بحوث معرفية في علم الكلام المجلد 3

هویة الکتاب

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

کربلاء المقدسة

ص.ب(233)

هاتف: 322600، داخلی: 175-163

الكتاب: بحوث معرفية في علم الكلام/ الجزء الثالث/ الإمامة

تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، معهد تراث الأنبياء للدراسات

الحوزوية الإلكترونية.

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 500 .

ذو الحجة الحرام 1443 ﻫتموز 2021 م

ص: 1

اشارة

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

قسم اعداد المبلغات

بحوث معرفية

في علم الكلام

الجزء الثالث

الإمامة

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

اصدارات: جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الأصل الرابع: الإمامة

اشارة

وفيه مبحثان رئيسان:

المبحث الأول: معنى الإمامة العامة في الإسلام

المبحث الثاني: الإمامة الخاصة.

ص: 5

ص: 6

المبحث الأول: معنى الإمامة العامة في الإسلام

اشارة

وهنا نذكر مقدمات ثمانية في الإمامة العامة تؤسس للدخول في مباحث الإمامة الخاصة وولاية أهل البيت (عليهم السلام).

المقدمة الأولى: الإمامة لغة واصطلاحًا.

المقدمة الثانية: العناصر المشتركة والخاصة في الإمامة.

المقدمة الثالثة: أن الإمامة أصل.

المقدمة الرابعة: بيانات في ضرورة الإمام المعصوم.

المقدمة الخامسة: بيانات في ضرورة النص على الإمام.

المقدمة السادسة: بيانات في ضرورة العلم الخاص للإمام.

المقدمة السابعة: الإمامة والتوحيد.

المقدمة الثامنة: الإمامة والنبوة.

ص: 7

ص: 8

المقدمة الأولى: الإمامة لغة واصطلاحًا

الإمامة لغة

الإمامة لغة(1):

إن الفعل (أمّ) هو بمعنى: القصد باستقامة. والقصد يستبطن ويلازم:

أ: السير والسلوك. (الحركة)

ب: وجود مقصد وهدف معين. (الغاية)

ج: وجود قائد (إمام) هو من تَعْرِض عليه صفة (الإمامة) (المحرِّك)

د: أن هناك جماعة تأتمّ بالإمام يقودهم بنفسه إلى ذلك الهدف.

فالإمامة ومشتقاتها لغة تستبطن معنى الجماعة و (الفريق) مع قيادة معينة، تسير باتجاه مقصد معين.

مع ملاحظة أن كون الإمام إمام هدى أو ضلال، لا علاقة له بالمعنى اللغوي، وإنما هو فرع المقصد والغاية، فإن الغاية قد تكون الهداية فيكون الإمام إمام هدىً، وقد تكون الضلال والتيه، فيكون الإمام إمام ضلالة.

ص: 9


1- في تاج العروس للزبيدي مادة: [أمم]: أَمَّةُ يَؤُمّه أَمًّا: قَصَده وتوجَّه إِلَيْه. وفي مفردات الراغب مادة (أمّ): والأَمُّ: القصد المستقيم، وهو التوجه نحو مقصود، وعلى ذلك: (ولَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة / 2]...

إشارة:

إن الأمة ما دامت تتحرك باتجاه مقصدها بتبع إمامها –إمام الهدى- فهي أمة حية، وإلا فإنها ستبدأ بالهرم شيئًا فشيئًا إلى أن تموت، ومن هنا يتناسب وجودها كأمة حية غير متآكلة في أطرافها وبشكل طردي على قدر الحركة خلف إمام الهدى كمًا وكيفًا.

لذا فقد ذمّ القرآن الكريم قوم النبي موسى (عليه السلام) عندما قالوا له: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)(1)

فإنه خروج عن إمامته إلى غيرها، ونفس المعنى هو ما اُبتُلي به أهل الكوفة مع الإمام الحسين (عليه السلام) (قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية).(2)

وأما الإمامة اصطلاحًا

فهناك تعريف للإمامة ربما يكون متفقاً عليه، وهو: الرئاسة في الدين والدنيا.

أو إنها رئاسة عامة في الدين والدنيا نيابة أو خلافة عن النبي (صلى الله عليه وآله).

وعرّفها البعض بأنها عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول (صلى الله عليه وآله) في إقامة قوانين الشريعة وحفظ حوزة الملة على وجه يجب اتباعه على كافة الامة.(3)

ص: 10


1- المائدة 24.
2- دلائل الإمامة للطبري الشيعي ص182.
3- قال الإيجي في المواقف (ج3 ص 579) ما نصه: والأولى أن يقال هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة.

وقد عرّفها الشيخ المفيد (قُدس سره) فقال: «الإمام» هو: الإنسان الذي له رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) (1).

وقال في «أوائل المقالات»: «إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء : في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود [وهذا منصب القضاء]، وحفظ الشرائع [أي: من التحريف بزيادة أو نقصان]، وتأديب الأنام [أي: في الشؤون الثقافيّة]، معصومون كعصمة الأنبياء» (2).

فالإمام يتقلّد منصبًا، يترأس من خلاله إدارة أمور الدنيا، من تنظيم ومنع فوضى وإرجاع الحقوق إلى أهلها –فيما لو أتيح له ذلك- وفصل الدعاوى والخصومات وغيرها، وكذا يكون هو المُبيّن والموضح والشارح للشريعة التي يكون هو إمامًا فيها، خلافة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فيفسّر القرآن ويوضّح الأحكام الشرعية ويردّ الشبهات وغيرها مما يتعلق بالدين.

فالإمامة إذن فيها جنبة قيادية، وجنبة علمية، بالإضافة إلى الجنبة الروحية وأنها تمثّل الارتباط العقائدي الروحي بالدين عمومًا.

ص: 11


1- النكت الاعتقاديّة، المفيد، ص39.
2- أوائل المقالات، المفيد، ص 19.

ص: 12

المقدمة الثانية: العناصر المشتركة والخاصة في الإمامة

اشارة

هناك أمور وعناصر مشتركة فيما بيننا وبين العامة فيما يتعلق بالإمامة، وهناك أمور وعناصر اختص بها مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وبيانه بالتالي:

أولًا: العناصر المشتركة بيننا وبين العامة

يمكن استنتاج العناصر المشتركة في الإمامة عند الفريقين من التعاريف التي أوردوها للإمامة؛ وهي على النحو الآتي(1):

أوّلاً: «الولاية والرئاسة»

أي إن الإمام يتولى زمام الرئاسة الحكوميّة والدنيويّة، نعم، الولاية التي تعني الولاية التكوينيّة والتشريعيّة والاجتماعيّة منحصرة بالإماميّة، ولا يعتقد أهل السنّة بهذا النطاق الواسع من الولاية.

ثانياً: «خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونيابته»:

فالخلافة منضوية في معنى «الإمامة»، ولا خلاف فيها. وقد روي عن

ص: 13


1- راجع للتفاصيل: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 18 – 21.

الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إِنَّ الْإِمَامَةَ خِلَافَةُ الله وَخِلَافَةُ الرَّسُولِ (صلى الله عليه وآله)» (1).

ثالثاً: «وجوب طاعة الإمام [أو الحاكم باصطلاحهم] على الجميع»:

رابعاً: «القيادة الشرعيّة»:

نيابة عن النبي، أي إن للإمامة والإمام قدسيّة وشرعيّة إلهيّة(2).

خامساً: إن الإمام شخص؛ وليس حزباً، أو فئةً، أو شورى بعينها.

سادساً: إن نطاق هذه الزعامة والقيادة هي شؤون الدين والدنيا كليهما.

فالإمام - حسب عقيدة الفريقين - يتولّى أمر سعادة الناس في الدنيا والآخرة. ومن هذا المنطلق، قسّم أهل السنّة الخلفاء إلى الراشدين وغير الراشدين، وآمنوا بأنّ الخلفاء الراشدين (أبا بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليّاً) كانوا معنيّين بجميع شؤون الأمّة الدنيويّة والأخرويّة. أمّا معاوية وغيره فلا يطلق عليهم هذا اللقب - رغم كونهم موضع احترام عندهم بسبب كونهم من الصحابة - لعدم اهتمامهم بأمور الناس الدنيويّة والأخرويّة، ولذلك يعتبرونه من ملوك الإسلام لا من الخلفاء.

قال ابن كثير: (...فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام)(3)

ص: 14


1- الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 198.
2- ربما يُقال: إن هذا المعنى يصدق في الخلفاء الأوائل، أما في العهد الأموي والعباسي فكان الحاكم هو القائد السياسي، وأما الشرعية فهي للعالم، ولذا ظهرت المذاهب، علماً أن العالم كان تابعاً للحاكم عندهم.
3- البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص 21، وقال في ج13 ص 239: والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم كانت ثلاثين سنة كما نطق بها الحديث الصحيح، فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكا فكان أول ملوك الاسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، ثم ابنه عبد الملك، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضا، ثم مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار، وكان آخرهم، فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، ثم انقرضوا من أولهم إلى خاتمهم. وكان أول خلفاء بني العباس عبد الله السفاح، وآخرهم عبد الله المستعصم. وكذلك أول خلفاء الفاطميين فالأول اسمه عبد الله العاضد، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جدا قل من يتنبه له، والله سبحانه أعلم.
ثانيًا: العناصر الخاصة بالإمامة عند الشيعة الاثني عشرية
اشارة

أي ما نتبنّاه نحن فيما يتعلق بالإمامة، وهي عدة أمور، يجمعها الاعتقاد بأن الأئمة (عليهم السلام) هم أشخاص اتّصفوا بصفات استثنائية فريدة، لم يتمكن غيرهم منْ أنْ يتّصف بها بنفس المرتبة التي عندهم، وأن هذه الصفات أهّلتهم ليكونوا خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأئمة على الناس أجمعين، وجعلتهم في موضع السبق بالنسبة إلى غيرهم، وأنهم القادة لمن أراد أن يصل إلى بر الأمان، ولا طريق للنجاة من دونهم، وأهم ما اتصفوا به من مؤهلات هي التالي(1):

أوّلاً: «الولاية المطلقة»

ومعناها اشتمال الولاية التي يتحلّى بها الإمام على شتّى ألوان الولاية التكوينيّة، والتشريعيّة(2)،

والقياديّة.

ص: 15


1- راجع للتفاصيل: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 21.
2- على خلاف فيها أو في معناها وسعتها.
ثانياً: النص

فليست الأمّة هي من يختار الإمام، نعم يلزم على الأمة أن تبايع الإمام، ولكن مع ملاحظة أن البيعة ليست هي العامل الذي يمنح الشرعيّة للإمام، خلافاً لما تذهب إليه رؤى الديموقراطيّة اللبراليّة؛ حيث إن مشاركة الشعب عندهم هو مصدر من مصادر الشرعيّة. وإنما البيعة تُلزم المبايِع باتباع الحاكم فعلًا وعلى واقع الأرض، فهي - في واقع أمرها - عامل يساهم في فعليّة وجوب طاعة الحاكم، وتحقّق ذلك على الأرض، في ما يرى أهل السنّة أنّ الحاكم نائب عن الأمّة، وأنّ شرعيّته الفلسفيّة منوطة باختيار الأمّة له بشروط إلهيّة، فالأمة هي التي تعين الحاكم والإمام –بطريقة وبأخرى-، فيكون الإمام نائبًا عن الأمة لأنها انتخبته وجعلته...

ثالثًا: «العصمة»

الشاملة لجميع دوائر المعرفة، والتبليغ، والعمل بالدين والشريعة، فنحن نعتقد أن الإمام معصوم في جميع مراتب العصمة قولًا وفعلًا واعتقادًا، وكالتالي(1):

أ/ أنه معصوم في العقيدة: أي إنه مؤمن بالله تعالى عارف به جل جلاله، ولا يشوب إيمانه جهل ولا شرك وتعطيل ولا أي سوء.

ب/ العصمة في الأخلاق والصفات النفسية: فلا حقد عندهم ولا حسد

ص: 16


1- انظر: الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية للشيخ فاضل الصفار ج6 ص 121 - 123

ولا اتباع للهوى أو الأنا، وهم منزّهون عن جميع رذائل الأخلاق ومساوئ السلوك، ليس فيهم إلا صفات الكمال.

ج/... أنهم في سلامة جسمية تامّة، ولا يشوب أجسامهم تشوه ما، من العمى أو العرج أو الحول والجنون والخرس والشلل وقبح الشكل.

د/ العصمة في القول والفعل: فما يفعلونه ويقولونه هو حجة، فلا موضع للخطأ أو الاشتباه فيه.(1)

ه/... في الصبر والاستقامة: فهم في طريق تحقيق المراد الإلهي لا يتراجعون ولا يتذبذبون ولا يصيبهم يأس ولا عجز ولا كسل.

وبعبارة أخرى(2):

إن هناك العديد من المجالات التي يلزم أن يكون الإمام معصومًا فيها، وهي إجمالًا التالي:

1/ العصمة عن ارتكاب المعصية، ومخالفة الأوامر الإلهيّة (الواجبات والمحرّمات).

2/ العصمة عن الخطأ والنسيان في تلقّى الوحي والرسالة وتبليغهما.(3)

3/العصمة عن الخطأ والنسيان في تنفيذ الأحكام الإلهيّة، وتطبيقها مع

ص: 17


1- وكذا في تقريراتهم.
2- انظر: الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 75 – 76.
3- وكذا في تلقي الشريعة من القرآن وسنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالنسبة للمعصومين (عليهم السلام).

الشرع، والأمن من الخطأ في القيام بالأمور الفرديّة والاجتماعيّة(1).

4/العصمة في المعتقدات الدينيّة.

5/العصمة في التعرّف على موضوعات الأحكام الشرعيّة بدقّة.

6/العصمة في معرفة المصالح والمفاسد الفرديّة والاجتماعيّة.

7/العصمة في الأمور العاديّة وشؤون الحياة اليوميّة.

والخلاصة: نعتقد أن الإمام معصوم في جميع مجالات حياته الفردية والاجتماعية، الشخصية والإلهية، النظرية والعملية.

بيان آخر لما اختص به الشيعة من اعتقادات في الإمامة:
اشارة

يمكن أن نذكر عدة نقاط تبين ما نتبنّاه في ما يخص الإمامة، وما يعتقد به العامة في قبالها وهي التالي:

النقطة الأولى: ضرورة الشخص الحقيقي المرتبط بالسماء

نحن نؤمن بضرورة وقوع استمرار الشخص الوسيط المرتبط بالسماء، وهو النبي ثم الإمام، وأن ارتباطه بالسماء ليس بالأدوات المتعارفة لدينا من فطرة وعقل... وإنما بالعلم اللدني، وأن هذا الشخص يبقى مستمرًا إلى نهاية الدنيا.

فالحياة بدأت بالنبوة، وتنتهي بالمصلح، وهناك تسلسل وبلا انقطاع فيما

ص: 18


1- راجع: الإلهيّات على هدي الكتاب والسنّة والعقل، السبحاني، ج 3، ص155.

بين البداية والنهاية يمثله ذلك الشخص (الإمام)، فإن الأرض لا تخلو من حجة لله تعالى.

إذن، لا بد من شخصية حقيقية مرتبطة بالسماء –نبيًا كان أو وصيًا-، ولا يكفي مجرد وجود الشريعة والدين، وإنما لا بد من قائم عليه منصّب من السماء، وهذا يفرز:

أ: تسلسل الأئمة الاثني عشر في الفكر الإسلامي، وبصورة متواصلة لا منقطعة.

ب: ظاهرة الغيبة النسبية، فإن تسلسل الأئمة بالعدد المحدد يعني غيبة آخرهم اليوم، لا كما يؤمن الآخر بأن المصلح سيولد في آخر الزمان.

أما العامة فقد قَبِلَوا أن البداية للنبي (وهذا أمر متفق عليه بين جميع المتدينين)، وأن النهاية أيضًا تكون لمصلح، وهو ليس بنبي، ولكنه سيولد في آخر الزمان، وأما فيما بينهما، فلا ضرورة للإمام، وإنما تكفي شريعة، ولذا لم يكن للغيبة موضوع؛ لأنها فرع وجود الإمام بالتسلسل والتتالي، المتفرع عن عدم خلو الأرض من الحجة بالمعنى المتقدم.

النقطة الثانية: الإمام يمثل القوة التشريعية

إن هذا الواسطة بيننا وبين السماء يمثل القوة التشريعية، فهو إنْ كان نبيًا فهو ينبئ عن السماء من خلال الوحي، وإن لم يكن نبيًا (وهو الوصي)، فهو يبقى المرجع الديني الأم والمصدر في مجمل شؤون الدين، عدا الإنباء

ص: 19

عن السماء كنبي من الأنبياء، فهو إمام وليس بنبي، لأن النبوة خُتمت بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

فالشخص الحقيقي –بعد النبي- هو مصدر تشريع، فيكون قوله نفسه حجة، بلا حاجة إلى استدلال على حجيته، بمعنى: أننا ملزمون بأقواله فيما يتعلق بالشريعة من أحكام وقوانين إسلامية وإن لم يبين العلة في حكمه، وهذا لا يمنع من تبرّعه بالبيان لو رأى مصلحة- هو يحددها- في ذلك، وهذا أحد الفوارق بين قول المعصوم وقول المجتهد، إذ المجتهد قوله ليس بحجة بذاته، إنما بدليله. في حين أن قول الشخص الأول، المصدر، الرجل الأول أي الإمام، هو حدٌّ أوسط ودليل في حدّ ذاته.

أما العامة، فإنهم لم يقبلوا بأهل البيت (عليهم السلام) مرجعًا دينيًا معصومًا، بل لم يقبلوا مرجعيتهم الدينية رغم اعترافهم بأنهم الأعلم، وحتى من قبِل منهم المذهب الجعفري، فإنه قبِله كمذهب خامس في عرض مذاهبهم، لا أنه قَبِله كمذهبٍ يمثّل المرجع لبقية المذاهب، والمذهب الحق دون غيره.

إن هذا الخلاف أنتج مدارس فقهية أربعة للعامة، في قبال المدرسة الفقهية الشيعية، ومدرستين عقائديتين –على الأقل- هي الأشعرية والمعتزلية في قبال المدرسة الإمامية.

النقطة الثالثة: الإمام يمثل القوة التنفيذية

إن هذا الشخص يمثل القوة التنفيذية، أي إنه معنيّ بتطبيق الشريعة،

ص: 20

طبعًا إذا توفرت الظروف الموضوعية، وهو إذا أتيح له ذلك فإن عنده القدرة والعلم والحكمة على أن يقود الأمة إلى أفضل ما يمكن أن تصل إليه من العدل والأمان والسلام، وهو ما بيّنته الزهراء (عليها السلام) في خطبتها في نساء المهاجرين والأنصار حيث قالت في مقام شرحها لمهام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومحوريته:

(وَمَا اَلَّذِي نَقَمُوا مِنْ أَبِي اَلْحَسَنِ (عليه السلام)؟! نَقَمُوا وَاَللهِ مِنْهُ نَكِيرَ سَيْفِهِ، وَقِلَّةَ مُبَالَاتِهِ لِحَتْفِهِ، وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ، وَتَنَمُّرَهُ فِي ذَاتِ اَللهِ، وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا عَنِ اَلمَحَجَّةِ اَللَّايِحَةِ، وَزَالُوا عَنْ قَبُولِ اَلْحُجَّةِ اَلْوَاضِحَةِ، لَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهَا، وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لَا يَكْلُمُ حُشَاشُهُ، وَلَا يَكِلُّ سَائِرُهُ، وَلَا يَمَلُّ رَاكِبُهُ، وَلَأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً نَمِيراً، صَافِياً، رَوِيًّا، تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ وَلَا يَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ، وَلَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً، وَنَصَحَ لَهُمْ سِرًّا وَإِعْلَاناً، وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّىٰ مِنَ اَلدُّنْيَا بِطَائِلٍ، وَلَا يَحْظَىٰ مِنْهَا بِنَائِلٍ، غَيْرَ رَيِّ اَلنَّاهِلِ، وَشُبْعَةِ اَلْكَافِلِ، وَلَبَانَ لَهُمُ اَلزَّاهِدُ مِنَ اَلرَّاغِبِ، وَاَلصَّادِقُ مِنَ اَلْكَاذِبِ، ]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ[(1)، ]وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ[.(2)

أَلَا هَلُمَّ فَاسْمَعْ، وَ مَا عِشْتَ أَرَاكَ اَلدَّهْرُ عَجَباً، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، لَيْتَ شِعْرِي إِلَىٰ أَيِّ سِنَادٍ اِسْتَنَدُوا؟! وَإِلَىٰ أَيِّ عِمَادٍ اِعْتَمَدُوا؟! وَبِأَيَّةِ

ص: 21


1- الأعراف: 96.
2- الزمر: 51.

عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا؟! وَعَلَىٰ أَيَّةِ ذُرِّيَّةٍ أَقْدَمُوا وَاِحْتَنَكُوا؟! ]لَبِئْسَ الْمَوْلىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ[ (1)...)(2)

فالسيدة الزهراء (عليها السلام) تبين أن اتخاذ الإمامة محورًا يؤدي إلى رغد العيش وبطريقة سهلة لا صعوبة فيها.

وهكذا هو المسؤول والمعنيّ عن إزالة الظلم والجور من على وجه البسيطة وإحلال الأمن والعدل والقسط فيها.

أما العامة، فإنهم اعتبروا أن السيطرة على الحكم والسلطة هو الجوهر في الإمامة، ومن يصل إلى الحكم فما يفعله هو الحجة والقانون وإن كان بالضد من الدين –كشرب الخمر وظلم العباد-

النقطة الرابعة: أن الإمام معصوم

إن هذا الشخص (الإمام) يتمتع بالعصمة، فقوله هو الواقع، فلا مجال للخطأ فيه، فهو مضمون الحقانية، لينتج أنه والواقع شيء واحد.

أما الآخر فلم يكتف برفع اليد عن شرط العصمة وحسب، ولم يقف –على الأقل- عند حدود الأعلمية في الحاكم، بل قَبِلَ بالحاكم بعنوانه، فمجرد كونه حاكمًا ووصل إلى الحكم وبأي طريقة كانت، فهو الحجة والذي تجب طاعته وإن فسق عن أمر ربه...

ص: 22


1- الحجّ: 13.
2- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص148.

ففي الوقت الذي جعلنا –نحن- المحورية للعصمة، هم جعلوها للحاكم بالمطلق، ولذا أخذوا بالدفاع عنه فأعطوه طابع القداسة.

النقطة الخامسة: أن تعيين الإمام من السماء حصراً

إن هذا الشخص (الإمام) يتم انتخابه وتعيينه من السماء، (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً)(1)

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)(2)

ومن هنا ينفتح ملف (النص) وأن هذا الإمام منصّب من الله تعالى، وليس من حق الناس ذلك.

أما الأخر، فإنه أنكر النص صغرويًا، أي إنه قال بعدم وجود نصٍّ دالٍّ على تنصيب الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سواء كان هو أمير المؤمنين (عليه السلام) وبقية أهل البيت (عليهم السلام)، أو غيرهم، ولذلك فحينما جاؤوا للطريقة التي يلزم أن يتبعوها في تحديد الخليفة والحاكم فقد تأرجحت آراؤهم بين الانتخاب العام (كما حصل مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، والانتخاب الخاص (كما في أبي بكر، أو التعيين في عمر، أو الشورى، كما في عثمان)، والقوة (كما في معاوية وبني العباس)، والوراثة (كما في يزيد وغيره من بني أمية وبني العباس)، وكل هذه الطرق عُمل بها والتزموا بنتائجها، وألبسوها ثوبًا شرعيًا، ورفعوها من

ص: 23


1- البقرة 30.
2- الأنبياء 73.

كونها محاولة بشرية إلى كونها هي الأساس الذي تريده السماء.

النقطة السادسة: أن الإمام عقيدة

إن ذلك الشخص –نبيًا كان أو وصيًا- يمثل عقيدة، فقبوله والإيمان به من أصول الدين لا فروعه.

وأما الآخر فلم يتعامل مع الإمامة معاملة العقيدة، وإنما معاملة فرع من فروع الدين لا أكثر. فهي قضية عملية فقط لا يُراد منها إلا الحكم أو الاجتهاد بأي طريقة كانت وبأي شكل كان، فهي عندهم كالعمل التوصلي الذي لا يُراد منه إلا نتيجته ولو حصل من دون قصد ولا نية قربة. فالشيعة يفترضون أن الصراع على الإمامة صراع الإيمان والكفر، صراع الحق والباطل، صراع النجاة والهلاك. لا أنه صراع إسلامي إسلامي كما يحاول السنة تصويره.

ص: 24

المقدمة الثالثة: أن الإمامة أصل

هل الإمامة أصل من أصول الدين أو فرع من فروعه؟

السنة على أنها فرع، وكلماتهم صريحة في ذلك(1)،

قال الغزالي: اعلم أن النظر في الإمامة ليس من فن المعقولات ، بل من الفقهيات.(2)

وقال الآمدي (المتوفى 631 ه ): واعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات.(3)

وقال الإيجي: ومباحثها عندنا من الفروع ، وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسيا بمن قبلنا.(4)

وقال ابن خلدون: وقصارى أمر الإمامة إنها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد.(5)

ص: 25


1- انظر: محاضرات في الإلهيات ص 326.
2- الاقتصاد في الاعتقاد : 234
3- غاية المرام في علم الكلام : 363 .
4- شرح المواقف : 8 / 344 .
5- مقدمة ابن خلدون : 465 ، ط دار القلم ، بيروت.

وقال التفتازاني: لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق...(1)

والإمامية على أنها أصل، بل يعتبرونها صنو النبوة، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(2) الدال على أن الإمامة في مستوى أصل تبليغ الرسالة، وأن الرسالة بدون الإمامة ليست رسالة.

وقد ذكر العلماء عدة أمور تصلح كأدلة أو مؤشرات –ولو بمجموعها- لكونها من الأصول:

1 – أن كل ما يحصل من النبوة من أغراض –من بيان الدين وتفسير القرآن وردّ الشبهات وتنظيم أمور الناس وغيرها- يحصل بالإمامة الحقة، وحيث إن النبوة أصل، فكذا الإمامة.

2 - الباحثون عموماً بحثوها في علم الكلام، وعلم الكلام يبحث عن الأصول لا الفروع.

3 - تعريفها الذي تقدم يشير إلى أنها من الأصول.

4 - وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) من طرق الفريقين: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.

5 - عدم جواز التقليد فيها، ولو كانت من الفروع لجاز التقليد فيها.

ص: 26


1- شرح المقاصد : 5 / 232 ، ط منشورات الرضي ، قم المقدسة .
2- (67) من سورة المائدة.

6 – ولأن النبوة تبقى بالإمامة، أي إن النبوة خُتمت بالنبي (صلى الله عليه وآله) ولكنها استمرت بالإمامة، وهو ما ربما يشير إليه قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(1)

7 – ولأن أناساً ارتدوا القهقرى بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد ترتب على ارتداداهم هذا أنهم يجلون عن الحوض يوم القيامة على ما في الصحيحين، والتعبير بالردة دليل على أن الإمامة أصل.

ولذا قال القندوزي في ينابيعه: وفى عين الأخبار: سئل الرضا (رضي الله عنه) عن حديث (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم).. فقال: هذا الحديث صحيح، لكن يريد من لم يُبدل بعده ولم يغير.. لأنه (صلى الله عليه وآله) قال: ليذادَنَّ رجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي كما تذاد غرائب الإبل عن الماء، فأقول: يا ربي إنهم أصحابي أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: بُعدًا لهم وسحقًا لهم.

ثم قال: والأحاديث الواردة في دفع بعض الأصحاب عن الحوض كثيرة: تسعة منها في مسلم، وثمانية منها في البخاري، وأيضا في الترمذي والنسائي وابن ماجة موجود، وفي المشكاة حديثان. (2)

وهذا من المتفق عليه بين الجميع، فتصنيفها في الفروع مع الاعتراف بهذا تناقض واضح. خصوصاً وأن بعضهم كفّر من لم يعترف بإمامة أبي بكر، وهم

ص: 27


1- (7) من سورة الرعد.
2- ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ج1 ص 397 - 398 باب 44 ح 18.

يبيحون قتْل من يقول بإمامة غيره بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، فما وقع في كلمات بعضهم من جواز التقليد فيها بل وعدم وجوب البحث عنها هو من التناقضات المسجَّلة عليهم.

8 – ولأن إطاعة الإمام وولايته عدل إطاعة الله تعالى وإطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وعدل ولاية الله تعالى وولاية رسوله (صلى الله عليه وآله) كما نطق به التنزيل.

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(1)

وقال تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.)(2)

ص: 28


1- النساء 59.
2- المائدة 55.

المقدمة الرابعة: بيانات في ضرورة الإمام المعصوم

اشارة

لا شك في أن الناس يحتاجون إلى إمام يقودهم إلى السلام وينفي الظلم وينظّم أمور حياتهم، وهم في ذلك سواء، وهو ما أشار له أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (وإِنَّه لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِه الْمُؤْمِنُ، ويَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، ويُبَلِّغُ الله فِيهَا الأَجَلَ ويُجْمَعُ بِه الْفَيْءُ، ويُقَاتَلُ بِه الْعَدُوُّ وتَأْمَنُ بِه السُّبُلُ، ويُؤْخَذُ بِه لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ويُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ)(1)

هذا في الأمور الدنيوية، ولكن في الأمور الأخروية –وكذا الدنيوية طبعًا- لماذا أصرّ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) على ضرورة أن يكون الإمام معصومًا، أوَ لا يكفي أن يكون قائدًا سياسيًا محنكًا؟ أو عالمًا عبقريًا لكنه غير معصوم بحيث يمكن أن يقع في الخطأ ولو سهوًا؟

في مقام الجواب، ذُكرت عدة بيانات لضرورة كون الإمام والخليفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) معصومًا، نذكر منها التالي:

ص: 29


1- نهج البلاغة ج1 ص 91.
البيان الأول: لو لم يكن الإمام معصومًا للزم التسلسل

أن دور الإمام –حسب اعتقادنا الإسلامي- هو دفع الظلم عن الناس، وعدم السماح بالجور، وعدم السماح بوقوع المعصية من الفاسق، فلو كان الإمام غير معصوم لأمكن أن تصدر منه الأخطاء، وبالتالي لأمكن أن يكون هو ظالمًا، ولو خطأً، أو هو يرتكب المعصية ولو سهوًا، فتذهب فائدة نصب الإمام، أو نحتاج إلى إمام آخر فوق هذا الإمام يصحح له المسار، وننقل الكلام إلى ذلك الإمام الآخر، فإن كان معصومًا فبها، وإلا أمكن صدور الظلم منه، وهكذا يتسلسل، والتسلسل باطل.

قال السيد المرتضى (قدس سره) في بيان هذا التقريب:

والذي يدل على عصمة الإمام: أن علة الحاجة إليه هي جواز الخطأ وفعل القبيح من الأمة.

قال: فليس يخلو الإمام من أن يكون يجوز عليه ما جاز على رعيته أو لا يجوز ذلك عليه.

قال: وفي الأول وجوب إثبات إمام له، لأن علة الحاجة إليه موجودة فيه وإلا كان ذلك نقضًا للعلة، وهذا يؤدي إلى إثبات ما لا يتناهى من الأئمة، أو الانتهاء إلى إمام معصوم، وهو المطلوب.(1)

ص: 30


1- رسائل الشريف المرتضى- الشريف المرتضى- ج1 ص 324.
البيان الثاني: أن حفظ الشريعة لا يكون إلا بالمعصوم

إن من أهم أدوار الإمام –الذي هو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)- هو حفظ الشريعة الإسلامية من أن تُحرّف أو يُدسّ فيها ما ليس منها، أو أن تضيع بين أيدي الفسقة أو الذين يعملون على إماتتها، وحيث إن الإسلام هو الرسالة الخالدة إلى قيام الساعة، فلا بد إذن أن يتم حفظ شريعته من التلاعب والدسّ والتزوير، فلو لم يكن الإمام معصومًا لأمكن له هو أن يخطئ فيها، أو أن تغرّه الدنيا فيتهاون بحفظ الشريعة، ويتساهل في بيان الأحكام الشرعية أو تطبيقها، فربما ضاعت الشريعة بين أيدي غير المعصوم.(1)

قال السيد المرتضى في تقريب هذا البيان:

قد علمنا أن شريعة(2) نبينا عليه السلام مؤبدة غير منسوخة، ومستمرة غير منقطعة، فإن التعبّد لازم للمكلفين إلى أوان قيام الساعة، ولا بد لها من حافظ، لأن تركها بغير حافظ إهمال لأمرها، وتكليف لمن تعبّد بها ما لا يطاق، وليس يخلو أن يكون الحافظ معصومًا أو غير معصوم، فإن لم يكن معصومًا لم يُؤْمَنْ من تغييره وتبديله، وفي جواز ذلك عليه - وهو الحافظ لها - رجوع إلى أنها غير محفوظة في الحقيقة، لأنه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة إذا كان ما يؤدي

ص: 31


1- وهذا لا ينافيه وجود بعض التحريفات في الأحكام الشرعية اليوم، أو الدس الموجود في التراث، لأن المقصود: أن المعصوم هو الحافظ للشريعة لمكان عصمته، غايته أنه قد لا يتمكن من إظهار الحق لسبب موضوعي، كما في الغيبة والتقية.
2- في المصدر (شريعته)، والأصح (شريعة).

إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم، وإذا ثبت أن الحافظ لا بد أن يكون معصومًا، استحال أن تكون محفوظة بالأمة وهي غير معصومة، والخطأ جائز على آحادها وجماعتها، وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأمة فلا بد من إمام معصوم حافظ لها.(1)

البيان الثالث: العصمة هي الطريق المنحصر للتخلص من مشاكل الإنسان المزمنة

هناك مشاكل رافقت البشرية منذ بدء وجودها على الأرض، وهي باختصار التالي:

1/ أن اشتداده الأخلاقي عبارة عما يشبه تسلّق الجبل، وهو مع انفتاح خط العودة والانكفاء يكون مهدّدًا بالرجوع وبطريقة الهبوط السريع جدًا والمؤذي جدًا.

هذا الخطر موجود ما دام الإنسان في هذه الحياة، وهو مفاد ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدنيا كلُّها جهل إلَّا مواضع العلم، والعلم كلُّه حجَّة إلَّا ما عُمِلَ به، والعمل كلُّه رياء إلَّا ما كان مخلصاً، و الإخلاص علىٰ خطر حتَّىٰ ينظر العبد بما يُختَم له»(2).

ومن هنا روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقَّن الوصول إلىٰ رضوان الله، حتَّىٰ يكون وقت نزع روحه

ص: 32


1- الشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج1 ص 179 – 180.
2- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 371).

وظهور مَلَك الموت له»(1).

هناك قلق مستمر لدى الإنسان من أن يفقد مكتسباته، ولا يصل إلى نقطة يستشعر فيها أن ما اكتسبه بات ثابتًا مضمونًا له.

2/هناك وسائل ضغط وأدوات إضلال تعمل على أن يتم تحريك الإرادة الإنسانية نحو الهاوية، أما الوسائل بالاصطلاح الديني فهي:

أ: الهوى:

وقد يصل إلى حد التأليه (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)(2)

ب: الشيطان:

وهو الآخر قد يصل إلى حدّ التأليه (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(3)

ج: الدنيا:

فإنها أشبه بالقوة الجاذبة التي تمنع الإنسان من أن يتركها ليتعلق بالآخرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَىٰ الْأَرضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)(4).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ

ص: 33


1- التفسير المنسوب إلىٰ الإمام العسكري (عليه السلام) (ص 239/ ح 117).
2- الجاثية 23.
3- يس 60.
4- التوبة 38.

مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَىٰ الْأَرضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.)(1)

وأما المواد الجاذبة لتلك الأدوات التي تسحب الإنسان نحو الرذيلة فهي:

أ: المال:

وكونه مشكلة أمر وجداني، فإشكاليته (الاقتصادية) تعد اليوم من أهم وأكبر مشاكل الإنسان والأمم،(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)(2)،

قد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (المال فتنة النفس ونهب الرزايا)(3)

ب: الجنس: قد يقع الإنسان في حباله إلى الحد الذي يلغ فيه أكثر من ولوغ الحيوان، بل قد يصل إلى مرحلة من مقارفته يخجل من فعلها حتى الحيوان. وقد اعتبرته بعض الروايات الشريفة سيف الشيطان الذي يوقع المرء في الهلكة.(4)

ج: الجاه:

وهو ما قد يبذل المرء من أجله راحته وماله وربما حياته، وقد روي عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: ما ذئبان ضاريان أُرسلا في زريبة

ص: 34


1- الأعراف 175 – 176.
2- الهمزة 3.
3- عيون الحكم والمواعظ للّيثي ص60.
4- عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين. عليه السلام: الفتن ثلاث: حب النساء وهو سيف الشيطان، وشرب الخمر وهو فخ الشيطان، وحب الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان، فمن أحب النساء لم ينتفع بعيشه، ومن أحب الأشربة حرمت عليه الجنة، ومن أحب الدينار والدرهم فهو عبد الدنيا...[الخصال للشيخ الصدوق ص 113 باب الثلاثة ح91].

غنم، بأكثر فسادًا فيها من حب المال والجاه في دين الرجل المسلم.(1)

3/المشكلات الفكرية التي ترافق الإنسان في وجوده كله، والتي أهمها (الجهل) وأهم وأخطر منه (الجهل المركب)، فقدر الإنسان (عدا المعصوم) هو الخطأ.

هذه المشاكل لا يمكن لإنسان غارق في الخطيئة أو متعلق بالدنيا أن يحلَّها، ما لم يكن على قدر عالٍ من العلم والحكمة إلى الحدّ الذي يصل إلى العصمة، حتى لا يتهمه الناس، ولا تغرّه المناصب، ولا يخطئ في تقييم حالة أو علاجها، مما يعني أن الحاجة إلى المعصوم هي حاجة متجذّرة في وجود الإنسان وفطرته فضلًا عن كونها حاجة عقائدية حيث نحتاج إلى من يوصل إلينا مرادات الله تعالى حتى نصل إلى رضوانه جل وعلا، ولو لم يكن المبلغ معصومًا لأمكن أن يقع في الخطأ وحتى ربما تعمّد الخطأ من أجل حطام الدنيا، وهذا ما لا يمكن أن نتصوره في المعصوم؛ حيث إنه لعصمته لا يخطئ ولا ينسى ولا يشتبه في شيء أبدًا.

فالحاجة إلى المعصوم إذن تكمن في أنه هو الوحيد القادر على حلّ مشاكل الإنسان من دون أن يحابي فيها أو أن يقع هو في مشكلة من تلك المشاكل، فيحتاج إلى من يخلّصه منها.

ص: 35


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام) ص163.
البيان الرابع: أن المعصوم هو الوحيد القادر على تحقيق أمنيات الإنسان الكبرى
اشارة

للإنسان أمنيات أساسية كلية لا مقطعية جزئية، يهدف إلى الوصول إليها وتحقيقها بكل ما أوتي من قوة وما توفر له من وسائل، وكلها تهدف إلى غاية واحدة هي تحقيق السعادة له، وتلك الأمنيات هي:

أولًا: الأمن

والطمأنينة والاستقرار وفي مختلف مستويات الحياة –الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها- فالأمن هدف ومطلب، ولا تجد عاقلًا يجعل من القلق والاضطراب والحيرة والتردُّد هدفًا يقصده، أو مُنية يتمناها.

ثانيًا: الرفاهية

إذ يجد الإنسان راحته وسعادته في الرفاهية والدعة، فهو يهدف إلى تحصيلها بشتى الطرق، وإن كانت بعض تلك الطرق تبدأ بالتعب والنصب والحرمان والتضييق على النفس، كمن يتجرّع مرارة العلاج ليحصل على راحة الصحة، أو من يصوم ليهنأ في الآخرة، أو من يسهر الليالي لأجل تحصيل العلم، أو ينْصَبُ بالتجارة ليربح الرفاهية المالية.

لذلك كان السجن أحبّ إلى النبي يوسف (عليه السلام)، لأنه وإن خسر رفاهية البدن وحرية الحركة، إلاّ أنه ربح الرضوان الإلهي بالابتعاد عن الفاحشة.

قد تنعدم الرفاهية في الوسيلة فتكون صعبة وتستبطن التضييق، بيد أنها

ص: 36

لمّا كانت لتحصيل الرفاهية كانت مقبولة.

ثالثًا: العدالة

حيث ينشدها الجميع، ويحلم بها الجميع، ويخطط لها الجميع، ويتحرك نحوها الجميع، لا يختلف على إرادتها اثنان، إنما الاختلاف في التطبيق والوسيلة والتشخيص، وليس في أصل كونها مطلبًا ومُنْية، فحتى المستبدين يرفعونها شعارًا يُقنعون به أنفسهم ويجذبون به الأنصار.

رابعًا: الحرية
اشارة

فلا أحد يحب أن يكون عبدًا لغيره، أو رِقًّا تتداوله الأيدي، لا أحد يرغب في أن لا يملك من أمر نفسه شيئًا، فالكل ينشد الحرية، على اختلاف في تفسير الحرية، حيث أراد لها البعض أن تكون بمعنى الانفلات من أي قيد، فيما قد يفسّرها آخرون بأنها الانضباط وفق نظام الحقوق والواجبات، وعلى كل حال، فالحرية مطلب لكل البشر وإن كان المراد منها عائمًا وضبابيًا في بعض الأحيان.

هذه هي أمنيات الإنسان الكبرى على نحو الإجمال.

مع الالتفات إلى:

1/ أن كل الأماني الكبرى تشترك في هذه الخاصية وهي: أنها مطلب الكل، وينظر لها الكل، ويسعى لها الكل، إنما الخلاف كله في البعد التنفيذي فيها، وفي الوسائل الموصلة لها.

ص: 37

2/ وكلها تصب في تحقيق مطلب رئيسي، وهي السعادة، فكلها عناصر لأمنية عامة هي (السعادة) واللذة والمتعة والشعور بالراحة، فالسعادة هي المطلب الحقيقي للإنسان، تلك السعادة تكون من خلال الأمن والرفاهية والعدالة والحرية، فالسعادة هي المقصد النهائي لحركة الإنسان.

3/هناك اختلاف وبحد التناقض يظهر في التشخيص والتطبيق والوسيلة، فبينما يرى البعض سعادته في جمع المال بما هو مال، يرى الآخر أنها في تحقيق الجاه، وثالث في إشباع رغباته الجنسية، ورابع يرى أن السعادة الحقيقية إنما تكون في الآخرة، حيث الخلود والنعيم الأبدي، الأمر الذي يجعله يتحمّل كل شقاء الدنيا من أجلها.

هذا الاختلاف الفظيع في تجليات وتمظهرات ووسائل السعادة يمثّل مشكلة أخرى من مشاكل الإنسان الكبرى.

4/ لا شك أن الأمنية الكبرى هو الوصول إلى رضا الله تعالى، ففي زيارة أمين الله: (إنك ولي نعمائي ومنتهى مناي وغاية رجائي في منقلبي ومثواي)(1)

حيث يتضح جليًا أن الهدف الأسمى والأمنية النهائية هو الله تعالى.

في دعاء عرفة (ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك، لقد خاب من رضى دونك بدلًا، ولقد خسر من بغى عنك متحولًا) حيث يتضح أيضًا أن الوجدان الحقيقي هو بالوصول إلى رضا الله تعالى. حتى تصل النفس إلى نهايتها في الدنيا، فتحظى بالرجوع إلى الله تعالى (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ.

ص: 38


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص739.

ارْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي.)(1)

5/لا تعني السعادة الأخروية ولا تستلزم أن لا مشروع للدين لتوفير السعادة في الدنيا. وربما يظهر من بعض الأدبيات هذا الفهم المغلوط وأن (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) فالمتدين له الآخرة ولغيره الدنيا، وهو فهم مغلوط، فللدين مشروعه في الدنيا يتمثل بالسعادة والرفاهية والعدل كما في الآخرة، كما يظهر من النص القرآني: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(2)،و

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ)(3)،

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ)(4)، و(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(5)

ويظهر هذا المشروع أيضًا من مثل: (اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا وغيبة ولينا وشدة الزمان علينا ووقوع الفتن وتظاهر الأعداء وكثرة عدونا وقلة عددنا، فافرج ذلك يا رب عنا بفتح منك تعجله ونصر منك تعزه وإمام عدل

ص: 39


1- الفجر 27 – 30.
2- الجن 16.
3- الأعراف 96.
4- القصص 5 -6.
5- الحديد 25.

تظهره، إله الحق آمين)(1)

وفي نص آخر: (اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة)(2)

وفي نص روائي يؤكد على لا بدية تحقق القسط والعدل على يدي المهدي الموعود، روي عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن خلفائي و أوصيائي، وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر: أولهم أخي وآخرهم ولدي، قيل: يا رسول الله ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب، قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي يملأها قسطًا وعدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، والذي بعثني بالحق نبيًا لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه، وتشرق الأرض بنوره ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب.(3)

إذا تبين هذا نقول:

إن تحقيق هذه الأمنيات لا يكون بالمعجزة بلا أدنى شك، وإنما هو موقوف على أمرين:

ص: 40


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 366.
2- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص581.
3- كمال الدين للشيخ الصدوق ص280 باب 24 ح27.
الأمر الأول: الإرادة

والاختيار الإنساني، أي لا بد من تفعيل الإرادة عمليًا. وحتى تتم الاستفادة من الإرادة نلفت إلى:

أ/أن الإرادة وإن كانت موجودة داخل كل فرد، ولكن وجودها من دون تفعيل لا فائدة فيه، ذلك التفعيل الذي يكون مسبوقًا باستشعارها وجدانًا، الأمر الذي يؤدي إلى إعطاء الإرادة موقعها المناسب.

على الإنسان أن يستشعر إرادته، وأنها قوام وجوده، وأنها ما يحقّق طموحه، ثم يعمل على تفعيلها.

ب/أن تفعيل الإرادة بصورة منهجية يستلزم إبعادها عن التكاسل وطلب تحقيق الأمنيات بالمعجزة أو بالصدفة، بل لا بد من إبعادها حتى عن المشاغبات الأدبية، كالإيحاء إلى النفس بعدم القدرة، وترديد (أنا فاشل، أنا لا أستطيع، أنا لا يمكن أن أصل إلى الهدف...)

ج/ليست الإرادة هي كل شيء، بل هي تحتاج إلى أمر آخر، يمثّل البوصلة التي تضبط الحركة وتوجّه الإرادة، فإنه ومن دون البوصلة، فإن المشاكل تبقى تنخر في حياة الإنسان حتى تفقده الأمل بالحياة رغم امتلاكه الإرادة والاختيار. وقد يُفعّل الإنسان إرادته في الطريق الخطأ، في طريق فقدان تلك الأمنيات، أو في طريق الوقوع في المشاكل اللا متناهية.

ص: 41

الأمر الثاني: القائد
اشارة

لا شك أن السماء أعطت الفرصة كاملةً للإرادة الإنسانية، بحيث إنها لم تتدخل في كيفية توجيه الإنسان لإرادته بنحو يسلب الإرادة(1)،

ولم تدخل على الخط بطريقة الإعجاز والإعطاء المجاني، بل تركت الوصول إلى الهدف مرهونًا بتفعيل الإرادة.(2)

ولكن عرفنا أن الإرادة لا يمكن أن تصل إلى الهدف من دون بوصلة ومقصد، إذ قد تُخطئ الإرادة، وقد أثبت الإنسان على طول الخط أنه بارع جدًا في القتل والتشريد والظلم والجور واختراع وسائل معاصرة لكل ما يمكن أن يودي بالإنسان وسعادته، ويقتل أمنياته في مهدها، ويئدها بدم بارد، فكان لا بد من مرشد، لا بد من قائد، لنسمِّه (البوصلة) التي ترسم خط الوصول إلى تحقيق السعادة، بشرط تفعيل الإرادة بالشكل الكامل لا بالمعجزة أو بالصدفة.

فلو لم يكن هذا القائد و (الإمام) معصومًا، لأمكن أن يكون هو وسيلة من وسائل الظلم، ولأمكن أن يُخدع فيقع في الخطأ، وبالتالي سيقود الناس إلى حيث الهلاك، وبالتالي، لا بد أن يكون معصومًا، لنضمن الوصول إلى الهدف خلفه بسلام وأمان.

ص: 42


1- ونفس الكلام يُقال في النبي، وإنما ذكرنا التفصيل هنا لأنه مورد الاختلاف.
2- طبعاً لا بحدٍ يصل إلى التفويض المعتزلي، وإنما بطريقة الأمر بين الأمرين.
إشارة: نصوص في ضرورة الإمام القائد

هناك نصوص دينية كثيرة تشير إلى ضرورة الإمام القائد (البوصلة)، منها:

يقول تعالى (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(1)

الآية توصينا بأن نبتعد عن التنازع، ولكن من الواضح أن التوصية بعدم التنازع أشبه بالتوصية المثالية، إذ التنازع أمر واقع ومفروض، فيأتي نص آخر يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(2)، حيث يجعل المحورية والمركزية عند حدوث النزاع (وهو المتشابه) هو بالرجوع إلى المحكم (اللهِ وَالرَّسُولِ)

في نص آخر: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(3)

حيث ينص على أن هناك محورًا لهداية الناس غير محورية الإنذار التي يقوم بها النبي (صلى الله عليه وآله)، وهي محورية الهداية، وهو ما يقوم به الإمام.(4)

ص: 43


1- الأنفال 46.
2- النساء 59.
3- الرعد 7.
4- وهذا لا يعني أن النبي غير هادٍ، أو أن الإمام ليس منذراً، وإنما هما كذلك، إلا أن الحديث في تقسيم الأدوار إذا صح التعبير. وهو ما ورد في النصوص، من قبيل ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال في تفسير الآية: (أنا المنذر وعلى الهادي) [الأصول الستة عشر- عدة محدثين ص 41. وقد ذكر الكليني في الكافي ج1 ص 190 و 191 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) هُمُ الْهُدَاةُ أربع روايات في ذلك هي: عَنِ الْفُضَيْلِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ : ( ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فَقَالَ: كُلُّ إِمَامٍ هَادٍ لِلْقَرْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِمْ. وعَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فَقَالَ: رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْمُنْذِرُ، ولِكُلِّ زَمَانٍ مِنَّا هَادٍ يَهْدِيهِمْ إِلَى مَا جَاءَ بِه نَبِيُّ الله (صلى الله عليه وآله)، ثُمَّ الْهُدَاةُ مِنْ بَعْدِه عَلِيٌّ ثُمَّ الأَوْصِيَاءُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ. وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فَقَالَ: رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْمُنْذِرُ وعَلِيٌّ الْهَادِي، يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، هَلْ مِنْ هَادٍ الْيَوْمَ؟ قُلْتُ: بَلَى، جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا زَالَ مِنْكُمْ هَادٍ بَعْدَ هَادٍ حَتَّى دُفِعَتْ إِلَيْكَ. فَقَالَ: رَحِمَكَ الله يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، لَوْ كَانَتْ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَاتَتِ الآيَةُ مَاتَ الْكِتَابُ، ولَكِنَّه حَيٌّ يَجْرِي فِيمَنْ بَقِيَ كَمَا جَرَى فِيمَنْ مَضَى. وعَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فَقَالَ: رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْمُنْذِرُ وعَلِيٌّ الْهَادِي، أَمَا والله مَا ذَهَبَتْ مِنَّا ومَا زَالَتْ فِينَا إِلَى السَّاعَةِ.

نص آخر: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا...)(1)

هذا النص يجعل نقطة الاستقطاب والتجمع هو (حبل الله) وغيره يعني التفرق والضياع... ولذلك لو تُركت هذه المركزية لأدى إلى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا...إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)(2) فإن حبل الله (القرآن) وحبل الناس (أهل البيت (عليهم السلام).) هما ما يرفع الناس عن الذلة والمسكنة.

وهو ما ورد معناه في رواية وفد اليمن التي ستأتي إن شاء الله تعال، والتي ورد فيها:

... فقالوا: يا رسول الله، ومن وصيك؟

فقال: هو الذي أمركم الله بالاعتصام به، فقال عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ

ص: 44


1- آل عمران 103.
2- آل عمران 112.

اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(1)

فقالوا: يا رسول الله، بيّن لنا ما هذا الحبل؟

فقال: هو قول الله: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)(2) فالحبل من الله كتابه، والحبل من الناس وصيي... (3)

في نص للزهراء (عليها السلام) تقول فيه: (فَجَعَلَ اَللهُ اَلْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ اَلشِّرْكِ، وَاَلصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ اَلْكِبْرِ، وَاَلزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ، وَنَمَاءً فِي اَلرِّزْقِ، وَاَلصِّيَامَ تَثْبِيتاً لِلْإِخْلَاصِ، وَاَلْحَجَّ تَشْيِيداً لِلدِّينِ، وَاَلْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ، وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ اَلْفُرْقَةِ)(4)

وهذا النص واضح في محورية طاعة أهل البيت (عليهم السلام) في كونه نظامًا للملة، وأن الأمان من الفرقة إنما يكون بإمامة أهل البيت (عليهم السلام).

إنه محورُ جاذبيةٍ لكن بشرط تفعيل الإرادة، فالفطرة والنظام الداخلي للإنسان ينساق وراء تلك الإمامة (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(5) وإنما يحصل التفرق عنهم عندما تدخل مشاغبات الإرادة فيتم تفعيلها بصورة غير صحيحة.

ص: 45


1- آل عمران 103.
2- آل عمران 112.
3- كتاب الغيبة للنعماني ص46 باب 2 في ذكر حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به، وترك التفرق عنه بقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)- (ح1).
4- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 134.
5- إبراهيم 37.

ص: 46

المقدمة الخامسة: بيانات في ضرورة النص على الإمام

تمهيد

تقدم أن أحد أهم ما يعتقد به الشيعة في الإمامة، هي أنها منصب إلهي يتم اختياره من الله تعالى حصرًا، كما النبوة، وأنه لا حق لأحد في تعيين الإمام، فالنبي يُبلّغ عن الله تعالى تعيين الإمام، والإمام ينقل تعيينَ الله تعالى للإمام اللاحق، وهكذا.

أما لماذا يُصرّ الشيعة على نظرية النص؟ فهذا له بياناته التي ستأتي تباعًا إن شاء الله تعالى، وقبل أن نذكرها نشير إجمالًا إلى طرق تعيين الإمام لدى العامة، ثم نعرّج على ذكر البيانات التي تثبت ضرورة النص والنصب إن شاء الله تعالى.

طرق تعيين الإمام لدى العامة (نظرية الأمر الواقع)
اشارة

لا يمكننا أن نجد جامعًا مشتركًا في ما ذهب إليه العامة من طريقة لتنصيب الإمام شرعًا، بحيث يترتب عليه الطاعة وعدم جواز المخالفة والخروج عليه، إلا (نظرية الأمر الواقع)، بمعنى أننا وبالمتابعة لما يؤمن به

ص: 47

العامة في هذا المجال، نجد أنهم آمنوا بنظرية: أنّ من وصل إلى الحكم فهو الإمام والخليفة، أما كيفية وصوله إلى الحكم، فهذا ليس مهمًا بعد تحقق الحكم له وادعائه الخلافة وسيطرته على أمور الدولة، ولذلك فقد تخبّطت آراؤهم بين:

1/بيعة أهل الحل والعقد

حيث أثبتوا بها خلافة أبي بكر، رغم أن الذين انعقدت بهم بيعته هم خمسة فقط، وهم (عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن خضير، وبشر [بشير] بن سعد، وسالم مولى حذيفة)، ثم تابعهم الناس.(1)

2/القوة والغلبة

فمن يصل إلى كرسي الحكم ولو بالغلبة والسيف فهو الخليفة، قال في كشف القناع: (قال أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله يبيت ولا يراه إمامًا، برًا كان أو فاجرًا. انتهى. لأن عبد الملك بن مروان خرج عليه ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعًا وكرهًا ودعوه إمامًا، ولما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم)(2).

ص: 48


1- الأحكام السلطانية والولايات الدينية لعلي بن محمد البغدادي الماوردي ص7، والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج1 ص 6.
2- كشف القناع للبهوتي ج6 ص 202.
3/ الشورى

وقد اختلفوا في تحديد العدد الكافي لتحقق الشورى، واستدلوا ببعض الآيات عليها.

وعلى كل حال، لم نجد عندهم طريقة منهجية معينة يمكن من خلالها إعطاء القاعدة في عملية جعل الإمام، إلا قبول الأمر الواقع، والاعتراف بخلافة من وصل إلى الحكم، بأي طريقة كانت.

نظرية النص
اشارة

وأما نظرية أهل البيت (عليهم السلام) فهي نظرية النص بالمعنى المتقدم.(1)

وقبل ذكر بيانات تثبت ذلك، نشير إلى أنه روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما يُصرّح بأن أمر الخلافة من بعده هو بيد الله تعالى، وأنه ليس بيده أن يُعيّن أحدًا من تلقاء نفسه، ومن ذلك ما روي أنه (صلى الله عليه وآله) أتى بني عامر فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: أرأيت إنْ نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك، أيَكون لنا الأمر من بعدك؟ قال (صلى الله عليه وآله): الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال له: أفَنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك! (2)

وروي أيضًا أنه (صلى الله عليه وآله) بعث سليط بن عمرو العامري... إلى هوذة بن علي

ص: 49


1- في المقدمة الثانية.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص 93 (واللفظ له) وتاريخ الطبري لمحمد بن جرير الطبري ج2 ص 84.

