بحوث معرفية في علم الكلام المجلد 2

هویة الکتاب

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

nashra@alkafeel.net

کربلاء المقدسة

ص.ب(233)

هاتف: 322600، داخلی: 175-163

الكتاب: بحوث معرفية في علم الكلام/ الجزء الثانی/ العدل – النبوة

تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، معهد تراث الأنبياء للدراسات

الحوزوية الإلكترونية.

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: 500 .

ذو الحجة الحرام 1443 ﻫ-تموز 2021 م

ص: 1

اشارة

العتبة العباسیة المقدسة

قسم الشوون الفکریة والثقافیة

جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

قسم اعداد المبلغات

بحوث معرفية

في علم الكلام

الجزء الثاني

العدل – النبوة

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

اصدارات: جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الأصل الثاني: العدل

اشارة

أو: مباحث الفعل الإلهي.

ص: 5

ص: 6

تمهيد

يعتبر مبحث العدل أو الفعل الإلهي من المباحث المهمة جدًا والحيوية في علم الكلام، والتي تدخل بصورة مباشرة في مختلف مجالات حياة الإنسان، وخصوصًا ما يتعلق بالجانب الاجتماعي والنفسي للإنسان.

ما يترتب على إنكار العدل الإلهي

اشارة

وفي الحقيقة فإن هناك جملة من الاسئلة تطلب إجابة، مرتبطة بالفعل الإلهي، وهي إما أن يُجاب عنها، وإلا فسوف تفضي عند البعض إلى واحد من أمور ستة:

أ/الإلحاد وإنكار وجوده تعالى. عندما تتراكم عنده الاسئلة ولا يتمكن من إيجاد أجوبة مرتبة لها، فتضطرب عنده الصورة فيجره إلى إنكار وجوده جل وعلا.

ب/ إنكار وجود الإنسان أو بعض صفاته، عندما واجه شبهة لم يتمكن من الإجابة عليها، فألغى وجود الإنسان، أو ألغى بعض صفاته كإلغاء صفة الإرادة، فالقول بالجبر جاء نتيجة مغالطة لم يتمكن من الإجابة عليها. حيث لم يتمكن من تفسير إرادة الإنسان إلى جنب إرادة الله تعالى.

ج/ الشرك، فهو في الوقت الذي يريد فيه تنزيه الباري جل وعلا عن

ص: 7

القبائح والظلم والشرور، ولكنه لم يتمكن من تقديم تفسير لها مع ارتباطها بالله تعالى، فقال بوجود إله للشر، وهو ما تورطت به الثنوية، فرغم أن النوايا قد تكون حسنة، ولكن النتائج سيئة، لأنه لم يتعاط مع السؤال أو الشبهة بطريقة منهجية.

د - ﻫ / إنكار العدل والحكمة. وله شكلان:

فمنه صريح، فيصرح بأن الإله الموجود هو ظالم، ويسرد ظواهر (كخلق إنسان معاق، أو الكوارث الطبيعية) على شكل أسئلة من دون جواب، والنتيجة أنه إله ظالم.

ومنه إنكار مغلّف، فهو لا ينكر العدل صراحة، وإنما أنكره بطريقة مغلّفة، بأن جعل العدل مجرد لقلقة لسان، بأن جعل الفعل الإلهي غير مستند إلى العدل والحكمة، وإنما الحكمة والعدل يتأسس بالفعل نفسه، لا أن الفعل يتأسس على أساس الحكمة والعدل المسبق، فالعدل والحكمة عنده صفات لاحقة للفعل لا أنها مؤسِّسة للفعل. فيكون الفعل حينها بلا قانون، فيمكن أن يكون كيفما كان. وهذا ما سيتضح في محله أكثر إن شاء الله تعالى.

ز/إنكار الاختيار الإلهي.

وله صيغتان:

مكشوفة، كما قالت اليهود: (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ

ص: 8

وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ)(1)

ومُقنّعة، وذلك عندما يُصوَّر الاختيار بلا مضمون، بأن يحوّل الفاعل الكبير إلى فاعل موجَب، بأن يكون الفعل مركب بطريقة لا يمكن أن يكون غيرها، وهو ما ذهب إليه المعتزلة من نظرية التفويض، حيث قالوا: إنه تعالى بعد أن خلق الخلق وفرغ منهم، فإنه رفع يده عنهم، بل قال بعضهم: إنه تعالى لا يستطيع أن يتصرف في الكون بعد أن خلقه، فلا قدرة له على التصرف في مملكته بحال من الأحوال، وستتبين نظريتهم أكثر في محلها المناسب إن شاء الله تعالى.

وقبل الدخول في صلب مسائل العدل الإلهي، نقدم ثلاث عشرة نقطة تمثل مرتكزات أساسية في البحث، وهي:

النقطة الأولى: ضرورة ضبط المنهج المعرفي.

النقطة الثانية: ما هو الهدف من الفعل الإلهي؟

النقطة الثالثة: تعريف العدل.

النقطة الرابعة: الحكمة.

النقطة الخامسة: مرجع صفتي العدل والحكمة.

النقطة السادسة: الإبداع في الفعل الإلهي.

النقطة السابعة: هل الظلم ممتنع ذاتاً على الله تعالى أو وقوعاً أو إنه غير

ص: 9


1- المائدة 64.

ممتنع ولكنه لم يقع وحسب؟

النقطة الثامنة: مستويات العدل.

النقطة التاسعة: الحق وإطلاقاته.

النقطة العاشرة: نتائج مناهج التفكير لدى الأشاعرة والمفوضة والإمامية

النقطة الحادية عشرة: لماذا لا يصدر الفعل؟

النقطة الثانية عشرة: القوانين التفضيلية للإنسان.

النقطة الثالثة عشرة: قوانين العالم المحسومة.

ص: 10

النقطة الأولى: ضرورة ضبط المنهج المعرفي

اشارة

إن المنهج المعرفي المعتمد في الوصول إلى النتائج الفكرية في الفكر الإمامي هو عبارة عن القرآن الكريم والسنة بقسميها (سنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسنة أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).) والعقل.

والفكر الإمامي لا يقبل التفكيك بين هذه المفردات الثلاثة، بل هو منهج مترابط تماماً، وأي انفراد بأحدها يعني ترك الكل، فلا بد من التوليف بين هذه المفردات الثلاثة في التفكير، بحيث يتم الأخذ بها جميعاً. وهذا ما يستفاد من النصوص أيضاً.

وينبغي الالتفات إلى أن المنهج الفكري لا يقف عند هذه الأمور الثلاثة، وإنما يوجد أمر مهم له أكبر الأثر في عملية المعرفة، وهو عنصر (العمل الصالح)، والذي يبدأ بالاعتقاد والإيمان الراسخ، مروراً بتربية النفس وتزكيتها، والدعاء والتوسل....

فوجود القرآن الكريم والسنة والعقل لا يكفي –حسب الفكر الإمامي- كمنهج فكري، ما لم يتوفر إيمان بأهل البيت (عليهم السلام) كأئمة مفترضي الطاعة، وما لم تكن للنفس قابلية تقبل الحقائق الإيمانية، وما لم يوفق الإنسان للوصول إلى

ص: 11

النتائج بالدعاء إلى الله تعالى والتوسل بأهل البيت (عليهم السلام)...

وفهمنا لهذه النقطة المهمة، يكشف لنا عن بعض الأمور، نذكر منها:

الأول:

فهم بعض الحكمة من تشريع بعض الأحكام، كتحريم قراءة كتب الضلال والتعرب بعد الهجرة، والأمر بالاهتمام بمصدر العلم، فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالىٰ: ] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلىٰ طَعامِهِ[(1) أنَّ معناه: «علمه الذي يأخذه عمَّن يأخذه»(2).

وهكذا مثل حفظ السمع عن أهل الضلال، فعن الحسن بن علي بن يقطين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَه، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الله عَزَّ وجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّه، وإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ. (3).

إن هذه الأفعال من شأنها أن تقلّل من توجّه الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، إن لم تقطع صلته به بالمرة، فكعملية استباقية وقائية، فقد أمرتنا الشريعة الغرّاء بالابتعاد عن ممارسة تلك الأفعال التي تمهّد الطريق للسقوط في الهاوية.

الثاني:

فهم الترابط بين بعض العبادات وآثارها الفكرية والنفسية، مثل

ص: 12


1- عبس: 24.
2- الكافي للكليني 1: 49 و50/ باب النوادر/ ح 8.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 434/ باب الغناء/ ح 24).

(... وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(1)

فالآية الكريمة تصرّح بأن هناك ترابطًا بين التقوى وبين التعليم الإلهي، مما يؤكد أهمية المنهج الفكري المترابط، وضرورة كونه منهجًا متوازنًا يحوي جميع العناصر التي من شأنها الوصول إلى نتائج يقينية واقعية.

(الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(2)

فالآية واضحة في توثيق الرابطة بين ذكر الله تعالى وبين الحصول على الاطمئنان النفسي والقلبي.

الثالث:

فهم بعض التصرفات الصادرة من الكافرين لدى سماعهم دعوة الأنبياء، وما تسببه تلك التصرفات من جحود وكفر، الأمر الذي كان نتيجةً لعدم التوازن في المنهج عندهم، ولأنهم اُبتُلوا بالانفصام في المنهج والتفكيك بين مفرداته.

قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(3)

(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا

ص: 13


1- سورة البقرة(282).
2- سورة الرعد(28).
3- سورة النمل(14).

ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)(1)

إذا تبين هذا، نصل إلى مطلب مهم، وهو:

من عوامل الاختلاف بين المسلمين

إن عوامل الاختلاف كثيرة:

منها: ما عرفناه الآن من اختلاف المنهج، ولذا وجدنا أن من اتخذ من القرآن وحده – منفرداً عن السنة والعقل – منهجاً للتفكير وصل إلى نتائج مثل (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(2)، من دون أن يقرن هذه الآية بالآيات الأخرى، كآيات عرض المتشابه على المحكم، ومن دون مراجعة السنة الموضحة لمثل تلك الآية أو أحكام العقلية البديهية أو القريبة منها، كما وقع البعض في تفسير الصفات الخبرية بظاهرها الجسماني، كما تقدم بيانه.

ومنها: مسألة الجبر، حيث وجد أن القرآن الكريم كثيراً ما يشير إلى الهداية الربانية والإضلال الرباني، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(3)

(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(4)

ص: 14


1- سورة نوح(7).
2- سورة الأنبياء(23).
3- سورة إبراهيم(4).
4- سورة القصص(56).

وحيث لم يرجع إلى أهل البيت (عليهم السلام) في فهم هذه الآيات، واعتمد على فهمه البشري الخاص، فقد وقع في مغبّة الجبر والتزم بنتائجه الوخيمة على المستوى الديني والنفسي وحتى الاجتماعي والسياسي.

وأما أهل البيت (عليهم السلام)، فإن المنهج الفكري عندهم مترابط، ولا يعزل فيه القرآن عن السنة والعقل، ودعوا أتباعهم إلى هذا المنهج وعلّموهم كيفية الاستفادة منه وكيفية التفكير الصحيح.

من هنا نفهم: أن مثل الأمر بين الأمرين الذي أسّسه أهل البيت (عليهم السلام) هو ليس قضية تعبدية، وإنما هي قضية مستدلّة قرآناً وسنةً وعقلاً.

ص: 15

ص: 16

النقطة الثانية: ما هو الهدف من الفعل الإلهي؟

اشارة

ما هو الهدف من خلق الله تعالى لهذا الكون بما فيه من مجرات وكواكب والأرض وما عليها من جماد ونبات وحيوان وإنسان؟

الجواب: سنقدم إجابة هنا متعلقة بالإنسان، لأن هدفنا أن نفهم موقعنا –نحن البشر- في هذا الكون وما يترتب على هذه المعرفة من اتخاذ موقف عملي معين اتجاه الخالق جل وعلا، والجواب يتضح من خلال الخطوات التالية:

الخطوة الأولى

إن كل ما سوى الإنسان –من جماد ونبات وحيوان في هذه الأرض-، فهو يمهد لظهور الإنسان وإبراز مكنوناته وإرادته، قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).(1)

فالآية قالت (لكم) فهذه الأشياء خُلقت لأجل الإنسان لا غير. وهي على هذا تُعيّن (قيمة الإنسان في هذه الأرض، وسيادته على ما فيها من

ص: 17


1- سورة البقرة(29).

موجودات. ومنها نستطيع أن نفهم المهمة العظيمة الثقيلة الموكولة إلى هذا المخلوق في ساحة الوجود.)(1)

ويستفاد من هذه الآية عدة فوائد، منها(2):

1/ إن الله تعالى قد امتنّ على الإنسان حيث خلق له ما في الأرض من دون أي استحقاق له عليه.

2/إن خلق ما في الأرض للإنسان يعني إباحته له، فكل ما في الأرض هو مباح للإنسان إلا إذا كان مملوكًا لإنسان آخر، وهو ما استفاد منه الفقهاء في تأسيس أصالة الإباحة، وتفصيله في الكتب المختصة.

3/ إن ذلك يقتضي وجود النافع للإنسان على هذه الأرض، ولا يُعقل أن الله تعالى يخلق ما في الأرض لأجل الإنسان وليس فيها إلا ما هو ضار، ومشروع الإنسان سيكون تحرّي النافع والاستفادة منه، وترك الضار مما يقتضي عالم الإمكان وجوده إلى جنب النافع.

نكتة:

إن خلق كل شيء للإنسان لم يكن بلا هدف ولا غاية، وإنما وضحت

ص: 18


1- تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي ج1 ص 149.
2- في كنز العرفان في فقه القرآن للمقداد السيوري ج2 ص 298قال ما نصه: امتنّ على عباده بأنّه خلق جميع ما في الأرض لهم، والمراد به ما ينتفع به لأنّ ما فيه إضرار أو خلا عن نفع لا يقع به امتنان، ثمّ إنّ ذلك المنتفع به لو لم يكن محلَّلا لما حسن أيضا الامتنان؛ إذ لا يمتنّ أحد على أحد بشيء حال بينه وبينه لقبحه في نظر العقل، فيكون الأشياء كلَّها على أصالة الإباحة وهو المطلوب، وإن خالف هنا قوم فقولهم باطل، وقد تبين ذلك في الأصول.

بعض الروايات الشريفة الواردة في تفسير هذه الآية ما يلزم على الإنسان من حق اتجاه هذه الهبة الإلهية، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في تفسير هذه الآية: (لتعتبروا ولتتوصلوا به إلى رضوانه وتتوقوا به من عذاب نيرانه)(1)

الخطوة الثانية

إن الإنسان في حركته الحياتية لا يتحرك بصورة عشوائية، بل إن لحركته نظامًا واضحًا هو نظام الاختبار، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(2)

والبلاء والاختبار -الذي هو قدر الإنسان في هذه الحياة- يوفّر الأرضية المناسبة لتحقّق اتجاهين مصيريين هما: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(3)

وإن هدف هذا الاختبار ليس هو ليعلم المختبِر (بالكسر)؛ إذ هو تعالى يعلم بالأشياء من الأزل، وإنما الهدف هو تعبير الإنسان عن مكنوناته وإبرازه لها، حيث شاءت الحكمة الإلهية أن يدخل الإنسان دار الابتلاء حتى يظهر علانيةً ما يريده حقيقةً، ومن حكمة ذلك هو (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)(4)

ص: 19


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج2 ص 15 ح29.
2- سورة الملك (2).
3- سورة الإنسان (3).
4- سورة النساء(165).
الخطوة الثالثة: ما هو الحد الأدنى من النجاح المقبول في هذا الاختبار؟
اشارة

إنه درجة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1)

(وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)(2)

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(3)

فأدنى درجة للنجاح هي العبادة، أي استشعار العبد لعبوديته المطلقة لله تعالى، في قبال (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)(4)

و (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)(5)

ومن هنا يتبين: أن محور حركة الإنسان هو التوحيد بما يعنيه من تحقيق العبادة واستشعارها ونفي كل ألوان الشرك.

ثم إنه ليس للعبادة سقف إلا سقف (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(6)

على اختلاف مراتب اليقين من حق وعلم وعين اليقين، كما يقول تعالى

ص: 20


1- سورة الذاريات(56).
2- سورة يس(61).
3- سورة الكهف(110).
4- سورة الفرقان(43).
5- سورة يس(60).
6- سورة الحجر(99).

(إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ)(1)

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)(2) (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)(3)

وليس اليقين مرتبة محدودة يمكن أن يصل إليها الإنسان ببعض العبادات، إنما هو مفتوح من جهة أن الكمال لا يمكن أن يقف عند حد، لأن التكامل هي محاولة الاقتراب من كمال الباري تعالى، وحيث إن كماله تعالى غير متناهي، فلا يمكن الوقوف عند حدٍّ أبداً.

على ان العبادة تستلزم المعرفة –كما هو واضح- إذ كيف يصح أن يعبد الإنسان ربًا لا يعرفه، ومن هنا انفتح ملف وجوب النظر والمعرفة في الدين، وقد تقدم الكلام فيه في محله.(4)

ثلاثية: حب الذات والمعرفة والإرادة
اشارة

وهنا سؤال مهم:

ما هو الحافز للإنسان على الطاعة واستشعار العبودية واستشعار ذاته الفقيرة ومحاولة تحصيل الكمال؟

إنه ليس إلا حب الذات، فإنه عندما يلتفت إلى ذاته الفقيرة، فحبه لذاته يدفعه نحو التكامل، وهذا الحب وإن كان هو المحرك الأساسي لحركة تكامل

ص: 21


1- سورة الواقعة(95).
2- سورة التكاثر (5).
3- سورة التكاثر(7).
4- راجع الأمر الرابع من الأمور التمهيدية التي ذكرناها في بداية الكتاب.

الإنسان، إلا أنه مع ذلك محدَّد بالمعرفة والإرادة.

أي إن حب الذات لا يكفي لوحده للحصول على التكامل، بل لا بد من أن يتكلّل هذا الحب للذات بمحورين أساسيين:

الأول: المعرفة

فكلما زادت معرفة الإنسان بنفسه وبربه زادت عنده شحنة حب التكامل، وأضيء له طريق التكامل، إذ إنه طريق مدهلز في كثير من جنباته، يعمل الشيطان ومن يعاونه من نفس أمارة وهوى ودنيا على خلق عثرات ومتاهات علهم ينجحون في جعل الإنسان يملّ من تسلق سلّم الكمال.

الثاني: الإرادة

فإنها المحرك الأساس والفعلي والأخير في أي فعل يقوم به الإنسان، وهذا يحتاج إلى أن يتذكر الإنسان أن مبادئ الفعل الاختياري هي:

تصور الفعل الذي يُراد القيام به، ثم التصديق بأن في الفعل منفعة ترجع على الفاعل، بعدها سيتولد الشوق في داخل النفس لتحقيق ذلك الفعل، ويشتد الشوق إلى أن يصل إلى مرحلة العزم وإجماع الأمر والإرادة، بعدها لا يبقى أمام الإنسان إلا أن يتحرك نحو إصدار الفعل، وهذا يكشف عن أن الكلمة الأخيرة في الفعل هي للإرادة وإجماع العزم. وإلا فقد يتصور الإنسان شيئًا ويصدق بفائدته ويشتاق إليه ولكنه لا يفعله، لا لشيء إلا لأنه لا يريد أن يفعله، لعجز أو تعاجز أو كسل أو عناد وما شابه، وكم من أناس يعرفون

ص: 22

قيمة الوقت وأنه رأس مال الإنسان، ولكنهم يحرقونه ويهدرونه في اللغو من القول والساذج من الأفعال!

فالكلمة الأخيرة في الفعل هي للإرادة الإنسانية.

ملحوظتان
الملحوظة الأولى: لا مفرّ من الفقر الذاتي للممكن

إن التكامل لا يعني تحرير الإنسان من فقره الإمكاني، بل على العكس، كلما زاد تكامل الإنسان بالطاعات أوغل في الاحتياج والافتقار إلى الباري تعالى، فالنسبة إذن طردية بين تكامل الإنسان وإحساسه بالفقر الوجودي لله تعالى، وهي كذلك طردية بين عدم استشعار العبودية وفقدان الكمالات.

وهذا هو لسان حال الأنبياء، فالنبي موسى (عليه وعلى نبينا وآله السلام) كان يؤكد فقره الوجودي إلى باريه فيقول (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(1)

وهذا ما أشار له النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله (الفقر فخري، وبه أفتخر)(2)

ص: 23


1- سورة القصص (24).
2- فائدة: نقل صاحب البحار (ج 69 - ص 30 - 31) بعد ذكره لهذه الرواية عن الراغب الاصفهاني (مفردات غريب القرآن 383) ما يلي: (الفقر يستعمل على أربعة أوجه: الأول: وجود الحاجة الضرورية، وذلك عام للإنسان ما دام في دار الدنيا بل عام للموجودات كلها، وعلى هذا قوله عز وجل: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد " وإلى هذا الفقر أشار بقوله في وصف الانسان: " ما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ". والثاني: عدم المقتنيات وهو المذكور في قوله: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله - إلى قوله: يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " " إنما الصدقات للفقراء والمساكين ". الثالث: فقر النفس وهو الشره المعني بقوله صلى الله عليه وآله: كاد الفقر أن يكون كفرا وهو المقابل بقوله: الغنى غنى النفس، والمعنى بقولهم: من عدم القناعة لم يفده المال غنى. الرابع: الفقر إلى الله المشار إليه بقوله: اللهم أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك، وإياه عنى تعالى بقوله: " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " وبهذا ألم الشاعر فقال: ويعجبني فقري إليك ولم يكن *** ليعجبني لولا محبتك الفقر ويقال: افتقر فهو مفتقر وفقير، ولا يكاد يقال فقر وإن كان القياس يقتضيه وأصل الفقير هو المكسور الفقار.)
الملحوظة الثانية: مركز الكمال هو الكمال اللا متناهي

قلنا: إن الدافع للإنسان نحو طلب الكمال هو حبه لذاته، وهو حافز لطلب المعرفة أيضاً (بشقّيها: التصور والتصديق) كمقدمة للفعل الذي به التكامل، وهو الإيمان والعمل الصالح، وهنا نسأل:

إن لكل حركة تكاملية مركزاً يكون هو المقصود الأول، فالمريض مثلاً إذا أراد لنفسه الصحة، لا بد عليه أن يذهب إلى الطبيب، وأن يشخص الطبيب نوع مرضه، ثم يصف له الدواء المناسب، ولا بد على المريض بعد ذلك من استخدام العلاج بشكل منظّم وكافٍ، وأي خلل في هذه المقدمات فإنه يؤدي إلى غير النتيجة المرجوة، ونلاحظ أن المريض في هذا المثال تدور حركته على مركز محدَّد هو: طلب الحد الأدنى للصحة، ذلك الحدُّ الذي يكون الخارج عنه مريضاً.

وفي المقام، لو أراد الإنسان – وهو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله عز من قائل (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا...)(1)

– أن

ص: 24


1- سورة النحل(78).

يستكمل ويسدَّ نقصه بالخروج من القوة إلى الفعل، فما هو المركز الذي لا بد عليه من قصده حتى يضمن سيرَه في طريق الاستكمال الصعودي وسدّ النقص؟ وأن لا تكون الحركة في فراغ أو تسافلية؟

الجواب:

إن المركز هو الكمال اللا متناهي –وهو الله تبارك وتعالى-، وبقدر ما يتمكن الإنسان من التحرك باتجاه ذلك المركز يكون قد تحرك باتجاه تكامله وسد نقصه، وحيث إن ذلك المركز هو لا متناهي، فإن تلك الحركة التكاملية لا تتوقف عند حدّ، وبهذا يتبلور ما قلناه سابقاً من أنه لا سقف محدوداً للعبادة واليقين. ولذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) رغم بلوغه مراتب عالية جداً من التكامل، فإنه كان يقول: آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد.(1)

وهذا ما يفسر لنا الروايات الدالة على استمرار إنتاج أعمال البعض حتى بعد موتهم، إلا أنه – رغم ذلك - لا يمكنهم بلوغ الكمال اللا متناهي، بل الحركة التكاملية مستمرة وإلى ما لا نهاية، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به، وصدقة جارية.(2)

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من

ص: 25


1- نهج البلاغة - ج 4 - ص 17.
2- جامع أحاديث الشيعة - السيد البروجردي - ج 14 - ص 28.

غير أن ينتقص من أجورهم شيء.(1)

ص: 26


1- الخصال - الشيخ الصدوق - ص 240.

النقطة الثالثة: تعريف العدل

اشارة

استعمل العدل بمعان أربع، والمقصود بالبحث هنا رابعها:

معاني العدل
المعنى الأول: التوازن

والتناسب والتعادل، بأن تكون أجزاء الشيء منسجمة مع بعضها، ومتوافقة في العمل، بحيث لا يحدث خرق في أدائها، مما يعني الوصول إلى النتيجة المرجوة منها على أفضل حال، وذلك كالتوازن الموجود في الكون مثلًا، فهناك توازن بين قوتي الجذب والدفع في الكواكب تجعلها تسير في مدارات ثابتة لا تخرج عنه فتتصادم، وهناك توازن بين استعمال الإنسان للأوكسجين وطرحه ثاني أوكسيد الكاربون، وبين استعمال النباتات لثاني أوكسيد الكاربون وطرحها الأوكسجين، مما يجعل نسبة كل من الغازين ثابتة في الفضاء.

وهذا المعنى وإن كان يُعبّر عن كمال – ويقابله عدم التوازن الذي هو حالة مَرَضَية -، ولكنه ليس هو المعنى المقصود في البحث.

ص: 27

المعنى الثاني: التساوي

وهو المعنى الذي يمكن نسبته إلى الفهم العرفي العامي للعدل، ولكن المساواة ليست دائماً عدلاً – عند الإمامية -، وإن كانت بعض النظريات والمؤسسات الحقوقية والفلسفات الغربية – وعلى رأسها الاشتراكية – رفعت شعار العدل بهذا المعنى، وطالبت مثلًا بالمساواة بين الرجل والمرأة، وبتوزيع الأموال العامة بالتساوي لا على أساس الجهد المبذول في عملية الإنتاج.

ولكن هذا المعنى أقرب إلى الظلم منه إلى العدل! إذ العقل قاضٍ بأن العدل والحكمة في توزيع الأدوار لا المساواة في كل شيء، إذ المساواة حالة لا يستقيم معها وضع المجتمع(1)، وهل من العدل مثلًا أن تُعطي لولدك الذي يدرس في الجامعة مصروفًا بقدر ما تعطيه لولدك في الابتدائية؟! وهل من العدل أن يعطي مدير الدائرة الموظف المجتهد والذي يبذل قُصارى جهده في تحسين الإنتاج كمًا ونوعًا نفس المقدار الذي يُعطيه لموظف كسول؟!

نعم، من الحق البحث عن الأسس التي عليها يكون توزيع الأدوار.

المعنى الثالث: إعطاء كل ذي حق حقه

وهذا المعنى من العدل يمكن تصوره في عالمنا: عالم الإمكان، فبين الأفراد

ص: 28


1- إذ يلزم منه التواكل وضياع الجهد والنزاعات الدامية، وغيرها كثير، ولذا تجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي ولده الإمام الحسن (عليه السلام) بأهمية توزيع الأدوار، فيقول له:- واجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به، فإنه أحرى أن لا يتواكلوا في خدمتك... نهج البلاغة - ج 3 - ص 57.

توجد حقوق متبادلة، ولا بد أن يُعطى لكل واحد منهم حقه الذي يستحقه.

ولكن لا يمكن تصور هذا المعنى بين الله تعالى وبين الإنسان، إذ أي حق للإنسان يستحق معه على الله تعالى شيئاً فيجب عليه تعالى – لتحقيق العدل – أن يعطيه له(1)؟!

إن العقل والنقل متفقان على أن كل ما عند الإنسان هو مِنّةٌ من الله تعالى ومن دون استحقاق، فليس هو تعالى مَنْ عليه الحق حتى يجب عليه أن يؤديه إلى صاحبه.

وبعبارة أخرى: الحق يعني ويساوي: السلطنة أو الملك المنقوص أو الملك الضعيف أو ما يقرب من ذلك، والجميع منفي عنه تعالى، فليس للإنسان سلطنة أو ملك أو شيء من هذا القبيل على الله تعالى، لا تكويناً ولا اعتباراً كي يستحق عليه شيئاً...

تنبيه:

ينبغي الالتفات إلى أن هذا المعنى الثالث للعدل إذا أريد إطلاقه على العدل الإلهي فإنه يستبطن الشرك، ذلك أن قول القائل: إني ذو حق على الله تعالى، يعني: أنه مسلَّط ومستحق ومالك لشيء ما عليه تعالى، وهذا يتنافى مع

ص: 29


1- يقول مولانا الإمام السجاد (عليه السلام):-... ثم لم تسمه القصاص فيما أكل من رزقك الذي يقوى به على طاعتك، و لم تحمله على المناقشات في الآلات التي تسبب باستعمالها إلى مغفرتك. ولو فعلت ذلك به لذهب بجميع ما كدح له وجملة ما سعى فيه جزاء للصغرى من أياديك ومننك، ولبقي رهيناً بين يديك بسائر نعمك. فمتى كان يستحق شيئا من ثوابك؟... من دعائه (عليه السلام) في وداع شهر رمضان. الدعاء رقم (45).

ما ثبت في مباحث التوحيد من أنه لا مالك حقيقياً سوى الله تعالى، ومن أن العبد مملوك قِنٌّ له تعالى في وجوده وصفاته وأفعاله.

نعم، هو تعالى اعتبر لعبيده حقاً عليه من باب الرحمة واللطف، وتعامل مع عبيده على اعتبار هذا الأساس الاعتباري على انه أساس حقيقي، فأخذ الله تعالى يشتري من المؤمنين ما هو ملك له في الحقيقة، ويستقرضهم ما هو عائد له حقيقة، كل ذلك لطفًا بهم ومِنّةً منه عليهم.

وهو ما تشير إليه بعض النصوص، قال تعالى (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)(1)

وقال تعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(2)

وقال تعالى (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً واللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(3)

ولكن هذا لا يمثل ملكاً وحقّاً حقيقياً عليه تعالى، بل هو تفضّل وامتنان

ص: 30


1- سورة الأنعام(12).
2- سورة التوبة(111).
3- سورة البقرة(245).

منه تعالى، وهو يرجع في حقيقته إلى المعنى الرابع للعدل.

المعنى الرابع: إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له

فلكل واحد من البشر حجم ومقدار من القابلية، والعدل أن يعطيه الله تعالى على حسب قابليته واستعداده، بدون نقصان ولا حرمان، لأنه ظلم، ولا أكثر، لأنه يلزم منه الجزاف وهو محال.

وبعبارة: إن الفاعل متساوي النسبة للجميع، ولكن القابل يختلف من حيث الاستعداد، والعدل يقتضي إعطاء كل قابل ما هو مستعد له. وهذا ما تشير إليه بعض الآيات.

قال تعالى (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ)(1)

ومن هنا يتبين: أن التفاضل بين الناس في القابليات لا يُعدّ ظلماً، لأن العدل يقتضي الإعطاء بحسب حجم ومقدار القابلية، فالاختلاف هو اختلاف قابلية لا اختلاف عطاء.

تنبيه:

هذا المعنى الأخير من العدل يُغطّي بعدين:

ص: 31


1- سورة الرعد(17).

أ / بعد الإمكانات والاستعدادات، فالعدل الإلهي يمدُّ المستعِدَّ بكل ما هو مستعِدٌّ له من إمكانات واستعدادات.

يقول تعالى (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا)(1)

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)(2)

ب / بعد الجزاء والنتائج، فالعدل الإلهي يوفر المردود الجزائي للعمل، يقول تعالى (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(3)

(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)(4)

ص: 32


1- سورة الإسراء(20).
2- سورة الملك(23).
3- سورة الزلزلة (7-8).
4- سورة النجم (39-40)

النقطة الرابعة: الحكمة

الحكمة لغة

قال ابن فارس: الحاء والكاف والميم، أصل واحد وهو المنع، وأوّل ذلك الحُكم، وهو المنع من الظلم، وسمّيت (حَكَمَة) الدابّة لأنّها تمنعها... والحِكمة هذا قياسها، لأنّها تمنع من الجهل.(1)

وفي الصحاح: أحكمت الشيء فاستحكم، أي صار محكماً.(2)

وقد (عُرّفت الحكمة في أمّهات المصادر اللغويّة... بأنّها تعني: «العلم»، و«معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم» (3)،

و«إصابة الحقّ بالعلم والعقل» (4)، و«إتقان الأفعال» (5)،

وما إلى ذلك. وعلى أيّ حال، فإنّ الفعل

ص: 33


1- مجمع مقاييس اللغة لابن فارس. مادة (حكم).
2- صحاح الجوهري: مادة (حكم).
3- النهاية، ابن الأثير، مادّة حكم، ج 1، ص119؛ لسان العرب، ج 12، ص140؛ المعجم الوسيط، مادّة: حكم، ج 1، ص190. [م]
4- المفردات في غريب القرآن، الراغب الإصفهانيّ، مادة: حكم، ص127. [م]
5- يُقال: أحكم الأمر؛ أي: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد. انظر: القاموس المحيط، الفيروزآباديّ، ص1415؛ لسان العرب، ابن منظور، ج 12، ص 143؛ مختار الصحاح، مادّة: حكم، ص62. [م]

الحكيم هو الفعل الصادر عن مصلحة، المشتمل على هدف وغرض، وهو لا يتحقّق من دون علم مسبق.)(1)

الحكمة اصطلاحًا

الحكمة في الله تعالى لا يخرج معناها عن المعنى اللغوي، فللحكمة معنيان كلاهما ثابت له تعالى بوجوب الوجود:

1 – معنى نظري، بمعنى كونه عارفاً بالأشياء، وحينئذٍ تكون الحكمة شعبة من شعب العلم.

وهو تعالى يعلم بالأشياء على ما هي عليه، بل هو تعالى يعلم بها قبل إيجادها. فهو حكيم بهذا المعنى.

2 – معنى تطبيقي، بمعنى الإتقان والدقة في الصنع.

وحيث إن عالم الإمكان ليس فوضوياً، بل هو محكوم بقانون وتناسق عجيب، فهو تعالى حكيم بهذا المعنى أيضاً. وهذا ما كشفته وتكشفه علوم الطبيعة أمس واليوم.

على أنه قد ثبت في محله: أن عالم الإمكان بهذا الشكل من الدقة والتناسق هو أفضل ما يمكن ويتصور أن يوجد، فليس فقط هو متقن، بل هو أفضل ما يمكن.

ص: 34


1- الكلام الإسلامي الجديد ج1 ص 184-185.
وهنا إشارات
الإشارة الأولى: الفرق بين العدل والحكمة

عُرّفت الحكمة بأنها (وضع الشيء في محله) وعُرّفت بأنها (الفعل حسب النظام الأصلح)، ويقابلها العبث والجزاف.

وعن طبيعة العلاقة بينها وبين العدل رأيان:

الأول: إن الحكمة معنى عام لكل المخلوقات، أما العدل فهو معنى خاص بفعل خاص هو الإنسان، أو الموجودات العاقلة.

وعليه، فالاختلاف بين الحكمة والعدل هو بالعموم والخصوص المطلق.

الثاني: إن كُلاًّ من الحكمة والعدل معنى عام لكل المخلوقات، إلا أن الحكمة مقابل العبث (وهو الفعل الذي لا تكون له غاية عقلائية، الخالي من الحكمة، بأن يضع الشيء في غير موضعه المناسب.)، والعدل مقابل الظلم (وهو سلب حق الآخر، مع التنبيه إلى أنه تقدم أن لا حق حقيقيًا للعبد على الله تعالى، نعم، هو جلّ وعلا من باب التفضّل والمنّة اعتبر أن للإنسان حقًا عليه تعالى، وتعامل معه على اعتباره صاحب حق عليه).

الإشارة الثانية: الوجه في أن الحكيم لا يُسأل عما يفعل

إن الحكيم على ما تقدم هو باختصار من يضع الشيء المناسب في الموضع المناسب وفي الوقت المناسب، وإذا كان هذا فعل الحكيم فلا وجه حينئذٍ للاعتراض على أي فعل يقوم به، لأنه حسب الفرض حكيم، وبهذا المعنى

ص: 35

يمكن تفسير قوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(1)

حيث جاء في تفسيرها عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام:... يا ابن رسول الله وكيف لا يسأل عما يفعل؟. قال: لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابًا...(2)

الإشارة الثالثة: كفاية العلم الثبوتي بالحكمة

ليس هناك ضرورة بأن يكشف الحكيم عن الحكمة في كل فعل من أفعاله، إذ يكفي علمنا بأنه حكيم للاطمئنان بأنه لا يصدر عنه خلاف الحكمة، على أن مطالعتنا لأفعاله جل وعلا كافية للحكم وبالقطع واليقين بأن أفعاله كلها حكيمة.

وهذا يعني: أننا لو رأينا فعلًا، أو حصل معنا شيء لم نستطع أن نعرف الحكمة فيه، فعدم معرفتنا بالحكمة فيه لا يبرر لنا الاعتراض عليه جل وعلا ولو من طرف خفي، بل يلزمنا التسليم لكل ما يفعله الله الحكيم العزيز.

الإشارة الرابعة: وجه الحكمة في بعض الأفعال روائياً
اشارة

نحن وإن قلنا: إنه لا يلزم الحكيم أن يكشف وجه الحكمة من أفعاله، ولكن من باب اللطف، أشارت بعض النصوص الشريفة إلى وجه الحكمة في بعض الأفعال التي قد يظهر منها عدم الحكمة لأول وهلة، ومنها التالي:

ص: 36


1- الأنبياء 23
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 397.
النص الأول

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى:... وإِنَّ مِن عِبادِيَ المُؤمِنينَ لَمَن لا يَصلُحُ إِيمانُهُ إِلاّ بِالفَقرِ ولَو أَغنَيتُهُ لأَفسَدَهُ ذلِكَ، وإِنَّ مِن عِباديَ المُؤمِنينَ لَمَن لا يَصلُحُ إِيمانه إِلاّ بِالغِناءِ ولَو أَفقَرتُهُ لأَفسَدَهُ ذلِكَ، وإِنّ مِن عِبادِيَ المُؤمِنينَ لَمَن لا يَصلُحُ إِيمانُهُ إِلاّ بِالسُّقمِ ولَو صَحَّحتُ جِسمَهُ لأَفسَدَهُ ذلِكَ، وإِن مِن عِبادِيَ المُؤمِنينَ لَمَن لا يَصلَحُ إِيمانُهُ إِلاّ بِالصِّحَّةِ ولَو أَسقَمتُهُ لأَفسَدَهُ ذلِكَ، إِنّي أُدَبِّرُ عِبادي لِعِلمي بِقُلوبِهِم ؛ فَإِنّي عَليمٌ خَبيرٌ.(1)

النص الثاني

عنه (صلى الله عليه وآله): يَقولُ اللهُ تَعالى: تَفَضَّلتُ عَلى عَبدي بِأَربَعِ خِصال: سَلَّطتُ الدَّابَّةَ عَلَى الحَبَّةِ، ولَولا ذلِكَ لاَدَّخَرَها المُلوكُ كَما يَدّخِرونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ، وأَلقَيتُ النَّتنَ عَلَى الجَسَدِ، ولَولا ذلِكَ ما دَفَنَ خَليلٌ خَليلَهُ أَبَداً، وسَلَّطتُ السَّلوَ عَلَى الحُزنِ، ولَولا ذلِكَ لاَنقَطَعَ النَّسلُ، وقَضَيتُ الأَجَلً وأَطلَتُ الأَمَلَ، ولَولا ذلِكَ لَخَرِبَتِ الدُّنيا، ولَم يَتَهَنَّ ذو مَعيشَة بِمَعيشَتِهِ.(2)

النص الثالث

عن الإمام عليّ (عليه السلام) - فِي الحِكَمِ المَنسوبَةِ إِلَيهِ -: مِنَ الحِكمَةِ جَعلُ المالِ في أَيدِي الجُهّالِ ؛ فَإِنَّهُ لَو خُصَّ بِهِ العُقلاءُ لَمات الجُهّالُ جوعاً، ولكِنَّهُ جُعِلَ في أَيدِي الجُهّالِ، ثُمَّ استَنزَلَهُم عَنهُ العُقَلاءُ بِلُطفِهِم وفِطنَتهِم.(3)

ص: 37


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 400.
2- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج9 ص 111.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 289 الحكمة رقم (310).
النص الرابع

الإمام الباقر (عليه السلام): إِنَّ داوودَ النبيّ (صلوات الله عَلَيهِ) كانَ ذاتَ يَوم في محِرابِهِ إِذ مَرَّت بِهِ دودَةٌ حَمراءُ صَغيرةٌ تَدُبُّ حَتَّى انتَهَت إِلى مَوضِعِ سُجودِهِ، فَنَظَرَ إِلَيها داوودُ وحَدَّثَ في نَفسِه: لِمَ خُلِقَتْ هذِهِ الدّودَةُ؟ فَأَوحَى اللهُ إِلَيها تَكَلَّمي، فَقالَت لَهُ: يا داوودُ، هَل سَمِعتَ حِسّي أَو استَبَنتَ عَلى صَفا أَثَري؟ فَقالَ لَها داوودُ: لا. قالَت: فَإنَّ اللهَ يَسمَعُ دَبيبي ونَفَسي وحِسّي، ويَرى أَثَرَ مشيي، فَاخفَض مِن صَوتِكَ.(1)

الإشارة الخامسة: أقسام الحكمة
اشارة

كل ما تقدم هو الحكمة التي هي صفة لله تعالى، ولكن على الإنسان أيضًا أن يتصف بصفة الحكمة، إذ هي من الصفات التي تساعده في السير نحو الكمال الوجودي، وهو هدف الإنسان المؤمن في هذه الحياة، فكان مناسبًا أن نتعرف قليلًا على معنى الحكمة وأقسامها في الإنسان، لنصوغ مشروعنا في هذه الحياة بطريقة علمية منهجية، وقد ذكروا ثلاثة أقسام للحكمة، وهذه الأقسام بينها ترتب، بمعنى أن الأولى هي مقدمة لحصول الثانية، والثانية هي مقدمة لحصول الثالثة، مما يعني لا بدية المنهجية في تحصيل هذه الأقسام من الحكمة، وهي التالي:

القسم الأول: الحكمة العلمية

وهي الحكمة التي يكون سببها تحصيل العلوم والمعارف التي تدخل

ص: 38


1- الزهد، للحسين بن سعيد الكوفي ص 64 باب 11 ح 170.

ضمن شروط التكامل وتعمل على كشف الطريق الذي يوصل إلى الهدف الأسمى لوجود الإنسان. فهي كالمصباح الذي ينير الطريق لمن يسلكه، ولأمكن أن يصطدم المرء بما يشج رأسه، أو ربما يقع في حفرة عميقة من دون أن يشعر.

إننا وفي طريق التكامل الوجودي –الذي هو المشروع الأعظم للإنسان في حياته- نحتاج إلى عوامل مساعدة عديدة، ومن أهمها هي العلوم والمعارف المتعلقة بالهدف، والتي تشمل: علم أصول الدين وفروعه والآداب والسنن، وهذا ما يحتاج من المؤمن أن يخصص وقتًا وجهدًا مناسبًا لتحصيل هذه المعارف والعلوم ومن مصادرها الموثوقة.

لقد كان من أهم أهداف الرسالات السماوية هو تعليم الناس الحكمة، قال تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(1)

إن الحكمة العلمية تعني باختصار:

أن يكون صاحب نظرة واضحة في هذه الحياة، يعرف ما هو هدفه فيها، ويعرف أن عليه أن يتخذ مسلكًا خاصًا يوصله إلى النجاة في الدنيا والآخرة على حد سواء.

ص: 39


1- آل عمران 164

عليه أن يملك المعرفة الكافية لإدارة نفسه وبيته وما يتعلق به من جيران وعمل وما شابه، أي أن يملك المعرفة الخاصة به وبالعامة للمجتمع.

عليه أن يملك الفرد المؤمن المعرفة الكافية للاستدلال على ما هو عليه من دين، أصولًا وفروعًا وأخلاقًا.

القسم الثاني: الحكمة العملية

إن مجرد ملئ الذهن بالمعلومات ليس كافيًا للنجاة لا في الدنيا ولا في الآخرة، فتصوروا لو أن أضخم عالم من حيث كمية المعلومات التي عنده، كان قد اختزنها في ذهنه ولم يكتبها مثلًا في كتاب أو لم يطبقها في حياته، فما هي فائدة كومة من المعلومات المخزونة في الذهن؟!

وهكذا لو عرف المرء طريق الفلاح في الآخرة، ولكنه لم يخطُ خطوة واحدة في طريق التكامل والوصول إلى الهدف، فما هي فائدة هذا العلم؟

إن الحكمة العملية تقول: طبّق علمك ومعارفك حسب ما تقتضيه تلك العلوم والمعارف، فإذا عرفت الخطة النظرية للتكامل، يلزمك أن تعمل على تطبيقها بدقة وحذر، حتى تصل إلى مرادك.

إن الحكمة العملية باختصار: (هي المنهج العملي للوصول إلى مرتبة الكمال الإنساني. ومن وجهة نظر القرآن الكريم، والحديث الشريف تطلق كلمة الحكمة على العلم والعمل باعتبارهما مقدمتين لتكامل الإنسان، وليس ثمة فرق بينهما، إلاّ أنّ العلم هو

ص: 40

الدرجة الأُولى في سُلّم الكمال الإنساني، والعمل هو الدرجة الثانية فيه)(1)

القسم الثالث: الحكمة الحقيقية

بعد أن يجهز المؤمن نفسه بالمعارف الضرورية في حياته، ويبدأ يطبق ما تعلمه من علوم، سواء على مستوى الأصول أو الفروع أو الأخلاق الاجتماعية، وبعد أن يقطع شوطًا طويلًا في ذلك، سيصل حينها –بلطف الله تعالى وعنايته- إلى مرتبة الحكمة الحقيقية، تلك الحكمة التي تخلق عند الإنسان قوة عملية جبّارة ضد نوازع النفس الأمارة، بحيث تستعين النفس بها ضد ميولها وقواها الغضبية والشهوية التي تعمل على تحصيل رغباتها من دون رادع ولا حجاب ولا سقف محدد.

هي حالة أشبه بتحرير العقل من كل قيوده، وفي نفس الوقت تكبيل القوى الغضبية والشهوية عن أن تعمل أو تطلب أي شيء إلا بإذن العقل وتحت إمرته وتحت نظره ورعايته، فلا تتجاوز حدود العقل أبدًا.

إنها حالة من التجرد العقلي والقوة النفسية تصل إلى مرحلة تجعل من المرء عارفًا بحقيقة حاله في الدنيا، وأنه مجرد عبد للمولى جل وعلا، وأن عليه أن يسلّم له قياد نفسه وكل كيانه، وأنه لا يحق له أن ينبس ببنت شفة أمام عظمة جبار السماوات والأرض، وحينها، ستعرف معنى قوله عز وجل (إِنَّما يَخْشَىٰ اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(2)

ص: 41


1- موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ الريشهري ج2 ص74.
2- فاطر 28

إنها مرحلة من التعلق بالعالم الأخروي، تجعل المؤمن يمقت ويبتعد عن كل الأمور المؤقتة والتي لا يبقى أثرها إلى الآخرة، ويرغب في كل ما من شأنه أن يبقى إلى الآخرة، وهو معنى ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أوَّلُ الحِكمَةِ تَركُ اللَّذّاتِ، وآخِرُها مَقتُ الفانِياتِ.(1)

إن معرفتنا بالحكمة بهذا المعنى تكشف لنا عن السر وراء الثمرات العظيمة التي رتبتها النصوص الدينية على الحكمة، فإن الروايات جعلت الحكمة مبدأً للتالي(2):

1/ضَعفُ الشَّهوَةِ: فعن الإمام عليّ (عليه السلام): كُلَّما قَوِيَتِ الحِكمَةُ ضَعُفَتِ الشَّهوَةُ.(3)

2/ مَعرِفَةُ العِبرَةِ: فعن الإمام عليّ (عليه السلام): مَن ثَبَتَت لَهُ الحِكمَةُ عَرَفَ العِبرَةَ.(4)

3/ المَنعُ عَنِ السَّيِّئَةِ: فعن الإمام عليّ (عليه السلام): لِلنُّفوسِ طَبائِعُ سوء والحِكمَةُ تَنهى عَنها.(5)

4/ العِصمَة: فعن الإمام عليّ (عليه السلام): قُرِنَتِ الحِكمَةُ بِالعِصمَةِ.(6)

ص: 42


1- عيون الحكم والمواعظ لليثي الواسطي ص 120.
2- انظر: موسوعة العقائد الإسلامية للشيخ الريشهري ج2 ص 83 – 87.
3- غرر الحكم: 7205، عيون الحكم والمواعظ: 395 / 6687.
4- غرر الحكم: 8706، عيون الحكم والمواعظ: 461 / 8383..
5- غرر الحكم: 7341، عيون الحكم والمواعظ: 403 / 6807.
6- غرر الحكم: 6712، عيون الحكم والمواعظ: 371 / 6263.

5/ نور القلب: فقد روي عن النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) أنه قال: أسرِعوا إلى بُيوتِكُمُ المُظلِمَةِ فَأَنيروا فيها، كَذلِكَ فَأَسرِعوا إلى قُلوبِكُمُ القاسِيَةِ بِالحِكمَةِ قَبلَ أن تَرينَ عَلَيهَا الخَطايا فَتَكونَ أقسى مِنَ حِجارَةِ.(1)

ص: 43


1- تحف العقول للحراني ص 506.

ص: 44

النقطة الخامسة: مرجع صفتي العدل والحكمة

أشرنا سابقاً(1) إلى أن هناك فرضية تقول: إن كل صفة فعل – وإن كانت عين الفعل - هي ترجع في جذرها وأساسها إلى إحدى صفات الذات، ومعه، فإلى أي صفة ذاتية ترجع صفة العدل والحكمة بعد أن كانا يعبّران عن كيفيتين إيجابيتين في الفعل؟ هل هما راجعتان إلى القدرة أم إلى شيء آخر؟

إن الصفة الذاتية التي تمثّل الجذر الذي ترجع إليه صفتا الحكمة والعدل هي العناية، التي هي شعبة من شُعب العلم، والعناية(2)

هي: علمه تعالى الذاتي تفصيلاً بالأشياء بخصوصياتها، الذي كان علة(3)

لوجودها بما لها من خصوصيات، من غير إهمال لشيء مما عَلِمه من الخصوصيات. وهذه العناية تُرجِمتْ كصفة فعل إلى الحكمة والعدل.

تنبيه مهم: في معنى التفضّل واللطف:

إذا تبين ما تقدم، لا بد من الالتفات إلى نقطة مهمة، وهي:

ص: 45


1- تحت عنوان: الإشارة الثانية: ما هو المرجع في الصفات؟
2- انظر الفصل السابع عشر من المرحلة الثانية عشرة من نهاية الحكمة.
3- أي علم فعلي قبل الإيجاد، أي إنه من مبادئ الفعل.

عرفنا أن حكمته تعالى وعدله يقتضيان: أن يعطي كل موجود ما هو مستعد له.

ونحن نعلم: أن الإنسان مهما فعل وقدّم من أعمال، فإنه يجد نفسه مقصّراً أمام الله تعالى، خصوصًا عندما تصدر منه معاصٍ(1)،

ولذا، تجده دائماً – كما علّمتْه الروايات والأدعية – يطلب المعاملة بالتفضل والجود واللطف والكرم لا بالعدل، وهكذا يطلب الشفاعة ويتوسل بالأولياء، ليخلّصوه من عواقب ذنوبه.

وسؤالنا هنا: إلى مَ يرجع التفضّل والشفاعة؟ هل هو راجع إلى الحكمة أم العدل؟ هل هو مقنّن بقانون أم لا؟ هل غفران ذنب مخطئ، أو التجاوز عن ذنبه عدل وحكمة أم جزاف وعبث؟

الجواب:

لا بد أن نعلم أولاً: أن لا شيء يُعطى للإنسان فوق قابليته، لأن قابليته ذاتي له، وإعطاؤه فوق ذاتيه يعني انتفاء حقيقته، فما يُعطى للإنسان هو وفق قابليته وبقدر سعة استعداده.

ص: 46


1- يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعائه في الاستقالة: يا إلهي لو بكيت إليك حتى تسقط أشفار عيني، وانتحبت حتى ينقطع صوتي، وقمت لك حتى تنتشر قدماي، وركعت لك حتى ينخلع صلبي، وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلت تراب الأرض طول عمري، وشربت ماء الرماد آخر دهري، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيأتي. وإن كنت تغفر لي حين أستوجب مغفرتك، وتعفو عني حين أستحق عفوك، فإن ذلك غير واجب لي باستحقاق، ولا أنا أهل له باستيجاب، إذا كان جزائي منك في أول ما عصيتك النار، فأن تعذبني فأنت غير ظالم لي.

ولكن ما يعطى للإنسان، تارة يكون معلومَ الجذر لنا، كالعناية التي هي جذر العدل والحكمة، وأخرى يكون الجذر من الأسماء المستأثرة التي لا نعلمها، وهو التفضّل والمنة. فليس التفضّل جزافاً، إنما هو وفق قانون، لكن لا نعلم جذره الذاتي وحسب.

وبعبارة: إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له هي مرتبة متوسطة ومتوازنة، لا تصل إلى الظلم والحرمان من جهة، ولا إلى العبث والجزاف من جهة أخرى، وهذا الإعطاء له شكلان: شكل اسمه العدل والحكمة – وهو معلوم الجذر الذاتي وهي العناية -، وشكل اسمه التفضل – وهو غير معلوم الجذر الذاتي، بل هو مستأثر – ولكنّ كلاً من الشكلين هو مقنن ومنظم ولا جزاف فيه.

ص: 47

ص: 48

النقطة السادسة: الإبداع في الفعل الإلهي

تقدم في مبحث سابق(1) معنى الإبداع، وتبين أن معناه هو أن الله تعالى أوجد الأشياء من العدم، من غير أن يحتذي في إيجاده ذاك على مثال سابق في مادة أو عن مثال في صورة.

وهذا يُعتبر أحد أهم خصائص الفعل الإلهي، (ويتسم الإبداع بثلاث سمات:

الأولى: إيجاد الأشياء دفعة واحدة بغير مادة، وهو ما عبرت عنه بعض الروايات: لا من شيء.

والثانية: إيجاد الأشياء لا على مثال سابق.

والثالثة: إيجاد الأشياء بغير آلة ولا استعانة بشيء.)(2)

عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَعْيَنَ يَسْأَلُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ (بَدِيعُ السَّماواتِ والأَرْضِ) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ابْتَدَعَ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِعِلْمِه عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ قَبْلَه، فَابْتَدَعَ السَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ ولَمْ

ص: 49


1- في الجزء الأول، تحت عنوان: بعض لوازم القدرة.
2- الحقائق والدقائق في المعرفة الإلهية للشيخ فاضل الصفار ج2 ص 10.

يَكُنْ قَبْلَهُنَّ سَمَاوَاتٌ ولَا أَرَضُونَ، أمَا تَسْمَعُ لِقَوْلِه تَعَالَى: (وكانَ عَرْشُه عَلَى الْماءِ)(1)

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في وصف الله تعالى: مُبْتَدِعِ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِه ومُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِه، بِلَا اقْتِدَاءٍ ولَا تَعْلِيمٍ، ولَا احْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ.(2)

ص: 50


1- الكافي للكليني ج1 ص 256 باب نادر فيه ذكر الغيب ح2.
2- نهج البلاغة ج2 ص 133.

النقطة السابعة: هل الظلم ممتنع ذاتاً على الله تعالى أو وقوعاً أو إنه غير ممتنع ولكنه لم يقع وحسب؟

اشارة

وفي الجواب عدة خطوات:

الخطوة الأولى
اشارة

لقد ثبت في مباحث التوحيد عموم قدرته تعالى وعدم تناهيها، وأنه تعالى لا يوصف بالعجز مطلقاً، ولكنّ هنا أمرين يمتنع أن يصدرا منه تعالى:

الأول: الممتنع الذاتي

كاجتماع النقيضين والضدين... وهذا لا دلالة فيه على العجز والمحدودية في الفاعل، إذ إن الممتنع هو لا شيء وعدم محض، فلا يتصور أن تتعلق به القدرة. فالمشكلة فيه لا في القدرة. وهذا ما تقدم بيانه في خصائص القدرة، فراجع.

الثاني: القابل المحدود القابلية

بحيث لا يتمكن من استلام الفيض أكثر من قابليته، والمشكلة هنا في القابل لا في الفاعل، كالإناء الصغير الذي ليست فيه قابلية أن يسع ماء البحر مثلًا.

ص: 51

ومن هذا يتبين: أن هذين الموردين (الممتنع الذاتي والقابل العاجز) خارجان تخصصاً عن عموم القدرة، وإذا ما تجاوزناهما فلا يبقى شيء إلا وهو داخل تحت عموم القدرة الإلهية.

الخطوة الثانية

إن الظلم هو حرمان المستعد مما هو مستعدٌّ له، وهو بهذا المعنى ممكن ذاتي. وإثبات إمكانه الذاتي يتم بأحد بيانين:

الأول: أن الظلم ليس من قبيل الممتنع الذاتي؛ إذ لا يلزم من حرمان المستعد محال ذاتي، ولا من قبيل العجز في القابل، إذ العجز فيه يتصور في الإعطاء لا في الحرمان. ومعه فيكون ممكناً.

الثاني: لو كان الظلم ممتنعاً ذاتياً عليه تعالى، لكان العدل واجباً ذاتياً عليه تعالى، والتالي باطل، فالمقدم مثله.

بيان بطلان التالي:

لو كان تعالى ملزماً بالعدل وكان واجباً عليه، للزم نفي الاختيار الإلهي. وهو محال.

الخطوة الثالثة

فالظلم إذن ممكن، ولكن هل هو واقع؟

اتفقت الكلمة على عدم وقوعه، على اختلاف في تخريج ذلك.

ص: 52

من جانب آخر، ليس شرطاً في القدرة أن توجِد كل ما تقدر عليه، بل نجد – حتى في أنفسنا – أن هامش القدرة أعم من المقدور، والفعل المقدور الذي تم إيجاده أخص من القدرة.(1)

وحينئذٍ نسأل: لِمَ لَمْ يفعل القادر كل ما يقدر عليه؟

ونجد الجواب فينا: أن هناك أسباباً عديدة، كالتسويف والعبث، وكالخوف من الفضيحة، والقانون، وبعض الصفات النفسانية الكمالية التي تمنع من صدور بعض الأفعال المنافية لها، كالعلم والحكمة والعقل والشرف والمروءة وغيرها، فهذه الأسباب وغيرها تجعلنا نوظف القدرة في إنجاز بعض الأفعال دون البعض الآخر.

وهذه الصفات النفسانية، وإنْ كانت راسخة في النفس وذات جذور عميقة فيها، ولكنها لا تمنع من صدور الفعل على نحو يمتنع صدوره، بل إن القدرة مع ذلك تبقى عامة لمثل تلك الأفعال وغير مسلوبة عن الإنسان، حتى يصدر الفعل ويصبح واقعاً ضرورةً... وأما قبل صدروه، فمهما كان الحافز على فعله وكيفيته فهو لا يتخطى القدرة، فبإمكانه أن لا يفعل حتى مع توفر كل مقتضيات الفعل، لا لشيء إلا لأنه قادر، وسيتم تفصيل الكلام في هذه النقطة في خطوة لاحقة إن شاء الله تعالى.

ص: 53


1- وقد تقدم بيانه في خصائص القدرة.
الخطوة الرابعة
اشارة

عرفنا أن القدرة الإلهية عامة لكل شيء، وعرفنا أنه تعالى لم يفعل كل مقدور، فلِمَ لمْ يفعل تعالى كل مقدوراته؟

إنه لا بد من مبرر لذلك، وفي المقام عدة آراء – مع اتفاق الجميع على عموم القدرة وأنه تعالى لم يفعل كل مقدور – نذكر منها رأيين:

الرأي الأول

أنه تعالى لم يفعل كل مقدور، أما أنه لماذا؟ فهذا ما لا يجوز لنا الخوض فيه، فإنه تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(1)

ويكفي أن نعلم أنه تعالى لم يفعل كل مقدور، وما فعله فهو عدل وحسن، وما لم يفعله فهو ظلم وقبيح. ومن ثم لا يمكن أن نتنبأ للمستقبل وأنه سوف يفعل كذا أو لا يفعل كذا، ولا بد من الانتظار حتى نعرف ما سيفعله مما لا يفعله.

الرأي الثاني

إنه تعالى لم يفعل كل مقدور لوجود صفة أخرى (وهي العناية) فيه تعالى هي التي تحكم القدرة وتحدّدها فتوجب صدور بعض الأفعال، كما تمنع من صدور البعض الآخر، أي هي التي تجعل بعض الأفعال يجب ويلزم ومن الضروري أن يقع، وبعض الأفعال يمتنع أن يقع. فالأول ضروري الوقوع، والثاني ضروري العدم.(2)

ص: 54


1- سورة الأنبياء (23).
2- وقد تقدم بيان هذا الرأي بعبارة أخرى فيما تقدم في الجزء الأول: خصائص القدرة: الخصيصة الثالثة: إن القدرة محكومة للحكمة.

النقطة الثامنة: مستويات العدل

اشارة

من مجموع ما تقدم، انتهينا إلى أن العدل صفة كمال للفعل، وإن هامش القدرة الإلهية – بل والإنسانية – أوسع من الفاعل، والسؤال الآن هو:

هل العدل في الفعل هو خاص بالله تعالى أم أنه مطلوب من الإنسان أيضاً؟

الصحيح هو الثاني.

والملاحظ في كلمات الأعلام أن هناك مستويات ثلاثة للعدل في فعل الإنسان، وهي:

المستوى الأول: العدل الفقهي
اشارة

ويمثل هذا المستوى الحد الإلزامي الأدنى من العدالة المطلوبة من الإنسان في فعله، وقد اختلف في تعريفه:

أ- الالتزام بفعل الواجبات وترك المحرمات

ولذا تجد أن الدين قد اعتبر المعصية ظلماً ولو للنفس، مع الالتفات إلى أن أعظم الواجبات هو التوحيد، وتركه من أعظم الظلم، يقول تعالى

ص: 55

(... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(1)

ب- مَلَكة فعل الواجبات وترك كبائر المحرمات

فلا بد أن يتحول فعل الواجب وترك المحرم إلى الملكة، أي يتوفر على دافع ذاتي لفعل الأول وترك الثاني غالباً، وقيد (غالباً) إشارة إلى أن الملكة مهما رسخت فإنها لا تسلب الإنسان اختياره، وهذا يعني إمكان صدور المعصية من صاحب الملكة، ولكن بصعوبة، ولو حصل صدورها يعقبه الندم والشعور بالتقصير والاستغفار والعمل على التدارك و...

