العتبة العباسیة المقدسة
قسم الشوون الفکریة والثقافیة
www.alkafeel.net
info@alkafeel.net
nashra@alkafeel.net
کربلاء المقدسة
ص.ب(233)
هاتف: 322600، داخلی: 175-163
الكتاب: بحوث معرفية في علم الكلام/ الجزء الأول/ التوحيد.
تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.
الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، معهد تراث الأنبياء للدراسات
الحوزوية الإلكترونية.
الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.
المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر.
الطبعة: الأولى.
عدد النسخ: 500 .
ذو الحجة الحرام 1443 ﻫ-تموز 2021 م
ص: 1
العتبة العباسیة المقدسة
قسم الشوون الفکریة والثقافیة
جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة
قسم اعداد المبلغات
بحوث معرفية في علم الكلام
الجزء الأول
التوحيد
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
اصدارات: جامعة ام البنین علیها السلام الکرونیة النسویة
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قال تعالى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَىٰ باللهِ حَسِيبًا)(1)
إن من أهم الأهداف الأساسية لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) – بالإضافة إلى هدف الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإتمام الحجة على الناس, وكونها ثورة رافضة للاستسلام والخضوع للجبابرة والطغاة والسلطات الغاشمة في ذلك العصر – هو هدف تجسيد المعنى الحقيقي للتبليغ والتعريف بالإسلام وحقيقته الناصعة.
وكلنا يعلم الدور العظيم الذي تجسّد على أيدي بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إظهار حقيقة الثورة الحسينية وإيصال صوتها وأهدافها وغاياتها إلى جميع البشرية، بعد أن تصوّر المعسكر الأموي أنّه استطاع خنق الصوت الحسيني والقضاء عليه في طفّ كربلاء.
ص: 5
وانطلاقاً من هذا الهدف السامي لهذه الثورة العظيمة، التي كانت وما زالت تمدُّ الإنسانية بكل قيم الإباء والعطاء, ولأجل بناء جيلٍ من المبلغات يستطعنَ تجسيد أهداف ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في خطابهنّ التبليغي والإرشادي، وعلى أسس علمية رصينة بعيدة عن الارتجال, وحسب منهج مُعَدّ من قبل أساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف؛ طرحنا فكرة إنشاء جامعة أم البنين (عليها السلام) الإلكترونية النسوية، والتي كان أحد أقسامها: قسم إعداد المبلغات، بعد نجاح مشروع معهد تراث الأنبياء (عليهم السلام) للدراسات الحوزوية الإلكترونية، حيث رأينا ولمسنا الإقبال المتزايد على الدراسة الحوزوية الإلكترونية من قِبَل الشباب المؤمن الطموح في الكثير من أقطار الأرض، بعد أنْ كان الحاجز الأساسي بينهم وبين الوصول إلى منابع ومناهل المعرفة في النجف الأشرف هو البعد المكاني, فكسرنا هذا الحاجز من خلال الدراسة الإلكترونية؛ لننقل هذه التجربة إلى إنشاء جامعة تخصصية لإعداد المبلغات الرساليات , وتكون مدة الدراسة فيها أربع سنوات , ثلاث سنوات منها دراسية تخصصية، والسنة الرابعة تطبيق عملي للخطابة والتبليغ داخل وخارج العراق.
وتكمن رؤيتنا المستقبلية في إعداد وتمكين جيل من المبلغات الرساليات، اللاتي يملكْن القدرة على إيصال المعلومة الدينية الصحيحة، بأسلوب رصين ومتحضر، يتناسب مع قيمة المنبر الحسيني وعقلية المتلقي العصري.
ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، عملنا على توفير مناهج دراسية
ص: 6
رصينة لتعليم المبلغات فن الخطابة المقنع والمؤثر، ورفدهنَّ بالمعلومة التاريخية الدقيقة والمنهج الديني العلمي المبسّط، ودعم هذه المناهج بالتجربة العملية لتكون المبلغة قادرة على رفع الوعي العام في المجتمع الإسلامي.
وفي الحقيقة، فنحن نهدف من ذلك إلى تحقيق عدة أهداف، خلاصتها:
1- رفع الوعي العام في المجتمع الإسلامي بأهداف ومبادئ الثورة الحسينية وأسبابها ونتائجها، عن طريق حث المبلغات على تقديمها بأسلوب علمي وعصري دون الاعتماد بشكل كلي على الجانب الرثائي من الثورة.
2- الحفاظ على قيمة ومستوى المعلومة المقدمة في المنبر الحسيني النسوي، عن طريق تخليصه من الخرافات والمعلومات غير الدقيقة، التي تقدم غالباً بسبب السهو أو الجهل بالمعلومة الصحيحة من قبل المبلغة.
3- مواجهة الأسلوب الخطابي المؤثر للتيارات الفكرية المنحرفة، عن طريق رفع مستوى الثقافة العامة للمبلغات، وتدريبهن على فن الخطابة المقنع والمؤثر.
4- رفع مستوى الجانب الفقهي والعقائدي لدى المجتمع النسوي عن طريق الاستفادة من دور المبلغة وأهمية وتأثير المنبر الحسيني في المجتمع.