الحنفي يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتابًا، فقدم عليه وأنزله وحباه وقرأ كتاب النبي (صلى الله عليه [وآله])، وردّ ردًّا دون رد، وكتب إلى النبي صلى الله عليه [وآله]: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعْك. وأجاز سليط بن عمرو بجائزة وكساه أثوابًا من نسْج هجَر، فقدم بذلك كله على النبي (صلى الله عليه [وآله]) وأخبره عنه بما قال، وقرأ كتابه، وقال (صلى الله عليه وآله): لو سألني سيابة من الأرض ما فعلتُ، بادَ وبادَ ما في يديه، فلما انصرف من عام الفتح، جاءه جبريل فأخبره أنه قد مات.(1)

وفي رواية ابن الأثير:

وأما هوذة بن علي، فكان ملك اليمامة، فلما أتاه سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام وكان نصرانياً أرسل إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وفداً فيهم مُجاعة بن مرارة والرجّال بن عُنفوة يقول له: إنْ جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصَره، وإلا قصد حربه. فقال رسول اللهّ صلى الله عليه [وآله]: لا، ولا كرامة، اللهم اكفنيه. فمات بعد قليل.(2)

ولتأكيد هذا المعنى جاء عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: كُنْتُ عِنْدَه جَالِساً، فَقَالَ لَه رَجُلٌ: حَدِّثْنِي عَنْ وَلَايَةِ عَلِيٍّ، أمِنَ الله أَوْ مِنْ رَسُولِه؟ فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ، كَانَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَخْوَفَ لِله مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَأْمُرْه بِه اللهُ، بَلِ افْتَرَضَه كَمَا افْتَرَضَ الله الصَّلَاةَ والزَّكَاةَ والصَّوْمَ والْحَجَّ.(3)

ص: 50


1- الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص 262
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير ج2 ص 215.
3- الكافي للكليني ج1 ص 289 بَابُ مَا نَصَّ الله عَزَّ وجَلَّ ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً فَوَاحِداً - ح5.

وعلى كل حال، فيمكن أن تذكر البيانات التالية لبيان ضرورة النص:

البيان الأول: عظمة موقع الإمامة تقتضي النص

إن مقام الإمامة –وما يستلزمه من ضرورة الطاعة المطلقة والمتابعة- هو موقع تشرئبّ له الأعناق، وتطمع فيه النفوس الراغبة في حطام الدنيا، وبالتالي، فلو لم تتدخل قوة إلهية غيبية لها اطّلاع تامّ -لا على ظاهر الإنسان فقط، وإنما على بواطنه ودوافعه، بل وما سيفعله في المستقبل لو أُعطي منصب الإمامة- حينها يمكن أن يتسلط على هذا المنصب من ليس له بأهل، وبالتالي، قد يضيع هدف الإمامة –الذي هو هداية الناس وإكمال مسيرة النبي الرسالية-، إذ نحن لا نحرز صحة نية الإنسان ولا نضمن استقامته لو كان التعيين منا –نحن البشر- والواقع خير شاهد، فكم من خليفة أو قائد أو رئيس، تم تعيينه من البشر أنفسهم، أو هو عيّن نفسه بانقلاب وقوة، إلا أنه قد خابت ظنونهم في أول اختبار له.

وبالتالي، فإن عدم الاطمئنان والخوف وعدم الاستقرار يبقى هو المسيطر على ذهن المأموم تجاه هذا الإمام، وسيكون احتمال عدم الطاعة قائمًا، واحتمال ظلم الإمام وتجاوزه الحدود الإلهية شاخصًا، ولا سبيل للتخلص من هذه المخاوف إلا إذا كان التعيين من الله تعالى، حيث إنه يعلم السر وأخفى، ويعلم الماضي والمستقبل بعلم واحد لا خطأ فيه، وهو جل وعلا حكيم لا عبث في فعله، كل ذلك يُضفي لونًا من الاطمئنان باتباع الإمام المنصّب منه جل وعلا.

ص: 51

بالإضافة إلى أن الله تعالى له مقام المولوية التي تجعل العباد يلتزمون بأمره وتعيينه ولا يحيدون عنه قيد أنملة –حسب الفرض- وهذا ما لا يتوفر إلا بالنص على الإمام منه جل وعلا، ولا يتحصل بغيره من الطرق المتعارفة لدى العامة.

وبنفس البيان يثبت إمكان تنصيب الإمام السابق –المنصّب من الله تعالى- للإمام اللاحق، إذ ما دام الأول منصّب من الله تعالى، وهو معصوم، إذن تعيينه للإمام اللاحق سيكون وفق الأمر الإلهي بلا ريب.

البيان الثاني: أن النص لطف

لا شك أنه لو دار الأمر في تعيين الإمام بين أن يتم ذلك على يدي البشر –غير المعصومين- وبين أن يكون بيد الله تعالى، فإن العقل يُقدّم اختيار الله تعالى على اختيار الإنسان غير المعصوم، ذلك لأن التعيين إذا كان بيد الله تعالى فإننا نضمن سلامة الاختيار من حيث توفر الشخص الذي تم اختياره على كل ما من شأنه أن يقود الأمة نحو الخير والسلام.

وبالتالي، فحيث إننا نعتقد بأن الله تعالى لطيف بعباده، وأنه تعالى لا يدعهم دون أن يوفّر لهم ما يحتاجون إليه في طريق الهداية، وأنه لا يتركهم يتيهون في الأرض من دون أن ينصب لهم علامات وأدلة واضحة على طريق رضاه، فإننا حينها نجزم بأنه لم يترك الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هملًا، وإنما لا بد –من باب اللطف- أن يحدد لهم القائد والإمام من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).

ص: 52

وهذا الأمر كان واضحًا في وجدان الكثير من أفراد الأمة الإسلامية الذين يعتبرهم العامة من رؤوس الإسلام، وقد حفظ لنا التاريخ عدة تصريحات لهم في ضرورة النص، ومنها التالي:

عن ابن عمر قال: دخلت على حفصة، فقالت: أَعَلِمتَ ان أباك غير مستخلف؟! قال: قلت: ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل. قال: فحلفت انى أكلمه في ذلك، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه، قال: فكنت كأنما أحمل بيميني جبلًا حتى رجعت فدخلت عليه، فسألني عن حال الناس وأنا اخبره. قال: ثم قلت له: إنى سمعتُ الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك: زعموا أنك غير مستخلف، وأنه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها، رأيت أن قد ضيّع، فرعاية الناس أشد...(1)

هذه الرواية واضحة في أنّ ابن عمر كان يعتبر عدم تنصيب أبيه خليفةً من بعده حملًا أثقل من جبل، وأنه أقسم على نفسه أن يكلم أباه في ذلك، وأنه اعتبر أن من يترك غنمًا بلا خلف عنه فقد ضيّعها، وبقياس بسيط ينتج: أنّ رعاية الناس في أمر الإمامة والولاية أهم من ذلك بكثير كما هو واضح.

أَ فَهل حاز ابن عمر من الحكمة ما فقدها الله تعالى أو رسوله (صلى الله عليه وآله)؟!

ومن النصوص أيضًا:

أن عائشة قالت لابن عمر: يا بني، أبلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدع أمة

ص: 53


1- صحيح مسلم النيسابوري ج6 ص 5.

محمد بلا راعٍ، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هَمَلًا، فإني أخشى عليهم الفتنة، فأتى عبدُ الله فأعْلمه، فقال: ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقيًا استخلفتُه ووليته، فإذا قدمت على ربي فسألني وقال لي: من وليت على أمة محمد؟ قلت إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفتُه، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت: إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: إن معاذ ابن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة. ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله على المشركين، ولكني سأستخلف النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم...(1)

لاحظوا: معرفة عائشة بضرورة النص من بعد عمر، ولاحظوا: كيف أن عمر بحث في ذاكرته عمن له مؤهلات الإمامة من بعده –حسب نظره- وكيف أنه ذكر لكل واحد من أولئك صفة تؤهله للإمامة –بنظره وحسب قناعته-

إن هذا النص واضح في أن عائشة وعمر كانا يريان ضرورة النص في تحديد الإمام والخليفة، وأنه ليس من الصحيح أن تترك الأمة هي من تختار الإمام، لأن ذلك يؤدي إلى الفتنة حسب تعبير عائشة.

ص: 54


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 28.

ومن النصوص أيضًا أن معاوية كان يرى أن عدم تنصيب خليفة من بعده يؤدي إلى ضياع الأمة، فقال لابن عمر: (إني كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها)(1)

هذا، وقد صاغ هشام بن الحكم دليل اللطف هذا بعبارة غاية في الرواية فيما روي عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ:

كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِه مِنْهُمْ حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ ومُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ وهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ والطَّيَّارُ وجَمَاعَةٌ فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وهُوَ شَابٌّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): يَا هِشَامُ، ألَا تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وكَيْفَ سَأَلْتَه؟ فَقَالَ: هِشَامٌ: يَا ابْنَ رَسُولِ الله إِنِّي أُجِلُّكَ وأَسْتَحْيِيكَ ولَا يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ.(2)

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا.(3)

قَالَ هِشَامٌ: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيه عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وجُلُوسُه فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ.(4)

فَخَرَجْتُ إِلَيْه ودَخَلْتُ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعَلَيْه شَمْلَةٌ سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ

ص: 55


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني) ج1 ص 159.
2- وهذا أدب من هشام بين يدي الإمام المعصوم (عليه السلام).
3- إذ الطاعة أولى من الأدب كما يُقال.
4- وهو أمر لا بد أن يكون همّ كل داعٍ ومؤمن، إذ إن الاهتمام بأمور المسلمين مما ندب إليه الدين ودعا إليه.

صُوفٍ، وشَمْلَةٌ مُرْتَدِياً بِهَا، والنَّاسُ يَسْأَلُونَه، فَاسْتَفْرَجْتُ النَّاسَ فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ(1)

عَلَى رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ:

أَيُّهَا الْعَالِمُ إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ تَأْذَنُ لِي فِي مَسْأَلَةٍ؟

فَقَالَ لِي: نَعَمْ. فَقُلْتُ: لَه ألَكَ عَيْنٌ؟! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ السُّؤَالِ! وشَيْءٌ تَرَاه كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْه؟! فَقُلْتُ: هَكَذَا مَسْأَلَتِي. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَلْ وإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ! قُلْتُ: أَجِبْنِي فِيهَا. قَالَ لِي: سَلْ. قُلْتُ: ألَكَ عَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَرَى بِهَا الأَلْوَانَ والأَشْخَاصَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أَنْفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ أَشَمُّ بِه الرَّائِحَةَ.

قُلْتُ: ألَكَ فَمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أَذُوقُ بِه الطَّعْمَ.

قُلْتُ: فَلَكَ أُذُنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِهَا الصَّوْتَ.

قُلْتُ: ألَكَ قَلْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أُمَيِّزُ بِه كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَى هَذِه الْجَوَارِحِ والْحَوَاسِّ.

قُلْتُ: أولَيْسَ فِي هَذِه الْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ الْقَلْبِ؟ فَقَالَ: لَا. قُلْتُ: وكَيْفَ ذَلِكَ وهِيَ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْءٍ شَمَّتْه أَوْ رَأَتْه أَوْ ذَاقَتْه أَوْ سَمِعَتْه، رَدَّتْه إِلَى الْقَلْبِ فَيَسْتَيْقِنُ الْيَقِينَ ويُبْطِلُ الشَّكَّ.(2)

ص: 56


1- ولعله من باب الأدب؛ لأن عمر هشام كان صغيرًا، ولعله من باب إرادة أن يسمع الجميع حوارهما.
2- وفي هذا إشارة واضحة إلى أن أصحاب المنهج الحسي لا يكفيهم الحس للوصول إلى اليقين من دون الرجوع إلى (القلب) أو العقل.

قَالَ هِشَامٌ: فَقُلْتُ لَه: فَإِنَّمَا أَقَامَ الله الْقَلْبَ لِشَكِّ الْجَوَارِحِ؟! قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنَ الْقَلْبِ وإِلَّا لَمْ تَسْتَيْقِنِ الْجَوَارِحُ؟!(1)

قَالَ: نَعَمْ.

فَقُلْتُ لَه: يَا أَبَا مَرْوَانَ، فَالله تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَلَ لَهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لَهَا الصَّحِيحَ ويَتَيَقَّنُ بِه مَا شُكَّ فِيه، ويَتْرُكُ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وشَكِّهِمْ واخْتِلَافِهِمْ لَا يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِلَيْه شَكَّهُمْ وحَيْرَتَهُمْ، ويُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ تَرُدُّ إِلَيْه حَيْرَتَكَ وشَكَّكَ؟!

قَالَ: فَسَكَتَ ولَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: أمِنْ جُلَسَائِه؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ! ثُمَّ ضَمَّنِي إِلَيْه وأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِه وزَالَ عَنْ مَجْلِسِه! ومَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ.

قَالَ: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) وقَالَ: يَا هِشَامُ مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا؟ قُلْتُ: شَيْءٌ أَخَذْتُه مِنْكَ وأَلَّفْتُه.(2)

ص: 57


1- كرّر السؤال نفسه بعبارات مختلفة ليُقرّه على ما أجاب به، حتى لا يتمكن من الهروب من لوازمه فيما بعد.
2- وفي هذا إشارة إلى تواضع هشام وأدبه في حضرة الإمام (عليه السلام)، فلم ينسب هذه المناظرة لنفسه، وفيه إشارة أيضًا إلى جواز الاجتهاد والاستنباط، إذ هشام أخبر الإمام (عليه السلام) بأنه ألّف هذا المعنى مما سمعه منه، والإمام أقرّه عليه.

فَقَالَ(عليه السلام): هَذَا والله مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى.(1)

البيان الثالث: النصوص الخاصة

لا شك أن الله تعالى إذا اختار أمرًا فلا كلام ولا خلاف في لزوم طاعته وعدم جواز مخالفته، قال تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ.)(2)

فالآية واضحة في أنه لا اختيار للبشر مع اختيار الله تعالى، وأنه تعالى حيث إنه الخالق، إذن، فهو من يختار من عباده، ولا حق لغيره في ذلك، وفي الآية اللاحقة إشارة واضحة ولطيفة، فإنه حيث كان الله تعالى (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) كان هو صاحب الاختيار في ذلك، ولا حق لغيره جل وعلا في ما يتعلق باختيار بعض من عباده في شأن من الشؤون.

ولتأكيد هذه الحقيقة يقول جل وعلا (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضىٰ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً.)(3)

ومن النصوص الدالة على أن اختيار الإمام إنما هو بيد الله تعالى، ما روي عن الإمام الصادق (عليه اللام) في تفسير قوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما

ص: 58


1- الكافي للكليني ج1 ص169 - 171 باب الاضطرار الى الحجة ح3.
2- القصص 68 – 69.
3- الأحزاب 36.

كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) قال: يختار الله الامام، وليس لهم أن يختاروا)(1)

وفي رواية سعد بن عبد الله القمي عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) في رواية طويلة جاء فيها:

قال سعد: قلت: فأخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم؟

قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح.

قال: فهل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى، قال: فهي العلة، وأوردها لك ببرهان ينقاد له عقلك، أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله تعالى وأنزل عليهم الكتاب وأيّدهم بالوحي والعصمة؛ إذ هم أعلام الأمم وأهدى إلى الاختيار منهم مثل موسى وعيسى (عليهما السلام)، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن يقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن؟

قلت: لا.

فقال: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلًا ممن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم، فوقعت خيرته على المنافقين، قال الله تعالى: (وَاخْتارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا)(2) و قوله (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسىٰ

ص: 59


1- تفسير القمي ج2 ص 143.
2- الأعراف 155.

لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَىٰ اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(1)

فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعًا على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن لا اختيار إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور وما تُكنّ الضمائر وتتصرف عليه السرائر، وأنْ لا خطر [أي لا أهمية] لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح.(2)

مع ملاحظة أن هذه النصوص إنما نذكرها من باب أنها تشير إلى ضرورة النص وحكم العقل بلزومه، فلا يُشكل علينا بأنكم تستدلون بأقوال أئمتكم على دعواكم، فإنهم (عليهم السلام) معصومون وكلامهم هو الواقع بلا ريب عندنا، ولكن لو تنزلنا فإننا نذكرها على أنها ترشد إلى حكم العقل بضرورة النص.

ص: 60


1- البقرة 55.
2- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 461 الباب 40 من شاهد القائم ح21.

المقدمة السادسة: بيانات في ضرورة العلم الخاص للإمام

اشارة

نعتقد –نحن أتباع اهل البيت (عليهم السلام)- أن الإمام لا بد أن يتمتع بعلم خاص يختلف عن علومنا العادية، أي إن له علمًا يحصل عليه لا بالطرق العادية من التعلم لدى الأساتذة والدخول في المعاهد العلمية واكتسابه بالتدريج، وإنما هو علم من النوع (اللدني) أي إنه علم خاص وله منافذ غير عادية.

((وقد ذهب أهل السنة(1)

وبعض المعاصرين(2)

إلى إنكار مثل هذا العلم، وقالوا بأن علم الإمام هو علم مادي كعلم أي إنسان آخر، وليس لعلمه أيّ مزية على العلوم التي يكتسبها سائر الناس، ومن ثَمَّ فإنّ علم الأئمة هو علم اجتهادي خاضع لأصل القبض والبسط في المعارف البشرية وقابل للخطأ وإن بنسبة قليلة. وقد ذهب هؤلاء إلى نسبة العلم بالغيب وغير المحدود وما

ص: 61


1- يذهب أهل السنة إلى القول بأن علم الإمام لا يتجاوز حدود علم الفقيه والمجتهد، انظر: البغدادي، كتاب أصول الدين، ص 277؛ التفتزاني، شرح المقاصد، ج 3، ص 480 - 482؛ عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ص 380.
2- انظر: محسن كديور، مجلة مدرسة، العدد: 3، ارديبهشت، 1385 ه- ش، ص 96؛ إعادة قراءة الإمامة في ضوء الثورة الحسينية، روزنامه شرق، العدد: 14 و15، اسفند، 1384 ه- ش؛ عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوي، ص 135 و148 و159.

إلى ذلك إلى الأئمة الأطهار لغلاة الشيعة، واقتصروا على وصف الأئمة ب- «العلماء الأبرار»(1).))(2)

وعلى كل حال، فإن هناك الكثير من الروايات الدالّة على ذلك في خصوص أئمتنا (عليهم السلام)، وستأتي في محلها في مباحث الإمامة الخاصة إن شاء الله تعالى، والمراد هنا ذكر بيانات عامة لضرورة تمتع الإمام والخليفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعلم خاص.

البيان الأول: أن طبيعة وظيفة الإمام تقتضي العلم الخاص

أن وظيفة الإمام هي نفس وظيفة النبي في كل شيء –إلا مختصات الرسالة والوحي-، ووظيفة النبي تقتضي أن يكون اتصاله بالسماء بطريق غير طبيعي، وأن علمه علم غير طبيعي، وبالتالي فلا بد أن يكون خليفته والقائم مقامه في وظائفه له من العلم ذاته، حتى يتمكن من أداء الوظيفة الملقاة عليه على أحسن وجه.

(بعد رحيل رسول الله - حيث لا يكون هناك نبيّ بعده بحسب الفرض - سيكون المجتمع والدين بحاجة إلى إمام يكون شبه رسول الله في كل شيء باستثناء نزول الوحي والنبوة، لكي يعمل على صيانة الاسلام الفتي من أيّ آفة من تحريف أو بدعة، وأن يقف في وجه أعداء الإسلام، وأن يجيب عن المسائل المستحدثة بشكل صحيح (مطابق للواقع)، ذلك لأن فلسفة وجود

ص: 62


1- انظر: حسين مدرسي طباطبائي، مكتب در فرايند تكامل، ص 14 و31 و39 و43 و48 و54.
2- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 555- 556.

الإمام هي التفسير الصحيح للتعاليم الدينية، فإذا كان علم الإمام عادياً، ويجوز عليه الخطأ في تفسير الدين - خاصة بالنظر إلى أن هذا الدين هو خاتم الأديان وأنه الدين الكامل والخالد - فإنه سيكون عرضة للآفات والمشاكل قد تصل إلى مستوى التحريف والبدع، وعليه سوف تتعرّض فلسفة الخاتمية والخلود إلى الضياع والزوال(1).)(2)

البيان الثاني: الاحتياج إلى الغير يتنافى مع الإمامة

لو كان علم الإمام عاديًا، فهذا معناه أنه سيأخذه بالطريق الطبيعي من خلال المعلّمين والمعاهد العلمية، من الطبيعي أن معلمه سيكون أفضل منه في أي علم يأخذه منه، ولو في بداية أخذه منه، وسيبقى مدينًا لذلك المعلم.

إن قلت: إن المعصوم –حسب دعواكم- يأخذ علمه من المعصوم السابق عليه.

قلت: وهو المطلوب، فأخذه من المعصوم السابق هو أخذ بطريق غيبي، لا بطريق التعليم المدرسي، وهو على غرار ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّم عليًا (عليه السلام) بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له ألف باب. (3)

ص: 63


1- انظر: الشافي في الإمامة، ج 1، ص 179.
2- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 558 – 559.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام ح (5).
البيان الثالث: اقتضاء موقع الإمامة للعلم اللّدنّي
اشارة

وبيانه من خلال الخطوات التالية:

الخطوة الأولى

لا يختلف اثنان في أن هذا العالم المتكثر في وجوداته وبصورة كبيرة جداً -كمًا وكيفًا- محكوم بقانون السببية، وهذا القانون يفرز خصّيصتين:

الأولى: القضاء على البعثرة والفوضى والشتات واستقلال كل موجود عن كل موجود على نحو الاستغراق، فهناك ترابط في داخل هذه الكثرة يجعلها مجموعة ذات أواصر مترابطة غير منفرطة.

الثانية: أن الترابط جاء على شكل منظومة هرمية؛ فإن السببية (سبب ومسبب) هي التي أفرزت فكرة السابق والمتقدم بالقياس إلى المسبَّب الذي هو اللاحق والمتأخر.

فالعالم إذن مرتب بشكل هرمي، تبعًا لنظام السببية الحاكم في هذا العالم، والسؤال الآن هو: ما هو المعيار في تنظيم المواقع في هذا الهرم الوجودي؟ فلماذا صار بعض الموجودات سببًا ومتقدمًا وأسبق من غيره؟

الجواب: إن المعيار في ذلك مرتبط بالأشدّ والأكمل وجودًا، فكلما كان الموجود أكمل وأشد وجودًا تقدم على غيره.

والعلة في ذلك هي:

لو لم يكن الأكمل وجودًا هو المتقدم والمفيض على الأضعف، فحينئذٍ

ص: 64

مَن المفيض؟

لا يخلو الأمر: إما أن يكون الأضعف هو المفيض للوجود على الأقوى، وهذا لا يمكن، لأن فاقد الشيء لا يكون معطيًا، والأضعف وجودًا لا يكون معطيًا للأقوى وجودًا.

وأما أن يكون هو المساوي، وهو وإن أمكن أن يعطي للآخر بحجمه وبقدره، ولكن السؤال حينها عن سبب كونه هو السبب وذاك الثاني هو المسبب لا العكس، فلمَ لا يكون الثاني هو السبب والعلة والأول هو المسبب والمعلول، إن ترجيح أحد المتساويين على الآخر يلزم منه (الترجيح بلا مرجح)، وهو محال.

إذن، لم يبق إلا أن يكون الأقوى والأشد وجودًا هو المعطي، وهو السبب، وهو العلة للأضعف.

هذا كله في عالم التكوين.

الخطوة الثانية

في عالم الإنسان، فإننا وجدنا أنه لم يستحدث في تنظيم عالمه الخاص معيارًا آخر في تنظيم كثراته، بل اعتمد نظريًا وعمليًا القانون التكويني ذاته، فالمُقدَّم هو الأشدّ وجودًا، فما زال الإنسان يقدّم العالم على الجاهل والخبير على غيره، والأعلم على العالم والأكفأ على غيره في مختلف مجالات حياته التي صنعها بيده والتي تُعدُّ من منجزاته.

ص: 65

نعم، لا ننكر أنه قد حصلت خروقات هنا وهناك، فاعتمد أحيانا في تنظيم المواقع على المحسوبية والعاطفة والهوى والعصبية و... ولكن مع ذلك ما زال يُنظّر للأكمل، ويعتقد بأنه هو الذي لا بد أن يُقدم على غيره، وما زال يعتبر تقديم غير الأعلم وغير الأكفأ خرقًا للقانون وخطأً لا بد من التخلص منه.

فتلخّص:

أن هنا كثرة واقعية، لكنها غير مبعثرة، بل هي منتظمة بقانون السببية الذي يفرز ترتيبًا هرميًا، على أساس الأشد كمالًا، وهذا القانون التنظيمي قد استعاره الإنسان في عالمه الاختياري، فأخذ ينظّم وضعه على هذا الأساس، وإن حدثت خروقات جزئية في بعض الأحيان.

الخطوة الثالثة
اشارة

هناك ثلاثة أمور أساسية في عملية التكامل، وهي: الواقع والقدرة والعلم.

الواقع يمثل مادة التكامل، أشبه بقطع الخشب المطروحة في مكان معين، من دون أن تتشكل بشكل معين، إلا أن يأتي شخص لديه القدرة والمعرفة على تحويل تلك القطع إلى كرسي مثلًا أو دولاب معين.

والقدرة تمثل أداة ووسيلة التنفيذ، فالقدرة أشبه باليد للإنسان، التي تنفّذ له ما يريد.

ص: 66

والعلم أداة الكشف عن الواقع ومعادلاته، فهو أشبه بالمصباح الذي يكشف ظلام الواقع، وهو أشبه بالعين لدى الإنسان، حيث تكشف له الواقع وينظّم أمور حياته من خلالها.

وكل عنصر من العناصر المذكورة هو ركن وأساس لا يمكن أن يُستغنى عنه في عملية التكامل، ففقدان أحد هذه العناصر في شخص أو أمة يعني فقدانها جميعًا أو بحكم فقدانها.

فالواقع من دون علم ولا قدرة، لا نفع فيه، إنما هو مجرد مادة خام كامنة لا حركة فيها، فهي أشبه برأس مال مركون في زاوية لا حياة فيه ولا حركة.

والعلم من دون واقع، لا يخرج عن كونه مجرد خيالات حالمة لا يحصل الفرد منها إلا على جرّة سمن الراعي.

والقدرة من دون الواقع، مجرد قوة تبقى في طور الكمون بانتظار فرصة ظهورها.

والعلم بلا قدرة، مثل العالم العاجز المشلول، الذي لا يُستفاد منه ولا من علمه.

والقدرة بلا علم، هي قوة غبية عمياء من الممكن أن ترجع على صاحبها لتقتله وبفوضوية مقيتة.

إذن، في أي تكامل موضوعي، لا بد من اجتماع هذه الثلاثة ليسير الكمال بطريقة ممنهجة.

ص: 67

هذا من جهة.

من جهة أخرى: هذه الثلاثة وإن كانت كلها ضرورية، ولكن لا بد أن يكون أحدها هو المحور لها، بمعنى أنه هو الذي يمثل خط الشروع، وهو الذي يجمع الكل في بوتقة واحدة وكتلة وفريق عمل، ومن ثَمّ يقع السؤال عن المحور في هذه الثلاثة؟

والجواب:

إن المحور هو العلم، وذلك للمبررّين التاليين:

المبرر الأول:

أ/فلسفيًا، هناك قدرة، وهناك قوة، والفرق بينهما أن القوة إذا كان معها علم أصبحت قدرة، ومن دون علم فهي مجرد قوة لا قدرة، وهذا يعني: أن القدرة لا تكون قدرة إلاّ بالعلم، فهي محتاجة له.

فالعلم يُعَقْلن القوة لتتحول إلى قدرة، فيخرجها من حالة الغباء أو العمى.

وهذا يعني أن العلم هو محور القدرة.

ب/ يقدم العلم فرصة لتطوير القدرة ومضاعفتها، إذ يعطيها أساليب جديدة للحركة والتفاعل، ونظرة بسيطة لواقع القدرة اليوم يكشف عن دور العلم في تطويرها وتعزيزها.

ج/ أما الواقع، فهو في حدّ ذاته لا إمكانية له للتحرك والبروز والظهور

ص: 68

من دون أن يتم تسليط الضوء عليه من قِبل العلم، وهو فقير إلى قدرة تنتشله من حيّز ركوده وتخرج به إلى عالم الظهور، فلا يتقدم عليهما، وحيث إن العلم متقدم على القدرة، فهو متقدم على الواقع أيضًا.

وهذا معنى محورية العلم، فرغم أهمية بل أساسية الواقع والقدرة، إلاّ أن الواقع الغني والقوة الضخمة لا فائدة مرجوة منهما من دون علم يكتشف ذلك الواقع وقوانينه، ويكتشف الطاقات الكامنة ويفعّلها، مع تمكّنه من اكتشاف القوة البديلة.

مع الأخذ بعين الاعتبار: أن عالمنا المادي بقدراته المتنوعة هو واقع تحت دوامة التزاحم والتدافع، وهذا التزاحم والتنافس من الممكن ان يؤدي إلى وقوع الكوارث والحروب المدمّرة، كما رأينا ذلك بأم العين، فنحتاج إلى ما ينظّم عملية التنافس والتدافع، والواقع وحده أو القدرة وحدها لا إمكانية لها على ذلك، بل إن الذي يتمكن من تنظيم ذلك وفق قوانين ونظم معينة هو العلم، فلولا العلم لما أمكن صنع معادلات منهجية لبرمجة التزاحم وتنظيمه بما يقلّل من منسوب آثاره السلبية إن لم يتمكن من أن يعدمها.

المبرر الثاني:

إن العلم يتجه نحو العمل باستمرار على تقليل منسوب الأخطاء، وذلك بتقديم ضمانات الإصابة من خلال الاكتشافات المتتالية.

إن الحضارة التي نعيش مفرداتها وتطوراتها الانفجارية، مدينة

ص: 69

لاكتشافات العلم المتتابعة للواقع، وللتعزيزات التي قدّمها العلم للقدرة، فمن المستحيل أن يتقدم –فرد أو أمة- من دون العلم، ولو كان الواقع منطويًا على حمر الذهب وأساطينه، فإن الواقع موجود كامن خامل لا يتحرك لأحد، بل ينتظر من يصل إليه ويكشف عن خباياه، وهكذا القدرة تبقى فوضوية من دون بوصلة العلم ومنهجيته.وهذا ينتج: وجود تناسب طردي بين العلم والصوابية، ووجود تناسب طردي بين العلم والقدرة.

فكلما زاد العلم –في أي تخصص من التخصصات- اقتربنا من الصواب، وكلما زاد العلم زادت القدرة وزادت الاستفادة من الواقع.

إشارة: العلم اللدني والهيمنة على النفوس والتكوين

تبين أن العلم يشكل البنية التحتية لترتيب المواقع في العالم، وهذا العلم له خصائص، واحدة منها الهيمنة على الضمائر والنفوس، من دون أن يسلب اختيار الآخر، فالعالم بالعلم اللدني له هيمنة على النفوس، وعلى الضمائر، وهذه الهيمنة تعني الهداية الإيصالية، أي الهداية التي توصل الناس إلى الهدى الذي يريده الله تبارك وتعالى، وبالتالي الفوز في الدنيا والآخرة، وهذا يعني أن الإمامة نوع من أنواع القدرة، وهذه السلطنة ندّعي أنها قد توفرت لأهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما يشير إليه قوله تعالى ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ )(1)

ص: 70


1- إبراهيم: 37.

فقد روي عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: دَخَلَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ [وهو من مشاهير علماء العامة ومفسريهم] عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقَالَ: يَا قَتَادَةُ، أَنْتَ فَقِيه أَهْلِ الْبَصْرَةِ؟ فَقَالَ: هَكَذَا يَزْعُمُونَ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ. فَقَالَ لَه قَتَادَةُ: نَعَمْ.

فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): بِعِلْمٍ تُفَسِّرُه أَمْ بِجَهْلٍ؟ قَالَ: لَا، بِعِلْمٍ.

فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): فَإِنْ كُنْتَ تُفَسِّرُه بِعِلْمٍ فَأَنْتَ أَنْتَ [أي فأنت العالم المتوحد الذي لا يحتاج إلى المدح والوصف وينبغي أن يرجع إليك في العلوم]، وأَنَا أَسْأَلُكَ. قَالَ قَتَادَةُ: سَلْ.

قَالَ (عليه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ فِي سَبَأٍ (وقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وأَيَّاماً آمِنِينَ)(1)؟

فَقَالَ قَتَادَةُ: ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِه بِزَادٍ حَلَالٍ ورَاحِلَةٍ وكِرَاءٍ حَلَالٍ يُرِيدُ هَذَا الْبَيْتَ، كَانَ آمِناً حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِه.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): نَشَدْتُكَ الله يَا قَتَادَةُ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّه قَدْ يَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِه بِزَادٍ حَلَالٍ ورَاحِلَةٍ وكِرَاءٍ حَلَالٍ يُرِيدُ هَذَا الْبَيْتَ، فَيُقْطَعُ عَلَيْه الطَّرِيقُ فَتُذْهَبُ نَفَقَتُه ويُضْرَبُ مَعَ ذَلِكَ ضَرْبَةً فِيهَا اجْتِيَاحُه؟

قَالَ قَتَادَةُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا فَسَّرْتَ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ فَقَدْ هَلَكْتَ وأَهْلَكْتَ، وإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَه مِنَ الرِّجَالِ فَقَدْ

ص: 71


1- سبأ 18.

هَلَكْتَ وأَهْلَكْتَ، وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِه بِزَادٍ ورَاحِلَةٍ وكِرَاءٍ حَلَالٍ يَرُومُ هَذَا الْبَيْتَ، عَارِفاً بِحَقِّنَا، يَهْوَانَا قَلْبُه كَمَا قَالَ الله عَزَّ وجَلَّ: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(1)

ولَمْ يَعْنِ الْبَيْتَ فَيَقُولَ إِلَيْه، فَنَحْنُ والله دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) الَّتِي مَنْ هَوَانَا قَلْبُه قُبِلَتْ حَجَّتُه، وإِلَّا فَلَا يَا قَتَادَة، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ آمِناً مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَالَ قَتَادَةُ: لَا جَرَمَ والله، لَا فَسَّرْتُهَا إِلَّا هَكَذَا.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، إِنَّمَا يَعْرِفُ الْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِه.(2)

وهذه السلطنة هي ما تمثل روح الإمامة، أما السيطرة على الدولة والرئاسة الدنيوية، فلا تمثل روح الإمامة، نعم، هي مقام مناسب بل لازم لمن عنده ذلك العلم الخاص والسيطرة على الضمائر والنفوس...

هذا، وهناك إشارات قرآنية لهذه القدرة المتولّدة من العلم، قال تعالى (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(3)

ص: 72


1- إبراهيم 37.
2- الكافي للكليني (ج8 ص 311 – 312 ح 485).
3- (38 - 40) من سورة النمل.

فالقدرة على الإتيان بالعرش قبل أن يرتدّ الطرف مؤسسة على (عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ)، فهي قدرة غيبية لمن عنده جزء من علم الكتاب، أما الذي عنده علم الكتاب، فله قدرة أعظم، بحيث يصبح شهيداً على الأمة، قال تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى باللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(1)

والروايات تفسر من عنده علم الكتاب بأهل البيت (عليم السلام) عموماً وأمير المؤمنين (عليه السلام) خصوصاً.

فعن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت عنده فذكروا سليمان وما أُعطي من العلم وما أوتي من الملك، فقال لي: وما أُعطي سليمان بن داود! إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله (قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) وكان والله عند علي (عليه السلام) علم الكتاب. فقلت: صدقت والله جعلت فداك.(2)

وعن عبد الرحمن بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)؟ قال: ففرج أبو عبد الله (عليه السلام) بين أصابعه فوضعها على صدره، ثم قال: والله عندنا علم الكتاب كله.(3)

ص: 73


1- (43) من سورة الرعد.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 232 – 233 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح1.
3- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 232 – 233 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح2.

الخطوة الرابعة

الخطوة الرابعة

الخطوة الرابعة(1):

تأسيسًا على ما سبق: لو وُجد شخصٌ، يملك مفاتيح العالم وأسراره، وله قدرة علمية على معرفة أسرار النفس في مجال معين، وأسرار العالم، ففلسفة الإنسان و تجربته يحكمان –في مجال تنظيم المواقع- بضرورة قبول مثل هذا الشخص بل وتقديمه بل وتقديسه والأخذ منه، حتى يعمل على توجيه الطموح الإنساني نحو تحصيل الكمال الممكن له.

وهذا التقديم من جهة، والتبعية المطلقة من جهة أخرى، أمر ضروري لا يحتاج إلى تكلّف عناء التفكير.

وكل ما عدا ذلك فهو خرق للقانون، فتقديم صاحب المال أو العِرْق أو الجاه، مع وجود العالم والعارف بأسرار العالم هو خرق للقانون العقلائي الذي لا يختلف فيه اثنان.

فتلخص من كل ما تقدم:

1/أن عالمنا عالم الكثرة.

2/وهذه الكثرة ليست مبعثرة ومن دون روابط، وإنما هي كثرة مرتبطة بعضها مع البعض الآخر بنظام العلة والمعلول (قانون السببية)

3/وأن هذا النظام أفرز تنظيم المواقع بين البشر بشكل هرمي، تتقدم فيه العلة على المعلول.

ص: 74


1- من البيان الثالث.

4/هناك ثلاثة أمور: الواقع، والقدرة، والعلم، لا بد منها كلها في عملية التكامل.

5/ ومحور هذه الثلاثة هو العلم.

6/فإذا توفر صاحب علم خاص، كان هو المقدم على غيره، وهو المطلوب.

وينتج من هذا: أننا نعتقد أن موقع الإمامة هو موقع عظيم، ولا بد أن يشغله شخص مناسب، وحيث إن محور التكامل هو العلم، فلا بد أن يكون الإمام عالماً، والعلم ليس له مرتبة واحدة، بل له مراتب متكثرة طولية متفاوتة، فلا بد أن يكون الإمام صاحب علم خاص حتى لا يوازيه عالم بعلم عادي، وحتى لا يكون محتاجًا في مسألة علمية إلى عالم عادي يكون مدينًا له، كل ذلك يقتضي أن يكون الإمام صاحب علم خاص، وهو المطلوب.

ونحن نعتقد أن أئمتنا (عليهم السلام) قد حازوا على مرتبة العلم الخاص اللدني، أما ما هي الأدلة على ذلك، فهذا ما سيأتي في محله في بحث الإمامة الخاصة إن شاء الله تعالى.

ص: 75

ص: 76

المقدمة السابعة: الإمامة والتوحيد

هل هناك صلة بين هاتين الحقيقتين أو لا؟
اشارة

إن النصوص تعاملت مع التوحيد والإمامة على أن بينهما ارتباطًا عضويًا وثيقًا، وليسا هما واجبين مستقلين بعضهما عن البعض الآخر.

وهذا يعني فيما يعنيه: أن مشروع الإمامة يدخل في الحقيقة ضمن الأطر الأساسية للسعادة في هذه الحياة، وأن أتباع الإمامة هم مجتمع التوحيد لا أنهم مجتمع مباين له.

هذا، ويمكن رصد خمس زوايا من النصوص للعلاقة بين الإمامة والتوحيد، وهي:

الزاوية الأُولى: نصاب التوحيد

إن للتوحيد مراتب متعددة، فمنه ما يكون توحيدًا خالصًا، وهو مقبول بلا أدنى شك، في قبال الإنكار والإلحاد والشرك الفاضح، الذي يمثل النقطة المقابلة بحدّ التناقض تمامًا للتوحيد الخالص، وهذه مرتبة مهلكة بلا أدنى شك أيضًا، ولكن فيما بين هاتين المرتبتين الخالصتين توجد مراتب متفاوتة:

ص: 77

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَىٰ اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(1)

- (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(2)

- (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(3)

ونحن ندرك أن بعض تلك المراتب مقبول وبعضها غير مقبول، فما هو الحد الفاصل بين قبول مرتبة منه دون أخرى؟

إن الحد الفاصل هو ما يمكن أن نطلق عليه (نصاب القبول)، وهو أمر لا بد أن يصدر من جهة لها الحق في ذلك التحديد، وفق سياقات خاصة لها واقعية معينة، لا اعتباطًا.

وهذه مسألة عقلائية معمول بها بين العقلاء، فعلى سبيل المثال والتوضيح، نجد أن المدارس الأكاديمية والعلمية اختلفت في الدرجة المقبولة من النجاح، فهناك النجاح اليقيني الذي لا فشل فيه (وهو نسبة 100%)، وهناك الفشل الذي لا نجاح معه (وهو نسبة صفر%) وما بينهما (من 99% إلى 1%) متوسطات، وفي كل مرتبة من هذه المتوسطات توجد

ص: 78


1- التوبة 102.
2- يوسف 106.
3- الحجرات 14.

نسبة نجاح ونسبة فشل، وهما قد يتساويان، وقد يغلب أحدهما على الآخر، إلا أن النسبتين موجودتان بدرجة ما، فنلاحظ أن بعض المدراس اعتبرت أن درجة (50%) نجاح، رغم أنها في حقيقة الأمر تحتوي على نسبة من الفشل مساوية لنسبة النجاح، بل بعضها رفعت من مستوى النجاح الأقل وجعلته أعلى من حيث القبول من نسبة الفشل الأعلى، كما نجد ذلك في إكمال درجة (45) بخمس درجات بقرار رسمي من الجهات ذات العلاقة، ليعتبروها درجة نجاح مرفوعة (أشبه بالتعبد).

إلا أنه قد نجد مدرسة علمية تعتبر النجاح محدّدًا بنسبة (70%) بحيث تعتبر درجة (69) فشلًا رغم أن نسبة النجاح فيها أعلى من نسبة الفشل. بل إن بعض الدرجات التخصصية –كالطبّ مثلًا- لا تقبل إلا ما وصل إلى درجة (98%) مثلًا، رغم أن نسبة الفشل تكاد تختفي معها.

إن تحديد نسبة النجاح من الفشل تابع لقياسات موضوعية، ولا نجد العقلاء يعارضون هذا التحديد إذا صدر ممن له الحق في ذلك، بل نجدهم يبررون ذلك التحديد ويدفعون من يريد الحصول على القبول فيه أن يصل بل يتجاوز الدرجة الفاصلة، المهم أن يصل إلى (النصاب القانوني) للحصول على القبول.

فقهيًا، هناك أمثلة للدرجة الفاصلة بين ترتب الحكم الشرعي أو عدم ترتبه، ففي زكاة الأنعام مثلًا، أُعتبر عددٌ معين إذا وصلت الأنعام إليه وجبت فيها الزكاة، ولو نقص نصابها بمقدار واحد فقط لما وجبت الزكاة،

ص: 79

ثم اختلف هذا النصاب بين أفراد الأنعام، فبعضها اُكتفي فيه بعدد (5) كما في الإبل، بينما بعضها لم تجب فيه الزكاة إلا إذا وصل إلى رقم (40) كما في الغنم.

إذا تبين هذا نقول:

في التوحيد، تؤكد النصوص الدينية على أن تحديد النصاب المقبول فيه –من بين درجاته ومستوياته المختلفة- بيد الإمامة، فالإمامة هي التي تحدّد أن هذه الدرجة من التوحيد مقبولة أو لا، أي إن واحدةً من مهام الإمامة هي تحديد النصاب المقبول من التوحيد.

والنصوص الدالة على هذه الزاوية من العلاقة عديدة، نذكر منها:

عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: بِنَا عُبِدَ الله، وبِنَا عُرِفَ الله، وبِنَا وُحِّدَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى، ومُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله) حِجَابُ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى.(1)

وعن المفضل بن عمر، قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): بلية الناس عظيمة، إنْ دعوناهم لم يجيبونا، وإنْ تركناهم لم يهتدوا بغيرنا.(2)

وروي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنه قال: ولولا محمد (صلى الله عليه وآله) والأوصياء من ولده، كنتم حيارى كالبهائم، لا تعرفون فرضًا من

ص: 80


1- الكافي للكليني ج1 ص 145 باب النوادر ح10، وقال في هامش المصدر: (يعني بسبب تعليمنا وإرشادنا للناس وكوننا بينهم وبين الله يعبدونه ويعرفونه، ومحمد حجاب الله، يعني أنه متوسط بينه وبين عباده به يصل الرحمة والهداية من الله إلى عباده)
2- أمالي الشيخ الصدوق ص 707 ح972 / 4.

الفرائض...(1)

الزاوية الثانية: الإمامة تعبير عن الإخلاص في التوحيد
اشارة

الإخلاص هو التنقية من الشوائب والنواقص والأغيار، ولقد أكّدت النصوص الدينية على أن النجاة إنما هي بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما جزاء من أنعم الله عز وجل عليه بالتوحيد إلا الجنة.(2)

إلا أن هناك روايات أخرى قيّدت تلك الكلمة بالإخلاص، أي إنها جعلت الإخلاص قيدًا احترازيًا عن توحيد فيه نوع من الشوائب التي تنزل به عن مرحلة القبول، والمطلوب هو التوحيد الخالص من تلك الشوائب،

ص: 81


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص250 باب 182 ح6. وتمام الحديث: عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري: أن العالم كتب إليه -يعني الحسن بن علي (عليه السلام): إن الله تعالى بمنه ورحمته لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليه، بل رحمة منه إليكم، لا إله إلا هو، ليميز الخبيث من الطيب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنته، ففرض عليكم الحج والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية، وجعل لكم بابًا لتفتحوا به أبواب الفرائض، ومفتاحًا إلى سبيله، ولولا محمد (صلى الله عليه وآله) والأوصياء من ولده كنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضًا من الفرائض، وهل تُدخل قريةٌ إلا من بابها؟! فلمّا منّ الله عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم (صلى الله عليه وآله) قال الله عز وجل ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة: 3]) وفرض عليكم لأوليائه حقوقًا فأمركم بأدائها إليهم، ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشربكم، ويعرّفكم بذلك البركة والنماء والثروة، وليعلم من يطيعه منكم بالغيب، وقال الله تبارك وتعالى ((قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ) [الشورى 23]) فاعلموا: أن من يبخل فإنما يبخل على نفسه، إن الله هو الغني وأنتم الفقراء إليه، لا إله إلا هو، فاعملوا من بعد ما شئتم، فسيرى (اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 94) [التوبة 94] والعاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص23 ح17.

فتكون مقيدة لتلك الروايات العامة التي ذكرت النجاة في كلمة التوحيد مطلقًا.

فعنه (صلى الله عليه وآله): إن (لا إله إلا الله) كلمة عظيمة كريمة على الله عز وجل، من قالها مخلصًا استوجب الجنة، ومن قالها كاذبًا عصمت ماله ودمه، وكان مصيره إلى النار.(1)

ما هو معنى الإخلاص في كلمة التوحيد؟

يُراد منه أحد معانٍ:

1/ أن يكون الظاهر موافقًا للباطن، ضد النفاق.

2/ استيلاء التوحيد على المشاعر والسلوك، بحيث لا يخرج الفرد في كل حركاته وسكناته عن استشعار عظمة الله وتوحيده، على حدّ ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه)(2)

وفى هذا المعنى ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(3)

قال: هو قول الرجل: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لما أصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنه قد

ص: 82


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص23 ح18.
2- مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة لمحمد تقي النقوي القايني الخراساني ج1 ص67 وج7 ص458 ومسند الإمام علي (عليه السلام) للسيد حسن القبانجي ج1 ص150 ح(390/ 10)
3- يوسف 106.

جعل لله شريكًا في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟ قلت: فيقول: لولا أن الله مَنَّ عليّ بفلان لهلكت؟ قال: نعم لا بأس بهذا ونحوه.(1)

3/أن تكون الأفعال مصدّقة للأقوال، أي أن يكون التوحيد العملي مطابقًا للتوحيد العلمي النظري وبالعكس.

وأرقى درجات هذا المعنى من الإخلاص هو أن تتم صياغة السلوك الخارجي بحيث لا يقبل التفسير والتفسير الآخر، وينحصر تفسيره بالفعل المخلص لله تعالى، في قبال العمل المخلص في حقيقته، لكنه يمكن أن يُفسر بغير الإخلاص.

المعصومون (عليهم السلام) كانوا قد صاغوا سلوكهم الخارجي بحيث لم يرْمِهم أحد بكونهم مرائين أو يبطنون خلاف ما يُعلنون(2)،

كانوا بحيث لا يُفهم من عملهم إلا القربة الخالصة المطلقة لله تعالى، ذلك لأن إخراجهم لسلوكهم العملي جاء بنحو محكم ذي دلالة قطعية لا تقبل الظن أو التفسير الآخر.

علينا أن نفهم أن كون الفرد في ظرف وموقع معين، قد يفرض عليه أن يكون حريصًا على صياغة سلوكه بما لا يُعطي للآخر فرصة الطعن فيه أو تفسيره بغير الحق.

ص: 83


1- عدة الداعي لابن فهد الحلي ص89.
2- اللهم إلا الشاذ النادر الذي لا يُعبأ به، ولا يكون إلا من الذين قال فيهم جل وعلا: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل 14].
بعض الروايات الدالة على هذه الزاوية

بمطالعة سريعة للروايات الشريفة، نجد أنها تربط بين الإمامة والتوحيد بعلاقة عضوية تكون فيه العلاقة مع الإمامة مظهرًا من مظاهر الإخلاص في التوحيد ومعبرًا عنه:

عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) لما دخل نيسابور وهو راكب بغلة شهباء، وقد خرج علماء نيسابور في استقباله، فلما سار إلى المرتعة تعلّقوا بلجام بغلته، وقالوا: يا بن رسول الله، حدثنا بحق آبائك الطاهرين، حدثنا عن آبائك (صلوات الله عليهم أجمعين)، فأخرج رأسه من الهودج وعليه مطرف خز، فقال: حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي ابن الحسين، عن أبيه الحسين سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: أخبرني جبرئيل الروح الأمين، عن الله (تقدست أسماؤه وجل وجهه) قال: إني أنا الله، لا إله إلا أنا وحدي عبادي فاعبدوني، وليعلم من لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله مخلصا بها، أنه قد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن عذابي.

قالوا: يا بن رسول الله، وما إخلاص الشهادة لله؟ قال. طاعة الله ورسوله، وولاية أهل بيته (عليهم السلام).(1)

فالرسول (صلى الله عليه وآله) يُبين أن الالتزام بالدين هو لون من ألوان التوحيد، يرجع

ص: 84


1- أمالي الشيخ الطوسي ص589 ح1220/ 9.

إلى تصديق العمل للإيمان، ولكنه يذكر قيدًا احترازيًا آخر هو التولي لأهل البيت (عليهم السلام)، فالتولي لهم ترجمة للإخلاص في كلمة التوحيد.

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، هل للجنة من ثمن؟ قال: نعم. قال: ما ثمنها؟ قال: (لا إله إلا الله) يقولها العبد الصالح مخلصا بها. قال: وما إخلاصها؟ قال: العمل بما بعثت به في حقه، وحب أهل بيتي. قال: وحب أهل بيتك لمن حقها؟ قال: أجل، إن حبهم لأعظم حقها.(1)

الزاوية الثالثة: بالإمامة تتحقق معرفة الله تعالى الممكنة

في فقه الرضا (عليه السلام): إن أول ما افترض الله على عباده، وأوجب على خلقه معرفة الوحدانية، قال الله تبارك وتعالى: (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(2)،

يقول: ما عرفوا الله حق معرفته.(3)

في هذه الرواية يُبين الإمام (عليه السلام) أن المعرفة التامة بالله تعالى غير ممكنة للإنسان؛ لأن المعرفة وإن كانت مراتب تمتد صعودا إلى درجات سامية، إلاّ الإنسان بحكم تناهيه لا يتمكن أن يُحيط باللامتناهي.

فلا شك أن لدى الإنسان طاقات وقدرات محدودة بحكم إمكانه وتناهيه، إلاّ أن الواقع والإحصائيات العلمية تشهد على أن الإنسان –عمومًا- لم يبذل

ص: 85


1- أمالي الشيخ الطوسي ص583/ ح 1207/ 12.
2- الحج 74.
3- فقه الرضا لابن بابويه القمي ص65.

كل وسعه ولم يستثمر كل طاقاته، وإنما استعمل منها الشيء اليسير، والقليل من البشر هم من استفادوا من كل رصيدهم من طاقة وقدرات بمحض إرادتهم. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن النصوص الدينية بيّنت أنه إذا لم يبذل الأكثر كل ما بوسعهم لاستغلال طاقاتهم، فإن هناك بديلًا لهم فيما يتعلق بالمعرفة التوحيدية، وهي معرفة أهل كل زمان بإمام زمانهم، حيث أشارت بعض النصوص إلى أن معرفة الإمام هي معرفة الله تعالى، فقد روي عن سلمة ابن عطا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج الحسين بن علي (عليهما السلام) على أصحابه فقال: أيها الناس، إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يا بن رسول الله، بأبي أنت وأمي، فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته.(1)

وإذا ضممنا إليها ما ورد من مناقب ومقامات الأئمة (عليهم السلام) العالية والتي يمكن اختصارها بما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: (ما لله آية أكبر مني)(2) أنتج أن التعرف على الإمام مع معرفة حقيقته، هي عبارة عن درجة

ص: 86


1- علل الشرائع للصدوق ج1 ص9 باب 9 - علة خلق الخلق واختلاف أحوالهم ح1. وعلّق الشيخ الصدوق: يعني ذلك: أنْ يعلم أهل كل زمان أنّ الله هو الذي لا يخليهم في كل زمان عن إمام معصوم، فمن عبد ربًا لم يُقم لهم الحجة فإنما عبَد غير الله عز وجل.
2- بصائر الدرجات للصفار ص97 باب النوادر من الأبواب في الولاية ح3. وتمام الحديث: عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: جعلت فداك، إن الشيعة يسئلونك عن تفسير هذه الآية (عَمَّ يَتَسَاْءَلُوْنَ عَنِ النَّبَأِ العَظِيْمِ)؟ قال: فقال (عليه السلام): ذلك إليَّ، إنْ شئتُ أخبرتهم وإنْ شئت لم أُخبرهم. قال: فقال (عليه السلام): لكنّي أخبرك بتفسيرها. قال: فقلت: (عَمَّ يَتَسَاْءَلُوْنَ) قال: فقال (عليه السلام): هي في أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين يقول: ما لله آية أكبر مني، ولا لله من نبأ عظيم أعظم مني، ولقد عُرضت ولايتي على الأمم الماضية، فأبت أن تقبلها. قال: قلت له: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيْمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُوْنَ) قال: هو والله أمير المؤمنين (عليه السلام). ولا شك أننا في كل مقامات أهل البيت (عليهم السلام) لا نتجاوز الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بل هو في كل كمال أعلى منهم وأكمل.

عالية من درجات ومراتب حق معرفة الله تعالى من خلال معرفة عظيم فعله.

الزاوية الرابعة: الإمامة شرط التوحيد
اشارة

لقد طرحت النصوصُ الإمامةَ على أنها شرط التوحيد، ففي حديث السلسلة الذهبية، روي عن إسحاق بن راهويه قال: لما وافى أبو الحسن الرضا (عليه السلام) نيسابور، فأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: يا بن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث نستفيده منك؟ وكان قد قعد في العمارية فاطلع رأسه وقال: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله (عز وجل) يقول: (لا إله إلا الله) حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي، فلما مرت الراحلة نادى: بشروطها وأنا من شروطها.(1)

ص: 87


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص7.

ولتوضيح الفكرة نقول:

إن التوحيد من حيث كونه حقيقة تكوينية أمر واحد مطلق، ولكن من حيث حمله وتقبّله فهو ليس مطلقًا، وإنما هو مراتب متعددة وحصص متكثرة، فإن الحامل للتوحيد والمتلبس به والعارف به ليس له مرتبة ودرجة واحدة، فهناك التوحيد الذي يتوقف عند فعل الحسنة في البداية ولكنه لا يستمر بفعلها، وهناك من يحمل نفسه على فعل الحسنة في الرخاء، (فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديانون)(1)،

وهناك من يتسابق في مضمار التوحيد، وهناك من يتنافس في اكتساب التوحيد، وليس كل أولئك على مستوىً واحد من القبول، وليس كل أولئك يصدق عليهم التوحيد حقيقة، وإنما هناك حصة خاصة عبّر عنها القرآن الكريم بقوله عز من قائل: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(2) ليس المهم فعل الحسنة بقدر ما هو مهم الحفاظ عليها أن لا تسقط أو تحترق في منتصف الطريق.

ولكن كيف يمكن للفرد أن يحافظ على مكتسباته؟

إن النصوص تؤكد على أن واحدًا من أهم شروط ذلك التوحيد هي الإمامة، بحيث إنها تجعل الإنسان ليس عارفًا وحاملًا للتوحيد وحسب، وإنما توصله إلى مرحلة الحفاظ على ما اكتسبه، تجعل من إيمانه وتوحيده مستقرًا لا مستودعًا، بحيث يمكنه أن يأتي به في عرصات القيامة.

ص: 88


1- تحف العقول للحراني ص 245.
2- الأنعام 160.

إن من طبيعة الإنسان أنه يتلكأ في المواقف الحرجة، وقد يتلعثم أبلغ المتحدثين لو دخل في مجلس وكان أستاذه جالسًا فيه، وقد يذهل المرء عن اسمه حتى، لو هاجمه سبع ضارٍ، فكيف بأهوال يوم القيامة التي حكتها لنا النصوص الدينية، والتي لو تأمل فيها الإنسان بدقّة، لاستشعر الهلع الذي لا يُحتمل، والذي لا بد أن نمرّ به ولو بعد حين.