ج- ملكة فعل الواجبات وترك كبائر وصغائر المحرمات

وهو الذي جاء في كلمات البعض بأنه الاستقامة على خط الإسلام بنحو لا يرتكب صغيرة ولا كبيرة، على شرط أن تصبح تلك الاستقامة طبعاً له وعادة.

المستوى الثاني: العدل الأخلاقي (أو العدالة الكبرى)

وهي حالة التوازن بين قوى النفس الثلاثة، ببيان:

أن شخصية الإنسان مركبة من ثلاث قوى متضادة نوعياً، وهي:

أ – الشهوة: ومهمتها الدعوة إلى جلب المنافع.

ب – الغضب: ومهمتها دفع الضرر.

ص: 56


1- سورة لقمان(13).

ج - العقل: ومهمته تمييز الضار من النافع حيث يختلط الأمر ويشتبه.

ولكل واحدة من هذه القوى أصناف وفروع، وهي بمجموعها عرضة للتوازن والإفراط والتفريط، وينتج عن ذلك:

القوة = التوازن = الإفراط = التفريط

الشهوة = عفة = شره = خمود أو خمول

الغضب = شجاعة = تهور = جبن

العقل = حكمة = جربزة = غباء

وهذه القوى متضادة (على نحو الإفراط أو التفريط) من ناحيتين:

ناحية التضاد بين فروع وأصناف القوة الواحدة.

وناحية تضاد القوى الثلاثة الرئيسية بعضها مع البعض الآخر.

فقد تسيطر الشهوة على العقل، بحيث لا تعطي للعقل ما يستحقه، وقد يسيطر العقل على الشهوة بحيث لا يعطيها حقها.

وقد تتوازن هذه القوى بعضها مع البعض الآخر، فيجمع الإنسان قدراً معقولاً من كلٍ من العفة والشجاعة والحكمة، وتصبح كفريق عمل واحد، كلٌ يعمل ما عليه، ولا يتعدى على ما للآخر من حق، وهو ما يسمى (بالعدالة الكبرى، أو العدل الأخلاقي)، وفيها يكون العقل هو الحاكم على بقية قوى النفس.

وقد روي في بيان تلك العدالة، عن شعيب العقرقوفي، عن الصادق

ص: 57

جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا اشتهى، وإذا غضب، وإذا رضي، حرم الله تعالى جسده على النار. (1)

والمهم أن التوازن لا يحصل بمجرد فهم مخطط التوازن، فكم وكم من يعلم طبيعة التوازن إلاّ أنه غير متوازن تطبيقياً، فالمهم أن يعقب الفهمَ التطبيقُ، والتطبيق لا يتأتى بمجرد قرار، بل يحتاج إلى برامج تساعد النفس على أن تكون متوازنة واقعياً.

ويأتي فعل المستحبات وترك المكروهات وإقامة الشعائر، بالإضافة إلى تنظيم التصورات والإدراكات في سياق تغذية حالة التوازن.

والحاصل:

أن كل قوة من القوى ليست فضلة وزيادة لا نفع فيها للنفس، بل هي من حيث المبدأ وجود ذو مردود إيجابي على النفس، ومن ثَمّ لم يكن مشروع العقل العملي الإيجابي هو قمع القوى واستئصالها وتفرده بالميدان؛ حيث ينتهي ذلك بالحرمان من المنافع التي يمكن أن تكتسب من تلك القوتين، لنخلص إلى أن التفريط بها غير منهجي.

تماما كما كان الإفراط بها على حساب العقل أيضاً غير منهجي، وإنما المطلوب هو التوازن بينها، بحيث يكون العقل هو القائد، وهو يقوم بإعطاء كل قوة حقها بلا إفراط ولا تفريط.

ص: 58


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 408 ح (527 / 7)

وفكرة التوازن يمكن أن تُلتقط من تشريعات السماء، فتشريع النكاح دليل على عدم توجه الشريعة إلى التفريط بقوة الشهوة الجنسية، وتحريم السفاح دليل على أن الشريعة لم تُرْخِ العنان للجنس، بل وضعت له محدِّدات يمثل عبورها إفراطاً في عمل قوة الشهوة الجنسية.

وأيضاً تشريع الجهاد دليل عناية المشرِّع بقوة الغضب، وعدم التعامل معها كوجود زائد لا فائدة منه، كما أن تحريم القتل عدواناً (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)(1) يمثل تحديداً في إعمال قوة الغضب وعدم السماح لها بالتمادي.

إن شريعة السماء، بل عموم الشرائع نحت منحى التوازن في عمل القوى، فلم تدْعُ إلى الإفراط أو التفريط في الشهوة والغضب، وهو منطقي بعد أن كانت النفس بحاجة إلى قوتي الشهوة والغضب في إدارة مملكة النفس، فكان المنهجي توظيفهما جنوداً لدى العقل العملي في مهمته.

لم تدْعُ الشريعة إلى كبت، أو إلى قتل، أو إلى إقصاء، أو إلى اقتلاع قوة من قوى الشهوة والغضب، بل تعاملت مع الكل على أنها قوة مفيدة، ولكن من دون فتح الباب على مصراعيه، بل ضمن محددات.

إذن، الفضيلة ليست في ترك القوة سائبة تأخذ راحتها بما تطلب، وهو واضح، كما أن الفضيلة ليست في ترويض النفس بحد ينتهي بقتل قوة من

ص: 59


1- المائدة (32).

القوى، كما تصنع بعض الرياضات، بل الفضيلة في الاستفادة من كل قوة بحد معقول لا يؤثر على عمل بقية القوى، وهو التوازن، وهو تعبير آخر عن عمل القوى كفريق متجانس بإدارة العقل العملي بهدي العقل النظري باختيار الإنسان ذلك.تنبيه:

أكدت بعض الروايات على أن فعل المستحبات وترك المكروهات يمثل حريماً لإيمان المؤمن وحاجزاً واقياً له، ومن هنا قيل بأنه يشكل على الإنسان أن يعمل بالواجبات ويترك المحرمات فقط، أي من دون أن يفعل أي مستحب أو يترك أي مكروه، ففعل المستحبات وترك المكروهات في الجملة فيه جنبة إلزام على المستوى الأخلاقي على الأقل، وهذا أمر يحتاج إلى متابعة فقهية.

المستوى الثالث: العدل الاجتماعي

يُمكن تصوير هذا المستوى بالآتي:

هذا العالم بتنوعه وسعته عبارة عن إنسان بحجم كبير، بمعنى أن فيه قوى الشهوة والغضب والعقل. ولكنها موزعة على الشرائح الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية عبارة عن العدالة الأخلاقية لكن في المجتمع لا في الفرد، فالمجتمع المتوازن في هذه القوى فيه عدالة اجتماعية، أما المجتمع المستبد، فهو ما تحكمت فيه قوة الغضب، وأما المجتمع الذي أباح الشذوذ الجنسي مثلاً، فهو ما تحكمت فيه قوة الشهوة... وهكذا

ص: 60

وقد دعا القرآن الكريم إلى هذا المستوى من العدل في العديد من الآيات القرآنية، وأشار إلى أن هذا المستوى هو هدف إرسال الأنبياء، قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(1)

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)(2)

وقد أشار في بعض الآيات إلى بعض شروط تلك العدالة، والتي من أهمها الإيمان والتقوى، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)(3)

هذا، وقد وعد بتحقيق العدالة الاجتماعية على الأرض بظهور مهدي آل محمد (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) مشيراً إلى واحدة من أهم بركات ظهوره، ألا وهي العدالة الاجتماعية. قال تعالى (وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(4)

ص: 61


1- سورة الحديد(25).
2- سورة النساء(58).
3- سورة الأعراف(96).
4- سورة النور(55).

ص: 62

النقطة التاسعة: الحق وإطلاقاته

اشارة

من أسماء الله تعالى التي جاء التصريح بها في آيات عديدة هو اسم (الحق)، والحق (يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل)(1)

وإذا استعمل الحق اسمًا لله تعالى، فهو يأتي بمعنيين:

المعنى الأول: صفة ذاتية

فالحَقُّ: (من أسماء اللهِ تَعالَى، أو من صفاتِه قالَ ابنُ الأثِيرِ: هو المَوجُودُ حقيقةً، المُتحَققُ وجُودُه وإلهِيته)(2) بمعنى أنه تعالى موجود ووجوده عين ذاته لا أنه شيء مفاض عليه من علة أخرى.

قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ)(3)، وقال تعالى (فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(4)

ص: 63


1- معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (حق)
2- تاج العروس للزبيدي مادة (حقق).
3- الحجّ: 6 وراجع: الحجّ: 62 والكهف: 44 ولقمان: 30 وفصّلت: 53.
4- المؤمنون 116
المعنى الثاني (وهو المقصود هنا في بحثنا في العدل الإلهي): إنه صفة فعلية
اشارة

بمعنى أنه تعالى عندما يفعل فعلًا ما، فإن فعله الحق، أي الفعل المتقن الذي لا خلل فيه ولا عوج معه، فلا نقص ولا عبث ولا جزاف ولا باطل ولا ظلم في فعله، لأن كل هذه الصفات هي خلاف الحق.

وإليه الإشارة في العديد من الآيات، ومنها:

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).

(واللهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيء إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

(مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ).

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَبِ لَفِي شِقَاقِ بَعِيد).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

وهنا إشارتان:

الإشارة الأولى: إطلاقات الحق
اشارة

بمتابعة الكلمات اللغوية يمكن أن نتعرف على إطلاقات (الحق)، وهي التالي:

ص: 64

الإطلاق الأول: الحق بمعنى الواقع

أي الواقع الخارجي نفسه، فهو حق وواقع وموجود، خلافًا لمنكري الواقع، على اختلاف مشاربهم –من إنكار الواقع بالجملة أو إنكار بعض الواقعيات كإنكار الوجود المجرد، أو إنكار إمكان التعرف عليه-.

وهذا المعنى يصدق على الذات المقدسة، إذ إن الله تعالى موجود حقيقة وواقع لا يقبل النفي كما دلت عليه الأدلة العقلية القطعية.

الإطلاق الثاني: الحق بمعنى الاعتقاد المطابق للواقع

حتى يتبين معناه نذكر التالي:

أ: إننا وبعد الاعتراف بأن هناك واقعاً، يأتي السؤال: هل يمكن أن نُدرك الواقع أو أنه مغلق علينا؟

المدرسة الواقعية على إمكان التعرف على الواقع بالوجدان.(1)

ب: إن الواقع الحقيقي الخارجي واحد لا يقبل التعدد، فالجو الآن إما ممطر أو غير ممطر، وزيد إما جاء من السفر أو لا، وهكذا في كل الواقعيات. وإنما يقع الخطأ حينما نحكم على الواقع بغير الحكم الحقيقي الواقعي فعلًا.

ج: ومعه، فيكون الاعتقاد المطابق للواقع هو الثابت والمتحقق، وهو ما يُطلق عليه الاعتقاد الحق، أما إذا كان الاعتقاد غير مطابق للواقع، فهو باطل وغير ثابت وغير متحقق.

ص: 65


1- وهذا ما تمت الإشارة إليه في بداية هذه الدروس.

(يعني أن بعض اعتقادات الأفراد تكون (حقة) ومطابقة للواقع، وبعضها تكون باطلة ولا تطابق الواقع...)(1)

فالاعتقاد بوجود الله تعالى هو اعتقاد مطابق للواقع، فيُقال عنه: إنه اعتقاد حق، والاعتقاد بألوهية فأر أو ثور هو اعتقاد باطل ومخالف للواقع.

قال تعالى (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ)(2)

الإطلاق الثالث: الحق بمعنى الكلام المطابق للواقع

فالحق (هو الكلام المطابق للواقع، فالكلام يختلف عن الاعتقاد، لأن الاعتقاد أمر يرتبط بالقلب، أما الكلام فهو من سنخ اللفظ ويرتبط باللسان، فمن الممكن أن يقول شخصٌ كلامًا وهو لا يعتقد به، فالاعتقاد والكلام يختلفان من هذه الجهة...)(3)

وعادةً ما يُطلق على الكلام المطابق للواقع بأنه كلام صادق، وعلى غير المطابق بالكاذب.

وهذه المعاني الثلاثة كلها ناظرة إلى الواقع ومطابقته اعتقادًا أو كلامًا فيكون حقًا، أو عدم المطابقة فيكون باطلًا.

ص: 66


1- النظرية الحقوقية في الإسلام للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ج1 ص 69.
2- يونس (32).
3- النظرية الحقوقية في الإسلام للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ج1 ص 70.
الإطلاق الرابع: الحق بمعنى الفعل الحكيم

فالحق يُطلق ويراد منه (الفعل الصادر من شخص حكيم وله هدف لائق رفيع، وفي المقابل يُطلق على الفعل الذي ليس له مثل هذا الهدف اسم اللهو أو اللعب أو اللغو أو الباطل)(1)

وهذا الإطلاق يصح على فعل الله تعالى، ففعله جل وعلا حقٌ بمعنى أنه فعل من حكيم وله هدف. وهو ما أكّدته الآيات العديدة التي ذكرنا بعضها قبل قليل.

الإطلاق الخامس: الحق الاعتباري (بمعنى الاستحقاق)

وهو الذي يكون للدائن على المدين مثلًا، أو للأب على أولاده مثلًا، فيكون هناك صاحب حق، ويلزم على الآخر أن يؤدي له حقه.

وهذا المعنى هو ما تقدم في المعنى الثالث للعدل، وقلنا: إنه لا يمكن أن نتصوره مع الله جل وعلا، إذ ليس للإنسان أي حق على خالقه جل وعلا، وبالتالي فليس معنى كونه تعالى عادلًا هو أنه يُعطي لكل ذي حق حقه، إذ لا حق لغيره عليه.

الإشارة الثانية: ما هو منشأ الاستحقاق؟
اشارة

هذه الإشارة متعلقة بالإطلاق الخامس للحق (الاستحقاق)، فكيف يُصبح لي حقٌ عليك أو بالعكس؟ هذا ما يحتاج إلى منشأ، فما هو منشأ الحقوق

ص: 67


1- النظرية الحقوقية في الإسلام للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي ج1 ص 70.

التي عليها انتظمت أمور الحياة كما هو الملاحظ وجدانًا؟

منشأ الاستحقاق

الاستحقاق مشتق من الحق، والحق شيء يرجع معناه إلى درجة من الملك الضعيف، باعتبار أن الملك من المفاهيم المشككة ذات الدرجات والمراتب:

فهناك ملك قوي، وهو الملك التكويني، كملك الإنسان لأعضاء بدنه، وملك الله تعالى لمخلوقاته.

وهناك ملك متعارف، تقول: أنا أملك هذا البيت، أنا أملك هذا الكتاب، وكذا.

وهناك ملك ضعيف، كملك حق الشفعة والنفقة وما شابه.فالاستحقاق إذن فرع الملكية، ومعه، فكيف نشأت شبكة الاستحقاقات المتبادلة في الحياة؟

الجواب: ضمن عدة خطوات

أ: إن الإنسان موجود فقير محتاج في هذه الحياة، فهو خرج في هذه الدنيا ووجد نفسه انه لا يستطيع أن يسدّ جميع احتياجاته ويلبيها لوحده، فإن عمره أقصر من أن يُتقن كل شيء، وقدراته محدودة جدًا، وبالتالي فهو فقير بمعنى الكلمة.

ب: ولذلك، فقد نشأت الحاجة من الفرد إلى أن يستعين بالآخرين من أفراد نوعه، وبالتدريج عمل الإنسان على تقسيم الأعمال فيما بين الأفراد،

ص: 68

لينشأ مفهوم التخصص في العمل، وكلُ فرد مطلوب منه أن يُتقن تخصصه ويُقدم الخدمات في مجاله الخاص.

ج: إن هذا العطاء للآخر –حينما يستعين الآخر بالفرد- لم يكن مجانيًا، وإنما هو يولّد (المديونية) على الآخر، فعندما يُقدم لي أبي النفقة مثلًا، فقد أصبحتُ مديونًا له إزاء هذه الخدمة التي قدّمها لي، أي إنه مَلَك في ذمتي ما يُقابل عطاءه له، وهذا هو (الاستحقاق).

من هنا نفهم: أن الاستحقاق هو نوع من أنواع (السلطنة والملك)، وأنه نشأ أصلًا من (الحاجة) والعجز من طرف محتاج إلى آخر مستغنٍ من هذه الجهة، فالحاجة والعجز يؤديان إلى الطلب من الآخر ليكون الآخر فيما بعد صاحب حق عليّ، والعكس بالعكس، عندما يكون الآخر محتاجًا إليّ.

وهذه الحاجة قد استغرقت كل أفراد البشر، لذلك كان لا بد من القانون لينظم هذه الحقوق المتبادلة، وليمنع الاستغلال والفوضى والاستخدام من طرف واحد من دون وفاء للطرف الآخر. فجاء القانون لينظم (حق الحياة) و (حق النفقة) و (حق السكن) و (حق المواطنة) وما شابه.

وباختصار: الاستحقاق ناشئ من المديونية، والمديونية تفرز إلزامًا على الطرف المحتاج إلى الآخر. وكل ذلك نشأ من الحاجة إلى الآخر ومحدودية المحتاج.

ص: 69

إذا اتضح هذا نقول:

لا شك أن هناك شبكة من الاستحقاقات المتبادلة بيننا نحن بني البشر، ولكن هل يوجد استحقاق لنا على الله تعالى؟

الجواب:

قد ثبت أننا محتاجون إلى الباري جل وعلا حدوثًا وبقاءً، في أصل وجودنا وفي اتصافنا بالصفات وفي أفعالنا كذلك، ونحن ملك تكويني له جل وعلا، وهو تعالى غني مطلق عن العالمين، وهذا يُنتج بكل وضوح: أنه لا استحقاق مطلقًا لنا عليه جل وعلا.

بل الأمر بالعكس تمامًا، فإن له تعالى كل الاستحقاقات علينا، إذ كل ما عندنا هو منه جل وعلا، فنحن مدينون له بكل وجودنا، وكونه تعالى غنيًا مطلقًا ينفي حاجته إلينا، ولكنه لا ينفي استحقاقه علينا، لذلك لزمنا أن نوفي له حقه بالمقدار الممكن لنا.

من هنا، يمكن أن نفهم ما روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق من قوله: (اعلم رحمك الله: أن لله عليك حقوقًا محيطة بك في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلّبتها وآلة تصرّفت بها، بعضها أكبر من بعض. وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقِّه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرع...)(1)

فأصل الحقوق هو حق الله تبارك وتعالى، إذ هو استحقاق من طرف

ص: 70


1- تحف العقول للحراني ص 255.

واحد، هو الطرف الغني المطلق، باتجاه الطرف الفقير المطلق.

أما الحقوق التي بيننا فهي حقوق بمقتضى ما أمرنا الله عز وجل بأدائه إلى الآخرين، فمنشأ وجوب النفقة على الزوجة والأولاد مثلًا هو أمر الله تعالى، ومنشأ حق الحياة للآخر هو أمر الله تعالى باحترام حياته، أما إذا أجاز الله تعالى سلب حق الحياة من الآخر فهو جائز لنا بلا أدنى ريب، كما هو الحال في الحيوانات والنباتات، إذ لنا الحق في قتلها وسلب حياتها وفق القانون الشرعي الذي أجازه الله تعالى لنا، ولذا يجوز لنا أكل المحلّل منها وإن استلزم إزهاق روحه.

إذن: الاستحقاق موجود من طرف الله تعالى بإزاء عبيده في كل شيء، لأن العبد محتاج حدوثًا وبقاءً، ذاتًا وصفة وفعلًا، مما يعني أن العبد مدين في كل شيء لله تعالى، وهو تعالى غني مطلق، فلا يملك العبد عليه شيئًا مطلقًا، فليس هناك أي استحقاق من جهة العبد نحو الله تعالى بمعنى المديونية، ولو كان هناك حق للعبد على الله تبارك وتعالى فهو من باب اللطف والكرم والجود من الله تعالى، لا من باب الاستحقاق.

نعم، الله عز وجل تعامَلَ معنا على أننا أصحاب حق معه، رغم أننا لسنا كذلك، كما تقدم بيانه.

ص: 71

ص: 72

النقطة العاشرة: نتائج مناهج التفكير لدى الأشاعرة والمعتزلة والإمامية

اشارة

يمكن استخلاص ثلاثة مناهج للتفكير، أنتج كل منها نتائج متعددة، خصوصًا فيما يتعلق ببحث الفعل الإلهي:

نتائج المنهج الأول: للأشاعرة

وقد انتهى إلى المقولات التالية:

1 – لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، والذي يسمى بالتوحيد الفاعلي، أو التوحيد في الخالقية. وهو المستنبط من قوله تعالى (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(1) وأمثاله.

2 – أن العبد مجبر في أفعاله، ولا يملك اختياراً ولا إرادة ولا قدرة على فعله أو عدمه، وهذه المقولة جاءت كنتيجة طبيعية للمقولة الأولى، إذ ما دام الخالق الوحيد لكل شيء – بما في ذلك فعل الإنسان – هو الله تعالى، فالعبد إذن مجبر على أن يفعل أو لا يفعل. وهو مجرد محل لصدور الفعل لا أكثر، وإلا كان شريكاً له تعالى في الخالقية.

ص: 73


1- سورة الزمر (62).

3 – إنكار الحسن والقبح الذاتيين للأشياء. فالأشياء إنما تكتسب قيمتها من فعله تعالى لها، فما فعله كان حسناً، وما لم يفعله كان قبيحاً. وهو ما عبّرنا عنه سابقاً بأن الفعل يكون (مقنِّناً) بصيغة اسم الفاعل.

وينبغي الالتفات إلى أن واحدة من النتائج المترتبة على هكذا مقولة هي محاولة تمرير ظاهرة ثابتةً قرآناً وسنةً، وهي ظاهرة عقوبة العاصي، فالفعل – المعصية مثلاً – ليس فعل العبد – وإلا لزم الشرك – بل هو فعل الله تعالى، وحينئذٍ لو عاقب المطيع أو أثاب العاصي فهو فعل حسن لأنه تعالى فعله، وإن كان العبد مجبراً على فعله. وسيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.

4 – أن كل ما يفعله تعالى فهو عدل، حتى وإنْ كان مثل إدخال الأنبياء النار أو إبليس الجنة، فليس هناك ظلم منه تعالى، وإن قالوا: إنه تعالى لم يقع منه ذلك، ولكنه أمر ممكن عندهم، فلو فعله تعالى فهو حسن وإن كان العقل يحكم بقبحه.

5 – أن أفعال الله تعالى لا تُعلَّل بالأغراض، إذ السؤال عن الغرض فرع القانون السابق الذي يحكم الفعل، وحيث لا قانون سابقًا على فعل الله تعالى، فلا غرض فيه. بمعنى أنه لا يجب أن يكون لفعله تعالى غرض نافع أو هدف محدد، فلو فعل ما لا غاية عقلائية فيه، أو ما فيه عبث وجزاف، بل لو فعل ما هو ظلم، فلا إشكال من هذه الناحية.

6 – إنكار ضرورة وجود المصالح والمفاسد في الأحكام الشرعية أو المتعلقات، بل المصلحة هي نفس الفعل وإن كان عبثيًا أو جزافيًا، فلا يوجد

ص: 74

أساس سابق على الفعل يكون الفعل مستندًا إليه ومعتمدًا عليه، كما قال الإمامية بأن هناك مصالح واقعية كانت هي السبب في الأمر الإلهي، وأن هناك مفاسد واقعية كانت هي السبب وراء النهي الإلهي.

وهذا المنهج وإن قبل العدل الإلهي، لكنه قبله على أساس أن الفعل هو الذي يؤسِّس للعدل لا أنه مؤسَّس على العدل.

نتائج المنهج الثاني: للمعتزلة

ومقولاته هي:

1 – أنه تعالى خالق كل شيء عدا فعل الإنسان. إذ إن فاعله هو الإنسان حصراً، ولا مدخلية لله تعالى فيه.

2 – وهذه المقولة أنتجت ما يسمى ب- (التفويض)، الذي هو عبارة عن الإيمان باختيار الإنسان بشكل مفرط بحيث أنه لا علاقة لله تعالى به، إلا بحدود إيجاد قوة الاختيار وحدوثها. فالله تعالى يوجد الإنسان ويعطيه صفة الاختيار، ثم يرفع يده عنه، بحيث لا يتدخل بعده في أي فعل من أفعال الإنسان، بل بعضهم ذهب إلى أنه تعالى غير قادر على أن يتدخل في تغيير فعل الإنسان!

ومن الواضح أن هذه المقولة تعني تحديد قدرة الله تعالى، وقد حمل القرآن على هذه المقولة في قوله تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ

ص: 75

وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء...)(1)

3 – الإيمان بالحسن والقبح في فعل الإنسان، فهناك قيم ذاتية للأفعال على أساسها يتم تقسيم الفعل الإنساني إلى حسن وقبيح، فهناك أساسات واقعية للحسن والقبح بحكم العقل بها، ولو لم تكن هناك شريعة.

4 – وقد قاس أصحاب هذا المنهج الفعل الإلهي على الفعل الإنساني، وعمّموا الحسن والقبح إلى الفعل الإلهي. فهناك أساسات واقعية على أساسها يفعل الله تعالى، وهي الملاكات الواقعية للأفعال الإلهية.

5 – وعليه، فالعدل هو ما ينبغي للإنسان أن يفعله. وما ينبغي لله تعالى أن يفعله.

6 – أن فعله تعالى معلَّل بالأغراض، فما دامت هناك أساسات للحسن والقبح، إذن، هو تعالى يفعل لغاية وغرض وهدف، ولا يفعل أمرًا عبثًا أو جزافًا أو ظلمًا.

7 – تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد كما تبين.

والملاحظ أن هذا المنهج أخذ المنحى المعاكس تماماً للمنهج الأول.

نتائج المنهج الثالث: للإمامية

ومقولاته هي:

1 - لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، فكل شيء – بما في ذلك فعل

ص: 76


1- سورة المائدة(64).

الإنسان الاختياري – هو خاضع لقدرته تعالى وإرادته.

2 – ولكن لا بحدِّ الجبر وسلب إرادة الإنسان كما قال المنهج الأول. ولا بحدِّ الاستغناء عن الله تعالى وعدم قدرته تعالى على التدخل كما قال المنهج الثاني، بل بحدِّ الأمر بين الأمرين.

3 – الإيمان بالحسن والقبح العقليين في فعله تعالى، فالفعل الإلهي (مقنَّن) بصيغة اسم المفعول، أي إن الفعل الإلهي يعتمد على أساسات سابقة، هي الأصل والأساس لفعله تعالى.

4 – قبول العدل الإلهي، فما فعله تعالى إنما فعله لأنه وجده حسناً وعدلاً سلفاً، وما لم يفعله لم يفعله لأنه تعالى وجده قبيحاً وظلماً سلفاً.

5 – أن أفعاله تعالى معللة بالأغراض.

6 – تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

ملحوظة:

يبدو أن الرؤية المنسوبة إلى الأشاعرة اُبتُليت بأمرين:

1/ الضعف العقلي.

2/ التعامل مع القرآن الكريم بطريقة انتقائية، (لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون) مع التعامل مع ظاهر الآيات بدون ربطها ببقية الآيات والروايات الواردة في نفس الموضوع.

مع التنبيه على أن جميع الفرقاء اتفقوا على أنّ ما فعله تعالى فعلًا هو الحسن

ص: 77

والعدل، لا القبيح والظلم، وأنه تعالى لم يفعل قبيحًا ولا ظلمًا، ولكن الخلاف في الإمكان، فالأشاعرة على أنه تعالى يمكن أن يفعل القبيح، ولو فعله حينئذٍ صار حسنًا، أما نحن فنقول: إنه تعالى لا يمكن أن يفعل القبيح، لا لأنه لا يقدر عليه، وإنما لأنه حكيم، والحكيم لا يفعل القبيح ولو كان قادرًا عليه، كما سيتبين أكثر إن شاء الله تعالى.

فالفرق أننا نقول: هو حَسَن ففَعَله، وهم يقولون: فَعَلَه فهو حسن. ولو كان في واقعه قبيحًا.

فالنقاش الحقيقي إذن ليس في ما صدر فعلًا من الفعل الإلهي، وإنما في الإمكان، أما ما صدر فعلًا منه تعالى فالكل متفق على أنه حسن لا قبيح.

ص: 78

النقطة الحادية عشرة: لماذا لا يصدر الفعل؟

اشارة

إن صفات الله تعالى لا متناهية، أي لا حد لكمالاتها، وهي التي تؤسس لصدور الفعل، إذ الذي يؤسس لصدوره هي صفات العلم والقدرة والحكمة و... وحيث إنها كاملة بكمال لا متناهي، إذن لا نقص في فعله أبدًا، ولو كان خلل فهو في القابل لا في الفاعل، إذ إنما يكون الإشكال في الفاعل لو كان محدودًا، كأن يكون جاهلًا في جهة معينة، أو يكون جاهلًا في مكان معين، أو عاجزًا في مكان معين، والحال أن الواجب جل وعلا هو لا متناهي من كل الجهات، وحينها:

فعدم صدور الفعل يكون لأحد أسباب ثلاثة:

1/ أن يكون الفعل ممتنعًا بالذات، فيكون لا شيء، فلا يكون متعلقًا للقدرة، لأنه عدم وبطلان وهلاك. فلو أُريد خلقه، فإن وُجد، فهو ليس ممتنعًا بالذات، وهو خلف، وإن لم يوجد، فهذا معناه أن الخلل فيه.

ومن هذا القبيل ما روي عن عن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز،

ص: 79

والذي سألتني لا يكون.(1)

2/ أن يكون الفعل ممكنًا، لكن القابل فيه مشكلة ما، كالبذرة التي تلقيها في أرض غير صالحة للزراعة، فالخلل في الأرض لا في البذرة. فرغم وجود الإمكان، لكن الأرض تحتاج إلى إصلاح. (فقدان شروط قابلية القابل، فالقابل يحتاج إلى شروط، لو لم تتوفر فلا يوجد أو لا يتصف)

فالسفسطائي مثلًا يمكنه أن يصل إلى القطع بالواقع، وإنما يمانع من وجود الواقع مثلًا لوجود شبهة عنده.

وهنا سؤال: هل شرطٌ في القدرة كي تكون قدرة واقعية وحقيقية أن تمارس المقدور؟ أو إنه يمكن لجملة من المقدورات أن لا يمارسها القادر مطلقًا رغم قدرته عليها؟

الجواب: من الواضح أنه لا يشترط ممارسة جميع المقدورات، فلا القدرة تتقوم بذلك، ولا إثبات وجود القدرة متوقف على ذلك.

فليس شرطًا في القدرة كي تكون قدرة أو كي تثبت القدرة -في جميع الحالات- أن يمارس القادر المقدور كله.

والوجدان أوضح شاهد، فأنت ترى نفسك قادرًا على الكثير من الأمور، ولكنك لا تفعلها، بل ربما لا تفكر في أن تفعلها.، الفعل هو ترجمة للقدرة، وليس هو المثبت لها، نعم الفعل ينفع لإثبات القدرة في بعض الحالات، [أي

ص: 80


1- التوحيد- الشيخ الصدوق- ص 130 باب القدرة ح9.

إنه لأجل إثبات وجود القدرة على الفعل قد يحتاج القادر إلى أن يفعله حتى يثبت أنه قادر عليه]، وإلا فالصفة الذاتية لا يتقوّم وجودها وإثباتها بأثرها.(1)

3/أن لا يكون الشيء ممتنعاً بالذات، ولا مشكلة في القابل، ولكن مع ذلك لم يفعله القادر، فهنا يأتي السؤال: لماذا لم يفعله؟

لننظر إلى عدم صدور الفعل فينا أولًا

هنا احتمالات:

أ: أن لا يفعله لأجل المحدودية في القدرة.

أي وجود قوة تجبره على عدم إصدار الفعل.

ب: أن لا يفعله لأجل الجزاف واللعب والفوضى واللهو.من دون وجود قوة تجبره على عدم الفعل، رغم وجود كل العوامل المنطقية لصدور الفعل، ولكنه لا يفعله عبثًا...

ج: أو للأنانية أو التعصب أو النزعة القبلية.

وغيرها من الأمور التي تدخل تحت (الظلم) ومنطق الحرمان والسلب.

د: أو لأجل التراخي في عدم الفعل.

بحيث يصل إلى مرحلة لا يستطيع بعدها أن لا يفعل (وهو أشبه بالجبر) بأن يصل إلى نقطة اللا عودة. كمن يأخذ قرارًا باختياره، ولكنه بعده لا

ص: 81


1- وهذا كله تقدم في خصائص القدرة، فراجع.

يستطيع أن يتراجع عنه، أشبه بالمسبّب التوليدي، كمن رمى حجرًا، فبعد رميه للحجر لا ينفع الندم، ولا يستطيع أن يلغي الرمي...

وهذه الفرضية لا تخلّ باختيار الإنسان، إذ إنه وصل إلى نقطة اللا عودة، وإن كانت بداية الفعل باختياره. فالإنسان هنا لمحدودية اختياره يفقد اختياره (إذ بداية الفعل بيده لكن النهاية ليست بيده).

القانون أعطى معادلًا لهذه الحالة: وهو قانون تحميل مسؤولية الفعل (المسبب التوليدي)، رغم فقدان اختياره، لكن هذا الفقدان كان بسببه واختياره، فإذا رميت أحدًا من شاهق، ثم ندمت على ذلك قبل أن يرتطم بالأرض، فهذا الندم لا ينفع، وأنت تتحمل مسؤولية القتل وهذا الفعل، بل القانون الشرعي قال: أيما عبد من عباد الله سن سنة هدى كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وأيما عبد من عباد الله سن سنة ضلال كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.(1)

فالإنسان يتحمل آثار فعله الذي لا يستطيع أن يتراجع عنه، لأن بدايته باختياره، وهذا بسبب محدودية القدرة والاختيار. ولذلك فالعقل يحكم بضرورة التأمل بالفعل قبل صدوره وخروجه عن محوّطة القدرة. ومن هنا اكّدت العديد من النصوص على ضرورة التأني في الأمور وعدم الاستعجال بها حتى لا يقع المرء فيما لا تُحمد عقباه، فقد روي عن أبان بن تغلب قال:

ص: 82


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 132 والرواية عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام).

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مع التثبت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة، ومن ابتدأ بعمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه.(1)

وكل هذه الأسباب تعبر عن (محدودية في القدرة) فالعبث والظلم والعجز... كله يعبر عن محدودية في القدرة.

ه: أن لا يفعل للجهل.

و: أن لا يفعل (أو يفعل) لحكمة عند الإنسان.

فالحكمة (صفة كمالية ذاتية) هي التي تحدّ من القدرة، بلا عامل خارجي يجبره ولا عبثًا ولا ظلمًا ولا جهلًا... فالحكمة هي التي تقول: لا يجب فعل كل مقدور. فالقادر فيه صفات كثيرة، ولكن توجد صفة بين الصفات هي حاكمة على بقية الصفات، وهي التي ستكون المفتاح والمنظّم للفعل.

إن تنظيم الصفات وممارساتها يكون تبعًا للصفة الحاكمة على بقية الصفات. أي إنه تابع لمعادلة الصفات النفسانية، فالحكمة مثلًا هي الحاكمة في صفات الفعل الإنساني، وهذا يحكي عن نوع من التوازن بين الصفات، رغم أنه يحدّ القدرة. كالتاجر الذي يستطيع أن يقوم بالكثير من العقود التجارية لكنه لا يفعلها لحكمة ما، فهو الذي يحدّد قدرته لحكمته، فهذا لا يخلّ بالقدرة، ولذلك فتحديد القدرة بالحكمة مورد للمدح لا للذم كما كان تحديد القدرة بالظلم أو العبث وما شابه مما تقدم.

ص: 83


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 100.

هذا فينا.

أما في الله تعالى، فالأسباب الخمسة الأولى كلها تحكي عن نقص كما اتضح، والله عز وجل لا محدود القدرة، فينحصر الأمر بأنه لا يفعل أو يفعل عن حكمة، فالحكمة فقط هي ما تحدد القدرة الإلهية(1)، وهذا يحكي عن التوازن في الصفات، وهو كمال في حدّ نفسه رغم أنه يحدد القدرة، لكنه تحديد كمالي لا نقص فيه. فهذا هو الكمال المطلق.

فالفاعل ما زال قادرًا على الفعل وزمامه بيده إلى آخر لحظة، ولكنه قد لا يفعل بعض الأفعال التي يقدر عليها لأجل حكمة هو يراها بعلمه اللامتناهي.

ص: 84


1- هذا على رأي فلسفي، وهناك رأي فلسفي آخر يقول بأن المحدِّد هو الاختيار الإلهي لا غير، نعم، نحن نعلم أنه تعالى لا يختار إلا ما هو حكيم، وتفصيله في محله.

النقطة الثانية عشرة: القوانين التفضيلية للإنسان

اشارة

شاء الله عز وجل أن يجعل العالم يسير وفق نظام العلة والمعلول، وبقوانين ثابتة تكوينية، لتنظيم الكون عمومًا، وبالإضافة إلى القوانين التشريعية الخاصة بالموجودات المكلّفة، وعلى رأسها الإنسان، وكلامنا الآن في القوانين التي جعلها الله تعالى في الإنسان، والتي تمثل تفضيلًا له دون غيره من الموجودات، وهي عديدة، نذكر منها التالي:

القانون الأول: الاختيار

هو مميز وامتياز، افتقدته سائر الموجودات الأرضية. فهو مميز (ما به الامتياز أو مائز)، بل هو (امتياز وعلاوة وتفضيل)

أما بالقياس إلى غير المختار فواضحٌ تميّزه وامتيازه. فغير المختار ما هو إلا (آلة)، تعمل من دون اختيار ولا علم ولا إرادة، أما الإنسان فهو يعمل باختياره المسبوق بعلمه، فالذي ميّز الإنسان عن غير المختار من الموجودات هو اختياره، وهذا رهان عظيم على الإنسان أن يحافظ عليه، ومن هنا ورد النهي عن أن يكون الفرد (إمّعة) لأن الإمّعة يتنازل عن امتيازه، لذلك كان الإنسان ينفر من الآلية (العبدية، الاستغلال، التبعية، تعمل لغيرك لا لأجل

ص: 85

نفسك!) لأنها تبعده عن واقع وجوده الذي ميّزه عن الجمادات.

وفي ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه [وآله]: لا تكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإنْ ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إنْ أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا.(1)

وهنا سؤال: أين امتياز الإنسان عن الموجودات المختارة (الحيوانات والملائكة)؟

الجواب:

إن اختيار الإنسان يفترق عن اختيار الحيوان بأن له أدوات تجاوز معها حدود الزمان والمكان، أما اختيار الحيوان فهو أشبه بتصريف الأعمال لا غير، لذلك لم تتطور حياة الحيوان، لأن اختيارها كان وفق نظام ثابت لا يتغير ونمط محدد لا يختلف (كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا، وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا)(2)

إن اختيار الإنسان جعله يتطور من إنسان بدائي زراعي وإنسان كهوف، إلى إنسان ما بعد الحداثة، فحياته حياة تكاملية، يحلّل المعلومات، ويستنتج نتائج جديدة...

والتغيير لدى الحيوان معدوم، ولو حصل فهو نادر جداً، وتحت ظروف خاصة، كتدريب حيوانات السيرك وما شابه.

ص: 86


1- الترغيب والترهيب للمنذري ج3 ص 341 ح 3812.
2- من كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام)، نهج البلاغة ج3 ص 72.

أما فرق اختيار الإنسان عن اختيار الملائكة (بناءً على كون الملائكة مختارة) فهو: أن اختيار الإنسان محاطٌ بالألم والتعب والنصب، لأن الإنسان مركب من متضادات، أما الملائكة فليس فيها إلا الخير والعقل، ولا وجود للمتضادات فيها.

قال تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(1)

أي: (أيها الانسان إنك في امرك بشدة ومشقة إلى أن تلقى جزاء عملك من ربك، فأنت لا تخلو في الدنيا من مشقة، فلا تعمل لها، واعمل لغيرها فيما تصير به إلى الراحة من الكدح...)(2)

وإلىٰ هذا المعنىٰ أيضاً يُشير ما روي عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: «قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام): إنَّ الله تعالى ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم»(3).

فاختيار الإنسان وإرادته مميز وامتياز له على سائر الموجودات الأخرى، وإنما يكون كذلك إذا أعمله بصورة صحيحة ونجح في الاختبارات رغم

ص: 87


1- الانشقاق (6).
2- التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي ج10 ص 309.
3- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 4 و5/ باب 6/ ح 1).

الألم والتعب.

القانون الثاني: تكريم بني آدم
اشارة

يُصرّح القرآن الكريم بأن الله تعالى كرّم بني آدم على غيرهم من مخلوقاته، والآيات في ذلك عديدة، فكقاعدة عامة يقول عز من قائل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(1)

فهذا تكريم عام يشمل كل بني آدم في قبال بقية المخلوقات، أما ما هو هذا التكريم العام وما هي مصاديقه؟ فهذا ما ذكرته الآيات القرآنية الأخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعض تلك المصاديق:

المصداق الأول: الخلافة

فإن الله تعالى جعل خليفته على الأرض من بني آدم، لا من الملائكة ولا من الجن ولا من غيرهم، قال تعالى (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(2).

ولا شك أن الخلافة هي أشرف وأقدس مقام يمكن أن يحصل عليه المخلوق من الله تعالى.

ص: 88


1- الإسراء 70.
2- البقرة 30.
المصداق الثاني: التعليم المباشر من الله تعالى

فإن آيات بداية الخلقة تحكي هذا التفضيل والامتياز للإنسان دون حتى الملائكة، قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَىٰ الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.)(1)

المصداق الثالث: حامل الأمانة

وجدانًا فإن من يوثق به ليكون حامل أمانة ما، له امتياز لا يملكه من لا يؤتمن، فكيف إذا كانت الأمانة عظيمة جدًا، فإنها أمانة الخالق جل وعلا، وهي من العظمة بحيث أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها، ولكن الإنسان استطاع أن يحوز قصب السبق ويكون المؤتمن عليها؟!

قال تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(2)

نعم، هو ظلوم جهول لو لم يقم بما عليه من حق رعايتها، وعن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن عليَّ بن موسىٰ الرضا (عليه السلام) عن قول الله (عزوجل): ] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها[،

ص: 89


1- البقرة 31 – 33.
2- الأحزاب 72.

فقال: «الأمانة: الولاية، من ادَّعاها بغير حقٍّ فقد كفر»(1).

المصداق الرابع: أن الأنبياء هم من البشر

أن الأنبياء والرسل الذين هم في الحقيقة وسائط بين السماء والإنسان هم من بني آدم حصرًا، فلم يكن الواسطة بيننا وبينه جل وعلا ملكًا أو جنًا أو غيرهما من المخلوقات، ولا شك أن كون الأنبياء من البشر، وكون الوسائط التبليغية بيننا وبينه جل وعلا من البشر أيضًا، لهو تكريم عظيم، وفي ذلك يقول عز من قائل: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(2)

القانون الثالث: تسخير كل شيء للإنسان

تؤكد الآيات الكريمة أن الله تعالى إنما خلق كل شيء في هذه الكون لأجل الإنسان، وأنه تعالى سخّره لبني آدم ويسّر لهم التصرف في مفردات الكون بما أعطاهم من قوة إرادة وعقل واختيار، والآيات في ذلك عديدة، نذكر منها ما يشير إلى ذلك التسخير بالتدريج:

1/(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ)(3)

هذه الآية تقول: إن الله تعالى سخّر السفن لنا لتجري في البحر، ولولا تسخير الله تعالى للرياح لتحرك السفن، ولولا جعل كثافة المادة التي تُصنع

ص: 90


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 273 و274).
2- النحل 43.
3- إبراهيم 32.

منها السفن أعلى من كثافة الماء، لما أمكن للسفن أن تطفو على الماء ولا أن تسير عليه.

2/(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَىٰ الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1)

فالتسخير ليس للسفن فقط، وإنما حتى البحار هي مسخّرة لبني آدم.

3/(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)(2)

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(3)فليس

ما في البحر فقط هو مسخر للإنسان، بل كل ما في الأرض. وكل ما في السماوات. بل إن التسخير وصل إلى حدّ قال عنه جل وعلا:

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَىٰ الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقىٰ فِي الْأَرضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً

ص: 91


1- النحل 14.
2- إبراهيم 33.
3- الجاثية 13.

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(1)

تنبيه:

الكلام في التكريم النوعي، ولا ينافيه فرد أبى هذا التكريم، فالتكريم لنوع الإنسان، وليس المقصود فرداً خاصاً.

القانون الرابع: تمكين الإنسان المؤمن

تبين إلى الآن أن الله تعالى أعطى للإنسان عدة امتيازات هي: الاختيار، والتكريم، وتسخير ما في الكون له، وهذه الامتيازات في الوقت الذي هي ميّزتْه عن غيره من المخلوقات، هي تفرض عليه مسؤولية عظيمة تجاهها، أي إن عليه أن يتعاطى بصورة إيجابية معها، فعليه أن يُفعّل الاختيار في تحصيل الكمال والابتعاد عن النقائص، إذ الاختيار الإنساني يؤسس للمسؤولية تجاه الأفعال، وعليه أيضًا أن يقوم بمسؤوليات التكريم عندما جعله الله تعالى مكرّمًا حتى على الملائكة، وعليه أن يتعامل مع الكون الذي سُخّر له بمقتضى وحدود الإذن الإلهي في التصرف به، فإذا أحسن الإنسان التعاطي مع هذه الامتيازات، ستترتب عليه ثمرة عظيمة جدًا، هي أيضًا من قوانين وامتيازات الإنسان، وهو أن الله تعالى قد وعد الذين يتعاملون مع تلك الامتيازات بما يُرضي الله تعالى، أنه سيُمكّن لهم في الأرض ولو بعد حين.

قال تعالى (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(2)

ص: 92


1- النحل 12 – 16.
2- المجادلة 21.

(وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(1)

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(2)

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(3)

فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)(4)

لا تبقى أرضٌ إلا نُودي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأشار بيده إلى آفاق الأرض.(5)

مع ملاحظة:

1/أن هذا التكريم –الأخير- يتمّ وفق نظام الأسباب والمسببات، نعم، الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) يستعمل المعجزة في نطاق خاص.

2/أن مجموع هذه القوانين يكشف عن أن الإنسان محور في هذا العالم، لا أنه في الهامش، بل إنه أهم الأشياء على الإطلاق. ويؤيده ما روي في بعض

ص: 93


1- الأعراف 128.
2- القصص 5.
3- النور 55.
4- سبأ (28).
5- مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي ص 209 – 210.

الأحاديث القدسية: (عبدي خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي، وهبتُك الدنيا بالإحسان، والآخرة بالإيمان)(1)

ص: 94


1- مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ص 282.

النقطة الثالثة عشرة: قوانين العالم المحسومة

اشارة

هناك قوانين ثابتة في هذا العالم جعلها الله تعالى تبارك وتعالى، وهي لا تتخلف أبدًا إلا بأمر من الله تعالى، أي إنها عامة لكل الأفراد والأزمنة، ومن أهمها التالي:

القانون الأول: قانون الأسباب والمسببات

فليس هناك مكان في هذا العالم للفوضى ولا للصدفة (بمعنى حصول المعلول من دون علة)، وما نسميه عرفًا بالصدفة لا يُقصد منه بالدقة حصول المعلول من دون علة، وإنما المقصود هو حصول المعلول من دون علة متوقعة، أي إن له علة، لكنها غير متوقعة أو إنها علة خافية علينا، لا أنه لا علة أصلًا.

والعلل في عالمنا ليست عللًا بسيطة، بل هي مركبة من الكثير من الأجزاء والشرائط وعدم الموانع، خذ مثلًا النار، فإنها حتى تُحرق الورقة لا بد من شرط، وهو: مماسة النار للورقة، وإلا فلن تحرقها، ومنها: عدم المانع من الإحراق، أي أن لا تكون الورقة رطبة بحيث تمنع من تأثير النار في الورقة، وهكذا.

ص: 95

والإنسان لم يأت بصورة بسيطة، وإنما هناك آلاف الشروط وعدم الموانع.

وكلما تقدم العلم كشف أموراً أكثر من تعقيدات الشروط وعدم الموانع.

القانون الثاني: التنوع

التنوع واقع محسوم في عالمنا، فليس الكل علماء، أو ذكورًا، أو شيوخًا، أو أطفالًا، أو شجرًا، أو حجرًا، أو ماءً.

فالتنوع حاكم في الحياة، ولا يمكن تصور حياة بلا تنوع، فالارتكاز يرفض حياة ذكور فقط، أو فقط أطفال، أو فقط برتقال، ولعله لهذا السبب ملّ بنو إسرائيل طعامًا واحدًا هو المنّ والسلوى رغم جودته ولذته الشديدة، فيما يحكيه القرآن الكريم عنهم بقوله عز من قائل: (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلىٰ طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها)(1)

لذلك تجد أن أهل المناطق الباردة مثلًا يبحثون عن المناطق الدافئة وهذا معناه أنهم يطلبون التنوع.

فالتنوع واقع، بل هو ضرورة.

القانون الثالث: عالمنا هو عالم السعي والشِدّة والطلب

نظام الشدة والعقوبة والغرامة والتلف والترهيب والجهد العضلي والوقت والمغامرة بالنفس و...

ص: 96


1- البقرة 61.

فلا يمكن بناء عالم من الترغيب فقط، فلا بد أن تدفع، فلا مجان في هذا العالم.

فهناك أعداء، كيف للإنسان أن يدفعهم؟ لا بد من شدة في ذلك، ولا بد من جيش، وبالتالي لا بد من بذل، وكل هذه الأمور تختلف شدةً وضعفًا بين الفينة والأخرى.

حتى تتقن مهارة ما فلا بد أن تقدم تلفًا في الوقت أو المال أو العمر، لا بد أن تفارق الراحة، وأن تسهر الليالي.

إذن، نظام الشدة ضرورة ومطلب، وليس مجرد واقع.

فقوانين العالم ليست مبنية على الانسيابية والرخاء والرفاه، فإن (من طلب العلى سهر الليالي)

فالنتائج في هذا العالم ليست مجانية، فهو ليس مجرد أخذ، بل لا بد من عطاء.

أنت تريد (كمالاً جسمانياً)، وهذا يكلفك الكثير، كذلك من يريد جسماً رشيقاً، فإنه يقدم الكثير، كذلك من يريد أن يكون غنياً أو طبيباً... فالعالم ليس مجرد رفاه وليس هو مثل (ملعقة من ذهب في الفم)، بل هناك ألم ولهفة وتعب ونصب، وقد أشارت بعض النصوص إلى هذه الحقيقة.

فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (أَولَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا، يُصْبِحُونَ ويُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى، فَمَيِّتٌ يُبْكَى وآخَرُ يُعَزَّى، وصَرِيعٌ مُبْتَلًى وعَائِدٌ

ص: 97

يَعُودُ، وآخَرُ بِنَفْسِه يَجُودُ، وطَالِبٌ لِلدُّنْيَا والْمَوْتُ يَطْلُبُه، وغَافِلٌ ولَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْه، وعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي، أَلَا فَاذْكُرُوا هَاذِمَ اللَّذَّاتِ، ومُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وقَاطِعَ الأُمْنِيَاتِ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، واسْتَعِينُوا اللَّه عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّه، ومَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِه وإِحْسَانِه)(1)

هذا واقع لا شك فيه وبغض النظر عن الشريعة. وإلا، فإن التزام الشريعة أيضًا لا بد فيه من تحمل الصعوبة والوقوف بوجه أطماع النفس الأمارة بالسوء، ولذلك روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (حُفّت الجنّةُ بِالمكَارِهِ، وحُفّت النَّارُ بالشَّهَوَاتْ.).(2)

وفي ذلك أيضًا روي عن رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله): الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ: صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ وصَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزَائِهَا، كَتَبَ اللهُ لَه ثَلَاثَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، ومَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ كَتَبَ الله لَه سِتَّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ إِلَى الْعَرْشِ، ومَنْ صَبَرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ كَتَبَ الله

ص: 98


1- نهج البلاغة ج1 ص 192 – 193.
2- روضة الواعظين للفتال النيسابوري ص (421)، وعلق الشريف الرضي في المجازات النبوية ص 388 على هذا الحديث بقوله: وهذا القول مجاز، والمراد أن جميع الأفعال التي توصل إلى الجنة يتجشم فعلها على الكره والمشقة، لان طريقها وعر، ومذاقها مر. فلما كانت الطرق المفضية إلى الجنة كلها كما ذكرنا شاقة المسالك، صعبة على السالك، حسن أن يقال: الجنة حفت بالمكاره على طريق المجاز، وسعة الكلام، ولما كانت الافعال المفضية إلى دخول النار في الأغلب الأكثر كثيرة الملاذ ملائمة للطباع، لا تؤتى من طريق مشقة ولا يقرع لها باب كلفه، حسن أن يقال إن النار حفت بالشهوات على طريق الاتساع والمجاز.

لَه تِسْعَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى الْعَرْشِ.(1)

وقال تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(2)

فكل نتيجة في هذا العالم لها فاتورتها الخاصة، وحسابها الخاص، حتى الملذات الحياتية فيها تعب وجهد، نعم، هذه الصعوبات تختلف شدة وضعفاً من شخص لأخر، ومن ظرف لآخر ومن بلد لآخر، لكن أصل المبدأ موجود.

فالشدة إذن من لوازم هذا العالم.

القانون الرابع: الغموض والجهل النسبي

أي: كلما ازداد علم الإنسان ازداد شعوره بالجهل.

أو قل: هناك نسبة من الغموض والجهل في هذا العالم دائماً، فليس العالم لوحة مفتوحة لنا، في كل مفرداته، فأنت مثلًا تريد أن تتزوج، فهناك نسبة من المجهولية، وهكذا الوظيفة، وهكذا العمل...

فالجهل ثابت في النتائج والمقدمات، وفي تفسير الظواهر الكونية، وليس هناك (علم مطلق) في هذا العالم.

وقد ذكرت النصوص القرآنية بعض المفردات التي كان للإنسان منها حصة الجهل لا المعرفة، ومنها:

ص: 99


1- الكافي للكليني ج2 ص 91 باب الصبر ح15.
2- الانشقاق 6.

1/ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(1)

2/ (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)(2)

3/ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثىٰ وَما تَغِيضُ الْأَرحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)(3)

4/هذا فضلاً عن الغموض والجهل فيما يتعلق بالمستقبل كلحظة الموت، وبعالم الآخرة، وإليه الإشارة في قوله تعالى (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ)(4)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)(5)فهذا عنده لا عندنا!

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ

ص: 100


1- لقمان 34.
2- الزمر 55.
3- الرعد 8.
4- الواقعة 60 – 61.
5- الأنعام 2.

يُؤْمِنُونَ)(1)

ويبدو –والله العالم- أن هذا القانون مقصود، حتى لا يغلو الإنسان في نفسه، إذ هذه النسبة من الجهل تربي الإنسان تربية جيدة، وتجعله يعرف قدر نفسه، ولا يتجاوز حدوده، فهو قد لا يعرف ما يحويه باطن الأرض التي يجلس عليها على مسافة متر واحد فقط، فكيف يعرف ما في أعماق البحار أو آفاق السماء؟!

على أن هذا القانون يفتح نوافذ علاجية أشارت لها النصوص الشريفة، مثل: التوكل، الأمل.

القانون الخامس: قانون اللمسة الغيبية
اشارة

هذا القانون على عمومه لا يقبله إلا المتدين، ومعناه التالي:

في الوقت الذي يكون العالم فيه هو عالم الوسائط والأسباب والمسببات، كما تقدم في القانون الأول، لكن هناك لمسة غيبية فيه، كالهداية والتسهيل والتوفيق والتسديد الإلهي وما شابه.

وهذه اللمسة هي قانون، وقد لا يكون مفهوماً لنا، لكن بالنتيجة هو موجود.

هذا بغض النظر عن كون هذا القانون يقفز على قانون الأسباب المعروف، أو يسهل الأمر فيها، أو يرفع بعض الموانع.

ص: 101


1- الأعراف 188.

وفي إشارة إلى هذا القانون، يقول الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه): «إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأْواء(1)،

أو اصْطلمَكم(2)

الأعداء»(3).

ويمكن تسميته بقانون التسهيل أو التوفيق، حيث إنك تحصل على تسهيلات لا تعرف من أين أتت.

وهذا واحد من وجوه الفرق بين المتدين و (الطبيعي)، فرغم اتفاقنا على قانون الأسباب والمسببات، لكننا نؤمن باللمسة الغيبية وهو لا يؤمن.

ما هي أسباب اللمسة الغيبية (التوفيق، التسديد، الهداية)؟

يمكن تلمس العديد من أسباب الحصول على اللمسة الغيبية والتوفيق والعناية الربّانية من خلال بعض النصوص القرآنية، منها التالي:

1/ طلب الإصلاح مع التوكل المطلق على الله تعالى، قال تعالى (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(4)

2/ التقوى، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ

ص: 102


1- اللأواء : الشدة وضيق المعيشة (هامش المصدر).
2- اصطلمه : استأصله . (هامش المصدر).
3- الاحتجاج للطبرسي 2: 323.
4- هود 88.

شَيْءٍ قَدْراً)(1)

3/ الدعاء، قال تعالى (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً).(2)

ص: 103


1- الطلاق 2 – 3.
2- الفرقان 77.

ص: 104

مباحث العدل الإلهي

اشارة

ونذكر عشر مسائل:

المسألة الأولى: الحسن والقبح العقليان.

المسألة الثانية: الإرادة الإنسانية.

المسألة الثالثة: التفويض.

المسألة الرابعة: في الأمر بين الأمرين.

المسألة الخامسة: القضاء والقدر.

المسألة السادسة: الشرور في العالم.

المسألة السابعة: الحكمة من خلق الشيطان.

المسألة الثامنة: التفاوت بين البشر.

المسألة التاسعة: في الألم والعوض.

المسألة العاشرة: تعذيب أولاد الكافرين.

ص: 105

ص: 106

المسألة الأولى: الحسن والقبح العقليان

اشارة

تمثل هذه المسألة الأساس للكثير من القضايا المرتبطة بمباحث الفعل الإلهي، ولها مردودات نفسية واجتماعية على مستوى الفرد والمجتمع كما سيتبين إن شاء الله تعالى، وحتى يكون البحث دقيقاً، نذكر نقاطاً عدةً يتبين بها موضع النزاع والرأي الصواب:

النقطة الأولى: ما هو معنى عقلية أو شرعية الحسن والقبح؟

إن المعنى هو التالي:

نعلم أن الله تعالى قد أرسل الأنبياء ليوصلونا إلى بر الأمان، وشرع لهم شرائع تتضمن الأوامر والنواهي التي تنظّم حياتهم ودينهم ودنياهم، ولا شك أنه يلزمنا أن نتبع ما جاء فيها بالحرف الواحد.

وأن هناك أمورًا لا يستطيع العقل إدراكها لوحده، وإنما نأخذها في أصل تشريعها من الشارع المقدس، وهو التي تسمى بالتعبديات، ككون صلاة الصبح ركعتين، وكاستحباب الدعاء عند رؤية الهلال، وككون الشك بين الأولى والثانية مبطل للصلاة، وأمثالها.

ص: 107

ولكن هل هناك قضايا يمكن للعقل لوحده -ولو لم يكن هناك رسالة أو شريعة- أن يدركها ويحكم بأنها حسنة وينبغي فعلها، ولو فعلها شخص فإن العقلاء يمدحونه لأنه فعله، وقضايا يدرك العقل لوحده أنها قبيحة وينبغي تركها، والعقلاء يذمون العاقل لو فعلها؟ هل هناك قوة للعقل بأن يدرك مثل هذه القضية أو لا توجد عنده قدرة على ذلك.

فالعدلية قالوا بأن للعقل قدرة على إدراك حُسن بعض الأفعال [وليس في كل الافعال، فهم أثبتوا الموجبة الجزئية لا الكلية] وعلى الأقل هو يدرك قضية قبح الظلم وحسن العدل. فعندهم الحسن والقبح عقليان.

وأما الأشاعرة فقد نُسب إليهم أنهم قالوا: إنه ليس للعقل أي قدرة على إدراك حسن أي فعل من الأفعال (أي ذهبوا إلى السالبة الكلية)، وقالوا: إن الحُسن والقبح شرعيان، بمعنى أن الحسن ما حسّنه الشارع، والقبيح ما قبّحه الشارع، فتكون وظيفة العقل -على رأي الاشاعرة- إمضائية، أي إنه يُمضي ما أسّسه الشارع.

النقطة الثانية: تقسيم الأفعال عند العدلية

إن القائلين بالحسن والقبح العقليين يقسّمون الأفعال من حيث الاتصاف بهما إلى أقسام ثلاثة:

الأول: ما يكون الفعل بنفسه علة تامة للحسن والقبح، وهذا ما يسمى بالحسن والقبح الذاتيين، مثل العدل والظلم. فالعدل بما هو عدل، لا يكون

ص: 108

إلا حسناً أبداً، ومتى ما وجد لا بد أن يُمدح فاعله ويعد محسناً، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلا قبيحاً، ومتى ما وجد ففاعله مذموم ومسيء. ويستحيل أن يكون العدل قبيحاً أو الظلم حسناً.

وحتى الظلمة، عندما يمارسون الظلم، فإنه يُحاولون أن يخدعوا الناس ويصوروا أفعالهم على أنها أفعال حسنة و أن أعداءهم هم المخطئون والظلمة، وهذا يكشف عن أن مسألة حسن العدل وقبح الظلم لا خلاف فيها أبدًا.

الثاني: ما لا يكون الفعل علة تامة لأحدهما، بل يكون مقتضيًا للاتصاف بأحدهما، بحيث لو خُلي الفعل ونفسه، فإما أن يكون حسناً، كتعظيم الصديق بما هو هو، أو يكون قبيحاً كتحقيره. ولكنه لا يمتنع أن يكون التعظيم مذموماً لعروض عنوان عليه، كما إذا كان سبباً لظلم ثالث، أو يكون التحقير ممدوحاً لعروض عنوان عليه كما إذا صار سبباً لنجاته. ولا ينحصر المثال بهما، بل الصدق والكذب أيضا من هذا القبيل. فالصدق الذي فيه ضرر على المجتمع قبيح، كما أن الكذب الذي فيه نجاة الإنسان البريء حسن. وهذا بخلاف العدل والظلم فلا يجوز أن يتسم العدل بما هو عدل بالقبح، والظلم بما هو ظلم بالحسن.