في كل ذلك اعتمدنا على مناهج علمية رصينة في علوم الفقه والكلام والنحو والمنطق والأخلاق والخطابة والتاريخ.
اعتمادُنا أولاً وآخراً على الباري جل وعلا أن يوفقنا لإتمام هذا المشروع،
ص: 7
ونستمد اللطف من أهل بيت العصمة (صلوات الله عليهم) أن يكونوا شفعاءنا إلى الباري جل وعلا في ذلك، مشفِّعين في ذلك كله المولى أبا الفضل العباس بن أبي طالب (عليهم السلام)، الذي كنا ولا نزال ننهل من بركاته، نسأل الله تعالى ان يمن علينا برضاه، وأن يوفقنا لنكون خداماً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام).
إدارة الجامعة.
ص: 8
إلى قطب رحى الإمكان
إلى من لولاه لساخت الأرض وغارت بأهلها
إلى قاصم شوكة المعتدين
إلى من يأتي –كجده (صلى الله عليه وآله)- رحمةً للعالمين
مولاي... أيها الإمام المؤمّل المنتظر
بضاعتي مزجاة، أقدمها بين يديك
وكُلّي خجل من التقصير
وفي الحقيقة، هي منكم، وإليكم، فأنتم مصدرها، وإليكم المرجع
فاقبلها بلطفك... وكرمك...
ص: 9
ص: 10
تمثل العقيدة –بما تحويه من مباحث علمية منهجية- المحور الأساسي والمفصل الرئيسي لأي مذهب من المذاهب، وذلك أن كل ما عداها يبتني عليها ويرجع إليها، وهو ما اتفقت عليه الكلمة.
وهذه الحقيقة تعني -فيما تعنيه- أن الجهود لا بد أن تُركّز على تأصيل العقيدة وبيان ارتباطها بمصادر التشريع: القرآن الكريم والسنة الشريفة.
وتعني أيضاً: أن التركيز على غيرها -مع تهميشها- هو خلل معرفي لا بد أن يُتدارك، قبل أن يفني المرء عمره على الحصول على نتائج غير مستدلة، الأمر الذي يُنذر باحتمال أن تهتز العقيدة لأقل ريح تهب، أو تتخلخل لأدنى شبهة تُثار.
لذلك اقتضت المنهجية العلمية الاهتمام بالعقيدة توضيحاً وتجذيراً واستدلالاً، فضلاَ عن البيان الوافي بما لا يترك للآخر فرصة للإشكال أو مندوحة من الموافقة.
وفي هذا السياق، نجد الاهتمام البالغ من علمائنا الأفذاذ، سواء على مستوى الكتابة، أم تأسيس المراكز العلمية المختصة بهذا الجانب، أم الوقوف بقوة ضد الشبهات التي تُثار، أم المتابعة الميدانية لتطورات علم
ص: 11
الكلام والتحولات الجوهرية التي حصلت في طريقة البحث والاستدلال، خصوصاً في ظل القفزات العلمية التي يشهدها العالم.
من جهة أخرى، يُخطئ من يظن أن الكتابة في العقيدة قد أُقفل بابها، وأن مفرداتها محصورة محدودة، وقد تمّ الوصول إلى الغاية فيها، فتكون الفرصة للخوض في بيانها والاستدلال عليها قد ماتت، كلا، إذ إن الحاجة كانت وما زالت وتبقى إلى يوم القيامة، ومما يدل على ذلك أن الحوزات العلمية في طرحها الدقيق، ومتابعتها الشاملة، ما زالت تبحث وتنقّب وتكتشف وتركّب وتستدل وتضيف... ومن جهة أخرى، ما زال المناوئون يرمون شبهاتهم، ويجددونها، ويعملون على إيجاد ثغرات في العقائد ولو بالملازمات البعيدة...
وعلى كل حال، فالحاجة إلى العقيدة، والبحث فيها، والكتابة، والتدريس، والنشر والتسويق، ما زالت على حالها، بل زادت أكثر في ظل التطورات التي جعلت العالم كقرية صغيرة.
ومن هذا المنطلق، كان من الدروس الأساسية لمراحل ثلاث في جامعة ام البنين (عليها السلام) الإلكترونية هو درس علم الكلام، فكانت هذه البحوث، والتي حاولت فيها –وتكفيني المحاولة- أن أذكر المهم والابتلائي منها، مع تفاصيلها، لتكون منهجاً مفيداً في العقيدة.
وفي هذا المجال، من الضرورة بمكان الإشارة إلى التالي:
ص: 12
أولاً: هذه البحوث تمثل مرحلة متوسطة في دراسة العقيدة، فليست هي خطوة أولى، ولا أخيرة، مما يعني ضرورة أن تسبقها دورة عقائدية منهجية معينة، كدراسة كتاب عقائد الإمامية للشيخ المظفر (قدس سره)، وهكذا على الطالب أن يستمر بالبحث والتنقيب والاستدلال ومطالعة الكتب الموسعة أكثر في هذا المجال.