يقول تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَىٰ النَّاسَ سُكارىٰ وَما هُمْ بِسُكارىٰ وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(1)

والمرء قد تذهب حِيَلَه وينسى حجته لو رأى شاهدًا يشهد ضده في محكمة الدنيا، خصوصًا إذا كان الحاكمُ يصدّقه ولا يُكذّبه، فكيف بشهادة أعضاء الإنسان عليه يوم القيامة؟ أي هول سيقع فيه، وأي حجة تبقى عنده؟!

قال تعالى (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَىٰ النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّىٰ إِذا ما جاؤُوها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ)(2)

وفي وصية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر أن قال له: (ولو كان لرجل عمل

ص: 89


1- الحج 1-2
2- فصلت 19 -22

سبعين نبيًا، لاستقلّ عمله من شدة ما يرى يومئذٍ، ولو أن دلوًا صُبّ من غسلين في مطلع الشمس لغلَت منه جماجم من في مغربها، ولو أنّ زفرات جهنم زفرت لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ جاثيًا على ركبتيه، يقول: ربِّ نفسي نفسي، حتى ينسى إبراهيم إسحاق (عليهما السلام) يقول: يا ربّ، أنا خليلك إبراهيم، لا تنسني)(1)

في مثل هذه الأهوال، لا بد للإنسان أن يبحث عن شيء يضمن له الحفاظ على ما ينجيه يوم القيامة، يكون ملتصقًا به، بحيث يستذكره ويتمكن من الشهادة به، فهو ما سينجي الإنسان يوم القيامة، والنصوص بيّنت ذلك، وقالت: إنه الإمامة.

في صحيحة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من شهد أن لا إله إلا الله فليدخل الجنة. قال: قلت: فعلى مَ تخاصم الناس إذا كان من شهد أنْ لا إله إلا الله دخل الجنة؟! فقال: إنه إذا كان يوم القيامة نسوها.(2)

وفي صحيحته الثانية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: يَا أَبَانُ، إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَارْوِ هَذَا الْحَدِيثَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً وَجَبَتْ لَه الْجَنَّةُ. قَالَ: قُلْتُ لَه: إِنَّه يَأْتِينِي مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الأَصْنَافِ، أفَأَرْوِي لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ؟! قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَانُ، إِنَّه إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وجَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ فَتُسْلَبُ

ص: 90


1- أمالي الشيخ الطوسي ص533.
2- المحاسن للبرقي ج1 ص 181 باب 42 ح 173.

(لَا إِلَه إِلَّا اللهُ) مِنْهُمْ، إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ.(1)

الزاوية الخامسة: الإمامة هي فطرة التوحيد

إن الدين هو دين الفطرة، والنصوص قد فسّرت الفطرة بالفطرة على التوحيد، ولكن بعضها وسّعت التوحيد إلى النبوة والإمامة، بل بعضها جعلت الإمامة غاية التوحيد.

فعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ: (فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)(2)؟ قَالَ التَّوْحِيدُ.(3)

وعن عبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: التوحيد، ومحمد (صلى الله عليه وآله) رسول الله، وعلي أمير المؤمنين.(4)

وعن الهيثم بن عبد الله الرماني قال: حدثنا علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن جده محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) في قوله (فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: هو: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين ولي الله، إلى ههنا التوحيد.(5)

ص: 91


1- الكافي للكليني ج2 ص521 بَابُ مَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مُخْلِصاً ح1.
2- الروم 30.
3- الكافي للكليني ج2 ص12 بَابُ فِطْرَةِ الْخَلْقِ عَلَى التَّوْحِيدِ ح1.
4- التوحيد للشيخ الصدوق ص330 باب 53 - باب فطرة الله عز وجل الخلق على التوحيد ح1.
5- تفسير القمي ج2 ص155.

إن الدين صنّف الإمامة على أنها أمر فطري، والشاهد على ذلك: أن الإنسان لو خُلّي وطبعه من دون أي مؤثرات خارجية، فإنه سيؤمن بها مباشرة، لكن بشرط توفير تلك الأجواء الحيادية التي نفضت عنها تأثير المؤثرات الخارجية، وقد ورد في ما يتعلق بإثبات وجود الله تعالى ما يُشير إلى أن وجوده جل وعلا أمر فطري، لكن بشرط التخلص من المؤثرات، إذ روي أنه قالَ رَجُلٌ لِجَعفَرِ بنِ مُحَمَّد (عليهما السلام): مَا الدَّليلُ عَلَى اللهِ؟ ولا تَذكُر لِيَ العالَمَ وَالعَرَضَ وَالجَوهَرَ. فَقالَ لَهُ: هَل رَكِبتَ البَحرَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: هَل عَصَفَت بِكُمُ الرّيحُ حَتّى خِفتُمُ الغَرقَ؟ قالَ: نَعَم، قالَ: فَهَلِ انقَطَعَ رَجاؤُكَ مِنَ المَركَبِ وَالمَلاّحينَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَهَل تَتَبَّعَت نَفسُك أنَّ ثَمَّ مَن يُنجيكَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَإِنَّ ذاكَ هُوَ اللهُ، قالَ اللهُ تَعالى: (ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ)(1)،

(إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)(2)(3)

وروي عن الإمام العسكريّ (عليه السلام)... قالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِ (عليه السلام): يَا بنَ رَسولِ اللهِ، دُلَّني عَلَى اللهِ ما هُوَ؟ فَقَد أكثَرَ عَلَيَّ المُجادِلونَ وحَيَّروني. فَقالَ لَهُ: يا عَبدَ الله، هَل رَكِبتَ سَفينَةً قَطُّ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَهَل كَسَرَ بِكَ حَيثُ لا سَفينَةَ تُنجيكَ ولا سِباحَةَ تُغنيكَ؟ قالَ: نَعَم. قالَ: فَهَل تَعَلَّقَ قَلبُكَ هُنالِكَ أنَّ شَيئاً مِنَ الأَشياءِ قادِرٌ عَلى أن يُخَلِّصَكَ مِن وَرطَتِكَ؟ فَقالَ: نَعَم. قالَ

ص: 92


1- الإسراء: 67.
2- النحل: 53.
3- البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني ج1 ص106 ح (267 / 12 (عن ربيع الأبرار للزمخشري.

الصَّادِقُ (عليه السلام): فَذلِكَ الشَّيءُ هُوَ اللهُ القادِرُ عَلَى الإِنجاءِ حَيثُ لا مُنجِيَ، وعَلَى الإغاثَةِ حَيثُ لا مُغيثَ.(1)

وهكذا هو أمر الإمامة، فإنها أمر فطري، بمعنى: أنه لو تُرك الإنسان وذاته لاهتدى إليها، وقد روي ما يدل على ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: وفد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل اليمن، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): جاءكم أهل اليمن يبسون بسيسًا، فلما دخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قوم رقيقة قلوبهم، راسخ إيمانهم، منهم المنصور، يخرج في سبعين ألفا ينصر خلفي وخلف وصيي، حمائل سيوفهم المسك.

فقالوا: يا رسول الله، ومن وصيك؟

فقال: هو الذي أمركم الله بالاعتصام به، فقال عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(2)

فقالوا: يا رسول الله، بيّن لنا ما هذا الحبل؟

فقال: هو قول الله: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)(3) فالحبل من الله كتابه، والحبل من الناس وصيي.

فقالوا: يا رسول الله، من وصيك؟

فقال: هو الذي أنزل الله فيه: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتىٰ عَلىٰ ما فَرَّطْتُ

ص: 93


1- البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني ج1 ص103ح(263 / 8).
2- آل عمران 103.
3- آل عمران 112.

فِي جَنْبِ اللهِ)(1)

فقالوا: يا رسول الله، وما جنب الله هذا؟

فقال: هو الذي يقول الله فيه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً.)(2) هو وصيي، والسبيل إلي من بعدي.

فقالوا: يا رسول الله، بالذي بعثك بالحق نبيا أرناه فقد اشتقنا إليه.

فقال: هو الذي جعله الله آية للمؤمنين المتوسمين، فإن نظرتم إليه نظر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عرفتم أنه وصيي كما عرفتم أني نبيكم، فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه، فمن أهوت إليه قلوبكم فإنه هو، لأن الله عز وجل يقول في كتابه: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(3)

أي: إليه وإلى ذريته (عليهم السلام).

ثم قال: فقام أبو عامر الأشعري في الأشعريين، وأبو غرة الخولاني في الخولانيين، وظبيان، وعثمان بن قيس في بني قيس، وعرنة الدوسي في الدوسيين، ولاحق بن علاقة، فتخللوا الصفوف، وتصفحوا الوجوه، وأخذوا بيد الأصلع البطين، وقالوا: إلى هذا أهوت أفئدتنا، يا رسول الله.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أنتم نجبة الله حين عرفتم وصي رسول الله قبل أن تُعَرَّفُوه، فبِمَ عرفتم أنه هو؟

ص: 94


1- الزمر 56.
2- الفرقان 27.
3- إبراهيم 37.

فرفعوا أصواتهم يبكون ويقولون: يا رسول الله، نظرنا إلى القوم فلم تحن لهم قلوبنا، ولما رأيناه رجفت قلوبنا ثم اطمأنت نفوسنا، وانجاشت أكبادنا، وهملت أعيننا، وانثلجت صدورنا، حتى كأنه لنا أب ونحن له بنون.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(1) أنتم منهم بالمنزلة التي سبقت لكم بها الحسنى، وأنتم عن النار مُبعَدون.

قال: فبقي هؤلاء القوم المسمَّون حتى شهدوا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) الجمل وصفين، فقتلوا في صفين رحمهم الله، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) بشّرهم بالجنة، وأخبرهم أنهم يُستشهَدون مع علي بن أبي طالب (عليه السلام).(2)

إشارة: عدم معرفة الإمام يؤدي إلى الكفر والنفاق.

من مجموع الزوايا المتقدمة، يمكن أن نفهم النصوص التي رتّبت الكفر والنفاق والضلال -وأمثال هذه المفاهيم- على عدم معرفة الإمام أو على جحده أو على اتخاذ إمام من غير من نصّبهم الله تعالى، إذ إنها افترضت في مرحلة مسبقة أن العلاقة بين التوحيد والإمامة هي علاقة عضوية ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، وبالتالي فمن أنكر الإمامة فإنه أنكر التوحيد.

ومن تلك الروايات هي التالي:

عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من عرف الأئمَّة ولم

ص: 95


1- آل عمران 7.
2- كتاب الغيبة للنعماني ص46 باب 2 في ذكر حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به، وترك التفرق عنه بقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)- (ح1).

يعرف الإمام الذي في زمانه أمؤمن هو؟ قال: «لا»، قلت: أمسلم هو؟ قال: «نعم»(1).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»(2).

وعن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «من مات لا يعرف إمامه، مات ميتة جاهلية كفر ونفاق وضلال»(3).

وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: يا محمد بن مسلم، من أصبح من هذه الأمة ولا إمام له من الله عادل، أصبح تائهًا متحيرًا، إنْ مات على حاله تلك مات ميتة كفر ونفاق...(4)

ص: 96


1- كمال الدين للصدوق: 410/ باب 39/ ح 3.
2- كمال الدين للصدوق: 413 و414/ باب 39/ ح 15.
3- الإمامة والتبصرة لابن بابويه: 82/ ح 69.
4- المحاسن للبرقي ج1 ص93 باب 17 - عقاب من لم يعرف إمامه ح47/ وتمام الحديث: عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه بلا إمام عادل من الله، فإن سعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، ومثله كمثل شاة لا راعي لها، ضلت عن راعيها وقطيعها، فتاهت ذاهبة وجائية يومها، فلما أن جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها، فجاءت إليها فباتت معها في ربضتها، متحيرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بسرح قطيع غنم آخر فعمدت نحوه وحنت إليها، فصاح بها الراعي: الحقي بقطيعك فإنك تائهة متحيرة، قد ضللت عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيرة لا راعى لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها، وهكذا يا محمد بن مسلم من أصبح من هذه الأمة ولا إمام له من الله عادل أصبح تائهًا متحيرًا، ان مات على حاله تلك مات ميتة كفر ونفاق، واعلم يا محمد أن أئمة الحق وأتباعهم على دين الله...

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «... وأدنىٰ ما يكون به العبد ضالًّا أن لا يعرف حجَّة الله تبارك وتعالىٰ وشاهده علىٰ عباده الذي أمر الله (عزوجل) بطاعته وفرض ولايته»(1).

وقد روي عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: منا الإمام المفروض طاعته، من جحده مات يهوديًا أو نصرانيًا، والله ما ترك الله الأرض منذ قبض الله آدم إلا وفيها إمام يهتدى به إلى الله حجة على العباد، من تركه هلك، ومن لزمه نجا، حقًا على الله.(2)

ص: 97


1- الكافي للكليني 2: 414 و415/ باب أدنىٰ ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالّاً/ ح 1.
2- المحاسن للبرقي ج1 ص92 باب 17 - عقاب من لم يعرف إمامه ح45.

ص: 98

المقدمة الثامنة: الإمامة والنبوة

اشارة

هل للإمامة علاقة بالنبوة أو لا؟

هل الإمامة تُختصر بأنها مجرد مقولة من مقولات النبي دون أن يكون لها اتصال وربط بنبوة النبي، أو إنها ذات صلة عضوية بنبوة النبي وأدواره في الجملة، بعد الفراغ عن أنها ليست نبوة (لا نبي من بعدي)؟

من الواضح: أن العلاقة بينهما أوضح في الذهنية العامة من العلاقة بين الإمامة والتوحيد، ونبينها من خلال النقاط التالية:

النقطة الأولى: نصوص الإعداد والإشراف المباشر

هناك مجموعة من النصوص تكشف عن أن هذه الشخصية –التي ندّعي وبالدليل القاطع أنها حظيت بمنصب خلافة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)- قد تلقّت تربية خاصة وإعدادًا مباشرًا منه (صلى الله عليه وآله)، من أجل تأهيلها لذلك المنصب اللائق في خلافته (صلى الله عليه وآله)، طبعا التأهيل بطريق العلم اللدني.

ومن تلك النصوص التالي:

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام): علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألفَ باب،

ص: 99

يفتح ألفَ باب.(1)

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّم عليًا (عليه السلام) بابًا من العلم، ففتح ألف باب، لكل باب فتح له الف باب. (2)

وقد ذكر ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه حينما قال: (وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه (صلى الله عليه وآله)، مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه، ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي، ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ، غَيْرَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه (صلى الله عليه وآله)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا هَذِه الرَّنَّةُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ

ص: 100


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 647.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 323 الباب (16) باب في ذكر الأبواب التي علم رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام ح (5).

لَوَزِيرٌ، وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ)(1)

التربية وبإشراف شخص الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لها دلالتها الواضحة على أنه كان يعده لموقع يمتُّ بصلة وثيقة لصميم عمله (صلى الله عليه وآله).

النقطة الثانية: نصوص المفاهيم المنتسبة إلى النبوة

هناك تعبيرات استعملت (ياء النسبة) في وصف أمير المؤمنين (عليه السلام)، من قبيل (مني) (وزيري) (خليفتي) (وصيي).

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي.(2)

وعنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): هذا أخي ووارثي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي.(3)

قَالَ (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ وَلِيُّكُمْ وأَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟

ص: 101


1- نهج البلاغة ج2 ص 157.
2- الحديث مشهور معروف لا ينكره أحد، راجع مثلًا: الكافي للكيني ج8 ص 107 ح80، وصحيح البخاري ج4 ص 208 ومسند أحمد ج1 ص 170 وغيرها كثير من المصادر.
3- علل الشرائع للصدوق ج1 ص 169 باب 133 ح2 وتمام الرواية: عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام): قال: لما نزلت (وانذر عشيرتك الأقربين ورهطك المخلصين) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنى عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلًا، يزيدون رجلًا أو ينقصون رجلًا فقال: أيكم يكون أخي ووصيي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي؟ فعرض عليهم ذلك رجلًا رجلًا كلهم يأبى ذلك حتى أتى عليّ فقلت: أنا يا رسول الله، فقال: يا بني عبد المطلب، هذا أخي ووارثي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي، فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام.

فَقَالُوا: الله ورَسُولُه. فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه وعَادِ مَنْ عَادَاه -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-...(1)

إن هذه النصوص وأمثالها تشير إلى أن هناك رجلًا هو (الرجل الثاني) في الإسلام، بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنه مرتبط به مباشرة، وأنه الذي يديم مشروع النبوة، فهو رجل محوري في الإسلام لا مجرد شخص عابر، وعليه ألقيت مهمة إكمال مشروع النبوة بما للكلمة من معنى (مع الحفاظ على خصوصية نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الخاتمة)، وقد بيّنتْ هذه النصوص أن هذا الرجل مرتبط بالنبي (صلى الله عليه وآله) وعمله مرتبط بصلب عمله، إذ فيها عملية جعلٍ وتنصيب لمن يمسك زمام الأمور بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ويُديم مسيرة النبوة.

ويمكن بيان هذه الزاوية من نفس مفاهيم (الوصية، الخلافة، الوزارة...)؛ إذ إنها مفاهيم ذات إضافة، فإن الوصي هو الرجل الثاني بعد الموصي، وعمله عبارة عن عمل الموصي، وهكذا الخليفة والوزير... مما يعني أن نفس تلك المفاهيم تنص على العلاقة العضوية وبنحو الطولية بين الإمامة والنبوة.

النقطة الثالثة: نصوص اكتمال الدين بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)

جملة من النصوص تدل وبوضوح على أن الإسلام إنما اكتمل بتنصيب

ص: 102


1- الحديث متواتر لدى العامة والخاصة، انظر مثلًا: الكافي للكليني ج1 ص293 باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين (عليه السلام) ح (3) ومسند أحمد بن حنبل ج1 ص 118 وسنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني ج1 ص 45 وغيرها.

أمير المؤمنين (عليه السلام) إمامًا للناس، وعلى أن الله تعالى إنما ارتضى الإسلام دينًا عندما تم تبليغ تلك الإمامة، مما يكشف عن أن الإمامة مرتبطة بأصل الإسلام، وأن لها محورية كاملة في تتميم الدين، وبالتالي فإنها مرتبطة بالنبوة ارتباطًا وثيقًا عضويًا، في عين كونها في طولها.

فإنه وبعد جهاد مرير خاضه النبي الأكرم (صلى الله عليه آله) وعلى مدى (23) سنة، من الدعوة والصبر والجهاد والغربة و... نجد القرآن الكريم يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر مهم جدًا، فيقول جل وعلا: ]يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ[(1)

وبعد أن بلَّغ النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) رسالة ربِّه هذه، نزل عليه الخطاب الإلهي صادحًا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(2)

إذن، لقد تمَّ الدين الإسلامي ورضاه الله تعالىٰ لنا بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا يعني أنَّ قضية الإمامة ليست مجرد مقولة من مقولات الدين الحنيف، بل هي مقولة مرتبطة بصميم وجوهر الرسالة وأصل الدين، وإلا، فكيف كان حجمه حجم الدين، بحيث ارتضاه الله تعالى لنا دينًا بعد تبليغه؟!

وهكذا الحال في حديث الثقلين المتواتر، إذ إنه يكشف عن تلك العلاقة

ص: 103


1- المائدة: 67.
2- المائدة: 3.

العضوية الطولية بكل وضوح، حيث يصرح بأن الارتباط بين الثقلين دائم مستمر، وأنهما المنفذ الوحيد للخروج من الخطر، فهما صمام الأمان وسفينة النجاة، وأنهما سيبقيان هكذا إلى يوم الدين، ليكون مرجعهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا يكشف عن المطلوب إثباته هنا أيضًا.

فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم أمرين: أحدهما أطول من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض...(1)

النقطة الرابعة: الإمامة تستمرّ بشخص الإمام

لا ينحصر بقاء شريعة السماء بشخص النبي، بل يمكن أن يموت النبي ولكن الشريعة باقية، فهي حدوثًا بشخص النبي، فهو الذي يقوم بعملية التبليغ عن السماء، ولكنّ استمراراها وبقاءها وديمومتها لا تتقوم ببقاء واستمرار وديمومة النبي، فالأنبياء يرحلون وتبقى شرائعهم مستمرة بعدهم.

بينما الإمامة، ظاهرة مستمرة بشخص الإمام ومتقومة بوجوده، كما روي أن الأرض لا تبقى من دون حجة أبدًا.(2) وهو أمر أكّده القرآن الكريم بقوله

ص: 104


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 65 ح 97. وانظر مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 وسنن الترمذي ج5 ص 329 وغيرها من المصادر.
2- الأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ومنها ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَإِنَّا نُرَوَّى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ الله تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ أَوْ عَلَى الْعِبَادِ؟ فَقَال: (لَا، لَا تَبْقَى، إِذاً لَسَاخَتْ) الكافي للكليني ج1 ص 179 بَابُ أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ - ح11.]

عز من قائل: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ.)(1).(2)

وهذا ينتج التالي:

أن الشريعة تبقى بعد موت النبي، ولكنه بقي إلى جنب الشريعة إمامُ هدى، مما يعني أن بقاء الشريعة، وتطبيقها التدريجي، وبيان مجملها وتفاصليها، مهمة ملقاة على عاتق الإمام، وهذا يكشف عن العلاقة الوثيقة بين الإمامة والنبوة.

إن الدين عندما طرح الإمامة، فإنه طرحها بمعنى المنصب المعنيّ بالحفاظ على الشريعة بقاءً وتطبيقًا وبيانًا.

أي إنه طرحها كمسؤولية متمّمة لمهمة الرسالة والنبوة ما بعد التبليغ من النبي، ما بعد الحدوث وفي مرحلة البقاء والخطوات اللاحقة، وهو ما اهتم به أهل البيت (عليهم السلام).

فتحصل من المقدمة الثامنة:

أن الإمامة هي في طول النبوة، وليست مفهومًا رديفًا لها أو في عرضها

ص: 105


1- الرعد 7.
2- في تفسير هذه الآية روي في الكافي ج1 ص 191 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ ع هُمُ الْهُدَاةُ ح1/ عَنِ الْفُضَيْلِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فَقَالَ: كُلُّ إِمَامٍ هَادٍ لِلْقَرْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِمْ. وفي الحديث (2)/ عن بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (ِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه آله): الْمُنْذِرُ ولِكُلِّ زَمَانٍ مِنَّا هَادٍ يَهْدِيهِمْ إِلَى مَا جَاءَ بِه - نَبِيُّ الله (صلى الله عليه وآله) ثُمَّ الْهُدَاةُ مِنْ بَعْدِه عَلِيٌّ ثُمَّ الأَوْصِيَاءُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ.

أو مستقلا عنها، كي يقال عن تبني هذه الفكرة أنه دين جديد، بل هي إدامة وبيان وتطبيق للشريعة التي جاء بها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

وهذا أمر أكّده أهل البيت (عليهم السلام) في أكثر من مناسبة.

فقد روي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا جابر، إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم.(1)

وعن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: لو أنّا حدثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا، ولكنّا حدّثنا ببينة من ربِّنا بيّنها لنبيه فبينّها لنا.(2)

ص: 106


1- بصائر الدرجات للصفار ص 319 باب (14) باب في الأئمة ان عندهم أصول العلم ما ورثوه عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يقولون برأيهم ح1.
2- بصائر الدرجات للصفار ص 319 باب (14) باب في الأئمة ان عندهم أصول العلم ما ورثوه عن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يقولون برأيهم ح21.

المبحث الثاني: الإمامة الخاصة

اشارة

أي البحث في خصوص إمامة أهل البيت (عليهم السلام).

لقد تبين في مقدمات الإمامة العامة أن الإمام لا بد أن يكون: معصومًا، منصوصًا عليه من السماء، وله من العلم اللدني الخاص ما يُغنيه عن ارتياد المعاهد العلمية وأخذ العلم بطريقة كسبية عادية.

وسنذكر في ما يأتي الأدلة على ثبوت هذه المؤهلات في أهل البيت (عليهم السلام)، إن شاء الله تعالى، عبر نقاط سبعة:

النقطة الأولى: النص على أهل البيت (عليهم السلام).

النقطة الثانية: عصمة أهل البيت (عليهم السلام).

النقطة الثالثة: علم أهل البيت (عليهم السلام) اللّدني.

النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية).

النقطة الخامسة: الإمامة والسياسة (أو الحاكمية)

النقطة السادسة: الإمام المهدي (عليه السلام).

النقطة السابعة: تساؤلات وشبهات وأجوبة.

ص: 107

ص: 108

النقطة الأولى: النص على أهل البيت (عليهم السلام)

اشارة

لقد بات واضحًا أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد صرّح بأن خليفته من بعده هو الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأبناؤه المعصومون (عليهم السلام) لا غير، والنصوص في ذلك كثيرة، نذكر بعضًا منها في خطوتين:

الخطوة الأولى: النص على خصوص أمير المؤمنين (عليه السلام)
النص الأول: آية الولاية:

وهو قوله تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.)(1)

حيث (تضافرت الروايات بأن عليًا (عليه السلام) تصدق بخاتمه وهو راكع فنزلت الآية في حقه.

أخرج الحفاظ وأئمة الحديث عن أنس بن مالك وغيره أن سائلًا أتى

ص: 109


1- المائدة 55.

المسجد وعليٌّ (عليه السلام) راكع فأشار بيده للسائل، أي اخلع الخاتم من يدي. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عمر، وجبت. قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما وجبت؟! قال: وجبت له الجنة، والله ما خلعه من يده حتى خلعه الله من كل ذنب ومن كل خطيئة. قال: فما خرج أحد من المسجد حتى نزل جبرئيل بقوله عز وجل: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.)(1)

فالآية صريحة في أن الله تعالى قد جعل عليًا (عليه السلام) وليًا للمؤمنين من بعد ولايته وولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى هذا فيكون أمير المؤمنين (عليه السلام) أولى بالتصرف بنا بأمر الله تعالى، (والدليل على أن المراد من الولي هو الأولى بالتصرف أنه سبحانه أثبت في الآية الولاية لنفسه ولنبيه ولوليِّه على نسق واحد، وولاية الله عز وجل عامة، فولاية النبي والولي مثلها وعلى غرارها. غير أن ولاية الله ولاية ذاتية، وولاية الرسول والولي مكتسبة معطاة، فهما يليان أمور الأمة بإذنه سبحانه.)(2)

ص: 110


1- تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم الرازي ج4 ص 1162 ح 6551 وشواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ج1 ص 209 ح 216 وغيرها من المصادر. وقال في مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 112 – 113: وقد أخرجه ابن جرير الطبري والحافظ أبو بكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن والحاكم النيسابوري (المتوفى 405 ه) والحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري (المتوفى 468 ه) (5) وجار الله الزمخشري (المتوفى 538 ه) إلى غير ذلك من أئمة الحفاظ وكبار المحدثين ربما ناهز عددهم السبعين، وهم بين محدث ومفسر ومؤرخ ويطول بنا الكلام لو قمنا بذكر أسمائهم ونصوصهم...
2- مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 114.
النص الثاني: حادثة الغدير

قال تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.)(1)

قال الشيخ السبحاني في مفاهيمه:

((نزلت الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة، لما بلغ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) غدير خم فأتاه جبرئيل بها، فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة، فأمره أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان، وأن يقيم عليًا (عليه السلام) علمًا للناس ويبلغهم ما أنزل الله فيه وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس.

وقد اتفقت الشيعة الإمامية على نزول الآية في يوم غدير خم، وافقهم على ذلك لفيف من المحدثين والمؤرخين، فقد ذكر الواقعة الطبري في تفسيره، كما رواها السيوطي في الدر المنثور عن جماعة من الحفاظ، منهم:

1 - الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي (المتوفى 327 ه).

2 - الحافظ أبو عبد الله المحاملي (المتوفى 330 ه).

3 - الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي (المتوفى 407 ه).

4 - الحافظ ابن مردويه (المتوفى 716 ه)

ص: 111


1- المائدة 67.

وغيرهم من أعلام الحديث والتاريخ، وقد جمع المحقق الأميني أسماء من روى نزول هذه الآية في يوم غدير خم من أصحاب السنة فبلغ 30 رجلًا. وعلى كل حال فقد قام النبي (صلى الله عليه وآله) بتحقيق البلاغ في يوم غدير خم، فخطب خطبة، وقال: أيها الناس، إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟

قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت، وجهدت، فجزاك الله خيرًا.

قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال: اللهم اشهد. ثم قال: أيها الناس، ألا تسمعون؟

قالوا: نعم.

قال: فإني فرط على الحوض، فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين.

فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول الله؟

قال: الثقل الأكبر، كتاب الله، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا.

ثم أخذ بيد علي فرفعها، حتى رؤي بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون،

ص: 112

فقال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم. فمن كنت مولاه، فعلي مولاه - يقولها ثلاث مرات -

ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب.

ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة ورِضى الرب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي.

ثم أخذ الناس يهنئون عليًا، وممن هنأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر، كل يقول: بخ بخ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وقال حسان: ائذن لي يا رسول الله أن أقول في علي أبياتا، فقال: قل على بركة الله، فقام حسان، فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم وأسمعْ بالرسول مناديا

ص: 113


1- المائدة 3.

فقال فمن مولاكم ونبيكم *** فقالوا ولم يُبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا *** ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له: قم يا علي فإنني *** رضيتك من بعدي إمامًا وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه *** فكونوا له أتباعَ صدقٍ مَواليا

هناك دعا اللهم وال وليه *** وكن للذي عادى عليًا معاديا

فلما سمع النبي أبياته، قال: لا تزال يا حسان مؤيَّدًا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.)) (1)

وهذه الحادثة أوضح من الشمس وأبين من الأمس في دلالتها على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعلى أنه ولي الله تعالى بالنص منه جل وعلا، ولا يمكن لعاقل أن يسمع بهذه الآية وبالحادثة التي حصلت بعدها ثم يتردد في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي حادثة متواترة لا يمكن لمسلم أن يُنكر وقوعها، نعم، البعض –بعد أنْ رأى أنه لا يمكنه وفق الموازين العلمية أن يُنكر وقوع هذه الحادثة- حاول أن يُحرّف في دلالتها، فقال: إن المراد من (أولى) في كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) هو الناصر والمعين وما شابه، فالنبي (صلى الله عليه وآله) أراد أن يُبين للمسلمين في ذلك الوقت أن عليًا (عليه السلام) قد نصره وأعانه في مهمته، ولا دخل لهذه الآية والحادثة بتنصيبه وليًا على المؤمنين.

قرائن على أن المقصود من الولي هو الأولى بالتصرف.

وفي الحقيقة، فإن تفسير آية الولاية بأنها تريد بيان أن علياً (عليه السلام) هو مجرد

ص: 114


1- انظر مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 116 – 119.

ناصر للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لهو أوهن من بيت العنكبوت، فمن يقرأ الحادثة بتمعُّنٍ، فإنه يرى بكل وضوح أنه ليس مناسبًا أصلًا أن يُبين الرسول (صلى الله عليه آله) أن عليًا مجرد ناصر ومعين له بهذه الكيفية من جمع المسلمين وإيقافهم في هجير الحر، وجمع أولهم بآخرهم، رغم أن نصرة علي (عليه السلام) وإعانته للنبي (صلى الله عليه وآله) لا يُنكرها أحد، وهي غير خافية أبدًا، فلا داعي لكل هذه العملية المتعبة من النبي (صلى الله عليه وآله) ليُبلّغ أمرًا واضحًا ولا يختلف فيه اثنان.

فضلًا عن هذا، فقد ذكر علماؤنا عدة قرائن من داخل النص الوارد في هذه الحادثة، تدلّ بكل وضوح –ولو بمجموعها- على أن المراد من الأولى هو الأولى بالتصرف لا مجرد الناصر والمعين، وهذه القرائن هي(1):

القرينة الأولى: قوله (صلى الله عليه وآله) في صدر الحديث: (ألست أولى بكم من أنفسكم) وهو دليل على أن المراد من قوله: (فمن كنت مولاه) هو الأولى، وذلك لأنه رتّب ولاية علي (عليه السلام) على كونه هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فلأن النبي (صلى الله عليه وآله) هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكذلك الولاية التي ترتبت على هذه الولاية وهي ولاية علي (عليه السلام).

القرينة الثانية: دعاؤه (صلى الله عليه وآله) في صدر الحديث: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) فلو أريد منه غير الأولى بالتصرف فما معنى هذا التطويل؟ فإنه لا يلتئم ذكر هذا الدعاء إلا بتنصيب علي (عليه السلام) مقامًا شامخًا يؤهّله لهذا الدعاء.

القرينة الثالثة: أخذ الشهادة من الناس، حيث قال (صلى الله عليه وآله): (ألستم تشهدون

ص: 115


1- بتصرف: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج10 ص 120 – 121.

أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله) ثم بلّغ ولاية علي (عليه السلام) بعد ذلك، وهذا لا يتلاءم إلا مع كون ولاية علي (عليه السلام) هي على غرار ولاية الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولذلك ذكرها في سياق الشهادة لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وآله)

القرينة الرابعة: التكبير على إكمال الدين، حيث لم يتفرقوا بعد كلامه حتى نزل إليه الوحي بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(1)

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي.

فبماذا يكمل به الدين وتتم به النعم ويرضى الرب بالرسالة، سوى الإمامة التي بها تمام الرسالة وكمال نشرها وتوطيد دعائمها.

القرينة الخامسة: نعيُ النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه إلى الناس حيث قال: (كأني دُعيتُ فأجبتُ)، وفي نقل آخر (أنه يوشك أنْ أُدعى فأجيب)، وهذا يُعطي انطباعًا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد بلّغ أمرًا مهما كان يحذر أن يدركه الأجل قبل الإشارة إليه، وهو يُعرب عن كون ما أشار إليه في هذا المحتشد هو تبليغ أمر مهم يخاف فوته وليس هو إلا الإمامة، ولا يُعقل أن يكون هو مجرد التذكير بنصرة علي (عليه السلام) له.

القرينة السادسة: الأمر بإبلاغ الغائبين، حيث أمَر (صلى الله عليه وآله) في آخر خطبته بأن يبلغ الشاهدُ الغائبَ، فلو لم يكن هذا الأمر الإمامة فما معنى هذا التأكيد؟!

إلى غير ذلك من القرائن التي استقصاها الشيخ الأميني (قدس سره) [ت 1392

ص: 116


1- المائدة 3.

ه-] في غديره، وأوصلها إلى (20) قرينة.(1)

على أن الناس في ذلك الوقت كانوا قد تسالموا على أن المراد من الأولى في حديث النبي (صلى الله عليه وآله) هو الأولى بالتصرف، وهناك شواهد عديدة من التاريخ تدل على ذلك، ومنها رواية الفهري المعروفة، حيث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: لمّا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بغدير خم، فنادى في الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) وهو في مَلأٍ من أصحابه، على ناقة، حتى أتى المدينة فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، وأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمسًا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلنا، ثمَّ لم ترض بهذا حتى رفعت بضُبعي ابن عمك ففضَّلْته علينا؟ وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، وهذا شيء منك أم من الله؟فقال (صلى الله عليه وآله): والذي لا إله إلا هو أنه من أمر الله.

فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إنْ كان ما يقول محمدٌ حقًّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته فخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى

ص: 117


1- راجع الغدير للشيخ الأميني (قُدّس سره) ج1 ص 370 وما بعدها تحت عنوان: (القرائن المعينة. متصلة ومنفصلة).

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.)(1).(2)

النص الثالث: حادثة الدار

اتفق المؤرخون على هذه الحادثة، وعلى أن النبي (صلى الله عليه وآله) أعلن للقوم أن خليفته هو علي (عليه السلام)، وملخّص هذه الحادثة كما (يقول المفسرون: لما نزل قوله سبحانه: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(3)

أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن يُعدّ طعامًا ولبَنًا، فدعا خمسة وأربعين رجلًا من وجوه بني هاشم، ولما فرغوا من الطعام تكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتُن كما تنامون، ولتبعثُن كما تستيقظون، ولتحاسبُن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا.

ثم قال: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

ولما بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) إلى هذه النقطة، وبينما أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم وأخذوا يفكرون مليًا في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم، وما يكتنفه

ص: 118


1- المعارج 1 -2.
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه/ محمد تقي المجلسي (الأول) ص 245. ومناقب ابن شهر آشوب ج2 ص 240 – 241.
3- الشعراء 214 – 215.

من أخطار، قام علي (عليه السلام) فجأة، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره، وقال وهو يخترق بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول: أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله.

فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): اجلس، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كل مرة يُحجم القوم عن تلبية دعوته، ويقوم عليٌّ ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبي (صلى الله عليه وآله)، ويأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجلوس، حتى إذا كانت المرة الثالثة أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين، وقال: إن هذا أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميرًا.

هذا موجز ما ذكره المفسرِّون والمحدِّثون حول الآية، وفي صحاحهم ومسانيدهم.(1)

وفيه نص واضح على استخلاف أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده.

النص الرابع: حديث المنزلة

هو حديث مسند متواتر عند الفريقين، وقد روي بألفاظ متقاربة لا تضرّ بالمعنى العام للحديث، وأن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال لعلي (عليه السلام): (أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ

ص: 119


1- انظر: مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني ج 10 ص 109 – 110، نقل هذه الحادثة عن: تاريخ الطبري: 2 / 62 - 63، الكامل في التاريخ: 2 / 40 - 41، مسند أحمد: 1 / 111، شرح نهج البلاغة: 13 / 210 - 211.

هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي)(1)

ورووا عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمَرَ معاوية بن أبي سفيان سعدًا فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ قال: أمَا ما ذكرت ثلاثًا قالهن رسول الله (صلى الله عليه [وآله]) فلن أسبّه، لئن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله]) يقول لعلي وخلّفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله، تخلّفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه [وآله]): أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي...(2)

فثبوت جعل الرسول (صلى الله عليه وآله) منزلة هارون من موسى (عليهما السلام) لعلي (عليه السلام) أمرٌ مفروغ عنه، وهو واضح في استخلاف علي (عليه السلام) من بعده (صلى الله عليه وآله)، وأن لعلي (عليه السلام) ما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) عدا الرسالة (إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي).

هذا وقد ذكر القرآن الكريم منازل هارون من موسى في قوله تعالى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي

ص: 120


1- انظر: مسند أحمد ج1 ص 179 و ج3 ص 32 و ج6 ص 369 و ج6 ص 438، وانظر: صحيح مسلم ج7 ص 120 وسنن ابن ماجة ج1 ص 45 وغيرها من المصادر الكثيرة.
2- سنن الترمذي ج5 ص 301 – 302 باب 87 ح 3808. وتمام الرواية:...وسمعته يقول يوم خيبر: لأُعطينّ الراية رجلًا يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه. قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليًا. قال: فأتاه وبه رمَدٌ فبصق في عينه فدفع الراية إليه ففتح الله عليه. وأُنزلت هذه الآية (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَىٰ الْكاذِبِينَ.) [آل عمران 61]، دعا رسول الله (صلى الله عليه [وآله]) عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: اللهم هؤلاء أهلي.

أَمْرِي.)(1)

وفي وقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَىٰ الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً.)(2)

(وَقالَ مُوسىٰ لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ.)(3)

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.).(4)

فكل ما ثبت لهارون (عليه السلام) من منازل في هذه الآيات فقد ثبت لعلي (عليه السلام) بالنسبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خلا النبوة، بمقتضى حديث المنزلة.

النص الخامس

في رواياتنا الخاصة ورد عَنْ زَيْدِ بْنِ الْجَهْمِ الْهِلَالِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ:

لَمَّا نَزَلَتْ وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وكَانَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله): سَلِّمُوا عَلَى عَلِيٍّ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ مِمَّا أَكَّدَ الله عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَا زَيْدُ،

ص: 121


1- طه 29 – 32.
2- الفرقان 35.
3- الأعراف 142.
4- القصص 34 – 35.

قَوْلُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) لَهُمَا: قُومَا فَسَلِّمَا عَلَيْه بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالا: أمِنَ الله أَوْ مِنْ رَسُولِه يَا رَسُولَ الله(1)؟

فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): مِنَ الله ومِنْ رَسُولِه. فَأَنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ: (ولا تَنْقُضُوا الأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ الله يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) يَعْنِي بِه قَوْلَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) لَهُمَا وقَوْلَهُمَا: أمِنَ الله أَوْ مِنْ رَسُولِه...(2)

فهذا النص واضحٌ جدًا في تنصيب الله تعالى لعلي (عليه السلام) أميرًا للمؤمنين.

ص: 122


1- هذا التعبير يكشف عن خلل في عقيدتهما، إذ إنهما جعلا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عرض قول الله تبارك وتعالى، وغاب عنهما أن القرآن الكريم يجعل من كل أقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الوحي الذي لا يُخطئ، وأنه يلزم اتباعه في كل أقواله ولا تجوز مخالفتها، وهذا التشكيك ما أسّس فيما بعد إلى القول بعدم عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) في ما عدا تلقي الوحي وتبليغه، وعلى ذلك شواهد كثيرة مسطورة في محلها.
2- الكافي للكليني ج1 ص 292 بَابُ الإِشَارَةِ والنَّصِّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) ح1.
الخطوة الثانية: النص على بقية أهل البيت (عليهم السلام)
اشارة

نُذكّر بأن نظرية النص تعني: أن يكون التنصيب من الله تعالى بالمباشر، أو يبلّغ الإمامُ السابقُ المنصّبُ من الله تعالى إمامةَ الإمام اللاحق.

والنصوص الدالة على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة، نذكر بعضًا منها:

النص الأول: حديث الأئمة الاثني عشر

وردت روايات عديدة ومتفق عليها على أن النبي (صلى الله عليه وآله) صرّح بأن الأئمة أو الخلفاء من بعده هم اثنا عشر، وكلهم من قريش، وهذا العدد لا ينطبق بهذا الحصر إلا على أهل البيت (عليهم السلام).

وقد عقد الشيخ الكليني (رحمه الله تعالى) باباً في تلك الروايات وذكر فيه عشرين حديثاً، منها ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): مِنْ وُلْدِيَ اثْنَا عَشَرَ نَقِيباً نُجَبَاءُ مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ، آخِرُهُمُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ، يَمْلأُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً.(1)

وأما روايات العامة، فهي أيضاً نقلت هذا المعنى:

ص: 123


1- الكافي للكليني ج1 ص 534 بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ (عليهم السلام) ح18.

فقد روى البخاريّ في صحيحه عن جابر بن سمرة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «يكون اثني عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنّه قال: كلّهم من قريش»(1).

وروى مسلم في صحيحه عن النبي (صلى الله عليه وآله) حديث الأئمّة الاثني عشر بثمانية طرق وبألفاظ مختلفة؛ غير أنّها متّفقة جميعاً في «اثني عشر» و «كلّهم من قريش»؛ منها: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً... كلّهم من قريش»(2).

«إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي له منهم اثنا عشر خليفة... كلّهم من قريش»(3).

«لايزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة، كلّهم من قريش»(4).

«لا يزال هذا الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(5).

وروى أبو داوود السجستانيّ في سننه عن جابر بن سمرة أنّه قال: «سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا يزال هذا الدين قائماً حتّى يكون عليكم اثنا

ص: 124


1- صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، حديث 1148؛ سنن الترمذيّ، ج 4، ح 2223؛ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 715، ح 6586.
2- صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب 1.
3- صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب 1.
4- المصدر السابق.
5- المصدر نفسه.

عشر خليفة كلّهم تجتمع عليه الأمّة، فسمعت كلاماً من النبي لم أفهمه؛ قلت لأبي: ما يقول؟ قال: كلهم من قريش»(1).

كما روى الترمذي في سننه، بسند عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «يكون من بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش»(2).

وروى أحمد بن حنبل أيضاً في سند عن جابر بن سمرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «يكون لهذه الأمّة اثنا عشر خليفة»(3).

وروي الحاكم النيسابوري في مستدركه على الصحيحين عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفه، كلّهم من قريش»(4).

وروى السيوطيّ في تاريخ الخلفاء عن جابر بن سمرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لا يزال هذا الأمر عزيزاً يُنصرون على من ناوأهم عليه اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(5).

كما روى الخطيب البغداديّ في كتابه تاريخ بغداد بسند عن طريق جابر بن سمرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من

ص: 125


1- سنن أبي داوود، كتاب المهديّ، ج، حديث 4279.
2- سنن الترمذيّ، ج 4، ح 2223.
3- مسند أحمدبن حنبل، ج 5، ص 90، والرواية عن جابر بن سمرة، في الحديث رقم 33.
4- المستدرك على الصحيحين، الحاكم، ج 3، ص 68.
5- تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطيّ، ص 10.

قريش»(1).

وروي المتقي الهندي في كتابه كنز العمّال عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لايزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها»(2).

وقد ذكر الشيخ الحرّ العامليّ في كتابه إثبات الهداة مائتين وثمانية وسبعين حديثاً يستعرض الأئمّة الاثني عشر منقولاً عن طرق أهل السنّة.

وبناء على هذا:

فإنّ وجود هذا الكمّ الهائل من طرق السند لهذا الحديث في المصادر الحديثيّة لأهل السنّة يؤكّد صحّة هذا الحديث، ويشيّد تواتراً، أو استفاضة له؛ بلا أدنى شكّ.

فعندما يُخبر الرسول (صلى الله عليه وآله) بالغيب عن إمامة اثني عشر أميراً بهذا النحو؛ فهذا يدلّ على إمامة أهل بيته :؛ لأنّ الأمراء الذين تعاقبوا على كرسيّ السلطة على طول التاريخ الإسلاميّ قد فاق عددهم الاثني عشر؛ فيصبح من الواضح حينها أنّ المقصود من الأمراء هاهنا خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحقّ.

وإنّ هذا الخبر يتحدّث عن الأمّة الإسلاميّة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلى يوم القيامة؛ لذا وجب أن يكون عمر أحدهم أطول من المعتاد حتى يتحقّق

ص: 126


1- تاريخ بغداد، الخطيب البغداديّ، ج 14، ص 353.
2- كنز العمال، المتّقي الهنديّ، ج 12، ص 34.

مفاد الحديث وتستطيل مدّة الأمراء إلى يوم القيامة.))(1)

ولقد أطبقت كلمة الإمامية الاثني عشرية على أن المقصود من هؤلاء الاثني عشر أميرًا أو خليفةً هم الأئمة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبنائه المعصومين (عليهم السلام)، وانطباق الأحاديث هذه عليهم (عليهم السلام) لا يحتاج إلى تكلف عناء، ولا تأويل، ولا مجازية، بل هو انطباق بتمام معنى الكلمة.

والجدير بالذكر أنّ بعض كبار علماء العامّة رووا رأي الشيعة في بيان مصاديق الأمراء الاثني عشر؛ ((فقد روى الإمام الجويني عن عبدالله بن عبّاس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا سيّد النبيّين وعليّ بن أبي طالب سيّد الوصيّين وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر؛ أوّلهم علي بن أبي طالب وآخرهم المهديّ»(2)

وروى أيضاً بسند آخر؛ أنّ الراوي قال: «أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين؛ مطهّرون ومعصومون»(3)...

وروى أيضاً عن ابن عبّاس أنّه قال: «سألتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين حضرته وفاته فقلت: يا رسول الله! إذا كان ما نعوذ بالله منه فإلى من؟ فأشار إلى عليّ (عليه السلام) فقال: إلى هذا؛ فإنّه مع الحقّ، والحقّ معه، ثمّ يكون من بعده أحد

ص: 127


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 206 – 209.
2- فرائد السمطين، الجوينيّ، ج 2 ب 61 ح 564. وفيه ذات السند لكنّه ورد بهذه الصيغة: «أنا سيد المرسلين، وعليّ ابن أبي طالب سيّد الوصيين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر؛ أوّلهم: عليّ بن ابي طالب، وآخرهم: القائم».
3- المصدر السابق، حديث 563.

عشر إماماً مفترضة طاعتهم كطاعته»(1).

وروى القندوزيّ الحنفيّ في ينابيع المودّة عن عباية بن ربعي عن جابر أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا سيّد النبيّين وعلي سيّد الوصيّين، وإنّ الأوصياء بعدي اثنا عشر؛ أوّلهم علي وآخرهم القائم المهدي»(2).

كما روى أيضاً في ينابيع المودّة عن بعض المحققين: «إنّ الأحاديث الدالّة على كون الخلفاء بعده (صلى الله عليه وآله) اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة... فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان، عُلِم أنّ مراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حديثه هذا؛ الأئمّة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلّتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأمويّة لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم من غير بني هاشم، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «كلّهم من بني هاشم»(3).))(4)

هذا بالإضافة إلى تصريح رواياتنا الخاصة بهذه الحقيقة، فقد روي عن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: «لما أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على نبيّه محمد (صلى الله عليه وآله) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ

ص: 128


1- المصدر السابق.
2- ينابيع المودّة، القندوزيّ الحنفيّ، ج 3، الباب 77، وراجع أيضاً: الأبواب: 76، 94، 93، 98.
3- ينابيع المودّة، القندوزيّ الحنفيّ، ج 3، الباب 77، وراجع أيضاً: الأبواب: 76، 94، 93، 98.
4- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 216 - 218

الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾(1) قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلى الله عليه وآله): هم خلفائي يا جابر، وأئمّة المسلمين [من] بعدي؛ أوّلهم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمد بن علي، ثمّ علي بن محمد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة الله في أرضه، وبقيّته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الارض ومغاربها... »(2).

وقد روي عن الصحابيّ زيد بن أرقم أنّه سمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول لعليّ (عليه السلام):

«أنت الإمام والخليفة بعدي، وابناك هذان إمامان، وسيّدا شباب أهل الجنّة، وتسعة من صلب الحسين أئمّة معصومون، ومنهم قائمنا أهل البيت...»(3).

ولقد واجه المنكرون لإمامة أهل البيت (عليهم السلام) مشكلة عويصة في تخريج هذا الحديث وتطبيقه على أئمتهم، فاختلفت كلماتهم في تعداد الاثني عشر، والبعض منهم استسلم واعترف بعدم تمكّنه من بيان هذا الحديث، ولو رجع إلى وجدانه لوجد أن تفسيره واضح جدًا بأهل البيت (عليهم السلام)، ولكن ران على قلوبهم.

ص: 129


1- سورة النساء: 59.
2- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق،ج 1، ص 253 باب 23 ح 3.
3- كفاية الأثر، القمّي الرازي، ح 64، ص 177.

فلاحِظْ مثلًا ما ذكره ابن حجر(1) ما نصه: قال ابن بطال عن المهلّب: لم ألق أحدًا يقطع في هذا الحديث، يعني بشيء معين، فقوم قالوا: يكونون بتوالي إمارتهم، وقوم قالوا: يكونون في زمن واحد، كلهم يدعي الإمارة، قال: والذي يغلب على الظن أنه (عليه الصلاة والسلام) أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميرًا. قال: ولو أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميرًا يفعلون كذا، فلما أعراهم من الخبر عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد. انتهى.

ثم قال ابن حجر: وهو كلامُ مَنْ لم يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة...

وأغرب من هذا ما نقله ابن حجر أيضًا فقال: قال أبو الحسين بن المنادي في الجزء الذي جمعه في المهدي: يحتمل في معنى حديث يكون اثنا عشر خليفة أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فقد وجدت في كتاب دانيال: إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر، ثم يملك بعده ولدُه، فيتُمّ بذلك اثنا عشر ملكًا، كل واحد منهم إمام مهدي.(2)

فإن هذا الكلام لا دليل عليه، وهل ضاقت بنا السبل لنستمع إلى نقله

ص: 130


1- فتح الباري لابن حجر ج13 ص 182.
2- فتح الباري لابن حجر ج13 ص 184.

عن كتاب (دانيال)!

ومن الغريب أيضًا ما ذكره ابن كثير في بيان هؤلاء الاثني عشر، فقال بعد أن ذكر حديث الاثني عشر خليفة: « ومعنى هذا الحديث: البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحًا يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذَكَر أنه يواطئ اسمه اسم النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هوس العقول السخيفة وتوهم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر: الأئمة الاثنا عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشر[ية] من الروافض؛ لجهلهم وقلة عقلهم، وفي التوراة البشارة بإسماعيل (عليه السلام) وأن يقيم من صلبه اثني عشر عظيمًا وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة، وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر، فيتشيع كثير منهم جهلًا وسفهًا لقلة علمهم وعلم من لقّنهم ذلك

ص: 131

بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم»(1).

إن هذا الكلام غريب جدًا، ونبرة النصب والعداء لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم واضحة فيه، وكأنه ظنّ أنْ لا أحد عنده اطلاع بالتاريخ وبروايات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليردّ عليه أباطيل كلامه، إذ الوهن واضح في أكثر من جهة، منها:

1/ أن ظاهر حديث الأئمة الاثني عشر أنهم متوالون، وهذا ما فهمه حتى علماء العامة، وليس كما احتمله ابن كثير.2/على أنه مع ذلك لم يستطع تحديد هؤلاء الاثني عشر ولو كانوا متفرقين، بل اكتفى بذكر الأربعة وعمر بن عبد العزيز وبعض بني العباس والمهدي، وما ذاك إلا لخلو وفاضه من علم ومعرفة.

3/ لا أحد من الشيعة الاثني عشرية يقول بأن المهدي يظهر من السرداب، وعلى من يدّعي ذلك على الشيعة أن يأتي ولو بكلمة واحدة عن علمائهم تثبت ذلك، على أنه لا ندري ما الداعي الذي جعله يسترسل بالحديث عن مهدي الشيعة وأئمتهم الاثني عشر وذمّ شيعتهم؛ إلا البغض والعداء السافر، عليه ما عليه.

4/ أن حديث (اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي) حديث ضعيف بل موضوع فيه، أي إنه قد زيد فيه.

ص: 132


1- تفسير ابن كثير، ج 2، ص 34.

وقد نقد بعض كبار علمائهم هذه الزيادة كالشافعي حيث قال: (أخبرنا الحافظ أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم الآبري في كتاب مناقب الشافعي ذكر الحديث وقال فيه: (وزائدة في روايته) لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً).(1)

قلت [والكلام للشافعي]: وذكر الترمذي الحديث ولم يذكر قوله (واسم أبيه واسم أبي) وقال في مشكاة المصابيح: رواه الترمذي وأبو داود وليس فيه (واسم أبيه اسم أبي).(2)

وفي معظم روايات الحفاظ والثقات من نقلة الأخبار (اسمه اسمي) فقط، والذي روى (اسم أبيه اسم أبي) (فهو زائدة، وهو يزيد في الحديث) والقول الفصل في ذلك أن الإمام أحمد مع ضبطه وإتقانه دوّن هذا الحديث في مسنده في عدّة مواضع (واسمه اسمي). انتهى قول الشافعي...(3)

وغيرها من نقاط الضعف الواضحة للمتمعّن المنصف.(4)

ص: 133


1- البيان للشافعي: ص482.
2- مشكاة المصابيح: 3/ 24.
3- هذا الجواب عن الحديث من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه).
4- لزيادة الإيضاح نذكر هنا ما جاء في هامش كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص181 تحقيق: الشيخ عباد الله الطهراني ، الشيخ علي أحمد ناصح، ما نصه: لهذا الخبر في مؤلفات العامة والخاصة وأخبارهم طرق متعددة، وقوله (اسم أبيه اسم أبي) من الزيادات في بعضها وليس في بعضها الأخرى، وقد تعرض له من علماء الفريقين جماعة، وقيل فيه وجوه: الأول: ما عن كشف الغمة: 2 / 477 قال: أما أصحابنا الشيعة فلا يصححون هذا الحديث لما ثبت عندهم من اسمه واسم أبيه. الثاني: ما عن كشف الغمة أيضا ج 2 / 477: وأما الجمهور فقد نقلوا أن زائدة كان يزيد في الأحاديث، فوجب المصير إلى أنه من زيادته، ليكون جمعا بين الأقوال والروايات. وقد نقل في كشف الغمة: 2 / 476 بياناً جيداً في تأويل الرواية من بيان الكنجي الشافعي باب 1. الثالث: ذكره في كشف الغمة أيضا: 2 / 441 - 445 نقلا من مطالب السئول: 2 / 85 – 88 بيانا مفصلاً خلاصته: احتمال أن يكون قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (واسم أبيه اسم ابني) أي الحسن (عليه السلام). فإن تعبيره (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه بابني، وعنه وعن أخيه الحسين (عليهما السلام) بابني في نهاية الكثرة في أخبار الفريقين، فتوهم فيه الراوي فصحف ابني (بأبي). الرابع: ما في البحار: 51 / 103 أقول: ذكر بعض المعاصرين فيه وجها آخر وهو: أن كنية الحسن العسكري (عليه السلام)، أبو محمد، و عبد الله أبو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كنيته أبو محمد، فتتوافق الكنيتان والكنية داخلة تحت الاسم، والأظهر كون (أبي) مصحف (ابني). الخامس: ما في كشف الغمة أيضا: 2 / 442 نقلا من ابن طلحة من أنه مهد مقدمتين: الأولى: أنه سايغ شايع في لسان العرب إطلاق لفظة الأب على الجد الاعلى كقوله تعالى في سورة الحج: 78 (ملة أبيكم إبراهيم) وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام في سورة يوسف: 38 (اتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق). وفي حديث الاسراء كما في تفسير القمي: 2 / 9 أن جبرئيل (عليه السلام) قال: هذا أبوك إبراهيم عليه السلام. والثانية: أن لفظة الاسم تطلق على الكنية وعلى الصفة كما روى البخاري في صحيحه: الجزء 5 / 23 ومسلم أيضا في صحيحه: 4 / 1874 ح 38 وعنهما البحار: 35 / 65. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمى علياً (عليه السلام) أبا تراب ولم يكن اسم أحب إليه منه، فأطلق لفظ الاسم على الكنية. ثم قال: ولما كان الحجة الخلف الصالح محمد (عليه السلام) من ولد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، أطلق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الكنية لفظ الاسم إشارة إلى أنه من ولد الحسين (عليه السلام)، بطريق جامع موجز.