الثالث: ما لا علّية له ولا اقتضاء فيه في نفسه للاتصاف بأحدهما، وإنما يتبع الجهات الطارئة والعناوين المنطبقة عليه، وهذا كالضرب فإنه حسن للتأديب، وقبيح للإيذاء.

هذا هو التقسيم الرائج بينهم.

ص: 109

النقطة الثالثة: تقسيم الحسن والقبح
اشارة

ذكر العديد من العلماء أربعة استعمالات للحسن والقبح:

الاستعمال الأول: الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص

(فالحسن كون الصفة صفة كمال، والقبيح كون الصفة صفة نقصان، يقال: العلم حسن، أي لمن اتصف به كمال وارتفاع شأن، والجهل قبيح، أي لمن اتصف به نقصان واتضاع حال، ولا نزاع في أن هذا المعنى أمر ثابت للصفات في أنفسها، وأن مدركها العقل...)(1)

وبعبارة أخرى: أن (التحسين والتقبيح بهذا المعنى لا غبار عليه وليس محلًا للنقاش. إذ لا [أحد] ينكر كون العلم والشجاعة والفصاحة كمالًا وحسنًا، والجهل والجبن والفهاهة نقصًا وقبيحًا.) (2) فقد اتفقت الكلمة على أنهما بهذا الاستعمال من القضايا الواقعية التكوينية.

الاستعمال الثاني: الحسن والقبح بمعنى إدراك الملائم والمنافي

(فالمشهد الجميل - بما أنه يلائم الطبع - يعد حسنا، كما أن المشهد المخوف، - بما أنه منافر للطبع - يعد قبيحًا. ومثله الطعام اللذيذ والصوت الناعم، فإنهما حسنان كما أن الدواء المُرّ ونهيق الحمار قبيحان)(3)

وقد اتفقت الكلمة هنا أيضاً على أنهما بهذا المعنى من القضايا الواقعية

ص: 110


1- صراط الحق للمحسني ج2 ص 129.
2- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 234.
3- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 233.

التكوينية.

الاستعمال الثالث: الحسن والقبح بمعنى المصلحة والمفسدة

فالعدل حسن لأن فيه مصلحة للفرد والمجتمع، بعكس الظلم... (فما وافق الغرض حسن، وما نافره قبيح)(1) (فقتلُ إنسانٍ لأنه عدو حسن، حيث إنه موافق لأغراض القاتل الشخصية. ولكنه قبيح لأصدقاء المقتول وأهله، لمخالفته لأغراضهم ومصالحهم الشخصية. هذا في المجال الشخصي. وأما في المجال النوعي، فإن العدل بما أنه حافظ لنظام المجتمع ومصالح النوع فهو حسن وبما أن الظلم هادم للنظام ومخالف لمصلحة النوع فهو قبيح)(2)

وهذا المعنى خارج نطاق البحث، وهو يختلف باختلاف الأشخاص والحالات، باعتبار (اختلاف الأغراض والمصالح الشخصية. فرب فعل كالقتل حسن عند فرد أو جمع وقبيح عند آخرين والبحث إنما هو عن الحسن والقبح الذاتيين اللذين لا يتغير الاتصاف بهما عند قوم دون قوم، وجيل دون جيل، بل يكون حكما ثابتا للفعل أبدًا.)(3)

الاستعمال الرابع: (تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلًا وآجلًا، أو الذم والعقاب كذلك، فما تعلق به المدح فهو حسن، وما يتعلق به الذم فهو قبيح)(4)

ص: 111


1- صراط الحق للمحسني ج2 ص 129.
2- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 233.
3- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 234.
4- صراط الحق للمحسني ج2 ص 129.

أي المدح والذم، وينبغي ولا ينبغي، أي فعل العدل ممدوح، وفعل الظلم قبيح، وفعل العدل ينبغي وفعل الظلم لا ينبغي. وهنا وقع الخلاف، فقال العدلية: إن العقل يمكنه أن يدرك بعض الأفعال التي يُمدح فاعلها ويصفها بأنها حسنة حتى لو لم تكن شريعة، وكذلك يمكنه أن يدرك بعض الأفعال التي يُذمّ فاعلها ولو لم تكن شريعة، أما الأشاعرة فقالوا بأنها شرعية (فإن الأفعال كلها سواسية ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه، ولا ذمّ فاعله وعقابه، وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها)(1)

والحاصل من هذه النقاط الثلاثة هو:

أن الغرض المطلوب في هذا البحث هو: تبيين أن هناك أفعالاً يدرك العقل إذا طالعها، بقطع النظر عن كل الجهات الطارئة عليها، أنها حسنة يجب أن يُمدح فاعلها، أو قبيحة يجب أن يذم. ولا نقول: إن كل فعل من الأفعال داخل في هذا الإطار.

وبعبارة أخرى: إن النزاع بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلي، فالعدلية يقولون بالأول والأشاعرة بالثاني.(2)

النقطة الرابعة: ما هو دليل الأشاعرة؟
اشارة

ذكروا أن للأشاعرة أدلة على قولهم بشرعية الحسن والقبح، ومنها التالي:

ص: 112


1- صراط الحق للمحسني ج2 ص 129.
2- الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 233.
الدليل الأول

حيث إن الله تعالى هو خالق كل شيء، فهو مالك كل شيء، ومعه، فلا يمكن تصور أحد فوقه جل جلاله ليأمره بشيء أو ينهاه عن آخر، وبالتالي، فكل ما فعله فهو حسن، فالكذب قبيح لو نهى عنه الباري، ولو أمر به لكان حسنًا، وهكذا العدل حسن لأنه أمر به، ولو نهى عنه لكان قبيحًا.(1)

الجواب:

1/إن الوجدان قاضٍ بأن قتل طفل صغير –مثلًا- من دون أي مبرر هو فعل غير مرضي، وأي واحد من العقلاء لا يرضى بقتل طفل صغير له، لأنه يرى أن هذا الفعل قبيح بوجدانه، ولا يُفرّق في هذا بين كونه متدينًا أو ملحدًا، وهذا يعني أن الوجدان يحكم بأن العقل يستقل بمعرفة قبح أو حسن بعض الأفعال.

2/ صحيحٌ أن الله تعالى خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وأنه لا يوجد شيء أعلى منه ليأمره أو ينهاه، لكن هذا لا يمثل حدًا أوسطًا أو دليلًا على أنه

ص: 113


1- نقل الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 249 عن اللمع ص 116 ما نصه: (والدليل على أن كل ما فعله فله فعله، أنه المالك، القاهر، الذي ليس بمملوك، ولا فوقه مبيح، ولا آمر، ولا زاجر، ولا حاظر، ولا من رسم له الرسوم، وحد له الحدود. فإذا كان هذا هكذا، لم يقبح منه شيء، إذا كان الشيء إنما يقبح منا، لأنا تجاوزنا ما حد ورسم لنا، وأتينا ما لم نملك إتيانه. فلما لم يكن الباري مملوكا ولا تحت آمر، لم يقبح منه شيء. فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبحه، قيل له: أجل، ولو حسنه لكان حسنا، ولو أمر به لم يكن عليه اعتراض. فإن قالوا: فجوزوا عليه أن يكذب، كما جوزتم أن يأمر بالكذب. قيل لهم: ليس كل ما جاز أن يأمر به، جاز أن يوصف به)

تعالى يفعل القبيح، إذ تقدم أن الله تعالى وإن كان قادرًا على كل شيء، لكنه لا يفعل أي شيء، وإنما حكمته تعالى تقيّد قدرته لتجعلها في حدود الفعل الحكيم لا العبثي ولا اللهوي ولا غيره مما لا يوافق الحكمة، وبالتالي، فعندما نقول: إن الله تعالى لا يفعل القبيح، لا نعني أن هناك من يأمره أو ينهاه عن ذلك، وإنما نعني أنه تعالى بحكمته اللا متناهية لا يفعل القبيح، لأنه حكيم لا أكثر. وهذا لا يؤدي إلى تحديد القدرة الإلهية بشيء خارجي كما أراد أن يؤشر له الأشعري بدليله. بل إن التحديد بحدود الحكمة هو نوع من أنواع الكمال اللا متناهي له جل وعلا كما تقدم.(1)

الدليل الثاني

لو كان الحسن والقبح عقليين لما وقع الاختلاف في تصنيف بعض الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة، لأن الأحكام العقلية لا تختلف ولا تتخلف، فاجتماع النقيضين محال أينما حل وحيثما فُرض، ولكن نجد أننا قد نختلف في بعض التصرفات، فالبعض يدّعي أنها حسنة، والآخر يدّعي أنها قبيحة، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ص: 114


1- أشار الشيخ السبحاني لهذا الجواب بقوله: فلا شك أنه سبحانه مالك الملك والملكوت يقدر على كل أمر ممكن - كما عرفت - من غير فرق بين الحسن والقبيح، فعموم قدرته لكن ممكن مما لا شبهة فيه، ولكن حكم العقل بأن الفعل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم، ليس تحديدا لملكه وقدرته. وهذا هو المهم في حل عقدة الأشاعرة الذين يزعمون أن قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه نوع دخالة في شؤون رب العالمين، ولكن الحق غير ذلك. (الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني ج1 ص 250)

والجواب:

لعل هذا الدليل يريد أن يتكئ على القول: بأن من شروط الأمر البديهي أو العقلي أن لا يختلف فيه اثنان، وحيث إننا اختلفنا في بعض القضايا، إذن هي ليست عقلية ولا بديهية.

ولكن هذا القول غير صحيح، إذ تقدم –وهو الوجدان- أنه ليس من شروط البديهي أن يكون مجمعًا عليه بحيث لا يختلف عليه اثنان، ولذلك فإنه قد اختُلف في أوضح الواضحات، ولذلك ذكروا في القضايا الأولية –كقضية الكل أكبر من الجزء- أنها قضية بديهية بلا أدنى ريب، ولكن لا بد من تصور أطرافها تصورًا صحيحًا ليتم الوصول -بعد التصور الصحيح- إلى الجزم بمؤداها، وإلا فلو تم تصورها بصورة مغلوطة، لأمكن وقوع الاختلاف فيها.

وفي المقام كذلك، فإن القضايا العقلية قد تدخل عليها بعض الشوائب التي تؤدي إلى الاختلاف فيها، فمثلًا قد يكون تنفيذ العدل مخالفًا للمصلحة الشخصية، لذلك قد يتصوره البعض قبيحًا، فالقاتل يُقتل، وأهل المقتول سيرون تنفيذ حكم الإعدام به هو مقتضى العدل الذي يجب أن يكون هو فقط، ولكن أبناء القاتل أو زوجته قد يرونه حكمًا قاسيًا أو جائرًاً، لأنه سيحرمهم من أبيهم.... والأمثلة على هذا النسق كثيرة.

الدليل الثالث

لو كان الحسن والقبح عقليين لما تغير الحكم فيهما أبدًا، ولكننا نجد أن

ص: 115

الصدق قد يكون حسنًا وقد يكون قبيحًا لاختلاف الظروف الموضوعية، وهذا يعني أنهما غير عقليين.

والجواب واضح على ما تقدم في النقطة الثانية، حيث بيّن العلماء أن النزاع في الأفعال التي يكون الحسن والقبح فيها ذاتيين، لا في ما يكون مقتضيًا للحسن او القبح لولا المانع، وما ذُكر في الدليل من (الصدق والكذب) هو من القسم الثاني لا الأول، فلا نقاش فيه.

وبعبارة أخرى: أن ما ذُكر في الدليل هذا صحيح، ولكنه ليس هو محل النزاع، فنحن نتفق كذلك معهم في أن الصدق والكذب يتغير الحكم فيه، والنزاع ليس في هذا القسم من الأفعال، وإنما في مثل حسن العدل وقبح الظلم، حيث يكون وصف الحسن والقبح ذاتيين للعدل والقبح.

الدليل الرابع

قوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(1)

استدلوا بهذه الآية على أن القانون للأفعال هي إرادته جل وعلا، لذلك لا يجوز لأحد أن يسأل عن إرادته وعن فعله حتى لو كان ذلك الفعل بنظرنا ظلمًا أو عبثًا أو خلاف الحكمة، بمعنى أنه لا بد أن نحكم على أي فعل فعله بأنه حسن حتى لو كان بنظرنا ظلمًا، لأنه تعالى لا يُسأل عما يفعل.

ص: 116


1- الانبياء (23).

الجواب:

لو كان ظاهر الآية ومعناها منحصرًا بما قاله الأشاعرة، فلربما يقال بصحة استدلالهم، وإلا فالآية أصلًا لا دلالة فيها على ما أرادوه، لكن تنزلًا نقول: إن ما ذكره الاشاعرة هو احتمال في معنى الآية، ويحتاج إلى تكلّف الاستدلال، ولكن في الآية احتمالات أخرى متلائمة مع ظاهرها وتنسجم مع الحسن والقبح العقليين.

بمعنى: أن ما ذكره الأشاعرة في تفسير هذه الآية هو احتمال، وما سنذكره في تفسيرها تبعا لما قاله فيها أهل البيت (عليهم السلام) هو احتمال آخر، إن لم يكن في الحقيقة رأي أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم هو المتعين كما نعتقد به نحن، ولكنه على الأقل محتمل، فلو فرضنا أنه لا مرجح لأحد الاحتمالين على الآخر فإن الآية تكون مجملة، يعني لا نعرف هل المقصود منها هو ما قصده الأشاعرة أو ما قصده أهل البيت (عليهم السلام)؟

وطبعا هذا القياس مع الفارق ولكن من باب البحث العلمي نذكره، فينتج أن الآية مجملة فلا يصح الاستدلال بها على أحد المطلوبين لأنه يكون ترجيحًا بلا مرجح.

طبعا مع العلم أننا نجزم بصحة تفسير أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم لأنه صادر من أهل بيت العصمة، وهو متلائم مع الوجدان، ومع الصفات الكمالية لله جل وعلا.

أما الاحتمال الآخر في الآية فهو:

ص: 117

أن الآية إنما قالت: لا يسأل عما يفعل، باعتبار أنه لا حاجة للسؤال عن فعله، لأن أفعاله كلها حكيمة، والحكيم لا يسأل عن فعله، أما غيره فحيث إن أفعاله قد تكون حكيمة وقد لا تكون، فيمكن حينها أن يوجه له السؤال.

ومما يدل على هذا المعنى هو ما روي عن جابر بن يزيد الجعفي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر صلوات الله وسلامه عليهم قال:... فهو المتفضّل بما أعطاه وعادل فيما منع، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. قال جابر: يا بن رسول الله، وكيف لا يُسأل عما يفعل؟ قال (عليه السلام): لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصواباً.(1)

ونقل السيد المرتضى: (و إنما أراد أنه تعالى من حيث وقعت أفعاله كلها حسنة غير قبيحة، لم يجز أن يُسأل عنها، وإن سُئل العباد عن أفعالهم لأنهم يفعلون الحسن والقبيح معًا)(2)

وقال الشيخ الطوسي في التبيان: لأنه لا يفعل الا ما هو حكمة وصواب، ولا يقال للحكيم: لو فعلت الصواب (وهم يسالون) لأنه يجوز عليهم الخطأ.(3)

النقطة الخامسة: أدلة التحسين والتقبيح العقليين
اشارة

ذكر العدلية العديد من الأدلة على ذلك، نذكر منها التالي:

ص: 118


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 397 /ح 13.
2- الأمالي ج2 /ص 57.
3- التبيان ج7 / ص 239.
الدليل الأول

لو كان الحسن والقبح شرعيين للزم من ذلك أن الفرد الذي لا يعرف عن الدين وعن الشرع أي شيء، أن لا يعرف أن العدل حسن والظلم قبيح، وهذا اللازم باطل.

توضيح الدليل:

نفرض أن شخصاً ما، أول ما وُلد وُضع في غرفة لوحده، بمعزل عن العالم الخارجي، إلى أن وصل عمره إلى ثلاثين أو أربعين سنة، فإن جاءه شخص آخر وضربه ظلماً وعدواناً، فهل الشخص المضروب يحس أنه ظُلِم أو لا يحس؟ أكيداً سيشعر بأنه قد ظُلِم، وهكذا لو كان المضروب لا دينياً وملحداً.

فمثل هؤلاء نجد أنهم يعرفون أن العدل حسن والظلم قبيح، فمن أين عرفوا ذلك؟

لو كان حسن العدل شرعياً، فالمفروض -بالذي لا يعرف الدين- أن لا يعرف أن العدل حسن، لأن مثل هذا الشخص لا يملك ديناً أو شريعة تصل من خلالها أوامر الشارع إليه، فلن يعرف أن العدل حسن والظلم قبيح، فإذن، لو كانا شرعيين لما عرفهما الملحد.

وحيث إنه يعرف ذلك، فهذا يكشف عن أنه إنما عرفهما بعقله.

ص: 119

الدليل الثاني

لو كان الحسن والقبح شرعيين، لضاع الهدف من بعثة الأنبياء.

توضيحه:

إن وظيفة الأنبياء هي هداية الناس، وهم يدّعون ارتباطهم بالسماء، ودليل ارتباطهم بالسماء هي المعجزة.

فلنفترض أنفسنا أشعريين وعقيدتنا أن ما يفعله الشارع هو الحسن، وما لا يفعله هو القبيح، حينها، ألا نحتمل أن الله عز وجل يُجري المعجزة على يدي كاذب؟

فإنه إن جرت المعجزة على يدي كاذب، فهو فعل حسن لأن الله تعالى فعله، ومع وجود هذا الاحتمال فما الذي يميّز لنا الصادق من الكاذب؟ ففي كل مدّعٍ للنبوة سنحتمل أنه صادق فيجب اتباعه، وسنحتمل أنه كاذب فيجب اجتنابه. وبالتالي يحق لنا أن لا أتبع أي نبي لاحتمال كونه كاذباً وإن جرت المعجزة على يديه، فتذهب فائدة من بعثة الأنبياء التي هي طاعتهم.

ونذكّر هنا: بأن الأشعري لا يقول بوقوع مثل هذا الأمر، وإنما هو يقول بإمكانه –كما تقدم- والخلاف إنما هو في قضية تنزيه الذات، والحديث هو في الإمكان والامتناع، بمعنى أنه هل يمكن للمصلي أن يدخل في النار؟ نحن نقول: لا يمكن (امتناع)، وهذا الأمر يأتي من كمال الذات ومن الوفاء بالوعد.

ص: 120

أما الأشاعرة فأنهم يقولون بالإمكان، وهذا الفرض هو بذاته ينسب النقص للذات المقدسة.

الدليل الثالث

القرآن الكريم يشير في بعض الآيات القرآنية إلى أن الحسن والقبح عقليان لا شرعيان، وأن القران جاء ليمضي ما عليه العقلاء، بمعنى أن القرآن يأخذ أموراً يعتبرها العقلاء حسنة فيأمر بها، ويأخذ أموراً يعتبرها العقلاء سيئة فينهى عنها.

مثاله: الآية الشريفة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1)

فهو تعالى (يَعِظُكُمْ) فالمسألة مسألة موعظة، بمعنى يعرّفكم على الطريق.

وكذلك قوله تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا باللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(2)

إذن مسألة القبح والحسن وجدانية، ليس على نحو الموجبة الكلية وإنما على الأقل في بعض الافعال.

ص: 121


1- النحل 90.
2- الأعراف 33.

ص: 122

المسألة الثانية: الإرادة الإنسانية

اشارة

هل الإنسان مجبر على أفعاله أو إنه مختار ذو إرادة؟

تعتبر هذه المسألة من أهم مسائل العدل الإلهي لما فيها من آثار كثيرة وعلى مستويات مترامية الأطراف، وسوف نذكر المسألة ضمن مبحثين:

المبحث الأول: الجبر الكلامي

المبحث الثاني: الجبر الاجتماعي.

ص: 123

ص: 124

المبحث الأول: الجبر الكلامي
اشارة

وهنا أمور عدة:

الأمر الأول: معنى الجبر

عندما يقوم الإنسان بفعل ما، كالكتابة، أو الرماية، أو غيرها، فهل هو مختار في فعله هذا؟ هل يصدر فعله بمحض إرادته أو إنه مجبر على ذلك؟

هل الإنسان فاعل باختياره أو إنه كالآلة التي لا تعقل ما تفعل وليس لها إلا أن تنفّذ أمر مالكها (وهو معنى الجبر)؟

(نُقل عن جهم بن صفوان وأتباعه: أن لا اختيار واقتدار للإنسان بوجه، ولا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، فأفعال الإنسان وغيره عندهم كحركة السكين في يد القصاب، أو كحركة القلم في يد الكاتب)(1)

وينقل القرآن الكريم في بعض آياته، أن مشركي مكة المكرمة كانوا يعملون على تبرير شركهم من خلال التمسك بنظرية الجبر، إذ لو كانوا مجبرين فهم معذورون في ما هم عليه من الشرك، أي إنهم رموا سبب شركهم

ص: 125


1- صراط الحق للمحسني ج2 ص 188 – 189.

على الله تعالى ليبرروه أمام الأنبياء أو غيرهم، قال تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ)(1)

وقال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَىٰ الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2)

الأمر الثاني: أدلة القائلين بالجبر
اشارة

ذكروا أدلة عدة على أنها تدل على سلب الاختيار من الإنسان وبالتالي فهو فاعل موجَب أي غير مريد، ومنها التالي:

الدليل الأول: عموم العلم الإلهي ولزوم وقوعه

أ: إن القرآن الكريم يُصرح بعموم علمه تعالى، قال تعالى (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.)(3)

فعلمه تعالى شامل لا يشذّ عنه شيء، بما في ذلك الجزئيات، وما يفعله العبد.

ب: وحيث إن علم الله تعالى لا بد أن يقع، وإلا –أي لو لم يقع- لانقلب

ص: 126


1- الأنعام (148).
2- النحل (35).
3- يونس 61

العلم إلى جهل، والله (عز وجل) لا يوصف بالجهل مطلقًا.

ج: والعلم الإلهي كان قبل الإنسان ووجوده، بل علمه تعالى منذ الأزل، وهذا يعني أنه يعلم أن فلانًا مثلًا سيكتب كذا، أو سيقتل شخصًا معينًا، وهكذا.

د: إذن، فكل ما يفعله الإنسان هو مجرد صورة فعل اختياري، وإلا فحقيقته أنه مجبور على فعله، فالإنسان مُسير لا مخير.

ويُرد هذا الدليل بالآتي:

لا شكّ أننا نقبل أن علمه تعالى علم شامل، وأن علمه عين ذاته، وعلمه لا متناهي، ولكن هل يلزم من هذا أن يُقال بالجبر؟

كلا، والشاهد أمران:

أولًا: إننا عندما نرجع إلى وجداننا وإحساسنا الشخصي، نجد أننا نميّز بين حركة المرتعش، وبين الحركة التي نسميها بالحركة الإرادية، ونجد أن الفرق بينهما فرق حقيقي، لا مجرد تصور لا واقع وراءه كما أراد أن يصوره المجبِّر.

ولا شك أن المرجعية النهائية هي للبديهي والوجدان، ونحن نلامس بالبداهة ونحس ونشعر بوجداننا بأننا مختارون في أفعالنا. وكل ما يخالف البديهي فهو في أحسن أحواله (شبهة في مقابل بديهة).

وهذه ملحوظة مهمة، علينا أن نضعها في الحسبان في جميع مراحل طلبنا

ص: 127

للمعرفة المنهجية الموضوعية، وهي: أنه مهما دقّ العمق الفكري، فإنه لا بد أن لا يخرج عن العفوية والبداهة والوجدان، وإلا ابتُلي بالجربزة والابتعاد عن البديهيات ونكرانها، فالمرجع الأخير والأصل والمحور هو البداهات، فهي نقطة الانطلاق نحو المعرفة بالواقع والتفاعل معه.

نعم، إن البداهات قد تُبتلى ببعض العادات أو التقاليد أو التلقينات في لا وعي الإنسان، أو تتأثر بالعقل الجمعي والاجتماعي والتقليدي، بحيث تخرج بعض الأمور البديهية عن البداهة لدى البعض، وحينئّذ نحتاج إلى منبّهات تكشف الزيف والغموض وتصرح ببداهة البديهي.

وفي المقام، يوجد منبه على أن (الاختيار) و (الإرادة) أمر بديهي لدى الإنسان وغيره مجرد وهم، والمنبه هو:

مؤشرات صحة الوجدان بالاختيار:

1/لو كان الإنسان مجبرًا على فعله، بحيث كان كالآلة بالنسبة للفعل، فإن هذا ينفي مفهوم (العقوبة)، إذ العقوبة فرع المسؤولية، فالقانون إنما يوجّه لي التهمة وبالتالي العقوبة لأني خالفت القانون بإرادتي واختياري. وهذه مسألة وجدانية بديهية.

ولكن لو اعتدى شخص على أعلم القائلين بالجبر، هل يا ترى سيطبّق ذلك العالم الجبري مسألة أن الإنسان مجبر ويغض الطرف عن الذي ضربه وأهانه، إذ الفرض أنه مجبر كما يقول هو؟! أم إنك تراه ينتفض مناديًا: يا لله، يا لعشيرتي، يا لأولادي!

ص: 128

إن أي عاقل يؤمن بالمطالبة بحقه وردّ الاعتداء والمطالبة بإنزال العقوبة بالذي يتجاوز عليه وملاحقته قانونيًا وقضائيًا. ونحن نجد البشرية تؤمن بالعقوبة، وأنشأت السجون للحدّ من أفعال المجرمين في الخارج.

إن هذه المفاهيم لا تظهر إلا تحت ظل الاختيار والإرادة.

ومن اللطائف في هذا المجال، ما روي من أن البهلول سمع أبا حنيفة يقول: إنّ جعفر بن محمّد (عليه السلام) يقول بثلاثة أشياء لا أرتضيها.

يقول: إنّ الشيطان يعذّب بالنار، كيف وهو من النار!؟ ويقول: إنّ الله لا يرى ولا تصحّ عليه الرؤية، وكيف لا تصحّ الرؤية على موجود!؟ ويقول: إنّ العبد هو الفاعل لفعله، والنصوص بخلافه.

فأخذ البهلول حجرًا وضربه به فأوجعه، فذهب أبو حنيفة إلى هارون، واستحضروا البهلول ووبّخوه على ذلك.

فقال لأبي حنيفة: أرني الوجع الذي تدّعيه وإلَّا فأنت كاذب، وأيضا فأنت من تراب كيف تألمت من تراب!؟ ثمّ ما الذي أذنبته إليك والفاعل ليس هو العبد بل الله فسكت أبو حنيفة وقام خجلًا.

وقال: ينبغي أن يكون أبو حنيفة ذهب إلى المنصور، لأنه مات قبل خلافة هارون(1)

2/لو قال لك شخص: أنت مجرد آلة، أنت جدار، فلا شكّ أنك لا تقبل

ص: 129


1- منتهى المقال في أحوال الرجال للشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني ج2 ص 180 رقم 492.

بهذا أبدًا، وهذا يعني أنك بشعورك الوجداني تُحسّ بنفسك أنك غير الآلة، وأن أهم ما ميّزك عنها هو أنك تفعل باختيارك لا كالآلة العمياء الصمّاء.

فإحساسك الوجداني بأنك (تريد ولا تريد) هو مؤشر على أنك تفعل باختيارك.

3/ أننا نجد في سلوكياتنا نمطين من السلوك: فهناك سلوك غير علمي، فليس للعلم مدخلية فيه، فهو يمشي ويتحرك سواء علمتُ به أم لم أعلم، فعلمي به –لو وُجد- هو مجرد متفرّج لا يؤثر في الحركة شيء، وذلك كحركة الدورة الدموية وعمل المعدة وبقية الأعضاء الداخلية للإنسان.

ولكن هناك سلوكًا للعلم فيه مدخلية وأثر، فهو يتغير بتغير العلم، وبتغير القناعات، فقد تفعل شيئًا ما وتصرّ عليه، ولكنك بعد فترة تبتعد عنه وتغير رأيك لسبب ما. فقد يأكل أحدهم الربا، ولكنه بعد أن يعلم بحرمته يتركه البتة، وقد يريد أحدهم الخروج إلى الحديقة، فيسمع من خلال النشرة الجوية أن هناك أمطارًا غزيرة ستهطل، فيغير رأيه ولا يخرج، وهكذا...

إن هذا يكشف عن أن الإنسان ما زال مختارًا في فعله، وأنه هو من يقوم باتخاذ القرار المناسب للفعل أو عدمه.

إن تجميع هذه المؤشرات يؤدي إلى الجزم بصحة الوجدان الذي نحس به، وأن لدينا اختيارًا وإرادة. وهو المطلوب.

ثانيًا: صحيح أن علم الله تعالى شامل ولا بد أن يقع، وإلا لانقلب

ص: 130

جهلًا، ولكن هذا لا يلزم منه الجبر في فعل الإنسان، باعتبار أن العلم لا يتعلق بالفعل وحده من دون مقدماته، بل يتعلق بالفعل وبجميع مقدماته، ونحن نقول: إن العلم الإلهي تعلق بفعل الإنسان الاختياري، بمعنى: أنه تعالى علم أن (فلانًا) سوف يُصبح مهندسًا مثلًا باختياره هو، أي إن العلم تعلق بأن الفعل سيقع من العبد باختيار العبد، بل إن شمولية العلم الإلهي تقتضي ذلك، أي تقتضي أن يتعلق بالفعل ومقدماته.

فالعلم الإلهي إذن يتعلق بالفعل ومقدماته، فإذا كانت مقدماته اختيارية، فإنه يقع بالاختيار، والعلم الإلهي يتعلق بكونه فعلًا اختياريًا، وإذا كانت مقدماته غير اختيارية، فإنه يتعلق به وبمقدماته غير الاختيارية.

إذن، ما ذكروه من دليل عموم وشمول العلم الإلهي، يُثبت حتمية الأفعال ونتائجها وفق نسق مقدماتها، فالمعلوم هو النتائج مع أولياتها ومقدماتها، خصوصًا مع التذكير بما تقدم في المقدمات من أن عالمنا هو عالم الأسباب والمسببات، وأن النتائج إنما تكون وفق أسبابها، وفي المقام، فإن المعلوم لله تعالى هو فعل الإنسان مع مقدماته التي منها الاختيار والإرادة.

وحتى تتضح الصورة أكثر نذكر المثال التالي:

لو ذهب أحدهم إلى الطبيب، فقال له الطبيب: إنك إذا أكلت الطعام الفلاني فإنك ستُصاب بالمرض الفلاني، وذهب ذلك الشخص وتناول ذلك الطعام، فلا شك أنه سيُصاب بالمرض الذي أخبره به الطبيب، ولكن هل أجبره الطبيب على أن يتناول ذلك الطعام؟!

ص: 131

من الواضح أن علم الطبيب بمرضه إنما تعلق بما إذا تناول الشخص الطعام باختياره هو، ولم يجبره الطبيب على ذلك.

وهكذا لو أن معلمًا ما وبعد تعايشه مع مجموعة من التلاميذ لعام كامل، فإنه وبلا شك يستطيع أن يميز من سينجح ومن سيرسب، وربما يستطيع أن يتكهن بالعلامات التي سيحصل عليها كلٌ من الطرفين، ولا ريب في أن علم المعلم ذاك لا يجبر الناجح على النجاح، ولا الراسب على الرسوب.

الدليل الثاني: عموم القدرة الإلهية النافي لكل قدرة أخرى

إن القدرة عامة شاملة كالعلم، فكل شيء داخل تحت القدرة، بما في ذلك فعل الإنسان، وهذا يعني أن فعل الإنسان هو مجرد صورة وشكل فقط، إذ قدرة الله تعالى شاملة لفعل الإنسان، ولا مجال لأن تزاحم قدرةُ الإنسان قدرةَ الله تعالى، فقوة الله تعالى لا تُضادّ ولا تُزاحم، فما عندنا من اختيار إذن هو مجرد وهم، وإلا، فلو كان للإنسان قدرة في قبال قدرة الله تعالى فهذا يعني الجزّ والقطع والتحديد في القدرة الإلهية، وهذا محال.

وترجع أصول هذا الدليل إلى ما ادّعوه من أن التوحيد الأفعالي يقتضي أن لا فاعل في الوجود حقيقة إلا الله تبارك وتعالى، وبالتالي فما يفعله الإنسان إنما هو مجبر عليه وتحت القدرة الإلهية التي تفعل كل شيء بما في ذلك الفعل الصادر من الإنسان.

ص: 132

الجواب:

أولًا: الوجدان قاضٍ بالاختيار، ويأتي نفس الجواب الأول السابق على دليلهم الأول، وقد تقدمت المؤشرات التي توضّح هذا الوجدان.

ثانيًا: لا شك أننا نقبل -وبإصرار- أن قدرة الله تعالى عامة وشاملة لكل شيء –كما تقدم-، ولكن هل عموم القدرة الإلهية يقتضي نفي أي قدرة أخرى؟

من الواضح أن عموم القدرة الإلهية وكونها قدرة مطلقة غير محدودة يقتضي نفي القدرة اللا متناهية واللا محدودة في عرضها، أي نفي القدرة التي تعارض قدرة الله تعالى، أما القدرة التي تكون مترشحة من قدرة الله تعالى وفي طولها وبإذن الله تعالى وبحوله وقوته، فهذه لا مانع من ثبوتها لا عقلًا ولا شرعاً، ونحن ندّعي أن قدرة الإنسان إنما هي بإذن الله تعالى وتحت قدرته، ولا تخرج قدرة الإنسان عن قدرة الله تعالى في حال من الأحوال.فالدليل الثاني انطلق من أن القدرة الإلهية شاملة وعامة –وهذا صحيح-، واستنتج أنها ترفض وتُلغي كل قدرة أخرى، وهذه الانتقالة غير صحيحة، فإن القدرة المطلقة تنفي القادر المطلق الآخر، لا مطلق القادر ولو كان في طول المطلق وبإذنه، تمامًا كما أن وجوب الوجود ينفي وجود واجب وجود آخر في عرض الأول، ولا ينفي وجود أي موجود ولو كان ممكنًا، والوقوع أدلّ دليل على الإمكان.

ونفس الكلام يُقال فيما لو أُريد الاستدلال على الجبر بعموم الإرادة

ص: 133

الإلهية، فإننا نقبل ذلك، ولكننا نقول: إن عموم الإرادة الإلهية يُلغي الإرادة المطلقة في عرضها، وأما الإرادة في طولها وبإذنها فلا مانع عقلًا ولا شرعًا منها، وهو المدّعى والواقع.

الأمر الثالث: آثار أخرى للجبر

مما تقدم يتبين: أن الدليل على أن الإنسان مختار رغم أنه ما زال تحت القدرة والإرادة والعلم الإلهي هو: العلم الحضوري والبديهي والوجداني بالاختيار، فإن الإنسان يشعر بوجدانه أنه مختار ويفعل بمحض إرادته، وقد تقدمت بعض المؤشرات على ذلك.

يُضاف إليه: أن القول بالجبر يستلزم نسبة الظلم والقبح إلى الله تبارك وتعالى عن ذلك علوّا كبيرًا، إذ إن الجبر يعني أن ما يصدر من الإنسان إنما هو صادر من الله تعالى في الحقيقة لا من الإنسان، وبالتالي فأي فعل يصدر من الإنسان إنما هو في الحقيقة من الله تعالى، فإذا فعل الإنسان أمرًا قبيحًا، فهذا يعني نسبة القبيح إليه تعالى، وهو محال كما هو واضح.

على أن الجبر يؤدي إلى تملّص المجرم من جريمته، بحجة أنه مجبر على فعله، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وبذلك يُلقي باللوم خارج ساحته، وبالتالي يتخلص من تحمّل مسؤولية فعله، وهذا ما ينفع كثيرًا السلاطين الظالمين، ولذلك يمكن القول بأن في الجبر مآرب سياسية ربما أكثر منها عقائدية.

ولو كان الفاعل لأفعال العبد هو الله تعالى، لما كان هناك وجه لمعاقبته لو

ص: 134

أذنب، إذ الفرض أنه مجبر، فلا إرادة له، فكيف يعذّبه الله تعالى على شيء لم يفعله بإرادته؟!

الأمر الرابع: نفي الجبر في الروايات الشريفة

وردت العديد من الروايات التي تنفي الجبر، والتي استعملت الوجدان -الذي تقدمت الإشارة إليه- كحدّ أوسط لنفي الجبر، ونذكر منها التالي:

1/روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لا تقولوا: أجبرهم على المعاصي، فتُظلِّموه.(1)

أي إن الله تعالى لو كان هو من أجبر العباد على أفعالهم، فبالتالي يكون هو تعالى من أجبرهم على المعاصي، فيكون ظالمًا للعباد عندما يعاقبهم على تلك المعاصي التي صدرت منهم رغمًا عنهم بل إنها صدرت عنه هو (تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا).

2/في رواية أنه كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) جَالِساً بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِه مِنْ صِفِّينَ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْه ثُمَّ قَالَ لَه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ أبِقَضَاءٍ مِنَ الله وقَدَرٍ؟

فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): أَجَلْ يَا شَيْخُ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً ولَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ الله وقَدَرٍ.

فَقَالَ لَه الشَّيْخُ: عِنْدَ الله أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ!

ص: 135


1- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص 311.

فَقَالَ لَه: مَه يَا شَيْخُ، فَوَالله لَقَدْ عَظَّمَ الله الأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وأَنْتُمْ سَائِرُونَ، وفِي مَقَامِكُمْ وأَنْتُمْ مُقِيمُونَ، وفِي مُنْصَرَفِكُمْ وأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ، ولَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ، ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ.

فَقَالَ لَه الشَّيْخُ: وكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِنَا مُكْرَهِينَ ولَا إِلَيْه مُضْطَرِّينَ، وكَانَ بِالْقَضَاءِ والْقَدَرِ مَسِيرُنَا ومُنْقَلَبُنَا ومُنْصَرَفُنَا؟!

فَقَالَ لَه: وتَظُنُّ أَنَّه كَانَ قَضَاءً حَتْماً وقَدَراً لَازِماً، إِنَّه لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ والْعِقَابُ، والأَمْرُ والنَّهْيُ، والزَّجْرُ مِنَ الله، وسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ والْوَعِيدِ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ ولَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ، ولَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ، ولَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ، تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ وحِزْبِ الشَّيْطَانِ وقَدَرِيَّةِ هَذِه الأُمَّةِ ومَجُوسِهَا...(1)

فالإمام (عليه السلام) يذكر مؤشرات وجدانية ولوازم ضرورية للقول بالجبر، وهي لوازم باطلة بالوجدان والدليل، والنتيجة: أن الجبر باطل.

3/ وفي رواية ثالثة أن رجلًا سأل الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) عن القضاء والقدر فقال: ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله، يقول الله تعالى للعبد: لمَ عصيتَ؟ لمَ فسقتَ؟ لم شربتَ الخمر؟ لمَ زنيتَ؟ فهذا فعل العبد، ولا يقول له: لمَ مرضتَ، لمَ علوتَ؟ لمَ قصرتَ؟ لمَ ابْيضَضْتَ؟ لمَ اسودَدْتَ؟ لأنه من

ص: 136


1- الكافي للكليني ج1 ص 155 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح1.

فعل الله تعالى.(1)

وفي هذه الرواية مؤشر وجداني على تقسيم الأفعال إلى إرادية وغير إرادية، وأن الحساب يكون على الأولى منها، وهذا لا يتلاءم إلا مع افتراض الإرادة الإنسانية.

4/ وفي السياق ذاته روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال يومًا لبعض المجبِّرة: هل يكون أحد أقبل للعذر الصحيح من الله؟ فقال: لا. فقال له: فما تقول فيمن قال: ما أقدرُ، وهو لا يقدر، أيكون معذورًا أم لا؟ فقال المجبر: يكون معذورًا.

قال له: فإذا كان الله يعلم من عباده أنهم ما قدروا على طاعته، وقال لسان حالهم أو مقالهم لله يوم القيامة: يا رب ما قدرنا على طاعتك لأنك منعتْنا منها، أما يكون قولهم وعذرهم صحيحًا على قول المجبِّرة؟ قال: بلى والله. قال: فيجب على قولك أن الله يقبل هذا العذر الصحيح، ولا يؤاخذ أحدًا أبدًا، وهذا خلاف قول أهل الملل كلهم! فتاب المجبرة من قوله بالجبر في الحال.(2)

والرواية ذكرت شاهدًا وجدانيًا أيضًا، مفاده ما تقدم من أن الجبر لا يسوغ العقوبة، وأن العقوبة والحساب هما من المفاهيم التي لا تظهر ولا يكون لها معنى إلا مع افتراض الإرادة الإنسانية.

ص: 137


1- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس ص 330.
2- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس ص 327 – 328.

إشارة: ذم الجبر في الروايات الشريفة:

هناك العديد من الروايات التي ذمّت القول بالجبر، وبألسنة متعددة، ومنها:

ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: خمسة لا تُطفأُ نيرانهم، ولا تموت أبدانهم: رجل أشرك، ورجل عقّ والديه، ورجل سعى بأخيه إلى السلطان فقتله، ورجل قتل نفسًا بغير نفس، ورجل أذنب وحَمَلَ ذنبه على الله عز وجل.(1)

وعن إبراهيم بن أبي محمود قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام)... عن الله عز وجل: هل يجبر عباده على المعاصي؟ فقال: بل يخيرهم ويمهلهم حتى يتوبوا. قلت: فهل يكلف عباده ما لا يطيقون؟ فقال: كيف يفعل ذلك؟ وهو يقول: (وَمَا رَبُّك بظلّامٍ للعَبيد)(2)

ثم قال (عليه السلام): حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: من زعم أن الله تعالى يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته ولا تقبلوا شهادته ولا تصلوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئًا.(3)

ص: 138


1- كنز الفوائد للكراجكي ص 202.
2- فصلت (46).
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج1ص 113 ح16.
المبحث الثاني: الجبر الاجتماعي
اشارة

ما تقدم الكلام فيه هو الجبر الكلامي، أي الجبر الذي يعني أن هناك قوة إلهية تجبر الإنسان على فعله، وتسلبه إرادته واختياره، بحيث يتحول الإنسان إلى مجرد آلة، كالسكين في يد القصاب، أو كالقلم بيد الكاتب.

وهناك نوع آخر من الجبر يُطلق عليه: الجبر الاجتماعي، والكلام فيه يقع ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: معنى الجبر الاجتماعي

لا شك أن الإنسان لا يعيش في هذا العالم منفردًا بنفسه، بل هو يعيش ضمن أسرة معينة، لها تقاليدها الخاصة، ولها قوانينها الحياتية المتعارفة.

هو ينتمي لقبيلة ما، تفرض عليه بعض الأمور التي لا بد أن يلتزم بها.

هو يعيش على أرض وطن له سيادته وقانونه، عليه أيضًا أن يلتزم بها.

هو محاط بالكثير من المؤثرات التي تسوقه نحو بعض التصرفات وإن لم يكن راغبًا بها. وهذا ما يؤسس لمفهوم الجبر الاجتماعي.

فالجبر الاجتماعي إذن ينطلق ويتأسس من العلاقة بين الإنسان والإنسان

ص: 139

الآخر، أو بين الإنسان والطبيعة، فالجبر هنا يقول: إن الإنسان مقهور للطبيعة، للوراثة، للبيئة، للمناخ، للتقاليد والأعراف، هو أشبه بمن يقع في نهر جارٍ نحو شلال، فإنه مهما نظّر وأقنع نفسه بأنه مختار، فإن النهر يسحبه بقوة نحو الشلال! وهو أشبه بالمريض الذي يعتبر مرضه لوحة جميلة، ولكنه في الواقع يعيش ألمًا لا يُحس به غيره!

فهل الإنسان مجبر بهذا المعنى؟

النقطة الثانية: مفاصل أساسية وفروق بين الجبر الكلامي والاجتماعي
اشارة

في الجواب عن الجبر الاجتماعي علينا أن نفهم المفاصل التالية:

المفصل الأول: وجود القوة القاهرة وعدمه

هناك فرق بين الجبر الكلامي وبين الجبر الاجتماعي، فالجبر الذي تحدثنا عنه أولًا يعني أن هناك قوة قاهرة، تسلب اختيار الإنسان بالمرة، بحيث يتحول إلى مجرد آلة بيد محرّكها، أما الجبر الاجتماعي فلا يعني ذلك، وإلا لرجع إلى الجبر الكلامي، وإنما يعني أن هناك قوى متعددة تجتمع لتضطر الإنسان إلى أن يقوم ببعض الأفعال التي لا يرغب بها، فإن ضغط القبيلة مهما كان، فإنه لا يسلب اختيار الإنسان ولا يحوله إلى مجرد آلة، وإنما قد يضطره إلى الزواج بابنة عمه أو بابن عمها، ولكنه يمكنه أن يهرب مثلًا ولا يتزوج، يمكنه أن يرفض حتى وإن رفضته القبيلة.

والحاصل: أن الجبر الاجتماعي مهما ضغط على الإنسان، ولكنه لا يصل

ص: 140

إلى حد سلب الاختيار بالمرة.

وبعبارة مختصرة: أن الجبر الكلامي هو علة تامة لسلب الاختيار عن الإنسان.

أما الاجتماعي فهو علة ناقصة لذلك.

وهذا من أهم الفروق بين الجبر الكلامي والجبر الاجتماعي.

المفصل الثاني: الاختيار علة ناقصة للفعل

صحيح أننا انتهينا إلى ان الإنسان مختار في فعله، ولكن هذا لا يعني أن الاختيار هو العلة التامة للفعل، بل في الحقيقة هو علة ناقصة للفعل، فأنت ربما تريد أن تكون عالمًا، أنت عندك إرادة واختيار على ذلك، ولكن محض الإرادة لا تجعلك عالمًا، إنما تحتاج إلى ألف علة وعلة أخرى تقف مع اختيارك وإرادتك لتصبح عالمًا، فأنت تحتاج إلى الأستاذ، والكتاب، والزميل، والوقت، والصحة، والأمن، تحتاج إلى قلم، وتحتاج إلى حبر، وتحتاج إلى كثير من الأمور التي لا بد أن تقف مع الإرادة، حتى يمكنك أن تصير عالمًا مثلًا.

وقد تقدم أن للفعل مبادئ هي التصور والتصديق والشوق ثم تأتي الإرادة بعد تلك المقدمات.

فالاختيار ليس علة تامة للفعل، وإنما هو علة ناقصة.

والجبر الكلامي ينفي الاختيار من الأساس، أما الجبر الاجتماعي فإنه لا ينفي الاختيار من الأساس، وإنما هو يقول: إن هناك موانع عديدة تقف

ص: 141

معترضة أمام الإرادة دون تحقيق مرادها.

المفصل الثالث: سلب الإرادة وعدمه

هناك فعل جانحي، وهناك فعل جارحي، فالجانحي مثل التفكير، والاعتقاد، والإرادة، والجارحي مثل الصلاة، والأكل، والسفر، والزواج...

الجبر الكلامي يسلب من الإنسان الإرادة، وهي فعل جانحي، هي فعل لا يُرى بالعين، وإنما هو أمر معنوي.

أما الجبر الاجتماعي، فإنه لا يسلب الإرادة الداخلية للفعل، وإنما يمنع من وقوع الفعل الخارجي الجارحي الفيزيائي (أي المراد)، فإن من طبيعة الفعل الجارحي أنه قد يصطدم بالكثير من الموانع التي لا تستطيع أن تمتد إلى الداخل الإنساني لتمنعه، فالإرادة قد تكون موجودة لدى الإنسان ليكون تاجرًا مثلًا، ولكن هناك موانع خارجية تمنع من تنفيذ هذه الإرادة وتحويلها إلى فعل خارجي، كقوانين الدولة، أو قلة ذات اليد، وما شابه.

أنت تريد أن تسافر مثلًا للحج، لكنهم يمنعونك من السفر لعدم توفر الشروط اللازمة فيك.

فالفعل الخارجي له عدة علل، ومنها الإرادة، فقد تتحقق، ولكن بقية أجزاء العلة لا تكون متحققة، فتبقى الإرادة يتيمة من دون أن تساعدها بقية الأجزاء لتتحول إلى تنفيذ خارجي.

فالإنسان في الجبر الاجتماعي يدخل في صراع مع العوامل الخارجية،

ص: 142

فهو يريد أن يحقق ما يُريد، ولكن الأعراف والطبيعة وبقية العوامل قد تقف مانعًا من ذلك، الأمر الذي سيجعل الفرد يفكر في طرق إبداعية للتخلص من ضغط تلك العوامل من خلال التطور والتحليل والاستنتاج.

فعلينا إذن أن نميز بين الإرادة والاختيار كفعل جانحي داخلي، وبين تحقيق الفعل خارجًا الذي هو تنفيذ للإرادة واستمرار لحدوثها في الداخل.

وباختصار: أن الجبر الكلامي ينفي الإرادة.

أما الاجتماعي فإنه ينفي المراد لا الإرادة.

المفصل الرابع: سلب الإرادة وسوء الإرادة

هناك فرق بين الإرادة، وبين حسن وسوء الإرادة.

فالإرادة صفة ذاتية، تصف نفس الذات.

أما حسن وسوء الاختيار فهي صفة فعل، فالفعل –بالاعتبارات العقلية والشرعية- قد يكون حسنًا، فيكون اختياره حسنًا، وقد يكون قبيحًا، فيكون اختياره سيئًا. أي إنه توظيف وتفعيل الإرادة والاختيار.

والجبر الكلامي يسلب الإرادة نفسها.

أما الجبر الاجتماعي فهو لا يسلب الإرادة، وإنما قد يؤدي بالإنسان إلى أن يجعله يُسيء تفعيل اختياره، ولا يختار الأمر الحسن.

فمهما اشتدت الضغوط على المرء، لكنها لا تسلب منه صفته الذاتية التي

ص: 143

هي الاختيار، وإنما هي تضغط عليه لتجعله هو يوجّه اختياره نحو وجهة ما، قد تكون حسنة، وقد تكون سيئة. على أن الاختيار السيء لا ينفي الاختيار، فلو رمى إنسان نفسه من شاهق باختياره، فإنه وإن كان بعد أن يرمي نفسه لا يملك الخيار بالتراجع، ولكن العقلاء يعتبرون فعله هذا صادرًا منه وبمحض إرادته، ولذلك يذمونه على هذا الفعل القبيح، وهذا هو معنى ما يُقال: إن الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار.

المفصل الخامس: سلب الإرادة المؤقت والدائمي

هناك فرق بين الجبر المؤقت والجبر الدائمي، فالجبر الكلامي يعني سلب الإرادة على نحو الدوام، فهو يذهب بإرادة الإنسان إلى حيث لا رجعة فيها، وأما الجبر الاجتماعي، فهو في أسوء أحواله يسلب الإرادة في بعض الوقت لا دائمًا؛ إذ إن الإنسان حينما يريد أن يفعل فعلًا ما، فإن الفعل يحتاج إلى تحقق الكثير من العلل الناقصة –كما تبين أكثر من مرة- تتضمن رفع الموانع وتوفير الشروط وتحقيق المقتضيات للفعل، فعالمنا هو عالم العلل المركبة.

ومن طبيعة العلل المركبة أنها تدريجية الوقوع، ولا يعني كونها كذلك أن حصولها يكون بيسر وسلاسة، وإنما يحصل فيها الكثير من الموانع والعقبات، وحينها، فإنه يحتمل أنه وفي وسط الطريق يصطدم الإنسان ببعض العقبات التي تثنيه عن تنفيذ إرادته، أو تحقيق مراده، فيتصور أنه مجبر، والحال أن هذا ليس جبرًا، وإنما هي طبيعة عالم المادة المبنية على أساس وجود الموانع التي يُطلب من الإنسان العمل بجد على إزالتها والتغلب عليها، أي إنه من

ص: 144

مشاريع الإنسان في هذه الحياة هي إزالة العقبات والموانع التي تقف دون تنفيذ مراداته.

ولكن تراكم العقبات والموانع وعدم توفر شروط تنفيذ المراد، قد يولّد عند الفرد إحساسًا بأنه مجبر ولا يستطيع الوصول إلى الهدف وأنه عاجز عن ذلك، وهذا أمر غير واقعي وغير صحيح.

على كل من يواجه ضغوطًا شديدة في الحياة ان يتذكر قول الشاعر(1):

أما ترى الحبل بتكراره *** في الصخرة الصمّاء قد أثّرا

إن الخطأ الذي يقع فيه البعض أنه يتوقف عندما يواجه بعض العراقيل في الطريق، فيتصور أنه عاجز عن الوصول، والحال أن الإنسان العاقل والفاهم لطبيعة الحركة في هذا العالم، يبقى يحاول بطريقة وبأخرى ليزيل العقبات والموانع، وأن يوفّر لنفسه شرائط بديلة عن تلك التي فقدها، ويواصل الطريق حتى يصل إلى الهدف، ويضع تُصب عينيه: أن الناجح في الحياة هو من بحث عن الظروف التي تلائمه للوصول إلى هدفه، فلمّا لم يجدْها صنعها بنفسه.

والحاصل: أن الجبر المؤقت لا ينافي الاختيار ولا يُخلّ به.

المفصل السادس: سلب الإرادة والكسل

هناك فرق بين الجبر الكلامي وبين فكرة: الكسل، المجان، اليسر،

ص: 145


1- كشف الخفاء للعجلوني ص 67، والبيت غير معروف القائل.

والشهوة.

فإننا نلاحظ أن بعض الفلسفات والأقوال، جاءت للتغطية على خطأ مبرمج، كالكسل، والبحث عن الربح بالمجّان، واليسر، وإشباع الشهوات والرغبات إلى حدّ التخمة...

فيبتعد الكسول عن تحصيل المعالي، فيعمل على تغطية كسله بأنه مُجبر وأن الظروف هي من أجبرته على ان يبقى في آخر الركب، أو يحاول أن يصور أنه غير مختار لأنه لا يستطيع أن يحصل على مراداته بالمجّان أو بصورة يسيرة وسهلة، وكأنه يجعل من الاختيار توأمًا للمجان واليسر، أو إن البعض يشتهي أن يحصل على مراده ويشبع رغباته ويُصبح الرجل الأول في مجتمعه من دون أن يبذل أي جهد، يُريد أن يلعق العسل بملاعق الذهب! خصوصًا وأن عند الإنسان نزعة تبريرية تعمل على إلقاء اللوم على الآخرين والتملًص من المسؤولية، قال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدىٰ بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا

ص: 146

يَعْمَلُونَ.)(1)

وقال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ وَلَوْ يَرَىٰ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.)(2)

من هذا نفهم لا بدّية التمييز بين الجبر الحقيقي –الذي يعني سلب الاختيار بالمرة- وبين هذه المفاهيم التي لا تتنافى مع الاختيار كما هو واضح. فالكسول لا يمكنه أن يخدعنا بأنه مجبر، وإنما هو آثر الراحة والفقر على التعب وجني الثمار.

إننا نرى بأم العين أن اختيار الإنسان يفعل المستحيل فيما لو ابتعد الفرد عن الكسل والتعاجز، ونظر بعين واقعية إلى انه لا مجّان في البين، فإذا فعّل اختياره بصورة صحيحة وجيدة، فإنه سيصل ولو بعد حين.

المفصل السابع: سلب الإرادة أو فرض الموانع

هناك فرق بين الجبر الكلامي والجبر القانوني، فالجبر الفلسفي أو الكلامي هو ينفي الإرادة من أصلها، أما الجبر الاجتماعي والقانوني فهو لا

ص: 147


1- سبأ 31 – 33
2- البقرة 165 – 167

ينفي الإرادة من أصل، وإنما هو يولّد موانع من تنفيذ الإرادة في الخارج رغم وجودها في الداخل كما تبين.

إشارة: شكلا الجبر الاجتماعي القانوني
اشارة

إن الجبر الاجتماعي أو القانوني على شكلين:

الشكل الأول: الجبر القانوني التشريعي

بأن يأتي قانون ملزم للأفراد، فهو إلزام قانوني اعتباري لا تكويني حقيقي، فالدولة مثلًا عندما تُشرّع قانونًا يُلزم التجّار بدفع الضريبة، فهذا قانون، ويمكن للتاجر أن يعصي هذا القانون، ويمكن أن يلتف عليه برشوة أو منصب وما شابه، فهو لا يتنافى مع الاختيار، فالجبر التشريعي القانوني لا يسلب اختيار الإنسان وإن كان ملزمًا له.

والآمر والملزِم هنا هو نفس المشرّع، فهو الذي يُهدّد ويُلزم الأفراد.

ولذلك فهو يُلزمك بالطاعة لا بالمعصية، يُلزمك عادة بما يصب في صالح المصلحة العامة للبشرية. فهو يجبرك على تنفيذ القانون لا على مخالفته. وإلا، فلو لم يلزمنا المشرّع بالقانون، لأدّى ذلك إلى الفوضى وضرر الإنسان، نظير الطبيب الذي يُلزم المريض بشرب دواء ما رغم أن المريض لا يحبّذه لمرارة طعمه مثلًا، ولكن الطبيب يلزمه بذلك ليُرجعه إلى حالة التوازن الصحّية.

الشكل الثاني: الجبر بالتهديد والاضطرار

كما لو أجبرك الحاكم على بيع بيتك، أو أكرهك أحدهم على الإفطار،

ص: 148

فهذا نوع من الجبر القانوني، والتجاوب معه –ببيع البيت أو الإفطار- له آثار قانونية، فبيع البيت جبرًا –بهذا المعنى- باطل، والإفطار لا يعتبر معصية ولا تجب فيه الكفارة، فالاضطرار يرفع التكليف أو أثر التكليف، أي إن القانون يُرتب آثار الجبر على هذا النوع من الإكراه رغم أنه لا يسلب الإرادة وليس جبرًا فلسفياً، لأنه يمكن للإنسان أن لا يبيع بيته أو أن لا يُفطر حتى لو سجنوه او حتى لو قتلوه، ولكن حيث إن الإنسان لا يحبذ الموت أو السجن أو الضرب، حيث إن هذه الأمور صعبة التحمل على الإنسان، فالإنسان يضطر أن يرضخ للتهديد أو الإكراه، والقانون تعامل مع هذا الإكراه تعامل الجبر الفلسفي الذي يسلب الإرادة، تخفيفًا على الإنسان طبعًا.

والجبر القانوني الاضطراري يكون الآمر فيه والمهدِّد هو شخص آخر غير المشرّع، بل المشرّع هنا هو من يُخفّف على الإنسان لو وقع عليه الاضطرار والإكراه، فالمشرّع اصطفّ مع الإنسان لا مع المكرِه، لذلك رفع المؤاخذة عن الفرد.

مما يعني أن المكرِه هنا يضطرك إلى المعصية لا الطاعة، لذلك لم يعتبره المشرع عملًا صحيحًا.والخلاصة، أن الجبر الفلسفي هو الذي يتنافى مع الاختيار.

أم الجبر القانوني فهو لا يتنافى مع الاختيار ولا يسلب الاختيار.

ص: 149

النقطة الثالثة: الجواب عن الجبر الاجتماعي
اشارة

إذا تبين كل ما تقدم، سيكون الجواب عن الجبر الاجتماعي واضحًا إن شاء الله ضمن الخطوات التالية:

الخطوة الأولى

إن الطبيعة –بقوانينها الأسرية والقبلية والدولية و...- لا توجب سلب إرادة الإنسان واختياره، فهي لم تصل إلى حدّ (القوة القاهرة)، ولم يدّعِ أحدٌ أن قوانين الطبيعة جعلت الإنسان كالآلة، بل يبقى هامش الاختيار بحيث يتمكن الإنسان أن يتمرد على كل القوانين والمعوقات التي تحيط به.

الخطوة الثانية

إن قوانين الطبيعة والمضادات والعقبات، إنما تعمل على إعادة برمجة الفعل الإنساني، والالتفاف عليه، بمعنى: إنه تقدم أن الفعل الإرادي له مبادئ، هي: التصور فالتصديق والقناعة فالشوق ثم الإرادة، وتلك المقدمات والمبادئ هي مرجحات للفعل، فأنت عندما تتصور الفائدة في العلاج، فهذا التصور يكون مرجحًا لتفعيل الإرادة نحو استعمال الدواء وإن كان مرًّا، وهكذا بقية المبادئ.

وقوانين الطبيعة لا تُلغي الإرادة، وإنما تتلاعب بالصور مثلًا، تغير القناعات والمشاعر، فهي لا تسلب الاختيار، وإنما تتلاعب بالوجهة لتجعل الاختيار يسير إلى طريق آخر، فالاختيار محفوظ، لكنه لا يسير بالطريق

ص: 150

المرغوب به، وإنما يسير في طريق آخر نتيجة لضغط الظروف الخارجية والاجتماعية.

ومع ذلك، فتلك الظروف لا تجعل الاختيار أعمى، وإنما يبقى له بصيص نور يُبصر به، ويستطيع به أن يتمرّد على كل الظروف المحيطة به، فيستطيع الاختيار أن يعدّل التصورات والقناعات ويرجع بها إلى حيث يرغب.

الخطوة الثالثة

مهما صعبت الظروف، وادلهمت الأمور، فإن الكلمة الأخيرة تبقى للاختيار، حتى لو وصل الحدّ بالظروف إلى الإحاطة التامة بالاختيار، فإنه يبقى لديه القدرة على أن يقول (هيهات منا الذلة) ويقول (ومثلي لا يبايع مثله).

فالجبر الاجتماعي في الحقيقة لا يسلب اختيار الإنسان، وإنما هو يعمل على توجيه الاختيار بوجهة أخرى.

وربما أوضح مثال على هذه الحقيقة، هو عمل إبليس مع الإنسان، فإنه مهما وسوس له وزيّن له القبيح من الأفعال والأقوال، لكنه لا يسلب إرادة الإنسان أبدًا، ولا يحوله إلى آلة بيده، بل تبقى الكلمة الأخيرة للإنسان مهما كانت وساوس إبليس وتسويلاته، وهذا الأمر كان مفهومًا حتى لإبليس، لذلك عندما يريد المنحرف أن يرمي بمسؤولية معصيته عليه، فإنه يتبرأ من ذلك ويعلنها على الإنسان أنه ابع بإرادته، وأنه لم يجبره على المعصية، وهذا

ص: 151

ما حكاه الباري جل وعلا في محكم كتابه بقوله: (وَبَرَزُوا لِلهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.)(1)

الخطوة الرابعة

ومما يؤكد ما تقدم من أن الطبيعة وظروفها مهما اشتدت فإنها لا تسلب إرادة الإنسان، وأن الإنسان يستطيع أن يتمرد على أحلك الظروف، هي ظاهرة الأنبياء وأتباع الأنبياء، فإن الأنبياء عادة ما يخرجون من رحم المجتمعات القاسية البعيدة كل البعد عن التعلق بالغيب، عادة ما يكون ظهور الأنبياء في مجتمعات متماسكة من جهة الكفر والطغيان والفتك بكل المناوئين والمعارضين للحكم، حتى أنه كان يُقتل في بني إسرائيل سبعون نبيًا قبل طلوع الشمس.(2) ومع ذلك فقد برزت ظاهرة النبوة بقوة، وتجمّع مع

ص: 152


1- إبراهيم 21 و22.
2- في بحار الأنوار ج44 ص 365 أنه جاء عبد الله بن عمر فأشار على الإمام الحسين (عليه السلام) بصلح أهل الضلال وحذره من القتل والقتال، فقال: يا أبا عبد الرحمان أما علمت أن من هوان الدنيا على الله تعالى أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل أما تعلم أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئا فلم يعجل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام اتق الله يا أبا عبد الرحمان، ولا تدع نصرتي...

