يرون وجوب اتِّباع النصِّ والتعبُّد المطلق به وعدم جواز مخالفته، كالنصِّ علىٰ خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجواز الزواج المنقطع، وعمرة التمتُّع، وعدم تحريف القرآن، وغيرها من المسائل.

وقد روي عن حمّاد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلَّا وله حدٌّ كحدِّ الدور، وإنَّ حلال محمّد حلال إلىٰ يوم القيامة، وحرامه حرام إلىٰ يوم القيامة...»(1).

فما بيَّنه الرسول (صلى الله عليه وآله) حجَّة مطلقاً وإلىٰ يوم القيامة، ولا يُسمَع كلام بعض الهمج ممَّن يحاول سلب الحجّية عن أقواله (صلى الله عليه وآله).

المعنىٰ الثاني: الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي من مصادره الشرعية الأصيلة: القرآن والسُّنَّة

وهذا المعنىٰ هو الذي يقصده الشيعة، ويجعلونه واجباً كفائياً، وليس هو مصدراً للتشريع في عرض المصادر الأُخرىٰ، وإنَّما هو عملية استخراج للحكم من نفس النصِّ، فهو ابن للنصِّ ولا يعارضه أبداً. (وستتبين المسألة أكثر في مستقبل البحث إن شاء الله تعالى).

ص: 84


1- بصائر الدرجات للصفّار: 168/ الجزء 3/ باب 13/ ح 7.

والشيعة في ذلك يستندون إلىٰ أدلَّة خاصَّة، مثل ما روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّما علينا أن نُلقي إليكم الأُصول، وعليكم أن تُفرِّعوا»(1).

وللمجتهد شروط لا يمكن حصولها إلَّا بعد بذل جهد جهيد ووقت طويل، والتزام بالورع والتقوىٰ، ومعايشة القرآن الكريم وأحاديث السُّنَّة الشريفة لسنوات طوال، وفوقه التوفيق الإلهي.

ص: 85


1- مستطرفات السرائر لابن إدريس: 575.

ص: 86

النقطة الرابعة: المشتركات والفوارق بين الاجتهاد الشيعي والسني

اشارة

يشترك كلٌ من الاجتهاد الشيعي والآخر في التالي:

1/ينتهي إلى الظن في نتائجه.

2/ يعتمد الخبرة والتخصص.

3/يتقوّم بالفحص والتنقيب وبذل الوسع.

وهل هما حقيقة واحدة، أم أن بينهما اختلافاً بنيويا، وأين؟

الجواب:

كلا، هما معنيان، وبينهما اختلاف جوهري، ولبيان الفرق بينهما نذكر الأمور التالية:

الأمر الأول: موقعية أهل البيت (عليهم السلام) من السنة

رغم قبول كلٍّ منهما مصدرية القرآن الكريم والسنة النبوية، إلاّ أن هناك اختلافاً جوهرياً بينهما في مصدرية أهل البيت (عليهم السلام)، أي في شمول السنة -التي تُعتمد كمصدر للتشريع- لهم (عليهم السلام).

ص: 87

فالشيعة يرون التالي:

- أن السُنّة تشمل قول وفعل وتقرير النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وقد تمّ اعتماد هذه الحقيقة في فقههم بشكل مُشبّع.

- ولأن أهل البيت (عليهم السلام) معصومون.

- وأن علمهم لدني خاص(1)، وليس كسبياً اجتهادياً، فهم مصدر للتشريع وليسوا مجتهدين ولا رواة، وبالتالي فقولهم يؤخذ تعبّداً على حد سنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

أما الفريق الآخر، فقد خصّ السنة بسنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، الأمر الذي انعكس على فقههم بانعدام الاستشهاد بقول أو فعل أو تقرير المعصومين (عليهم السلام)، حتى إنهم لم يتعاملوا مع المعصومين (عليهم السلام) فقهياً ولو على

ص: 88


1- أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من العلم الخاص في العديد من الآيات الكريمة، ومنها ما في سورة الكهف حيث قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ واللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ واللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، وقوله تعالى: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ). وقد أشارت الروايات إلى ذلك أيضاً، ومنها ما جاء في الكافي للكليني ج1 ص 264 بَابُ جِهَاتِ عُلُومِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) الحديث رقم (1): عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ مُوسَى (عليه السلام) قَالَ: مَبْلَغُ عِلْمِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ: وُجُوه مَاضٍ وغَابِرٍ وحَادِثٍ، فَأَمَّا الْمَاضِي فَمُفَسَّرٌ وأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ، وأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ ونَقْرٌ فِي الأَسْمَاعِ، وهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا ولَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا. وعلى منوالها عدة روايات. وقد تقدم الحديث التفصيلي عن أدلة العلم اللدني لدى أهل البيت (عليهم السلام) في الجزء الثالث.

مستوى التعامل مع الصحابي والتابعي!

الأمر الثاني: موقعية الظن
اشارة

صحيح أن كلاً من الاجتهادين ظني – أي إن النتائج ظنية في كل منهما- ولكنهما ليسا حقيقة واحدة، بل إن هناك فرقاً فارقاً بين الظن الذي يؤدي إليه كلٌ منهما، وذلك من جهتين:

الجهة الأولى

أن الظن في الاجتهاد الشيعي لا يؤدي إلى المثالية والتسلسل، فليس له موضوعية في حدّ نفسه، بل هو ينتهي إلى المعصوم واليقين، وهذا ما انعكس عملياً على القول بعدم حجية كل ظن، بل إن الظن حجةٌ في الجملة، فما لم تثبت حجية الظن بالدليل القطعي، أو قل: ما لم ينته الظن إلى اليقين المعصوم فتنقطع سلسلة الظن، فهو ليس بحجة.

فالظن إنما يكون حجة عندنا فيما إذا ارتبط بالمعصوم بطريقة وبأخرى، أي إنه لا بد أن يصل الظن إلى جهة قطعية مضمونة الحقانية تقطع التسلسل، ولا يصح أن ينتهي الظن إلى الظن، إذ الظن لا يصلح أن يكون بداية وإلاّ كانت المثالية أو السفسطة التي تعني في واحدة من حيثياتها أن البداية من الذهن، بينما الواقعية هي التي تعتبر البداية من الواقع.

أما العامي، فقد اعتبر الظن في حدّ نفسه حجة، حتى لو كان ظناً شخصياً.

ص: 89

الجهة الثانية

تأسيساً على الجهة السابقة: أن الظن –عندنا- عندما تم تأطيره وتحديده وإنهاء نسبه إلى اليقين المعصوم، فينحصر الجهد الاجتهادي عملياً في فهم النص لا في فهم الواقع، أي إن العمل الاجتهادي عند الشيعة إثباتي دلالي لا ثبوتي، والسعة الملحوظة في الاجتهاد الشيعي وفتح بابه إنما هي عمليات حفرية في النص لا في الواقع، بعد أن وفّرت النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) ما يستغني معه الباحث عن الخوض في الواقع مباشرة.

أما الفريق الآخر (أعني العامة)، فعمله الاجتهادي جاء مزدوجاً، فإنه إلى جانب فهم النص فقد تمّ التعاطي مع الواقع مباشرة، وإن لم يكن بمعزل عن النص الديني، ولكنهم أرادوا ملامسة الواقع مباشرة، ولو بقياس واقع على واقع آخر.

ويتفرع على هذا: نظريتا: التخطئة التي يقول بها الشيعة، والتصويب التي يقول بها العامة، فنحن انتهينا إلى التخطئة لأن عملنا مع فهم النص لا مع الواقع، وهو قد يُصيب الواقع وقد لا.

فالفارق إذن هو في الموادّ للاجتهادين، مما أدّى إلى قبول لون من ألوان الظن عندنا، لا مطلق الظن كما عند العامة.

وترتب على هذا الخلاف –فيما ترتب عليه- فتح باب الاجتهاد في النص عندنا، وغلقه عند الآخر. وهي مفارقة تستحق التأمل العميق، ففي حال أن الاجتهاد الشيعي كان في دائرة مغلقة إلاّ أن الاجتهاد بقي متاحاً وبقوة

ص: 90

وبتطور، في الوقت الذي لم يكن الاجتهاد الآخر مغلقاً ومسيّجاً، إلاّ أنه أغلق باب الاجتهاد!

دليل روائي:

مما يُصرح بعدم حجية كل ظن، وبضرورة ارتباط الظن باليقين والمعصوم، ويكشف عن فرق فارق في اجتهاد القوم والاجتهاد الذي يعتمد عليه أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، هو ما روي عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال لأبي حنيفة وقد دخل عليه، قال له: يا نعمان، ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصاً من كتاب الله ولا خبراً عن الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أقيسه على ما وجدت من ذلك، قال له: إن أول من قاس إبليس فأخطأ إذ أمره الله عز وجل بالسجود لآدم (عليه السلام)، فقال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، فرأى أن النار أشرف عنصراً من الطين، فخلده ذلك في العذاب المهين، أي نعمان، أيهما أطهر المنيُّ أم البول؟ قال المنيّ، قال: فقد جعل الله عز وجل في البول الوضوء وفى المنيّ الغسل، ولو كان يحمل على القياس لكان الغسل في البول، وأيهما أعظم عند الله، الزنا أم قتل النفس؟ قال: قتل النفس، قال: فقد جعل الله عز وجل في قتل النفس شاهدين وفى الزنا أربعة، ولو كان على القياس لكان الأربعة الشهداء في القتل، لأنه أعظم، وأيهما أعظم عند الله، الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة، قال: فقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحائض أن تقضى الصوم، ولا تقضى الصلاة، ولو كان على القياس لكان الواجب أن تقضى الصلاة، فاتق الله يا نعمان، ولا تقس، فإنا نقف غدا، نحن وأنت ومن خالفنا، بين يدي الله، فيسألنا عن

ص: 91

قولنا، ويسألكم عن قولكم، فنقول: قلنا: قال الله وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: رأيْنا وقِسْنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء.(1)

الأمر الثالث

إن الاختلاف بين الاجتهاد الشيعي والسني هو في موقعية الاجتهاد والمجتهد، ببيان:

أن الشيعة يجعلون الاجتهاد والمجتهد في صلب العمود الفقري للتسلسل المعرفي الرتبي، والتسلسل المعرفي عندنا هو بالصورة التالية:

أولاً: الرسالة والرسول.

ثانياً: الإمامة والإمام.

وهذه الإمامة مستمرة غير منقطعة إلى يوم القيامة، نعم، في عصر الحضور فالرجل الأول هو المعصوم لا غير، والفقيه يكون وكيلاً عن الرجل الأول وهو المعصوم، أما في ظرف غيبة المعصوم، فالفقيه يكون الرجل الأول لكن بالوكالة لا بالأصالة؛ اعتماداً على ما ورد عن المعصوم نفسه من إرجاع الناس إلى الفقيه بالتقليد [وهو ما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى].

فالمجتهد هو الرجل الأول بالنيابة عن المعصوم، وترتب على هذا: أن الكلمة الفيصل عند الشيعة تكون للفقيه لا للحاكم والسلطان، ولا دخل للحكم ولا للحاكم في الترتيب المعرفي، بل المحورية كل المحورية إنما هي

ص: 92


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ج1 ص 91.

للعلم والعالم، وحتى من قال بولاية الفقيه العامة، فهو إنما قال بها اعتماداً على كون الولي عالماً فقيهاً، لا مجرد كونه حاكماً.

وترتب على هذه المنظومة المعرفية:

1/انضباطُ ومنهجيةُ الوصول إلى مرتبة الفقيه.

2/ضرورة التخصص العلمي فيها.

3/تحديدها بخطوط حمراء لا تُتجاوز أبداً، ووجود المنهج المنضبط وتطوره ضمن هذه المرتبة العلمية التخصصية.

أما عند السنة، فإن المجتهد لا يمثل أي حلقة أساسية في تراتبية المعرفة عندهم، فالتراتبية عندهم تبدأ بالنبي، وتنتهي بالحاكم، لا غير، وما المجتهد إلا أداة من أدوات الحاكم، وهو مجرد تابع له لا غير، وما العلم إلا وظيفة من الوظائف التي يُكلِّف بها الحاكمُ المتخصّصَ بها وهو المجتهد، بحيث كان الرجل الأول بعد النبي عندهم هو الحاكم لا المجتهد، وهذا ما أفرز تبعية المجتهد للحاكم عندهم، بل وأفرز إطلاق لقب (خليفة الرسول) على الحاكم دون المجتهد، وبالتالي تكون المحورية عندهم هي للقدرة والحكم، سواء تمت تغطية هذه القدرة بالعلم أو لا.

والخلاصة: أن الاختلاف بين الاجتهادين هنا هو في رتبته ضمن التراتبية المعرفية(1)،

وطبعاً ترتب عليه الكثير من الآثار التي انسحبت حتى على البُنية

ص: 93


1- وهذا الاختلاف غير ما تمت الإشارة إليه في الجواب الأول الذي كان اختلافاً في الجوهر.

الاجتماعية العامة، فضلاً عن الأحكام الشرعية، والتي من أهمها: شرعية أو عدم شرعية فكرة معارضة السلطة الظالمة.

استطراد: التسلسل القرآني للثوابت المعرفية لدى الشيعة
اشارة

عند التأمل في الثوابت المعرفية لدى الاجتهاد الشيعي، نجد أنه مستوحى من آيات القرآن الكريم، ضمن تسلسل منطقي منهجي، خلاصته الثوابت التالية:

الثابت الأول: انحصار حق التشريع بالله عز وجل

وهذا ثابت مذهبي واضح، فحتى تشريع المعصوم (عليه السلام) إنما هو في ظل تشريع الله تعالى وبإذنه وبتخويل منه.

قال تعالى في بيان هذا الثابت: (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1)

وقال تعالى (قُلْ إِنِّي عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ)(2)

الثابت الثاني: محورية الوحي في تشريعات النبي (صلى الله عليه وآله)

فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليس مجتهداً من عند نفسه شخصياً، وإنما هو مشرّع في

ص: 94


1- يوسف 40.
2- الأنعام 57.

طول وبإذن الله تعالى.

وفي بيان هذا الثابت يقول تعالى (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحىٰ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىٰ وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(1)

فالنبي هنا وكما تصرح الآية، يُبين للناس أنه لا يجتبي من عنده شيئاً إلا ما جاءه من خلال الوحي وما أُذن له به.

وفي نفس السياق جاء قوله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ)(2)

وقد بيّنت بعض الروايات الشريفة أن تشريع النبي (صلى الله عليه وآله) إنما كان بتفويض من الله تعالى، فقد روي عن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: «إنَّ الله عز وجل أدَّب نبيَّه فأحسن أدبه، فلمَّا أكمل له الأدب قال: (إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ 4)(3)، ثمّ فوَّض إليه أمر الدين والأُمَّة ليسوس عباده، فقال عز وجل: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(4)، وإنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان مسدَّداً موفَّقاً مؤيَّداً بروح القدس، لا يزل ولا يخطئ في شيء ممَّا يسوس به الخلق، فتأدَّب بآداب الله...(5)

ص: 95


1- الأعراف 203.
2- النجم 4.
3- القلم: 4.
4- الحشر: 7.
5- الكافي للكليني 1: 266 و267/ باب التفويض إلىٰ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلىٰ الأئمَّة (عليهم السلام) في أمر الدين/ ح 4.
الثابت الثالث: البيان القرآني التام لكل شيء

إن القرآن الكريم جاء ببيان شامل لكل جوانب الحياة، الأمر الذي صرّحت به العديد من الآيات الشريفة، أمثال قوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(1)

وقوله تعالى (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلىٰ هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىٰ وَرَحْمَةً وَبُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)(2)

وقوله تعالى (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرىٰ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىٰ وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(3)

الثابت الرابع: إلقاء البيان في صدر النبي وأولي الأمر(صلوات الله عليهم)

بعد أن أثبت القرآن محورية التشريع الإلهي والوحي، وأن القرآن تبيانُ كلِّ شيء، جاء ليثبت أن صدر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر كانت محالّاً لتلك البيانات القرآنية، وأن بيان القرآن التام أُلقي في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر ليقوموا بتفصيل ما أُجمل فيه وما لم يتبين للناس.

ص: 96


1- الأنعام 38.
2- النحل 89.
3- يوسف 111.

قال تعالى (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ)(1)

فالآية تُصرّح بأن الآيات القرآنية البيّنة هي في صدور الذين أوتوا العلم.

وقال تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفىٰ بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(2)

فالنبي (صلى الله عليه وآله) يجعل الفيصل والشهيد بينه وبين الذين كفروا هو الله تعالى ومن عنده علم الكتاب. مما يعني أن علم الكتاب يتوفر في غيره ممن سيكون شهيداً بين الرسول والأمة.

وهو أمر صرّحت الروايات الشريفة ببيانه أكثر، فقد روي عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)؟ قال: إيانا عنى.(3)

وعن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت عنده فذكروا سليمان وما أعطى من العلم وما اوتى من الملك، فقال لي: وما أعطى سليمان بن داود إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله: (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) وكان والله عند

ص: 97


1- العنكبوت 49.
2- الرعد 43.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 224 باب (11) باب في الأئمة أوتوا العلم وأثبت ذلك في صدورهم ح (1).

علي (عليه السلام) علم الكتاب. فقلت: صدقت والله جعلت فداك.(1)

الثابت الخامس: ضرورة طاعة الله تعالى والرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر (عليهم السلام)

صرّح القرآن بضرورة هذه التراتبية في الطاعة، في إشارة إلى أن التشريع والبيان القرآني، إنما يؤتي ثمرته في النجاح والفلاح فيما إذا أطاع الناس من تجب طاعتهم، وأن طاعتهم لازمة في كل ما يتعلق بالدين، سواء على مستوى أخذ التشريع، أو على مستوى طرح الحلول الناجعة للمشاكل الحاصلة، وغيرها من الجهات، وأن تلك الطاعة المطلقة بالتراتبية المذكورة إنما هي علامة الإيمان الحق، وهي التي يمكن من خلالها الوصول إلى رضا الله تعالى.

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(2)

وقال تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(3)

وقال تعالى (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَىٰ الرَّسُولِ وَإِلىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ

ص: 98


1- بصائر الدرجات للصفار ص 232 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح (1).
2- النساء 59.
3- المائدة 55.

اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً)(1)

الثابت السادس: الفقاهة في الدين

فالقرآن يصرّح بأن على المؤمنين أن يعملوا على إيجاد مجموعة منهم، شغلهم الشاغل هو التفقه في الدين، وأن على هذه المجموعة أن تسعى لتحصيل ذلك ولو بالسفر عن بلادهم إلى بلاد العلم والفقاهة، حتى إذا ما تجهّزوا بالفقه اللازم رجعوا إلى أهلهم وبلادهم ليبينوا لهم الدين.

قال تعالى (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(2)

روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): أَصْلَحَكَ اللهُ بَلَغَنَا شَكْوَاكَ وأَشْفَقْنَا فَلَوْ أَعْلَمْتَنَا أَوْ عَلَّمْتَنَا مَنْ قَالَ: إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ عَالِماً والْعِلْمُ يُتَوَارَثُ فَلَا يَهْلِكُ عَالِمٌ إِلَّا بَقِيَ مِنْ بَعْدِه مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ عِلْمِه أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، قُلْتُ: أ فَيَسَعُ النَّاسَ إِذَا مَاتَ الْعَالِمُ أَلَّا يَعْرِفُوا الَّذِي بَعْدَه؟

فَقَالَ (عليه السلام): أَمَّا أَهْلُ هَذِه الْبَلْدَةِ فَلَا يَعْنِي الْمَدِينَةَ، وأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْبُلْدَانِ فَبِقَدْرِ مَسِيرِهِمْ، إِنَّ اللَّه يَقُولُ (وما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

قَالَ: قُلْتُ: أرَأَيْتَ مَنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ؟

ص: 99


1- النساء 83.
2- التوبة 122.

فَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِه مُهَاجِراً إِلَى الله ورَسُولِه ثُمَّ يُدْرِكُه الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُه عَلَى الله.

قَالَ: قُلْتُ: فَإِذَا قَدِمُوا بِأَيِّ شَيْءٍ يَعْرِفُونَ صَاحِبَهُمْ؟

قَالَ: يُعْطَى السَّكِينَةَ والْوَقَارَ والْهَيْبَةَ.(1)

ص: 100


1- الكافي للكليني ج1 ص 380 بَابُ مَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ مُضِيِّ الإِمَامِ ح(3).

النقطة الخامسة: حدود الاجتهاد الشيعي

اشارة

لا يخفى ان الاجتهاد في العرف الديني الشيعي، يمثل البنية التحتية لموقع الفتيا والقضاء ومنصب المرجعية، وبالتالي فهو يحتل مكانة أساسية ومفصلية وحساسة في هذا الكيان، وعلى هذا الأساس فان عملية ضبطه وتقنينه وتحديد أطره ومساحاته، -لا اقل على المستوى النظري والمعرفي- من الضرورة بمكان؛ لأن هذا التحديد والتأطير سوف يغلق الباب على الحالة الهلامية والضبابية المتشابكة بين هذا العنوان وبين غيره من العناوين، هذا أولاً.

وثانياً: سوف يغلق الباب لاستغلاله وتوظيفه من قبل الأشخاص غير المؤهلين لتسنمه.

وثالثاً: سيغلق الباب أيضاً أمام عمليات التسطيح والتهميش لهذا المفهوم في الموضوعات المعرفية والعلمية.

لذلك كان من المناسب بيان حدود الاجتهاد عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما سيُبين مفهومه كثيراً في نفس الوقت.

والحدود التي ستتم الإشارة إليها هي:

ص: 101

الحد الأول: حفظ الفاصلة بين العصمة والاجتهاد.

الحد الثاني: الاجتهاد فهم لا تشريع، وفي طول النص والمعصوم لا في عرضهما.

الحد الثالث: فرصة الاجتهاد نسبية لا مطلقة.

الحد الرابع: حفظ الفاصلة بين لغة التخصص ولغة الثقافة العامة.

الحد الخامس: العدالة والتخصص.

الحد السادس: حجية اللغة المشتركة دون الخاصة.

الحد السابع: نيابة عامة لا خاصة.

والتفصيل بالآتي:

الحد الأول: حفظ الفاصلة بين العصمة والاجتهاد
اشارة

نحن نحصل على المعلومة من خلال المعصوم (عليه السلام)، ومن المجتهد في زمن غيبة المعصوم، إلا أن هذا لا يعني أبداً المساواة بين المعلومتين، بل إن بين العصمة والاجتهاد مسافة كبيرة جداً؛ لأن المعلومة التي نحصل عليها من المعصوم هي معلومة معصومة، وبالتالي فهي تعني المعلومة المضمونة الحقانية والصوابية، والمطابقة للواقع تماما، وبالتالي فهي التي لا تقبل الخلاف، فيكون العلم الحصولي بها على حد العلم الحضوري، فإن العلم الحضوري يستحيل فيه الخطأ؛ لأن الخطأ فرع الاثنينية، فرع وجود مطابِق ومطابَق، والمعلوم الحضوري هو الواقع، فلا توجد اثنينية بين العلم والمعلوم، والمعلومة

ص: 102

الحصولية المعصومة على وزانها وقانونها وإن كانت الاثنينية موجودة.

اما المعلومة الناشئة من الاجتهاد التخصصي، فهي معلومة غير مضمونة الحقانية والصوابية، وفيها احتمال عدم المطابقة مع الواقع، ولا يمكن طرد نسبة الخطأ عنها، فهي معلومة تنتمي الى مقولة:

على المرء أن يسعى بمقدار جهده وليس عليه أن يكون موفقاً

هذا هو الحد الأول للاجتهاد، وبه نعرف فرقاً مهماً بين المعلومة التي نحصل عليها من المعصوم، والتي نحصل عليها من المجتهد.

ويترتب على هذا الفارق جملة من الآثار والفوارق:

الأثر الأول: الفرق في الحجية

معنى الحجية هو كون المعلومة منجزة للواقع (أي يستحق المخالف لها العقاب)، معذرة للمكلف (أي إنها لو كانت مخالفة للواقع فإن مرتكبها معذور ولا يستحق العقوبة).

وحيث إنه يحتمل في قول المجتهد المخالفة للواقع، فلا بد من قانون شرعي يُلغي هذا الاحتمال، ويلزم العوام باتباع المجتهد، فحجية المجتهد تحتاج إلى هذا المعنى لتتم.

إن احتمال الخطأ في المعلومة التخصصية الاجتهادية (غير المعصومة) هو احتمال قائم وموجود، وعدم الضمان للمطابقة مع الواقع يلاحق هذه المعلومة باستمرار، ولذا فهي تحتاج الى غطاء شرعي قانوني للخطأ يعذر عنه.

ص: 103

أما الحجية في المعلومة المعصومة فهي ذاتية، ولا تحتاج الى تقنين وتشريع؛ لأنها تحكي وتكشف عن تمام الواقع، بنحو لا توجد شائبة في هذه الحكاية، والحجية انما تجعل في تلك الموارد التي يوجد فيها احتمال عدم الإصابة للواقع.

إن المعلومة المعصومة هي ما تكون ظاهرة بذاتها مظهرة لغيرها؛ وهذا بالحقيقة ناشئ من التوأمة بينها وبين الواقع.

فبمجرد كون المتحدث معصوماً، فإن كل ما يقوله هو حجة بذاته، ولا نحتاج إلى دليل آخر يلزمنا باتباع المعصوم.

الأثر الثاني: التعددية وعدمها

ما دام قول المجتهد يُحتمل فيه الخطأ والصواب، فهذا يتيح ويفتح الأفق لموضوعة الرأي والرأي الآخر، ولذا نجد أن آراء المجتهدين قد تختلف في موضوع أو حكم واحد، ويجوز للمجتهد أن يُخالف المجتهد الآخر، لأنه يحتمل فيه الخطأ، وهذا يبرّر له المخالفة وفق دليل خاص.

فهامش الخطأ الموجود بين ثنيات المعلومة غير المعصومة (التخصصية الاجتهادية) هو ما يؤسس لشرعية وقبول الرأي والرأي الآخر، بل يسمح لقبول التعدد بمستوى المدارس المختلفة، فكل مدرسة تحاول من خلال دراستها وتأملاتها أن تُوفَّق لإصابة الواقع والتقليل من نسبة الخطأ في عملها الذي يهدف إلى التعرف على الواقع.

ص: 104

أما في المعصوم، فحيث إن قوله هو الواقع، فلا مجال للرأي في قبال رأيه، ولا يحق ولا يصح لأحد أن يخالفه ولو كان ما يقوله المعصوم غير مفهوم العلم لديه، أو كان غير مقتنع بكلامه نفسياً؛ لأن هذه المعلومة التي يأتي بها المعصوم لا يوجد فيها أي هامش ومساحة للخطأ، وبالتالي فإن إراءتها وكشفها عن الواقع يكون كما لو أنها أحضرت الواقع بعينه، وقلنا سابقاً هي على وزان العلم الحضوري من هذه الزاوية.

وقد أشارت الأدبيات الدينية إلى هذا المعنى، من قبيل ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إذا سمعتم من حديثنا ما لا تعرفون، فردوه إلينا(1)،

وقفوا عنده، وسلموا حتى يتبين لكم الحق، ولا تكونوا مذاييع عجلى(2)...(3)

وفي بعض الروايات قال الإمام الصادق (عليه السلام) في الروايات التي ثبت صدورها عنهم (عليم السلام) ولكنها كانت متعارضة: (فَأَرْجِه حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ)(4)

ص: 105


1- هذا إذا كان طريق البلوغ معتبرا عند العقلاء بان تكون النقلة ثقات أو حسان أو هناك قرينة أو أمارة على صدق الراوي وإن كان ضعيفا بحيث جاء الوثوق أو الظن بصحة الصدور. وأما إذا أقيمت القرائن على كذب الراوي وافترائه على المعصوم عليه السلام فلا معنى لرد علمه إليهم عليهم السلام إذ ليس هو من حديثهم. مثل أكثر أخبار الباطنية أو الملاحدة الذين دسوا في الأحاديث لتشويه صورة المذهب عليهم لعائن الله سبحانه. [هامش المصدر].
2- المذياع: الذي لا يكتم سرا جمعه مذاييع، والعجلي مؤنث عجلان بمعنى عجول. [هامش المصدر]، وفي البحار ج2 ص189 قال: بيان: المذاييع: جمع مذياع من أذاع الشيء إذا أفشاه.
3- الخصال للشيخ الصدوق ص 627 حديث أربعمائة.
4- الكافي للكليني ج1 ص68 بَابُ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ح10.

ولكن يجب التنبيه على أن التعددية الدينية المقبولة، هي تلك التعددية التي تكون بين أروقة المتخصصين، وأصحاب الرأي العلمي، أما أن يدخل كل من ليس بصاحب اختصاص ليُبديَ رأيه بحجة مشروعية التعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، فهذا أمر غير مقبول وغير منهجي، وبالتالي يُمنع كل من كان خارج هذه السياقات من أن يدلي بدلوه في هذا الإطار.

الأثر الثالث: التوازن في التعامل مع المتخصص، والتسليم المطلق للمعصوم (عليه السلام)

توجد قضيتان تتجاذبان غير المتخصص في تعاطيه وتعامله مع المتخصص (المجتهد):

الأولى: إن قول المجتهد غير معصوم، وبالتالي فإن معلوماته ومعارفه غير مضمونة المطابقة مع الواقع، وغير مضمونة الحقانية، ومن ثم يمكن فتح الباب أمام التخطئة والتصويب، وفتح الباب للنقاش وإبداء الرأي والرأي الآخر.

الثانية: إن قول المتخصص في حقيقته عبارة عن حكم ظاهري، وهذا الحكم الظاهري واجب الاتباع مطلقاً ومن دون نقاش في مقام السلوك والعمل؛ وليس للمكلف طريق آخر في الوصول إلى الواقع سوى هذا الحكم الظاهري.

أمام هاتين القضيتين، فإن الأمر المنهجي هو التوازن في التعاطي مع المتخصص، فليس منع الكلام ومنع ممارسة النقد من خلال إضفاء هالة من

ص: 106

القداسة والعصموية على شخصيته، أمراً صائباً وصحيحاً، وفي الوقت ذاته ليس فتح باب النقد بعرضه العريض ولكل شخص كان مسموحاً ومقبولاً.

ومن الجدير بالذكر أن موضوعة النقد والنقاش للمتخصص لا تعني أبداً تجاوز السياقات الأدبية والمقامات الاجتماعية القائمة، فإننا يجب أن نفكك ونفرق بين البعد الاجتماعي وبين البعد العلمي في هذا السياق، فعلى سبيل المثال يوجد لدينا نصوص كثيرة تؤكد على طاعة واحترام الوالدين، ولكن لا يعني هذا القبول بكل مقولاتهم العلمية وبأي نحو كانت، فالإطار المعرفي والعلمي له قوانينه وسياقاته، والإطار الاجتماعي له قوانين وسياقات أخرى مختلفة عنه.

فحتى لو وصل طالب العلم إلى مستوى من المعرفة بحيث يتمكن من إبداء بعض الملاحظات على كلام المجتهد، لكن ذلك لا بد أن يكون وفق السياقات الأدبية وحفظ مقام العلمية للمجتهد، كونه نائب المعصوم (عليه السلام)، ولا يصح أبداً التحدث معه بصيغة غير مؤدبة، ولا تجاوز حدود اللباقة الأدبية معه.

وكل ما ذكرناه هنا من التعددية وإمكان النقاش لا يأتي مع المعصوم أبداً، كون ما يأتي به معصوماً فلا يقبل النقاش، وليس أمامنا تجاه المعصوم إلا التسليم التام المطلق، الأمر الذي أكدت عليه العديد من النصوص واعتبرته أمراً أساسياً في الدين، من قبيل ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لو أنَّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجُّوا البيت،

ص: 107

وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعه الله تعالىٰ أو صنعه النبيُّ (صلى الله عليه وآله): ألَا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين»، ثمّ تلا هذه الآية: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[(1)، ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): «وعليكم بالتسليم»(2).

الحد الثاني: الاجتهاد فهم لا تشريع، وفي طول النص والمعصوم لا في عرضهما
اشارة

واحدة من الأسس المهمة التي عمل الفكر الشيعي على تأصيلها وترسيخها في منظومته الفكرية، هي مسألة التراتبية الطولية بين موضوعتي التشريع والاستنباط، وأن المستنبط والمجتهد ليس له أي دور في جعل وإيجاد وتكوين التشريعات، بل كل دوره ينحصر في فهم ما يلقيه عليه الشارع، وبيان تلك التشريعات وتنزلاتها وتطبيقاتها.

ويترتب على ذلك: أن أي زحاف يحصل في عملية الاستنباط بالعمل في مساحات خارج دائرة عمله، فإنه سيؤدي بشكل تلقائي إلى انقلاب ماهوي في حقيقة الاستنباط، لتتلبس بماهية التقنين التشريعي، وتتحول من الحالة الطولية مع موضوعة التشريع إلى الحالة العرضية.

تصوير الطولية
اشارة

بالتأمل، نجد أن للعلم مراتب أربعة:

ص: 108


1- النساء: 65 .
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 271/ باب 38/ ح 365).
المرتبة الأولى: العلم الإلهي

وهو يمثل القمة والحجر الأساس في موضوع العلم، وهو يبدأ من التكوين والواقع، لأنه تعالى هو من صمّم الواقع والكون، ومن البديهي أن العلم الذي يمتلكه من صمم هذا الواقع، ووضع نظام هذا العالم، والذي هو محيط بكل شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، لاشك ولا شبهة أنه يكون في أعلى مراتب العلم وأكملها.

المرتبة الثانية: العلم الإنساني المعصوم

هذه المرتبة من العلم، ليست مرتبة عادية، إذ إنها تحصل من طريق خاص غير متعارف عند بني الانسان، وهو ما يسمى في كلمات العلماء بالعلم الوحياني أو اللدني(1)، وهذا من قبيل ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألفَ باب، يفتح ألفَ باب.(2)

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّم عليًا (عليه السلام) بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له الف باب. (3)

ص: 109


1- وهو نوع من العلم الذي ينكشف معه الواقع للإنسان، وهو (لدني) أي يُعطى من الله تعالى ويُفاض منه جل وعلا على بعض عباده، كما ورد هذا المعنى في الخضر (عليه السلام)، حيث قال عنه تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) [الكهف: 65]
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 647.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) ح (5).

وقد تقدم الحديث في بيانات وإثبات العلم اللدني والعصمة لأهل البيت (عليهم السلام).

المرتبة الثالثة: العلم الإنساني التخصصي

وهو العلم الذي يحصل للإنسان من خلال منهج علمي وشروط معينة، كالدراسة والمتابعة والبحث العلمي..، ويسمى من يتصف به بالمتخصص، وهو يعتمد على قواعد منهجية ومعرفية دقيقة، ولا يصل إليها إلا من التزام بضوابطه المنهجية والمعرفية.

المرتبة الرابعة: العلم العام

أو هو العلم الذي يحصل في ذهن الإنسان العامي غير المتخصص.

في هذه المراتب نشاهد وبوضوح أنها ليست ظواهر متباينة ومختلفة بعضها عن البعض الاخر، بل توجد بينهما علاقة عضوية تراتبية شبيهة بعلاقة العلة والمعلول، يتفرع فيها اللاحق على السابق، فالإنسان العادي غير المتخصص، يأخذ معارفه وعلومه من الشخص المتخصص والخبير، ثم إن الخبير والمتخصص كالمجتهد يأخذ علومه ومعارفه من علم المعصوم، وهو من يمثل مادة الاستنباط بالنسبة إليه، والمعصوم يأخذ كل علومه ومعارفه من العلم الإلهي للحق تعالى.

وبهذا يتبين:

1/أن كل علم عليه أن يحفظ مساحة حركته ودائرته الخاصة ومرتبته

ص: 110

المعينة، ومنها أنها تستمد علميتها من سابقها، بأن تكون المرحلة السابقة دليلاً عليه، فالعامي يأخذ من المتخصص، وهو يأخذ من المعصوم، الذي يأخذ من الله تعالى.

2/لا يجوز للفرد في المرتبة الدنيا أن يتعدى على مساحات العلم الأعلى من رتبته، فغير المتخصص ليس من الصحيح أبداً أن يتدخل ويبدي رأيه في سياق كلام المتخصص، وكذلك المتخصص ليس له أن يتحرك في عرض المعصوم، ويُبدي رأيه في قبال رأيه، وكذلك من كان دون العلم الإلهي ليس له أن يتجاوز مساحته ليبدي رأيه في مساحة العلم الإلهي، فيفرض على الله تعالى أن يفعل كذا ولا يفعل كذا.

كل هذا من الخطوط الحمراء الثابتة في الفكر الشيعي، وأي تجاوز لها سوف يخل بالطولية، ومن ثم سيقود إلى الفوضى وعدم الانتظام للظاهرة العلمية.

والحاصل: أن المجتهد مهما عظم علمه، فإنه عيال وفي طول علم المعصوم، ولا يتجاوزه، ولا يفرض عليه شيئاً معيناً.

تنبيهان
التنبيه الأول: المغالطة في إمكان الارتباط المباشر بالمعصوم (عليه السلام) بلا حاجة الى متخصص

ظهرت أصوات من هنا وهناك حاولت التقليل من ظاهرة التخصص،

ص: 111

فهم قبلوا كل السلسلة ما فوق التخصص، ولكن حين انتهوا إلى التخصص رفضوه ولم يقبلوا به، وقالوا بأننا لا نحتاج إلى وسيط يدخل فيما بيننا وبين المعصوم، فحولوا السلسة الرباعية (العلم الإلهي ثم المعصوم ثم التخصص ثم العادي) إلى سلسلة ثلاثية، تبدأ من العلم الأعلى، ثم المعصوم، ثم الفهم العام للناس.

والحال أن الوجدان قاضٍ بأن التخصص ضرورة، ولا بد منه في فهم الدين، نعم حدود مرجعية التخصص تختلف عن حدود مرجعية المعصوم، فالمعصوم حجة في كلامه وفعله وتقريره، والمتخصص حجة في كلامه فقط وبحدود التخصص.

التنبيه الثاني: تحليل فكرة القداسة للمعصوم (عليه السلام)
اشارة

يختلف المعصوم عن جميع الناس في نقطتين أساسيتين:

النقطة الأولى: العلم الخاص (الوحياني)

فالمعصوم (عليه السلام) له هذا العلم دون غيره من الناس طُرّاً، وأي اقتراب من هذه المساحة، فإنه يُعدُّ نوعاً من أنواع القفز على المواقع، وبالتالي يوسم بالانحراف والضلال..

النقطة الثانية: توافق القول والفعل والتقرير في المعصوم (عليه السلام)

نعتقد أن المعصوم في كلامه وفعله وتقريره يتكئ على العلم الخاص، ولذا كانت دائرة حجيته واسعة بوسع هذه المسارات الثلاثة، أما حجية المتخصص

ص: 112

فهي تدور ضمن مساحة كلامه فقط وبحدود التخصص، فلو كان هناك طبيب يخبر المريض عن مضار التدخين وتأثيره السلبي على الإنسان وحياته، فإن عدم التزام الطبيب في الواقع العملي [بأن كان هو مدخناً مثلاً] لا يضر بتلك النظرية، ولا يعني أبداً أنها باطلة وغير صحيحة.

ومنه يتبين:

1/أن التقديس للمعصوم يكون في جميع ما ينتج عنه من قول أو فعل أو تقرير، فإنه معصوم فيها كلها، ولا تجد اختلافاً في قوله عن فعله عن تقريره، وإنما كلها تسير في مسار واحد يتكئ على العلم اللدني الوحياني.

2/ولأنه معصوم، فقوله وفعله وتقريره حجة مطلقاً، لأنها تمثل الواقع تماماً، وهذا يُضفي قداسة له لا نجدها عن غيره من الناس، فالمجتهد على قداسته، لكنها قداسة في حدود الاجتهاد والتخصص العلمي، أما المعصوم فالقداسة فيه تتجاوز ذلك إلى الواقع نفسه، فالمعصوم هو الواقع نفسه والحق واليقين والبديهي.

3/ولذلك كانت الحجية التي للمعصوم حجية شاملة على الجميع، وليس لأحد أن يناقشها أو ينقضها، ولا يُسمح فيها بالرأي والرأي الآخر. كما أنها حجة في بعديها العملي والنظري، فقوله وفعله وصمته حجة وملزم للآخرين نظراً وعملاً، وما هذا إلاّ بسبب كونها مضمونة الحقانية، بسبب كونها توأماً للواقع، بل هي الواقع، ولذلك تكون الحجية للمعصوم مطلقة وشاملة، بخلاف الحجية التي للمجتهد والمتخصص فإنها تكون نسبية

ص: 113

ومحدودة.

وفي هذا الضوء يتبين منشأ التقديس في المعصوم، فإن ذلك يرجع إلى أنه في المستوى النظري عصي على النقد، وفي المستوى العملي يكون ملزِماً للجميع، وليس لأحد -أياً كان- أن يتجاوز هذا الإلزام.

فالمعصوم معصوم في الجانب العلمي وفي الجانب العملي، وهذا يمنحه لوناً من القداسة الشاملة لا يحظى بها المتخصص، فعلم المتخصص قابل للخطأ، ومن ثم تجوز المناقشة.

وسلوكه قابل للنقد حيث لم يكن مضمون الصوابية والاستقامة.

والمهم جداً في هذا السياق هو عدم الخلط بين مساحة العصمة ومساحة الاجتهاد، فرفع المتخصص إلى مصاف المعصوم وإضفاء هالة من القداسة عليه، أو خفض المعصوم إلى مستوى المتخصص المجتهد القابل للخطأ والصواب، أمر كارثي على المستوى المنهجي العلمي وعلى المستوى الأخلاقي، وسيؤدي – إن حصل- إلى فوضى معرفية عارمة.

والخلاصة: أن ضرورة التقديس للمعصوم ناشئة من كونه معصوماً في قوله وفعله وتقريره، الأمر الذي يعني أنه هو الواقع، فكل ما يصدر منه (قولاً وفعلاً وتقريراً) هو معصوم وواقع، فتكون حجيته شاملة لكل هذه المفردات الثلاثة، ولا يجوز لأحد أن يناقشه في معرفة أو يخطّئه في تصرف، وكل ذلك غير موجود لدى المجتهد مهما كان، فالحجية للمجتهد في قوله

ص: 114

فقط، ولذا أمكن نقاش معارفه النظرية بشروط منهجية علمية خاصة، وأمكن أن يخالف قولُه فعلَه، وهذا لا يعني التقليل من شأن المجتهد، وإنما نحن مأمورون باحترامه وتبجيله، لكن مع حفظ الفاصلة بينه وبين المعصوم كما تبين.

الحد الثالث: فرصة الاجتهاد نسبية لا مطلقة

إن المعيار في الحقانية هو المطابقة مع الواقع ونفس الامر، وليس المناط مرتبطاً بأمزجة وإدراكات الناس، بحيث إنهم إذا أجمعوا على أمر كان حقاً، وإن لم يجمعوا كان باطلاً، بل المناط هو في مطابقة الواقع، فإن طابقت الفكرة الواقع فهي حق، حتى لو فرضنا إجماع الناس كلهم على بطلانها، وإن لم تطابق الواقع فهي باطلة، وإن فرضنا إجماع الناس على حقانيتها.

العلوم والمعارف بعضها نظرية، وهي ما تحتاج إلى دليل، وبعضها بديهية، أي إنها مطابقة للواقع في حد نفسها، وهي تكون الدليل على صحة العلوم النظرية.

مما يعني أنه لا بد ان تنتهي العلوم النظرية إلى البديهية، وإلا تبقى غير مستدلة، ولا ضمان لكونها مطابقة للواقع، فلا ضمان لكونها حقاً.

فالعلوم لا بد أن ترجع إلى بداية بديهية، أو قل: بداية معصومة، أي مضمونة المطابقة للواقع.

هذا بشكل عام.

ص: 115

تأسيساً على هذه الفكرة، فإنه مع ظهور المعصوم، فإنه يكون هو البداية القاطعة لأي معرفة نظرية، فنحن لو عرضت علينا مسألة نظرية، ولم نعرف الحق فيها، فنرجع إلى المعصوم ليعطينا الحق فيها.

ولكن حينما يغيب المعصوم عن الواقع الخارجي لسبب أو لآخر، وتمر البشرية في حالة استثنائية طويلة (وهي عصر الغيبة) تصبح البداية والبديهي والفكرة المعصومة خارج المتناول، فكان لا بد من توفر بداية أخرى، تكون هي المرجع لكل المعارف الأخرى، فكانت المرجعية الدينية التي تمثل نقطة البداية في زمن الغيبة، لا بمعنى أنها نقطة مستقلة في حد نفسها، وإنما بمعنى أنها الخيط الرابط بين النظريات وبين التعلق بالمعصوم ومعرفته وعلومه.

والاجتهاد في متناول اليد، أي إنه يمكن الوصول إليه وفق منهجية علمية منضبطة.

وهذا المعنى في الوقت الذي يثبت ضرورة الاجتهاد كبداية للمعارف في زمن الغيبة، هو يعني ضرورته العلمية والمنهجية أيضاً، إذ لولا هذه المرتبة من العلم، لفقدنا البداية للنظريات التي لدينا، ولحصلت الفوضى المعرفية والعشوائية العلمية.

ولعله إلى هذا المعنى يشير ما روي عن الإمام الهادي (عليه السلام) أنه قال: «لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم

ص: 116

الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله (عز وجل)»(1).

كل هذا صحيح، ولكن هذا لا يعني أن الاجتهاد سيوفر المعلومة المعصومة بالمطلق، كالتي يأتي بها المعصوم نفسه، كلا، وإنما هي فكرة تمثل البداية بالنسبة لغير المجتهد وفي زمن الغيبة فقط.

وعلى كل حال، فإن واحدة من مهام المعصوم وعناياته طيلة فترة الظهور كانت هي توفير جملة من البداهات للأمة، لتصبح هي الهيكيلة المعرفية لأتباعه، تؤطر حركتهم العلمية..

ولذلك جاءت النصوص الدينية الكثيرة التي دلت على ضرورة رجوع الجاهل إلى العالم عموماً، والرجوع إلى رواة الحديث في ما يتعلق بأمور الدين خصوصاً، وسيأتي بيان بعض من هذه النصوص في محلها إن شاء الله تعالى.

ومن كل ما تقدم يتلخص: أن الرجوع إلى المجتهد إنما يكون في زمن الغيبة، لأنه الطريق الوحيد الذي يوفر لنا الدليل على ما عندنا من نظريات، أما في زمن الظهور، فيكون المرجع هو المعصوم، ومن يجعله نائباً عنه.

الحد الرابع: حفظ الفاصلة بين لغة التخصص ولغة الثقافة العامة
اشارة

تتبلور ضمن أروقة التخصص لغة خاصة بهم، تكون هي الوسيلة للتخاطب العلمي والتخصصي فيما بينهم، هذه اللغة تختلف ماهوياً وبنيوياً

ص: 117


1- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.

عن تلك اللغة التي تستخدم في الأنساق المعرفية الثقافية العامة، وما يهمنا في هذا السياق هو:

صحيح أنه لا بد من تكامل اللغتين وعدم استغناء كل منهما عن الاُخرى في توصيل المعلومة إلى الذهنية العامة، فاللغة العلمية المتخصصة ينبغي أن تتم صياغتها وفق أسس أدبية معينة، فليس من الصحيح أن يكتب المتخصص علومه ومعارفه بلغة غير منضبطة نحوياً مثلاً أو إنه يستعمل ألفاظاً لا تدل على المعنى المقصود له، وإن كان له مصطلح خاص فلا بد أن يوضحه بطريقة أدبية واضحة.

ولكن هذا لا يعني أن تكون السياقات العلمية في الأروقة التخصصية مكتوبة بلغة بعيدة عن الانضباط العلمي والمنهجي، وهذا ما يكشف لنا عن بعض الصعوبة التي نواجهها في فهم كلمات الأعلام في كتبهم التخصصية، بل في بعض الأحيان نجد الصعوبة حتى في فهم الرسالة العملية، ذلك لأن الأروقة العلمية تقتضي أن تتم كتابة التخصص بلغة خاصة وبمنهجية علمية.

فلا يأتين شخص ويُشكل على المجتهدين بأنهم يكتبون بلغة علمية صعبة، فإن هذا هو مقتضى الأروقة العلمية التخصصية، وهذا أمر واقعي نجده في كل التخصصات، فالتخصص الطبي له لغته وسياقاته وصياغاته الخاصة التي لا يفهمها إلا من يقضى وطراً من عمره في معايشة مصطلحات هذا التخصص العلمي وفهمها وهضمها ليفهمها بطريقة علمية صحيحة.

وحتى نُشبع هذا الموضوع أكثر نذكر:

ص: 118

سمات لغة التخصص
1 لغة الاصطلاح

واحدة من الوسائل التي يحتاجها المتخصص لضبط وحفظ العلم التخصصي الذي يعمل في إطاره، هي اللغة التخصصية العلمية، هذه اللغة تتحرك ضمن اصطلاحات خاصة يبتدعها أصحاب هذا الاختصاص، ليعبروا بالدقة عن مرادهم في ذلك التخصص، ولذا كان لكل علم اصطلاحاته الخاصة، وهذه الاصطلاحات تشكل مفاتيح هذا العلم، والمنفذ الرئيسي للدخول بين أبحاثه ومسائله.

وهذا الاصطلاح:

أ/ قد يختزل المعنى اللغوي المتعدد بمعنى واحد.

ب/وقد يغادره تماماً إلى معنى جديد، بأن يكون للفظ معنى لغوي معين، ولكن في اصطلاح العلم المعين يُقصد منه معنى آخر.

ولذا كان من الضروري أن نفهم مصطلحات العلم المعين قبل أن نلج فيه ونعمل على فهمه أو ربما الإشكال عليه.

2 لغة الاختصار

يعمد أصحاب العلوم التخصصية على الاقتصار في كتاباتهم التخصصية على أقل قدر ممكن من الكلمات التي تحكي وتعبر عن مرادهم التخصصي، رافضين أن تكون الكتابة التخصصية كتابة عامة مبسوطة كالسرد القصصي المفتوح، هروباً من حالة المطاطية التي قد تعتري الفكرة وتؤثر على تخصصيتها،

ص: 119

فعلم القانون -مثلاً- حين يعبر ويحكي عن المواد القانونية، فإن كل حرف وكلمة تكتب في هذا السياق تكون بعناية فائقة، ويحسب لها ألف حساب، خوفاً من أن تفسر بشكل مغاير لمراد المقنن والمشرع.

3 لغة اعتماد القرائن المنفصلة

طبيعة المدونات الكبيرة والمنظومات العلمية الواسعة هو تخادم أفكارها وتفسير بعضها البعض عبر فصولها وأبوابها ومقدمتها وخاتمتها، فلا تنتهي الفكرة بجملة بل ولا بفصل بل ولا بباب. وهذا يعني أن اللغة التخصصية تعتمد القرائن المنفصلة في رسم المفاهيم التركيبية الواسعة.

وهذا ما نفتقده في لغة التفهيم والتفاهم في الفضاء البشري العام، فإنها لا تعتمد كثيراً على القرائن المنفصلة، بل الغالب أن المتكلم يبين تمام مراده بشخص كلامه.

تنبيه: الحديث بلغة واحدة ليس مثلبة

لا ضرورة تفرض على صاحب اللغة الواحدة أن يتكلم اللغة الاُخرى، أو على صاحب التخصص أن يتكلم بلغة غير لغة تخصصه، مع الإيمان بأن قدرة الشخص الواحد على التكلم بأكثر من لغة تعتبر فضيلة وحسنة لا يمتلكها من لا يحسن إلاّ لغة واحدة، ولكن ليس من الصحيح القول بأن فقدان هذه الموهبة دليل على وجود نقص ومثلبة في هذا الشخص، فالمتخصص الذي لا يحسن اللغة الثقافية، لا يُحسن أن يسوق أفكاره التخصصية ببيان ثقافي أو كتابة ثقافية، ولا يعني ذلك أبداً أن فيه نقصاً من جهة كونه متخصصاً

ص: 120

ومتضلعاً في تخصصه، فإن عالم الفيزياء -مثلا- والذي وصل الى رتبة بروفيسور في تخصصه، يكفي أن هناك جملة من طلابه يفهمون ما يقول أو ما يكتب، وليس عليه أن يكون متمرساً في تسويق الفكر الفيزيائي إلى عموم الناس في شاشات التلفزة، وعدم إمكانيته للتحدث باللغة الثقافية لا تضر بقدراته وقيمته العلمية في ضمن تخصصه.

وهذا المعنى سيال في كل التخصصات والعلوم والمعارف، فحتى القرآن الكريم لم يكن كتاباً مفتوحاً في كل تفاصيله إلى الناس، بل ترك جزءاً كبيراً منها إلى بيان المعصومين (عليهم السلام) وتفسيرهم لها، وهو مفاد ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلَّا وله أصل في كتاب الله (عز وجل)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(1).

بل حتى المتحدثين بأكثر من لغة حافظوا على هذا التعدد، حيث نجده يتكلم باللغة التخصصية حين يكون البحث تخصصياً، ويتكلم باللغة الثقافية في ضمن أروقة المثقفين والمفكرين، ويتكلم بلغة بسيطة جداً وعامية حين يكون مع أدنى مستويات الجنس البشري إدراكاً وفهماً، ولم يقتصر على لغة واحدة في الأروقة جميعاً إحساساً منه بضرورة تعدد اللغات وعدم إمكان توحيدها بلغة واحدة.

بل قد يتمكن الشخص من الحديث بلغتين، إلاّ انه بمنطق التزاحم وتوفير الوقت للعمل التخصصي يهمل الحديث بلغة الترجمة تاركاً هذه

ص: 121


1- الكافي للكليني 1: 60/ باب الردِّ إلىٰ الكتاب والسُّنَّة.../ ح 6.

المهمة إلى أصحابها، ومثله مشروع ومنطقي ولا يسجل مؤاخذة عليه، على شرط أن نفهم أهمية التفرغ العلمي وضرورة التخصص.

حصيلة هذا الحد:

إن ثمة فاصلاً واضحاً بين لغة الاختصاص ولغة الفهم العام، وأنه لا ضرورة تدعو المتخصص أن يتحدث بلغة عامية غير تخصصية، نعم، لا بد من وجود حلقة وصل بين المتخصص وبين العامة ليفهموا مصطلحات المتخصص.

وهكذا الحال في الاجتهاد، فإنه ليس من الضرورة أن يُكتب بلغة عامية يفهمها الجميع، بل له أروقته المعرفية التي تقتضي أن تكون اللغة المستعملة فيها تخصصية كما تبين، وعدم قدرته على بيان معانيه العلمية بلغة ثقافية لا يُشكل نقصاً فيه، نعم، يمكن لطلبة المجتهد أن يخففوا من ضغط المصطلحات وبيانها بلغة أقل تخصصاً، وهكذا وصولاً إلى لغة العامة.

ولذلك ينصح العديد من الأساتذة أنه عندما يريد طالب العلم أن يبين مسألة شرعية لغير طلبة العلم، أنّ عليه أن يختار المسائل الابتلائية من جهة، وأن يستخدم اللغة البسيطة في إيصال المعلومة وعدم استعمال المصطلحات العلمية، ولكن لا ضرورة لذلك في الدروس التخصصية الحوزوية، لأن لكل مقام مقالاً كما يُقال.

ص: 122

الحد الخامس: العدالة والتخصص
اشارة

وهنا نقطتان رئيستان:

النقطة الأولى: العلاقة العضوية بين العلم والعمل
اشارة

ويتم بيان ذلك من خلال الخطوات التالية:

الخطوة الأولى

لا يخفى على من يتابع النص الديني التأكيد البالغ على العلاقة بين العلم والعمل، ففي الوقت الذي نجد فيه جملة من النصوص تؤكد على مقولة العلم وأهميتها، نجد نصوصاً وافرة تؤكد على القيمة الكبيرة للعمل إلى جانب العلم.

إنَّ الآيات والروايات تدلُّ علىٰ الارتباط الوثيق بين الإيمان والعمل الصالح.

أمَّا الآيات فكثيرة، قال تعالىٰ: ]وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدىٰ [.(1)

وقال تعالىٰ: ]مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [.(2)

وقال تعالىٰ: ]وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ

ص: 123


1- طه: 82.
2- النحل: 97.

مِنْ أَمْرِنا يُسْراً [.(1)

وأمَّا الروايات فكثيرة أيضاً، منها: ما روي عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: أيُّها العالم أخبرني أيّ الأعمال أفضل عند الله؟ قال: «ما لا يقبل الله شيئاً إلَّا به»، قلت: وما هو؟ قال: «الإيمان بالله الذي لا إله إلَّا هو، أعلىٰ الأعمال درجةً وأشرفها منزلةً وأسناها حظًّا»، قال: قلت: ألَا تُخبرني عن الإيمان، أقول هو وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال: «الإيمان عمل كلُّه، والقول بعض ذلك...»(2).

وقال (صلى الله عليه وآله): «الإيمان والعمل أخوان شريكان في قرن، لا يقبل الله أحدهما إلَّا بصاحبه»(3).