وعلى كل حال، فأحاديث الخلفاء الاثني عشر، واضحة في النص على الأئمة (عليهم السلام)، ولا ينكرها إلا مريض القلب أو معاند للحق.

النص الثاني: حديث اللوح

وهو من الأحاديث المعتبرة والدالة بكل وضوح على النص على

ص: 134

الأئمة (عليهم السلام)، ولا يحتاج الاستدلال به إلى أكثر من قراءته، وفيه العديد من الفوائد التي تظهر عند التمعّن فيه، ونصُّه هو التالي:

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَبِي لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيِّ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَمَتَى يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ أَخْلُوَ بِكَ فَأَسْأَلَكَ عَنْهَا. فَقَالَ لَه جَابِرٌ: أَيَّ الأَوْقَاتِ أَحْبَبْتَه. فَخَلَا بِه فِي بَعْضِ الأَيَّامِ فَقَالَ لَه: يَا جَابِرُ، أَخْبِرْنِي عَنِ اللَّوْحِ الَّذِي رَأَيْتَه فِي يَدِ أُمِّي فَاطِمَةَ (عليها السلام) بِنْتِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) ومَا أَخْبَرَتْكَ بِه أُمِّي أَنَّه فِي ذَلِكَ اللَّوْحِ مَكْتُوبٌ؟

فَقَالَ جَابِرٌ: أَشْهَدُ بِالله أَنِّي دَخَلْتُ عَلَى أُمِّكَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فِي حَيَاةِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) فَهَنَّيْتُهَا بِوِلَادَةِ الْحُسَيْنِ ورَأَيْتُ فِي يَدَيْهَا لَوْحاً أَخْضَرَ ظَنَنْتُ أَنَّه مِنْ زُمُرُّدٍ، ورَأَيْتُ فِيه كِتَاباً أَبْيَضَ شِبْه لَوْنِ الشَّمْسِ، فَقُلْتُ لَهَا: بِأَبِي وأُمِّي يَا بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، مَا هَذَا اللَّوْحُ؟ فَقَالَتْ: هَذَا لَوْحٌ أَهْدَاه الله إِلَى رَسُولِه (صلى الله عليه وآله) فِيه اسْمُ أَبِي واسْمُ بَعْلِي، واسْمُ ابْنَيَّ، واسْمُ الأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِي، وأَعْطَانِيه أَبِي لِيُبَشِّرَنِي بِذَلِكَ.

قَالَ جَابِرٌ: فَأَعْطَتْنِيه أُمُّكَ فَاطِمَةُ (عليها السلام) فَقَرَأْتُه واسْتَنْسَخْتُه.

فَقَالَ لَه أَبِي: فَهَلْ لَكَ يَا جَابِرُ أَنْ تَعْرِضَه عَلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَمَشَى مَعَه أَبِي إِلَى مَنْزِلِ جَابِرٍ فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مِنْ رَقٍّ، فَقَالَ: يَا جَابِرُ انْظُرْ فِي كِتَابِكَ لأَقْرَأَ أَنَا عَلَيْكَ، فَنَظَرَ جَابِرٌ فِي نُسْخَةٍ فَقَرَأَه أَبِي فَمَا خَالَفَ حَرْفٌ حَرْفاً. فَقَالَ جَابِرٌ: فَأَشْهَدُ بِالله أَنِّي هَكَذَا رَأَيْتُه فِي اللَّوْحِ مَكْتُوباً.

ص: 135

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هَذَا كِتَابٌ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، لِمُحَمَّدٍ نَبِيِّه ونُورِه وسَفِيرِه وحِجَابِه ودَلِيلِه، نَزَلَ بِه الرُّوحُ الأَمِينُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عَظِّمْ يَا مُحَمَّدُ أَسْمَائِي، واشْكُرْ نَعْمَائِي، ولَا تَجْحَدْ آلَائِي، إِنِّي أَنَا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنَا، قَاصِمُ الْجَبَّارِينَ ومُدِيلُ الْمَظْلُومِينَ ودَيَّانُ الدِّينِ، إِنِّي أَنَا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنَا، فَمَنْ رَجَا غَيْرَ فَضْلِي أَوْ خَافَ غَيْرَ عَدْلِي عَذَّبْتُه عَذَاباً لَا أُعَذِّبُه أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ، وعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ نَبِيّاً فَأُكْمِلَتْ أَيَّامُه وانْقَضَتْ مُدَّتُه إِلَّا جَعَلْتُ لَه وَصِيّاً، وإِنِّي فَضَّلْتُكَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ، وفَضَّلْتُ وَصِيَّكَ عَلَى الأَوْصِيَاءِ، وأَكْرَمْتُكَ بِشِبْلَيْكَ وسِبْطَيْكَ حَسَنٍ وحُسَيْنٍ، فَجَعَلْتُ حَسَناً مَعْدِنَ عِلْمِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أَبِيه، وجَعَلْتُ حُسَيْناً خَازِنَ وَحْيِي، وأَكْرَمْتُه بِالشَّهَادَةِ، وخَتَمْتُ لَه بِالسَّعَادَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مَنِ اسْتُشْهِدَ، وأَرْفَعُ الشُّهَدَاءِ دَرَجَةً، جَعَلْتُ كَلِمَتِيَ التَّامَّةَ مَعَه، وحُجَّتِيَ الْبَالِغَةَ عِنْدَه، بِعِتْرَتِه أُثِيبُ وأُعَاقِبُ.

أَوَّلُهُمْ عَلِيٌّ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ وزَيْنُ أَوْلِيَائِيَ الْمَاضِينَ.

وابْنُه شِبْه جَدِّه الْمَحْمُودِ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ، عِلْمِي والْمَعْدِنُ لِحِكْمَتِي.

سَيَهْلِكُ الْمُرْتَابُونَ فِي جَعْفَرٍ، الرَّادُّ عَلَيْه كَالرَّادِّ عَلَيَّ، حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأُكْرِمَنَّ مَثْوَى جَعْفَر، ولأَسُرَّنَّه فِي أَشْيَاعِه وأَنْصَارِه وأَوْلِيَائِه.

أُتِيحَتْ بَعْدَه مُوسَى فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ حِنْدِسٌ، لأَنَّ خَيْطَ فَرْضِي لَا يَنْقَطِعُ،

ص: 136

وحُجَّتِي لَا تَخْفَى، وأَنَّ أَوْلِيَائِي يُسْقَوْنَ بِالْكَأْسِ الأَوْفَى، مَنْ جَحَدَ وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَدْ جَحَدَ نِعْمَتِي، ومَنْ غَيَّرَ آيَةً مِنْ كِتَابِي فَقَدِ افْتَرَى عَلَيَّ.

وَيْلٌ لِلْمُفْتَرِينَ الْجَاحِدِينَ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ مُوسَى عَبْدِي وحَبِيبِي وخِيَرَتِي فِي عَلِيٍّ، وَلِيِّي ونَاصِرِي، ومَنْ أَضَعُ عَلَيْه أَعْبَاءَ النُّبُوَّةِ، وأَمْتَحِنُه بِالاضْطِلَاعِ بِهَا، يَقْتُلُه عِفْرِيتٌ مُسْتَكْبِرٌ، يُدْفَنُ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ إِلَى جَنْبِ شَرِّ خَلْقِي.

حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَسُرَّنَّه بِمُحَمَّدٍ ابْنِه وخَلِيفَتِه مِنْ بَعْدِه، ووَارِثِ عِلْمِه، فَهُوَ مَعْدِنُ عِلْمِي ومَوْضِعُ سِرِّي وحُجَّتِي عَلَى خَلْقِي، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ بِه إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَثْوَاه، وشَفَّعْتُه فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِه، كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ.

وأَخْتِمُ بِالسَّعَادَةِ لِابْنِه عَلِيٍّ وَلِيِّي ونَاصِرِي والشَّاهِدِ فِي خَلْقِي وأَمِينِي عَلَى وَحْيِي.

أُخْرِجُ مِنْه الدَّاعِيَ إِلَى سَبِيلِي والْخَازِنَ لِعِلْمِيَ الْحَسَنَ.

وأُكْمِلُ ذَلِكَ بِابْنِه محمد رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، عَلَيْه كَمَالُ مُوسَى وبَهَاءُ عِيسَى وصَبْرُ أَيُّوبَ، فَيُذَلُّ أَوْلِيَائِي فِي زَمَانِه، وتُتَهَادَى رُؤُوسُهُمْ كَمَا تُتَهَادَى رُؤُوسُ التُّرْكِ والدَّيْلَمِ، فَيُقْتَلُونَ ويُحْرَقُونَ ويَكُونُونَ خَائِفِينَ مَرْعُوبِينَ وَجِلِينَ، تُصْبَغُ الأَرْضُ بِدِمَائِهِمْ، ويَفْشُو الْوَيْلُ والرَّنَّةُ فِي نِسَائِهِمْ، أُولَئِكَ أَوْلِيَائِي حَقّاً، بِهِمْ أَدْفَعُ كُلَّ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ حِنْدِسٍ، وبِهِمْ أَكْشِفُ الزَّلَازِلَ، وأَدْفَعُ الآصَارَ والأَغْلَالَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.

ص: 137

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَالِمٍ: قَالَ أَبُو بَصِيرٍ: لَوْ لَمْ تَسْمَعْ فِي دَهْرِكَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ لَكَفَاكَ، فَصُنْه إِلَّا عَنْ أَهْلِه.(1)

النص الثالث

عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: شَهِدْتُ وَصِيَّةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) حِينَ أَوْصَى إِلَى ابْنِه الْحَسَنِ (عليه السلام) وأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِه الْحُسَيْنَ (عليه السلام) ومُحَمَّداً وجَمِيعَ وُلْدِه ورُؤَسَاءَ شِيعَتِه وأَهْلَ بَيْتِه، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْه الْكِتَابَ والسِّلَاحَ وقَالَ لِابْنِه الْحَسَنِ (عليه السلام): يَا بُنَيَّ، أَمَرَنِي رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَنْ أُوصِيَ إِلَيْكَ وأَنْ أَدْفَعَ إِلَيْكَ كُتُبِي وسِلَاحِي كَمَا أَوْصَى إِلَيَّ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) ودَفَعَ إِلَيَّ كُتُبَه وسِلَاحَه، وأَمَرَنِي أَنْ آمُرَكَ إِذَا حَضَرَكَ الْمَوْتُ أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَى أَخِيكَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ابْنِه الْحُسَيْنِ (عليه السلام) فَقَالَ: وأَمَرَكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَى ابْنِكَ هَذَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام): وأَمَرَكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَى ابْنِكَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وأَقْرِأْه مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) ومِنِّي السَّلَامَ.(2)

النص الرابع

عَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: فَرَضَ الله عَزَّ وجَلَّ عَلَى الْعِبَادِ خَمْساً أَخَذُوا أَرْبَعاً وتَرَكُوا وَاحِداً.

قُلْتُ أتُسَمِّيهِنَّ لِي جُعِلْتُ فِدَاكَ؟

فَقَالَ (عليه السلام): الصَّلَاةُ، وكَانَ النَّاسُ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يُصَلُّونَ، فَنَزَلَ

ص: 138


1- الكافي للكليني ج1 ص 527 – 528 بَابُ مَا جَاءَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ والنَّصِّ عَلَيْهِمْ (عليهم السلام)/ ح3.
2- الكافي للكليني ج1 ص 297 – 298 بَابُ الإِشَارَةِ والنَّصِّ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام) ح1.

جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْهُمْ بِمَوَاقِيتِ صَلَاتِهِمْ.

ثُمَّ نَزَلَتِ الزَّكَاةُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْهُمْ مِنْ زَكَاتِهِمْ مَا أَخْبَرْتَهُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ.

ثُمَّ نَزَلَ الصَّوْمُ، فَكَانَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) إِذَا كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ بَعَثَ إِلَى مَا حَوْلَه مِنَ الْقُرَى فَصَامُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ بَيْنَ شَعْبَانَ وشَوَّالٍ.

ثُمَّ نَزَلَ الْحَجُّ فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فَقَالَ: أَخْبِرْهُمْ مِنْ حَجِّهِمْ مَا أَخْبَرْتَهُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ وزَكَاتِهِمْ وصَوْمِهِمْ.

ثُمَّ نَزَلَتِ الْوَلَايَةُ، وإِنَّمَا أَتَاه ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ، أَنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) وكَانَ كَمَالُ الدِّينِ بِوَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله): أُمَّتِي حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، ومَتَى أَخْبَرْتُهُمْ بِهَذَا فِي ابْنِ عَمِّي يَقُولُ قَائِلٌ ويَقُولُ قَائِلٌ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْطِقَ بِه لِسَانِي، فَأَتَتْنِي عَزِيمَةٌ مِنَ الله عَزَّ وجَلَّ بَتْلَةً [أي مقطوعة]، أَوْعَدَنِي إِنْ لَمْ أُبَلِّغْ أَنْ يُعَذِّبَنِي فَنَزَلَتْ: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَه والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)، فَأَخَذَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) بِيَدِ عَلِيٍّ (عليه السلام) فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّه لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلِي إِلَّا وقَدْ عَمَّرَه الله، ثُمَّ دَعَاه فَأَجَابَه، فَأَوْشَكَ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وأَنَا مَسْؤُولٌ وأَنْتُمْ مَسْؤُولُونَ، فَمَا ذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟

فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ ونَصَحْتَ وأَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ، فَجَزَاكَ الله

ص: 139

أَفْضَلَ جَزَاءِ الْمُرْسَلِينَ.

فَقَالَ(صلى الله عليه وآله): اللَّهُمَّ اشْهَدْ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا وَلِيُّكُمْ مِنْ بَعْدِي فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِب.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): كَانَ والله عَلِيٌّ (عليه السلام) أَمِينَ الله عَلَى خَلْقِه وغَيْبِه ودِينِه الَّذِي ارْتَضَاه لِنَفْسِه.

ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) حَضَرَه الَّذِي حَضَرَ، فَدَعَا عَلِيّاً فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَئْتَمِنَكَ عَلَى مَا ائْتَمَنَنِيَ الله عَلَيْه مِنْ غَيْبِه وعِلْمِه ومِنْ خَلْقِه ومِنْ دِينِه الَّذِي ارْتَضَاه لِنَفْسِه، فَلَمْ يُشْرِكْ والله فِيهَا يَا زِيَادُ أَحَداً مِنَ الْخَلْقِ.

ثُمَّ إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) حَضَرَه الَّذِي حَضَرَه، فَدَعَا وُلْدَه وكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ذَكَراً، فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِيَّ إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قَدْ أَبَى إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ فِيَّ سُنَّةً مِنْ يَعْقُوبَ، وإِنَّ يَعْقُوبَ دَعَا وُلْدَه وكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ذَكَراً، فَأَخْبَرَهُمْ بِصَاحِبِهِمْ، أَلَا وإِنِّي أُخْبِرُكُمْ بِصَاحِبِكُمْ، أَلَا إِنَّ هَذَيْنِ ابْنَا رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) - الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (عليهما السلام)، فَاسْمَعُوا لَهُمَا وأَطِيعُوا ووَازِرُوهُمَا، فَإِنِّي قَدِ ائْتَمَنْتُهُمَا عَلَى مَا ائْتَمَنَنِي عَلَيْه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) مِمَّا ائْتَمَنَه الله عَلَيْه مِنْ خَلْقِه ومِنْ غَيْبِه ومِنْ دِينِه الَّذِي ارْتَضَاه لِنَفْسِه. فَأَوْجَبَ الله لَهُمَا مِنْ عَلِيٍّ (عليه السلام) مَا أَوْجَبَ لِعَلِيٍّ (عليه السلام) مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، فَلَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ مِنْهُمَا فَضْلٌ عَلَى صَاحِبِه إِلَّا بِكِبَرِه، وإِنَّ الْحُسَيْنَ كَانَ إِذَا حَضَرَ الْحَسَنُ لَمْ يَنْطِقْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حَتَّى يَقُومَ.

ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ (عليه السلام) حَضَرَه الَّذِي حَضَرَه، فَسَلَّمَ ذَلِكَ إِلَى الْحُسَيْنِ (عليه السلام).

ص: 140

ثُمَّ إِنَّ حُسَيْناً (عليه السلام) حَضَرَه الَّذِي حَضَرَه فَدَعَا ابْنَتَه الْكُبْرَى فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ (عليها السلام) فَدَفَعَ إِلَيْهَا كِتَاباً مَلْفُوفاً ووَصِيَّةً ظَاهِرَةً وكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) مَبْطُوناً لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّه لِمَا بِه فَدَفَعَتْ فَاطِمَةُ الْكِتَابَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)، ثُمَّ صَارَ والله ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَيْنَا.(1)

ونكتفي بهذا القدر من النصوص الواضحة.(2)

إشارات
الإشارة الأولى: شكلان لمقولة النص
اشارة

إن مقولة الشيعة بالنص في الإمامة باتت ثابتاً من ثوابتهم، تماماً كما أن النبوة لا تثبت إلا بالنص، في قبال المخالفين الذين قبلوا شرعية الإمامة بمنطق الأمر الواقع، وهو قد يكون شورى أو تعيين أو غلبة بالسيف، فما وقع – أي إذا وصل شخص – أي شخص – إلى كرسي الحكم - فهو شرعي!

على أن مقولة الشيعة بالنص جاءت بشكلين:

1/ وجود النص

وهذا الشكل سدّ الطريق عملياً أمام اللجوء إلى البدائل، كالانتخاب وغيره من الوسائل التي أنتجها الفكر البشري لاختيار الحاكم، فما دام النص

ص: 141


1- الكافي للكليني ج1 ص 290 - 291 بَابُ مَا نَصَّ الله عَزَّ وجَلَّ ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً فَوَاحِداً – ح6.
2- ومن أحب الاستزادة فليرجع إلى كتاب الكافي للكليني ج1 حيث ذكر أبوابًا متعددة في النص على كل واحد من أئمتنا (صلوات الله عليهم أجمعين).

موجوداً فالأولوية له على جميع البدائل. ولا يستطيع أحد أن يختار البديل مع اعترافه بوجود النص، ولذا حاول المخالف التلاعب بالنص أو بدلالته أو إنكاره أصلاً، أما من اعترف بوجوده فلا يمكنه الانتقال إلى البدائل.

2/ ضرورة النص

على حدّ الضرورة التي تقال في المعجزة للنبي، وذلك لأن المعجزة إنما كانت للنبي لإثبات البعد الخارق في شخصيته(1)،

وهذا البعد لا يمكن معرفته بالوسائل الطبيعية، وتأكيد الشيعة على ضرورة النص يشير إلى اعترافهم بوجود بُعْدٍ خارق وخارج عن المألوف في شخصية الإمام بحيث لا يمكن معرفتها بالوسائل المتاحة. فيأتي النص ليوضّح ذلك البعد وغيره في شخصية الإمام.وهذا ما يبين إصرار الشيعة على ضرورة النص على الإمام...

الإشارة الثانية: النص أحد الأدلة لا الدليل الحصري

لا تعني مقولة النص – التي تبناها الفكر الإمامي بقوة– أن قضية الإمامة تعبّدية محضة مجهولة المعيار، بل لها معيارها الخاص الذي يمكن للعقل أن يكتنه حقيقته.

وبعبارة أكثر تفصيلاً:

ليس النص هو الدليل المنحصر لإثبات إمامة الأئمة (عليهم السلام)، وإنما هو

ص: 142


1- بالإضافة إلى إثبات ارتباطه بالسماء وصدق دعواه.

واحد من تلك الطرق الكثيرة، نعم هو أعمُّها، تماماً كما اشترطنا في النبي المعجزة كدليل يُثبت ادّعاءه، ولكن هذا لا يعني انحصار الدليل على ذلك بها، وإنما توجد طرق أخرى تدل على ذلك، فمثلاً صفات المدّعي الخُلُقية التي عُرف بها زمناً طويلاً يمكن أن تدل على صدق مدعاه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حيث كان معروفاً بالصادق الأمين لأربعين سنة قبل أن يُظهر دعوته، وهذا يمكن أن يدل على صدق مدعاه.

وهكذا الحال في النص، فليس هو الطريق المنحصر للدلالة على إمامة علي (عليه السلام) وأولاده (عليهم السلام)، فحتى لو فرضنا عدم وجود نصٍّ أصلاً يدل على ذلك، فيمكن للعقل أن يحكم بلزوم إمامته لما يراه من أوصاف اعترف بها القاصي والداني له (عليه السلام) تؤهله لمنصب الإمامة دون غيره، فهو(عليه السلام) أشجع القوم وأعدلهم وأحكمهم وأزهدهم وأصدقهم... وهو تربى في حجر النبي (صلى الله عليه وآله)، وعاشره إلى أن توفاه الله تعالى، وهو الذي قال عنه عمر (لولا علي لهلك عمر)(1)،

وقال عنه عثمان (لولا علي لهلك عثمان)(2)

وقال عنه عمر (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن)


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج12 ص 179 وغيره من المصادر.
2- الغدير للشيخ الأميني ج8 ص 214 قال: أخرج الحافظ العاصمي في كتابه (زين الفتى في شرح سورة هل أتى) من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن محمشاد يرفعه: أن رجلا أتى عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت فقال: إنكم تزعمون النار يعرض على هذا و إنه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحس منها حرارة النار. فسكت عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضى يستحضره، فلما أتاه وهو في ملأ من أصحابه قال للرجل: أعد المسألة. فأعادها، ثم قال عثمان بن عفان: أجب الرجل عنها يا أبا الحسن! فقال علي: ايتوني بزند وحجر. والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدح منهما النار، ثم قال للرجل: ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ثم قال: ضع يدك على الزند. فوضعها عليه فقال: هل أحسست منهما حرارة النار فبهت الرجل فقال عثمان: لولا علي لهلك عثمان.

أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن.(1)يقول ابن أبي الحديد في مقدمة شرحه على نهج البلاغة ج1 ص 3: (وقدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف)! ولكنه في ج1 ص 113 يقول: (ولما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح، علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت وفيما بعده.)

ثم في شرحه لخطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) ج2 ص 295 – 297 التي أولها: (فقمت بالأمر حين فشلوا، وتطلعت حين تقبعوا، ونطقت حين تعتعوا...) يقول في نهاية كلامه عنها:

الفصل الرابع: وهو من قوله : فنظرت في أمري إلى آخر الكلام، هذه كلمات مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنه كان معهودا إليه ألا ينازع في الامر ولا يثير فتنة، بل يطلبه بالرفق، فإن حصل له وإلا أمسك. هكذا كان يقول ( عليه السلام )، وقوله الحق، وتأويل هذه الكلمات : فنظرت فإذا طاعتي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، أي وجوب طاعتي، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. قد سبقت بيعتي للقوم، أي وجوب طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على، ووجوب امتثالي أمره سابق على بيعتي للقوم، فلا سبيل لي إلى الامتناع من البيعة لأنه (صلى الله عليه وآله) أمرني بها. وإذا الميثاق في عنقي لغيري، أي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ على الميثاق بترك الشقاق والمنازعة، فلم يحل لي أن أتعدى أمره، أو أخالف نهيه.

فإن قيل : فهذا تصريح بمذهب الإمامية.

قيل : ليس الامر كذلك، بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديين، لأنهم يزعمون أنه الأفضل والأحق بالإمامة، وأنه لولا ما يعلمه الله ورسوله من أن الأصلح للمكلفين من تقديم المفضول عليه، لكان من تقدم عليه هالكا، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره أن الإمامة حقه، وأنه أولى بها من الناس أجمعين، وأعلمه أن في تقديم غيره وصبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلفين، وأنه يجب عليه أن يمسك عن طلبها، ويغضي عنها لمن هو دون مرتبته، فامتثل ما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل والأولى والأحق. وقد صرح شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى بهذا وصرح به تلامذته، وقالوا : لو نازع عقيب وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنه مالك الامر، وصاحب الخلافة، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : ( على مع الحق، والحق مع علي، يدور حيثما دار، ) وقال له غير مرة : ( حربك حربي وسلمك سلمى ).

وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي، وبه أقول. انتهى.

أقول: أنت ترى أن حديثه متناقض، فبينا يقول بقبح تقديم المفضول على الفاضل في قضية النبي آدم (عليه السلام) والملائكة، ويعترف بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الأفضل، لكنه يُقدم غيره عليه معترفًا بأنه أُمر من النبي (صلى الله عليه وآله) أن لا يُنازع من يأخذها منه رغم أنه (صلى الله عليه وآله) صرّح بأنه هو الخليفة، ولعمري أن الاقتناع بهذه التناقضات من شيم الحمقى...


1- ... وعشرات في هذا الشأن، والعقل إذا رأى هكذا مواصفات في شخص، حَكم بلزوم تقديمه على غيره، بل هذا هو المنحى العام للإنسانية، فالإنسان دائماً يبحث عن الأفضل ليقدمه على غيره، وما ظاهرة الانتخابات إلا مظهر من مظاهر البحث عن الأفضل! والمخالف وإن اعترف بهذه الصفات في الإمام علي (عليه السلام)، ولكنه أنكر ضرورة تقديمه حتى لو كان هو الأفضل، وجوّز تقديم المفضول على الفاضل

الشرعي، وهذا يعني أن الخلاف ليس في الصغرى وأن عليًا هو الأفضل، بل على الكبرى (وهي لزوم تقديم الفاضل على المفضول)! وعدم اعتراف المخالف بها مخالفة صريحة ليس لحكم العقل فقط، وإنما للطبيعة الإنسانية عموماً!

وعلى كل حال، فالدليل على الإمامة هو النص، لأن هذا الذي ذكرناه هو تبع الظاهر، فيبقى النص هو الدليل الأعم، نعم، على مباني السنة، حيث لا يقولون بالنص، فهذا المطلب ينفع كثيراً في إثبات إمامتهم (عليهم السلام).

ص: 145

الإشارة الثالثة: بُعدان في النص على الإمام
اشارة

إن النص على الإمام يحمل بعدين:

البعد الأول: التعيين والنصب المباشر من الله تعالى

وهذا البعد يعبر عن أن قضية النصب لم تفوض إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فضلاً عن الأمة أو سياسة الأمر الواقع، وهذا هو ظاهر النصوص، قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)(1)

في قبال الرأي الآخر الذي افترض أن الشرعية للإمام تمنحها الأمة أو سياسة الأمر الواقع، أما الفكر الإمامي فقد اختزل دور الأمة في التجاوب وقبول الأمر الإلهي، وتمكين الإمام من أن يمارس دوره في إدارة وتدبير الأمة، وأما الشرعية فتُكتسب من جعل المولى تبارك وتعالى فقط.

البعد الثاني: الكشف عن ذوات الأئمة الطاهرة

التي تلبّست باختيارها بمؤهلات الإمامة والولاية، ومن تلك المؤهلات وعلى رأسها: العلم الخاص، ومن هنا تقدم في الإشارة السابقة أنه وعلى فرض عدم النص على إمامة الإمام علي (عليه السلام) فيمكن للعقل أن يحكم بلزوم إمامته (عليه السلام) لما امتلكه من كمالات انعدمت عند غيره، تلك الكمالات التي توفّرها لنا النصوص، فهذه النصوص توفر لنا الصغرى (أي تحديد الأفضل بشخص الإمام علي (عليه السلام)، ليحكم العقل بالكبرى (لزوم تقديم الأفضل)،

ص: 146


1- (36) من سورة الأحزاب.

والمخالف تنكّر للكبرى واعترف بالصغرى كما تقدم قبل قليل.

ومن هنا يمكن أن نفهم حديث أبي ذر (رضوان الله عليه) عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): من استعمل غلامًا في عصابة فيها من هو أرضى لله منه، فقد خان الله.(1)

حيث ذكر صاحب البحار هذا الحديث في باب أن الإمامة لا تكون إلا بالنص(2)، وأنت ترى أنه لا نص في هذا الحديث على إمامة الأئمة (عليهم السلام)، وهذا يعني أن ذكره في هذا الباب إشارة إلى ما ذكرناه من أن النص ليس مجهول الملاك، وإنما الملاك فيه هو توفّر الأئمة على كمالات كانوا بها أرضى لله تعالى من غيرهم، أهّلتهم لمنصب الإمامة والولاية، ولذلك كان تنصيب المفضول مع وجود الفاضل خيانة لله تعالى.

ومنه نفهم أيضاً حديث وفد اليمن الذي تقدم ذكره في آخر المقدمة السابعة من مقدمات الإمامة العامة.

على ضوء ذلك تبين أنه يمكن للعقل أو الروح اكتشاف تلك الذوات، ولو من دون نص خاص، وهو ما عبّر عنه النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله لأهل اليمن: عرفتم وصي رسول الله قبل أن تُعرَّفوه.

الإشارة الرابعة: قيمة النص والتعيين مع إمكان اكتشاف المعصوم بحكم العقل

ص: 147


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج1 ص 221.
2- بحار الأنوار - ج 23 - ص 75.

لو فرضنا إمكان اكتشاف تلك الذوات المقدسة من خلال طرق أخرى غير النص والتعيين –كما تقدم في الإشارة الثانية- ولكن هذا لا يُلغي أهمية التعيين وقيمة النص، بل تبقى قيمته المعرفية والمنهجية ثابتة، ويتبين ذلك من خلال التالي:

1 / أن التعيين جعلٌ إلهي من مقام المولوية، فيضفي قوة إلى قوة الواقع الذي يكتشفه العقل، وسلطنة في التعيين.

وبعبارة أبين: أن مثل تشريع الصلاة هو تابع للمصالح والمفاسد في المتعلقات، فلو أخبر الشارع عن المصلحة الملزمة في الصلاة، بأن قال: إن في الصلاة مصلحة يلزم الإتيان بها، لَحَكَمَ العقل بلزوم الإتيان بها، من باب لزوم الامتثال للخالق والمنعم.

ولو أمر الشارع بالإتيان بها، بأنْ أنشأ الوجوب وقال: يجب عليكم أن تؤدّوا الصلاة، لَحَكَمَ العقل بذلك أيضاً.

ولكنّ هناك فرقًا بين الحالتين، وهو: لو أمر المولى بالواجب، فإنه في الوقت الذي يكشف عن المصلحة الملزمة في المتعلق (الصلاة في مثالنا) بالدلالة الالتزامية، هو يُلزم المكلف بالإتيان به، لأن الأمر قد صدر من مقام المولوية، وفي هذه الحالة، فإنه حتى لو لم يكتشف العقل الملاك والمصلحة الملزِمة، فإنه يحكم بلزوم الإتيان بها؛ لأن الأمر صدر من مقام المولوية.

ص: 148

وهكذا الأمر في المقام، فإن الأمر الإلهي بالتنصيب يُضفي إلى الواقع قوة جديدة، هي قوة لزوم التنفيذ امتثالاً للأمر المولوي، فحتى لو اكتشف العقل ذوات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فإنه تبقى للنص قيمته وأهميته، فضلًا عما إذا لم يكتشف العقل ذلك.

2 / أن النص وسيلة عامة للكشف عن متعلّقه، حتى لمن لا يُحسن الاستخدام العقلي، خصوصاً إذا كان النص قطعياً، أما العقل فاكتشاف أحكامه والإقرار بها ليس متاحاً للجميع.

فالنص على الإمام إذن وسيلة يمكن لكل الناس وبكافة مستوياتهم الاستفادة منها والوصول من خلاله إلى معرفة الإمام بعينه، أما حكم العقل، فإنه يعتمد على العديد من المقدمات التي ربما لا تتوفر للجميع، وإنما للبعض دون الآخر.

3 / إن النص يكشف عن مقامات للإمام لا يصل إليها العقل، كالكمالات الخاصة مثل العلم الخاص ومقام الشهادة على الأعمال والولاية التكوينية والتشريعية.

وبتوضيح أكثر:

في التشريعات الوضعية نجد أنه يمكن أن يصدر أمر واحد من عدة جهات، تشترك أوامرهم بكونها رسمية، ولكنها تختلف في أن ما يصدر من الجهة الأرفع ألزم وأكثر دافعية مما يصدر من الجهة الأدنى، وهذا يعني أن

ص: 149

جهة الصدور فيها دلالة على أهمية المضمون.

وهكذا الأمر في التبليغات الدينية، فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لمّا أمرته السماء بتبليغ ولاية علي (عليه السلام) فقد اكتشفنا أهمية الأمر، خصوصاً وأن الخطاب كان بلهجة قوية وشديدة، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(1)

وهكذا قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(2)

الذي نزل بعد أن بايع المسلمون علياً بالولاية، دلّ ذلك على أن الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى للناس هو الإسلام الذي فيه الولاية، ومن دونها لا قبول، ومنه تعرف أهمية معرفة الإمام في الحديث المشهور المتواتر لدى الجميع (من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية)، وهذا ما يلتقي مع الحصر في قوله تعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(3)

عن عمرو بن الأشعث، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول - ونحن عنده في البيت نحو من عشرين رجلا - فأقبل علينا وقال: لعلكم ترون أن هذا الأمر في الإمامة إلى الرجل منا يضعه حيث يشاء؟! والله، إنه لعهد من الله نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رجال مُسمَّين، رجلٍ فرجلٍ حتى

ص: 150


1- (67) من سورة المائدة.
2- (3) من سورة المائدة.
3- (55) من سورة المائدة.

تنتهي إلى صاحبها.(1)

فالأمر بالولاية وإن أمكن أن يكون بالنص من الإمام السابق للإمام اللاحق، ولكن الأمر أعظم من ذلك، إنه عهد من الله تعالى بالأسماء والصفات لأشخاص معروفين ومميزين عنده جل شأنه.

ومما يُشير إلى تلك الأهمية أيضًا ما روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(عليه السلام): قَالَ: بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ والصَّوْمِ والْحَجِّ والْوَلَايَةِ، ولَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ.(2)

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»(3).

وعن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «من مات لا يعرف إمامه، مات ميتة جاهلية كفر ونفاق وضلال»(4).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث مشهور لدى الفريقين أنه قال لعلي (عليه السلام): أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّه لَا نَبِيَّ بَعْدِي.(5)

فهذه النصوص وغيرها تعطي المركزية والمحورية للولاية من بين جميع

ص: 151


1- الغيبة للنعماني ص 59 باب 3 ما جاء في الإمامة والوصية، وأنهما من الله عز وجل وباختياره، وأمانة يؤديها الإمام إلى الإمام بعده/ ح1.
2- الكافي للكليني ج2 ص18 بَابُ دَعَائِمِ الإِسْلَامِ/ ح1.
3- كمال الدين للصدوق: 413 و414/ باب 39/ ح 15.
4- الإمامة والتبصرة لابن بابويه: 82/ ح 69.
5- الكافي للكليني ج8 ص 107 ح80.

العقائد فضلاً عن الفروع الإسلامية.

هذه الأهمية لا يمكن اكتشافها من خلال حكم العقل فقط، وإنما للنص دوره الواضح في بيان تلك الأهمية التي عرفنا شيئًا منها.

الإشارة الخامسة: الملازمة بين التولي والتبري

ثبت أن أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (عليهم السلام) هم أولياء المؤمنين، الأمر الذي يلزم منه عليهم أن يوالوهم بالمعنى الذي تبين، ولكن هل من الضروري معاداة عدوهم أو يكفي أن نواليهم ولو والينا عدوهم ولم نعاده؟

هل التولي يلازم التبري، بحيث يكون الأول من دون الثاني كذباً، أو قل: إنه يتقوم بالثاني، وأن النصاب المطلوب يتقوّم بالتبري، أو أن هذين المفهومين منفصلان قانوناً، ولكل منهما طاعته الخاصة ومعصيته الخاصة؟

الصحيح هو الأول كما سيتبين إن شاء الله تعالى.

علمًا أن هناك توجُّهًا لتخفيف ثقافة التبري والاقتصار على التولي، بحجة أن هذا يجمع الكلمة، حيث إن حب أهل البيت (عليهم السلام) والذي هو نوع من أنواع التولي مما أجمع عليه المسلمون، أما التبري فإنه يتصل بثقافة الاقصاء واحتكار الحقيقة لجانب معين، وهي جميعاً تخلق تمانعات وتحزبات وتمذهبات، في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة إلى الوقوف على القواسم المشتركة...

من هنا يُسأل عن تفسير ضرورة التبري مع التولي وعدم كفاية التولي

ص: 152

فقط؟

الجواب:

أولًا: أن بين حب أهل البيت (عليهم السلام) وحب أعدائهم تضادًّا، والمتضادان لا يمكن أن يجتمعا أبداً...

وبتفصيل أكثر:

قالوا في علم المنطق: إن التضاد يختلف عن التخالف في أنه يعني التعاكس والتمانع والتقابل، وبالتالي فالضدّان لا يمكن أن يجتمعا، ولا توجد مساحة مشتركة بينهما، وأما التخالف فيقبله...

وهذا الأمر يجري حتى في العقائد، فمثلاً: الإيمان بنبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فإنه لا يتمانع مع الإيمان بنبوة عيسى أو موسى أو بقية الأنبياء (عليهم السلام)، لعدم التضاد بين الإيمان بأحدهم مع الإيمان بالآخر، بل الإيمان بهم مأخوذ على نحو الطولية، والإيمان بالإسلام يستبطن الإيمان ببقية الأنبياء، ومن هنا نجد الإسلام حكم بكفر منكر الأنبياء السابقين، ومن ثم كانت الديانات السابقة تبشر بالإسلام وتدعو إلى اتّباعه...

وهناك ما يشير إلى عدم التضاد بين النبوات عموماً، ووجود مساحة مشتركة بينها، كما بُيّن في محله من علم الأصول والكلام.

وهذا بعكس التوحيد والشرك، فإنهما متضادان، إذ التوحيد يعني نفي الشريك، فلا يمكن لأحد أن يكون موحداً وهو لا ينفي الشريك عنه تعالى.

ص: 153

وحب أهل البيت (عليهم السلام) مع حب عدوهم هو من التضادّ، لعدم وجود قاسم مشترك بين حبهم وبغضهم، فلا يجتمع حبهم مع حب عدوهم.ثانيًا: أن النصوص تؤكد على أن هناك تضادًّا بين الحب والبغض، وهذا ما لا بد أن ينعكس على مسألة الدين، فإذا تولّيت أحدًا لله تعالى، فلا بد من معاداة عدوه، إذ الفرض أن عدوه خارجٌ عن دائرة الحب الإلهي.

عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسك بها وأراد الله هداه... وحب أولياء الله والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة، ومن الذين ظلموا آل محمد عليهم السلام وهتكوا حجابه، فأخذوا من فاطمة (عليها السلام) فدكًا، ومنعوها ميراثها وغصبوها وزوجها حقوقهما، وهموا بإحراق بيتها، وأسّسوا الظلم وغيّروا سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والبراءة من الناكثين والقاسطين والمارقين واجبة، والبراءة من الأنصاب والأزلام: أئمة الضلال وقادة الجور كلهم أولهم وآخرهم واجبة، والبراءة من أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) واجبة، والبراءة من جميع قتلة أهل البيت (عليهم السلام) واجبة.

والولاية للمؤمنين الذين لم يُغيّروا و لم يُبدلّوا بعد نبيهم (صلى الله عليه وآله) واجبة، مثل: سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري و المقداد بن الأسود الكندي، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وحذيفة بن اليمان، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل بن حنيف، وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله ابن الصامت، وعبادة بن الصامت، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وأبي سعيد الخدري،

ص: 154

ومن نحا نحوهم، وفعل مثل فعلهم، والولاية لاتباعهم والمقتدين بهم و بهداهم واجبة...(1)

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبعض أصحابه ذات يوم: يا عبد الله، أحبّ في الله تعالى، وابغض في الله تعالى، ووالِ في الله تعالى، وعادِ في الله تعالى، فإنّه لا تنال ولاية الله تعالى إلا بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك، وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا، عليها يتواددون وعليها يتباغضون، وذلك لا يغني عنهم من الله تعالى شيئًا.

فقال له: وكيف لي أنْ أعلمَ أني قد واليت وعاديت في الله عز وجل؟ ومن وليُّ الله تعالى حتى أواليه، ومن عدوه حتى أعاديه؟

فأشار له رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى. فقال: وليُ هذا ولي الله فوالِه، وعدوُّ هذا عدوُّ الله فعادِه. ثم قال: والِ وليَّ هذا ولو أنه قاتل أبيك وولدك، وعادِ عدوَّ هذا ولو أنه أبوك وولدك...(2)

إنّ الحب حالة انجذاب نفساني، وغالباً ما يكون هذا الحب لسببٍ ما، فقد تحب شخصاً لماله أو جماله أو علمه أو روحه... ولكن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول: إن هذه المداخل للحب ليست حباً لله تعالى، والحب الذي يجمع المحبّين على مركز واحد هو الحب في الله تعالى، والذي يعني تولي أهل

ص: 155


1- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 603- 608.
2- علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 140 – 141.

البيت (عليهم السلام)، بل إن كمال الولاية لله تعالى والتوحيد هو الحب في الله، والذي هو بمعنى الولاية لأهل البيت (عليهم السلام). حيث يقول (صلى الله عليه وآله): فإنه لا تنال ولاية الله إلا بذلك.

فلا اللون ولا المال ولا الجمال والجاه والعشيرة هي المركز للحب الإلهي، وإنما هو التولي، بل نجد أن الدين يقطع تلك العلاقات لو تعارضت عقائدياً مع التولّي لأهل الحق، فابن نوح ليس من أهله لأنه لم يؤمن بالرسالة، والقرآن الكريم يقول في مقام آخر: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1)

فالعلاقة والارتباط العقائدي أقوى وأهم من بقية العلاقات...

في رواية جابر الأنصاري أنه لما وصل إلى قبر الحسين (عليه السلام) فقال:... والذي بعث محمدًا بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه. قال عطية: فقلت لجابر: وكيف ولم نهبط واديًا، ولم نعْلُ جبلًا، ولم نضرب بسيف، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم، وأوتمت أولادهم وأُرملت الأزواج؟ فقال لي: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من أحبّ قومًا حُشر معهم، ومن أحب عمل القوم أُشرك في عملهم، والذي بعث محمدًا بالحق نبيًا، إن

ص: 156


1- (22) من سورة المجادلة.

نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه...(1)

مع ملاحظة أن الارتباط العقائدي والديني لا ينفي تلك الارتباطات، ولكنه لا يجعل المركزية لها، وإلا فالدين أمَر بإقامة تلك العلاقات في الحدود المقبولة شرعاً، فحب الوطن من الإيمان كما روي، وإكرام العشيرة مطلوب، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): وأَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِه تَطِيرُ، وأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْه تَصِيرُ ويَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ.(2)

ثالثًا: هناك نصوص عديدة تجيب عن هذا السؤال، وتؤكد ضرورة التبري في اكتمال مفهوم التولي، هذه بعضها:

عن أمير المؤمنين (عليه السلام):... إنّ عبدًا لن يُقصّر في حبِّنا لخير جعله الله في قلبه، ولن يحبَّنا من يحب مبغضَنا، إن ذلك لا يجتمع في قلب واحد و (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(3)

يحبُّ بهذا قومًا، ويحب بالآخر عدوهم، والذي يحبنا فهو يخلص حبَّنا كما يخلص الذهب لا غش فيه، نحن النجباء، وأفراطنا أفراط الأنبياء، وأنا وصي الأوصياء، وأنا حزب الله ورسوله (عليه السلام)، والفئة الباغية حزب الشيطان، فمن أحبَّ أن يعلم حاله في حبِّنا فليمتحن قلبه، فإن وجد فيه حب من ألَّبَ علينا فليعلم أن الله عدوُّه وجبرئيل وميكائيل، والله عدو للكافرين.(4)

ص: 157


1- بحار الأنوار - ج 65 - ص 131.
2- نهج البلاغة ج3 ص 57.
3- الأحزاب 4.
4- أمالي الشيخ الطوسي (ص 148 – 149 ح 243 / 56).

فالرواية واضحة في أن حب أهل البيت (عليهم السلام) لا يكتمل مفهومه ولا يصدق إلا بضمّ البراءة من عدوهم وبغضهم.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تعوّذوا باللّه من الشيطان الرجيم، فإنّ من تعوّذ بالله منه أعاذه الله، [وتعوّذوا] من همزاته ونفخاته ونفثاته، أتدرون ما هي؟ أمّا همزاته فما يلقيه في قلوبكم من بغضنا أهل البيت. قالوا: يا رسول اللّه! وكيف نبغضكم بعد ما عرفنا محلّكم من الله ومنزلتكم؟! قال (صلى الله عليه وآله): بأن تبغضوا أولياءنا، وتحبّوا أعداءنا، فاستعيذوا بالله من محبّة أعدائنا، وعداوة أوليائنا، فتعاذوا من بغضنا وعداوتنا، فإنّ من أحبّ أعداءنا فقد عادانا، ونحن منه براء، والله عزّ وجلّ منه بريء.(1)

وقال الصادق (عليه السلام): من شك في كفر أعدائنا والظالمين لنا فهو كافر.(2)

وروي أنّ رجلاً قدم على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أحبك وأحب فلاناً، وسمّى بعض أعدائه، فقال (عليه السلام): أمّا الآن فأنت أعور، فإمّا أن تعمى وإمّا أن تبصر.(3)

وقيل للصادق (عليه السلام): إن فلانًا يواليكم إلا أنه يضعف عن البراءة من عدوكم، فقال: هيهات، كذب من ادعى محبتنا ولم يتبرّأ من عدونا.(4)

ص: 158


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام)- (ص 584 ح 347).
2- الاعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص 104.
3- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 265.
4- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 266.

مما يتقدم يتبلور:

إن حبهم مع حب من ألّب عليهم لا يجتمعان. وكذلك مع حب مبغضهم، ومع حب عدوهم، ومع حب من قام بالانقلاب.

ص: 159

ص: 160

النقطة الثانية: عصمة أهل البيت (عليهم السلام)

اشارة

إن الذي يطالع حياة أهل البيت (عليهم السلام) ويقرأ سلوكهم وتصرفاتهم الشخصية والاجتماعية، فإنه يمكن أن يقطع بأنهم معصومون، فلم يثبت أنهم واقعوا معصية ما، ولم يُنقل عنهم أن أخطأوا في حكم أو فعل أو حتى قول، بل لم يجد حتى العدو ما يمكن أن يذمّ به أهل البيت (عليهم السلام)، اللّهمّ إلَّا قولة (عمرو بن العاص) في أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنَّ فيه دعابة!

وهل هذه مثلبة؟!

بل ما هذه إلَّا منقبة عظيمة، وانظر إلىٰ أمير المؤمنين (عليه السلام) كيف صاغ هذه القولة وكيف ردَّ عليه حينما قال (عليه السلام): «عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ (1)،يَزْعُمُ لأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً، وأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ (2)،أُعَافِسُ وأُمَارِسُ(3)،لَقَدْ

قَالَ بَاطِلًا ونَطَقَ آثِماً، أَمَا وشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ، إِنَّه لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، ويَعِدُ فَيُخْلِفُ،

ص: 161


1- النابغة المشهورة فيما لا يليق بالنساء، من نبغ إذا ظهر.
2- الدعابة - بالضمِّ -: المزاح واللعب؛ وتلعابة - بالكسر -: كثير اللعب.
3- أُعافس أُعالج الناس وأُضاربهم مزاحاً، ويقال: المعافسة معالجة النساء بالمغازلة، والممارسة كالمعافسة.

ويُسْأَلُ فَيَبْخَلُ، ويَسْأَلُ فَيُلْحِفُ (1)،ويَخُونُ الْعَهْدَ، ويَقْطَعُ الإِلَّ (2)،فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وآمِرٍ هُوَ، مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِه أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَه (3)،أَمَا والله إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، وإِنَّه لَيَمْنَعُه مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ، إِنَّه لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَه أَتِيَّةً، ويَرْضَخَ لَه عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً(4)»(5).

وقال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه في وصفه (عليه السلام): كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدَّة تواضع، وسهولة قياد، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف علىٰ رأسه.

وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشًّا بشًّا، ذا فكاهة، قال قيس: نعم، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمزح ويبتسم إلىٰ أصحابه، وأراك تُسِرُّ حسواً في ارتغاء(6)،

وتعيبه بذلك! أمَا والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسَّه الطوىٰ، تلك هيبة التقوىٰ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام(7)!

ص: 162


1- فيلحف أي يلحُّ؛ ويسأل هاهنا مبنيٌّ للفاعل؛ ويسأل في الجملة بعدها للمفعول.
2- الإل - بالكسر -: القرابة، والمراد أنَّه يقطع الرحم.
3- السبة - بالضمِّ - الأُست، تقريع له بفعلته عندما نازل أمير المؤمنين في واقعة صفّين، فصال عليه وكاد يضرب عنقه، فكشف عورته، فالتفت أمير المؤمنين عنه وتركه.
4- الآتية: العطيَّة؛ ورضخ له أعطاه قليلاً؛ والمراد بالآتية والرضيخة ولاية مصر.
5- نهج البلاغة (ج 1/ ص 147 و148).
6- في المثل: (هو يسر حسواً في ارتغاء)، يُضرَب لمن يُظهِر أمراً وهو يريد غيره. (لسان العرب: ج 19/ ص 46). (من هامش المصدر).
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 1/ ص 25).

ولكن مع ذلك، فقد استدل علماؤنا على عصمتهم (عليهم السلام) بعدة أدلة، نذكر منها التالي:

الدليل الأول: آية التطهير
اشارة

قال تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1)

منطوق الآية واضح، وهو: أن الله تعالى أراد إرادة تكوينية –لا تقبل النقض ولا الرد- أن يُذهب ويُبعد الرجس عن أهل البيت، وبذلك طهّرهم من الرجس والدنس تطهيرًا تامًا، وقد استعملت الآية أداة الحصر (إنما) لتدل (على حصر إرادة الله عَزَّ وَجَلَّ في إعطائه العصمة لأهل البيت، واستبعاده الرجس والإثم عنهم، دون غيرهم(2)).(3)

وحتى يتضح المقصود بالتفصيل نذكر الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: نوع الإرادة في الآية

إن الإرادة هنا تكوينية لا تشريعية، وذلك (لأنّ الإرادة الإلهيّة التشريعيّة في ترك الآثام وتجنّب المعاصي ليست منحصرة بأهل البيت، بل تشمل جميع البشر.)(4)

ص: 163


1- الأحزاب 33.
2- لاحظ: التبيان في تفسير القرآن، ج 8، ص 340؛ الميزان، ج 16، ص 483.
3- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 180.
4- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 180.

وبعبارة أخرى: (أن القرائن الداخلية والخارجية تؤكد أن المقصود من الإرادة هنا هي التكوينية لا التشريعية؛ لوضوح أن الآية في مقام الامتنان وبيان الفضل الإلهي في أهل البيت (عليهم السلام)، وأنه في مقام تخصيصهم وتمييزهم عن سائر الناس بالطهارة من الرجس بأصنافه، وهذا لا يتحقق إلا بالتطهير التكويني.

وأما الطهارة التشريعية فلا خصوصية لأهل البيت فيها؛ لأن الله سبحانه أمر جميع العباد بالطهارة لدى الصلاة، وأراد منهم الوضوء والغسل سواء كان من أهل البيت أو من غيرهم، فصيانة كلام الحكيم عن اللغوية تستدعي حمل الإرادة على المعنى الأول لا الثاني... وبهذا يتضح أن الله سبحانه أراد تطهير أهل البيت (عليهم السلام) من الرجس إرادة تكوينية تشمل كل ما يتعلق بوجودهم المبارك.)(1)

وهذه الإرادة لا تعني أنْ لا فضيلة لأهل البيت عندما أذهب الله تعالى عنهم الرجس بإرادة تكوينية، وذلك لأن الله تعالى حكيم، ولا يختار شخصًا لهذه المنزلة إلا وفق حكمة، ونحن نعتقد أن الله تعالى عَلِم بعلمه الأزلي أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا مستعدّين للوصول إلى مرحلة العصمة بإرادتهم، فلَطَفَ بها تكوينيًا لهم.

على أنه مهما كان، فإن الآية تُثبت العصمة، وبالتالي يلزم على غيرهم طاعتهم في كل ما يقولونه، وإلا لوقعوا في خلاف الواقع، وبالمعصية.

ص: 164


1- الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج6 ص 153 – 154.

فتبين أن (المقصود من الإرادة الإلهيّة التكوينيّة في نفي الإثم والرجس عن أهل البيت : ليس هو الجبر التكوينيّ؛ بل هو نوع من اللياقة الذاتيّة والموهبة الإلهيّة والجدارة الاكتسابيّة النابعة من إرادة الشخص نفسه؛ ذلك لأجل أن يكون أسوة وقدوة لكلّ الناس، والحال هنا مشابه لما يقوم به الإنسان من اجتناب الاحتراق بالنار؛ فهي حالة نابعة من أعماق وجود الإنسان، ومعارفه، وسائر المنطلقات الفطريّة والطبيعيّة المحيطة به؛ من دون أن يكون هناك أيّ لون من ألوان الجبر)(1)

الخطوة الثانية: المراد الرجس؟

الرجس هو الإثم، والقاذورات، سواء كانت المادية أو المعنوية.(2)

والألف واللام فيها للجنس، فيكون محصّل المعنى أن (الله سُبحَانَهُ وَتَعَالىٰ يريد أن يُبعد جميع ضروب الآثام والرذائل والهيئات الخبيثة عن نفوس أهل البيت :، ويزيلها عنهم. ومثل هذه الإزالة لا تجري إلا مع افتراض العصمة الإلهيّة التي ترعى الإنسان من كلّ ما هو باطل؛ سواء كان على مستوى العقيدة أو العمل.)(3)

وحينها، ستكون نتيجة إذهاب الرجس تمامًا عنهم هو التطهير التام لهم، وهو معنى لا يصدق بتمام معنى الكلمة إلا مع افتراض العصمة.

ص: 165


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 180 نقلًا عن تفسير الأمثل، ج 17، ص 315.
2- انظر مجمع البحرين ومعجم مقاييس اللغة مادة (رجس).
3- الكلام الإسلامي المعاصر ج3 ص 181.
الخطوة الثالثة: تحديد (أهل البيت) في الآية؟

كل من تعرّض لهذه الآية، ولمفردة (أهل البيت) فيها، لم يتردد في صدق هذه المفردة على أصحاب الكساء الخمسة (عليهم السلام)، إنما الخلاف في أنها خاصة بهم أو إنها تشمل نساء النبي (صلى الله عليه وآله)، وإلى هذا الحدّ تدل الآية على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، إذ إنها تصرّح بأن الله تعالى قد أذهب عنهم الرجس تكوينًا، فطهّرهم بذلك تطهيرًا.

بالنسبة لرواياتنا الخاصة، فإنها أطبقت على اختصاص هذه المفردة بأصحاب الكساء (عليهم السلام)، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت أم سلمة وقد نزلت هذه الآية (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي هذه الآية نزلت فيك وفي سبطي والأئمة من ولدك. فقلت: يا رسول الله وكم الأئمة بعدك؟ قال: أنت يا علي، ثم ابناك الحسن والحسين، وبعد الحسين علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد جعفر ابنه، وبعد جعفر موسى ابنه، وبعد موسى علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، والحجة من ولد الحسن، هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله تعالى عن ذلك فقال: يا محمد، هم الأئمة بعدك، مطهرون معصومون، وأعداؤهم ملعونون.(1)

وهذه الرواية تثبت شمول الآية لكل الائمة الاثني (عليهم السلام).

ص: 166


1- كفاية الأثر للخزاز القمي ص 156.

بل روى بعض العامة ما يصرّح بعدم شمولها لغير أهل البيت (عليهم السلام) البتّة.

فمثلًا روى أحمد في مسنده عن أم المؤمنين أم سلمة أنها قالت: (فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا، اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنك إلى خير إنك إلى خير)(1)

فلاحظوا: أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يسمح لأم سلمة بالدخول معهم في مفهوم أهل البيت ولا تحت الكساء، رغم أنها كانت على خير وإلى خير.

وأصرح من هذه الرواية ما رواه أحمد أيضًا عن أم سلمة (رضوان الله عليها) ما نصُّه: عن أم سلمة: أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال لفاطمة: ائتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فألقى عليهم كساء فدكيًا... ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إن هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، إنك حميد مجيد. قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي وقال: إنك على خير.(2)

ص: 167


1- مسند أحمد ج6 ص 292.
2- مسند أحمد ج6 ص 323.