الأنبياء أنصار ثبتوا على المبدأ رغم صعوبة الظروف التي مروا بها مما حفظته المدونات التاريخية.

ونفس الكلام يُقال في حياة كثير من العباقرة والمبدعين في مختلف العصور.

كل هذا معناه: أن المجتمع مهما كان ضغطه قويًا، لكنه لا يسلب الإرادة.

ص: 153

ص: 154

المسألة الثالثة: التفويض

اشارة

وهنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: معنى التفويض

إذا كانت نظرية الجبر تعني أن الإنسان هو كالآلة، لا يفعل شيئًا بمحض إرادته، وأن كل شيء إنما هو صادر من الله تعالى، فإن نظرية التفويض تقف على أقصى الجانب المقابل لهذه النظرية، فإنها تعني أن نظام البشرية هو نظام (اذهب انت واختيارك فقاتلا) لا (أنت وربك).

إن نظرية التفويض تفترض أن الله تعالى أوجد العالم، ورفع يده عنه، بحيث لا يتدخل بعد إيجاده أبدًا، وإنما تركه للبشر بعد أن أوجد أولياته وعناصره وأدواته، فلا لمسة للخالق في الكون استمرارًا، فأي شيء يحصل في هذا العالم فلا تدخّل لله تعالى فيه، تمامًا كما لو أن الأب قال لولده: ادخل الجامعة، وتفضل هذا كل ما تحتاج إليه في الجامعة، ولا أراك إلا في نهاية دوام الجامعة، فلا يسأل عنه ماذا صنع وكيف درس وماذا فعل، لا دخل له به من هذه الناحية.

ص: 155

فنظرية التفويض تقول: إن الله تعالى أوجد العالم وأوجد كل ما يحتاج إليه الإنسان فيه، ورفع يده بعد ذلك، فلا يتدخل في هذا العالم بأي شيء، وإنما يرجع ليتدخل مرة أخرى في يوم القيامة.

النقطة الثانية: خلفية القول بالتفويض

إن الإنسان مختار بالوجدان، هذا من جهة المتناهي (الممكن)، ولكن من جهة الواجب اللا متناهي، فإنه عندما اوجد العالم، فقد أوجده بصورته النهائية، وكل إضافة من الواجب إلى هذا العالم هي تحصيل حاصل، وأي إضافة في العالم تعني تغيير العالم، فالعالم أُوجد وانتهى، ولا يحتاج بعده إلى علة، وأي تدخل من العلة للعالم يُعتبر تحصيلًا للحاصل.

وقد مثّلوا له فلسفيًا بالبنّاء والبِناء، فإنه عندما يكتمل البِناء فلا حاجة للبنّاء، وأي إضافة من البنّاء ستكون تحصيلًا للحاصل، إذ الفرض أن البناء اكتمل من كل الجهات.

فالقابل أخذ استحقاقه الكامل، ولا يحتاج إلى أي شيء آخر.

فالمفوضة يفترضون أن الإنسان موجود مختار قادر مريد بالوجدان، ولا معنى للتنافس والتدافع بين إرادة الله تعالى اللا متناهية وإرادة الإنسان المتناهية، لأن اللا متناهي أوجد العالم ورفع يده، ولم تبق في هذا العالم إلا إرادة الإنسان.

وبهذا تصوروا أنهم حافظوا على كلا الإرادتين: الإلهية والإنسانية.

ص: 156

وقيل: إن الذي دعا المفوضة إلى القول بالتفويض هو أنهم تصوروا أن الحفاظ على العدل الإلهي لا يتحقق إلا بالقول بالتفويض، ببيان: أن الأفعال التي تصدر من العباد، تحوي في داخلها الكثير من الظلم والشرور والقبائح، فحتى ننزه الله تعالى عن هذه النقائص، يلزم أن نقول بأن هذه الأفعال صادرة من الإنسان مستقلًا عن الله تعالى، وبهذا يتحقق العدل الإلهي.

النقطة الثالثة: مناقشة نظرية المفوضة:
اشارة

يمكن أن نناقش نظرية التفويض من عدة جهات، نذكر منها التالي:

الجهة الأولى

يظهر من هذا الذي تقدم أنهم استندوا في دعواهم إلى أن أي إضافة من الله تعالى لهذا العالم هو تحصيل حاصل، وأن تحصيل الحاصل محال.

إن مسألة (تحصيل الحاصل) هي مسألة أصولية منطقية فلسفية، ولا بد أن نعرف معناها جيدًا ليتضح الجواب:

إن معناها هو: لو كان هناك شيء ما (أو قل: نسخة شخصية معينة)، تم إيجاده، فهو الآن موجود، حينها، وفي لحظة وجوده، لا معنى لإيجاده مرة أخرى، لأنه يلزم أن يكون الواحد كثيرًا، وهو محال.

النسخة الشخصية أي مشخصة بلحظة معينة، فالتشخص يعني أنها في لحظة معينة لها وجود، أما في اللحظة الأخرى فهي غير الأولى، ذلك لأن عنصر الزمان داخل في مشخصات الوجود، وحيث إنه في الآن الثاني غير

ص: 157

الأول، فهذه نسخة ثانية تحتاج إلى فاعل.

فكل نسخة في لحظتها لا يمكن أن توجد في تلك اللحظة وفي لحظة أخرى.

فكل موجود في آن وجوده ولحظة وجوده لا يتكرر، لأنه يلزم تكثر الواحد، أو اجتماع المثلين.

هذا هو تحصيل الحاصل.

وهذا معناه، أن الموجود الذي له امتداد وبقاء، فإنه يحتاج في بقائه إلى فاعل، نعم، في مقطع معين إذا وُجد، فإنه لا يحتاج في تلك اللحظة إلى فاعل آخر.

وبعبارة أخرى: إن الموجود في لحظة وجوده وُجِد، فلا يحتاج إلى فاعل في تلك اللحظة، ولكنه في بقائه، حيث إنه في اللحظة الثانية غير موجود الآن، ففي اللحظة الثانية –أي البقاء- يحتاج إلى فاعل.

إذن:

1/ الموجود في اللحظة الثانية يحتاج إلى فاعل (كالمصباح الكهربائي الذي يحتاج إلى التيار الكهربائي في اللحظة الثانية ليستمر بالإضاءة)

2/الموجود الممتد زمنًا يحتاج إلى فاعل في اللحظة الثانية.

وهذه الحاجة إلى الفاعل في اللحظة الثانية لا يُسمى تحصيلًا للحاصل، لأنه لا تكرار فيه في اللحظة الثانية، نعم، في نفس اللحظة إذا وجد الشيء فلا

ص: 158

يحتاج في نفس تلك اللحظة إلى فاعل آخر. وإنما الكلام في استمرار الموجود، وهو لا يصدق عليه في اللحظة الثانية تحصيل الحاصل.

إذا تبين هذا نقول:

إن العالم في اللحظة التي وُجد فيها، ففي تلك اللحظة لا يحتاج إلى فاعل يوجده، لأنه موجود في تلك اللحظة، ولكن بقاءه في اللحظة الثانية يحتاج إلى فاعل يُبقيه، فمن دون الفاعل لا يستمر الوجود، والحاجة إلى الفاعل في اللحظة الثانية لا يعتبر تحصيلًا للحاصل.

وأما مثال (البناء والبنّاء) ففيه مغالطة، لأن (البنّاء) ليس علة إيجاد للبناء، وإنما هو فلسفياً (مُعدّ) بمعنى أن هناك أمورًا موجودة (مواد البناء) والبنّاء يأتي ليرتب هذا الموجود بشكل معين، لا أنه يوجد البناء من العدم، وهذا غير محل كلامنا، فإن كلامنا في العلة التي توجد الشيء وتخلقه.

الجهة الثانية
اشارة

إن نظرية التفويض تريد أن تنتهي إلى أن فعل الإنسان غير مقيد بفاعلية الله تعالى، أي إن الله تعالى لا يتدخل بفعل الإنسان، فالإنسان يفعل فعله بلا حاجة إلى تدخل الله تعالى، بل إن الله تعالى لا يتدخل أصلًا في فعل الإنسان.

فنظرية التفويض تُعطي استشعارًا عاليًا جدًا للاختيار والإرادة الإنسانية –على عكس نظرية الجبر تماماً التي تُشعر الإنسان بأنه مجرد آلة لا اختيار لها أبدًا- فهو مملوء بالاختيار حدّ التخمة، بحيث إنه حتى السماء لا تحكمه ولا

ص: 159

تتدخل بل لا يمكن أن تتدخل في تغيير أي شيء يريده، فالسماء لا تتدخل بسير الحياة، وإنما تُرك أمرها تمامًا للإنسان.

وهذا التصوير –في وجه من وجوهه- يؤدي إلى أن يستثمر الإنسان أكبر قدر ممكن من اختياره لاستغلال الفرص الحياتية حدّ الثمالة، ولذلك أخذ يغوص في أعماق الأرض ويرقى إلى آفاق السماء.

ولكنه من وجه آخر يستبطن الكثير من السلبيات العقائدية والنفسية والاجتماعية، ومنها التالي:

أولًا: عجز الإله

إن التفويض بوجهه المخفي يقول بأن الإله جل وعلا عاجز عن التدخل في هذا العالم، وبالتالي يكون الإنسان مستقلًا في فعله، بلا حاجة إلى إله، وهذا ما يؤدي في وجه من وجوهه إلى (الإلحاد) المقنّع، إذ ما الفائدة في إله عاجز؟!

إن التفويض يخالف ما ثبت فلسفيًا بأن الممكن محتاج إلى الواجب حدوثًا وبقاءً، إذ التفويض ينتهي إلى ان الحاجة إلى الواجب هي في الحدوث فقط دون البقاء.

ثانيًا: الانفصال عن الغيب

لأن الإنسان إذا شعر بأن الله تعالى لا يتدخل في أي شيء في هذه الحياة، فإنه سيعتمد فقط على الأسباب المادية، وبالتالي يضعف عنده بل يتلاشى ويتناسى (بإذن الله تعالى وحوله وقوته)، ويفقد الإنسان حينها عنصر (إن

ص: 160

شاء الله تعالى)، ولا يبقى يعتمد إلا على حوله وقوته هو.

وهذه السلبية تُرجمت في بعض الكلمات بنظرية (موت الإله)، فالإله إما ميت حقيقةً، وأو إنه ليس ميتًا، ولكن دوره في الحياة ميت، فيكون حينها هو والميت سواء.

وهذا يؤدي بالإنسان إلى أن يفسر الحوادث التي تجري في هذا العالم بتفسير مادي بحت لا دخل للغيب فيه، بل سوف لن يتوقع من الغيب أي شيء في هذا العالم، ولذا نُقل عن المفوضة أنهم قالوا: لو قُدّر للواجب (جل وعلا) أن يموت أو يُعدم لما أضرّ العالم بشيء.

ثالثًا: استلزام الشرك

إن القول بالتفويض يستلزم الشرك، لأن المفوضة يقولون: إن العبد هو الذي يخلق أفعاله بالاستقلال عن الله عز وجل. فصار عندنا فاعلان مستقلان بل فواعل بعدد الموجودات العاقلة الفاعلة، وهذا في الحقيقة يستلزم الشرك في التوحيد الأفعالي.

وقد تقدم أن مباحث التوحيد أثبتت أن هناك فاعلًا مستقلاً واحدًا فقط في الكون (يعني لا يحتاج إلى أي شيء خارج الذات) هو الله عز وجل.

إشارتان
الإشارة الأولى: نصوص قرآنية في عدم استقلال الإنسان بفعله

هناك آيات قرآنية عديدة تدل بكل وضوح على أن أفعال الإنسان لها

ص: 161

نحو ارتباط بالله تعالى، وأن الإنسان ليس فاعلًا مستقلًا، بل هو محتاج إلى الإذن الإلهي في كل أفعاله، مثل قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(1)، فهذه الآية تقول: أنتم فقراء إلى الله مطلقًا، والإطلاق يشمل حتى أفعالكم.

ويقول تعالى (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(2)

ويقول تعالى (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(3)

وقال تعالى (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ)(4)

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمىٰ)(5)

وغيرها من الآيات التي تشير وتصرح بوضوح أن الانسان غير مستقل بأفعاله، بل هناك نحو ارتباط بالله عز وجل، وهذا النحو من الارتباط لم يفهمه لا المجبرة ولا المفوضة، وإنما الذي وضحه هم أهل البيت (صلوات الله عليهم) فيما سيأتي بيانه من الأمر بين أمرين.

لذا ورد عن أبي حمزة الثمالي أنه قال: قال أبو جعفر الإمام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) للحسن البصري: وإياك أن تقول بالتفويض، فإن الله (عز وجل) لم

ص: 162


1- فاطر 15.
2- البقرة 102.
3- البقرة 249.
4- البقرة 251.
5- الأنفال 17.

يفوض الأمر إلى خلفه وهنًا منه وضعفًا، ولا أجبرهم على معاصيه ظلمًا.(1)

فهنا إشارة واضحة من الإمام الباقر (عليه السلام) على أن القول بالتفويض يؤدي إلى أن الله (تعالى) غير قادر على الهيمنة على الإنسان، وهذا يستلزم نسبة الضعف والوهن إلى الله (عز وجل).

الإشارة الثاني: استعمالات التفويض
اشارة

يستعمل التفويض في معانٍ عدة:

الأول: أن الله تعالى بعد أن خلق الإنسان، فإنه قد فوّض إليه أفعاله، فالإنسان مستقل تمامًا في إيجاد أفعاله عن الله عز وجل، يعني هو لا يحتاج إلى الله تعالى في أفعاله، نعم الله عز وجل قادر على تلك الأفعال، فقدرته لم تُسلب منه جل وعلا.

الثاني: نفس الأول، لكن مع دعوى أن الله عز وجل غير قادر على أفعال الإنسان، ولا يستطيع أن يمنعهم من تصرفاتهم، وهذا المعنى أقبح وأردأ من الأول.

وهذا المعنى من التفويض الملازم للاستقلال عن الله تعالى لم يدّعه أعظم مخلوقات الله تعالى حتى الأنبياء، فكيف ادّعاه المفوضة؟! هذا ما يدعو للاستغراب كثيرًا...

الثالث: أن الله تعالى يوكل القيام ببعض الأمور لبعض مخلوقاته في أن

ص: 163


1- الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 63.

يفعلها حسب اختياره، لكن لا يخرج ذلك المخلوق -لا هو ولا فعله- عن قدرة الله تعالى وعن إذنه وعن أمره جل وعلا، فيبقى الله عز وجل قادرًا وغير عاجز، ولكنه يوكل إلى مخلوق ما أن تفعل شيئًا ما.

وبعبارة أخرى: إن التفويض الذي نفيناه كان يعني الاستقلال عن الله تعالى، فلا وجود للإذن الإلهي ولا لمعنى (حول الله وقوته)، والنكتة في استحالة هذا المعنى هو أن الإنسان محتاج إلى الواجب حدوثًا وبقاءً، فلا معنى لاستقلاله عن الواجب جل وعلا.

أما هذا الاستعمال الثالث، فهو بمعنى (التخويل) و (التوكيل)، أي إنّ الله تعالى ترك مساحاتٍ معينة ضمن أُطر معينة، وترك التحرك فيها للإنسان أو لغيره من الموجودات.

وقد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات والآيات الشريفة، وهذا المعنى على نوعين:

الأول: التفويض التكويني

مثل تفويض قبض الأرواح للملك عزرائيل (سلام الله عليه) او للملائكة رغم أن الموت والحياة هما بيد الله تعالى، ومن هنا، فإنه في الوقت الذي يقول تعالى (اللهُ يَتَوَفَّىٰ الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها)(1)هو عز وجل يقول: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(2)فهذا الفعل

ص: 164


1- الزمر 42.
2- السجدة 11.

هو لله عز وجل، لكن الملك عزرائيل يتولى هذا الفعل بتفويض من الله عز وجل، وهكذا الكلام في الملائكة التي تتوفى الأنفس ايضا بالتفويض، قال تعالى (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(1)

ومثال آخر: ما كان يفعله النبي عيسى (سلام الله عليه) من إحياء الموتى وإبراء المرضى، قال تعالى (وَرَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.)(2)

الثاني: التفويض التشريعي

يعني أن يأذن الله عز وجل لبعض عباده -وفق مواصفات خاصة- بأن يعطوا تشريعات وفق المصالح والمفاسد الواقعية، وهو بمعنى الولاية التشريعية لأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) ويكشف عنه قوله عز وجل (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(3)

وهذا المعنى الثالث للتفويض يتلاءم مع مذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم من أنه: لا جبر ولا تفويض، وإنما هو أمر بين أمرين.

ص: 165


1- الأنعام 61.
2- آل عمران 49.
3- الحشر 7.

ص: 166

المسألة الرابعة: في الأمر بين الأمرين

اشارة

المسألة الرابعة: في الأمر بين الأمرين(1):

حقيقة الاختيار في فعل الإنسان

بعد أن ثبت بطلان عقيدتي الجبر الأشعري والتفويض المعتزلي، يقع التساؤل عن النظرية الصحيحة فيما يتعلق بحقيقة فعل الإنسان من حيث الاختيار وعدمه، وهي نظرية الأمر بين الأمرين المستفادة من حديث الإمام

ص: 167


1- بالتحليل والدقة نجد: أ/ أن بحث الجبر وإن ظهر منه أن له صلة مباشرة باختيار الإنسان، فيجعل الإنسان كالآلة غير المختارة، فيقضي تمامًا على اختيار الإنسان، ولكنه في عمقه يرجع إلى نفي فكرة العلية والوسائط في عالم الإنسان بل في عالم الممكنات، ويحصر العلّية به جلّ وعلا. ب/ وأما بحث التفويض، فإنه وإن ظهر منه أنه مرتبط بإرادة الإنسان واختياره كذلك، ولكنه في عمقه ينتهي إلى القضاء على الاختيار الإلهي، وأن علاقة (البداية الأزلية) بمخلوقاتها هي علاقة الحدوث دون البقاء والاستمرار. فالعالم يدير نفسه بنفسه من خلال القوانين التي أحدثتها العلة الأزلية، ومن قوانينه: اختيار الإنسان. ج/ أما الأمر بين الأمرين، فإنه في الوقت الذي حافظ على اختيار الإنسان، وحافظ على نظام العلة والمعلول والوسائط في عالم الممكنات، وعلى أن واحدًا من الوسائط هو اختيار الإنسان، فإنه في الوقت ذاته حافظ على اختيار العلة الأزلية، والحاجة إليها بقاءً كما الحدوث، وعلى أن الاختيار الإنساني –بل وعالم الإمكان- ما زال تحت قدرة الإرادة الإلهية وهيمنتها وسلطنتها. فالإرادة الإلهية ما زالت فعّالة في عالم الإمكان بقاءً كما حدوثًا، وهناك هامش للاختيار الإنساني والوسائط في عالم الممكنات، من دون أن تخرج عن إرادة الله تعالى وهيمنته وقدرته.

الصادق (عليه السلام): لَا جَبْرَ ولَا تَفْوِيضَ، ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ.(1)

هذه النظرية تقول
اشارة

إن الإنسان مختار في أفعاله التي تصدر منه، ولكن هذا لا يعني خروجه عن قدرة الله تعالى وسلطنته، بل هو في عين كونه مريدًا مختارًا في فعله، بحيث يصدر الفعل عنه بمعنى الكلمة، لكن هذا لا يعني أن الإنسان وفعله خرج عن الله تعالى، بحيث لا يمكنه أن يتدخل في فعل الإنسان –كما أرادت المعتزلة الانتهاء إلى هذا المعنى-

وأما كيف نصوّر هذا المعنى، فيمكن أن يُقال:

إننا بالوجدان نُحس بأن الأفعال إنما تصدر منا باختيارنا ومحض إرادتنا، ولا نرى أنفسنا مجبورين على فعل معين، مع الالتفات إلى أننا نتكلم في الفعل الاختياري –كالكتابة والأكل والشرب وضرب الآخر والتكلم وما شابه- لا في الأفعال غير الاختيارية –كحركة الأعضاء الداخلية لجسم الإنسان- فهذه الأفعال خارج حريم النزاع كما هو واضح.

فنحن نتكلم في الفعل الذي تترتب عليه مسؤولية، وهو الفعل الاختياري، ونحن نجد أنفسنا بالوجدان مختارين.

وهذا المعنى من الاختيار لا يخرج عن قدرة الله تعالى، ذلك لأن الله تعالى هو الخالق لجميع الأشياء، ومنها إرادتنا للأفعال، بمعنى: أن الله تعالى خَلَقَنا

ص: 168


1- الكافي للكليني ج1 ص 160 باب الاستطاعة ح13.

مختارين، ففي نظامنا الداخلي توجد الإرادة والاختيار، فلو كان هناك شيء قد جُبر عليه الإنسان فهو اختياره، فالإنسان مجبر على الاختيار، وهذا لا ينافي الاختيار بل يوافقه ويؤيده كما هو واضح للمتأمل.

ويمكن بيان هذه الحقيقة من خلال بعض الأمثلة التي تبين هذه النظرية، وسنجد أنها متوافقة تمامًا مع الوجدان.

المثال الأول

ما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام) فيما روي عنه:

لَا جَبْرَ ولَا تَفْوِيضَ ولَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ.

قَالَ [الرواي]: قُلْتُ: ومَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؟

قَالَ: مَثَلُ ذَلِكَ: رَجُلٌ رَأَيْتَه عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَنَهَيْتَه، فَلَمْ يَنْتَه، فَتَرَكْتَه، فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ، فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ فَتَرَكْتَه كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَه بِالْمَعْصِيَةِ.(1)

والمثال واضح جدًا، إذ هو يحتوي على:

1/ أن العاصي كان هو الذي يريد أن يعمل المعصية بإرادته.

2/ أنك لم تجبره على فعلها. وإنما وعظته فما اتعظ.

فهنا، لا يُقال عنك: إنك أجبرته على المعصية، حتى لو كنت قادرًا على منعه بالقوة والسلطنة، وإنما يُقال: إنك بيّنت له حقيقة الحال، وتركته يختار

ص: 169


1- الكافي للكليني ج1 ص 160 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ- ح13.

ما يريده هو، وهو اختار فعل المعصية بمحض إرادته، فلا المعصية صدرت منك، ولا هو مجبر على فعلها.

وهكذا نحن في أفعالنا، فالله تعالى بيّن لنا حقيقة الحال والحكم الشرعي في أفعالنا، وأمرنا تشريعًا بالحسن ونهانا عن القبيح، وترك لنا أن نفعل نحن ما نشاء بإرادتنا.

المثال الثاني

المثال الثانی(1):

لو فرضنا شخصًا مشلول اليد، واستطاع طبيب ما أن يوصل ليده التيار الكهربائي بطريقة معينة، بحيث يستطيع هذا المريض أن يحرك يده متى ما وصل إليها التيار الكهربائي، ولكنه عندما ينقطع عنه التيار الكهربائي فإنه لا يستطيع أن يحرك يده حتى لو أراد ذلك.

فهكذا هو معنى الأمر بين الأمرين، فالإنسان هو من يحرك يده، لكن بشرط أن تصل إليه القوة من الله تعالى، فهو لم يخرج عن حول الله تعالى وقوته، ولكته مع ذلك هو من يفعل الأفعال بإرادته تعالى، لا أن الله تعالى يجبره على فعلها.

المثال الثالث

ما نُسب إلى الشيخ المفيد(2)،

وحاصله:

ص: 170


1- البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي (قدس سره) ص 88.
2- الإلهيات ج2 ص 348 – 349.. وانظر: الميزان للسيد الطباطبائي ج1 ص 100.

نفترض أن مولى من الموالي العرفيين يختار عبدًا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته، ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث، وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود وأجل مسمى.

فإن قلنا: إن المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى، وملكه ما ملك، فإنه لا يملك، وأين العبد من الملك، كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا: إن المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه، جعله مالكًا وانعزل هو عن المالكية، وكان المالك هو العبد، كان ذلك قول المعتزلة.

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين، وقلنا: إن للمولى مقامه في المولوية، وللعبد مقامه في الرقية، وإن العبد يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك، فهنا ملك على ملك، كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وقام عليه البرهان...

وهناك عدة روايات تشير إلى هذا المعنى في هذا المثال، ومنها ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): عن الله أروي حديثي: أن الله تبارك وتعالى يقول: يا ابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبعصمتي وعوني وعافيتي أديت إليّ فرائضي، فأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني.(1)

ص: 171


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 344 ح 13.
المثال الرابع

المثال الرابع(1):

نحن نقول: إنني أرى الأشياء بعيني، وهذا صحيح، وفي نفس الوقت، فإن الذي يرى في الحقيقة هي النفس الإنسانية، وما العين إلا أداة وآلة لإيصال الصور إليها، ففي الوقت الذي تكون العين هي الباصرة، فإن النفس أيضًا هي الباصرة، وهكذا في بقية القوى.

ونفس الكلام يُقال في فعل الإنسان، فالإنسان في الحقيقة هو الفاعل لفعله، وهو صادر عنه، ولكن في نفس الوقت يُنسب الفعل إلى الله تعالى لأنه تعالى هو الخالق للإنسان ولإرادته، وهو تعالى وحده الخالق لكل وجود في هذا الكون، ولكن هذا لا يعني أن الله تعالى يجبر الإنسان على فعله كما اتضح.

خلاصات ونتائج:

1 / أن الله تعالى إذا أراد تكويناً الفعل من العبد كيفما كان، فإن الفعل سيتحقق جزماً ولا يمكن لشيء ما أن يقف أمام هذه الإرادة(2)،

أو قل: سيصبح الفعل مثل أي مخلوق من مخلوقاته تعالى التي لمّا أراد لها الوجود لم يتوقف ذلك على شيء غير قول: كن فيكون، وهذه الإرادة هي الإرادة التكوينية المتعلقة بفعل العبد مقطوعاً عن مبادئه.

ص: 172


1- ذكره في الإلهيات ج2 ص 349 – 351 ونسبه إلى صدر المتألهين.
2- ولعله إلى هذا المعنى تشير الرواية الواردة عن الأصبغ بن نباته، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أوحى الله (عز وجل) إلى داود (عليه السلام): يا داود تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن أسلمت لما أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد. [التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 337]

2 / إذا أراد الله تكويناً فعل الإنسان لكن بمبادئه، والتي منها: علم الإنسان بالفعل وشوقه إليه واختياره وإرادته، فحينئذٍ سيتحقق الفعل بشرط توفر مبادئه، ومع عدم توفر بعض المبادئ لا يتحقق فعل الإنسان، من دون أن يُعدّ هذا نقضاً لإرادته تعالى، لأنها تعلقت بفعل العبد بشروط خاصة، لا بالفعل على إطلاقه...

3 / قبول إرادة الإنسان واختياره يجعل الفعل فعلاً للعبد حقيقةً لا مجازاً، في الوقت الذي هو فعل لله تعالى وداخلٌ تحت قدرته – لعموم قدرته تعالى -، وقد تبين من الأمثلة المتقدمة كيفية الجمع بين إرادته تعالى وإرادة الإنسان.

ففعل الإنسان صادر منه، لكنه داخل تحت إرادته تعالى، لا أنه صادر من الله تعالى كصدور الشمس والقمر منه تعالى. فالفعل مسند إلى الإنسان حقيقةً لا مجازًا. وإلى اشتراك الإرادتين أشار الحديث القدسي المتقدم: (بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء).

4 / يمكن القول: إنه في كل فعل من الأفعال يوجد أمران: وجوده، وصفته، فالفعل له وجود، وأيضًا له صفة ما، ومما تقدم تبين: أن الوجود صادر من الله تعالى، وأما صفة الفعل، فهي صادرة من الإنسان.

وهذا ينتج: أنه في الفعل القبيح، فإن إسناد الفعل للإنسان حقيقةً يمتصّ الجانب السلبي فيه، فيحصر إسناد البعد القبيح فيه للإنسان فقط، ليبقى المسند – من فعل القبيح – إلى الله تعالى هو الجانب الحسن فيه – الجانب

ص: 173

الوجودي أو الفعل من دون مقايسة لبقية الأفعال -.

وأما الفعل الحسن فهو بكل أبعاده فعل للإنسان حقيقةً وفعل لله تعالى حقيقةً.

ولعله إلى هذا المعنى يُشير ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:

خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الإمام الصادق (عليه السلام)، فاستقبله الإمام موسى ابن جعفر (عليهما السلام) فقال له: يا غلام ممن المعصية؟ قال: لا تخلو من ثلاث: إما أن تكون من الله عز وجل -وليست منه- فلا ينبغي للكريم أن يعذب عبده بما لا يكتسبه، وإما أن تكون من الله عز وجل ومن العبد -وليس كذلك- فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإما أن تكون من العبد -وهي منه- فإن عاقَبَهَ الله فبذنبه، وإن عَفَا عنه فبكرمه وجوده.(1)

5 / إرادته تعالى التشريعية هي أمر يستبطن كون المأمور قادراً على الطاعة وعلى عدمها، وبعبارة أوضح: الإرادة التشريعية تعني أوامر الله تعالى بالتكاليف الشرعية، وهذه الأوامر تستبطن أن يكون الإنسان قادرًا على أن يقوم بتنفيذ ما أمره الله تعالى به بإرادته، وإلا كان أمره عبثًا وبلا معنى، فلو لم يفعله الإنسان وعاقَبَه الله تعالى، لكان ذلك ظلمًا، والله تعالى منزّه عن الظلم كما تقدم، وهكذا لو لم يفعلْه وعاقَبَه.

6 / أن معصية الإنسان وتمرده على إرادة الله تعالى التشريعية –وذلك

ص: 174


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 96 باب 5 - باب معنى التوحيد والعدل/ ح2.

عندما يقوم الإنسان بفعل المعصية بإرادته واختياره- لا تعني أن إرادة الإنسان غلبت الإرادة الإلهية، لأن المغلوبية إنما تصدق فيما لو غلبت إرادة الإنسان التكوينية إرادةَ الله تعالى التكوينية، وهذا غير ممكن كما هو واضح.

نعم، إرادة المعصية تخالف إرادة الله تعالى التشريعية، وإرادته تعالى التشريعية كما تقدم تعني أنه أعطى للإنسان حرية اختيار الفعل الذي يريده هو باختياره، حتى يصح التكليف وبالتالي الثواب والعقاب.

7/ ومن هذا يتضح: أن القول بأن الإنسان مختار –حقيقة- لفعله، هو ما يؤسّس:

أولًا: لصحّة التكليف.

ثانيًا: صحّة العقاب والثواب.

ثالثًا: تحمّل الإنسان لمسؤولية فعله.

وأنّ القول: بأن الإنسان مجبر، ينفي هذه الأمور الثلاثة كما هو واضح.

تنبيه:

التقسيم العقلي لحقيقة الفعل يقول:

إن الفعل إما يصدر من الإنسان، ولا علاقة لله تعالى البتة –وهي نظرية التفويض-، أو يصدر من الله تعالى ولا علاقة للإنسان به البتة –وهي نظرية الجبر-، وأما أن يصدر حقيقة من الإنسان من دون أن يخرج عن قدرة الله تعالى وقوته، أي بالشراكة الحقيقية في صدور الفعل. وهي نظرية الأمر بين

ص: 175

الأمرين.

وقد يتوهم البعض بأن نظرية الأمر بين الأمرين هي نظرية ملفقة من مقولتي الجبر والتفويض، وكأنها أخذت من الجبر نسبة الفعل إلى الله تعالى حقيقة، ومن التفويض نسبة الفعل إلى الإنسان حقيقة، فخرجت بنظرية تجمع النظريتين.

ولكن الحقيقة أن نظرية الأمر بين الأمرين نظرية مستقلة تمامًا عن تينك النظريتين، إذ هما باطلتان جملة وتفصيلا، فهي (نظرية مستقلة قائمة على قواعد وأصول عقلية وشرعية، تبطل كلا النظريتين الأوليين، وتؤسس منهجًا ثالثًا للاعتقاد)(1)

ولعله إلى هذا المعنى يُشير ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ [الراوي] قُلْتُ: أَجْبَرَ الله الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ (عليه السلام): لَا. قُلْتُ: فَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ الأَمْرَ؟ قَالَ (عليه السلام): لَا. قُلْتُ: فَمَاذَا؟ قَالَ (عليه السلام): لُطْفٌ مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذَلِكَ.(2)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ الله (عليهما السلام) قَالا: إِنَّ الله أَرْحَمُ بِخَلْقِه مِنْ أَنْ يُجْبِرَ خَلْقَه عَلَى الذُّنُوبِ ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا والله أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَمْراً فَلَا يَكُونَ... فَسُئِلَا (عليهما السلام): هَلْ بَيْنَ الْجَبْرِ والْقَدَرِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ؟ قَالا (عليهما السلام): نَعَمْ، أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ.(3)

ص: 176


1- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج2 ص 125.
2- الكافي للكليني ج1 ص 159 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح8.
3- نفس المصدر ح9.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أنه سُئِلَ عَنِ الْجَبْرِ والْقَدَرِ فَقَالَ: لَا جَبْرَ ولَا قَدَرَ، ولَكِنْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُمَا، فِيهَا الْحَقُّ، الَّتِي بَيْنَهُمَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْعَالِمُ أَوْ مَنْ عَلَّمَهَا إِيَّاه الْعَالِمُ.(1)

فهذه الروايات وأمثالها تشير إلى أن الأمر بين الأمرين حقيقة مستقلة عن تينك النظريتين، وأنها منزلة فيما بينهما، لا أنها مجموعهما.

(وهذه النظرية الثالثة هي الحد الوسط الذي يجمع بين عموم السلطة الإلهية وتأثيرها المطلق في الوجود، وبين العدل الإلهي الحاكم على الأشياء)(2)

فهي إذن (نظرية مستقلة قائمة بنفسها جمعت بين اختيار الإنسان في أفعاله، ومؤثرية الخالق في الوجود)(3)

وقد نصّت بعض الروايات الشريفة على الحد الفاصل لهذه النظرية وبيانها بكل وضوح، فقد روي عن سليمان بن جعفر الجعفري، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: ذُكر عنده الجبر والتفويض، فقال: ألا أعطيكم في هذا أصلًا لا تختلفون فيه، ولا تخاصِمون عليه أحدًا إلا كسرتموه؟! قلنا: إن رأيت ذلك.

فقال: إن الله عز وجل لم يُطع بإكراه، ولم يُعْصَ بغَلَبة، ولم يُهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العبادُ بطاعته

ص: 177


1- نفس المصدر ح10.
2- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج2 ص 181.
3- الحقائق والدقائق في المعارف القرآنية ج2 ص199.

لم يكن الله عنها صادًّا، ولا منها مانعًا، وإن ائتمروا بمعصيته، فشاء أنْ يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإنْ لم يحُلْ وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه.

ثم قال (عليه السلام): من يضبطْ حدود هذا الكلام فقد خَصَمَ من خالفه.(1)

ص: 178


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 361 باب 59 - باب نفي الجبر والتفويض ح7.

المسألة الخامسة: القضاء والقدر

اشارة

انتهينا إلى أن الإنسان مختار في أفعاله، ولذلك فهو المسؤول عن نتائجها، ولذلك أيضًا صح تكليفه وصح عقابه لو خالف، وصحّ ثوابه إن امتثل، ولكن يواجهنا قبال ذلك مفهوم إسلامي آخر عنوانه (القضاء والقدر الإلهيان)، والذي قد يتوهم المتوهم بادئ ذي بدء أن القول باختيار الإنسان لا ينسجم مع هذا المفهوم، فما هو القضاء والقدر، وكيف نكيّفه مع واقعية اختيار الإنسان؟

هنا عدة نقاط:

النقطة الأولى: تحرير محل النزاع في القضاء والقدر

لا شك ولا اختلاف في أن الله تعالى خلق الإنسان وأخرجه إلى الدنيا بهيأة معينة، وبنسب معين، وفي مدينة معينة، وفي وقت معين، من دون أن يكون للإنسان في هذه الأمور إرادة أو اختيار، فالإنسان بهذا المعنى مجبر، ولكن هذا الجبر لا يستلزم القبح، لأننا نعلم أن الله تعالى هو الحكيم العليم، الغني المطلق، فيكون إخراج الإنسان بمواصفات معينة هو الأنسب والأصلح له حسب العلم الإلهي.

ص: 179

فهذا المعنى من القضاء والقدر لا خلاف فيه.

وقد أشارت له ولحسنه بعض النصوص، قال تعالى (يا أَيُّهَا الْإِ نْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)(1)

وقال تعالى (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.)(2)

وفي دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: (فَلَمْ أَزَلْ ظاعِناً مِنْ صُلْبٍ إِلى رَحِمٍ، في تَقادُمٍ مِنَ الأَيَّامِ الْماضِيَةِ والْقُرُونِ الْخالِيَةِ، لَمْ تُخْرِجْني لِرَاْفَتِكَ بي، ولُطْفِكَ لي، واحْسانِكَ إِلَىَّ، في دَوْلَةِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ، الَّذينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ، وكَذَّبُوا رُسُلَكَ، لكِنَّكَ أَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى الَّذي لَه يَسَّرْتَني، وفيه أَنْشَأْتَني، ومِنْ قَبْلِ ذلِكَ رَؤُفْتَ بي، بِجَميلِ صُنْعِكَ وسَوابِغِ نِعَمِكَ، فابْتَدَعْتَ خَلْقي مِنْ مَنِىٍّ يُمْنى، وأَسْكَنْتَني في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ، بَيْنَ لَحْمٍ ودَمٍ وجِلْدٍ، لَمْ تُشْهِدْني خَلْقي، ولَمْ تَجْعَلْ إِلَىَّ شَيْئاً مِنْ أَمْري، ثُمَّ أَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى إِلَى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً، وحَفِظْتَني فِى الْمَهْدِ طِفْلًا صَبِيّاً...)

فهذا الأمر لا خلاف فيه.

إنما الخلاف في: أن الإنسان في فعله، هل هو مختار، وبالتالي هل هو من يحدّد مصيره ومستقبله، أو أنه مجبر على ذلك؟

ص: 180


1- الانفطار 6 – 8.
2- النحل 78.

توجد آراء أربعة:

1/المادّيون –الذين لا يؤمنون بوجود إله خالق- ربطوا مصير الإنسان بالطبيعة، فهي التي تختار مصيره، وهو لا إرادة له في ذلك.

2/والمجبّرة من الأشاعرة جعلوا من الإنسان آلة لا اختيار لها، وأن مصيره هو بيد الله تعالى، فهو من يحدد سعادة الإنسان أو شقاءه، والإنسان لا حول له ولا قوة في شيء من ذلك أصلًا.

3/المعتزلة ذهبوا إلى أن الإنسان هو من يحدّد مصيره، من دون تدخل إلهي، بل بعضهم ذهب إلى عدم قدرة الخالق على التدخل في ذلك.

4/أما الإمامية، فذهبوا إلى أن مصير الإنسان هو بيد الله تعالى، ولكن لا بنحو يجبر الإنسان على أفعاله، وإنما جعل الله تعالى نظام الأسباب والمسببات في هذا العالم، وأن الإنسان –باختياره وإرادته- عليه أن يختار الأسباب المناسبة التي تنجيه، فالقضاء والقدر الإلهيان ألزما الإنسان بنظام الأسباب والمسببات، وتُرك للإنسان اختيار الأسباب المناسبة لتحديد مصيره.

وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى هذا المعنى بقوله: أَبَى اللهُ أَنْ يُجْرِيَ الأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ، فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، وجَعَلَ لِكُلِّ سَبَبٍ شَرْحاً، وجَعَلَ لِكُلِّ شَرْحٍ عِلْماً، وجَعَلَ لِكُلِّ عِلْمٍ بَاباً نَاطِقاً، عَرَفَه مَنْ عَرَفَه وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه، ذَاكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) ونَحْنُ.(1)

ص: 181


1- الكافي للكليني ج1 ص 183 بَابُ مَعْرِفَةِ الإِمَامِ والرَّدِّ إِلَيْه ح7.

وجاء في هامش المصدر شرحًا لهذا الحديث:

أي جرت عادته سبحانه على وفق قانون الحكمة والمصلحة أن يوجد الأشياء بالأسباب، كإيجاد زيد من الآباء والمواد والعناصر، وإنْ كان قادرًا على ايجاده من كتم العدم دفعةً بدون الأسباب، وكذا علوم أكثر العباد ومعارفهم، جعلها منوطة بشرائط وعلل وأسباب، كالمعلم والإمام والرسول والمَلَك واللوح والقلم، وإنْ كان يمكنه إفاضتها بدونها، وكذا سائر الأمور التي تجرى في العالم....

وحيث ثبت بطلان الآراء الثلاثة الأولى، فعلينا إذن أن نبين القضاء والقدر وفق نظرية أهل البيت (عليهم السلام).

النقطة الثانية: معنى القضاء والقدر الإلهيين
لغة
1/القضاء

قال ابن فارس في معجمه:

(قضى) القاف والضاد والحرف المعتل: أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، قال الله تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ)(1)أي

أحكم خلقهن...

والقضاء الحكم. قال الله سبحانه في ذكر من قال: (فَاقْضِ ما أَنْتَ

ص: 182


1- فصلت 12.

قاضٍ)(1)أي:

اصنع واحكم، ولذلك سُمي القاضي قاضيًا لأنه يُحكم الأحكام وينفذها، وسُميت المنيّة قضاءً لأنه أمر ينْفُذُ في ابن آدم وغيره من الخلق.(2)

2/ القدر

وقال ابن فارس: القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته. فالقدر مبلغ كل شيء. يقال قدره كذا أي مبلغه وكذلك القدر. وقدرت الشيء أقدره وأقدره من التقدير وقدرته أقدره. والقدر قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها وهو القدر أيضًا.(3)

اصطلاحًا

اصطلاحاً(4):

من خلال المعنى اللغوي للقضاء والقدر، يمكن أن نعرف المعنى المستعمل في ألسنة الروايات الشريفة، فإن المراد من القدر: هي هندسة الأشياء وقياساتها، والمراد من القضاء هو الحكم بتحقّقها.

وبعبارة أخرى: لكل ظاهرة مقدمات لتحققها، والقضاء والقدر مقدمتان مهمتان وأساسيتان لها: إحداهما قياسها، والأخرى الأمر بتحققها.

أما عن القدر، فقد جاء في رواية عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (هو الهندسة من

ص: 183


1- طه 72.
2- معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (قضى).
3- معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (قدر).
4- راجع للتوضيح: موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج6 ص 85 – 86.

الطول والعرض والبقاء)(1)،... ونُقل في رواية أخرى عن الإمام الرضا (عليه السلام): (هِيَ الْهَنْدَسَةُ ووَضْعُ الْحُدُودِ مِنَ الْبَقَاءِ والْفَنَاءِ)(2)وأما عن القضاء، فقد جاء عن الإمام الرضا (عليه السلام): (الْقَضَاءُ هُوَ الإِبْرَامُ وإِقَامَةُ الْعَيْنِ)(3)

ومن هذا يتضح: أن القدر والقضاء إنما هما من أفعال الله تعالى، فتنطبق عليهما صفات الفعل الإلهي من الحكمة والعدل والحسن وعدم العبث وعدم الظلم وغيرها مما سنعرفه بعد قليل إن شاء الله تعالى.

النقطة الثالثة: خصائص القضاء والقدر الإلهيين

النقطة الثالثة: خصائص القضاء والقدر الإلهيين(4):

يمكن تلخيص خصائصهما بالنقاط التالية المستفادة من الروايات الشريفة الواردة في هذا البحث، علمًا أن معرفة هذه الخصائص توضّح حقيقتهما كثيرًا، الأمر الذي ينفع كثيرًا في الاطمئنان بالقضاء والقدر الإلهيين:

ا/إن القضاء والقدر هما فعلان من أفعال الله تعالى، ومخلوقان من مخلوقاته، وظاهرتان من ظواهر العالم التي تخضع لنظام العالم المادي من التغيير في الكيف والكم حسب الإرادة الإلهية.

ص: 184


1- المحاسن للبرقي ج1 ص 244 باب 26 ح238.
2- الكافي للكليني ج1 ص 157 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح4 و تفسير القمي ج1 ص 24..
3- الكافي للكليني ج1 ص 157 بَابُ الْجَبْرِ والْقَدَرِ والأَمْرِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ ح4.
4- راجع للتوضيح: موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج6 ص 87 – 88.

فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء.(1)

2/حيث إن القدر والقضاء من أفعال الله تعالى، إذن هما يتصفان بصفات الفعل الإلهي، ومنها: أن كل أفعاله تعالى حسنة لا قبح فيها، فليس هناك قدر أو قضاء إلهي يتصف بالقبح في هذا العالم.

وفي هذا المجال جاء في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حُسْنِ قَضَائِكَ، وبِمَا صَرَفْتَ عَنِّي مِنْ بَلَائِكَ).(2)

3/وكذلك سيكون القضاء والقدر الإلهيان متصفين بالحكمة، فلا عبث في قدره ولا في قضائه جلّ وعلا.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة بخطبة الأشباح: (قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَه)(3)

ومن لطيف ما ورد في ذلك، ما روي عن أبي عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَتَوْا مُوسَى (عليه السلام) فَسَأَلُوه: أَنْ يَسْأَلَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: أَنْ يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ إِذَا

ص: 185


1- التوحيد للشيخ الصدوق ص 364 باب 60 - باب القضاء والقدر والفتنة والأرزاق والأسعار والآجال ح1.. وذكر المجلسي في بحاره ج5 ص 112 بيانًا لهذا الحديث فقال: خلقان من خلق الله بضم الخاء أي صفتان من صفات الله، أو بفتحها، أي هما نوعان من خلق الأشياء وتقديرها في الألواح السماوية، وله البدء فيها قبل الايجاد، فذلك قوله: يزيد في الخلق ما يشاء ; أو المعنى أنهما مرتبتان من مراتب خلق الأشياء فإنها تتدرج في الخلق إلى أن تظهر في الوجود العيني.
2- الصحيفة السجادية الدعاء رقم 18 مِنْ دُعَائِه عَلَيْه السَّلَامُ إِذَا دُفِعَ عَنْه مَا يَحْذَرُ، أَوْ عُجِّلَ لَه مَطْلَبُه.
3- نهج البلاغة ج1 ص 165.

أَرَادُوا، ويَحْبِسَهَا إِذَا أَرَادُوا. فَسَأَلَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالَ الله عَزَّ وجَلَّ: ذَلِكَ لَهُمْ يَا مُوسَى. فَأَخْبَرَهُمْ مُوسَى.

فَحَرَثُوا ولَمْ يَتْرُكُوا شَيْئاً إِلَّا زَرَعُوه، ثُمَّ اسْتَنْزَلُوا الْمَطَرَ عَلَى إِرَادَتِهِمْ، وحَبَسُوه عَلَى إِرَادَتِهِمْ، فَصَارَتْ زُرُوعُهُمْ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ والآجَامُ، ثُمَّ حَصَدُوا ودَاسُوا وذَرَّوْا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَضَجُّوا إِلَى مُوسَى (عليه السلام) وقَالُوا: إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ أَنْ تَسْأَلَ اللَّه أَنْ يُمْطِرَ السَّمَاءَ عَلَيْنَا إِذَا أَرَدْنَا، فَأَجَابَنَا، ثُمَّ صَيَّرَهَا عَلَيْنَا ضَرَراً! فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ضَجُّوا مِمَّا صَنَعْتَ بِهِمْ! فَقَالَ (تبارك وتعالى): ومِمَّ ذَاكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ: سَأَلُونِي أَنْ أَسْأَلَكَ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءَ إِذَا أَرَادُوا وتَحْبِسَهَا إِذَا أَرَادُوا، فَأَجَبْتَهُمْ ثُمَّ صَيَّرْتَهَا عَلَيْهِمْ ضَرَراً! فَقَالَ: يَا مُوسَى، أَنَا كُنْتُ الْمُقَدِّرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يَرْضَوْا بِتَقْدِيرِي فَأَجَبْتُهُمْ إِلَى إِرَادَتِهِمْ، فَكَانَ مَا رَأَيْتَ.(1)

4/ وما دام القدر والقضاء الإلهيان حسنين حكيمين، إذن، هما من الأفعال التي اتصفت بالعدل، فلا ظلم ولا جور فيهما أبدًا، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله في حمد الله تعالى تعظيمه: (الَّذِي عَظُمَ حِلْمُه فَعَفَا وعَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى)(2)

5/وهذه الخصائص الأربعة، تنتج نتيجة حتمية هي: أن كل قدر وقضاء يجري على المؤمن، فإنه بلا شك يكون في صالح المؤمن، إنْ في عاجل الدنيا أو في آجل الآخرة، إذ ما دام القدر والقضاء فعلين إلهيين حسنين حكيمين

ص: 186


1- الكافي للكليني ج5 ص 262 باب آخر ح2.
2- نهج البلاغة ج2 ص133.

عدلين، إذن هما لا يجريان إلا وفق مصلحة يعلمها الباري جل وعلا في مكنون علمه -وإن جهلناه نحن-، وهذا ما يوجب الاطمئنان التام بما يجري على المؤمن من قدر وقضاء.

وهنا نجد الروايات الشريفة قد أكّدت على هذا المعنى أيّما تأكيد، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: اختيار الله للعبد ما يسوؤه، خير من اختياره لنفسه ما يسرُّه.(1)

وعنه (صلى الله عليه وآله): عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله عليه قضاءً إلا كان خيرًا له، سرّه أو ساءه، إن ابتلاه كان كفارة لذنبه، وإن أعطاه وأكرمه كان قد حباه.(2)

ومن لطيف ما ورد في هذا المجال، ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن العبد المؤمن ليطلب الامارة والتجارة، حتى إذا أشرف من ذلك على ما كان يهوى، بعث الله ملَكًا، وقال له: عُقّ عبدي وصُدّه عن أمرٍ لو استمكن منه أدخله النار، فيُقبل المَلَك فيصدُّه بلطف الله، فيصبحُ وهو يقول: لقد دُهيتُ! ومَن دهاني؟ فعَلَ الله به! وقال: ما يدري أن اللهَ تعالى الناظرُ له في ذلك، ولو ظفر به أدخله النار.(3)

وما ورد أيضًا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله عز وجل، قال: قال الله تبارك وتعالى: من أهان وليًا لي، فقد بارزني بالمحاربة، وما تردّدتُ

ص: 187


1- تنبيه الخواطر (مجموعة ورام) ص 437.
2- تحف العقول للحراني ص48، وحباه: أعطاه، أو حماه ومنعه.
3- التمحيص للإسكافي ص 56 – 57 ح 113.

في شيءٍ أنا فاعله مثل ما تردّدْتُ في قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتنفّل لي حتى أحبَّه، ومتى أحببته كنتُ له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيدًا، إنْ دعاني أجبتُه، وإنْ سألني أعطيتُه، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفُّه عنه لئلا يدخلَه عُجُبٌ فيفسدَه ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيتُه لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يُصلح إيمانه إلا بالغَناء، ولو أفقرتُه لأفسدَه ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحُ إيمانه إلا بالسُقم، ولو صحَّحْتُ جسمه لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحُ إيمانه إلا بالصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإني عليم خبير.(1)

النقطة الرابعة: أقسام القضاء والقدر
اشارة

ذكروا للقضاء والقدر الإلهيين أقسامًا، نذكر بعضًا منها باختصار:

القسم الأول: القضاء والقدر التشريعيان

أما القدر التشريعي: فهو بمعنى: أن الله تعالى بعلمه وحكمته قسّم أفعال الإنسان على أساس مصالحها ومفاسدها إلى واجب ومستحب ومكروه ومحرم ومباح، كما عيّن مقدار ثوابها وعقابها.

وأما القضاء التشريعي: فهو بمعنى: أن الله تعالى أصدر الأوامر بتنفيذ

ص: 188


1- التوحيد للصدوق ص 399 – 400 باب 62 - باب إن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم/ ح1.

ذلك القدر الإلهي التشريعي.

وإلى القضاء والقدر التشريعيين أشار ما روي أنّ رجلًا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال: الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا، وقدره لأعمالنا، وأما غير ذلك فلا تظنّه، فإن الظنّ له محبط للأعمال.

فقال الرجل: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك.(1)

وفي حديث نافع وجامع في هذا المعنى، روي عن بريد [يزيد أو زيد. خ. ل] بن عمير بن معاوية الشامي قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو فقلت له: يا بن رسول الله، روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام قال: إنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، فما معناه؟ قال: من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه (عليهم السلام) فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك. فقلت له: يا بن رسول الله فما أمر بين أمرين؟ فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أُمروا به، وترك ما نُهوا عنه. فقلت له: فهل لله عز وجل مشيه وإرادة في ذلك؟ فقال: فأما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها: الأمرُ بها والرضا لها والمعاونة عليها، وإرادته ومشيته في المعاصي النهى

ص: 189


1- الاحتجاج للطبرسي ج1 ص311.

عنها والسخط لها والخذلان عليها. قلت: فهل لله فيها القضاء؟ قال: نعم، ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء. قلت: ما معنى هذا القضاء؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.(1)

القسم الثاني: القضاء والقدر التكوينيان
اشارة

وهو نوعان:

النوع الأول: القضاء والقدر التكوينيان في خلق الموجودات

أي تقدريهما وإيجادهما، ومثاله: الجنين في بطن أمه يمشي في قدر الله تعالى يتحول من حال إلى حال، إلى أن يأتي القضاء الإلهي فيولد في الدنيا، وهكذا النباتات من حيث بذرها في الأرض إلى حين إنتاجها وظهور ثمارها.

النوع الثاني: القضاء والقدر التكوينيان في أفعال الإنسان

وهذا هو محل الكلام والقيل والقال، وهو ما قد يُتوهم فيه الجبر أو التفويض، لتأتي نظرية الأمر بين الأمرين وتفرض نفسها بقوة الوجدان والدليل فيه، فقدر الله تعالى بمعنى: أن الله تعالى أعطى للإنسان القدرة والاختيار على القيام بأفعاله بمقدار محدود معين، فقدّر أن الإنسان لا يستطيع أن يطير-مثلًا- بدون آلة، ولا يستطيع أن يسمع بدون آلة، وهكذا.

وأما قضاؤه تعالى، فهو أمره بتنفيذ هذه التحديدات.

ص: 190


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق ج1 ص114 ح 17.

وكل ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى وسلطنته وهيمنته.

القسم الثالث: القضاء والقدر الموقوفان والحتميان

فالموقوف منهما ما يمكن أن يتغير بتغير الظروف، والمحتوم ما لا يتغير، بل هو ثابت في علم الله تعالى، والبحث الذي يبين هذا القسم هو بحث (البداء).

تنبيه: التوظيف السياسي للقضاء والقدر

لا شك أن عقيدة (الجبر) تنفع الظلمة كثيرًا، على اختلاف نوع ظلمهم، من شرك أو كفر أو جدال بالباطل أو تبعية له، وحتى ظلم الآخرين والتعدي على حقوقهم، بل هو مبرر يتوسل به حتى الكسالى ممن يرمون سبب تأخرهم في الحياة على ما قسمه الله تعالى لهم، وهو يعنون بذلك أن الله تعالى أجبرهم على ما هم عليه من حال.

لا شك أنه لو كان الاعتقاد السائد بين الناس هو أن الأفعال إنما تصدر من الله تعالى، وأن الإنسان ما هو إلا محل لصدور الفعل أو آلة له، حينها سيكون الظالم معذورًا في ما يفعله مهما كان، وسيكون الكافر والمشرك كذلك، إذ ما ذنبهم وإنما هم أداة طيّعة بيد مولاها وخالقها!

من هنا، وجدنا أن التاريخ حفظ لنا أن الظلمة حاولوا رمي الذنب في أفعالهم على الله تعالى، ليبرؤوا ساحتهم مما يصدر عنهم من أفعال شنيعة

ص: 191

وأقوال بذيئة.

ففي غزوة حنين: قالت أم الحارث: فمر بي عمر ابن الخطاب فقالت أم الحارث: يا عمر، ما هذا؟ فقال عمر: أمر الله!(1)

ومعاوية –وهو من مؤسسي مذهب الجبر- اعتلى المنبر في الكوفة وخاطب أهلها بعد صلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام) فقال لهم: إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.(2)

وفي كلامه مع عبد الله بن عمر: وإن أمر يزيد قد كان قضاءً من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم.(3)

وعندما كان البعض يستهجن عليهم رمي تبعات أفعالهم على الله تعالى، كانوا يواجهونه بالعصا واليد الحديدية! فانظر مثلًا ما روي عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر؟ قال: نعم. قال: فإن الله قدّره علي ثم يعذّبني؟! قال: نعم، يا ابن اللخناء، أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك!(4)

وقال المفيد ;: (وعُرِضَ عليه [أي ابن زياد لعنه الله] عليُّ بن الحسين (عليهما السلام)،

ص: 192


1- المغازي للواقدي ج2 ص 904.
2- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني ص45.
3- الإمامة والسياسة للدينوري ج1 ص 162.
4- تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 105 – 106.

فقال له: من أنت؟ فقال: «أنا عليُّ بن الحسين»، فقال: أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين؟ فقال له عليٌّ (عليه السلام): «قد كان لي أخ يُسمّىٰ عليّاً قتله الناس»، فقال له ابن زياد: بل الله قتله، فقال عليُّ بن الحسين (عليه السلام): «]اللهُ يَتَوَفَّىٰ الَانْفُسَ حِينَ مَوْتِها[(1)»، فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي، وفيك بقيَّة للردِّ عليَّ!؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه).(2)

ص: 193


1- الزمر: 42.
2- الإرشاد 2: 116.

ص: 194

المسألة السادسة: الشرور في العالم

اشارة

لا شك في أننا نواجه الكثير من المتاعب والمصاعب والابتلاءات في حياتنا اليومية، ولا شك في أننا نسمي الكثير منها بالشرور، ومن هنا، نشأ إشكال أو شبهة حول تلك الشرور، ويمكن أن نذكر شبهتين في هذا المجال، مع الجواب عنهما:

الشبهة الأولى: للثنوية
اشارة

قالوا: إن الله تعالى هو محض الخير، فلا يمكن أن يكون هو خالق الشر، وحيث إن الشر موجود من الموجودات في هذا العالم، إذن، لا يد أن يكون له خالق، وليس هو الله تعالى، إذن هناك خالق آخر مسؤول عن الشر، وبالتالي فهناك إلهان: إله الخير، وإله الشر.(1)

ويظهر أن هذه الشبهة قديمة جدًا، ولذا وجدنا أن الفلاسفة القدماء قد أجابوا عنها بأجوبة علمية دقيقة، ونذكر هنا جوابين لهذه الشبهة:

ص: 195


1- ينظر: المهذب البارع لابن فهد الحلي ج3 شرح ص 297 /وبحار الأنوار للعلامة المجلسي ج3 ص 211 و ج60 ص 339 .
الجواب الأول: لأفلاطون

الجواب الأول: لأفلاطون(1).

قال: إن الشبهة مبتنية على أن الشر موجود من الموجودات، فلا بد أن يكون له خالق، وحيث إنه ليس الله تعالى، إذن هو إله ثانٍ.

ولكن في الحقيقة فإن الشر ليس موجودًا من الموجودات، وبالتالي لا يكون بحاجة إلى علة وخالق وموجِد، فتنتفي الشبهة من أساسها.

بيانه:

لنضرب لذلك مثالًا:

القتل بالسكين، أين الشر في هذا الفعل؟

أما حركة اليد فهي كمال في حد نفسها، إذ اليد المشلولة ناقصة كما هو واضح.

وأما حدّة السكين فهي كمال للسكين أيضًا، ولذلك فإن الناس لا

ص: 196


1- يُنظر: شرح الأسماء الحسنى للحاج ملا هادي السبزواري ج1 ص 225 وج2 ص 89 – 90 /وتفسير الميزان للسيد الطباطبائي ج13 ص 187 ومحاضرات في الإلهيات للشيخ السبحاني ص 53 و54 وغيرها من المصادر، قال الأخير ما نصه: أن ما يسمى بالشر من الحوادث والوقائع يرجع عند التحليل إلى العدم ، فالذي يسمى بالشر عند وقوع القتل ليس إلا انقطاع حياة البدن الناشئ عن قطع علاقة النفس عن البدن ، وما يسمى بالشر عند وقوع المرض ليس إلا الاختلال الواقع في أجهزة البدن وزوال ما كان موجودا له عند الصحة من التعادل الطبيعي في الأضاء والأجهزة البدنية، وكذلك سائر الحوادث التي تتصف بالبلية والشرية، ومن المعلوم أن الذي يحتاج إلى الفاعل المفيض هو الوجود ، وأما العدم فليس له حظ من الواقعية حتى يحتاج إلى المبدأ الجاعل. وإلى هذا أشار الحكيم السبزواري في منظومة حكمته: والشر أعدام فكم قد ضل من * يقول باليزدان ثم الأهرمن.

يشترون السكينة غير الحادة لأنهم يرونها ناقصة.

وأما انفعال الرقبة بالقطع، فإن نفس الانفعال وليونتها كمال في حد نفسه، وإلا فإن الرقبة اليابسة المتحجرة ناقصة، ولذلك يعمل الناس على إبقاء رقبتهم لينة مرنة حتى لا يقعوا في أمراض وآلام لا تُتحمل عادة.

إذن، كل ما هو موجود لحد الآن هو خير وكمال، فأين الشر؟

لم يبق للشر موضع إلا (القتل) والذي هو (فراق الروح للبدن) والفراق عدم، والعدم لا يحتاج إلى خالق وموجِد، ولذا قالوا: يكفي في عدم المعلول عدمُ العلة، فلا يحتاج العدمُ إلى علة.