ثانياً: المنهجية المطروحة للبحوث لم تعتمد على كتاب معين يكون هو الأسلوب الأساسي المتبع فيها والمرجع إليها، وإن كانت ضمن المنهجية العامة المطروحة في كتب علم الكلام.
ثالثاً –وهو الأهم-: المصدر الرئيسي لهذه البحوث –خصوصاً في مباحث العدل والإمامة- هو ما استفدته من دروس سماحة الأستاذ السيد جعفر (دام عزه وتوفيقه) بن السيد الشهيد عبد الصاحب (قدس سره) بن مرجع الطائفة السيد محسن الحكيم (قدس سره)، في شرحه لكتاب التجريد قسم علم الكلام، وبحوثه الخارج في علم الكلام، فما كان فيها من جديد فهو منه (حفظه الله)، وما كان فيها من تقصير فهو مني بلا أدنى شك.
بالإضافة إلى مجموعة من المصادر المهمة، تم إدراجها في نهاية أجزاء هذا الكتاب.
أخيراً، إني لأحمد الله تبارك وتعالى على حسن صنيعه، وجليل نعمه، التي أقف عاجزاً عن شكر واحدة منها، وليس عندي ما أقدمه أمامها سوى أن أقول ما علّمنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه:
ص: 13
إِلهِي، أَنْتَ أَوْسَعُ فَضْلاً وَأَعْظَمُ حِلْماً مِنْ أَنْ تُقايِسنِي بِعَمَلِي، أَوْ أَنْ تَسْتَزِلَّنِي بِخّطِيئَتِي، وَما أَنا يا سَيِّدِي وَما خَطَرِي؟ هَبْنِي بِفَضْلِكَ سَيِّدِي، وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ، وَجَلِّلْنِي بِسَتْرِكَ، وَاعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ.
سَيِّدِي أَنا الصَّغِيرُ الَّذِي رَبَيْتَهُ، وَأَنا الجاهِلُ الَّذِي عَلَّمْتَهُ، وَأَنا الضَّالُّ الَّذِي هَدَيْتَهُ، وَأَنا الوَضِيعُ الَّذِي رَفَعْتَهُ، وَأَنا الخائِفُ الَّذِي آمَنْتَهُ، وَالجائِعُ الَّذِي أَشْبَعْتَهُ، وَالعَطْشانُ الَّذِي أَرْوَيْتَهُ، وَالعارِي الَّذِي كَسَوْتَهُ، وَالفَقِيرُ الَّذِي أَغنَيْتَهُ، وَالضَّعِيفُ الَّذِي قَوَّيْتَهُ، وَالذَّلِيلُ الَّذِي أَعْزَزْتَهُ، وَالسَّقِيمُ الَّذِي شَفَيْتَهُ، وَالسَّائِلُ الَّذِي أَعْطّيْتَهُ، وَالمُذْنِبُ الَّذِي سَتَرْتَهُ، وَالخاطِئُ الَّذِي أَقلْتَهُ، وَأَنا القَلِيلُ الَّذِي كَثَّرْتَهُ، وَالمُسْتَضْعَفُ الَّذِي نَصَرْتَهُ، وَأَنا الطَّرِيدُ الَّذِي آوَيْتَهُ...
حسين عبد الرضا الأسدي
النجف الأشرف/ الجمعة
12 ربيع الأول 1442ﻫ/30 تشرين الأول 2020م.
ص: 14
نذكر فيه عدة أمور مهمة للدخول في أصل مسائل علم الكلام:
ص: 15
ص: 16
العلم هو حيثية انكشاف الواقع للإنسان، أو هو حيثية طرد الجهل من نفس الإنسان، ووصول الإنسان إلى الواقع ليس متواطئاً، وإنما هو أمر مشكك، وله عدة مراتب طولية، تبدأ من أقرب الطرق للوصول إلى الواقع، التي هي مرتبة (العلم الحضوري) حيث لا تكون هناك واسطة بين النفس وبين الواقع، وتنتهي بالجهل، أي خلو النفس الإنسانية من أي صورة عن واقع ما.
وعلى كل حال، فمراتب المعرفة البشرية عديدة، خلاصتها التالي:
وهي على قسمين:
وهو اليقين الذي يحصل بلا حاجة إلى إعمال نظر وفكر، فلا يحتاج في العلم بقضاياه في كل أقسامه إلى دليل، أو قل: هو الذي تُذعن النفس به من دون حاجة إلى استدلال فكري، وهو على أربعة مستويات:
المستوى الأول: اليقين البديهي الذي لا يمكن الاستدلال عليه، بل يكفي في حصول التصديق بمؤداه تصور طرفي القضية بشكل صحيح فقط(1)،كما
ص: 17
في الأوليات مثل:
(النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان)
(الممكن محتاج)
(الكل أكبر من الجزء)
المستوى الثاني: اليقين البديهي الذي لا يمكن الاستدلال عليه أيضًا، ولكنه يحتاج الى ضمّ جهد غير علمي ولا فكري، لحصول التصديق بمؤداه، كالمتابعة والاحصاء والتراكم، وهي: المتواترات والتجريبيات.