ونفس المعنى روي عن عائشة، حيث روى الحسكاني في شواهد التنزيل عن مجمع قال: دخلتُ مع أمي على عائشة فسألتها أمي قالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنه كان قدرًا من الله. فسألَتْها عن علي فقالت: تسأليني عن أحب الناس كان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وزوج أحب الناس كان إلى رسول الله، لقد رأيت عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا وجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بثوب عليهم، ثم قال: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. فقلت: يا رسول الله، أنا من أهلك؟ قال: تنحَّي، فإنك إلى خير.(1)

ومما يدل على عدم شمول مفردة (أهل البيت) لنساء النبي (صلى الله عليه وآله)، ويشير أيضًا إلى أن المسلمين في ذلك الزمن كانوا قد تسالموا على عدم شمولها لهن، ما رواه مسلم في صحيحه من أنه سُئل زيد بن أرقم فقيل له:...مِنْ أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصلُه وعصبتُه...(2)

ويدل عليه أيضًا ما رواه السيوطي في الدر المنثور قال: وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ثمانية أشهر بالمدينة، ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة الا أتى إلى باب على [عليه السلام) فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال: الصلاة الصلاة، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ

ص: 168


1- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني ج2 ص 62 ح 684.
2- صحيح مسلم النيسابوري ج7 ص 123.

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: شهدنا رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) تسعة أشهر، يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب [عليه السلام) عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)، الصلاة رحمكم الله، كل يوم خمس مرات.

وأخرج الطبراني عن أبي الحمراء... قال رأيت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يأتي باب على وفاطمة ستة أشهر فيقول: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).(1)

فتبين أن (أهل البيت) اصطلاح خاص بأصحاب الكساء (عليهم السلام).

الدليل الثاني: آية المودة
اشارة

قال تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ)(2)

منطوق الآية واضح في أن الله تعالى أمر نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله) بأن يُخبر المسلمين بأنه لا يطلب أي أجر على رسالته وما فعله من أجلهم، نعم، هناك أجرٌ واحد يلزمهم أداؤه، وهو (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)، فيجب على المسلمين وفق هذه الآية أن يمتثلوا أمر الله تعالى وأن يقوموا بمودة القربى.

ص: 169


1- الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي ج5 ص 199.
2- الشورى 23.

وقد بيّنت بعض الروايات هذا المعنى، فقد روي عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) فقال: يا محمد، أعرض عليّ الإسلام. فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. قال: تسألني عليه أجرًا؟ قال: لا، إلّا المودة في القربى، قال: قرباي أو قرباك؟ قال: قرباي، قال: هات أبايعك، فعلى من لا يحبّك ولا يحبُّ قرباك لعنة الله. قال (صلى الله عليه [وآله] وسلم): آمين.(1)

ولتوضيح المقصود نذكر عدة خطوات:

الخطوة الأولى: معنى المودة
اشارة

ودد: الود محبة الشيء وتمنى كونه.(2)

أي إن الفعل (ودّ) يدل على أمرين:

الأول: محبة الشيء.

والثاني: تمني الكون مثله.

وهو: الحُبُّ يكون في جَمِيعِ مَدَاخِل الخَيْرِ.(3)

والمودة أخصُّ من الحب؛ لأنها تعني المحبة الظاهرة على الجوارح...(4)

فالآية إذن تأمرنا بأن نودّ ذوي القربى، وأن نعمل على أن نكون مثلهم، وأن نُظهر حبّنا لهم على جوارحنا فضلًا عن جوانحنا واعتقادنا القلبي، هذا

ص: 170


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة للسيد مرتضى الحسيني الفيروز آبادي ج1 ص 260 عن حلية الأولياء ج 3 ص 201.
2- مفردات الراغب الأصفهاني، مادة (ودد).
3- تاج العروس للزبيدي، مادة (ودد).
4- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية للشيخ فاضل الصفار ج6 ص 170.

هو معنى المودة التي أمرنا الله تعالى بها في هذه الآية، وهذا المعنى يستلزم معانٍ أخرى هي:

التمسك، والاتباع، والاقتداء، والتقديم، والتعظيم، وإحياء الأمر (إذ هذا لازم إظهار المحبة بالجوارح).

وكل هذه المعاني قد صرّحت بضرورتها الروايات الشريفة، والتفصيل أن يُقال:

إن آية المودة [المودة المطلقة لا المقيدة] تفرز عدة مفاهيم تمثل مجموعة من الوظائف التي تلزمنا اتجاه ذوي القربى (وهم أهل البيت (عليهم السلام) كما سيأتي في الخطوة الثانية) وهي التالي:

دلالات المودة ولوازمها
1/ المودة

قال تعالى (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)(1)

وقال تعالى (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(2)

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنه خطب الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) حين قتل علي (عليه السلام) ثم قال: وإنّا من أهل بيت افترض الله مودتهم على كل مسلم، حيث يقول (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن

ص: 171


1- (55) من سورة الفرقان.
2- (23) من سورة الشورى.

يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا)، فاقترافُ الحسنة مودّتُنا أهل البيت.(1)

وقال تعالى (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(2)

وقد ورد في تفسيرها عن الإمام الباقر (عليه السلام): الاجر الذي هو المودة في القربى التي لم أسألكم غيرها فهو لكم، تهتدون بها، وتسعدون بها، وتنجون من عذاب الله يوم القيامة.(3)

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) للحصين بن عبد الرحمان: يا حصين لا تستصغر مودتنا، فإنها من الباقيات الصالحات.(4)

2/ الحب

فإن المودة هي الحب كما تقدم، والروايات أكدت هذا المعنى كثيراً، فعن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الرجل يحبّ الرجل ويبغض ولده، فأبى الله عز وجل إلا أن يجعل حبَّنا مفترضًا، أخَذَه من أخَذَه، وتركَه من تركَه واجبًا، فقال: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى). (5)

وكما ترى فإن هذه الرواية تجعل الحب متجلياً بالمودة، لتكشف عن ترابط عضوي بين هاتين الوظيفتين (المودة والحب)، بل نجد الروايات تجعل الحب أساس الإسلام، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):... ولِكُلِّ

ص: 172


1- مسائل علي بن جعفر ص 328 ح 817.
2- (47) من سورة سبأ.
3- ينابيع المودة لذوي القربى - القندوزي - ج 1 - ص 316 باب 32 ح5.
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج3 ص 343 وبحار الأنوار - ج 23 - ص 250.
5- المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 144 ح 45.

شَيْءٍ أَسَاسٌ، وأَسَاسُ الإِسْلَامِ حُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ.(1)

بل روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):... ومَنْ عَرَفَ حَقَّنَا وأَحَبَّنَا فَقَدْ أَحَبَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى.(2)

وعن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: العروة الوثقى المودة لآل محمد (صلى الله عليه وآله).(3)

وبضم هذه الروايات إلى قوله تعالى (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى الله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(4) يظهر لنا مفهوم ووظيفة جديدة تناولتها الروايات الشريفة، هي:

3/ التمسك

فالمودة التي تعني الحب، تفرز ضرورة التمسك بمن تحب وتودّ، وإلا فأي مودة هذه وأي حب يكون من دون تمسك.والروايات كثيرة في هذا المجال، فقد روي أنه قال رسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله): يا علي، من أحبَّكم وتمسّك بكم فقد تمسك بالعروة الوثقى.(5)

فالآية السابقة تجعل للتمسك بالعروة الوثقى مقدمة، هي إسلام الوجه لله تعالى وهو محسن، والرواية تجعل التمسك بأهل البيت عين التمسك

ص: 173


1- الكافي للكليني - ج 2 - ص 46 بَابُ نِسْبَةِ الإِسْلَامِ ح2.
2- الكافي:للكليني ج8 ص 129 ح 98.
3- ينابيع المودة لذوي القربى - القندوزي - ج 1 - ص 331 باب 37 ح2.
4- (22) من سورة لقمان.
5- كفاية الأثر للخزاز القمي ص 71.

بالعروة الوثقى.

وهذا المعنى تؤكده روايات عديدة، منها ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي، بكم يفتح هذا الأمر، وبكم يختم، عليكم بالصبر، فإن العاقبة للمتقين، أنتم حزب الله، وأعداؤكم حزب الشيطان، طوبى لمن أطاعكم، وويل لمن عصاكم، أنتم حجة الله على خلقه، والعروة الوثقى، من تمسك بها اهتدى، ومن تركها ضل. أسأل الله لكم الجنة، لا يسبقكم أحد إلى طاعة الله، فأنتم أولى بها.(1)

ثم إنه يبدو من حديث الثقلين والذي هو مضمون قرآني(2)

أن التمسك بالقرآن الكريم وحده لا يعد تمسكاً بالقرآن، لأن حديث الثقلين يجعل المطلوب للتكامل هو الحالة المجموعية من الأمرين، وبالتالي فمقولة (حسبنا كتاب الله) خاطئة معرفياً...

4/ التقديم

فحيث يلزمنا مودة أهل البيت (عليهم السلام) ومحبتهم وبالتالي التمسك بهم، فهذا يعني ضرورة تقديمهم، إذ أنت تتمسك بمن يتقدم عليك لا بمن يتأخر عنك، وهكذا فأنت تتمسك بالمتقدم والمتبوع، لا بمن يتبع غيره ويتمسك بغيره، وإلا كان التمسك بالغير المتقدم أولى كما هو واضح، فعن رسول

ص: 174


1- أمالي الشيخ المفيد ص 110 المجلس (11) ح 9.
2- قال تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) (112) من سورة آل عمران. وقد فسر بحديث الثقلين.

الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم وقدموهم فهم الولاة من بعدي، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله وأي أهل بيتك؟ فقال، علي والطاهرون من ولده.(1)

5/ الاقتداء

وحيث يلزم التمسك بهم، إذن، لا بد من الاقتداء بهم بعد تقديمهم، فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سرّه أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويدخل جنة ربى جنة عدن، قضيب من قضبانه غرَسَه ربي بيده فقال له: كن، فكان، فليتولّ عليًا و الأوصياء من بعده، وليُسلّم لفضلهم، فإنهم الهداة المرضيون أعطاهم فهمي وعلمي، وهم عترتي من دمى ولحمي، أشكو إلى الله عدوهم من أمتي المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتي، والله ليقتلُنّ ابني، ولا ينالهم [أنالهم] الله شفاعتي.(2)

6/ التعظيم

وهذا المفهوم لازم لمن يلزمك اتباعه والاقتداء به كما هو واضح، وهو ثابت لأهل البيت (عليهم السلام)، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيها الناس، عظموا أهل بيتي في حياتي ومماتي، وأكرموهم وفضّلوهم.(3)

ص: 175


1- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 1 - ص 103.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 68 باب 22 - باب (في الأئمة (عليهم السلام) وما قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن الله أعطاهم فهمي وعلمي) ح1.
3- بحار الأنوار - ج 36 - ص 295.
7/ إحياء الأمر

وهذا الأمر لازم للمحبة الجارحية، التي هي إظهار للمودة.

عن معتب مولى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول لداود بن سرحان: يا داود، أبلغ مواليّ عني السلام، وأني أقول: رحم الله عبدًا اجتمع مع آخر فتذاكرا أمرنا، فإن ثالثهما ملَكٌ يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله (تعالى) بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإن في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا. (1)

وعن بكر بن محمد الأزدي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تجلسون وتتحدثون، قال: قلت جعلت فداك نعم قال إن تلك المجالس أحبها فأحبوا أمرنا انه من ذكرنا وذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذبابة غفر الله ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر.(2)

الخطوة الثانية: معنى القربى في الآية
اشارة

كما لم يكن خلافٌ في شمول آية التطهير لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وإنما كان الخلاف في اختصاصها بهم، كذلك الأمر في آية المودة، فلا خلاف في كون أصحاب الكساء (عليهم السلام) هم من ذوي القربى، ولكن هل الآية منحصرة بهم أو تشمل غيرهم؟

ص: 176


1- أمالي الشيخ الطوسي ص 224 ح 390 / 40.
2- ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - ص 187.

الإمامية أطبقوا على اختصاصها بأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ووُجدت في قبالهم آراء أخرى لكنها لا تصمد أمام النقد المنهجي، وعلى كل حال، فهنا أقوال، نذكر منها التالي(1):

القول الأول

إن آية المودة تعني أن النبي (صلى الله عليه واله) خاطب قريش بأن لا يؤذوه حتى وإن كانوا غير مؤمنين به، باعتبار أنهم قرابته. فيكون حرف الجر (في) في الآية هو للدلالة على السببية.

ويُبطله: أنه كيف يُتَصَوَّر طلب الأجر ممن لم يؤمن به (صلى الله عليه واله)؟! إذ الأجر إنما يكون مقابل خدمة معترف بها من الطرف الآخر، والمشركون ليس عندهم هذا الاعتراف حتى يصح طلب الأجر منهم.

على أنه بعد النصوص المتواترة على أن المقصود هي مودة خصوص قرابة الرسول (صلى الله عليه واله)، يكون هذا التفسير اجتهاداً قبال النص.

القول الثاني

إن النبي (صلى الله عليه وآله) يطلب من جميع المسلمين أن يحبوا من يتقرب إلى الله عز وجل بالطاعة، أي إن كل من يتقرب إلى الله تعالى بالطاعة فعليكم أن تحبوه، فتكون القربى هنا بمعنى التقرب.

ص: 177


1- راجع تفسير الرازي ج 27 ص 164 وما بعدها، ونفحات القرآن للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج9 ص 170.

ويبطل من جهتين:

الجهة الأولى: نصّ أهل اللغة على أن كلمة القربى إنما هي بمعنى القرابة، ولم يذكروا أنها تستعمل في التقرب.(1)

الجهة الثانية: بعد النصوص المتواترة على أن المقصود هي مودة خصوص قرابة الرسول (صلى الله عليه واله)، يكون هذا التفسير اجتهاداً قبال النص.

القول الثالث

إن المقصود من الآية هو أن النبي (صلى الله عليه وآله) يطلب من المسلمين جميعًا أن يودوا قرابته وهذا هو المعنى المتعين.

ولكن هل المقصود هو خصوص أهل البيت (عليهم السلام) أو يشمل غيرهم؟

هنا رأيان:

الرأي الأول: أن المقصود هو جميع أقرباء الرسول (صلى الله عليه واله)، فكل من يمتُّ إليه بقرابة فقد أُمرنا بأن نودَّه ونحبَّه، فيشمل جميع قريش، وهذا الرأي واضح البطلان؛ للجهات الثلاثة التالية:

الجهة الأولى: القرينة العقلية: إذ لا يُتَصَوَّر أن يطلب من المسلمين أن

ص: 178


1- قال ابن سيده في المخصص ج1 ق 3 (السفر الثالث) ما نصه: القَرَابَة والقُرْبَى: الدُّنُوُّ في النَّسَب وما بَيْنهما مَقْرَبةٌ ومَقْرُبة، أي قَرَابة ويقال الرَّحِمُ والرِّحْم: القَرَابة أنثى والجمع أرْحام. وفي الحديث: الرَّحِمُ شجْنةٌ مَعَلَّقة بالعَرْش تقول: اللهمَّ صِلْ مَن وَصَلنِي واقْطَع مَنْ قَطَعني... وقال ابن منظور في لسان العرب ج1 ص 665: والقَرابَة والقُرْبَى : الدُّنُوُّ في النَّسب، والقُرْبَى في الرَّحِم...

يودّوا جميع قرابة الرسول (صلى الله عليه واله) مؤمنهم ومشركهم وكافرهم، وفيهم ابو لهب الذي نصّ القران الكريم على لعنه!

الجهة الثانية: أن هذا الرأي يتعارض مع قوله عز وجل (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.)(1) إذ هي صريحة في أن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر لا يوادّ من يحادّ الله ورسوله وإن كان أبًا أو ابنًا أو أخًا.

الجهة الثالثة: من المعلوم أن النبي (صلى الله عليه واله) كان يظهر منه الاعتناء بمجموعة خاصة من قرابته وهم أهل الكساء، والروايات كثيرة في هذا المجال تبين أنه (صلى الله عليه واله) كان يفضِّلُهم على كل اقربائه، فكيف نتصور أنه في مقام طلب أجر الرسالة أن يساوي بين من يحبه ويجعله كنفسه ويتألم لألمه ويفرح لفرحه، وبين المشرك الذي رفع السيف بوجهه (صلى الله عليه واله)، وهو إنْ أسلم، لكن إسلامه كان بعد اللتيا والتي؟!

إن هذا يعني أنه (صلى الله عليه وآله) إنما طلب الأجرة لقرابة خاصة لا لعموم قرابته.

الرأي الثاني: أن المقصود من القرابة هم بالخصوص أصحاب الكساء وهم فاطمة وعلي والحسنان صلوات الله وسلامه عليهم –بما يشمل بقية

ص: 179


1- المجادلة 22.

أهل البيت (عليهم السلام) كما سيتبين إن شاء الله تعالى-، وهذا هو المعنى المتعين، والذي دلت عليه الروايات الكثيرة من كتب القوم فضلًا عن كتبنا، فمثلًا رووا عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قالوا: يا رسول الله، من قرابتك التي افترض الله علينا مودتهم؟ قال: عليٌّ وفاطمة وولدها. يردّدها.(1)

والروايات في هذا المجال كثيرة وعديدة، وقد تقدم بعض منها.

الخطوة الثالثة: دلالة الآية على العصمة

تبين إلى الآن أن الآية تأمرنا بأن نود أهل البيت (عليهم السلام)، وأن مودتهم تستدعي المحبة لهم واتباعهم والاقتداء بهم والتمسك بهم وإظهار أمرهم وإحيائه، والآية مطلقة، بمعنى أنها لم تخصص مودتنا الواجبة اتجاههم بنحو معين، مما يعني لزوم مودتهم –وما يترتب على المودة من مفاهيم تقدمت- بالمطلق، وفي كل ما يفعلونه ويقولونه، وهذا المعنى يستلزم بكل وضوح أن يكونوا (عليهم السلام) معصومين، وإلا، فلو لم يكونوا معصومين لأمكن أن يصدر منهم الخطأ، وبالتالي إن اقتدينا بهم في هذا الخطأ كنّا قد عصينا الله تعالى، وإن لم نطعهم كنا قد عصيناه أيضًا بمخالفتنا لآية المودة، وهذا تكليف بغير المقدور، وهو قبيح.

فالآية إذن (تدل على عصمة القربى من جهة إطلاق الأمر بالمودة، الملازمة للاتّباع والاقتداء، إذ لا يستقيم هذا الإطلاق إلا مع العصمة، وهو

ص: 180


1- شواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني ج2 ص 191 ح 824.

ما يقضي به العقل دفعًا للتناقض في التشريع ومخالفة الحكمة، إذ لا يُعقل أن يودّ الناس من يصدر منه القبيح ويرتكب المعاصي حتى في مورد القبح والمعصية)(1)

الدليل الثالث: اقتران أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم
اشارة

ويبتني هذا الدليل على مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن القرآن الكريم معصوم

وهذه مقدمة مسلَّمة، بين جميع المسلمين، إذ هو كلام الله تعالى الذي بلّغه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ)(2)، والقدر المتيقن من عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) والمتفق عليه بين جميع الفرقاء هي عصمته في تلقّي الوحي وتبليغه، فلا خلاف في هذه المقدمة.

ناهيك عن دلالة الآيات الكريمة على ذلك، ومنها قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(3)

المقدمة الثانية: أن أهل البيت (عليهم السلام) هم عِدل القرآن

وهذه دلت عليها الكثير من الأحاديث، وأشهرها حديث الثقلين المتواتر، الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من

ص: 181


1- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج6 ص 171.
2- النجم 4.
3- فصلت 41 – 42.

الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.(1)

بل ورد في بعض الروايات بأن العلاقة بين القرآن والعترة هي كالعلاقة بين السبابتين، لا بين الوسطى والسبابة، لئلا تزيد إحداهما على الأخرى، فقد روي أنه قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) فِي آخِرِ خُطْبَتِه يَوْمَ قَبَضَه الله عَزَّ وجَلَّ إِلَيْه: إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ مُسَبِّحَتَيْه- ولَا أَقُولُ كَهَاتَيْنِ -وجَمَعَ بَيْنَ الْمُسَبِّحَةِ والْوُسْطَى- فَتَسْبِقَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَا تَزِلُّوا ولَا تَضِلُّوا، ولَا تَقَدَّمُوهُمْ فَتَضِلُّوا.(2)

النتيجة:

إن لحديث الثقلين دلالات عديدة، وأهمها ما في مقامنا، وهو إثبات العصمة لأهل البيت (عليهم السلام)، باعتبار أن القرآن معصوم، وأهل البيت (عليهم السلام) قد قُرنوا به، وأُمرنا بطاعتهم كما أُمرنا بطاعة القرآن، والأمر هذا جاء بنحو مطلق لا مقيد، والنبي (صلى الله عليه وآله) أخبر أن القرآن لن يفترق عن العترة الطاهرة ولا هم عنه، فينتج أن أهل البيت (عليهم السلام) معصومون كما القرآن الكريم.

ص: 182


1- الحديث متواتر، انظر مثلًا: مسند أحمد بن حنبل ج3 ص 14 و ج5 ص 182 وسنن الترمذي ج5 ص 329 والمستدرك للحاكم النيسابوري ج3 ص 110 وج3 ص 148 ومجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص 162 وغيرها من المصادر.
2- الكافي للكليني ج2 ص 415 بَابُ أَدْنَى مَا يَكُونُ بِه الْعَبْدُ مُؤْمِناً أَوْ كَافِراً أَوْ ضَالاًّ- ح1.

ويؤيد هذا المعنى ما روي عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: الامام منا لا يكون إلا معصومًا، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيُعرف بها؛ ولذلك لا يكون إلا منصوصًا. فقيل له: يا ابن رسول الله، فما معنى المعصوم؟ فقال: هو المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، لا يفترقان إلى يوم القيامة، والإمام يهدي إلى القرآن والقرآن يهدي إلى الامام، وذلك قول الله عز وجل: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(1).(2)

فلاحظ أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) ربط بين القرآن والعترة كما هو مفاد حديث الثقلين، وأشار إلى أن ذلك يدل على عصمة العترة، إذ القرآن يهدي للتي هي أقوم، والعترة تلازم القرآن مطلقًا، فتكون العترة هادية إلى التي هي أقوم، والهادي بالمطلق لا يكون إلا معصومًا، وهو المطلوب.

ص: 183


1- الإسراء 9.
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 132 باب معنى عصمة الامام ح1.

ص: 184

النقطة الثالثة: علم أهل البيت (عليهم السلام) اللّدني

اشارة

تقدم أن من أهم مؤهلات الإمام هو العلم الخاص، الذي يأخذه المعصوم بطرق غير الطرق المتعارفة لدى الناس، وهو ما يُعبّر عنه بالعلم اللدني.

وقد دلّت الروايات الكثيرة على أن علم أهل البيت (عليهم السلام) لم يكن إلا لدنيًا، لمكان عصمتهم، فالعصمة حيث تعني عدم الخطأ مطلقًا، أي إنها تعني الإصابة للواقع دومًا، فهذا معناه أن لدى المعصوم من العلم ما يكشف له الواقع، فيصيبه دائمًا، ولا يكون ذلك إلا إذا كان العلم خاصًا لدنيًا، وإلا فالعلم العادي (الكسبي من خلال المعاهد العلمية والمعلّمين) يحتمل الخطأ كما يحتمل المطابقة.

والروايات في ذلك كثيرة جدًا، ونذكر منها النصوص الثمانية التالية:

النص الأول

عن الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) في قوله عز وجل: (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) قال: المشكاة نور العلم في صدر النبي (صلى الله عليه وآله).

(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) الزجاجة صدر علي (عليه السلام)، صار علم النبي (صلى الله عليه وآله) إلى

ص: 185

صدر علي (عليه السلام).

(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) قال: نور.

(لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال: لا يهودية ولا نصرانية.

(زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) قال: يكاد العالم من آل محمد (عليهم السلام) يتكلم بالعلم قبل أن يُسأل.

(نُورٌ عَلىٰ نُورٍ)(1) يعني: إمامًا مؤيدًا بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد (عليهم السلام)، وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة...(2)

الرواية واضحة في أن علم الإمام إنما يأتيه بطريق غيبي، بطريقة الانتقال إلى صدره، وهذه طريقة غيبية غير متعارفة.

النص الثاني

عن الإمام الحسين (عليه السلام) قال: لما أنزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(3)

قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يا رسول الله، هو التوراة؟ قال: لا. قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا. قالا: فهو القرآن؟ قال: لا. قال: فأقبل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هو هذا، إنه الامام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كل شيء..(4)

ص: 186


1- النور 35.
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 158.
3- يس 12.
4- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 95 معنى الامام المبين ح1.

فلاحظ كيف أن النبي (صلى الله عليه وآله) أوضح أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الإمام الذي حوى علم كل شيء، وهذا لا يكون إلا بعلم لدني خاص.

النص الثالث

قال أَبُو جَعْفَرٍ الباقر (عليه السلام): والله، إِنَّا لَخُزَّانُ الله فِي سَمَائِه وأَرْضِه، لَا عَلَى ذَهَبٍ ولَا عَلَى فِضَّةٍ إِلَّا عَلَى عِلْمِه.(1)

الرواية عبّرت عن أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم خُزّان علم الله تعالى، وعلم الله تعالى ليس علمًا عاديًا متعارفًا كما هو واضح، فمن كانوا خُزّانه يكون لهم من العلم ما ليس طبيعياً ولا في متناول يد العموم، على أن (وجه تسميتهم بالخزائن هو أنهم مفاتيح العلوم الإلهية، والأُمناء على أسرارها، ففي اللغة: خزائن السموات والأرض: ما خزنه الله تعالى فيهما من الأرزاق ومعايش العباد، وخزائن الله: غيوب الله تعالى، سُمّيت خزائن لغيوبها واستتارها، وخزن المال: غيبه، يُقال: خزنت المال واختزنته أي كتمته وجعلته في المخزن، وكذا خزنت الشر أي كتمته، والخازن هو الحافظ للشيء والأمين عليه...)(2)

النص الرابع

عن إسحاق الحريري قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فسمعته وهو يقول: إن لله عمودًا من نور، حجبه الله عن جميع الخلائق، طرفه عند الله وطرفه

ص: 187


1- الكافي للكليني ج1 ص 192 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) وُلَاةُ أَمْرِ الله وخَزَنَةُ عِلْمِه- ح2.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج5 ص 276.

الآخر في أُذن الإمام، فإذا أراد الله شيئًا أوحاه في أُذن الامام.(1)

فالرواية واضحة في أن علم الإمام علم غير عادي، وقريب من مضمونها النص التالي:

النص الخامس

عن صالح بن سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت جالسًا عنده فقال ابتداءً منه: يا صالح بن سهل، إن الله جعل بينه وبين الرسول رسولًا، ولم يجعل بينه وبين الإمام رسولًا. قال: قلت: وكيف ذاك؟ قال: جعل بينه وبين الامام عمودًا من نور، ينظر الله به إلى الإمام، وينظر الإمام [به إليه](2)

إذا أراد علم شيء نظر في ذلك النور فعرفه.(3)

النص السادس

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الْعِلْمِ، أهُوَ عِلْمٌ يَتَعَلَّمُه الْعَالِمُ مِنْ أَفْوَاه الرِّجَالِ، أَمْ فِي الْكِتَابِ عِنْدَكُمْ تَقْرَؤُونَه فَتَعْلَمُونَ مِنْه؟

قَالَ (عليه السلام): الأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وأَوْجَبُ، أمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الله عَزَّ وجَلَّ: (وكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ولَا

ص: 188


1- بصائر الدرجات للصفار ص 459 باب (12) باب الفصل الذي فيه الأحاديث النوادر مما يفعل بالأئمة من الأبواب التي فيما ذكر العمود والنور وغير ذلك- ح1.
2- هذه الزيادة في بحار الأنوار ج26 ص 134.
3- بصائر الدرجات للصفار ص 460 باب (12) باب الفصل الذي فيه الأحاديث النوادر مما يفعل بالأئمة من الأبواب التي فيما ذكر العمود والنور وغير ذلك- ح2.

الإِيمانُ)، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): أَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ أَصْحَابُكُمْ فِي هَذِه الآيَةِ، أيُقِرُّونَ أَنَّه كَانَ فِي حَالٍ لَا يَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولَا الإِيمَانُ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا يَقُولُونَ.

فَقَالَ لِي: بَلَى، قَدْ كَانَ فِي حَالٍ لَا يَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولَا الإِيمَانُ، حَتَّى بَعَثَ الله تَعَالَى الرُّوحَ الَّتِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَمَّا أَوْحَاهَا إِلَيْه عَلَّمَ بِهَا الْعِلْمَ والْفَهْمَ، وهِيَ الرُّوحُ الَّتِي يُعْطِيهَا الله تَعَالَى مَنْ شَاءَ فَإِذَا أَعْطَاهَا عَبْداً عَلَّمَه الْفَهْمَ.(1)

النص السابع

قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): يَا جَابِرُ، إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وهُوَ قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ: (وكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) فَالسَّابِقُونَ هُمْ رُسُلُ الله (عليهم السلام) وخَاصَّةُ الله مِنْ خَلْقِه، جَعَلَ فِيهِمْ خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ: أَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ فَبِه عَرَفُوا الأَشْيَاءَ، وأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الإِيمَانِ فَبِه خَافُوا الله عَزَّ وجَلَّ، وأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الْقُوَّةِ فَبِه قَدَرُوا عَلَى طَاعَةِ الله، وأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ الشَّهْوَةِ فَبِه اشْتَهَوْا طَاعَةَ الله عَزَّ وجَلَّ وكَرِهُوا مَعْصِيَتَه، وجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْمَدْرَجِ الَّذِي بِه يَذْهَبُ النَّاسُ ويَجِيؤُونَ، وجَعَلَ فِي الْمُؤْمِنِينَ وأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ رُوحَ الإِيمَانِ فَبِه خَافُوا الله وجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْقُوَّةِ فَبِه قَدَرُوا عَلَى طَاعَةِ الله وجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الشَّهْوَةِ فَبِه اشْتَهَوْا طَاعَةَ الله وجَعَلَ فِيهِمْ رُوحَ الْمَدْرَجِ الَّذِي بِه

ص: 189


1- الكافي للكليني ج1 ص 273 – 274 بَابُ الرُّوحِ الَّتِي يُسَدِّدُ الله بِهَا الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) ح5.

يَذْهَبُ النَّاسُ ويَجِيؤُونَ.(1)

النص الثامن

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أنه قال لجابر حينما سَأَله عَنْ عِلْمِ الْعَالِمِ فَقَالَ: يَا جَابِرُ، إِنَّ فِي الأَنْبِيَاءِ والأَوْصِيَاءِ خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ: رُوحَ الْقُدُسِ ورُوحَ الإِيمَانِ ورُوحَ الْحَيَاةِ ورُوحَ الْقُوَّةِ ورُوحَ الشَّهْوَةِ، فَبِرُوحِ الْقُدُسِ يَا جَابِرُ عَرَفُوا مَا تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ، إِنَّ هَذِه الأَرْبَعَةَ أَرْوَاحٌ يُصِيبُهَا الْحَدَثَانُ إِلَّا رُوحَ الْقُدُسِ فَإِنَّهَا لَا تَلْهُو ولَا تَلْعَبُ.(2)

وهنا إشارات
الإشارة الأولى: نصٌ في كونهم (عليهم السلام) واسطة في الفيض

تقدم في الإمامة العامة أن العلم هو المحور في التكامل، وحيث توفَّر أهل البيت (عليهم السلام) على العلم الخاص اللدني، فهذا العلم يُمكّنهم أن يكونوا في موقع الهيمنة على عالم الإمكان، وهو المسمى ب-(واسطة الفيض).

ومما يُشير إلى هذه الوساطة ما روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لابن مسعود: اعلم أن الله خلقني وعليًا من نور عظمته قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، إذ لا تسبيح ولا تقديس، ففتق نوري فخلق منه السماوات والأرضين، وأنا والله أجلُّ من السماوات والأرضين. وفتق نور علي (عليه السلام)، فخلق منه العرش والكرسي، وعليٌّ والله أفضل من العرش والكرسي. وفتق نور الحسن،

ص: 190


1- الكافي للكليني ج1 ص 271 – 272 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الأَرْوَاحِ الَّتِي فِي الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 272 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الأَرْوَاحِ الَّتِي فِي الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح2.

فخلق منه اللوح والقلم، والحسن والله أفضل من اللوح والقلم، وفتق نور الحسين (عليه السلام) وخلق منه الجنان والحور العين، والحسين والله أفضل من الجنان والحور العين. فأظلمت المشارق والمغارب، فشكت الملائكة إلى الله تعالى أن يكشف عنهم تلك الظلمة، فتكلّم الله جل جلاله بكلمة واحدة، فخلق من تلك الكلمة نورًا وروحًا فأضاف النور إلى تلك الروح، فأقامها أمام العرش، فزهرت المشارق والمغارب، فهي فاطمة الزهراء فلذلك سميت الزهراء.

يا ابن مسعود، إذا كان يوم القيامة، يقول الله جل جلاله لي ولعلي: ادخلا الجنة من شئتما، وأدخلا النار من شئتما.(1)

الإشارة الثانية: الإمامة التكوينية

بهذا العلم الخاص، تسنّى لتلك الفئة أن تؤثر في النفوس وتتصرف فيها بإيصالها إلى المطلوب، مع حفظ الاختيار للآخرين، وهي مرتبة من مراتب الإمامة. وهي المسماة ب-(الإمامة التكوينية).

إن الإمامة قرآنيًا قُرنت بالهداية في عدة آيات، وقد جاء هذا القرن بنحو التعريف، بمعنى أن تعريف الإمامة وبيانها مأخوذ فيه الهداية، لا أنها شيء زائد على الإمامة، فمهمة الإمام هي الهداية، أي إن متعلق هذه الإمامة (التي هي التبعية) هي الهداية، تمامًا كما أن (إمامة الجماعة) تقتضي تبعية المأموم للإمام في أفعال الصلاة لا مطلقًا. فالإمامة هي من قبيل المفاهيم التي تحتاج إلى متعلق، فيقال: إمام الصلاة، إمام الحج، وقرآنيًا يُقال: إمام الهداية. فالإمام

ص: 191


1- الروضة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)- شاذان بن جبرئيل القمي (ابن شاذان) ص 113

في نفسه مهتدي، ويهدي غيره.

قال السيد الطباطبائي قدس سره: (والذي نجده في كلامه تعالى: أنه كلما تعرّض لمعنى الإمامة، تعرّض معها للهداية تعرّض التفسير، قال تعالى في قصص إبراهيم عليه السلام: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا...)(1)،

وقال سبحانه: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(2)، فوصفها بالهداية وصف تعريف)(3)

فالولاية التكوينية تعني فيما تعنيه أن الإمام بعلمه اللدني يعمل على إمكان أن يؤثر في النفوس نحو الخير، لا بنحو يسلب منها الاختيار، وإنما بنحو يوفر الظروف الملائمة لتفعيل الاختيار بالوجهة الصحيحة للتكامل، وهو ما يشير إليه قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(4)

فمهمة الإمام هي الهداية العملية، أي الأخذ بيد الاتباع، لكن عندما يقرر الأتباع باختيارهم تلك التبعية للإمام، وهذا ما يبرر انحراف البعض عن خط الإمامة رغم علمهم اليقيني بحقانيتها.

ص: 192


1- الأنبياء 72 – 73.
2- السجدة 24.
3- تفسير الميزان ج1 ص 272.
4- القصص 56.

وهو ما يظهر من رواية وفد اليمن المتقدمة في آخر المقدمة السابعة من مقدمات الإمامة العامة، حيث إنهم عرفوا إمام الحق بمجرد أن نظروا إليه.

والحاصل: أن المعصوم وإن كان يمتلك من القدرات الغيبية الشيء الكثير، ولكنه لم يكن ليصادر اختيار الإنسان في مساحته، فالمعصوم يقوم بما عليه القيام به كفاعل للهداية، ويبقى على الفرد أن يمارس اختياره كقابل لتلك الهداية -بإرادته هو-، فيكون هو مسؤولًا عنها، ولم يكن المعصوم ليُغطّي هذه المساحة التي هي ضمن نطاق الاختيار الإنساني. ولا يكون حلّ مشاكل الإنسان ملقىً على هامش العصمة فيه، ولا تقوم العصمة بهدايته تكوينًا ومن دون تفعيل اختياره هو بإرادته.

إن عدم فهم هذه الحقيقة أو إغفالها أدى إلى ظهور مشكلة حقيقية تتلخص في:

أن الكثير يريد إلقاء المسؤولية -التي من المفترض أن يكون هو مسؤولًا عنها- على القوى الخارقة و (العصمة) وأنه لماذا لم تقم هي بتلك المسؤولية، وهذا ما يفرز التواكل والتكاسل والتعاجز، أو التشكيك في جدوى وجود مثل هذه القوى.

وإلى هذا المعنى يُشير ما روي عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): مَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وتَرَكَ التِّجَارَةَ! فَقَالَ: وَيْحَه، أمَا عَلِمَ أَنَّ تَارِكَ الطَّلَبِ لَا يُسْتَجَابُ لَه، إِنَّ قَوْماً مِنْ

ص: 193

أَصْحَابِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) لَمَّا نَزَلَتْ (ومَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَه مَخْرَجاً ويَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أَغْلَقُوا الأَبْوَابَ وأَقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ وقَالُوا: قَدْ كُفِينَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، تُكُفِّلَ لَنَا بِأَرْزَاقِنَا فَأَقْبَلْنَا عَلَى الْعِبَادَةِ. فَقَالَ: إِنَّه مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَجَبْ لَه، عَلَيْكُمْ بِالطَّلَبِ.(1)

إن المنهج يقتضي أن يكون لكل فاعل مساحته المسؤول عنها هو، والتي لا يتجاوزها إلى مساحة فاعل آخر (أو قابل).

نظير عملية التعليم، فإنه ليس من الصحيح أن يقوم الأستاذ بتلقين الطالب كل ما يزيد في معرفته، ويكتب له المعرفة، ويرددها عليه حتى يحفظها، إلى حدٍّ يقوم الأستاذ بإنتاج طالب معلّب، لم يبذل أي جهد في سبيل تحصيل المعرفة، إن هذا في الحقيقة قتل للمنهج المعرفي، وهو عبارة أخرى عن عملية مصادرة اختيار الطالب من قِبَلِ الأستاذ.

ولذلك؛ فرغم امتلاك النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) قدرات غيبية كبيرة جدًا، لكنه لم يزد على أكثر من الدعوة وإقامة المعجزات الإثباتية، ولم يتدخل في مساحة اختيار القابل (أفراد الأمة)، ولذلك أتيح للأفراد إرادة خلاف الهداية بإرادتهم (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ

ص: 194


1- الكافي للكليني ج5 ص 84 باب الرزق من حيث لا يحتسب ح5.

الشَّاكِرِينَ.)(1)

ولذلك نفسه، لم يسلب الباري جل وعلا اختيار الإنسان فيما يتعلق بالهداية، فلم تكن هدايته تكوينية، رغم قدرته على ذلك (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَىٰ النَّاسَ جَمِيعاً)(2)

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(3)

وما ذلك إلا لأن تقبّل الهداية هي مسؤولية الإنسان الاختيارية.

الإشارة الثالثة: التلازم بين العلم اللدني والعصمة

وبهذا العلم أيضاً، أمكن لهذه أن تتوفر على الصواب (العصمة). كما تبين فيما تقدم حيث قلنا ما نصه: (فكلما زاد العلم –في أي تخصص من التخصصات- اقتربنا من الصواب، وكلما زاد العلم زادت القدرة وزادت الاستفادة من الواقع.).

الإشارة الرابعة: الحاجة إلى النص ضرورة في اكتشاف العلم اللدني

إن التعرف على هذه الفئة يتطلب التعرف على خصائصهم وأهمها العلم الخاص، وهو غير متاح لمن هو أدنى منهم، ومنه تنبثق مقولة الحاجة إلى (النص)، وهذا ما أشار له الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في رواية تقدمت

ص: 195


1- آل عمران 144.
2- الرعد 31.
3- يونس 99.

حيث قال: الإمام منا لا يكون إلا معصومًا، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيُعرف بها؛ ولذلك لا يكون إلا منصوصًا...(1)

الإِشارة الخامسة: التلازم بين العلم الخاص وبين الحكم والإدارة

حيث وُجد هذا العلم الخاص وترتبت عليه تلك الآثار (من وساطة في الفيض والتأثير في النفوس والعصمة...) حينها يصبح (الحكم والإدارة) وقيادة الدولة من أبسط حقوق هذه الفئة، وترشيح غيرهم لهذا المنصب لا معنى له منهجياً، فضلًا عن كونه مخالفًا لأمر السماء.

وبعبارة أكثر تفصيلًا:

تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات الإمامة العامة: أن الإمام لا بد أن يكون له علم خاص، وقد تقدمت البيانات الخاصة بذلك.

ونحن نعتقد أن أئمتنا (عليهم السلام) عندهم هذا العلم الخاص، فلا نقاش بين الفرقاء على علم أمير المؤمنين (عليه السلام) بل أعلميته، ويشهد بذلك –إضافة إلى ما تقدم: ما روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (أَعْلَمُكُمْ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَاْلِبٍ)(2) وكان (صلى الله عليه وآله) يقول: أَنَا مَدِيْنَةُ العِلْمِ وعَلِيٌّ بَاْبُهَا، وهل تُدخَلُ المدينةُ إلا من بابِها...(3)

ويقول (صلى الله عليه وآله): أقْضَاكم عَليٌّ.(4)

ص: 196


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 132 باب معنى عصمة الامام ح1.
2- الكافي للكليني ج7 ص424 باب النوادر ح6.
3- أمالي الصدوق ص 425/ ح560 / 1.
4- شرح الأخبار للقاضي المغربي ج1 ص 91.

يُضاف إليه اعتراف غيره بأعلميته عليه، فقد نُقل مشهورًا قول عمر (لولا عليٌّ لهلك عمر)(1)

هذا المتفق عليه كافٍ في أن يُدرك الإنسان بفلسفته ومنطقه وتجربته أن عليًا (عليه السلام) يستحق أن يكون على رأس الهرم بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)؛ لتمتُّعِه بتلك المواصفات العلمية التي افتقدها غيره، وأي شخص يسمع بما كان عند علي (عليه السلام) من علم لدني فإنه وبلا تردد يحكم بضرورة تقديمه.

هذا المتفق عليه يجعل من تقديم غيره -ممن هو أقل علمًا منه، فضلًا عمن إذا قيس به كان أميًا، ناهيك عن تقديم الفارغ من أي علم وعدم تمتُّعه بأي مؤهلات للتقديم، سوى امتلاكه للقوة المفرّغة من العلم- يجعل ذلك متضادًا ومتعارضًا مع كل المقاييس التكوينية والبشرية.

ويترتب على ذلك:

أولًا: أن الفلسفة البشرية ومنطقها وتطبيقها العملي يقضي من دون تردّد بتقديم الأعلم ليكون ممثلًا لمقام الإمامة، فإذا ما تدخلت السماء وصرّحت بتعيينه أيضًا، فإن هذا التعيين لا يلزم منه (مصادرة) الاختيار الإنساني، بل على العكس، هو يتماهى ويتماشى مع الفلسفة الإنسانية التي تمّ تطبيقها على واقع التجربة البشرية، فهو توثيق للاختيار الإنساني لا مصادرة له.

فهو يمثّل الإرشاد إلى الفطرة والعقل والمنطق، وليس تعبُّدًا محضًا.

ص: 197


1- دعائم الإسلام للقاضي المغربي ج1 ص 86.

وهذا لا يعني أن الخيرة في تنصيب الإمام للبشر، كلا، وإنما هي حصراً بيد الله تعالى كما تبين، ولكن الذي نريد بيانه هنا: أن هذا الاختيار الإلهي يتماهى مع ما بنت البشرية عليه أمرها من تقديمها الأعلم.

ثانيًا: بعد تسليم كون الملاك في التقديم حسب معايير الإنسان هو العلم، الكفاءة، الأفضلية، -كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات الإمامة العامة- فحين حصول خرق في هذا الملاك، حيث قُدِّم غير الأعلم، فإن منطق الأشياء والواقع يقتضي الاصطفاف مع الأعلم؛ لسببين:

1/سبب ديني أخروي، إذ إن تقديم الأعلم أمر إلهي، والاصطفاف إلى جانبه إرادة السماء، وقد رتبت على ذلك الثواب والنجاة.

2/سبب ديني دنيوي، فالإمامة، حلقة من مشروع متواصل الحلقات، يبدأ بأطروحة الدين من لدن آدم (عليه السلام) وينتهي بتطبيقه ومن الجميع، فالاصطفاف مع الإمامة يدخل في سياق إعادة الأمور إلى نصابها المنطقي، ولو طال الزمن.

وفي الواقع، فإن الدين هو مشروع (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(1)،

مشروع: لأكلتم من فوق رؤوسكم..

ونبوءة الدين: أن نهاية المطاف أن يجد هذا المشروع فرصته الكاملة (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)(2)، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَدِينِ الْحَقِّ

ص: 198


1- الجن 16.
2- المجادلة 21.

لِيُظْهِرَهُ عَلَىٰ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(1).

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(2)

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(3).

الاصطفاف مع الأعلم يصبُّ في خطوات تحقيق هذا المشروع (أحيوا أمرنا)، فهو ليس مجرد اصطفاف مع فكرة، وتباكي على مقولة، بل يهدف إلى حفظ الحقيقة (ولو عن طريق إلقاء الحجة) في حدِّه الأدنى ولو في مجموعة، ويستمر إلى تحقّق الهدف ولو بعد حين. ضمن خطوات اختيارية متسلسلة.

الإشارة السادسة: أدلة أخرى على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده الطاهرين
اشارة

لا شك أن جميع المسلمين يعتقدون بخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، والفرق أن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) يعتقدون بالحق أنه الخليفة المباشر بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وغيرهم يعتبرونه الرابع، وهذا ليس خلافاً في الترقيم فقط، وإنما هو خلاف عقائدي قسّم الأمة الإسلامية إلى قسمين كبيرين، وتتالت الخلافات الأصولية والفرعية تبعًا لهذا الخلاف، وعلى كل حال، فما يُذكر من أدلة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) هي أكثر من أن يُحصى هنا، ونذكر بعضًا قليلًا جدًا منها هنا –من غير ما تقدم:

ص: 199


1- التوبة 33.
2- القصص 5.
3- الأنبياء 105.
الدليل الأول: لزوم تقديم الأفضل

وهو يبتني على مقدمتين:

المقدمة الأولى: إن العقل يحكم بلزوم تقديم الأفضل على غيره ولو كان فاضلًا، خصوصًا في القضايا المصيرية، والتي يتوقف عليها مستقبل الإنسان، فكيف بأمر الآخرة.

المقدمة الثانية: لقد ثبت أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الأفضل على الإطلاق، وفي جميع المستويات الشخصية والإسلامية، علمًا وورعًا وتقوىً.

وهذه المقدمة متفق عليها، وتثبتها الأدلة النقلية الخاصة الدالة على عصمته وعلمه الخاص والنص عليه (عليه السلام)، وقد تقدمت النصوص الدالّة على ذلك، وستأتي نصوص على أفضليته بعد قليل إن شاء الله تعالى.

النتيجة: لا بد من تقديمه (عليه السلام) على غيره في مسألة الإمامة، لأنها مما يوقف عليه مصير الإنسان.

الدليل الثاني: احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل

لقد أثبت التاريخ أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان مستغنيًا عن الجميع فيما يتعلق بقضايا الإسلام المختلفة، وكان عنده من العلم ما يجعله قادرًا على الإجابة عن أي مسألة متعلقة بالإسلام، ولم نجد هذه الصفة في غيره من أهل الإسلام، أو ممن تسنّم منصب الخلافة بطريق غير طريق النص.

والشواهد على هذه المسألة أكثر من أن تُحصى، وسنذكر بعضها قريبًا إن

ص: 200

شاء الله تعالى.

الدليل الثالث: هو الأعلم بالقرآن الكريم

لا ريب في أن أهم وظيفة يقوم بها خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو تفسير القرآن الكريم وتوضيحه، والاستفادة منه في إعطاء الأحكام الشرعية، وردّ القضايا إليه، ولم يذكر التاريخ أحدًا كأمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده المعصومين في أداء هذا المعنى أبدًا، والشواهد كثيرة أيضًا، وستأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

تنبيه:

إن النصوص التي تُثبت أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) وإجابته عما عجز عنه غيره هي أكثر من أن تُحصى في كتب القوم قبل كتبنا، ونذكر هنا بعضًا قليلًا من تلك النصوص:

1/فقد روي أن بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال: أنت خليفة نبي هذه الأمة؟ فقال له: نعم، فقال: فإنا نجد في التوراة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبرني عن الله تعالى أين هو في السماء أم في الأرض؟ فقال له أبو بكر: في السماء على العرش. فقال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه، وأراه على هذا القول في مكان دون مكان. فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة، اغرب عني وإلا قتلتك. فولى الحِبرُ متعجبًا يستهزئ بالإسلام، فاستقبله أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: يا يهودي، قد عرفت ما سألتَ عنه، وما أُجبتَ به، وإنا نقول: إن الله جل وعز أيّنَ الأين فلا أين له، وجل عن أن يحويه مكان، وهو

ص: 201

في كل مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علما بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره، وإني مخبرُك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدق ما ذكرته لك، فإن عرفته أتؤمن به؟ قال اليهودي: نعم، قال: ألستم تجدون في بعض كتبكم أن موسى بن عمران (عليه السلام) كان ذات يوم جالسًا إذ جاءه ملك من المشرق، فقال له موسى: من أين أقبلت؟ قال: من عند الله عز وجل، ثم جاءه ملك من المغرب فقال له: من أين جئت؟ قال: من عند الله، وجاءه ملك آخر، فقال: قد جئتك من السماء السابعة من عندا الله تعالى، وجاءه ملك آخر فقال: قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند الله عز اسمه، فقال موسى عليه السلام: سبحان من لا يخلو منه مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان. فقال اليهودي: (أشهد أن هذا هو) الحق، وأنك أحق بمقام نبيك ممن استولى عليه.(1)

2/وروي أنَّه تزوَّج رجل امرأة من جهينة، فولدت له غلاماً لستَّة أشهر، فانطلق زوجها إلىٰ عثمان، فأمر برجمها، فبلغ ذلك عليّاً، فأتاه فقال: «ما تصنع؟»، قال: ولدت غلاماً لستَّة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال عليٌّ: «أمَا سمعت الله تعالىٰ يقول: ]وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً[(2)، وقال: ]وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ[(3)؟ فكم تجد بقي إلَّا ستَّة أشهر؟»، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، عليَّ بالمرأة، فوجدوها قد فُرِغَ

ص: 202


1- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 201 – 202 ومتشابه القرآن ومختلفة لابن شهر آشوب ج1 ص 70.
2- الأحقاف: 15.
3- البقرة: 233.

منها، وكان من قولها لأُختها: يا أُخيَّة، لا تحزني، فوَالله، ما كشف فرجي أحدٌ قطُّ غيرُه. قال: فشبَّ الغلام بعد فاعترف به الرجل، وكان أشبه الناس به...(1).

3/وقال إبراهيم التيمي: سئل أبو بكر الصديق... عن تفسير الفاكهة والأبّ فقال: أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.

وقال أنس: سمعت عمر بن الخطاب... قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟ ثم رفع عصًا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلّف، وما عليك يا بن أم عمر ألا تدري ما الأبّ؟ ثم قال: اتّبعوا ما بُيِّنَ لكم من هذا الكتاب، وما لا، فدعوه.(2)

في حين أن أمير المؤمنين (عليه السلام) فسّرها بطريقة تفسير القرآن بالقرآن، حيث روي أنه لمّا بلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) مقالة أبي بكر في ذلك، فقال (عليه السلام): يا سبحان الله، أما علِم أن الأبَّ هو الكلأ والمرعى، وأن قوله عز اسمه: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) اعتداد من الله سبحانه بإنعامه على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم مما تحيى به أنفسهم وتقوم به أجسادهم؟!(3)

إن فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحقيقة أكثر من أن تُحصى، وهي لوحدها

ص: 203


1- سبل الهدىٰ والرشاد للصالحي الشامي 11: 289.
2- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج19 ص 223.
3- الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص 200.

كافية –لمن كان عنده قلب أو ألقى السمع وهو شهيد- لاتباعه، بل لضرورة اتباعه وتقديمه على غيره...

أما لماذا تركوه إذا كانت هذه حاله؟

فهذا ما أجابتنا عنه بعض الروايات والكلمات:

1/فقد روي عن أبي زيد النحوي الأنصاري قال: سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت له: لم هجر الناس عليًا (عليه السلام) وقرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرباه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناه في الاسلام عناه؟ فقال: بهر واللهِ نورُه أنوراهم، وغلبهم على صفو كل منهل والناس إلى أشكالهم أمْيل...(1)

2/ وعن الحسن بن علي بن فضال عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن أمير المؤمنين (عليه السلام): كيف مال الناس عنه إلى غيره وقد عرفوا فضله وسابقته ومكانه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال (عليه السلام): إنما مالوا عنه إلى غيره لأنه كان قد قتل آباءهم وأجدادهم وأعمامهم وأخوالهم وأقرباءهم المحاربين لله ولرسوله عددًا كثيرًا، فكان حقدهم عليه لذلك في قلوبهم، فلم يحبوا أن يتولى عليهم، ولم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك، لأنه لم يكن له في الجهاد بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثل ما كان له فلذلك عدلوا عنه ومالوا إلى غيره.(2)

ص: 204


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج1 ص 145 باب 121 العلة التي من أجلها ترك الناس عليًا (عليه السلام) وعدلوا عنه إلى غيره مع معرفتهم بفضله ح1).
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج1 ص 146 باب 121 العلة التي من أجلها ترك الناس عليًا (عليه السلام) وعدلوا عنه إلى غيره مع معرفتهم بفضله ح3).

3/ وقال ابن عمر لعلي (عليه السلام): كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدرٍ وأُحُد من ساداتهم سبعين سيدًا تشرب أنوفهم الماء قبل شفاهم(1)....

4/وسئل زين العابدين (عليه السلام) وابن عباس أيضًا: لم أبغضت قريش عليًا؟ قال: لأنه أورد أولهم النار، وقلّد آخرهم العار. (2)

5/[وفي] معرفة الرجال عن الكشي أنه كانت عداوة أحمد بن حنبل لأمير المؤمنين (عليه السلام) ان جده ذا الثدية قتله أمير المؤمنين يوم النهروان. (3)

6/[وفي] كامل المبرد: أنه كان أصمغ بن مظهر جد الأصمعي قطع عليٌّ (عليه السلام) يده في السرقة، فكان الأصمعي يبغضه...(4)

ص: 205


1- قال العلامة المجلسي في بحاره ج29 ص 483: (بيان: شرب أنوفهم الماء قبل شفاههم.. كناية عن طول أنوفهم لبيان حسنهم، فإن العرب تمتدح بذلك، وقد روى نحوه في أوصاف النبي (صلى الله عليه وآله)، أو لبيان شرفهم وفخرهم فإنهما مما ينسب إلى الانف، والأول أظهر.)
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج3 ص 21 في سبب بغضهم له سلام الله عليه).
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج3 ص 21 في سبب بغضهم له سلام الله عليه).
4- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج3 ص 21 في سبب بغضهم له سلام الله عليه).

ص: 206

النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية)

النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية).(1)

أشرنا في مقدمات الإمامة العامة أن العلم كلما زاد، فإن القدرة تزداد طردًا معه، وبالتالي إذا وصل العلم إلى مرتبة كونه لدنيًا، فالقدرة أيضًا تصل إلى مرحلة كونها غير عادية، وتخرج عن الأطر العامة والمتعارفة للقدرة العادية للبشر، وهو ما يُسمى بالولاية التكوينية.

وحيث ثبت العلم اللدني لأهل البيت (عليهم السلام)، حينها يكون ثبوت الولاية التكوينية لهم أمرًا طبيعيًا، لأنها لازم للعلم اللدني.وبعبارة علمية يُقال:

تصف الأبحاث الكلامية أهل البيت (عليهم السلام) بأن لهم: (الولاية التكوينية) وأنهم (الواسطة في الفيض). ولمعرفة الحال في هذين المصطلحين، نذكّر بما يذكر في بحوث العلة في الفلسفة:

أولًا: أن الفاعل قسمان:

القسم الأول: الفاعل الإلهي، وهو الذي يُعطي الوجود لا من شيء، بل

ص: 207


1- سيأتي تفصيل الحديث حول الولاية التكوينية في آخر الجزء الرابع إن شاء الله تعالى/مبحث: الغلو: المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام).

هو إبداع، لا عن مثال سابق يُحتذى به.

القسم الثاني: الفاعل بالتدبير، أو قل: فاعل الحركة، والحركة وإن كانت وجودًا، إلاّ أن فاعلها هو فاعل تدبير أي يعطي الوجود عن شيء موجود.

ثانيًا: تقدم في بحث التوحيد: أن أسماء الله تعالى وصفاته وكمالاته على نحوين:

فمنها ما يمكن أن يتنزل ليتصف به الممكن، مع حفظ الفاصلة اللامتناهية بين المحدود واللا محدود، كما في العلم والقدرة، بل الوجود نفسه.

ومنها ما يكون مستأثرًا، بأن يكون مختصًا بالله تعالى، ولا يمكن لغيره أن يتصف به، كما في الاستقلالية بالذات، واللا تناهي، ووجوب الوجود. فكل ما عدا الله تعالى بدون استثناء فهو ليس مستقلًا بذاته، وهو محدود متناهٍ، وهو ممكن الوجود.