ثم إن من الخطأ بمكان حصر مقولة العمل في السلوك الفيزيائي الخارجي، إذ إن العمل يبدأ من تلك الأنشطة النفسانية التي تستتبع مقولة العلم والادراك، لتمر بجملة من الأحاسيس الروحية لتنتهي بعدها إلى السلوك الفيزيائي الخارجي، فالعمل ليس مقتصراً على الخارج، بل يشمل كل الأفعال التي تقوم بها النفس سواء كان فعلاً داخلياً أو خارجياً، فالاعتقاد عمل، والنية عمل، والقصد عمل، والحب والبغض عمل، والانقياد والتجري عمل، والإرادة عمل...، والتأمل بالعلم عمل، والتفكر، والتدبر،

ص: 124


1- الكهف: 88.
2- انظر الرواية بطولها في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 33 - 37/ باب في أنَّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلِّها/ ح 1).
3- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 479/ ح 3104).

وهكذا، هي وغيرها جميعاً تنتمي إلى مقولة العمل والسلوك، وتختتم في نهاية المطاف بالسلوك الفيزيائي الخارجي.

وهذه الأعمال الداخلية كانت مورداً للبحث والتنقيب من المتخصصين، سيما ضمن أروقتنا العلمية، فقد بحثت موضوعة الاعتقاد في المنطق والفلسفة والكلام، وبحث التجري والانقياد في الأصول، وفي فقه العبادات بحثت موضوعة النية، وفي فقه المعاملات بحثت موضوعة القصد وتقوّم العقود به، وفي البحث عن ماهية وحقيقة التقليد وجد رأي يقول بأن التقليد هو الالتزام النفساني.

الخطوة الثانية: العلاقة التبادلية بين العلم والعمل
اشارة

لقد قام الفلاسفة بتحليل هذه العلاقة العضوية بين العلم والعمل، لينتهوا إلى علاقة تبادلية بين الظاهرتين، ونبين ذلك بطريقتين:

الطريقة الأولى: مثالان عرفيان لبيان العلاقة بين العلم والعمل

وإذا أردت توضيح حقيقة العلاقة الوثيقة بين الإيمان والعمل الصالح فإليك مثالان للتوضيح(1):

الأوَّل: أنَّ للشجرة جذراً وأغصاناً وثماراً وأوراقاً، فكلَّما قوي الجذر قوي الجذع، فتزداد الأغصان وتكثر الأوراق وتُثمر الشجرة، وكلَّما زادت الأوراق استفادا أكثر من أشعَّة الشمس فيستفيد بالتالي الجذع فالجذر. فكلَّما

ص: 125


1- ملاك التفاضل في الإسلام- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- ص 94 و 95.

قوي هذا ازدادت تلك، وكلَّما ازدادت تلك قوي هذا.

وهكذا الإيمان، كلَّما قوي كثرت الأعمال الصالحة، وكلَّما كثرت الأعمال الصالحة قوي الإيمان.

الثاني: جهاز الهاتف النقّال (الموبايل) تعتمد الاستفادة منه علىٰ وجود (رصيد) وتوفُّر (شبكة)، ومن دون أحدهما لا يبقىٰ من الهاتف إلَّا جرمه! فلو أردت الاستفادة منه وعمل اتِّصال، فلا بدَّ لك من رصيد وشبكة.

وهكذا الاتِّصال مع الله تعالىٰ، لا بدَّ لك فيه من رصيد (هو الإيمان)، ومن شبكة اتِّصال قائمة وفعّالة (وهي الأعمال الصالحة).

الطريقة الثانية: التحليل الفلسفي للعلاقة بين العلم والعمل

هناك علاقة تفاعلية بين العلم والعمل، فكل واحد منهما يقدم لصاحبه ما ينفعه وما يجعل العلاقة عضوية بينهما.

فالعلم هو من يؤمِّن:

1.. المتعلق للعمل: فالأنشطة النفسانية، بحكم كونها أنشطة نفسانية فهي بحاجة إلى التعلق بالواقع، والمتعلق يتم تأمينه من خلال العلم، فهو من يمثل متعلق العمل والنشاط النفساني الداخلي.

فأنت عندما تتفكر في نفسك، فإنك تحتاج إلى واقع خارجي تتفكر فيه، ولو كان الواقع هو نفسك، والذي يوفر لك هذا المتعلق هو العلم.

2.. مقتضي العمل: في سلسلة مبادئ الفعل الاختياري (التصور ثم

ص: 126

التصديق ثم الحب والرغبة ثم الإرادة ثم العمل الفيزيائي الخارجي)، نجد أن العلم يمثل البنية التحتية لهذا الفعل، فالفعل والعمل ينبثق في أولى خطواته من العلم، ثم تتراكم هذه المبادئ لكي يظهر الفعل ويرى النور في نهاية المطاف.

والعمل هو:

أ.. الذي يقوم بمهمة توثيق العلم.

العلم ينتفع من العمل في استقراره وثباته في داخل النفس الإنسانية، العلم يستقر بالعمل، والعمل هو الأداة التي توثّق المعلومة، وتحولها من حالة الاستيداع إلى حالة الاستقرار، والعلم من دون عمل يبقى هشاً وعلى الهامش، فإذا عمل به العالم، ثبت واستقر.

وقد يتوهم البعض: أن المعلومة لا تحتاج الى أي عمل وسلوك خارجي لكي تستقر في داخل ذاته، فهو يتمكن أن يجعلها مستقرة من خلال التأمل أو التكرار بلا حاجة إلى إيجادها وترجمتها في سلوك خارجي.

ومنشأ هذا التوهم انه غفل عن أن التأمل أو تكرار المعلومة في داخل نفسه، هو نوع من أنواع العمل –كما أشرنا قبل قليل-، فليس العمل مقتصراً على البعد الخارجي دون العمل الداخلي النفساني.

وعلى هذا الأساس نجد أن العلماء والأساتذة الكبار وضعوا ملاحق في طبيعة وطريقة التعليم والتعلم في ضمن أروقتنا الحوزوية، كالمباحثة

ص: 127

والتدريس، والمذاكرة..، كل هذه أمور لترسيخ المعلومة وثباتها في داخل الذهن، وإلاّ كانت عرضة للمغادرة، وهو مفاد ما روي عن أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: الْعِلْمُ مَقْرُونٌ إِلَى الْعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، ومَنْ عَمِلَ عَلِمَ، والْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَه وإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه.(1)

ب.. أن العمل هو الذي يساهم في إيجاد أرضية التطور في العلم.

فالأفكار والرؤى الإنسانية حينما تكون حبيسة البعد النظري فقط، فإن الكثير من الزوايا الحادة قد تغيب عن ذهن صاحب النظرية، وبالتالي سوف لن تنمو وتتطور هذه النظرية، ولكن لو نزلت هذه النظرية إلى أرض الواقع، وخضعت لتجربة حقيقية في الواقع، فإن الكثير من نقاط الخلل ربما ستظهر أثناء الممارسة العملية، أو إن صاحب النظرية سيلتفت إلى أمور أخرى لم تكن موجودة في نظريته، تُطوِّر تلك النظرية وتأخذ بيدها نحو الكمال.

العمل عموماً يخلق أرضية مناسبة للانفتاح على معلومات أرحب وأوسع، من خلال إخضاع الرؤى والأفكار والنظريات إلى البعد التطبيقي العملي، ولو كانت رهينة الجانب التجريدي فإنها لن تنمو أبداً، أو إن نموها سيكون نمواً غير نموذجي ومحفوفاً بالملابسات والإشكاليات.

وشاهد العلاقة العضوية بين العلم والعمل:

أن من كان مقتنعاً بأضرار التدخين على صحة الإنسان، وفي الوقت ذاته نجده يمارس فعل التدخين، نقول عنه: إن لديه ازدواجية بين الجانب العلمي

ص: 128


1- الكافي للكليني ج1 ص44 بَابُ اسْتِعْمَالِ الْعِلْمِ ح2.

والجانب العملي، وهذا التوصيف لم يكن ليتحقق إلا بسبب العلاقة العضوية بين الفكرة والسلوك الخارجي.

وبسبب هذه العلاقة العضوية بين العلم والعمل أيضاً، نجد أننا نتمكن في بعض الأحايين من فهم متبنيات الشخص والمبادئ التي ينطلق منها، على أساس ما يصدر منه من سلوكيات وأفعال وتصرفات، فالعمل كاشف إنّي عن المتبنى العلمي الذي صدر منه.

النقطة الثانية: ضرورة النزاهة السلوكية
اشارة

في مجمل التخصصات التي لها ارتباط بالإنسان، لا يكون العلم فقط هو المعيار الوحيد لاختيار هذا المتخصص دون ذاك، بل يقترن التخصص العلمي والمستوى المعرفي بمقدار معين من النزاهة المرتبطة بالسلوك.

ونعني بالنزاهة هنا: هي مطابقة السلوك الذي يمارسه المتخصص للفكرة والنظرية التي يتبناها ويؤمن بها.

فالطبيب -مثلاً- لا يمكن أن يكون أحد خيارات المريض ما لم يعتقد المريض بأن هذا الطبيب سوف يصف له الدواء وفق ما تقتضيه النظريات العلمية التخصصية التي يؤمن بها، أما لو كان هذا الطبيب محتالاً، ويريد أن يغش المريض بنوعية الدواء، أو يعطيه دواءً ليس بحاجة اليه...، فإن هذا الطبيب سوف لن يكون أحد خيارات المريض في علاجه من مرضه.

وهكذا الحال مع كل التخصصات الأخرى كالمهندس والبنّاء والنجار

ص: 129

وميكانيكي السيارات...، ففي كل هؤلاء نجد أن الإنسان بطبيعته يتحرك نحو الشخص النزيه الذي تتطابق فيه الفكرة والسلوك/ النظرية والتطبيق.

التماهي الحرفي بين النظرية والتطبيق
اشارة

في بعض التخصصات، سيما تلك التي ترتبط بالدين والفكر الديني، لا يتم الاكتفاء بالنزاهة التي تكلمنا عنها في النقطة الثانية، بل نجد أن الناس يبحثون عن تطابق ماهوي بين النظرية التي يدعو لها صاحبها وبين تطبيقه لتلك النظرية ومقدار تمثلها في ذاته.

فالشخص الذي يقول: إنه مرسل من السماء ومرتبط بها، وهو القرآن الناطق، وهو من يحمل العلوم الخاصة، ويحمل الحقيقة، لا يتم الاكتفاء فقط بالمقولة التي يحملها ومقدار حقانيتها ومطابقتها لنفس الأمر والواقع، بل يتم البحث عن مديات عليا من تمثُّل تلك النظرية والرؤية العالية في سلوك صاحب هذه النظرية، لتصل في بعض الأحيان إلى المطالبة بعصمته عن الخطأ والزلل.

فالشخص الذي يروج لموضوعة الاخلاق بين الناس، ويتكلم بالتواضع والزهد والكرم..، فإن هذا الشخص ما لم يكن متمثلاً لتلك المفاهيم في سلوكه وأفعاله، فلا أقل سوف يسري الشك حول حقيقة تلك المفاهيم، وهل إنها قابلة للتطبيق أو لا، فالناس تعتبر جزءً من صدق المقولة هو تمثل صاحب المقولة لها في سلوكه وأفعاله.

ص: 130

هذا فضلاً عن أن تأثيره بالناس وجذبهم نحو النظرية التي يدعو إليها متوقف على مقدار تمثلها في سلوكه كما هو واضح، ولذا روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «مَنْ نَصَبَ نَفْسَه لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِه قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِه، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُه بِسِيرَتِه قَبْلَ تَأْدِيبِه بِلِسَانِه، وَمُعَلِّمُ نَفْسِه وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ»(1).

التوأمة المطلوبة بين الصفتين: العلمية والعملية (ومن خلال الدليل في محله) تفرز لنا ثلاثة مستويات:

المستوى الأول: عصمة النبي والوصي

أو قل: العصمة العلمية والعملية في الوسيط بين السماء والغيب وبين الأمة.ففي هذا المستوى لا يتم الاكتفاء فقط بالعصمة على مستوى الفكرة والمعلومة، وإنما يُراد لهذه المعلومة أن تكون تطبيقاً وتمثّلاً في شخص هذا المعصوم، فلا يقبل في هذا المستوى أن تُمارس المعصية، بل لا يقبل حتى الخطأ والسهو فيه، فكانت التوأمة بين الشرط العلمي والشرط العملي بحد العصمة.

المستوى الثاني: الفقاهة والعدالة في المرجع الديني

ففي مستوى العلوم الدينية يتم التنازل عن شرط العصمة العلمية إلى

ص: 131


1- نهج البلاغة: 480/ ح 73.

الفقاهة والخبرة، كما يتم التنازل عن شرط العصمة العملية إلى العدالة في أعلى مستوياتها أو مطلق العدالة (على اختلاف الباحثين).

فالخطأ غير المقصود والسهو الذي يصدر عنه في العلم أو التطبيق مغتفر ومقبول، ولكن الشرط العملي لا يقف عند حدود صدقه في تسويقه للمعلومة، بل يتعدى ذلك ليصل إلى مستوى التزامه العملي الدقيق بما يقول، من دون المطالبة بعدم الخطأ أو السهو في ذلك.

المستوى الثالث: التخصص والنزاهة

في مستوى العلوم الحياتية (طبيب، مهندس، نجار، ميكانيكي..) يشترط -إلى جانب المستوى العلمي الذي يحمله وهو التخصص- شرط عملي يتعلق بصدقه في نقله وتسويقه لمعلومته، هو شرطٌ يُلزم هذا المتخصص أن لا يخون ولا يخادع من يرجع إليه في تخصصه، وكل ما عدا ذلك فليس مطلوباً ومراداً من قبل الناس، حتى لو يكن المتخصص ملتزماً في بعده العملي الشخصي بمعلومته التخصصية، فكل ما يطلب من الطبيب صدقه ونزاهته في نقل معلومته الطبية للمريض، أما كونه يطبقها أو لا في حياته الشخصية العملية فهو أمر لا يعني مراجعيه، ولذا قد نراجع طبيباً يمنعنا من الأكلات الدسمة وهو يأكلها، ونأخذ بدوائه ونصائحه، لأننا نعتقد بنزاهته في هذا المجال وإن خالف علمه عملياً.

ص: 132

حكمة تنوع الشرط العملي بتنوع الشرط العلمي

إن واحدة من الحِكَم والخلفيات في اشتراط العدالة في عالم الدين هو اختلاف مستويات توثيق المعلومة مع الواقع، ففي بعض الموارد يمكن للإنسان بنفسه أن يتوثق من المعلومة التي يحصل عليها، سواء من خلال التجربة أو أي أمر آخر يمكن له أن يلامس الواقع، فهنا لا يعنيه كثيراً أن من يتكلم بهذه المعلومة قد طبقها في عمله الشخصي أو لا، ولكن في بعض الموارد الأخرى لا يتمكن الإنسان بنفسه من توثيق هذه المعلومة؛ لأنها خارج إطار المعلومات التجريبية ونحوها، أو خارج قدرته على الوصول إليها بنفسه، حينها لابد من توفر شروط تؤمّن المصداقية بنحو أعلى وأكبر من تلك الشروط في المستوى الأول، ومن هذه الشروط: أن يكون ملتزماً وأميناً وعادلاً في سلوكه العملي، حتى يحصل الاطمئنان بتوفر المعادل الموضوعي للمسألة التجريبية كما في المستوى الأول.

حصيلة هذا الحد:

من كل ما تقدم يتبين:

أولاً: أن الدين يؤكد على الترابط العضوي بين العلم والعمل وعلى جميع المستويات.

ثانياً: أن العلم يتوثق بالعمل ويثبت، بحيث ينصهر تدريجياً مع وجود النفس فيشكل كمالاً من كمالاتها بعد أن كان عرضة للنسيان والغفلة، وهو معنى أن العلم يهتف بالعمل.

ص: 133

من زاوية أخرى فإن العمل يوسع من آفاق الإدراك والتعرف على الحقيقة في زواياها المختلفة.

ثالثاً: إن صدق الإدراك رهين بالعمل، وقد انعكس ذلك على علاقة الأمة بالعالِم؛ فكان أهم مقياس لصدقية فهمه وإدراكه هو مدى انسجامه بالتطبيق مع ما ينتهي إليه في البعد النظري.

رابعاً: إن اشتراط العدالة في مرجع التقاليد نابع من أننا اتبعنا أشخاصاً معصومين في تصرفاتهم وإدراكاتهم، فلم يرتض العقل بديلاً عنهم زمن الغيبة ما لم يكن على مرحلة عالية من الوثاقة والعدالة.

خامساً: هذه الشروط هي تعبير عن ارتباطات عضوية لا تقبل التفكيك أو التجزئة بين العلم والعمل، خصوصاً في مجال العلوم الإنسانية، وبالأخص العلوم الدينية المؤسسة على معرفة المطلق والارتباط به.

والعدالة هي الترجمة العملية في الفرد الذي يطرح تصوراته ومقولاته للمتابعة والتقليد.

الحد السادس: حجية اللغة المشتركة دون الخاصة

أ: واحد من أهم المرتكزات العقلائية في موضوعة التفهيم والتفاهم بين الناس هي اللغة المشتركة، هذه اللغة هي ما تسمح للتعاطي السلس داخل أروقة المجتمع بأن يفهم كلٌّ منهم الآخر، فتمتد من خلال هذه اللغة المشتركة جسور التواصل بينهم فعلاً وانفعالاً.

ص: 134

ب: واحدة من ثمرات اللغة المشتركة هو أن منها تنبثق موضوعة الحجية وإلزام الآخر، فإن اللغة المشتركة تمثل البنية التحتية والأساسية في تشييد هذه العلاقة، فلا يمكن للحجية أن تتأسس على أدوات مبهمة وغير مفهومة للجميع ولا يمكن قراءتها وتحليلها من قبل الآخرين.

وهذا المعنى سيال وضروري حتى مع اعتماد الوسيط، فإن حجية قول من أرسل الوسيط (كما لو أرسل الله تعالى نبياً يكون واسطة بيننا وبينه) مرهونة بكونها لغة عامة ومشتركة لمن هم دون الوسيط، بحيث يستعمل الوسيط لغة يفهمها الناس، لا أنها لغة خاصة بينه وبين الله تعالى، وإلا فكيف سنفهم مرادات الباري جل وعلا، وبالتالي، لو لم نفهم لغة الوسيط، فلا حجية له علينا.

على سبيل المثال لو ذهبت إلى الطبيب لغرض العلاج من مرض ما، وكان هذا الطبيب يعتمد على مصادر طبية خاصة، مجهولة تماماً لغير شخص هذا الطبيب، ولا يمكن لغيره الاطلاع عليها ونقدها وفهمها، وهي غير تلك المصادر الطبية التي يعتمدها الطب في العالم، حينها سيكون الرجوع إليه والتداوي على يده واعتبار مقولاته حجة وملزمة أمراً مجانباً للصواب جداً، حتى وإن كان الطبيب مورداً لثقة الآخرين وقبولهم من ناحية صدقه وعدم كذبه.

ج: لو لم يتوفر لدى الوسيط إلا اللغة الخاصة، فما هو البديل عن اللغة المشتركة؟

ص: 135

الجواب: لا بد من طريقة تثبت حقانية وبالتالي حجية ما يأتي به الوسيط، بحيث تكون كاشفة عن صدقه وبنسبة تامة، ومن هذا القبيل وجدنا أن الأنبياء، حيث إن مصدر معارفهم وعلومهم هو مصدر خاص (اللغة الوحيانية)، فلم يمكن أن يكون كلامهم حجة لولا موضوعة الإعجاز؛ لأن المعادلة التي يعتمدونها مجهولة تماماً بالنسبة لغيرهم، وهي غير قابلة للفهم والتحليل من قبل غيرهم، ولكن لكون الدليل دلّ على عصمتهم ولابدية تصديقهم، كان التسليم بمقولاتهم ضمن السياقات المنهجية العلمية.

فكل لغة خاصة لم يقم الدليل على حجيتها فهي بطبيعتها تدخل في دائرة اللا حجية.

د: ومنه نعلم أن اعتماد الأحلام أو قراءة الفنجان أو اعتماد غير المعصوم المكاشفة مصدراً معرفياً، كلها خارج دائرة الحجية.

ومثله ما لو ادّعى أحدٌ لقاء المعصوم في عصر الغيبة الصغرى ونقْل بعض التعليمات والأحكام عنه، فإنه خارج عن دائرة الحجية ولو كان مدعيه من أعلم العلماء وأقدسهم.

كل ذلك لأن هذه المصادر خاصة ولا تمثل لغة معرفية عامة قابلة للمتابعة والتحقق، ومن ثَمّ لا تصلح مصدراً معرفياً ولغة إلزام للآخر.

والذي يُراد قوله بالضبط: إن أي لغة لم تكن ضمن اللغات العامة والمشتركة، وكانت ضمن اللغات الخاصة، فهي في حجيتها تحتاج إلى دليل،

ص: 136

ولا يعني هذا أبداً القدح بالشخص الذي مارس هذه اللغة الخاصة واعتمد عليها، وإنما الكلام كل الكلام في حجيته وإلزامه للآخرين.

ه-: والسر الكامن وراء عدم حجية اللغة الخاصة، يرجع إلى أن الحجج في السياق الشرعي والعقلائي قائمة على فكرة بذل الجهد واستفراغ الوسع من أجل الوصول إلى مراد المقنن والمشرع، وهذا لا معنى له أبداً في اللغة الخاصة، إذ هي من الأساس ليست متاحة للجميع، ولا يمكن أن يفهمها غير مدعيها، فلو جاء شخص وألقى علينا حكماً شرعياً وقال عنه: إن هذا هو الحكم الذي يريده الله تبارك وتعالى، وقد أخبرني به الوحي، حينها ما هو الدليل الذي يجعلنا نصدق بهذا القول؟ وكيف يكون ذلك القوة حجة علينا لو لم يوجد أي طريق يمكنه من خلاله إثبات مقولته هذه؟

إنه لا بد من أحد أمرين: إما أن يتكلم بلغة نتمكن نحن بأدواتنا المعرفية المتاحة لنا أن نتأكد من صحتها، (وهذه غير متوفرة لفرض أنه ادعى الوحي أو ادعى أنه التقى بالمعصوم في عصر الغيبة)، وأما أن يأتي بمعجزة تثبت أولاً اتصاله بالغيب، وتثبت ثانياً صدقه في مدّعاه، وبالتالي تثبت حجيته علينا.

أما أن يأتي بأمر ودليله الأحلام، أو قراءة الفنجان، أو أنه التقى بالمعصوم ولم يثبت ذلك بمعجزة، فمن الواضح جداً أن هذا لا يكون حجة علينا أبداً، حتى لو فرضنا أنه صادق في مدّعاه، أي حتى لو فرضنا أنه فعلاً رأى في الحلم كذا، أو أنه التقى بالمعصوم، ولكن حيث لم يثبت لنا لقاءه بالمعصوم، فلا حجية له علينا.

ص: 137

إذا تبين كل هذا نقول:

أولاً: وضَع الاجتهاد الشيعي خطاً أحمر تجاه كل من يتحدث بهذه اللغات الخاصة في الشأن الديني العام، بحيث إن المنهج العام هو عدم حجية من يدّعي دعوى معينة ولا دليل له يمكن أن نفهمه سوى اللغة الخاصة التي يدّعيها.

ثانياً: إن موضع حركة الاجتهاد الشيعي هي ضمن دائرة اللغة المشتركة المتمثلة بالقرآن والسنة والعقل، ولم يقبل أن تكون أحد مصادره الأحلام والرؤى، أو أن تكون أحد مصادره أن الشخص الفلاني التقى بالإمام صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) وأرشده إلى الحكم الكذائي، من دون أن يتعارض هذا مع لطفه ورعايته لنا في عصر الغيبة، فهذا موضوع آخر غير ما نتحدث فيه من حجية قول الشخص.

وهكذا لم يقبل الاجتهاد الشيعي أن تكون أحد المصادر هو أن الزاهد الفلاني حصل على الحكم الشرعي من خلال مكاشفة خاصة به، كل هذه وغيرها من المصادر غير المنهجية، لم يرتضها الاجتهاد الشيعي ووضع حولها خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه.

وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر عقلائي، ومنهجي في نفس الوقت، وكل من رجع إلى وجدانه يجد أن قول الآخر إنما يكون حجة عليه إذا كان ضمن المنهج المفهوم للجميع، والذي يمكن أن يُستدل عليه بطريقة علمية، وهذا هو معنى اللغة المشتركة في الحجية، وأما لو كانت اللغة خاصة بصاحبها،

ص: 138

فلو فرضنا أنه صادق في حد نفسه، فإنه لا يكون حجة علينا، لفقدانه وسيلة الإثبات المنهجية.

علماً أن الحديث هنا ليس في صدد تكذيب من ادعى اللقاء بالمعصوم (عليه السلام) في غيبته ولا إثبات ذلك، وإنما حديثنا في حجية قول من ادّعى اللقاء وأخذ الأحكام الشرعية أو التعليمات منه، وفرق بين الأمرين.

فلسنا بصدد نفي أو اثبات الرؤية واللقاء بالإمام (عجل الله تعالى فرجه)، بل كل كلامنا يتمحور في إشكالية توظيف هذا اللقاء في نقل جملة من الأفكار والرؤى إلى الناس وأنه طريقة غير علمية وغير منهجية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم القبول من شخص لا يتحرك في سياق اللغة المتداولة العامة في استدلالاته، ولا يمتلك دليلاً على عصمته، ولم يأت بمعجز يعزز ما يقوله، ولم يقدم دليلاً قطعياً على حجيته..، ونجده ينتهي إلى مقولة: أنني رأيت هكذا بشكل خاص، فمثل هذا الشخص لا يمكن أبداً قبول مدعياته، ولو قبلنا بها لوقعنا في ازدواحية كبيرة، كيف! ونحن نطالب النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في إثبات صدق مقولاته إلى دليل كالعصمة أو المعجزة، في حين أننا نكتفي بما يقول هذا الشخص لصرف كونه صادقاً، بلا بينة ولا دليل!

ولذا لابد من التفكيك بين كون الانسان طيباً وصاحب سريرة حسنة، وبين أن يأخذ موقع السفارة الخاصة والباب مع الامام (عجل الله تعالى فرجه)، فهاتان مساحتان لا ينبغي الخلط بينهما، فالعقلاء لا يقبلون من شخص يتصف بالصدق والطيب أن يأخذ موقع الطبيب ليصف لهم الدواء في علاج أمراضهم،

ص: 139

وهكذا الحال مع باقي التخصصات، فالقفز في المواقع بلا أي قانون أو ضوابط يؤدي بنا إلى فوضى عارمة.

يجب أن نفهم: أن مدعي اللقاء مع صاحب الامر (عجل الله تعالى فرجه) لا يكفي في تصديقه صرف كونه صادقاً وإنساناً خيّراً؛ لاحتمال توهمه أو وقوعه في الخطأ، وإن كان صادقاً، لأنه غير معصوم حسب الفرض، ولم يأت بمعجزة تدل على صدق مدعاه.

الحد السابع: نيابة عامة لا خاصة
اشارة

يحتل شخص المعصوم مكانة خاصة في الوجدان الشيعي لما يمثله في المستوى النظري من حلقة الوصل بين الأرض والسماء، وفي المستوى العملي من تجسيد لكل معاني السمو والكمال.

بالإضافة: إلى دخوله في هوية النسيج العقدي والاجتماعي لهذا التشكل، فإن إيماننا بالمعصوم لا يقتصر على كونه واسطة بيننا وبين النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والباري جل وعلا، وإنما صار إيماننا به (عليه السلام) مفصلاً أساسياً لانتمائنا، ومميزاً لنا عن غيرنا، وانتماؤنا لهذا المذهب الحق لم يكن من دون إيماننا بالمعصومين (عليهم السلام).

من ثم كان أدنى نوع اتصال به يمثل شرفاً عظيماً، ونحن نقدّر –كثيراً- الرواة الذي سمعوا الحديث منهم (عليهم السلام) ونقلوه لنا بكل أمانة، ونجلهم، ونحترمهم.

وهكذا الأمر لو كانت العلاقة معه (عليه السلام) حاصلة في عصر الغيبة، فكان

ص: 140

اللقاء به (سلام الله عليه) أمنية تراود نفس كل شيعي وغاية سامية يرنو إليها كل موالٍ.

وقد دوّن لنا التاريخ أسماء شخوص طهرت نفوسهم وارتقوا في مراتب الإيمان، فنالوا شرف اللقاء به (عجل الله تعالى فرجه) منهم السيد ابن طاووس والسيد بحر العلوم وغيرهم.

ولكن السؤال: في عصر الغيبة، هل يمكن أن ينعكس اللقاء بالإمام (عجل الله تعالى فرجه) على العلاقة بين الأمة ومن نال ذلك الشرف أو لا؟

هل يمكن أن نقبل إخبار من التقى الإمام بحُكمٍ شرعي أو فكرة أو مقولة أو توجيه إزاء واقعة محددة وحدث معين؟

هل يكون مفاد ذلك الإخبار ملزماً لنا باعتباره صادراً من الإمام مباشرة؟

الجواب:

بالتحليل، فإن النقل عن الإمام مباشرة وعبر دعوى لقائه لا يمثل طريقاً منهجياً (مع كل ما يحمله لقاء الإمام من مداليل عميقة في حد نفسه) يمكن أن يعتمد في الحصول على حكم أو موقف شرعي؛ لأن ثمة عنصرين يمنعان من ذلك، هما:

العنصر الأول: أنه لغة خاصة لا عامة

إن الحكم الشرعي يمثل وجهة نظر الشارع تجاه مختلف الأحداث، الاجتماعية منها والسياسية والثقافية وغيرها، فهو يحدد موقف المكلف

ص: 141

وطريقة تعاطيه مع مختلف الأحداث مهما كانت خطورتها أو صغرها، وهو في الوقت ذاته لا يقتصر على زمان دون زمان، بل يتجاوز الزمان ليحدد الموقف منها مهما ابتعدت عن عصر النص والحضور.

فالحكم الشرعي يؤثر بصورة مباشرة على مقدرات الناس من الأنفس والأموال والأعراض بل ربما الأمم، لذا فهو لا يمكن أن يقوم على آلية ذاتية وذات طابع فردي (ولغة خاصة) كاللقاء بشخص الإمام (عجل الله تعالى فرجه) في غيبته ونقل الحكم عنه (عجل الله تعالى فرجه)، إذ مثل هذا اللقاء -لو كان- فهو يفتقد منطقيته؛ باعتباره حالة استثنائية غير متاحة للعموم كي يصلح لغة مشتركة بينهم تصلح للتفاهم والاحتجاج والإقناع، وبالتالي فلا طريق لها لأن تكون ملزمة لغير من حظي بها، ومن ثم فهي تبقى في دائرة الدعاوى غير المستدلة والتي تختص قيمتها القانونية -لو صدقت- بصاحبها.

لا بد للحكم الشرعي (ولكل معرفة يراد توصيلها للآخرين) من قنوات منهجية واضحة وعامة تكون هي المعيار في قبوله أو رفضه، وهذا أمر تقضي به طبيعة الأمور ذات التداول العام بين أبناء البشر، فالبيع والشراء مثلاً في التعاملات السوقية اليومية يتم من خلال وحدات قياسية ثابتة متفق عليها مسبقاً، لتكون هي المرجع في تحديد قيم الأشياء، مع الفارق الكبير بين التداعيات المترتبة على كل من الأمرين.

ص: 142

العنصر الثاني: الأدلة الدالة على انقطاع النيابة الخاصة زمن الغيبة الصغرى

إن هناك الكثير من النصوص الدينية التي تؤكد انقطاع الصلة بالإمام (عجل الله تعالى فرجه) في عصر الغيبة، وانحصار طريق أخذ الأحكام الشرعية في رواة أحاديث الأئمة (عليهم السلام), منها ما دل على أن من ادعى الرؤية كاذب، وما دل على بدء الغيبة الكبرى للإمام (عجل الله تعالى فرجه) وحصر أخذ الأحكام الشرعية في الرواة (فإنهم حجتي عليكم). بل بات هذا الأمر من الثوابت المذهبية المحسومة التي لا تقبل الاجتهاد والرأي الآخر والتعدد.

من خلال ما تقدم يمكن أن نخلص إلى أن المجتهد لا يملك النيابة الخاصة، بل إن أقصى ما يمثله هي النيابة العامة في حدود المنهجية الموضوعة لذلك.

وحتى تتضح الصورة أكثر، نذكر الاستطراد التالي:

استطراد: أدلة انقطاع النيابة الخاصة(1):

هنالك أدلة عديدة على انقطاع السفارة، منها:

أولاً: إن انقطاع النيابة والسفارة من أوليات وبديهيات وضروريات مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ولا تجد عالماً يُشكّك في ذلك، وكل من قال بغير ذلك –لو وُجد- فهو خارج عن هذه الضرورة ولا يُعبأ به.

ص: 143


1- مستفاد من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام) بتصرف وإضافة.

(قال الشيخ سعد بن عبد الله الأشعري القمّي - وقد كان معاصراً للإمام العسكري عليه السلام، وكان شيخ الطائفة وفقيهها - في كتابه المقالات والفِرق بعد أن بيّن لزوم الاعتقاد بغيبة الإمام عجّل الله فرجه، وانقطاع الارتباط به: فهذه سبيل الإمامة، وهذا المنهج الواضح، والغرض الواجب اللازم الذي لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإماميّة المهتدية رحمة الله عليها، وعلى ذلك إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن عليّ رضوان الله عليه.)(1)

ثانياً: إجماع الفقهاء على انقطاع النيابة وإجماعهم على كفر وضلال مدّعي السفارة والنيابة.

قال ابن قولويه (رحمه الله): (... لأن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري (رحمه الله) فهو كافر منمس ضال مضل...).(2)

ثالثاً: التواتر:

ومعناه: إن للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) غيبتين: غيبة صغرى وغيبة كبرى، وإن من الفارق بينهما: هو أن الغيبة الصغرى يكون الخفاء فيها ليس تاماً لوجود تمثيل رسمي للإمام (عجّل الله فرجه) من خلال السفراء والنواب الخاصين، وأن الغيبة الكبرى يكون الخفاء فيها تاماً، أي يكون الانقطاع تاماً، كما أن انتهاء الغيبة الصغرى يكون بانقطاع السفارة والنيابة الخاصة، في حين أن انتهاء الغيبة الكبرى يكون بظهور الإمام (عجّل الله فرجه) وبيعته وإقامة دولته وبروز جهاز إدارته.

ص: 144


1- المقالات والفرق للأشعري حسب نقل الشيخ محمد السند في كتابه: فقه علائم الظهور ص 22.
2- الغيبة للشيخ الطوسي: ص412، ح385.

وهذا أمر متفق عليه لدى الجميع، فلو جاء شخص وادعى أنه التقى بالإمام (عجل الله تعالى فرجه) وأنه سفيره إلى الناس، لأمكن أن يأتي شخص ثانٍ وثال وعاشر، وبالتالي لا يكون فرق بين الغيبتين.

رابعاً: ومما يؤيد التسليم بانقطاع السفارة الخاصة، هو أن (علماء سنة الخلافة وجماعة السلطان قد اشتهر بينهم عن الإماميّة ذلك، وأخذوا يصيغون الإشكالات بانعدام الإمام (عجّل الله فرجه) مع انقطاعه عن شيعته في أكثر كتبهم الكلاميّة والمؤلّفة في الملل والمذاهب.)(1)

فمثل هذه الإشكالات التي طرحوها لا وجه لها لو يكن انقطاع السفارة الخاصة مسلّماً لدى الشيعة، ومشتهراً لدى الجميع، لذا استغلوا هذه الحقيقة لصياغة بعض الإشكالات، والتي أجاب عنها علماؤنا بالتفصيل.(2)

خامساً: التوقيع المبارك المروي بتوسط النائب الرابع علي بن محمد السمري (رضي الله عنه)، إذ روى الشيخ الصدوق قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ علي بن محمد السمري (قدس الله روحه) فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا

ص: 145


1- فقه علائم الظهور للشيخ محمد السند ص 24.
2- لمزيد اطلاع يمكن مراجعة كتاب: شذرات مهدوية للشيخ حسين الأسدي – الشذرة التاسعة: الغيبة المهدوية.

ظهور إلا بعد إذن الله عز وجل وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه. ومضى رضي الله عنه، فهذا آخر كلام سمع منه.(1)

إن المشاهدة المنفية في نص الإمام لا تخلو عن أحد معنيين:

الأول: نفي مطلق المشاهدة.

الثاني: نفي بعض المشاهدة.

أمّا الأول، فباطل بالوجدان، لحدوث المشاهدة من عدة من أساطين الفقهاء والعلماء وتشرفهم بلقائه (عجّل الله فرجه)، حتى إن ثلة منهم نقل عنه (عجّل الله فرجه) بعض الأدعية المسطرة في كتب الشيعة مع عدم دعواهم للسفارة.

فلابد من أن ينحصر المعنى بالثاني (أي نفي بعض مصاديق المشاهدة)، وهذا البعض المنفي لابد أن يكون المراد منه المشاهدة مع ادعاء الوساطة والارتباط المباشر بالإمام (عجّل الله فرجه)، بقرينة أن التوقيع صدر قرب وفاة السمري، حيث ورد في أوله تعزية الإمام (عجّل الله فرجه) المؤمنين بموت السمري ما بينه وبين ستة

ص: 146


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 516 ب 45 ح 44 ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة ص 395 ح 365.

أيام، ثم أمْرُه (عليه السلام) السمري بعدم الوصاية إلى أحد يقوم مقامه بعد وفاته، إذ قد وقعت الغيبة التامة، وأنه لا ظهور حتى يأذن الله تعالى ذكره، وهذه كلها قرائن على أن سياق الكلام دال على تكذيب المشاهدة مع دعوى النيابة والسفارة بعد السمري (رضي الله عنه). فتكون المشاهدة بمعنى السفارة من المحكمات.

على أنه ينبغي أن نلاحظ التالي:

إن التوقيع الشريف، إن كان ينفي خصوص السفارة فبها، وإن كان ينفي مطلق المشاهدة، بما يشمل السفارة والرؤية من دون ادعائها، فهو أيضاً بالتالي ينفي السفارة الخاصة. إذ السفارة أخص من مطلق الرؤية، والخاص ينتفي بانتفاء المطلق والعام.

ص: 147

ص: 148

النقطة السادسة: ضرورة الرجوع إلى الفقهاء في زمن الغيبة الكبرى

اشارة

بعد أن عرفنا الخطوط العامة للاجتهاد وموضعه في منظومة التشريع، وحدوده التي لا يجوز تجاوزها أو التغافل عنها، فمن المناسب أن تعرض إلى ضرورة الرجوع إلى الفقهاء زمن الغيبة الكبرى، مما يُسمى بالتقليد، وبيان هذه الضرورة يكون ضمن خطوات خمسة:

الخطوة الأولى: التعريف بالتقليد عموماً

الخطوة الثانية: أين يقع التقليد؟

الخطوة الثالثة: أدلة لزوم التقليد.

الخطوة الرابعة: جذور المرجعية (بمعنى الرجوع إلى العلماء في أمور الدين)في الإسلام.

الخطوة الخامسة: بعض الإشكالات على التقليد والجواب عنها

الخطوة الأولى: التعريف بالتقليد عموماً
اشارة

الخطوة الأولى: التعريف بالتقليد عموماً(1).

التقليد بمعناه العامِّ الشَّامل لباب الأحكام الشَّرعيَّة وغيرها هو: (متابعة

ص: 149


1- انظر كتاب: مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة- للشيخ جاسم الوائلي ص 19 وما بعدها.

شخصٍ لغيره في فعلٍ أو قولٍ من دون أنْ يعرف مستنده في اختياره لذلك الفعل أو القول).

ومن أمثلته: متابعة المريض لقول الطبيب فيما يأمره بفعله، كشرب دواء معيَّنٍ، أو فيما يأمره بتركه، كترك أكلة معيَّنةٍ، فيتابعه في كلِّ ما يقول له بخصوص مرضه، مع أنَّه لا يعرف ما هو مستند الطبيب فيما قاله.

ومن أمثلته الواضحة: متابعة العامِّيِّ للفقيه في كُلِّ ما يفتي به، فلو قال الفقيه بوجوب شيءٍ فالعاميُّ يقول بوجوبه أيضاً متابعةً منه لذلك الفقيه فيما قاله، ومن دون أنْ يعرف ما هو دليل الفقيه علىٰ ذلك الوجوب.

أقسام التقليد
اشارة

وينقسم التقليد إلىٰ قسمين:

1- التقليد غير المبرَّر

وهذا كما يصنعه السفهاء ممَّن أشار إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما رُوي عنه في النهج: «وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَىٰ رُكْنٍ وَثِيقٍ»(1)، وما أكثر هؤلاء في كلِّ زمان.

وما من عاقل إلَّا ويستهجن هذا القسم من التقليد، بل إنَّ قبحه من الواضحات التي لا تحتاج إلىٰ دليل، ولك أنْ تُسمِّيه ب (التقليد الأعمىٰ).

ص: 150


1- نهج البلاغة (قصار الحِكَم/ الحكمة 147).
2- التقليد المبرَّر

وهو رجوع غير المُختصِّ إلىٰ المُختصِّ، ويُعبَّر عنه برجوع الجاهل إلىٰ العالم، أي رجوع الجاهل في شيءٍ إلىٰ العالم بذلك الشيء.

وأمثلة هذا القسم لا تُعَدُّ ولا تُحصىٰ، وهو ممَّا حكم العقل بحسنه، وأمر الشرع به، وجرت عليه سيرة العقلاء، ولك أنْ تُسمِّيه ب (التقليد الواعي)...

وتقليد العوامِّ للفقهاء في مجال الأحكام الفرعيَّة هو من قبيل التقليد المبرَّر والواعي...

وينقسم التقليد الواعي إلىٰ قسمين:

1 - التقليد في الأُمور العمليَّة، وهو: (متابعة غير الخبير في فعلٍ من الأفعال لمن هو خبيرٌ في ذلك الفعل ثقةً بخبرته).

والمبرِّر لهذا التقليد: فقدانُ الخبرة لدىٰ التابع، ووجودُها لدىٰ المتبوع.

ومن هذا القبيل تقليد أصحاب المِهَن والحِرَف والفنون، فإنَّ العامل يتبع فعل الأُستاذ في تلك الحِرفة ليُتقِن الصَّنعة، ويستفيد من خبرته فيها، كما في مِهنة الخياطة، والنِّجارة، والحِدادة، والبناء، وإصلاح المكائن والمركبات، وكذا في مجال السينما، والمسرح، والفنون التشكيليَّة من الخطِّ، والرسم، والنحت، والتطريز، وغيرها، وكذا في مختلف فنون الأدب، إلىٰ غير ذلك ممَّا لم نذكره.

ولو أنَّ شخصاً تعاطىٰ مهنة الخياطة مثلاً قبل أنْ يُتقِنها فإنَّ العقلاء

ص: 151

يلقون باللَّوم عليه، ويحكمون بأنَّه ضامن لما يتلفه بسبب جهله.

ولذا ترىٰ كثيراً من العقلاء يشترطون علىٰ الأُستاذ أنْ يباشر العمل بنفسه فيما لو كانوا يشكُّون في قُدُرات عامله.

وقد جرت سيرة العقلاء - بمختلف أديانهم ومعتقداتهم - علىٰ الرجوع إلىٰ ذوي الاختصاص في جميع تلك المجالات، ومن رجع فيها إلىٰ غير المختصِّين كان مَلوماً عند العقلاء، حتَّىٰ لو جاءت النتيجة في صالحه وكما يريد.

2 - التقليد في الأُمور العلميَّة، وهو: (متابعة الجاهل بشيءٍ لقول العالم به من دون معرفة مستنده ثقةً بعلمه).

والمبرِّرُ هنا هو: فقدان العلم لدىٰ التابع، ووجدانه لدىٰ المتبوع.

ومن هذا القبيل متابعة العقلاء لأصحاب العلوم فيما توصَّلوا إليه من نتائج والأخذ بقولهم فيها من دون مطالبتهم بالدليل علىٰ ما يقولون، باعتبار أنَّهم ذوو اختصاصٍ في تلك العلوم، وأمثلته كثيرةٌ جدًّا يتعسَّر، بل يتعذَّر حصرها...

وتقليد العوامِّ للفقهاء يندرج في هذا القسم من التقليد الواعي، أعني التقليد في الأُمور العلميَّة، حيث يأخذون الأحكام الفقهيَّة من الفقهاء بما أنَّهم أصحاب الاختصاص في علم الفقه، فإنَّ العلوم الدِّينيَّة منها ما يتناول المسائل العقديَّة، ومنها ما يتناول المسائل الأخلاقيَّة، ومنها ما يتناول المسائل

ص: 152

الفقهيَّة، والعوامُّ إنَّما يتابعون الفقهاء في خصوص المسائل الفقهيَّة.

الخطوة الثانية: أين يقع التقليد؟

تقدم في التمهيد المعرفي في بداية هذه الدروس أن من الفروق بين الأصول والفروع هو جواز التقليد في الثانية دون الأولى، وهذا يعني أن التقليد الذي نتحدث عنه إنما هو التقليد في الفروع والمسائل الفقهية، (والواجب علىٰ كلِّ مسلمٍ أنْ يمتثل جميع الأحكام التي يُبتلىٰ بها في حياته، ومن البديهي أنَّ امتثالها يتوقَّف علىٰ العلم بها أوَّلاً، وحيث لا يمكن من الناحية العمليَّة أنْ يُعطِّل جميع المكلَّفين حياتهم ويتفرَّغوا للاشتغال باستنباطها، فتعيَّن أنْ تتفرَّغ جماعةٌ لهذه المَهمَّة، وعلىٰ الباقين الأخذ منها، كما أشار إلىٰ ذلك قوله تعالىٰ: ]وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[.(1)(2)

مع الالتفات إلى (أنَّ الأحكام التي يجب تعلُّمها من أجل امتثالها علىٰ قسمين:

1 - ما لا يتوقَّف العلم بها علىٰ الاجتهاد، ويمكن أنْ نصطلح عليها اسم (الأحكام الواضحة).

2 - ما يتوقَّف العلم بها علىٰ الاجتهاد، ويمكن أنْ نصطلح عليها اسم (الأحكام الاجتهاديَّة).

ص: 153


1- التوبة: 122.
2- مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة- للشيخ جاسم الوائلي 27.

أمَّا الأحكام الواضحة فتنحصر في دائرةٍ ضيِّقة، وتُشكِّل نسبةً ضئيلةً جدًّا من بين مجموع الأحكام، كوجوب الصلوات اليوميَّة مثلاً، ووجوب صوم شهر رمضان، والزكاة، والخُمُس، والحجِّ، والجهاد، وغيرها من الأفعال التي وجوبها من واضحات الدِّين، أو المذهب.

وكحرمة قتل النفس المحترمة، والزِّنا، واللواط، والسَّرقة، وشرب الخمر، وغيرها من المحرَّمات التي يتساوىٰ في العلم بحرمتها الفقهاءُ والعوامُّ.

وكاستحباب إعانة الفقراء والمساكين، وبناء مأوىٰ للأيتام أو المسنِّين، وإماطة الأذىٰ عن طريق المستطرقين، أو بناء مدرسةٍ، أو مشفىٰ، أو تعبيد طريقٍ، أو غير ذلك ممَّا لا يختلف مؤمنان في استحبابه في شرع الإسلام، أو المذهب.

وهذا القسم من الأحكام لا حاجة فيه إلىٰ تقليد الفقهاء بعد كونه من الواضحات المستغنية عن عمليَّة الاستنباط.

وأمَّا الأحكام الاجتهاديَّة فهي الغالبيَّة العظمىٰ من الأحكام الشرعيَّة، بحيث لو قيل: إنَّها تُشكِّل نسبة تسعة وتسعين بالمائة من مجموع الأحكام لكانت قليلةً، لأنَّها أكثر من ذلك قطعاً.(1)

وأما أصول الدين فالأًصل فيها هو عدم تقليد الغير، لأن المطلوب فيها

ص: 154


1- مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة- للشيخ جاسم الوائلي ص28.

هو تحصيل الاعتقاد والدليل القطعي على حقانية المعتقد، نعم، يمكن أخذ الدليل من الآخر والنظر فيه والاقتناع القطعي به، كما يحصل عندما نتعلم مسائل العقائد الدينية على يدي الأساتذة.

الخطوة الثالثة: أدلة لزوم التقليد
اشارة

ذكرت العديد من الأدلة والتنبيهات على ضرورة الرجوع إلى الفقهاء في معرفة الحكم الشرعي، ومنها التالي:

الدليل الأول: انحصار طريق تحصيل الحكم الشرعي بالتقليد
اشارة

لا شك أننا مخاطبون بتكاليف شرعية، ومن اللازم علينا أداؤها، ومن الواضح أنه لا يمكن امتثال التكليف الشرعي إلا بعد معرفته ومعرفة حدوده، فكيف لنا أن نعرف الحكم الشرعي؟

لو كنا في زمن الظهور، وكنا بالقرب من المعصوم بحيث يمكن أن نصل إليه مباشرة، لأمكن الرجوع مباشرة إلى المعصوم لمعرفته.

ولكن ماذا لو كان المعصوم غائباً؟

إنه ينحصر الأمر بأحد طرق ثلاثة:

الأول: الاجتهاد

أن يصبح كل واحد منها مجتهداً، يستنبط الحكم الشرعي من مصادره، وهذا الطريق وإن كان ممكناً عقلاً، ولكنه في الواقع ممتنع وقوعاً، إذ فضلاً عن صعوبته بما يصل إلى حد الامتناع على كثير من الناس، فإنه يؤدي إلى

ص: 155

تعطيل الحياة، إذ إن الوصول إلى مرحلة الاستنباط يحتاج إلى سنين طويلة من الدراسة والبحث والتنقيب وإتقان العديد من العلوم.

ولو أمكن ذلك فرضاً، فنسأل: في فترة الدراسة، وقبل الوصول إلى مرحلة الاجتهاد، كيف سنمتثل الأحكام الشرعية، وكيف سنعرفها؟ بعد الفراغ عن حرمة ترك امتثالها على البالغين كما هو واضح.

فهذا الطريق مستحيل، أو إنه تلزم منه محذورات لا يمكن تجاوزها.

الثاني: الاحتياط

بأن يعمل كل واحد من المكلفين على أن يمتثل ما يتيقن معه بفراغ الذمة.

(والقطع بفراغ الذمَّة تارةً يتوقَّف علىٰ الإتيان بالعمل، وتارةً أُخرىٰ يتوقَّف علىٰ تركه، وثالثةً يتوقَّف علىٰ تكراره.

مثال الأوَّل: ما لو أفتىٰ فقيهٌ بوجوب الإقامة للصلاة، وأفتىٰ فقيهٌ آخر بعدم وجوبها، ولا يتحقَّق الاحتياط بلحاظ الإقامة إلَّا بالإتيان بها.

ومثال الثاني: ما لو أفتىٰ فقيه بحرمة التدخين، وأفتىٰ آخر بجوازه، والاحتياط في ذلك يحقَّق بترك التدخين.

ومثال الثالث: ما لو أفتىٰ فقيهٌ بأنَّ الصلاة في المكان الفلاني يجب الإتيان بها قصراً، وأفتىٰ آخر بوجوب الإتيان بها تماماً، والاحتياط فيها يتحقَّق بالإتيان بها مرَّتين، مرَّة تماماً، وأُخرىٰ قصراً.)(1)

ص: 156


1- مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة ص31.

وهذا الأمر وإن كان ممكنا، ولكنه يلزم منه عدة محاذير: أهمها: الوقوع في الحرج وربما الوقوع في ما لا يمكن امتثاله، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة، بأن وجدنا فقيهاً يقول بوجوب شيء، وآخر بحرمته، فإن الاحتياط في مثل هذه الحالة مستحيل، وأي طرف يختاره المكلف، يكون قد عصى الطرف الآخر، (كما لو أفتىٰ فقيهٌ بوجوب صلاة الجمعة تعييناً في زمن الغيبة، بمعنىٰ عدم مشروعيَّة صلاة الظهر في يوم الجمعة، وأفتىٰ فقيه آخر بعكسه، أي بوجوب صلاة الظهر تعييناً، وعدم مشروعيَّة صلاة الجمعة، فإنَّ العاميَّ لو أراد الاحتياط بين هذين القولين لم يمكنه ذلك، لأنَّه لو أتىٰ بصلاة الجمعة فيحتمل أنَّه ارتكب محرَّماً، لاحتمال أنَّ الذي أفتىٰ بحرمتها قد أصاب في فتواه، ولو تركها وأتىٰ بصلاة الظهر فيحتمل أنَّه ترك واجباً، لاحتمال أنَّ الذي أفتىٰ بوجوب صلاة الجمعة هو المصيب.)(1)

على أن الاحتياط في جميع المسائل يلزم منه الحرج وربما الضرر في بعض الأحيان كما تبين.

الثالث: التقليد

بأن يتفرغ قسم من المؤمنين لطلب العلم حتى الوصول إلى درجة الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية، ويرجع إليهم بقية المكلفين، مع بقاء كل صنف منهم على اختصاصه الحياتي، وبذا تستمر الحياة من جهة، ويكون معرفة وبالتالي العمل بالحكم الشرعي متاحاً للجميع بأيسر الطرق.

ص: 157


1- مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة ص 31.

وهذا هو الطريق المتعين لعامة المكلفين.

الدليل الثاني: السيرة العقلائية على رجوع الجاهل إلى العالم

سيرة العقلاء تعني: عادة العقلاء التي يجرون عليها، وهذه السيرة يمكن أن تكون مستنداً للحكم الشرعي فيما لو لم يجد الفقيه آية أو رواية تدل عليه، لكن دليليتها مشروطة بشروط، خلاصتها(1):

1 - أنْ تكون السيرة جارية في زمان المعصوم، وإلا، فلو حدثت بعده، فلا يمكن الاستناد إليها.

2 - أنْ يسكت المعصوم عن تلك السيرة، ولا ينهىٰ عنها، إذ إن نهيه كاشف عن عدم رضاه بها، فلا تكون مستنداً لحكم شرعي معين.

وسكوت المعصوم (عليه السلام) عن السيرة يُعبَّر عنه تارةً ب (عدم الردع)، وتارةً ب (الإمضاء)، فيقال: هذه سيرةٌ لم يُردَع عنها، أو سيرةٌ مُمضاة، وهو يدلُّ علىٰ جوازها شرعاً.

3 - أنْ يكون سكوته عنها دالًّا علىٰ رضاه بها، أي أن لا يكون سكوته لأجل التقية، وإلَّا فلو كان سكوته في ظرف التقيَّة مثلاً فلا يكون دالًّا علىٰ رضاه بها، لاحتمال أنَّه لم يكن يرتضيها، ولكن منعته التقيَّة من النهي عنها.

فإذا اجتمعت الشرائط المذكورة في سيرةٍ من سِيَرِ العقلاء كانت حُجَّةً، ويمكن للفقيه أنْ يستكشف المشروعيَّة منها.

ص: 158


1- انظر: مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة- الشيخ جاسم الوائلي ص 61 و62 بتصرف.

إذا اتَّضح لك هذا فنقول: لقد جرت سيرة العقلاء بما هم عقلاء علىٰ رجوع غير المُختصِّين في أي مجالٍ من مجالات الحياة إلىٰ المختصِّ في ذلك المجال، كما في الطبِّ، والهندسة، والصناعة، والزراعة، وغيرها.

وهذا من أوضح الواضحات التي لا يناقش فيها إلَّا جاهلٌ، أو مغرضٌ، أو معاندٌ، أو مختلُّ العقل.

وهذه السيرة قديمة بقِدَم البشريَّة، فهي سابقة علىٰ الإسلام بقرون.

ثم إن هذه السيرة قامت في رجوع الجاهل بالحكم الشرعي إلى العالم به، ولو كانت مرفوضة شرعاً في مجال أخذ الأحكام الشرعيَّة لوجب الردع عنها، لأن ذلك من وظيفة المعصوم، لأن وظيفته (عليه السلام) هو بيان الحكم الشرعي وبيان الطرق المرضية التي تكشف عنه، ولو لم يبين مع قدرته على ذلك لكان هذا تقصيراً في أداء مهمته التبليغية، والمعصوم يُجلّ عن هذا التقصير.

وحيث لم يصدر أيُّ ردعٍ عنها من المعصومين (عليهم السلام) ابتداءً من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانتهاءً بالحسن العسكريِّ (عليه السلام) فتكون سيرة ممضاةً، وبإمضائها يثبت أنَّ تقليد الفقهاء العدول أمر جائز بلا أدنىٰ شكٍّ، ومن شكَّ في ذلك فهو وسواسيٌّ، والوسواسيُّ لا يُعتنىٰ بوسوسته وشكِّه.