أما المتواترات، فهي (ما يحكم به العقل لكثرة إخبار المخبرين، بحيث يزول معها الشك والاحتمال بتواطؤ المخبرين على الكذب)(1)
أو هي (قضايا تسكن إليها النفس سكونًا يزول معه الشك ويحصل الجزم القاطع. وذلك بواسطة إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ويمتنع اتفاق خطئهم في فهم الحادثة)(2)
وقد قسّموا التواتر إلى ثلاثة أقسام: اللفظي والمعنوي والإجمالي.
وأما التجريبيات، فهي (ما يحكم به العقل بسبب مشاهدات متكررة، مع انضمام قياس خفي، وهو أنه لو كان اتفاقياً لما كان دائمياً أو أكثرياً، بل هناك
ص: 18
سبب إذا عُلم وقوعه عُلم وجود المسبب)(1)
أو قل: هي القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في إحساسنا، فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب أن يرسخ في النفس حكم لا شك فيه، كالحكم بأن كل نار حارة، وأن الجسم يتمدد بالحرارة...(2)
هذا وقد ألحقوا بالتجريبيات: (الحدْسيات)، وهي ما يحكم العقل به بواسطة حدْس من النفس، بمشاهدة القرائن، كالحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس، والفرق بينها وبين التجريبيات -مع افتقار كل منهما إلى تكرار المشاهدة-: أن الثاني يتوقف على فعل يفعله الإنسان حتى يحصل على المطلوب بسببه، فإن الإنسان ما لم يجرب الدواء بتناوله أو إعطائه غيره مرة بعد أخرى، لا يحكم عليه بأنه مسهّل مثلاً، وهذا بخلاف الحدْس، فإنه غير موقوف على ذلك)(3)
المستوى الثالث: اليقين البديهي الذي لا يحتاج إلى استدلال، ولكن يمكن إقامة الاستدلال عليه ولكن مع حضور دليله معه دائماً، فالعلم بالنتيجة يكون مصاحباً للعلم بالدليل، وهي الفطريات. فهي (ما يحكم به العقل باعتبار أوسطٍ لا ينفكّ عن الذهن عند تصور حدودها، كقولنا: الاثنان زوج، لأنه منقسم إلى متساويين، والانقسام المذكور لا يغيب عن
ص: 19
الذهن بعد معرفة طرفي القضية، ويقال: قياساتها معها أيضاً)(1)
وبعبارة أخرى: (أن العقل لا يصدق بها بمجرد تصور طرفيها كالأوليات، بل لابد لها من وسط، إلا أن هذا الوسط ليس مما يذهب عن الذهن حتى يحتاج إلى طلب وفكر، فكلما أحضر المطلوب في الذهن حضر التصديق به لحضور الوسط معه...)(2)
المستوى الرابع: اليقين البديهي الذي لا يحتاج إلى استدلال، ولكن يمكن الاستدلال عليه ودليله ليس حاضراً معه. وهي المشاهدات أو الحسّيات، وهي ما يحكم العقل به بواسطة إحدى الحواس، سواء كانت حواساً ظاهرة أو باطنة (الخيال والواهمة والحافظة)، فهي (القضايا التي يحكم بها العقل بواسطة الحس، ولا يكفي فيها تصور الطرفين مع النسبة، ولذا قيل: من فَقَدَ حسًّا فَقَدْ فَقَدَ علمًا. والحس على قسمين: ظاهر، وهو خمسة أنواع: البصر والسمع والذوق والشم واللمس. والقضايا المتيقنة بواسطته تسمى " حسيات " كالحكم بأن الشمس مضيئة وهذه النار حارة وهذه الثمرة حلوة وهذه الوردة طيبة الرائحة... وهكذا. وحس باطن، والقضايا المتيقنة بواسطته تسمى "وجدانيات" كالعلم بأن لنا فكرة وخوفًا وألمًا ولذة وجوعًا وعطشًا... ونحو ذلك.)(3)
ص: 20
بعد انتهاء البديهيات، أو عدم التمكن من الحصول عليها، ينتقل الذهن البشري إلى تحصيل القطع من طريق نظري، وهو قطع ويقين يحصل من خلال إعمال الفكر والنظر والاستدلال، وهو على ثلاثة مستويات:
أولاً: اليقين البرهاني اللصيق بالبديهيات.
ثانياً: اليقين البرهاني المتوسط.
ثالثاً: اليقين البرهاني الموغل في النظرية.
والالتصاق والابتعاد يتم على خلفية قلة وكثرة الوسائط (الحدود الوسطى الطولية) بينه وبين البديهي الذي يمثل خط الشروع له. إذ النظري يحتاج إلى استدلال، وأول نظري يتشكل ستكون مقدماته بديهيات، فهو لصيق بالبديهي، وما بعده يستفاد مما قبله، وهكذا إلى أن نوغل في النظرية.