ثالثًا: هناك من يذهب إلى أن الفاعل الإلهي هو من الأسماء المستأثرة، فليس هناك من يُبدع الوجود لا عن مثال سابق إلا الله تعالى، وليس هناك (فاعل إلهي بالغير) أو (فاعل إلهي بإذن الله تعالى).

وهناك من يذهب إلى أن الفاعل الإلهي ليس كذلك، وأنه يمكن أن يكون هناك مبدع لا عن مثال سابق لكن بإذن الله تعالى وفي طوله وبحوله وقوّته.

أما الفاعل بالتدبير (الذي يفعل عن مثال سابق)، فقد اتفقوا على أنه ليس من الأسماء المستأثرة، كيف والقرآن يصرح بوجود فاعل غير الله تعالى

ص: 208

من هذا القبيل، قال تعالى (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(1).

نعم، يبقى هذا الأمر بإذن الله تعالى وبحوله وقوته كما هو حال كل الممكنات والمواقع في عالم الإمكان وجودًا وصفة وأثرًا، حدوثًا وبقاءً.

إذا تبين هذا نقول:

إنه وفق فرضية أن الفاعل الإلهي من الأسماء المستأثرة، حينها ستكون الولاية التكوينية والواسطة في الفيض من نوع الفاعل بالتدبير.

ووفق فرضية أن الفاعل الإلهي يمكن أن يتنزّل لعالم الممكنات بإذن الله تعالى، حينها يمكن أن تكون الولاية التكوينية والواسطة في الفيض من نوع الفاعل الإلهي، كما يمكن أن تكون من نوع الفاعل بالتدبير، وكله بإذن الله تبارك وتعالى وحوله وقوّته.

فعلى كل حال، لا مانع عقليًا ولا نقليًا من أن يكون هناك فاعل في هذا الكون، يتصرف في قوانينه بما شاء، لكن بإذن الله تعالى وفي طوله.

والولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام) لا تخرج عن هذا المعنى، فهي إما من نوع الفاعل الإلهي (لمن يقبل أنه ليس من الأسماء المستأثرة لله تعالى) أو من نوع الفاعل بالتدبير، وهذا المعنى لا مانع منه كما تبين.

بل إن القرآن الكريم يُصرّح بثبوت هذا المعنى لغير أهل البيت (عليهم السلام)، كما في قوله تعالى على لسان النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام)

ص: 209


1- النازعات 5.

(وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(1)

وقد دلّت بعض الروايات الشريفة على أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا على هذا القدر من الفاعلية والولاية التكوينية التي هي في طول ولاية الله تعالى وبإذنه.

فعن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنت عنده فذكروا سليمان وما أُعطي من العلم وما أوتي من الملك، فقال لي: وما أُعطي سليمان بن داود! إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله (قُلْ كَفَى باللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(2)

وكان –واللهِ- عند علي (عليه السلام) علم الكتاب. فقلت: صدقت والله، جعلت فداك.(3)

وعن عبد الرحمن بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)(4)؟ قال: ففرج أبو عبد الله (عليه السلام) بين أصابعه فوضعها على صدره، ثم قال: والله عندنا علم

ص: 210


1- (49) من سورة آل عمران.
2- الرعد 43.
3- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 232 – 233 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح1.
4- النمل 40.

الكتاب كله.(1)

وعن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخى عليه ستره؟ فقال: يا مفضل، إن الله تبارك وتعالى جعل للنبي (صلى الله عليه وآله) خمسة أرواح: روح الحياة، فبه دب ودرج، وروح القوة، فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان، فبه أمر وعدل، وروح القدس، فبه حمل النبوة، فإذا قبض النبي (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار في الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو، والأربعة الأرواح تنام وتلهو وتغفل وتسهو، وروح القدس ثابت، يرى به ما في شرق الأرض وغربها وبرها وبحرها. قلت: جعلتُ فداك، يتناول الإمام ما ببغداد بيده؟ قال: نعم، وما دون العرش.(2)

وعن سماعة بن مهران قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الدنيا لتمثَّل للإمام في مثل فلقة الجوز، فلا يعزب عنه منها شيء، وإنه ليتناولها من أطرافها كما يتناول أحدكم من فوق مائدته ما يشاء.(3)

وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الأوصياء لتُطوى لهم

ص: 211


1- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 232 – 233 باب مما عند الأئمة عليهم الصلاة والسلام من اسم الله الأعظم وعلم الكتاب ح2.
2- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 474 باب (14) باب ما جعل الله تعالى في الأنبياء والأوصياء والمؤمنين وساير الناس من الأرواح وأنه فضل الأنبياء والأئمة من آل محمد بروح القدس وذكر الأرواح الخمس ح13.
3- الاختصاص للشيخ المفيد ص 217.

الأرض، ويعلمون ما عند أصحابهم.(1)

إن الروايات التي ذكرت القدرات الغيبية التي كانت عند الأئمة (عليهم السلام) كثيرة جدًا، وهي بمجموعها تورث الاطمئنان بوقوعها لهم (عليهم السلام)، فلا مناص من القول بقدرتهم الغيبية تلك، أو بولايتهم التكوينية بالمعنى الذي تبين.

ص: 212


1- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 418 باب (12) باب ما أعطى الأئمة من القدرة ان يسيروا في الأرض/ ح5.

النقطة الخامسة: الإمامة والسياسة (أو الحاكمية)

اشارة

النقطة الخامسة: الإمامة والسياسة (أو الحاكمية)(1)

وهنا خطوات:

الخطوة الأولى: القدرة الملكوتية للإمام لا تسلب اختيار الإنسان

تبين أن الإمامة تعني قدرة ملكوتية ذات بعد غيبي(2)

تقود النفوس إلى الخير والكمال، وهو ما يُعبّر عنه (بالهداية الإيصالية)، وهذه القدرة لا تسلب اختيار الإنسان، وإلا لأصبح كل الناس معصومين عن الخطأ...

وهذا الاختيار الذي بقي متاحاً للإنسان يعيش في وسط متصارع بين قوى متضادة تتجاذب فيما بينها لتجعل الاختيار في صفِّ إحداها، وبالتالي فهذا التجاذب القوي سيترك أثره على الاختيار، وينعكس ليكون ظاهرة اجتماعية في الخارج، فالغضب مثلاً قد يتصاعد ليصبح قائد الدفة ويتغلب

ص: 213


1- المقصود من الحاكمية هو استلام رأس السلطة في الدولة سياسياً وإدارياً.
2- في بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - ص 149 عن معاوية بن وهب قال استأذنت على أبي عبد الله (عليه السلام) فأذن لي فسمعته يقول في كلام له: يا من خصنا بالوصية وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوى إلينا، وجعلنا ورثة الأنبياء. فهذه الرواية تشير إلى بعض معاني تلك السيطرة والهيمنة على النفوس (وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا).

على بقية القوى بل ويؤثر على الاختيار أيضاً، حتى يصل في بعض مراتبه إلى أن يوصف الغاضب بأنه (مسلوب الإرادة أو العقل)(1)...

وهذا يعني لا بدية توفر قوتين في المستويين النظري والعملي تتعاونان ويكمّل بعضهما الآخر في سبيل إرجاع الاختيار إلى حالة التوازن والتعادل... وتكون مهمتهما تركيز عمل القوى المتضادة وتقييدها من الانفلات واللا أبالية...

أما القوة النظرية فتمثلها الشريعة، فالتشريع ليس تقييداً للاختيار، وإنما هو يوجد منظومة نظرية توفّر حالة التعادل والحيادية للاختيار، وتقضي على كل مناشئ الخلل في الاختيار الإنساني.

أما القوة العملية فيمثلها الحاكم، فالتشريع ينظر إلى الحاكم على أنه قوة تنفيذية وقدرة عملية تجري وتطبق نظرية العدالة الاجتماعية لتنتج حيادية الاختيار على المستويين النظري والعملي.

من هنا نفهم أن مهمة التشريع والحاكم ليست مصادرة الاختيار، وإنما جعله محايداً، إذ كما أن مصادرة الاختيار (الجبر) قبيح، كذلك التفويض المطلق له قبيح، فلا بد من التعادل الذي يوفّره التشريع والحاكم.

الخطوة الثانية: الإمام هو المحقِّق للعدالة

إن الإمام من خلال منظور الدين يمثل القوة التي تعمل على توفير

ص: 214


1- من هنا نجد الفقه لا يرتب أي أثر على أقوال الغاضب إذا وصل إلى هذه المرحلة...

العدالة الاجتماعية والعدالة على مستوى قوى الإنسان، فمن اللائق إذن والمناسب أن يقوم بهذه المهمة شخص معصوم، لأنه صاحب تلك القدرة الملكوتية الغيبية، وهو يمثل العقل العملي المنفصل للأمة (أي الحاكم)، الذي باتحاده مع العقل النظري المنفصل للأمة (أي الشريعة) تصل الأمة -كل الأمة- إلى مستوى عالٍ من الرشد والعدالة...

ومنه يتبين أن حق الحاكمية السياسية وامتلاك السلطة المادية للإمام هو حق طبيعي ومنطقي ولا يحتاج إلى كثير عناء في الاستدلال عليه...

الخطوة الثالثة: ضرورة الخبرة والنزاهة في شخص الحاكم

إن العالم اليوم يؤكد على مسألتي الخبرة والنزاهة في شخص الحاكم، ولكن الإسلام أسّس لأرقى من هذا منذ مئات السنين، فهو يؤسّس إلى أن يكون الحاكم الأول معصوماً، وعلمه يوفّر الكفاءة في أعلى مستوياتها، وعصمته تمنعه من الخيانة وتوفّر أعظم نزاهة متصورة...

إلا أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت انحرفت – باختيارها – عن الإمام الحق، وسلّطت على رقابها أشخاصاً بعيدين كل البعد عن منصب الحاكمية وخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتسموا باسم خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله) ثم بخلفاء الله تعالى وظلِّه، إلى أن صرحوا بأن المسألة مسألة (ملك) لا خلافة رسالة، وما دامت ملكاً فهي تتوارث... والتاريخ حفظ لنا وثائق مهمة تؤكد ذلك...

فهذا مروان بن الحكم يخاطب معاوية بقوله: فأقم الأمر يا بن سفيان

ص: 215

واهدئ من تأميرك الصبيان.(1)، ولا يُخاطبه بأمير المؤمنين.

روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضاً...(2)

قال ابن كثير: وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الاسلام...(3)

ودخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال السلام عليك أيها الملك. فقال معاوية: فهلا غير ذلك أنتم المؤمنون وأنا أميركم. فقال سعد، نعم إنْ كُنّا أمّرناك.(4)

ودخل إليه سعد بن مالك فقال: السلام عليك أيها الملك. فغضب معاوية فقال: ألا قلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إنْ كُنّا أمرناك، إنما أنت مُنْتزٍ.(5)

وتكلّم صعصعة مع معاوية فقال: تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت ولم تقصر عما أردت، و ليس الأمر على ما ذكرت، أنى يكون الخليفة مَن مَلَكَ الناس قهرًا، ودانهم كبرًا، و استولى بأسباب الباطل كذبًا ومكرًا! أما والله ما

ص: 216


1- الامامة والسياسة - ابن قتيبة الدينوري، تحقيق الشيري - ج 1 - ص 198 – 199.
2- تفسير ابن كثير - ابن كثير - ج 3 - ص 312.
3- البداية والنهاية - ابن كثير - ج 8 - ص 21.
4- تاريخ مدينة دمشق - ابن عساكر - ج 17 - ص 324.
5- تاريخ اليعقوبي - اليعقوبي - ج 2 - ص 217.

لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه إلا كما قال القائل: «لا حُلَّي ولا سيري » ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلَبَ على رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنَّى تصلح الخلافة لطليق...(1)

الخطوة الرابعة: بناء المجتمع الشيعي
اشارة

بعد أن عزلت الأمة أهل البيت (عليهم السلام) عن تسلم الحاكمية، وعن ممارسة السلطة، فهل اقتصر دور الأئمة (عليهم السلام) ونشاطهم على المستوى الفردي، بأن يقوموا بهداية الأفراد الذين يأتونهم ويطلبون منهم الهداية، أو أن نشاطهم اقتصر على البعد المعنوي للإسلام ومحاولة وقايته من الانحراف من خلال شخصياتهم القدوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

المتتبع لسيرتهم (عليهم السلام) يجد أنهم (عليهم السلام) قاموا بكلا الدورين والنشاطين، فقد ارتبطوا بالأفراد، وركزوا على المعنى الإسلامي الأصيل، في قبال الدولة الحاكمة آنذاك التي كانت تهتم بالقشور والشعارات المفرغة من المحتوى... ولكن لم يقتصر دورهم على ذلك، بل عمل أهل البيت (عليهم السلام) على بناء (مجتمع شيعي) في ضمن المجتمع الإسلامي العام، والذي أخذ بالاستقلال تدريجياً عن دولة الحكم، وتوحّد ضدّ الانقسامات التي تحصل في المذاهب الأخرى، ليكون لحمة واحدة لها استقلالها ووحدتها...(2)

ص: 217


1- مروج الذهب ومعان الجوهر للمسعودي ج3 ص 41.
2- وهذا ما تكشف عنه بعض التصريحات، كتصريح علي بن إسماعيل لهارون العباسي (يا أمير المؤمنين، خليفتان في الأرض موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له الخراج وأنت بالعراق يجبى لك الخراج! فقال: والله!؟ فقال: والله...) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي ج2 ص 541 وبحار الأنوار - ج 48 - ص 239 – 240.

هذا وقد اعتمد أهل البيت (عليهم السلام) عدة أمور في سبيل بناء ذلك المجتمع، نذكرها إجمالاً:

الأمر الأول: التركيز على شرعيتهم (عليهم السلام)

شرعيتهم (عليهم السلام) وكون الحق معهم، يدور حيثما داروا، وقد ركز أهل البيت (عليهم السلام) هذه الشرعية في نفوس المجتمع، مما لعب دوراً عظيماً في تشكيل جماعة أهل البيت (عليهم السلام)، ولو على مستوى حقوقها الطبيعية والإنسانية، وحيث اعتقد أتباعهم بهذه الشرعية وتيقنوها، فقد قبلوا أي شيء في سبيل الثبات على مبادئهم، فقبلوا الابتعاد عن السلطة بل ومعارضتها، وما يترتب عليها من التشريد والسجون...

بل حتى أعدائهم قبلوا هذه الشرعية، ولكنهم لم يلتزموا عملياً بما اعتقدوا به، على طريقة (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا)(1).

فالإمام الكاظم (عليه السلام) يدخل على هارون ويكرمه هارون، يقول المأمون: فلما خلا المجلس قلت: يا أمير... ومن هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟ قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات

ص: 218


1- النمل 14.

كلها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني أنه لأحق بمقام رسول الله مني ومن الخلق جميعا، ووالله لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، لأن الملك عقيم. (1)

الأمر الثاني: نشر مظلوميتهم (عليهم السلام)

مظلوميتهم (عليهم السلام)، التي عبر عنها الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) حيث روي أنَّه قال في مرضه الذي توفّي فيه: «... والله إنَّه لعهد عهده إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنَّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد عليٍّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام)، ما منّا إلَّا مسموم أو مقتول...»(2).

وتتقدم مظلوميتَهم (عليهم السلام) مظلوميةُ الزهراء (عليها السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) التي ركز عليها أهل البيت (عليهم السلام) ودعوا إلى تذاكرها في كثير من الروايات...

وقد استجاب أتباعهم لهذه الدعوة بإقامة الشعائر التي تحولت اليوم إلى عرف وتقليد يعيش عليه الملايين، والذي لا يمكن إزالته من وجودهم...

الأمر الثالث: بروزهم كقدوات استثنائية

القدوة الحسنة المتمثلة بشخصياتهم (عليهم السلام) الرفيعة، ابتداءً بالإخلاص في علاقتهم مع الله تعالى، مروراً بالتضحية من أجل المبدأ، وإنكار الذات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقدوتهم تميزت بأن شخصياتهم

ص: 219


1- الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 166.
2- كفاية الأثر للخزّاز القمّي: 226 و227.

تعالت عن النقد، وسلوكهم ما كان يقبل التشكيك والتأويل، وكان خالياً من اللبس، من هنا كانت شخصياتهم تبرز على الساحة الإسلامية بصورة واسعة وخطيرة على دولة الخلافة...

من هنا نجد أن الحكام والسلاطين عملوا على إماتة هذه الشخصيات في نفوس الناس، فوظفت كل أجهزتها الإعلامية في سبيل ذلك.

ولقد كان أعداء أهل البيت (عليهم السلام) يحاولون تقنص المثالب على أهل البيت (عليهم السلام)، ولكنهم لم يجدوا منفذا لذلك، إلا قول عمر عن علي(عليه السلام): لله أبوك لولا دعابة فيك. (1)

ومرة قال معاوية لعقيل: إن فيكم يا بني هاشم للينا. قال: أجل إن فينا للينا من غير ضعف، وعزا من غير عنف، وإن لينكم يا معاوية غدر، وسلمكم كفر.(2)

ولكن شهرتهم وقدسيتهم كان أرقى وأعظم من هذه الأجهزة، ولذلك اعترف بها القاصي والداني، فقد حكي عن محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب الشافعي، أنه قال في جواب من سأله عن علي - عليه السلام -: ما أقول في حق من أخفت أولياؤه فضائله خوفا، وأخفت أعداؤه فضائله حسدا؟، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين... وقال نافع بن الزرق لعبد الله بن عمر: إني أبغض عليًا، فقال له: أبغضك الله، أتبغض رجلًا سابقة من سوابقه خيرٌ من

ص: 220


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج1 ص 25.
2- بحار الأنوار - ج 34 - ص 292.

الدنيا وما فيها.(1)

فعمدت السلطات بعد يأسها إلى محاولة النيل منهم، فعمدت إلى سبهم (عليهم السلام) على المنابر لعشرات السنوات، ومع ذلك فقد باءت محاولاتهم بالفشل الذريع، ولم يحصدوا من سبهم لأهل البيت (عليهم السلام) إلا لعنة التاريخ...

الأمر الرابع: العناية بشيعتهم (عليهم السلام) تربوياً واجتماعياً

العناية الكبيرة بشيعتهم، تربوياً واجتماعياً، بتجذير الخلق الرفيع، بحيث يبرز على سلوكهم...

فعَنِ ابْنِ رِئَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّا لَا نَعُدُّ الرَّجُلَ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ لِجَمِيعِ أَمْرِنَا مُتَّبِعاً مُرِيداً، أَلَا وإِنَّ مِنِ اتِّبَاعِ أَمْرِنَا وإِرَادَتِه الْوَرَعَ، فَتَزَيَّنُوا بِه يَرْحَمْكُمُ الله وكَبِّدُوا أَعْدَاءَنَا بِه يَنْعَشْكُمُ الله.(2)

عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الْوَرَعَ والِاجْتِهَادَ والصَّلَاةَ والْخَيْرَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ.(3)

الأمر الخامس: العناية بشيعتهم (عليهم السلام) فكرياً وثقافياً

العناية المكثفة بشيعتهم ثقافياً وتعليمياً، بحيث أوصلوهم إلى مستوى الاستقلال عن المؤسسة التعليمية الرسمية التابعة للحاكم، وكان ذلك عبر تأكيدهم (عليهم السلام) على مبادئ التعلم الصحيحة، وركّزوا على قضايا، منها:

ص: 221


1- حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني ج2 ص 136.
2- الكافي للكليني ج2 ص 78 بَابُ الْوَرَعِ ح13.
3- الكافي للكليني ج2 ص 78 بَابُ الْوَرَعِ ح14.

أ/ التعلم والتعليم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): أُطلُبُوا العِلمَ ولَو بِخَوضِ اللُّجَجِ وشَقِّ المُهَجِ.(1)

ب/حفظ العلم وكتابته وبثِّه، فعن الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): اكْتُبْ وَبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيهِ إِلَّا بِكُتُبِهِمْ.(2)

وقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا. (3)

وقال (عليه السلام): اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حَتَّى تَكْتُبُوا.(4)

ج: الافتاء: فقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أُحِبُّ أن يُرىٰ في شيعتي مثلك»(5).

وعن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بلغني أنَّك تقعد في الجامع فتُفتي الناس؟»، قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. ويجيء الرجل أعرفه بمودَّتكم وحبِّكم، فأُخبره بما جاء عنكم. ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك.

ص: 222


1- بحار الأنوار ج75 ص 277.
2- الكافي للكليني ج1 ص 52 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح11.
3- الكافي للكليني ج1 ص 52 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح10.
4- الكافي للكليني ج1 ص 52 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح9.
5- رجال النجاشي: 10/ الرقم 7.

فقال لي: «اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع»(1).

وعن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلَّا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي. ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفّاظ الدين وأُمناء أبي علىٰ حلال الله وحرامه...»(2).

الأمر السادس: الاستقلال المالي والاقتصادي

الاستقلال المالي والاقتصادي، والدعوة إلى العمل الحر في الحركة الدينية والسياسية والاجتماعية، ومن الواضح أن الاستقلال المالي ينتج الاستقلال في القرار، فإنّ من ملَك المال ملَك القرار، وكان ذلك عبر الخمس والزكاة وتنمية حسّ التكافل الاجتماعي، فعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظُهم لها عند عدوِّنا، وإلىٰ أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(3).

فمن خلال هذه الأمور خلق أهل البيت (عليهم السلام) المجتمع الشيعي، وبلوروا حالة الانتماء من شيعتهم لهم بشكل لا يصدق، رغم اضطهادهم من أجل حبهم (عليهم السلام)، وقصص صلابة الشيعة كثيرة وشاهد صدق على ذلك، وما

ص: 223


1- اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 522 - 524/ الرقم 704.
2- اختيار معرفة الرجال للطوسي 1: 348/ الرقم 219.
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 103/ ح 62).

قصص أصحاب الحسين (عليه السلام)، وحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وميثم التمار، وقنبر، وابن السكيت، ودعبل الخزاعي –وغيرهم كثير- عنك ببعيد...

ص: 224

النقطة السادسة: الإمام المهدي (عليه السلام)

اشارة

نتعرض في هذه النقطة إلى عدة جهات:

الجهة الأولى: معلومات إجمالية

1/إن فكرة (المهدي) و (المنقذ) (1) و (المخلِّص)(2)

ليست فكرة مذهبية شيعية، وإنما هي فكرة إسلامية بل آمنت بها جميع الأديان السماوية بل وعموم الإنسانية، حيث تحكي هذه الفكرة عن أن فطرة الإنسان وتوجهاته الداخلية

ص: 225


1- اصطلاح يُشار به إلى المهدي في آخر الزمان، وقد ورد استعماله في كتب المسيحيين، من قبيل ما ورد في الكتاب المقدس الصادر عن مجمع الكنائس الشرقية ص 494: (من صهيون يأتي المنقذ ويصرف كل كفر عن يعقوب). وجاء في كتاب: مقارنة الأديان للدكتور أحمد الشلبي: ولا يستبعد أن يكون Messiah = مسيا = المسيح ) يمثل المنقذ الذي هتف به اليهود كلما ألمّت بهم النوائب، وطالما ألمت بهم هذه النوائب.
2- اصطلاح يُشار به إلى الرجل الذي سيصلح الله تعالى الأرض على يديه ويخلصها من الظلم والطغيان، وقد استعمل في بعض كتب اليهود والنصارى، من قبيل ما ورد في كتاب: (التوراة والإنجيل) ص 1175: حقا أنت هو إله يحجب نفسه، إله إسرائيل المخلص. وفي الكتاب المقدس الصادر عن مجمع الكنائس الشرقية ص 615: أما نحن فموطننا في السماوات، ومنها ننتظر مجيء المخلص الرب يسوع المسيح... [ النصائح الأخيرة ] أناشد أفودية وأناشد صنطيخة أن تكونا على اتفاق في الرب، وأسألك أنت أيضا، أيها الصاحب المخلص، أن تساعدهما لأنهما جاهدتا معي في سبيل البشارة...

تأبى أن تستمر الأرض بالظلم والجور من دون أن تكون هناك فرصة كافية لقيام العدل والقسط، ولذلك بشّر بالمدينة الفاضلة حتى أفلاطون، وتنبأ بها حتى الفلاسفة الغربيون، ممن نظروا إلى الواقع بعين ثاقبة.

ناهيك عن أن الديانات الوضعية –فضلًا عن السماوية- قد صرّحت بضرورة هذه الحقيقة، وتراث كل دين يشهد على ذلك.

نعم، الفكرة تمّ تأصيلها أكثر في الإسلام، وتم الاهتمام بها والدفاع عنها ونشرها ومتابعة كل شاردة وواردة منها في المذهب الشيعي، إذ يفترض الشيعة –كما هو الحق- أن المهدي الحق هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين نصّ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2/ لا خلاف بين المسلمين في كون المهدي رجلًا يحكم الأرض بدين الله تعالى الذي ارتضاه، وهو الإسلام، ولا خلاف في كونه ينتسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلال ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، نعم اختلفوا بعد ذلك في أنه من ولد الحسن أو الحسين (عليهما السلام)، واختلفوا في بعض التفاصيل الأخرى، من قبيل بعض علامات الظهور وولادته وغيبته وما شابه.

المهم أن هناك اتفاقًا على ضرورة المهدي في الإسلام، وما خالف فيه إلا من جَانَبَ الحقيقة وخالف المتفق عليه بين المسلمين وعلمائهم ومحدّثيهم، كابن خلدون ومن لفّ لفيفه.

إن كلمات علماء العامة واضحة في تواتر قضية المهدي من ذرية

ص: 226

الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقد قال ((محمد بن رسول الحسيني البرزنجي - توفي 1103 ه، في كتابه الإشاعة في أشراط الساعة: الباب الثالث في الأشراط العظام والأمارات القريبة التي تعقبها الساعة، وهي أيضا كثيرة فمنها: المهدي وهو أولها، واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر.

وقال أيضا: قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم من ولد فاطمة بلغت حد التواتر المعنوي فلا معنى لإنكارها..

وقال أيضا: وغاية ما ثبت بالأخبار الصحيحة الكثيرة الشهيرة التي بلغت حد التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي منها بل أولها خروج المهدي وأنه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلماً.

ومن العلماء الذين نصوا على تواتر أحاديث المهدي الشيخ محمد السفاريني فقد قال في كتابه لوائح الأنوار البهية: والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عد من معتقداتهم...

... ومنهم النواب صديق حسن خان القنوجي فقال في كتابه: (الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة): الأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدا تبلغ حد التواتر المعنوي وهي في السنن وغيرها من

ص: 227

دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد.

وقال أيضًا: لا شك في أن المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام لما تواتر من الاخبار في الباب واتفق عليه جمهور الأمة سلفا عن خلف إلا من لا يعتد بخلافة.

وقال أيضًا في معرض رده علي ابن خلدون: فلا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود المنتظر المدلول عليه بالأدلة بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة حد التواتر))(1)

3/إن مما يثبت ولادة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) أدلة عديدة، ونذكر من ذلك:

أولًا: الروايات المصرحة باسمه (عجل الله تعالى فرجه).

ثانيًا: حديث الثقلين المتفق عليه، حيث إنه نصّ على عدم افتراق العترة عن القرآن، وحيث إن القرآن موجود، والعترة منحصرة باثني عشر إمامًا بنص حديث (الأئمة من قريش) المتقدم، وكان الحادي عشر منهم هو الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، إذن، لا بد من وجود ولدٍ له يكون هو عِدل القرآن، والمصدّق لحديث الثقلين، وإلا للزم إما كذب النبي (صلى الله عليه وآله)، وحاشى له أن يوصف بذلك، أو يلزم كذب وهدم صدور حديث الثقلين، وهو حديث متواتر لا يُكذَّب.

وفي الوقت الذي يُثبت حديثُ الثقلين وجود حجة مع القرآن، وأن

ص: 228


1- المهدي المنتظر (عليه السلام) في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة- دكتر عبد العليم عبد العظيم البستوي ص 43 – 45.

النصوص صرحت بأن الحجج بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم اثنا عشر –وقد تقدمت-، وأن المهدي هو ثاني عشرهم، مما يدل على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) ووجوده إلى اليوم، فالحديث إذن يُثبت غيبته أيضاً.

ودلالات حديث الثقلين أكثر من هذا بكثير، نكتفي بهذا القدر –مما هو محل الشاهد هنا- رعاية للاختصار.

ثالثًا: اعتراف الكثير من علماء العامة بولادته (عليه السلام)، ومنهم –على سبيل المثال لا الحصر-

1/ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة في ترجمة الإمام العسكري (عليه السلام): قال: (ولم يُخلّف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى القائم المنتظر.)(1)

2/ابن خلكان في وفيات الأعيان: قال في ترجمة الإمام العسكري (عليه السلام) ما نصّه: (أبو محمّد الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن الرضا بن جعفر الصادق ابن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، أحد الأئمّة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد المنتظر صاحب السرداب ويعرف بالعسكري، وأبوه علي يعرف أيضاً بهذه النسبة).(2)

3/ ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، قال: وروى ابن الخشّاب في

ص: 229


1- الصواعق المحرقة لأحمد بن حجر الهيثمي المكي ص 208.
2- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ج2 ص 94.

كتابه مواليد أهل البيت يرفعه بسنده إلى عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال: الخلف الصالح من ولد أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري، وهو صاحب الزمان القائم وهو المهدي...

... ولد أبو القاسم محمّد بن الحجة بن الحسن الخالص بسرّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة، وأمّا نسبه أباً واُمّاً فهو: أبو القاسم محمّد بن الحجة بن الحسن الخالص ابن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم أجمعين).

وأمّا اُمّه فاُمّ ولد يقال لها نرجس خير أمَة، وقيل اسمها غير ذلك. وأما كنيته فأبو القاسم، وأمّا لقبه فالحجة والمهدي والخلف الصالح والقائم المنتظر وصاحب الزمان، وأشهرها المهدي.(1)

الجهة الثانية: الانتظار بين الفعل وردّ الفعل
اشارة

إن من أهم ما يعتقد به الشيعة الاثنا عشرية هو أن الإمام المهدي (عليه السلام) غائب اليوم، وسيظهر في موعد لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وأن من وظيفة الشيعة في فترة غيبته هو انتظاره، ليس بمعنى الركود والسكون وعدم التدخل في الأمور العامة للحياة، وإنما بمعنى التهيؤ والاستعداد لظهوره (عليه السلام) في أي لحظة، حيث جاءت التوصيات من المعصومين (عليهم السلام) بذلك، فالإمام

ص: 230


1- الفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ المالكي ص 1102 – 1104.

الصادق (عليه السلام) يقول: (فَتَوَقَّعُوا الْفَرَجَ صَبَاحاً ومَسَاءً)(1)، وهذا ما يقتضي من المؤمن أن يتسلح بالعقيدة الثابتة المستدلة، ويمتثل التكاليف الشرعية، ويتحلى بالأخلاق الفاضلة، إذ لا نتصور أن المقصود من التوقع هو الخالي من العمل، بحيث يكون التوقع بمعنى السكون والركود، بل إنه يستلزم العمل وفق مقتضيات الإسلام، ليكون التوقع للظهور على نحو إيجابي.

المهم هنا أن نعرف: ما هو دورنا فيما يتعلق بالانتظار؟ أو أصلًا هل لنا دور في القضية المهدوية او لا دور لنا أصلًا؟

حتى نعرف الجواب نذكر بالحقائق التالية:

الحقيقة الأولى

أن الأفعال تنقسم إلى اختيارية وغير اختيارية. وأن الثواب والعقاب إنما يكون على الاختيارية منها.

الحقيقة الثانية

أنه لا يوجد اختيار بالمطلق –كما تبين أكثر من مرة-، وإنما الاختيار هو واحد من العوامل التي يصدر عنها الفعل، ولكنه يُغير من هوية الفعل من كونه جبريًا إلى كونه تحت الاختيار.

إذن فالإنسان مختار، فيمكنه أن يفعل أو لا يفعل لأنه توفّر على صفة الاختيار والإرادة. وهذا إنما يكون في

ص: 231


1- الكافي للكليني ج1 ص 333 بَابٌ نَادِرٌ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ ح1.

الأفعال التي هي تحت اختياره، أي في الأفعال التي أتيح لاختياره أن يكون أحد العوامل في صدورها، وهو تطبيق لقاعدة أنه لا يوجد اختيار بالمطلق، فالإنسان ليس مختارًا في كل أفعاله، وأوضح مثال على ذلك عمل أعضائه الداخلية، إنما هو مختار في بعض الأفعال، وتلك الأفعال هي التي كانت تحدد مصيره الأخروي، حيث ترتب عليها الثواب والعقاب، وبالتالي الجنة أو النار.

الحقيقة الثالثة

أن الله تعالى ما زال قادرًا على تغيير مجريات الحياة، فهو تعالى لم تُغلّ يدُه كما قالت اليهود والمعتزلة، ولا شيء يمكنه أن يجبره على فعل ما، فهو تعالى القادر القاهر الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهذا ما تم بيانه في عنوان (البداء).

الحقيقة الرابعة

لا شك أن الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) هي لله تعالى، وهذا يعني أمرين:

الأول: أن الظهور نفسه هو فعل غير اختياري للإنسان، بمعنى أن اللمسة الأخيرة إنما تكون بيد الله تعالى، وهو مفاد ما روي عنه (عجل الله تعالى فرجه)، حيث روي عن أبي محمد الحسن بن أحمد المكتب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ علي بن محمد السمري (قدس الله روحه) فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن

ص: 232

محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ) وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.(1)

الثاني: أن الوقت المحدد للظهور، وساعة الصفر له، قد أُخفيت عنا، وهي خارج حدود قدراتنا، كما دلت عليه الروايات الكثيرة، ومنها ما عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: جُعلت فداك، متىٰ خروج القائم (عليه السلام)؟ فقال: «يا أبا محمّد، إنّا أهل بيت لا نُوقِّت، وقد قال محمّد (صلى الله عليه وآله): كذب الوقّاتون...»(2)

ويترتب على هذا:

1/أننا غير مكلّفين بالبحث عنها.

2/ تكذيب من يدّعي علمه التفصيلي بها.

وهذا ما أكّدته الروايات الكثيرة الواردة في النهي عن التوقيت. ومنها ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): يا محمد، من أخبرك عنّا توقيتاً فلا تهابنَّ أن

ص: 233


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص516، ب45، ح44
2- الغيبة للنعماني: 301/ باب 26/ ح 6.

تكذِّبه، فإنّا لا نوقِّت لأحدٍ وقتاً.(1)

وهذا يعني: أن البحث عن دور المنتظرين فيما يتعلق بالظهور إنما هو بمعنى إمكان العمل على توفير المقتضيات والأسباب التي تؤدي إلى توفير الحكمة من تعجيل الله تعالى للظهور وتقديمه عن وقته أو عدم إمكان ذلك.

نظريتان في دور المنتظرين
اشارة

ومن هنا، قد يُقال بوجود نظريتين فيما يتعلق بدور المؤمنين في عملية الظهور، ويمكن عرضهما بالتالي:

النظرية الأولى

أن الظهور وما يتعلق به منحصر بالله تعالى، ولا يوجد أي دور لا من بعيد ولا من قريب للمؤمنين في ذلك، وقد يُؤيد هذا بما دلّ على انحصار الظهور بالإذن الإلهي كما تقدم قبل قليل.

فالظهور إذن فعل خارج عن إرادة الإنسان في جميع مفاصله، ولا دخل لإرادة الإنسان في أي خطوة من خطواته، بل هو فعل خالص لله تعالى.

وهو ما قد يُعبر عنه البعض بالانتظار السلبي.

ويترتب على هذه النظرية:

أنه لا معنى لانتظار الظهور سوى الوقوف على التل وانتظار وصول اللحظة المناسبة للظهور، فلا دور للفرد في التمهيد للظهور، وإنما الظهور

ص: 234


1- الغيبة للنعماني: ص300، ف16، ح3.

فعل لله تعالى.

وحينئذٍ قد لا يترتب أي ثواب على الانتظار الذي أمرت به الروايات فيما لو قصد المؤمن عنوان الانتظار بعينه، بأن قال مثلًا: أن أعمل كذا من باب أنه من مفردات الانتظار، فلا يحصل على ثواب من هذه الجهة.

وقد يتطور هذا التصور لدى البعض –من قليلي المعرفة- إلى انحصار الدين عنده بتنظيم العلاقة العبادية الشخصية بين الفرد وربّه، وقد يتطور إلى حدّ الابتعاد عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا على مستوى المنفعة الدنيوية.

النظرية الثانية المختارة

إن الظهور -وإنْ كان فعلًا لله تعالى، وأنه لا ظهور إلا بعد إذنه جلّ وعلا- ولكن هذا لا ينفي دور الفرد في تعجيله، من باب أن الله تعالى قد سنّ في الكون نظام العلاقة بين التكوين والتشريع، على غرار (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً.)(1)،

وبالتالي فيمكن للفرد أن يتدخل في هذه السُّنّة بأن يعمل ما جاء في الروايات الشريفة من الأمور التي سُميت فيما بعد بواجبات زمن الغيبة، فيأتي عنصر القدرة الإلهية المسبوقة بالعلم الإلهي ويقع (البداء) أو بالأحرى (الإبداء) من الله تعالى، فيكون لالتزام الفرد بواجبات زمن الغيبة دخلٌ في أن يشاء الله تعالى تعجيل الظهور، ويبقى اختيار الوقت المناسب بيد الله تعالى وحده.

ص: 235


1- الجن 16.

ومن هنا نجد أن الروايات الشريفة اعتبرت أن الانتظار هو نفسه الفرج، بمعنى أن تفعيل عنصر الانتظار بالمعنى الذي بينته الروايات الشريفة (من التزام العقيدة والفقه والسلوك والاستعداد العملي للظهور) هو بنفسه يؤدي إلى تعجيل الظهور، فيقع الفرج، مما يعني أن قصد عنوان الانتظار مطلوب من المؤمن، ويحصل منه على الثواب إن شاء الله تعالى.

والروايات في هذا عديدة، فقد روي أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «أفضل أعمال أُمَّتي انتظار الفرج من الله عز وجل»(1).

فلاحظ أن هذا الحديث جعل (الانتظار) عملًا هو من أفضل أعمال الأمة، ومن الواضح أن العمل العبادي أفضل من التوصلي كونه يستبطن ويُشترط فيه نية القربة.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: «انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح الله، فإنَّ أحبَّ الأعمال إلىٰ الله (عز وجل) انتظار الفرج ما دام عليه العبد المؤمن...»(2).

وهذا الحديث قريب من معنى الحديث الأول.

ومن هنا فقد رتَّبت الروايات الكثير من الآثار العظيمة علىٰ عبادة الانتظار، فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من مات منكم علىٰ هذا الأمر منتظراً له

ص: 236


1- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.
2- الخصال: 616.

كان كمن كان في فسطاط القائم (عليه السلام)»(1).

وعن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، قال: «المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»(2).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الآخذ بأمرنا معنا غداً في حظيرة القدس، والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»(3).

عن عمرو بن ثابت، قال: قال سيّد العابدين (عليه السلام): «من ثبت علىٰ موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله (عز وجل) أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأُحُد»(4).

ومما يدل بوضوح على أن للمجتمع دورًا في ما يتعلق بالظهور، هو أن الروايات أكّدت أن خروج الإمام (عجل الله تعالى فرجه) من مكة المكرمة يكون بعد اكتمال الحلقة، وهم عدة الجيش الذين سيكون معه أول ما يخرج، فقد روي عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا يخرج القائم (عجل الله تعالى فرجه) حتَّىٰ يكون تكملة الحلقة»، قلت: وكم تكملة الحلقة؟ قال: «عشرة آلاف...»(5).

وأيضًا ما ورد من خروج بعض الممهدين له (عليه السلام)، فقد روي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) أنه قال : كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون

ص: 237


1- كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 1.
2- كمال الدين: 645/ باب 55/ ح 6.
3- الخصال: 625/ حديث الأربعمائة.
4- كمال الدين: 323/ باب 31/ ح 7.
5- الغيبة للنعماني: 319 و320/ باب 20/ ح 2.

ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم قتلاهم شهداء أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر.(1)

ومن ذلك أيضًا ما روي من أن إذاعة الناس، وعدم كتمانهم قد أوجب تأخير ظهور ذلك الرجل الذي سوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً إلى وقت أخر.(2)

ومن ذلك ما روي في كتاب الغيبة للنعماني عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما لهذا الأمر أمد ينتهي إليه ويريح أبداننا؟ قال: بلى، ولكنكم أذعتم فأخره الله.(3)

وعن إسحاق بن عمار الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قد كان لهذا الأمر وقت وكان في سنة أربعين ومائة، فحدثتم به وأذعتموه فأخره الله (عزَّ وجلَّ).(4)

وعن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: يا ثابت، إن الله تعالى قد كان وقت هذا الأمر في سنة السبعين، فلما قتل الحسين (عليه السلام) اشتد غضب الله فأخره إلى أربعين ومائة، فحدثناكم بذلك فأذعتم وكشفتم قناع الستر فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك وقتاً عندنا ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ

ص: 238


1- الغيبة للنعماني ص 281 باب 14 ح 50.
2- الكافي للشيخ الكليني: ج2، ص150، باب صلة الرحم، ح3.
3- الغيبة للنعماني: ص299، ب16، ما جاء في المنع والتوقيت والتسمية لصاحب الأمر (عليه السلام)، ح1.
4- الغيبة للنعماني: ص303، ب16، ما جاء في المنع والتوقيت والتسمية لصاحب الأمر (عليه السلام)، ح8.

وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾(1)، قال أبو حمزة: فحدثت بذلك أبا عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: قد كان ذلك.(2)

الجهة الثالثة: وظائفنا في زمن الغيبة الكبرى
اشارة

تعرض العديد من علماء الطائفة (جزاهم الله عن المؤمنين خيرًا) إلى هذه الجهة وأعطوها عنوان (واجبات زمن الغيبة الكبرى)، واستندوا في تعدادها إلى الروايات الواردة في هذا المجال.

ونحن نذكر هنا بعضًا منها تحت العناوين التالية:

العنوان الأول: نشر القضية المهدوية بالمنهج العلمي المستدل

لما في ذلك من امتثال أمرهم (عليهم السلام) بإحياء أمرهم ونشره، وهذا يقتضي تعلّمها جيدًا أولًا، ثم عقد المجالس الحيّة والافتراضية –عبر شبكات التواصل الاجتماعي- لنشرها بطريقة منهجية وعلمية.

فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من جلس مجلساً يُحيي أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(3).

وقال (عليه السلام) لفضيل: «تجلسون وتُحدِّثون؟»، قال: نعم جُعلت فداك، قال: «إنَّ تلك المجالس أُحِبُّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا

ص: 239


1- الرعد: 39.
2- الغيبة للنعماني: ص303- 304، ب16، ما جاء في المنع والتوقيت والتسمية لصاحب الأمر (عليه السلام)، ح10
3- الدعوات: 278/ ح 806.

فضيل، من ذَكَرنا أو ذُكْرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كان أكثر من زبد البحر»(1).

وعن المفضَّل: ودَّعْنا أبا جعفر (عليه السلام)، فقال: «يا خيثمة، أبلغ موالينا منّا السلام، وقل لهم: إنّي أُوصيهم بتقوىٰ الله، وأنْ يعين غنيُّهم فقيرَهم، وقويُّهم ضعيفَهم، وحليمُهم جاهلَهم، وأنْ يشهد حيُّهم جنازة ميِّتهم، وأنْ يتلاقوا في بيوتهم، فإنَّ لقاء بعضهم بعضاً حياةٌ لأمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا أهلَ البيت»(2).

العنوان الثاني: تربية الناشئة على حبه

لا شك في أن هناك مسؤولية متوجهة للآباء في أن يُعلّموا أولادهم مفردات الدين، فعن سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ لي أهل بيت وهم يسمعون منّي، أَفَأدعوهم إلىٰ هذا الأمر؟

قال: «نعم، إنَّ الله يقول في كتابه: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ[(3)»(4).

ومن مفردات الدين هو حب أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) أنَّه قال: «أدِّبوا أولادكم علىٰ ثلاث خصال: حُبِّ نبيِّكم، وحُبِّ أهل بيته،

ص: 240


1- قرب الإسناد: 36/ ح 117.
2- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 225/ ح 622).
3- التحريم: 6.
4- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 231/ باب من ترك المخاصمة لأهل البيت علیهم السلام/ ح 180).

وقراءة القرآن»(1).

وورد عن أبي هارون المكفوف، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «يا أبا هارون، إنّا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة (عليها السلام) كما نأمرهم بالصلاة، فالزمه، فإنَّه لم يلزمه عبدٌ فشقي»(2).

إن عدم القيام بهذه المسؤولية من قِبَل بعض الآباء، أدّى إلى أن يجهل الأبناء بالعقيدة المهدوية، أو تكون عقيدتهم التقاطية غير منهجية، فتكون المعلومات مشوّشة في أذهانهم، مما يؤدي إلى التباس الحق بالباطل عندهم، أو عدم وضوح الرؤية المهدوية.

وهو نفسه السبب في خوف الشباب –أو بعض منهم- من الإمام المهدي (عليه السلام)؛ إذ إنهم تلقَّوه بصورة دموية، وشُحنت أذهانهم بأن المهدي (عليه السلام) ما هو إلا قاتل متمرّس، وبالتالي فقد أُلقي في لا وعي بعض الشباب الخوف من ظهوره أو تمنّي الموت قبل إدراك زمن الظهور، وهذا فيه ما فيه من الخسارة الكبيرة لجهود ثلة مهمة من المجتمع المؤمن الذين يُرتجى لهم أن يكونوا من الممهدين لدولة الحق وممن يعملون على نشر الحق ما أوتوا إلى ذلك سبيلًا.

إن قضية الإمام المهدي (عليه السلام) هي القضية المعاصرة اليوم للمؤمنين، فينبغي على الآباء أن يهتموا بهذه القضية في أنفسهم أولًا، ونقل ما يتعلمونه لأولادهم ثانيًا.

ص: 241


1- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 51/ حرف الهمزة/ ح 311).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 343/ باب التعقيب بعد الصلاة والدعاء/ ح 13).
العنوان الثالث: ردّ الشبهات المتجددة

فالأعداء لم يقفوا بالأمس من الدين عمومًا وما يتعلق بأهل البيت (عليهم السلام) خصوصًا موقف المتفرج على الأقل، وإنما سعوا –وما زالوا- إلى تقويض التفاف الناس حولهم (عليهم السلام)، واستخدموا من أجل ذلك أخبث الوسائل وأردءها، ومنه إلقاء الشبهات والتساؤلات المسمومة، وقد تمّ إلباسها لباس الحق في كثير من الأحيان، من خلال الصياغات المنمّقة، والشعارات الرنّانة، ومحاكاة العواطف بعيدًا عن العقل والنصوص الروائية الثابتة.

يلزم على المؤمنين إذن أن يكونوا مستعدّين لمثل هذه الشبه، وأن يتسلّحوا بالمعرفة الكافية لكشفها وكشف زيغها، ولا يكون ذلك إلا بطلب العلم من مصادره الموثوقة، والمتخصصين في مجاله.

ص: 242

النقطة السابعة: تساؤلات وشبهات وأجوبة

اشارة

في هذه النقطة سنعرض سبعة تساؤلات مع الجواب عنها، وهي التالي:

التساؤل الأول: وجود مانع في أصل عصمة الإنسان عموماً.

التساؤل الثاني: العصمة تمنع من اختيار الأتباع.

التساؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى.

التساؤل الرابع: مضادة الجو القرآني للعصمة.

التساؤل الخامس: لماذا لم يصرح القرآن باسم علي (عليه السلام)؟

التساؤل السادس: علم الأئمة (عليهم السلام) بالغيب.

التساؤل السابع: لماذا تُثار الأحداث التاريخية التي انتهت ولا أثر لها؟

ص: 243

ص: 244

التساؤل الأول: وجود مانع في أصل عصمة الإنسان عموماً
اشارة

إن من أهم ما ترتكز عليه فكرة الإمامة عند الشيعة هو مفهوم عصمة الإمام، وبه افترقوا عن غيرهم، ومن دونها يُصبح الإمام خبيرًا من الخبراء، أو عادلًا من العدول.

وأي مفهوم إنما يأخذ دوره ويظهر في الحياة، إذا كان في حدّ نفسه ممكنًا، وإلا، فلو كان في حدّ نفسه يستلزم إشكالية معينة، فلا معنى للاستدلال على ثبوته.

والعصمة تواجه إشكالًا يمنع من قبولها في الإنسان، فلا تصل النوبة إلى إثباتها في الإمام.

بيانه:

إن العصمة ذات بعدين:

1/ بُعد العصمة النظرية

وتعني عدم الوقوع في الخطأ الفكري.

وهذا لا يمكن تصوره في الإنسان، لأن الجهاز الإدراكي لدى الإنسان يفرز معلومات بديهية وأخرى نظرية، والنظرية منها اليقين ومنها الظن ومنها

ص: 245

الاحتمال، ومنها الجهل. فالعصمة تعني أن المعصوم يملك جهازا آخر غير الجهاز الإنساني يتفادى به الخطأ، وهو يعني أنه سنخ آخر غير الإنسان.

العلم الإنساني لا قابلية له لأن يكون في مستوى تفادي الخطأ وبنحو الضمان والكلية، والواقع خير شاهد، فالجهود العلمية المضنية والمستمرة لم تلغ الظن ولا الاحتمال ولا القطع النظري، ولم تحوّل الواقع إلى مجموعة بديهيات لدى الإنسان، وإن قيل بأنها ستتحول كذلك بعد مئات السنين، فيُقال: لو سُلّم، ولكن المعصوم كان كذلك قبل مئات السنين وبفترة زمنية قياسية جدًا، بل منذ الصغر.

فالإمام بحكم إنسانيته يمتلك نفس الجهاز الإدراكي الذي صُمّم عليه الإنسان، فافتراض عصمته يتكاذب مع طبيعة الجهاز أو مع إنسانيته، ومن ثَمّ كانت العصمة تواجه إشكالًا بنيويًا مع الإنسان وأدواته الإدراكية.

2/ بُعد العصمة العملية

وتعني عدم التورّط بالمعصية والانحراف عمليًا.

وهذه العصمة مبنية على فرضية أن لا يكون للمعصوم غرائز مضادّة لما يدعو إليه العقل، وإلا، فمع وجودها تبقى قابلية الوقوع في المعصية موجودة –وإن لم تصل إلى حدّ الوقوع-.

وتفريغ المعصوم عن تلك الغرائز يعني تحويله إلى مَلَك، وهو ما لا يقول به حتى الشيعة.

ص: 246

فكيف يتم تصوير العصمة مع الحفاظ على إنسانية المعصوم؟

الجواب:

أما عن العصمة النظرية فنقول:

إن ما ذُكر –من التلازم بين العلم الطبيعي وإمكانية الوقوع في الخطأ- صحيح تمامًا، والواقع خير شاهد، والعصمة لا تتكيّف مع هذا العلم الطبيعي –المشتمل على الظن والاحتمال والاجتهاد-، هذا كله صحيح، لكن نحن وجهازنا الإدراكي العادي.

إلا أننا ندّعي في شخص المعصوم أن هناك تلازمًا بين العصمة وبين العلم الخاص، أي إنه زُوّد بقوة مضافة إلى جهازه الإدراكي الطبيعي، هي ما حوّلت الواقع برُمَّته له إلى بديهي أو أرقى، بحيث لا يمكن فيه الخطأ، وإلا، فمن دون تلك القوة الإضافية فلا ضمان لصوابية علوم المعصوم.

كما أن هذه القوة ليست بديلة عن الجهاز الإدراكي كي تُخلّ بإنسانيته، بل هي قوة مضافة.

وقد قلنا أكثر من مرة: إن الظواهر الوجودية هي مراتب مشككة، أي إن لها مراتب طولية متعددة، وهذا يعني وجود التفاوتات بين الموجودات الممكنة، من دون أن يُخلّ بإنسانية الإنسان، بل هو يُعبّر عن اشتداد في إنسانيته وزيادة كماله.

فالعلم الخاص لازم للعصمة.

ص: 247

وقد تناولت العديد من النصوص الإشارة إلى هذه الحقيقة، مطلِقةً عليها تعبير روح القدس أو قوة القدس، وقد تقدمت ثمان روايات دالة على ذلك في النقطة الثالثة: علم أهل البيت (عليهم السلام) اللّدني.

هذا ما يتعلق بالعصمة النظرية.

أما عن العصمة العملية فنقول:

1/لا شك أن بشرية الإنسان تُحفظ في توفّره على خلطة القوى المتضادة، وهو ما أشار له ما روي عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: «قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام): إنَّ الله ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم»(1).

وحينئذٍ، فتفريغ الإنسان من هذه القوى المتضادة يعني خروجه عن الإنسانية إلى سنخ آخر من الموجودات، كالملائكة.

2/وأن الإنسان مختار في فعله، كما ثبت في مباحث الفعل الإلهي، واختياره يعني أنه يستطيع أن ينتخب ما يريد وبالاتجاهين، اتجاه الخير واتجاه الشر، ومن دون حدود.

ص: 248


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 4 و5/ باب 6/ ح 1).

3/ بيد أن اختياره ذلك لا يتوقف على أن يقوم بممارسة كل ما يقدر عليه وما يمكن أن يناله اختياره، وهنا تنكشف المفارقة التي اعتمد عليها التساؤل في نفي العصمة العملية عن الإنسان، إذ إن مؤدى التساؤل هو: أن الإنسان وحتى يُثبت إنسانيته التي تتوفر على القوى المتضادة، وحتى يثبت اختياره، فإنه لا بد وأن يمارس بالفعل كل ما يقدر عليه وما يناله اختياره، ولو مرة واحدة، فعليه إذن أن يغصب أو أن يكذب أو أن يسرق... وإلاّ فإن إنسانيته مهدّدة في هويتها.

إن هذا الفهم يعني أن المعدّل العام للبشرية هو السقف الأعلى لها، في حين أنه الحدّ الأدنى منها، وأنّ الرهان عليه فقط هو تسطيح للإنسانية وتقزيم لشخصية الإنسان.

4/ بل حتى بحدود المعدل العام نجد أن هناك جملة من الأفعال والتي هي ما زالت تحت الاختيار، بيد أنها بقيت مشروع فعل من دون أن تُترجم على الواقع وتتحول إلى فعل ناجز.

هناك من الأفعال ما لا يفعلها الإنسان بل لا يقترب منها بل لا يفكر فيها بل حتى تصوره لفعلها يثير اشمئزازه، كأكل الجيفة مثلًا، رغم أن ذلك لم يُخرجنا عن إنسانيتنا، ولم يقيد اختيارنا.

فليس هناك ما يدعو إلى أن يمارس الإنسان كل ما يُتاح له لأجل أن يثبت إنسانيته.

ص: 249

ومعه، فإذا استطاع الإنسان بجهده أن ينظر إلى كل المعاصي على أنها (جيفة)، فمن المنطقي جدًا أن لا يفعل بل أن لا يفكر بل أن لا يتصور أنه يفعلها، رغم امتلاكه للغرائز والشهوات واستمرار الصراع بينها وبين العقل.

فالذي يُخلّ بإنسانية الإنسان هو تفريغه من تلك القوى، لا عدم تفعيلها في بعض الجوانب باختياره هو.

وكون المعدل العام للبشرية هو أنه يفعل المعصية، ليس هو المقياس، ولو كان هو المقياس لخرج كل العباقرة وذووا الاختصاصات الدقيقة عن الإنسانية، لأنهم يمثلون الأقلية النادرة من البشرية.

والمدّعى:

أن المعصوم رغم امتلاكه تلك القوى، وبذلك بقي إنسانًا، إلاّ أنه نزّل المعاصي في نفسه منزلة الجيفة، وبالتالي فهو باختياره تركها ولم يمارسها أبدًا، بحيث حكّم عقله على جميع غرائزه، وهذا كما عرفنا لا يُخلّ بإنسانيته، بل يعبّر عن سمو إنسانيته ورُقي اختياره.

وهذا المعنى يمكن تحصيله –مع الالتفات إلى كونه ذا مراتب مشككة- بالمجاهدة لنزعات النفس وشهواتها غير العقلائية، وبالتالي، فإن التوفيق والتسديد الإلهي سينال من يُجاهد نفسه من أجل القرب من ساحة القدس والكمال، وهو مفاد قوله تعالى (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ

ص: 250

اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.)(1).

وما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى يقول: من تقرّب إليّ شبرًا، تقرّبتُ إليه ذراعًا، ومن تقرّب مني ذراعًا، تقربتُ منه باعًا، ومن أتاني مشيًا أتيتُه هرولة.(2)

وما روي أنه كتب رجل إلى الحسين بن علي (عليه السلام): يا سيدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإنه من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام.(3)

إن الوصول إلى تلك النتيجة يأتي على خلفية عوامل عديدة، بعضها قاسٍ جدًا، لا يمكن لأي أحد أن يؤديه على وجهه، على طريقة التسليم في (شاء الله أن يراني قتيلًا) وعلى طريقة النبي إبراهيم (عليه السلام) حيث سلّم للأمر بذبح ولده ومن دون أي اعتراض قلبي فضلًا عن العملي، قال تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرىٰ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرىٰ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ.)(4)

ص: 251


1- العنكبوت 69.
2- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور ج1 ص 56 الفصل الرابع ح 81.
3- أمالي الشيخ الصدوق ص 268 ح 293 / 14.
4- الصافات 101 – 106.