الجواب الثاني: لأرسطو

الجواب الثاني: لأرسطو(1):

قال: بالقسمة العقلية، فإن الأمور من حيث الخير والشر على خمسة أقسام:

القسم الأول: الخير المحض، وهذا موجود، والخالق له هو الله تعالى،

ص: 197


1- يُنظر: بداية الحكمة للسيد الطباطبائي ص 200 المرحلة الثانية عشرة فيما يتعلق بالواجب تعالى من إثبات ذاته وصفاته وأفعاله- الفصل الثالث، حيث قال ما نصه: وعن أرسطو : أن الأقسام خمسة : ما هو خير محض ، وما خيره كثير وشره قليل ، وما خيره وشره متساويان ، وما شره كثير وخيره قليل ، وما هو شر محض ، وأول الأقسام موجود كالعقول المجردة التي ليس فيها إلا الخير ، وكذا القسم الثاني كسائر الموجودات المادية التي فيها خير كثير بالنظر إلى النظام العام ، فإن في ترك إيجاده شرا كثيرا ، وأما الأقسام الثلاثة الباقية ، فهي غير موجودة ، أما ما خيره وشره متساويان ، فإن في ايجاده ترجيحا بلا مرجح ، وأما ما شره كثير وخيره قليل ، فإن في إيجاده ترجيح المرجوح على الراجح ، وأما ما هو شر محض ، فأمره واضح ، وبالجملة لم يستند بالذات إلى العلة إلا الخير المحض والخير الكثير ، وأما الشر القليل فقد استند إليها بعرض الخير الكثير الذي يلزمه.

ومثاله: الملائكة.

القسم الثاني: الشر المحض، ولا يوجد في الكون شيء هو شر محض ولا خير فيه أبدًا، فلا يمكن أن يوجده الفاعل الحكيم، فهذا الفرض معدوم.

القسم الثالث: ما يكون خيره وشره متساويين: وهذا لا يمكن أن يوجد، لأنه إذا وُجد، فهل يوجد خيره أم شره؟ وكلاهما لا يمكن أن يكون هو الموجود، لأن وجود أحدهما دون الآخر هو ترجيح بلا مرجح، لأن الفرض أنهما متساويان، فلماذا وُجد الخير دون الشر، أو بالعكس؟ فهذا القسم لا يمكن أن يوجد في الخارج.

القسم الرابع: ما يكون شرُه أكثر من خيره، فالشر هو الغالب، والخير هو النادر، وهذا القسم لا يمكن أن يوجد، لأن وجود الشر مرجوح، والخير راجح، وتقديم المرجوح على الراجح مستحيل على الفاعل الحكيم.

وما تقدم لا إشكال ولا خلاف فيه.

القسم الخامس: ما يكون خيره غالبًا، وشره نادرًا، وهذا القسم هو ما وقع الكلام فيه، وهو محل القيل والقال، وهنا قال أرسطو:

إن الفاعل الحكيم عندما ينظر إلى شيء فيه خير كثير في قبال شر قليل، فإن الحكمة تقتضي تقديم جانب الخير، فالفاعل الحكيم إنما يقصد فعل الخير وإيجاده، وأما الشر فغير مقصود، وإنما يقع بالتبع لفعل الخير، تمامًا كما لو أريد إنقاذ شخص غريق، ولم يمكن ذلك إلا بتمزيق ثوبه مثلًا، أو أريد

ص: 198

علاج مريض، ولم يكن ذلك إلا بقطع أحد أصابعه.(1)

إذا تبين هذا ننبه:

إلى أنه عندما يُقال: إن الشر موجود، فالمقصود هو هذا المعنى، أي إنه موجود بتبع خلق الخير العميم، وليس مقصودًا بالذات.

ولعله إلى هذا المعنى يُشير ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الله تعالى قال للنبي آدم (عليه السلام): قال الله: يا آدم، أنا الله الكريم، خلقتُ الخير قبل الشر.(2)

حيث (يبدو أن في هذا النوع من الأحاديث إشارة إلى ملاحظة مهمة، يجب أن يُلتفت إليها في تبيين خلق الشرور، هي: أن الشر ليس له خلق مستقل منفصل عن الخير، بمعنى أن الله تعالى لم يخلق الشيء الذي هو شر في ذاته، بل إن ما خلقه خيرٌ، والشر يظهر تبعًا لخلق الخير، على سبيل المثال: فإن الله تعالى خلق الأرض، وخلقها خير، ولكن بما أن ظاهرة الزلزال ملازمة لطبيعة الأرض، فتُخلق معها، والله خلق الغيم والرياح والمطر، وهي خير، ولكنها قد تستوجب أحيانًا الأعاصير والسيول المضرة.)(3)

الشبهة الثانية
اشارة

إن الشر موجود، ولا بد له من خالق، فإن كان هو الله تعالى فهذا يخالف

ص: 199


1- علمًا أن أرسطو يسلم أن الشر وجود في هذا الجواب، ولكنه وجود أقلي ونادر، لذا يكون جواب أفلاطون أمتن من هذه الناحية حيث انتهى إلى أن الشر أمر عدمي.
2- تفسير العياشي ج1 ص35.
3- موسوعة العقائد الإسلامية للريشهري ج6 ص377.

حكمته، وإن كان هو غير الله تعالى، فهذا معناه أنه تعالى غير قادر على فعل الشر، فتكون قدرته محدودة، وهو خلاف قولكم بأن القدرة وسعت كل شيء؟

ويُجاب عن هذه الشبهة بالآتي
اشارة

أولًا: قد ثبت أن الشر أمر عدمي، فهو ليس موجودًا من الموجودات حتى يحتاج إلى خالق.

ثانيًا: وقد تقدم في بحث خصائص القدرة أنه لا ملازمة بين القدرة وبين تفعيل القدرة، فالله تعالى قادر على أن يخلق إنسانًا بألف رأس، ولكن لا يجب عليه أن يخلق مثل هذا الإنسان حتى يُثبتَ قدرته، وهكذا فإن الله تعالى يقدر على إدخال المؤمن في النار، ولكنه بكل تأكيد لا يفعل هذا الشيء، كل ذلك لأنه تعالى يفعل بقدرته وفق حكمته اللا متناهية، فالحكمة هي ما يحدد نوع الفعل الصادر من الفاعل الحكيم.

إذن نقول: لو سلّمنا أن الشر وجود من الوجودات، فإن الله تعالى قادر عليه بلا أدنى شك، ولكنه تعالى لا يفعله، لأن فعله خلاف الحكمة.

ملاحظات مهمة:

نذكر هنا عدة ملاحظات تنفع كثيرًا في موضوع الشرور والمصائب في العالم:

أولًا: لا شك أن الله تعالى كان ولا يزال قادرًا على أن يخلق العالم من دون

ص: 200

أي مصاعب ولا بلاء، ولكن هذا العالم حينها سيتحول إلى عالم ملائكة، والفرض أننا في عالم الدنيا والمادة، وما دمنا في هذا العالم، إذن لا بد من الاختبار ولو ببعض البلايا والمصائب، قال تعالى (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.)(1)

ثانيًا: ليس من الصحيح أن نحكم على كل فعل لا يتلاءم مع رغباتنا الشخصية بأنه شر، فلربما نحكم عليه بأنه شر حسب ما نراه نحن، ولكن نحن لا نعلم الواقع، بل نعلم ظاهرًا من الحياة، مما يعني أننا في كثير من الأحيان نحكم على شيء ما بأنه شر، ليس لأنه شر واقعًا، ولكن لأنه لا يتلاءم مع ما نرغب او نحب.

وهذا يعني أنه ربما نحكم على شيء ما بأنه شر، ولكنه في علم الله تعالى خير لنا، كما قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(2)

وقال تعالى في آية الإفك: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأَثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ

ص: 201


1- العنكبوت 1 -3.
2- البقرة 216.

بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ)(1)

ثالثًا: ثبت في الفلسفة أن (الوجود خير محض) فكل موجود فهو في حدّ نفسه خير محض، وأما بروز ظاهرة الشر فقد كان نتيجة الاحتكاك في هذا العالم، إذ عرفنا أن عالمنا هو عالم التزاحم والتدافع، نتيجة قلة الفرص المتاحة إزاء الرغبات الكثيرة، فنحن لا نسير ضمن خطوط متوازية لا تقاطع بينها، بل نسير ضمن خطوط متقاطعة طولًا وعرضًا. وهذا هو قدرنا في الحياة المادية، وإلا لتحولنا إلى عالم ملائكة كما تبين.

ومعه يُقال: إن الخير مأخوذ من الاختيار، يعني أنه مما يُطلب، وكل موجود فهو كمال في حد نفسه، وإنما انقسم إلى خير وشر، باعتبار أن بعض الموجودات ونتيجة تصادمها مع غيرها مما يكون أضعف قوة منها مثلًا، وأقل قدرة، فإنها أخذت تأكلها وتقضمها، أي إنها أخذت بإعدام كمال غيرها من خلال الوقوف ضد استمرارها في تحصيل الكمال، وبهذا الاعتبار ظهر الشر، وإلا فإن أكل الموجود لغيره يُعتبر في حدّ نفسه كمالًا للآكل، فحركة اليد وحدة السكين وليونة الرقبة –كما قال أفلاطون- هي كمالات في حد نفسها، وإنما ظهر الشر باعتبار أن قطع الرقبة يؤدي إلى منع الآخر من كمال ممكن له، وإلى حجبه عن الوصول إلى كمال ممكن له، وهذا معنى ما يُقال بأن الشر أمر نسبي، أي إنه بالنسبة لموجود ما لا يعتبر شرًا، وإنما يُعتبر شرًا بالقياس إلى ذلك الموجود الذي مُنع وحُجب عن مواصلة سيره التكاملي.

ص: 202


1- النور 11 – 12.

فالشر مفهوم نسبي يظهر عند الاحتكاك بالآخرين وسرقة كمال منهم، ولولا هذا المنع من التكامل لما كان هناك شر.

رابعًا: تقدم أنه انتهى أفلاطون –كما الأعلام- إلى أن الشر مفهوم عدمي، وأنه لا وجود له أصلًا، ولكن هناك ثلاث حقائق لا بد أن نلتفت إليها:

الحقيقة الأولى: أن القانون قد شرّع أحكامًا ورتّب آثارًا على الشرور وإنْ كانت أمورًا عدمية، فجعل هناك عقوبات على من يقتل الآخر، أو غرامات، وما شابه ذلك، فلو كان الشر عدميًا فكيف ترتبت عليه الآثار والآثار لا تترتب إلا على الوجود؟

الحقيقة الثانية: العرف أيضًا تعامل مع الشر على أنه ظاهرة وجودية، ولذلك نسب الشر إلى فاعله، فقال: إن فلانًا فَعَل شرًا، أو إنه شرّير، ولا شك أن هذا التعبير يوحي بوجود الشر.

الحقيقة الثالثة: أن النصوص الدينية تعاملت مع الشر على أنه وجود لا عدم، فانظر مثلًا قوله تعالى (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ)(1)، فأسند المس إلى الشر، أي إنه تعامل معه على انه ظاهرة وجودية.

فكيف نوفّق بين هذه الحقائق وبين كون الشر أمرًا عدميًا؟

ص: 203


1- فصلت 49.

الجواب:

إن الشر يُنظر له من جهتين:

الجهة الأولى: الشر في حد نفسه، وهو ما انتهى العلماء إلى كونه أمرًا عدميًا لا وجوديًا.الجهة الثانية: السبب الذي أدّى إلى ظهور الشر. أي الذي أدى إلى منع موجود آخر من كماله الممكن له، وهذا السبب أمر وجودي، والقانون والعرف والنصوص كانت تقصد هذا الفاعل، لا الشر نفسه، فإن القاتل الذي تسبب في فراق روح الآخر عن جسده هو من منعه من أخذ فرصته في الحياة والتكامل، وهو فاعل مختار، والفاعل المختار مسؤول عن فعله، لذلك رتّب القانون والعرف والشرع آثار الشر عليه.

فالآثار ترتبت على الفاعل للشر، أي على المانع من تكامل غيره، لا على الشر نفسه. فنسبة الشر إلى القاتل كانت باعتبار أنه منع الآخر من الحياة، فهو لم يوجد العدم، وإنما منع من الوجود، فصار الشر بمعنى (اسم الفاعل) أو (فاعل الشر) يُسند إلى الوجود الذي منع من وجود الآخر، وبهذا صحّ وصفه بالشرير.

خامسًا: عرفنا أن الشر ينشأ مفهومه من واقعية (التدافع) والتنافس في هذا العالم، لكن علينا أن نلتفت إلى أن التنافس وبالتالي التدافع ومنْع الآخر من الوصول إلى الهدف، أو الوصول قبله إلى الهدف ومنعه من الحصول عليه، له شكلان:

ص: 204

الشكل الأول: الشكل المقنّن

فإن العقلاء عندما رأوا أن الفرص أقل من الرغبات، جاؤوا ونظموا عملية التنافس، ووضعوا أُطرًا للتنافس، ولم يتركوا الأمر عبثًا، وإلا لانتهى الأمر بنا إلى حياة الغاب، ولذلك نشأ مفهوم (التنافس المشروع) أي المقنّن بقانون من العقلاء (أو الشريعة، لا فرق من هذه الناحية)، مع الالتفات إلى أن القانون لم يلغِ التنافي، إنما قنّنه وهندَسَهُ، بحيث عمل إلى أن لا يصل التنافي إلى حد الإفراط في عملية التمانع مع الآخرين، تمامًا كما في عملية حجز المقاعد للدراسات العليا، فحيث إن المقاعد قليلة، والطلبات كثيرة، فقد جعل القانون نمطًا معينًا من شروط القبول، من قبيل أن الأكثر علامات ودرجات يحصل على المقعد قبل غيره، والقانون بهذا الاعتبار فتح الباب للتنافس والتمانع لكن ضمن قانون، ولو حصل أحدهم على درجات عالية ومنع غيره من الحصول على المقعد، فإنه لا يوصف بالشر، ولا بأنه مجرم، بل يُقال عنه: إنه تنافَسَ بشرف ووفْق القانون وحصل على الهدف بكل جدارة.

بل حتى منع البعض من مخالفة القانون، لا يُعد شرًا بالقياس إلى الواقع العام للحياة، فإلقاء المجرم في السجن وإن كان فيه تحديد لحريته ومنعٌ لنوعٍ من تكامله، ولكنه بالنظر إلى الفائدة الإيجابية الكبيرة الحاصلة من منعه من ممارسة الجريمة في المجتمع، يُعد خيرًا.

فهذا التنافس وإنْ أدّى إلى منع الآخرين من بعض فرص التكامل، ولكنه لا يُبوّب في الشرور.

ص: 205

الشكل الثاني: الشكل غير المقنن
اشارة

أي التنافس الذي يؤدي إلى منع الآخرين بطريقة همجية بعيدة عن القانون، فيتم تبويبه في الجريمة، ويكون فيه اعتداء غير مشروع ولا مقنن على الآخرين، فهو تمانع خارج حدود المشروع والحق والقانون، فتتولّد مفاهيم الجريمة والاعتداء والظلم والجور، وبالتالي الشر. فهذا هو ما يُسمى شرًا.

وهذا يعني: أن الشر أمر نسبي، وأنه قد يكون شرًا بالقياس إلى أمر ما، ولكنه بالقياس إلى أمر آخر هو خير ومطلوب.

فالشر هو ما وقع خارج إطار القانون، وأما ما يقع داخل القانون والمشروع، فهو ليس شرًا كما تبين.

ومن هنا نجد أننا لا نسمي الدودة التي تأكل جذر الشجرة شريرة، ولا الأسد الذي يأكل الغزال شريرًا، ولا الماء إذا غرق فيه إنسان شريرًا، كل ذلك لأنه وقع داخل إطار القانون الطبيعي، ولم يخرج عن حده المقنَّن.

ومنه نعلم: أن الشر إنما يكون في الفعل الاختياري للإنسان، إذا ما كان خارج إطار القانون.

سادسًا: بناءً على أن الشر أمر نسبي، نسأل هنا: كيف نتعامل معه؟

هنا نمطان من التعامل معه:

النمط الأول: التعامل السلبي

بأن يتم الاعتراض على ظاهرة الشر وتقديم مقترحات للخالق جل

ص: 206

وعلا أن يُغير من نظام هذا العالم بحيث يحوله إلى عالم يشبه عالم الملائكة.

إن هذا التعامل أشبه بمن يُقال له: إن في المدينة سارقًا يجوب البيوت ليسرقها، فهو لم يقفل عليه أبوابه بإحكام، وإنما أخذ لافتة ووضعها خارج البيت وطالَب بأن يُغير الحكّام طريقة حكمهم للدولة، وأن يُنعشوا الفقراء وأن يكثروا من الشرطة وو، وترك بيته مفتوحًا وقد أتى السارق على مهل!

وهكذا نجد البعض من الناس عندما ينظر إلى حالات الشرور في العالم، فبدًلا من التعامل المنهجي معه –كما سنعرف إن شاء الله- فإنه يبقى يتململ ويتضجر ويعترض بدون أي تقدم ملحوظ.

في الحقيقة، أن مثل هذا الشخص يتصور أنه يعيش في الدنيا وكأنه في فندق سبعة نجوم، أو في مدينة ألعاب وترفيه، وأن كل ما يطلبه يجده تحت يده، لذلك تجده يتحسّس من أقل الأشياء التي لا تجري وفق مشتهياته. وهذا ما حكاه القرآن الكريم عن بعض بقوله عز من قائل: (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنىٰ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَىٰ الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأىٰ بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ.)(1)

إن مثل هذا الإنسان، يضجر حتى من ذبابة لو وقعت عليه، ومثله مثل

ص: 207


1- فصلت 49 – 51.

المنصور العباسي، حيث روي أنه وقع الذباب على المنصور فذبّه عنه، فعاد، فذبه حتى أضجره، فدخل جعفر بن محمد، فقال له المنصور: يا أبا عبد الله، لم خلق الله الذباب؟ فقال (عليه السلام): ليذلّ به الجبابرة.(1)

النمط الثاني: التعامل الإيجابي

بأن يكون المرء واقعيًا، ويقبل بأن عالمنا حيث إنه عالم التزاحم والتضاد، إذن لا بد من وقوع حالات التدافع التي تولد الشر، وبدلًا من أن يجلس يتململ كالثكلى، فإنه أخذ يتعامل بمنهجية مع هذا الواقع، وحاول أن يتأقلم مع الوضع، لا بأن يرضخ للشر ويكون عبدًا له، وإنما بأن يحاول أن يلتفّ عليه وأن يعالج ما يقع من حالات الشرور، فاستفاد من الفيضانات بأن خزّن المياه في أحواض كبيرة ليستفيد منها في وقت لاحق، وجعل الأمراض الفتاكة محل نظره وبحثه العلمي، ليطور من جهاز المناعة البشري ضدّها، وهكذا عمل على إيجاد أقفال محكمة تمنع السارق من اقتحام بيته عليه...

وبهذا، أخذ الإنسان الواقعي بالتعامل المنهجي الذي يعمل على التقليل من حدّة التصادمات، بل وحاول أن يلتفّ على الشرور ليجعل منها مادة دسمة للبحث والتطوير.

إن مثل هذا الإنسان الواقعي، ينظر إلى الدنيا وكأنها (مقلع رمل) أو عملية (حفر بئر) ليصل إلى الماء، فإذا ظفر بالماء في الصحراء القاحلة، فهو الفتح المبين، وإلا فإنه سيبقى مستمرًا بالحفر والتنقيب إلى أن يصل إلى هدفه.

ص: 208


1- تهذيب الكمال للمزي ج5 ص 92 – 93.

إنه يضع نصب عينيه أنه يعيش في الدنيا، والعيش في الدنيا ملؤه التعب والنصب، قال تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلىٰ سَعِيراً.)(1)

وقال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ)(2)

وقال تعالى (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.)(3)

ص: 209


1- الانشقاق 6 – 12.
2- البلد 4.
3- العنكبوت 1 -3.

ص: 210

المسألة السابعة: الحكمة من خلق الشيطان

اشارة

من الاسئلة التي تدور كثيرًا في الأوساط هو السؤال عن الحكمة التي كان لأجلها خلق الله تعالى الشيطان، وأصلًا لماذا خلقه الله تعالى رغم علمه بأنه سيعمل على إغواء بني آدم؟

في الجواب عدة خطوات:

الخطوة الأولى: عدم العلم بملاكات الأفعال الحقيقية

لا شك أننا لا نعلم العلة الحقيقية والملاكات الواقعية لكثير من أفعال الله تعالى، لأن ذلك محجوب عنا، تمامًا كما لا نعلم العلة الحقيقية للأحكام الشرعية التعبدية، مثل كون صلاة الفجر ركعتين، وكون كفارة الإفطار المتعمد مثلًا إطعام ستين مسكينًا، وهكذا.

وبالتالي، فإن العلة الحقيقية لخلق الشيطان مخفية علينا، اللهم إلا أن يبينها لنا المعصوم.

وحيث نعلم أن أفعال الله تعالى كلها حكيمة لا عبث فيها، وأن جهلنا بالعلة لا ينفيها، وأنه ربما حكمْنا على شيء بأنه قبيح ولكنه في واقعه حسن،

ص: 211

من كل ذلك ننتهي إلى وجود حكمة واقعية في خلق الشيطان وإنْ لم نعلم بها.

الخطوة الثانية: منشأ شرّية الشيطان

تقدم أنه ثبت في الفلسفة أن الوجود هو الخير، وأن الخير هو الوجود، وبالتالي، فحيث إن الشيطان وجود، إذن هو خير في حدّ نفسه.

أما شرّيته فإنها نشأت من:

أ/ تكبّره على الأمر الإلهي وعدم طاعته لله عز وجل فيما يتعلق بالأمر بالسجود لآدم (عليه السلام)، وإلا، فإنه قبل ذلك كان من المتعبدين لله تعالى، بغض النظر عن كوامن نفسه وأهدافه من العبادة.

ب/ عمله على إغواء بني آدم وتوريطهم بالمعصية، وإلا، فلولا هذه الصفة، لكان الشيطان أشبه بكلب في غابات الأمازون، بعيد عنا، لا نعرفه، ولا نتساءل: لماذا خلقه الله تعالى. ولكن حيث إنه ورّط بني آدم بالكثير من المخالفات، فقد كانت ردةّ فعل البعض هي أن يتساءل مستفهمًا –والبعض معترضًا- عن أنه لماذا خُلق.

على أن البعض يتساءل هذا السؤال من مبدأ تشكيك المؤمنين بعدل الله تعالى وحكمته، أو ربما لأنه يريد تأييد ما يذهب إليه من عدم اتصاف الباري جل وعلا بصفة الحكمة والعدل.

الخطوة الثالثة: شرّية الشيطان كانت باختياره لا بالجبر

هذه الشريّة التي اتصف بها إبليس، لم تكن بإجبار من الله تعالى له، وإنما

ص: 212

هو موجود مختار، له أن يختار أي طريق يشاء، حسب قضاء الله تعالى وقدره في هذا العالم وأن الموجودات المختارة عليها هي أن تقرر مصيرها بيدها ضمن النظام الذي رسمه الله تعالى في هذا العالم.

فالله تعالى خلق الشيطان وأراد له كما أراد لغيره أن يتكامل باختياره في وجوده إلى أن يصل إلى غاية الخلق، وهي كما قال الله تبارك وتعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1)

كل ما في الأمر أنه هو من اختار طريق التسافل، وإلا فإنه استطاع باختياره أن يتكامل ليصل إلى مصافّ الملائكة، وأن يشمله الأمر الذي وُجّه لهم، إذ إنه في الحقيقة من الجن (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ)(2)، فكيف شمله الأمر وهو موجهٌ لخصوص الملائكة؟ هذا يعني أنه قد تكامل من خلال عبادته إلى أن وصل إلى مرتبة الملائكة، ونحن نعلم –كما ثبت في محله- أن الموجود الأدنى يمكنه أن يصعد إلى مراتب عليا من خلال تكامله الوجودي وسيره في خط التكامل الذي رسمه الباري جل وعلا، وهذا ما حصل للشيطان، لكنه فشل في الاختبار، فنزل إلى أسفل سافلين.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الله بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَه الطَّوِيلَ وجَهْدَه الْجَهِيدَ، وكَانَ قَدْ عَبَدَ الله سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لَا يُدْرَى أَمِنْ

ص: 213


1- الفتح 56.
2- الكهف 50.

سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى الله بِمِثْلِ مَعْصِيَتِه، كَلَّا مَا كَانَ الله سُبْحَانَه لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً، بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِه مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَه فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ، ومَا بَيْنَ الله وبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِه هَوَادَةٌ، فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَه عَلَى الْعَالَمِينَ.(1)

الخطوة الرابعة: تقديم التعويض الإلهي للشيطان

حيث إن الله تعالى عادل، ولا يضيع عنده عمل عامل، وحيث إن الشيطان كان قد عَبَد الله تعالى ستة آلاف سنة كما عبّر أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد طالب بأجره على عبادته، فالله تعالى ومن باب وعده بإعطاء المطيع الثواب، أعطاه ثواب عمله في الدنيا، والذي أراد إبليس أن يكون في موضع الإغواء لبني آدم، فأجابه الله تعالى، وفي نفس الوقت حذّر الإنسان من اتباع خطواته وإغراءاته.قال تعالى (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً. قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىٰ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً. قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً.)(2)

ص: 214


1- نهج البلاغة ج2 ص 139.
2- الإسراء 61 – 65

علمًا أنه وفي قبال إمهال الله تعالى للشيطان، فإنه تعالى بيّن لنا أمورًا يمكننا أن نستعين بها لنتخلص من وسوسته وإغوائه، ومن ذلك ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: قال إبليس: خمسة [ أشياء ] ليس لي فيهن حيلة، وسائر الناس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نية صادقة واتكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحُه في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن بما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع على المصيبة حين تصيبه، ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتم لرزقه.(1)

وروي أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ لأَصْحَابِه: ألَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوه تَبَاعَدَ الشَّيْطَانُ مِنْكُمْ كَمَا تَبَاعَدَ الْمَشْرِقُ مِنَ الْمَغْرِبِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ (صلى الله عليه وآله): الصَّوْمُ يُسَوِّدُ وَجْهَه، والصَّدَقَةُ تَكْسِرُ ظَهْرَه، والْحُبُّ فِي الله والْمُوَازَرَةُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَقْطَعُ دَابِرَه، والِاسْتِغْفَارُ يَقْطَعُ وَتِينَه، ولِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ وزَكَاةُ الأَبْدَانِ الصِّيَامُ.(2)

ولو حصل وسقط ابن آدم في شباكه، فإنه تعالى فتح الفرصة له بالتوبة والإنابة والاستغفار، فضلًا عن التعويض الإلهي قبال تلك الوسوسة بجعل الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة.

قد روي عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله أَوْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليهما السلام) قَالَ: إِنَّ آدَمَ (عليه السلام) قَالَ: يَا رَبِّ سَلَّطْتَ عَلَيَّ الشَّيْطَانَ وأَجْرَيْتَه مِنِّي مَجْرَى الدَّمِ، فَاجْعَلْ

ص: 215


1- الخصال للشيخ الصدوق ص 285 ح 37.
2- الكافي للكليني ج4 ص 62 بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الصَّوْمِ والصَّائِمِ ح2.

لِي شَيْئاً. فَقَالَ: يَا آدَمُ، جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ هَمَّ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْه، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْه سَيِّئَةٌ، ومَنْ هَمَّ مِنْهُمْ بِحَسَنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَه حَسَنَةٌ، فَإِنْ هُوَ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَه عَشْراً.

قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ سَيِّئَةً ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَه غَفَرْتُ لَه.

قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: جَعَلْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ، أَوْ قَال: بَسَطْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ حَتَّى تَبْلُغَ النَّفْسُ هَذِه.

قَالَ: يَا رَبِّ حَسْبِي.(1)

وعن رَسُول الله (صلى الله عليه وآله): مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِسَنَةٍ قَبِلَ الله تَوْبَتَه. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ السَّنَةَ لَكَثِيرَةٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِشَهْرٍ قَبِلَ الله تَوْبَتَه. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِجُمْعَةٍ قَبِلَ الله تَوْبَتَه. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْجُمْعَةَ لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِيَوْمٍ قَبِلَ الله تَوْبَتَه، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ يَوْماً لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُعَايِنَ قَبِلَ الله تَوْبَتَه.(2)

الخطوة الخامسة: الشيطان لا يسلب اختيار الإنسان

وهذا الأمر الذي طَلَبه إبليس وأعطاه له الله تعالى، لم يصلْ إلى حدّ سلب اختيار الإنسان، ليأتي العاصي ويقول: إن إبليس أجبرني على المعصية، كلا، فإن أقصى ما يفعله إبليس هي الوسوسة، طرح المقترحات، والتشجيع عليها،

ص: 216


1- الكافي للكليني ج2 ص440 بَابٌ فِيمَا أَعْطَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ آدَمَ ع وَقْتَ التَّوْبَةِ. ح1.
2- الكافي للكليني ج2 ص440 بَابٌ فِيمَا أَعْطَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ آدَمَ ع وَقْتَ التَّوْبَةِ. ح2.

وأما صدور الفعل فإنه بمحض إرادة الإنسان واختياره.

وهذه حقيقة يؤكدها القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا، قال تعالى (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(1)

وقال تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلىٰ عَذابِ السَّعِيرِ)(2)

وقال تعالى (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ)(3)

فلاحظوا عمله: الدعوة فقط، لا الإجبار وسلب الإرادة.

وفي هذا المجال، روي عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.)(4) صعد إبليس جبلًا بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته

ص: 217


1- إبراهيم 22.
2- لقمان 21.
3- فاطر 6.
4- آل عمران 135.

بعفاريته فاجتمعوا إليه. فقالوا: يا سيدنا، لمَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدُهم وأُمنّيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة.(1)

الخطوة السادسة: الشيطان إحدى وسائل الاختبار

حيث إننا في عالم الدنيا، وهي محل بلاء وابتلاء واختبار، كان لا بد من آلات ووسائل للاختبار، فكانت الحاجة إلى الطعام اختبارًا، وكانت الحاجة إلى البيت اختبارًا، وكانت الحاجة إلى الجنس الآخر اختبارًا، وكانت النفس الأمارة بالسوء اختباراً، وكان من بين آلات ووسائل الاختبار هو الشيطان، فهو من اختبارات عالم الدنيا، ليُثبت المؤمن جدارته بلقب عبد الله تعالى، وليكون حصوله على لقب الفوز في الآخرة إثر مجاهدته لأنواع البلايا واجتيازه مختلف الاختبارات، والقرآن صريح في أن تجاوز الاختبارات تترتب عليه المواهب الإلهية، العظيمة، فهذا نبي الله إبراهيم (عليه السلام) يُختبر بكلمات، فلمّا نجح في الاختبار حصل على منصب الإمامة الإلهية التي هي أعظم من منصب النبوة، قال تعالى (وَإِذِ ابْتَلىٰ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(2)

ص: 218


1- أمالي الشيخ الصدوق ص 551 ح 736 / 5
2- البقرة 124.

وقد روي عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه نَبِيّاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه رَسُولاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه رَسُولاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه خَلِيلاً، وإِنَّ الله اتَّخَذَه خَلِيلاً قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَه إِمَاماً، فَلَمَّا جَمَعَ لَه الأَشْيَاءَ قَالَ:(إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قَالَ: فَمِنْ عِظَمِهَا فِي عَيْنِ إِبْرَاهِيمَ قَال: (ومِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قَالَ: لَا يَكُونُ السَّفِيه إِمَامَ التَّقِيِّ.(1)

إذن، وجود إبليس ووسوسته للإنسان هو من اختبارات عالم الدنيا.

ولمواجهة إبليس والتغلب عليه من الجزاء، ما لا يكون لمن لم يواجهه أصلًا، أو واجهه ولم يتغلب عليه، فمن دون المواجهة ربما لا تنكشف الحقائق، وكما قيل: كل الرجال أبطال خارج ساحة المعركة!

فالمواجهة مع إبليس تكشف معدن المرء، وهذا ما حكاه القرآن الكريم مبينًا علة إعطاء سلطان الوسوسة لإبليس على بني آدم، قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ.)(2)

ولذلك، روي أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله

ص: 219


1- الكافي للكليني ج1 ص175 بَابُ طَبَقَاتِ الأَنْبِيَاءِ والرُّسُلِ والأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح2..
2- سبأ 20 – 21.

عليه حتى أسلم.(1)

ص: 220


1- روي في كنز العمال للمتقي الهندي ج11 ص 413 ح 31936 عن النبي (صلى الله عليه وآله): فضلت على آدم بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه حتى أسلم، وكُنّ أزواجي عونًا لي، وكان شيطان آدم كافرًا، وكانت زوجته عونًا على خطيئته.

المسألة الثامنة: التفاوت بين البشر

اشارة

حتى تتم معالجة هذا الموضوع بمنهجية نذكر الخطوات التالية:

الخطوة الاولى: واقعية التفاوت بين البشر

لا شك أن تفاوت البشر واختلافهم ظاهرة ملحوظة على أكثر من صعيد، فهناك التفاوت في الإمكانات الذاتية، أي الاستعدادات والقابليات، فهناك العبقري والذكي والمتوسط والغبي والأبله والمجنون، وهناك القوي والضعيف، هناك الحليم والغضوب...

وهناك التفاوت في المواصفات الشخصية، كاختلاف الأنساب من الرفيع إلى عامة الناس إلى أسوأ نسب كابن الزنا، وكاختلاف الألوان والأشكال والأحجام...

وهناك التفاوت في الظروف الموضوعية التي تتدخل في صنع شخصية الإنسان، كالظروف الجغرافية (أي المكان الذي يعيش فيه المرء) والاقتصادية والثقافية، فقد ينشأ المرء في بيئة ثقافية متعلمة، فتحتويه هذه الظروف لينشأ هو كذلك، وقد ينشأ في بيئة متخلفة فتمنعه من تفعيل إمكاناته، وهذا يعني

ص: 221

أن هناك مَن تمنعه الظروف الموضوعية من تفجير طاقاته وتفعيل إمكاناته لظلم أو جهل أو فقر...

فهذه الأصعدة المختلفة تصوغ بمجموعها الظرف الموضوعي للإنسان وتولّد تفاوتاً فاحشاً بين البشر، فتبرز عندنا ظواهر للتفاوت شاسعة وعميقة.

الخطوة الثانية: الاختلاف في توظيف التفاوت

إن تلقي البشر لهذا التفاوت تلقياً سيئاً أفرز مجموعة من الثنائيات، مثل: ظالم ومظلوم، مستبد ومستعبد، طاغوت ومستضعف، متحضر ومتخلف، ثري فاحش وفقير مسحوق، ظاهرة شعب الله تعالى المختار وشعب يشعر بالدونية....

هذه الثنائيات التي يرزح ويئن تحت وطأتها البشر، جاءت نتيجة للتوظيف السيئ لذلك التفاوت، وهذا يعني أنه لو أردنا أن نلتزم -وبشكل مثالي- بالعمق الاجتماعي والمدني للبشر المبني على التكامل، وأن القوي –في مختلف المستويات- لا بد أن يساعد الضعيف، وأنه لو عطف الظالم على المظلوم، وأعطى الغني الفقيرَ... لما ظهرت تلك الثنائيات...

ولكن عنصر التكامل والتكافل هذا يصطدم مع عنصر الاستخدام – نتيجة قلة الفرص المتاحة بالنسبة إلى الإمكانيات -، فإذا تغلّب عنصر الاستخدام على التكامل والتكافل، حينئذٍ ينمو حس حب استخدام الآخر بلا مقابل في كل فرصة متاحة، فتبرز تلك الثنائيات...

ص: 222

لقد كان على الناس أن يقتدوا بالخالق لهم في تعامله مع مخلوقاته، إذ إننا نجد أن قانون السماء قائم على الأخذ والعطاء، ورغم أن الله تعالى قادر مطلق وغني مطلق، إلا أنه لم يستخدم الإنسان بلا مقابل، فبقدر ما يعطي الإنسانُ لله تعالى ويمتثل أوامره، فإنه يحصل على مقابل، بل إن كل ما يقدمه الإنسان فهو له بالحقيقة، وليس لله تعالى منه شيء، لأنه هو الغني المطلق، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)(1)

الخطوة الثالثة: ما هو سبب التفاوت
اشارة

البعض يتساءل فيقول: أو ليس الله تعالى قادرًا على كل شيء، فلمَ لمْ يخلق بني آدم من دون تفاوت يُذكر؟ وبالتالي لن يظهر هناك ضعيف وقوي، عالم وجاهل، وهكذا، خصوصاً مع غلبة حس الاستخدام على حس التكافل؟(2)

وفي البداية لا بد من التنويه إلى أن السؤال ذو زاويتين، فقد يطرح للتعبير عن عدم الإيمان بالعدل الإلهي والتشكيك في رحمته، وقد يطرح لأجل الحصول على تكييف بين هذه الظاهرة وبين منظومة العدل والعناية واللطف والتفضل والرحمة... ونحن بعد أن ثبت عندنا أن الله تعالى عادل لا يجور أبدًا، فسوف نعالج السؤال من الزاوية الثانية.

ص: 223


1- سورة البقرة (272).
2- وإلا، فلو غلب حس التكافل على صاحبه، لخفت حدة هذا السؤال، ولما بقي منه إلا سؤال عابر عن الحكمة في وجود التنوع في الحياة، وإنما ينشأ ويقوى السؤال فيما إذا أُسيئ استغلال هذا التفاوت، مما يفرز تلك الثنائيات الضاغطة على سير البشرية.

وحتى يتضح الجواب عن سبب التفاوت نضع الأسس التالية:

الأساس الأول: الاختيار الإنساني

تقدم في موضوع القضاء والقدر الإلهي أن العصب الرئيس الذي يحدد مصير الإنسان دنيوياً وأخروياً هو الاختيار، فالإنسان ليس مجبرًا في فعله، وبالتالي فإنه هو الذي يصنع مصيره بيده وباختياره.

ولكن علينا أن نلتفت إلى الحقيقة التالية، وهي:

أنه لا يوجد اختيار بالمطلق، بل إن كل فعل اختياري فهو محاطٌ بالكثير من المبادئ غير الاختيارية، فشربُك للماء محتاج إلى الماء والكأس والعامل الذي يصنع الكأس وصاحب الدكان الذي يبيع الكأس و..، وهكذا انظر إلى كل فعل تقوم به، تجد هذه الحقيقة واضحة، وقد أشرنا إلى هذه الحقيقة فيما سبق.

وهذا يعني: أن كل ممارساتنا الاختيارية هي محتاجة إلى الآخر ليقدم المساعدة، وإلا لما أمكن صدور فعل الإنسان الاختياري، فتفعيل اختيار الإنسان يحتاج إلى ضم عوامل وعناصر كثيرة غير اختيارية له.

إذن، ليس من الصحيح ان نرمي بتخلفنا كله على غيرنا، أو على السماء، لأن الإنسان هو من يصنع مصيره ويحدده، والسماء لم تجبرنا على فعل اختياري. نعم، لا يوجد اختيار بالمطلق، وإنما لا بد من تقديم المساعدة من الغير، فأنت لا تصبح عالمًا من دون معلم، ولا تاجرًا من دون من يشتري

ص: 224

منك بضاعتك، وهكذا...

الأساس الثاني: السنن الإلهية
اشارة

هناك جملة من السنن الإلهية، رافقت البشرية منذُ وجدت وإلى أن تنتهي، منها:

السُنّة الأولى: نظام الأسباب والمسببات

أي إنه تعالى أبى أن يجري المسبَّبات إلا بأسبابها، فهذا من سنن الكون، وإن كان تعالى قادراً على جعل العالم يسير بلا هذا القانون، ولكن حكمته تعالى أبت إلا ذلك، فيما عدا حالات المعجزة والكرامة، والتي هي أيضاً محكومة لقوانين لكنها خارجة عن فهمنا، وهي قوانين فوق القوانين الطبيعية المتعارفة.

وهذا القانون له نسق معين، وهو السنخية بين السبب والمسبب، بمعنى أن يكون المسبب بحالة بحيث لا يصدر إلا عن السبب المعين، يعني لا بد أن توجد هناك خصوصية في السبب والعلة، على أساسها يصدر المسبب والمعلول، ففي نواة النخلة خصوصية تجعلها تنتج التمر لا الليمون، وفي الشوك خصوصية تجعله ينتج شوكًا لا موزًا، بل هي التي جعلت شجرة التفاح تنتج تفاحًا لا كتابًا في علم الفيزياء!

ومن هنا، فلا يمكن خرق هذا القانون، فللغنى وللفقر أسبابهما، وللثقافة والجهل أسبابهما...

ص: 225

وهذا يعني أن جملة من التفاوتات جاءت نتيجة لنظام السببية، بمعنى أن نظام السببية قضى بأن من يعمل بجد وتواصل ولا يتكاسل ولا يتململ ويتحمل مصاعب التجارة ومخاطرها، حينها سيصبح غنيًا ولو بعد حين، أما من ينام إلى الظهر، ولا يبذل أي جهد يُذكر، فليس من حقه أن يعترض على السماء وأنها لماذا لم تجعله غنيًا.

وهكذا الإنسان الذي لا يسهر الليالي ولا يضحي بالكثير من راحته وأمور الدنيا، فإنه لن يصبح عالمًا، بل سيبقى في مستنقع الجهل.

السُنة الثانية: سنة الابتلاء والاختبار

فإن الله تعالى جعل الدنيا عالم اختبار، فنحن لسنا في عالم ملائكة حتى نطالب بعدم الاختبار.

قال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(1)

وهذه السنة أيضاً لها قانونها الخاص، وهو التناسب الطردي بين قوة الإيمان وشدة الابتلاء، فعَنْ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام): أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، وإِنَّمَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِه الْحَسَنَةِ، فَمَنْ صَحَّ دِينُه وحَسُنَ عَمَلُه اشْتَدَّ بَلَاؤُه،

ص: 226


1- سورة البقرة 214.

وذَلِكَ أَنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيَا ثَوَاباً لِمُؤْمِنٍ، ولَا عُقُوبَةً لِكَافِرٍ، ومَنْ سَخُفَ دِينُه وضَعُفَ عَمَلُه قَلَّ بَلَاؤُه، وأَنَّ الْبَلَاءَ أَسْرَعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ مِنَ الْمَطَرِ إِلَى قَرَارِ الأَرْضِ.(1)

وهذه السنة تُعرّض الإنسان للمصائب والبلايا، فتكون موضوعاً لترجمة الكثير من المفاهيم التي لا يمكن أن تظهر إلا بالابتلاء، فالصبر لا يظهر إلا عند المصائب والمصاعب، قال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ...)(2)

هذه السنة تفرز نوعاً أو أكثر من أنواع التفاوتات، وبالتالي قد يسئ البعض استخدام هذا النوع من التفاوت...

الأساس الثالث: تمييزات بين الإرادة وبعض المفاهيم

لا بد من التمييز بين الإرادة من جهة، وبين بعض المفاهيم الأخرى التي ربما تتلابس مع الإرادة، كالشوق والحب والشهوة والتمني... وهنا ننبه إلى:

1 / أن حقيقة الإرادة مختلفة عن هذه المفاهيم، فالإرادة هي القرار والعزم، الذي يقتضي تنفيذ الفعل وتحمل الصعوبات من أجله، أما الاماني والشهوات والأشواق، فهي مجرد أحلام يقظة لا تسمن ولا تغني من جوع.

ص: 227


1- الكافي للكليني ج2 ص 259 بَابُ شِدَّةِ ابْتِلَاءِ الْمُؤْمِنِ ح29 وعلل الشرائع - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 44
2- البقرة 155 – 156.

2 / لا بد أن تُلاحَظ الإرادة مع مقدماتها لا مقطوعة عنها، وأخذُها مقطوعة عن مقدماتها خطأٌ يرتكب، إذ أُخذ في مفهوم الإرادة تحريك العضلات، والعضلات تتحرك نحو علل النتائج لا إلى النتائج، والحاصل أن الإرادة لا بد أن تكون للشيء ومقدماته لا إلى الشيء فقط، فالعلم له مقدمات، وأحدها الإرادة، فإن العلم لا يحصل بمجرد أن يريده الإنسان، بل لا بد أن يبذل له ثمنه، وأن يحقق مقدماته، وهكذا كل أمنية في العالم لها مقدمات، إحداها الإرادة.

الخطوة الرابعة: بيان قضايا خمس مرتبطة بحدوث التفاوت بين البشر
اشارة

إذا اتضحت هذه الثوابت والأسس، نقول:

هناك خمس قضايا لها مدخلية في ظهور التفاوت بين بني البشر:

القضية الأولى: أن الخطوة الأولى من الإنسان

أن علاقة الله تعالى مع عباده علاقة متساوية، وهي قربه تعالى من الجميع بحدّ (... أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ...)(1)، غير قائمة على الرغبة أو الشهوة أو على انتظار الاستفادة، نعم، تنتظم هذه العلاقة باعتبار قرب وبعد العبد عن الله تعالى (وأنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك)(2).

فالله تعالى ينظر إلى الجميع بالسوية، لكن على من يريد أن يتقرب إلى الله

ص: 228


1- الأنفال 24.
2- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص 583 دعاء السحر في شهر رمضان.

تعالى أكثر أن يبذل لأجل ذلك أكثر من غيره، على غرار ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل (عليه السلام)، عن الله عز وجل، قال: قال الله تبارك وتعالى:... وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتنفّل لي حتى أحبَّه، ومتى أحببته كنتُ له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيدًا، إنْ دعاني أجبتُه، وإنْ سألني أعطيتُه...(1)

فلا بد أن تكون هناك حركة من الإنسان نحو الله تعالى، ليكون حصوله على توفيق أو تسديد أو نجاح مستحقًا ومن دون محسوبيات.

القضية الثانية: العلم الإلهي الأزلي

حيث علم الله تعالى بعلمه الأزلي بوقوع التزاحم في عالم الطبيعة، وحيث علم بعلاج التزاحمات الدنيوية، فقد علم من الإنسان – الفرد – إرادته الحقيقية، فكتب على نفسه أن يعطي كل فرد المقدمات غير الإرادية التي تصب في إرادته الحقيقية – لا حبه وشهوته ورغبته -، سواء كانت هي مقدمات نَسَبية أو زمانية أو جغرافية أو غيرها، قال تعالى (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا)(2)

فالله تعالى بعلمه الأزلي علم أن فلانًا مثلًا يريد أن يصبح عالمًا وأنه سيبذل الغالي والنفيس من أجل ذلك، حينها يمكن لله تعالى ان يوفر لهذا الإنسان

ص: 229


1- التوحيد للصدوق ص 399 – 400 باب 62 - باب إن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم/ ح1.
2- الإسراء 20.

المقدمات التي تساعده في تحصيل العلم، ولا يعني هذا أن الله تعالى سيقوم بإعطائه العلم بالمجّان، كلا، وإنما يعني أنه تعالى سيوفر له المقدمات التي لو استغلها بإرادته وسعيه وجهده فإنه سيصل إلى مراده.

ومن هنا نعلم أن من الخطأ أن يُقال: لو أعطي أبو لهب إمكانات سلمان لما كان أبا لهب، بل كان سلمان، والعكس بالعكس، كلا، فهذا تناول خاطئ، إذ حتى لو أُعطي أبو لهب ذلك ولم يُرد هو أن يصير كسلمان، لظل أبا لهب أو ما يشبهه، إذ إرادته الحقيقية هي التي تتحكم بمصيره لا المقدمات التي تُعطى له...

وبعبارة أخرى: أن الله تعالى يهيئ الاستعدادات والمواصفات والظروف الموضوعية على أساس الإرادة الحقيقية التي يعلمها واقعاً من الفرد...

وهذا يعني: أن التفاوت بين البشر مؤسَّس على أساس اختلافهم بالإرادات الحقيقية...

علمًا أن توفير تلك المقدمات لا يعني أن الإنسان سيكون مجبرًا على الوصول إلى الهدف، بل يبقى المدار على تفعيل إرادته واستفادته من تلك المقدمات التي وهبها الباري جل وعلا.

والذي يشهد لهذه الحقيقة: هو الواقع، فكم من أناسٍ كانت الظروف المحيطة بهم تقتضي أن يكونوا في القمة، ولكنهم أخلدوا إلى الأرض وآثروا المستنقعات، وليس بعيدًا عنك امرأة لوط وامرأة نوح، ولا بعض أولاد

ص: 230

الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام).

وكم من أُناس أحاطت بهم ظروف الانحراف والرذيلة، لكنهم عزموا أمرهم على امتطاء المجد والاتصاف بالفضيلة، فكانوا مثالًا لغيرهم في العفة والطهارة والكمال والنجاح، وما امرأة فرعون عنك ببعيد، ولا سلمان المحمدي الذي خاض تجارب مريرة في حياته بحثًا عن النجاة بين يدي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

قال تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ.)(1)

وقال تعالى (وَنادىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ سَآوِي إِلىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) إلى أن قال تعالى (وَنادىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ

ص: 231


1- التحريم 10 – 12.

أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(1)

وهكذا نجد في حياتنا اليومية من خارت عزيمته ليُفرّط في الكثير من الإمكانات والظروف الملائمة للنجاح، فكان من الفاشلين، وآخر عرك الحياة وخاض غمارها ليصنع ظروفه الملائمة بنفسه، وليكون مثالًا لغيره في النجاح.

القضية الثالثة: أن المدار هو على الإرادة الحقيقية للإنسان

ومما يؤيد ذلك هو بعض النصوص التي تشير إلى دور الإرادة الحقيقية في مصير الفرد، فمثلاً أهل النار عندما يطلبون منه تعالى أن يرجعهم ليفعلوا صالحاً، يرفض طلبهم لأن إرادتهم الحقيقية أنهم حتى لو عادوا لرجعوا إلى أعمالهم القبيحة!

قال تعالى (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(2)

وهكذا ذكرت بعض النصوص أن من علل الخلود في جهنم هي الإرادة الحقيقية للمعصية الخالدة، فعن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ؛ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا أَنْ يَعْصُوا الله أَبَداً، وإِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ؛ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ بَقُوا

ص: 232


1- هود 42 – 47.
2- الأنعام 27 – 28.

فِيهَا أَنْ يُطِيعُوا الله أَبَداً، فَبِالنِّيَّاتِ خُلِّدَ هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ ثُمَّ تَلَا قَوْلَه تَعَالَى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه)(1) قَالَ: عَلَى نِيَّتِه.(2)

والخلاصة: أن الله تعالى يطلع على الإرادة الحقيقية للفرد، فيهيئ له المقدمات غير الإرادية التي توصله إلى إرادته تلك...

ومن هذا نستنتج ارتباط بعض أنواع التفاوت بتنوع واختلاف إرادات الأفراد الجادة والحقيقية لمصيرهم النهائي.

القضية الرابعة: سنة العقوبة الدنيوية

فهي سنة تكوينية، سواء كانت على المستوى الجماعي – كما حكاه لنا القرآن الكريم عن بعض مجتمعات الأنبياء – أو على مستوى فردي... والعقوبة تستلزم الألم والحرمان، وبالتالي تفرز أنواعاً من التفاوتات.

فالروايات الشريفة أكّدت هذه السنة تمامًا، وأن الآلام التي تصيب الإنسان في الدنيا، فإن قسمًا معتدًا به منها يكون لأجل تخليص المؤمن من آثار ذنوبه الفتّاكة، فالعقوبة في الدنيا مهما عظمت فإنها أهون من عقوبة الآخرة.

وفي ذلك روايات كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال:

ص: 233


1- الإسراء 84 .
2- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 85 باب النية ح5، وجاء في الهامش: وكأن الاستشهاد بالآية مبنى على أن المدار في الأعمال على النية التابعة للحالة التي اتصفت النفس بها من العقائد والأخلاق الحسنة والسيئة فإذا كانت النفس على العقائد الثابتة والأخلاق الحسنة الراسخة التي لا يتخلف عنها الأعمال الصالحة الكاملة لو بقي في الدنيا أبدا فبتلك الشاكلة والحالة استحق الخلود في الجنة وإن كانت النفس على خلاف ذلك استحق الخلود في النار.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله: إن المؤمن إذا قارف الذنوب ابتُلي بها بالفقر، فإنْ كان في ذلك كفارة لذنوبه، وإلا ابتُلي بالمرض، فإنْ كان في ذلك كفارة لذنوبه، وإلا ابتُلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإنْ كان ذلك كفارة لذنوبه، وإلا ضُيّق عليه عند خروج نفسه، حتى يلقى الله تعالى حين يلقاه، وماله من ذنب يدّعيه عليه، فيأمر به إلى الجنة.

وإنّ الكافر والمنافق ليهوّن عليهما خروج أنفسهما، حتى يلقيا الله تعالى حين يلقيانه ومالهما عنده من حسنة يدّعيانها عليه، فيأمر بهما إلى النار.(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُه لَيَعْتَذِرُ إِلَى عَبْدِه الْمُؤْمِنِ الْمُحْوِجِ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَعْتَذِرُ الأَخُ إِلَى أَخِيه فَيَقُولُ: وعِزَّتِي وجَلَالِي مَا أَحْوَجْتُكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَوَانٍ كَانَ بِكَ عَلَيّ،َ فَارْفَعْ هَذَا السَّجْفَ [أي الستر] فَانْظُرْ إِلَى مَا عَوَّضْتُكَ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ (عليه السلام): فَيَرْفَعُ فَيَقُولُ: مَا ضَرَّنِي مَا مَنَعْتَنِي مَعَ مَا عَوَّضْتَنِي.(2)

القضية الخامسة: بروز بعض المفاهيم بالحرمان

إن بعض الأفعال والخصائص الإنسانية ذات البعد المعنوي لا موضوع لها ولا تبرز ولا تظهر إلا في حالة الحرمان والألم، كالصبر والإخلاص، فأنت لا تصبر إلا على شيء يستوجب منك حبس النفس، فالطاعة تحتاج إلى صبر وحبس النفس عن بعض اللذائذ كلذة الأكل في الصوم والنوم عن صلاة

ص: 234


1- بحار الأنوار للمجلسي ج64 ص 238 عن جامع الأخبار.
2- الكافي للكليني ج2 ص 264 باب فضل فقراء المسلمين ح18.

الفجر، وتجنب المعصية أيضًا يحتاج إلى حبس النفس عن بعض اللذائذ، وهكذا عندما يُصاب المرء بمصيبة فإنه يحتاج إلى حبس النفس ليكون كما الصابرين (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(1)

وهذا أيضاً يفسر نوعاً من أنواع التفاوتات بين البشر، فالذي يُريد التكامل المعنوي أكثر من غيره، عليه أن يجهز نفسه لأنواع من البلايا والمصاعب لكي تبرز عنده تلك المفاهيم المعنوية ويجتاز الاختبارات نحو الكمال، أي إن عليه أن يتخذ للبلايا والمصاعب جلبابًا، ولا يعني هذا أنه لا بد أن يقع في المصاعب، كلا، ولكنه لو وقع فليضع في حسبانه أنها قد تكون مضمار سباقه ومادة اختباره وبالتالي مركب نجاحه وفلاحه.

هذه القضايا الخمسة بمجموعها يمكن أن تفسر لنا التفاوت الحاصل بين البشر، فإذا ما تم ملاحظتها بدقة أمكن تفسير الكثير من الظواهر التي قد يلتبس تفسيرها، ونذكر منها:

الظاهرة الأولى: قول الإمام الحسين (عليه السلام) بشأن ذهابه إلى كربلاء (شاء الله أن يراني قتيلاً) وقوله (عليه السلام) بشأن إخراج النساء معه (شاء الله أن يراهن سبايا)(2)، فهذا لا يعني الجبر، بل معناه – حسب ما عرفناه – أنه تعالى وفّر الظروف الموضوعية المناسبة لنيل درجة في الجنة بشرط اختيار الشهادة، وهذا

ص: 235


1- البقرة 156 - 157
2- المحتضر للحسن بن سليمان الحلي ص 82 ح121.

لا يتنافى مع اختيار الإمام الحسين (عليه السلام).

وكل تلك المقدمات لا تسلب إرادة الإمام الحسين (عليه السلام) واختياره، وإنما هي تصب في الإرادة الحقيقية والجدية للإمام الحسين (عليه السلام)، وأعطيت له ووفرت بسبب إرادته (عليه السلام).

الظاهرة الثانية: قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)

إذ ذكر الأعلام أن الإرادة هنا تكوينية لا تشريعية، إذ التشريعية عامة لجميع العباد، والإرادة في الآية خاصة، فهي تكوينية، ومن هنا قد يقال: بأن عصمة أهل البيت (عليهم السلام) لا تعد فضيلة لهم، لأنها أُعطيت لهم تكويناً، وليس فرع عمل صالح قدموه.

والجواب(1):

أ / أن المراد النهائي والغاية القصوى للمعصوم ليست هي نفس العصمة، بل هي أول مبادئ طريقه نحو التكامل غير المتناهي.

ب / ولو سلّمنا أنها أعطيت لهم تكويناً، فالفضيلة كامنة في الحفاظ عليها الذي هو أصعب بكثير من الحصول عليها.

ج- / وحل هذا: أن العصمة مقدمة غير اختيارية تدخل في سياق

ص: 236


1- سيتم بيانه أيضاً في مباحث الإمامة إن شاء الله تعالى في : النقطة الثانية: عصمة أهل البيت (عليهم السلام)/ الدليل الأول: آية التطهير/ الخطوة الأولى: نوع الإرادة في الآية.

الشروط الموضوعية التي تصب في تحقيق الإرادة الحقيقية للمعصوم المعلومة بعلم الله تعالى الأزلي، للوصول إلى مقامات رفيعة تشكل العصمة شرطاً من شروطها- وبعبارة: حيث علم الله تعالى أن الإمام يريد حقًا أن يصل إلى مقام (الإمامة) بكل إرادته، فالله تعالى وفّر له هذه المقدمة (العصمة) لأنها شرط في ملئ هذا الموقع (الإمامة)، فالخطوة الأولى كانت من الإمام نفسه، وهي إرادته الجدّية وعزمه الثابت في أن يصل إلى هذا الموقع بجدارة.

ونفس الكلام يُقال في ظاهرة العصمة في فئة خاصة من البشر – الأنبياء والأوصياء -، فليس ذلك لعلاقة خاصة لله تعالى مع عباده، وإنما فرع العلم الإلهي الأزلي بالإرادة الحقيقية لهم، ولو علم من غيرهم إرادة ذلك جداً لوفّرها لهم أيضًا...

الظاهرة الثالثة: الولادة من الزنا وما يترتب عليها، فابن الزنا إنْ كان مؤمناً، كان تولّده من الزنا هو من مقدمات ابتلائه واختباره، وإنْ كان منحرفاً، كان تولّده من الزنا هو من المقدمات غير الاختيارية لإرادته الحقيقية.

الخطوة الخامسة: البعد التربوي لهذا البحث

من هذا نخلص إلى أن من أهم الأبعاد التربوية لطرح هذا البحث هو ضرورة التعاطي بصورة إيجابية مع هذا التفاوت، والعمل على تقليص تلك الثنائيات التي يفرزها ذلك التفاوت، ونزع اللباس السلبي لتلك الثنائيات عنها، مع الالتفات إلى أن الإسلام ملأ جميع الفراغات ولم يترك مساحة فارغة لم يملأها بالتعاليم السماوية. ويكون التعامل معها على أساس:

ص: 237

أ – ما تمليه الشريعة من تعاليم مؤسّسة على أساس الفطرة.

ب – مراعاة الحقوق والواجبات المتبادلة بين أفراد البشر على اختلاف وتنوع أصنافهم.

ج- - ضرورة التلبس بمبادئ أخلاقية معنوية كالصبر والزهد والإيمان والتسليم والرضا...

فإذا ما تم الالتزام الحرفي بالنظام الإسلامي لحلّ هذه المشادّات والتزاحمات، حينها يمكن أن يستفيد الجميع مما أتيح من الفرص، من دون أن يحدث نزاع وإبعاد للغير عن موقعه، أو سلبه حقه، وهذا ما حكته لنا روايات المستقبل، حيث بيّنت أنه وفي ظل حكومة العدل الإلهي، فإن الرفاه سيعمّ الجميع، الأمر الذي يقلل من حالة التزاحمات إلى حدّ الندرة أو العدم تمامًا، فهي جنة في الأرض، حيث يحكم العدل، وتُطبَّق تعاليم السماء بكل حرفية ومثالية.

عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكر المهدي، فقال: يخرج عند كثرة اختلاف الناس وزلازل، فيملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلما وجورًا، يرضى به ساكن السماء، وساكن الأرض، ويقسم المال قسمة صحاحاً. قال: قلت: وما صحاح؟ قال: بالسواء، قال: ويغنم الناس حتى لا يحتاج أحدٌ أحداً، فينادي منادٍ: من له إليّ من حاجة؟ فلا يجيبه أحد من الناس، إلا إنسان واحد، فيقول له: خذ. قال: فيحثو في ثوبه ما لا يستطيع حمله، فيقول: احمل علي. فيأبى عليه، فيخفف منه، حتى يصير بقدر ما يستطيع أن يحمله، فيقول:

ص: 238

ما كان في الناس أجشع نفسًا من هذا، فيرجع إلى الخازن، فيقول: إنه قد بدا لي ردُّه، فيأبى أن يقبله، فيقول: إنّا لا نقبل ممن أعطيناه.(1)

ص: 239


1- دلائل الإمامة للطبري (الشيعي) ص471 – 472 ح463 / 67.

ص: 240

المسألة التاسعة: في الألم والعوض

اشارة

هنا خطوتان:

الخطوة الأولى: في الألم

الألم ظاهرة واقعية يعيشها الكثير من الناس كل يوم، وللألم أسباب متعددة، كالأمراض والكوارث الطبيعية والظلم والإبادة البشرية في بعض الأحيان... فهل هو فعل حسن؟ وكيف نكيّفه مع العدل الإلهي؟

وحتى تتضح الحال جيدًا، نقول:

أولًا: الألم الابتدائي والاستحقاقي:

الألم الابتدائي: هو ما يكون من دون استحقاق مسبق، كأن يأتي الألم لشخص ما وهو لم يفعل شيئًا يستحق الإيلام عليه.

وقد يُحكم على الألم الابتدائي بأنه قبيح إذا وقع من عاقل حكيم، على آخر، وحتى نخرج عن هذا القبح ونحكم عليه بالحسن فلا بد من توفر شرطين فيه:

ص: 241

الشرط الأول: أن يكون مُعوَّضاً، لينتفي الظلم.

وهل يُشترط رضا المتألم بالعوض؟

لا يشترط في عوض الألم رضا المتألم به، إذا كان بدرجة عالية من الحسن بحيث يرضى به العقلاء لو اطّلعوا عليه، وبحيث يُعدُّ رفضُه سفهاً، ومعه فلا حاجة لرضا المتألم، كما هو الحاصل في تعويض الباري جل وعلا لعباده، نعم، في عالمنا، يلزم أن يعلم المتألم بالعوض، إذ لا يصح أن تؤلم شخصًا ثم تعطيه عوضًا لا يرضى به، أو عوضًا لا يفوق الألم الذي تعرض له فضلًا عما إذا كان أقل من الألم.