والذي يشهد بهذه السيرة هي النصوص الكثيرة، والتي سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

ص: 159

الدليل الثالث: سيرة المتشرعة

تعني سيرة المتشرعة: هو السلوك الذي جرى عليه المتشرعة والمتدينون من زمن صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، وهذه السيرة يمكن أن يعتمد عليها الفقيه في الاستدلال على حكم شرعي لم يجد فيه آية أو رواية، ببيان:

إن الحديث عن متشرعة كانوا معاصرين للمعصوم (عليه السلام)، وكان يسهل عليهم الوصول إلى المعصوم وأخذ الحكم الشرعي منه، ومع ذلك كانوا يلتزمون بسيرة معينة، فهذا يعني أنهم كانوا قد أخذوا الجواز في تلك السيرة من المعصوم، وإلا، للزمت بعض الأمور التي نجزم بعدم تحقق أي واحد منها، من قبيل: أن كل المتشرعة والمتدينين غفلوا عن سؤال المعصوم عن حكم مسألة شرعية يرتكبونها باستمرار، أو أنهم أهملوا السؤال من المعصوم عن تلك المسألة، أو سألوا وغفلوا عن جواب المعصوم أو خالفوه.

إن هذه الاحتمالات بعيدة عن المتشرعة في زمن المعصوم، خصوصاً وأن فيهم من هم على درجة عالية من الفقاهة، والتدين، وأنهم كانوا يسألون المعصوم عن الفأرة إذا وقعت في السمن، وعن قطرة دم طفرت من الأنف وأصابت الإناء، فهم كانوا يدققون في المسائل ويسألون المعصوم عنها، فلا يمكن أن نتصور أنهم –كلهم- سلكوا سلوكاً غير مرضي عند المعصوم.

فبهذا البيان نستكشف أن سيرة المتشرعة والمتدينين الذين كانوا في زمن المعصوم، ووصلت سيرتهم لنا على سلوك معين، هذه السيرة كانت مأخوذة عن المعصوم، وإن لم يصل دليلها اللفظي لنا.

ص: 160

هذا.

ويمكن أن يُقال: إن هذه السيرة حيث كانت موجودة في زمن المعصوم، ولم يردع عنها، مع قدرته على ذلك، فهذا يكشف عن رضاه بها –كما هو الحال في سيرة العقلاء-

وعلى كل حال، فإننا نجد أن المتشرعة والمتدينين يرجعون إلى الفقهاء في أخذ أحكامهم الشرعية، ولم يصل ردع من المعصوم عن هذه السيرة، فهذا يكشف عن جواز ذلك، وهو المطلوب.

وستأتي بعض النصوص الدالة على هذه السيرة في الخطوة الرابعة، بل وسيتبين أن المعصوم (عليه السلام) نفسه هو من كان يُرجع الناس إلى الفقيه ليأخذ الحكم الشرعي.

الخطوة الرابعة: جذور المرجعية (بمعنى الرجوع إلى العلماء في أمور الدين)في الإسلام
اشارة

الخطوة الرابعة: جذور المرجعية (بمعنى الرجوع إلى العلماء في أمور الدين)في الإسلام(1):

عند مطالعة الروايات الشريفة نجد أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) كانوا يُرجِعون شيعتهم إلىٰ العلماء العارفين بأحاديثهم زمن حضورهم، وهذا منهم كان من باب: ]وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[(2)

ممَّا يعني إمكان الرجوع إليهم إذا كانوا فقهاءً في دينهم.

ص: 161


1- انظر: على ضفاف الانتظار- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- العنوان رقم 102 و 103.
2- التوبة: 122.

والروايات في هذا المجال كثيرة، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: ما ورد في ذلك في زمن النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)

روي في قصَّة بيعة العقبة: قال ابن إسحاق: (فلمَّا انصرف عنه القوم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) معهم مصعب بن عمير...، وأمره أن يُقرئهم القرآن ويُعلِّمهم الإسلام ويُفقِّههم في الدين)(1).

وروي أنَّه بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمرو بن حزم والياً علىٰ بني الحارث ليُفقِّههم في الدين ويُعلِّمهم السُّنَّة ومعالم الإسلام(2).

ثانياً: ما ورد في ذلك في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام)

وهو ما كتبه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلىٰ قُثَم بن عبّاس حين ما ولّاه: «وَاجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ، فَأَفْتِ المُسْتَفْتِيَ، وَعَلِّمِ الْجَاهِلَ، وَذَاكِرِ الْعَالِمَ»(3).

ثالثاً: ما ورد في ذلك في زمن الأئمَّة المعصومين بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)
1- الإمام الباقر (عليه السلام)

قال (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اُجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أُحِبُّ أن يُرىٰ في شيعتي مثلك»(4).

2- الإمام الصادق (عليه السلام)

عن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بلغني أنَّك تقعد في الجامع فتُفتي الناس؟»، قلت: نعم، وأردت أن

ص: 162


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 96.
2- البداية والنهاية لابن كثير 5: 89.
3- نهج البلاغة: 457/ ح 67، من كتاب له (عليه السلام) إلىٰ قُثَم بن العبّاس، وهو عامله علىٰ مكّة.
4- رجال النجاشي: 10/ الرقم 7.

أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. ويجيء الرجل أعرفه بمودَّتكم وحبِّكم، فأُخبره بما جاء عنكم. ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي: «اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع»(1).

وعن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلَّا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي. ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفّاظ الدين وأُمناء أبي علىٰ حلال الله وحرامه...»(2).

3- الإمام الرضا (عليه السلام)

عن محمّد بن عيسىٰ، قال: حدَّث الحسن بن عليِّ بن يقطين بذلك أيضاً، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): جُعلت فداك، إنّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلِّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم»(3).

وعن عليِّ بن المسيّب، قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقَّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلِّ وقت، فممَّن آخذ معالم ديني؟ فقال: «من زكريا بن آدم القمّي المأمون علىٰ الدين والدنيا»، قال عليُّ بن المسيّب: فلمَّا انصرفت قدمت

ص: 163


1- اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 522 - 524/ الرقم 704.
2- اختيار معرفة الرجال للطوسي 1: 348/ الرقم 219.
3- اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 784/ الرقم 935.

علىٰ زكريا بن آدم فسألته عمَّا احتجت إليه»(1).

4- الإمام الهادي (عليه السلام)

وهنا، بدأت فكرة الرجوع إلىٰ الفقهاء الثقات تتبلور أكثر، وتصبح عملية أكثر، من خلال إرجاع الإمام الهادي (عليه السلام) الشيعة إلىٰ عثمان بن سعيد الذي كان ثقةً مأموناً عنده (عليه السلام).

عن أحمد بن إسحاق، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) وقلت: من أعامل، أو عمَّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال له: «العمري ثقتي، فما أدّىٰ إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون»(2).

5 - الإمام العسكري (عليه السلام)

وقد اتَّخذ طابع الإرجاع إلىٰ الفقهاء هنا مستوىٰ أعمق علىٰ المستوىٰ العملي، من خلال إرجاع الإمام الشيعة للسفيرين الأوَّلين، وقد كانا أتباعاً مخلصين وفقهاء مأمونين عند الإمام العسكري (عليه السلام).

عن أحمد بن إسحاق أنَّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك(3)، فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنَّهما الثقتان المأمونان...»(4).

6- الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)
اشارة

وهنا مرحلتان:

ص: 164


1- اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 858/ الرقم 1112.
2- الكافي للكليني 1: 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1.
3- أي ما ورد في الرواية السابقة.
4- المصدر السابق.
المرحلة الأُولىٰ: زمن الغيبة الصغرىٰ: تعيين السفراء الخاصّين:

عندما غاب الإمام المهدي (عليه السلام) غيبته الصغرىٰ، صارت معرفة الأحكام الشرعية من خلال الرجوع إلىٰ السفراء الأربعة وعلىٰ مدار ما يقرب من سبعين سنة، حيث تمَّ تعيين السفراء بأشخاصهم من قِبَل الإمام شخصياً، وهذا ما يُميِّز السفير والنائب الخاصّ عن العامّ، فإنَّ السفير هو من يُعيِّنه الإمام نفسه بشخصه لا بصفته.

وهذا المعنىٰ هو ما دلَّت الروايات الشريفة علىٰ عدم وقوعه بعد انتهاء الغيبة الصغرىٰ إلىٰ أن يخرج السفياني وتحدث الصيحة، ففي توقيع الإمام المهدي (عليه السلام) لسفيره الرابع في آخر أيّام حياته ورد:

«... وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعىٰ المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر...»(1).

وعليه، فكلُّ من ادَّعىٰ السفارة الخاصَّة عن الإمام المهدي (عليه السلام) بهذا المعنىٰ قبل أن تقع الصيحة ويخرج السفياني فنحكم بتكذيبه من دون تردّد.

المرحلة الثانية: في زمن الغيبة الكبرىٰ: تعيين الفقهاء بصفاتهم

وعندما انتهت الغيبة الصغرىٰ كانت فكرة الرجوع إلىٰ الفقهاء المأمونين قد ترسَّخت في أذهان العامَّة - رغم وجودها في الأزمنة السابقة، حيث كان المعصومون حاضرين ظاهرين - بحيث صارت أمراً طبيعياً من خلال الروايات التي عيَّنت الفقهاء الذين يمكن الرجوع إليهم تعييناً من خلال

ص: 165


1- كمال الدين للصدوق: 516/ باب 45/ ح 44.

الصفة لا الشخص.

وهذا ما ورد علىٰ لسان الإمام المهدي (عليه السلام) في توقيعه الشريف: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلىٰ رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم»(1).

بل نجد أنَّ هذا التعيين الصفتي قد بدأ من زمن الإمام العسكري (عليه السلام) حيث قال: «فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً علىٰ هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامِّ أن يُقلِّدوه...»(2).

بل ومن زمن الإمام الهادي (عليه السلام)، فقد ورد أنَّه قال (عليه السلام): «لولا من يبقىٰ بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله (عز وجل)»(3).

الخطوة الخامسة: بعض الإشكالات على التقليد والجواب عنها

الخطوة الخامسة: بعض الإشكالات على التقليد والجواب عنها(4).

أشكل البعض(5)

–ممن لا يد له في التخصص العلمي-، على العلم

ص: 166


1- كمال الدين للصدوق: 484/ باب 45/ ح 4.
2- الاحتجاج للطبرسي 2: 263.
3- الاحتجاج للطبرسي 2: 260.
4- مستفاد من: مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة للشيخ جاسم الوائلي- الفصل الثالث- بتصرف.
5- وذلك من خلال نشر بعض المنشورات التي أرادوا من خلالها إبطال التقليد، وقد استعانوا بمواقع التواصل الاجتماعي لنشرها إلى أقصى حد ممكن، وهي مليئة بالمغالطات والتحريف وغيرها مما سنطلع عليه في ثنايا البحث.

التخصصي ببعض الإِشكالات التي توهموا أنها تؤدي إلى إبطال القول بالتقليد، نعرض بعضاً منها، مما سينفع –إن شاء الله تعالى- في أخذ الطريقة العامة لكيفية الرد على أمثالها، ونذكر من ذلك التالي:

أولاً:

ما رواه أبو بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تَرِدُ علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سُنَّته، فننظرُ فيها؟ قال: «لا، أَمَا إِنَّك إنْ أصبتَ لم تُؤجَر، وإنْ أخطأتَ كذبتَ علىٰ الله»(1).

ثانياً:

ما رواه مسعدة بن صدقة، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): «من أفتىٰ الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادَّ الله حيث أحلَّ وحرَّم فيما لا يعلم»(2).

ثالثاً:

ما روي عن أبي شيبة الخراساني، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ أصحاب المقائيس طلبوا العلم بالمقائيس، فلم تزدهم المقائيس من الحقِّ إلَّا بُعداً، وإنَّ دين الله لا يُصاب بالمقائيس»(3).

والجواب عن هذه الثلاثة:

إن من الواضح أن هذه الروايات تنفي حجية القول بالرأي –الذي تقدم معناه-، وهو ما يحصل لدى غير مذهبنا، من أنهم عندما لا يجدون

ص: 167


1- وسائل الشيعة (ج 27/ ص 40/ أبواب صفات القاضي/ الباب 6/ ح 6).
2- وسائل الشيعة (ج 27/ ص 41/ أبواب صفات القاضي/ الباب 6/ ح 12).
3- وسائل الشيعة (ج 27/ ص 43/ أبواب صفات القاضي/ الباب 6/ ح 18).

دليلاً من النصوص الشرعية، يلجؤون إلى إعمال الرأي الخاص والقياس والاستحسان، وقد تقدم منا عدم صحة هذه الطريقة (الاجتهاد بالرأي وفي قبال النص).

رابعاً:

ما نسبه منكرو التقليد في منشورهم إلىٰ إمامنا الصادق (عليه السلام)، حيث جاء ما نصُّه: قال الصادق (عليه السلام) -وهو يعني الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بما قاله-: «أعداء الدِّين مقلِّدة الفقهاء أهل الاجتهاد ولم يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمَّتُهم...»، ثمَّ يواصل الكلام بعد ذلك إلىٰ أنْ يقول: «إذا خرج فليس له عدوٌّ مبين إلَّا الفقهاء خاصَّة، وهو والسيف أخوانِ».

هكذا نقلوا في منشوراتهم التي وزَّعوها علىٰ الناس علىٰ ما فيه من تلاعب من جهة، وأخطاء من جهة أُخرىٰ.

وقد ذكروا لهذا الحديث المزعوم مصدرين: كتاب (إلزام الناصب)، وكتاب (ينابيع المودَّة)، كما ذكروا في بعض مواقعهم المشبوهة علىٰ الإنترنت مصادر أُخرىٰ من بينها كتاب (بشارة الإسلام).

وهذا الكلام المنسوب إلىٰ إمامنا الصادق (عليه السلام) يشتمل علىٰ مقطعين:

أوَّلهما: «أعداء الدِّين مقلِّدة الفقهاء أهل الاجتهاد ولم يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمَّتُهم».

ثانيهما: «إذا خرج فليس له عدوٌّ مبين إلَّا الفقهاء خاصَّة، وهو والسيف أخوانِ».

ص: 168

والجواب عليه من ثلاثة وجوه:

1 - أنَّ الحديث بمقطعيه مكذوبٌ علىٰ الإمام الصادق (عليه السلام)، فإنَّ كلا المقطعين لابن عربي الصوفي المعروف، ذكَرهما في كتاب (الفتوحات).

أمَّا الأوَّل فقد ذكره ضمن كلامٍ له طويل جاء في أوَّله: (اعلم - أيَّدنا الله - أنَّ لله خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً).

إلىٰ أنْ قال بعد كلام له طويل فيما يقوم به الإمام المهدي (عجل الله فرجه): (يرفع المذاهب من الأرض، فلا يبقىٰ إلَّا الدِّين الخالص).

ثمّ ذكر المقطع الأوَّل قائلاً: (أَعداؤُهُ مقلِّدَةُ العُلماءِ أَهلِ الاجتهاد، لما يرونه من الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمَّتُهم).

ثمّ قال: (فيدخلون كرهاً تحت حكمه خوفاً من سيفه وسطوته ورغبةً فيما لديه، يفرح به عامَّةُ المسلمين أكثرُ من خواصِّهم، يبايعه العارفون بالله من أهل الحقائق عن شهودٍ وكشفٍ بتعريفٍ إلهي...) إلىٰ آخر كلامه(1).

وأمَّا المقطع الثاني فقد ذكره أيضاً ضمن كلام طويل انتقد فيه فقهاء المذاهب الأُخرىٰ، ومدح الصوفيَّة والعرفاء ممَّن كانوا علىٰ مسلكه، وقال: (وإذا خرج هذا الإمام المهدي فليس له عدوٌّ مبينٌ إلَّا الفقهاء خاصَّةً...).

إلىٰ أنْ قال: (ولولا أنَّ السيف بيد المهدي لأفتىٰ الفقهاء بقتله، ولكن الله يُظهِره بالسيف والكرم، فيطمعون ويخافون، فيقبلون حكمه من غير إيمانٍ،

ص: 169


1- الفتوحات المكّيَّة (ج 6/ ص 40/ الباب 366/طبعة 1/ 1424ه/ دار صادر).

بل يضمرون خلافه كما يفعل الحنفيُّون والشَّافعيُّون فيما اختلفوا فيه...).

إلىٰ أنْ قال في وصفهم: (فمثل هؤلاء لولا قهر الإمام المهدي بالسيف ما سمعوا له، ولا أطاعوه بظواهرهم، كما أنَّهم لا يطيعونه بقلوبهم، بل يعتقدون فيه أنَّه إذا حكم فيهم بغير مذهبهم أنَّه علىٰ ضلالةٍ في ذلك الحكم، لأنَّهم يعتقدون أنَّ زمان أهل الاجتهاد قد انقطع، وما بقي مجتهدٌ في العالم، وأنَّ الله لا يُوجِد بعد أئمَّتهم أحداً له درجة الاجتهاد...) إلىٰ آخر كلامه(1).

والحاصل: أنَّ الكلام بمقطعيه لابن عربي، وليس لإمامنا الصادق (عليه السلام).

2 - قد اتَّضح لك من كلامه الأخير الذي لم ينقله منكرو التقليد للتدليس علىٰ المؤمنين أنَّ المقصود بالمقلِّدين لأهل الاجتهاد هم عوامُّ أهل السُّنَّة المقلِّدين لأحد الأربعة: (مالك، وأبي حنيفة، والشَّافعي، وابن حنبل) الذين هم أهل الاجتهاد الذين يعتقد مقلِّدوهم بأنَّ الاجتهاد قد خُتِمَ بهم، وأنَّ الله تعالىٰ لن يخلق مجتهداً بعدهم.

3 - أنَّ من المقطوع به والبديهي أنَّ الأحكام التي يأتي بها الإمام المهديُّ (عجل الله فرجه) ستكون علىٰ طبق أحكام آبائه (عليهم السلام) المودوع أكثرُها في كُتُبنا الحديثيَّة، وهي أحكامٌ مخالفة لأحكام المخالفين التي هي اجتهادات أئمَّتهم الأربعة، ولذا حينما يأتي بأحكام آبائه (عليهم السلام) سوف يعاديه أتباع تلك المذاهب، لأنَّهم يرون أنَّ أحكامه (عجل الله فرجه) مخالفةٌ لأحكام أئمَّتهم الأربعة، كما علَّل بذلك ابن عربي في قوله: (لما يرونه من الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمَّتهم).

ص: 170


1- المصدر السابق (ص 49).

والنتيجة: قد اتَّضح أنَّ الحديث المذكور هو من كلام ابن عربيٍّ في حقِّ المخالفين، وقد نسبه منكرو التقليد إلىٰ إمامنا الصادق (عليه السلام) افتراءً عليه، وتدليساً علىٰ المؤمنين، فليتبوَّأ الكاذب مقعده من النار، وكذلك من علم به منهم وسكت عنه ولم يردعهم، بل ساعده في نشر هذه الأُكذوبة ]وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ[(1)

خامساً:

ما نقله منكرو التقليد في منشوراتهم عن كتاب (إلزام الناصب) من قوله: ذكر الصادق (عليه السلام) يوماً أهل الفتوىٰ وهو مغضب: «إذا خرج القائم ينتقم من أهل الفتوىٰ بما لا يعلمون، فتعساً لهم ولأتباعهم».

وفي المطبوع: «وينتقم من أهل الفتوىٰ في الدِّين لما لا يعلمون، فتعساً لهم ولأتباعهم»(2).

وجوابه في نقاط:

1 - أنَّ هذه الرواية قطعة من خطبة البيان المنسوبة إلىٰ عليٍّ (عليه السلام)، وليست من كلام الصادق (عليه السلام)، كما أنَّها خالية من فقرة: (ذكر أهل الفتوىٰ يوماً وهو مغضب)، فيكونون قد كذبوا علىٰ الصادق (عليه السلام)، ومن يكذب علىٰ الإمام متعمِّداً مرَّةً يمكن أنْ يكذب عليه ألف مرَّة.

2 - أنَّ سند الخطبة ضعيفٌ جدًّا، لانحصاره بسند واحد رواته كُلُّهم من المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام)، ولم يروها أعلامنا من أمثال الكليني،

ص: 171


1- البروج: 20.
2- إلزام الناصب (ج 2/ ص 200).

والصدوق، والمفيد، والمرتضىٰ، والطوسي، ولا غيرهم ممَّن تأخر عنهم، كالشيخ محمّد تقي المجلسي، بل صرَّح ولده العلَّامة محمّد باقر المجلسي في كتابه (مرآة العقول) بكذبها، وكذب أمثالها، وجعلها من روايات الغُلاة وأشباههم(1)،

ولذا فقد حكم بضعف سندها جملة من الأعلام المحقِّقين قديماً وحديثاً، فكيف يجوز بعد هذا كلِّه لمن يدَّعي التشيُّع أنْ ينسب إلىٰ إمامه رواية ساقطة عن الاعتبار بالمرَّة؟!

سادساً:

واستدلوا بما قاله الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتابه الاقتصاد، ما نصه: (التقليد إنْ أُريد به قبول قول الغير من غير حجَّة وهو حقيقة التقليد فذلك قبيح في العقول، لأنَّ فيه إقداماً علىٰ ما لا يأمنُ كونَ ما يعتقده عند التقليد جهلاً، لِتعَرِّيه من الدليل، والإقدامُ علىٰ ذلك قبيحٌ في العقول، ولأنَّه ليس في العقول تقليدُ الموحِّدِ أولىٰ من تقليد الملحد إذا رفعنا النظر والبحث عن أوهامنا، ولا يجوز أنْ يتساوىٰ الحقُّ والباطل)(2).

وجوابه: من وجوه ثلاثة:

1 - أنَّ الشيخ قال ذلك في كتابه (الاقتصاد) وهو قسمان: أوَّلهما: في الأُصول الاعتقاديَّة، وثانيهما: في العبادات الشرعيَّة، والمقطع المذكور منقول من القسم الأوَّل، فهو ناظر إلىٰ التقليد في العقائد، حيث إنَّه بعد حصره العلم بالله بطريق الاستدلال ذكر إشكالاً هذا نصُّه: (فإنْ قيل: أين أنتم عن تقليد

ص: 172


1- مرآة العقول (ج 1/ ص 619).
2- الاقتصاد الهادي إلىٰ طريق الرشاد (ص 10 و11).

الآباء والمتقدِّمين؟)، وأجاب عليه بما نصُّه: (قلنا: التقليد إنْ أُريد به قبول قول الغير من غير حجَّة وهو حقيقة التقليد فذلك قبيح في العقول...) إلىٰ آخر عبارته التي نقلها منكرو التقليد، والتي هي واردة في باب العقائد، كما هو صريح الاستدلال في قوله: (ولأنَّه ليس في العقول تقليدُ الموحِّدِ أولىٰ من تقليد الملحد).

فحاصل ما ذكره: أنَّه لو جوَّزنا لشخصٍ أنْ يُقلِّد أهله الموحِّدين في عقيدة التوحيد لوجب أنْ نُجوِّز لشخص آخر أنْ يُقلِّد أهله الملحدين في الإلحاد، وهو قبيح عقلاً.

2 - أنَّ الطوسي من مشاهير المفتين عند جميع المسلمين، وله كُتُب فتوائيَّة عديدة ألَّفها لرجوع المؤمنين إليها، ومن بينها الكتاب المذكور في قسمه الثاني، وكتاب (المبسوط)، وكتاب (النهاية)، وغيرها.

3 - أنَّ الطوسي يُصرِّح بمشروعيَّة التقليد في كتابه (العُدَّة)، حيث قال: (والذي نذهب إليه أنَّه يجوز للعامِّيِّ الذي لا يقدر علىٰ البحث والتفتيش تقليد العالِم).

ثمَّ استدلَّ علىٰ الجواز بما نصُّه: (يدلُّ علىٰ ذلك: أنّي وجدتُ عامَّةَ الطائفة من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلىٰ زماننا هذا يرجعون إلىٰ علمائها، ويستفتونهم في الأحكام والعبادات، ويفتونهم العلماء فيها، ويُسوِّغون لهم العمل بما يفتونهم به، وما سمعنا أحداً منهم قال لمُستَفْتٍ: لا يجوز لك الاستفتاء، ولا العمل به، بل ينبغي أنْ تنظر كما نظرتُ، وتعلم كما عَلِمتُ، ولا أنكر عليه العمل بما

ص: 173

يفتونهم، وقد كان الخَلقُ العظيمُ عاصروا الأئمَّة (عليهم السلام)، ولم يُحكَ عن واحدٍ من الأئمَّة النكير علىٰ أحد من هؤلاء، ولا إيجاب القول بخلافه، بل كانوا يُصَوِّبونهم في ذلك، فمن خالفه في ذلك كان مخالفاً لما هو المعلوم خلافه)(1).

وها أنت ترىٰ كيف جعل ; المخالف للجواز مخالفاً لما هو المعلوم من جواز التقليد، وكلامه ظاهر في أنَّه يستند في الجواز إلىٰ الإجماع العملي بين الإماميَّة علىٰ جوازه.

سابعاً

قالوا: إن المحقق الحلي عبّر عن التقليد بأنه قبيح عقلاً، إذ قال ما نصه: (التقليد قبول قول الغير من غير حجَّة، فيكون جزماً في غير موضعه، وهو قبيح عقلاً)(2).

وجوابه: من وجهين:

1 - أنَّ المحقِّق إنَّما ذكر ذلك في القسم المخصَّص لأُصول العقائد من كتابه (المعارج)، حيث قال في موضع منه: (المسألة الثانية: لا يجوز تقليد العلماء في أُصول العقائد)(3)، ثم استدلَّ علىٰ عدم الجواز بعدَّة وجوه، منها قوله: (الثاني: أنَّ التقليد: قبولُ قولِ الغير من غير حُجَّةٍ، فيكون جزماً في غير موضعه، وهو قبيح عقلاً)(4).

ص: 174


1- العُدَّة في أُصول الفقه (ص 729 و730).
2- معارج الأُصول (ص 278).
3- المصدر السابق (ص 277).
4- المصدر السابق (ص 278).

وهذه هي العبارة التي دلَّس بها منكرو التقليد علىٰ المؤمنين، حيث لم ينقلوا عبارته الأُخرىٰ التي ذكرها في موضع آخر من نفس الكتاب، وهي صريحة في جواز التقليد في الفروع، حيث قال ما نصُّه: (المسألة الأُولىٰ: يجوز للعامِّيِّ العمل بفتوىٰ العالم في الأحكام الشرعيَّة).

ثمَّ استدلَّ علىٰ الجواز - بعد أنْ نقل قول المخالفين كالمعتزلة - وقال ما نصُّه: (لنا: اتِّفاق علماء الأعصار علىٰ الإذن للعوامِّ في العمل بفتوىٰ العلماء من غير نكير).

وكان هذا دليله الأوَّل، ثمَّ استدلَّ بدليل ثانٍ وقال: (الثاني: لو وَجَبَ علىٰ العامِّي النظر في أدلَّة الفقه لكان ذلك إمَّا قبل وقوع الحادثة أو عندها، والقسمان باطلان، أمَّا قبلها فمنفيٌّ بالإجماع، ولأنَّه يُؤدِّي إلىٰ استيعاب وقته بالنظر في ذلك، فيُؤدِّي إلىٰ الضَّرر بأمر المعاش المضطرِّ إليه، وأمَّا بعد نزول الحادثة فذلك متعذِّر، لاستحالة اتِّصاف كلِّ عامِّيٍّ عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين)(1).

ولا يخفىٰ علىٰ من يتأمَّل في دليله الثاني أنَّه يدلُّ علىٰ وجوب التقليد علىٰ العوامِّ، لا مجرَّد جوازه.

2 - أنَّ المحقِّق الحلِّي هو من أكابر المفتين بين علماء المسلمين، وله جملة رسائل في أجوبة الاستفتاءات، ناهيك عن رسالته العمليَّة الشهيرة باسم (شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام) التي ألَّفها ليعمل بها العوامُّ،

ص: 175


1- المصدر السابق (ص 275).

ولهذا الكتاب شهرة واسعة حتَّىٰ عند علماء المخالفين، فكيف يقول بعد كلِّ هذا بتحريم التقليد؟!

والنتيجة: قد اتَّضح من كلِّ ذلك أنَّ ما نُسِبَ إلىٰ هؤلاء الأعلام من تحريمهم للتقليد كذبٌ فاضح، أو جهل مطبق.

ثامناً:

ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ]اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ[(1)، فقال: «أمَا والله ما دعوهم إلىٰ عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوا، ولكن أحلُّوا لهم حراماً، وحرَّموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(2).

حيث إنه قد يُقال: إن المفهوم ليس المقصود أنَّهم يعبدونهم من دون الله كما يصنع عبدة الأوثان وأشباههم، بل المقصود أنَّهم أطاعوهم في فتاواهم المخالفة لأحكام الله تعالىٰ، فإنَّهم قد أحلُّوا لهم الحرام، وحرَّموا عليهم الحلال، فأخذوا بتلك الفتاوىٰ المخالفة لأحكامه (عز وجل)، والقرآن عبَّر عن هذه المتابعة فيما يخالف أحكامه تعالىٰ باتِّخاذهم أرباباً من دون الله.

والمفهوم من ذلك: أنَّ متابعة عوامِّ أهل الكتاب لعلمائهم هي بمثابة اتِّخاذهم أرباباً من دون الله، وفي هذا دلالة علىٰ أنَّ هذه المتابعة محرَّمة حرمةً شديدةً ومغلَّظةً، لأنَّها بمنزلة الشرك بالله سبحانه.

وبالتالي لا يجوز التقليد، لأن الفقيه يمكن أن يخطئ، فيكون مخالفاً

ص: 176


1- التوبة: 31.
2- الكافي (ج 1/ ص 53/ باب التقليد/ ح 1 و3) كلُّ حديث بطريق.

للواقع، فيكون تقليده عبادة له في هذا الحرام.

والجواب علىٰ هذا الاستدلال من وجهين:

1 - أنَّ الرواية ظاهرة في أنَّ الأحبار والرهبان كانوا يتعمَّدون مخالفة أحكام الله (عز وجل)، والقرآن الكريم والتاريخ الصحيح يشهدان بذلك أيضاً، وهل هناك مخالفة متعمَّدةٌ أكبر من إنكارهم نبوَّة نبيِّنا (صلى الله عليه وآله)، مع علمهم اليقيني بأنَّه هو النبيُّ الذي يجدونه مذكوراً في التوراة والإنجيل؟

وأين هذا من مراجعنا الذين نشترط فيهم العدالة التي هي وبشرح مبسَّط (صفة راسخة في النفس تدعو إلىٰ الاستقامة في جادَّة الشريعة، وعدم الميل عنها يمنةً أو يسرةً)، ومن كانت هذه صفته كيف يتعمَّد مخالفة أحكام الله تعالىٰ؟!

2 - قد روي عن الصادق (عليه السلام) حديثٌ شارحٌ لهذه الرِّواية، وهو يدلُّ دلالة صريحة علىٰ أنَّ عوامَّ أهل الكتاب كانوا يُقلِّدون علماءهم وهم يعلمون بفسقهم، ويعلمون بأنَّهم لا يتورَّعون عن الكذب، فقد نُقِلَ في الوسائل عن الطبرسي في كتاب (الاحتجاج)، عن أبي محمّد العسكري (عليه السلام)، في قوله تعالىٰ: ]فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ[(1)، قال (عليه السلام): «هذه لقومٍ من اليهود...».

إلىٰ أنْ قال: وقال رجل للصادق (عليه السلام): إذا كان هؤلاء العوامُّ من اليهود

ص: 177


1- البقرة: 79.

لا يعرفون الكتاب إلَّا بما يسمعونه من علمائهم فكيف ذمَّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم، وهل عوامُّ اليهود إلَّا كعوامِّنا يُقلِّدون علمائهم؟

إلىٰ أنْ قال(1):

فقال (عليه السلام): «بين عوامِّنا وعوامِّ اليهود فرقٌ من جهة، وتسويةٌ من جهة. أمَّا من حيث الاستواء فإنَّ الله ذمَّ عوامَّنا بتقليد علمائهم كما ذمَّ عوامَّهم. وأمَّا من حيث افترقوا فإنَّ عوامَّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصُّراح، وأكل الحرام والرُّشاء، وتغيير الأحكام، واضطُرُّوا بقلوبهم إلىٰ أنَّ من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أنْ يُصدَّق علىٰ الله، ولا علىٰ الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمَّهم. وكذلك عوامُّنا إذا عرفوا من علمائهم الفسقَ الظاهر، والعصبيَّةَ الشَّديدة، والتكالبَ علىٰ الدنيا وحرامها، فمن قلَّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمَّهم الله بالتقليد لِفَسَقَةِ علمائهم، فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً علىٰ هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامِّ أنْ يُقلِّدوه، وذلك لا يكون إلَّا بعض فقهاء الشيعة لا كلُّهم، فإنَّ من ركب من القبايح والفواحش مراكبَ علماء العامَّة فلا تقبلوا منهم عنَّا شيئاً ولا كرامة، وإنَّما كثر التخليط فيما يُتحمَّل عنَّا أهل البيت لذلك، لأنَّ الفَسَقَة يتحمَّلون عنَّا فيُحرِّفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء علىٰ غير وجهها، لقلَّة معرفتهم، وآخرون يتعمَّدون الكذب علينا»(2).

أخيراً:

في ما ذُكر هنا كفاية لمعرفة عدم المنهجية العلمية لمدعي بطلان

ص: 178


1- عبارة: (إلىٰ أنْ قال) في الموضعين من صاحب الوسائل اختصاراً للرِّواية.
2- وسائل الشيعة (ج 27/ ص 131/ أبواب صفات القاضي/ الباب 10/ ح 20).

التقليد، وأنهم إنما استندوا على ما لا يُستند عليه، إما لعدم دلالته على مطلوبهم، وإما لأنه مكذوب على المعصومين (عليهم السلام).

ص: 179

ص: 180

البحث التكميلي الثاني: الغلو، حقيقته، ومصاديقه

اشارة

إن الحاجة إلى بيان هذا الموضوع تنبع من أن البعض توهم أن القول بولاية أهل البيت (عليهم السلام) التكوينية أو التشريعية –وغيرها من المقامات الوجودية العالية لهم (عليهم السلام)- يستلزم الغلو فيهم، وحتى نكون على بينة من هذا الأمر، علينا أن نعرف معنى الغلو ومصاديقه، لنعرف حقيقة الحال فيها، فهنا أربع خطوات:

الخطوة الأولى: الغلو لغة واصطلاحاً.

الخطوة الثانية: الغلو في النصوص الدينية.

الخطوة الثالثة: الغلو في كلمات بعض الأعلام.

الخطوة الرابعة: تفصيل بعض دعاوى الغلو.

والخطوة الأخيرة أهم الخطوات، وسيتم التعرض فيها إلى إحدى عشرة مقالة مما يُدّعى فيها الغلو، لنعرف حقيقة الحال فيها، وسيتم تمييز ما هو فعلاً من الغلو من غيره، على أن بعض المقالات تقدمت تفاصيلها في البحوث السابقة، وستتم الإشارة إلى الموضع الذي تقدم تفصيل الحديث فيه.

ص: 181

ص: 182

الخطوة الأولى: الغلو لغة واصطلاحاً

1/ الغلو لغة

يُستفاد من كلمات اللغويين أن الغلو يعني تجاوز حدود الشيء إلى غيرها، أي إن شيئاً ما إذا كانت له حدود، فالحديث في داخل تلك الحدود ليس غلواً، وأما إذا تجاوز الحديث حدود ذلك الشيء، فهو الغلو.

وهذا المعنى ينطبق على أي شيء، ولذلك يُقال في السعر إذا تجاوز حده بأنه غالي، ومهر المرأة إذا تجاوز المتعارف يُقال فيه: غلا مهرها، وهكذا، وحيث إن كلامنا في خصوص الغلو في الدين، فيكون المعنى اللغوي له هنا: هو تجاوز الحدود الدينية إلى غيرها.

وكلمات اللغويين في ذلك عديدة، نذكر منها التالي:

قال الطريحي في مجمع البحرين: يقال: غلا في الدين غلواً من باب قعد: تصلب وتشدد حتى تجاوز الحد والمقدار.(1)

وفي تاج العروس للزبيدي في مادة: [غلو]:

ص: 183


1- مجمع البحرين للطريحي ج1 ص 318.

وغَلا السِّعْرُ يَغْلُو غَلاءً... وفي المِصْباح... وأَغْلاهُ اللهُ: ضدُّ أَرْخَصَه، أَي جَعَلَهُ غالِياً. ويقالُ: بِعْتُه بالغالِي... و... غَالَى باللحْمِ: أَي اشْتَراهُ بثَمنٍ غالٍ... وغَلاَ في الأَمْرِ غُلُوًّا... جاوَزَ حَدَّهُ... غَلاَ في الدِّيْن غُلُوًّا تَشَدَّدَ وتَصَلَّبَ حتى جَاوَزَ الحَدَّ، ومنه قولُه تعالى: (لا تَغْلُوا في دِينِكُم غَيْر الحَقِّ) وقال الراغبُ: أَصْلُ الغُلُوِّ تَجاوُزُ الحَدِّ ؛ يقالُ ذلكَ إذا كانَ في السِّعْرِ غَلاءٌ، وإذا كانَ في القَدْرِ والمَنْزِلةِ غُلُوٌّ، وفي السَّهْمِ غَلُوٌّ...(1)

2/ أما الغلو اصطلاحاً (في باب علم الكلام)

فهو لا يخرج عن المعنى اللغوي عموماً، فهو بمعنى القول بمخلوق أكثر من حده، بالقول بأن له منزلة وجودية أوسع من حد ماهيته واقعاً، أو قل: أن تُنسب مرتبة كمالية عالية لإنسان حده أضيق من سعة تلك المرتبة الكمالية، وهذا الأمر يُمكن تصوره بالتالي:

أولاً: أن يُقال في مخلوق ما أنه إله، فإنه تجاوز عن حد ماهية المخلوق (وهو كونه محدوداً، ممكناً) إلى وجود الخالق (وهو كونه موجوداً غير محدود ولا متناهي وواجب الوجود)، لا يختلف الحال في هذه الصورة بين ادّعاء ألوهية شخص للعالم، وأنه هو الخالق والإله لا غير، وبين القول بأنه إله شريك للإله الأول. فكلاهما غلو.

ثانياً: أن يُقال في إنسان عادي أنه نبي، وهو ليس كذلك، فهو خروج عن

ص: 184


1- تاج العروس للزبيدي ج20 ص 23.

حد الإنسان العادي (وهو كونه لا يوحى إليه بالوحي الرسالي(1)

إلى كونه إنساناً يتلقى الوحي الرسالي من الله تعالى.

ثالثاً: أن يُقال في إمام مجعول من الله تعالى أنه نبي، لا يختلف في ذلك أهل البيت (عليهم السلام) عن غيرهم من الأوصياء، فضلاً عن القول بألوهيته، كما في الصورة الأولى.

رابعاً: أن يُقال في إنسان عادي أنه إمام، بمعنى أن يُقال في إنسان عادي أنه إمام مجعول من الله تبارك وتعالى، ويتم التعامل مع كلامه على أنه هو الواقع الذي لا يقبل الخطأ، وأنه يُطاع في كل ما يقول، ويؤخذ كلامه تعبداً.

الخامسة: أن يُقال باستقلال مخلوق عن الله تعالى: سواء كان استقلالاً في أصل وجوده، أو في استمراره، أو صفة من صفاته، أو حال من أحواله.

هذه هي أهم الصور التي يمكن تصور الغلو فيها، وحديثنا بالضبط في الغلو في أهل البيت (عليهم السلام).

ص: 185


1- الوحي الرسالي في قبال الوحي غير الرسالي، والأول هو ما يكون للأنبياء فقط، والثاني يكون لهم ولغيرهم، كما أوحي لأم النبي موسى (عليه وعليها السلام)، وللسيدة مريم (عليها السلام)، وهكذا كان أهل البيت (عليهم السلام) كما سيتبين في محله إن شاء الله تعالى.

ص: 186

الخطوة الثانية: الغلو في النصوص الدينية

اشارة

يُستفاد من النصوص الدينية الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أن الغلو يتحقق في العديد من المفردات، وهي:

1/ ادعاء ربوبية أي واحد منهم.

2/ تفضيل أحد من البشر على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سواء كان تفضيلاً بلسان القال والتصريح، أو كان بلسان الحال، كما لو رُدّ كلام الرسول (صلى الله علي وآله) وقُبل كلام غيره، أو تم التعامل مع الرسول (صلى الله عليه وآله) على انه يمكن أن يصدر منه ما لا يصدر من غيره من الأمور المخالفة للمروءة أو للشرع.

3/ ادعاء نبوة الأئمة (عليهم السلام).

4/ ادعاء إمامة أحد من غير أهل البيت (عليهم السلام) المنصوص عليهم، سواء اُدّعيت إمامة ثالث عشر، أو ادُّعيت إمامة شخص بدلاً من أحد الاثني عشر (عليهم السلام).

5/ ادعاء استقلالهم عن الله تعالى، كاستقلالهم بعلم الغيب(1)

أو الخلق

ص: 187


1- فيما يتعلق بعلمهم (عليهم السلام) بالغيب، راجع: أواخر مبحث الإمامة في الجزء الثالث: التساؤل السادس: علم الأئمة (عليهم السلام) بالغيب.

أو الشفاء عن الله تعالى.

وأما ما عدا ذلك من ادعاء المقامات الكمالية للمعصومين (عليهم السلام)، فلا إشكال فيه ما دام تحت الإذن الإلهي، وبتخويل منه جل وعلا، فالمنفي من الكمالات عنهم (عليهم السلام) هو ما يكون بالاستقلال عنه جل وعلا، لا ما يكون بإذنه، مهما عظم الكمال، وحتى لو لم تقدر عقولنا –نحن الناس العاديين- عن إدراكه أو فهمه، فالمهم أن ننزل بهم عن ادعاء الربوبية والاستقلال عنه جل وعلا.

ومن النصوص الدالة على ذلك التالي:

النص الأول

عن فضيل بن عثمان الأعور قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: اتقوا الله، وعظموا الله، وعظموا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا تفضلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحداً، فإن الله تبارك وتعالى قد فضله. وأحبوا أهل بيت نبيكم حباً مقتصداً ولا تغلوا، ولا تفرقوا، ولا تقولوا ما لا نقول، فإنكم إن قلتم وقلنا، متم ومتنا، ثم بعثكم الله وبعثنا، فكنا حيث يشاء الله، وكنتم.(1)

النص الثاني

في حديث الإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون:... فقال الرضا (عليه السلام) إن الله عز وجل أيّدَنا بروح منه مقدسة مطهرة، ليست بملك، لم تكن مع أحد ممن مضى إلا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي مع الأئمة منا، تسددهم وتوفقهم، وهو عمود من نور

ص: 188


1- قرب الأسناد للحميري القمي ص 129 ح 452.

بيننا وبين الله عز وجل.(1)

قال له المأمون: يا أبا الحسن، بلغني أن قوماً يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد؟

فقال الرضا (عليه السلام): حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تبارك تعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً، قال الله تبارك وتعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(2)

قال علي (عليه السلام): يهلك في اثنان ولا ذنب لي: محب مفرط، ومبغض مفرط.

وأنا(3)

أبرء إلى الله تبارك وتعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حدنا، كبراءة عيسى بن مريم (عليه السلام) من النصارى قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي

ص: 189


1- فهذا إثبات لمقام عظيم، لا يكون لأي أي أحد غيرهم (عليهم السلام)، ولذا، فقد يكون المأمون قد توهم أن هذا المقام يستلزم الغلو، فسأل الإمام (عليه السلام) عن تجاوز الحد فيهم.
2- آل عمران 70 و 80.
3- يبدو أن هذا الكلام للإمام الرضا (عليه السلام).

وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).(1)

وقال عز وجل: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(2)

وقال عز وجل: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ)(3)، ومعناه إنهما كانا يتغوطان، فمن ادّعى للأنبياء ربوبية، وادّعى للأئمة ربوبية، أو نبوة، أو لغير الأئمة إمامة، فنحن منه براء في الدنيا والآخرة.(4)

النص الثالث

عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسماعيل، ضع لي في المتوضأ(5) ماءً. قال: فقمت فوضعت له. قال: فدخل. قال: فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا، ويدخل المتوضأ يتوضأ. قال: فلم يلبث أنْ خرج فقال: يا إسماعيل، لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين وقولوا بنا ما شئتم، فلن تبلغوا. فقال إسماعيل: وكنت أقول إنه وأقول

ص: 190


1- المائدة 116 و 117.
2- النساء 172.
3- المائدة 175.
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 216 و 217.
5- يظهر أنه يقصد بيت الخلاء.

وأقول.(1)

قال العلامة المجلسي:

بيان: كذا وكذا، أي أنه رب ورازق وخالق ومثل هذا، كما أنه المراد بقوله: كنت أقول إنه وأقول.(2)

النص الرابع

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الطَّبَرِيِّ قَالَ: كُنْتُ قَائِماً عَلَى رَأْسِ الرِّضَا (عليه السلام) بِخُرَاسَانَ، وعِنْدَه عِدَّةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وفِيهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْعَبَّاسِيُّ، فَقَالَ (عليه السلام): يَا إِسْحَاقُ، بَلَغَنِي أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّ النَّاسَ عَبِيدٌ لَنَا(3)،

لَا وقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) مَا قُلْتُه قَطُّ، ولَا سَمِعْتُه مِنْ آبَائِي قَالَه، ولَا بَلَغَنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ آبَائِي قَالَه، ولَكِنِّي أَقُولُ: النَّاسُ عَبِيدٌ لَنَا فِي الطَّاعَةِ، مَوَالٍ لَنَا فِي الدِّينِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.(4)

(قوله: (عبيد لنا في الطاعة) يعني وجب عليهم طاعتنا كما وجب على العبد طاعة السيّد، فهم عبيد لنا بهذا الاعتبار لا بالمعنى المعروف، وإطلاق العبد على التابع شائع كما يقال: فلان عبد للشيطان وعبد لهواه.

قوله: (موال لنا في الدِّين) المراد بالموالي هنا: الناصر كما في قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا)(5)

ص: 191


1- بصائر الدرجات للصفار ص 25 ب 10 ح 5.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج25 ص 279.
3- بمعنى أن يكونوا آلهتهم، أو بمعنى أن يكونوا أرقّاء يجوز لهم بيعهم وشراؤهم.
4- الكافي للكليني ج1 ص 187 بَابُ فَرْضِ طَاعَةِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح 10.
5- محمد 11.

قوله: (فليبلّغ الشاهد الغائب) فيه ترغيب في نشر الحديث، وتجويز للعمل بخبر الواحد...)(1)

النص الخامس

قال صالح بن سهل: كنت أقول في الصادق (عليه السلام) ما تقول الغلاة، فنظر إلي وقال: ويحك يا صالح، إنا والله عبيد مخلوقون، لنا رب نعبده، وإن لم نعبده عذّبنا.(2)

النص السادس

عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا والْقَاسِمُ شَرِيكِي ونَجْمُ بْنُ حَطِيمٍ وصَالِحُ بْنُ سَهْلٍ بِالْمَدِينَةِ، فَتَنَاظَرْنَا فِي الرُّبُوبِيَّةِ. قَالَ: فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَا تَصْنَعُونَ بِهَذَا، نَحْنُ بِالْقُرْبِ مِنْه، ولَيْسَ مِنَّا فِي تَقِيَّةٍ، قُومُوا بِنَا إِلَيْه.

قَالَ: فَقُمْنَا، فواللهِ مَا بَلَغْنَا الْبَابَ إِلَّا وقَدْ خَرَجَ عَلَيْنَا بِلَا حِذَاءٍ ولَا رِدَاءٍ، قَدْ قَامَ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِه مِنْه، وهُوَ يَقُولُ: لَا، لَا، يَا مُفَضَّلُ، ويَا قَاسِمُ، ويَا نَجْمُ، لَا، لَا، بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ.(3)

ص: 192


1- شرح أصول الكافي للمولى محمد صالح المازندراني ج5 ص 155.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 347.
3- الكافي للكليني ج8 ص 231 ح 303، وقال العلامة المجلسي في مرآة العقول ج26 ص 168 و 169: قوله: (في الربوبية) أي ربوبية الصادق (عليه السلام) أو جميع الأئمة (عليهم السلام)، ولعله كان غرضهم ما نسب إليهم من أنه تعالى لما خلق أنوار الأئمة (عليهم السلام) فوض إليهم خلق العالم، فهم خلقوا جميع العالم، وقد نفوا (عليهم السلام) ذلك وتبرؤا منه، ولعنوا من قال به، وقد وضع الغلاة إخبارا في ذلك ويحتمل أن يكونوا توهموا حلولاً أو اتحادا كالنصارى في عيسى (عليه السلام) وكأكثر الصوفية في جميع الأشياء، تعالى الله عن جميع ذلك علوا كبيراً.
النص السابع

عن أبي محمد العسكري (عليه السلام): أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إن من تجاوز بأمير المؤمنين (عليه السلام) العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تتجاوزوا بنا العبودية، ثم قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا، وإياكم والغلو كغلو النصارى فإني برئ من الغالين.(1)

بيان: قوله (عليه السلام): (ثمّ قولوا فينا ما شئتم) من الصفات التي ليست من صفات الله سبحانه، كأن يقال مثلاً: إنّهم أفضل الخلق وأشرَفهم وأعلمهم وأتقاهم واشجَعَهم وأورعهم، وأحفظهم لحرمات الله سبحانه، وأحكم الناس إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي يجب أن يتّصف بها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام)...(2)

النص الثامن

عن عبد الرحمن بن كثير، قال، قال أبو عبد الله (عليه السلام) يوماً لأصحابه: لعن الله المغيرة بن سعيد، ولعن يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة والمخاريق.

إن المغيرة كذب على أبي (عليه السلام)، فسلبه الله الإيمان، وأن قوماً كذبوا عليّ، مالهم أذاقهم الله حر الحديد، فوالله ما نحن الا عبيد الذي خلقنا واصطفانا،

ص: 193


1- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 233 وتفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص50.
2- الشيعة الفرقة الناجية- الحاج سعيد أبو معاش ج1 ص 237.

ما نقدر على ضرٍّ ولا نفع(1)، وإن رحمنا فبرحمته، وأن عذّبنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله من حجة، ولا معنا من الله براءة، وإنّا لميتون، ومقبورون، ومنشرون، ومبعوثون، وموقوفون، ومسؤولون، ويلهم مالهم لعنهم الله فلقد آذوا الله وآذوا رسوله (صلى الله عليه وآله) في قبره وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي (صلوات الله عليهم).

وها أنا ذا بين أظهر كم لحم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجلد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أبيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً، يأمنون وأفزع، وينامون على فرشهم، وأنا خائف ساهر وجل أتقلقل بين الجبال والبراري، أبرأ إلى الله مما قال فيّ الأجدع البراد عبد بني أسد أبو الخطاب لعنه الله(2)،

والله لو ابتُلوا بنا وأمرناهم بذلك، لكان الواجب ألا يقبلوه، فكيف، وهم يروني خائفاً وجلاً، استعدي الله عليهم وأتبرأ إلى الله منهم.

ص: 194


1- يعني بالاستقلال عن الله تعالى.
2- الخطابية، أتباع أبي الخطاب الأسدي: وهم يقولون إن الإمامة كانت في أولاد علي، إلى أن انتهت إلى جعفر الصادق، ويزعمون أن الأئمة كانوا آلهة، وكان أبو الخطاب يزعم أولا أن الأئمة أنبياء، ثم زعم أنهم آلهة، وأن الأولاد الحسن والحسين كانوا أبناء الله وأحباءه، وكان يقول: إن جعفرا إله، فلما بلغ ذلك جعفرا لعنه وطرده. وكان أبو الخطاب يدعي بعد ذلك الإلهية لنفسه، وزعم أتباعه أن جعفرا إله، غير أن أبا الخطاب أفضل منه وأفضل من علي. والخطابية يرون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم، ثم إن أبا الخطاب نصب خيمة في كناسة الكوفة ودعا فيها أتباعه إلى عبادة جعفر، ثم خرج أبو الخطاب على والي الكوفة في أيام المنصور، فبعث إليه المنصور بعيسى بن موسى في جيش كثيف، فأسروه فصلب في كناسة الكوفة. [الفرق بين الفِرَق- عبد القاهر بن محمد البغدادي ص 223].

أشهدكم أني امرؤ ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما معي براءة من الله، إنْ أطعته رحمني، وإنْ عصيتُه عذّبني عذاباً شديداً أو أشدّ عذابه.(1)

فالإمام الصادق (عليه السلام) هنا يُصرح بأنه يتصف بصفات المخلوقين، فلا يمكن أن يتصور عاقل أنه إله.

النص التاسع

وممّا خرج عن صاحب الزّمان (عجَّل الله فرجه) ردّاً على الغلاة من التّوقيع جواباً لكتاب كتب إليه على يدي محمّد بن عليّ بن هلال الكرخيّ: «يا محمّد بن عليّ تعالى الله (عزَّ وجلَّ) عمّا يصفون سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاءه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إِلّا اَللهُ﴾، وأنا -وجميع آبائي من الأوّلين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من النّبيّين ومن الآخرين محمّد رسول الله وعليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وغيرهم ممّن مضى من الأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين) إلى مبلغ أيّامي ومنتهى عصري- عبيد الله (عزَّ وجلَّ)... وأشهد الله الّذي لا إله إلّا هو وكفى به شهيداً، ومحمّداً رسوله وملائكته وأنبياءه وأولياءه، وأشهدك وأشهد كلّ من سمع كتابي هذا أنّي بريء إلى الله وإلى رسوله ممّن يقول إنّا نعلم الغيب، أو نشارك الله في ملكه، أو يحلّنا محلّاً سوى المحلّ الّذي نصبه الله لنا وخلقنا له، أو يتعدّى بنا عمّا قد فسّرته لك

ص: 195


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي ج2 ص 491 و 492 رقم 403.

وبيّنته في صدر كتابي...»(1)

تنبيه مهم: في عظمة مقام الإمامة والإمام

إن النصوص وإن أكّدت على ضرورة البراءة من الغلاة، وعلى أن أهل البيت (عليهم السلام) هم عبيد لله تعالى، لكن هذا لا يعني أن يتم التعامل مع الإمام والإمامة تعاملاً ساذجاً أو هامشياً، ولا يتم التعاطي معها على أنها مجرد منصب تشريفي أو إداري بسيط، كلا، فإن الإمامة من العظمة بحيث لا يُمكن للبشر العاديين أن يُدركوا حقها أو معناها، وهو مفاد ما أشارت له بعض النصوص المتقدمة من أنه يمكن لنا أن ننسب المقامات العظيمة لهم (عليهم السلام)، بشرط أن لا ننسب لهم المقالات الخاصة بالله جل وعلا.

هذا، وهناك نص مشهور عن الإمام الرضا (عليه السلام) يُبين فيه عظمة مقام الإمامة والإمام، ننقل بعض فقراته لنطلع على ما تدركه عقولنا من تلك العظمة.

فقد روي عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ الرِّضَا (عليه السلام) بِمَرْوَ فَاجْتَمَعْنَا فِي الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي بَدْءِ مَقْدَمِنَا، فَأَدَارُوا أَمْرَ الإِمَامَةِ وذَكَرُوا كَثْرَةَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي (عليه السلام) فَأَعْلَمْتُه خَوْضَ النَّاسِ فِيه، فَتَبَسَّمَ (عليه السلام) ثُمَّ قَالَ:

ص: 196


1- الإرشاد: ص364، ج2، باب طرف من دلائل صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)؛ بحار الأنوار: ص299، ج51، باب15 - ما ظهر من معجزاته؛ تقريب المعارف: ص195؛ كشف الغمة: ص454، ج2 باب طرف من دلائل صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه).

يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ، جَهِلَ الْقَوْمُ وخُدِعُوا عَنْ آرَائِهِمْ، إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّه (صلى الله عليه وآله) حَتَّى أَكْمَلَ لَه الدِّينَ، وأَنْزَلَ عَلَيْه الْقُرْآنَ فِيه تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، بَيَّنَ فِيه الْحَلَالَ والْحَرَامَ والْحُدُودَ والأَحْكَامَ وجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْه النَّاسُ...

... إِنَّ الإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً وأَعْظَمُ شَأْناً وأَعْلَى مَكَاناً وأَمْنَعُ جَانِباً وأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ.

إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (عليه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ والْخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالِثَةً وفَضِيلَةً شَرَّفَه بِهَا وأَشَادَ بِهَا ذِكْرَه فَقَالَ: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، فَقَالَ الْخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا: (ومِنْ ذُرِّيَّتِي) قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، فَأَبْطَلَتْ هَذِه الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ ثُمَّ أَكْرَمَه اللهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِه أَهْلِ الصَّفْوَةِ والطَّهَارَةِ...

... إِنَّ الإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ الأَنْبِيَاءِ وإِرْثُ الأَوْصِيَاءِ.إِنَّ الإِمَامَةَ خِلَافَةُ الله وخِلَافَةُ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله) ومَقَامُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ومِيرَاثُ الْحَسَنِ والْحُسَيْنِ (عليهما السلام).

إِنَّ الإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ ونِظَامُ الْمُسْلِمِينَ وصَلَاحُ الدُّنْيَا وعِزُّ الْمُؤْمِنِينَ.

إِنَّ الإِمَامَةَ أُسُّ الإِسْلَامِ النَّامِي وفَرْعُه السَّامِي.