وعلى طريقة أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يرى تراثه نهبًا، ولكنه التزم الصمت المرير.

لينتج كل ذلك الجهاد نتيجة (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)(1)

والحاصل من كل ما تقدم:

· أن قانون الحركة والتكامل الوجودي وبمختلف الاتجاهات، ومن دون سقوف.

· منضمًا إلى قانون التشكيك في الوجود.

· وأن فكرة الأقلية وتوفّرها على أجهزة إدراكية إضافية لا يُخرجها عن حدّ الإنسانية، وإنْ أخرجها عن المعدل العام للبشرية مع بقاء اشتراكها في الإنسانية.

كل ذلك (وغيره الكثير) يفسر عدم وقوع المعصوم في المعصية، حيث استطاع أن يصل إلى مستوى من العلم بحيث انكشف له الواقع، وبحيث صار يتعامل مع المعصية كأنها جيفة.

ص: 252


1- البقرة 124.
التساؤل الثاني: العصمة تمنع من اختيار الأتباع

إن من أهم عوامل النمو والتطور هي التجربة والنقاش والسؤال، والخطأ ثم التصويب، وظهور الإبداع في هذا الظرف، وبالنتيجة، تتطور الحياة.

والعصمة وإن كانت لا تتقاطع مع إنسانية الإنسان المعصوم –كما تقدم-، ولكنها تتقاطع مع إنسانية واختيار الاتْباع؛ لأنها تعني إعطاء الإنسان نتائج جاهزة ومعلّبة، لتقود إلى حالة من التكاسل والركود، تمامًا على الضد من عوامل الرشد والتطور، فالعصمة لا تتيح الفرصة أمام السؤال والاستفسار والنقاش والمحاولة والتأمل والاستنتاج، إذ هي تعني لزوم التنفيذ من دون نقاش ولا اعتراض.

فكيف يتم تصوير العصمة بحيث لا تتم مصادرة دور الإنسان في صنع قدره ونموه وتطوره، وبحيث لا يتم تهميش الإرادة الإنسانية إلى حدّ التجميد؟

والجواب:

إن هذا التساؤل يصح لو افترضنا أن المعصوم كان قد تحدث وتدخل في كل مفردات الحياة المعرفية والعملية، ووضع بصمته في كل ما يحتاجه

ص: 253

الإنسان، وإلى حدّ التخمة وإشباع الجزئيات اللا متناهية، ليكون نظير ما لو كانت لوحة الواقع منكشفة للإنسان بكل دقائقها وخصائصها، فلا تبقى فرصة للتجربة والتأمل والنقد وضرب الرأي بعضه ببعض.

ولكن ذلك مجرد افتراض يكذّبه الواقعُ العملي لحركة المعصوم مع أتباعه، فهو وإن كان قادرًا على هذا الأمر –لمكان عصمته وعلمه اللدني وقدراته وبقية مؤهلاته الاستثنائية-، إلا أنه لم يفعل ذلك، فلم يتحدث في كل شيء، ولم يفرض نفسه بديلًا عن علومنا النظرية وظنونا المعتبرة، حتى عندما بُسطت يده.

والشواهد على ذلك كثيرة، نذكر منها:

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَا كَلَّمَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْعِبَادَ بِكُنْه عَقْلِه قَطُّ، وقَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ.(1)

هذا الحديث يدل على أن المعصوم لم يتحدث بكل ما يعلم، ولو أراد لفعل، ولكنه ترك ذلك لتبقى مساحة الاختيار من غير مصادرة.

ومثله ما روي عن رَسُول الله (صلى الله عليه وآله): إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ والأَيْمَانِ وبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَه مِنْ مَالِ أَخِيه شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَه بِه قِطْعَةً مِنَ النَّارِ.(2)

ص: 254


1- الكافي للكليني ج1 ص 23 كِتَابُ الْعَقْلِ والْجَهْلِ ح15..
2- الكافي للكليني ج7 ص 414 بَابُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ والأَيْمَانِ ح1.، وقال في الهامش: في النهاية بعد ذكر الحديث قال: اللحن الميل عن الاستقامة: يقال لحن فلان في كلامه إذا مال عن صحيح المنطق وأراد ان بعضكم يكون اعرف بالحجة وافطن لها من غيره.

ولذلك كانت من مهام النبي (صلى الله عليه وآله) هي (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(1)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً -وأَشَارَ بِيَدِه إِلَى صَدْرِه- لَوْ أَصَبْتُ لَه حَمَلَةً)(2)

حيث يؤكد أنه لم ينشر كل علومه.

وفي نفس هذا المضمار ما روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرعوا. وما روي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: علينا إلقاء الأصول إليكم، وعليكم التفريع.(3)

وخير شاهد على ذلك أيضًا:

أن باب الاجتهاد انفتح عند من آمن بالعصمة المطلقة، وما زال في تطور مستمر، الأمر الذي يعني أن المؤمن بالعصمة لم يتم تجميد اختياره، وإنما على العكس، تم فتح الاجتهاد وبذل الجهد له على مصراعيه، نعم، حُدّد ذلك تحت سقف القواعد التي جاءت من المعصوم، وهذا أمر عقلائي، إذ المنهج العلمي يقتضي وجود سقوف معينة و (أصول موضوعية) يتكئ عليها الباحث في سيره العلمي.

هذا فضلًا عن واقع المؤمنين بالعصمة، الذي يشهد بأنهم كانوا وما

ص: 255


1- البقرة 129.
2- نهج البلاغة ج4 ص 36.
3- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي ص 575.

زالوا في تطور علمي متزايد، وأنهم ما زالوا يحصدون الشهادات المختلفة والتخصّصات المتنوعة –في غير العلوم الدينية-، ولو كانت العصمة تجمّد اختيارهم أو تحد منه لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه.

فالمعصوم لم يضع علومه كلها بين يدي الناس،، كما أن الله تبارك وتعالى لم يفعل كل ما يقدر عليه، ولو شاء لفعل، قال تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(1)

نعم، المعصوم صنع مدرسة لها أسسها الفلسفية وأصولها الموضوعية، التي فتحت بدورها أمام العقول طريق اكتشاف لوحة الواقع ببذل الجهد إلى أقصى حد ممكن.

ولذلك لم نجد في واقعنا أن الدين يحدّ من التفكير والتأمل والمداولة، بل لم يحدّ من الإبداع العلمي والعملي.

ولم نلحظ أن الفيلسوف الوضعي أعمق من الفيلسوف المتدين، وأن فقيه القانون أوسع مجالًا من الفقيه الديني، وأن عالم الفيزياء الملحد أعمق من عالم الفيزياء المتدين، وأن صناعة الحضارة من اختصاص غير المتدين، وأن فرص الإبداع لغير المتدين فقط.

ص: 256


1- يس 82.
التساؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى
اشارة

التساؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى.(1)

تقدم أن العلم الخاص يُعطي لصاحبه قدرات تكوينية خارقة، وهو ما يُسميه الشيعة بالولاية التكوينية للمعصوم، فللمعصوم قدرات تكوينية يمكنه من خلالها التحكم بمجريات الكون، بما يصل إلى إحياء الموتى وبالإخبار ببعض المغيبات.

فهي قدرة خاصة غيبية يمكنه بها التصرف في أمور الكون.

والتساؤل والشبهة هي:

إن فرض قدرات تكوينية (ولاية تكوينية) لأهل البيت (عليهم السلام) يلزم منه تحديد قدرة الله تعالى المطلقة، بل إنه يلزم منه نوع من أنواع الغلو في تلك الشخوص المقدسة.

فالقول بالولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام) يلزم منه إما التحديد في قدرة الله تعالى، أو الغلو في أهل البيت (عليهم السلام).

ص: 257


1- تقدم شيء من الكلام حول الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام) في مبحث الإمامة- الإمامة الخاصة: النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت (عليهم السلام) (الولاية التكوينية)، وانظر أيضاً مبحث الغلو: المقالة العاشرة: الولاية التكوينية للأئمة (عليهم السلام) في آخر الجزء الرابع.

الجواب:

مرة يكون السؤال عن إمكان ومعقولية ثبوت الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام)، ومرة عن الدليل على ثبوتها فيهم ووقوعها لهم.

فهنا خطوتان للجواب:

الخطوة الأولى: إمكان الولاية التكوينية
اشارة

وهنا مستويان:

المستوى الأول: الجواب النقضي

هنا عدة نقوض على ما قيل في الإشكال:

النقض الأول: لِمَ لمْ تكن الجاذبية معارضة للقدرة المطلقة؟ فهي قدرة موجودة في الواقع ولا ينكرها ذو عقل.

النقض الثاني: لِمَ لمْ يكن قانون السببية بعمومه معارضاً لإطلاق قدرة الله تعالى؟

إن قلت: إن قانون السببية كان بإذن الله تعالى؟

قلت: إن الولاية التكوينية كذلك، ونحن لا نقول باستقلال الإمام عن الله تعالى، بل إن من يقول بذلك فهو مشرك.

النقض الثالث: لِمَ لمْ يكن العلم الخاص -الذي قُبل في الأنبياء- شركاً رغم كونه خارقاً وغير طبيعي، وكانت القدرة الخاصة شركاً؟ وبماذا اختلفت

ص: 258

القدرة الخارقة عن العلم الخارق بحيث كانت تؤدي إلى الشرك دون العلم الخاص؟!

النقض الرابع: لِمَ لمْ تكن القدرة الخاصة عند الأنبياء شركاً ومستلزمة لتحديد قدرته تعالى، وكانت القدرة الخاصة عند الإمام شركاً وتحديداً للقدرة المطلقة؟ وما هو الفرق بين القدرتين من حيث الإمكان؟

النقض الخامس: لِمَ لمْ تكن فكرة المعجزة- وهي ولاية جزئية- شركاً وتعالياً على القدرة الإلهية، ولكنها إذا صارت عامة صارت مشكلة، والحال أن القليل والكثير والكلية والجزئية لا يفرق بالنسبة إلى قدرة الله تعالى.

المستوى الثاني: تصورات لتصحيح فكرة الولاية التكوينية

أولًا: إن التصور الصحيح لمفردات هذه البحوث كفيل بحلّ الكثير من الإشكالات المزعومة، فالتصور الصحيح للقدرة الإلهية هو أنها لا متناهية، ولكنها في نفس الوقت لا تتعلق بالممتنع، فحدود القدرة إذن تنتهي عند الممتنع، وهذا تعبير مجازي، لأن الممتنع بالذات هو الذي لا يتسنى فيه الوجود، فالمشكلة فيه لا في القدرة الإلهية، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لمن سأله أن الله تعالى يقدر على إدخال العالم في بيضة من غير أن تكبر البيضة ولا يصغر العالم، فأجابه بأن هذا الأمر ممتنع في حدّ نفسه، فلا يصح تعلق القدرة

ص: 259

به,(1) وقد تقدم بيان ذلك في بحث القدرة.(2)

ثانيًا: إن اللا تناهي لا يعني نفي الثاني مطلقاً، وإنما يعني نفي اللا متناهي الثاني والمستقل الثاني، أما المتناهي فلا ينفيه، لأنه بالغير وفي طول اللا متناهي وبإذنه... وهذا أيضًا تقدم في بداية مباحث التوحيد.

ثالثًا: إن العبودية بتصورها الصحيح لا تعني فقدان كل الكمالات والامتيازات، ولا تعني أن يكون العبد فقيراً مادياً، وإنما هي تعني أن يكون العبد وما يملك لمولاه، فقد يكون العبد يملك الكثير من الأموال، ولكن عبوديته حينئذٍ تكمن في كونه وما يملك مملوكاً لمولاه. ففقر العبد فقر معنوي لمولاه.

ومعه نقول: إن اتصاف أهل البيت (عليهم السلام) بأنواع الكمالات والقدرات الخارقة لا ينفي عبوديتهم لله تعالى، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تلك القدرات تحكي لنا بصراحة عن عبوديته وإخلاصه وفنائه في ذات الله تعالى ويقينه وصبره....

ومن هنا ورد في العديد من الروايات الإشارة إلى عظم منزلتهم (عليهم السلام) وكونها فوق المستوى العادي للبشرية، وهذا لا يُخرجهم عن كونهم عبيدًا لله تعالى، بل إن الحد الأوسط في كل ذلك هو عبوديتهم (وأشهد أن محمداً عبده

ص: 260


1- عن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون. [التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 130 باب القدرة ح9].
2- [3] - انظر الجزء الأول: بحث القدرة/ إشارة: بعض أجوبة الأئمة (عليهم السلام) عن سعة القدرة الإلهية.

ورسوله).

ومن تلك الروايات:

ما روي أنه قال أمير المؤمنين (عليه السلام): جلَّ مقام آل محمد عن وصف الواصفين ونعت الناعتين، وأنى يُقاس بهم أحد من العالمين؟ وكيف وهم النور الأول....(1)

وروي عنهم (عليهم السلام): نزهونا عن الربوبية(2)

وارفعوا عنا حظوظ البشرية، فلا يقاس بنا أحد من الناس.(3)

وفي ما روي عنهم من إخبارهم بالمغيبات وتصحيح فكر الآخر بكونهم عبيدًا لله تعالى ما روي عن إسماعيل بن عبد العزيز قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) ضع لي في المتوضأ ماءً. قال: فقمت فوضعت له فدخل، قال: فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوضأ! فلم يلبث أن خرج فقال: يا

ص: 261


1- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 177 وبحار الأنوار للعلامة المجلسي ج25 ص 171 – 172.
2- في هذه الرواية وُجّه سؤال إلى السيد الخوئي نُقل في صراط النجاة - الميرزا جواد التبريزي - ج 2 - ص 452 تحت رقم السؤال 1421: (نزهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم) هل أن هذه المقولة حديث؟ وإلى من تنسب من الأئمة الأطهار؟ ج / الخوئي: لا يحتاج تنزيههم عن صفات الرب المختصة به واتصافهم بجميع ما عدى تلك من صفات الكمال التي يمكن أن تنالها البشرية في قدسيتها، كما هم منزهون عن ما لا يليق أن يتصف به المخلوق المعصوم عن الزلل والمعاصي لا تحتاج تلك إلى ورود رواية حتى نثبته بمضمونها إن كانت معتبرة، أو نطرحها إن كانت ضعيفة غير معتبرة، والله العالم.
3- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 101.

إسماعيل بن عبد العزيز، لا ترفعوا البناء فوق طاقتنا فينهدم، اجعلونا عبيدًا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم...(1)

وعن خالد بن نجيح الجوار قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده خلقٌ، فقنعت رأسي فجلست في ناحية وقلت في نفسي: ويحكم ما أغفلكم عند من تكلمون؟ عند رب العالمين! قال: فناداني: ويحك يا خالد، إني والله عبد مخلوق، لي ربٌّ أعبده، إنْ لم أعبدْه –والله- عذّبني بالنار. فقلت: لا والله، لا أقول فيك أبداً إلا قولك في نفسك.(2)

وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لأبي ذر: اعلم يا أبا ذر أنا عبد الله عز وجل وخليفته على عباده لا تجعلونا أربابًا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنكم لا تبلغون كنه ما فينا ولا نهايته، فإن الله عز وجل قد أعطانا أكبر وأعظم مما يصفه واصفُكم، أو يخطر على قلب أحدكم، فإذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون.(3)

رابعًا: إن ما تقدم لا يعني قبول أي كمال وأية صفة في الإمام، فهناك من الكمالات والصفات ما استأثر بها الله تعالى لنفسه، لا وجود لها في عالم الإمكان، كوجوب الوجود، واللا تناهي، ولكن هذا لا ينفي القدرات الخارقة والولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام).

ص: 262


1- بصائر الدرجات للصفار (ص 261 باب (10) باب في الأئمة انهم يعرفون الاضمار وحديث النفس قبل ان يخبروا به/ ح 22).
2- بصائر الدرجات للصفار (ص 261 – 262 باب (10) باب في الأئمة انهم يعرفون الاضمار وحديث النفس قبل ان يخبروا به/ ح 25).
3- بحار الأنوار للمجلسي ج26 ص 2.

والخلاصة: أن التصور الصحيح لمفردات هذا البحث كفيل بحل مشكلاته في مستوى الإمكان والمعقولية...

خامسًا: قد يقال: هناك إشكال عقلي في المقام، وهو: إن تصوير ولاية تكوينية وقدرات خارقة للإمام يعني التحديد في القدرة المطلقة واللا متناهية لله تعالى، والتالي باطل، فالمقدم مثله!

في الحقيقة، أن الفكر الوهابي اعتمد هذا الطرح، فقال بأن أية طاعة لغيره تعالى تعني الشرك والكفر...

وفي مقام الجواب نقول:

أولًا: جواب نقضي:

إن من يلتزم بهذا القانون، لا بد أن يلتزمه بنحو مطلق وغير محدد، وبالتالي حيث إن الله تعالى لا متناهي في وجوده وعلمه وقدرته وإرادته وجميع صفاته، فهذا اللا تناهي يمنع من وجود أي وجود غيره تعالى وأي علم وقدرة وإرادة... ولا معنى لتخصيص ذلك القانون بخصوص القدرة.

وهذا كما ترى.

ثانيًا:

ذكرنا أن اللا متناهي يقطع الفرصة أمام اللا متناهي الثاني(1)،

أما

ص: 263


1- وقد تقدم بيان هذا المعنى في بدايات بحوث التوحيد في الإشارة الأولى من إشارات بداية بحث التوحيد في الذات، فراجع

المتناهي الذي يرجع إلى اللا متناهي والذي يبقى في طول وجوده وعلمه وقدرته وإرادته، فلا ينفيه –وإن كان المتناهي خارقًا في صفاته بالنسبة إلى عامة البشر-، وليس من شرط اللا تناهي عدم وجود متناهي!

ولذلك نجد أن القرآن الكريم صرح بوجود قدرة خارقة وغيبية في طول قدرته تعالى، كما في قوله تعالى على لسان النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(1)

الخطوة الثانية: مستوى الدليل على ثبوت الولاية التكوينية لهم (عليهم السلام)

من المنطقي جداً السؤال عن الدليل على تحقق واتصاف الأئمة بهذا النوع من القدرات الغيبية، وقد تقدم الدليل على ذلك في النقطة الرابعة.

ص: 264


1- (49) من سورة آل عمران.
التساؤل الرابع: مضادة الجو القرآني للعصمة
اشارة

قد يُقال: إن الجو القرآني مضاد لفكرة العصمة مطلقاً، أو للعصمة المطلقة لكل الأحوال التي قال بها الشيعة على الأقل، وإلا فبأي شيء تفسر آيات التوبيخ للأنبياء وتهديدهم وتكفير سيئاتهم؟!

هذا الجو يتمثل بسلسلة من الآيات القرآنية التي تنسب الذنب للأنبياء، والتي تعاتبهم بلهجة شديدة، يصل بعضها إلى حدّ التهديد، والتوبيخ، وهذا ما لا يتناسب مع العصمة المقتضية للتبجيل والثناء والتقديس.

يلاحظ في هذا المجال الآيات التالية: (وَعَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ)(1)، و (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً.)(2)

و (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.)(3)

ص: 265


1- طه 121.
2- الإسراء 73 – 75.
3- هود 46.

وقبل الجواب نذكر الأمور التالية:

الأمر الأول

لو سُلّم وجود هذا الجو المضاد للعصمة في آيات القرآن، والذي يضطرنا منهجيًا إلى رفع اليد عن مقولة العصمة، إلاّ أنه لا ينتج عن ذلك الوصول إلى تسوية نوعية بين المعصوم وضده النوعي.

رفع اليد عن عصمة النبي أو الولي لا ينتج عنه القول بتساوي الظالم مع العادل، ولا الجاهل مع العالم، ولا الناجح مع الفاشل، لا ينتج عنه تساوي موسى وفرعون، وتساوي الحسين ويزيد، بحيث تترك الأمور للاختيار العشوائي بينهما، بل تبقى هناك إلزامات واقعية وعقلية تُبقِي المسافة الطويلة بين العادل والخبير والنزيه وذي الخبرة وبين أضدادهم، فالعقل والقانون ما زالا يفرّقان بين أولئك، ويُقدمون العادل على غيره، والنزيه على غيره، في مختلف مجالات الحياة.

وبعبارة أخرى: أن الجو المزعوم لو تم، ورفعنا اليد عن العصمة وتعيين السماء، فهو لا يُنتج شرعنة ما وقع في المحيط الاجتماعي والديني، من تصدِّي الظلمة والمستبدين وأفعالهم، ولا يُترك الأمر إلى اختيار الأتباع وفق رغباتهم، بل تبقى هناك تأسيسات عقلية تؤسّس بدورها لجملة تأسيسات قانونية تشرعن لاختيار دون آخر، ولظاهرة دون أخرى، ولفعل دون آخر.

فليس الأمر دائرًا بين العصمة والنص من السماء، وبين الاختيار العشوائي، وإنما هناك شق ثالث هي القوانين العقلية في التفاضل ولزوم

ص: 266

تقديم الفاضل على المفضول في أي مجال من مجالات الحياة، كما تبين.

وبتفصيل في الإمامة:

إنكار الآخر لأطروحة الشيعة في العصمة يستهدف خلق ضد نوعي بالتسوية بين أهل البيت وخصومهم، والذي يجر إلى القضاء على فكرة النص وفتح منافذ لتسرّب المقولات البديلة داخل الوسط الشيعي وتحت غطاء شرعي، وبذا يتم نخر المحتوى الشيعي وإيجاد مسافة بينهم وبين مركز الاستقطاب في فكرهم وولائهم.

وغفل هؤلاء عن أن عملية التفضيل تتم بأبسط من العصمة بكثير، إذ قليل من التفاضل العلمي والسلوكي يكفي في ترسيم الأولويات.

في حين أن القرآن مليء بآيات الفضائل النازلة في حق أهل البيت (عليهم السلام) والمفسرة بهم والمؤولة بهم كأبرز مصداق، وبحد تجعل الفاصلة بينهم وبين الآخر لا تقبل الترقيم، ممّا لا يترك فرصة منهجية للتردد في أولويتهم وضرورة النص.

الأمر الثاني

لو كان التساؤل لا يُراد من ورائه المساواة بين المعصوم وغيره في التصدي، وإنما كان يُقصد من إثارته فسح المجال أمام نقاش المعصوم، وطرح الرأي في مقابل رأيه، بما يصل إلى حدّ تخطئته، فالجواب هو:

أن النقاش إنما يصدق ويصح لو كان الطرفان متقاربين من حيث الفضيلة

ص: 267

أو المستوى العلمي، ليصح لأحد الطرفين تخطئة الآخر وطرح الرأي المقابل لرأيه.

أما إذا كان الفاصل بينهما شاسعًا، فالحوار بينهما أقرب وألصق بالسؤال والاستفسار من الداني إلى العالي منه إلى النقاش. وهل يصح لتلميذ ابتدائية أن يطرح نفسه كمناقش لبروفيسور في علم معين أو عبقري في تخصصه؟!

وفي المقام، فإنه لو فُرض عدم عصمة النبي مثلًا، لكن هذا لا يعني أن موقعه سيكون موقع رجل عادي في الأمة، وإنما ما زالت الأمة تنظر إلى النبي –غير المعصوم حسب الفرض- على أنه رجلها الأول ومرجعها العلمي الذي لا يُدانيه أحد في مجاله الديني، إذ إنه يتوفر على ما لم يُتح لجميع الأمة، وهو اتصاله بالسماء من خلال الوحي، وعدم عصمته المفترض لم يسلب عنه ارتباطه بالسماء، وهذا يعني أن الحديث معه ما زال يُبوّب في خانة السؤال والاستفسار والاستزادة العلمية بالتعلّم منه، لا أنه يرقى لمصافّ النقاش، بغض النظر عن كيفية طرح السؤال وأنه بصيغة سؤال أو بصيغة نقاش فإنه يبقى في العمق استفهام وسؤال لا نقاش.

وحتى لو تنزلنا وأجزنا نقاش النبي والإمام، لكن هذا لا يبرر مخالفته حتى لو انتهى النقاش بنتائج مختلفة، بل يلزم اتباعه من جهة أنه مجعول من السماء. والجعل يفرض على الاتباع الطاعة المطلقة، وإن لم يكن معصومًا –حسب الفرض وتماشياً مع الفريق الآخر النافي للعصمة-، وإلا وقع الاتباعُ في المعصية.

ص: 268

ونفس الكلام يُقال في الإمام، لمكان عصمته.

الأمر الثالث

لا شك أن الإجماع ظاهرة معقّدة –لا بسيطة- ونادرة –لا متوفرة- خصوصًا في القضايا غير المحسوسة وغير المادية، وخصوصًا في القضايا الإنسانية ذات الطابع العام –فضلًا عن العلمية-، هذا من جهة.

من جهة أخرى، نجد أن أتباع الديانات عمومًا قبلوا عصمة الأنبياء –في الجملة، ولو في مجال تلقّي الوحي وتبليغه- الأمر الذي يعني أن الإجماع على هذه الصفة فيهم لا يمكن أن يكون مجرد تلقين، إذ هناك في الأمة من العقول ما لا يُمرّر عليها التلقين.

لا شك إذن أن هذا الإجماع هو فرع الفطرة أو التلقي الديني، مما يعني وجود جوٍّ موافق للعصمة ومناصر لها ومتسالم عليها، ومثل هذا الجو لا يمكن أن يكون ناشئًا من الأعراف أو التقاليد، ولا يمكن أن يكون بدون واقع وراءه، وإلاّ لظهرت أصوات قوية مناهضة له وموازية للإجماع عليه تقول بعدم العصمة، وهذا ما لم يقع.

والإجماع على العصمة ليس شيئًا عابرًا أو مخفيًا، إنما هو معلن، بحيث إن أي تصرف أو سلوك لا يتناسب مع العصمة، فإنه سيكون أمرًا مستفِزًّا لها، وصارخًا بمخالفتها وعدم انسجامه معها.

وإجماعٌ بهذه المواصفات على العصمة، يُخفِّض على الأقل من تأثيرات

ص: 269

الجوّ القرآني المضاد.

أو قل: إن الإجماع لدى المسلمين على مبدأ العصمة –ولو في الجملة- يكشف عن عدم وجود جو يضادّه، أو على الأقل: أن ما يعارضه إنما هو مجرد نصوص مستفزة للعصمة، وغير صريحة في نفيها.

فتبين مما تقدم أنه لو قبلنا وجود جوٍّ قرآني مضاد للعصمة، فإنه ليس هو الجو الوحيد ليُقال بأنه يؤدي إلى وجود خلل بنيوي في أدلة العصمة، بل إنه يوجد جو ديني آخر لصالح العصمة وقابل لها ولو في الجملة.

وبالإضافة إلى هذين الجوّين، فإنه يوجد جو ثالث، وهو:

أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن الأنبياء، فإنه يضع لهم جملة من المواصفات العالية، وبلغة تبجيلية راقية، ومن تلك المواصفات: الطهارة، القرب، الهداية بأمره تعالى، اليقين، الإخلاص، الصبر، البِر، الإحسان، الصلاح، وعشرات غيرها.

هذه الصفات هي حدود وسطى للعصمة أو نتائج لها أو مضمونها، فهي بمجموعها تنتهي بالباحث إلى عصمة النبي وأن الجو القرآني لصالح العصمة.

علمًا: أن العصمة مصطلح، فحين يراد البحث عنها في القرآن لابد من البحث عن مضمونها.

ونكتفي بعرض جملة نماذج قرآنية تناولت هذه الصفات ككبرى وطبقتها

ص: 270

على الأنبياء:

النموذج الأول

الكبرى: قال تعالى حاكياً عن إبليس (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(1)

فالمخلَصون مستثنَون من إغواء الشيطان، مما يعني أن قدرات إبليس ليست مفتوحة على مصراعيها ومن دون تحديد.

والصغرى: قوله تعالى (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ)(2) و (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(3)

فالأنبياء أخلصهم الله تعالى، فهم خارج دائرة إغواء إبليس، فهم معصومون عن تأثير الشيطان.

النموذج الثاني

الكبرى: قوله تعالى (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)

الصغرى: قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)(4)

فالذين أنعم الله تعالى عليهم في الآية هم مصاديق لمن هداهم الله تعالى

ص: 271


1- (82 - 83) من سورة ص.
2- (46) من سورة ص.
3- (24) من سورة يوسف.
4- (69) من سورة النساء.

إلى الصراط المستقيم، والصراط المستقيم تعبير آخر عن العصمة.

النموذج الثالث

الكبرى: قال تعالى عن حقيقة القرآن الكريم (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(1) أي إن القرآن لا يمس معانيه إلاّ المطهرون، وإن فيه مراتب عالية لا يصل إليها إلاّ المطهرون.

الصغرى: قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(2)

فالتطهير هو إذهاب الرجس، فهو تعبير آخر عن العصمة.

النموذج الرابع

الكبرى: قال تعالى (وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ)(3)،

وقال تعالى (مَن يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(4)

الفكرة في هذه الآيات: أن هناك شخوصًا هي في عهدة الله تعالى ورعايته المباشرة، ومن يكن كذلك فلا تطاله عوامل الإضلال الخارجية.

الصغرى: قال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسىٰ وَهارُونَ

ص: 272


1- (79) من سورة الواقعة.
2- (33) من سورة الأحزاب.
3- (37) من سورة الزمر.
4- (39) من سورة الأنعام.

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَىٰ الْعالَمِينَ. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.)(1).

بالإضافة إلى:

الآيات الخاصة بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الناهية عن إيذائه، وعن رفع الصوت بحضرته، ولزوم طاعته بالمطلق، وعدم جواز الاختيار في قبال اختياره، وغيرها كثير.

بالمجموع تُشكل الآيات جوًّا إيجابيًا عن الأنبياء ومؤهلاتهم، وليس هو جوًا قانونيًا فقط يُلزم الناس باتباع الأنبياء؛ لأن الله تعالى جعلهم أنبياء فقط، وإنما هو يذكر وصولهم إلى ذلك مع ذكر المؤهلات التي أوصلتهم إلى هذه المرتبة.وأوضح مثال على ذلك هي آية النبي إبراهيم (عليه السلام) ووصوله إلى الإمامة بعد جملة من الاختبارات والبلاءات التي تجاوزها بكل ثبات واستقامة.

الجواب التفصيلي

إذا تبينت هذه الأمور الثلاثة المتقدمة، يمكن أن ننقّط الأجوبة الحلّية التالية للتكييف بين الجو القرآني الساند للعصمة مع الإجماع والتسالم عليها وبين ما اُفترض أنه جو مضاد:

ص: 273


1- سورة الأنعام (84 – 87).

أولًا:

لا معنى للانفراد بجو السؤال المضادّ وإهمال الجوين الآخرين القرآني والديني.

بل إن الجو المزعوم في التساؤل ليس جوًّا في الحقيقة، لأنه وحسب نقل بعض الأساتذة لا تتجاوز آياته (40) آية، وهذا المقدار من الآيات لا يصنع جوًّا ضمن أكثر من (6000) آية في القرآن الكريم، خصوصًا مع وجود عشرات بل مئات الآيات الموافقة للعصمة والدالة عليها والمثبتة لها والمتماهية معها.

ثانياً:

على أن البحث العلمي، والرجوع إلى اللغة العربية واستعمالاتها، وتطبيق أصول وقواعد التفسير على تلك الآيات الأربعين يُثبت أنها ليست نصًّا في نفي العصمة، وأنها تشير إلى أمور أخرى لا تتقاطع مع العصمة سلبًا، وأن ما يظهر منه نسبة الذنب إلى الأنبياء، إنما هو بحسب النظرة الساذجة، وأنها بالتحقيق إشارات إلى مراتب معينة من مخالفة الأولى وما شابه.

نعم، لا شك أن تلك الآيات –بالنظرة الأولية الظاهرية- تستفز العصمة وتخدش فيها، فلذلك احتجنا إلى تفسيرها أو تأويلها بما يتناسب مع مئات الآيات الدالة على العصمة، فهي آيات تساؤل أكثر من كون مضمونها يمثل إشكالاً على العصمة، فضلًا عن كونها تكشف عن خلل بنيوي في أدلة

ص: 274

العصمة.

وقد أشبع علماؤنا البحث في تفاصيل تلك الآيات في كتبهم، ويمكن لأي باحث أن يجدها بكل يُسر.

ثالثًا:

أما لماذا كانت هذه الآيات المستفزة للعصمة، والخادشة فيها، وأصلاً لماذا ذُكرت هذه الآيات؟

فهذا ما تتبين حقيقة الحال فيه من التالي:

لا شك أن القرآن الكريم هو كتاب هداية وتربية وتأديب، وأن أزمة التوحيد التي كانت سائدة في المجتمعات -وما زالت- لم تكن دومًا بصيغة الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى، وإنما كانت بصيغة الشرك، ولم تكن تطرح الآلهة المفترضة في عرض الله تعالى، وإنما طرحت في طول الله تعالى، ولكن مع نسبة الاستقلال إليهم في بعض الحيثيات، بمعنى اعترافهم ضمناً بأن الإله هو الله تعالى، ولكن هذه الآلهة وسائل ووسائط له تعالى.

وهذا التفكير الذي قَبِل تأليه خشبة أو تمرة، مرشح لأن يقبل تأليه الأنبياء والأوصياء والأئمة، فيقع في ما لا تُحمد عقباه، فإذا ما ركّز القرآن الكريم على عبوديتهم وبشريتهم، فهذا يقطع الطريق أمام ذلك التفكير... بل نجد أنه رغم هذا التركيز على عبوديتهم فقد وقع البعض من خفيفي العقول في تأليه عيسى النبي (عليه السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، فكيف إذا لم يركز القرآن

ص: 275

الكريم على ذلك؟!

بالإضافة إلى أن تقديس تلك الشخوص بسبب وصولهم إلى المقامات الغيبية واتصالهم بالوحي وعصمتهم، إنما هو بالنسبة لنا، أما تلك الشخوص فهم مستغرقون في العبودية، ومن هنا ركّز القرآن الكريم على عبوديتهم بمختلف الأساليب حتى يُعرّف الناس أن هؤلاء المقدسين بشر مثلنا، ولا يقع الناس في دوامة الغلو والتأليه، ومن تلك الأساليب هي تلك الآيات المستفزة والخادشة في العصمة بحسب النظرة السطحية.

فالقرآن الكريم، في الوقت الذي يؤكد على عظمة الأنبياء ووصولهم إلى مراتب عالية من الكمال، هو يريد أيضًا التأكيد على بشريتهم، وعبوديتهم، باعتبار أنه كتاب تربية وتعليم وتكميل.

رابعًا:

إن كل درجة من التكامل تملي على صاحبها نوعاً معينًا والتزامات محددة من السلوك، لأن وصوله إلى مرتبة من التكامل يعني حصول زيادة في علمه وقدرته الخاصّين، وهو ما يترتب عليه نوع معين من السلوك، يتلاءم ويتناسب مع تلك المرتبة، ويصاحب هذه الزيادة إحساس بالتقصير والذنب بسبب عدم الوصول إليها قبلاً، فيظهر منه الندم والبكاء والاستغفار وإظهار الذل بين يديه تعالى، وهذا ما يبين لنا الكثير من الآيات التي اُدّعي دلالتها على عدم عصمة الأنبياء.

ص: 276

ومنه أيضاً نفهم ما يُقال من أن حسنات الأبرار سيئات المقربين...

الأنبياء يصلون إلى مرحلة من العبودية الخالصة لله تعالى، بحيث إنهم يعتبرون أن أي انشغال عنه تعالى -ولو بالأمور المباحة والمحلّلة- ذنبًا يستغفرون الله منه، وجملة من الآيات تلك تشير إلى الذنب بحسب مرتبتهم هم، لا بحسب القانون الشرعي، فإنها بحسبه ليست ذنوبًا في الواقع، ولكن النبي يعتبرها كذلك بما يتناسب مع مرتبته الكمالية التي وصل إليها.

ويمكن بيان (رابعًا) بعبارة أخرى، فيُقال:

إن النصوص القرآنية التي تحدثت عن الأنبياء، يمكن أن نقسمها إلى مجموعتين:

المجموعة الأولى

نصوص ركّزت على عبودية الأنبياء، بشريتهم، عدم علمهم بالغيب المطلق، حاجتهم إلى الباري جل وعلا في جميع شؤونهم، تسديدهم من السماء، شفاعتهم ولكن بإذنه تعالى.

هذه المجموعة تشير إلى أمرين:

الأمر الأول:

بيان الواقع كما هو وبشكل كامل، وأن الأنبياء في الوقت الذي هم أنبياء مجعولون من الله تعالى، ويوحى إليهم على خلفية مؤهلاتهم العالية، وأنهم وصلوا إلى مراحل عالية من التكامل، فهم مقرّبون، مطهرون، مخلَصون،

ص: 277

وغيرها مما يصب في وصف جانبهم الملكوتي... فهم في الوقت ذاته عبيد لله تعالى في واقعهم، ويجري عليهم ما يجري على العبيد من كونهم محتاجين إليه تعالى فقراء إليه، فهم في جانبهم المُلكي بشر، عليهم ما على البشر من هذه الجهة.

الأمر الثاني:

يفهم من هذه المجموعة أن الحد الأوسط في وصولهم إلى تلك الكمالات والمقامات إنما هي عبوديتهم لا ألوهيتهم، فلشدة إيغالهم في العبودية وصلوا إلى هذه المراتب العالية من الكمالات لوجودية.

المجموعة الثانية: آيات العتاب فما فوق من تهديد وتوبيخ

حيث يُتساءل عن الهدف من ذكر تلك الآيات وبلسان اُدّعي أنه لسان لا يتناسب مع مقاماتهم الملكوتية ويتنافى مع عصمتهم.

في مقام الجواب نُذكّر: بأنه ورد على لسان نفس المعصومين (عليهم السلام) نصوص هي غاية في إظهار العبودية بل والخوف من الله تعالى بل ونسبة الذنب إلى أنفسهم، ليس ذنبًا عابرًا فحسب، وإنما النصوص الواردة عنهم تصرّح بالإيغال في المعصية وإلى حد القنوط من الرحمة الإلهية لولا النهي عنه.

ونذكر لذلك نموذجين من الأدعية الواردة عنهم (عليهم السلام).

النموذج الأول: دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) المعروف بدعاء أبي حمزة

ص: 278

الثمالي، حيث وردت فيه العديد من المقاطع التي تشير إلى ذلك المعنى، ومنها قوله (عليه السلام):

(أَنا يا رَبِّ الَّذِي لَمْ أَسْتَحْيِكَ فِي الخَلاءِ وَلَمْ اُراقِبْكَ فِي المَلاءِ أَنا صاحِبُ الدَّواهِي العُظْمى، أَنا الَّذِي عَلى سَيِّدِهِ اجْتّرى، أَنا الَّذِي عَصَيْتُ جَبَّارَ السَّماء، أَنا الَّذِي أَعْطَيْتُ عَلى مَعاصِي الجَلِيلِ الرُّشا، أَنا الَّذِي حِينَ بُشِّرْتُ بِها خَرَجْتُ إِلَيْها أَسْعى. أَنا الَّذِي أَمْهَلْتَنِي فَما ارْعَوَيْتُ وَسَتَرْتَ عَلَيَّ فَما اسْتَحْيَيْتُ وَعَمِلْتُ بِالمَعاصِي فَتَعَدَّيْتُ وَأَسْقَطْتَنِي مِنْ عَيْنِكَ فَما بالَيْتُ، فَبِحِلْمِكَ أَمْهَلْتَنِي وَبِسِتْرِكَ سَتَرْتَنِي حَتَّى كَأَنَّكَ أّغْفَلْتَنِي وَمِنْ عُقُوباتِ المَعاصِي جَنَّبْتَنِي، حَتَّى كَأَنَّكَ اسْتَحْيَيْتَنِي)

ثم يقول (عليه السلام):

إِلهِي لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ، فَقَدْ عَصَيْتُكَ وَخالَفْتُكَ بِجُهْدِي؛ فَالآنَ مِنْ عَذابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي وَمِنْ أَيْدِي الخُصَماءِ غَداً مَنْ يُخَلِّصُنِي وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ أَنْتَ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي؟ فَواسَوْأَتا عَلى ما أَحْصَى كِتابُكَ مِنْ عَمَلِي الَّذِي لَوْلا ما أَرْجو مِنْ كَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ وَنَهْيِكَ إِيَّايَ عَنْ القُنُوطِ لَقَنَطْتُ عِنْدَما أَتَذَكَّرُها...)

ص: 279

النموذج الثاني: دعاء كميل:

جاء فيه: (...اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَهْتِكُ العِصَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُنْزِلُ النِّقَمَ. اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ، اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَحْبِسُ الدُّعاءَ. اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الّذنُوبَ الّتي تُنْزِلُ البَلاَء. اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ كُلَّ ذَنْبٍ أذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ خَطِيئَةٍ أَخْطَأْتُها...)

وفي مقطع آخر: (...اللّهُمَّ لا أَجِدُ لِذُنُوبِي غافِراً وَلا لِقَبائِحِي ساتِراً، وَلا لِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِيَ القَبِيحِ بِالحَسَنِ مُبَدِّلاً غَيْرَكَ، لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ، سُبْحانَكَ وَبِحَمْدِكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَتَجَرَّأْتُ بِجَهْلِي، وَسَكَنْتُ إِلى قَدِيمِ ذِكْرِكَ لِي، وَمَنِّكَ عَلَيَّ. اللّهُمَّ مَوْلايَ كَمْ مِنْ قَبيحٍ سَتَرْتَهُ، وَكَمْ مِنْ فادِحٍ مِنَ البَلاءِ أَقَلْتَهُ، وَكَمْ مِنْ عِثارٍ وَقَيْتَهُ، وَكَمْ مِنْ مَكْروُهٍ دَفَعْتَهُ، وَكَمْ مِنْ ثَناءٍ جَمِيلٍ لَسْتُ أَهْلاً لَهُ نَشَرْتَهُ.

اللّهُمَّ عَظُمَ بَلائِي، وَأَفْرَطَ بِي سُوءُ حالِي، وَقَصُرَتْ بِي أَعْمالِي، وَقَعَدَتْ بِي أَغْلالِي وَحَبَسَنِي عَنْ نَفْعِي بُعْدُ أَمَلِي، وَخَدَعَتْنِي الدُّنْيا بِغُرُورِها، وَنَفْسِي بِجِنايَتِها، وَمِطالِي يا سَيِّدِي فَأَسْأَلُكَ بِعِزَّتِكَ أَنْ لا يَحْجُبَ عَنْكَ دُعائِي سُوءُ عَمَلِي وَفِعالي، وَلا تَفْضَحَنِي بِخَفِيِّ ما اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنْ سِرِّي، وَلا تُعاجِلْنِي بِالعُقُوبَةِ عَلى ما عَمِلْتُهُ فِي خَلَواتِي مِنْ سوءِ فِعْلِي وَإِساءَتِي، وَدَوامِ تَفْرِيطِي وَجَهالَتِي، وَكَثْرَةِ شَهَواتِي وَغَفْلَتِي...)

وهكذا لا نكاد نجد نصًا دعائيًا ورد عنهم (عليهم السلام) إلاّ وفيه ما يشبه هذه الفقرات المملوءة بالاعتراف بالذنوب والخوف من العقوبة الإلهية

ص: 280

والاستعاذة بالله تعالى من المؤاخذة على ذنوبهم التي توجب لهم النار...

وفي الوقت ذاته لا نجد نصًا واحدًا عنهم يذكرون فيه مقاماتهم العالية أو إبراز عظمتهم ومراتبهم الكمالية، رغم أن النصوص تؤكد تلك العظمة والمرتبة الكمالية العالية، من قبيل ما جاء في الزيارة الجامعة الكبيرة: (مَنْ أَرادَ الله بَدَأَ بِكُمْ وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُمْ وَمَنْ قَصَدَهُ تَوَجَّهَ بِكُمْ، مَوالِيَّ لا أُحْصِي ثَنائَكُمْ وَلا أَبْلُغُ مِنَ المَدْحِ كُنْهَكُمْ وَمِنَ الوَصْفِ قَدْرَكُمْ وَأنْتُمْ نُورُ الاَخْيارِ وَهُداةُ الاَبْرارِ وَحُجَجُ الجَبَّارِ، بِكُمْ فَتَحَ الله وَبِكُمْ يَخْتِمُ وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الغَيْثَ وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَّماء أنْ تَقَعَ عَلى الاَرْضِ إِلاّ بِإذْنِهِ وَبِكُمْ يُنَفِّسُ الهَمَّ وَيكشف الضُّرَّ، وَعِنْدَكُمْ ما نَزَلَتْ بِهِ رُسُلُهُ وَهَبَطَتْ بِهِ مَلائِكَتُهُ وَإِلى جَدِّكُمْ... بُعِثَ الرُّوحُ الاَمِينُ. آتاكُمُ الله مالَمْ يُؤْتِ أحَداً مِنَ العالَمِينَ، طَأْطَأَ كُلُّ شَرِيفٍ لِشَرَفِكُمْ وَبَخَعَ كُلُّ مُتَكَبِّرٍ لِطاعَتِكُمْ وَخَضَعَ كُلُّ جَبَّارٍ لِفَضْلِكُمْ وَذَلَّ كُلُّ شَيْءٍ لَكُمْ وَأَشْرَقَتِ الاَرْضُ بِنُورِكُمْ وَفازَ الفائِزُونَ بِوِلايَتِكُمْ، بِكُمْ يُسْلَكُ إِلى الرِّضْوانِ وَعَلى مَنْ جَحَدَ وِلايَتَكُمْ غَضَبُ الرَّحْمنِ.

إذن كيف نفسر تلك الأدعية التي هي غاية في الاعتراف بالذنوب والخوف من الله تعالى ومن نار جهنم؟

لا بد في مقام الجواب من الرجوع إلى فكرة أن الإنسان كلّما تكامل أكثر اعتبر أن التصرفات التي يمكن أن تصدر منه في المرتبة السابقة، لو صدرت منه في مرتبته اللاحقة فهي ذنب باعتبار المرتبة الأكمل. أو ما يُقال من أن (حسنات الأبرار سيئات المقربين).

ص: 281

ومن هذا القبيل ما روي مرفوعًا إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما تلّقى يوسفُ يعقوبَ ترجّل له يعقوبُ ولم يترجّل له يوسف فلم ينفصلا من العناق حتى أتاه جبرئيل فقال له : يا يوسف، ترجّل لك الصديق، ولم تترجّل له، ابسط يدك، فبسطها فخرج نور من راحته، فقال له يوسف : ما هذا ؟ قال : هذا آية لا يخرج من عقبك نبي عقوبة.(1)

ومن هنا يمكن فهم ما ورد من أن عذاب العالم مضاعف على عذاب الجاهل ولو ارتكبا نفس الذنب.

وبعبارة أخرى:

أن الفعل يتلون بالفاعل، ففعل واحد قد يكون حسنًا من شخص، ولكنه قبيح من آخر، فالأكل في الطرقات قد يكون مباحًا على شخص، لكنه محرم بالعنوان الثانوي على شخص آخر.

والقرآن الكريم عندما ينسب الذنوب للأنبياء فإنما هي باعتبار أنهم يرونها ذنوبًا لمكان مقاماتهم العالية، وإن كانت بالقانون الشرعي ليست ذنوبًا بالنسبة لنا.

مع التنبيه على أن كل ما تقدم منا لا يعني أننا نغلق الباب أمام تأويل بعض الآيات التي نسبت الذنوب للأنبياء، كيف والتأويل علم له أصوله وقوانينه، وهو مقبول جدًا، ولذلك فإن ما بذله العلماء في معالجة كل آية من هذه الآيات ولو عبر التأويل هو جهد معرفي مقبول.

ص: 282


1- علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 55 باب 47 - العلة التي من أجلها لم يخرج من صلب يوسف نبي. ح1.
التساؤل الخامس: لماذا لم يصرح القرآن باسم علي (عليه السلام)؟

لماذا لم يصرح القرآن الكريم بإمامة علي وأولاده (عليهم السلام) ولم يذكر أسماءهم صراحة؟

الجواب:

1 / منهجياً: التصريح بمعنى الدلالة النصية والقطعية أعم من ذكر الاسم، ولا ضرورة تقضي بذكر الاسم، على أن الكناية – كما قالوا في البلاغة – أبلغ من التصريح، بمعنى أنها أدلّ في الوصول إلى المقصود. من ثم ارتهان صدق نظرية بذكر الاسم لا يُعبّر عن بعدٍ منهجي.

2 / هذا السؤال تناوله الصحابة مع أهل البيت (عليهم السلام)، وقد أجاب عنه أهل البيت (عليهم السلام) في رواياتهم.

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)(1) فَقَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ (عليهم السلام). فَقُلْتُ لَه: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: فَمَا لَه لَمْ يُسَمِّ عَلِيّاً وأَهْلَ بَيْتِه (عليهم السلام) فِي كِتَابِ الله عَزَّ وجَلَّ؟ قَال: فَقَالَ (عليه السلام): قُولُوا لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ الله(صلى الله عليه وآله) نَزَلَتْ عَلَيْه الصَّلَاةُ ولَمْ يُسَمِّ الله لَهُمْ ثَلَاثاً ولَا أَرْبَعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله) هُوَ

ص: 283


1- النساء 59

الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، ونَزَلَتْ عَلَيْه الزَّكَاةُ ولَمْ يُسَمِّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً دِرْهَمٌ حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله) هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، ونَزَلَ الْحَجُّ فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ طُوفُوا أُسْبُوعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله) هُوَ الَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ ونَزَلَتْ (أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) ونَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ والْحَسَنِ والْحُسَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله) فِي عَلِيٍّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه، وقَالَ (صلى الله عليه وآله): أُوصِيكُمْ بِكِتَابِ الله وأَهْلِ بَيْتِي، فَإِنِّي سَأَلْتُ الله عَزَّ وجَلَّ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُورِدَهُمَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَأَعْطَانِي ذَلِكَ، وقَالَ: لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ. وقَالَ: إِنَّهُمْ لَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بَابِ هُدًى ولَنْ يُدْخِلُوكُمْ فِي بَابِ ضَلَالَةٍ، فَلَوْ سَكَتَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) فَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ أَهْلُ بَيْتِه لَادَّعَاهَا آلُ فُلَانٍ وآلُ فُلَانٍ، ولَكِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ أَنْزَلَه فِي كِتَابِه تَصْدِيقاً لِنَبِيِّه (صلى الله عليه وآله): (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1)، فَكَانَ عَلِيٌّ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ وفَاطِمَةُ (عليهم السلام) فَأَدْخَلَهُمْ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) تَحْتَ الْكِسَاءِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَهْلاً وثَقَلاً، وهَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وثَقَلِي. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ألَسْتُ مِنْ أَهْلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ ولَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي وثِقْلِي.

فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) كَانَ عَلِيٌّ أَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ، لِكَثْرَةِ مَا بَلَّغَ فِيه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) وإِقَامَتِه لِلنَّاسِ وأَخْذِه بِيَدِه....(2)

3 / هناك مجموعة من الآيات التي لا تقبل التأويل نزلت فيهم (عليهم السلام)،

ص: 284


1- الأحزاب 33.
2- الكافي للكليني ج1 ص 286 – 288 بَابُ مَا نَصَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ ورَسُولُه عَلَى الأَئِمَّةِ ع وَاحِداً فَوَاحِداً ح1.

إلا أنها بمواصفاتهم لا بأسمائهم، كآية المودة والتطهير من الرجس والتصدق أثناء الصلاة حال الركوع والمباهلة والغدير وعشرات الآيات الأخرى، وقد تقدم بيان بعض هذه الآيات بالتفصيل.

4 / مجموعة كبيرة من الآيات طُبّقت على أهل البيت (عليهم السلام) في الروايات بصفتهم أبرز المصاديق إن لم يكونوا المصداق الحصري، وميزة هذه الآيات بالإضافة إلى كثرتها وتوزعها على عموم القرآن: أنها تحمل عناوين كبيرة تلتقي مع العصمة والمرجعية والحق، مثل (الصراط المستقيم، والنور، والهدى، والسبيل إلى الله، والشهادة، والذكر، والتطهير...) وبعد توفر هذه المواصفات لا معنى لإنكار عصمتهم وحجيتهم بحجة عدم ذكر لفظ أسمائهم....

والروايات في هذا المجال كثيرة(1)،

نذكر منها:

عَنْ سَالِمٍ الْحَنَّاطِ قَالَ قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى (نَزَلَ بِه الرُّوحُ الأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) قَالَ: هِيَ الْوَلَايَةُ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام).(2)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (ولَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والإِنْجِيلَ وما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) قَالَ: الْوَلَايَةُ.(3)

ص: 285


1- راجع الكافي للكليني ج1 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ، حيث ذكر (92) رواية.
2- الكافي للكليني ج1 ص 412 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ ح 1.
3- الكافي للكليني ج1 ص 413 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ ح 6.

وعَنِ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: أَوْحَى الله إِلَى نَبِيِّه (صلى الله عليه وآله): (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قَالَ: إِنَّكَ عَلَى وَلَايَةِ عَلِيٍّ، وعَلِيٌّ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.(1)

5 / يقرّر القرآن الكريم أن الأمة ستمرُّ بحالة من الانقلاب بعد وفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وقال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(2)

وقد ظهرت بوادر هذا الانقلاب في حياته (صلى الله عليه وآله) والتي كان آخرها قولهم (إن النبي أو الرجل يهجر أو غلبه الوجع!)(3)

ثم إن القرآن الكريم كان قد أخبر بحفظ القرآن الكريم من التحريف، قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(4)

وهذا الحفظ جاء بوسائل متعددة، منها العادية، ومنها الإعجازية.

من هنا، فربما كان إخفاء اسم الخليفة الشرعي وعدم ذكره (صراحة) هو من آليات حفظ القرآن من التحريف، إذ الأمة ستنقلب، فلو كان القرآن قد صرّح بذكر اسم علي وأولاده (عليهم السلام) لأمكن أن تحذف الآيات التي ذكرت

ص: 286


1- الكافي للكليني ج1 ص 416 – 417 بَابٌ فِيه نُكَتٌ ونُتَفٌ مِنَ التَّنْزِيلِ فِي الْوَلَايَةِ ح 24.
2- (144) سورة آل عمران.
3- انظر: مسند أحمد ج1 ص 325 و ج1 ص 355 وصحيح البخاري ج1 ص 37 و ج5 ص 138 و ج8 ص 161 و صحيح مسلم النيسابوري ج5 ص 76 وغيرها من مصادر العامة.
4- (9) سورة الحجر.

ذلك، مما يعني تحريف القرآن...(1)

6 / يقرّرُ القرآن الكريم مبدأ ابتلاء الناس في الدنيا في آيات كثيرة، قال تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)(2)

وقال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(3)

ومن الواضح أن الذي يضع منهجية الابتلاء هو الله تعالى حسب ما يراه من الحكمة، وواحدة من آليات الابتلاء هو الوضوح في عين الخفاء والخفاء في عين الوضوح، ومعه، فما المانع من أن تكون قضية الإمامة هي من ابتلاءات الأمة وتمحيص للمؤمنين أن تكون قد ثُبِّتَتْ قرآنياً بوضوح في عين الخفاء! فإننا في الوقت الذي نسمع فيه هذا السؤال القديم الجديد، نسمع إلى جانبه أن القرآن كله يتحدث عن الإمامة...

7 / ولو تنزلنا وقلنا: إن القرآن الكريم لم يذكر الإمامة ولو من بعيد! ولكن عندنا أحاديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الكثيرة والمتواترة التي صرحت بإمامة علي وأولاده (عليهم السلام)، فضلاً عن السنة التي فسرت الآيات الكثيرة بهم (عليهم السلام)، أو التي بينت أن سبب النزول كان هم (عليهم السلام)، وهذه بمجموعها تورث

ص: 287


1- وربما يستفاد من هذا البيان سبب من أسباب منع تدوين حديث النبي (صلى الله عليه وآله) وجمع المصاحف وتوحيدها...
2- (2) سورة العنكبوت.
3- (214) سورة البقرة.

وضوحاً لا يمكن إنكاره إلا مكابرة في إمامة علي وأولاده (عليهم السلام)...

ونحن إذ قلنا: إن السنة القطعية ذكرت إمامة علي (عليه السلام) ودلّت على ذلك بوضوح، وهي حجة بنفسها، وليس معنى حجيتها كونها في عرض حجية القرآن الكريم، بل هي حجة في طوله، وبيانات النبي (صلى الله عليه وآله) هي بيانات قرآنية ولا يمكن أن تنفصل عنه، قال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)(1) وقال تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )(2)

ومعه، فحتى لو لم نجد إشارة صريحة لقضية الإمامة في القرآن الكريم أو لم نفهم ذلك، فإن تلك السنة القطعية تكشف –إنّاً- عن وجود حقيقة الإمامة في القرآن الكريم...

ص: 288


1- (89) سورة النحل.
2- (44) سورة النحل.
التساؤل السادس: علم الأئمة (عليهم السلام) بالغيب
اشارة

تقدم أن من أهم مؤهلات الإمام أن يكون لديه علم لدني خاص، وهو ما يكشف له الواقع كما هو، وبالتالي يمكنه أن يعلم بما وراء المادة، وما خلف عالم الشهادة، أي إنه يمكنه أن يعلم بالغيب.