الشرط الثاني: أن يكون لطفاً – أي مقرباً للعبد إلى الله تعالى - لينتفي العبث، وإلا، فإن العوض ينفي الظلم فقط، ولا ينفي العبث.

أما الاستحقاقي فهو ما يكون فرعًا لفعل يقوم به الفرد، فيستحق لأجله إيلامًا معينًا. فلا يكون قبيحًا من هذه الناحية.

وهذا الألم الاستحقاقي قد يكون دنيوياً، كالقصاص إثر قتل مؤمن مثلًا أو جرحه أو حتى خدشه، وقد يكون أخروياً وهو دخول جهنم والعياذ بالله.

والألم الاستحقاقي قد يكون للابتلاء والاختبار فقط – أي يكون لطفاً فقط – كأن يكون الإنسان مؤمنًا، فيبتليه الله تعالى ببعض الآلام لطفًا به، أي ليزيد من درجاته الكمالية وقربه من الباري جل وعلا، فهو استحقاق بمعنى أن المؤمن يستحق أن تُرفع درجته ويُزاد في كماله ولو عن طريق إيلامه، كما

ص: 242

ورد ذلك مثلًا في موت ولد المؤمن، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا مات ولدُ العبد قال الله تعالى لملائكته: أَقَبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك، واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد.(1)

وقد يكون مع ذلك عقاباً، ويؤيده شهادة القرآن الكريم بتعذيب بعض الأمم السابقة في الدنيا، وتشريع الكفارات والقصاص والتعزير، وكذلك كون بعض الذنوب مما تعجل عقوبتها في الدنيا، فقد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها ولا تؤخر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان.(2)

ثانيًا:

قد يكون في الألم نفع عظيم، بحيث يرضى به كلُّ من اطلع على ذلك النفع. كالألم الحاصل من الصوم في يوم شديد الحر، فإن فيه نفعاً أخروياً يفوق التخيل ويغلب الألم المحسوس. وهذا ليس قبيحًا كما هو واضح.

وقد يكون الألم بلا أي فائدة تُذكر، كأنْ يرمي الفرد نفسه من شاهق من دون سبب يُذكر، فتُكسّر عظامه، أو كمن يقوده سيارته بسرعة من دون أن يلتزم بنظام الأمان فيصدم سيارته ويحدث له ألم شديد.

ثالثًا:

قد يكون في الألم دفع ضرر أعظم، بحيث يرضى به العقلاء رغم وجود الألم فيه، كقطع إصبع لإنقاذ الحياة، وهذا ليس قبيحًا، وقد يكون عبثًا

ص: 243


1- مسكن الفؤاد للشهيد الثاني ص 36.
2- أمالي الشيخ المفيد ص 237.

وبلا فائدة.

رابعًا:

قد يكون الألم لجريان نظام الأسباب والمسببات الذي أبى الله تعالى إلا أن تسير الدنيا عليه، فمن وضع يده في النار لا بد أن يتألم، ومن وقع في الماء وهو لا يعرف السباحة لا بد أن يغرق، وهذا ليس قبيحًا، لأنه مقتضى نظام الأسباب والمسببات في هذا العالم.

خامسًا:

قد يكون الألم بسبب الدفاع عن النفس، فيؤلم غيره لأجل ذلك، كما في ساحات الجهاد. وهذا أيضًا ليس بقبيح.

فتبين: أن ما يمكن أن يُحكم بقبحه هو الألم الابتدائي من دون تعويض ولطف.

الخطوة الثانية: في الأعواض

إن النفع الذي يحصل عليه الفرد له ثلاثة معانٍ:

1/التفضل: وهو ما كان بدون استحقاق.

2/الثواب: وهو النفع الذي يحصل باستحقاق مع التبجيل.

3/ العوض: وهو النفع الذي يحصل باستحقاق ولو من دون التبجيل.

وهنا سؤال:

هل يجب على الله تعالى أن يعوّض العبد عن الألم الذي يحصل له في الدنيا؟ أو حتى أن يثيبه على ما يقدمه من أعمال صالحة والتزام بترك المحرمات؟

ص: 244

الجواب:

إذا تحدثنا بلغة الاستحقاق، أي الحق الذي يكون للعبد على الله تعالى، حينها نقول: لا يستحق العبد أي شيء من ذلك؛ وذلك لأجل:

1 / أن الإنسان وعمله مملوك له تعالى بالملكية الحقيقية التكوينية، فأي استحقاق يبقى بعد هذا.

2 / أن كل ما يعمله الإنسان يمكن جعله شكراً للنعم الابتدائية والسابغة لله تعالى عليه، فلا استحقاق على العمل، لأنه عوض النعم تلك، خصوصاً وأن مادة الشكر منه تعالى، فكل شكر هو بدوره نعمة يستحق عليها الشكر.

3 / أن للطاعة آثاراً وضعية يحصل عليها الإنسان في الدنيا، من الطمأنينة والاستقرار والشعور بالسعادة الدنيوية وعدم الشعور بالضياع، ومعه فلا يستحق العبد شيئاً وراء ذلك.

هذا ولكن إذا تحدثنا بلغة أخرى هي لغة التفضل والمنّ والوعد الإلهي، حينها ستتغير وتيرة الكلام، فنقول:

إن إرادته تعالى شاءت أن يضع جزاءً وثواباً وعوضاً للعبد من باب الجود والكرم، فهو تعالى بكرمه وجوده جعل العبد مستحقاً عليه للثواب، بل جعل الثواب أعظم بكثير من العمل، وأضاف له التبجيل والتعظيم.

والجنة أفضل ثواب وعوض من الله تعالى للعبد، مع الالتفات إلى أن الجنة ليست كلها عوضًا وثوابًا للإنسان، وإنما الكثير من مفرداتها ونعيمها

ص: 245

هو تفضل من الله تعالى، وإلى هذه الحقيقة أشار السيد الطهراني بقوله:

كلُّ ما أعطى الله تعالى عباده من الوجود وشؤونه في الدنيا أو الآخرة [فهو] تفضل، ليس للعبد استحقاق بالحق الأصلي؛ لأن له ملك الوجود كله، فلا معنى لحق لغيره بالإصالة، بل الله تعالى جعل بلطفه وكرمه لهم حقاً وأجراً وجزاءً وعوضاً في قبال الطاعات الاختيارية وغيرها من الآلام والمصائب، كما فيما بين العباد من الأعمال والأجور وغيرها من الحقوق، ووعد بها ويفي بوعده، بل بكرمه أضعاف ما وعده، بل لا يمكن أن يكون نعيم الجنة كله ثواباً، فإنه فضلٌ من الله سبحانه، ورحمة، لأن ثواب الطاعات -ولو بلغ ما بلغ من الأعداد المتعذر إحصاؤها- متناهٍ، ونعيم الجنة غير متناه. (1)

وقال الشيخ المفيد (قدس سره):

إن نعيم أهل الجنة على ضربين:

فضرب منه تفضّل محض لا يتضمن شيئًا من الثواب.

والضرب الآخر تفضل من جهة وثواب من أخرى.

وليس في نعيم أهل الجنة ثواب وليس بتفضل على شيء من الوجوه.

فأما التفضل منه المحض فهو ما يتنعم به الأطفال والبله والبهائم، إذ ليس لهؤلاء أعمال كُلِّفوها، فوجب من الحكمة إثابتهم عليها.

ص: 246


1- توضيح المراد- تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد- ص611.

وأما الضرب الآخر فهو تنعيم المكلّفين وإنما كان تفضّلًا عليهم لأنهم لو مُنعوها ما كانوا مظلومين، إذ ما سلف لله تعالى عندهم من نعمه وفضله وإحسانه يوجب عليهم أداء شكره وطاعته وترك معصيته، فلو لم يُثبهم بعد العمل ولا ينعمهم لما كان لهم ظالمًا؛ فلذلك كان ثوابه لهم تفضّلًا.

وأما كونه ثوابًا فلأن أعمالهم أوجبت في جود الله تعالى وكرمه تنعمهم وأعقبتهم الثواب وأثمرته لهم، فصار ثوابًا من هذه الجهة، وإن كان تفضًلا من جهة ما ذكرناه...(1)

ولكن رغم هذا كله، فإن الروايات الشريفة ذكرت من موارد التفضل الإلهي الشيء الكثير، بحيث اعتبرت بعض الروايات أن تفويت بعض المصالح على العبد في الدنيا، سيتم تعويضه في الآخرة بالعوض العظيم، رغم أنه لا يستحق شيئًا على الله تعالى.

فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَمَرَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى مُنَادِياً يُنَادِي بَيْنَ يَدَيْه: أَيْنَ الْفُقَرَاءُ؟ فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ، فَيَقُولُ: عِبَادِي. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا. فَيَقُولُ: إِنِّي لَمْ أُفْقِرْكُمْ لِهَوَانٍ بِكُمْ عَلَيَّ، ولَكِنِّي إِنَّمَا اخْتَرْتُكُمْ لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ، تَصَفَّحُوا وُجُوه النَّاسِ، فَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً لَمْ يَصْنَعْه إِلَّا فِيَّ فَكَافُوه عَنِّي بِالْجَنَّةِ.(2)

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ كَثِيرٍ الْخَزَّازِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ

ص: 247


1- أوائل المقالات - ص 111.
2- الكافي للكليني ج2 ص 264 باب فضل فقراء المسلمين ح15.

لِي: أمَا تَدْخُلُ السُّوقَ؟ أمَا تَرَى الْفَاكِهَةَ تُبَاعُ والشَّيْءَ مِمَّا تَشْتَهِيه؟ فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: أَمَا إِنَّ لَكَ بِكُلِّ مَا تَرَاه فَلَا تَقْدِرُ عَلَى شِرَائِه حَسَنَةً.(1)

وعَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُه لَيَعْتَذِرُ إِلَى عَبْدِه الْمُؤْمِنِ الْمُحْوِجِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يَعْتَذِرُ الأَخُ إِلَى أَخِيه، فَيَقُولُ: وعِزَّتِي وجَلَالِي، مَا أَحْوَجْتُكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَوَانٍ كَانَ بِكَ عَلَيَّ، فَارْفَعْ هَذَا السَّجْفَ فَانْظُرْ إِلَى مَا عَوَّضْتُكَ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ: فَيَرْفَعُ فَيَقُولُ: مَا ضَرَّنِي مَا مَنَعْتَنِي مَعَ مَا عَوَّضْتَنِي.(2)

ملحوظات
الملحوظة الأولى: من الفروق بين الثواب والعوض

أن من الفروق بين الثواب والعوض أن الأول يشترط فيه إشعار المثاب بأن أمراً ما هو ثواب له، لأنه أُخذ في الثواب عنصر التبجيل والتكريم وهو لا يحصل إلا بالإشعار، أما العوض فلا يجب إشعار مستحقه بأن كذا هو عوضه، لعدم اقتران العوض بالتبجيل والتعظيم، وما دام العوض كذلك، فيمكن حصوله للمستحق في الدنيا من دون إشعاره.

كما أنه لا يجب في العوض أن يكون شيئاً محدداً، بل يمكن أن يُفرض أي شيء يمكن أن يكون عوضاً عن الألم، أما الثواب، فلا بد أن يكون متجانساً مع المألوف من الملاذّ الدنيوية، لأن الإنسان إنما يعمل رجاء الحصول على ما

ص: 248


1- الكافي للكليني ج2 ص 264 باب فضل فقراء المسلمين ح17.
2- الكافي للكليني ج2 ص 264 باب فضل فقراء المسلمين ح18.

ألِفه من النعم وعلِم به، لكن بشكل خالص وكبير، فلا بد أن يكون الثواب مجانساً لما أَلِفه وعلِمه من النعم.

ولكن يمكن القول: بأن الثواب لا يشترط فيه ذلك، لكونه يأتي بشكل ألذ وأشهى، وهذا لا يستلزم الظلم، إذ الظلم يتحقق لو كان الثواب مما تنفر منه النفس، أما إذا كان مما تشتهيه بل وفوق ذلك بكثير، فهذا لا يعد ظلماً. حتى لو لم يكن من جنس المألوف.

هذا فضلاً عن أنه لا معنى لقياس ملاذّ الآخرة ونعيمها على ملاذ الدنيا ونعيمها. بل لا دليل على كونها من جنسها وأنها متحدة معها نوعاً، فلا مجال لتوهم ما قيل، إذ إنه فرع المجانسة بين الدنيا والآخرة، وهو ليس كذلك.

والنصوص –من آيات وروايات- تدل على عدم ضرورة المجانسة، ويمكن عنونة مفاداتها بالتالي:

أ / أن الثواب مما تشتهيه الأنفس، وما تشتهيه الأنفس ربما يكون من غير المألوف، وهذا أمر وجداني. قال تعالى (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(1)

وقال تعالى (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(2)

ص: 249


1- فصلت 31
2- الزخرف 71.

(لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ)(1)

والشهوة وإن كانت تتعلق بما هو مألوف، إلا أنها قد تتعلق بما هو غير مألوف أيضاً...

ب / أن هناك ثواباً غير معلوم لنا البتة، عُبر عنه تارة بالمزيد، وأخرى بالرضوان الأكبر، قال تعالى (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)(2)

وقال تعالى (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ واللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)(3)

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(4)

ج- / أن الحصول على نعيم الجنة – لمن كان فيها - لا يحتاج إلى أكثر من الاشتهاء والتمني، ولعله كان غير مألوف. (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(5)،

وتدعون بمعنى تتمنون.

ص: 250


1- الأنبياء 102.
2- ق 35.
3- آل عمران 15.
4- التوبة 72.
5- فصلت 31.

(لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ)(1)

د / أن علم تلك النعم على حقيقتها منفي عنا اليوم، قال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(2)

قال صاحب البحار: أي لا يعلم أحد ما خبي لهؤلاء الذين ذكروا مما تقر به أعينهم، قال ابن عباس: هذا مالا تفسير له فالأمر أعظم وأجل مما يعرف تفسيره. وقد ورد في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين، مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتكم عليه، اقرؤوا إن شئتم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ... وقد قيل في فائدة الاخفاء وجوه: أحدها: أن الشيء إذا عظم خطره وجل قدره لا تستدرك صفاته على كنه الا بشرح طويل، ومع ذلك فيكون إبهامه أبلغ. وثانيها: أن قرارات العيون غير متناهية فلا يمكن العلم بتفاصيلها...)(3)

وغيرها من الوجوه.

والحاصل: هو عدم اشتراط المجانسة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، للآيات الكثيرة الدالة على ذلك، وأما الطائفة الأولى فيمكن التعليق عليها بما ذكر في كلمات الأعلام:

ص: 251


1- يس 57.
2- السجدة 17.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج 8 - ص 92 – 93.

وهنا سؤال:

ماذا نفعل بقوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(1)

حيث إن قوله تعالى (قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها) دال على المجانسة بين نعيمي الدنيا والآخرة.

وكذلك الآيات الشريفة التي ذكرت الكثير من النعم التي نعرفها في الدنيا، كالعنب والموز والرمان والتين والزيتون... وهذا يعني أن نعم الآخرة هي من جنس نعم الدنيا.

والجواب:

أجاب العلماء عنها بالتالي:

أن الآية تعني الاشتراك اللفظي فقط، فلا تدل على ضرورة التجانس، فالموز الأخروي غير الدنيوي، ولكن اسمهما واحد، فالآيات التي ذكرت أسماء تلك الفواكه، إنما هو مجرد اشتراك لفظي، ويتجلى هذا المعنى في الآيات التي ذكرت الخمر شراباً لأهل الجنة، إذ لا يُعقل أن يكون الخمر في الجنة هو نفسه الخمر في الدنيا من كونه مسكرًا ويسلب العقل ويؤدي بالإنسان إلى أن يفقد سيطرته على جهازه العصبي.

ص: 252


1- البقرة 25

ولذا جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) في ذيل الآية (وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً):

فأسماؤه كأسماء ما في الدنيا من تفاح وسفرجل ورمان وكذا وكذا، وإن كان ما هناك مخالفًا لما في الدنيا، فإنه في غاية الطيب، وإنه لا يستحيل إلى ما يستحيل إليه ثمار الدنيا من عذرة وسائر المكروهات من صفراء وسوداء ودم، بل لا يتولد عن مأكولهم إلا العرق الذي يجري من أعراضهم أطيب من رائحة المسك...(1)

الملحوظة الثانية: لا استحقاق للثواب مع سوء الاختيار

كل ما تقدم في الألم وعوضه إنما يكون فيما إذا لم يؤلم الفرد نفسه باختياره، كما لو ألقى نفسه من شاهق باختياره، أو وضع يده في النار باختياره، فالعقل يحكم بأن مثل هذا الفرد لا يستحق أي شيء، فلا عوض ولا ثواب له، بل قد يكون مرتكبًا للمحرم فيما إذا خالف حكمًا شرعيًا في ذلك، كمن قتل نفسه مثلًا بالانتحار.

الملحوظة الثالثة: الانتصاف
اشارة

العوض تارة يكون على الله تعالى – كما في الألم الابتدائي – وأخرى على الإنسان، وذلك عندما يقوم إنسان بإيلام آخر، كقتله أو ضربه وما شابه، وهنا يتحقق موضوع الانتصاف.

ص: 253


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام) ص 203.

وحتى تتضح الصورة يُقال:

لدينا ثلاثة أمور:

أ / تشريع الأحكام، وهذا حصرًا بالله تعالى، وقد أتمّ الله تعالى التشريعات وبلّغها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام)، طبعاً إلا إذا أذن جل وعلا لأحد من أوليائه بالتشريع.

ب / تشريع الجزاء على التزام الأحكام أو مخالفتها، وهي منظومة (الثواب) و (العقاب)، وأيضًا تم تبليغها على أخسن وجه. فالثواب هو وعد الله تعالى، والعقاب هو وعيده.

ج- / الانتصاف: أي أخذ الحق والعوض من الظالم والانتصار للمظلوم. ولولا هذا التدخل الإجرائي لما وصل إلى المظلوم حقه. وهو من مقولة اللطف، ومرحلة من مراحل تطبيق العدالة الاجتماعية.

وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى سينتصف للمظلوم من الظالم، والدليل:

الدليل العقلي

أولًا: أنه تعالى هو المدبر لأمور عباده، والتدبير لا يقتصر على تشريع الأحكام والجزاء، بل لا بد من التدخل العملي في أخذ العوض من الظالم.

ثانيًا: أن عدم انتصاف الله تعالى للمظلوم مع تمكينه الظالم من ظلمه، يستلزم نسبة القبيح إليه تعالى، وهو محال.

ص: 254

نعم، تمكين الظالم من الظلم إنما هو بشرط اقتضاء الحكمة الإلهية ذلك، ولو من باب أن الظلم الواقع على الأولياء يدفعهم نحو القرب الإلهي واستذكار النعم وشكرها والصبر، مما يرفع درجة الإيمان(1)،

وحينئذٍ يكون العوض عليه تعالى، لأنه وعد بذلك حسب قدر المظلوم عنده تعالى.

الدليل النقلي

وهي الآيات القرآنية التي تذكر قضاء الله تعالى بين العباد، مما ظاهره الانتصاف، وهي كثيرة، ومنها قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(2)

وقوله تعالى (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(3)

وقال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلىٰ قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(4)

وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ

ص: 255


1- ومما يشهد بذلك دعاء الإمام الكاظم(عليه السلام) وهو في السجن: اللهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد. [الإرشاد للشيخ المفيد ج2 ص 240].
2- النحل 124.
3- الحج 56 – 57.
4- الروم 47.

الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(1)

إذن: الظالم يعاقب في الدنيا بالتشريعات الموضوعة، من الحدود والتعزيرات والديات، وفي الآخرة يعذب حسب ظلمه، أو يشمله العفو من صاحب الحق أو من وليه فيما إذا كان الظالم من أهل الإيمان ولم يظلم معانداً...

ص: 256


1- غافر 51 – 52.

المسألة العاشرة: تعذيب أولاد الكافرين

اشارة

نحن نعلم أن الله تعالى وعد الكافرين بالعقوبة الأخروية، ونعلم أيضًا أن أولاد الكافرين غير البالغين يُحكم بكفرهم أيضًا، وهذا يعني أنه لو مات ولد الكافر غير بالغ، فحسب هذه المعطيات فإنه سيدخل جهنم، وهذا ما لا يتلاءم مع العدل الإلهي، فكيف الجواب؟

الجواب:

إن هذا الكلام لو صحّ لأمكن القول بأنه خلف العدل الإلهي، ولكنه غير الصحيح، ولكي يتضح الجواب تفصيلًا نطرح هذا السؤال:

ما هو معيار استحقاق الإنسان للعقوبة في الآخرة؟

والجواب:

من تتبُّع الآيات والروايات الشريفة يظهر لنا جليًا أن العقوبة الأخروية لها شروط، وعدم توفرها يعني عدم استحقاق الفرد للعقوبة، وهذه الشروط –إجمالًا- هي التالي:

ص: 257

الشرط الأول: البيان من المولى

أي إنه لا بد أن يصل التكليف من المولى إلى العبد مع البيان الكامل، وإلا فمع عدم وصوله إليه أو عدم بيانه له، تقبح عقوبته، قال تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً)(1)

الشرط الثاني: توفر شروط التكليف
اشارة

وهذا عنوان يُذكر في عامة التكاليف الشرعية، وأن التكليف في الإسلام مشروط بشروط عامة هي: العقل، والبلوغ، والقدرة والاختيار.

فمن كان مجنونًا أو صبيًا غير بالغ أو عاجزًا عن أداء التكليف، أو كان مجبرًا على الفعل خارج إرادته، فلا تكليف عليه، أو أنه تسقط عنه عقوبة المخالفة لو خالف.

ومعه فالطفل والجاهل القاصر والمجنون كلهم لا يعاقبون. حتى لو كانوا أولاد كافرين.

وهنا إشارات:

الإشارة الأولى: التكليف ليس شرطاً في ترتب الآثار الوضعية

إن عدم تكليف البعض لا ينفي ترتب بعض الآثار الوضعية على فعله، كالضمان والدية والتأديب الضروري، فالولد لو كسر حاجة غيره لزمه الضمان من أمواله لو كان عنده أموال، وهكذا المجنون، وهذه مسألة فقهية

ص: 258


1- الإسراء 15

أردنا التنبيه عليها هنا إجمالًا.

الإشارة الثانية: عدم البيان يُسقط التكليف والعقوبة

إن العقاب المنفي ليس فقط عن الأطفال، بل عن عموم غير المكلف كالمجنون، بل العقاب المنفي منفي عن عموم من لم تقم عليه الحجة عقلاً أو نقلاً، بشرط أن لا يكون عن تقصير في الفحص، أما المقصر فغير مشمول بهذا النفي، وهو ما أشارت إليه بعض الروايات، وهذا يعني أن العقاب ثابت في حق المكلف مع البيان –فيما إذا خالف التكليف –.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله احْتَجَّ عَلَى النَّاسِ بِمَا آتَاهُمْ وعَرَّفَهُمْ.(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (وما كانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) قَالَ: حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيه ومَا يُسْخِطُه. وقَالَ: (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها) قَالَ: بَيَّنَ لَهَا مَا تَأْتِي ومَا تَتْرُكُ. وقَالَ: (إِنَّا هَدَيْناه السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً) قَالَ: عَرَّفْنَاه إِمَّا آخِذٌ وإِمَّا تَارِكٌ، وعَنْ قَوْلِه تعالى: (وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) قَالَ: عَرَّفْنَاهُمْ [وفي رواية: بَيَّنَّا لَهُمْ] فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى وهُمْ يَعْرِفُونَ.(2)

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم.(3)

ص: 259


1- الكافي للكليني ج1 ص 162 بَابُ الْبَيَانِ والتَّعْرِيفِ ولُزُومِ الْحُجَّةِ ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص 162 بَابُ الْبَيَانِ والتَّعْرِيفِ ولُزُومِ الْحُجَّةِ ح3.
3- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 413 ح9.
الإشارة الثالثة: حالتان لعدم البيان

قلنا: إن عدم البيان يُسقط التكليف، وبالتالي يُسقط العقوبة، ولكن ينبغي الالتفات إلى أن لعدم البيان حالتين:

حالة الغفلة التامة عن التكليف وعدم العلم به، فهذه ما اتفق الجميع على قبح العقاب معها.

وحالة الشك في التكليف شكاً بسيطاً، وهذه محل الخلاف، فالمشهور قال بأن الشك عدمُ بيان، فلا يحسن العقاب عليه، وأما السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) فقال بكفاية الشكّ لتنجز الحكم الشرعي(1)،

فيحسن العقاب لو أراد المولى ذلك. أي إنه يكفي الشك بالتكليف ليلزم على العبد أن يبحث عنه ويتحقق منه، فلو خالف من دون بحث رغم أنه يشك بوجود التكليف، وصادف أنه خالف التكليف الواقعي، فهنا يصح للمولى أن يعاقبه ولا يقبح منه ذلك، اللهم إلا أن يعفو المولى، أو يأذن بالمخالفة في حالة الشك، فإن هذا من حقه.

الإشارة الرابعة: اختبار غير المكلفين يوم القيامة

ذكرت بعض الروايات الشريفة أن الأطفال والمجانين ومن لم يصل إليهم البيان سوف يختبرهم الله تعالى في يوم القيامة، وعلى أساس ذلك الاختبار يُحدد مصيرهم. فلا يكون هؤلاء خارجين عن عموم تكليف العباد

ص: 260


1- هذا هو المعروف عنه، وقد ذكره في كتبه الأصولية، يُنظر: دروس في علم الأصول للسيد محمد باقر الصدر (رحمه الله) ج1 ص 166 - 168 وبحوث في علم الأصول- تقرير السيد محمود الشاهرودي ج5 ص 158 و ص 169

واختبارهم، كل ما في الأمر أن تكليفهم سيكون في يوم القيامة.

عن زرارة بن أعين، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) صلى على ابن لجعفر (عليه السلام) صغير فكبر عليه، ثم قال: يا زرارة، إن هذا وشبهه لا يصلى عليه، ولولا أن يقول الناس: إن بني هاشم لا يصلون على الصغار ما صليت عليه، قال زرارة: فقلت: فهل سئل عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: نعم قد سئل عنهم فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم قال: يا زرارة، أتدري ما قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين؟ قال: فقلت: لا والله، فقال: لله عز وجل فيهم المشية، أنه إذا كان يوم القيامة احتج الله تبارك وتعالى على سبعة: على الطفل، وعلى الذي مات بين النبي والنبي(1)،

وعلى الشيخ الكبير الذي يدرك النبي وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا يعقل، والأصم، والأبكم، فكل هؤلاء يحتج الله عز وجل عليهم يوم القيامة، فيبعث الله إليهم رسولا ويخرج إليهم نارا فيقول لهم: إن ربكم يأمركم أن تثبوا في هذه النار، فمن وثب فيها كانت عليه براد وسلاما، ومن عصاه سيق إلى النار.(2)

الإشارة الخامسة: دخول أطفال المؤمنين الجنة بغير حساب

هناك استثناء من الإشارة الرابعة خاص بأطفال المؤمنين، إذ تذكر الروايات أنهم يدخلون الجنة بغير حساب، فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن الله تبارك وتعالى كفّل إبراهيم (عليه السلام) وسارة أطفال المؤمنين، يغذونهم من شجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر، في قصور من در فإذا كان يوم القيامة أُلبسوا

ص: 261


1- أي في زمن (الفترة) بتعبير القرآن الكريم.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 393.

وطُيّبوا وأُهدوا إلى آبائهم، فهم مع آبائهم ملوك في الجنة.(1)

والخلف - بالكسر -: الضرع لكل ذات خُف وظلف، وقيل: هو مقبض يد الحالب من الضرع.

والظاهر أن المقصود هو أن النبي إبراهيم (عليه السلام) وزوجته يراعون أولاد المؤمنين في البرزخ، بقرينة (فإذا كان يوم القيامة أُلبسوا). والله العالم.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام): إذا مات طفل من أطفال المؤمنين، نادى مناد في ملكوت السماوات والأرض: ألا إن فلان بن فلان قد مات، فإنْ كان قد مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين دُفع إليه يغذوه، وإلا دُفع إلى فاطمة (صلوات الله عليها) تغذوه حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين فتدفعه إليه.(2)

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله):... أما علمتم أني أباهي بكم الأمم يوم القيامة، حتى بالسقط يظل محبنطئًا على باب الجنة فيقول الله عز وجل له: أدخل الجنة، فيقول: لا، حتى يدخل أبواي قبلي، فيقول الله عز وجل لملك من الملائكة: ايتني بأبويه، فيأمر بهما إلى الجنة، فيقول: هذا بفضل رحمتي لك.(3)

وفي هذا النص دلالة على دخول الطفل الجنة بلا حساب، ودخول أبويه الجنة كرامة له.

ص: 262


1- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 393 – 394.
2- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 394.
3- التوحيد - الشيخ الصدوق - ص 395.

البداء

اشارة

إن لموضوع البداء ارتباطاً بمبحث العلم الإلهي، وارتباطاً بمبحث القضاء والقدر الإلهيين، حيث إنه من القضاء الموقوف لا المحتوم.

وعندما نطالع النصوص الروائية نجد أن هناك تأكيدًا شديدًا على مسألة البداء، وأنها تحظى بأهمية كبرى، فمثلًا روي عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) قَالَ: مَا عُبِدَ الله بِشَيْءٍ مِثْلِ الْبَدَاءِ.

وفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): مَا عُظِّمَ الله بِمِثْلِ الْبَدَاءِ.(1)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ فِي هَذِه الآيَةِ: (يَمْحُوا الله ما يَشاءُ ويُثْبِتُ): وهَلْ يُمْحَى إِلَّا مَا كَانَ ثَابِتاً وهَلْ يُثْبَتُ إِلَّا مَا لَمْ يَكُنْ.(2)

وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَا بَعَثَ الله نَبِيّاً حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْه ثَلَاثَ خِصَالٍ الإِقْرَارَ لَه بِالْعُبُودِيَّةِ وخَلْعَ الأَنْدَادِ وأَنَّ الله يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ ويُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ.(3)

وعَنْ مُرَازِمِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: مَا تَنَبَّأَ نَبِيٌّ قَطُّ

ص: 263


1- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح1.
2- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح2.
3- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح3.

حَتَّى يُقِرَّ لله بِخَمْسِ خِصَالٍ بِالْبَدَاءِ والْمَشِيئَةِ والسُّجُودِ والْعُبُودِيَّةِ والطَّاعَةِ.(1)

وعَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: سَمِعْتُ الرِّضَا (عليه السلام) يَقُولُ: مَا بَعَثَ الله نَبِيّاً قَطُّ إِلَّا بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وأَنْ يُقِرَّ لله بِالْبَدَاءِ.(2)

وهذه العقيدة على أهميتها عندنا، فإنها تعتبر واحدة من العناوين التي تم توظيفها توظيفًا سيئًا ضد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم من قِبل الآخرين، ونحن سنبدأ بالأصول الموضوعية التي تتبين معها عقيدتنا في البداء بالتفصيل إن شاء الله تعالى. ونذكر الثوابت التالية:

الثابت الأول: العلم الإلهي المطلق والشامل

لا مجال ولا فرصة لتوهم الجهل على الله تعالى، فعلمه تعالى عقلًا ونقلًا ثابت وشامل، ومعه، فأي مفهوم يُراد إثباته لله تعالى، فيجب أن لا يمس هذا الثابت –ولو من بعيد-، لأنه تعالى واجب الوجود من كل جهة، وهو الكامل من كل جهة، فلا جهل فيه من كل جهة، وإلا لصار ممكنًا، فالله تعالى يعلم السر وأخفى، ويعلم بالشيء قبل وجوده وبعد وجوده، وما يعزب عن علمه أي شيء، وقد بيّنا هذا الثابت في صفة العلم.

ومعه، فلا مجال للجهل عليه تعالى، وبالتالي لا مجال لافتراض استكماله بالتعلم بعد جهل- كما هو الحاصل فينا نحن الممكنات-.

ص: 264


1- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح13.
2- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح15.
الثابت الثاني: لا تغير في ذاته ولا في صفاته

حيث إنه تعالى لا متناهي في كل كمالاته، إذن لا يمكن افتراض التغير فيه، والمقصود من التغير هنا هو الفلسفي، أي الخروج من القوة إلى الفعل، أو قل: الاستكمال، أو قل: التحول من حالة النقص إلى حالة الكمال، فضلًا عن خروج من الفعل إلى القوة، أي التسافل من حالة الكمال إلى حالة النقص.

فهذه المفاهيم تتجلى في عالمنا نحن الذين نعيش في عالم المادة، فنحن من نتكامل –أي نسد النقص المستشري في وجودنا من خلال اكتساب الكمالات- كما أننا نحن من يمكن أن نتسافل –بأن نفقد بعض الكمالات التي حصلنا عليها أو لا نتكامل أصلًا، ومن لا يتكامل فهو في نقصان في الحقيقة-.

ومعه، فأي عقيدة، أو دعاء، أو رواية، يظهر منها خلاف هذا الثابت بالنسبة لله تعالى، فلا بد من رفضها، أو على الأقل تأويلها بما لا يخالف هذا الثابت.

علمًا أن المقصود هنا هو عدم التغير في ذاته جل وعلا، أما فعله (جل وعلا) فحيث ثبت سابقًا أن فعله جل وعلا هو حادث، لأنه متعلق بالحادث الممكن، إذن يمكن أن يكون الفعل متغيرًا، وهذا هو ما تشير إليه الآية الكريمة: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(1)

أما ذاته المقدسة وصفاته الذاتية فلا تغير فيها، بل هي في غاية الكمال اللا

ص: 265


1- الرحمن 29.

متناهي.

الثابت الثالث: بطلان نظرية (موت الإله) المعتزلية

تقدم أن المعتزلة انتهوا إلى نظرية التفويض، والتي تعني عدم تدخل أو عدم استطاعة التدخل من الله تعالى في هذا الكون، وهي نظرية (رُفع القلم وجفّت الصحف)، أو نظرية (موت الإله) بصورة مغلّفة أو (موت القدرة الإلهية)، فالله تعالى أوجد العالم وأوجد فيه عناصر الديمومة، وتركه، بل لا يستطيع التدخل في مجريات الكون، وهذا يعني أن الله تعالى (تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا) مجبر في هذا العالم، فالعالم يجري حسب نظامه وهو لا يستطيع التدخل.

وقد تقدم بطلان هذه النظرية، وأن الصحيح هو: أن الله تعالى كان ولا يزال قادرًا على تغيير مجريات الكون وتغيير أنظمته، وما زالت يده مبسوطة وقدرته شاملة، فهذا ثابت عندنا ولا يمكن التنازل عنه.

فرغم أن هذا العالم هو النسخة الأفضل، ولكن مع ذلك فإن القدرة الإلهية ما زالت منبسطة عليه، ويمكنه تعالى أن يغير فيه ما يشاء وفي أي وقت شاء، فيستطيع الله تعالى أن يجعل عللًا جديدة لنفس الأشياء الموجودة أو لأشياء جديدة، ويستطيع أن يضع موانع جديدة، وما أمره فيه إلا أن يقول: كن. فيكون.

ص: 266

الثابت الرابع: العلاقة بين العلة والمعلول هي علاقة جعلية

إن عالمنا هو عالم الأسباب والمسببات، ومعنى ذلك: أن المعلول والنتيجة لا يمكن أن يصدر من دون علة وسبب، فلا وجود لمعلول من دون علة.

الملحوظة المهمة هنا: أن العلاقة بين العلة والمعلول هي علاقة جعلية لا ذاتية، بمعنى أن كون الماء يروي الظمأ، هذا ليس من ذاتي الماء، وإنما هي علاقة جعلها الله تعالى بين الماء والارتواء، وهكذا فإن كون النار محرقة هو بقانون جعله الله تعالى، لا من ذات النار. وهذا على خلاف علاقة الذاتي بالذات، إذ لا يمكن سلب الذاتي عن الذات، وإلا لانتفت الذات، فالإنسان ذاتيُّه أنه حيوان ناطق، وسلب الحيوان الناطق عنه يعني انتفاء الإنسانية.

وهذا يعني: أنه يمكن للجاعل والخالق والواضع للقانون أن يغير من وضعه وقانونه، فالنار محرقة، لأن الله تعالى جعلها محرقة، فيمكن لله تعالى أن لا يجعلها محرقة، كما كان في نار النبي إبراهيم (عليه السلام) حيث كانت بردًا وسلامًا عليه. وهكذا الماء يروي لأن الله تعالى جعله يروي، فإذا أراد الله تعالى له أن لا يروي فإنه لا يروي أبدًا، كما ورد في بعض الروايات أن الحسين (عليه السلام) جعل يطلب الماء وشمر - لعنه الله - يقول له: والله لا تَرِدُه أو تردَ النار. فقال له رجل: أَلا ترى إلى الفرات يا حسين، كأنه بطون الحياة، والله لا تذوقه أو تموت عطشًا. فقال الحسين (عليه السلام): اللهم أمتْه عطشا. قال: والله لقد كان هذا الرجل يقول: أسقوني ماءً، فيؤتى بماء فيشرب حتى يخرج من فيه وهو يقول:

ص: 267

أسقوني قتلني العطش، فلم يزل حتى مات - لعنه الله -.(1)

والخلاصة: ما دام حدوث العلاقة بين العلة والمعلول هو بيد الله تعالى، فتغيير هذه العلاقة ما زال تحت قدرة الله تعالى.

الثابت الخامس: محدودية الإنسان تمنع من إحاطته بالله تعالى

إننا محدودون، ومن جميع جهاتنا، فنحن محدودون من حيث الزمن، ومحدودون من حيث المكان، ومن حيث الإمكانات والاستعدادات، وما نحن إلا وجود رابط يفتقر في كل وجوده وصفاته وأفعاله إلى الله تعالى. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن الله تعالى لا محدود ولا متناهي من كل جهة.

إذن ينتج: أنه لا يمكننا أبدًا، وفي أي حال من الأحوال أن نحيط بالله تعالى، ولا أن نحيط بصفة من صفاته، لأن المحدود لا يمكنه أن يحيط علمًا باللا محدود، ولو أردنا أن نشبه علاقتنا بالله تعالى بتشبيه مادي، فانظر مثلًا إلى الدوائر المتداخلة، تجد أن الدائرة الكبيرة تحيط بكل الدوائر التي في داخلها، ولكن الدائرة الصغيرة لا يمكنها أن تحيط بالدائرة الكبيرة. (وهذا مثال للتقريب لا أكثر، وإلا فإن الله تعالى أوسع وأعظم من هذا المثال بلا أدنى شك).

ص: 268


1- مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأضفهاني ص78.
الثابت السادس: لا ضرورة لكشف العالِم كلَّ علومه

لا توجد هناك ضرورة عقلية ولا نقلية توجب أن يُعطي العالِم كل علمه للتلميذ، بل يمكن أن يعلمه شيئًا ما، ويترك تعليمه أمورًا أخرى، إما يجعلها مخفية عليه على الدوام، أو يعلمه إياها بالتدريج، وهذا أمر حاصل في عالمنا بكل وضوح، خصوصًا إذا كان العالم حكيمًا، فكيف بالله تعالى، فإذن، لا توجد ضرورة تستلزم أن يعلمنا الله تعالى كل ما يعلم، بل –وكما تقدم- لا يمكننا أن نعلم بكل علم الله تعالى.

ومما يدل على هذا الثابت هو: لوح المحو والإثبات كما تقدم في الرواية، فإنه يعني أن ما بين أيدينا ليس العلم كله، بل هناك شيء لا نعلمه.

وبعبارة أخرى: أن خارطة العالم التفصيلية ليست بأيدينا، فنحن نعلم بعض الخارطة حسب ما أتيح لنا، ويبقى الباقي نعلمه بالتدريج كلما أتيح لنا ذلك وفق الحكمة الإلهية، ويبقى منها ما لا نعلمه أبدًا.

ومما يُشير إلى هذه الحقيقة هو ما روي عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: فَعِلْمٌ عِنْدَ الله مَخْزُونٌ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْه أَحَداً مِنْ خَلْقِه، وعِلْمٌ عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه، فَمَا عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه فَإِنَّه سَيَكُونُ لَا يُكَذِّبُ نَفْسَه ولَا مَلَائِكَتَه ولَا رُسُلَه، وعِلْمٌ عِنْدَه مَخْزُونٌ يُقَدِّمُ مِنْه مَا يَشَاءُ ويُؤَخِّرُ مِنْه مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ مَا يَشَاءُ.(1)

ص: 269


1- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح6.

النتيجة:

ومن كل ما تقدم وفق هذه الثوابت يمكن أن نقول التالي:

1/حيث إنه تعالى لا متناهي في ذاته وفي كل صفاته، وبالتالي لا يمكن لنا نحن الممكنات أن نحيط به علمًا، إذن، من الممكن جدًا أن يكون لله تعالى علم لم نطّلع عليه نحن، ولا يُعقل أننا نطلع على كل علم الله تعالى، لأننا كما قلنا: متناهون، وهو تعالى غير متناهٍ في كل صفاته، ومنها علمه جل وعلا.

2/ وهذا المعنى هو ما نسميه بالبداء، بمعنى أن الله تعالى لم يُطلعنا على العلم كله، بإرادته وعلمه المسبق، ثم إذا أراد أن يُطْلعنا على شيء من علمه، فَعَل ذلك وبالتدريج، لا أنه يخبرنا عن جهل، وحاشاه، وهو ما نسميه بالبداء، أو بعبارة أدق: بالإبداء، أي الإظهار بعد الإخفاء لا الظهور بعد الخفاء كما هو حاصل عندنا نحن بني البشر.

ومن هنا روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(1).(2)

وفي نفس السياق روي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ لله عِلْمَيْنِ: عِلْمٌ مَكْنُونٌ مَخْزُونٌ لَا يَعْلَمُه إِلَّا هُوَ، مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ الْبَدَاءُ، وعِلْمٌ

ص: 270


1- الرعد 39.
2- التوحيد للشيخ الصدوق ص 305.

عَلَّمَه مَلَائِكَتَه ورُسُلَه وأَنْبِيَاءَه، فَنَحْنُ نَعْلَمُه.(1)

3/ وهذا المعنى من البداء ليس فيه أي نسبة للجهل إلى الله جل وعلا، بل على العكس، هو تقرير لعلم الله تعالى اللا متناهي، وتقرير في نفس الوقت لجهلنا نحن بني البشر، حيث لا نعلم باللوحة إلى آخرها، بل نعلم شيئًا في حدود ما أطْلعنا الله تعالى عليه.

وهذا هو ما قرّرته لنا الروايات الشريفة، فقد روي مثلًا عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَا بَدَا لِله فِي شَيْءٍ إِلَّا كَانَ فِي عِلْمِه قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ لَه.(2)

وعنه (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله لَمْ يَبْدُ لَه مِنْ جَهْلٍ.(3)

وعَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام): هَلْ يَكُونُ الْيَوْمَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ الله بِالأَمْسِ؟ قَالَ: لَا، مَنْ قَالَ هَذَا فَأَخْزَاه اللَّه. قُلْتُ: أرَأَيْتَ مَا كَانَ ومَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ألَيْسَ فِي عِلْمِ الله؟ َقالَ: بَلَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ.(4)

إشارة: في أسباب حسن البداء وسوئه
اشارة

إن البداء يعني فيما يعنيه: أن يكون هناك شيء ما، ثم يظهر غيره لنا، ففي

ص: 271


1- الكافي للكليني ج1 ص147 بَابُ الْبَدَاءِ ح8.
2- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح9.
3- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح10.
4- الكافي للكليني ج1 ص148 بَابُ الْبَدَاءِ ح11.

علم الله تعالى أنه سيتغير وفق شروط خاصة.

بعبارة أخرى: حيث إن عالمنا هو عالم الأسباب والمسببات، فيمكن لشخص ما أن يفعل سببًا معينًا يؤدي إلى تغيير قدره، وهذا التغيير قد يكون للأفضل وقد يكون للأسوأ، ولكل أسبابه –حسب النظام العام لهذا الكون-

هذا وقد تقدم أن التقدير والقضاء الإلهي منه محتوم لا يتغير، ومنه موقوف يمكن أن يتغير إذا تغيرت الأسباب.

وهذا المعنى يفتح نافذة تربوية مزدوجة للإنسان، ففي الوقت الذي يبشر الإنسان بأنه قادر على تغيير قدره نحو الأفضل، وأن عليه أن لا ييأس مهما حصل من تراجع، وما عليه إلا أن يتسلق نحو أسباب تغيير التقدير إلى الأفضل، هو أيضًا ينذره بأن طريق التراجع ما زال مفتوحًا، وأن هناك أسبابًا لو تمسك بها فإنه سيسقط ويتسافل، فعليه أن يبتعد عنها.

ولتوضيح الفكرة أكثر نذكر التالي:

أولًا: هناك أسباب تؤدي إلى تغيير التقدير إلى ما هو الأفضل
اشارة

وهذه أسباب موضوعية، من أي شخص وقعت فإنها تنتج النتيجة المذكورة، وهذا ما سنراه في بعض الروايات التالية، ومن تلك الأسباب التالي:

1/ طاعة الله تعالى

قال تعالى: (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ

ص: 272

وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(1)

2/الاستغفار

قال تعالى (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)(2)

3/الدعاء

فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): الدعاء يرد القضاء المبرم، فاتخذوه عُدّة.(3)

وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: الدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ بَعْدَ مَا أُبْرِمَ إِبْرَاماً، فَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّه مِفْتَاحُ كُلِّ رَحْمَةٍ، ونَجَاحُ كُلِّ حَاجَةٍ، ولَا يُنَالُ مَا عِنْدَ الله عَزَّ وجَلَّ إِلَّا بِالدُّعَاءِ، وإِنَّه لَيْسَ بَابٌ يُكْثَرُ قَرْعُه إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبِه.(4)

4/صلة الرحم

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن المرء ليصل رحمه، وما بقي من عمره الا ثلاث سنين، فيمدها الله إلى ثلاث وثلاثين سنة، وإن المرء ليقطع رحمه، وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون سنة، فيقصّرها الله إلى ثلاث سنين أو أدنى.(5)

ص: 273


1- نوح 3 – 4
2- هود 3
3- الخصال للشيخ الصدوق ص 630 حديث أربع مائة.
4- الكافي للكليني ج2 ص 470 بَابُ أَنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْبَلَاءَ والْقَضَاءَ ح 7.
5- تفسير العياشي ج2 ص220 ح75.
5/الصدقة

فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ! فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): عَلَيْكَ. فَقَالَ أَصْحَابُه: إِنَّمَا سَلَّمَ عَلَيْكَ بِالْمَوْتِ، قَالَ: الْمَوْتُ عَلَيْكَ! قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): وكَذَلِكَ رَدَدْتُ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): إِنَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ يَعَضُّه أَسْوَدُ فِي قَفَاه فَيَقْتُلُه.

قَالَ: فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ فَاحْتَطَبَ حَطَباً كَثِيراً فَاحْتَمَلَه، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنِ انْصَرَفَ. فَقَالَ لَه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): ضَعْه. فَوَضَعَ الْحَطَب، فَإِذَا أَسْوَدُ فِي جَوْفِ الْحَطَبِ عَاضٌّ عَلَى عُودٍ! فَقَالَ: يَا يَهُودِيُّ، مَا عَمِلْتَ الْيَوْمَ؟ قَالَ:مَا عَمِلْتُ عَمَلاً إِلَّا حَطَبِي هَذَا احْتَمَلْتُه فَجِئْتُ بِه، وكَانَ مَعِي كَعْكَتَانِ [أي خبزتان] فَأَكَلْتُ وَاحِدَةً وتَصَدَّقْتُ بِوَاحِدَةٍ عَلَى مِسْكِينٍ. فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): بِهَا دَفَعَ الله عَنْه. وقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ عَنِ الإِنْسَانِ.(1)

6/ زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)

فقد روي عن منصور بن حازم قال: سمعته يقول: من أتى عليه حولٌ لم يأت قبر الحسين (عليه السلام) نقَص الله من عمره حولًا، ولو قلت: إن أحدكم يموت قبل أجله بثلاثين سنة لكنت صادقًا، وذلك أنكم تتركون زيارته، فلا تدعوها يَمدُّ الله في أعماركم، ويزيد في أرزاقكم، وإذا تركتم زيارته نقص الله من أعماركم وأرزاقكم، فتنافسوا في زيارته، ولا تدعوا ذلك، فان الحسين بن علي (عليه السلام) شاهد لكم عند الله تعالى وعند رسوله وعند علي وعند فاطمة صلى

ص: 274


1- الكافي للكليني ج4 ص 5 بَابُ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ الْبَلَاءَ ح3.

الله عليه وآله [وعليهم].(1)

ثانيًا: هناك أسباب تؤدي إلى تغيير التقدير إلى ما هو الأسوأ

وهي أيضًا أسباب موضوعية، من أيٍّ وقعت أنتجت نتيجتها، ولو كان مؤمنًا، والعنوان العام لهذه الأسباب هي الذنوب، فالذنوب لها آثار وضعية كثيرة، ومنها أنها من مقصرات العمر وقاصمات الأجل ومغيرات القدر إلى الأسوأ، وفي ذلك روايات عديدة، منها ما روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): خَمْسٌ إِنْ أَدْرَكْتُمُوهُنَّ فَتَعَوَّذُوا باللهِ مِنْهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوهَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ والأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، ولَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ والْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وجَوْرِ السُّلْطَانِ، ولَمْ يَمْنَعُوا الزَّكَاةَ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، ولَوْ لَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، ولَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ الله وعَهْدَ رَسُولِه إِلَّا سَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ وأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، ولَمْ يَحْكُمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الله عَزَّ وجَلَّ إِلَّا جَعَلَ الله عَزَّ وجَلَّ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.(2)

وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: وَجَدْنَا فِي كِتَابِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله): إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا مِنْ بَعْدِي كَثُرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، وإِذَا طُفِّفَ الْمِكْيَالُ والْمِيزَانُ أَخَذَهُمُ الله بِالسِّنِينَ والنَّقْصِ، وإِذَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ مَنَعَتِ الأَرْضُ بَرَكَتَهَا مِنَ الزَّرْعِ والثِّمَارِ والْمَعَادِنِ كُلَّهَا، وإِذَا جَارُوا فِي الأَحْكَامِ تَعَاوَنُوا عَلَى الظُّلْمِ والْعُدْوَانِ، وإِذَا نَقَضُوا

ص: 275


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج6 ص 43 / 16 - باب فضل زيارته (عليه السلام) ح(91) 6.
2- الكافي للكليني ج2 ص 373 – 374 بَابٌ فِي عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي الْعَاجِلَةِ ح1.

الْعَهْدَ، سَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وإِذَا قَطَّعُوا الأَرْحَامَ جُعِلَتِ الأَمْوَالُ فِي أَيْدِي الأَشْرَارِ، وإِذَا لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ ولَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ولَمْ يَتَّبِعُوا الأَخْيَارَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي سَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ، فَيَدْعُوا خِيَارُهُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ.(1)

ص: 276


1- الكافي للكليني ج2 ص 374 بَابٌ فِي عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي الْعَاجِلَةِ ح2.

الأصل الثالث: النبوة

اشارة

إن الكلام في مبحث النبوة طويل الذيل، ولكن سنحاول الاقتصار على بعض مسائله المهمة، ونترك الباقي لمراجعة ومطالعة القارئ اللبيب في المطولات التي تعرضت لها.

وفي هذا الأصل مبحثان رئيسان:

المبحث الأول: النبوة العامة.

المبحث الثاني: النبوة الخاصة.

ص: 277

ص: 278

المبحث الأول: النبوة العامة

اشارة

ويُقصد منه البحث عن النبوة بمعناها العام الشامل لجميع الأنبياء، لا خصوص نبي معين.

وهنا مسائل أربعة:

المسألة الأولى: في أن بعثة الأنبياء أمر حسن.

المسألة الثانية: وجوب البعثة.

المسألة الثالثة: خلفيات البعثة في القرآن والسنة.

المسألة الرابعة: مؤهلات النبي.

ص: 279

ص: 280

المسألة الأولى: في أن بعثة الأنبياء أمر حسن

اشارة

نحن نعلم أن الله تعالى حيث إنه عادل حكيم، إذن هو لا يفعل إلا الفعل الحسن، وأفعاله معلّلة بالغايات كما تقدم، وبالتالي قد يُقال: هل هناك فائدة في بعثة الأنبياء حتى يبعثهم الله تعالى؟

والجواب
اشارة

إنه نعم، فإن البعثة حسنة لأنها اشتملت على فوائد وخلت عن مفاسد، وهذا يعني أن حسنها مطلق، أي إنها لا تتلبس إلا بعنوان الحسن، لخلوها من أية مفسدة، ليس هذا فقط، وإنما تتصف البعثة بأكثر من جهة حسن محضة، فيكون حسنها متراكماً وعميقاً في نفس الوقت، وقد ذكر العلماء عدة فوائد للبعثة تجعل منها فعلًا في غاية الحسن -من قبيل: أن في بعثة النبي زجراً عن القبائح وحثاً على الطاعات، وتنبيهاً للغافل وإزالة الاختلاف ودفع الهرج والمرج – ونذكر هنا تفصيلًا فائدة واحدة ذات شقين تكفي لإثبات حسنها:

الشق الأول

هناك أحكام دلّ عليها العقل يقيناً، كحسن العدل وقبح الظلم، وحينها

ص: 281

يكون النقل (أي البعثة) عاضدًا ومؤيدًا لتلك الأدلة(1)، الأمر الذي يُضفي على تلك الأدلة العقلية مسحة من التعبد والقربة إلى الله تعالى، ففرق بين إنسان يعدل لأن العدل حسن عقلًا فقط، وبين إنسان يعدل لأن العقل يقول بحسنه، ولأن الله تعالى أمره بالعدل، فهو يمتثل أمر الله تعالى أيضًا، فتتحقّق منه نية القربة، ويستحق بذلك ثوابًا من الله تعالى.

الشق الثاني

وهناك أحكام لا كلمة للعقل فيها، لكونها من نوع الاعتبارات التي لا يستطيع العقل أن يحكم فيها، فتكون مهمة البعثة هنا تأسيس تلك الأحكام وهداية الناس إليها، وهي التي نسميها بالأحكام التعبدية، كتشريع الصلاة والصوم والحج...

ص: 282


1- علمًا أن تعاضد الأدلة وتكثيرها ينفع في: 1 – زيادة اليقين، أي زيادة اليقين والوصول به إلى حالة الاطمئنان القلبي أكثر أو قل: ينفع في زيادة الإيمان وعمقه، حيث يتأثر طرداً بالمعرفة، فكلما زادت المعرفة عن طريق تكثّر الأدلة، كلما تعمّق الإيمان في القلب أكثر. 2 – التوفر على أدلة تنسجم مع كل المباني، وهو الذي يقتضيه فن البحث العلمي، فالذي يريد دليلًا عقليًا فهو موجود، والذي يريد دليلًا نقليًا فهو موجود أيضًا، وهكذا. 3 – خصوصية اللغة الدينية أنها ليست نظرية بحتة، بل ذات بعد تربوي أيضاً، فالعقل يعطي أحكامًا بِلُغةٍ جافّة، أما الشرع فإنه يُضفي على الدليل مسحة من الروحانية والبعد التربوي الذي يناغم الروح وينسجم معها. 4– تنوّع الأدلة وتكثّرها – خصوصاً النقلية – يلفت إلى موقع المعلومة ودرجتها وأهميتها بالقياس إلى المعلومات المشتركة معها في منظومة واحدة، فكلما تكثرت الأدلة وتنوعت عن مسألة واحدة، كلما كشف هذا التنوع عن كون تلك المسألة مهمة جدًا، ولأجل أهميتها فقد تنوعت الأدلة عليها.
تنبيه: أن البعثة والنبوة لا تصادر الاختيار

تقدمت عندنا عدة أصول(1)، ومنها هذان الأصلان:

1/ أن الله تعالى لا يفعل إلا لغرض، ولكن الغرض لا يرجع إليه، إذ هو الغني المطلق، وإنما يرجع فعله جل وعلا ومصلحتُه إلى الإنسان، بما في ذلك إعمال مولويته وحاكميته وولايته عندما يُشرّع أحكامًا ما.

وهذا ما أشار له أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: فَإِنَّ الله سُبْحَانَه وتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، ولَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه.(2)

2/ أن الإنسان يوجد أول ما يوجد في هذا العالم وهو كتلة من الاستعدادات، أي إنه محاط بالنقص والفقدان من جميع جهاته، إلا الشيء القليل، ثم يأخذ بالتكامل والخروج من القوة إلى الفعل تدريجياً، ويتم ذلك من خلال الاختيار، أي إنه يُفعّل اختياره فيتكامل، فتكامله باختياره لا أنه مجبر عليه ولا أنه يأتيه بالمجّان من دون أن يبذل هو جهدًا عليه. قال تعالى (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(3)

وضم هذين الأصلين يفرز: أن الإنسان هو الذي يحدّد مصيره وقَدَره

ص: 283


1- في مباحث العدل الإلهي.
2- نهج البلاغة ج2 ص 160.
3- النحل 78

باختياره في هذا العالم وعالم الآخرة، ومعه، فإثبات ضرورة النبوة وحسنها لا يصادر اختيار الإنسان، فهي لا تعدو كونها مرشداً للإنسان، وأنها تقع في طريق مساعدة اختياره، فالبعثة والنبي أشبه بالبوصلة التي تدلنا على الطريق، ولا تصادر الاختيار ولا تجبر الإنسان على المشي معها.

نعم، لا شك -كما أشرنا سابقًا- إلى أنه لا يوجد اختيار مطلق للإنسان، وإنما كل فعل من أفعاله يعتمد على الكثير من المقدمات والمبادئ الخارجة عن اختياره، ومن هنا تأسس بحث اللطف المحصل الذي لولاه لما وصل العبد إلى كماله، والنبوة تقع في سياق العوامل المساعدة لاختيار الإنسان، فهي من اللطف المحصّل الذي لولاه لما وصل العبد إلى ما يُرضي عنه ربه، وبالتالي يحصل على الفوز عنده جل وعلا، وسيتبلور هذا المعنى أكثر –إن شاء الله تعالى- في المسألة الثانية المتعلّقة بإثبات كون البعثة أمرًا ضروريًا.

شبهة البراهمة

شبهة البراهمة(1):

أشكل البراهمة على أصل حسن البعثة بإشكال خلاصته: أن الرسول

ص: 284


1- قال الزبيدي في تاج العروس ج5 ص408 مادة (هربذ): الهَرَابِذَةُ: قَوَمَةُ بَيْتِ النَّارِ التي للهِنْدِ، وهُم البَرَاهِمة، فارِسيٌّ مُعَرَّب، وقيل: عُظَمَاءُ الهِنْدِ أَو عُلَمَاؤهُم، أَو خَدَمُ نارِ المَجُوسِ، وهم قَوَمَةُ بيت النَّارِ.) أ.ه. وهم قوم لا يجوزون على الله بعثة الرسل. وهم المنكرون للنبوات أصلا... ومن الناس من يظن أنهم سموا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم - عليه السلام - وذلك خطأ، فإن هؤلاء هم المخصوصون بنفي النبوات أصلا ورأسا، فكيف يقولون بإبراهيم - عليه السلام - ؟.وهؤلاء البراهمة إنما انتسبوا إلى رجل منهم يقال له براهم [ برهم ظ ] وقد مهد لهم نفي النبوات أصلا، وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوه... ثم إن البراهمة تفرقوا أصنافا... وراجع توضيح المراد للطهراني ص 638.

إما أن يأتي بما يوافق العقول، فلا حاجة له، وأما أن يأتي بما يخالف العقول، فتجب مخالفته.

والجواب عن كلا الشقين
أما عن الشق الأول

فيمكن أن يأتي الرسول بما يوافق العقول لكنه يكون مؤكداً لأحكام العقل، وقد تقدمت فوائد عديدة لتراكم الأدلة وتأكيدها قبل قليل، على أن العقل قد يُبتلى ببعض موانع المعرفة، فيخطئ الحكم، فيكون بحاجة إلى من يسدّده ويذكره بالصواب، وهو النبي، فالحاجة لا زالت قائمة للرسول والبعثة.

وأما عن الشق الثاني

فنسلم أنه لا يجوز أن يأتي الرسول بما يناقض العقول، ولكن ما يأتي به غير منحصر بما يوافق العقل وما يناقضه، بل يمكن القول بأن الرسول يأتي بأحكام لا يدركها العقل لوحده كما أنه لا يرفضها، لعدم قدرته على إدراكها لوحده، فيمكن أن يأتي الرسول بما خفي عن العقل – أي ما لا كلمة للعقل فيه - مما لا يناقضه، وهو ما يُسمى بالتعبديات كما تقدم.

ولكن هل من دليل أو مؤشر على قصور العقل؟

ص: 285

والجواب:

نعم، وعليه مؤشرات عديدة، ومنها: وجود الكثير من الحقائق التي لا يمكن أن يصل العقل البشري فيها إلى الحقيقة، كالمسائل الفقهية، فإنه لا يستطيع أن يعرف حقيقة الحال فيها لوحده.

ص: 286

المسألة الثانية: وجوب البعثة

اشارة

ثبت في المسألة الأولى أن البعثة أمر حسن، ولكن هل هي واجبة؟ يعني هل هناك ضرورة تستدعي أن يرسل الباري جل وعلا لنا رسولًا أو لا توجد هكذا ضرورة، بحيث إنه لو لم يرسل الله تعالى لنا رسولًا فإنه لن يحدث شيء سيء؟

الجواب:

لا شك أن هناك ضرورة تدعو إلى لزوم إرسال الأنبياء، وهنا نذكر عدة بيانات لهذا الأمر:

البيان الأول: إن التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية
اشارة

عنون البعض هذه الضرورة بقوله: (إن التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية)(1).

والمعنى: أن العقل يحكم بلزوم بعض التكاليف التي يصل إليها بنفسه، كضرورة وجود الخالق، ولزوم شكره، وما يأتي به الشرع هو عامل مساعد

ص: 287


1- انظر: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الآملي) للعلامة الحلي ص 470، نسبها إلى المعتزلة.

لهذه الضرورة وإرشادي لها.