فالنظري اللصيق هو الذي يتألف دليله من بديهيتين وشكل أول، بينما الموغل هو الذي تترامى فيه الحدود الوسطى حتى تصل النوبة له. وما بينهما هناك الكثير الكثير من النظريات المستدلة.(1)
ص: 21
وهي تلك المعرفة التي يبقى احتمال عدم المطابقة في القضية قائمًا، وهي أيضاً ليست بشكل واحد ومستوى واحد، فإن هناك ظناً يتّسم بالحجية(1)،
بل حجيته قد تصل لمستوى الضرورة الفطرية –كما قيل ذلك في الظهور- في قبال الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وهناك ظن دليل حجيته قطعي، في حين أن هناك ظناً دليل حجيته ظني سابق في الرتبة عليه، كما يلحظ ذلك في علم الأصول فالظن في الامارات يختلف عن الظن في باب الأصول العملية.
وهي الحالة التي يتساوى فيها الطرفان في القضية، وهذا النمط من المعرفة أيضاً فيه مستويات، فإنّ هناك شكاً منهجياً يجعل الباحث يتوقف في
ص: 22
إصدار النتيجة والحكم، ويكون دافعًا له لكي يبحث عن اليقين الذي يدفع به ذلك الشك، وإن هناك شكًا غير منهجي، لا يتجاوز الشك والتردد وعدم الوصول إلى نتيجة معينة، على الباحث أن يتجاوزه ولا يعتني به.
وهي الحالة المعرفية التي تكون دون الشك وفوق الجهل، وهي تختلف فيما بينها لتكون بشكل مراتب ومستويات أيضًا، ففي باب القانون يكون للاحتمال المعتدّ به حكم خاص في بعض الموارد، في حين أن هناك احتمالات تكون في دائرة الاحتمالات غير المعتد بها، فيتجاوزها المقنِّن في عملية تقنينه.
وهناك احتمال يؤخذ بنظر الاعتبار لأن المحتمل خطير، حتى لو كان هذا الاحتمال ضئيلاً جداً، كما لو احتمل العاقل وجود سم قاتل بنسبة واحد بالألف في كأس ماء، فإنه رغم قلة وضحالة الاحتمال، لكن المحتمل (وهو كون الماء فيه سم قاتل) خطير، لذلك يحكم العقل بلزوم اجتنابه.
وهناك احتمال لا يؤخذ بنظر الاعتبار حتى لو كان بمستوىً عالٍ؛ لأن محتمله ليس خطيراً بل هو أمر سهل يسير.
هذه هي الخطوط العامة للتراتبية المعرفية لدى الإنسان.
ص: 23
ص: 24
يمكن القول: إن الإسلام كنظام عام للمسلم، يتكون من ثلاثة خطوط رئيسة:
وهي المسماة بأصول الدين، وتمثل الأساس والعقيدة التي يبتني عليها الدين في جميع مفاصله الأخرى.
وقد قسّمها البعض إلى أصول الإسلام، وهي (التوحيد والنبوة والمعاد) وأصول المذهب، وهي (الإمامة والعدل)، هذا بالإضافة إلى مجمل الاعتقادات الأخرى من قبيل الرجعة والتفاصيل البرزخ والقيامة والجنة والنار وما إلى ذلك، وإن كانت كلها ترجع إلى تلك الأصول الخمسة.
ومحل بحثها هو علم الكلام.
وهي المقررات التي جعلها الشارع المقدّس لتنظيم علاقة الإنسان بالله تعالى وبالإنسان الآخر وبالأشياء في هذا العالم.
وهي أعمال مترتبة على تلك العقيدة، ومن دون تلك العقيدة لا يتصور
ص: 25
الالتزام بها.
ومحل بحث هذه المقررات هو علم الفقه.
وهي مجموعة من الإرشادات العامة والتأديبات الاجتماعية التي من شأنها أن تزيد من ليونة العلاقات ومرونتها، والتي تستدعي عملاً معيناً يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي والاطمئنان النفسي، ولتمثل إحدى أهم الطرق لتقليل الآثار السلبية الناتجة عن التصادم بين أفراد البشر نتيجة التزاحم الذي هو نظام هذا العالم المادي.
ومحل بحث هذه الآداب هو علم الأخلاق.
هناك العديد من الفروق بين الأصول والفروع، أهمها التالي:
إن الأصول هي من الاعتقادات، فلا بد أن يكون الكشف فيها عن الواقع تاماً مطابقاً له، وبالتالي، فلا بد أن يكون الدليل عليها يقينياً، ولا يُقبل فيها الظن إطلاقاً، إذ لا يصدق (الاعتقاد) على ما يحصل من الظن، الأمر الذي أرشد له القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)(1)
ص: 26
أمّا الفروع، فهي أعمال منبثقة من تلك الاعتقادات، إذ من الواضح أن الصلاة مثلاً يُشترط في صحتها قصد القربة إلى الله تعالى، فمن دون إثبات وجود الله تعالى ومولويته ولزوم طاعته في المرحلة الأولى، فلا موضوع للصلاة، وهكذا بقية الفروع.(1)
وهي يُطلب فيها اليقين في المرتبة الأولى، فإن توفر اليقين فبها، وإلا فيُكتفى بالظن في بعض الأحيان، لكن ليس كل ظن، وإنما الظن الذي قام الدليل القطعي على حجيته، أي على كونه مؤمّناً عند الخطأ، كما بُيّن هذا في علم أصول الفقه.