بِالإِمَامِ تَمَامُ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصِّيَامِ والْحَجِّ والْجِهَادِ وتَوْفِيرُ الْفَيْءِ والصَّدَقَاتِ وإِمْضَاءُ الْحُدُودِ والأَحْكَامِ ومَنْعُ الثُّغُورِ والأَطْرَافِ.

ص: 197

الإِمَامُ يُحِلُّ حَلَالَ الله ويُحَرِّمُ حَرَامَ الله ويُقِيمُ حُدُودَ الله ويَذُبُّ عَنْ دِينِ الله ويَدْعُو إِلَى سَبِيلِ رَبِّه بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ والْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ.

الإِمَامُ كَالشَّمْسِ الطَّالِعَةِ الْمُجَلِّلَةِ بِنُورِهَا لِلْعَالَمِ وهِيَ فِي الأُفُقِ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهَا الأَيْدِي والأَبْصَارُ.

الإِمَامُ الْبَدْرُ الْمُنِيرُ والسِّرَاجُ الزَّاهِرُ والنُّورُ السَّاطِعُ والنَّجْمُ الْهَادِي فِي غَيَاهِبِ الدُّجَى وأَجْوَازِ الْبُلْدَانِ والْقِفَارِ ولُجَجِ الْبِحَارِ.

الإِمَامُ الْمَاءُ الْعَذْبُ عَلَى الظَّمَأِ والدَّالُّ عَلَى الْهُدَى والْمُنْجِي مِنَ الرَّدَى...

الإِمَامُ الأَنِيسُ الرَّفِيقُ والْوَالِدُ الشَّفِيقُ والأَخُ الشَّقِيقُ والأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ...

الإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِه لَا يُدَانِيه أَحَدٌ ولَا يُعَادِلُه عَالِمٌ ولَا يُوجَدُ مِنْه بَدَلٌ ولَا لَه مِثْلٌ ولَا نَظِيرٌ مَخْصُوصٌ بِالْفَضْلِ كُلِّه مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْه لَه ولَا اكْتِسَابٍ، بَلِ اخْتِصَاصٌ مِنَ الْمُفْضِلِ الْوَهَّابِ.

فَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْلُغُ مَعْرِفَةَ الإِمَامِ أَوْ يُمْكِنُه اخْتِيَارُه هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ضَلَّتِ الْعُقُولُ وتَاهَتِ الْحُلُومُ وحَارَتِ الأَلْبَابُ وخَسَأَتِ الْعُيُونُ وتَصَاغَرَتِ الْعُظَمَاءُ وتَحَيَّرَتِ الْحُكَمَاءُ وتَقَاصَرَتِ الْحُلَمَاءُ وحَصِرَتِ الْخُطَبَاءُ وجَهِلَتِ الأَلِبَّاءُ وكَلَّتِ الشُّعَرَاءُ وعَجَزَتِ الأُدَبَاءُ وعَيِيَتِ الْبُلَغَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِه أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِه وأَقَرَّتْ بِالْعَجْزِ والتَّقْصِيرِ...(1)

ص: 198


1- الكافي للكليني ج1 ص 198 – 202 بَابٌ نَادِرٌ جَامِعٌ فِي فَضْلِ الإِمَامِ وصِفَاتِه ح1.

الخطوة الثالثة: الغلو في كلمات بعض الأعلام

اشارة

إن مطالعة تراث علمائنا الأعاظم، يشهد بأن المقصود من الغلو هو تجاوز الحد إلى غيره، وسنقتصر هنا على نقل بعض من كلماتهم:

الكلمة الأولى: للشيخ المفيد (قدس سره) ( 336 - 413 ه )

يصرح الشيخ المفيد (قدس سره) بأن الغلاة هم:

1/من نسبوا الألوهية إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

2/ من نسبوا النبوة إليهم (عليهم السلام).

3/ من وصفوهم بما هو خارج حد الإنسانية، مما دلت الأدلة الضرورية على عدم إمكان وصفهم (عليهم السلام) بها.

4/ من يقول بالتفويض مع الاستقلال عن الله تعالى، سواء قال بأن المفوَّض إليه قديم أو حادث، فمن قال بأن الله تعالى فوّض الأمر إلى أهل البيت (عليهم السلام) بحيث أصبحوا (عليهم السلام) مستقلين عن الله تعالى، فهو من الغلو.

قال ما نصه:

والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته (عليهم السلام) إلى الألوهية والنبوة، ووصفوهم من

ص: 199

الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد، وهم ضلال كفار حكم فيهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقتل والتحريق بالنار، وقضت الأئمة (عليهم السلام) عليهم بالإكفار والخروج عن الإسلام...

... والمفوضة صنف من الغلاة، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة وخلقهم ونفي القدم عنهم وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم، ودعواهم أن الله سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم خاصة، وأنه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال..(1)

الكلمة الثانية: للشيخ محمد حسن النجفي الجواهري (قدس سره)، (المتوفى سنة 1266)

صرّح الشيخ (قدس سره) بأن الغلاة هم:

1/من ادعوا ألوهية أهل البيت (عليهم السلام).

2/ من ادعوا ألوهية أي أحد من الناس.

قال ما نصه:

وأما الغلاة وهم الذين تجاوزوا الحد في الأئمة (عليه السلام) حتى ادعوا فيهم الربوبية، قيل: وقد يطلق الغلو على من قال بإلهية أحد من الناس...(2)

ص: 200


1- تصحيح اعتقادات الإمامية للشيخ المفيد ص 131 – 134.
2- جواهر الكلام للشيخ الجواهري ج6 ص 50.
الكلمة الثالثة: للشيخ المجلسي (قدس سره) ( توفي 1111 ه)
اشارة

الكلمة الثالثة: للشيخ المجلسي (قدس سره) (1)

( توفي 1111 ه):

يُستفاد من كلمات العلامة المجلسي عدة أمور:

الأمر الأول

أن الغلو في أهل البيت (عليهم السلام) له عدة صور:

أ: القول بألوهيتهم.

ب:القول باستقلالهم عن الله تعالى.

ج: القول بأنهم (عليهم السلام) شركاء لله تعالى في المعبودية أو في الخلق والرزق.

د: القول بحلول الله تعالى فيهم أو اتحاده معهم.(2)

ه-: القول باستقلالهم بعلم الغيب أو الرزق أو الخلق.

و: القول بأن الأئمة (عليهم السلام) كانوا أنبياء.

ز: القول بتناسخ أرواحهم.(3)

ح: القول بكفاية معرفتهم النظرية عن التزام الطاعات، وأنها تغني عن امتثال التكاليف.

قال العلامة (قدس سره):

اعلم أن الغلو في النبي والأئمة (عليهم السلام) إنما يكون بالقول بألوهيتهم، أو استقلالهم عن الله تعالى، أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبودية أو في الخلق والرزق، أو أن الله تعالى حلّ فيهم أو اتحد بهم، أو أنهم يعلمون

ص: 201


1- انظر: بحار الأنوار ج25 ص346 و 347.
2- وسنبين سبب امتناع ذلك في الكلمة التالية إن شاء الله تعالى.
3- وسنتحدث عن معنى التناسخ إن شاء الله تعالى في المقالة الخامسة.

الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمة (عليهم السلام) أنهم كانوا أنبياء، أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي.

الأمر الثاني

أن هذه الأقوال كلها تعني الكفر، ويلزم منها الخروج عن الدين.(1)

فقال ما نصه:

والقول بكل منها إلحاد وكفر وخروج عن الدين كما دلت عليه الأدلة العقلية والآيات والاخبار السالفة وغيرها، وقد عرفت أن الأئمة عليهم السلام تبرؤوا منهم وحكموا بكفرهم وأمروا بقتلهم.

الأمر الثالث

أنه لو وردت رواية يظهر منها الغلو فيهم (عليهم السلام) بإحدى الصور المتقدمة، فهي لا تخلو إما أن تكون مؤولة، أو هي من وضع الغلاة أنفسهم، ولا يُعقل أن يكون أهل البيت (عليهم السلام) قالوا أو نسبوها لأنفسهم، كيف والحال أنه ورد أن أهل البيت (عليهم السلام) قد حاربوا فكرة الغلو فيهم، بل وعاقبوا من قال فيهم ذلك.

قال ما نصه:

وإن قرع سمعك شيءٌ من الأخبار الموهمة لشيء من ذلك، فهي إما مؤولة، أو هي من مفتريات الغلاة.

الأمر الرابع

أن الغلو فيهم (عليهم السلام) إنما يكون بهذه الصور المذكورة، فهي التي يتحقق فيها الخروج عن حدهم الوجودي إلى غيره، أما نسبة المقامات

ص: 202


1- أما لماذا يلزم ذلك؟ فهذا ما سيبينه السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في كلمته التي سننقلها عنه إن شاء الله تعالى.

العالية لهم، وإن كانت فوق المستوى العام للبشرية، فهذا لا يُعد غلواً، ما دام هو بإذن الله تعالى وعدم استقلال عنه، وإن اشتبه بعضٌ واعتبر هذه الأمور من الغلو فيهم، من قبيل: نفي السهو عنهم (عليهم السلام)، أو القول بأنهم يعلمون الغيب، فهذا لا مشكلة فيه ما دام بإذن الله تعالى وبتعليم منه جل وعلا.

قال ما نصه:

ولكن أفرط بعض المتكلمين والمحدثين في الغلو لقصورهم عن معرفة الأئمة (عليهم السلام) وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم، فقدحوا في كثير من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتى قال بعضهم: من الغلو نفي السهو عنهم، أو القول بأنهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك، مع أنه قد ورد في أخبار كثيرة (لا تقولوا فينا ربا وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا)، وورد: (أن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان) وورد: (لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله) وغير ذلك مما مر وسيأتي.

الأمر الخامس

بعد هذا العرض، قدّم العلامة نصيحة للباحث، في أن لا يستعجل بردّ المقامات الكمالية لأهل البيت (عليهم السلام)، بل عليه أن يتريث، ويعمل على مطابقة المقام الكمالي مع أصول الدين والمذهب، فإن رآه متوافقاً معها فيقبله، وإلا فيمكنه رفضه فيما لو صدقت عليه إحدى صور الغلو المتقدمة.

قال ما نصه:

فلابد للمؤمن المتدين أن لا يبادر برد ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم إلا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو

ص: 203

بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة كما مر في باب التسليم وغيره.

الكلمة الرابعة: للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) (توفي 1400 ه)

الكلمة الرابعة: للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) (1) (توفي 1400 ه):

يُستفاد من بعض كلماته (قدس سره) في بيان معنى الغلو ومصاديقه الأمور التالية:

الأمر الأول: أن الغلو له ثلاثة أنحاء: غلو في مرتبة الألوهية، وغلو في مرتبة النبوة، وغلو في شؤون أخرى من الشؤون المتصلة بصفات الخالق تعالى وأفعاله.

الأمر الثاني: أن الغلو في الألوهية يتحقق بالتالي:

أ: الاعتقاد بألوهية شخص ما، وهو كفر، لأنه إنكار لله تعالى.ب: الاعتقاد بالشريك لله تعالى، فإنه غلو في شخص الشريك، ولا فرق في هذه الصورة بين القول بأن الشريك مستقل عن الله تعالى وفي عرضه، وبين القول بأنه شريك له في طوله، فهو مخلوق له، ولكنه شريك له في الخالقية أو العبادة مثلاً.

وهذا كفر، لأنه ينافي التوحيد.

ج: القول بحلول الله تعالى أو اتحاده مع مخلوق، بحيث يُدّعى أن مخلوقاً يمشي في الأسواق ويأكل الطعام قد حلّ فيه الله تعالى، أو أنه اتحد معه.

وهذا أيضاً كفر، لأنه ينافي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) من جهتين:

ص: 204


1- شرح العروة الوثقى للسيد محمد باقر الصدر ج3 شرح ص 305 – 307.

الجهة الأولى: أن كلمة التوحيد تعني أنه لا يوجد إله آخر غير الله تعالى، والقول بالحلول أو الاتحاد يعني وجود إله آخر غيره جل وعلا، وهو من حلّ فيه، وهذا كفر واضح، وهو يتنافى مع المستثنى منه في كلمة (لا إله إلا الله).

الجهة الثانية: أن كلمة التوحيد دلت على أن الإله هو فقط الله تبارك وتعالى، وهو جل وعلا متصف بالصفات الكمالية غير المتناهية، وتلك الصفات الكمالية غير المتناهية لا تتناسب مع صفات المخلوقين، من المشي في الأسواق، والأكل، والنوم، فكيف يُتصور أن الله تعالى يحل في إنسان أو يتحد معه، والحال أن هذا الاتحاد والحلول يلزم منه أن يتصف (الله) تبارك وتعالى بصفات المخلوقين من الأكل والشرب والنوم وما شابه، مما يعني أن القول بهما يعني الكفر بالله تعالى ذي الصفات الكمالية غير المتناهية، والاعتقاد بأنه متصف بصفات المخلوقين.

قال السيد الشهيد (قدس سره) ما نصه:

أن الغلو تارة: يكون بلحاظ مرتبة الألوهية، وأخرى: بلحاظ مرتبة النبوة، وثالثة: بلحاظ شؤون أخرى من الشؤون المتصلة بصفات الخالق تعالى وأفعاله.

أما الغلو بلحاظ مرتبة الألوهية، فيتمثل تارة: في اعتقاد الشخص بأن من غلا في حقه هو الله تعالى. وأخرى: في اعتقاده بأنه غير الله الواجب الوجود، إلا أنه شريكه في الألوهية واستحقاق العبادة، إما بنحو عرضي أو بنحو طولي. وثالثة: في اعتقاده بحلول الله أو اتحاده مع ذلك الغير.

وكل ذلك كفر: أما الأول، فلأنه إنكار لله، وأما الثاني، فلأنه إنكار

ص: 205

للتوحيد وأما الثالث، فلأن الحلول والاتحاد مرجعهما إلى دعوى ألوهية غير الله، لأنهما بالنظر العرفي واسطتان في الثبوت، فينافي مع عقد المستثنى منه بحسب المدلول العرفي لشهادة أن (لا إله إلا الله)، بل ينافي مع عقد المستثنى أيضاً، لأن كلمة (الله) في عقد المستثنى بحسب مدلولها الارتكازي تشتمل على كثير من الصفات المنافية لأحوال من غلا في حقه، كالمشي في الأسواق والأكل والشرب.

الأمر الثالث: أما الغلو في مرتبة النبوة، فمصاديقه هي:

أ: الاعتقاد بأن شخصاً ما أفضل من النبي (صلى الله عليه وآله)، لا فرق في ذلك بين كونه إماماً أو شخصاً عادياً.

ب: الاعتقاد بأن ذلك الشخص هو الواسطة بين النبي من جهة، وبين الله تعالى من جهة أخرى.

ج: الاعتقاد بأن ذلك الشخص مساوٍ للنبي (صلى الله عليه وآله).

وفي كل هذه الصور، يكون المعنى أن ذلك الشخص المغالى فيه غير مشمول لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه إما أفضل أو مساو أو هو الواسطة بين النبي والسماء، فلا تشمله الأحكام التكليفية التي يجيء بها النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا يلزمه أن يمتثل أوامره (صلى الله عليه وآله).

وكل ذلك كفر، لأنه ينافي الشهادة له (صلى الله عليه وآله) بأنه رسول الله، الذي يعني شموليته رسالته إلى جميع المكلفين من دون استثناء.

ص: 206

قال السيد الشهيد الصدر (قدس ره) ما نصه:

وأما الغلو بلحاظ مرتبة النبوة، فيتمثل في اعتقاد المغالي بأن من غلا في حقه أفضل من النبي وأنه همزة الوصل بين النبي والله أو أنه مساو له على نحو لا تكون رسالة النبي بين الله والعباد شاملة له.

وكل ذلك يوجب الكفر، لمنافاته للشهادة الثانية بمدلولها الارتكازي في ذهن المتشرعة المشتمل على التسليم بأن النبي (صلى الله عليه وآله) رسول الله إلى جميع المكلفين من دون استثناء.

الأمر الرابع: وأما الغلو بلحاظ الصفات والأفعال:

فبيانه من خلال التالي:

أ/ أنه بمعنى نسبة صفة معينة، أو فعل معين، إلى شخص ما، بحيث تكون تلك الصفة والفعل على غير المستوى الواقعي لذلك الشخص.

ب/ هذه الصفات على نحوين: فمنها ما ثبت كونه من مختصات الباري جل وعلا، ومنها ما لا يكون كذلك.

ج/ فإن نُسب إلى شخص ما، صفة هي من النحو الأول، فهذا كفر، لأنه يدخل في إنكار الضروري، كما لو نسب لشخص أنه تم تفويض الأمور إليه على نحو الاستقلال عن الله تعالى، كالخلق والإحياء والإماتة وما شابه.

وإلا، فلا مشكلة فيه، كما لو اُدّعي التفويض لكن لا بالاستقلال عن الله تعالى، وإنما بإذنه جل وعلا وتفويض منه وتوكيل، مع بقاء قدرة الله تعالى

ص: 207

على حالها، لا تنقص، ولا تُقيَّد، ولا تُحدَّد.

قال السيد الشهيد (قدس سره) ما نصه:

وأما الغلو بلحاظ الصفات والأفعال بمعنى نسبة صفة أو فعل لشخص ليس على مستواهما، فإن كان اختصاص تلك الصفة أو الفعل بالله تعالى من ضروريات الدين دخل في إنكار الضروري على الخلاف المتقدم فيه وإلا لم يكن كفرا.

ويدخل في الأول: ادعاء تفويض الأمر من الله تعالى لأحد من عباده، ونسبة الخلق، والإحياء، والإماتة، ونحو ذلك من أنحاء التدبير الغيبي لهذا العالم إلى أحد من الناس.

ص: 208

الخطوة الرابعة: تفصيل بعض دعاوى الغلو

اشارة

ادعى الغلاة بعض المقالات لأهل البيت (عليهم السلام) مما تجاوزوا فيه الحد، والبعض منها صحيح في بعض مراتبه دون بعض، ونذكر هنا بعض تلك المقالات لنعرف حقيقة الحال فيها، بمعنى أننا سنذكر المقالات التي فيها غلو في أهل البيت (عليهم السلام)، أو التي قيل بأنها من الغلو لنعرف حقيقة الحال فيها، وبعضها تقدم تفصيل الكلام فيه في المباحث السابقة، وبعضها لم يتقدم الحديث فيها، فسنفصل الحديث فيها إن شاء الله تعالى.

والمقالات الإحدى عشرة هي:

المقالة الأولى: أنهم (عليهم السلام) آلهة.

المقالة الثانية: أنهم (عليهم السلام) أنبياء.

المقالة الثالثة: التفويض.

المقالة الرابعة: أنهم يعلمون الغيب.

المقالة الخامسة: تناسخ أرواحهم (عليهم السلام).

المقالة السادسة: الإيحاء إليهم (عليهم السلام).

ص: 209

المقالة السابعة: أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على الأنبياء.

المقالة الثامنة: العصمة.

المقالة التاسعة: العلم الخاص.

المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام).

المقالة الحادية عشرة: الولاية التشريعية لأهل البيت (عليهم السلام).

ص: 210

المقالة الأولى: أنهم (عليهم السلام) آلهة

كان محمّد بن نصير النميري يدّعي أنَّه رسول نبي، وأنَّ عليّ بن محمّد (عليه السلام) أرسله، وكان يقول بالتناسخ ويغلو في أبي الحسن ويقول فيه بالربوبية...(1).

و...كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ النُّمَيْريُّ مِنْ أصْحَابِ أبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَن (عليه السلام) فَلَمَّا تُوُفّيَ ادَّعَى النّيَابَةَ لِصَاحِبِ الزَّمَان عليه السلام فَفَضَحَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الإلْحَادِ وَالْغُلُوَّ وَالْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخ وَقَدْ كَانَ(2)

يَدَّعِي أنَّهُ رَسُولُ نَبِيٍّ، أرْسَلَهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَيَقُولُ فِيهِ بِالرُّبُوبيَّةِ، وَيَقُولُ بِالإجَابَةِ(3) لِلْمَحَارم... (4).

وقال أبو نصر هبة الله بن محمّد بن أحمد الكاتب ابن بنت اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري رضي الله عنه: إنَّ أبا دلف محمّد بن مظفّر الكاتب كان في ابتداء أمره مخمّساً(5)

مشهوراً بذلك لأنَّه كان تربية الكرخيين وتلميذهم وصنيعتهم وكان الكرخيون مخمّسة لا يشكّ في ذلك أحد من

ص: 211


1- الغيبة للطوسي: 398/ رقم 371.
2- في المصدر إضافة: (أيضاً).
3- في المصدر: (بالإباحة).
4- الاحتجاج 2: 552/ ذكر المذمومين/ ح 348.
5- هم فرقة من الغلاة يقولون بألوهية أصحاب الكساء الخمسة: محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بأنَّهم نور واحد والروح حالّة فيهم بالسوية لا فضل لواحد على الآخر. راجع: الملل والنحل للشهرستاني 1: 175.

الشيعة، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به ويقول: نقلي سيّدنا الشيخ الصالح قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه عن مذهب أبي جعفر الكرخي إلى المذهب الصحيح يعني أبا بكر البغدادي. (1).

وهذه واضحة البطلان، ولا تحتاج إلى تجشم عناء البحث، وقد تقدمت بعض النصوص الدالة على أن المعصوم تبرأ ولعن من ادعى فيهم ذلك.

ص: 212


1- الغيبة للطوسي: 414/ رقم 390.
المقالة الثانية: أنهم (عليهم السلام) أنبياء

جاء في الاحتجاج: و...كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ النُّمَيْريُّ مِنْ أصْحَابِ أبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَن (عليه السلام) فَلَمَّا تُوُفّيَ ادَّعَى النّيَابَةَ لِصَاحِبِ الزَّمَان عليه السلام فَفَضَحَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الإلْحَادِ وَالْغُلُوَّ وَالْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخ وَقَدْ كَانَ(1)

يَدَّعِي أنَّهُ رَسُولُ نَبِيٍّ، أرْسَلَهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَيَقُولُ فِيهِ بِالرُّبُوبيَّةِ، وَيَقُولُ بِالإجَابَةِ(2) لِلْمَحَارم... (3).

وهذه كسابقتها لا تحتاج إلى بحث لإثبات بطلانها، فإن القرآن الكريم صريح في أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين، فضلاً عن النصوص الروائية، من قبيل حديث المنزلة.

قال تعالى (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)(4)

ص: 213


1- في المصدر إضافة: (أيضاً).
2- في المصدر: (بالإباحة).
3- الاحتجاج 2: 552/ ذكر المذمومين/ ح 348.
4- الأحزاب 40

ص: 214

المقالة الثالثة: التفويض

تقدم الحديث بالتفصيل عن معاني التفويض(1)،

وتبيّن أن التفويض الذي يستلزم الشرك هو التفويض مع القول باستقلال الإمام عن الله تعالى، أما التفويض بإذنه جل وعلا، فلا مانع شرعياً ولا عقلياً منه، بل إنه مما دل الواقع والنصوص على تحققه في عالمنا، وقد ذكرنا في مباحث العدل الإلهي تفاصيل تلك النصوص، فراجع.

ص: 215


1- المسألة الثالثة من مسائل بحث العدل الإلهي.

ص: 216

المقالة الرابعة: أنهم يعلمون الغيب

فإنه من الغلو لو اُدّعي استقلالهم فيه، وإلا، فلا مانع منه قرآنياً وروائياً، وقد تقدم الحديث بالتفصيل عنه في آخر مبحث الإمامة، وبالضبط في (التساؤل السادس: حول علم الأئمة (عليهم السلام) بالغيب.)، وتقدم أن علمهم (عليهم السلام) بالغيب ليس استقلالياً عن الله تعالى، وإنما هو بتعليم منه جل وعلا، وهذا لا يتنافى مع التوحيد، ولا يلزم منه الغلو.

ص: 217

ص: 218

المقالة الخامسة: تناسخ أرواحهم (عليهم السلام)
اشارة

زعم بعض الغلاة أن أرواح أهل البيت (عليهم السلام) تتناسخ فيما بينها، فمثلاً: كان محمّد بن نصير النميري يدّعي أنَّه رسول نبي، وأنَّ عليّ بن محمّد (عليه السلام) أرسله، وكان يقول بالتناسخ ويغلو في أبي الحسن ويقول فيه بالربوبية...(1).

وفي الاحتجاج: ...كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ النُّمَيْريُّ مِنْ أصْحَابِ أبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَن (عليه السلام) فَلَمَّا تُوُفّيَ ادَّعَى النّيَابَةَ لِصَاحِبِ الزَّمَان عليه السلام فَفَضَحَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الإلْحَادِ وَالْغُلُوَّ وَالْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخ وَقَدْ كَانَ(2)

يَدَّعِي أنَّهُ رَسُولُ نَبِيٍّ، أرْسَلَهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَيَقُولُ فِيهِ بِالرُّبُوبيَّةِ، وَيَقُولُ بِالإجَابَةِ(3) لِلْمَحَارم... (4).

ومن ذلك ما فعله ابن أبي العزاقر من ادعائه أن روح رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتقلت إلى محمّد بن عثمان (رضي الله عنه)، وروح أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح الزهراء (عليها السلام) انتقلت إلى أم كلثوم بين أبي جعفر العمري، الملقبة بالكبيرة، فقد روى الشيخ في الغيبة قال:

ص: 219


1- الغيبة للطوسي: 398/ رقم 371.
2- في المصدر إضافة: (أيضاً).
3- في المصدر: (بالإباحة).
4- الاحتجاج 2: 552/ ذكر المذمومين/ ح 348.

...قالت الكبيرة (رضي الله عنها): وقد كنت أخبرت الشيخ أبا القاسم أنَّ اُمّ أبي جعفر بن بسطام قالت لي يوماً وقد دخلنا إليها فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتَّى انكبَّت على رجلي تقبلها فأنكرت ذلك وقلت لها: مهلاً يا ستي(1) فإنَّ هذا أمر عظيم، وانكببت على يدها فبكت.

ثُمَّ قالت: كيف لا أفعل بك هذا وأنت مولاتي فاطمة؟ فقلت لها: وكيف ذاك يا ستي؟ فقالت لي: إنَّ الشيخ _ يعني أبا جعفر محمّد بن علي _ خرج إلينا بالستر(2)، قالت: فقلت لها: وما الستر؟ قالت: قد أخذ علينا كتمانه وأفزع إن أنا أذعته عوقبت، قالت: وأعطيتها موثقاً أنّي لا أكشفه لأحد واعتقدت في نفسي الاستثناء بالشيخ رضي الله عنه _ يعني أبا القاسم الحسين بن روح _.

قالت: إنَّ الشيخ أبا جعفر قال لنا: إنَّ روح رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتقلت إلى أبيك، يعني: أبا جعفر محمّد بن عثمان (رضي الله عنه)، وروح أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح مولاتنا فاطمة (عليها السلام) انتقلت إليك فكيف لا اُعظمك يا ستنا؟

فقلت لها: مهلاً لا تفعلي فإنَّ هذا كذب يا ستنا. فقالت لي: سرّ عظيم

ص: 220


1- قال الفيروزآبادي: (وستى) للمرأة أي يا ست جهاتي، أو لحن والصواب سيّدتي. وقال الشارح: ويحتمل أنَّ الأصل سيّدتي فحذف بعض حروف الكلمة، وله نظائر قاله الشهاب القاسمي، وأنشدنا غير واحد من مشايخنا للبهاء زهير: بروحي من اسميها بستي * * * فينظر لي النحاة بعين مقت يرون بأنَّني قد قلت لحنا * * * وكيف وإنَّني لزهير وقتي ولكن غادة ملكت جهاتي * * * فلا لحن إذا ما قلت ستي
2- في المصدر: (السرّ) وكذا في ما بعد.

وقد اُخذ علينا أن لا نكشف هذا لأحد فالله الله فيَّ، لا يحلّ بي العذاب، ويا ستي لو[لا] حملتني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحد غيرك.

قالت الكبيرة اُمّ كلثوم (رضي الله عنها): فلمَّا انصرفت من عندها دخلت إلى الشيخ أبي القاسم بن روح رضي الله عنه فأخبرته بالقصّة وكان يثق بي ويركن إلى قولي فقال لي: يا بنية إيّاك أن تمضي إلى هذه المرأة بعدما جرى منها، ولا تقبلي لها رقعة إن كاتبتك، ولا رسولاً إن أنفذته إليك، ولا تلقاها بعد قولها، فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقاً إلى أن يقول لهم بأن الله تعالى اتّحد به، وحلَّ فيه، كما تقول النصارى في المسيح عليه السلام ويعدو إلى قول الحلاّج لعنه الله.

قالت: فهجرت بني بسطام، وتركت المضي إليهم ولم أقبل لهم عذراً ولا لقيت اُمّهم بعدها، وشاع في بني نوبخت الحديث فلم يبقَ أحد إلاَّ وتقدَّم إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلمغاني والبراءة منه ومن يتولاه ورضي بقوله أو كلَّمه فضلاً عن موالاته.

ثُمَّ ظهر التوقيع من صاحب الزمان عليه السلام بلعن أبي جعفر محمّد بن عليّ والبراءة منه وممن تابعه وشايعه ورضي بقوله، وأقام على توليه بعد المعرفة بهذا التوقيع... (1).

وتنقل لنا بعض النصوص أن منهم من كانوا في زمن الأئمة (عليهم السلام)، فقد جاء في رواية الإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون العباسي أنه: قال المأمون: يا أبا

ص: 221


1- الغيبة للطوسي: 403/ رقم 378.

الحسن، فما تقول في القائلين بالتناسخ؟ فقال الرضا (عليه السلام): من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم، مكذِّب بالجنة والنار.(1)

إن هذا النص يكفينا للقول ببطلان التناسخ وكفر من يقول به تعبداً، ولكن، ولزيادة الإيضاح، ولذكر الدليل العقلي –بالإضافة إلى التعبدي- نذكر البحث التالي(2):

بحث إجمالي في التناسخ
اشارة

عادة ما يطرح العلماء هذا البحث ذيل البحث عن المعاد الجسماني، إذ قد يُقال: إن انتقال الروح من البدن الدنيوي إلى البدن الأخروي، هو نوع من التناسخ.

والبعض يذكره عند الحديث عن عالم الذر، إذ يُقال: إن القول بوجود الأرواح في عالم الذر، ثم انتقالها إلى البدن في الدنيا، هو نوع من التناسخ.

ويمكن أن يُذكر أيضاً في بحث الغلو، إذ إن البعض غالى في أهل البيت (عليهم السلام) وقال بأن أرواحهم تتناسخ فيما بينها، أو لعل البعض يقول بتناسخها إلى أبدان غيرهم.

لذا اقتضى بيان حقيقة الحال في التناسخ إمكاناً ووقوعاً وأدلة بطلانه.

ص: 222


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 218.
2- مستفاد من كتاب: علم النفس الفلسفي لآية الله الشيخ غلام رضا فياضي، تقرير سماحة الأستاذ السيد جعفر الحكيم، الدروس: (51 إلى 69).
التناسخ لغة

بمعنى الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظلَّ إذا أزالته، ونسخ الشيبُ الشبابَ.

ويأتي بمعنى النقل، فيقال: نسختُ الكتاب، إذا نقلته حرفاً بحرف.

التناسخ اصطلاحاً
اشارة

التناسخ مشترك لفظي بين معانٍ عديدة، وهي:

المعنى الأول: التناسخ الملكوتی
اشارة

وهو تمثّل الإنسان بشكل مثالي متناسب مع أعماله وملكاته ونواياه، أو قل: هو تجسّم وتمثّل الإنسان بصورة الملكات والأعمال، فالمتّقي العادل يتجسّم بصورة وشكل مَلَك، والفاسق يتمثّل بصورة حيوان بهيمة وهكذا.

وبعبارة ثانية: يمكن القول: إنّ للإنسان بدنين:

الأوّل: البدن المادّي المتعارف.

والثاني: البدن المثالي، أي الّذي يحمل بعض خواصّ المادّة، من الطول والعرض والعمق، دون آثار المادة، من الثقل والصلابة وما شابه، أشبه شيء بصورة الإنسان في المرآة، وهذا البدن هو ما يُعدّ له عملُ الإنسان ونيّته. فهو في أوّل حياته بشكل إنسان وباطنه أيضاً إنسان، ولكن بالأعمال الّتي يقوم بها يتبدّل باطنه إلى صورة حيوان –إن كانت أعماله ونيته سيئة- أو مَلَك -إن كانت أعماله ونيته صالحة-.

ص: 223

وقد ذكر صدر المتألهين أنّ الجميع قبل هذا المعنى من التناسخ، وأنّه ثابت بالنقل والكشف والبرهان.

و التمثّل والتناسخ الملكوتي له نحوان:

النحو الأول: تناسخ ملكوتي مع انقلاب البدن المادّي

كما في مثل قوله تعالى في أصحاب السبت: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(1)

إنّ ظاهرهم كانوا بشراً، ولكن بواطنهم كانت قردة, ثمّ انقلبت أبدانهم المادّية على شكل الباطن، فظاهر الآية أن نفس البدن انقلب، من دون انتقال النفس عنه، والشاهد هو كلمة (كُونُوا) أي إن بواطنهم تقولبت بشكل القردة، والله تعالى أمر أن يكون ظاهرهم كباطنهم.

النحو الثاني: تناسخ ملكوتي من دون انقلاب في ظاهر البدن

وقد أشار القرآن الكريم إلى العديد من هذه الصور، من قبيل: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(2)

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)(3)

ص: 224


1- البقرة 65.
2- البقرة 275.
3- النساء 10.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(1)

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(2)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ الله تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(3)

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ واللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(4)

المعنى الثاني: التناسخ المُلْكي
اشارة

وهو المقصود بالبحث هنا، وهو بمعنى:

انتقال النفس من بدن مادي، إلى بدن مادي آخر، بحيث تستكمل بالبدن

ص: 225


1- الأعراف 175 و 176.
2- الأعراف 179.
3- الحجرات 12.
4- الجمعة 5.

الثاني كما كانت تستكمل بالبدن الأول، وهكذا تنتقل إلى بدن ثالث بموت البدن الثاني...

وهذا المعنى ينقسم إلى:

1/التناسخ بالمعنى الأخص، ويسمّى النسخ

وهو انتقال النفس من بدن إنسان إلى بدن إنسان آخر.

2/التماسخ: ويسمّى المسخ

وهو انتقال النفس من بدن إنسان إلى بدن حيوان نتيجة مخالفاته وفعله المعصية.

3/التفاسخ: ويسمّى الفسخ

وهو انتقال النفس الدنيئة من بدن إنسان إلى جسم نباتي فيصير صورة النبات.

4/التراسخ

وهو انتقال النفس الدنيئة إلى جسم جماد.

تقسيم آخر للتناسخ الملكی
1/نزولي

مثل انتقال النفس من بدن إنسان إلى بدن حيوان, أو من بدن حيوان إلى جسم نباتي.

ص: 226

2/صعودي

مثل انتقال النفس من بدن حيوان إلى إنسان.

3/غيرهما

وهو انتقال النفس من بدن إلى بدن مشابه للأوّل؛ كالانتقال من بدن إنسان إلى بدن إنسان.

الآراء في التناسخ الملكی

اختلفت الآراء فيه على أقوال:

القول الأول:

إنه باطل مطلقاً وبجميع أقسامه.

القول الثاني:

إنه حق مطلقاً وواقع بجميع أقسامه.

القول الثالث:

إن الحق من أقسامه هو التناسخ النزولي فقط، لأن النفس التي تعمل الأعمال الدنيئة، فإنها لا تتحرر بالموت، وإنما تعاقب، وعقوبتها تكون بسجنها في أبدان أدون من البدن الأول.

وبعبارة أخرى:

أنّ الروح أوّل ما توجد فإنها توجد كإنسان، فإذا لم تستفد من الفرصة لتطهير نفسها من خلال اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل، حينها تتنزّل فتتعلّق ببدن حيوان أو نبات أو جماد حسب ما يناسب أعمالها التي اكتسبتها باختيارها.

وهذا يعني: أنه لا يمكن أن تتحقّق الروح ابتداءً في الحيوان، وإنّما تتحقّق أولاً في الإنسان، والإنسان هو مصنع توليد الحيوان, مما يعني: أنّ الحيوانات

ص: 227

الموجودة في عالمنا هي عبارة عن أبدان حيوانيّة تعلّقت بها أرواح إنسانيّة؛ فالروح أوّل ما توجد هي وجود متعال, ومن ثَمَّ فليس هناك بدن مستعدّ لها إلاّ البدن الإنساني, ولكنّها بأعمالها الرديّة تأخذ شكلاً حيوانياً وتهبط, فيكون بدن الحيوان قابلاً لها, فتنتقل إلى البدن الحيواني المتناسب مع الشكل الّذي اقتبسته، وربما تهبط إلى بدن نباتي أو جمادي.

القول الرابع:

إن الحق منها هو التناسخ الصعودي فقط، بحجة أن الروح الإنسانية لا توجد دفعة واحدة في الإنسان، وإنما لابد أن توجد بالتدريج، فتبدأ بمرتبتها الجمادية، حيث تكون في بدن جماد، ثم تتكامل لتكون نباتية في بدن نبات، فحيوانية في بدن حيوان، وانتهاء بالإنسانية في بدن إنسان، فهي بالتكامل تصل إلى مرحلة التعلق بأبدان إنسانية.

والحق، هو البطلان.

أدلة بطلان التناسخ
اشارة

أدلة بطلان التناسخ(1):

الدليل الأول: للمشاء

إن المشاء يبنون على أن النفس تحدث بحدوث البدن، لا قبله، بمعنى أنه عندما يحدث البدن ويُخلق، فبنفس اللحظة تحدث وتوجد النفس، وإلا، أي لو كانت النفس موجودة قبل البدن، للزم أن تكون النفس معطلة، إذ إنها إنما تفعل بواسطة البدن، فمن دونه تكون معطلة.

ص: 228


1- عند إطلاق التناسخ يقصد منه الملكي لا الملكوتي، وسيتم عرض الأدلة من دون نقاش، فيترك النقاش لمرحلة أعلى.

وهذا يعني: أنه عندما يحدث بدنٌ ما، فإن له نفساً واحدة تحدث بحدوثه.

ولكن التناسخ يقول: إنه سيكون لهذا البدن نفس أخرى جاءته من بدن آخر.

وعليه، فيلزم أن يكون لبدن واحد نفسان.

وهو خلاف الوجدان، لأننا نحس بأن لنا نفساً واحدة لا غير.

الدليل الثاني: لصدر المتألهين

استحالة الرجوع من القوة إلى الفعل.

بيانه:

1 - القوة بمعنى الفقدان، والفعل بمعنى الوجدان.

2 - إن النفس تتحرك بالحركة الجوهرية. (وقد تقدم معناها في أدلة التوحيد، في دليل الحركة بالتحديد).

3 - إن الحركة الجوهرية ذاتية، بمعنى أنها لا تحتاج إلى فاعل من خارج الذات، فهي للنفس كالناطق للإنسان، فلا يمكن أن تتخلف الحركة الجوهرية عن النفس.

4 - وهذه الحركة الذاتية معناها وحقيقتها هو الخروج من القوة إلى الفعل، من الفقدان إلى الوجدان.

وهذا قانون عقلي لا يختلف ولا يتخلف، وإلّا - أي لو انعدمت الحركة،

ص: 229

أو كانت عكسية من الفعل إلى القوة - للزم تخلف الذاتي عن الذات، وسلب الذاتي عن الذات، وهو محال، كسلب الناطق عن الإنسان المحال.

5 - التناسخ يعني بوضوح: أن النفس الإنسانية بعد أن تقطع شوطاً تكاملياً بحركتها الجوهرية - بحيث تحصل على كمالات متعددة - بعد ذلك تُنسخ، فترجع إلى بدن جديد (نطفة مثلاً)، وهذا معناه أنها سترجع إلى القوة بعد أن كانت بالفعل، وقد ثبت أنه محال.

النتيجة من كل ما تقدم:

1/أن التناسخ -بمعنى انتقال النفس من بدن إلى آخر- باطل.

2/وأما المعاد الجسماني فلا مانع منه، لأنه ليس انتقالاً للنفس من بدن إلى آخر، وإنما هي ترجع إلى نفس بدنها.

وقد دلت النصوص الدينية على المعاد الجسماني، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً﴾(1)

وقوله تعالى: ﴿وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(2)

وغيرها من النصوص المذكورة في علم الكلام عند الاستدلال على المعاد

ص: 330


1- النساء: 56.
2- فصلت: 21.

الجسماني.

3/ونفس الكلام يقال في عالم الذر، فإن النفس تعلقت فيه بالبدن، ثم انفصلت عنه، ثم عادت إلى نفس البدن لا غيره.

4/والحال فيهما يشبه حالة النوم، فإنه الروح تخرج من البدن وتعود إليه نفسه، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾(1)

ص: 231


1- الأنعام: 60.

ص: 232

المقالة السادسة: الإيحاء إليهم (عليهم السلام)
اشارة

جاء في بعض النصوص الروائية ما يُفهم منه أن أهل البيت (عليهم السلام) كان يوحى إليهم، أو قل: تنزل عليهم الملائكة، وهو ما قد يتوهم بعضٌ فيه شبهة الغلو، وحتى تتضح المسألة نذكر أمرين:

الأمر الأول: بعض النصوص الدالة على الإيحاء لأهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

إن النصوص الواردة في هذا المعنى كثيرة، نذكر منها التالي:

النص الأول

ما ورد من أن الملائكة كانت تحدث السيدة الزهراء (عليها السلام)، من قبيل ما روي عن إسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنما سُميت فاطمة (عليها السلام) محدَّثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وان الله (عزَّ وجلَّ) جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء

ص: 233

الأولين والآخرين.(1)

النص الثاني

ما روي عن أبي بصير أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال له: وإن عندنا لمصحف فاطمة (عليها السلام)، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟! قال (عليه السلام): مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، إنما هو شيء أملاها الله تعالى وأوحى إليها...(2)

النص الثالث

عنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: سَأَلَ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْجَفْرِ. فَقَالَ (عليه السلام): هُوَ جِلْدُ ثَوْرٍ مَمْلُوءٌ عِلْماً. قَالَ لَه: فَالْجَامِعَةُ؟ قَالَ (عليه السلام): تِلْكَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فِي عَرْضِ الأَدِيمِ مِثْلُ فَخِذِ الْفَالِجِ(3)، فِيهَا كُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه، ولَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ إِلَّا وهِيَ فِيهَا، حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ.

قَالَ: فَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟ قَالَ: فَسَكَتَ (عليه السلام) طَوِيلاً ثُمَّ قَالَ:

إِنَّكُمْ لَتَبْحَثُونَ عَمَّا تُرِيدُونَ وعَمَّا لَا تُرِيدُونَ، إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْماً، وكَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا، وكَانَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) يَأْتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا، ويُطَيِّبُ نَفْسَهَا، ويُخْبِرُهَا عَنْ أَبِيهَا ومَكَانِه، ويُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَكْتُبُ ذَلِكَ،

ص: 234


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 182 (باب 146 ح1).
2- بصائر الدرجات للصفار ص 172 ب 14 ح3.
3- الأديم: الجلد. والفالج: الجمل العظيم ذو السنامين. [هامش المصدر].

فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام).(1)

النص الرابع

عن يَحْيَى بْن عَبْدِ الله أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبُ الدَّيْلَمِ(2) قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ -وعِنْدَه أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ-: عَجَباً لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا عِلْمَهُمْ كُلَّه عَنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) فَعَمِلُوا بِه واهْتَدَوْا، ويَرَوْنَ أَنَّ أَهْلَ بَيْتِه لَمْ يَأْخُذُوا عِلْمَه، ونَحْنُ أَهْلُ بَيْتِه وذُرِّيَّتُه، فِي مَنَازِلِنَا نَزَلَ الْوَحْيُ، ومِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ الْعِلْمُ إِلَيْهِمْ، أفَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا واهْتَدَوْا وجَهِلْنَا نَحْنُ وضَلَلْنَا؟! إِنَّ هَذَا لَمُحَالٌ.(3)

النص الخامس

عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: لَقِيَ رَجُلٌ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) بِالثَّعْلَبِيَّةِ وهُوَ يُرِيدُ كَرْبَلَاءَ، فَدَخَلَ عَلَيْه فَسَلَّمَ عَلَيْه، فَقَالَ لَه الْحُسَيْنُ (عليه السلام): مِنْ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ (عليه السلام): أَمَا واللهِ يَا أَخَا أَهْلِ الْكُوفَةِ، لَوْ لَقِيتُكَ بِالْمَدِينَةِ لأَرَيْتُكَ أَثَرَ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) مِنْ دَارِنَا، ونُزُولِه بِالْوَحْيِ عَلَى جَدِّي، يَا أَخَا أَهْلِ الْكُوفَةِ، أفَمُسْتَقَى النَّاسِ الْعِلْمَ مِنْ عِنْدِنَا فَعَلِمُوا وجَهِلْنَا؟! هَذَا مَا لَا يَكُونُ.(4)

ص: 235


1- الكافي للكليني ج1 ص 241 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الصَّحِيفَةِ والْجَفْرِ والْجَامِعَةِ ومُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)- ح5.
2- الظاهر هو يحيى بن عبد الله بن الحسن كما في كتب الرجال. [هامش المصدر].
3- الكافي للكليني ج1 ص 398 بَابُ أَنَّ مُسْتَقَى الْعِلْمِ مِنْ بَيْتِ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) ح1.
4- الكافي للكليني ج1 ص 398 و399 بَابُ أَنَّ مُسْتَقَى الْعِلْمِ مِنْ بَيْتِ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) ح2.
النص السادس

ما روي في أنه يوحى إلى الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، من قبيل ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: يملك القائم ثلاث مائة سنة، ويزداد تسعاً كما لبث أهل الكهف في كهفهم. يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فيفتح الله له شرق الأرض وغربها، ويقتل الناس حتىٰ لا يبقىٰ إلّا دين محمد (ويسير) بسيرة سليمان بن داود، ويدعو الشمس والقمر فيجيبانه، وتطوىٰ له الأرض، ويوحىٰ إليه فيعمل بالوحي بأمر الله تعالى.(1)

الأمر الثاني: أنواع الوحي، ومعناه في أهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

عندما نتبع آيات القرآن الكريم والنصوص الروائية، نجد أن للوحي استعمالات عديدة، نذكر منها هنا أربعة:

الاستعمال الأول: الوحي الرسالی

وهو الوحي الذي ينزل على الأنبياء والرسل بالخصوص، وهو من المفاصل الأساسية لكونهم أنبياء، وهم في هذه الحال يرون الملك ويسمعون كلامه.

وهذا المعنى هو ما تشير إليه الآية الكريمة: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ).(2)

وهذا المعنى خاص بالأنبياء فقط، وهو الذي انقطع باستشهاد النبي

ص: 236


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج52، ص390.
2- العنكبوت 45.

الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهو مقتضى كونه (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين، بالإضافة إلى تصريح حديث المنزلة بذلك (إلا أنه لا نبي بعدي) وتصريح بعض الروايات بذلك، من قبيل (ولا نبي بعد نبينا) كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وهذا لا يدّعيه أحد من الشيعة في أهل البيت (عليهم السلام)، فإنه من الغلو المنهي عنه كما تقدم.

الاستعمال الثاني: الوحي التكويني

استعمل القرآن الكريم الوحي بمعنى تنظيم السنن الكونية في عالم الوجود، أو قل: بمعنى وضع الأنظمة والقوانين التي تحكم عالم الوجود التكويني، من قبيل قوله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).(1)

الاستعمال الثالث: الوحي الغريزي

بمعنى ما أودعه الله تعالى في بعض المخلوقات من النظام الداخلي لديها، الذي يجعلها تهتدي لعيشها، وبناء بيوتها، ورعاية صغارها، وما شابه، ومن ذلك ما جاء في شأن النحل، قال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي

ص: 237


1- فصلت 12.

ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(1)

الاستعمال الرابع: الوحي بمعنى التحديث، أو الإلهام والإلقاء
اشارة

وهو الوحي الذي يكون للبشر، رجالاً ونساءً، من دون أن يكون الموحى إليه نبياً، وهذا لا مانع منه في حد نفسه، خصوصاً وأن العبد المؤمن يمكنه أن يتسامى في مراتب الكمال الوجودي، ليصل إلى مراتب يكون فيها مخدوماً للملائكة.

وهذا المعنى من الوحي هو ما يُطلق عليه بالتحديث، أو الإلهام، أو الإلقاء في الروع، أو النكت في القلب، ما شئت فعبّر، وقد شهد القرآن الكريم على ثبوت هذا المعنى لغير الأنبياء، إذ هذا المعنى هو الذي كان عند أم النبي موسى (عليهما السلام)، قال تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضَعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)(2).

وهو الذي كان عند السيدة مريم (عليها السلام)، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي

ص: 238


1- النحل 68 و 69.
2- القصص: 7.

الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ)(1)

وبنفس المعنى جاء الوحي للحواريين، قال تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ).(2)

وهذا المعنى هو ما نقوله في أهل البيت (عليهم السلام)، ولا مانع شرعياً ولا عقلياً منه، ولا يستلزم الغلو، ولا ادعاء نبوة، ولا غيرها من المحذورات الشرعية والدينية.

وقد نصت الروايات على تسمية أهل البيت (عليهم السلام) بالمحدّثين، والتي أشارت إلى الوحي إليهم بهذا المعنى، نذكر منها النصوص التالية:

النص الأول

عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) مُحَدَّثاً.(3)

النص الثاني

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) يَقُولُ: الأَئِمَّةُ عُلَمَاءُ صَادِقُونَ مُفَهَّمُونَ مُحَدَّثُونَ.(4)

النص الثالث

عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ مُحَدَّثاً.

ص: 239


1- آل عمران 42 – 46.
2- المائدة 111.
3- الكافي للكليني ج1 ص 270 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ ح2.
4- الكافي للكليني ج1 ص 271 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ ح3.

فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: جِئْتُكُمْ بِعَجِيبَةٍ! فَقَالُوا: ومَا هِيَ؟ فَقُلْتُ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) مُحَدَّثاً. فَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً، إِلَّا سَأَلْتَه مَنْ كَانَ يُحَدِّثُه؟ فَرَجَعْتُ إِلَيْه فَقُلْتُ: إِنِّي حَدَّثْتُ أَصْحَابِي بِمَا حَدَّثْتَنِي فَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً، إِلَّا سَأَلْتَه مَنْ كَانَ يُحَدِّثُه؟ فَقَالَ (عليه السلام) لِي: يُحَدِّثُه مَلَكٌ. قُلْتُ: تَقُولُ: إِنَّه نَبِيٌّ؟! قَالَ: فَحَرَّكَ يَدَه هَكَذَا: أَوْ كَصَاحِبِ سُلَيْمَانَ، أَوْ كَصَاحِبِ مُوسَى، أَوْ كَذِي الْقَرْنَيْنِ، أومَا بَلَغَكُمْ أَنَّه قَالَ (صلى الله عليه وآله): وفِيكُمْ مِثْلُه.(1)

النص الرابع

عن ضريس قال: كنت أنا وأبو بصير عند أبي جعفر (عليه السلام)، فقال له أبو بصير: بما يعلم عالِمُكم؟ قال (عليه السلام): إن عالِمَنا لا يعلم الغيب، ولو وكله الله إلى نفسه لكان كبعضكم، ولكن يُحدَّث في ساعة بما يحدث في الليل، وفي ساعة بما يحدث في النهار، الأمر بعد الأمر، والشيء بعد الشيء بما يكون إلى يوم القيامة.(2)

النص الخامس

عن الحارث النصري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الذي يُسأل عنه الامام، وليس عنده فيه شيء، من أين يعلمه؟ قال (عليه السلام): يُنكت في القلب نكتاً، أو يُنقر في الأذن نقراً.

وقيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا سُئلت كيف تجيب؟ قال: إلهام وسماع، وربما

ص: 240


1- الكافي للكليني ج1 ص 271 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ ع مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ ح5.
2- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج2 ص 831 و 832 ح 47.

كانا جميعاً.(1)

النص الساس

عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان علي (عليه السلام) محدّثاً، وكان سلمان محدثاً. قال: قلت: فما آية المحدَّث؟ قال (عليه السلام): يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت.(2)

النص السابع

عن الحرث بن المغيرة النضري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما علمُ عالِمكم جملةً، يُقذف في قلبه ويُنكت في أُذنه؟ قال: فقال (عليه السلام): وحيٌّ كوحي أم موسى.(3)

النص الثامن

عَنْ عَلِيٍّ السَّائِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ مُوسَى (عليه السلام) قَالَ: قَالَ (عليه السلام): مَبْلَغُ عِلْمِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوه: مَاضٍ وغَابِرٍ وحَادِثٍ، فَأَمَّا الْمَاضِي فَمُفَسَّرٌ، وأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ، وأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ ونَقْرٌ فِي الأَسْمَاعِ، وهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا، ولَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا.(4)فهذا الحديث واضح جداً في أنه في الوقت الذي يُثبت التحديث لهم (عليهم السلام)، إلا أنه ينفي النبوة عنهم (عليهم السلام)، فكأنه دفْعُ إشكال وتوهم.

ص: 241


1- الأمالي للشيخ الطوسي ص 408 ح 916 / 64.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 342 ب6 ح4.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 337 ب3 ح10.
4- الكافي للكليني ج1 ص264 بَابُ جِهَاتِ عُلُومِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام)- ح1.

أي إنه (عليه السلام): (دَفَع بذلك توهّم من يتوهّم أن كل من قذف في قلبه ونقر في سمعه فهو نبي. وهذا التوهّم فاسد لأنّه محدث والمحدّث ليس بنبي.)(1)

النص التاسع

عن عبد الله بن بكير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني أبو بصير أنه سمعك تقول: لولا أنا نزاد لأنفدنا؟ قال: نعم. قال: قلت: تزدادون شيئاً ليس عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: لا، إذا كان ذلك كان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحياً، وإلينا حديثاً.(2)

وهذا النص واضح جداً في أن المقصود بالوحي إليهم (عليهم السلام) هو التحديث، لا الوحي الرسالي.

فائدة: في ذكر رواية جامعة في معاني الوحي في القرآن

من الروايات الجامعة في تعداد استعمالات الوحي، ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سألوه عن لفظ الوحي في كتاب الله تعالى فقال (عليه السلام): منه وحي النبوة، ومنه وحي الالهام، ومنه وحي الإشارة، ومنه وحي أمر، ومنه وحي كذب، ومنه وحي تقدير، ومنه وحي خبر، ومنه وحي الرسالة فأما تفسير وحي النبوة والرسالة: فهو قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلى إِبْرَاهِيمَ

ص: 242


1- شرح أصول الكافي للمولى محمد صالح المازندراني ج6 ص 49.
2- الامالي للشيخ الطوسي ص 409 ح 919 / 67.

وَإِسْمَاعِيلَ)(1)

وأما وحي الالهام، فهو قوله تعالى: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)(2)

ومثله قوله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضَعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)(3).

وأما وحي الإشارة فقوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً)(4)

أي أشار إليهم؛ لقوله تعالى: (أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّام إِلاَّ رَمْزاً)(5).

وأما وحي التقدير فقوله تعالى: (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا)(6) (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)(7).

وأما وحي الأمر فقوله سبحانه: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)(8).

ص: 243


1- النساء: 163.
2- النحل: 68.
3- القصص: 7.
4- مريم: 11.
5- آل عمران: 41.
6- فصلت: 12.
7- فصلت: 10.
8- المائدة: 111.

وأما وحي الكذب فقوله عزّ وجلّ: (شَيَاطِينَ الاْنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْض)(1).

وأما وحي الخبر فقوله سبحانه: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(2).(3)

ص: 244


1- الأنعام: 112.
2- الأنبياء: 73.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج90 ص 16 و 17.
المقالة السابعة: أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على الأنبياء
اشارة

ربما يظهر من البعض الإشكال على شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم يغالون فيهم بحيث يعتبرونهم أفضل من الأنبياء، وربما يجعلونهم أفضل من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)!

فهل لهذا الكلام من واقع؟ وما هي حقيقة الحالة فيه؟

في مقام الجواب نقول:

هنا عدة أمور لا بد أن نتابعها بدقة حتى نفهم الجواب العلمي المنهجي عن هذه الشبهة:

الأمر الأول: واقعية التفاضل في الحياة

لا شك أننا نعيش التفاضل في حياتنا في كثير من مفرداتها، فلدى كل واحد منا أمور يفضلها على غيرها، سواء أكانت هي الوظيفة، أم البيت، أو الطعام، أم اللون، وهكذا.

ويقر الدين مبدأ التفاضل بين البشر، قال تعالى (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)(1)

ص: 245


1- الإسراء 21.

وله أسسه الخاصة في ذلك، وأسسه كما في القرآن الكريم أربعة: التقوى والإيمان والعلم والجهاد.

قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

(لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً).

والكمال يزيد طردياً بزيادة الاتصاف بتلك الأسس.