أو قل: إن التكاليف الشرعية تمثل عوامل مساعدة لامتثال التكاليف العقلية، أي إنه لا يمكن امتثال التكاليف العقلية (كالتوحيد والإيمان وحسن العدل وقبح الظلم ومسائل الصفات الإلهية الكمالية...) إلا بمساعدة التكاليف الشرعية، فتجب التكاليف الشرعية، فتجب البعثة، لأن النبي هو المبيّن لتلك التكاليف الشرعية.

كما أن الشريعة ككل تمثل مجموعاً واحداً، فالأحكام التكليفية والوضعية، والتعبدية والتوصلية، والواجبات والمستحبات، والمحرمات والمكروهات، والعقائد والفروع، كلها مترابطة مع بعضها ترابطاً عضوياً، وهذا ما تشير إليه العديد من النصوص التي تبين الترابط بين القوانين التكوينية والتشريعية(1)، مثل ما ورد من أن صلة الرحم تطيل العمر وتزيد الرزق، وأن الزكاة تنمي المال، وفي المقابل شرب الخمر يمنع من قبول الصلاة أربعين يوماً، وأن من نظر إلى أبويه نظر ماقت لهما لم يقبل الله له صلاة، وأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسلط الأشرار على مقدرات الأمة....

وهذا يعني أن مجموع مقولات الدين توفر الحاضن الأمثل لالتزام العبد بما يريده الباري تعالى منه، وأن كل تشريع يمثل عاملاً مساعداً للتشريع الآخر، وهكذا كل التشريعات. هذا.

ص: 288


1- ليس الكلام في مقام التقنين، أو الصحة والفساد، ففي هذا المقام لا يوجد ترابط بين الواجبات والمحرمات، فقد يرابي المصلي، وقد يؤتمن الخائن، وقد يزني المؤمن، ولكن الكلام في مقام آخر، هو مستوى آثار الشريعة ككل.

وهناك تكاليف عقلية، لا يمكن للبشر أن يطيعوها بمفردهم، لوجود موانع عن الجري عليها، وهذا يعني الحاجة إلى تشريعات نقلية تساعد على طاعة تلك التكاليف العقلية، فتجب تلك التكاليف النقلية من باب اللطف، وهذا معنى أن التكاليف الشرعية السمعية/ النقلية ألطاف في التكاليف العقلية.

وهنا ملحوظتان:

الملحوظة الاولى: معنى الفترة

حيث ثبت وجوب البعثة بالبيان المتقدم، إذن، لا بد من وجود الحجة في كل وقت، دلّ عليه قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)(1)،

وقال تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(2).

نعم، قد يكون القائم على تلك الشريعة أو الوصي عليها ظاهراً معروفاً، وقد يكون مستوراً ومخفياً، ولكن الأرض لا تخلو من حجة أبداً. كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبَيِّنَاتُه.(3)

وهنا قد يتبادر إلىٰ الذهن التالي(4):

ص: 289


1- فاطر 24.
2- الرعد 7.
3- نهج البلاغة ج4 ص37.
4- انظر: الهدى والضلال في القرآن الكريم للشيخ حسين عبد الرضا الأسدي ص 94 – 97.

إنَّ القرآن الكريم وفي مقام حديثه عن إرسال النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يُصرِّح بأنَّ إرساله كان علىٰ فترة من الرسل، قال تعالىٰ: ]يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[(1).

ومعنىٰ (الفترة) هي ما بين الرسولين، فهذه الآية تقول: إنَّ الله تعالىٰ أرسل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في فترة كانت خالية من الرُّسُل، وهذا يتنافىٰ مع الآية المتقدِّمة الدالّة علىٰ أنَّ كلَّ أُمَّة كان فيها نذير.

والجواب:

أوَّلاً: الآية قالت: إنَّه (صلى الله عليه وآله) جاء علىٰ فترة من الرُّسُل لا الأنبياء، ومعلوم أنَّ الأنبياء أكثر بكثير من الرُّسُل، فلا ملازمة بين عدم وجود رسول وبين عدم وجود نبيٍّ، فقد يكون في زمن لا يوجد رسول ولكنَّه يوجد نبيٌّ. وهذا هو المروي، حيث ذكرت بعض الروايات وجود بعض الأنبياء بين النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبين النبيِّ عيسىٰ (عليه السلام)، كخالد بن سنان العبسي كما سيأتي بعد قليل.

ثانياً: فضلاً عن هذا فإنَّه بوجود الأوصياء في تلك الفترة فإنَّ الحجَّة قائمة علىٰ الناس، وإنَّما يرسل الله تعالىٰ الرُّسُل لإتمام الحجَّة عليهم، فإذا كانت الحجَّة تامَّة لم يكن عدم الإرسال منافياً لهداية الدعوة، إذ الهداية موجودة حسب الفرض.

ص: 290


1- المائدة: 19.

ثالثاً: أنَّ المقصود من الفترة هو خلوّها من حجَّة ظاهر، وأمَّا الحجَّة غير الظاهر فقد كان موجوداً في تلك الفترة.

وهذا المعنىٰ - أي عدم خلوِّ الأرض من حجَّة ولو غير ظاهر - هو ما صرَّح به أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «اللَّهُمَّ بَلَىٰ لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ للهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُه»(1).

وهذا ما ذهب إليه الشيخ الصدوق ; في إكماله، حيث قال ما نصُّه:

(وإنَّما معنىٰ الفترة أنَّه لم يكن بينهما رسول ولا نبيٌّ ولا وصيٌّ ظاهر مشهور كمن كان قبله، وعلىٰ ذلك دلَّ الكتاب المنزل أنَّ الله (عزوجل) بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) علىٰ حين فترة من الرُّسُل، لا من الأنبياء و الأوصياء، ولكن قد كان بينه وبين عيسىٰ (عليه السلام) أنبياء وأئمَّة مستورون خائفون، منهم خالد بن سنان العبسي، نبيٌّ لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر، لتواطئ الأخبار بذلك عن الخاصِّ والعامِّ، وشهرته عندهم، وأنَّ ابنته أدركت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودخلت عليه، فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): «هذه ابنة نبيٍّ ضيَّعه قومُه، خالد بن سنان العبسي»(2)، وكان

ص: 291


1- نهج البلاغة: 497/ ح 147.
2- في الكافي للكليني (ج 8/ ص 342 و343/ ح 540، حديث ابنة خالد بن سنان): عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالساً إذ جاءته امرأة، فرحَّب بها وأخذ بيدها وأقعدها، ثمّ قال: ابنة نبيٌّ ضيَّعه قومه، خالد بن سنان، دعاهم فأبوا أن يؤمنوا، وكانت نار يقال لها: نار الحدثان تأتيهم كلَّ سنة فتأكل بعضهم، وكانت تخرج في وقت معلوم، فقال لهم: إن رددتها عنكم تؤمنون؟ قالوا: نعم»، قال: «فجاءت فاستقبلها بثوبه فردَّها، ثمّ تبعها حتَّىٰ دخلت كهفها ودخل معها، وجلسوا علىٰ باب الكهف وهم يرون ألَّا يخرج أبداً، فخرج وهو يقول: هذا هذا وكلُّ هذا من ذا (أي هذا شأني وإعجازي)، زعمت بنو عبس أنّي لا أخرج وجبيني يندىٰ (أي يبتلُّ من العرق)، ثمّ قال: تؤمنون بي؟ قالوا: لا، قال: فإنّي ميِّت يوم كذا وكذا، فإذا أنا متُّ فادفنوني، فإنَّها ستجيء عانة (القطيع من حمر الوحش) من حمر يقدمها عَير أبتر (والعَير بالفتح: الحمار الوحشي، وقد يُطلَق علىٰ الأهلي أيضاً. والأبتر: المقطوع الذنب) حتَّىٰ يقف علىٰ قبري، فانبشوني وسَلوني عمَّا شئتم، فلمَّا مات دفنوه، وكان ذلك اليوم إذ جاءت العانة اجتمعوا وجاؤوا يريدون نبشه، فقالوا: ما آمنتم به في حياته، فكيف تؤمنون به بعد موته؟ ولئن نبشتموه ليكون سبَّة عليكم، فاتركوه، فتركوه».

بين مبعثه ومبعث نبيِّنا محمّد (صلى الله عليه وآله) خمسون سنة...»(1). (2).

الملحوظة الثانية: مهمة الأنبياء هي البلاغ

إن التعليمات التي وردت في الشريعة، والتي على أساسها حكمنا

بحسن الشريعة ولزومها، ليست هي إلا تعليمات نظرية لو التزم بها العباد لحصلوا على تلك الفوائد، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بأن مهمة الأنبياء هي البلاغ، قال تعالى {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}(3)

وفي مقام آخر عبّر عن تلك الحقيقة بقوله عز من قائل {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا}(4)

فعلى الدين التشريع، وأما العمل والتطبيق فهي مهمة الناس...

ص: 292


1- كمال الدين للصدوق: 659/ باب 58/ ذيل الحديث 2.
2- نكتة مهدوية: ذكرت بعض الروايات الشريفة أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يظهر بعد فترة من الأئمَّة، بمعنىٰ أنَّه يظهر بعد وجود فاصل زمني بينه وبينه آخر ظهور وحضور للمعصوم، فقد روي عن أبي حمزة، قال: دخلت علىٰ أبي عبد الله (عليه السلام)، فقلت له: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: «لا»، فقلت: فولدك؟ فقال: «لا»، فقلت: فولد ولدك هو؟ قال: «لا»، فقلت: فولد ولد ولدك؟ فقال: «لا»، قلت: من هو؟ قال: «الذي يملؤها عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، علىٰ فترة من الأئمَّة، كما أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بُعِثَ علىٰ فترة من الرُّسُل» الكافي للكليني 1: 341/ باب في الغيبة/ ح 21.
3- (99) من سورة المائدة.
4- (16) من سورة الجن.

نعم، استطاع الدين أن يوجد في تاريخه الطويل أفراداً مؤمنين به، بحيث تحول هذا الإيمان عندهم إلى سلوك عملي وفي أرفع مستوياته، وهذا معناه: أن الدين وإن كان في تعليماته يلقي النظريات لإلقاء الحجة، ولكنه يعمل أيضاً على تحويل تلك النظريات إلى سلوك عملي بها يقف التراجع البشري نحو الفوضى والهرج والمرج، وهم المعصومون (عليهم السلام) من الأنبياء والمرسلين والأئمة، وبفضل هؤلاء الثلة المعصومين، حمى الدينُ البشرية عن الوصول إلى قاع التراجع وما لا تحمد عقباه...

وبعبارة أوضح: إن الدين وحتى يخرج من إطار النظرية البحتة إلى التطبيق، اصطفى أشخاصاً يمثلون وبشكل عملي كل ما جاء به الدين، فهم عبارة أخرى عن دين يمشي في الأرض، حتى لا يُقال: إن الدين مجرد نظريات غير قابلة للتطبيق العملي.

البيان الثاني: ضرورة الوسيط في الحياة

هل الواسطة بشكل عام ضرورة في حياة الانسان أو لا؟ بمعنى: هل يمكن للإنسان أن يعيش بمفرده وبلا معونة أية واسطة أو لا يمكن له ذلك؟

الجواب:

الانسان يبدأ مع الواقع، وهذا يملي عليه أمرين:

الأمر الأول: (علمي) وهي عملية اكتشاف الواقع، والتطلع اليه، وكشف مستتراته، وإلا فكيف يتعامل مع المجهول!

ص: 293

الأمر الثاني: (عملي) القيام بدور التأثير والتأثر، فأنت إذا علمت بوجود الماء وبكونه يروي العطش، فإنك ستقصده لتتأثر به وتروي عطشك.

وهذان الأمران لا يمكن للإنسان أن يؤديهما لوحده وبمفرده، فعملية التفاعل مع الواقع تحتاج إلى أدوات: كالآلة، والمعلم، والقلم... وعدد لا يحصى من الوسائل. وبدون هذه الأدوات يبقى الانسان عاجزًا عن أداء هذه المهمة (الاكتشاف والتفاعل).

أما ما هو سبب هذا العجز عن التعامل المباشر وبدون واسطة مع الواقع؟ ما هو سبب الحاجة إلى الوسيط؟

يرجع سبب العجز الى خلفيات أربعة وهي التي تؤسس لفكرة الوسيط:

1/القصور الذاتي:

فإن الطفل مثلًا يضطر إلى المعونة، لأن ذاته قاصرة عن القيام بمسؤولية النمو، وكذلك البالغ، فإن ذاته ضعيفة أمام الوصول إلى القمر مثلًا، أو السحاب، أو أن يحمل أثقالًا معينة، فيحتاج إلى معونة ووساطة للوصول إلى تلك الأهداف، وهكذا الأعمى والأطرش وغيرها من الأمور الطارئة التي تجعله مضطرًا الى الواسطة –كالنظّارة والسماعة وما شابه-.

2/محدودية الزمان:

إذ إن حاجات الإنسان كثيرة جدًا، ولو أراد أن يقوم بكل حاجاته لوحده، فإنه حتى لو كان متمكنًا من ذلك، ولكن الزمن لا يعطيه المجال،

ص: 294

لأنه سيكبر، ويهرم، وستنقضي حياته وهو لم يكمل عشر معشار حاجاته، ذلك لأن زمن الإنسان محدود، ولم يُتح لنا إلى أن نكمل حاجاتنا وننهي مشوارنا حسب رغبتنا، فالموت يأتي فجأة كما هو معلوم. وبالتالي سوف يضيع وقته ولم يكمل تلبية جميع احتياجاته، فيكون متراجعًا ومتسافلًا، والخسارة نتيجته؛ لذا احتاج إلى الوسيط، فكل واحد يؤدي ما يكون خبيرًا به، ويعتمد على الآخر في الأمور الأخرى، وبذلك يكون كل واحد معينًا ووسيطًا للآخر، والجميع يتكامل، قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(1)

وكما قيل:

الناس للناس من بدو ومن حضر .... بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ

3/ أن كثيراً من العمليات التي يحتاجها الانسان لاكتشاف الواقع أو التفاعل معه لا تأتي من خلال تماسّ مباشر فقط، بل تحتاج إلى مهارات وخبرات، ولا يمكن أن يؤديها العمل البسيط، فتنبثق فكرة الحاجة إلى الوسيط الماهر الخبير، فأنت لا تستطيع اكتشاف مرض معين إلا بمراجعة خبير بالأمراض وتشخيصها، فهو صاحب الخبرة في هذا المجال، وهكذا لا يمكنك بناء بيتك إلا إذا كنت بنّاءً ماهرًا، أو عليك أن تراجع صاحب الخبرة في ذلك، وهكذا.

ص: 295


1- الزخرف 32.

ثم إن الانسان لم يتعامل مع الواقع بمنطق رفع الحاجة والعجز فقط، بل بدأ يتعاطى مع الوسيط ويتوسع بعلاقته معه بمنطق الرفاهية والسهولة، كمن يعتمد على خادمه في طبخ طعامه رغم قدرته عليه وعدم عجزه عن إنجاز ذلك، ويكشف هذا مدى تطور التعامل مع الوسيط بشكل كبير بحيث تجاوز منطق الضرورة ورفع العجز، إلى منطق الرفاهية والتعاجز والكسل.

4/التنظيم.

الخلفيات المتقدمة التي أسست ظاهرة الوسيط كلها تنطلق من الجانب الفردي (عجز ذاتي، ومحدودية الزمان، والمهارات) ولكن اليوم بسبب احتكاك الماديات وتزاحم الفرص، ومحدودية الزمان انبثق وسيط جديد مهمته (التنظيم).

وظهرت من خلال هذا الوسيط الجامعات والمعاهد وغيرها من موارد التنظيم التي تجعل التعامل مع هذه الوسائط بشكل منتظم غير عشوائي، وهذا التعامل يزيد من إنتاجية الوسائط، لأنها تنظم الفرص، والمكان، والزمان، وحتى إدارة المدن والمنازل والسياسة بشكل عام، تعد خلفياتها تنظيمية.

فالخلاصة: الحاجة إلى الوسيط ضرورة، بل هذه الظاهرة تمثل جزءًا لا يتجزأ من الإنسان حدوثًا وبقاءً وتطورًا وتنظيمًا، ولا توجد فرصة للاستغناء عنها. وفي مرحلة من المراحل قد يُفطم الإنسان عن واسطة معينة، كفطام الطفل عن حليب والدته، ولكنه يقع في حبال واسطة أخرى، كالحاجة إلى

ص: 296

المعلم، وهكذا إلى نهاية الحياة.

(تنوع الوسائط)

وبحكم تنوع حاجات الإنسان وتعدّدها، فقد تنوعت الوسائط والأدوات وتعدّدت، وقد ثبتت لها مسمّيات متعددة، فهناك من الوسائط ما يتلخّص دوره بمعالجة القصور الذاتي للمحتاج، مثل النظارة لضعيف البصر، ومثل الوالدين بالنسبة الى الطفل، ومثل الخادم بالنسبة الى المشلول.

وهناك الخادم والمعين الذي يرتبط بإنشاء التكافل الاجتماعي والخدمة المتبادلة، فأنا أخدمك في اختصاصي، وأنت تخدمني في اختصاصك.

وهناك المدرب الذي يرتبط بجانب التنظيم، والمهارات، وبه يدخل المدير، والمعلم...

الخلاصة:

أن الوسيط ضرورة في الحياة، ولا يمكن الاستغناء عنه أبدًا، بل لا يمكننا أن نتصور الحياة من دون الوسيط والآخر والخدمة المتبادلة والعملية التنظيمية التي يقوم بها المتخصصون وأصحاب الخبرات والمهارات المختلفة.

الملحوظة المهمة هنا:

أن الحاجة إلى الوسيط تارة تكون قهرية، أي: لا دخل لاختيار الانسان في وجوده أو تعيينه، فهو مفروض على الإنسان من خارج دائرة اختياره، مثل: الأب الوسيط في إعانة طفله، أو مثل الدواء الذي يُعطى قهرًا للمريض.

ص: 297

وتارة يكون اختياريًا، أي إن الإنسان وإن كان مضطرًا إلى الوسيط، ولكن اختيار الوسيط يكون تحت إرادته، بمعنى أن للإنسان الحرية في تعيينه أو عدمه، مثل ركوبه في سيارة معينة، أو مراجعة الطبيب الفلاني أو استخدامه خادمًا معينًا، وهكذا.

والنتيجة من كل هذا:

أن الإنسان في حياته اليومية، وفي حاجاته اليومية، لا يستغني عن الوسيط، فكيف بالحاجات التي هي خارج أفق عقله ومتناول يده، وهي الحاجات المرتبطة بالخالق جل وعلا، من ضرورة الوصول إلى رضاه، والتقرب إليه، إنه بلا شك بحاجة إلى وسيط ينقل له ما يريده الباري جل وعلا، ويوجهه نحو بر الأمان، ويأخذ بيده كي لا يقع في الخطأ، وبهذا يتبلور بكل وضوح حاجتنا الضرورية للنبي، الذي يمثل الوسيط بيننا وبين الله جل وعلا.

البيان الثالث: ضرورة الوسيط من قِبل السماء لدفع مخاوف الإنسان
اشارة

يمكن رصد عدة واقعيات ندركها في وجداننا، ولا يمكن إنكارها، وهي:

1/وجود ظاهرة الاختلاف، وعلى جميع المستويات والأصعدة، فالمزاج والتقليد يؤدي الى خلافات، ثم تتحول إلى صراعات، بعد تصادم الإرادات، فتُرتكب الجنايات، وتشب الحروب، وتحل الكوارث. وهذا الأمر لم يقتصر على زمان دون آخر، بل هو بدأ مع بداية البشر وحتى يومنا الحالي، ويستمر

ص: 298

إلى ما شاء الله تعالى. بل كلما تطورت المدنية تطور إلى جانبها الصراع، واتسع الدمار. بل لم يقتصر الخلاف والاختلاف في الحياة على منحى خاص كالاقتصاد، أو السياسة، وإنما شمل حتى الاختلاف بالدين.

فالاختلاف موجود وبقوة، وليس أمرًا هامشيًا، كما هو مشاهد بالوجدان.

2/الايمان باللطف والتسديد، بمعنى أن الانسان بشكل عام مهما كانت ديانته -بل حتى غير المتدين- يؤمن بالعناية الإلهية، ويعبر عن هذا الايمان بطلب الدعاء، والتسديد، والحفظ، كالطبيب الذي إذا يئس من حالة معينة يقول: لم تبق إلا إرادة الله تعالى، أو العناية الخاصة، أو غيرها من التعبيرات التي تكشف بشكل واضح عن وجود الإيمان بهذا التسديد.

3/استمرارية التكامل، وحالة اللا تناهي، بمعنى أنك تجد نزعة الانسان العلمية والعملية لا تقف عند حد، في أي جانب، وأي منحى من المناحي العلمية لا يقف عند مرحلة معينة، بل الاستمرار نصيب كل مجال. ذلك لأن الإنسان دومًا يسعى ويتحرك نحو الاحسن، والأفضل، وهو دائمًا يشعر بأن هناك أمورًا لم تُكتشف بعد. ولهذا تجد العلوم طرًا لم تقف عند حدٍّ، بل إن جانب الإبداع والتطور في العلوم مستمرٌ ولم تطرأ الخاتمية على أيٍّ منها. نعم قد يصيب بعض العلوم اجترار وتكرار، إلا أنه لا يقف.

4/فكرة الوسيط، المعلم، المربي، العقل المنفصل مطلقًا، واقع مقبول وحياتنا قائمة عليه، بل نستمرئه حتى الإشباع، ولا يقتصر على فئة أو

ص: 299

شخص، بل الحاجة الى الوسيط بهذا المعنى تبدأ بالعاجز كليًا –كالطفل-ويستمر للنموذج والعبقري، لعدة أمور تقدم الحديث عنها مفصلًا.

5/ الايمان بوجود الغيب، مع احتمال إمكان الارتباط به.

6/إن مجمل الخلافات والصراعات، خصوصا التي تبلغ مرتبة من التعقيد، عادة ما تُحلّ من خلال تدخل طرف ثالث، بمعنى: أن منطلق الفشل لا يكون منبع الحل، فلا بد من طرف ثالث يتدخل ليحل النزاع والمشاكل، وهذا واقع نلمسه ضمن أدبيات حياتنا.

7/جانب الاستخدام في سلوك الانسان واضح، بمعنى: جنوحه دائمًا نحو استغلال الآخر وامتصاص قدرته بلا مقابل، وهو ما يعبر عنه بالأنانية، أو الانتهازية، أو النفعية...الخ، وبذلك تظهر لنا مفاهيم غير سليمة من طرف القوي، مثل: الظلم، والاستبداد، والاستعمار، والاستغلال، والجور، و...الخ، وهي ثقافة السيد تجاه عبده الذي يحاول فيها أن يستغله وينتفع به مع تفريغه من محتواه، أما من جانب الضعيف، فينتج: الخداع، والتنظيمات السرية، وغيرها من الأساليب التي يحاول بها الضعيف أن يعوض ضعفه تجاه القوي، وغيرها من المفاهيم، بل والظواهر التي يبتلى بها المجتمع فتحدث حروب، وصراعات ليس لها آخر، كل ذلك يرجع الى هذه الواقعية، وهي (أنانية الانسان).

8/إن الدين من الواقعيات المطروحة والمقبولة على مر العصور، وعبرت عنه كتب ورسل، وقد احتل مكانًا في المجتمعات إلى جانب بقية التيارات

ص: 300

اللا دينية، وليس هو ظاهرة مستحدثة.

9/من الواقعيات الملموسة هو قصور العقل البشري، وعدم إطلاقه، فالعقل لا يحيط بالواقع كله، ولا يمكنه أن يطلع على لوحة هذا الوجود بكل تفاصيلها.

أمام هذه الواقعيات ظهرت عندنا مخاوف وأحاسيس عديدة، تعقبتها مطالب عديدة، أهمها:

الإحساس الأول: الرعب

الشعور بالرعب من فناء البشرية لأي سبب كان، حيث إنه من المعلوم أن التاريخ البشري دموي، ومليء بالجنون والتهور، مع علمنا بإمكانية محو البشرية بكبسة زر، هذا يولد شعورًا بالخوف والقلق من خطر الدمار، وحينها سيطلب الإنسان الطمأنينة والاستقرار على مصير البشرية، لأنه يرى هذا المطلب ممكن جدًا، ولو كان محالاً وضرباً من الخيال، لبقي البشر ضمن أطر ذلك الواقع المرير، فلو أمكن الحصول على ذلك الضامن الذي بيده مفاتيح المغالق، لأصبح ضرورة، خصوصًا مع ملاحظة أن أصوات الإصلاح، والسلام، لا صدى واسعاً لها، وهي خجولة أمام زمجرة القتال والعنف. فعنصر الاستقرار ضروري.

الإحساس الثاني: التعب

الشعور بالتعب، والإعياء، والإحباط، نتيجة خفاء أغلب أسرار الكون،

ص: 301

مع شدة حركة البشر العلمية، وطوال قرون من السنين، فالبحث المضني جداً، والطويل، إذا أنتج شيئاً بسيطاً من الحقيقة الكاملة، يوجب الإحباط الذي قد يولّد الوقوف بل والتراجع.

لذا يتولد مطلب البحث عن عنصر التفاؤل، والموجِّه لبوصلة البحث، بحيث يجعلنا في الطريق الصحيح، ويجدد الحيوية.

الإحساس الثالث: التيه

الشعور بالتيه والضياع، نتيجة صغر الانسان إذا قاس نفسه كفرد تجاه الكون، المليء بالأسرار، بل إن أسراره غير متناهية بنحو لا يقف –مثل تسلسل العدد-

لذا يتولد مطلب وهو الحاجة إلى التسديد والتوجيه، كالسائر في الصحراء المترامية الأطراف فإنه يحتاج إلى بوصلة ترشده إلى تصاعد حركته، فكذلك الإنسان وسط هذا العالم المتلاطم بالأسرار والعلوم يحتاج إلى هادٍ يعينه على مسيره، فإذا وُجد هذا الدليل والهادي فلا شك نتمسك به. فعلى الأقل إن لم تثبت الضرورة فإنه تثبت الحاجة وحسن الاستفادة لو عُرض إلينا هكذا وسيط.

الإحساس الرابع: الخوف من الغيب

الشعور بالخوف تجاه الغيب، لأن الذي يؤمن بوجوده تعالى، وتوحيده، وقدرته، وأنه الخالق له، لا شك يختلج في قلبه سؤال مُلِحٌّ ومصيري، حول

ص: 302

العلاقة التي تربطه مع ذلك الغيب، ولا يريحه المجهول أبدًا.

لذا يتولد مطلب وهو: الحاجة إلى إرسال شخص من قِبَل الغيب لمعرفة حدود هذه العلاقة، أو الغيب يرسل ذلك الشخص، أو الوحي، أو الإلهام، أو أي شيء آخر بحيث تكون العلاقة معلومة.

النتيجة من كل ما تقدم
اشارة

بعد هذه الجولة في الواقعيات والأحاسيس والمطالب المترتبة عليها، يشعر الانسان بكل وضوح بحاجته إلى الوسيط الذي يربطه مع السماء، وهذا يتجلى عند ملاحظتنا النقطتين التاليتين:

النقطة الأولى: لا اختيار كاملاً

تقدم في الأصول الموضوعة أن الانسان يبني قدره باختياره، والرهان على العمل الاختياري. ولكن لا توجد ممارسة اختيارية بالكامل، بل تبقى مقدماتها وشروطها ولوازمها غير اختيارية، فاذا تلمس الإنسان هذا المعنى مع ما تقدم من الواقعيات وما يترتب عليها من أحاسيس، ويلتفت إلى اختياره المنقوص، فسوف يستشعر بوضوح أنه بحاجة إلى دعم وتعزيز لاختياره. وقد تقدم أن منطق الحاجة جزء لا يتجزأ من لا وعي الانسان، وبذلك لا ضير في سعة أو ضيق هذه الحاجة، فمادام الانسان يحتاج إلى الحجر والمدر، فما المانع من حاجته الى النبوة!

ص: 303

النقطة الثانية: كيفية تدخّل السماء لتقديم العون

مع تسليمنا بالحاجة إلى من يساعدنا في التغلب على تلك المخاوف وتحقيق تلك المطالب، وأننا بحاجة إلى السماء لتساعدنا في ذلك، فالسؤال هنا:

كيف تتدخّل السماء لتقديم هذه المساعدة؟

إن ذلك يحتمل أحد الأمور التالية:

1/أن يكون ذلك عبر برامج معدَّة داخل نظام الإنسان، بحيث يمكنه الرجوع إليها في وقت الحاجة، أشبه بنظام الطوارئ الذي يوضع في المباني الكبيرة، فهو برنامج ضمن هيكيلية المباني، ويمكن اللجوء اليه عند الحاجة.

2/أن يكون الوسيط وحيًا، بمعنى: أن حقيقة الوحي تتيسر لعامة الناس، فلو وصلت الأمة مثلًا إلى مرحلة الانهيار يوحي الله تعالى إلى كل الناس ويبين لهم شدة غلطهم وتيههم، فيصحون من غفلتهم تلك.

3/أن يكون مَلَكا، بمعنى: أن الله تعالى يجعل ملائكة تتكفل حماية الإنسان من نفسه. أو يتكلم معه الحجر، أو الشجر، أو أمثال ذلك من الطرق الاعجازية.

وهذه الثلاثة رغم قدرة الله تعالى عليها بلا أدنى الشك، ولكنها غير حاصلة كما هو واضح، والواقع شاهد على عدم حصولها.

4/أن يكون بشرًا، بمعنى أن يجعل الله تعالى إنسانًا فيه قدرات معينة،

ص: 304

يقوم بدور بيضة القبان، أو البوصلة التي تحدد وجهة الحركة، وعنصر التفاؤل، كما يقوم بفك الحيرة، وكشف الملابسات، وبيان العلاقات مع الناس أنفسهم، ومعهم تجاه ربهم.

وهذا الرابع هو الاحتمال الواقعي، وهو الواقع، وقد صرّح القرآن الكريم بوقوعه، وهو بعث الرسل والأنبياء حتى يكونوا حجر الزاوية، وبيت الأمان للمجتمع الإنساني، والرابط بين الإنسان والسماء، ويمكن أن يستشف هذا المعنى من حاصل جمعٍ لآيتين مباركتين:

الأولى: قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (1).

إن من الواضح أن الآية في مقام حصر الطرق والقنوات التي يتم التواصل بها الله تعالى مع مخلوقاته، ويقصد بالتواصل بيان رأي السماء في شؤون الانسان. وقد بينت مجموعة من الطرق، ولم يكن منها طريقة الوحي للجميع، ولا الإلهام.

الثانية: قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (2).

فالآية تحصر المخاطبة والارتباط بين الانسان والسماء بالرسول فقط.

ص: 305


1- الشورى:51.
2- الانعام: 8-9.

وهناك آيات كثيرة تشير الى وقوع هذا النوع من الارتباط، وهو الاحتمال الرابع مما تقدم.

من كل هذا نستنتج: ضرورة النبوة، بأن يتم إرسال رجال من قِبَلِ الله تعالى إلى الناس ليحقّقوا لهم تلك المطالب وليرفعوا عنهم تلك المخاوف.

ص: 306

المسألة الثالثة: خلفيات البعثة في القرآن والسنة

اشارة

تقدم بيان مجموعة من الواقعيات، والاحاسيس التي تمثّل أسبابًا لضرورة النبوة، أو ضرورة الارتباط بالسماء، أو ضرورة وجود اللطف والاستثناء، وكان منطق تعدادها وبيانها هو الوجدان. ولكن لو فتّشنا في آيات الذكر الحكيم لوجدناها أيضاً أسّست لفكرة النبوة بنقاط قد تتداخل مع ما ذكرناه، ولإتمام الفائدة نذكر بعض تلك الخلفيات:

الخلفية الأولى: تنظيم علاقة الانسان مع خالقه

قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (1).

بمعنى: أن مضمون الرسالة هو تنظيم العلاقة بين الإنسان وخالقه، من خلال العبادة، والإيمان، والاعتقاد.

وهذا المضمون يتمثل في قيام الحجة قبل العذاب الأخروي أو الدنيوي:

ص: 307


1- النحل: 36.

اما الأخروي فقال تعالى:...لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(1).

أي: إن الله تعالى يعطي خارطة نجاة للإنسان، ولا يصادر العقل البشري، أو الاختيار البشري، وبذلك يقيم الحجة عليه، فمن ينجو فعن بيّنة، ومن يهلك فأيضاً أقيمت الحجة عليه.

ولعل الأمر يتضح أكثر في قوله تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (2).

واما الدنيوي فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (3).

وقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (4).

الخلفية الثانية: رفع الاختلاف

قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ

ص: 308


1- الانفال: 42.
2- الاسراء: 15.
3- طه: 134.
4- القصص: 59.

إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1).

وجود الاختلاف في المجتمع الإنساني حقيقة لا ريب فيها، نتيجة اختلاف الشهوات والتقديرات والأولويات، مع تزاحم عالم المادة ومحدودية الوقت، هذا النوع من الاختلاف يستدعي ضرورة وجود من يرفعه، وهو الرسول، كما أن الآية تشير إلى اختلاف من نوع آخر، وهو اختلاف العلماء المنحرفين بغيًا بينهم، فالنبوة أيضا تكون إحدى المناشئ للسيطرة على هذا النوع من الانحراف فيما لو أطيعت.

الخلفية الثالثة: التزكية والتعليم

قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2).

وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (3).

الآيتان في مقام بيان أن هناك نوعًا من التعليم والتزكية لا يقوم بها غير النبي أو الرسول، فهي من نوع التربية التي تحتاج إلى مؤهلات خاصة لا

ص: 309


1- البقرة: 213.
2- آل عمران: 164.
3- الجمعة: 2.

يقوم بها إلا من يبعثه الله تعالى، وكأن العقل البشري لا يستطيع أن يؤديه، لذلك أرسلت السماء رسلها لأجل تحقيق هذا النوع من التعليم والتزكية.

الخلفية الرابعة: الشهادة

قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (1).

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (2).

فالآيتان تبينان أن للأنبياء (عليهم السلام) دورًا مهمًا لابد أن يؤدوه لهذه الامة، وهو أنهم شهداء على الأمة، اما الإنذار والبشارة، فهي تدخل في الخلفية الأولى (العقوبة الدنيوية أو الأخروية).

الخلفية الخامسة: الهداية

قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (3).

هذه الآية وإن كانت في الامامة، إذ قوله تعالى (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) يعني: لكل قوم إمام أو وصي، ولكنها تصلح أن تكون بيانًا لخلفية الاحتياج إلى العقل المنفصل والوسيط، سواء أكان نبيًا أم إمامًا.

ص: 310


1- المزمل: 15.
2- الأحزاب: 45والفتح: 8
3- الرعد: 7.

وقال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (1).

الخلفية السادسة: القدوة

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (2).

وقال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ (3).

وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (4).

وقال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (5).

الخلفية السابعة: الانتماء

وهو غير التزكية والتعليم والقدوة، فالدين لم يطرح نفسه وكأنه عبارة عن تنظيرات وتعاليم، بل يراد من المقابل الانتماء والاتباع، قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ

ص: 311


1- الأنبياء: 73.
2- الأحزاب: 21.
3- الممتحنة: 4.
4- الممتحنة: 6.
5- الانعام: 90.

الْمُؤْمِنِينَ (1).

وقال تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(2).

وفي المقابل من لم يلتزم فإنه خارج هذا الانتماء، قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (3).

ومنه قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا (4).

فواضحٌ وجود آصرة اجتماعية بين المنتمين إليه.

الخلفية الثامنة: المشروع الدنيوي

الدين الإسلامي ليس مجرد نظريات لا واقع لها، وليس هو مجرد أوراد تُقام في المساجد ولا علاقة له بالحياة الدنيا، بل إن مشروعه بناء الدنيا والآخرة كليهما.

قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى

ص: 312


1- آل عمران: 68.
2- إبراهيم: 36.
3- هود: 45-46.
4- الفتح: 29.

الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1).

وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بالله شَهِيدًا (2).

وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (3).

وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (4).

وقال تعالى: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (5).

وأما خلفية النبوة في الروايات، فنكتفي بذكر رواية واحدة تفي بالغرض، وهي ما رواه الشيخ الصدوق في العلل(6) بسنده عن الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:

إِن قالَ قائِلٌ: لِمَ أُمِرَ الخَلقُ بِالإِقرارِ بِاللهِ وبِرَسولِهِ وحُجَّتِهِ وبِما جاءَ مِن عِندِ اللهِ؟

قيلَ: لِعِلَل كَثيرَة:

ص: 313


1- التوبة: 33.
2- الفتح: 28.
3- الأنبياء: 105.
4- القصص: 5.
5- المجادلة: 21.
6- علل الشرائع للشيخ الصدوق- ج1 ص251 – 252 باب 182 ح9.

مِنها: أَنَّ مَن لَم يُقِرَّ بِاللهِ لَم يَتَجَنَّب مَعاصِيَهُ، ولَم يَنتَهِ عَنِ ارتِكابِ الكَبائِرِ، ولَم يُراقِب أَحَداً فيما يَشتَهي ويَستَلِذُّ مِنَ الفَسادِ وَالظُّلمِ، وإِذا فَعَلَ النَّاسُ هذِهِ الأَشياءَ وَارتَكَبَ كُلُّ إِنسان ما يَشتَهي ويَهواهُ مِن غَيرِ مُراقَبَة لأِحَد كانَ في ذلِكَ فَسادُ الخَلقِ أَجمَعينَ، ووُثوبُ بَعضِهِم عَلى بَعض، فَغَصَبُوا الفُروجَ وَالأَموالَ، وأَباحُوا الدِّماءَ وَالسَّبيَ، وقَتَلَ بَعضُهُم بَعضاً مِن غَيرِ حَقٍّ ولا جُرم، فَيَكونُ في ذلِكَ خَرابُ الدُّنيا، وهَلاكُ الخَلقِ، وفَسادُ الحَرثِ وَالنَّسلِ.

أي: إن الابتعاد عن الله تعالى وعدم معرفة أحكامه واتّباعها -التي هي فرع الإقرار به تعالى- يلزم منه خراب الدنيا وهلاك الخلق والنسل، وقد تمت الإشارة إلى ذلك في بعض الواقعيات والأحاسيس المتقدمة، التي تولد ضرورة الارتباط بالسماء.

ثم يقول الإمام (عليه السلام):

ومِنها: أَنَّ الله عزّ وجلّ حَكيمٌ، ولا يَكونُ الحَكيمُ ولا يُوصَفُ بِالحِكمَةِ إِلاّ الَّذي يَحظُرُ الفَسادَ ويَأمُرُ بِالصَّلاحِ ويَزجُرُ عَنِ الظُّلمِ ويَنهى عَنِ الفَواحِشِ، ولا يَكونُ حَظرُ الفَسادِ وَالأَمرُ بِالصَّلاحِ وَالنَّهيُ عَنِ الفَواحِشِ إِلاّ بَعدَ الإِقرارِ بِاللهِ ومَعرِفَةِ الآمِرِ وَالنَّاهي؛ فَلَو تُرِكَ النَّاسُ بِغَيرِ إِقرار بِاللهِ ولا مَعرِفَة لَم يَثبُت أَمرٌ بِصَلاح، ولا نَهيٌ عَن فَساد؛ إِذ لا آمِرَ ولا ناهِيَ.

أي: إن الحكمة تقتضي إطلالتها ووصلها للخلق، ولا تنسجم مع السكوت والصمت المطلق، فالحكمة تقتضي بيان الفاسد من الصالح، والأمر والنهي، وإلا فكيف يكون الحكيم حكيمًا؟!

ص: 314

ثم قال (عليه السلام):

ومِنها: أَنّا قَد وَجَدنَا الخَلقَ قَد يَفسُدونَ بِأُمور باطِنَة مَستورَة عَنِ الخَلقِ، فَلَولاَ الإِقرارُ بِاللهِ وخَشيَتُهُ بِالغَيبِ لَم يَكُن أَحَدٌ إِذا خَلا بِشَهوَتِهِ وَإِرادَتِهِ يُراقِبُ أَحَداً في تَركِ مَعصِيَة وَانتِهاكِ حُرمَة وَارتِكابِ كَبيرَة، إِذا كانَ فِعلُهُ ذلِكَ مَستوراً عَنِ الخَلقِ بِغَيرِ مُراقِب لأِحَد فَكانَ يَكونُ في ذلِكَ هَلاكُ الخَلقِ أَجمَعينَ، فَلَم يَكُن قِوامُ الخَلقِ وصَلاحُهُم إِلاّ بِالإِقرارِ مِنهُم بِعَليم خَبير يَعلَمُ السِّرَّ وأَخفى، آمِرٌ بِالصَّلاحِ، ناه عَنِ الفَسادِ، ولا يَخفى عَلَيهِ خافِيَةٌ؛ لِيَكونَ في ذلِكَ انزِجارٌ لَهُم يَخلون بِهِ مِن أَنواعِ الفَسادِ.

بمعنى: أن توفير وتفعيل الرقيب الذاتي هو أحد الخلفيات والمناشئ للنبوة والإيمان بالله تعالى.

ثم يقول (عليه السلام):

فإن قال قائل: فلم أوجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة؟

قيل: لأنَّهُ لَمّا لَم يَكُن في خَلقِهِم وقُواهُم ما يُكمِلونَ بِهِ مَصالِحَهُم، وكانَ الصّانِعُ مُتَعالِياً عَن أن يُرى، وكانَ ضَعفُهُم وعَجزُهُم عَن إدراكِهِ ظاهِراً؛ لَم يَكُن بُدٌّ لَهُم مِن رَسول بَينَهُ وبَينَهُم، مَعصوم، يُؤَدّي إلَيهِم أمرَهُ ونَهيَهُ وأدَبَهُ، ويَقِفُهُم عَلى ما يَكونُ بِهِ اجتِرارُ مَنافِعِهِم ودَفعُ مَضارِّهِم، إذ لَم يَكُن في خَلقِهِم ما يَعرِفونَ بِهِ ما يَحتاجونَ إلَيهِ مِن مَنافِعِهِم ومَضارِّهِم. فَلَو لَم يَجِب عَلَيهِم

ص: 315

مَعرِفَتُهُ وطاعَتُهُ، لَم يَكُن لَهُم في مَجيءِ الرَّسولِ مَنفَعَةٌ ولا سَدُّ حاجَة، ولَكانَ يَكونُ إتيانُهُ عَبَثاً لِغَيرِ مَنفَعَة ولا صَلاح، ولَيسَ هذا مِن صِفَةِ الحَكيمِ الَّذي أتقَنَ كُلَّ شَيء...

ص: 316

المسألة الرابعة: مؤهلات النبي

اشارة

لا شك أن الارتباط بالسماء ليس متاحًا لأي أحد، ولا شك أن الذي يرتبط بالسماء له من الكمالات ما ليست لغيره، إذ إنه منصب عظيم جدًا، وإليه تشرئبّ الأعناق، وهو أعظم من أي منصب في الدنيا، كيف وهو منصب الارتباط المباشر بالخالق جل وعلا، وهذا يعني: أن النبي لا بد أن يكون أفضل من غيره، وإلا لزم تقديم المفضول على الفاضل.

وعلى هذا، فيلزم أن يتصف المبعوث بمواصفات خاصة، تؤهله لهذا المنصب، بل يلزم أن تكون مواصفاته استثنائية بمعنى الكلمة، والمواصفات التي نعتبر توفرها في المبعوث تتلخص بالعصمة، والتي لا تكون إلا عن العلم الخاص في أعلى مراتبه الممكنة، والعلم كلما زاد فإن القدرة تزيد معه، إذ التناسب بين العلم والقدرة طردي(1)، على أنه يلزم أن يكون المبعوث مؤيدًا بالمعجزة، التي تكشف عن ارتباطه بالسماء كشفًا قطعيًا.

إذن: العصمة، والعلم الخاص، والقدرة الخاصة، والمعجزة، هي ما يلزم

ص: 317


1- سيأتي تفصيل هذه المعاني أكثر في الأصل الرابع (الإمامة) في مبحث مقدمات الإمامة العامة إن شاء الله تعالى.

توفره في المبعوث عن الله تعالى.

وسنتحدث هنا عن العصمة وما يلازمها، ثم ننتقل إلى الحديث عن المعجزة إن شاء الله تعالى، والحديث سيكون إجماليًا، والتفاصيل في محلها.

أولًا: العصمة
اشارة

إن من المتفق عليه هي ضرورة العصمة في النبي –على اختلاف في حجمها ومقدارها وأنها في كل زمن وجود النبي أو في فترة الرسالة فقط أو في لحظة التبليغ فقط، آراء في المسألة-

ونحن –أتباع أهل البيت (عليهم السلام)- تبعًا لأئمتنا (عليهم السلام) نقول بضرورة العصمة في كل عمر النبي منذ ولادته وإلى وفاته.

فما هي العصمة؟ ولماذا هي ضرورة؟

إن العصمة باختصار تعني -لغة واصطلاحاً- المنع، وأن مفهومها عند الكل هو الامتناع عن المعاصي، فالمعصوم هو من يمتنع عن المعصية، فلا يقترب إليها عمدًا بل ولا سهوًا ولا خطأً.

قال الشيخ المظفر (رحمه الله تعالى): هي التنزه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها ، وعن الخطأ والنسيان ، وإن لم يمتنع عقلا على النبي أن يصدر منه ذلك بل يجب أن يكون منزها حتى عما ينافي المروة ، كالتبذل بين الناس من أكل في الطريق أو ضحك عال ، وكل عمل يستهجن فعله عند

ص: 318

العرف العام.(1)

وقال المحقق الجرجاني المتوفى ( 816 ه ) في كتاب التعريفات : العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها.(2)

غايته أن الأشاعرة ذهبوا إلى معنىً في العصمة يؤدي إلى أن يكون المعصوم مجبوراً على ترك المعصية، فهو لا يستطيع فعل المعصية، لذلك صار معصومًا، أما مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فذهبوا إلى أن العصمة هي مانع من المعصية، رغم وجود القدرة على فعلها، فالمعصوم ما زال يقدر على فعل المعصية تمامًا، ولكنه باختياره لا يفعلها، لأنه معصوم، وأن نفس النبي نفس إنسانية ما زالت تحمل القوى التي يمكن أن تواقع المعصية، وتقتضي صدور المعاصي من النبي كما تصدر من عامة الناس، ولكن لوجود المانع (العاصم) فلا تقترب نفس النبي من المعصية.(3)

وهذا هو أسلوب الدين والتشريع في تربية المجتمع، فلم يكن الدين

ص: 319


1- عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله) – عقيدتنا في عصمة الأنبياء- ص 54.
2- التعريفات : 65 ، الطبعة الأولى ، طهران . ونقله عنه الشيخ السبحاني في محاضرات في الإلهيات ص 280.
3- وبهذا يُفسر ما حكاه القرآن الكريم عن النبي يوسف (عليه السلام) بقوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأىٰ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف 24] فالمعنى: أنه رأى برهان ربه فلم يهم بها، والبرهان هي العصمة، وهو ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في جوابه للمأمون حيث قال (عليه السلام) له: همت به، ولولا أنْ رأى برهان ربه لهمّ بها كما همّت به، لكنه كان معصوماً، والمعصوم لا يهمُّ بذنب ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق أنه قال: همّت بأن تفعل، وهمّ بأنْ لا يفعل. [الاحتجاج للطبرسي ج2 ص 221]

ليقتلع الغرائز من نفس الإنسان، كيف وبها تستمر الحياة وتتطور، ولكنه يقنّنها ويمنعها من تجاوز حدود رسمها الشارع بما يتناسب مع الفطرة الإنسانية القويمة.

والملاحظ من خلال هذا البيان أن العصمة تبدأ من مبدأ مهم يمثل الأساس لها هو: العلم، فالعلم هو الأساس الذي تقوم عليه العصمة، والمعصوم يتمتع بالعلم الخاص اللدني.

وحيث إن للعلم مراتب، فللعصمة مراتب تبعاً لقوة العلم ومدى العمل على وفقه. فكلما قوي العلم وقوي العمل وفق العلم، ازدادت قوة العصمة والامتناع الاختياري عن المعصية، وهذا ما يبرر لنا وجود عصمة من أول الخط إلى نهايته (كما في الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).) ووجود عصمة متقطعة أو مؤقتة، كما يحصل عند بعض الناس على اختلاف في فترات الاعتصام والامتناع عن المعصية.

على أن العلم يقتضي وجود القدرة التي تزيد بزيادته، ولذلك رأينا أن للمعصوم قدرات غيبية لا يمكن لغيره أن يتصف بها، فنفس العلم الشامل هي قدرة، والمعجزة –كما سيأتي- أيضًا قدرة.

وهذا يعني: أن العلم اللدني الذي يكون لدى المعصوم، يؤسّس لأمرين(1):

ص: 320


1- أما ما يظهر من مثل قصة النبي موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام)، فقد أجاب العلماء عنها، فلتراجع في مظانها.

الأول: العصمة، بالمعنى المتقدم

الثاني: القدرة.

وهذه القدرة تهيئ المعصوم للتصرف بالكون بمقدار لا يمكن لغيره أن يتصرف به، خصوصًا إذا تذكرنا أن الله تعالى جعل عالمنا عالم أسباب ومسببات، وأن الإنسان لوحده لا يمكن أن يدرك أو يعرف كل الأسباب في هذا العالم، ولكن المعصوم لمكان علاقته المباشرة بالسماء، ولمكان علمه الشامل، فإنه سيطّلع على الكثير وربما كل قوانين هذا العالم، وبالتالي إذا عرف الأسباب فيمكنه أن يتصرف بها ليحصل على نتائج لا يمكن لغيره أن يحصل عليها، لأنه يفتقد العلم بالسبب، وبالتالي يفتقد القدرة على التصرف فيه.(1)

وهذه الفكرة ستؤسس للقول بالولاية التكوينية للمعصوم.

ومما يشير إلى هذه الحقائق هو ما روي عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ عِلْمِ الإِمَامِ بِمَا فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ وهُوَ فِي بَيْتِه مُرْخًى عَلَيْه سِتْرُه؟ فَقَالَ (عليه السلام):

يَا مُفَضَّلُ، إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى جَعَلَ فِي النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) خَمْسَةَ أَرْوَاحٍ:

رُوحَ الْحَيَاةِ، فَبِه دَبَّ ودَرَجَ.

ورُوحَ الْقُوَّةِ، فَبِه نَهَضَ وجَاهَدَ.

ص: 321


1- وأما أن المعصوم لماذا لم يستعمل المعجزة لدفع الأعداء وما شابه، فهو ما سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر مباحث الإمامة.

ورُوحَ الشَّهْوَةِ، فَبِه أَكَلَ وشَرِبَ وأَتَى النِّسَاءَ مِنَ الْحَلَالِ.

ورُوحَ الإِيمَانِ، فَبِه آمَنَ وعَدَلَ.

ورُوحَ الْقُدُسِ، فَبِه حَمَلَ النُّبُوَّةَ.

فَإِذَا قُبِضَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) انْتَقَلَ رُوحُ الْقُدُسِ فَصَارَ إِلَى الإِمَامِ، ورُوحُ الْقُدُسِ لَا يَنَامُ ولَا يَغْفُلُ ولَا يَلْهُو ولَا يَزْهُو [الرجاء الباطل والكذب والاستخفاف]، والأَرْبَعَةُ الأَرْوَاحِ تَنَامُ وتَغْفُلُ وتَزْهُو وتَلْهُو، ورُوحُ الْقُدُسِ كَانَ يَرَى بِه [يعني ما غاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى.](1)

فالأرواح الثلاثة الأولى موجودة عند كل البشر، ويشتركون بها جميعًا، حتى الأنبياء، وأما الروح الرابعة فهي لا تشمل الجميع، وإنما تخص من آمن وكان عادلًا، وأما الخامسة فهي لا تشمل إلا خاصة الخاصة، إذ بها يتهيأ الإنسان ليحمل روح النبوة، والخامسة هي ما تعطي للمعصوم القدرة العلمية وبالتالي القدرة العامة على الكون، بحيث تعطيه القدرة على العلم بما تحت الأرض وما فوق الثرى، وهذه الروح كما تكون عند النبي، تكون عند المعصوم الذي يكون خليفة له ووصيًا عنه، ولا يلزم منها أن يكون المعصوم نبيًا، لأن النبوة جعل إلهي، وهو غير القدرة المذكورة.

ص: 322


1- الكافي للكليني ج1 ص 272 بَابٌ فِيه ذِكْرُ الأَرْوَاحِ الَّتِي فِي الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ح3. وما بين المعقوفين من هامش المصدر.
ضرورة العصمة
اشارة

إن هذا المعنى من العصمة أمر ضروري في النبي، ولا يمكن أن نتصور نبيًا أو مبعوثًا من الله تعالى وهو غير معصوم، الأمر الذي يعني احتمال ارتكابه للخطأ أو الذنب عمدًا، وعلى الأقل احتمال ذلك منه خطأً أو سهوًا، وهذا يؤدي إلى ذهاب فائدة النبوة، وقد ذكروا عدة بيانات لهذا المعنى نذكر منها التالي(1):

أنّ مسؤوليّة الأنبياء ليست تلقّي الوحي الإلهيّ وإبلاغه للناس فحسب، بل إنّهم يتولّون أيضاً مهمّة تربية الناس وتزكيتهم. يقول الله سبحانه وتعالى على لسان النبيّ إبراهيم (عليه السلام): ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(2).

﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(3).

كما يؤاخذ الله سبحانه المؤمنين بالأقوال غير المشفوعة بالأعمال ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾(4).

ولو لم يتمتّع الأنبياء الإلهيّون بالعصمة في العمل، وتورّطوا في أوحال

ص: 323


1- انظر: الكلام الإسلامي المعاصر ج2 ص 180 – 181.
2- سورة البقرة: 129.
3- سورة آل­عمران: 164.
4- سورة الصفّ: 2 و3.

الذنوب والمعاصي، فلا شكّ في أنّ تربية الناس وتزكيتهم لا تتحقّقان، ولا تتمّ بذلك مهمّتهم(1).

فلا يمكن - إذن - تربية البشر وتزكيتهم حتّى البلوغ بهم إلى الكمال الحقيقيّ من دون معلّمين صالحين ومحصّنين من دنس المعاصي والأخطاء.

إشارتان:

الإشارة الأولى: الفرق بين العصمة والعدالة

ذكر السيد الطهراني في تعليقته(2) على التجريد عدة فروق بين العصمة والعدالة، نعرضها للاطلاع:

1/إن العدالة في مرتبة روح الإيمان التي ذكرتها الرواية السابقة، والعصمة في مرتبة روح القدس. وهذا يمثل واحداً من تفسيرات تلك

ص: 324


1- المغني، القاضي عبدالجبّار، ج 15، ص 303.
2- انظر: توضيح المراد: تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد- السيد هاشم الحسيني الطهراني- ج1 ص 649، حيث قال ما نصه: ثم الظاهر من هذا الحديث أن العدالة في مرتبة روح الإيمان ، والعصمة في مرتبة روح القدس ، ويفرق بينهما أيضاً بأن صاحب العصمة يبغض المعاصي والخطايا ويتأذى بوقوعها من غيره كما ينطق به الأخبار، وأما صاحب العدالة فليس كذلك بل امتناعه في كثير من الأحوال لخوفه من عقابه تعالى، وإن حصل لبعض الورعين المتقين كراهة لبعض المنكرات، وبأن صاحب العصمة يمتنع عن الارتكاب مع علمه بتفاصيل العلل والأسرار، وصاحب العدالة من المؤمنين يصبر مع عدم علمه بما في كف نفسه عن المحرمات من الحكم والأسرار، وبأن صاحب العصمة حجة بين الله وبين عباده، وصاحب العدالة بالغاً ما بلغ ليس بحجة كذلك ، وبأن العصمة كالنبوة موهبة من الله عز وجل، لا تحصل بالرياضة والاكتساب، والعدالة تحصل بذلك ، وبأن العصمة لذلك لا تزول والعدالة يمكن زوالها ، وبعروض السهو والخطأ وغيرهما لصاحب العدالة دون صاحب العصمة، كما يظهر من الحديث المذكور.

الرواية.

2/ إن صاحب العصمة يبغض نفس المعاصي والخطايا ويتأذى بوقوعها من الغير، نعم هو يتركها خوفًا من الله تعالى، ولكن لو فرضنا –من باب فرض المحال- أن الله تعالى لم يحرم المعاصي، لترَكَها المعصوم أيضاً؛ لأنه يبغض نفس المعصية بما هي معصية، وليس كذلك صاحب العدالة، إذ إن امتناعه في كثير من الأحوال نابع من خوفه من الله تعالى، وإن حصل لبعض الورعين والمتقين كراهة لبعض المنكرات.

3/صاحب العصمة يمتنع عن الارتكاب مع علمه بتفاصيل علل وأسرار المحرّم، أي إنه يعلم العلل الواقعية للحرمة، أما صاحب العدالة فيمتنع مع عدم علمه بذلك.

4/ صاحب العصمة حجة بين الله تعالى وعباده، وصاحب العدالة بالغاً ما بلغ لا يكون كذلك.

5/ إن العصمة كالنبوة، موهبة من الله تعالى ولا تحصل بالرياضة والاكتساب(1)،

نعم هي من المقدمات غير الاختيارية التي يهبها الله تعالى للمعصوم حيث علم منه الإرادة الجادة للوصول إلى هذا المقام، كما تقدم بيان هذا الأمر، والعدالة تحصل بالاكتساب والرياضة والمجاهدة.

6/ ويتفرع على الفرق الخامس أن العصمة لا تزول، أما العدالة فيمكن

ص: 325


1- وهذا لا ينافي اختيار المعصوم كما بُيّن في محله.

أن تزول، وحتى وإن أصبحت ملكة، غايته يكون زوالها ببطيء.

7/ إن العصمة لا يعرضها الخطأ ولا النسيان ولا السهو، والعدالة ليست كذلك.

الإشارة الثانية: ما يتفرع على إثبات العصمة للنبي

إن ثبوت العصمة في الوسيط بيننا وبين السماء وكونها أمرًا ضروريًا فيه، يثبت الأمور التالية:

1- إثبات واقعية الدين وعدم مثاليته، بحيث يمكن للإنسان أن يحقق الأطروحة الإسلامية بحذافيرها وليست مجرد نموذجيات ومثاليات غير قابلة للتطبيق، لأن العصمة تعني مطابقة الواقع تمامًا، أي إن المعصوم يأتي بأمور هي غاية في الواقعية، والواقع يمكن تطبيقه.

2- القضاء على السفسطة، إذ إن كل القضايا النظرية والشكّية لا بد أن تصل إلى اليقين والقطع حتى يمكن أن تكون حاكية عن الواقع من دون تردّد ولا شك، وبدون فرضية ضمان المطابقة نقع في إشكالية بقاء الانسان يتراوح بين احتمالين، وأن ما وصل إليه هل هو من توليفات الذهن أو إنه أمر واقعي، والعصمة حيث إنها تعني ضمان المطابقة للواقع وعدم الاشتباه فيه، إذن هي توفّر لنا ضمان المطابقة للواقع. وبالتالي تنقطع السفسطةُ وعدمُ ضمان إصابة الواقع.

3- ضمان الوثاقة بشخص الوسيط، فلو كان هناك مجال للخطأ والاشتباه

ص: 326

في أقوال أو أفعال النبي (صلى الله عليه وآله) لبقي المتلقي متردّدا في معلومته، ولكن حيث كان معصومًا، إذن سيكون المخاطب مطمئنًا تمامًا بعدم خطأ النبي أو الإمام (الوسيط عمومًا بيننا وبين السماء).

ثانيًا: المعجزة
اشارة

إن من أهم مثبتات صدق البعثة والمبعوث هي المعجزة، والتي تعني باختصار: قدرة المعصوم على أن يتصرف بالكون بما لا يمكن لغيره أن يتصرف به مثله، وهي ليست سحرًا، لأن السحر هو أحد العلوم التي يمكن أن يكتسبها الإنسان بالتعلم، على أن الساحر إنما يتصرف ببعض الأمور التي يتقنها هو، ولا يستطيع أن يتجاوز ما أتقنه بالتعلم، أما المعجزة فإنها قدرة غيبية تأتي على خلفية العلم اللدني الخاص لدى المعصوم، والذي يفرز له قدرة بالتصرف في قوانين هذا العالم مما لم يصل إليها عامة الناس، الأمر الذي يعني أن قدرات المعصوم لا تتوقف عند حد، وإنما يمكنه أن يتصرف بما لا إحصاء له من الأفعال الخارقة للعادة وللمألوف من التصرفات بين الناس، الأمر الذي يتجاوز معرفة اللغات المتنوعة وشفاء المرضى إلى إحياء الموتى بل وإلى شق القمر!

وهنا إشارات:

الإشارة الأولى: المعجزة إحدى طرق الإثبات

إن المعجزة هي طريق إثباتي لكل من يدّعي الارتباط بالسماء ويطلب من غيره أن يتبعه باعتباره ممثلًا للسماء، حتى لو كان المدّعى هي الإمامة أو

ص: 327

السفارة الخاصة عن المعصوم.

نعم، لا ينحصر الطريق الإثباتي بها، إذ إن من الطرق على ذلك هو تنصيص النبي السابق على النبي اللاحق، كما في النبي عيسى (عليه السلام) حيث بشّر بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، قال تعالى (وَإِذْ قالَ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(1)

ولتأكيد هذا الطريق قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(2)

ولكن رغم هذا فإن المعجزة هي أوضح طريق، ولا يقبل التشكيك من قبل العقلاء، على أنه قد يكون طريقًا منحصرًا في بعض الأحيان، كما لو ادّعى أحدٌ كونه وصياً لرسول الله (صلى الله عليه وآله).(3)

ص: 328


1- الصف 6.
2- الأعراف 157.
3- مع الالتفات إلى إنه إن كانت الدعوى قابلة للتصديق في حدّ نفسها، حينها يكون طلب المعجزة موضوعياً، كما لو ادّعى أحد النبوة قبل مجيء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أو ادّعى الإمامة خلافةً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) زمن حضور الأئمة (عليهم السلام)، أو ادّعى أحد السفارة بعد الصيحة والسفياني. أما لو كانت الدعوى باطلة في حدّ نفسها، أي إنه يُعلم من الخارج أنها باطلة ولا يمكن أن تكون صادقة، فلا حاجة لطلب المعجزة، بل الحكم هو تكذيبها مباشرة، كما لو ادّعى أحد الألوهية، أو النبوة بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أو كونه الإمام الثالث عشر لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، أو السفارة قبل الصيحة والسفياني. اللهم إلا أن يُقصد تعجيز المدّعي وإظهار كذبه، فلا مشكلة حينها في طلب المعجزة، ومن ذلك ما رواه الشيخ الطوسي (في الغيبة ص 401 و 402 ح 376): لما أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاج ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له أن أبا سهل إسماعيل بن علي النوبختي (رضي الله عنه) ممن تجوز عليه مخرقته وتتم عليه حيلته، فوجه إليه يستدعيه وظن أن أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الامر بفرط جهله، وقدر أن يستجره إليه فيتمخرق (به) ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتب له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحله من العلم والأدب أيضا عندهم، ويقول له في مراسلته إياه: إني وكيل صاحب الزمان عليه السلام - وبهذا أولا كان يستجر الجهال ثم يعلو منه إلى غيره - وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الامر. فأرسل إليه أبو سهل رضي الله عنه يقول له: إني أسألك أمرا يسيرا يخف مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهن، ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن [ ويبغضني إليهن ] وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة، وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك، وإلا انكشف أمري عندهن، فصار القرب بعدا والوصال هجرا، وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإني طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة. فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جوابا، ولم يرسل إليه رسولا، وصيره أبو سهل رضي الله عنه أحدوثة وضحكة ويطنز به عند كل أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سببا لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه.
الإشارة الثانية: مستويات الأفعال من حيث العلم بعللها

للأفعال ثلاثة مستويات من حيث العلم بعللها:

1/مستوى يكون الفعل فيه معلوم العلل وممكناً لكل أحد، كما هو حال الأفعال الاختيارية اليومية التي يقوم بها الجميع، وكما في علاج الأمراض المعينة من خلال معرفة سبب المرض ومعرفة العلاج المناسب له، وهكذا.