وفي الحقيقة، أن الاكتفاء بالظن من هذا النوع في الفروع، باعتبار عدم إمكان تحصيل القطع في كل المسائل الفقهية، لأسباب ذكرت في محلها.
هذا أولاً.
وثانياً: إنّ منكر الأصول على أنواع:
فإن أنكر أصل وجود إله للكون، فهو ملحد أو دهري أو زنديق أو طبيعي، أو كما يُسمى اليوم بالمادي.
وإن اعترف بالإله، ولكنه عَبَدَ معه شيئاً آخر، فهو مشرك.
وإن أنكر أصل النبوة فهو كافر.
وإن أنكر المعاد، فإن كان إنكاره راجعاً إلى إنكار أصل الإله، لحِقَه
ص: 27
حكمه، وإن كان إنكاره راجعاً إلى إنكار النبوة، لحقه حكمه.
وإن أنكر الإمامة أو العدل فهو مسلم عامّي، إلا أنْ يرجع إنكاره إلى تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) أو نسبة النقص إلى الله (تبارك وتعالى)، فيكون حينها كافرًا.
أما تارك الفروع، فإن رجع تركه إلى إنكار أحد الأصول، لحقه حكمه، وإن ترك العمل بها رغم اعترافه بها فهو مسلم فاسق.
ما هو السبب وراء اختيار هذه الاعتقادات الخمسة كأصول للدين دون غيرها من الاعتقادات؟ خصوصاً مع إمكان إرجاع الأصول الأربعة الأخيرة إلى التوحيد، إذ هي تدور بين كونها فعلاً لله تعالى أو صفة له(1)؟
خصوصاً وأنه ورد (قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا)(2)
الجواب:
لا بد أن يكون معلوماً أنه لا يوجد دليل شرعي ولا عقلي على حصر الأصول بالثلاثة أو بالخمسة، بل إن (ما يرى القرآن الكريم الإيمان به ضرورياً هو: وحدانية الله، الغيب، المعاد، الملائكة، الكتب السماوية، رسالة الأنبياء، والاعتقاد بما أُنزل على الأنبياء من جانب الله)(3)
ص: 28
إلا أن السبب في تأصيل خصوص تلك الخمسة يرجع في الحقيقة إلى أنّها امتازت عن غيرها بأمرين:
الأول: أن نفيها يستبطن خطورة عقائدية بالغة.
الثاني: إن إثباتها يترتب عليه الكثير من الثمرات العقائدية، التي تستلزم عملاً معيناً لا يقوم به من ينكرها، فمن يُثبت الإمامة مثلاً يلزمه العمل وفق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ونبذ غيرهم، الأمر الذي أدّى إلى انقسام المسلمين إلى فرقتين كبيرتين على الأقل هما: الإمامية والعامية.
وهكذا صفة العدل، حيث يترتب عليها الكثير من اللوازم العقائدية التي تدخل في صميم سلوك الإنسان، وعلاقته مع الخالق جل وعلا، كما سيتبين في محله إن شاء الله تعالى.
إذن، خطورة العقيدة، وعظمة الثمرات المترتبة عليها، هي كانت وراء تأصيل هذه الأصول وحصرها بها، وإرجاع غيرها من الاعتقادات إليها.
ص: 29
ص: 30
ينبغي أنْ نعلم أولاً أن الإسلام يستعمل ثلاثة أنواع من الأدلة لمعرفة الكون وللوصول إلى الحقائق الدينية، وهي: الحس، والعقل، والوحي. وهي تمثل أدوات المعرفة البشرية.
هذا على نحو العموم، وأما في علم الكلام، فإن الأدلة المستعملة هي على نوعين:
وهي الأدلة التي تعتمد الإدراكات العقلية، أو قل: التي تكون مقدماتها وحدودها الوسطى قضايا إدراكية عقلية، وليست قضايا نقلية من الآيات أو الروايات.
وهذه الأدلة لا تستعمل في كل مسائل علم الكلام، وإنما تأتي فيما يمكن للعقل إدراكه من دون الرجوع إلى النقل، بل فيما لا يمكن استعمال الدليل النقلي فيها للزومه الدور الباطل(1)،ومن أمثلة ذلك:
ص: 31
1/ إثبات أصل وجود واجب الوجود.
2/ إثبات أصل بعض صفات واجب الوجود، كالغنى والقدرة والعلم والحياة والإرادة.
3/ إثبات أصل لزوم إرسال الأنبياء.