وهذا المعنى شامل حتى للأنبياء والأولياء، فإن بينهم تفاضلاً صرّح به القرآن الكريم، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(1)

وقال تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)(2)

ص: 246


1- البقرة 253.
2- الإسراء 55.

وقال تعالى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)(1)

وينبغي الالتفات إلى أننا لا نملك في هذا المضمار غير الأدلة النقلية، وإن كان هناك دليل عقلي فهو معتمد في بدايته على النقلي...

الأمر الثاني: أفضلية منصب الإمامة على منصب النبوة

الحديث هنا ليس في المصاديق، وإنما في المفاهيم، فنفس منصب الإمامة الإلهية، التي تكون بتنصيب وجعل من الله تبارك وتعالى، هي أعلى رتبة من منصب النبوة الإلهية، فالكلام في أفضلية الموقع.

وهذا المعنى يُستكشف بالنصوص الدينية، ومنها ما روي عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه نَبِيّاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه رَسُولاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه رَسُولاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه خَلِيلاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه خَلِيلاً قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَه إِمَاماً، فَلَمَّا جَمَعَ لَه الأَشْيَاءَ قَالَ: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قَالَ فَمِنْ عِظَمِهَا فِي عَيْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: (ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(2)،

قَالَ: لَا يَكُونُ السَّفِيه إِمَامَ التَّقِيِّ.(3)

ص: 247


1- الأنعام 86.
2- البقرة:124.
3- الكافي للكليني ج1 ص 175 بَابُ طَبَقَاتِ الأَنْبِيَاءِ والرُّسُلِ والأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح2 ومثله وبسند آخر الحديث الرابع في نفس الباب.

لقد مر النبي إبراهيم (عليه السلام) بسلسلة من الاختبارات الصعبة والشاقة، من الرمي في النار، إلى ترك عياله بوادٍ غير ذي زرع، إلى ذبح ولده، وغيرها مما لا نعلمه، حتى وصل إلى مرتبة الإمامة.

وقد تقدم تصريح الإمام الرضا (عليه السلام) بأفضلية الإمامة على النبوة، وأنها أعطيت للنبي إبراهيم (عليه السلام) بعد النبوة، فقال (عليه السلام): (إِنَّ الإِمَامَةَ خَصَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (عليه السلام) بَعْدَ النُّبُوَّةِ والْخُلَّةِ مَرْتَبَةً ثَالِثَةً وفَضِيلَةً شَرَّفَه بِهَا وأَشَادَ بِهَا ذِكْرَه فَقَالَ: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، فَقَالَ الْخَلِيلُ (عليه السلام) سُرُوراً بِهَا: (ومِنْ ذُرِّيَّتِي) قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، فَأَبْطَلَتْ هَذِه الآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ ثُمَّ أَكْرَمَه اللهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِه أَهْلِ الصَّفْوَةِ والطَّهَارَةِ...).(1)

فهذا شاهد على أن موقع الإمامة أفضل من موقع النبوة في حد نفسه.

وفي رواية أخرى تثبت أصل التفاضل بين الأولياء من جهة، وأفضلية موقع الإمامة على موقع النبوة من جهة أخرى، عن أبي عَبْدِ الله (عليه السلام): الأَنْبِيَاءُ والْمُرْسَلُونَ عَلَى أَرْبَعِ طَبَقَاتٍ:

فَنَبِيٌّ مُنَبَّأٌ فِي نَفْسِه لَا يَعْدُو غَيْرَهَا.

ونَبِيٌّ يَرَى فِي النَّوْمِ ويَسْمَعُ الصَّوْتَ ولَا يُعَايِنُه فِي الْيَقَظَةِ ولَمْ يُبْعَثْ إِلَى أَحَدٍ، وعَلَيْه إِمَامٌ، مِثْلُ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى لُوطٍ (عليهما السلام).

ص: 248


1- الكافي للكليني ج1 ص 198 – 202 بَابٌ نَادِرٌ جَامِعٌ فِي فَضْلِ الإِمَامِ وصِفَاتِه ح1.

ونَبِيٌّ يَرَى فِي مَنَامِه ويَسْمَعُ الصَّوْتَ ويُعَايِنُ الْمَلَكَ، وقَدْ أُرْسِلَ إِلَى طَائِفَةٍ، قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، كَيُونُسَ قَالَ الله تعالى لِيُونُسَ: (وأَرْسَلْناه إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قَالَ: يَزِيدُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفاً، وعَلَيْه إِمَامٌ.

والَّذِي يَرَى فِي نَوْمِه، ويَسْمَعُ الصَّوْتَ، ويُعَايِنُ فِي الْيَقَظَةِ، وهُوَ إِمَامٌ، مِثْلُ أُولِي الْعَزْمِ.

وقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) نَبِيّاً ولَيْسَ بِإِمَامٍ، حَتَّى قَالَ اللهُ تعالى: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ ومِنْ ذُرِّيَّتِي) فَقَالَ اللهُ تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، مَنْ عَبَدَ صَنَماً أَوْ وَثَناً لَا يَكُونُ إِمَاماً. (1)

الأمر الثالث: أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على سائر الأنبياء سوى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
اشارة

تقدمت الإشارة إلى أن هذه المعاني يمكن استكشافها من خلال النصوص، ويمكن الاستدلال على أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على سائر الأنبياء –عدا النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى- بعدة أدلة، بعضها يثبت أفضليتهم (عليهم السلام) عموماً، وبعضها يثبت أفضلية بعضهم (عليهم السلام)، وعلى كل حال، فمجموع ما سنذكره سيثبت المطلوب إن شاء الله تعالى.

الدليل الأول: ثبوت الإمامة الإلهية لهم (عليهم السلام)

ثبت في الأمر الثاني أن موقع الإمامة أعلى مرتبة من موقع النبوة.

ص: 249


1- الكافي للكليني ج1 ص 174 و 175 بَابُ طَبَقَاتِ الأَنْبِيَاءِ والرُّسُلِ والأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح1.

وقد ثبت أن موقع الإمامة الإلهية قد ثبت لأهل البيت (عليهم السلام) –وقد تقدمت الأدلة على ذلك في مبحث الإمامة الخاصة، فراجع-، فيكونون (عليهم السلام) أفضل من الأنبياء ممن لم يصلوا إلى مرتبة الإمامة.

أما أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) على سائر الأنبياء حتى ممن وصلوا إلى مرتبة الإمامة –ونؤكد: عدا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله-، فهو ما سيأتي بيانه في الأدلة اللاحقة.

الدليل الثاني: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)
اشارة

هذا الدليل يثبت أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) على سائر الأنبياء –عدا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)-، وهو مركب من مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو أفضل ما خلق الله تبارك وتعالى على الإطلاق

وهذا ما تثبته النصوص الكثيرة، من قبيل ما ورد من أنه (صلى الله عليه وآله) علة الوجود، ومن نوره خلق الوجود، فهو أفضل ما في الوجود الإمكاني.

فقد روي عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):- أول ما خلق الله نوري، ففتق منه نور علي، ثم خلق العرش واللوح والشمس وضوء النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة.(1)

وعن جابر بن عبد الله قال: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أول شيء خلق الله

ص: 250


1- بحار الأنوار ج 54 - ص 170.

تعالى ما هو؟

فقال: نور نبيك يا جابر، خلقه الله ثم خلق منه كل خير ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساماً، فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله، ثم جعله أقساماً فخلق القلم من قسم، واللوح من قسم، والجنة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثم جعله أجزاءً، فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء، والقمر والكواكب من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثم جعله أجزاء، فخلق العقل من جزء، والعلم والحلم من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله تعالى من أنفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين.(1)

ومن قبيل الأحاديث الكثيرة المصرحة بأفضليته (صلى الله عليه وآله) على الجميع، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: خلق الله عز وجل مائة ألف نبي و أربعة وعشرين ألف نبي، أنا أكرمهم على الله ولا فخر.(2)

وروي عنه (صلى الله عليه وآله): أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق

ص: 251


1- بحار الأنوار ج 25 - ص 21 – 22.
2- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 641 ح18، وبعده قوله (وخلق الله عز وجل مائة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي، فعلي أكرمهم على الله وأفضلهم).

عنه الأرض ولا فخر، وأول شافع ومشفع، لواء الحمد بيدي يوم القيامة، تحتي آدم فمن دونه.(1)

وفي حديث المعراج قال (صلى الله عليه وآله):...وإنه لما عرج بي إلى السماء أذن جبرئيل مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى، ثم قال لي تقدم يا محمد، فقلت له يا جبرئيل أتقدم عليك؟ فقال: نعم، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه على ملائكته أجمعين، وفضّلك خاصة. فتقدمت فصليت بهم ولا فخر، فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدم يا محمد، وتخلَّفَ عني، فقلت: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني؟ فقال: يا محمد، إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعدي حدود ربي جل جلاله، فزج بي في النور زجة حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله تعالى من علو ملكه...(2)

وغيرها من الأحاديث الكثيرة.

المقدمة الثانية: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)

وقد اختص بالكثير من المناقب والمراتب الكمالية معه دون جميع البشر، يدل على ذلك العديد من النصوص، من أهمها اختصاصه بالمؤاخاة مع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) دون سائر المسلمين، وقد روي عن جابر الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله)

ص: 252


1- كنز العمال - المتقي الهندي - ج 11 - ص 433 رقم (32033).
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 6 و 7. ب7 ح1وسيأتي تمام الحديث بعد قليل إن شاء الله تعالى.

قال له: أي الإخوان أفضل؟ قلت: النبيون، فقال (صلى الله عليه وآله): أنا أفضلهم، وأحب الإخوة إليّ علي بن أبي طالب، فهو عندي أفضل من الأنبياء، فمن قال: إنهم خير منه، فقد جعلني أقلَّهم؛ لأني اتخذته أخاً لما علمت من فضله، وأمرني ربي به.(1)

ومن ذلك كونه (عليه السلام) نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسب آية المباهلة، حيث قال تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(2)

قال الشيخ المفيد (قدس سره): فدعا الحسن والحسين (عليهما السلام) للمباهلة فكانا ابنيه في ظاهر اللفظ، ودعا فاطمة (سلام الله عليها) وكانت المعبر عنها بنسائه، ودعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان المحكوم له بأنه نفسه.

وقد علمنا أنه لم يرد بالنفس ما به قوام الجسد من الدم السائل والهواء ونحوه، ولم يرد نفس ذاته، إذ كان لا يصح دعاء الانسان نفسه إلى نفسه ولا إلى غيره، فلم يبق إلا أنه أراد (عليه وآله السلام) بالعبارة عن النفس إفادة العدل والمثل والنظير، ومن يحل منه في العز والاكرام والمودة والصيانة والإيثار والاعظام والاجلال محل ذاته عند الله سبحانه، فيما فرض عليه من الاعتقاد بها وألزمه العباد.

ص: 253


1- الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي النباطي البياضي ج1 ص 211 الفصل 18.
2- آل عمران 61.

ولو لم يدل من خارجٍ دليلٌ على أن النبي (صلى الله عليه وآله) أفضل من أمير المؤمنين (عليه السلام) لقضى هذا الاعتبار بالتساوي بينهما في الفضل والرتبة، ولكن الدليل أخرج ذلك، وبقي ما سواه بمقتضاه.(1)

ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق الله آدم سلك ذلك النور في صلبه، فلم يزل الله عز وجل ينقله من صلب إلى صلب حتى أقره في صلب عبد المطلب، ثم أخرجه من صلب عبد المطلب فقسمه قسمين، فصُيّر قسم في صلب عبد الله، وقسم في صلب أبي طالب، فعليٌّ مني وأنا من عليّ، لحمه من لحمي ودمه من دمي، فمن أحبني فبحبي أحبه، ومن أبغضه فببغضي أبغضه..(2)النتيجة:

بمقتضى أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أكرم الخلق أجمعين وأفضلهم، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو نفسه (صلى الله عليه وآله)، فيكون (عليه السلام) أفضل من الخلق أجمعين، عدا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

تكملة: في ذكر بعض النصوص الأخرى الدالة على أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام)
النص الأول

فقد روي عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْقَصْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ

ص: 254


1- تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) للشيخ المفيد (رحمه الله تعالى) ص 21 – 23.
2- الخصال للشيخ الصدوق ص 640 ح 16.

أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَتَيْتُكَ ولَمْ أَزُرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام).

قَالَ (عليه السلام): بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ شِيعَتِنَا مَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ!

ألَا تَزُورُ مَنْ يَزُورُه اللهُ تعالى مَعَ الْمَلَائِكَةِ، ويَزُورُه الأَنْبِيَاءُ، ويَزُورُه الْمُؤْمِنُونَ؟!

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ.

قَالَ (عليه السلام): اعْلَمْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَفْضَلُ عِنْدَ الله تعالى مِنَ الأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ، ولَه ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ، وعَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فُضِّلُوا.(1)

النص الثاني

عن سَعِيدٍ الأَعْرَجُ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وسُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، فَابْتَدَأَنَا فَقَالَ (عليه السلام):

يَا سُلَيْمَانُ، مَا جَاءَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يُؤْخَذُ بِه، ومَا نَهَى عَنْه يُنْتَهَى عَنْه، جَرَى لَه مِنَ الْفَضْلِ مَا جَرَى لِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، ولِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) الْفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ اللهُ(2)،

الْمُعَيِّبُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِه كَالْمُعَيِّبِ عَلَى الله عَزَّ وجَلَّ وعَلَى رَسُولِه (صلى الله عليه وآله)، والرَّادُّ عَلَيْه فِي صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بالله تعالى.

كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَابَ الله الَّذِي لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْه، وسَبِيلَه الَّذِي مَنْ

ص: 255


1- الكافي - الشيخ الكليني - ج 4 – ص 579 و 580 بَابُ فَضْلِ الزِّيَارَاتِ وثَوَابِهَا ح3.
2- جملة: (ولِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) الْفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ اللهُ) يُستفاد منها أمران: الأول: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو أفضل الخلق، حتى أمير المؤمنين (عليه السلام). الثاني: حيث إنه جرى لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما جرى له (صلى الله عليه وآله)، فيكون (عليه السلام) أفضل الخلق بعده (صلى الله عليه وآله).

سَلَكَ بِغَيْرِه هَلَكَ.

وبِذَلِكَ جَرَتِ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، جَعَلَهُمُ اللهُ أَرْكَانَ الأَرْضِ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، والْحُجَّةَ الْبَالِغَةَ عَلَى مَنْ فَوْقَ الأَرْضِ ومَنْ تَحْتَ الثَّرَى.

وقَالَ (عليه السلام): قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَنَا قَسِيمُ اللهِ بَيْنَ الْجَنَّةِ والنَّارِ، وأَنَا الْفَارُوقُ الأَكْبَرُ، وأَنَا صَاحِبُ الْعَصَا والْمِيسَمِ، ولَقَدْ أَقَرَّتْ لِي جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ والرُّوحُ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّتْ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، ولَقَدْ حُمِلْتُ عَلَى مِثْلِ حَمُولَةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، وهِيَ حَمُولَةُ الرَّبِّ، وإِنَّ مُحَمَّداً

(صلى الله عليه وآله) يُدْعَى فَيُكْسَى ويُسْتَنْطَقُ، وأُدْعَى فَأُكْسَى، وأُسْتَنْطَقُ فَأَنْطِقُ عَلَى حَدِّ مَنْطِقِه، ولَقَدْ أُعْطِيتُ خِصَالاً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: عُلِّمْتُ عِلْمَ الْمَنَايَا والْبَلَايَا والأَنْسَابَ وفَصْلَ الْخِطَابِ، فَلَمْ يَفُتْنِي مَا سَبَقَنِي، ولَمْ يَعْزُبْ عَنِّي مَا غَابَ عَنِّي، أُبَشِّرُ بِإِذْنِ الله، وأُؤَدِّي عَنِ الله عَزَّ وجَلَّ، كُلُّ ذَلِكَ مَكَّنَنِيَ اللهُ فِيه بِإِذْنِه(1).(2)

النص الثالث

عن حبة العرني عن أمير المؤمنين علي بن أبي الطالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا سيد الأولين والآخرين، وأنت يا علي سيد الخلائق بعدي، وأولنا كآخرنا، وآخرنا كأولنا.(3)

ص: 256


1- وهذه العبارة الأخيرة تنفي الغلو في مقامات أمير المؤمنين (عليه السلام) المذكورة، فإنها كلها بإذن الله تبارك وتعالى بتمكين منه جل وعلا.
2- الكافي للكليني ج1 ص197 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ هُمْ أَرْكَانُ الأَرْضِ ح2.
3- مائة منقبة لمحمد بن أحمد بن علي بن الحسن القمي (ابن شاذان) ص 18 المنقبة الأولى.
النص الرابع

عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: قَالَ قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): (قُلْ كَفى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِنْدَه عِلْمُ الْكِتابِ) قَالَ (عليه السلام): إِيَّانَا عَنَى، وعَلِيٌّ أَوَّلُنَا وأَفْضَلُنَا وخَيْرُنَا بَعْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله).(1)

الدليل الثالث: روايات أخذ الإقرار من الأنبياء بولاية أهل البيت (عليهم السلام)

وهو ما تشهد به الأحاديث الشريفة، التي تحكي توقف نبوة الأنبياء على الإقرار بنبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، وفي بعضها تمني بعض الأنبياء أن يكون من أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، والروايات في هذا المجال كثيرة، وقد عقد الصفار في كتابه بصائر الدرجات باباً في ذلك ذكر فيه تسعة أحاديث، منها ما عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ما من نبي نُبّئ، ولا من رسول أُرسل إلا بولايتنا وبفضلنا عمن سوانا.(2)

وعقد باباً آخر أسماه: (باب ما خص الله به الأئمة من آل محمد (صلوات الله عليهم) من ولاية الأنبياء لهم في الميثاق وغيره وما أعلموا من ذلك)، وذكر فيه تسعة أحاديث أخرى، ومنها ما عن حذيفة بن أسيد الغفار قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما تكاملت النبوة لنبي في الأظلة حتى عُرضت عليه

ص: 257


1- الكافي للكليني ج1 ص 229 بَابُ أَنَّه لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ كُلَّه إِلَّا الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) وأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ عِلْمَه كُلَّه ح6.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار – الباب (9) باب آخر في الولاية الأئمة (عليهم السلام) ص 94ح5.

ولايتي وولاية أهل بيتي ومُثّلوا له، فأقروا بطاعتهم وولايتهم.(1)

وفي باب ثالث أسماه (باب ما خص الله به الأئمة من آل محمد (عليهم السلام) من ولاية أولى العزم لهم في الميثاق وغيره) ذكر فيه ثمانية أحاديث في هذا الشأن، ومنها ما عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في حديث:... ثم قال (تعالى): ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غافلين. قال (عليه السلام): ثم أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم؟ ثم قال: وإن هذا محمدٌ رسول الله وإن هذا على أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى. فثبتت لهم النبوة وأُخِذَ الميثاق على أولي العزم: ألا إني ربكم، ومحمد رسولي، وعلي أمير المؤمنين، وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي، وأن المهدي انتصر به لديني وأُظهر به دولتي، وأنتقم به من أعدائي، وأُعبد به طوعاً وكرهاً، قالوا: أقررنا وشهدنا يا رب...(2)

وعن أبي بصير عن أحدهما (صلوات الله عليهما) قال: لما كان من أمر موسى الذي كان أعطي مكتلا فيه حوت مالح فقيل له: هذا يدلك على صاحبك عند عين لا يصيب منها شيء إلا حيّ فانطلقا حتى بلغا الصخرة وجاوزا ثم قال لفتاه: آتنا غداءنا، فقال: الحوت اتخذ في البحر سربا، فاقتصا الأثر حتى أتيا صاحبهما في جزيرة في كساء جالساً، فسلم عليه وأجاب

ص: 258


1- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - باب ما خص الله به الأئمة من آل محمد (صلوات الله عليهم) من ولاية الأنبياء لهم في الميثاق وغيره وما أعلموا من ذلك ص 93 ح7.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - باب ما خص الله به الأئمة من آل محمد (عليهم السلام) من ولاية أولى العزم لهم في الميثاق وغيره ص 90 ح 2.

وتعجب وهو بأرض ليس بها سلام. فقال: من أنت؟ قال: موسى، فقال: ابن عمران الذي كلمه الله تعالى؟ قال: نعم. قال: فما جاء بك؟ قال: أتيتك على أن تعلمني، قال: إني وُكّلْتُ بأمر لا تطيقه، فحدَّثه عن آل محمد وعن بلائهم وعما يصيبهم، حتى اشتد بكاؤهما، وذكر له فضل محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، وما أُعطوا وما ابتُلوا به، فجعل يقول: يا ليتني من أمة محمد (صلى الله عليه وآله).(1)

الدليل الرابع: صلاة النبي عيسى (عليه السلام) خلف الإمام المهدي (عجل الله فرجه)
اشارة

وهذا من الأمور التي اتفقت عليها كلمة المسلمين، فمن رواياتنا ما روي عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:... ثم يظهره الله (عز وجل) فيفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، وينزل روح الله عيسى بن مريم (عليه السلام) فيصلي خلفه، وتشرق الأرض بنور ربها، ولا تبقى في الأرض بقعة عبد فيها غير الله (عز وجل) إلا عبد الله فيها، ويكون الدين كله لله ولو كره المشركون.(2)

ومن روايات العامة:

ما رووه في حديث عثمان بن أبي العاص:...وينزل عيسى بن مريم (عليه السلام) عند صلاة الفجر فيقول له أميرهم: روح الله تقدم صلّ، فيقول: هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض، فيتقدم أميرهم فيصلي...(3)

ص: 259


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 26 - ص 283 – 284.
2- كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 345 - 346 الباب 33 الحديث 31.
3- مستد أحمد بن حنبل ج4 ص 216.

وجاءَ في صحيحِ البخاريّ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله]: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ».(1)

وفي مُسندِ أحمدَ:...فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، فَتُقَامُ الصَّلَاةُ، فَيُقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللهِ، فَيَقُولُ: لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ...(2)

وهنا ملحوظتان:

1/هذا الدليل وإن كان يثبت أفضلية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) بالخصوص على النبي عيسى (عليه السلام)، ولكن بضميمة ما دل على أفضلية أهل الكساء الخمسة (عليهم السلام) على الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، ينتج أفضليتهم بالأولوية على النبي عيسى (عليه السلام).

2/ ثبوت هذه الأفضلية يثبت الأفضلية أيضاً على سائر الأنبياء والمرسلين، إذ إن النبي عيسى (عليه السلام) من أولي العزم، وهو أفضل من غيره من الأنبياء والمرسلين -غير أولي العزم على الأقل-، وبالتالي فمن هم أفضل منه (عليه السلام) لا شك أنهم أفضل منهم (عليهم السلام).

تكملة: نصوص أخرى تدل على أفضليتهم (عليهم السلام)
النص الأول

عن بن بزيع عن بن ظبيان في رواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال آدم (صلوات الله عليه) لولده هبة الله: يا بني، وقفت بين يدي الله جل جلاله

ص: 260


1- صحيحُ البخاري ج4 ص 143 وصحيح مسلم ج1 ص 94 كتابُ الإيمانِ- بابُ بيان نزولِ عيسَى (عليهِ السّلامُ)، و مسندُ أحمد ج2 ص 336
2- مسند أحمد ج3 ص 368.

فنظرت إلى سطر على وجه العرش مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، محمد وآل محمد خيرُ من برأ الله.(1)

النص الثاني

روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كان فيما ناجى الله تعالى به النبي موسى (عليه السلام) أن قال له: يا موسى، لا أقبل الصلاة إلا ممن تواضع لعظمتي، وألزم قلبه خوفي، وقطع نهاره بذكري، ولم يبت مصرا على الخطيئة، وعرف حق أوليائي وأحبائي.

فقال موسى: رب تعني بأحبائك وأوليائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب؟

فقال عز وجل: هم كذلك يا موسى، إلا أنني أردت مَنْ مِنْ أجْلِه خلقت آدم وحواء، ومَنْ مِنْ أجْلِه خلقت الجنة والنار.

فقال موسى: ومن هو، يا رب؟

قال: محمد أحمد شققت اسمه من اسمي لأني أنا المحمود.

فقال موسى: يا رب اجعلني من أمته.

قال: أنت -يا موسى- من أمته إذا عرفته وعرفت منزلته ومنزلة أهل بيته، إن مثله ومثل أهل بيته فيمن خلقت، كمثل الفردوس في الجنان، لا ييبس ورقها ولا يتغير طعمها، فمن عرفهم وعرف حقهم جعلت له عند الجهل حلماً، وعند الظلمة نوراً، أُجيبُه قبل أن يدعوني، وأعطيه قبل أن

ص: 261


1- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 26 - ص 282 – 283.

يسألني...(1)

النص الثالث

عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما خلق الله عز وجل خلقا أفضل مني، ولا أكرم عليه مني.

قال علي صلوات الله عليه: فقلت: يا رسول الله، فأنت أفضل أو جبرئيل؟

فقال: يا علي إن الله تعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من ولدك، وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا.

يا علي الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا.

يا علي، لولا نحن ما خلق الله تعالى آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأن أول ما خلق الله عز وجل: خلق أرواحنا، فأنطقنا بتوحيده وتحميده، ثم خلق الملائكة.

فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظموا أمرنا، فسبّحْنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون، وأنه تعالى منزه عن صفاتنا، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا.

ص: 262


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 764 و 765 ح 1028 / 2.

فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأنا عبيد لسنا بآلهة يجب أن يعبد معه، أو دونه، فقالوا: لا إله إلا الله.

فلما شاهدوا كِبَر محلِّنا كبّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به.

فلما شاهدوا ما جعله لنا من العزة والقوة، قلنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله.فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة، قلنا: (الحمد لله) لتعلم الملائكة ما يحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمته (نعمه - خ ل)، فقالت الملائكة: الحمد لله، فَبِنَا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده.

ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا وإكراما، وكان سجودهم لله عز وجل عبودية، ولآدم إكراما وطاعة لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون؟

وإنه لما عرج بي إلى السماء أذن جبرئيل مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى، ثم قال لي: تقدم يا محمد، فقلت له: يا جبرائيل أتقدم عليك؟ فقال: نعم، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه على ملائكته أجمعين، وفضلك خاصة، فتقدمت فصليت بهم ولا فخر.

ص: 263

فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدم يا محمد، وتخلف عني، فقلت: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني؟ فقال: يا محمد إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعدي حدود ربي جل جلاله. فزخ بي في النور زخة حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله من علو ملكه، فنوديت: يا محمد، فقلت: لبيك ربي وسعديك، تباركت وتعاليت. فنوديت: يا محمد أنت عبدي وأنا ربك، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فإنك نوري في عبادي، ورسولي إلى خلقي، وحجتي على بريتي، لك ولمن اتبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري، ولأوصيائك أوجبت كرامتي، ولشيعتهم أوجبت ثوابي.

فقلت: يا رب، ومن أوصيائي؟ فنوديت: يا محمد أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي، فنظرت - وأنا بين يدي ربي جل جلاله - إلى ساق العرش، فرأيت اثني عشر نورا في كل نور سطر أخضر عليه اسم وصي من أوصيائي، أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم مهدي أمتي.

فقلت: يا رب هؤلاء أوصيائي من بعدي؟ فنوديت: يا محمد هؤلاء أوليائي وأوصيائي وأصفيائي وحجتي (حججي - خ ل) بعدك على بريتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك، وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني، ولأعلين بهم كلمتي، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأمكننه (ولأملّكنّه - خ ل) مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخّرنَّ له الرياح، ولأذللِّنَّ له السحاب الصعاب، ولأرقِّينَّه في الأسباب، فلأنصرنّه بجندي، ولأمدنّه

ص: 264

بملائكتي، حتى تعلو دعوتي، وتجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمنّ ملكه، ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة.(1)

النص الرابع

عن المحمدي سلمان (رضي الله عنه)، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله (تبارك وتعالى) لم يبعث نبياً ولا رسولاً إلا جعل له اثني عشر نقيباً. فقلت: يا رسول الله، لقد عرفت هذا من أهل الكتابين. فقال (صلى الله عليه وآله): يا سلمان: هل علمت من نقبائي ومن الاثنا عشر الذين اختارهم الله للأمة من بعدي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم.

فقال (صلى الله عليه وآله): يا سلمان، خلقني الله من صفوة نوره، ودعاني فأطعته، وخلق من نوري علياً، ودعاه فأطاعه، وخلق من نور علي فاطمة، ودعاها فأطاعته، وخلق مني ومن علي وفاطمة: الحسن، ودعاه فأطاعه، وخلق مني ومن علي وفاطمة: الحسين، فدعاه فأطاعه.

ثم سمّانا بخمسة أسماء من أسمائه، فالله المحمود وأنا محمد، والله العلي وهذا علي، والله الفاطر وهذه فاطمة، والله ذو الاحسان وهذا الحسن، والله المحسن وهذا الحسين.

ثم خلق منا ومن نور الحسين، تسعة أئمة، فدعاهم فأطاعوه، قبل أن يخلق سماء مبنية، وأرضاً مدحية، ولا ملكاً ولا بشراً، وكنا نوراً نسبح الله، ونسمع له ونطيع.

ص: 265


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 254 – 256 ب 24 ح4.

قال سلمان: فقلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فما لمن عرف هؤلاء؟ فقال (صلى الله عليه وآله): يا سلمان، من عرفهم حق معرفتهم، واقتدى بهم، ووالى وليهم، وتبرأ من عدوهم، فهو والله منا، يردُ حيث نرد، ويسكنُ حيث نسكن...(1)

وعلى كل حال، فالروايات في هذا المعنى كثيرة، وقد عقد العلامة المجلسي (رحمه الله تعالى) باباً في بحاره بعنوان (باب تفضيلهم عليهم السلام على الأنبياء وعلى جميع الخلق وأخذ ميثاقهم عنهم وعن الملائكة وعن سائر الخلق، وان أولي العزم إنما صاروا أولى العزم بحبهم صلوات الله عليهم) وذكر فيه ثمانية وثمانين حديثاً يُستفاد منها ذلك.(2)

الأمر الرابع: أفضلية الزهراء (صلوات الله عليها) على جميع من عدا أبيها وبعلها (صلوات الله عليهما)
اشارة

ويدل عليه أدلة عديدة، نذكر منها التالي:

الدليل الأول: ما دلّ على أنّها (عليها السلام) كفؤ لأمير المؤمنين (عليه السلام)

الدليل الأول: ما دلّ على أنّها (عليها السلام) كفؤ لأمير المؤمنين (عليه السلام)(3).

فقد روي أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو لم يخلق الله عليَّ بنِ أبي طالب، لما كان لفاطمة كفو.(4)

وعن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لفاطمة (عليها السلام) تسعة

ص: 266


1- دلائل الإمامة للطبري الشيعي ص 447 – 449 ح 424 / 28.
2- انظر: بحار الأنوار ج26 ص 267 – 319.
3- مع حفظ فوراق الولاية الكبرى لأمير المؤمنين (عليه السلام).
4- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص 146.

أسماء عند الله عز وجل: فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية، والمرضية، والمحدثة، والزهراء.

ثم قال (عليه السلام): أتدري أي شيء تفسير فاطمة؟ قلت: أخبرني يا سيدي، قال (عليه السلام): فُطمت من الشر. قال: ثم قال (عليه السلام): لولا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تزوجها، لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض، آدم فمن دونه.(1)

والكفؤ بمعنى المساوي والنظير(2)،

وحيث إن أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ففاطمة (عليها السلام) كذلك.

وهذا الوجه يثبت أفضليتها حتى على الأنبياء السابقين كما هو واضح.

الدليل الثاني: ما دلّ على أنّها (عليها السلام) بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)

بل ما دل على أنها روحه التي بين جنبيه، فإنه وبلا شك يدل على أفضليتها، كون من هي جزء منه، أو من هي روحه، هو أفضل الخلق أجمعين.

فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أمَّا ابنَتي فاطِمَةُ فَإِنَّها سَيِّدَةُ نِساءِ العالَمينَ مِنَ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، وهيَ بَضعَةٌ مِنّي، وهيَ نورُ عَيني، وهيَ ثَمَرَةُ فُؤادي، وهيَ روحيَ الَّتي بَينَ جَنبَيَّ، وهيَ الحَوراءُ الإِنسيَّةُ مِنّي، قامَت فِي مِحرابِها بَينَ يَدَي رَبِّها جَلَّ جَلالُهُ ظَهَرَ نورُها لِمَلائِكَةِ السَّماءِ كَما يَظهَرُ نورُ الكَواكِبِ لأَِهلِ الأَرضِ، ويَقولُ اللهُ عزّوجلّ لِمَلائِكَتِهِ: يا مَلائِكَتي انظُروا إلى أمَتي فاطِمَةَ

ص: 267


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 414 ح3.
2- انظر: الصحاح للجوهري ج1 ص 68 والمخصص لابن سيده ج3 ق 3 (السفر الثاني عشر) س 156.

سَيِّدَةِ إمائي قائِمَةً بَينَ يَدَيَّ تَرتَعِدُ فَرائِصُها مِن خيفَتي وقَد أقبَلَت بِقَلبِها عَلى عِبادَتي، أُشهِدُكُم أنّي قد أمِنتُ شيعَتَها مِنَ النّارِ...(1)

نعم، بضميمة ما تقدم من تصريح الرسول (صلى الله عليه وآله) بأفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلا تكون هي (عليها السلام) أفضل منه (عليه السلام)، وإن كان يظهر من بعض النصوص والأقوال مساواتها (عليها السلام) له (عليه السلام).

الدليل الثالث: ما يدل على حجيتها (عليها السلام) على أولادها المعصومين (عليهم السلام)

هناك ما يشير إلى أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يعتمدون على بعض ما ورثوه عن أمهم الزهراء (عليها السلام)، مما يعني أنها (عليها السلام) حجة عليهم (عليهم السلام) في ذلك، وهذا يدل على أفضليتها (عليها السلام) عليهم وعلى من عداهم.

ومن ذلك ما روي في نظرهم (عليهم السلام) في المصحف الذي سُمّي بمصف فاطمة (عليها السلام)، فقد روي عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ:

تَظْهَرُ الزَّنَادِقَةُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وعِشْرِينَ ومِائَةٍ، وذَلِكَ أَنِّي نَظَرْتُ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام). قَالَ: قُلْتُ: ومَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟ قَالَ (عليه السلام): إِنَّ الله تَعَالَى لَمَّا قَبَضَ نَبِيَّه (صلى الله عليه وآله)، دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) مِنْ وَفَاتِه مِنَ الْحُزْنِ مَا لَا يَعْلَمُه إِلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فَأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي غَمَّهَا ويُحَدِّثُهَا، فَشَكَتْ(2) (عليها السلام) ذَلِكَ إِلَى

ص: 268


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 175 و 176 ح 178 / 2.
2- لعل (شكت) بمعنى أخبرت أو ذكرت ذلك لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ويؤيده أن ما بعده صرّح بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) أخذ يكتب ما يسمعه من الملك، وهو يتناسب مع الإخبار لا الشكوى.

أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ (عليها السلام): إِذَا أَحْسَسْتِ بِذَلِكِ وسَمِعْتِ الصَّوْتَ قُولِي لِي. فَأَعْلَمَتْه بِذَلِكَ، فَجَعَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، حَتَّى أَثْبَتَ مِنْ ذَلِكَ مُصْحَفاً.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): أَمَا إِنَّه لَيْسَ فِيه شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالَ والْحَرَامِ، ولَكِنْ فِيه عِلْمُ مَا يَكُونُ.(1)

الدليل الرابع: أنها (عليها السلام) واسطة في الفيض، وعلة متوسطة للخلق

نحن نؤمن بأن الخالق والعلة المستقلة هو الله تبارك وتعالى فقط، ولكن هذا لا يمنع من أن يجعل الله تعالى عللاً متوسطة بينه وبين الناتج النهائي، وهو نوع من التفويض الذي يكون بإذنه تعالى، وهو لا مانع منه، فإن الماء هو الذي يروي العطش، لكن بإذن تبارك وتعالى، وهكذا مثلاً الوالدان هما علة في وجود الولد، لكنهما علة ناقصة، ولا بد فيها من إذن الله تبارك وتعالى، وهكذا.

وقد أشارت بعض الروايات الشريفة أن أهل البيت (عليهم السلام) عموماً كانوا واسطة في الفيض وفي وجود هذا العالم، وقد دلت النصوص على ان الزهراء (عليها السلام) هي من العلل المتوسطة الأولى للوجود، والعلة أفضل من المعلول بلا أدنى شك.

إن تلك النصوص تدل على أن الزهراء (عليها السلام) مع أبيها وبعلها (عليهما السلام) هم

ص: 269


1- الكافي للكليني ج1 ص 240 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الصَّحِيفَةِ والْجَفْرِ والْجَامِعَةِ ومُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) ح2. وقد ذكر الشيخ رحمه الله عدة روايات في مصحفها (عليها السلام).

أول العلل للوجود بإذن الله تبارك وتعالى، أو بتعبير الروايات: أن أنوارهم كانت أولى الأنوار، ومنها خلق الله تعالى أو أخرج بقية الأنوار لأهل البيت (عليهم السلام).

ومن تلك الروايات ما ورد في بيان تسميتها بالزهراء (عليها السلام)، إذ روي عن جابر، عن أبي

عبد الله (عليه السلام): قال: قلت: لم سميت فاطمة الزهراء زهراء؟ فقال (عليه السلام): لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها، وغشيت أبصار الملائكة، وخرت الملائكة لله ساجدين، وقالوا: إلهنا وسيدنا، ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري، وأسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي أخرجه من صلب نبي من أنبيائي، أفضله على جميع الأنبياء وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري، يهدون إلى حقي، وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي.(1)

وقد تقدمت رواية سلمان المحمدي التي تدل على هذا المعنى أيضاً.

الأمر الخامس: أفضلية الإمامين الحسنين (عليهما السلام)
اشارة

هناك نصوص دلت على أفضلية الإمامين الحسنين (عليهما السلام) على ما عدا الرسول الأكرم وأمير المؤمنين والزهراء البتول (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومنها التالي:

ص: 270


1- الإمامة والتبصرة لعلي بن بابويه القمي ص 133 ح 144.
النص الأول

ما روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما.(1)

وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وأمُّهما أفضل نساء أهل الأرض.(2)

تنبيه: من هو الأفضل: الحسن أو الحسين (عليهما السلام)؟

النصوص في هذا المجال مختلفة، ولكن تظهر أفضلية الإمام الحسن (عليه السلام) من جهة كونه الأكبر سناً، كما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:... فَلَمَّا مَضَى عَلِيٌّ (عليه السلام) كَانَ الْحَسَنُ (عليه السلام) أَوْلَى بِهَا لِكِبَرِه...(3)

بل نصت بعض الروايات على ذلك، وأن كون التسعة المعصومين (عليهم السلام) من ذرية الإمام الحسين (عليه السلام) وإن كانت خصوصية له (عليه السلام)، لكنها لا تجعله أفضل من الإمام الحسن (عليه السلام)، فقد روي عن هشام بن سالم قال: قلت للصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): الحسن أفضل أم الحسين (عليهما السلام)؟ فقال (عليه السلام): الحسن (عليه السلام) أفضل من الحسين (عليه السلام). [ قال: ] قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد الحسين (عليه السلام) في عقبه دون ولد الحسن (عليه السلام)؟ فقال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أحب أن يجعل سنة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين (عليهما السلام)، ألا

ص: 271


1- قرب الأسناد للحميري القمي ص 111 ح 386.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 67 ح252.
3- الكافي للكليني ج1 ص 287 بَابُ مَا نَصَّ الله عَزَّ وجَلَّ ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً فَوَاحِداً- ح1.

ترى أنهما كانا شريكين في النبوة كما كان الحسن والحسين (عليهما السلام) شريكين في الإمامة، وإن الله عز وجل جعل النبوة في ولد هارون (عليه السلام) ولم يجعلها في ولد موسى (عليه السلام) وإن كان موسى (عليه السلام) أفضل من هارون (عليه السلام)، قلت: فهل يكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا إلا أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه، والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه، فأما أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد فلا.

قلت: فهل تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام؟ قال (عليه السلام): لا إنما هي جارية في عقب الحسين عليه السلام كما قال الله عز وجل: (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ)(1)ثم

هي جارية في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة.(2)

وعلى كل حال، فليس من الضروري أن نجزم بشيء في هذه المفردة، ويكفينا أن نذكر الروايات في هذا المجال.

الأمر السادس: أفضلية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) على الأئمة من ولد الإمام الحسين (عليهم السلام)
اشارة

ويدل على ذلك العديد من النصوص، من قبيل:

النص الأول

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «... واختار من الحسين الأوصياء، يمنعون عن التنزيل تحريف الضالّين وانتحال المبطلين وتأول الجاهلين، تاسعهم باطنهم

ص: 272


1- الزخرف 28.
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 416 و 417 ب 40 ح9.

ظاهرهم قائمهم وهو أفضلهم»(1)،

فهذه الرواية صرَّحت بأنَّ التاسع من ولد الإمام الحسين (عليه السلام) هو أفضل أُولئك التسعة.

النص الثاني

عن سلمان، قال: كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحسين بن علي (عليهما السلام) علىٰ فخذه، إذ تفرَّس في وجهه وقال: «يا أبا عبد الله، أنت سيّد من سادة، وأنت إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمَّة تسعة، تاسعهم قائمهم إمامهم أعلمهم أحكمهم أفضلهم»(2).

وأمَّا الأئمَّة الثمانية (عليهم السلام)، فالظاهر من عدَّة روايات أنَّهم متساوون، مثل ما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «...واختار من صلبك يا حسين تسعة، تاسعهم قائمهم، وكلّهم في المنزلة والفضل عند الله واحد»(3).

وأفضلية المهدي (عليه السلام) هو مقتضىٰ الروايات المتقدّمة، فتكون تلك الروايات مخصِّصة لعموم مثل هذه الرواية الأخيرة، بمعنى: ان الرواية الأخيرة وإن كان يظهر منها أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) هو متساوي الفضل مع أولاد الإمام المحسين (عليه السلام)، ولكن النصوص الأخرى دلت على أفضليته (عجل الله تعالى فرجه)، فتخصص عموم هذه الرواية، والناتج: أن التسعة المعصومين (عليهم السلام) كلهم في الفضل سواء، إلا الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) فهو أفضلهم.

ص: 273


1- المحتضر: 277.
2- مقتضب الأثر: 9؛ بحار الأنوار 36: 372.
3- دلائل الإمامة: 447/ ح (423/27).

وعلى كل حال، فإن كان ما ذكرناه من نصوص يصلح دليلاً على التفاضل بينهم (عليهم السلام) فبها، وإلا، فليست هي من المسائل التي يلزم الاعتقاد بها، فنحن يلزمنا الاعتقاد بهم (عليهم السلام) جميعاً، وهذا المقدار كافٍ لنجاتنا في الدنيا والآخرة.

تنبيه: ما يكون فيه أهل البيت (عليهم السلام) سواء
اشارة

ثبت من خلال النصوص العديدة، والتي ذكرنا بعضاً قليلاً منها هنا، أن الأئمة (عليهم السلام) يتفاضلون فيما بينهم بالمعنى الذي تقدم، وتنبغي الإشارة هنا إلى أن بعض النصوص أشارت إلى أنه رغم التفاضل الموجود بينهم (عليهم السلام)، إلا أنهم يتساوون في بعض المنازل.

وبعبارة أخرى: أن التفاضل بينهم (عليهم السلام) إنما هو عند الله تبارك وتعالى، وإنما بالنسبة لنا،

فلا بد أن يكون تعاملنا معهم (عليهم السلام) بالسوية في ما يتعلق بالمنازل التالية:

1/أنهم مجعولون من الله تعالى وبتنصيب مباشر منه، بلّغ به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

2/لزوم الإيمان بهم (عليهم السلام) جميعاً، وعدم جواز إنكار أي أحد منهم (عليهم السلام).

3/لزوم طاعتهم (عليهم السلام) جميعاً، وعدم جواز مخالفة أي أحد منهم.

4/أنهم (عليهم السلام) كلهم حجة على جميع العباد، في قولهم وفعلهم وتقريرهم.

5/أنهم (عليهم السلام) متساوون في علم الحلال والحرام، فكلهم (عليهم السلام) يعلم ذلك تماماً.

ص: 274

6/أن علمهم (عليهم السلام) لدني لا كسبي بالطرق المتعارفة من ريادة المدارس والمعلمين العاديين.

7/ أنهم (عليهم السلام) معصومون.

وفي كل ذلك نصت الروايات الشريفة على أن للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولأمير المؤمنين (عليه السلام) الفضل والزيادة.

والنصوص الدالة على ذلك عديدة، منها التالي:

النص الأول

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لولا أنا نزداد لأنفدنا، فقلت: تزدادون شيئاً ليس عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

فقال (عليه السلام): إذا كان ذلك أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره ثم أتى علياً (عليه السلام) فأخبره، ثم إلى واحد بعد واحد، حتى ينتهي إلى صاحب هذا الأمر.(1)

النص الثاني

عَنْ ذَرِيحٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الأَئِمَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)؟ فَقَالَ (عليه السلام): كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، إِمَاماً ثُمَّ كَانَ الْحَسَنُ (عليه السلام) إِمَاماً، ثُمَّ كَانَ الْحُسَيْنُ (عليه السلام) إِمَاماً، ثُمَّ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) إِمَاماً، ثُمَّ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام) إِمَاماً، مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَانَ كَمَنْ أَنْكَرَ مَعْرِفَةَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، ومَعْرِفَةَ رَسُولِه (صلى الله عليه وآله).

ص: 275


1- الاختصاص للشيخ المفيد ص 313، وقد ذكر الشيخ هنا عدة احاديث بهذا المعنى، فليراجع.

ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ فَأَعَدْتُهَا عَلَيْه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ (عليه السلام) لِي: إِنِّي إِنَّمَا حَدَّثْتُكَ لِتَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى فِي أَرْضِه.(1)

النص الثالث

عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ قَالَ: سَأَلْتُ الشَّيْخَ [يعني الإمام الكاظم (عليه السلام)] عَنِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام)؟

قَالَ (عليه السلام): مَنْ أَنْكَرَ وَاحِداً مِنَ الأَحْيَاءِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الأَمْوَاتَ.(2)

النص الرابع

عن مالك بن عطية قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الأئمة يتفاضلون؟

قال (عليه السلام): أما في الحلال والحرام فعلمهم فيه سواء، وهم يتفاضلون فيما سوى ذلك... (3)

النص الخامس

وعن أحمد بن عمر الحلبي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لا يستكمل عبد الإيمان حتى يعرف أنه يجري لآخرنا ما يجري لأولنا، وهم في الطاعة والحجة والحلال والحرام سواء، ولمحمد وأمير المؤمنين (عليهما السلام) فضلهما.(4)

ص: 276


1- الكافي للكليني ج1 ص 181 بَابُ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ والرَّدِّ إِلَيْه ح5.
2- الكافي للكليني ج1 ص 373 بَابُ مَنِ ادَّعَى الإِمَامَةَ ولَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ ومَنْ جَحَدَ الأَئِمَّةَ أَوْ بَعْضَهُمْ ومَنْ أَثْبَتَ الإِمَامَةَ لِمَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ- ح8.
3- الاختصاص للشيخ المفيد ص 268.
4- الاختصاص للشيخ المفيد ص 268.
النص السادس

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِير،ٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى (الَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

قَالَ (عليه السلام): (الَّذِينَ آمَنُوا) النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وذُرِّيَّتُه الأَئِمَّةُ والأَوْصِيَاءُ (صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ) أَلْحَقْنَا بِهِمْ ولَمْ نَنْقُصْ ذُرِّيَّتَهُمُ الْحُجَّةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) فِي عَلِيٍّ (عليه السلام)، وحُجَّتُهُمْ وَاحِدَةٌ وطَاعَتُهُمْ وَاحِدَةٌ.(1)

النص السابع

عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الكاظم (عليه السلام) قَالَ: قَالَ لِي: نَحْنُ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ سَوَاءٌ، وفِي الْعَطَايَا عَلَى قَدْرِ مَا نُؤْمَرُ.(2)

النص الثامن

عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): نَحْنُ فِي الأَمْرِ والْفَهْمِ والْحَلَالِ والْحَرَامِ نَجْرِي مَجْرًى وَاحِداً، فَأَمَّا رَسُولُ اللّه (صلى الله عليه وآله) وعَلِيٌّ (عليه السلام) فَلَهُمَا فَضْلُهُمَا.(3)

ص: 277


1- الكافي للكليني ج1 ص 275 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ والطَّاعَةِ سَوَاءٌ ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 275 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ والطَّاعَةِ سَوَاءٌ ح2.
3- الكافي للكليني ج1 ص 275 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ والشَّجَاعَةِ والطَّاعَةِ سَوَاءٌ ح3.

ص: 278

المقالة الثامنة: العصمة

قد يتخيل البعض أن القول بعصمة أهل البيت (عليهم السلام) -بالحد الذي ذكرناه في مبحث العصمة في فصل الإمامة- هو نوع من الغلو، وقد تبين أنه لا غلو، ما دامت العصمة هي بإذن الله تبارك وتعالى، وليس فيها خروج عن الطبيعية الإنسانية الممكنة، نعم، هي خروج عن المستوى العام للبشرية، أي إنها لا تكون إلا لخاصة الخاصة، ولكنها بالتالي بإذن الله تعالى، ولا مانع عقلياً ولا نقلياً منها.

ص: 279

ص: 280

المقالة التاسعة: العلم الخاص

وهو أيضاً قد يُتوهم حصول الغلو فيه، والجواب فيه نفس الجواب عما تقدم من المراتب العلمية الكمالية الوجودية، فما دام هو علماً بإفاضة من الله تبارك وتعالى، وبإذنه ورحمته وتحت قدرته، فلا مانع منه في حد نفسه، وهو مهما كان مطلقاً بالنسبة لباقي الممكنات، إلا أنه بالنسبة لله تبارك وتعالى يبقى علماً محدوداً ممكناً، وهم (عليهم السلام) فيه محتاجون إلى الباري جل وعلا ولا يستغنون عنه.

وبهذا الاعتبار لا غلو في علمهم مهما عظم.

ص: 281

ص: 282

المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام)
اشارة

المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام).(1)

قد يُقال: إن إثبات الولاية التكوينية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) هو نوع من الغلو فيهم، وحتى تتبين الحال نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولى: معنى الولاية التكوينية
اشارة

هي القدرة على التصرف في قوانين التكوين ونظام العالم.

أو قل: هي مرتبة كمالية مرتبطة بالقدرة على التصرف في شؤون العالم وسننه وقوانينه.

وبتعبير ثالث: (هي عبارة عن تسخير المكونات تحت إرادتهم (عليهم السلام) ومشيتهم بحول الله وقوته)(2)

وبتعبير رابع: عبارة عن تأثير مشية النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) في أمر كوني بمجردها [أي بمجرد المشيئة] أو مع فعل ما يكون ذلك التأثير، من قبيل

ص: 283


1- تقدم شيء من الكلام حول الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام) في مبحث الإمامة- الإمامة الخاصة: النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية)، وانظر أيضاً (التساؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى) في التساؤلات التي ذُكرت أواخر مباحث الإمامة.
2- كتاب المكاسب والبيع- تقرير بحث النائيني للآملي ج2 ص 332. ومصباح الهدى في شرح العروة الوثقى للشيخ محمد تقي الآملي ج10 ص 370.

خرق العادة كإحياء عيسى على نبينا (وآله وعليه الصلاة والسلام) وتفجير موسى (عليه السلام) العيون بضرب عصاه إلى غير ذلك.(1)

وقد صرح الكثير من علمائنا بأن ثبوتها للمعصومين (عليهم السلام) أمر مفروغ عنه، ونذكر من كلماتهم التالي:

الكلمة الأولى: للسيد الخوئي (قدس سره)

قال (قدس سره): أمّا الولاية التكوينية: فلا إشكال في ثبوتها وأنّ المخلوقات بأجمعها راجعة إليهم وإنّما خلقت لهم، ولهم القدرة على التصرف فيها وهم وسائط التكوين، ولعلّ ذلك بمكان من الوضوح ولا يحتاج إلى إطالة الكلام.(2)

وقال (قدس سره): في ولايتهم (عليهم السلام) التكوينية أما الجهة الأولى، فالظاهر أنه لا شبهة في ولايتهم على المخلوق بأجمعهم، كما يظهر من الأخبار، لكونهم واسطة في الايجاد، وبهم الوجود، وهم السبب في الخلق، إذ لولاهم لما خلق الناس كلهم، وإنما خلقوا لأجلهم، وبهم وجودهم، وهم الواسطة في الإفاضة، بل لهم الولاية التكوينية لما دون الخالق. فهذه الولاية نحو ولاية الله تعالى على الخلق ولاية إيجادية، وإن كانت هي ضعيفة بالنسبة إلى ولاية الله تعالى على الخلق.(3)

ص: 284


1- إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب للميرزا جواد التبريزي ج3 شرح ص 20.
2- التنقيح في شرح المكاسب – البيع (موسوعة السيد الخوئي) تقرير بحث السيد السيد الخوئي للغروي ج37 ص 157.
3- مصباح الفقاهة للسيد الخوئي ج3 ص 279 و 280.
الكلمة الثانية: للسيد الروحاني (قُدّس سره)

(الولاية التكوينية -أي ولاء التصرف التكويني- والمراد بها: كون زمام أمر العالم بأيديهم، ولهم السلطنة التامة على جميع الأمور بالتصرف فيها كيف ما شاءوا إعداماً وإيجاداً، وكون عالم الطبيعة منقادا لهم لا بنحو الاستقلال بل في طول قدرة الله تعالى وسلطنته واختياره، بمعنى أن الله تعالى أقدرهم وملكهم كما أقدرنا على الأفعال الاختيارية، وكل زمان سلب عنهم القدرة بل لم يفضها عليهم انعدمت قدرتهم وسلطنتهم.

ومن هذا الباب معجزات الأنبياء والأولياء، وقد دل الكتاب الكريم على ثبوت ذلك لأشخاص، قال الله تعالى: (وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) وقال عز من قائل: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) وقال سبحانه: (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة لثبوت ولاء التصرف لأشخاص.

وإذا ثبت ذلك لهؤلاء فثبوته للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وخليفته الذي عنده علم الكتاب بنص القرآن لا يحتاج إلى بيان، وعليه فالروايات المتواترة المتضمنة للمعجزات والكرامات الصادرة على المعصومين عليهم السلام - كالتصرف الولائي في النقش وصيرورته أسداً مفترساً وما شاكل - إنما نلتزم بها ونعتقد من غير

ص: 285

التزام بالتأويل، كيف ونرى أنهم (عليهم السلام) بعد موتهم تصدر عنهم كرامات من ابراء المريض الذي عجز الأطباء عن ابرائه، وحل معضلات الأمور وما شاكل، وليس ذلك إلا لما ذكرناه.

ويمكن أن تكون الآية الكريمة: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ناظرة إلى ثبوت هذا المعنى من الولاية أيضا للنبي (صلى الله عليه وآله).

بالجملة: ثبوت الولاية بهذا المعنى للنبي والأئمة المعصومين - الذين يثبت لهم جميع ما يثبت للنبي (صلى الله عليه وآله) للروايات الكثيرة المتواترة - مما لا ينبغي التوقف فيه.

وأما شبهة استلزام ذلك للشرك، فهي تندفع بأنا لا ندّعي ثبوت ذلك لهم بالاستقلال، بل إن الله تبارك وتعالى ملّكهم وأقدرهم كما ملّكنا وأقدرنا على الأفعال الاختيارية، وبه يظهر أن لا ينافيه قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا) فإن المراد عدم الملكية بالاستقلال.)(1)

الكلمة الثالثة: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله)

المراد من الولاية التكوينية، فهي: قدرة الإنسان على التصرف في عالم الخلق والتكوين بأمر اللهِ تعالى وإذنه، والإتيان بأفعال خارقة للعادة والنواميس الطبيعية لعالم الأسباب، فمثلًا يبرئ المريض الذي لا علاج له بإذن الله، وذلك من خلال الهيمنة والنفوذ الذي وهبه الله تعالى له، أو يحيي

ص: 286


1- فقه الصادق (عليه السلام) للسيد محمد صادق الروحاني ج16 شرح ص 153 إلى ص 155.

الموتى، وأعمال اخرى من هذا القبيل، وكل أشكال التصرف المعنوي غير الاعتيادي في أرواح وأجسام البشر، وهذا النوع يشمل الطبيعة أيضاً.(1)

ومن هذا كله نخلص إلى التالي:

أولاً: أن الولاية التكوينية هي من توابع صفة القدرة، لا العلم، وإن كان للعلم مدخلية معينة في ثبوتها.

ثانياً: أنها لا تكون إلا بإذن الله تبارك وتعالى.