2/ مستوى يكون الفعل غير معلوم العلل لكنه ضمن قوانين الطبيعة،

ص: 329

بمعنى أنه وإن اختص به البعض، ولكن يمكن للكل أن يتعلموا أسباب ذلك الفعل ويأتوا به، كالسحر والشعبذة (أو الشعوذة).

3/ ومستوى يكون الفعل غير معلوم الأسباب وخارج نطاق الأسباب الطبيعية ولا يمكن لأي أحد أن يأتي به أو يتعلمه - إلا إذا كان عنده اتصال بالغيب -، والمعجزة لا تكون إلا من المستوى الأخير، حتى يمكن أن تكون دليلاً على مدّعي النبوة...

الإشارة الثالثة: كيف تدل المعجزة على صدق المدّعي؟

إن المعجزة تحمل في مضمونها الدلالة على صدق مدّعي النبوة، مما يعني أن أي مدّعٍ للارتباط بالسماء، فإن عليه أن يقيم دليل صدق على ذلك، ومن أول ما يدلّ على ذلك هي المعجزة.

أما كيف تدل المعجزة على صدق المدّعي للنبوة؟

فهذا ما بيّنه السيد الخوئي (قدس سره) بقوله:

وإنما يكون الإعجاز دليلًا على صدق المدّعي، لأن المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلا بعناية من الله تعالى، وإقدار منه، فلو كان مدّعي النبوة كاذبًا في دعواه، كان إقداره على المعجز من قبل الله تعالى إغراءً بالجهل وإشادةً بالباطل، وذلك محالٌ على الحكيم تعالى. فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه، وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته.

ص: 330

وما ذكرناه قاعدة مطّردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور، ولا يشكّون فيها أبدًا، فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته، كان من الواجب عليه أولًا أن يقيم على دعواه دليلًا يعضدها، حين تشك الرعية في صدقه، ولا بدّ من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السفير: الشاهد على صدقي أن الملك غدًا سيحيّيني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الآخرين. فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية، ثم حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحية، كان فعل الملك هذا تصديقًا للمدّعي في السفارة، ولا يرتاب العقلاء في ذلك؛ لأن الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذبًا، لأنه يريد إفساد الرعية.

وإذا كان هذا الفعل قبيحاً من سائر العقلاء، كان محالًا على الحكيم المطلق، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله في كتابه الكريم: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)(1)

والمراد من الآية الكريمة: أن محمدًا [صلى الله عليه وآله] الذي أثبتنا نبوته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقوّل علينا بعض الأقاويل، ولو صنع ذلك لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإن سكوتنا عن هذه الأقاويل إمضاء منّا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة

ص: 331


1- الحاقة 44 – 46.

البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث.(1)

الإشارة الرابعة: ما يلزم من جريان المعجزة على يد أحد

عرفنا أن من أهم خصائص المعجزة هي كونها خارقة للعادة، وهذا الخرق للعادة يسري ليكشف عن أنّ مَن جرت المعجزة على يديه أيضاً شخص خارق للعادة، لأنه علة للمعجزة بشكل وبآخر بإذن الله وأمره، وهذا يلزم منه:

أ / أن من جرت المعجزة على يديه هو على ارتباط مباشر بالسماء.

ب/ أن ثبوت المعجزة لأحد (أعم من كونه نبياً أو إماماً) ينعكس على علاقة الأمة به، أي إنه يُثبت نوعاً من أنواع الحجية على عامة البشر، مما يعني أن المعجزة ليست مأْثرة شخصية وحسب، وإنما هي كاشف عن مقام الحجية، ذلك لأن جريان المعجزة يلازم العصمة، التي تعني كون المعصوم -قولاً وفعلاً وتقريراً- مضمون الحقانية والمطابقة للواقع، فيحصل القطع واليقين بمطابقة ما يأتي به للواقع المأمور به، فيلزم اتباعه.

الإشارة الخامسة: النبوة إحدى روافد المعرفة

لا تتلخص دعوى النبي بأمور تعبدية، ولا تلغي العقل، وإنما هي تحتوي في كثير من الأحيان على مقولات مستدلة، كما في قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}(2)

ص: 332


1- البيان في تفسير القرآن ص 35 – 36.
2- (22) سورة الأنبياء.

{مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(1)

نعم، يمكن اعتبار قول النبي حداً أوسطاً ودليلًا لإثبات كل المقولات الدينية، لأنه معصوم ومؤيد بالمعجزة، إلا أنه لم يلغ الاستدلال العقلي لمقولات الدين العقلية، كما لم يلغ التجربة في مساحة التجربة، ولم يلغ الحس القانوني في مساحته...

وباختصار: النبي ليس بديلاً عن قنوات المعرفة والعمل، بل هو قناة إضافية ترشد وتُمكّن تلك القنوات من عملها الصحيح وتضيف إليها ما هو ضرورة...

الإشارة السادسة: المعجزة تخرق العادة لا العقل

إنّ المعجزة عمل خارق للعادة؛ وليس خارقاً للعقل، فلا تتعارض المعجزات مع الأحكام العقليّة؛ مثل استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين؛ فليس شفاء الأعمى وتبديل العصا إلى ثعبان ونقل عرش بلقيس في لمحة بصر، ممّا يخالف البديهيّات العقليّة.(2)

الإشارة السابعة: عدم تعارض المعجزة مع نظام العلّية

لا يتعارض الإعجاز مع مبدأ العلّيّة (قانون السببيّة)؛ فإنّ العقل البديهيّ يحكم بأنّ تحقُّق كلّ ظاهرة من الظواهر بحاجة إلى علّة. والعلّة القريبة لظاهرة

ص: 333


1- (91) سورة المؤمنون.
2- الكلام الإسلامي المعاصر ج2 ص129.

ما، مادّيّة تارةً، ومجرّدة وغير مادّيّة تارة أخرى. وتعود نشأة ظاهرة ما تارة إلى العلّة المادّيّة الظاهرة، وإلى العلّة الخفيّة تارة أخرى. ولا شكّ في أنّ معجزات موسى وعيسى (عليهما السلام) تسري عليها قاعدة العلّيّة، وهي منبثقة من علّة؛ لكن ليس العلّة المادّيّة الاعتيادية التي هي واضحة عند الجميع.(1)

وإنما هي علة خفيتْ على عامة الناس، لكن المعصوم اطّلع عليها بإذن الله تبارك وتعالى.

ص: 334


1- الكلام الإسلامي المعاصر ج2 ص129.

المبحث الثاني: النبوة الخاصة

اشارة

ويُقصد منه البحث عن خصوص نبوة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله).

وهنا نقاط أربعة:

النقطة الأولى: إثبات نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)

النقطة الثانية: عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).

النقطة الثالثة: في أنه (صلى الله عليه وآله) كان أمّيًا.

النقطة الرابعة: النبوة الخاتمة.

ص: 335

ص: 336

النقطة الأولى: إثبات نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)

اشارة

يمكن إثبات نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله) من خلال عدة طرق نذكر منها التالي:

الطريق الأول: المعجزة

وأشهر معجزاته (صلى الله عليه وآله) هي معجزته الخالدة ودستور الأمة: القرآن الكريم، ولإعجازه جهات متعددة أهمها: البلاغة التي عجز عن مجاراتها أبلغ العرب في وقته، بالإضافة إلى الإخبارات الغيبية وغيرها مما ذكروه في محله.

قال ابن شهر آشوب في مناقبه: وكان له معجزات لم يكُنَّ لغيره، وذُكر أن له أربعة آلاف وأربعمائة وأربعين معجزة، ذُكرت منها ثلاثةُ آلاف تتنوع أربعة أنواع، ما كان قبله وبعد ميلاده وبعد بعثته وبعد وفاته، وأقواها وأبقاها القرآن...(1)

وقد روي أنَّه عندما نزلت بعض سور القرآن الكريم، فإنَّ قريشاً استحيوا من القصائد المعلَّقات التي كانت على جدار الكعبة، والتي كانوا يعتبرونها القمَّة في البلاغة والفصاحة وأداء المعنى وجزالة الأُسلوب. فأنزلوها لما رأوا

ص: 337


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج1 ص125.

من بلاغة تلك السور، وخوفاً من الفضيحة.(1)

الطريق الثاني: بشارات الأنبياء السابقين

وهذا ما أكده القرآن الكريم كما تقدم، حيث بشّر به النبي عيسى (عليه السلام) وغيره من الأنبياء.

ومما يؤكد هذا المعنى ما قاله النجاشي للمسلمين الذين هاجروا إلى بلده، حيث روي أنه دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟... وكان الذي يكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، إنا كنا قومًا أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكُنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمَرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة... فعدّد له أمور الاسلام، فصدّقناه وآمنا به واتّبعناه، فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل

ص: 338


1- نُقِلَ هذا المعنى عن السيِّد عبد الله شبَّر في كتابه حقُّ اليقين 1: 113؛ وذكره السيِّد حسن الشيرازي في كتابه الإمام المهدي نظرة وجيزة شاملة، وهو مقدّمة كتابه كلمة الإمام المهدي عليه السلام: 32.

ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت [أم سلمة]: فقال: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال: نعم؟ قال: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من (كهيعص)، فبكى والله النجاشي حتى أخضلّ لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تُلي عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا [مخاطبًا: عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص السهمي]، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا ولا أكاد.(1)

الطريق الثالث: شخصية النبي الأكرم (صلى الله عليه آله) نفسه

إن التأمل في نفس شخصية النبي (صلى الله عليه وآله) وما اتصف به من مواصفات، وما كان عليه من قوة في دينه وثبات على مبدئه، يكشف للعاقل الذي يبحث عن الحقيقة أنه (صلى الله عليه وآله) كان على حق في دعواه، وأنه من الأشخاص الذين يمتنع أن يوصفوا بالكذب، وإن لم يأت بمعجزة أو لم يكن عليه نص سابق، وهذا ما تؤكده بعض النصوص، كما يظهر ذلك بشكل جلي من رواية دحية الكلبي قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكتاب إلى قيصر، فأرسل إلى الأسقف فأخبره بمحمد (صلى الله عليه وآله) وكتابه فقال: هذا النبي الذي كنا ننتظره، بشرنا به عيسى بن مريم.

ص: 339


1- سير أعلام النبلاء للذهبي ج1 ص 432 – 433.

فقال الأسقف: أما أنا فمصدقه ومتبعه. فقال قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي. ثم قال قيصر: التمسوا لي من قومه ها هنا أحدا أسأله عنه.

وكان أبو سفيان وجماعة من قريش دخلوا الشام تجارا فأحضرهم، قال: ليدنُ مني أقربكم نسبا به. فأتاه أبو سفيان فقال: أنا سائل عن هذا الرجل الذي يقول: إنه نبي. ثم قال لأصحابه: إن كذب فكذبوه.

قال أبو سفيان: لولا الحياء أن يأثر أصحابي عني الكذب لأخبرته بخلاف ما هو عليه.

فقال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحد؟ قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل؟ قلت: لا.

قال: فأشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قلت: ضعفاؤهم.

قال: [ فهل ] يزيدون أو ينقصون؟ قلت: يزيدون.

قال: يرتد أحد منهم سخطًا لدينه؟ قلت: لا.

قال: فهل يغدر؟ قلت: لا.

قال: فهل قاتلكم؟ قلت: نعم.

قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت: ذو سجال، مرة له، ومرة عليه.

ص: 340

قال: هذه آية النبوة. قال: فما يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصوم والعفاف والصدق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد.

قال: هذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أنه يخرج ولم أظن أنه منكم، فإنه يوشك أن يملك ما تحت قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقياه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.

وإن النصارى اجتمعوا على الأسقف ليقتلوه فقال: اذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه سلامي، وأخبره أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن النصارى أنكروا ذلك علي. ثم خرج إليهم فقتلوه.(1)

ص: 341


1- الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي ج1 ص 131 – 132 ح 217.

ص: 342

النقطة الثانية: عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)

اشارة

تقدم أن من المؤهلات الضرورية في النبي والواسطة بين السماء والأرض هي العصمة، والتي تعني فيما تعنيه أن يكون عند المعصوم علم لدني، يولّد قدرة خارقة وولاية تكوينية للمعصوم، في الوقت الذي لا تسلب منه إرادته في تركه للمعاصي، بل إنه ما زال قادرًا على فعل المعصية، إلا أنه باختياره يتركها.

في ما يتعلق بنبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فإننا –أتباع أهل البيت (عليهم السلام)- نؤمن بعصمته (صلى الله عليه وآله) مطلقًا، بمعنى أننا نقول بعصمته (صلى الله عليه وآله) منذ أن كان فطيمًا وإلى أن انتقل إلى ربه الأعلى، وفي جميع أمور حياته، سواء في ذلك أمور تبليغ الوحي، أو ممارساته اليومية مع أهله وأصحابه، بل وحتى مع أعدائه، فعصمته مطلقة تمامًا، بخلاف غيرنا، حيث ذهب البعض إلى عصمته (صلى الله عليه وآله) في زمن ما بعد البعثة فقط، بل البعض ذهب إلى عصمته فقط في أمور تبليغ الوحي، وأما في غيرها فهو كسائر الناس، وهذا ما يظهر مما رووه عن عبد الله ابن عمرو، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه [وآله] أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه [وآله] بشر يتكلم في الغضب والرضا؟!

ص: 343

فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه [وآله]، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق).(1)

فهذه الرواية واضحة جدًا في تشكيكهم (مجموعة من قريش وفي حياته صلى الله عليه وآله) بعصمته (صلى الله عليه وآله)، وأنه لا ينبغي أن يؤخذ منه كل ما يقول ويفعل، لأنه بشر عادي.

وعلى كل حال، نذكر هنا خطوتين:

الخطوة الأولى: بعض الآيات الدالة على عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
اشارة

الخطوة الأولى: بعض الآيات الدالة على عصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)(2).

يمكن لنا أن نقتنص صفة العصمة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من بعض الآيات القرآنية:

أولًا: كل ما يقوله النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو يفعله هو عين الوحي

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى( (3).

إن هذه الآية الشريفة صريحة في أن كل قول لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو مخالف للأهواء النفسية، وأنه من الوحي السماوي، وهو أمرٌ يدلّ على عصمته مطلقاً...

ص: 344


1- سنن أبي داود- سليمان بن الأشعث السجستاني/ج2 ص 167 باب (3) باب في كتاب العلم ح 3646.
2- انظر: أجوبة الشبهات الكلامية ج2 ص 94 – 96 بتصرف قليل.
3- النجم: 3 - 4.
ثانيًا: تطهير أهل البيت (عليهم السلام) من جميع أنواع الرجس والآثام

قال تعالى: ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا( (1).

تتحدّث هذه الآية الشريفة عن أن إرادة الله ومشيئته تعلّقت برفع جميع أنواع الرجس والذنوب عن ساحة أهل بيت النبوة. وإن التعبير ب- ) يُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ (، و) يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (، صريحة الدلالة في إثبات العصمة لأهل البيت :.

والقدر المتيقن من المقصود من (أهل البيت) والمتفق عليه بين الجميع هو شمول الآية الشريفة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بوصفه المصداق الأبرز لأهل بيت النبوّة.

ثالثًا: الضمانة الإلهية بعصمة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من الضلال

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: )وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا( (2).

تحكي هذه الآية الشريفة عن سعي أعداء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى إضلاله، إلا أن صدر الآية يؤكد على أن فضل الله تعالى الخاص ورحمته قد تعلقت

ص: 345


1- الأحزاب: 33.
2- النساء: 113.

بصيانته (صلى الله عليه وآله) وعصمته من الضلال، كما تؤكد الآية على أن أعداء النبي لن يتمكنوا من إلحاق الضرر والأذى به (صلى الله عليه وآله) أبداً.

رابعًا: مفهوم الآيات الدالة على الطاعة المطلقة للنبي (صلى الله عليه وآله)

هناك العديد من الآيات الكريمة التي دلت على ضرورة طاعة النبي (صلى الله عليه وآله) بالمطلق، والأمر بطاعته بالمطلق يعني عدم جواز مخالفته في كل ما يقول وما يفعل وما يأمر به، وهذا المعنى لا ينسجم إلا مع عصمته (صلى الله عليه وآله)، وإلا، فلو لم يكن معصومًا، لاحتملنا صدور شيء منه مخالف لما يريده الله تعالى، وبالتالي إن أطعناه وقعنا في معصية الله تعالى، وإن لم نطعه وقعنا في المعصية أيضًا بمخالفة تلك الآيات الآمرة بطاعته مطلقًا، إذن، هذه الآيات الكريمة لا تنسجم إلا مع عصمته المطلقة (صلى الله عليه وآله). إذ (إنّ العقل والعقلاء يحكمون بعدم التبعية والطاعة العمياء لشخص، إلا إذا حصل اليقين بأن الشخص «المطاع» لا يحيد عن الطريق القويم مقدار أنملة، وكان أمره كاشفاً عن المصلحة الواقعية.)(1)

ومن تلك الآيات قوله تعالى )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله( (2).

وقوله تعالى )النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ( (3).

ص: 346


1- انظر: أجوبة الشبهات الكلامية ج2 ص98.
2- النساء: 64.
3- الأحزاب: 6.

وقوله تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ(1).

وقوله تعالى)وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا( (2).

وغيرها من الآيات التي جاءت لتؤكد المعنى المشار إليه.

الخطوة الثانية: بعض الشبهات حول عصمته (صلى الله عليه وآله)
اشارة

الخطوة الثانية: بعض الشبهات حول عصمته (صلى الله عليه وآله)(3):

الشبهة الأولى: نسبة الضلال إليه (صلى الله عليه وآله) في القرآن الكريم
اشارة

يقول تعالى) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى( (4).

قد يدّعي البعض أن هذه الآية تصرح بأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان ضالًا فهداه الله تعالى، مما يعني أنه لم يكن معصومًا.

والجواب:

لو كان للضلال معنى واحد هو الانحراف عن جادّة الصواب والوقوع في المعصية لأمكن أن تصح هذه الشبهة، ولكن وبمراجعة المعاني اللغوية للضلال، نجد أن له عدة معاني، وبعضها ينسجم مع العصمة، وبالتالي نحن

ص: 347


1- النساء: 50. وانظر أيضاً المائدة: 92؛ النور: 54؛ محمد: 33؛ التغابن: 12.
2- النساء: 69.
3- الحديث هنا في النبوة الخاصة، أما ما يتعلق بالآيات التي أثيرت فيها شبهات ضد عصمة الأنبياء، فقد تمت الإجابة عنها من علمائنا وفق روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ولمزيد من التفاصيل يراجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن للشيخ جعفر سبحاني.
4- الضحى: 6 - 7.

نختار تلك المعاني المنسجمة مع العصمة، والمنسجمة أيضًا مع الأدلة الدالة على عصمته (صلى الله عليه وآله) كالآيات التي تقدمت الإشارة إليها في الخطوة الأولى.

بيانه:

بمراجعة كتب اللغة نجد التالي:

ضلل: تأتي بعدة معاني(1):

1/ عدم الاهتداء إلى الطريق أو المكان أو قل: فَقْدُ ما يُوَصِّل إلى المطلوبِ، أو سُلُوكُ طَرِيقٍ لا يُوَصِّلُ إِلى المَطْلُوبِ، أو هوَ العُدُولُ عن الطريقِ المُسْتَقِيمِ

2/الضياع.

3/ ضَلَّ الشَّيْءُ: إِذا خَفِيَ وغَابَ، ومنهُ ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ، وماء ضلل: يكون تحت الصخرة لا تصيبه الشمس. ويُقالُ: ضَلَّ الكافِرُ، إِذا غَابَ عن الحُجَّةِ، وضَلَّ النَّاسِي، إذا غابَ عنهُ حِفْظُهُ.

4/ الضالة من الإبل: ما يبقى بمضيعة لا يُعرف ربها. يقال: أَضْلَلْتُ بَعِيرِي، إِذا كانَ مَعْقُولاً فلمْ تَهْتِدِ لِمَكانِهِ، وأَضْلَلْتُهُ إِضْلالاً، إِذا كانَ مُطْلَقاً فَذَهَبَ، ولا تَدْرِي أين أَخَذَ.

وقد يُستعمل هذا المعنى كناية عن الوحدة والانفراد.

5/ ضلّ: ضد الهدى والرشاد. أو قل: كُلُّ عُدُولٍ عن الحَقِّ، عَمْداً كانَ أو سَهُواً، يَسِيراً كانَ أو كثيراً.

ص: 348


1- انظر: العين للفراهيدي وتاج العروس للزبيدي مادة (ضلل).

هذه بعض المعاني التي ذكرتها الكتب اللغوية في معنى مادة (ضلل) أو (ضلّ)، ومعه، فلا موجب لحمل الآية الواردة في شأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) على خصوص المعنى الأخير (ضد الهدى والرشاد) ليُقال بدلالتها على عدم عصمته، إذ مع وجود معانٍ أخرى يمكن حمل الآية عليها، بحيث لا تتعارض مع الأدلة التي دلّت على عصمته (صلى الله عليه وآله) يكون اللازم حملها عليها لا على الضلال بمعنى عدم الهدى والرشاد.

ولهذا، ذكر العلماء عدداً من البيانات لهذه الآية، نذكر منها بيانين(1):

1- الضلالة بمعنى العزلة

إن من بين المعاني اللغوية لكلمة «الضلالة» هي العزلة أو التوحّد، ومن هنا يُطلق على الشجرة المنفردة وسط الصحراء «الشجرة الضالة». ولمّا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يعيش الوحدة واليتم والعزلة بين أبناء قومه ومجتمعه، وقد جمع إلى اليتم من جهة الأب والأم، اعتزال الناس وعدم مشاركتهم في عباداتهم الوثنية، فقد كان مثل الشجرة الوحيدة، يمضي حياته المتوحّدة حتى شملته الألطاف الإلهية، وأخرجته من هذه الحالة.

2- الضلالة بمعنى الشخص الضائع في قومه

إن من بين المعاني اللغوية للضلالة هو ضياع منزلة الفرد المرموق وشخصيته بين أفراد قومه. كأن يكون الفرد متصفاً بأعلى المراتب من الناحية

ص: 349


1- انظر: أجوبة الشبهات الكلامية ج2 ص 104 – 105.

العلمية والأخلاقية والروحية، ومع ذلك لا يوليه قومه المكانة اللائقة به، بل ويتجاهلونه ويزدرونه أيضاً. من هنا فإن مثل هذا الفرد سيعيش حالة من الضياع. وقد عدّ اللغويون هذا المعنى من المعاني الرئيسة لكلمة «ضلّ»(1).

وعليه، يكون مراد الآية: أن الله تعالى قد أعاد إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مكانته التي تجاهلها قومه وأضاعوها. وبذلك يكون الله تعالى قد أعاد منزلة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى نصابها الصحيح(2).

حصيلة الكلام: لمّا كانت هذه الآية المشتملة على كلمة «ضالاً» غير مسبوقة بأيّ ذكر للمعاصي والذنوب، فلا تتناسب كلمة (ضالاً) هنا مع اقتراف المعاصي، وإنما هي تتحدّث عن يتم النبي (صلى الله عليه وآله) وغربته في قومه، وعليه فهي تدل على الضلالة بمعنى «الضياع» و«الغربة بين أبناء قومه».

الشبهة الثانية: نسبة الذنب والمغفرة إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)

قال تعالى: )إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا( (3).

قد يتوهم البعض: إن هذه الآية تصرح بأنه كان للنبي (صلى الله عليه وآله) ذنب فغفره الله تعالى له، وزاده أنه غفر له ذنوبه المستقبلية، وهذا يعني أنه (صلى الله عليه وآله) غير معصوم، ولذلك احتاج إلى غفران ذنوبه!

ص: 350


1- أُنظر: الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، ج 7، مادة (ضل)، ص 8.
2- أُنظر: السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء،ص150؛ الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص93.
3- الفتح: 1 - 2.

والجواب:

أن من الأخطاء المعرفية الكبيرة التي يقع فيها البعض هو أنه يفسر القرآن الكريم حسب ما يرد فيه من ألفاظ، من دون أن يرجع إلى أهل الاختصاص في التفسير، ومن دون أن يرجع إلى الروايات الواردة في الآية، وهذا خطأ معرفي لا بد من الالتفات إليه والابتعاد عنه، فتفسير الآية بأنها تعني عدم عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) سببه هذه الغفلة، إذ لو رجعنا إلى الروايات المفسرة لها، وإلى كلمات اللغويين في معنى الذنب، لوجدنا تفسيرًا بل تفاسير أخرى تنسجم تمام الانسجام مع العصمة، ونحن نذكر هنا رواية تبين جوابًا واحدًا من تلك الأجوبة يكفي في المقام:

روى الشيخ الصدوق في العيون بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال في حديث طويل:

حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فما معنى قول الله: « لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ »؟ قال الرضا (عليه السلام): لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبًا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنمًا، فلما جاءهم (صلى الله عليه وآله) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ. ما سَمِعْنا بِهذا

ص: 351

فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ(1) فلما فتح الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله) مكة قال له: يا محمد (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر؛ لأن مشركي مكة أسلم بعضهم، وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورًا بظهوره عليهم، فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.(2)

إن هذه الرواية واضحة جدًا في أن الذنب المقصود هنا ليست هي معصية الله تعالى، وإنما هو عدم انسجام توجّهات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مع نزوات قريش والمشركين، فاعتبروا دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) ذنبًا بحقهم، وهذا لا يمس عصمته (صلى الله عليه وآله) لا من قريب ولا من بعيد كما هو واضح.

إشارة(3):

يظهر من التأمل في عدة روايات حول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه لم يكن معصومًا فحسب، وإنما كان (صلى الله عليه وآله) نبيًا منذ ولادته، وإذا ثبت كونه نبياً كذلك، فقد ثبتت عصمته حسبما تقدم من ضرورة العصمة في الواسطة بيننا وبين السماء، ومعه، فيكون عمر (الأربعين) هو عمر وصوله (صلى الله عليه وآله) إلى مرتبة

ص: 352


1- ص 3 – 7.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق باب 15 ح1 ص 179 – 180.
3- تجد تفاصيل هذه الإشارة في كتاب: دروس منهجية في شرح عقائد الإمامية للشيخ حسين عبد الرضا الأسدي (ج1 ص 296 – 298) الإشارة الثانية: ديانة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قبل بعثته في عمر الأربعين.

(الرسالة) بعد (النبوة) أو هي الفترة التي أُمر بها (صلى الله عليه وآله) بالصدع بالأمر وإظهاره وتبليغ الناس بالرسالة من الله تعالى.

ومما يُشير إلى هذه الحقيقة هو ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يقول: (ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه...)(1)

وكذا ما روي عنه (صلى الله عليه وآله): كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين.(2)

ص: 353


1- نهج البلاغة ج2 ص 157.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج1 ص 183 و عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي ج4 ص 121.

ص: 354

النقطة الثالثة: في أنه (صلى الله عليه وآله) كان أمّيًا

نص القرآن الكريم على أن النبي (صلى الله عليه وآله) أُمّي، وأنه لم يكتب بيده، قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ)(1)

وقال تعالى (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ)(2) فما هو معنى كونه (صلى الله عليه وآله) أُمّيًّا؟

لتتضح الصورة جيدًا نذكر التالي:

1/من الواضح أن معنى (الأُمّي) الظاهر لدينا هو: من لا يعرف القراءة ولا الكتابة، إذ إن (معنى الأُمِّيّ: المَنْسُوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمُّه، أي لا يَكتُبُ، فهو في أَنه لا يَكتُب أُمِّيٌّ، لأَن الكِتابة هي مُكْتسَبَةٌ، فكأَنه نُسِب إلى ما يُولد عليه، أي على ما وَلَدَته أُمُّه عليه)(3)

وهذا المعنى يُعتبر نقصًا في الإنسان كما هو واضح، ومن هذه الناحية

ص: 355


1- الأعراف 157.
2- العنكبوت 48.
3- لسان العرب لابن منظور ج12 مادة (أمم) ص 34.

لا يصح أن يوصف النبي (صلى الله عليه وآله) بأي نقص، إذ إنه (صلى الله عليه وآله) الإنسان الكامل الذي امتلك كل كمال ممكن للإنسان وفي أعلى مراتبه الممكنة له.(1)

هذا من جهة.

2/ من جهة أخرى، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) حيث جاء بما خالف به قومه، وسفّه به أحلامهم، وفضح أكاذيبهم وضلالهم، فإن أعداءه عملوا على أن يتخلصوا مما جاء به (صلى الله عليه وآله) بطريقة وبأخرى، ولو بالبحث عن أي جهة يمكنهم من خلالها إضعاف منزلة ومقام النبي (صلى الله عليه وآله) في صدور الناس، ولذلك اتهموه بالشاعر والساحر والكاهن والمجنون.

فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقرأ ويكتب قبل البعثة، لاتّهموه بأن القرآن من تأليفه وكتابته، وهذا هو ما حصل رغم أنه لم يقرأ كتابًا ولم يكتب قبل بعثته، قال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(2)

3/وللجمع بين هاتين الجهتين يُقال التالي:

إنه (صلى الله عليه وآله) حيث إنه معصوم، والعصمة تستبطن علمًا لدنيًا، وتقتضي أن يكون النبي أعلم أهل زمانه، فمن غير المعقول -والحال هذه- أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) جاهلًا بالقراءة والكتابة وحاشاه، ولكن وحتى يدفع عن نفسه

ص: 356


1- ونفس الكلام يُقال في كل الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
2- الفرقان 4 -5.

التهمة، وحتى يقطع على الأعداء منفذًا لاتهامه بالكذب أو أخذ القرآن من غيره من الكهنة وما شابه، فإنه لم يمارس القراءة الكتابة رغم علمه وقدرته عليهما.

ويظهر من بعض الروايات الشريفة أنه (صلى الله عليه وآله) مارس القراءة بل وربما الكتابة، إذ التهمة قد باتت واضحة البطلان بعد إتيانه (صلى الله عليه وآله) بالمعجزة تلو الأخرى مما يثبت حقانيته وارتباطه بالسماء.

ومعه، فيكون معنى كونه أمّيًا هو أنه لم يمارس الكتابة وإن كان عارفاً بها.

هذا، وقد فُسّر الأُمّي بأنه المنسوب إلى أم القرى وهي مكة المكرمة، وهو ما جاء في بعض الروايات، فقد روي عن جعفر بن محمد الصوفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) وقلت له: يا بن رسول الله لم سمي النبيُّ الأمي؟ قال: ما يقول الناس؟ قلت: يقولون: إنما سُمي الأمي لأنه لم يكتب. فقال: كذبوا، عليهم لعنة الله، أنى يكون ذلك والله تعالى يقول في محكم كتابه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(1) فكيف يعلمهم ما لم يحسن؟ والله لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)) يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لسانًا، وإنما سُمّي الأُمّي؛ لأنه كان من مكة، ومكة من أمهات القرى، وذلك قول الله في كتابه: (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرىٰ وَمَنْ حَوْلَها)(2).(3)

ص: 357


1- ا لجمعة 2.
2- الأنعام 92
3- بصائر الدرجات للصفار ص 245 ب4 ح 1 وانظر الفصول المهمة للحر العاملي ج1 ص 413 باب 103 - إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ ويكتب بكل لسان. ح [ 559 ] 1.

وعن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلان): إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقرأ ما يكتب، ويقرأ ما لم يكتب.(1)

فهاتان الروايات تبينان أنه (صلى الله عليه وآله) كان عنده القدرة على القراءة والكتابة-على الأقل-، إن لم نقل بدلالاتهما على فعلية كونه قارئًا كاتبًا وأنه يُحسن القراءة والكتابة بالفعل.

ومثلهما في الدلالة على تلك المعرفة: الرواية المتفق عليها من أنه (صلى الله عليه وآله) طلب أداة وكتفًا ليكتب للمسلمين ما لن يضلوا بعده أبدًا، إذ كيف يطلب ذلك وهو لا يعرف القراءة والكتابة؟!

ص: 358


1- بصائر الدرجات للصفار ص 247 ب4 ح5 / والفصول المهمة للحر العاملي ج1 ص 413 باب 103 ح [ 561 ] 3.

النقطة الرابعة: النبوة الخاتمة

اشارة

إن صريح القرآن الكريم والروايات الشريفة على أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو آخر الأنبياء والمرسلين، وأنه لا نبي بعده (صلى الله عليه وآله) وكل من يدّعي النبوة بعده فهو كذّاب أشر.

قال تعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(1)

وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حضرت النبي (صلى الله عليه وآله) الوفاة... قال النبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمون حوله مجتمعون: أيها الناس، إنه لا نبي بعدي ولا سنة بعد سنتي، فمن ادّعى بعد ذلك فدعواه وبدعته في النار، فاقتلوه، ومن اتبعه فإنه في النار...(2)

وعن أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ الله عَزَّ ذِكْرُه خَتَمَ بِنَبِيِّكُمُ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَه أَبَداً، وخَتَمَ بِكِتَابِكُمُ الْكُتُبَ، فَلَا كِتَابَ

ص: 359


1- الأحزاب 40
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج4 ص 163 باب (ما يجب من احياء القصاص) ح 5370.

بَعْدَه أَبَداً...(1)

فالمسألة من هذه الناحية واضحة.

والمهم هنا أن نذكر الإشارات التالية:

إشارات

الإشارة الأولى: الخاتمية تستلزم تمام البيان

إن كونه (صلى الله عليه وآله) خاتم النببين يستلزم أن يكون قد بيّن الشريعة بتمامها، بحيث لا تحتاج إلى نبي آخر يتمم التشريع، وهذا هو مفاد ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «خطب رسول الله (عليه السلام) في حجَّة الوداع فقال: يا أيُّها الناس، والله ما من شيء يُقرِّبكم من الجنَّة ويباعدكم من النار إلَّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يُقرِّبكم من النار ويباعدكم من الجنَّة إلَّا وقد نهيتكم عنه...»(2).

وعن حمّاد بن أبي أُسامة، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده رجل من المغيرية، فسُئِلَ عن شيء من السُّنَن، فقال: «ما من شيء يحتاج إليه وِلْدُ آدم إلَّا وقد خرجت فيه السُّنَّة من الله ومن رسوله، ولولا ذلك ما احتجَّ».

فقال المغيري: وبِمَ احتجَّ؟

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «قوله: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

ص: 360


1- الكافي للكليني ج1 ص 269 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ بِمَنْ يُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى وكَرَاهِيَةِ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِالنُّبُوَّةِ ح3.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74).

نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً[(1)، فلو لم يُكمِل سُنَّته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس ما احتجَّ به»(2).

وعن محمّد بن حكيم، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: «أتاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما يستغنون به في عهده، وما يكتفون به من بعده: كتاب الله وسُنَّة نبيِّه»(3).

الإشارة الثانية: الخاتمية لا تنافي الحاجة إلى الإمام

أن كمال الدين وخاتمية الرسالة لا يتنافى مع الحاجة إلى البيان من خلال الواسطة (وهم الأئمة عليهم السلام)، فالقرآن الكريم يصرح بأن فيه كل شيء، قال تعالى: (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىٰ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ 138)(4) قال تعالى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىٰ وَرَحْمَةً وَبُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)(5)

وهذا ما أكّدته النصوص الروائية، فقد روي عَنْ مُرَازِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى أَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى والله مَا تَرَكَ الله شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْه الْعِبَادُ؛ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا وقَدْ أَنْزَلَه الله فِيه.(6)

ص: 361


1- المائدة: 3.
2- بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار (ص 537 و538/ باب 18/ ح 50).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 270/ باب 38/ ح 361).
4- آل عمران 138.
5- النحل 89.
6- الكافي للكليني ج1 ص 59 بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وأَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ وجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه إِلَّا وقَدْ جَاءَ فِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ ح1.

ولأجل ذلك، كان أحد الطرق الدالة على صدق الحديث هو عرضه على القرآن وكونه موافقًا له أو على الأقل ليس مخالفًا له، على تفصيل يذكر في علم أصول الفقه.

ولكنه مع ذلك لم يستغن عن الشارح والمبيِّن لمراداته، أي إنه ورغم كماله، وعدم نقصه، ورغم إتمام التبليغ من النبي (صلى الله عليه وآله) له، ولكن ذلك لا يعني عدم حاجته إلى البيان، ولا أن حاجته للبيان تعني نقصه أو عدم تبليغه كاملًا، وهذا ما أكّدته النصوص أيضًا.

فعَنْ أَبِي الْجَارُودِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَاسْأَلُونِي مِنْ كِتَابِ الله، ثُمَّ قَالَ فِي بَعْضِ حَدِيثِه: إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) نَهَى عَنِ الْقِيلِ والْقَالِ وفَسَادِ الْمَالِ وكَثْرَةِ السُّؤَالِ. فَقِيلَ لَه: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، أَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ الله؟ قَالَ: إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وقَالَ (ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً) وقَالَ (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).(1)

وعَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): مَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيه اثْنَانِ إِلَّا ولَه أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ، ولَكِنْ لَا تَبْلُغُه عُقُولُ الرِّجَالِ.(2)

ص: 362


1- الكافي للكليني ج1 ص 60 بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وأَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ وجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه إِلَّا وقَدْ جَاءَ فِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ ح5.
2- الكافي للكليني ج1 ص 60 بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وأَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالِ والْحَرَامِ وجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه إِلَّا وقَدْ جَاءَ فِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ ح6.

فالكمال –مقابل النقص- لا يعني الوضوح للجميع، ولا يعني عدم الاستغناء عن الوسيط المبيِّن والشارح، ولا أن الوسيط يعني أنه أصيل، تمامًا كما في شرح أستاذ لكتاب معين، فالكتاب قد يكون كاملًا في مادته، ولكنه ليس واضحًا للجميع، فيقوم الأستاذ ببيان مراداته من دون أن يأتي بشيء جديد غير موجود فيه.

فالإمامة إذن ضرورة في التبليغ بهذا المعنى، رغم كمال التبليغ وخاتمية النبوة.

إن قلت:

إذا كانت مهمة المعصوم هي هذه فقط، فما هو فرقه عن بقية الصحابة والفقهاء الذين كانوا أيضًا يبينون الدين ويشرحونه؟ فما هو الملزِم لاتّباع خصوص المعصومين دون غيرهم؟

قلت:

إن العقل يحكم –وبدون تردد- بضرورة تقديم مَنْ عنده علم خاص (لدني) معصوم على كل من عداه ولو كان عنده من العلم الحصولي ما يجعله عبقري زمانه، ما دام لم يحصل على العلم الخاص ولم يصل إلى مرتبة العصمة.

وهكذا كان أهل البيت (عليهم السلام)، فإنهم زُوّدوا بالعلم اللدني والعصمة، ولذلك لم يسجل التاريخ اعتراضًا عليهم عندما كانوا يفتون بشيء ما أو يعلنون أن ما يقولونه هو قول النبي (صلى الله عليه وآله) أو قول الله تعالى، وهم (عليهم السلام) كانوا

ص: 363

يقطعون بنسبة ما يقولونه إلى الله تبارك وتعالى، ولم يكن غيرهم ليفعل ذلك أصلًا.

عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وحَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وغَيْرِه قَالُوا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي، وحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي، وحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ، وحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ، وحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليهم السلام)، وحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله)، وحَدِيثُ رَسُولِ الله قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ.(1)

وهذا المعنى يحجب قبول قول الآخر على نحو الإطلاق، لاحتمال خطئه، لمكان عدم عصمته.

الإشارة الثالثة: الخاتمية تعني انقطاع الوحي الرسالي لا مطلق الوحي

الإشارة الثالثة: الخاتمية تعني انقطاع الوحي الرسالي لا مطلق الوحي.(2)

إن ختم النبوة يستلزم عدم نزول الوحي برسالة أو نبوة جديدة، ولكنه لا يعني عدم نزول الوحي أصلًا، وإنما يمكن أن ينزل الوحي لكن لا بصيغة نبوة، وإنما بصيغة (التحديث)، وهذه ظاهرة قرآنية واضحة، فالسيدة مريم والسيدة أم موسى (عليهما السلام) كانتا محدَّثتين، رغم وضوح أنهما ليستا من الأنبياء، قال تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلىٰ نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)(3)

ص: 364


1- الكافي للكليني ج1 ص 53 بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ والْحَدِيثِ وفَضْلِ الْكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ ح14
2- تجد أدلة وتفاصيل الوحي غير الرسالي في أواخر الجزء الرابع من هذا الكتاب، تحت عنوان: المقالة السادسة: الإيحاء إليهم (عليهم السلام).
3- آل عمران 42 – 43.

وقال تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(1)

ومعه، فلا مانع من نزول الوحي -أي المَلَك- على الإمام المعصوم بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا يعني هذا دعوى أنهم أنبياء، كما هو واضح.

وقد صرّح الأئمة (عليهم السلام) بهذه الحقيقة في أكثر من مناسبة.

فعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنَّمَا الْوُقُوفُ عَلَيْنَا فِي الْحَلَالِ والْحَرَامِ، فَأَمَّا النُّبُوَّةُ فَلَا.(2)

وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ مُحَدَّثاً. فَقُلْتُ: فَتَقُولُ: نَبِيٌّ؟! قَالَ: فَحَرَّكَ بِيَدِه هَكَذَا [كأنه رفع يده وأشار برفع يده إلى نفى النبوة(3)

ثُمَّ قَالَ: أَوْ كَصَاحِبِ سُلَيْمَانَ أَوْ كَصَاحِبِ مُوسَى أَوْ كَذِي الْقَرْنَيْنِ...(4)

وعَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ الله (عليهما السلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: مَا مَنْزِلَتُكُمْ ومَنْ تُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى. قَالَ (عليه السلام): صَاحِبُ مُوسَى وذُو الْقَرْنَيْنِ،

ص: 365


1- القصص 7.
2- الكافي للكليني ج1 ص 268 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ بِمَنْ يُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى وكَرَاهِيَةِ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِالنُّبُوَّةِ ح2.
3- هامش المصدر.
4- الكافي للكليني ج1 ص 269 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ بِمَنْ يُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى وكَرَاهِيَةِ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِالنُّبُوَّةِ ح4.

كَانَا عَالِمَيْنِ، ولَمْ يَكُونَا نَبِيَّيْنِ.(1)

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) يَقُولُ: الأَئِمَّةُ عُلَمَاءُ صَادِقُونَ مُفَهَّمُونَ مُحَدَّثُونَ.(2)

الإشارة الرابعة: الخاتمية لا تنافي التطور

إن ختم النبوة لا يستلزم الجمود والتخلف وعدم مواكبة التطورات الحضارية، كلا، وإنما في الإسلام خصوصيات جعلت منه مواكبًا لكل أنواع التطورات من دون أي تلكؤ، ومن تلك الخصوصيات التالي:

أولًا: أن القرآن الكريم فيه خصوصية أنه سيال متجدد مع الزمن، وهذا من تجليات إعجازه، ولذلك كتب العديد من الباحثين في الآيات التي تشير إلى الاكتشافات العلمية الحديثة ولو من طرف خفي لا يفهمه إلا العلماء في المجالات العلمية.

فرغم أنَّه نزل علىٰ صدر نبيِّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله) قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، إلَّا أنَّ آياته ما زالت غضَّة طريَّة كأنَّها وُلِدَت اليوم، وما زالت نظرياته في مختلف المجالات الحياتية ثابتة لم تُنقَض، ولن تُنقَض أبداً.

روي أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله (عليه السلام): ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلَّا غضاضةً؟ فقال: «لأنَّ الله لم يُنْزِله لزمان دون زمان، ولا لناس

ص: 366


1- الكافي للكليني ج1 ص 269 بَابٌ فِي أَنَّ الأَئِمَّةَ بِمَنْ يُشْبِهُونَ مِمَّنْ مَضَى وكَرَاهِيَةِ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِالنُّبُوَّةِ ح5.
2- الكافي للكليني ج1 ص 271 بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ ع مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ ح3.

دون ناس، فهو في كلِّ زمان جديد، وعند كلِّ قوم غضٍّ إلىٰ يوم القيامة»(1).

وقيل لجعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام): لِمَ صار الشعر يُمَلُّ ما أُعيد منها، والقرآن لا يُمَلُّ؟ فقال: «لأنَّ القرآن حجَّة علىٰ أهل الدهر الثاني، كما هو حجَّة علىٰ أهل الدهر الأوَّل، فكلُّ طائفة تتلقّاه غضًّا جديداً، ولأنَّ كلَّ امرئ في نفسه متىٰ أعاده وفكَّر فيه تلقّىٰ منه في كلِّ مرَّة علوماً غضَّةً، وليس هذا كلُّه في الشعر والخُطَب»(2).

ثانيًا: أن هذه الأحكام التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) ثابتة ومستمرة إلى يوم القيامة، ولكن ثباتها واستمرارها لا يتنافى مع التطور الحضاري والثقافي باعتبار أنه يوجد في الشريعة عنصران: عنصر ثابت وعنصر متغير.

فعنصر الثبات هو قانون إسلامي لا يقبل التغير ولا التبدل، مهما اختلفت الظروف وتطورت الحياة، كوجوب الصلاة، فالصلاة واجبة على المسلم، وهذا حكم لا يتغير مهما كانت الظروف والتطورات التكنلوجية. وهكذا الحال في وجوب الصوم وحرمة شرب الخمر وغيرها، فهذه أحكام ثابتة لا تتغير.

وأما عنصر المتغير: فهو قانون إسلامي له القابلية على التجدد وعلى الانطباق على ما يأتي به الزمان من مفردات، فهو أشبه بالقاعدة الكلية التي تنسجم مع متغيرات الحياة، مثل قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ

ص: 367


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق 1: 93/ ح 32.
2- المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطيَّة الأندلسي 1: 36.

مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ ا لْخَيْلِ)(1) فإنه ليس المقصود هو تطوير الجيش بالأسلحة القديمة، وإنما المقصود هو إعداد القوة حسب الظرف المعاش، فاليوم مثلًا يأمر الإسلام بتطوير الجيش وبنائه وفق النظريات الحديثة للتسلح والتطوير.

إن القرآن في هذه الآية كأنه يريد أن يقول للمسلمين: ابنوا وأسّسوا جيشاً مُعدّاً بالأسلحة، ومهيأً لأي حركة متوقعة، وفي ذلك الوقت كان مصداق هذا الإعداد هو رباط الخيل، أما في هذا الزمن فلا معنى لأن نلتزم بتلك الكلمة، بل الصحيح هو أن نُبقي على القاعدة الاصلية وهي (إعداد للجيش) لكن نغير الطريقة والوسيلة، فنعد الجيش ونمده بالأسلحة الحديثة، وبذلك نكون ممتثلين لأمر الله عز وجل.

ص: 368


1- الأنفال 60.

المحتويات

تمهيد 7

ما يترتب على إنكار العدل الإلهي. 7

النقطة الأولى:ضرورةضبط المنهج المعرفي 11

من عوامل الاختلاف بين المسلمين. 14

النقطة الثانية: ما هو الهدف من الفعل الإلهي؟ 17

الخطوة الأولى 17

الخطوة الثانية 19

الخطوة الثالثة: ما هو الحد الأدنى من النجاح المقبول في... 20

ثلاثية: حب الذات والمعرفة والإرادة. 21

الأول: المعرفة. 22

الثاني: الإرادة. 22

ملحوظتان: 23

الملحوظة الأولى: لا مفرّ من الفقر الذاتي للممكن. 23

الملحوظة الثانية: مركز الكمال هو الكمال اللا متناهي. 24

النقطة الثالثة: تعريف العدل 27

معاني العدل: 27

المعنى الأول: التوازن 27

المعنى الثاني: التساوي 28

المعنى الثالث: إعطاء كل ذي حق حقه 28

ص: 369

المعنى الرابع: إعطاء كل ذي قابلية ما هو مستعد له 31

النقطة الرابعة: 33

الحكمة 33

الحكمة لغة: 33

الحكمة اصطلاحًا: 34

وهنا إشارات: 35

الإشارة الأولى: الفرق بين العدل والحكمة. 35

الإشارة الثانية: الوجه في أن الحكيم لا يُسأل عما يفعل. 35

الإشارة الثالثة: كفاية العلم الثبوتي بالحكمة. 36

الإشارة الرابعة: وجه الحكمة في بعض الأفعال روائياً. 36

الإشارة الخامسة: أقسام الحكمة 38

النقطة الخامسة: مرجع صفتي العدل والحكمة 45

النقطة السادسة: الإبداع في الفعل الإلهي 49

النقطة السابعة: هل الظلم ممتنع ذاتاً على الله تعالى 51

الخطوة الأولى: 51

الخطوة الثانية: 52

الخطوة الثالثة: 52

الخطوة الرابعة: 54

النقطة الثامنة: 55

مستويات العدل 55

المستوى الأول: العدل الفقهي 55

المستوى الثاني: العدل الأخلاقي )أو العدالة الكبرى( 56

المستوى الثالث: العدل الاجتماعي 60

ص: 370

النقطة التاسعة: الحق وإطلاقاته 63

المعنى الأول: صفة ذاتية. 63

المعنى الثاني )وهو المقصود هنا في بحثنا في العدل الإلهي(: إنه صفة فعلية. 64

الإشارة الأولى: إطلاقات الحق. 64

الإشارة الثانية: ما هو منشأ الاستحقاق؟ 67

النقطة العاشرة: نتائج مناهج التفكير لدى الأشاعرة والمعتزلة والإمامية 73

نتائج المنهج الأول: للأشاعرة: 73

نتائج المنهج الثاني: للمعتزلة: 75

نتائج المنهج الثالث: للإمامية: 76

النقطة الحادية عشرة: لماذا لا يصدر الفعل؟ 79

النقطة الثانية عشرة: القوانين التفضيلية للإنسان 85

القانون الأول: الاختيار 85

القانون الثاني: تكريم بني آدم. 88

المصداق الأول: الخلافة. 88

المصداق الثاني: التعليم المباشر من الله تعالى. 89

المصداق الثالث: حامل الأمانة. 89

المصداق الرابع: أن الأنبياء هم من البشر. 90

القانون الثالث: تسخير كل شيء للإنسان. 90

القانون الرابع: تمكين الإنسان المؤمن. 92

النقطة الثالثة عشرة: قوانين العالم المحسومة 95

القانون الأول: قانون الأسباب والمسببات. 95

القانون الثاني: التنوع. 96

القانون الثالث: عالمنا هو عالم السعي والشِدّة والطلب. 96

ص: 371

القانون الرابع: الغموض والجهل النسبي. 99

القانون الخامس: قانون اللمسة الغيبية. 101

ما هي أسباب اللمسة الغيبية )التوفيق، التسديد، الهداية...(؟ 102

المس ألة الأولى: الحسن والقبح العقليان 107

النقطة الأولى: ما هو معنى عقلية أو شرعية الحسن والقبح؟ 107

النقطة الثانية: تقسيم الأفعال عند العدلية. 108

النقطة الثالثة: تقسيم الحسن والقبح. 110

النقطة الرابعة: ما هو دليل الأشاعرة؟ 112

النقطة الخامسة: أدلة التحسين والتقبيح العقليين. 118

المس ألة الثانية: الإرادة الإنسانية 123

المبحث الأول: الجبر الكلامي 12 5

الأمر الأول: معنى الجبر: 125

الأمر الثاني: أدلة القائلين بالجبر: 126

الدليل الأول: عموم العلم الإلهي ولزوم وقوعه. 126

الدليل الثاني: عموم القدرة الإلهية النافي لكل قدرة أخرى. 132

المبحث الثاني: الجبر الاجتماعي 13 9

النقطة الأولى: معنى الجبر الاجتماعي 139

النقطة الثانية: مفاصل أساسية وفروق بين الجبر الكلامي... 140

المفصل الأول: وجود القوة القاهرة وعدمه. 140

المفصل الثاني: الاختيار علة ناقصة للفعل. 141

المفصل الثالث: سلب الإرادة وعدمه. 142

المفصل الرابع: سلب الإرادة وسوء الإرادة. 143

المفصل الخامس: سلب الإرادة المؤقت والدائمي. 144

ص: 372

المفصل السادس: سلب الإرادة والكسل. 145

المفصل السابع: سلب الإرادة أو فرض الموانع. 147

الشكل الأول: الجبر القانوني التشريعي. 148

الشكل الثاني: الجبر بالتهديد والاضطرار. 148

النقطة الثالثة: الجواب عن الجبر الاجتماعي 150

الخطوة الأولى: 150

الخطوة الثانية: 150

الخطوة الثالثة: 151

الخطوة الرابعة: 152

المس ألة الثالثة: التفويض 155

النقطة الأولى: معنى التفويض. 155

النقطة الثانية: خلفية القول بالتفويض. 156

النقطة الثالثة: مناقشة نظرية المفوضة: 157

الإشارة الأولى: نصوص قرآنية في عدم استقلال الإنسان بفعله. 161

الإشارة الثاني: استعمالات التفويض. 163

الأول: التفويض التكويني: 164

الثاني: التفويض التشريعي: 165

المس ألة الرابعة: في الأمر بين الأمرين 167

حقيقة الاختيار في فعل الإنسان. 167

المس ألة الخامسة: القضاء والقدر 179

النقطة الأولى: تحرير محل النزاع في القضاء والقدر. 179

النقطة الثانية: معنى القضاء والقدر الإلهيين: 182

النقطة الثالثة: خصائص القضاء والقدر الإلهيين: 184

ص: 373

النقطة الرابعة: أقسام القضاء والقدر: 188

النوع الأول: القضاء والقدر التكوينيان في خلق الموجودات: 190

النوع الثاني: القضاء والقدر التكوينيان في أفعال الإنسان: 190

المس ألة السادسة: الشرور في العالم 195

الشبهة الأولى: للثنوية: 195

الجواب الأول: لأفلاطون. 196

الجواب الثاني: لأرسطو: 197

الشبهة الثانية: 199

الشكل الأول: الشكل المقنّن: 205

الشكل الثاني: الشكل غير المقنن: 206

النمط الأول: التعامل السلبي: 206

النمط الثاني: التعامل الإيجابي: 208

المس ألة السابعة: الحكمة من خلق الشيطان 211

الخطوة الأولى: عدم العلم بملاكات الأفعال الحقيقية. 211

الخطوة الثانية: منشأ شرّية الشيطان. 212

الخطوة الثالثة: شرّية الشيطان كانت باختياره لا بالجبر. 212

الخطوة الرابعة: تقديم التعويض الإلهي للشيطان. 214

الخطوة الخامسة: الشيطان لا يسلب اختيار الإنسان. 216

الخطوة السادسة: الشيطان إحدى وسائل الاختبار. 218

المس ألة الثامنة: التفاوت بين البشر 221

الخطوة الاولى: واقعية التفاوت بين البشر. 221

الخطوة الثانية: الاختلاف في توظيف التفاوت. 222

الخطوة الثالثة: ما هو سبب التفاوت. 223

ص: 374

الأساس الأول: الاختيار الإنساني 224

الأساس الثاني: السنن الإلهية 225

السُنّة الأولى: نظام الأسباب والمسببات: 225

السُنة الثانية: سنة الابتلاء والاختبار. 226

الأساس الثالث: تمييزات بين الإرادة وبعض المفاهيم 227

الخطوة الرابعة: بيان قضايا خمس مرتبطة بحدوث التفاوت بين البشر 228

القضية الأولى: أن الخطوة الأولى من الإنسان 228

القضية الثانية: العلم الإلهي الأزلي 229

القضية الثالثة: أن المدار هو على الإرادة الحقيقية للإنسان. 232

القضية الرابعة: سنة العقوبة الدنيوية. 233

القضية الخامسة: بروز بعض المفاهيم بالحرمان. 234

الخطوة الخامسة: البعد التربوي لهذا البحث. 237

المس ألة التاسعة: في الألم والعوض 241

الخطوة الأولى: في الألم. 241

الخطوة الثانية: في الأعواض. 244

الملحوظة الأولى: من الفروق بين الثواب والعوض. 248

الملحوظة الثانية: لا استحقاق للثواب مع سوء الاختيار. 253

الملحوظة الثالثة: الانتصاف: 253

المس ألة العاشرة: تعذيبأولاد الكافرين 257

الشرط الأول: البيان من المولى: 258

الشرط الثاني: توفر شروط التكليف: 258

الإشارة الأولى: التكليف ليس شرطاً في ترتب الآثار الوضعية. 258

الإشارة الثانية: عدم البيان يُسقط التكليف والعقوبة. 259

ص: 375

الإشارة الثالثة: حالتان لعدم البيان. 260

الإشارة الرابعة: اختبار غير المكلفين يوم القيامة. 260

الإشارة الخامسة: دخول أطفال المؤمنين الجنة بغير حساب. 261

البداء 263

الثابت الأول: العلم الإلهي المطلق والشامل. 264

الثابت الثاني: لا تغير في ذاته ولا في صفاته. 265

الثابت الثالث: بطلان نظرية )موت الإله( المعتزلية. 266

الثابت الرابع: العلاقة بين العلة والمعلول هي علاقة جعلية. 267

الثابت الخامس: محدودية الإنسان تمنع من إحاطته بالله تعالى. 268

الثابت السادس: لا ضرورة لكشف العالِم كلَّ علومه. 269

إشارة: في أسباب حسن البداء وسوئه: 271

أولا: هناك أسباب تؤدي إلى تغيير التقدير إلى ما هو الأفضل. 272

ثانيًا: هناك أسباب تؤدي إلى تغيير التقدير إلى ما هو الأسوأ. 275

المبحث الأول: النبوة العامة 279

المس ألة الأولى: فيأن بعثة الأنبياءأمر حسن. 281

شبهة البراهمة: 284

المس ألة الثانية: وجوب البعثة 287

البيان الأول: إن التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية. 287

الملحوظة الاولى: معنى الفترة. 289

الملحوظة الثانية: مهمة الأنبياء هي البلاغ. 292

البيان الثاني: ضرورة الوسيط في الحياة: 293

البيان الثالث: ضرورة الوسيط من قِبل السماء لدفع مخاوف الإنسان. 298

الإحساس الأول: الرعب 301

ص: 376

الإحساس الثاني: التعب. 301

الإحساس الثالث: التيه. 302

الإحساس الرابع: الخوف من الغيب. 302

النقطة الأولى: لا اختيار كاملاً. 303

النقطة الثانية: كيفية تدخّل السماء لتقديم العون. 304

المس ألة الثالثة: خلفيات البعثة في القرآن والسنة. 307

الخلفية الأولى: تنظيم علاقة الانسان مع خالقه. 307

الخلفية الثانية: رفع الاختلاف. 308

الخلفية الثالثة: التزكية والتعليم. 309

الخلفية الرابعة: الشهادة. 310

الخلفية الخامسة: الهداية. 310

الخلفية السادسة: القدوة 311

الخلفية السابعة: الانتماء. 311

الخلفية الثامنة: المشروع الدنيوي. 312

المس ألة الرابعة: مؤهلات النبي 31 7

أو :ًال العصمة. 318

فما هي العصمة؟ ولماذا هي ضرورة؟ 318

ضرورة العصمة: 323

الإشارة الأولى: الفرق بين العصمة والعدالة: 324

الإشارة الثانية: ما يتفرع على إثبات العصمة للنبي. 326

ثانيًا: المعجزة: 327

الإشارة الأولى: المعجزة إحدى طرق الإثبات. 327

الإشارة الثانية: مستويات الأفعال من حيث العلم بعللها. 329

ص: 377

الإشارة الثالثة: كيف تدل المعجزة على صدق المدّعي؟ 330

الإشارة الرابعة: ما يلزم من جريان المعجزة على يد أحد. 332

الإشارة الخامسة: النبوة إحدى روافد المعرفة. 332

الإشارة السادسة: المعجزة تخرق العادة لا العقل. 333

الإشارة السابعة: عدم تعارض المعجزة مع نظام العلّية. 333

المبحث الثاني: النبوة الخاصة 33 5

النقطة الأولى:إثبات نبوة النبي الأكرم )صلى الله عليه وأله( 33 7

الطريق الأول: المعجزة. 337

الطريق الثاني: بشارات الأنبياء السابقين. 338

الطريق الثالث: شخصية النبي الأكرم نفسه. 339

النقطة الثانية: 343

عصمة النبي الأكرم (صلی الله علیه وآله). 343

الخطوة الأولى: بعض الآيات الدالة على عصمة النبي الأكرم 344 .

الخطوة الثانية: بعض الشبهات حول عصمته (صلی الله علیه وآله): 347

الشبهة الأولى: نسبة الضلال إليه في القرآن الكريم. 347

1. الضلالة بمعنى العزلة: 349

2. الضلالة بمعنى الشخص الضائع في قومه: 349

الشبهة الثانية: نسبة الذنب والمغفرة إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه وآله): 350

النقطة الثالثة: في أنه (صلی الله علیه وآله) كانأمّيًا 355

النقطة الرابعة:النبوة الخاتمة 359

الإشارة الأولى: الخاتمية تستلزم تمام البيان. 360

الإشارة الثانية: الخاتمية لا تنافي الحاجة إلى الإمام. 361

الإشارة الثالثة: الخاتمية تعني انقطاع الوحي الرسالي... 364

ص: 378

الإشارة الرابعة: الخاتمية لا تنافي التطور. 366

ص: 379

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.