أما تفاصيل هذه المسائل، فالدليل العقلي لا قدرة له على إثباتها لوحده، فهو يُثبت لزوم إرسال الرسل، ولكنه لا يشخص الرسول من غيره، إلا بمساعدة من الشرع.(1)
وقد أشارت بعض الروايات الشريفة إلى دور العقل التأسيسي في تلك المسائل، ودوره الإرشادي في غيرها، فقد روي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ:
إِنَّ أَوَّلَ الأُمُورِ ومَبْدَأَهَا وقُوَّتَهَا وعِمَارَتَهَا الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إِلَّا بِه: الْعَقْلُ، الَّذِي جَعَلَه اللَّه زِينَةً لِخَلْقِه، ونُوراً لَهُمْ، فَبِالْعَقْلِ عَرَفَ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ، وأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وأَنَّه الْمُدَبِّرُ لَهُمْ وأَنَّهُمُ الْمُدَبَّرُونَ، وأَنَّه الْبَاقِي وهُمُ الْفَانُونَ، واسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِه مِنْ سَمَائِه وأَرْضِه وشَمْسِه وقَمَرِه ولَيْلِه ونَهَارِه وبِأَنَّ لَه ولَهُمْ خَالِقاً ومُدَبِّراً، لَمْ يَزَلْ ولَا يَزُولُ، وعَرَفُوا بِه الْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيحِ، وأَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ، وأَنَّ النُّورَ فِي الْعِلْمِ، فَهَذَا مَا دَلَّهُمْ عَلَيْه
ص: 32
الْعَقْلُ.
قِيلَ لَه: فَهَلْ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ غَيْرِه؟
قَالَ: إِنَّ الْعَاقِلَ لِدَلَالَةِ عَقْلِه الَّذِي جَعَلَه اللَّه قِوَامَه وزِينَتَه وهِدَايَتَه، عَلِمَ أَنَّ اللَّه هُوَ الْحَقُّ وأَنَّه هُوَ رَبُّه وعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِه مَحَبَّةً وأَنَّ لَه كَرَاهِيَةً وأَنَّ لَه طَاعَةً، وأَنَّ لَه مَعْصِيَةً فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَه يَدُلُّه عَلَى ذَلِكَ، وعَلِمَ أَنَّه لَا يُوصَلُ إِلَيْه إِلَّا بِالْعِلْمِ وطَلَبِه، وأَنَّه لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِه إِنْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ بِعِلْمِه، فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ والأَدَبِ الَّذِي لَا قِوَامَ لَه إِلَّا بِه.(1)
فحجية كل من العقل والنقل لا كلام فيها، وقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال لهشام بن الحكم: يَا هِشَامُ إِنَّ لِلَّه عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ والأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ.(2)
وهي الأدلة التي تعتمد الآيات والروايات في مقدماتها وحدودها الوسطى، وهذه الأدلة تعالج تفاصيل الأصول التي أثبتتها الأدلة العقلية، ولا يصح استعمالها في أصل إثبات تلك الأصول لما تقدمت الإشارة إليه.
ص: 33
ورد في بعض الروايات أنّ العقل ليست له يدٌ تتناول الدين، وأنه ليس طريقاً لتحصيل الدين، فقد ورد عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام): إن دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقائيس الفاسدة، ولا يصاب إلا بالتسليم، فمن سلّم لنا سلم، ومن اقتدى بنا هُدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئاً مما نقوله أو نقضي به حرجاً كفَرَ بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم.(1)
ولكن هذا لا يتنافى مع كون العقل دليلاً في علم الكلام، بل وفي بعض الأحيان في بعض الأحكام الشرعية التي يمكن أن يكون العقل حداً أوسطاً في إثباتها، إذ المقصود من هذه الروايات هو ما عليه العامة من إعمال الاستحسانات والقياس والآراء الشخصية في استنباط الأحكام الشرعية، ومن الواضح أن العقل لا يد له في معرفة حكم شرعي من دون الرجوع إلى نفس المشرِّع، لما ثبت في محله من أن الأحكام الشرعية تابعة لملاكات واقعية وفق المصالح والمفاسد التي لا يعلمها سوى الله تعالى، ولذا لم نُكلّف بمعرفة تلك الملاكات؛ لأنها خارج نطاق معرفتنا، ولذلك أيضاً لم يصح الاستناد إلى العقل في معرفة حكم شرعي معين، من دون الرجوع إلى المشرع نفسه؛ إذ العقل لا يمكنه إدراك ذلك لوحده.
ص: 34
وبعبارة مختصرة: إن المقصود من الدين في مثل هذه الأحاديث هي الشريعة والأحكام التكليفية، أي التعبدّيات، وليس مطلق الدين بما يشمل الأصول الاعتقادية.
كلٌّ من هذين الدليلين يخضع للتراتبية المتقدمة في الأمر الأول، وكلّما اقترب الدليل –عقلياً كان أو نقلياً- من البداهة، كلما كان إنتاجه أسرع، وكشفه عن الواقع أقوى، وبالتالي يكون أقرب إلى التصديق به.
لا مانع من اجتماع الدليل العقلي والنقلي في الدليلية على مورد ما، ولكن لا بدّ أنْ يكون أحدهما تأسيسياً والآخر إرشادياً وإمضائياً لحكم ذلك التأسيسي.
فمثلاً، الدليل على ضرورة النظر والمعرفة في الاعتقادات عقلي، وهو دليل دفع الضرر المحتمل، أو لزوم شكر المنعم، وما شابه، ولكننا نجد الكتب الكلامية تذكر إلى جنب ذينك الدليلين بعض الآيات الدالة على
تلك الضرورة، من قبيل قوله تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)(1)
فينبغي أنْ يُعلم هنا أن مثل تلك الأدلة النقلية هي إرشادية لحكم العقل المذكور في هذا المورد.