ثالثاً: أن الولي فيها يهيمن على الكون ومجرياته، بحيث يتمكن من التصرف في قوانينه وسننه.

رابعاً: أن القرآن الكريم أثبتها للعديد من الأنبياء بصريح آياته، وبالتالي فالوقوع أدلّ دليل على الإمكان.

خامساً: أن ثبوتها للمعصومين (عليهم السلام) أمر مفروغ عنه.

النقطة الثانية: مراتب الولاية التكوينية
اشارة

نعرض هذه المراتب بطريقتين:

الطريقة الأولى: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله تعالى)

ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي أن الولاية التكوينية لها أربع حالات، هي في الحقيقة مراتب لها، فقال ما نصه(2):

ص: 287


1- نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج9 ص 121.
2- انظر: نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج9 ص 121و 122.

1- «الولاية في أمر الخلقة وخلق العالم»: بمعنى أنّ الله تبارك وتعالى يمنح عبداً من عباده أو ملكاً من ملائكته قدرة خلق العوالم أو محوها من الوجود، ومن المسلَّم به أنّ هذا الأمر ليس مستحيلًا، لأنّ الله على كل شيء قدير وقادرٌ على منح أي نحو من القدرة لأي إنسان، بَيدَ أنّ آيات القرآن تؤكّد في كل المواضع على أنّ خلق عالم الوجود والسموات والأرضين والجن والإنس والملائكة والنباتات والحيوانات والجبال والبحار قد حصل بقدرة الله جلّ وعلا، لا عن طريق عباده الخاصين أو ملائكته، لذا فقد نسب الخلق إليه في جميع الأحوال، ولم ينسب هذا الأمر إلى غيره «بنحو واسع» في أي موضع أبداً، وعليه فإنّ خالق السموات والأرضين والنبات والحيوان والإنسان هو الله وحده.

2- «الولاية التكوينية في ايصال الفيض»: بمعنى أنّ كل إمداد ورحمة وبركة وقدرة من قبل الله تعالى تصل إلى عباده أو سائر الكائنات في عالم الوجود بواسطة أولياء الله وخاصة عباده، كمياه الشرب بالنسبة للبيوت في مدينة ما، التي تمر من خلال الأنبوب الرئيس، وهذا الأنبوب الكبير يستلم المياه من مصدرها ويوصلها إلى جميع النقاط، ويعبر عنه ب «الواسطة في الفيض».

وهذا المعنى ليس محالًا أيضاً من الناحية العقلية، ويشاهد نموذجه في العالم الصغير، وبناء الإنسان، وتوزيع المواد الغذائية على الخلايا كافّة عن طريق شريان القلب، فما المانع من ذلك في العالم الكبير أيضاً؟

ص: 288

ولكن ممّا لا شك فيه أنّ إثباته بحاجة إلى دليل مقنع، وإذا ما ثبت فهو بإذن الله تعالى.

3- «ولاية تكوينية في حدود معينة»: كإحياء الموتى وشفاء المرضى الذين يستحيل علاجهم ونحو ذلك.

وقد وردت نماذج من هذا النوع من الولاية بشأن بعض الأنبياء في القرآن الكريم بصراحة... والروايات الإسلامية شاهد على ذلك أيضاً، من هنا فإنّ هذا الفرع من الولاية التكوينية ليس ممكناً من ناحية العقل فحسب، بل هنالك أدلة نقلية عليه أيضاً.

4- «الولاية التي تعني الدعاء من أجل تحقيق المطالب»: ويأتي ذلك بقدرة الله تعالى، فإنّ النبي (صلى الله عليه و آله) أو الإمام المعصوم يدعو فيتحقق ما طلبه من الله تعالى.

وهذا المعنى ليس فيه أي محذور عقلي ولا نقلي، وأنّ الآيات والروايات مليئة بنماذج منه، بل ربّما لا يمكن إطلاق اسم الولاية التكوينية عليه؛ لأنّ استجابة دعائه تأتي من قبل الله تعالى...

الطريقة الثانية
اشارة

الطريقة الثانية(1):

الولاية التكوينية ظاهرة وجودية حقيقة، تعني القدرة النفسية والمعنوية فوق المعدل العام، وهي ظاهرة مشككة لها درجات ومراتب كأي قدرة

ص: 289


1- أشار لهذه الطريقة سماحة السيد الأستاذ جعفر الحكيم (حفظه الله تعالى) في مجلس درسه في علم الكلام (الدرس (195) السبت 19 ذو القعدة 1441 ه /11 تموز 2020م)

أخرى، وقد ذكرت لها مراتب نمر عليها بشكل سريع:

المرتبة الأولى: معرفة الملكوت

وهي مرتبة يصل إليها الفرد من خلال التزام التقوى منهجاً عاماً في حياته، وهي نتيجة لتهذيب النفس والتعبد الخالص، وهي بوابة الرحلة التكاملية التي يسير فيها الإنسان نحو عالم الغيب والمعنى، تنتج أن يقفز بها الإنسان عن المعدل الطبيعي للناس.

وهو ما يشير إليه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(1)

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.)(2)

المرتبة الثانية: السلطة على النفس

بحيث يصير مصداقاً حقيقياً لحاكمية العقل على الهوى (الشهوة والغضب)، ليس مجرد كبحها فحسب، وإنما تحويلها إلى أدوات مطيعة، بحيث تتم برمجة كل قوى النفس لتكون قوى خير فاعلة، قيادها بيد العقل.

وهي ملاك العبودية الخالصة التي تفتح النفس إلى الوصول إلى المرات الكمالية العالية.

ص: 290


1- الأنفال 29
2- الأنعام 75
المرتبة الثالثة: السيطرة على البدن

إن النفس محتاجة إلى البدن في هذا العالم في فعلها، فهي وإن كانت مجردة ذاتا إلاّ أنها حبيسة البدن، لا تفعل شيئاً إلاّ من خلاله، وبهذا اللحاظ تكون هي التابعة للبدن، وهو معنى كونها مجردة ذاتاً مادية فعلاً.

ولكن حيث يترقى الإنسان في عوالم تهذيب النفس والتكامل، فإنه قد يصل إلى مرتبة تصبح عنده القدرة على السيطرة على البدن بحيث يجعله يعمل أعمالاً جسمانية خارقة بأمر النفس، كالمشي على الماء، أو على الهواء.

المرتبة الرابعة: التصرف في عالم الوجود

بحيث يدخل صاحبها في نظام الأسباب والمسببات في عالم الوجود، فيصل إلى حد الولاية المقطعية (إقامة المعجزة)، وقد يدخل في نظام السببية الفاعلية أو الغائية.

وسيتبين أن أهل البيت (عليهم السلام) قد وصلوا إلى أعلى مراتب الولاية التكوينية.

النقطة الثالثة: مؤهلات الولاية التكوينية
اشارة

بعد الفراغ عن وتسليم أن أفعاله جل وعلا معللة بالغايات، يقع السؤال عن المؤهلات التي يلزم توفرها في الولي التكويني، والتي بها يرتفع الجزاف والعبث عن إعطائه الإذن بالتصرف في عالم التكوين، والمؤهلات هي التالي:

ص: 291

المؤهل الأول: الإذن الإلهي

فإعطاء الولاية التكوينية لغير الباري جل وعلا إنما هو فعل إلهي، أي إنه بإذنه تعالى، وأي تصوير للولاية بدون إذنه جل وعلا فهو من الغلو الذي لا يقول به أحد من الشيعة.

وهذا المؤهل يرتكز على:

أ- نفي التفويض المطلق والمستقل عن الإذن الإلهي، وأنه تعالى ما زال قادراً على التصرف في مجريات الكون.

ب- أنه تعالى خلق العالم وفق قوانين خاصة لا يعلمها إلا هو، خاصة نظام العلة والمعلول.

ج- وأن له (تعالى) الحق في أن يُعلّم بعض مخلوقاته أنظمة تلك القوانين، أو قل: أن يجعل بعض مخلوقاته عالمة بقوانين العالم، وقادرة على التصرف فيه.

د- وينتج: أنه لا يحق لأي أحد بل لا يمكن أن يتصرف في تلك القوانين ما لم يأذن له الباري جل وعلا في ذلك، ويتم الإذن عملياً بإعطاء مفاتيح تلك القوانين بيد الولي، وبالتالي يمكنه أن يتصرف في تلك القوانين ومخرجاتها التكوينية.

الماء من طبيعته أنه يروي، ولكن ذلك باعتبار أن الله تعالى جعل فيه خاصية الإرواء، وإلا، فيمكن رفع هذه الخاصية منه، فلا يكون الماء مزيلاً للعطش.

ص: 292

النار من طبيعتها أنها محرقة، ولكنها إنما كانت كذلك بإذن الله تبارك وتعالى، وإلا، فلو أمرها لكانت برداً وسلاماً لا محرقة مهلكة.

المؤهل الثاني: العلم الخاص

لقد تبين أن العالم قد صُمّم بطريقة علمية دقيقة، وأن هناك قوانين تتحكم به من الذرة إلى المجرة، وبالتالي، فأي تغيير في مجريات ومخرجات قانون ما، لا يكون بطريقة عشوائية، وإلا لأنتج الدمار الشامل، ولا يكون أيضاً من دون علم، لأنه ربما أدى إلى نتائج غير منظّمة، وعشوائية، وقد تؤدي إلى كوارث كونية.

فالولي، الذي تُدعى له الولاية التكوينية، لا بد أن يكون عنده من العلم ما يتجاوز به الحدود الطبيعية للبشر، وهو الذي أهّله إلى أن يتصرف في قوانين العالم، من دون أن يؤدي ذلك إلى العشوائية ولا الكارثية ولا حتى خلاف الحكمة الإلهية والهدف من الخلقة.

وهذا ما يبرر عدم تفعيل المعصومين (عليهم السلام) لولايتهم التكوينية مع أعدائهم بالخصوص، أو في مجمل حياتهم الشريفة، فالملاحظ في حياتهم (عليهم السلام) أنهم كانوا يتصرفون وفق القانون الطبيعي لهذا العالم، ولم يقع منهم غيره من الخوارق إلا في حالات قليلة نسبياً قياساً إلى مجمل أفعالهم، وما ذلك إلا لأنهم لا يستخدمون قدراتهم تلك إلا في موضع الحكمة.

ص: 293

وفي الحقيقة، فإن هذا يتكئ على حقيقة أشرنا لها في بحث القدرة(1)،

من أنه ليس من ذاتيات القادر أن يُفعّل قدرته كلها لتثبت له، وإنما له أن يستخدم بعض قدرته، وله أن يترك أموراً يقدر عليها، ليس إلا لأن الحكمة تأبى الفعل وإن كان الفرد قادراً عليه، وهذه مسألة وجدانية.

النقطة الرابعة: مناشئ وجذور الولاية التكوينية
اشارة

ذكر العلماء عدة مناشئ تمثل الجذور الحقيقية لتمتع الولي المعصوم بالقدرة على التصرف في مجريات الكون، والملاحظ فيها: أنها على اختلافها ترجع إلى حقيقة واحدة، وهي: الإذن الإلهي وفق الحكمة اللا متناهية لشخص يتمتع بمؤهلات خاصة، ولزيادة التوضيح ننقّط ما ذكروه بالتالي:

أولاً: الإذن الإلهي الخاص

وقد عرفنا أن الإذن هو الوجه الجامع لكل ما قيل في الولاية التكوينية لأي موجود من الموجودات.

وهو ما قد يُعبر عنه بالتفويض الإلهي لبعض مخلوقاته في ذلك.

وفي الحقيقة، أن هذا الوجه:

1- في الوقت الذي يُثبت شرعية الولي في تصرفاته، وحكمتها.

2- هو أيضاً يُثبت التفاوت في الولاية التكوينية للأفراد والموجودات،

ص: 294


1- انظر بحث القدرة في الجزء الأول: النقطة الثالثة: خصائص القدرة الإلهية- الخصيصة الثالثة: إن القدرة محكومة للحكمة.

فإن الإذن ليست له مرتبة واحدة كما هو واضح.

3- وفي الوقت ذاته، فإن الإذن الإلهي يمثل عامل اطمئنان للمولّى عليهم، بأن هذا الولي، الذي لديه قدرات عالية جداً بحيث إنه يستطيع أن يتصرف في الكون وقوانينه، هو لن يستعمل قدرته تلك في ما يرجع على العباد بالضرر والشر، وإنما سيكون فعله تصرفه في الكون بما يتناسب مع المصلحة العامة للمخلوقات، وبما يتناسب مع الهدف النهائي الذي خلق الله تعالى من أجله العالم، ويتناسب أيضاً مع الحكمة الإلهية.

وعلى كل حال، يدل على هذا المنشأ للولاية التكوينية العديد من النصوص، من قبيل النصوص القرآنية التي صرّحت بأن ما كان يفعله النبي عيسى (عليه السلام) من أفعال خارقة وتصرفات في عالم التكوين إنما كان بإذن الله تبارك وتعالى، قال تعالى حكاية عن لسان عيسى (عليه السلام): (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(1)

ثانياً: العلم الخاص

الذي يكون لدى الولي، والذي يتمكن به من اكتشاف قوانين العالم، وبالتصرف بها بما يتناسب مع الحكمة الإلهية.

ص: 295


1- آل عمران 49.

ويدل على هذا الوجه ما جاء في القرآن الكريم من أن آصف بن برخيا تمكن من الإتيان بعرض بلقيس من مملكتها إلى سليمان النبي (عليه السلام) بأسرع من لمح البصر بسبب أن لديه علماً من الكتاب، قال تعالى: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(1)

ثالثاً: معرفة الاسم الأعظم
اشارة

فقد أشارت بعض النصوص الدينية إلى أن معرفة هذا الاسم الأعظم هي السبب في امتلاك الفرد الولاية التكوينية على قوانين العالم، ولعل هذا الوجه يرجع إلى علم خاص –حسب بعض تفسيرات الاسم الأعظم كما سيأتي-، فما ذُكر في الوجه الثاني يُقصد به العلم اللدني، الذي يكون للولي بغير الطرق الطبيعية لتحصيل العلم، وما ذُكر هنا، يُراد به علم أخص من ذلك العلم اللدني، وهو العلم بخصوص الاسم الأعظم، فضلاً عن العلم الخاص.

هذا، وقد صرحت الروايات الشريفة أن العلم به متفاوت حسب درجات الولي التكاملية، فهناك من يعرف جزءاً واحداً منه، وهناك من يعلم

ص: 296


1- النمل 38 – 40.

أكثر، ومهما اتسعت معرفة الولي به، فإن هناك مرتبة منه مستأثرة، لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.

بحث استطرادي: معنى الاسم الأعظم
اشارة

ليتضح شيء من حقيقة الاسم الأعظم، نذكر التالي:

أولاً: معنى الاسم الأعظم في النصوص
اشارة

بمتابعة النصوص، فإنه يمكن وجود عدة نصوص ذكرت الاسم الأعظم، وذكرت عدة معان له، هي على عدة طوائف(1):

الطائفة الأولى: أن الاسم الأعظم هي البسملة

فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَقرَبُ إِلَى الاِسمِ الأَعظَمِ(2)

مِن سَوادِ العَينِ إِلى بَياضِها.(3)

ص: 297


1- تمكن مراجعة مصادر هذه النصوص في: موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 457 – 465.
2- في هامش المصدر: استعملت كلمة (اسم) في معناها الجامع القابل للصدق على جميع أسمائه تعالى، فهو من باب ذكر المفهوم والإشارة به إلى المصداق. وبما أنّ الاسم الأعظم أشرف المصاديق فلا محالة أن يكون أولى وأحقّ بانطباق المفهوم عليه. وبهذا يتّضح معنى كون (باسم الله) أقرب إلى الاسم الأعظم من سواد العين إلى بياضها ؛ فإنّ القرب بينهما قرب ذاتي، إذ المفهوم متّحد مع مصداقه خارجاً، وقرب سواد العين إلى بياضها قرب مكانيّ، والاتّحاد بينهما وضعيّ (البيان في تفسير القرآن: 514).
3- عدّة الداعي: 49، عيون أخبار الرضا: 2 / 5 / 11 عن محمّد بن سنان عن الإمام الرضا (عليه السلام)، تفسير العيّاشي: 1 / 21 / 13 عن إسماعيل بن مهران عن الإمام الرضا (عليه السلام)، دلائل الإمامة: 420 / 383 عن أحمد بن إسحاق عن الإمام الهادي عن الإمام الرضا (عليهما السلام)، كشف الغمّة: 3 / 210 عن أبي هاشم عن الإمام العسكري (عليه السلام) وفيها " اسم الله الأعظم " بدل " الاسم الأعظم "، بحار الأنوار: 78 / 371 / 6 وراجع: تهذيب الأحكام: 2 / 289 / 1159 والمستدرك على الصحيحين: 1 / 738 / 2027 وتاريخ بغداد: 7 / 313 / 3826 وكنز العمّال: 2 / 296 / 4047.

وفي رواية عن معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق (عليه السلام): (بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) اِسمُ اللهِ الأَكبَرُ. أَو قالَ: الأَعظَمُ.(1)

الطائفة الثانية: مجموعة من الآيات

فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ في هاتَينِ الآيَتَينِ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)، وفاتِحَةِ سورَةِ آلِ عِمرانَ: (ألم. اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). (2)

وعنه (صلى الله عليه وآله): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ في سُوَر ثَلاث: البَقَرَةِ، وآلِ عِمرانَ، وطه.(3).

وعنه (صلى الله عليه وآله): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ في هذِهِ الآيِةِ مِن آلِ عِمرانَ: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (4)

ص: 298


1- مهج الدعوات: 379.
2- سنن أبي داوود: 2 / 80 / 1496، سنن الترمذي: 5 / 517 / 3478، سنن ابن ماجة: 2 / 1267 / 3855 وليس فيه ذيله، سنن الدارمي: 2 / 907 / 3266، المعجم الكبير: 24 / 174 / 440 و ح 441 والثلاثة الأخيرة نحوه وكلّها عن أسماء بنت يزيد، كنز العمّال: 1 / 451 / 1941 نقلا عن مسند ابن حنبل.
3- سنن ابن ماجة: 2 / 1267 / 3856، المستدرك على الصحيحين: 1 / 684 / 1861 وليس فيه " الذي إذا دعي به أجاب "، المعجم الكبير: 8 / 237 / 7925، المعجم الأوسط: 8 / 192 / 8371 كلّها عن أبي أُمامة، كنز العمّال: 1 / 451 / 1942 ؛ مهج الدعوات: 380 عن أبي أُمامة، بحار الأنوار: 93 / 224.
4- المعجم الكبير: 12 / 133 / 12792 عن ابن عبّاس، كنز العمّال: 1 / 451 / 1943 ؛ مهج الدعوات: 380 عن أسماء بنت زيد وزاد فيه الآية 27 من آل عمران.

وعنه (صلى الله عليه وآله): هَل أَدُلُّكُم عَلَى اِسمِ اللهِ الأَعظَمِ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ، وإِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى الدَّعوَةُ الَّتي دَعا بِها يونُسُ، حَيثُ ناداهُ فِي الظُّلُماتِ الثَّلاثِ: (لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).(1)

وعنه (صلى الله عليه وآله): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ في سِتِّ آيات مِن آخِرِ سورَةِ الحَشرِ.(2)

وعن البراء بن عازب: قُلتُ لِعَلِيٍّ (عليه السلام): يا أَميرَ المُؤمِنينَ، أسأَلُكَ بِاللهِ ورَسولِهِ إِلاّ خَصَصتَني بِأَعظَمِ ما خَصَّكَ بِهِ رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، واختَصَّهُ بِهِ جَبرَئيلُ، وأَرسَلَهُ بِهِ الرَّحمنُ، فَضَحِكَ، ثُمَّ قالَ: إِذا أَرَدتَ أَن تَدعُوَ اللهَ بِاسمِهِ الأَعظَمِ، فَاقرَأَ مِن أَوَّلِ سورَةِ الحَديدِ إِلى آخِرِ سِتِّ آيات مِنها إِلى (... عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، وآخِرَ سورَةِ الحَشرِ يَعني أَربَعَ آيات، ثُمَّ ارفَع يَدَيكَ فَقُل: يا مَن هُوَ هكَذا، أَسأَلُكَ بِحَقِّ هذِهِ الأَسماءِ أَن تُصَلِّيَ عَلى مُحَمِّد وآلِ مُحَمَّد، وأَن تَفعَلَ بي كَذا وكَذا مِمّا تُريدُ.

فَوَاللهِ الَّذي لا إِلهَ غَيرُهُ لِتَنقَلِبَنَّ بِحاجَتِكَ إِن شاءَ اللهُ.(3)

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ مُقَطَّعٌ في أُمِّ الكِتابِ.(4)

ص: 299


1- المستدرك على الصحيحين: 1 / 685 / 1865، تفسير الطبري: 10 / الجزء 17 / 82 نحوه وكلاهما عن سعد بن مالك، كنز العمّال: 1 / 452 / 1944 وراجع: بحار الأنوار: 93 / 224.
2- مجمع البيان: 9 / 401 عن ابن عبّاس، بحار الأنوار: 93 / 224 ؛ الفردوس: 1 / 416 / 1686 عن ابن عبّاس، كنز العمّال: 1 / 452 / 1945.
3- كنز العمّال: 2 / 248 / 3941 نقلا عن أبي داوود، الدرّ المنثور: 8 / 49 نقلا عن ابن النجّار في تاريخ بغداد وراجع: بحار الأنوار: 93 / 230 / 2.
4- ثواب الأعمال: 130 / 1، تفسير العيّاشي: 1 / 19 / 1، مهج الدعوات: 379 كلّها عن عليّ بن أبي حمزة البطائني، بحار الأنوار: 92 / 234 / 16.

وعنه (عليه السلام): (ألم) هُوَ حَرفٌ مِن حُروفِ اسمِ اللهِ الأَعظَمِ المُقَطَّعِ فِي القُرآنِ، الَّذي يُؤَلَّفُهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) وَالإِمامُ، فَإِذا دَعا بِهِ أُجيبَ.(1)

الطائفة الثالثة: نُصوصٌ مِنَ الأَدعِيَةِ

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - لَمّا سَمِعَ رَجُلا يَقول: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمدَ لا إِلهَ إِلاّ أَنتَ وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ، المَنّانُ، بَديعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ، ذُو الجَلالِ وَالإِكرامِ -: لَقَد سَأَلَ اللهَ بِاسمِهِ الأَعظَمِ، الَّذي إِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى، وإِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ.(2)

وعن بريدة: سَمِعَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) رَجُلا يَقولُ: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذي لَم يَلِد ولَم يولَد ولَم يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.

فَقالَ رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): لَقَد سَأَلَ اللهَ بِاسمِهِ الأَعظَمِ، الَّذي إِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى، وإِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ.(3)

ص: 300


1- معاني الأخبار: 23 / 2، تفسير القمّي: 1 / 30 كلاهما عن أبي بصير، بحار الأنوار: 2 / 16 / 38.
2- سنن ابن ماجة: 2 / 1268 / 3858، سنن الترمذي: 5 / 550 / 3544 نحوه، مسند ابن حنبل: 4 / 241 / 12206، المصنّف لابن أبي شيبة: 7 / 57 / 2 كلّها عن أنس بن مالك وراجع كنز العمّال: 1 / 452 / 1948 ومهج الدعوات: 380 وبحار الأنوار: 95 / 163.
3- سنن ابن ماجة: 2 / 1267 / 3857، سنن أبي داوود: 2 / 79 / 1493 وفيه " بالاسم " بدل " باسمه الأعظم "، سنن الترمذي: 5 / 515 / 3475 نحوه، مسند ابن حنبل: 9 / 13 / 23026 عن عبد الله بن بريدة، صحيح ابن حبّان: 3 / 173 / 891، المستدرك على الصحيحين: 1 / 683 / 1858، كنز العمّال: 1 / 453 / 1949 ؛ بحار الأنوار: 93 / 224.

وعن أنس: أَنَّهُ كانَ مَعَ رَسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) جالِساً ورَجُلٌ يُصَلّي، ثُمَّ دَعَا: اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بأَنَّ لَكَ الحَمدَ لا إِلهَ إِلاّ أَنتَ، المَنّانُ، بَديعُ السَّماواتِ وَالأَرضِ، يا ذَا الجَلالِ وَالإِكرامِ، يا حَيُّ يا قَيّومُ. فَقالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): لَقَد دَعا اللهَ بِاسمِهِ العَظيمِ، الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ، وإِذا سُئِلَ بِهِ أَعطى.(1)وعن أنس: كُنتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) دَعا رَجُلٌ فَقالَ: يا بَديعَ السَّماواتِ، يا حَيُّ يا قَيّومُ، إِنّي أَسأَلُكَ. فَقالَ: أتَدرونَ بِما دَعا؟ وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ، دَعَا اللهَ بِاسمِهِ الَّذي إِذا دُعِيَ بِهِ أَجابَ.(2)

وعن الإمام عليّ (عليه السلام): رَأَيتُ الخَضِرَ (عليه السلام) فِي المَنامِ قَبلَ بَدر بِلَيلَة، فَقُلتُ لَهُ: عَلِّمني شَيئاً أُنصَرُ بِهِ عَلَى الأَعداءِ. فَقالَ: قُل: (يا هُوَ، يا مَن لا هُوَ إِلاَّ هُوَ)، فَلَمّا أَصبَحتُ قَصَصتُها عَلى رَسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، فَقالَ لي: يا عَلِيُّ عُلِّمتَ الاِسمَ الأَعظَمَ. فَكانَ عَلى لِساني يَومَ بَدر.

وإِنَّ أَميرَ المُؤمِنينَ (عليه السلام) قَرَأَ قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَلَمّا فَرَغَ قالَ: يا هُوَ، يا مَن لا هُوَ إِلاّ هُوَ، اغفِر لي وَانصُرني عَلَى القَومِ الكافِرينَ. وكانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَقولُ ذلِكَ يَومَ صِفّينَ وهُوَ يُطارِدُ، فَقالَ لَهُ عَمّارُ بنُ ياسِر: يا أَميرَ المُؤمِنينَ، ما هذِهِ الكِناياتُ؟ قالَ: اِسمُ اللهِ الأَعظَمُ وعِمادُ التَّوحيدِ للهِِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ، ثُمَّ قُرَأَ:

ص: 301


1- سنن أبي داوود: 2 / 79 / 1495، سنن النسائي: 3 / 52، صحيح ابن حبان: 3 / 175 / 893 نحوه، مسند ابن حنبل: 4 / 316 / 12611 وفيه " الحنّان " بدل " المنّان "، المستدرك على الصحيحين: 1 / 683 / 1856 وفيه " باسم الله الأعظم " بدل " باسمه العظيم "، كنز العمّال: 2 / 249 / 3942.
2- الأدب المفرد: 211 / 705.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)، وآخِرَ الحَشرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلّى أَربَع رَكعات قَبلَ الزَّوالِ.(1)

وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): كُنتُ أَدعُو اللهَ سُبحانَهُ سَنَةً عَقيبَ كُلِّ صَلاة أَن يُعَلِّمَنِي الاِسمَ الأَعظَمَ، فَإِنّي ذاتَ يَوم قَد صَلَّيتُ الفَجرَ، إِذ غَلَبتَني عَينايَ وأَنَا قاعِدٌ، وإِذا أَنَا بِرَجُل قائِم بَينَ يَدَيَّ يَقولُ لي: سَأَلتَ اللهَ تَعالى أَن يُعَلِّمَكَ الاِسمَ الأَعظَمَ؟ قُلتُ: نَعَم. قالَ: قُل: " اللّهُمَّ إِنّي أَسأَلُكَ بِاسمِكَ اللهِ، اللهِ، اللهِ، اللهِ، اللهِ، الَّذي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ العَرشِ العَظيمِ ". قالَ: فَوَاللهِ ما دَعَوت بِها لِشَيء إِلاّ رَأَيتُ نُجحَهُ.(2)

وعن الإمام الرضا (عليه السلام): مَن قالَ بَعدَ صَلاةِ الفَجرِ: (بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، لا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظيمِ) مِئَةَ مَرَّة، كانَ أَقرَبَ إِلَى اسمِ اللهِ الأَعظَمِ مِن سَوادِ العَينِ إِلى بَياضِها، وإِنَّهُ دَخَلَ فيهَا اسمُ اللهِ الأَعظَمُ.(3)

الطائفة الرابعة: كُلُّ اسم مِن أَسماءِ اللهِ

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - لَمّا سُئِلَ عَنِ اسمِ اللهِ الأَعظَمِ -: كُلُّ اسم مِن أَسماءِ الله ِ، فَفَرِّغ قَلبَكَ عَن كُلِّ ما سِواهُ، وَادعُهُ بِأَيِّ اسم شِئتَ، فَلَيسَ فِي

ص: 302


1- التوحيد: 89 / 2 عن وهب بن وهب القرشي عن الإمام الصادق عن آبائه (عليهم السلام)، بحار الأنوار: 3 / 222.
2- مكارم الأخلاق: 2 / 159 / 2392، مهج الدعوات: 382 نحوه، بحار الأنوار: 61 / 170 / 27.
3- مهج الدعوات: 379 عن سليمان بن جعفر الحميري، بحار الأنوار: 86 / 162 / 41.

الحَقيقَةِ للهِِ اسمٌ دونَ اسم، بَل هُوَ الواحِدُ القَهّارُ.(1)

هذا هو مجمل الروايات الواردة في الاسم الأعظم.

ثانياً: ذكر الأقوال في معنى الاسم الأعظم

لقد تبين من خلال عرض النصوص أنه لا يمكن أن نخرج منها برأي واضح حول حقيقة الاسم الأعظم، ولذا نجد أن هناك اختلافاً كبيراً في تبيين حقيقته، (فقد ذهب جماعة... إِلى أَنّ الأَسماء الإلهيّة كلّها عظيمة، ولا وجود لاسم أَعظم من الأَسماء الأُخرى.

وذهب بعضهم: إِلى وجود الاسم الأَعظم، لكن لا يعلمه إِلاّ الله تعالى وحدَه.

ورأَى بعض آخر: أَنّ الاسم الأَعظم خاف بين الأَسماء الحسنى.

وقال آخرون: الاسم الأَعظم، هو كلّ اسم يدعو به العبد ربّه بكلّ وجوده.

ومنهم: من ذكر أَنّ الاسم الأَعظم اسم جامع للأَسماء كلّها.

ومنهم: من يعتقد أَنّ الأَنبياء مظاهر أَمّهات أَسماء الحقّ، وهي داخلة في الاسم الأَعظم الجامع، ومظهرة الحقيقة المحمّديّة...)(2)

ص: 303


1- مصباح الشريعة: 129.
2- انظر: موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 467 و 468 نقلاً عن السيوطي في الحاوي وغيره.

والبعض ذهب (إلى أنه قانون تكويني أودعه الله تعالى في الوجود، يطّلع عليه الولي، فيستخدمه في مورده.

وذهب آخرون إلى أنه حروف لفظية...

وذهب بعضهم إلى أنه اسم من أسماء الله سبحانه، يدعو بها الولي، فيستجيب الله تعالى دعاءه، ويحقق ما يريد.(1)

وذهب آخرون إلى أنه مقام معنوي يصله الولي فتتجلى فيه القدرة الإلهية...)(2)

وقد ذهب السيد الطباطبائي في الميزان إلى أن المقصود من الاسم الأعظم ليس هو لفظاً خاصاً، حتى إذا ما تلفظ به أي أحد، فإنه يتحقق به ما يريد، كلا، وإنما المقصود هو أن الله تعالى يؤثر في هذا العالم من خلال حقائق أسمائه وصفاته جل وعلا، لا ألفاظها، (ومعنى ذلك: أَنّ الله سبحانه هو الفاعل الموجد لكلّ شيء بما له من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب، لا تأثير اللفظ أَو صورة مفهومة في الذهن أَو حقيقة أُخرى غير الذات المتعالية، إِلاّ أَنّ الله سبحانه وعد إِجابة دعوة من دعاه كما في قوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، وهذا يتوقف على دعاء وطلب حقيقي، وأَن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره... فمن انقطع عن كلّ سبب واتصل بربِّه لحاجة من حوائجه، فقد اتصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته،

ص: 304


1- وهو الذي يظهر من عبارة السيد الطباطبائي كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
2- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج6 ص 19.

فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم فعلى حسب حال الاسم الذي انقطع إِليه الداعي يكون حال التأثير خصوصاً وعموماً، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأَعظم، انقاد لحقيقته كلّ شيء واستجيب للداعي به دعاؤه على الإطلاق...)(1)

والذي يبدو:

أن الاسم الأعظم إنما هي مرتبة كمالية يصل إليها العبد من خلال سيره التكاملي نحو مركز استقطاب الكمال اللا متناهي، وهو الباري جل وعلا، وكلما زادت مرتبته الكمالية، زاد اطلاعه على عالم التكوين وقوانينه، إلى أن يصل إلى مرتبة يقترب فيها من عظمة الباري جل وعلا، بحيث يُصبح مؤثراً في العالم، فهي مرتبة كمالية، لا لفظاً معيناً، وما ذُكر من النصوص الروائية في ذلك تُحمل على الكناية عن الوصول إلى تلك المرتبة الكمالية، واختلاف النصوص في تعيين الاسم الأعظم إنما هو لاختلاف مراتب تلك المرتبة الكمالية، بمعنى أن تلك المرتبة الكمالية مرتبة مشككة، واختلاف النصوص تابع لاختلاف مراتبها.

وبعبارة أكثر وضوحاً: أن الاسم الأعظم هو تعبير آخر عن الولاية التكوينية للعبد، وقد تقدم(2): أن تلك الولاية تستند إلى الإذن الإلهي والعلم الخاص، وحيث إن الإذن الإلهي –وكذا العلم- له مراتب متعددة، فالولاية

ص: 305


1- تفسير الميزان للسيد الطباطبائي ج8 ص 354 و 355 حيث ذكر (قدس سره) بحثاً تفصيلياً في ذلك.
2- قبل هذا الاستطراد.

التكوينية أيضاً ذات مراتب. وهو ما يبرر اختلاف النصوص في تعيين الاسم الأعظم، والله العالم.

والذي يؤيد أن الاسم الأعظم له مراتب متعددة، هو أن الروايات أشارت إلى أن الذين كان عندهم هذا الاسم، كانوا يختلفون فيما عندهم منه، فمنهم من عنده حرف واحد، ومنهم من عدنه حرفان وثلاثة وهكذا، وأن هناك حرفاً استأثر به الباري جل وعلا.

ولعل المقصود من هذا الحرف المستأثر هي القدرة اللا متناهية والمستقلة للباري جل وعلا، فإن كل من كان عنده مراتب كمالية للتحكم في عالم الوجود، أو قل: ولاية تكوينية على عالم التكوين، فإنه إنما يستمد قوته من القدرة الإلهية اللا متناهية، أما هو جل وعلا، فلا يستمد قوته من غيره جل وعلا، وهذا هو معنى المستأثر أو تأويله.

والحاصل: أن (المستفاد من مجموع الأدلة هو أن امتلاك الاسم الأعظم بأي معنى كان، يتوقف على مقام معنوي رفيع يصل إليه أولياء الله تعالى، فتخضع لهم الأشياء برمتها بإذن الله تعالى، ولكن إظهار تصرفهم في الأشياء يختلف من حال لآخر، فتارة يدعون، وتارة يذكرون الاسم، وتارة يتصرفون ويأمرون وينهون بحسب ما لهم من صلاحيات ربانية في الوجود.)(1)

ص: 306


1- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية للشيخ فاضل الصفار ج6 ص 20.
ثالثاً: النصوص الدالة على من كان عنده الاسم الأعظم
اشارة

صرحت العديد من النصوص بأن هذا الاسم –بأي معنى فُرض- كان عند بعض الأولياء، وبمراتب مختلفة، وخصوصاً أهل البيت (عليهم السلام)، ومن تلك النصوص هي التالي:

النص الأول

عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ اسْمَ الله الأَعْظَمَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وسَبْعِينَ حَرْفاً، وإِنَّمَا كَانَ عِنْدَ آصَفَ مِنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، فَتَكَلَّمَ بِه فَخُسِفَ بِالأَرْضِ مَا بَيْنَه وبَيْنَ سَرِيرِ بِلْقِيسَ، حَتَّى تَنَاوَلَ السَّرِيرَ بِيَدِه، ثُمَّ عَادَتِ الأَرْضُ كَمَا كَانَتْ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، ونَحْنُ عِنْدَنَا مِنَ الِاسْمِ الأَعْظَمِ اثْنَانِ وسَبْعُونَ حَرْفاً، وحَرْفٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الله تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِه فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَه، ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.(1)

النص الثاني

عن أبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ (عليهما السلام) أُعْطِيَ حَرْفَيْنِ كَانَ يَعْمَلُ بِهِمَا، وأُعْطِيَ مُوسَى (عليه السلام) أَرْبَعَةَ أَحْرُفٍ، وأُعْطِيَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) ثَمَانِيَةَ أَحْرُفٍ، وأُعْطِيَ نُوحٌ (عليه السلام)، خَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفاً وأُعْطِيَ آدَمُ (عليه السلام)، خَمْسَةً وعِشْرِينَ حَرْفاً، وإِنَّ اللهَ تَعَالَى جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّه لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، وإِنَّ اسْمَ الله الأَعْظَمَ ثَلَاثَةٌ وسَبْعُونَ حَرْفاً، أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ حَرْفاً، وحُجِبَ عَنْه حَرْفٌ وَاحِدٌ. (2)

ص: 307


1- انظر: الكافي للكيني ج1 ص 230 بَابُ مَا أُعْطِيَ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) مِنِ اسْمِ الله الأَعْظَمِ ح1.
2- انظر: الكافي للكيني ج1 ص 230 بَابُ مَا أُعْطِيَ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) مِنِ اسْمِ الله الأَعْظَمِ ح2.
النص الثالث

عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبِ الْعَسْكَرِ (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: اسْمُ الله الأَعْظَمُ ثَلَاثَةٌ وسَبْعُونَ حَرْفاً، كَانَ عِنْدَ آصَفَ حَرْفٌ، فَتَكَلَّمَ بِه فَانْخَرَقَتْ لَه الأَرْضُ فِيمَا بَيْنَه وبَيْنَ سَبَأٍ، فَتَنَاوَلَ عَرْشَ بِلْقِيسَ حَتَّى صَيَّرَه إِلَى سُلَيْمَانَ، ثُمَّ انْبَسَطَتِ الأَرْضُ فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وعِنْدَنَا مِنْه اثْنَانِ وسَبْعُونَ حَرْفاً، وحَرْفٌ عِنْدَ الله مُسْتَأْثِرٌ بِه فِي عِلْمِ الْغَيْبِ. (1)

النص الرابع

عن الإمام الصادق (عليه السلام): كانَ سُلَيمانُ (عليه السلام) عِندَهُ اسمُ اللهِ الأَكبَرُ، الَّذي إِذا سَأَلَهُ أَعطى، وإِذا دَعا بِهِ أَجابَ، ولَو كانَ اليَومَ لاحتاجَ إِلَينا.(2)

النص الخامس

عن الإمام الصادق(عليه السلام): سَلمانُ عُلِّمَ الاِسمَ الأَعظَمَ.(3)

النص السادس

عن عبد الله بن بكير عن أَبي عبد الله (عليه السلام): كُنتُ عِندَهُ فَذَكَروا سُليمانَ وما أُعطِيَ مِنَ العِلمِ وما أُوتِيَ مِنَ المُلكِ، فَقالَ لي: وما أُعطِيُ سُليمانَ بنِ داوودَ؟

ص: 308


1- انظر: الكافي للكيني ج1 ص 230 بَابُ مَا أُعْطِيَ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) مِنِ اسْمِ الله الأَعْظَمِ ح3.
2- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 463 و 464 نقلاً عن بصائر الدرجات: 211 / 2، المناقب لابن شهر آشوب: 4 / 249 وفيه " إذا سأل به " بدل " سأله " وكلاهما عن أبي بصير، بحار الأنوار: 27 / 27 / 7.
3- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 464 نقلاً عن رجال الكشّي: 1 / 56 / 29، الاختصاص: 11 كلاهما عن أبي بصير، بحار الأنوار: 22 / 346 / 59.

إِنَّما كانَ عِندَهُ حَرفٌ واحِدٌ مِنَ الاِسمِ الأَعظَمِ، وصاحِبُكُم الَّذي قالَ اللهُ: (قُلْ كَفَى باللهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ و عِلْمُ الْكِتَبِ)، وكانَ واللهِ عِندَ عَلِيٍّ (عليه السلام) عِلمُ الكِتابِ، فَقُلتُ: صَدَقتَ وَالله، جُعِلتُ فِداكَ.(1)

النص السابع

عن أَبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالى جَعَلَ اسمَهُ الأَعظَمَ عَلى ثَلاثَة وسَبعينَ حَرفاً، فَأَعطى آدَمَ مِنها خَمسَةً وعِشرينَ حَرفاً، وأَعطى نوحاً مِنها خَمسَةَ عَشَرَ حَرفاً، وأَعطى مِنها إِبراهيمَ ثَمانِيَةَ أَحرُف، وأَعطى موسى مِنها أَربَعَةَ أَحرُف، وأَعطى عيسى مِنها حَرفَينِ، وكانَ يُحيي بِهِمَا المَوتى، ويُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ، وأَعطى مُحَمَّداً اثنَينِ وسَبعينَ حَرفاً، وَاحتَجَبَ بِحَرف لِئَلاّ يُعلَمَ ما في نَفسِهِ، ويَعلَمُ ما في أَنفُسِ العِبادِ.(2)

تنبيه: في خطورة التسافل بعد التكامل

روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: أُعطِيَ بَلعَمُ بنُ باعورا الاِسمَ الأَعظَمَ، فَكان يَدعو بِهِ فَيُستَجابُ لَهُ.(3)

إن بلعم كان قد وصل إلى مرتبة كمالية عالية بحيث صار عنده الاسم

ص: 309


1- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 464 نقلاً عن بصائر الدرجات: 212 / 1، بحار الأنوار: 26 / 170 / 36.
2- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 464 و 465 نقلاً عن مختصر بصائر الدرجات: 125، بصائر الدرجات: 208 / 3، بحار الأنوار: 4 / 211 / 5.
3- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ محمد الريشهري ج3 ص 465 نقلاً عن تفسير القمّي: 1 / 248 عن الحسن " الحسين " بن خالد، بحار الأنوار: 13 / 377 / 1.

الأعظم وأنه يُستجاب له به، ولكن بلعم هذا هو نفسه الذي قال عنه الباري جل وعلا: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(1)

وقد روي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنَّه «أُعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، فكان يدعو به فيُستجاب له، فمال إلىٰ فرعون، فلمَّا مرَّ فرعون في طلب موسىٰ وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادعو الله علىٰ موسىٰ وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمرَّ في طلب موسىٰ وأصحابه، فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها، فأنطقها الله (عز وجل)، فقالت: ويلك علىٰ ما تضربني؟ أتريد أجيء معك لتدعو علىٰ موسىٰ نبيِّ الله وقوم مؤمنين؟ فلم يزل يضربها حتَّىٰ قتلها، وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه.(2)

وقيل: إنَّ بلعم طلب منه قومه أنْ يدعو علىٰ موسىٰ ومن معه، فأبىٰ وقال: كيف أدعو علىٰ من معه الملائكة؟! فألحُّوا عليه حتَّىٰ فعل، فخرج لسانه فوقع علىٰ صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب.(3)

وهذه الحقيقة تعني: أن الإنسان مهما حصل على كمالات عالية، ولكنها تبقى مهددة بالزوال، وهو مهدد بالتسافل، وإحباط الأعمال مفهوم إسلامي

ص: 310


1- الأعراف 175 و 176.
2- تفسير القمّي (ج 1/ ص 248).
3- تفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي (ج 1/ ص 722).

دلت عليه العديد من النصوص، وهو واقع وجداني، فكم رأينا أناساً كان يؤمل منهم الخير، ولكنهم انحرفوا عن طريق الحق، ومالوا إلى سواه.

علينا إذن أن نتمسك بحبل الدعاء لله تبارك وتعالى، وأن لا نغتر بما نحن عليه من الخير، وبل نستزيد الباري جل وعلا منه، ونتوسل إليه أن لا ننحرف عن الحق، ونستغيث به تعالى من سوء العاقبة.

ولنتأمل في الروايات التالية التي تفتح لنا أفق الحفاظ على الدين، والحفاظ على مكتسباتنا الكمالية، فقد روي أنَّه كتب الإمام الصادق (عليه السلام) إلىٰ بعض الناس: «إنْ أردت أنْ يُختَم بخير عملُك حتَّىٰ تُقبَض وأنت في أفضل الأعمال: فعظِّم لله حقَّه أنْ لا تبذل نعماءه في معاصيه، وأنْ تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلَّ من وجدته يُذكَر منّا أو ينتحل مودَّتنا، ثمّ ليس عليك صادقاً كان أو كاذباً، إنَّما لك نيَّتك وعليه كذبه»(1).

وروي عن عليِّ بن يقطين أنَّه قال: استأذنت مولاي أبا إبراهيم موسىٰ بن جعفر (عليهما السلام) في خدمة القوم فيما لا يثلم ديني، فقال: «لا، ولا نقطة قلم، إلَّا بإعزاز مؤمن، وفكِّه من أسره»، ثمّ قال (عليه السلام): «إنَّ خواتيم أعمالكم قضاءُ حوائج إخوانك، والإحسانُ إليهم ما قدرتم، وإلَّا، لم يُقبَل منكم عمل، حنُّوا علىٰ إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا»(2).

وروي أنَّه نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلىٰ رجل أثَّر الخوف عليه، فقال: «ما

ص: 311


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 7/ح 8).
2- قضاء حقوق المؤمنين لابن طاهر الصوري (ص 34/ ح 48).

بالك؟»، قال: إنّي أخاف الله، فقال: «يا عبد الله، خف ذنوبك، وخف عدل الله عليك في مظالم عباده، وأطعه فيما كلَّفك، ولا تعصه فيما يُصلِحك، ثمّ لا تخف الله بعد ذلك، فإنَّه لا يظلم أحداً، ولا يُعذِّبه فوق استحقاقه أبداً، إلَّا أنْ تخاف سوء العاقبة بأنْ تُغيِّر أو تُبدِّل، فإنْ أردت أنْ يُؤمِّنك اللهُ سوءَ العاقبة، فاعلم أنَّ ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إيّاك وحلمه وعفوه عنك»(1).

النقطة الخامسة: أدلة ثبوت الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

تبين من خلال كلمات بعض الأعلام: أن ثبوت هذه الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) أمر متسالم ولا نقاش فيه، ويمكن بيان ذلك من خلال الوجوه التالية:

الوجه الأول: أن عندهم (عليهم السلام) الاسم الأعظم

النصوص التي صرّحت بأن لديهم (عليهم السلام) الاسم الأعظم، فإنها تثبت الولاية التكوينية لهم (عليهم السلام). وقد تقدمت جملة هذه النصوص.

الوجه الثاني: أنهم (عليهم السلام) أفضل من الأنبياء الذين ثبتت لهم الولاية التكوينية

إنه ثبتت الولاية التكوينية للعديد من الأنبياء كما صرح القرآن الكريم بذلك، كما في النبي إبراهيم (عليه السلام) وما جرى معه في قضية الطيور، قال تعالى:

ص: 312


1- التفسير المنسوب إلىٰ الإمام العسكري (عليه السلام) (ص 265).

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(1)

وقال تعالى في شأن النبي عيسى (عليه السلام): (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(2)

وغيرها من الآيات الكثيرة، كتسخير الرياح والشياطين والجان وغيرهم للنبي سليمان (عليه السلام)، وكما جاء آصف بن برخيا بعرش بلقيس من سبأ إلى فلسطين بأسرع من طرفة عين.

وبضم ما تقدم من أفضلية أهل البيت (عليهم السلام) عموماً على جميع الأنبياء، يثبت أن هذا المقام الكمالي الوجودي قد ثبت لأهل البيت (عليهم السلام)، وإلا للزم كون الأنبياء أفضل منهم وأكمل، وهو ما تم إثبات عكسه فيما تقدم.

الوجه الثالث: أنهم (عليهم السلام) ورثة الأنبياء

ما ورد من أنهم (عليهم السلام) ورثوا كل كمالات الأنبياء السابقين، وهي بإطلاقها تشمل حتى علومهم اللدنية وقدراتهم على إقامة المعجزات، مما يعني وراثتهم للولاية التكوينية، دل على هذا المعنى العديد من الروايات،

ص: 313


1- البقرة 260.
2- آل عمران 49.

وزيارة وارث تصرح بتلك الوراثة.

ومن تلك النصوص ما روي عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُه (عليه السلام) يَقُولُ: أتَدْرِي مَا كَانَ قَمِيصُ يُوسُفَ (عليه السلام)؟ قَال: قُلْتُ: لَا.

قَالَ (عليه السلام): إِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) لَمَّا أُوقِدَتْ لَه النَّارُ أَتَاه جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) بِثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ فَأَلْبَسَه إِيَّاه فَلَمْ يَضُرَّه مَعَه حَرٌّ ولَا بَرْدٌ، فَلَمَّا حَضَرَ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) الْمَوْتُ جَعَلَه فِي تَمِيمَةٍ وعَلَّقَه عَلَى إِسْحَاقَ (عليه السلام)، وعَلَّقَه إِسْحَاقُ (عليه السلام) يَعْقُوبَ (عليه السلام)، فَلَمَّا وُلِدَ يُوسُفُ (عليه السلام) عَلَّقَه عَلَيْه، فَكَانَ فِي عَضُدِه حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِه مَا كَانَ، فَلَمَّا أَخْرَجَه يُوسُفُ بِمِصْرَ مِنَ التَّمِيمَةِ وَجَدَ يَعْقُوبُ (عليه السلام) رِيحَه وهُوَ قَوْلُه: (إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فَهُوَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ الَّذِي أَنْزَلَه الله مِنَ الْجَنَّةِ.

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَإِلَى مَنْ صَارَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ؟

قَالَ (عليه السلام):

إِلَى أَهْلِه، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): كُلُّ نَبِيٍّ وَرِثَ عِلْماً أَوْ غَيْرَه فَقَدِ انْتَهَى إِلَى آلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله).(1)

وقد خصص الشيخ الكليني في الكافي باباً أسماه (بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ وَرِثُوا عِلْمَ النَّبِيِّ وجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وذكر فيه سبعة أحاديث، ومنها:

ما عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله):

ص: 314


1- الكافي للكليني ج1 ص 232 بَابُ مَا عِنْدَ الأَئِمَّةِ مِنْ آيَاتِ الأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام) ح5.

إِنَّ أَوَّلَ وَصِيٍّ كَانَ عَلَى وَجْه الأَرْضِ هِبَةُ الله بْنُ آدَمَ، ومَا مِنْ نَبِيٍّ مَضَى إِلَّا ولَه وَصِيٌّ، وكَانَ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ مِائَةَ أَلْفِ نَبِيٍّ وعِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ، مِنْهُمْ خَمْسَةٌ أُولُو الْعَزْمِ: نُوحٌ وإِبْرَاهِيمُ ومُوسَى وعِيسَى ومُحَمَّدٌ (عليهم السلام)، وإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ هِبَةَ الله لِمُحَمَّدٍ، ووَرِثَ عِلْمَ الأَوْصِيَاءِ وعِلْمَ مَنْ كَانَ قَبْلَه، أَمَا إِنَّ مُحَمَّداً وَرِثَ عِلْمَ مَنْ كَانَ قَبْلَه مِنَ الأَنْبِيَاءِ والْمُرْسَلِينَ، عَلَى قَائِمَةِ الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ: حَمْزَةُ أَسَدُ الله وأَسَدُ رَسُولِه، وسَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وفِي ذُؤَابَةِ الْعَرْشِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذِه حُجَّتُنَا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ حَقَّنَا وجَحَدَ مِيرَاثَنَا، ومَا مَنَعَنَا مِنَ الْكَلَامِ وأَمَامَنَا الْيَقِينُ، فَأَيُّ حُجَّةٍ تَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا.(1)

الوجه الرابع: النصوص المستفيضة بل المتواترة
اشارة

النصوص الكثيرة والمتظافرة والتي تصل إلى حد التواتر، والتي تثبت تصرف أهل البيت (عليهم السلام) في الأمور التكوينية، وهذه أكثر من أن تُذكر في هذه العجالة، ومن شاء الاستزادة فليراجع كتاب: مدينة معاجز الأئمة الاثني عشر ودلائل الحجج على البشر تأليف العلم العلامة السيد هاشم البحراني (قدس سره)، فقد طُبع في ثمانية أجزاء حوت مئات النصوص الدالة على هذا المعنى.

ونحن نكتفي هنا بذكر النصوص التالية:

ص: 315


1- الكافي للكيني ج1 ص 224 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ وَرِثُوا عِلْمَ النَّبِيِّ وجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ح2.
النص الأول

روي أنه كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أصحابه في مسجد الكوفة، فقال له رجل: بأبي وأمي إني لأتعجب من هذه الدنيا التي في أيدي هؤلاء القوم وليست عندكم؟! فقال (عليه السلام): يا فلان، أترى أنّا نريد الدنيا فلا نعطاها، ثم قبض قبضة من الحصى، فإذا هي جواهر! فقال (عليه السلام): ما هذا؟ فقلت: هذا من أجود الجواهر! فقال (عليه السلام): لو أردناه لكان، ولكنْ لا نريده، ثم رمى بالحصى فعادت كما كانت.(1)

النص الثاني

روي عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند الصادق (عليه السلام) مع جماعة فقلت: قول الله تعالى لإبراهيم (خذ أربعة من الطير فصرهن) أو كانت أربعة [ من ] أجناس مختلفة؟ أو من جنس [ واحد ]؟ فقال: أتحبون أن أريكم مثله؟ قلنا: بلى. قال: يا طاووس. فإذا طاووس طار إلى حضرته، ثم قال: يا غراب. فإذا غراب بين يديه، ثم قال: يا بازي، فإذا بازي بين يديه، ثم قال: يا حمامة. فإذا حمامة بين يديه، ثم أمر بذبحها كلها وتقطيعها ونتف ريشها، وأن يخلط ذلك كله بعضه ببعض. ثم أخذ برأس الطاووس، فقال: يا طاووس. فرأينا لحمه وعظامه وريشه، يتميز من غيره حتى التزق ذلك كله برأسه، وقام الطاووس بين يديه [ حياً ] ثم صاح بالغراب كذلك، وبالبازي والحمامة مثل ذلك، فقامت كلها أحياء بين يديه.(2)

ص: 316


1- بصائر الدرجات للصفار ص 395 ب2 ح2.
2- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 297.
النص الثالث

عَنْ مُثَنًّى الْحَنَّاطِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَه: أَنْتُمْ وَرَثَةُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)؟ قَالَ (عليه السلام): نَعَمْ. قُلْتُ رَسُولُ ا لله (صلى الله عليه وآله) وَارِثُ الأَنْبِيَاءِ عَلِمَ كُلَّ مَا عَلِمُوا؟ قَالَ (عليه السلام) لِي: نَعَمْ. قُلْتُ: فَأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تُحْيُوا الْمَوْتَى وتُبْرِؤُوا الأَكْمَه والأَبْرَصَ؟ قَالَ (عليه السلام): نَعَمْ بِإِذْنِ الله.

ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لِيَ: ادْنُ مِنِّي يَا أَبَا مُحَمَّدٍ. فَدَنَوْتُ مِنْه، فَمَسَحَ عَلَى وَجْهِي، وعَلَى عَيْنَيَّ، فَأَبْصَرْتُ الشَّمْسَ والسَّمَاءَ والأَرْضَ والْبُيُوتَ وكُلَّ شَيْءٍ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لِي: أتُحِبُّ أَنْ تَكُونَ هَكَذَا ولَكَ مَا لِلنَّاسِ وعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ تَعُودَ كَمَا كُنْتَ ولَكَ الْجَنَّةُ خَالِصاً؟ قُلْتُ: أَعُودُ كَمَا كُنْتُ. فَمَسَحَ عَلَى عَيْنَيَّ، فَعُدْتُ كَمَا كُنْتُ.

قَالَ (مُثَنًّى الْحَنَّاطِ): فَحَدَّثْتُ ابْنَ أَبِي عُمَيْرٍ بِهَذَا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ كَمَا أَنَّ النَّهَارَ حَقٌّ.(1)

النص الرابع

عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: دخلت عليه فشكوت إليه الحاجة. قال: فقال (عليه السلام): يا جابر، ما عندنا درهم. فلم ألبث أن دخل عليه الكميت فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي حتى أنشدك قصيدة. قال: فقال (عليه السلام): أنشد. فأنشده قصيدة، فقال (عليه السلام): يا غلام، أخرج من ذلك البيت

ص: 317


1- الكافي للكليني ج1 ص 470 بَابُ مَوْلِدِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (غليهما السلام) ح3.