ولكن هذا الأمر يواجه بعض الأسئلة، فكيف يكون عالمًا بالغيب ولكنه ورد عنهم (عليهم السلام) روايات ينفون بها كونهم عالمين بالغيب، بل هناك بعض الأفعال التي كانوا يفعلونها تتنافى مع علمهم بالغيب، هذا فضلًا عن إقدامهم على شرب السم مثلًا عندما يُقدمه لهم الظالم، فلو كان يعلم بكونه سمًا فهو إلقاء للنفس في التهلكة، وإن كان لا يعلم فهو يتنافى مع كونه عالمًا بالغيب.

والجواب:

عبر الخطوات التالية:

الخطوة الأولى: علمهم (عليهم السلام) ليس استقلالياً عن الله تعالى

لا شك أنه إنْ أريد من كونهم (عليهم السلام) عالمين بالغيب أنهم يعلمون به استقلالًا، فهذا لا يمكن قبوله، بل إنه يلزم منه الشرك، إذ لا مستقل في الوجود في ذاته وصفاته وأفعاله سوى الله تبارك وتعالى، وكل ما عداه فهو

ص: 289

وجود رابط وممكن ومحتاج إليه جل جلاله.

ومعه، فعلم أهل البيت (عليهم السلام) مهما عظم يبقى بالغير، أي يبقى بالله تعالى ومن الله تعالى.

وهذا المعنى هو ما كان يشير إليه أهل البيت (عليهم السلام) في بعض الروايات الشريفة، (ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في ذكر الإمام علي (عليه السلام) بعض أخبار الملاحم والفتن حيث أثار استغراب بعض أصحابه ودهشتهم...)(1)

إذ روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة أنه قال:

«يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلاَ لَجَبٌ، وَلاَ قَعْقَعَةُ لُجُمٍ، وَلاَ حَمْحَمَةُ خَيْلٍ، يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ... ثمّ قال (عليه السلام): وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ، وَدُورِكم الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنَحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ. أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا... كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَالدِّيبَاجَ، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ، وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ، حَتَّى يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورِ! فقال له بعض أصحابه: لقد أَعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك (عليه السلام)، وقال للرجل - وكان كلبياً: يَا أَخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ

ص: 290


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 565.

ذِي عِلْمٍ...»(1).

فكأن الإمام (عليه السلام) هنا يُريد أن ينفي علمه المستقل بالغيب، لذلك أوضح له بأن ما عنده إنما هو تعليم من الله تبارك وتعالى. والرواية كما ترى لم تنف علم الغيب، بل إن الإمام بعد أن أخبر ببعض الملاحم المستقبلية، نفى أن يكون علمه بالغيب هذا مستقلًا كما تبين.

وإلى هذا المعنى أشار العلامة المجلسي (قدس سره) في بحاره بعد ذكره لهذه الرواية بقوله:

تحقيق: قد عرفت مرارًا أن نفي علم الغيب عنهم معناه: أنهم لا يعلمون ذلك من أنفسهم بغير تعليمه تعالى بوحي أو إلهام. وإلا فظاهرٌ أن عمدة معجزات الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) من هذا القبيل، وأحد وجوه إعجاز القرآن أيضا اشتماله على الإخبار بالمغيبات، ونحن أيضًا نعلم كثيرًا من المغيبات بإخبار الله تعالى ورسوله والأئمة (عليهم السلام) كالقيامة وأحوالها والجنة والنار والرجعة وقيام القائم (عليه السلام) ونزول عيسى (عليه السلام) وغير ذلك من أشراط الساعة، والعرش والكرسي والملائكة.(2)

وبنفس هذا المعنى تُفسّر الروايات الشريفة التي أكّدت أنهم (عليهم السلام) لا يعلمون الغيب، وإنما إذا أرادوا أن يعلموا ذلك أعطاهم الله تعالى علمه، فكأنهم (عليهم السلام) ينفون العلم الفعلي الذاتي بالغيب عن أنفسهم، وفي نفس

ص: 291


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 128؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 8، ص215.
2- بحار الأنوار ج26 ص 103.

الوقت يُثبتون علمهم بالغيب بتعليم من الله تعالى، وهذا يؤكد العلم الخاص لديهم ولا ينافيه.

ومن ذلك ما روي عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ قَالَ: سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ فَقَالَ لَه: أتَعْلَمُونَ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): يُبْسَطُ لَنَا الْعِلْمُ فَنَعْلَمُ، ويُقْبَضُ عَنَّا فَلَا نَعْلَمُ، وقَالَ: سِرُّ الله عَزَّ وجَلَّ أَسَرَّه إِلَى جَبْرَئِيلَ (عليه السلام)، وأَسَرَّه جَبْرَئِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، وأَسَرَّه مُحَمَّدٌ إِلَى مَنْ شَاءَ الله.(1)

وكذلك ما روي عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ.(2)

الخطوة الثانية: مخاطبة الناس على قدر عقولهم

نحن نعلم أن من أهم الأساليب التي اعتمدها المعصومون (عليهم السلام) في خطاباتهم هو أسلوب الخطاب على قدر عقل المخاطب، وهو ما تؤكده العديد من الروايات الشريفة، من قبيل ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما كلَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) العباد بكنه عقله قطُّ»، وقال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا أن نُكلِّم الناس علىٰ قدر عقولهم»(3).

وبالتالي، فيمكن أن يكون نفي علم الغيب منهم (عليهم السلام) في بعض الأحيان

ص: 292


1- الكافي للكليني ج1 ص 256 بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الْغَيْبِ ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 257 بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الْغَيْبِ ح4.
3- الكافي للكليني 1: 23/ كتاب العقل والجهل/ ح 15.

هو رعاية لعقل المخاطب الذي لا يدرك أنه يمكن أن يكون بعض البشر يعلمون الغيب من الله تعالى، حتى وإن كان شيعيًا في بعض الأحيان، وهو ما يمكن أن تبرر به الرواية السابقة أيضًا.

الخطوة الثالثة: غلْقُ الباب أمام توهم ألوهيتهم (عليهم السلام)

نحن نعلم أن أهل البيت (عليهم السلام) اتصفوا بالكثير من الصفات التي جعلتهم فوق النقد، ولذلك لم يجد أعداؤهم إلى اليوم ما يمكن أن يعيبوا به عليهم، وهذا الأمر في الوقت الذي كان دليلًا واضحًا عند ذوي العقول على عصمتهم (عليهم السلام) وأحقيتهم بخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هو صار عند البعض سببًا للغلوّ فيهم إلى حدّ التأليه، الأمر الذي كان يتحاشاه حتى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث روي: بَيْنَا رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) ذَاتَ يَوْمٍ جَالِساً، إِذْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ لَه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): إِنَّ فِيكَ شَبَهاً مِنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ولَوْ لَا أَنْ تَقُولَ فِيكَ طَوَائِفُ مِنْ أُمَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ قَوْلاً، لَا تَمُرُّ بِمَلأٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ، يَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ...(1)

ولعل نفيهم (عليهم السلام) لعلم الغيب عن أنفسهم هو من هذا الباب، أي ليُغلقوا المجال أمام من يدّعي ألوهيتهم بتبرير أنهم يعلمون الغيب، فكانوا يقطعون الطريق أمامه بنفيهم لذلك عن أنفسهم (عليهم السلام).

والذي يؤيد هذا المعنى، أنهم (عليهم السلام) كانوا يُصرّحون بأن عندهم علم

ص: 293


1- الكافي للكليني ج8 ص 57 كِتَابُ الرَّوْضَةِ ح 18.

الغيب لخاصة أصحابهم ممن كانوا يأمنون عقيدتهم وعدم انحرافهم عن النمرقة الوسطى.

ومما يجمع هذين الأمرين (أي نفيهم لعلم الغيب من جهة، وإثباته لأنفسهم من جهة أخرى) ما روي «عَنْ سَدِيرٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ، وَيَحْيَى الْبَزَّازُ، وَدَاوُدُ بْنُ كَثِيرٍ، فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) إِذْ خَرَجَ إِلَيْنَا وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَلَمَّا أَخَذَ مَجْلِسَهُ قَالَ: يَا عَجَباً لِأَقْوَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّا نَعْلَمُ الْغَيْبَ! مَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا الله عَزَّ وَجَلَّ، لَقَدْ هَمَمْتُ بِضَرْبِ جَارِيَتِي فُلَانَةَ فَهَرَبَتْ مِنِّي، فَمَا عَلِمْتُ فِي أَيِّ بُيُوتِ الدَّارِ هِيَ.

قَالَ سَدِيرٌ: فَلَمَّا أَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَصَارَ فِي مَنْزِلِهِ دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ وَمُيَسِّرٌ، وَقُلْنَا لَهُ: جُعِلْنَا فِدَاكَ سَمِعْنَاكَ وَأَنْتَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا فِي أَمْرِ جَارِيَتِكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ تَعْلَمُ عِلْماً كَثِيراً، وَلَا نَنْسُبُكَ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ: فَقَالَ: يَا سَدِيرُ أَلَمْ تَقْرَأِ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا قَرَأْتَ مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ: )قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ((1)؟ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ قَرَأْتُهُ. قَالَ: فَهَلْ عَرَفْتَ الرَّجُلَ؟ وَهَلْ عَلِمْتَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهِ. قَالَ: قَدْرُ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ فِي الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ، فَمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ؟ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا أَقَلَّ هَذَا؟

فَقَالَ: يَا سَدِيرُ مَا أَكْثَرَ هَذَا أَنْ يَنْسُبَهُ الله - عَزَّ وَجَلَ - إِلَى الْعِلْمِ الَّذِي أُخْبِرُكَ

ص: 294


1- النمل: 40.

بِهِ. يَا سَدِيرُ، فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا قَرَأْتَ مِنْ كِتَابِ الله - عَزَّ وَجَلَّ - أَيْضاً: )قُلْ كَفى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ((1)؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ قَرَأْتُهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ.

قَالَ: أَفَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ كُلُّهُ أَفْهَمُ أَمْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ بَعْضُهُ؟ قُلْتُ: لَا، بَلْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ كُلُّهُ.

قَالَ: فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: عِلْمُ الْكِتَابِ وَالله كُلُّهُ عِنْدَنَا، عِلْمُ الْكِتَابِ وَالله كُلُّهُ عِنْدَنَا»(2).

(يتبيّن لنا من هذا النص بوضوح تام أن الإمام (عليه السلام) كان يراعي القدرة الاستيعابية لدى المخاطب، ويوازن ما بين العامة والخاصة من شيعته وأصحابه.)(3)

الخطوة الرابعة: من محاذير التعامل وفق علم الغيب

رغم أن المعصوم (عليه السلام) يعلم الغيب بالمعنى المتقدم، ولكنه لا يتعامل دومًا مع الآخرين وفق علمه ذاك، لأنه لو كان يتعامل مع الآخرين بعلمه الخاص، فإنه يلزم منه محاذير عديدة، من قبيل:

1/ (أن يُبادر الإمام في الحدّ الأدنى إلى أن يزجّ في السجن كل من علم بأنه سوف يقترف اليوم أو في المستقبل جريمة مثل: السرقة أو الزنا أو القتل

ص: 295


1- الرعد: 43.
2- الكليني، الكافي، ج 1، ص 257.
3- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 567.

وما إلى ذلك، وذلك للحيلولة دون وقوع الجرم. وفي هذه الصورة كان يتعيّن على الإمام علي (عليه السلام) أن يزجّ كثيراً من الناس في السجن على أمور لم يرتكبوها بعد، ولا يخفى ما في ذلك من المحاذير المضرّة بالمجتمع والحكومة والسلطة الدينية على السواء.

وفيما يتعلق بهذا النوع من ترتيب الآثار على علم الأئمة بالغيب يتمّ طرح سؤال جديد، وهو أيّ الأفراد الذين سيرتكبون المعصية في المستقبل سيتمّ حبسهم؟ هل أولئك الذين سيركتبون الجرم غداً، فيتمّ إلقاء القبض عليهم اليوم؟ أم حيث إن علم الإمام بالغيب مطلق ويشمل حتى آخر يوم من حياة الأفراد، يتمّ القبض على جميع الذين سيرتكبون الذنوب حتى بعد خمسين سنة؟ فهل يمكن تصور إمكان هاتين الفرضيتين؟)(1)

وماذا لو كان أكثر مَن في إدارة الدولة هم ممن سيذنبون في المستقبل أو من الذين أذنبوا في السابق ولم يتوبوا بعد، هل يعني هذا أن المعصوم سيعاقبهم جميعًا؟! إن هذا يعني انتهاء الدولة وحكمها وإدارتها في غضون أيام قلائل.

2/لو فعل المعصوم ذلك، لأمكن أن يكون للمذنب الحجة عليه، بأن يقول مثلًا: أنا أريد أن أتوب في المستقبل، فلماذا لا تترك لي الفرصة بالتوبة؟!

3/ويمكن للمذنب أن يحتج على المعصوم بأنه اقتصّ منه قبل الجناية، وهو أمر غير جائز في نظام الإسلام كما هو واضح.

ص: 296


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 577 – 578.

وقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما يوضح بعض المفاسد المترتبة على الحكم بالغيب وبالواقع، حيث روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «...إنَّ داود (عليه السلام) قال: يا ربِّ، أرني الحقَّ كما هو عندك حتَّىٰ أقضي به، فقال: إنَّك لا تطيق ذلك، فألح علىٰ ربِّه حتَّىٰ فعل، فجاءه رجل يستعدي علىٰ رجل فقال: إنَّ هذا أخذ مالي! فأوحىٰ الله تعالى إلىٰ داود: أنَّ هذا المستعدي قتل أبا هذا وأخذ ماله، فأمر داود (عليه السلام) بالمستعدي فقُتِلَ وأخذ ماله فدفعه إلىٰ المستعدىٰ عليه». قال: «فعجب الناس وتحدَّثوا حتَّىٰ بلغ داود (عليه السلام) ودخل عليه من ذلك ما كره، فدعا ربَّه أن يرفع ذلك، ففعل، ثمّ أوحىٰ الله تعالى إليه: أن اُحكم بينهم بالبيِّنات وأضفهم إلىٰ اسمي يحلفون به»(1).

من كل ذلك نخلص إلى التالي:

أن سنة النبي (صلى الله عليه وآله) هي الحكم بالأدلة الإثباتية الظاهرية، وهو مفاد ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنَّما أقضي بينكم بالبيِّنات والأيمان...»(2).

وورد في ذيل نفس هذا الحديث: «... وبعضكم ألحن بحجَّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنَّما قطعت له به قطعة من النار».

ولأجل ذلك فإن أهل البيت (عليهم السلام) رغم علمهم بالغيب، فإنهم يتعمدون في بعض الأحيان أن يتعاملوا وفق الظاهر.

ص: 297


1- الكافي للكليني 7: 414 و415/ باب أنَّ القضاء بالبيِّنات والأيمان/ ح 3.
2- الكافي للكليني 7: 414/ باب أنَّ القضاء بالبيِّنات والأيمان/ ح 1.

ومما يؤيد هذه الفكرة ما روي «عن عبد الله بن أبي رافع قال: حضرت أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد وجّه أبا موسى الأشعري، فقال له: أحكم بكتاب الله ولا تجاوزه، فلما أدبر قال: كأني به وقد خُدع، قلت: يا أمير المؤمنين فلم توجّهه وأنت تعلم أنه مخدوع؟ فقال (عليه السلام): يا بني، لو عمل الله في خلقه بعلمه ما احتجّ عليهم بالرسل»(1).

فالإمام (عليه السلام) أوضح بأنه ليس من الحكمة أن يتعامل صاحب العلم الغيبي بعلمه في كل الأحوال، وهذا هو السبب في إرسال الله تعالى للأنبياء، وإلا، لأمكن لله تعالى أن يتعامل مع العبيد بعلمه الذاتي، ويُدخل المذنبين –بحسب علمه- إلى النار، والمؤمنين إلى الجنة من دون حاجة إلى الاحتجاج عليهم بالرسل والأنبياء، وإنما يكتفي بعلمه الذاتي الغيبي.

الخطوة الخامسة: الحكمة في بعض أفعال المعصومين (عليهم السلام)

ومما يتقدم، تتبين الحكمة وراء بعض تصرفات الأئمة (عليهم السلام)، من قبيل ما (يتعلق بإرسال الإمام الحسين(عليه السلام) سفيره مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وتوجهه شخصيّاً إلى كربلاء، يمكن القول: إنه (عليه السلام) كان مأموراً بالعمل بحسب العلم الظاهري، ولم يكن بإمكانه تجنّب إرسال مسلم أو يمتنع عن التوجّه إلى كربلاء استناداً إلى علم الغيب؛ إذ إنّ أهل الكوفة - في مثل هذه الحالة - سوف يسجّلون موقفهم وشهادتهم للتاريخ بأنهم رغم استعدادهم لإقامة الحكومة الدينية وإرسال الرسائل والكتب العديدة إلى الإمام الحسين

ص: 298


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 41، ص 310؛ المناقب، ج 2، ص 261.

بهذا الشأن للقدوم إليهم وتولي قيادة ثورتهم، إلا أنه لم يستجب لدعوتهم وندائهم، وسوف يُتهم الإمام - والعياذ بالله - بأنه خاف على نفسه وعلى أسرته؟

في حالة ترتيب الآثار على علم الغيب، سيعمد المؤرخون من أهل السنة وغير المسلمين من الذين لا يعترفون بعلم الغيب للإمام، سيرسمون صورة سلبية عن الإمام، ولما تمّ الحصول على كل النتائج والآثار المباركة لثورة كربلاء. وعليه فقد أدرك الإمام الحسين (عليه السلام) أن مصلحته ومصلحة المجتمع تكمن في عدم ترتيب الآثار على علمه بالغيب.)(1)

وهكذا فيما يتعلق بتناول المعصوم (عليه السلام) للأكل المسموم، إذ يمكن القول: (إن الإمام رغم علمه بكون الطعام مسموماً، ولكنه حيث كان مكرهاً على تناوله، لم يكن له بدّ من تناوله.

مضافاً إلى أنه لو أصرّ على عدم تناول السمّ، فإن الخليفة والحاكم كان يقتله بطريقة أخرى، فرأى الإمام أن المصلحة في أن يكون استشهاده بتناول السمّ. وإن كان السرّ في ذلك خافياً علينا.

وربما أمكن القول مثلاً: إن اختيار الإمام هذه الطريقة لاغتياله من قبل الحاكم، لأنها تنطوي على شيء من التكتم، وعدم افتضاح أمر الحاكم وجريمته النكراء، ولمّا كان الحاكم إنّما يختار هذه الطريقة في التخلّص من الإمام (عليه السلام)، فإنه سوف يستمر في الحفاظ على الشكليات الظاهرية، فلا يتعرّض لأتباعه

ص: 299


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 580 – 581.

وأسرته، بمن فيهم ابن الإمام (عليه السلام) - الذي سيتولى مقاليد الإمامة بعده - ويوفر لهم الحماية، أو أن لا يظهر العداء لهم علناً في الحد الأدنى. الأمر الذي يوفر الأرضية المناسبة لاستمرار حياة الشيعة في الوسط المخالف.)(1)

ص: 300


1- أجوبة الشبهات العقائدية ج4 ص 581 – 582.
التساؤل السابع: لماذا تُثار الأحداث التاريخية التي انتهت ولا أثر لها؟

قد يقول البعض: إنه يمكن تقسيم البحوث العقائدية، وتحديداً في موضوع الإمامة، إلى: ما هو مرتبط بالتاريخ، وما هو معاصر.

وأنه –منهجياً- لابد من غلق البحث في القسم الأول وحفظه في الأرشيف، حيث لا يترتب عليه أي مردود عملي، فلا يمكن إرجاع الحق إلى صاحبه، ولا يمكن عقاب الظالم منهما.

ناهيك عن المبررات الاجتماعية لغلق مثل هذه الملفات، لأن فتحها يعني التفرقة وعدم جمع الكلمة والتي قد ينتهي إلى التحزب (الطائفية) والقطيعة، بل والتقاتل.

فليُترك حساب المختلفين فيه إلى ربهم، ولتوجَّهْ العناية إلى معالجة عشرات المسائل العالقة في مختلف الصُعُد التي تهمُّ الحياة المعاصرة للمجتمع الإسلامي، بل وتعصف به، بل وتهدد وُجُودَه وكيانه أحياناً.

إن مثل هذه البحوث هي أشبه بالبحث عن طهارة ماء البئر أو عن أحكام العبيد في وقت لا وجود فيه للبئر ولا للعبيد، فهو بحث لا مبرر له.

وقد ينجرّ التساؤل عند البعض إلى محاولة إلغاء بعض الشعائر الخاصة، كإحياء ذكر الإمام الحسين (عليه اللام) كل سنة بل وفي كل مناسبة ممكنة، بنفس

ص: 301

الحجة السابقة.

والجواب:

إن البحث في البحوث المتعلقة بالإمام والإمامة، وأمثال حادثة السقيفة، وما شابه، له أسبابه ومبرراته المنهجية والتي تدفعنا إلى استمرار فتح ملفاتها وعدم غلقها أبداً، ومن تلك الأسباب التالي:

السبب الأول:

أ/ إن الاعتقاد بالذوات لا يتحدّد بالحياة، بل هو يتعلق بهم حتى بعد مماتهم، وشاهدُه: أننا مطالبون بالإيمان بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بل وبالأنبياء السابقين، قال تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلىٰ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.)(1)

والاعتقاد بالإمامة والإمام من هذا القبيل، فلا يتحدّد بحدود حياة الإمام حتى يُقال بأن الحديث عنه لا مبرر له لأنه في ذمة التاريخ.

ب/ دينياً، الموت والحياة وإنْ كانا ضدين، فالموت يسلب الحياة، إلا أن هناك معنى آخر أو مرتبة أخرى للحياة تجتمع مع الموت، فهناك من يموت بالموت المتعارف، ولكنه يبقى حياً في هذا العالم بحياة لا تضادد موته وقتله.

يشهد لهذه الحقيقة النصوص التالية:

1: قوله تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ

ص: 302


1- آل عمران 184.

لا تَشْعُرُونَ)(1) الدال على أن ثمة حياة في هذا العالم لمن قُتل ومات بالموت المتعارف، إلا أننا لا نشعر بتلك الحياة.

ومثله قوله تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.)(2)

هذه الآية تشير إلى وجود حياة للبعض رغم موتهم بالموت المتعارف، أما كون هذه الحياة هي البرزخية، أو غيرها، فهذا لا يؤثر في ما نقصده، فبالتالي هي تشير إلى وجود مرتبة من الحياة في هذا العالم، أو حياة برزخية ولكنها ذات صلة بعالمنا.

2: ما جاء في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في النصف من شعبان: حيث روي أنك: تقف عند قبره وتقول : الحَمْدُ للهِ العَلِيِّ العَظِيمِ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهاالعَبْدُ الصَّالِحِ الزَّكِيِّ أُودِعُكَ شَهادَةً مِنِّي تُقَرِّبُنِي إِلَيْكَ فِي يَوْمِ شَفاعَتِكَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ قُتِلْتَ وَلَمْ تَمُتْ بَلْ بِرَجاءِ حَياتِكَ حَيِيَتْ قُلُوبُ شِيعَتِكَ وَبِضِياءِ نُورِكَ اهْتَدى الطَّالِبُونَ إِلَيْكَ، وأَشْهَدُ أَنَّكَ نُورُ الله الَّذِي لَمْ يُطْفَأْ وَلايُطْفَأْ أَبَداً وأَنَّكَ وَجْهُ الله الّذِي لَمْ يُهْلَكْ وَلايُهْلَكُ أَبَداً...(3)

فالزيارة تُصرّح بأنه (عليه السلام) حي رغم أنه قُتل فمات بالموت المتعارف، بل إن حياته تلك كانت سبباً لحياة قلوب شيعته، وتصرح بأن نوره لم ولن يطفأ وأنه مستمر معنا في هذا العالم.

ص: 303


1- البقرة 154.
2- آل عمران 169.
3- المصباح للكفعمي ص 498 – 499.

بالإضافة إلى:

عموم زياراتهم (عليهم السلام) التي وردت بلسان الخطاب (السلام عليك) لا بلسان القضية الحقيقية (السلام على الأئمة)، فإن الخطاب لا يصح إلا مع الحي، فهي تستبطن فرضية وجود حياة للمعصوم ما زال يمكن التواصل معه من خلالها، بغض النظر عن أن تلك الحياة هي في هذه الدنيا أو هي الحياة البرزخية، فإن المقصود هو وجود حياة ما زال يمكن التواصل معها ونحن في هذه الحياة.

بل قد يستفاد ذلك من نفس السلام ولو لم يكن بلسان الخطاب.

3: ما جاء في سلام خولة الحنفية (زوجة أمير المؤمنين عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته وهي كانت مراهقة، بما ارتكز في ذهنها من حياته (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته، حيث ورد أنها قالت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك عبده ورسوله وأنك تسمع كلامي وتقدر على رد جوابي...(1)

ص: 304


1- في الفضائل لابن شاذان ص 99 – 101 والرواية طويلة، وتمامها: عن ميمون بن صعب المكي بمكة قال: كنا عند أبي العباس بن سابور المكي فأجرينا حديث أهل الردة بذكرنا خولة الحنفية ونكاح أمير المؤمنين (عليه السلام)لها، فقال: أخبرني أبو الحسن عبد الله بن أبي الخير الحسيني قال: بلغني ان الباقر محمد بن علي كان جالساً ذات يوم، إذ جاءه رجلان فقالا: يا أبا جعفر، ألست القائل: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لم يرض بإمامة من تقدم؟ قال: بلى. فقالا له: هذه خولة الحنفية نكحها من سبيهم وقَبِل هديتهم ولم يخالفهم عن أمرهم مدة حياتهم؟ فقال الباقر (عليه السلام): من فيكم يأتيني بجابر بن عبد الله بن حزام ( وكان محجوباً قد كف بصره )، فحضر فسلم على الباقر (عليه السلام) وأجلسه إلى جانبه، وقال: يا جابر عندي رجلان ذكرا أن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي بإمامة من تقدم عليه، فسألهما الحجة في ذلك، فذكروا له خولة. فبكى جابر حتى اخضلت لحيته بالدموع ثم قال : والله يا مولاي، لقد خشيت أخرج من الدنيا ولا أُسأل عن هذه المسألة، وإني والله كنت جالساً إلى جانب أبي بكر وقد سبوا بني حنيفة بعد قتل مالك بن نويرة من قبل خالد بن الوليد، وبينهم جارية مراهقة، فلما دخلت المسجد قالت: أيها الناس ما فعل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ قالوا: قُبض. فقالت: هل له بنية تُقصد؟ فقالوا: نعم، هذه تربته (صلى الله عليه وآله). فنادت: السلام عليك يا رسول الله، اشهد أن لا إله إلا الله واشهد أنك عبده ورسوله، وأنك تسمع كلامي وتقدر على رد جوابي، وأننا سُبينا من بعدك، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. ثم جلست فوثب رجلان من المهاجرين والأنصار، أحدهما طلحة والآخر الزبير، فطرحا ثوبيهما عليها، فقالت: ما بالكم يا معاشر العرب، تصونون حلائلكم وتهتكون حلائل غيركم! فقالا لها: لمخالفتكم الله ورسوله، حتى قلتم: إننا نزكي ولا نصلي، أو نصلي فلا نزكي. فقالت لهما: والله، ما قالها أحد من بني حنيفة، وإنا نضرب صبياننا على الصلاة من التسع، وعلى الصيام من السبع، وإنا لنخرج الزكاة من حيث يبقى في جمادى الآخرة عشرة أيام، ويوصي مريضنا بها لوصية، والله يا قوم ما نكثنا ولا غيّرنا ولا بدّلنا حتى تقتلوا رجالنا وتسبوا حريمنا، فإن كنت يا أبا بكر بحقٍّ فما بال علي لم يكن سبقك علينا، وإن كان راضياً بولايتك فلِمَ لا ترسله إلينا يقبض الزكاة منا ويسلمها إليك؟ والله ما رضي ولا يرضى، قتلت الرجال ونهبت الأموال وقطعت الأرحام، فلا نجتمع معك في الدنيا ولا في الآخرة، افعل ما أنت فاعله. فضج الناس وقال الرجلان اللذان طرحا ثوبيهما: إنا لمغالون في ثمنك. فقالت: أقسمت بالله وبمحمد رسول الله أنه لا يملكني ويأخذني إلا من يخبرني بما رأت أمي وهي حامل بي، وأي شيء قالت لي عند ولادتي، وما العلامة التي بيني وبينها، وإلا فان ملكني أحد ولم يخبرني بذلك بقرت بطني بيدي، فيذهب ثمني ويكون مطالَباً بدمي. فقالوا لها: ابدى رؤياك التي رأت أمك وهي حامل بك حتى نبدي لك العبارة بالرؤيا. فقالت: الذي يملكني هو أعلم بالرؤيا مني، وبالعبارة من الرؤيا. فأخذ طلحة والزبير ثوبيهما وجلسا، فدخل أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: ما هذا الرجف في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قالوا: يا علي، امرأة من بني حنيفة حرمت نفسها على المؤمنين، وقالت: من اخبرني بالرؤيا التي رأت أمي وهي حامل بي وعدّها لي فهو يملكني. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما ادّعت باطلاً، أخبروها تملكوها. فقالوا: يا أبا الحسن، ما فينا من يعلم الغيب، أما علمت أن ابن عمك رسول الله (صلى الله عليه وآله) قُبض، وأن أخبار السماء انقطعت من بعده؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما ادعت باطلاً، أُخبرها أَملكها بغير اعتراض. قالوا: نعم. فقال (عليه السلام): يا حنيفة، أخبرك أملكك؟ فقالت: من أنت أيها المجتري دون أصحابه؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب. فقالت: لعلك الرجل الذي نصّبه لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) صبيحة يوم الجمعة بغدير خم علماً للناس؟ فقال (عليه السلام): أنا ذلك الرجل. قالت: من أجلك أُصبنا، ومن نحوك أوتينا، لأن رجالنا قالوا: لا نسلم صدقات أموالنا ولا طاعة نفوسنا إلا إلى من نصّبه محمد (صلى الله عليه وآله) فينا وفيكم علماً. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن أجركم غير ضائع، وإن الله تعالى يؤتي كل نفس ما أتت من خير. ثم قال: يا حنفية، ألم تحمل بك أمك في زمان قحط منعت السماء قطرها، والأرض نباتها، وغارت العيون، حتى أن البهائم كانت تريد المرعى فلا تجد، وكانت أمك تقول: إنك حمل ميشوم في زمان غير مبارك، فلما كان بعد تسعة أشهر رأت في منامها: كأن وضعتك وأنها تقول: إنك حمل ميشوم وفي زمان غير مبارك، وكأنك تقولين: يا أمي، لا تطيرين بي، فأنا حمل مبارك نشوت نشواً صالحاً، ويملكني سيد وأُرزق منه ولداً يكون لبني حنيفة عزّاً؟ فقالت: صدقت يا أمير المؤمنين، فإنه كذلك. فقال (عليه السلام): وبه أخبرني ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقالت (عليه السلام): ما العلامة بيني وبين أمي؟ فقال: إنها لما وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من نحاس، وأودعته عتبة الباب، فلما كان بعد حولين عرضته عليك، فأقررت به، فلما كانت ثمان سنين عرضت عليك فأقررت به، ثم جمعت بينك وبين اللوح فقالت لك: يا بنية، إذا نزل بساحتكم سافك لدمائكم ناهب لأموالكم سابٍ لذراريكم وسُبيتِ فيمن سُبي، فخذي اللوح معك واجتهدي أن لا يملكك من الجماعة إلا من يخبرك بالرؤيا بما في هذا اللوح. قالت: صدقت يا أمير المؤمنين، فأين اللوح؟ قال (عليه السلام): في عقيصتك. فعند ذلك دفعت اللوح إلى أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ثم قالت: يا معاشر الناس اشهدوا أني قد جعلت نفسي له عبدة. فقال ( عليه السلام ): بل قولي زوجة. فقالت: اشهدوا أن قد زوجت نفسي كما أمرني بعلي ( عليه السلام ). فقال ( عليه السلام ) قد قبلتك زوجة. فماج الناس، فقال جابر: والله يا أبا جعفر، ملكها بما ظهر من حجة وتبين من بينته، فلعن الله تعالى من اتضح له الحق وجعل بينه وبين الحق ستراً.

ص: 305

ص: 306

ج/ ما ذكره الكفعمي في الاستئذان لزيارتهم (عليهم السلام): اللّهُمَّ إِنِّي أَعْتَقِدُ حُرْمَةَ صاحِبِ هذا المَشْهَدِ الشَّرِيفِ فِي غَيْبَتِهِ كَما أَعْتَقِدُها فِي حَضْرَتِهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَكَ وَخُلَفائَكَ عَلَيْهِمْ السَّلامُ أَحْياءٌ عِنْدَكَ يُرْزَقُونَ يَرَوْنَ مَقامِي وَيَسْمَعُونَ كَلامِي وَيَرُدُّونَ سَلامِي، وَأَنَّكَ حَجَبْتَ عَنْ سَمْعِي كَلامَهُمْ وَفَتَحْتَ بابَ فَهْمِي بِلَذِيذِ مُناجاتِهِمْ...(1)

د/نحن نعتقد بأن ظاهرة الإمامة لم تنته، بل هي ما زالت مستمرة بالإمام الغائب (عجل الله تعالى فرجه)، فهي ليست ظاهرة تاريخية منقطعة، بل هي قضية معاصرة، والبحث عنها بحث عن واقع معاصر.

ه/فلسفياً ونصوصياً: أن الموت ليس فناءً، وإنما هو انفصال الروح عن البدن.

وأن الروح خالدة.

وأن الفعل والشعور إنما هو للروح، وما البدن إلا وسيلة لنقل الشعور إلى الروح، ولذا تسقط العقوبة في بعض القوانين عن المذنب لو مات، وهذا يستبطن أن البدن إنما هو وسيلة للروح، فإذا ما تم انفصال الروح عن البدن، فقد البدن طريقيته للروح، فلا يُعاقب.

ينتج: أن الروح تبقى حية وخالدة.

والإمام (عليه السلام) حي بروحه، وروحُه لم تمت، فلا يكون إثارة البحوث

ص: 307


1- المصباح للكفعمي ص 472

المتعلقة به تاريخاً منقطعاً عن العصر الراهن.

السبب الثاني:

إن الكثير من أحداث التاريخ، وخصوصاً الكبرى كالسقيفة وعاشوراء تدخل في فعل المعصوم، ومن ثم تصلح أن تكون سنداً فقهياً أو كلامياً يعالج مجموعة من الأسئلة التي تحفُّ النص، وأن معرفة الحقيقة فيها لا يكون إلا بالرجوع إلى التاريخ ومعرفة ما جرى فيه بعد البحث والتمحيص.

نموذجاً: المعتزلة اعترفوا بأفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) ولكنهم جوزوا تقديم غيره لمصلحة ما رغم النص عليه، وأن النص وإن كان موجوداً، ولكنه لا ينتج ضرورة تقديم المنصوص عليه، وإنما هو يعني أرجحيته من دون إلزام، مما ينتج التخيير، فالنص يقول: يمكنكم أن تقدموا الأفضل، ويمكنكم أن لا تقدموه، ولا يلزم عليكم أن تقدموه دوماً، والشاهد على ذلك: أن علياً (عليه السلام) سكت عن المطالبة بحقه لسنوات طوال بعد حدث السقيفة، وحتى لما جاءته الخلافة الظاهرية رفضها وتمنّع عنها وطلب إليهم أن يبحثوا عن غيره، مما يؤيد أن النص لا ينتج الضرورة.

إن مثل هذا الإشكال يمكن حلّه بالرجوع إلى التاريخ، ومعرفة الظرف الذي عاشه أمير المؤمنين (عليه السلام) لنكتشف أنه لم يسكت مختاراً، وإنما سكت مضطراً، وأنه إنما سكت لتقديمه مصلحة الإسلام العامة على مصلحته الشخصية، وهو ما صرّح به (عليه السلام) بقوله: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، واللهِ لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا

ص: 308

عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه، وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوه مِنْ زُخْرُفِه وزِبْرِجِه.(1)

فإثبات أن هناك غاصباً للحق، وأن السكوت كان اضطراراً، مما لا يمكن البتُّ به إلا بالرجوع إلى التاريخ.

أضف إلى ذلك: إن من ضمن المعتقدات الضرورية في مسألة الإمامة هو التولي والتبري، وهما يمثلان أهم عوامل امتياز الشيعة عن غيرهم الذين تميزوا بأنهم أصحاب السلطة في العادة، وهذان المفهومان لهما ارتباط بجانب العلاقة الروحية مع المعصوم، وهو غير جانب الطاعة له.

ومن أهم ما يُغذّي هذين العنوانين هي سيرة المعصوم ومتابعة مواقفه العملية وأخلاقه وزهده وتضحياته وعمله وغيرها، إذ إنها تحكي الصفات الكمالية لهم (عليهم السلام) وفي جميع جوانب شخصياتهم، مما يُقوي رابطة التولي لهم، وفي نفس الوقت تكشف عن أعدائهم وسلوكياتهم، مما يُقوي جانب التبري منهم.

وهذا يعني: أن دراسة حياتهم وما يتعلق بها، لا تتمحض في كونها بحوثاً تاريخية منقطعة عن العصر الراهن، وإنما هي مستمرة ولو على مستوى أثرها في التولي والتبري.

ص: 309


1- نهج البلاغة ج1 ص 124 من خطبة له ( عليه السلام ) لما عزموا على بيعة عثمان.

السبب الثالث:

نبدأ بذكر التنبيه التالي:

لا شك أن لكل مفهوم محدداته الخاصة به، والتي تميزه عن جميع ما عداه من المفاهيم، ولا شك أن هناك من المفاهيم ما تشترك في بعض الجهات مع مفاهيم أخرى وتختلف عنها في جهات أخرى، ولكن قد يتم تسليط الضوء على المشتركات بين المفهومين وعدم الالتفات إلى مميزات كل منهما، فيؤدي ذلك إلى تخيل الترادف بين لفظيهما، فتُسرّى أحكام أحدهما إلى الآخر.

مثال على ذلك: الموت والعدم، فحيث إن في الموت جهة عدمية، فقد يتم التعامل معه كمرادف للعدم، وبالتالي يتم ترتيب آثار العدم على الموت، لتكون زيارة الميت أو البكاء عليه أو إحياء ذكره سخفاً من الفعل، إذ إنه تعاملٌ مع عدم محض.

والحق: أن أخذ شيء مشترك بين مفهومين لا يُبرر ترتيب لوازم أحدهما على الآخر، ولا يجعل منهما مترادفين ولفظاً واحداً مفهوماً.

والمثال الآخر: التاريخ، فقد يتم التعامل معه على أنه مرادف للماضي، أو العدم، ويتم ترتيب أحكام الماضي المنقطع تماماً أو العدم على التاريخ وما فيه، لينتج أن لا فائدة من بحث التاريخ؛ لأنه عدم، فينبثق التساؤل عن إثارة قضايا الإمامة التاريخية.

والحال: أن التاريخ غير العدم، فإن في التاريخ جنبتين: جنبة انعدمت،

ص: 310

وهي نفس الحدث الخارجي، وجنبة وجودية، مستمرة إلى العصر الراهن.

بعد هذه التوطئة نقول:

تقدم منا أن الحياة منها ما يُقابل الموت المتعارف، ومنها ما يعمّه، بحيث يكون الشخص ميتاً بالموت المتعارف، ولكنه حيٌّ بالمعنى الثاني، وهنا نقول:

إن من صور هذه الحياة العامة هو خلود الشخص بخلود مقالاته ومواقفه وحضوره في النفس من خلالها، مما يعني استمرار التواصل معه من خلال هذه المواقف، وهذا هو الحاصل فيما يتعلق بأهل البيت (عليهم السلام).

إن أهل البيت (عليهم السلام) تصرفوا بما من شأنه أن يجعل سلوكهم ومواقفهم وأقوالهم ومقالاتهم حية مستمرة ما دام الدهر، بحيث تجدهم حاضرين معنا من خلالها، وبحيث إن الفاصلة الزمنية بيننا وبينهم لا تؤثر في تواصلنا معهم بالمباشر من خلال تلك المواقف والمقالات الثابتة.

استطاع المعصومون (عليهم السلام) أن يحجزوا حيزاً من هذا التواصل والحضور من خلال مقولاتهم التي حوّلوها إلى بداهات وثوابت.

والحاصل: أن الأمر لا يدور بين الانقطاع التام، أو الحضور الكامل، وإنما بينهما مراتب متعددة تشتد وتضعف، أشبه شيء بالشمس، فإنها وإن كانت غير موجودة تماماً في الليل، وموجودة في النهار، ولكن النهار قد يكون مشرقاً، وقد يجللها السحاب، فتنعدم الرؤية المباشرة للشمس، لكن الإحساس بها وبوجودها وترتيب الآثار على وجودها ما زال قائماً.

ص: 311

كما أن التغطية بالسحب ذات درجات أيضاً، تختلف معه الإضاءة شدة وضعفاً حسب طبقات السُحب التي تحجبها عن الأرض.

ومن هنا، نفهم المراد من غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه) بعد أن شبّهتها النصوص بالشمس إذا جللّها السحاب،(1) وأنها لا تعني الغيبة المطلقة وبحدّ التجميد، بل يبقى حاضراً في وسط أتباعه وناسه، ولكن مع شيء من الخفاء وهو خفاء معرفته، وهو ما عبّر عنه السفير الثاني بقوله: (والله إنَّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة فيرىٰ الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)(2).

السبب الرابع:

أ: في اعتقادنا:

أن الإمامة ليست قضية تاريخية بحتة، وليست هي مشروع أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً منقطعاً عن مشروع الإمام الحسن (عليه السلام)، ليُقال بأن السقيفة أفرزت إقصاء أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخصوص، لا غيره من الأئمة، وبالتالي

ص: 312


1- في كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 207 ح 22 عن سليمان بن مهران الأعمش ، عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين (عليهم السلام) قال : نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا ينزل الغيث، وتنشر الرحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها، ثم قال : ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله. قال سليمان: فقلت للصادق عليه السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور ؟ قال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب.
2- كمال الدين للصدوق: 440/ باب 43/ ح 8.

فالسقيفة باتت حدثاً تاريخياً مات ومات أبطاله، فلا داعي لإثارته.

الإمامة ليست تكاليف متغايرة، كل إمام له منها ما ليس لغيره، بحيث يأتي الثاني ليقوم بالبناء من جديد من دون اعتماد على ما وصل إليه مشروع الامام السابق، كما في صلاة الأب التي هي غير صلاة الابن وإن اشتركا في الطبيعة والماهية.

كلا، بل إن الإمامة مشروع واحد ممتد، كل واحد من الأئمة (عليهم السلام) يقوم بما عليه من مسؤوليته في مقطعه الزمني، وبالطريقة التي تفرضها الظروف الموضوعية عليه –كأنْ تكون الطريقة هي تولي الحكم أو ولاية العهد أو المعارضة أو أو السجن...- وبطريقة إتمام المشروع من حيث انتهى عند الإمام السابق.

فالمشروع واحد، والأئمة يتعاقبون عليه، هو من هذه الناحية كما في ولاية الأب والجد على الولد، فإنهما وليان، ومتعلق ولايتهما شيء واحد هو الولد.

والشاهد على أن الإمامة كذلك:

1: وحدة الدين، وهو مُسلَّمة قرآنية، وهو الإسلام، الخالد، والإمامة جزء من هذا المشروع، فهي واحدة ممتدة وخالدة بخلوده.

2: المرتكز في الذهنية الشيعية العامة وحدة الإمامة، فنحن لا نتلقى أن دور أمير المؤمنين (عليه السلام) دور منفصل تماماً عن دور الإمام الحسن (عليه السلام)، بل نتلقاه بطريقة (وحدة المشروع والهدف مع تعدد الأدوار).

ص: 313

3: وهو المفهوم من جملة من النصوص أيضاً، كما في ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا.(1)

وما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إنّا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله، قلنا: صدق الله، وقالوا: كذب الله. قاتل أبو سفيان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقاتل معاوية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن عليٍّ (عليه السلام)، والسفياني يقاتل القائم (عليه السلام)»(2).

4: إن غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) تستبطن امتداد الإمامة والخشية عليها من الضياع، فتم تغييب الإمام ليحفظها إلى الوقت المناسب.

ب:

وحيث إن الإمامة مشروع واحد ممتد غير منقطع، وحيث إن الإمامة من

ص: 314


1- في علل الشرائع للشيخ الصدوق ج1 ص 211 باب 159 ح2: أبي سعيد عقيصا قال: قلت: للحسن بن علي بن أبي طالب: يا بن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وان معاوية ضال باغ ؟ فقال : يا أبا سعيد، ألستُ حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم أبي (عليه السلام) ؟ قلت: بلى. قال : ألستُ الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قلت: بلى. قال: فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد، علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد، إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يُسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً، ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه،حتى أخبره فرضى، هكذا أنا، سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل.
2- معاني الأخبار للصدوق: 346/ باب معنىٰ قول الصادق (عليه السلام): «إنّا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله (عزوجل)/ ح 1.

المفاهيم الإضافية التي تتوقف على طرف آخر لتتحقق وهو المأموم، حينئذٍ يكون مشروع الإمامة حاضراً في العصر الراهن من خلال المأموم، فنحن لم ننفصل عن مشروع الإمامة المستمر، بل ما زال حاضراً معنا، نأخذ منه المواقف المناسبة والأحكام الشرعية، ولذا كان الشيعة ولا زالوا يقفون ضد المستبد والظالم، حيث إن المعصوم وقف ضده.

وبعبارة أخرى: أن الإيمان بالإمامة وكونها مستمرة، يلزم منه وجود جماعة مأمومة للإمام وباستمرار، تستند إليه في موقفها السياسي، ومنه الوقوف ضد الظلم.

فحيث إن الإمامة مستمرة، فهي بالمأموم مستمرة، مما يعني أن حضور الإمامة في حياتنا ما زال قائماً، لا أنها حدث تاريخي منقطع.

ج:

إن الاعتقاد بكون الإمامة كذلك، في قبال من نظر إلى الإمامة على أنها مشروع مقطعي للحكم لا علاقة له بالمستقبل ولا هو امتداد له، أفرز وجود منطقين تجاه الحاكمية التي هي إحدى وظائف الإمامة:

منطق يعتبر الإمامة وظيفة يحكم بها الناس لا غير، فيقول: (إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنَّكم لتفعلون ذلك. وإنَّما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون).(1)

ص: 315


1- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهانى: 45.

ومنطق يرى أن الإمامة مشروع إلهي متكامل يُراد منه إسعاد الناس لا استنزاف قواهم، فيقول: «ولو شئت لاهتديت الطريقَ إلىٰ مصفىٰ هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القزِّ، ولكن هيهاتَ أنْ يغلبني هواي ويقودني جشعي إلىٰ تخيُّر الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوَ أبيتُ مِبطاناً وحولي بطونٌ غرثىٰ وأكباد حرّىٰ؟ أوَ أكون كما قال القائل:

وحسبُك داءً أنْ تبيت ببطنةٍ *** وحولَك أكبادٌ تحنُّ إلىٰ القِدِّ

أأقنعُ من نفسي بأنْ يقال: أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، أوْ أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش؟!»(1).

ص: 316


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 71 و72).

المحتويات

المبحث الأول: معنى الإمامة العامة في الإسلام 7

المقدمة الأولى: 9

الإمامة لغة: 9

وأما الإمامة اصطلاحًا: 10

المقدمة الثانية: العناصر المشتركة والخاصة في الإمامة 13

أولًا: العناصر المشتركة بيننا وبين العامة: 13

ثانيًا: العناصر الخاصة بالإمامة عند الشيعة الاثني عشرية. 15

النقطة الأولى: ضرورة الشخص الحقيقي المرتبط بالسماء. 18

النقطة الثانية: الإمام يمثل القوة التشريعية. 19

النقطة الثالثة: الإمام يمثل القوة التنفيذية. 20

النقطة الرابعة: أن الإمام معصوم. 22

النقطة الخامسة: أن تعيين الإمام من السماء حصراً. 23

النقطة السادسة: أن الإمام عقيدة. 24

المقدمة الثالثة: أن الإمامة أصل 25

المقدمة الرابعة: بيانات في ضرورة الإمام المعصوم 29

البيان الأول: لو لم يكن الإمام معصومًا للزم التسلسل. 30

البيان الثاني: أن حفظ الشريعة لا يكون إلا بالمعصوم. 31

البيان الثالث: العصمة هي الطريق المنحصر للتخلص... 32

البيان الرابع: أن المعصوم هو الوحيد القادر على تحقيق... 36

ص: 317

الأمر الأول: الإرادة. 41

الأمر الثاني: القائد. 42

إشارة: نصوص في ضرورة الإمام القائد. 43

المقدمة الخامسة: بيانات في ضرورة النص على الإمام 47

تمهيد: 47

طرق تعيين الإمام لدى العامة )نظرية الأمر الواقع(. 47

نظرية النص: 49

البيان الأول: عظمة موقع الإمامة تقتضي النص. 51

البيان الثاني: أن النص لطف. 52

البيان الثالث: النصوص الخاصة: 58

المقدمة السادسة: بيانات في ضرورة العلم الخاص للإمام 61

البيان الأول: أن طبيعة وظيفة الإمام تقتضي العلم الخاص. 62

البيان الثاني: الاحتياج إلى الغير يتنافى مع الإمامة. 63

البيان الثالث: اقتضاء موقع الإمامة للعلم اللّدنّي. 64

الخطوة الأولى: 64

الخطوة الثانية: 65

الخطوة الثالثة: 66

المبرر الأول: 68

المبرر الثاني: 69

إشارة: العلم اللدني والهيمنة على النفوس والتكوين. 70

الخطوة الرابعة: 74

المقدمة السابعة: الإمامة والتوحيد 77

هل هناك صلة بين هاتين الحقيقتين أو لا؟ 77

ص: 318

الزاوية الأُولى: نصاب التوحيد. 77

الزاوية الثانية: الإمامة تعبير عن الإخلاص في التوحيد. 81

ما هو معنى الإخلاص في كلمة التوحيد؟ 82

بعض الروايات الدالة على هذه الزاوية. 84

الزاوية الثالثة: بالإمامة تتحقق معرفة الله تعالى الممكنة. 85

الزاوية الرابعة: الإمامة شرط التوحيد. 87

الزاوية الخامسة: الإمامة هي فطرة التوحيد. 91

المقدمة الثامنة:الإمامة والنبوة 99

النقطة الأولى: نصوص الإعداد والإشراف المباشر: 99

النقطة الثانية: نصوص المفاهيم المنتسبة إلى النبوة. 101

النقطة الثالثة: نصوص اكتمال الدين بولاية أمير المؤمنين عليه السلام 201

النقطة الرابعة: الإمامة تستمرّ بشخص الإمام. 104

المبحث الثاني: الإمامة الخاصة. 107

النقطة الأولى: النص على أهل البيت عليهم السلام 109

الخطوة الأولى: النص على خصوص أمير المؤمنين عليه السلام 109

النص الأول: آية الولاية: 109

النص الثاني: حادثة الغدير. 111

قرائن على أن المقصود من الولي هو الأولى بالتصرف. 114

النص الثالث: حادثة الدار. 118

النص الرابع: حديث المنزلة. 119

النص الخامس: 121

الخطوة الثانية: النص على بقية أهل البيت عليهم السلام 123

النص الأول: حديث الأئمة الاثني عشر. 123

ص: 319

النص الثاني: حديث اللوح. 134

النص الثالث: 138

النص الرابع: 138

الإشارة الأولى: شكلان لمقولة النص. 141

الإشارة الثانية: النص أحد الأدلة لا الدليل الحصري. 142

الإشارة الثالثة: بُعدان في النص على الإمام. 146

الإشارة الرابعة: قيمة النص والتعيين مع إمكان اكتشاف... 147

الإشارة الخامسة: الملازمة بين التولي والتبري. 152

النقطة الثانية: عصمة أهل البيت عليهم السلام 161

الدليل الأول: آية التطهير 163

الخطوة الأولى: نوع الإرادة في الآية. 163

الخطوة الثانية: المراد الرجس؟ 165

الخطوة الثالثة: تحديد )أهل البيت( في الآية؟ 166

الدليل الثاني: آية المودة 169

الخطوة الأولى: معنى المودة. 170

دلالات المودة ولوازمها: 171

1 / المودة: 171

2 / الحب: 172

3 / التمسك: 173

4 / التقديم. 174

5/ الاقتداء. 175

6/التعظيم. 175

7/ إحياء الأمر. 176

ص: 320

الخطوة الثانية: معنى القربى في الآية. 176

القول الأول: 177

القول الثاني: 177

القول الثالث: 178

الخطوة الثالثة: دلالة الآية على العصمة. 180

الدليل الثالث: اقتران أهل البيت عليهم السلام بالقرآن الكريم 181

المقدمة الأولى: أن القرآن الكريم معصوم. 181

المقدمة الثانية: أن أهل البيت علیهم السلام هم عِدل القرآن. 181

النقطة الثالثة: علم أهل البيت عليهم السلام اللّدني 185

النص الأول: 185

النص الثاني: 186

النص الثالث: 187

النص الرابع: 187

النص الخامس: 188

النص السادس: 188

النص السابع: 189

النص الثامن: 190

الإشارة الأولى: نصٌ في كونهم علیهم السلام واسطة في الفيض. 190

الإشارة الثانية: الإمامة التكوينية. 191

الإشارة الثالثة: التلازم بين العلم اللدني والعصمة. 195

الإشارة الرابعة: الحاجة إلى النص ضرورة في اكتشاف العلم اللدني. 195

الإِشارة الخامسة: التلازم بين العلم الخاص وبين الحكم والإدارة. 196

الإشارة السادسة: أدلة أخرى على إمامة أمير ... 199

ص: 321

الدليل الأول: لزوم تقديم الأفضل. 200

الدليل الثاني: احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل. 200

الدليل الثالث: هو الأعلم بالقرآن الكريم. 201

النقطة الرابعة: القدرة الخاصة لدى أهل البيت عليهم السلام... 207

النقطة الخامسة: الإمامة والسياسة ) أو الحاكمية( 213

الخطوة الأولى: القدرة الملكوتية للإمام لا تسلب اختيار الإنسان. 213

الخطوة الثانية: الإمام هو المحقِّق للعدالة. 214

الخطوة الثالثة: ضرورة الخبرة والنزاهة في شخص الحاكم. 215

الخطوة الرابعة: بناء المجتمع الشيعي. 217

الأمر الأول: التركيز على شرعيتهم عليهم السلام. 218

الأمر الثاني: نشر مظلوميتهم عليهم السلام. 219

الأمر الثالث: بروزهم كقدوات استثنائية. 219

الأمر الرابع: العناية بشيعتهم علیهم السلام تربوياً واجتماعياً. 221

الأمر الخامس: العناية بشيعتهم علیهم السلام فكرياً وثقافياً. 221

الأمر السادس: الاستقلال المالي والاقتصادي 223

النقطة السادسة: الإمام المهدي عليه السلام 225

الجهة الأولى: معلومات إجمالية: 225

الجهة الثانية: الانتظار بين الفعل وردّ الفعل. 230

الحقيقة الأولى: 231

الحقيقة الثانية: 231

الحقيقة الثالثة: 232

الحقيقة الرابعة: 232

نظريتان في دور المنتظرين: 234

ص: 322

النظرية الأولى: 234

النظرية الثانية المختارة: 235

الجهة الثالثة: وظائفنا في زمن الغيبة الكبرى: 239

العنوان الأول: نشر القضية المهدوية بالمنهج العلمي المستدل. 239

العنوان الثاني: تربية الناشئة على حبه. 240

العنوان الثالث: ردّ الشبهات المتجددة. 242

النقطة السابعة: تسا ؤلات و شبهات و أجوبة 243

التسا ؤل الأول: وجود مانع في أ صل عصمة الإنسان عموماً. 245

1/ بُعد العصمة النظرية: 245

2/ بُعد العصمة العملية: 246

التسا ؤل الثاني: العصمة تمنع من اختيار الأتباع. 253

التسا ؤل الثالث: أن الولاية التكوينية تلازم تحديد قدرة الله تعالى. 257

الخطوة الأولى: إمكان الولاية التكوينية: 258

المستوى الأول: الجواب النقضي: 258

المستوى الثاني: تصورات لتصحيح فكرة الولاية التكوينية: 259

الخطوة الثانية: مستوى الدليل على ثبوت الولاية... 264

التسا ؤل الرابع: مضادة الجو القر آني للعصمة. 265

النموذج الأول: 271

النموذج الثاني: 271

النموذج الثالث: 272

النموذج الرابع: 272

المجموعة الأولى: 277

المجموعة الثانية: آيات العتاب فما فوق من تهديد وتوبيخ. 278

ص: 323

التسا ؤل الخامس: لماذا لم يصرح القر آن باسم علي عليه السلام؟ 283

التسا ؤل السادس: علم الأئمة عليهم السلام بالغيب. 289

الخطوة الأولى: علمهم علیهم السلام ليس استقلالياً عن الله تعالى. 289

الخطوة الثانية: مخاطبة الناس على قدر عقولهم. 292

الخطوة الثالثة: غلْقُ الباب أمام توهم ألوهيتهم. علیهم السلام 293

الخطوة الرابعة: من محاذير التعامل وفق علم الغيب. 295

الخطوة الخامسة: الحكمة في بعض أفعال المعصومين. علیهم السلام 298

التسا ؤل السابع: لماذا تُثار الأحداث التاريخية التي انتهت ولا أثر لها؟ 301

والجواب: 302

السبب الأول: 302

السبب الثاني: 307

السبب الثالث: 309

السبب الرابع: 312

ص: 324

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.