بَدْرَة(1) [أي عشرة آلاف درهم] فادفعها إلى الكميت. قال: فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي أنشدك قصيدة أخرى. قال: (عليه السلام): أنشد. فأنشده أخرى. قال (عليه السلام): يا غلام، أخرج من ذلك البيت بَدْرَة فادفعها إلى الكميت، قال: فأخرج بَدْرَة فدفعها إليه. قال: فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي أنشدك ثالثة. قال (عليه السلام) له: أنشد. فقال (عليه السلام): يا غلام أخرج من ذلك البيت بَدْرَة فادفعها إليه. قال: فأخرج بَدْرَة فدفعها إليه. فقال الكميت: جعلت فداك، والله ما أحبكم لغرض الدنيا وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما أوجب الله تعالى عليّ من الحق. قال: فدعا له أبو جعفر (عليه السلام) ثم قال: يا غلام ردها مكانها.

قال[أي جابر]: فوجدت في نفسي وقلت: قال: ليس عندي درهم، وأمر للكميت بثلاثين ألف درهم! قال: فقام الكميت وخرج، قلت له: جعلت فداك، قلت: ليس عندي دراهم، وأمرت للكميت بثلاثين ألف درهم؟!

فقال (عليه السلام) لي: يا جابر، قم وادخل البيت. قال: فقمت ودخلت البيت فلم أجد منه شيئاً، فخرجت إليه.

فقال (عليه السلام) لي: يا جابر، ما سترْنا عنكم أكثر مما أظهرْنا لكم، فقام فأخذ بيدي وأدخلني البيت ثم قال وضرب برجله الأرض، فإذا شبيه بعنق البعير قد خرجت من ذهب.

ص: 318


1- البدرة: كيس فيه مقدار من المال يتعامل به، ويقدم في العطايا. وقال في الجوهري في الصحاح (ج2 ص 587) والبدرة: عشرة آلاف درهم..

ثم قال لي: يا جابر، انظر إلى هذا ولا تخبر به أحداً إلا من تثق به من إخوانك، إن الله أقدرنا على ما نريد، ولو شئنا أن نسوق الأرض بأزمتها لسقناها.(1)

الوجه الخامس: قاعدة اللطف

بتقريب: أن إقامة الإمام للمعجزة يساعد في إثبات الإمامة، خصوصاً في فترات الشك في ثبوت الإمامة، فيكون ثبوتها لهم من اللطف الإلهي المقرب، إن لم نقل من المحصل في بعض الأحيان.

ومن ذلك ما روي من وقوع الحيرة في بعض أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) في الإمام بعده، وإخبار الإمام الكاظم (عليه السلام) لهم بأنه هو حجة الله تعالى بعد أبيه (عليه السلام)، وأن المصير إليه (لَا إِلَى الْمُرْجِئَةِ ولَا إِلَى الْقَدَرِيَّةِ ولَا إِلَى الزَّيْدِيَّةِ ولَا إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ ولَا إِلَى الْخَوَارِجِ)، فقد روي عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ كُنَّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَا وصَاحِبُ الطَّاقِ والنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى عَبْدِ الله بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّه صَاحِبُ الأَمْرِ بَعْدَ أَبِيه، فَدَخَلْنَا عَلَيْه أَنَا وصَاحِبُ الطَّاقِ والنَّاسُ عِنْدَه، وذَلِكَ أَنَّهُمْ رَوَوْا عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)أَنَّه قَالَ: إِنَّ الأَمْرَ فِي الْكَبِيرِ مَا لَمْ تَكُنْ بِه عَاهَةٌ. فَدَخَلْنَا عَلَيْه نَسْأَلُه عَمَّا كُنَّا نَسْأَلُ عَنْه أَبَاه، فَسَأَلْنَاه عَنِ الزَّكَاةِ فِي كَمْ تَجِبُ؟ فَقَالَ (عليه السلام) فِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ. فَقُلْنَا: فَفِي مِائَةٍ؟ فَقَالَ: دِرْهَمَانِ ونِصْفٌ. فَقُلْنَا: والله مَا تَقُولُ الْمُرْجِئَةُ هَذَا. قَالَ فَرَفَعَ يَدَه إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: والله مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ الْمُرْجِئَةُ.

ص: 319


1- بصائر الدرجات للصفار ص 396 ب2 ح5. .

قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِه ضُلَّالاً لَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ نَتَوَجَّه، أَنَا وأَبُو جَعْفَرٍ الأَحْوَلُ، فَقَعَدْنَا فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ بَاكِينَ حَيَارَى لَا نَدْرِي إِلَى أَيْنَ نَتَوَجَّه ولَا مَنْ نَقْصِدُ، ونَقُولُ: إِلَى الْمُرْجِئَةِ إِلَى الْقَدَرِيَّةِ إِلَى الزَّيْدِيَّةِ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى الْخَوَارِجِ!

فَنَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ رَجُلاً شَيْخاً لَا أَعْرِفُه يُومِئُ إِلَيَّ بِيَدِه، فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ عَيْناً مِنْ عُيُونِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وذَلِكَ أَنَّه كَانَ لَه بِالْمَدِينَةِ جَوَاسِيسُ يَنْظُرُونَ إِلَى مَنِ اتَّفَقَتْ شِيعَةُ جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَلَيْه فَيَضْرِبُونَ عُنُقَه، فَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ. فَقُلْتُ لِلأَحْوَلِ: تَنَحَّ فَإِنِّي خَائِفٌ عَلَى نَفْسِي وعَلَيْكَ، وإِنَّمَا يُرِيدُنِي لَا يُرِيدُكَ، فَتَنَحَّ عَنِّي لَا تَهْلِكْ وتُعِينَ عَلَى نَفْسِكَ.

فَتَنَحَّى غَيْرَ بَعِيدٍ وتَبِعْتُ الشَّيْخَ، وذَلِكَ أَنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْه، فَمَا زِلْتُ أَتْبَعُه وقَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْمَوْتِ حَتَّى وَرَدَ بِي عَلَى بَابِ أَبِي الْحَسَنِ (عليه السلام) ثُمَّ خَلَّانِي ومَضَى، فَإِذَا خَادِمٌ بِالْبَابِ فَقَالَ لِيَ: ادْخُلْ رَحِمَكَ الله، فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) فَقَالَ لِيَ ابْتِدَاءً مِنْه: لَا إِلَى الْمُرْجِئَةِ، ولَا إِلَى الْقَدَرِيَّةِ، ولَا إِلَى الزَّيْدِيَّةِ، ولَا إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، ولَا إِلَى الْخَوَارِجِ، إِلَيَّ إِلَيَّ.

فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَضَى أَبُوكَ؟ قَالَ (عليه السلام): نَعَمْ. قُلْتُ: مَضَى مَوْتاً؟ قَالَ (عليه السلام): نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَنْ لَنَا مِنْ بَعْدِه؟ فَقَالَ (عليه السلام): إِنْ شَاءَ الله أَنْ يَهْدِيَكَ هَدَاكَ. قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ عَبْدَ الله يَزْعُمُ أَنَّه مِنْ بَعْدِ أَبِيه. قَالَ (عليه السلام): يُرِيدُ عَبْدُ الله أَنْ لَا يُعْبَدَ الله! قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَمَنْ لَنَا مِنْ بَعْدِه؟ قَالَ (عليه السلام): إِنْ شَاءَ الله أَنْ يَهْدِيَكَ هَدَاكَ. قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَأَنْتَ هُوَ؟

ص: 320

قَالَ (عليه السلام): لَا، مَا أَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: فِي نَفْسِي: لَمْ أُصِبْ طَرِيقَ الْمَسْأَلَةِ. ثُمَّ قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، عَلَيْكَ إِمَامٌ؟ قَالَ (عليه السلام): لَا، فَدَاخَلَنِي شَيْءٌ لَا يَعْلَمُ إِلَّا الله عَزَّ وجَلَّ إِعْظَاماً لَه وهَيْبَةً، أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحُلُّ بِي مِنْ أَبِيه (عليه السلام) إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْه. ثُمَّ قُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَسْأَلُكَ عَمَّا كُنْتُ أَسْأَلُ أَبَاكَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): سَلْ تُخْبَرْ ولَا تُذِعْ، فَإِنْ أَذَعْتَ فَهُوَ الذَّبْحُ.

فَسَأَلْتُه فَإِذَا هُوَ بَحْرٌ لَا يُنْزَفُ. قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، شِيعَتُكَ وشِيعَةُ أَبِيكَ ضُلَّال، فَأُلْقِي إِلَيْهِمْ وأَدْعُوهُمْ إِلَيْكَ وقَدْ أَخَذْتَ عَلَيَّ الْكِتْمَانَ؟ قَالَ (عليه السلام): مَنْ آنَسْتَ مِنْه رُشْداً فَأَلْقِ إِلَيْه وخُذْ عَلَيْه الْكِتْمَانَ، فَإِنْ أَذَاعُوا فَهُوَ الذَّبْحُ -وأَشَارَ بِيَدِه إِلَى حَلْقِه-.

قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِه فَلَقِيتُ أَبَا جَعْفَرٍ الأَحْوَلَ فَقَالَ لِي: مَا وَرَاءَكَ؟ قُلْتُ: الْهُدَى، فَحَدَّثْتُه بِالْقِصَّةِ، قَال: ثُمَّ لَقِينَا الْفُضَيْلَ وأَبَا بَصِيرٍ فَدَخَلَا عَلَيْه وسَمِعَا كَلَامَه وسَائَلَاه وقَطَعَا عَلَيْه بِالإِمَامَةِ، ثُمَّ لَقِينَا النَّاسَ أَفْوَاجاً، فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْه قَطَعَ...(1)

تنبيه: نحوا الإعجاز

بمتابعة آيات القرآن الكريم التي ذكرت معجزات الأنبياء، نجد أنها على نحوين:

ص: 321


1- الكافي للكليني ج1 ص352 بَابُ مَا يُفْصَلُ بِه بَيْنَ دَعْوَى الْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ فِي أَمْرِ الإِمَامَةِ ح7، وتمام الحديث: إِلَّا طَائِفَةَ عَمَّارٍ وأَصْحَابَه، وبَقِيَ عَبْدُ الله لَا يَدْخُلُ إِلَيْه إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: مَا حَالَ النَّاسَ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّ هِشَاماً صَدَّ عَنْكَ النَّاسَ، قَالَ هِشَامٌ: فَأَقْعَدَ لِي بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ وَاحِدٍ لِيَضْرِبُونِي.

النحو الأول: ما أسند فعلها المباشر إلى النبي، لا إلى السماء، ومنه ما ذكره القرآن الكريم في معجزات النبي عيسى (عليه السلام)، قال تعالى: (وَرَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 49)(1)

وكذا قدرة آصف بن برخيا على إحضار عرش بلقيس (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.)(2)

النحو الثاني: ما أسند فعلها المباشر إلى الله تعالى مباشرة، لا إلى النبي، وهذه من الولاية التكوينية لله تعالى، ومنها التالي:

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلىٰ إِبْراهِيمَ)(3)

(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)(4)

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ

ص: 322


1- آل عمران 49
2- النمل 40.
3- الأنبياء 69.
4- الإسراء 59.

الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ.)(1)

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسىٰ. قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرىٰ. قالَ أَلْقِها يا مُوسىٰ. فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعىٰ. قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأَولىٰ. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلىٰ جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرىٰ. لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرىٰ.)(2)

ولا تناقض بين النحوين، فكل منهما جائز عقلاً ونقلاً، فالدلالة على صدق النبي قد تكون مباشرة من السماء، وقد تكون من فعل النبي بإذنه تعالى.

بل لا تناقض في نسبة الفعل الواحد إلى الله تعالى تارة والى البشر أخرى، كما في التوفي مثلاً، فإنه نسب إلى الله تعالى، وإلى ملك الموت، وإلى الملائكة، قال تعالى: (اللهُ يَتَوَفَّىٰ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرىٰ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.)(3)،

وقال تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.)(4)، وقال تعالى (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ

ص: 323


1- سبأ 10 – 12.
2- طه 17 -23.
3- الزمر 42.
4- السجدة 11.

عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(1)

فالنسبة إلى الله تعالى بما هو فاعل بالذات ترجع الفواعل إليه جميعاً وبإذنه، والنسبة إلى الملك والرسول بما هو فاعل وسطي وبالغير وبإذنه تعالى.

ص: 324


1- الأنعام 61.
المقالة الحادية عشرة: الولاية التشريعية لأهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

قد يتوهم البعض أن القول بالولاية التشريعية لأهل البيت (عليهم السلام) هو من الغلو، وقد تبين مراراً أن مثل هذه المناصب إنما تكون غلواً لو اُدّعي أن المعصوم حازها مستقلاً عن الله تبارك وتعالى، أما إذا كانت بإذنه جل وعلا، فلا إِشكال فيها في حد نفسها.

وحتى نستوضح الحال أكثر نذكر التالي:

مقدمة
اشارة

نبين فيها أمرين:

الأمر الأول: الفرق بين الولاية التشريعية والتكوينية

التشريعية/ القانونية: هي التي تكون بجعلٍ ممن يمنح الشرعية، كتعيين الرئيس لمدير أو وزير، فإن هذا التعيين جعل لولايته، ويسبقه جعل الرئيس والرجل الأول ممن بيده الشرعية.

دينياً، الجعل بالذات لله تعالى، وقد جعل سلسلة من الولايات له (صلى الله عليه وآله)، كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإبلاغ هذا الجعل لعلي (عليه السلام)، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ

ص: 325

إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(1)، والنبي (صلى الله عليه وآله) بلغ بقوله: (من كنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه)، فهذا جعل قانوني تشريعي من السماء، لمنصب معين.

أما التكوينية، فهي عبارة عن قدرات خارقة تظهر لدى البعض، يتمكن بها من التصرف في نظام الوجود، فهناك قدرة مشتركة بين البشر، يتساوى فيها الجميع، وهناك مستويات من القدرة لا تكون متاحة للجميع، وإنما لبعض خاص من البشر، بحيث يكون لهم قدرات خارقة يتصرفون بها في عالم الوجود، فتلك القدرة الخارقة هي الولاية التكوينية.، فهي عبارة عن اقتدار خاص ونادر يتيح لصاحبه أن يدخل في منظومة السببية في عالم الوجود، والذي يقال في المعجزة.

ومن هنا، يتبين: أن الفارق الماهوي بين الولايتين دينياً هو:

أن التشريعية: هي صلاحية تُمنح من السماء لفرد، على إعمال قدرته بحدود الصلاحية الممنوحة، وإن كان لدى الفرد قدرة أوسع، لكنها مقيدة بحدود الصلاحيات.

أما التكوينية: فهي قدرة تكوينية واقعية حقيقية، يحصل عليها الفرد نتيجة عوامل معينة يتصرف بها في نظام العالم.

الأمر الثاني: ضرورة المؤهلات الخاصة للولاية التشريعية

إن من ثوابت الدين: نفي الجزاف عن فعل الله تعالى.

ص: 326


1- (67) من سورة المائدة.

والولاية –تشريعية كانت أو تكوينية- إنما هي فعل لله تعالى، فلا جزاف فيهما بكل أشكالهما ومستوياتهما، وهذا يعني: أن الواحدة منهما لا تعطى مجاناً ومن دون مؤهلات خاصة، وإلاّ فهو خلف نفي الجزاف.

فكل القدرات التكوينية والمناصب التشريعية لا تأتي جزافاً، بل إنهما يستندان إلى مؤهلات جاءت على خلفية اختبارات طويلة وصعبة ومجاهدات شاقة، حتى يصل العبد إلى مرحلة تؤهله ليكون صاحب ولاية تكوينية أو تشريعية، وهو ما أشار له القرآن الكريم بألفاظ الصبر والابتلاء والجهاد، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(1)

وقال تعالى (وَإِذِ ابْتَلىٰ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(2)

وقال تعالى (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(3)

وخلاصة تلك المؤهلات هي: العلم اللدني، والعبودية الخالصة.

فالعبودية الخالصة هي الحد الأوسط حتى لمقام الرسالة المهيمنة (الخاتم لما سبق، والفاتح لما استقبل، والمهيمن على ذلك كله)، وهي مع العلم اللدني تؤهلان العبد لشغل تلك المناصب.

ص: 327


1- العنكبوت 69.
2- البقرة 124
3- لقمان 24

والتعبير بأنه تعالى وهب الولاية لعبد، لا يعني الجزاف، وإنما هو تعبير أدبي يحكي تفضل الله تعالى على عباده الذين لا يملكون عليه أي استحقاق، فكل ما عند البشر إنما هو بتفضل من الله تعالى.

فالولاية تعتمد على مؤهلات موجودة، على أساسها تم جعل العبد في مقام تشريعي أو تكويني معين.

وبعد هذه المقدمة نذكر:

ولايات المعصوم التشريعية
اشارة

ذكر بعض العلماء(1) عشر ولايات تشريعية للمعصوم، نعرضها بشكل سريع:

الولاية الأولى: ولاية التبليغ وبيان الحكم الشرعي

إن أصل فكرة التبليغ وأنها مهمة الأنبياء هي ظاهرة قرآنية واضحة، وقد صرحت بذلك الآيات الكريمة، من قبيل قوله تعالى (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ.)(2)

وقوله تعالى: (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(3)

ص: 328


1- ذكرها المرحوم السيد محمد مهدي الخلخالي في كتابه (الحاكمية في الإسلام).
2- الأعراف 61 و 62.
3- الرعد 40.

وقوله تعالى: (فَهَلْ عَلَىٰ الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(1)

الولاية الثانية: ولاية تشريع الأحكام (أو ولاية التفويض)
اشارة

إن مطالعة الروايات الشريفة(2)، تكشف عن أن ظاهرة التشريع قد أتيحت للمعصومين (عليهم السلام)، ولترتيب المطلب نذكر الفرعين التاليين(3):

الفرع الأول: من تشريعات النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)

أمَّا ما يُنقَل من تشريعات النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فهذه بعضها:

1 - إنَّ الله تعالىٰ فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فأضاف النبيُّ (عليه السلام) للظهرين والعشاء ركعتين ركعتين.

ومن هنا نجد أنَّ الشكَّ في أوَّل ركعتين من كلِّ صلاة وفي صلاة المغرب مبطل لها، وأمَّا في الثالثة والرابعة من الرباعية فيمكن علاجه، وقد وضَّح هذه المسألة الإمام الباقر (عليه السلام) حين بيَّن أنَّ أوَّل ركعتين فرض من الله تعالىٰ، وهو لا يصحُّ الشكُّ فيه، وأمَّا الثالثة والرابعة فهما سُنَّة من رسول الله (عليه السلام) فيمكن علاجه.

وهكذا في السفر، تسقط الركعتان اللتان سنَّهما رسول الله (عليه السلام) ولا يسقط

ص: 329


1- النحل 35.
2- عقد الشيخ الكليني في الكافي باباً بعنوان: (بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) فِي أَمْرِ الدِّينِ) ذكر فيه عشرة أحاديث، وغيره من الأحاديث التي سنذكر بعضاً منها قريباً إن شاء الله تعالى.
3- للتفصيل أكثر، انظر: الهدى والضلال في القرآن الكريم- الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي- ص150 وما بعدها.

الفرض الإلهي.

عن عليِّ بن مهزيار، قال: قال بعض أصحابنا لأبي عبد الله (عليه السلام): ما بال صلاة المغرب لم يُقصِّر فيها رسول الله (عليه السلام) في السفر والحضر مع نافلتها؟

قال: «لأنَّ الصلاة كانت ركعتين ركعتين، فأضاف رسول الله (عليه السلام) إلىٰ كلِّ ركعتين ركعتين، ووضعها عن المسافر، وأقرَّ المغرب علىٰ وجهها في السفر والحضر، ولم يُقصِّر في ركعتي الفجر أن يكون تمام الصلاة سبع عشرة ركعة في السفر والحضر»(1).

وعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَمَّا عُرِجَ بِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، نَزَلَ بِالصَّلَاةِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ والْحُسَيْنُ زَادَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) سَبْعَ رَكَعَاتٍ شُكْراً لله تعالى، فَأَجَازَ اللهُ لَه ذَلِكَ، وتَرَكَ الْفَجْرَ لَمْ يَزِدْ فِيهَا لِضِيقِ وَقْتِهَا؛ لأَنَّه تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلَائِكَةُ النَّهَارِ، فَلَمَّا أَمَرَه اللهُ بِالتَّقْصِيرِ فِي السَّفَرِ، وَضَعَ عَنْ أُمَّتِه سِتَّ رَكَعَاتٍ، وتَرَكَ الْمَغْرِبَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْئاً، وإِنَّمَا يَجِبُ السَّهْوُ فِيمَا زَادَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله)، فَمَنْ شَكَّ فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأَوَّلَتَيْنِ اسْتَقْبَلَ صَلَاتَه »(2).

2 - إنَّ الله تعالىٰ فرض في السنة صوم شهر رمضان، وسنَّ النبيُّ الأكرم (عليه السلام) صوم شهر شعبان، وثلاثة أيّام من كلِّ شهر، (والأفضل صيام

ص: 330


1- المحاسن للبرقي 2: 327/ ح 78.
2- الكافي للكليني 3: 487/ باب النوادر/ ح 2.

أوَّل خميس منه وآخر خميس منه، وأوَّل أربعاء من العشرة الثانية منه)(1).

3 - إنَّ الله تعالىٰ حرَّم الخمر، وحرَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسكر من كلِّ شراب.

4 - إنَّ رسول الله (عليه السلام) سنَّ النوافل اليومية، فأمضاها الله تعالىٰ له.

وقد وردت رواية جامعة لهذه التشريعات النبوية، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ لِبَعْضِ أَصْحَابِ قَيْسٍ الْمَاصِرِ:

إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّه فَأَحْسَنَ أَدَبَه، فَلَمَّا أَكْمَلَ لَه الأَدَبَ قَالَ: (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْه أَمْرَ الدِّينِ والأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبَادَه فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا) وإِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) كَانَ مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ لَا يَزِلُّ ولَا يُخْطِئُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَسُوسُ بِه الْخَلْقَ، فَتَأَدَّبَ بِآدَابِ الله.

ثُمَّ إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ فَأَضَافَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وإِلَى الْمَغْرِبِ رَكْعَةً فَصَارَتْ عَدِيلَ الْفَرِيضَةِ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُنَّ إِلَّا فِي سَفَرٍ وأَفْرَدَ الرَّكْعَةَ فِي الْمَغْرِبِ فَتَرَكَهَا قَائِمَةً فِي السَّفَرِ والْحَضَرِ، فَأَجَازَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه ذَلِكَ كُلَّه فَصَارَتِ الْفَرِيضَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) النَّوَافِلَ أَرْبَعاً وثَلَاثِينَ رَكْعَةً مِثْلَيِ الْفَرِيضَةِ، فَأَجَازَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه ذَلِكَ والْفَرِيضَةُ والنَّافِلَةُ إِحْدَى وخَمْسُونَ رَكْعَةً مِنْهَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ جَالِساً تُعَدُّ بِرَكْعَةٍ مَكَانَ الْوَتْرِ.

ص: 331


1- الفتاوىٰ الميسَّرة للسيِّد السيستاني: 173.

وفَرَضَ الله فِي السَّنَةِ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وسَنَّ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) صَوْمَ شَعْبَانَ وثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِثْلَيِ الْفَرِيضَةِ فَأَجَازَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه ذَلِكَ.

وحَرَّمَ الله عَزَّ وجَلَّ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا، وحَرَّمَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْمُسْكِرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَأَجَازَ الله لَه ذَلِكَ كُلَّه.

وعَافَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَشْيَاءَ وكَرِهَهَا ولَمْ يَنْه عَنْهَا نَهْيَ حَرَامٍ، إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا نَهْيَ إِعَافَةٍ وكَرَاهَةٍ ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا فَصَارَ الأَخْذُ بِرُخَصِه وَاجِباً عَلَى الْعِبَادِ كَوُجُوبِ مَا يَأْخُذُونَ بِنَهْيِه وعَزَائِمِه، ولَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْه نَهْيَ حَرَامٍ، ولَا فِيمَا أَمَرَ بِه أَمْرَ فَرْضٍ لَازِمٍ فَكَثِيرُ الْمُسْكِرِ مِنَ الأَشْرِبَةِ نَهَاهُمْ عَنْه نَهْيَ حَرَامٍ، لَمْ يُرَخِّصْ فِيه لأَحَدٍ ولَمْ يُرَخِّصْ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) لأَحَدٍ تَقْصِيرَ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ضَمَّهُمَا إِلَى مَا فَرَضَ الله عَزَّ وجَلّ، بَلْ أَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ إِلْزَاماً وَاجِباً لَمْ يُرَخِّصْ لأَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا لِلْمُسَافِرِ ولَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يُرَخِّصَ شَيْئاً مَا لَمْ يُرَخِّصْه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله)، فَوَافَقَ أَمْرُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) أَمْرَ الله عَزَّ وجَلَّ ونَهْيُه نَهْيَ الله عَزَّ وجَلَّ، ووَجَبَ عَلَى الْعِبَادِ التَّسْلِيمُ لَه كَالتَّسْلِيمِ لله تَبَارَكَ وتَعَالَى.(1)

5 - إنَّ الله تعالىٰ فرض الفرائض في الإرث، ولم يَقسِم للجدِّ شيئاً، ولكن رسول الله (عليه السلام) أطعمه السُّدُس.

فعن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى أَدَّبَ نَبِيَّه (صلى الله عليه وآله)، فَلَمَّا انْتَهَى بِه إِلَى مَا أَرَادَ قَالَ لَه (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فَفَوَّضَ

ص: 332


1- الكافي للكليني ج1 ص266 و 267 بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) فِي أَمْرِ الدِّينِ ح4.

إِلَيْه دِينَه فَقَالَ (وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُمْ عَنْه فَانْتَهُوا) وإِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ الْفَرَائِضَ ولَمْ يَقْسِمْ لِلْجَدِّ شَيْئاً، وإِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) أَطْعَمَه السُّدُسَ، فَأَجَازَ الله جَلَّ ذِكْرُه لَه ذَلِكَ وذلك قول الله (عز وجل): ]هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ[(1)»(2).

الفرع الثاني: تشريعات الأئمَّة (عليهم السلام)

وأمَّا عن تشريعات الأئمَّة (عليهم السلام)، فلا بدَّ أن نعلم أوَّلاً أنَّه وردت روايات عديدة عنهم (عليهم السلام) ظاهرها أنَّهم لا يُشرِّعون أبداً، وأنَّه لا حقَّ لهم في ذلك.

فعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يا جابر، إنّا لو كنّا نُحدِّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُحدِّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (عليه السلام) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(3).

وفي رواية ثانية: «لو أنّا حدَّثنا برأينا ضللنا كما ضلَّ من كان قبلنا، ولكنّا حدَّثنا ببيِّنة من ربِّنا، بيَّنها لنبيِّه فبيَّنها لنا»(4).

وفي رواية ثالثة: «مهما أجبتك فيه من بشيء فهو عن رسول الله (عليه السلام)، لسنا نقول برأينا من شيء»(5).

ص: 333


1- ص: 39.
2- الكافي للكليني 1: 267/ باب التفويض إلىٰ رسول الله (عليه السلام) وإلىٰ الأئمَّة (علیهم السلام) في أمر الدين/ ح 6. وراجع للتفاصيل أكثر: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر السبحاني 2: 626.
3- بصائر الدرجات للصفّار: 319/ الجزء 6/ باب 14/ ح 1.
4- بصائر الدرجات للصفّار: 319/ الجزء 6/ باب 14/ ح 2.
5- بصائر الدرجات للصفّار: 320 و321/ الجزء 6/ باب 14/ ح 8.

ولكن في نفس الوقت وردت روايات أُخرىٰ تدلُّ علىٰ أنَّهم قاموا بعملية التشريع، فكيف الجمع بينهما؟

يمكن الجمع بأنَّهم (عليهم السلام) لا يُشرِّعون تشريعاً من عند أنفسهم، وهو ما عبَّر عنه الإمام الباقر (عليه السلام) بأنَّهم لو كانوا يفتون وفق أهوائهم لهلكوا، وإنَّما هم يُشرِّعون لمكان عصمتهم التي تعني فيما تعنيه علماً لدنّياً موافقاً للواقع، بمعنىٰ أنَّهم لعلمهم وعصمتهم يمكنهم أن يُحدِّدوا ويُشخِّصوا المصالح من المفاسد، ويعطوا أحكاماً موافقة للواقع، وهو ما عبَّر عنه الإمام الصادق (عليه السلام): «فوَالله ما نقول بأهوائنا، ولا نقول برأينا، ولا نقول إلَّا ما قال ربُّنا»(1).

وبعبارة أخرى: أن تشريعاتهم (عليهم السلام) إنما هي في طول تشريعات القرآن الكريم وتشريعات النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا تعارضها، فالجميع يأخذ من منبع واحد، ويصب في مصبٍّ واحد.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فيمكن استفادة أنَّهم (عليهم السلام) كانوا يُشرِّعون وفق المصالح والمفاسد، ووفق ما أذن الله تعالى لهم في ذلك، من الروايات التي يُعبِّرون (عليهم السلام) فيها بأنَّهم يكرهون كذا وأنَّهم يرون كذا، ومن الروايات التي صرّحت بصدور تشريع منهم (عليهم السلام).

والروايات الدالّة علىٰ ذلك كثيرة، منها:

1 - ورد أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فرض زكاة علىٰ الخيل، فعن الإمامين الباقر

ص: 334


1- بصائر الدرجات للصفّار: 320/ الجزء 6/ باب 14/ ح 7.

والصادق (عليهما السلام) أنَّهما قالا: «وضع أمير المؤمنين صلوات الله عليه علىٰ الخيل العتاق الراعية في كلِّ فرس في كلِّ عام دينارين، وعلىٰ البراذين ديناراً»(1).

2 - وعن عليِّ بن مهزيار أنَّ الإمام الجواد (عليه السلام) عندما جاء إلىٰ بغداد في عام (220ه) فرض خمساً آخر غير الخمس الواجب المتعارف عليه في قسم عظيم من الأموال، ولمرَّة واحدة فقط(2)،

ولعلَّ ذلك (أنَّه لمَّا جاء الإمام الجواد (عليه السلام) إلىٰ بغداد، كان الشيعة يعانون الفاقة والضنك، ولذا فرض الإمام (عليه السلام) الخمس تلك السنة لحلِّ هذه المشكلة الخاصَّة)(3).

وهذا وإن أمكن حمله علىٰ عنوان الحكم الثانوي، ولكنَّه علىٰ أيِّ حالٍ تشريع واضح.

3 - عن عليِّ بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)... عن تبعيض السورة، فقال: «أكره، ولا بأس به في النافلة»(4).

4 - عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لا بأس بأن يحتجم الصائم إلَّا في رمضان، فإنّي أكره أن يُغرِّر بنفسه إلَّا أن لا يخاف علىٰ نفسه،

ص: 335


1- الكافي للكليني 3: 530/ باب ما يجب عليه الصدقة من الحيوان وما لا يجب/ ح1؛ وفي هامش المصدر: (... والعتيق: العربية الكريمة الأصل. والبرذون: العجمية الأصل، أو ما سوىٰ العتيق. وهذه الزكاة حملها في الاستبصار علىٰ الاستحباب لما ثبت من انتفاء الوجوب عمَّا سوىٰ الأصناف التسعة. قيل: ويحتمل أن يكون في أموال المجوس ونحوهم جزية أو عوضاً عن انتفاعهم بمرعىٰ المسلمين).
2- تهذيب الأحكام للطوسي 4: 141/ ح (398/20).
3- انظر: نفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي 10: 83.
4- تهذيب الأحكام للطوسي 2: 296/ ح (1192/48).

وإنّا إذا أردنا الحجامة في رمضان احتجمنا ليلاً»(1).

5 - عن عبد الله بن هلال، قال: « سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الثَّوْبِ يَكُونُ مَصْبُوغاً بِالْعُصْفُرِ(2)

ثُمَّ يُغْسَلُ أَلْبَسُه وأَنَا مُحْرِمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ الْعُصْفُرُ مِنَ الطِّيبِ، ولَكِنْ أَكْرَه أَنْ تَلْبَسَ مَا يَشْهَرُكَ بِه النَّاسُ »(3).

6 - عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال فِي الرَّجُلِ يَجُرُّ ثَوْبَه قَالَ (عليه السلام): إِنِّي لأَكْرَه أَنْ يَتَشَبَّه بِالنِّسَاءِ.(4).

7 - عن الإمام عليٍّ (عليه السلام)، قال: «نهىٰ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يُسلَّم علىٰ أربعة: علىٰ السكران في سكره، وعلىٰ من يعمل التماثيل، وعلىٰ من يلعب بالنرد، وعلىٰ من يلعب بالأربعة عشر، وأنا أزيدكم الخامسة: أنهاكم أن تُسلِّموا علىٰ أصحاب الشطرنج»(5).

من نصوص التفويض التشريعي إليهم (عليهم السلام)

فضلاً عن كل ما تقدم، فإن الهناك الكثير من النصوص التي دلت على أن الله تعالى فوّض إليهم أمر الدين، وهو يعني فيما يعنيه الولاية التشريعية بهذا المعنى الذي نحن بصدده، بل قد تشمل كل معاني الولاية المذكورة، وقد ذكر الصفار في بصائر الدرجات أكثر من ثلاثين حديثاً تدل على هذا

ص: 336


1- تهذيب الأحكام للطوسي 4: 260/ ح (776/14).
2- هو صبغ أصفر اللون. (من المصدر).
3- الكافي للكليني 4: 342/ باب ما يلبس المحرم من الثياب وما يُكرَه له لباسه/ ح 17.
4- الكافي للكليني 6: 458/ باب تشمير الثياب/ ح 12.
5- الخصال للصدوق: 237/ ح 80.

المعنى(1)،

وذكر الشيخ الكليني في الكافي عشر روايات في ذلك(2)، وغيرهما من المصادر، ونذكر نموذجاً واحداً من تلك النصوص، وهو ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي (عليه السلام)، فَأَجْرَيْتُ اخْتِلَافَ الشِّيعَةِ، فَقَالَ (عليه السلام): يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِه، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وعَلِيّاً وفَاطِمَةَ (عليهم السلام) فَمَكَثُوا أَلْفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ، فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا، وأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا، وفَوَّضَ أُمُورَهَا إِلَيْهِمْ، فَهُمْ يُحِلُّونَ مَا يَشَاؤُونَ، ويُحَرِّمُونَ مَا يَشَاؤُونَ، ولَنْ يَشَاؤُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى. ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): يَا مُحَمَّدُ، هَذِه الدِّيَانَةُ الَّتِي مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، ومَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مَحَقَ، ومَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ، خُذْهَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ.(3)

إشكال وجواب:

التنافي بين الولاية التشريعية للمعصوم وبين حصر الكتاب التشريع بالله تعالى.

قد يُقال: إن ظاهر العديد من الآيات الكريمة تدل على حصر مهمة الأنبياء بتبليغ التشريع، وأن التشريع حصراً بيد الله تعالى، من قبيل:

ص: 337


1- يُنظر: بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص 398 باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله. وص 403 باب في أن ما فوض إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد فوض إلى الأئمة عليهم السلام.
2- يُنظر: الكافي للكليني ج1 ص 265 بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) فِي أَمْرِ الدِّينِ.
3- الكافي للكليني ج1 ص 441 - ح5.

قوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحىٰ إِلَيَّ)(1)

وقوله تعالى: (وَإِذا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(2)

وقوله تعالى في حق النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوىٰ)(3)الدال على أن ما يأتي به النبي (صلى الله عليه وآله) إنما هو وحي من الله تعالى، لا من عنده (صلى الله عليه وآله).

وبعبارة ثانية:

تقدم أن الأسماء والصفات الإلهية نوعان:

1/مستأثرة: أي خاصة بمرتبة واجب الوجود (جل وعلا)، كوجوب الوجود والإطلاق واللا تناهي، فما عدا الله تعالى كله ممكن محدود متناهٍ.

2/ غير مستأثرة: يمكن أن توجد في مرتبتي الوجود الواجبة والممكنة، كالعلم، ففي مرتبة الواجب جل وعلا يوجد علم متناسب مع وجوبه ولا تناهيه، وفي المرتبة الممكنة من الوجود أيضاً يوجد علم متناسب معها.

ومعه قد يُقال: هل التشريع فعل مستأثر حصره الله تعالى به، وما دونه –من أنبياء ومعصومين- هم مجرد حملة ومبلغين لتشريع الله تعالى، كلٌّ منهم

ص: 338


1- الأنعام 50.
2- يونس 15.
3- النجم 3 – 5.

معنيٌّ بنقل فعل وتشريع الله تعالى لعبيده؟

أو إنه ليس كذلك، وإنما هو فعل غير مستأثر، فهو في عين كونه فعل الله تعالى مباشرة، ولكنه في الوقت ذاته خوّل أنبياءه بممارسته نسبياً، ولو كن كذلك فكيف نحلّ التعارض مع ظاهر كتاب الله تعالى الذي يحصر التشريع به تعالى كما تقدم.

والجواب:

إن التعارض يصحّ لو كانت تشريعات النبي (صلى الله عليه وآله) هي بالاستقلال عن الله تعالى ومن دون إذنه، أو إذا كانت تشريعاته تخالف التشريعات الإلهية، فهذا المعنى لا خلاف في كونه خروجاً عن الدين، وهو من الغلو.

وبعبارة أخرى: أن أقصى ما تنفيه الآياتُ -التي حصرت عمل النبي بالوحي- هو استقلال النبي بالتشريع من عندياته وبلا أن تجعل السماء مرجعية له، والناتج من اجتهاده الشخصي ولو كان مخالفاً للسماء.

وهذا ليس نقطة خلاف، فإن تشريعه ما زال مستنداً إلى السماء وموافقاً له، وهذا ما تؤيده النصوص القرآنية والروائية، فقوله تعالى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(1)يفيد

أن المنفي هو التشريع الذي هو معصية، بدليل ذيل الآية (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

ص: 339


1- يونس 15.

وهكذا قوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوىٰ)(1) فما يشرعه النبي ليس ناتجاً عن الهوى، وإنما هو من الوحي، مما يعني استناده إلى السماء.

من ثَمّ نجد التنبيه على هذا المعني في ذيل رواية أبي عبد الله (عليه السلام) المتقدمة: (...فَوَافَقَ أَمْرُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) أَمْرَ الله عَزَّ وجَلَّ ونَهْيُه نَهْيَ الله عَزَّ وجَلَّ، ووَجَبَ عَلَى الْعِبَادِ التَّسْلِيمُ لَه كَالتَّسْلِيمِ لله تَبَارَكَ وتَعَالَى.(2)

فتشريع النبي (صلى الله عليه وآله)، كخبره عن السماء، مستمد من السماء، ولذا وافق أمره أمر الله تعالى، ونهيه نهي الله تعالى، فهي ولاية متصلة بالمادة الأساسية التي هي السماء.

ونفس الكلام يُقال في تشريع المعصوم.

فلا يتوهمنّ أحدٌ أن المراد من الولاية التشريعية التي جُعلت للنبي أو المعصوم هي الولاية بالاجتهاد الشخصي وبمعزل عن السماء ومتمرداً عليها، بل هذا لا معنى محصلاً له مع افتراض عصمة النبي والإمام، كيف وهو والمعصومين (عليهم السلام): (محال معرفة الله تعالى) وهم (عيبة علم الله تعالى).

فالحديث إنما هو عن كون النبي مشرعاً مع كونه معصوماً لا يخطئ مرادات الله تعالى.

ص: 340


1- النجم 3 – 5.
2- الكافي للكليني ج1 ص266 و 267 بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وإِلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) فِي أَمْرِ الدِّينِ ح4.

ومما يؤكد أن تشريع المعصوم ليس تشريعاً مستقلاً عن الكتاب والسنة النبوية، هي مجموعة من النصوص ذلك –وقد تقدمت بعضها-، من قبيل:

أ.. ما روي عن جابر، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يا جابر، لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأُصول علم عندنا، نتوارثها كابراً عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(1).

ب.. وروي عن قتيبة، قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ إنْ كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: «مَهْ، ما أجبتُك فيه من شيء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لسنا من: أرأيتَ(2)

في شيء»(3).

ج.. وعَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَاسْأَلُونِي مِنْ كِتَابِ الله.

ثُمَّ قَالَ فِي بَعْضِ حَدِيثِه: إِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) نَهَى عَنِ الْقِيلِ والْقَالِ، وفَسَادِ الْمَالِ، وكَثْرَةِ السُّؤَالِ. فَقِيلَ لَه: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، أَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ الله؟ قَالَ:

ص: 341


1- بحار الأنوار 2: 172/ ح 3، عن بصائر الدرجات: 320/ باب في الأئمَّة أنَّ عندهم أُصول العلم ما ورثوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يقولون برأيهم/ ح 4.
2- لمَّا كان مراده أخبرني عن رأيك الذي تختاره بالظنِّ والاجتهاد نهاه (عليه السلام) عن هذا الظنِّ وبيَّن له أنَّهم لا يقولون شيئاً إلَّا بالجزم واليقين وبما وصل إليهم من سيِّد المرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 58/ باب البِّدَع والرأي والمقاييس/ ح 21).

إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وقَالَ: (ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً) وقَالَ: (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).(1)

الولاية الثالثة: ولاية القضاء
اشارة

وفي بيانها نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولى: تعريف السلطة القضائية

عرف الشهيد الأول القضاء بأنه: (ولاية شرعيّة على الحكم في المصالح العامّة من قبل الإمام).(2)

وعرفه الشهيد الثاني في المسالك، بأنه: (ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية، على أشخاص معينة من البرية، بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق)(3)

فيشترك التعريفان في أن القضاء ولاية تطبيقية لحكم كلي تثبت حكماً جزئياً وتُلزِم به.

ففرقٌ بين أن يقول الفقيه (إذا رُئي الهلال ثبت الشهر، إذا استدان شخص من آخر فعليه أن يؤدي الدين لصاحب الحق) مما هو فتوى في فضاء

ص: 342


1- الكافي للكليني ج1 ص60 بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وأَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ وجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه إِلَّا وقَدْ جَاءَ فِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ- ح5.
2- الدروس الشرعية في فقه الإمامية- الشهيد الأول- ج2 ص65.
3- مسالك الأفهام للشهيد الثاني ج13 شرح ص 325.

المعرفة فقط، وإنْ كان فيها إلزام معرفي، لكنه لا يصل إلى حد الإلزام العملي، وبين أن يقول: (أحكم بأن غداً عيد، أحكم بأنك مدين) فالأخير فيه إعمال للولاية والسلطة بتطبيق الفتوى الكلية على حالة جزئية مع الإلزام بها.

فالولاية القضائية عبارة عن تطبيق الكلي على الجزئي والإلزام بالجزئي، مع وجود اختلاف في سعة وضيق أنشطة القضاء وصلاحيات القاضي.

ولا شك في ثبوت هذه الولاية للمعصوم (عليه السلام) بلا أدنى شك.

النقطة الثانية: ضرورة السلطة القضائية

إن العلم وحده لا يكفي لإلزام الناس بالفعل، فكثير من الناس يعلم بالحكم، أو بالقانون، ولكنه يتمرد عليه، فالقضاء، والإلزام العملي، ضرورة، في إلزام الناس بالنظام وبالقانون وبالحكم.

والآيات الكريمة تبين هذه الضرورة:

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلىٰ أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(1)

هذه الآية واضحة في أن الله تعالى بعد أن شّرع الحكم بلزوم ردّ الأمانة، فإنه جل وعلا أمر بأن يكون الحكم بالعدل، فلو كانت القضية تنحل بحكم شرعي أو إلزام معرفي، لما كانت هناك ضرورة للأمر بالحكم بالعدل فيما لو حصل اختلاف، مما يعني أنه لا غنى للمجتمع عن تلك السلطة القضائية

ص: 343


1- النساء 58.

لتوفير العدالة والاستقرار.

وقال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)(1)فإنزال الكتاب لوحده غير كافٍ لفض النزاعات، بل لا بد من الحكم والقضاء، فالقضاء تتمة للفضاء المعرفي.

وعلى نفس المنوال جاء قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(2)

وقوله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(3)

(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(4)

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(5)فهذه

الآية واضحة في أن الخلافة بلا حاكمية وقضاء لا تستقيم، مما يشير إلى تشريع بل وضرورة ولاية القضاء.

ص: 344


1- النساء 105.
2- النساء 59.
3- النساء 65.
4- المائدة 42.
5- ص 26.

والحاصل:

أن العوامل الأخلاقية والفقهية والقانونية مع ما يحفها من فطرية الدين والنبوات والجنة والنار، كلها لم تغنِ عن الحاجة الأساسية للسلطة القضائية، والمسألة أقرب إلى البديهية منها إلى النظرية.

النقطة الثالثة: هل هذه الولاية مختصة بالمعصوم (عليه السلام)؟
اشارة

إن للاختصاص مستويين:

المستوى الأول: الخاص بمعنى المستأثر

أي أن يكون المنصب خاصاً بالمعصوم ولا يثبت لغيره بأي وسيلة من وسائل الإثبات، فهي صلاحية حصرية بالمعصوم، ومن هذا القبيل: ولاية التشريع.

المستوى الثاني: الخاص بمعنى الأصل

فالمنصب خاص بالإمام بالأصالة، وأما غيره فهو إن حاز عليه فهو بالنيابة، بحيث يكون فرعاً ونائباً عن الأصل.

وهذا يعني ترتيب هرمية القدرة والسلطة، بأن يأخذ الآخر موقع النيابة عن الأصل، فهو مقيد بتطبيق تشريعات المعصوم.

وولاية القضاء هي من النوع الثاني، فهي:

أولاً: بالأصل للمعصوم، كما دلت عليه بعض النصوص.

ص: 345

من قبيل ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لِشُرَيْحٍ: يَا شُرَيْحُ، قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لَا يَجْلِسُه إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ.(1)

يدل الحديث بوضوح أن القضاء ولاية (مجلس)، وأنه خاص بالمعصوم.

ومن قبيل ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أنه قَالَ: اتَّقُوا الْحُكُومَةَ، فَإِنَّ الْحُكُومَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلإِمَامِ الْعَالِمِ بِالْقَضَاءِ الْعَادِلِ فِي الْمُسْلِمِينَ لِنَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ.(2)

فالرواية قيدت القضاء بكونه (لِنَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ).

والنصوص القرآنية تشهد بذلك أيضاً:

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)(3)

فالآية فرّعت الحكم بين الناس على جعله خليفة، فمن شؤون الخلافة في الأرض هو القضاء، فهو منصب مختص، فإن وجد في غير المعصوم فإنما هو بتعيينه ونصبه.

ثانياً: لكنها –أي ولاية القضاء- يمكن أن تكون لغير المعصوم، بشرط أن يكون ذلك بإذنه وتخويل منه.

ص: 346


1- الكافي للكليني ج7 ص 406 بَابُ أَنَّ الْحُكُومَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلإِمَامِ (عليه السلام) ح2.
2- الكافي للكليني ج7 ص 406 بَابُ أَنَّ الْحُكُومَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلإِمَامِ (عليه السلام) ح1.
3- ص 26.

وهو ما يستفاد من بعض النصوص أيضاً.

من قبيل: ما جاء في مقبولة عُمَر بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ أَوْ مِيرَاثٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ وإِلَى الْقُضَاةِ، أيَحِلُّ ذَلِكَ؟

قَالَ (عليه السلام): مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ، ومَا يَحْكُمُ لَه فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتاً، وإِنْ كَانَ حَقّاً ثَابِتاً، لأَنَّه أَخَذَه بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ، وقَدْ أَمَرَ الله تعالى أَنْ يُكْفَرَ بِه، قَالَ الله تَعَالَى (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِه).

قُلْتُ: فَكَيْفَ يَصْنَعَانِ؟ قَالَ (عليه السلام): يَنْظُرَانِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، ونَظَرَ فِي حَلَالِنَا وحَرَامِنَا، وعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَلْيَرْضَوْا بِه حَكَماً، فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُه عَلَيْكُمْ حَاكِماً، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْه مِنْه فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ الله، وعَلَيْنَا رَدَّ، والرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى الله، وهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِالله.(1)

فقوله (عليه السلام): (فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُه عَلَيْكُمْ حَاكِماً) واضح في أن منصب القضاء يمكن أن يكون لغير المعصوم لكن بإذنه.

الولاية الرابعة: ولاية إجراء الحدود

لا شك ولا خلاف أن إجراء الحدود هي من آثار ونتائج القدرة والسلطة، وليست قضية معرفية بحتة، وهي -تحديداً- إعمال للقدرة وتنفيذ

ص: 347


1- الكافي للكليني ج1 ص67 بَابُ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ح10.

لحكم الحاكم، هي عملية إجراء وتطبيق لما تنتهي إليه السلطة القضائية من إلزام، أي إنها سلطة لازمة للسلطة القضائية.

وإن البداهة تقضي بأن الأصل في ولاية إجراء الحدود هي أنها ولاية مختصة بالمعصوم، باعتبار أن الولاية عموماً تعني تسلّط شخص على آخر في نفسه أو ماله أو عرضه، وتحديد حريته وسلطنته فيها، وبديهي أن الأصل عدمه إلاّ ما ثبت بالدليل؛ فالناس أحرار في أنفسهم مسلطون عليها وعلى أموالهم، ومع ذلك فإنه لا بد -وكحد أدنى- أن تثبت للمعصوم ولاية إجراء الحدود، وإلاّ لزم لغوية تشريع الحدود، فيكون ثبوتها للمعصوم هو القدر المتيقن منها، وأما غيره فالأصل عدم ثبوتها له، وثبوتها للمعصوم لا يلازم ثبوتها لغيره، اللهم إلا أن يثبتها الدليل اللفظي.

ومما يدل على أن الأصل فيها هو المعصوم، ما روى سليمان بن داود المنقري، عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من يقيم الحدود السلطان أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم.(1)

فهذه الرواية تفيد أن إجراء الحدود يكون بيد من له الحكم.

وعن علي (صلوات الله عليه) أنه قال: لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا بإمام.(2)

فهذه الرواية تجعل الحدود من اختصاصات الإمام.

ص: 348


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج4 ص 71 و 72 ح5135.
2- دعائم الإسلام للقاضي المغربي ج1 ص182.

قال العلامة الحلي: لا يجوز لأحد إقامة الحدود غير الإمام أو من نصبه الإمام لإقامتها.(1)

نعم، يمكن للمعصوم أن يأذن ويخوّل من يُجري الحدود، وهذا لا مانع منه، وبه تفسر الآيات التي ظاهرها إتاحة إجراء الحدود للجميع، من قبيل قوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(2)

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(3)

فهذه الآيات –بقرينة الروايات المتقدمة- تعني أنه يمكن لغير المعصوم أن يُجري الحدود لكن بإذن المعصوم.

الولاية الخامسة: ولاية الطاعة للأوامر الشرعية
اشارة

حتى تتبين هذه الولاية، نُذكّر بأن الطاعة في الإسلام لها مرتبتان رئيستان:

أ طاعة الله تعالى

إن أصل مبدأ لزوم الطاعة لله تعالى هو أمر ثابت قرآنياً، كما تشهد عليه مجموعة من الآيات الكريمة، مثل:

ص: 349


1- تحرير الأحكام للعلامة الحلي ج2 ص242.
2- النور 2.
3- المائدة 38.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً.)(1)

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلىٰ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2)

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(3)

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(4)

بل هو في مرحلة سابقة ثابت عقلي، فالعقل يدرك لزوم طاعة الله تعالى لأنه الخالق المالك الرب المولى.

ب طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر
اشارة

وهو ثابت قرآني كما هو صريح الآيات المتقدمة، ويمكن تصوير لزومها العقلي بأحد وجهين:

الوجه الأول: أن الرسول وسيط بين الله تعالى وبين البشر

إن العقل يحكم بلزوم طاعة الرسول باعتبار شخصيته الحقوقية، وهي

ص: 350


1- النساء 59.
2- المائدة 92.
3- الأنفال 1.
4- الأنفال 46.

رسالته، التي تعني كونه وسيطاً بين السماء والبشر، فهو يبلغ أوامر الله تعالى للبشرية، فافتراض عدم لزوم طاعته يساوق عدم لزوم طاعة الله تعالى، وهو خلف الحكم العقلي بلزوم طاعة الخالق والرب والمالك المتقدم.

الوجه الثاني: أن الرسول مخبر معصوم عن الواقع

إن الرسول معصوم، والمعصوم يُخبر عن الواقع، وقد تقدم أن للواقع إلزاماً على العالم به، بل ولو مع الظن به بواسطة الثقة، فكيف بما لو أخبر به المعصوم.

وبنفس هذا المعنى يثبت لزوم طاعة أهل البيت (عليهم السلام)، لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول (صلى الله عليه وآله) في إيصال الدين إلينا، فضلاً عن كونهم (عليهم السلام) مخبرين معصومين عن الواقع، وهو ما تشير له العديد من النصوص، من قبيل ما روىٰ جابر، قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليهما السلام): إذا حدَّثتني بحديث فأسنده لي، فقال: «حدَّثني أبي، عن جدّي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله (تعالى)، وكلُّ ما أُحدِّثك بهذا الإسناد»، وقال (عليه السلام): «يا جابر، لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها»(1).

وروىٰ حفص بن البختري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): نسمع الحديث منك، فلا أدري منك سماعه أم من أبيك؟ فقال (عليه السلام): «ما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته منّي فاروه عن رسول الله صلى الله عليه وآله»(2).

ص: 351


1- أمالي المفيد: 42/ ح 10.
2- وسائل الشيعة للحرِّ العاملي 27: 104/ ح (33331/86).

بل ورد عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وحَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وغَيْرِه قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ، وحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ، وحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليهم السلام)، وحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وحَدِيثُ رَسُولِ الله قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ.(1)

وفي نص أخر للإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي حنيفة: فاتق الله يا نعمان، ولا تقس، فإنا نقف غدا، نحن وأنت ومن خالفنا، بين يدي الله، فيسألنا عن قولنا، ويسألكم عن قولكم، فنقول: قلنا: قال الله وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء.(2)

ص: 352


1- الكافي للكليني ج1 ص 53 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح4.
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ج1 ص 91، وتمام الرواية: عن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال لأبي حنيفة وقد دخل عليه، قال له: يا نعمان، ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصا من كتاب الله ولا خبراً عن الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أقيسه على ما وجدت من ذلك، قال له: إن أول من قاس إبليس فأخطأ إذ أمره الله عز وجل بالسجود لآدم (عليه السلام)، فقال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، فرأى أن النار أشرف عنصراً من الطين، فخلده ذلك في العذاب المهين، أي نعمان، أيهما أطهر المنيُّ أم البول؟ قال المنيّ، قال: فقد جعل الله عز وجل في البول الوضوء وفى المنيّ الغسل، ولو كان يحمل على القياس لكان الغسل في البول، وأيهما أعظم عند الله، الزنا أم قتل النفس؟ قال: قتل النفس، قال: فقد جعل الله عز وجل في قتل النفس شاهدين وفى الزنا أربعة، ولو كان على القياس لكان الأربعة الشهداء في القتل، لأنه أعظم، وأيهما أعظم عند الله، الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة، قال: فقد أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحائض أن تقضى الصوم، ولا تقضى الصلاة، ولو كان على القياس لكان الواجب أن تقضى الصلاة، فاتق الله يا نعمان، ولا تقس، فإنا نقف غدا، نحن وأنت ومن خالفنا، بين يدي الله، فيسألنا عن قولنا، ويسألكم عن قولكم، فنقول: قلنا: قال الله وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء.
الولاية السادسة: ولاية الطاعة في الأوامر العرفيّة

والمقصود من «الأوامر العرفية» هو ما يصدره النبي أو الإمام من تعاليم معينة بلحاظ مصالحه الشخصية، و ما يلقيه من أوامر خاصة أو عامة من هذا المنطلق، من دون أن تمت إلى مصالح المسلمين بأية صلة أصلاً.

ففي هذه الولاية، يُراد إثبات لزوم الطاعة للأمر الذي ترجع مصلحته إلى الولي لا إلى المولى عليه، فهو لون خامس من الأوامر، وهي الأوامر العرفية أو الشخصية.

وهذه الولاية ثابتة للمعصوم، بعد الالتفات إلى أن الآمر ما دام هو معصوماً، فحتى في أوامره الشخصية هناك منفعة ترجع إلى المكلف، ولو كانت هي التربية أو الحصول على الثواب.

وقد دلت الآيات على هذا المعنى من الطاعة الواجبة، من قبيل قوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلىٰ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(1)

ومثل قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ)(2)

الولاية السابعة: ولاية التصرف في الأموال والنفوس

وهي عبارة عن «سلطة الوليّ» على التصرف في نفس المولّى عليه وماله، كما يكون لكل شخص مثل هذه السلطة على نفسه وماله. و على هذا الأساس

ص: 353


1- المائدة 92.
2- النساء 64.

يمكن للوليّ أن يبيع ما يملكه المولّى عليه، أو يزوّجه امرأة بالعقد.

ويمكن الاستدلال على ثبوت هذه الولاية للنبي (صلى الله عليه وله) بقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(1)

مفاد هذه الآية: هو ثبوت سلطة النّبي (صلى الله عليه وآله) وولايته على نفوس المؤمنين.

كما إنه يستفاد من هذه الآية أيضاً أن مدى سلطة النّبي (صلّى اللّه عليه و آله) على الأشخاص أكثر من مدى سلطتهم على أنفسهم، والحال أنه ليس هناك سلطة أعلى من سلطة الإنسان على نفسه، لأنّ السلطة على النفس أمر طبيعي وفطري، ومع ذلك فإن سلطة النّبي (صلّى اللّه عليه و آله) أعلى من تلك السلطة.

ولهذا جاء في سبب نزول هذه الآية أنّ النّبي (صلّى اللّه عليه و آله) لما أراد غزوة تبوك، وأمر الناس بالخروج، قال قوم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فنزلت هذه الآية، وهي تعني: أن النبي أولى بكم من آبائكم وأمهاتكم.(2)

إن الآية الكريمة تحدثت عن «أولويّة» النّبي بالمؤمنين من أنفسهم، لا «الولاية» فحسب، بمعنى أنّ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأحق بها منهم، وينتج عن ذلك أن يترجح ويقدم ما يريده ويرتأيه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في حق المسلمين على ما يريدونه ويرتأونه هم في حق أنفسهم، وتظهر ثمرة (الولاية الأولى) عند اختلاف الإرادتين، وإلا فمع توافق الإرادتين لا تبرز الأولوية.(3)

ص: 354


1- الأحزاب 6.
2- انظر: تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج8 ص 121 و 122.
3- الحاكمية في الإسلام للسيد الخلخالي ص 229 و 230.

إن العلامة الطباطبائي في الميزان لم يقف في الأولوية عند تقدم الولي على الآخر مع التزاحم في الإرادة حول النفس والمال، بل تعدى إلى أولوية وجوده من وجود المولى عليه وكرامته وعزته وحياته من كرامة وعزة وحياة المولى عليه، فإنه مقتضى إطلاق أولويته من الشخص بكله.

قال العلامة ما نصه: فالمحصَّل: أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة وانفاذ الإرادة فالنبي أولى بذلك من نفسه، ولو دار الأمر بين النبي وبين نفسه في شيء من ذلك، كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه.

ففيما إذا توجه شيء من المخاطر إلى نفس النبي، فليقه المؤمن بنفسه، ويفده نفسه، وليكن النبي أحب إليه من نفسه، وأكرم عنده من نفسه، ولو دعته نفسه إلى شيء والنبي إلى خلافه، أو أرادت نفسه منه شيئاً وأراد النبي خلافه، كان المتعين استجابة النبي (صلى الله عليه وآله) وطاعته وتقديمه على نفسه.

وكذا النبي (صلى الله عليه وآله) أولى بهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أو الدينية، كل ذلك لمكان الإطلاق في قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم).(1)

ثم إن هذه الولاية تنتقل إلى المعصومين (عليهم السلام) بحديث الغدير، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) أثبت ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) على المسلمين كما ثبتت له (صلى الله عليه وآله)، والتي هي بمستوى (أولى بهم من أنفسهم).

ص: 355


1- تفسير الميزان ج16 ص 276.
الولاية الثامنة: ولاية الإذن أو النظارة والإشراف على المصالح العامة

هو حق النظارة والمرجعية في الأمور والحوادث التي يمكن إيقاعها والقيام بها بمشاركة الناس أنفسهم، ولكنها مع ذلك تحتاج- لعلة المحافظة على النظام- أن تتم وتتحقق تحت نظر وإشراف ولي الأمر وبإذنه، مثل صرف بعض الأقسام من أموال بيت المال كالمال المجهول المالك وسهم الإمام (عليه السلام) والزكاة على قول، أو الأموال الخاصة مثل تقاص الدائن من أموال المدين أو إجراء بعض الأعمال التي هي من واجب عموم المسلمين، ولكنها مشروطة بإذن الولي، مثل تجهيز الميت الذي لا وليّ خاص له ومثل ما هو متعارف اليوم من طلب الرخصة والاذن له كبناء المساكن الخاصة من جهة مراعاة المصالح العامة وأمثال ذلك من الأمور الحسبية.

الولاية التاسعة: ولاية الأمر أو ولاية الحكومة

وتعني حق الزعامة السياسية والاجتماعية وقيادة الدولة الإسلامية، وهي من مناصب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليه السلام) القطعية البديهية، لأن ضرورة وجود زعيم ورئيس في المجتمع البشري- صغيراً كان ذلك المجتمع أم كبيراً، متحضِّراً أكان أم بدائياً، متديناً كان أم غير متدين- أمر فطريّ وبديهيّ.

وليس المجتمع الإسلامي بمستثنى عن هذه القاعدة الكلية الفطرية، فهو أيضاً بحاجة إلى قائد سياسيّ واجتماعي، لأن الإسلام عبارة عن مجموعة القوانين التي يجب أن تطبق في المجتمع البشري، وأن تخرج من مرحلة الذهن

ص: 356

والذهنية إلى مرحلة التطبيق والواقع الخارجي العملي.

ومن المعلوم أن مجرد الرغبة النفسية في تطبيق الإسلام في الصعيد الاجتماعي لا يكفي، بل يحتاج ذلك إلى قوة تنفيذية وسلطة إجرائية أيضاً ليعاقب العصاة والمتخلفين، ويؤيد الممتثلين والمطيعين، ويستطيع المسلمون في ظل ما يتحقق ويتوفّر من أمن اجتماعي، وقضائي، واقتصادي، وسياسي، وغيره من أن يواصلوا حياتهم.

وتعبّر الثقافة الإسلامية عن مثل هذا الشخص بوليّ الأمر، وعن منصبه بالولاية، بمعنى الزعامة والقيادة السياسية، ورئاسة الحكومة والدولة الإسلامية.

و قد عهد بهذا المنصب في صدر الإسلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ عهد به من بعده إلى الأئمة المعصومين من أهل البيت (عليه السلام)، وقد أشارت إلى ذلك الكثير من النصوص، من قبيل ما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: (السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة... ودعائم الأخيار، وساسة العباد، وأركان البلاد، وأبواب الايمان... وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى... وحفظة سر الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله صلى الله عليه وآله ورحمة الله وبركاته، السلام على الدعاة إلى الله، والأدلاء على مرضاة الله... والمظهرين لأمر الله ونهيه... السلام على الأئمة الدعاة، والقادة الهداة، والسادة الولاة، والذادة الحماة، وأهل الذكر، وأولي

ص: 357

الأمر...)(1)

ولكن القيادة الإسلامية انحرفت عن المسار الأصلي المرسوم لها أثر الاختلاف الذي وقع بين المسلمين بعد وفاة رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله).

الولاية العاشرة: ولاية الإمامة أو الهداية الإيصالية أو القيادة المعنوية

هناك معانٍ أشارت لها النصوص الدينية، يظهر منها وجود علاقة وجدانية بين المعصوم والأتباع، من قبيل:

أ: التعبير عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بأنهما أبوا هذه الأمة، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى فرض عليكم طاعتي، ونهاكم عن معصيتي، وأوجب عليكم اتباع أمري، وفرض عليكم من طاعة علي بعدي ما فرضه من طاعتي، ونهاكم من معصيته عما نهاكم عنه من معصيتي، وجعله أخي ووزيري ووصيي ووارثي، وهو مني وأنا منه، حبه إيمان وبغضه كفر، ومحبه محبي، ومبغضه مبغضي، وهو مولى من أنا مولاه، وأنا مولى كل مسلم ومسلمة، وأنا وإياه أبوا هذه الأمة.(2)

فهذه الأبوة هي غير كونهما (صلوات الله عليهما) قادة الأمة وولاتها والمبلغين عن الله تعالى.

ب: ما ورد في وصف النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه قدوة، فالقدوة أمر غير الولايات السابقة، قال تعالى: 0لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا

ص: 358


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج2 ص 610 و 611.
2- الأمالي للشيخ الصدوق ص 65 ح 30 / 6.

اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً)(1)

ج: بيان أن من مهام النبي (صلى الله عليه وآله) أنه يقوم بتزكية نفوس أتباعه، فإنها مما لم تتم تغطيته بالولايات السابقة، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(2)

د: تصريح أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن إمامته للناس –وبالتالي لزوم اتباعه- لا تنحصر بكونه قائداً لهم، وإنما هو إمام لهم فيما يتعلق بالزهد، وعدم التعلق بالدنيا وزبرجها، وأنه قد أخذ على نفسه أن يتمثل بأقل المؤمنين حالاً، وأن على من يكون نائباً عنه أن يعمل على الاقتراب من هذه الحيثية فيه (عليه السلام)، وذلك ضمن كتابه (عليه السلام) الذي أرسله إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف، حيث جاء فيه: (أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِه، ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِه، أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاه بِطِمْرَيْه، ومِنْ طُعْمِه بِقُرْصَيْه، أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ، فواللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، ولَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، ولَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، ولَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً، ولَا أَخَذْتُ مِنْه إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ، ولَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ... وإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى... ولَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، ويَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ، ولَعَلَّ

ص: 359


1- الأحزاب 21
2- آل عمران 164

بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَه فِي الْقُرْصِ، ولَا عَهْدَ لَه بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى، وأَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ *** وحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ، هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ، فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ... إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ، وأَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ، واجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ... فواللهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي، ولَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي، وايْمُ الله يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّه، لأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ، إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْه مَطْعُوماً، وتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً، ولأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا، أَتَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ، وتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ، ويَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِه فَيَهْجَعَ، قَرَّتْ إِذاً عَيْنُه إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ، بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ والسَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ، طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا، وعَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا...)(1).

وعلى كل حال، في الولاية العاشرة يراد تأصيل ظاهرة القدوة، الأبوية، الرعوية، القيادة الروحية.

ص: 360


1- نهج البلاغة ج3 ص 70 – 74.

وهذا نظير العلاقة بين الولد ووالده، فإنها لا تتلخص بولاية الوالد على الولد في بعده الإداري، فقد أكدت النصوص على بعد آخر مرتبط بالعلاقة الوجدانية وضرورة تنميتها بالتقبيل والتصابي له وما شابه، وهو ما يؤكد عليه علماء التربية اليوم.

هذا البعد هو الذي يفسر محاولة الولد أن يتقمص أدوار أبيه في حياته.

والنصوص تدل على أن هذا المعنى جُعل للمعصوم، وأن المعصوم قام بهذا الدور، من خلال قيامه بجملة من الأفعال والأقوال، من قبيل ما بينه أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه لعثمان بن حنيف.

تلك الأفعال والأقوال عزّزت ذلك الجانب العاطفي والوجداني بين الولي والمولى عليه، بحيث جعلت الأتباع يعملون على تقمص شخصية المعصوم والسير على خطواته العملية في جوانب حياته اليومية.

وهذا المعنى من الولاية هو ما يسمى بالهداية الإيصالية، أي الأخذ بيد المولّى عليهم نحو النجاح والفلاح، أي إنها من قبيل التمرين على فعل الخير.

في قبال الهداية الإرائية والتي تتلخص بالتعليمات النظرية التامة.

أثر هذه الولاية في نفوس الأتباع:

إن القيادة الأبوية والإيصالية مهمة جداً في بناء علاقة خارج العلاقات الإملائية والإدارية والفرضية، هي علاقة عفوية طبيعية وعلاقة ودٍّ ومحبة.

وكان من أهم ما قام به المعصومون (عليهم السلام) من هداية -خارج السلطة-

ص: 361

هي تنمية هذا المعنى الوجداني، الأمر الذي أنتج علاقة وجدانية قوية بين المعصوم وبين الأتباع، علاقة وصلت إلى حد الفداء والتضحية، مما لا يمكن تفسيره على أن المعصوم مجرد ولي للتشريع أو قائد عسكري وسياسي.

ولذا فقول الموالي للمعصوم (بأبي أنت وأمي) لا يحكي عن اعتراف بالقيادة فحسب، وإنما يحكي عن علاقة وجدانية تجعل الفرد مستعداً للتضحية وفداء نفسه للمعصوم، بحيث إنه يصل إلى حد الفداء ويتساءل: أوفيت يا بن رسول الله؟(1)

وهو ما أدى إلى أن يكون الأنصار والأتباع (يستأنسون بالمنية)(2)

دون المعصوم (عليه السلام)، بل كانوا يرون في الموت دونه لذة تستوجب الفرح والسرور.(3)

ص: 362


1- في بحار الأنوار ج45 ص 22: خرج عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسين عليه السلام فأذن له فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء، وبالغ في خدمة سلطان السماء، حتى قتل جمعا كثيرا من حزب ابن زياد، وجمع بين سداد وجهاد، وكان لا يأتي إلى الحسين سهم إلا اتقاه بيده، ولا سيف إلا تلقاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء حتى أثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسين وقال: يا ابن رسول الله أوفيت؟ قال: نعم، أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول الله مني السلام، وأعلمه أني في الأثر، فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه.
2- روي أنه قال الإمام الحسين (عليه السلام) في أصحابه: أَما وَاللهِ! لَقَدْ نَهَرْتُهُمْ وَبَلَوْتُهُمْ وَلَيْسَ فيهِمُ [ إِلاَّ ] الأْشْوَسَ الأْقْعَسَ يَسْتَأْنِسُونَ بِالْمَنِيَّةِ دُوني اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ. [موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)- لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (عليه السلام) ص 493]
3- في اللهوف في قتلى الطفوف للسيد بن طاووس ص 57: روى أن برير بن خضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعد فجعل برير يضاحك عبد الرحمن فقال له عبد الرحمن: يا برير أتضحك ما هذه ساعة ضحك ولا باطل، فقال بريد: لقد علم قومي إنني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا وإنما أفعل ذلك استبشارا بما نصير إليه فوالله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ثم نعانق الحور العين.

ليس هذا فحسب، بل إن التعلق الوجداني والعاطفي بالمعصوم، جعل الأتباع يعملون على أن يتفننوا في الفداء لهم، وأن يضعوا أنفسهم موضع التضحية التي لا يمكن أن تصفها الكلمات، حتى أنهم كانوا يضحون بأولادهم ويرضون لهم الموت على أن يحصل في نياتهم تردد في ولاية أهل البيت (عليهم السلام).

ص: 363

ص: 364

المصادر

بعد كتاب الله تعالى العزيز:

1.أجوبة الشبهات العقائدية: محمد حسن قدردان قراملكي- ترجمة: أسعد مندي الكعبي- العتبة العباسية المقدسة- المركز الإسلامي للدراسات الإسلامية- قسم الكلام والعقيدة- مطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع- الطبعة الأولى 1437ه-/2016م.

2.الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه-.

3.الأحكام السلطانية والولايات الدينية: علي بن محمد البغدادي الماوردي/ط: الثانية/ 1386 - 1966 م/ المطبعة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر عباس ومحمد محمود الحلبي وشركاءهم – خلفاء.

4.الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

5.اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ قم/ مؤسسة آل البيت/ 1404ه-.

6.اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ قم/ مؤسسة آل البيت/ 1404ه-.

7.الأدب المفرد: البخاري/الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1406 - 1986 م/ الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت - لبنان

8.إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب: الميرزا جواد التبريزي/ تحقيق: اشرف

ص: 365

على طبعه محمد كاظم الخوانساري/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1411 - 1369 ش/ المطبعة: مؤسسة اسماعيليان/ الناشر: مؤسسة اسماعيليان - قم - ايران

9.الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسسة آل البيت/ ط 2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

10.الإشاعة لأشراط الساعة: الشريف محمد بن رسول الحسيني البرزنجي

11.أصول الفقه: الشيخ محمد رضا المظفر/الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

12.الاعتقادات: الشيخ الصدوق/ ت عصام عبد السيّد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

13.الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد: شيخ الطائفة الفقيه الأكبر أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي/ 385 – 460/ منشورات مكتبة جامع چهلستون – طهران/ مطبعة الخيام – قم/1400 - ه.

14.إلزام الناصب: الشيخ علي اليزدي الحائري/ تحقيق: السيّد علي عاشور.

15.الإلهيات: محاضرات الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني/ الطبعة الرابعة/ مطبعة اعتماد قم/ سنة 1417ه-.

16.الأمالي: السيّد المرتضىٰ/ ت النعساني الحلبي/ ط1/ 1325ه-/ مكتبة المرعشي/ قم.

17.الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط1/ 1417ه-/ مؤسسة البعثة.

18.الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414ه-/ دار الثقافة/ قم.

ص: 366

19.الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأستادولي، علي أكبر الغفّاري/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

20.الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة: السيِّد حسن الشيرازي/ الناشر: رشيد/ الطبعة الأولى 1426/ المطبعة: شريعت.

21.الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط1/ 1404ه-/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.

22.الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري/ ت الزيني/ مؤسسة الحلبي.

23.الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري/ ت علي شيري/ ط1/ 1413ه-/ مط أمير/ انتشارات شريف الرضي/ قم.

24.الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

25.أنساب الأشراف: البلاذري/ ت محمّد باقر المحمودي/ ط1/ 1394ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

26.أوائل المقالات: الإمام الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان ابن المعلم أبي عبد الله، العكبري، البغدادي (336 - 413 ه)/دار المفيد/ الطبعة الثانية 1414 هجرية - 1993 ميلادية/ بيروت. لبنان.

27.بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ه-/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.

28.بحوث في شرح العروة الوثقى: السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)/الطبعة الأولى/ مطبعة الآداب - النجف الأشرف/ 1391 ه - 1971 م

29.بحوث في علم الأصول: تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي/ الطبعة: الثالثة/ سنة الطبع: 1426 - 2005 م/ المطبعة: محمد/ الناشر: مؤسسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 367

30.بداية الحكمة: السيد الطباطبائي/ تحقيق: عباس علي الزارعي السبزواري/ سنة الطبع: 1418/ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

31.البداية والنهاية: ابن كثير/ ت علي شيري/ ط 1/ 1408ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

32.بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ ت كوجه باغي/ 1404ه-/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

33.البيان في تفسير القرآن: السيد لخوئي (قدس سره)/ الطبعة: الرابعة/ سنة الطبع: 1395 - 1975 م/ الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان.

34.تاج العروس: الزبيدي/ 1414ه-/ دار الفكر/ بيروت.

35.تاريخ الخلفاء: السيوطي/ 1371ه-/ مط السعادة/ مصر.

36.تاريخ الطبري: الطبري/ ط 4/ 1403ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

37.تاريخ اليعقوبي: اليعقوبي/ دار صادر/ بيروت.

38.تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي/ ت مصطفىٰ عبد القادر عطا/ ط1/ 1417ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

39.تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ ت علي شيري/ 1415ه-/ دار الفكر/ بيروت.

40.التبيان في تفسير القرآن: شيخ الطائفة أبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي/ الناشر: مكتب الاعلام الإسلامي/ الطبعة: الأولى/ تاريخ النشر: رمضان المبارك 1209 ه. ق/ تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي.

41.تحرير الأحكام: العلاّمة الحلّي/ ت إبراهيم البهادري/ ط1/ 1420ه-/ مط

ص: 368

اعتماد/ مؤسسة الإمام الصادق.

42.تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

43.التحقيق في كلمات القرآن الكريم: الشيخ حسن المصطفوي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1417/ الناشر: مؤسسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي

44.الترغيب والترهيب من الحديث الشريف: عبد العظيم المنذري/ تحقيق: ضبط أحاديثه وعلق عليه: مصطفى محمد عماره/ سنة الطبع: 1408 - 1988 م/ الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان.

45.تصحيح اعتقادات الإماميّة: الشيخ المفيد/ ت حسين دركاهي/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

46.التعريفات: للمحقق الجرجاني، الطبعة الأولى، طهران.

47.تفسير الإمام العسكري: المنسوب إلىٰ الإمام العسكري (عليه السلام)/ ط1 محقَّقة/ 1409ه-/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.

48.تفسير البرهان: السيِّد هاشم البحراني/ مؤسَّسة البعثة/ قم.

49.تفسير العياشي: العياشي/ ت هاشم الرسولي المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.

50.تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ت طيب الجزائري/ ط 3/ 1404ه-/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.

51.التفسير الكبير: فخر الدين الرازي/ الطبعة الثالثة.

52.تفسير الميزان: السيّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة

ص: 369

العلمية/ قم.

53.تفسير جوامع الجامع: الطبرسي/ ط1/ 1418ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

54.تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ ت محمّد الكاظم/ ط 1/ 1410ه-/ ت محمّد الكاظم/ مؤسسة طبع ونشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.

55.تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

56.تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام): الشيخ المفيد/تحقيق: علي موسى الكعبي/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1414 - 1993 م/ الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان.

57.تلخيص البيان في مجازات القرآن: تصنيف الشريف الرضي/ حققه وقدم له وصنع فهارسه: محمد عبد الغني حسن/ دار إحياء الكتب العربية/ عيسى البابي الحلبي وشركاه/ القاهرة – 1955/الطبعة الأولى.

58.التمحيص: للشيخ الثقة الجليل أبي علي محمد بن همام الإسكافي من أصحاب سفراء الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه)/ المتوفى سنة 336 ه ق/ تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام)/ قم المقدسة.

59.تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.

60.التنقيح في شرح المكاسب – البيع: (موسوعة الإمام الخوئي): تقرير بحث السيد الخوئي للغروي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1425 - 2005 م/ الناشر:

ص: 370

مؤسسة إحياء آثار الأمام الخوئي قدس سره.

61.تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

62.تهذيب الكمال: المزي/ ت بشّار عوّاد معروف/ ط 4/ 1406ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

63.التوحيد: الشيخ الصدوق/ ت هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرسين/ قم.

64.التوراة والإنجيل: موقع: arabicbible

65.توضيح المراد: تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد- السيد هاشم الحسيني الطهراني- المطبعة: المصطفوي.

66.ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمّد مهدي الخرسان/ ط2/ 1368ش/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

67.جامع أحاديث الشيعة: السيد البروجردي/ سنة الطبع: 1399/ المطبعة: المطبعة العلمية – قم. جامع البيان عن تأويل القرآن لمحمد بن جرير الطبري

68.الجامع الصغير: السيوطي/ ط1/ 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

69.الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي/ دار احياء التراث العربي/ بيروت – لبنان/ 1405 ه - 1985 م

70.جواهر الكلام: الشيخ الجواهري/ ت عبّاس القوجاني/ ط2/ 1365ش/ مط خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

71.الحاكمية في الإسلام: السيد محمد مهدي الخلخالي (رحمه الله تعالى)/مجمع الفكر الاسلامي/ 1425 ه

ص: 371

72.حق اليقين: للسيد عبد الله شبَّر.

73.الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية: للشيخ فاضل الصفار- دار المحجة البيضاء- الطبعة الأولى- 1436ه-/ 2015م.

74.الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة: لصدر الدين محمد الشيرازي- ت: 1050- الطبعة: الثالثة- سنة الطبع: 1981 م- الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت – لبنان.

75.حلية الأبرار: هاشم البحراني/ ت غلام رضا البروجردي/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

76.الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط1 كاملة محقّقة/ 1409ه-/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.

77.الخصال: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1403ه-/ جماعة المدرسين/ قم.

78.الدرّ المنثور: السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.

79.الدروس الشرعية: الشهيد الأوّل/ ط2/ 1417ه-/ مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.

80.دروس في علم الأصول: السيد محمد باقر الصدر/الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1406 - 1986 م/ الناشر: دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان/ مكتبة المدرسة - بيروت - لبنان

81. دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ ت آصف فيضي/ 1383ه-/ دار المعارف/ القاهرة.

82.الدعوات: قطب الدين الراوندي/ ط1/ 1407ه-/ مط أمير/ مؤسسة

ص: 372

الإمام المهدي/ قم.

83.دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط1/ 1413ه-/ مؤسسة البعثة/ قم.

84.ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري: 467 ه - 538 ه/ تحقيق: عبد الأمير مهنا/ منشورات: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات/ بيروت – لبنان.

85.رجال النجاشي: النجاشي/ ط5/ 1416ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

86.رسائل الشريف المرتضى: الشريف المرتضى/ الوفاة: 436/ تحقيق: تقديم: السيد أحمد الحسيني/ إعداد: السيد مهدي الرجائي/ سنة الطبع: 1405/ المطبعة: مطبعة سيد الشهداء – قم/ الناشر: دار القرآن الكريم - قم

87. الرسائل العشر: الشيخ الطوسي/الوفاة: 460- الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

88.روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي (الأول)/الوفاة: 1070/ تحقيق: نمقه وعلّق عليه وأشرف على طبعه «السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الإشتهاردي»/ الناشر: بنياد فرهنك اسلامي حاج محمد حسين كوشانپور.

89.روضة الواعظين: الفتال النيسابوري/ ت محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

90.الروضة في فضائل أمير المؤمنين: شاذان بن جبرئيل القمي/ ط1/ 1423ه-.

91.سبل الهدىٰ والرشاد: الصالحي الشامي/ ط 1/ 1414ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

92.سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/

ص: 373

بيروت.

93.سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني/ ت محمّد اللحّام/ ط1/ 1410ه-/ دار الفكر/ بيروت.

94.سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهّاب عبد اللطيف/ ط2/ 1403ه-/ دار الفكر/ بيروت.

95.سنن الدارمي: عبد الله بن بهرام الدارمي/ 1349ه-/ مط الاعتدال/ دمشق.

96.سنن النسائي: النسائي/ ط 1/ 1348ه-/ دار الفكر/ بيروت.

97.سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ت حسين الأسد/ ط9/ 1413ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

98.الشافي في الإمامة: الشريف المرتضىٰ/ ط 2/ 1410ه-/ مؤسّسة إسماعيليان/ قم.

99.شجرة طوبىٰ: الحائري/ ط5/ 1385ه-/ المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

100.شرح أصول الكافي: المازندراني/ ت الشعراني/ ط1/ 1421ه-/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

101.شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي/ ت محمّد الجلالي/ ط2/ 1414ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

102.شرح الأسماء الحسنى: حاج ملا هادي السبزواري/ الوفاة: 1289/ الناشر: منشورات مكتبة بصيرتي - قم – إيران.

103.شرح المقاصد في علم الكلام: التفتازاني/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1401 - 1981م/ المطبعة: باكستان - دار المعارف النعمانية/ الناشر: دار المعارف

ص: 374

النعمانية.

104.شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط1/ 1378ه-/ دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.

105.شواهد التنزيل: الحاكم الحسكاني/ ت محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1411ه-/ مجمع إحياء الثقافة.

106.الشيعة الفرقة الناجية: الحاج سعيد أبو معاش/ مؤسسة السيّدة المعصومة (عليها السلام)/ المطبعة: ثامن الحجج (عليه السلام)/ الطبعة الأولى 1428 ه

107.الصحاح: الجوهري/ ت أحمد عبد الغفور العطّار/ ط4/ 1407ه-/ دار العلم للملايين/ بيروت.

108.صحيح ابن حبان: ابن حبان/ ت الأرنؤوط/ ط 2/ 1414ه-/ مؤسسة الرسالة.

109.صحيح البخاري: البخاري/ 1401ه-/ دار الفكر/ بيروت.

110.صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.

111.الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411ه-/ مط نمونة/ مؤسسة الإمام المهدي، مؤسسة الأنصاريان/ قم.

112.صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية: الشيخ محمد آصف المحسني/الناشر: ذوي القربى/ الطبعة الأولى/1428ه-/مطبعة: ستاره.

113.صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية: للشيخ محمد آصف المحسني/الجزء الرابع/ الناشر: سلسلة الذهب 1395 ش إيران مطبعة ثامن.

114.الصراط المستقيم: علي بن يونس العاملي/ ت محمّد باقر البهبودي/ ط1/ 1384ه-/ مط الحيدري/ المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

ص: 375

115.صراط النجاة: تعليق الميرزا التبريزي علىٰ منهاج الصالحين للسيّد الخوئي/ ط 1/ 1416ه-/ دفتر نشر برگزيده.

116.الصواعق المحرقة: ابن حجر الهيتمي/ ط1/ 1997م/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

117.الطبقات الكبرىٰ: محمّد بن سعد/ دار صادر/ بيروت.

118.الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: للسيد ابن طاووس/ ط1/ 1399ه-/ مط الخيام/ قم.

119.عدّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ ت أحمد الموحّدي القمي/ مكتبة وجداني/ قم.

120.العدة في أصول الفقه (عدة الأصول) (ط.ج): الشيخ الطوسي/ تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: ذوالحجة 1417 - 1376 ش/ المطبعة: ستاره - قم

121.عقائد الإمامية: محمّد رضا المظفّر/ انتشارات أنصاريان/ قم.

122.العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت (عليه السلام): الشيخ السبحاني/ تحقيق: نقل إلى العربية: جعفر الهادي/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1419 - 1998 م/ المطبعة: اعتماد – قم/الناشر: مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام).

123.علل الدارقطني: الدارقطني/ ت محفوظ الرحمن زين الله السلفي/ ط1/ 1405ه-/ دار طيبة/ الرياض.

124.علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه-/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

125.علم النفس الفلسفي: الشيخ غلام رضا الفياضي: تقرير: السيد جعفر الحكيم/ الطبعة الأولى سنة 2013م.

ص: 376

126.على ضفاف الانتظار: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم: مركز القمر للإعلام الرقمي/الطبعة الأولى/1438ه-.

127.عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبىٰ العراقي/ ط1/ 1403ه-/ مط سيّد الشهداء/ قم.

128.العين: الخليل الفراهيدي/ ط2/ 1409ه-/ مؤسسة دار الهجرة.

129.عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

130.عيون الحكم والمواعظ: علي الليثي الواسطي/ ت حسين البيرجندي/ ط1/ دار الحديث.

131.الغدير: الشيخ الأميني/ ط4/ 1397ه-/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

132.الغيبة: الشيخ الطوسي/ ت عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح/ ط1/ 1411ه-/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

133.الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط1/ 1422ه-/ مط مهر/ أنوار الهدىٰ.

134.الفتاوى الكبرى: ابن تيمية/ الوفاة: 728/ تحقيق: محمد عبد القادر عطا// مصطفى عبد القادر عطا/الطبعة: الأولى/سنة الطبع: 1408 - 1987 م/ الناشر: دار الكتب العلمية

135.الفتاوى الميسرة: السيد السيستاني (دام ظله) الطبعة: الثالثة/ سنة الطبع: 1417 – 1997م/ المطبعة: مطبعة الفائق الملونة.

136.فتح الباري: ابن حجر/ ط2/ دار المعرفة/ بيروت.

137.الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.

ص: 377

138.الفصول المهمّة: ابن الصبّاغ/ ت سامي الغريري/ ط1/ 1422ه-/ مط سرور/ دار الحديث.

139.فضائل الخمسة من الصحاح الستة: السيد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي/ الوفاة: 1410/الطبعة: الثالثة/سنة الطبع: 1393 - 1973 م/ الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

140. الفضائل: شاذان بن جبرئيل القمي/ 1381ه-/ منشورات المطبعة الحيدرية ومكتبتها/ النجف الأشرف.

141.فقه الرضا: علي بن بابويه/ ط1/ 1406ه-/ المؤتمر العالمي للإمام الرضا/ مشهد.

142.فقه الصادق (عليه السلام): السيد محمد صادق الحسيني الروحاني/ مدرسة الإمام الصادق عليه السلام/الطبعة: الثالثة - رجب 1412/المطبعة: العلمية

143.فلسفتنا: السيد محمد باقر الصدر/الطبعة: الثالثة/سنة الطبع: 1425 - 2004م/المطبعة: الأمير/الناشر: دار الكتاب الإسلامي

144. القاموس المحيط: الفيروزآبادي.

145.قرب الإسناد: الحميري القمي/ ط1/ 1413ه-/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.

146.قضاء حقوق المؤمنين: الحسن بن طاهر الصوري/الوفاة: ق 6/تحقيق: حامد الخفاف/الناشر: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث

147. الكافي: الشيخ الكليني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط5/ 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.

148.القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد: السيد المرعشي، الوفاة : 1411ه-، الطبعة

ص: 378

: الأولى، سنة الطبع : 1422 - 1380 ش - 2001 م، المطبعة : ستاره، الناشر : مكتبة آية الله العظمى السيّد المرعشي النجفي قدس سره - قم المقدسة.

149.الكامل في التاريخ: ابن الأثير/ 1386ه-/ دار الصادر/ بيروت.

150.كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي/ 1399ه-/ مط العلمية/ قم.

151.الكتاب المقدس: الصادر عن مجمع الكنائس الشرقية- الطبعة: الثانية- سنة الطبع: تشرين الثاني 1988- للناشر: دار المشرق - بيروت – لبنان.

152.كتاب المكاسب والبيع: تقرير بحث النائيني للآملي/ الوفاة: 1355/الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

153. كشف الخفاء: العجلوني/ ط3/ 1408ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

154.كشف الغمّة: ابن أبي الفتح الأربلي/ ط2/ 1405ه-/ دار الأضواء/ بيروت.

155.كشف القناع: البهوتي/ ط1/ 1418ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

156.كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: العلامة الحلي قدس سره/صححه وقدم له وعلق عليه: آية الله الشيخ حسن حسن زادة الآملي/ مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

157.كفاية الأثر: الخزّاز القمي/ ت عبد اللطيف الكوهكمري الخوئي/ 1401ه-/ مط الخيام/ انتشارات بيدار.

158.الكلام الإسلامي المعاصر: د. الشيخ عبد الحسين خسروبناه/ ترجمة محمد حسين الواسطي/مطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع- الطبعة الأولى سنة 1438ه-/ 2016م.

159.كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفّاري/ 1405ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

ص: 379

160.كنز العرفان في فقه القرآن: المقداد السيوري/ الوفاة: 826/ تحقيق: علق عليه المحقق البارع حجة الاسلام الشيخ محمد باقر (شريف زاده) وأشرف على تصحيحه واخراج أحاديثه محمد باقر البهبودي/ سنة الطبع: 1384 - 1343 ش/ المطبعة: حيدري – طهران/ الناشر: المكتبة الرضوية - طهران

161.كنز العمّال: المتّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ه-/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.

162.كنز الفوائد: أبو الفتح الكراجكي/ ط2/ 1369ش/ مط غدير/ مكتبة المصطفوي/ قم.

163.لسان العرب: ابن منظور/ 1405ه-/ نشر أدب الحوزة/ قم.

164.اللهوف في قتلىٰ الطفوف: ابن طاووس/ ط1/ 1417ه-/ مط مهر/ أنوار الهدىٰ/ قم.

165.مائة منقبة: ابن شاذان/ ت الأبطحي/ ط1/ 1407ه-/ مط أمير/ قم.

166.المجازات النبوية: الشريف الرضي/ ت طه محمّد الزيتي/ منشورات مكتبة بصيرتي/ قم.

167.مجمع البحرين: الشيخ الطريحي/ ت أحمد الحسيني/ ط2/ 1408ه-/ مكتب نشر الثقافة الإسلاميّة.

168.مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408ه-/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

169.المحتضر: حسن بن سليمان الحلّي/ 1424ه-/ انتشارات مكتبة الحيدرية.

170.المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطية الأندلسي/الوفاة: 546/ تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1413 - 1993م/ المطبعة: لبنان - دار الكتب العلمية/الناشر: دار الكتب العلمية

ص: 380

171.مختار الصحاح: المؤلف: محمد بن أبي بكر الرازي/الوفاة: 721/تحقيق: ضبط وتصحيح: أحمد شمس الدين/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1415 - 1994 م/الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان

172.مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط1/ 1370ه-/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

173.مرآة العقول: العلاَّمة المجلسي/ ط2/ 1404ه-/ دار الكتب الإسلاميّة.

174.مرجعية الفقهاء في زمن الغيبة الكبرى: الشيخ جاسم الوائلي/ تقديم: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام)/الطبعة الأولى 1331ه-.

175.مروج الذهب: المسعودي/ ط2/ 1404ه-/ منشورات دار الهجرة/ قم.

176.مسالك الأفهام: الشهيد الثاني/ ط1/ 1413ه-/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.

177.المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

178.مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي/ ط 2/ 1411ه-/ مؤسَّسة النش-ر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.

179.مسكن الفؤاد: الشهيد الثاني/ ط1/ 1407ه-/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.

180.مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

181.مشارق أنوار اليقين: الحافظ رجب البرسي/ ت علي عاشور/ ط1/ 1419ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

182.مصباح الشريعة: المنسوب للإمام الصادق/ ط1/ 1400ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

ص: 381

183.مصباح الفقاهة: السيد الخوئي (قدس سره)/الوفاة: 1413/الطبعة: الأولى المحققة/ المطبعة: العلمية – ق/لناشر: مكتبة الداوري - قم

184.مصباح المتهجّد: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411ه-/ مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت.

185.مصباح الهدى في شرح عروة الوثقى: الشيخ محمد تقي الآملي/الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1377 - 1337 ش/ المطبعة: فردوسي

186.ينابيع المودَّة: القندوزي/ ت علي جمال أشرف الحسيني/ ط1/ 1416ه-/ دار الأسوة.

187.المصباح: الكفعمي/ ط3/ 1403ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.

188.المصنّف: ابن أبي شيبة/ ت سعيد اللحّام/ ط1/ 1409ه-/ دار الفكر/ بيروت.

189.معارج الأصول: المحقّق الحلّي/ ط1/ 1403ه-/ مؤسسة آل البيت/ قم.

190.معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1379ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

191.المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415ه-/ دار الحرمين.

192.المعجم الكبير: الطبراني/ ت حمدي عبد المجيد السلفي/ ط2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.

193.معجم مقاييس اللغة: أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)/ الوفاة: 395/ تحقيق: عبد السلام محمد هارون/سنة الطبع: 1404/ المطبعة: مكتبة الإعلام الإسلامي/ الناشر: مكتبة الإعلام الإسلامي

194.المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدّث/ 1370ه-/ دار الكتب

ص: 382

الإسلاميّة/ طهران.

195.معرفة المعاد: آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني- الطبعة الأولى- دار المحجة البيضاء- 1418ه-.

196.المغازي: الواقدي/ ت الدكتور مارسدن جونس/ 1405ه-/ نشر دانش إسلامي.

197.مفاهيم القرآن: الشيخ جعفر السبحاني: مؤسسة الإمام الصادق/ إيران/ قم.

198.مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني/تحقيق: صفوان عدنان داوودي/الطبعة: الثانية/سنة الطبع: 1427/المطبعة: سليمانزاده/الناشر: طليعة النور.

199.مقاتل الطالبين: أبو الفرج الأصفهاني/ ت كاظم المظفّر/ ط2/ 1385ه-/ المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

200.مقارنة الأديان: الدكتور أحمد الشلبي- الطبعة: الثالثة- سنة الطبع: 1973 م- الناشر: مكتبة النهضة المصرية – القاهرة.

201.مقتضب الأثر: ابن عيّاش الجوهري/ مط العلمية/ مكتبة الطباطبائي/ قم.

202.مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط6/ 1392ه-/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

203.من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

204.مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه-/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

205.منتهى المقال في احوال الرجال: الشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني/الوفاة:

ص: 383

1216/الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: ربيع الأول 1416/المطبعة: ستاره – قم/الناشر: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التّراث – قم.

206.المنطق: الشيخ محمّد رضا المظفَّر/ مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم.

207.منهاج الصالحين: للسيد السيستاني/الطبعة التاسعة عشرة 1439ه-/2018م/ دار المؤرخ العربي.

208.المنهج الجديد في تعليم الفلسفة: الأستاذ الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي/ المترجم: محمد عبد المنعم الخاقاني/ الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة/ الطبعة الأولى 1409 ه-.ق.

209.مهج الدعوات ومنهج العبادات: ابن طاووس/ كتابخانه سنائي.

210.المهذَّب البارع: ابن فهد الحلّي/ ت مجتبىٰ العراقي/ 1407ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.

211.مواجهة الإلحاد في منطلقاته المعرفية: الشيخ حيدر السندي الإحسائي

212.مواقف الشيعة: الأحمدي الميانجي/ ط1/ 1416ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي.

213.المواقف: الإيجي/ ط1/ 1417ه-/ دار الجيل/ بيروت.

214.موسوعة العقائد الإسلامية: للشيخ الريشهري/الطبعة الثالثة/ 1386/ مركز بحوث دار الحديث.

215.موسوعة كلمات الإمام الحسين: لجنة الحديث في معهد باقر العلوم/ ط3/ 1416ه-/ دار المعروف.

216.النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر: المؤلف: المقداد السيوري/

ص: 384

تحقيق: شرح: المقداد السيوري (وفاة 826ه-)/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1417 - 1996 م/ الناشر: دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان

217. النظرية الحقوقية في الإسلام: للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي/ترجمة: وليد مؤمن/الناشر: دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع/ الطبعة الثانية- بيروت 1431ه-/ 2010م.

218.نفحات القرآن: سماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي/الطبعة الأولى 1384ش/1426ه-/المطبعة: سليمانزاده/ الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب/إيران/قم/ شهدا/فرع 22.

219.النكت الاعتقادية: الشيخ المفيد/تحقيق: رضا المختاري/ الطبعة: الثانية/ سنة الطبع: 1414 - 1993 م/ الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان

220. نهاية الحكمة: السيد محمد حسين الطباطبائي/تحقيق: تصحيح وتعليق: الشيخ عباس علي الزارعي السبزواري/الطبعة: الرابعة عشرة المنقحة/ سنة الطبع: 1417/ لمطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي/ لناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

221.النهاية: ابن الأثير/ ت طاهر أحمد الزاوي، محمود محمّد الطناحي/ ط4/1364ش/مؤسسة إسماعيليان/ قم.

222.نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412ه-/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.

223.الهدى والضلال في القرآن الكريم: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي/ تقديم:

ص: 385

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية/ الطبعة الأولى: 1438ه-.

224.وسائل الشيعة: الحرّ العاملي/ ط2/ 1414ه-/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.

225.وفيات الأعيان: ابن خلكان/ ت إحسان عبّاس/ دار الثقافة/ بيروت.

ص: 386

المحتويات

النقطة الأولى: معنى المعاد وثمرة الإيمان به 7

الثمرة الأولى: تحديد السلوك بالحسن. 8

الثمرة الثانية: توفير الحافز للصبر على مصاعب الدنيا. 8

النقطة الثانية: بعض أدلة المعاد 13

الدليل الأول: الدليل القرآني. 13

الدليل الثاني: روايات المعصومين (علیهم السلام) 41

الدليل الثالث: حكم العقل. 16

النقطة الثالثة: الأقوال في المعاد. 17

الأول: الماديون. 17

الثالث: النفعيون. 19

الرابع: المعاد الروحاني (دون الجسماني). 20

الرابع: المعاد الجسماني والروحاني. 21

النقطة الرابعة: النفخ في الصور والحشر 23

من هو المستثنى في ﴿إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ﴾؟ 25

الأمر الأول: الإشارة إلى شمول القدرة ا لهلإية. 25

الأمر الثاني: مجموعة خاصة من المخلوقات. 25

النقطة الخامسة: بعض خصائص يوم القيامة. 29

الخصيصة الأولى: الدوام والثبات. 29

الخصيصة الثانية: بروز إدراك جميع الموجودات. 30

ص: 387

الخصيصة الثالثة: تجسّم الأعمال 32

النقطة السادسة: الحساب 37

مميزات الحساب الهلإي 38

النقطة السابعة: الخلود 43

السؤال الأول: هل يتنافى خلود الممكن مع بقاء الله تعالى؟ 44

السؤال الثاني: ما هو الوجه في تعليق الخلود على المشيئة؟ 46

السؤال الثالث: ألا يحصل مللٌ في الجنة؟! 48

السؤال الرابع: كيف يتناسب العذاب الدائم مع الذنب المؤقت؟ 53

السؤال الخامس: هل الشفاعة تشجع على الذنب؟ 58

الثمرة الأولى: بوابة الأمل. 64

الثمرة الثانية: التقرب من الشفعاء. 64

بحثان تكميليان 67

البحث التكميلي الأول: موضع الاجتهاد في منظومة التشريع 69

النقطة الأولى: مصادر التشريع الإسلامي والعلاقة بينها 71

1 - القرآن الكريم: 17

2 - سُنَّة النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) 73

3 - الإجماع: 74

4 - العقل: 75

النقطة الثانية: العلاقة بين مصادر التشريع 77

النقطة الثالثة: معنى الاجتهاد 83

المعنى الأوَّل: الاجتهاد مقابل النصِّ. 83

المعنى الثاني: الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استخراج الحكم... 84

ص: 388

النقطة الرابعة: 87

المشتركات والفوارق بين الاجتهاد الشيعي والسني 87

الأمر الثاني: موقعية الظن. 89

دليل روائي: 91

الثابت الأول: انحصار حق التشريع بالله عزوجل 94

الثابت الثاني: محورية الوحي في تشريعات النبي.(صلی الله علیه و آله) 94

الثابت الثالث: البيان القرآني التام لكل شيء. 96

الثابت الرابع: إلقاء البيان في صدر النبي وأولي الأمر(صلوات الله عليهم). 96

الثابت الخامس: ضرورة طاعة الله تعالى والرسول (صلی الله علیه و آله) وأولي الأمر 98

الثابت السادس: الفقاهة في الدين. 99

النقطة الخامسة: حدود الاجتهاد الشيعي 101

الحد الأول: حفظ الفاصلة بين العصمة والاجتهاد. 102

الأثر الأول: الفرق في الحجية: 103

الأثر الثاني: التعددية وعدمها: 104

الأثر الثالث: التوازن في التعامل مع المتخصص، والتسليم... 106

الحد الثاني: الاجتهاد فهم لا تشريع، وفي طول النص... 108

تصوير الطولية: 108

المرتبة الأولى: العلم ا لهلإي. 109

المرتبة الثانية: العلم الإنساني المعصوم. 109

المرتبة الثالثة: العلم الإنساني التخصصي: 110

المرتبة الرابعة: العلم العام. 110

التنبيه الأول: المغالطة في إمكان الارتباط المباشر بالمعصوم (علیه السلام) 111

التنبيه الثاني: تحليل فكرة القداسة للمعصوم(علیه السلام) 112

ص: 389

النقطة الأولى: العلم الخاص (الوحياني). 112

النقطة الثانية: توافق القول والفعل والتقرير في المعصوم(علیه السلام) 112

الحد الثالث: فرصة الاجتهاد نسبية لا مطلقة. 115

الحد الرابع: حفظ الفاصلة بين لغة التخصص ولغة الثقافة العامة. 117

سمات لغة التخصص: 119

الحد الخامس: العدالة والتخصص. 123

النقطة الأولى: العلاقة العضوية بين العلم والعمل. 123

الخطوة الأولى: 123

الخطوة الثانية: العلاقة التبادلية بين العلم والعمل. 125

الطريقة الأولى: مثالان عرفيان لبيان العلاقة بين العلم والعمل. 125

الطريقة الثانية: التحليل الفلسفي للعلاقة بين العلم والعمل. 126

النقطة الثانية: ضرورة النزاهة السلوكية. 129

المستوى الأول: عصمة النبي والوصي. 131

المستوى الثاني: الفقاهة والعدالة في المرجع الديني. 131

المستوى الثالث: التخصص والنزاهة. 132

حكمة تنوع الشرط العملي بتنوع الشرط العلمي. 133

الحد السادس: حجية اللغة المشتركة دون الخاصة. 134

الحد السابع: نيابة عامة لا خاصة. 140

العنصر الأول: أنه لغة خاصة لا عامة. 141

العنصر الثاني: الأدلة الدالة على انقطاع النيابة الخاصة... 143

النقطة السادسة:ضرورة الرجوع إلى الفقهاء في زمن الغيبة الكبرى 149

الخطوة الأولى: التعريف بالتقليد عموماً. 149

أقسام التقليد: 150

ص: 390

الخطوة الثانية: أين يقع التقليد؟ 153

الخطوة الثالثة: أدلة لزوم التقليد. 155

الدليل الأول: انحصار طريق تحصيل الحكم الشرعي بالتقليد. 155

الدليل الثاني: السيرة العقلائية على رجوع الجاهل إلى العالم. 158

الدليل الثالث: سيرة المتشرعة. 160

الخطوة الرابعة: جذور المرجعية (بمعنى الرجوع إلى العلماء في... 161

المرحلة الأُولى: زمن الغيبة الصغرى: تعيين السفراء الخاصّين: 165

المرحلة الثانية: في زمن الغيبة الكبرى: تعيين الفقهاء بصفاتهم: 165

الخطوة الخامسة: بعض الإشكالات على التقليد والجواب عنها. 166

البحث التكميلي الثاني: 181

الغلو، حقيقته، ومصاديقه 181

الخطوة الأولى: الغلو لغة واصطلاحاً 183

1/الغلو لغة: 183

2/أما الغلو اصطلاحاً (في باب علم الكلام): 184

الخطوة الثانية: الغلو في النصوص الدينية. 187

ومن النصوص الدالة على ذلك التالي: 188

الخطوة الثالثة: الغلو في كلمات بعض الأعلام. 199

الكلمة الأولى: للشيخ المفيد (336-413ه) 199

الكلمة الثانية: للشيخ محمد حسن النجفي الجواهري 200

الكلمة الثالثة: للشيخ المجلسي ( توفي 1111 ه) 201

ص: 391

الخطوة الرابعة: تفصيل بعض دعاوى الغلو 209

المقالة الأولى: أنهم عليهم السلام آلهة. 211

المقالة الثانية: أنهم عليهم السلام أنبياء. 213

المقالة الثالثة: التفويض. 215

المقالة الرابعة: أنهم يعلمون الغيب. 217

المقالة الخامسة: تناسخ أرواحهم عليهم السلام. 219

بحث إجمالي في التناسخ 222

التناسخ لغة: 223

التناسخ اصطلاحاً: 223

المعنى الأول: التناسخ الملكوتي: 223

النحو الأول: تناسخ ملكوتي مع انقلاب البدن المادّي. 224

النحو الثاني: تناسخ ملكوتي من دون انقلاب في ظاهر البدن. 224

المعنى الثاني: التناسخ المُلْكي: 225

الآراء في التناسخ الملكي: 227

أدلة بطلان التناسخ: 228

المقالة السادسة: الإيحاء إليهم عليهم السلام. 233

الأمر الأول: بعض النصوص الدالة على الإيحاء لأهل البيت.(علیهم السلام) 233

الأمر الثاني: أنواع الوحي، ومعناه في أهل البيت.(علیهم السلام) 236

الاستعمال الأول: الوحي الرسالي: 236

الاستعمال الثاني: الوحي التكويني. 237

الاستعمال الثالث: الوحي الغريزي. 237

الاستعمال الرابع: الوحي بمعنى التحديث، أو ا لهلإام والإلقاء. 238

ص: 392

المقالة السابعة: أفضلية أهل البيت عليهم السلام على الأنبياء. 245

الأمر الأول: واقعية التفاضل في الحياة. 245

الأمر الثاني: أفضلية منصب الإمامة على منصب النبوة. 247

الأمر الثالث: أفضلية أهل البيت (علیهم السلام) على سائر الأنبياء ... 249

الدليل الأول: ثبوت الإمامة ا لهلإية لهم.(علیهم السلام) 249

الدليل الثاني: أن أمير المؤمنين هو نفس رسول الله.(صلی الله علیه و آله) 250

المقدمة الأولى: أن الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) هو أفضل ما خلق الله تبارك ... 250

المقدمة الثانية: أن أمير المؤمنين هو نفس رسول الله.(صلی الله علیه و آله) 252

تكملة: في ذكر بعض النصوص الأخرى الدالة على... 254

الدليل الثالث: روايات أخذ الإقرار من الأنبياء .... 257

الدليل الرابع: صلاة النبي عيسى خلف الإمام المهدي 259 .

ومن روايات العامة: 259

تكملة: نصوص أخرى تدل على أفضليتهم.(علیهم السلام) 260

الأمر الرابع: أفضلية الزهراء (صلوات الله عليها) على جميع من... 266

الدليل الأول: ما دلّ على أنّها كفؤ لأمير المؤمنين 266 .

الدليل الثاني: ما دلّ على أنّها بضعة من رسول الله.(صلی الله علیه و آله) 267

الدليل الثالث: ما يدل على حجيتها على أولادها... 268

الدليل الرابع: أنها واسطة في الفيض، وعلة متوسطة للخلق. 269

الأمر الخامس: أفضلية الإمامين الحسنين 270 .

تنبيه: من هو الأفضل: الحسن أو الحسين 271 ؟

الأمر السادس: أفضلية الإمام المهدي على الأئمة من ولد ... 272

تنبيه: ما يكون فيه أهل البيت (علیهم السلام) سواء. 274

ص: 393

المقالة الثامنة: العصمة. 279

المقالة التاسعة: العلم الخاص. 281

المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة عليهم السلام. 283

النقطة الأولى: معنى الولاية التكوينية: 283

الكلمة الأولى: للسيد الخوئي 284 :

الكلمة الثانية: للسيد الروحاني (قُدّس سره): 285

الكلمة الثالثة: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله): 286

النقطة الثانية: مراتب الولاية التكوينية: 287

الطريقة الأولى: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله تعالى): 287

الطريقة الثانية: 289

المرتبة الأولى: معرفة الملكوت. 290

المرتبة الثانية: السلطة على النفس. 290

المرتبة الثالثة: السيطرة على البدن. 291

المرتبة الرابعة: التصرف في عالم الوجود. 291

النقطة الثالثة: مؤهلات الولاية التكوينية: 291

المؤهل الأول: الإذن ا لهلإي: 292

المؤهل الثاني: العلم الخاص: 293

النقطة الرابعة: مناشئ وجذور الولاية التكوينية: 294

أولاً: الإذن ا لهلإي الخاص. 294

ثانياً: العلم الخاص. 295

ثالثاً: معرفة الاسم الأعظم. 296

بحث استطرادي: معنى الاسم الأعظم. 297

أولاً: معنى الاسم الأعظم في النصوص: 297

ص: 394

الطائفة الأولى: أن الاسم الأعظم هي البسملة. 297

الطائفة الثانية: مجموعة من الآيات. 298

الطائفة الثالثة: نُصوصٌ مِنَ الأَدعِيَةِ. 300

الطائفة الرابعة: كُلُّ اسم مِن أَسماءِ اللهِ. 302

ثانياً: ذكر الأقوال في معنى الاسم الأعظم. 303

ثالثاً: النصوص الدالة على من كان عنده الاسم الأعظم: 307

تنبيه: في خطورة التسافل بعد التكامل: 309

النقطة الخامسة: أدلة ثبوت الولاية التكوينية لأهل البيت.(علیهم السلام) 312

الوجه الأول: أن عندهم (علیهم السلام) الاسم الأعظم. 312

الوجه الثاني: أنهم (علیهم السلام) أفضل من الأنبياء الذين.... 312

الوجه الثالث: أنهم (علیهم السلام) ورثة الأنبياء. 313

الوجه الرابع: النصوص المستفيضة بل المتواترة. 315

الوجه الخامس: قاعدة اللطف. 319

المقالة الحادية عشرة: الولاية التشريعية لأهل البيت عليهم السلام 325

الأمر الثاني: ضرورة المؤهلات الخاصة للولاية التشريعية. 326

ولايات المعصوم التشريعية 328

الولاية الأولى: ولاية التبليغ وبيان الحكم الشرعي. 328

الولاية الثانية: ولاية تشريع الأحكام (أو ولاية التفويض) 329

الفرع الأول: من تشريعات النبيِّ الأكرم (صلی الله علیه و آله) 329

الفرع الثاني: تشريعات الأئمَّة (علیهم السلام) 333

من نصوص التفويض التشريعي إليهم(علیهم السلام) 333

الولاية الثالثة: ولاية القضاء. 342

النقطة الأولى: تعريف السلطة القضائية. 342

ص: 395

النقطة الثانية: ضرورة السلطة القضائية. 343

النقطة الثالثة: هل هذه الولاية مختصة بالمعصوم(علیه السلام)؟ 345

المستوى الأول: الخاص بمعنى المستأثر. 345

المستوى الثاني: الخاص بمعنى الأصل. 345

والنصوص القرآنية تشهد بذلك أيضاً: 346

الولاية الرابعة: ولاية إجراء الحدود. 347

الولاية الخامسة: ولاية الطاعة للأوامر الشرعية. 349

الوجه الأول: أن الرسول وسيط بين الله تعالى وبين البشر. 350

الوجه الثاني: أن الرسول مخبر معصوم عن الواقع. 351

الولاية السادسة: ولاية الطاعة في الأوامر العرفيّة. 353

الولاية السابعة: ولاية التصرف في الأموال والنفوس. 353

الولاية الثامنة: ولاية الإذن أو النظارة ... 356

الولاية التاسعة: ولاية الأمر أو ولاية الحكومة. 356

الولاية العاشرة: ولاية الإمامة أو الهداية الإيصالية أو القيادة المعنوية. 358

أثر هذه الولاية في نفوس الأتباع: 361

المصادر 365

ص: 396

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.