ص: 35
وهكذا فإن العقل يحكم بلزوم طاعة المولى بالطريقة التي يريدها المولى نفسه، ولكنه لا يحدد الكيفية الخاصة لتلك الطاعة، بل هو يرجع فيها إلى المولى نفسه، ثم يحكم بها من باب إمضاء حكم المولى والإرشاد إليه.
حيث إن الدليل العقلي يعتمد على قضايا عقلية صرفة، لا تقبل الخطأ، وحيث إن الدليل النقلي يعتمد على مصدر معصوم، لا يخطئ، فنستنتج امتناع وقوع التناقض والتعارض بين الدليل العقلي والنقلي، فإذا أسّس أحدهما لشيء، فلا بد أن يُمضيه الآخر.
(ولو بدا تعارضٌ بدائيٌ بين هاتين الحجتين، فيجب أن يُعلم بأنه ناشئ من أحد أمرين: إما أن استنباطنا في ذلك المورد غير صحيح، وإما أن هناك خطأً وقع في مقدمات البرهان العقلي، لأن الله الحكيم تعالى لا يدعو الناس إلى طريقين متعارضين مطلقاً)(1)
وبعبارة أخرى: إن العقل والوحي لا يتعارضان في مقام الثبوت، لمكان عصمتهما، وإنما يحدث التعارض في مقام الإثبات، أي عندما يتمّ تفعيل العقل إثباتاً، وعندما نتعامل مع الوحي لا بالمباشرة، بل من خلال الوسيط (الخبر الظني).
هناك رأيان في تفسير معنى العقل النظري والعقل العملي:
ص: 36
يذهب الرأي الأول إلى أنّ العقل هو مبدأ الإدراك، وأنه يكون نظرياً إذا كان الهدف من الإدراك هو المعرفة فقط دون العمل، كإدراك حقيقة الوجود، وعملياً إذا كان الهدف هو العمل، كإدراك حسن العدل وقبح الظلم.
وإلى هذا الرأي ذهب الشيخ المظفر في منطقه وأصوله(1)،
تبعاً لأستاذه النائيني.
ويذهب الرأي الثاني –وهو الأصح كما حُقّق في محله- بأن التفاوت بين العقل النظري والعملي هو تفاوت في الجوهر، أي في طبيعة العمل الوظيفي لكل منهما، فالنظري هو مبدأ الإدراك، سواء كان الهدف منه هو المعرفة أم العمل، والعملي هو مبدأ الدوافع والمحفّزات، لا الإدراك، وتكون مهمة العقل العملي هي تنفيذ مدركات العقل النظري.
وإليه ذهب ابن سينا وقطب الدين الرازي صاحب المحاكمات والمحقق النراقي في جامع السعادات.(2)
ص: 37
إن الدليل النقلي، منه ما هو قطعي الصدور (القرآن الكريم والخبر المتواتر) ومنه الظني الصدور (خبر الواحد)، ومنه قطعي الدلالة (الصريح)، ومنه الظني (الظاهر).
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنّ منه ما يمثل الضرورة الدينية، مثل وجوب الصلاة والصوم والحج وأمثالها، ومنه ما هو متواتر، ومنه خبر الواحد، ومنه الإجماع.
وفي كل ذلك لا بد من الرجوع إلى المتخصص لفهم نوع الدليل وقوة دليليته ومستوى قبوله.(1)
ص: 38
هناك أمر فطري موجود في داخل الإنسان، وهو أنه إذا احتمل وجود ضرر معين، فإنه يعمل على أن يدفع ذلك الضرر عن نفسه، فالجندي الذي يسمع أن هناك أوامر من جهات قيادية عليا قد أمرت بالحضور إلى المعسكر، وأنّ من يتخلّف عن ذلك سيعاقب بالسجن الطويل المهين، فإن من أبسط الأمور التي يفعلها هذا الجندي هو أن يتأكد من هذا الخبر، وكذلك الموظف الذي يسمع أن هناك اجتماعاً، ومن لا يحضره يُفصل عن وظيفته، فإنه على أقل التقادير يفتّش عن صدق هذا الخبر، وكذلك الطالب الذي يسمع بوجود امتحان مصيري مهم، فإنه على الأقل يسأل ليتأكد من هذا الخبر.
ومعه، (فإن العاقل حينما يقرع سمْعه قول أناس –قليلين أو كثيرين- بعقاب أخروي وعذاب دائمي، لمن أنكر المبدأ، أو لم يعرفه ويعتقد به –وهذا النداء كان مسموعاً منذ صبيحة حياة البشر، وسيبقى قارعاً إلى غروب وجوده- يحتمل صدقه وكذبه قهراً،...فيجب [النظر] لوجوب دفع الضرر فطرةً ولو كان محتملاً)(1)
وهذا المبدأ الفطري مشترك بين جميع البشر.
ص: 39
ومعه، فيجب على كل العقلاء أنْ يبحثوا عن الدين، لما تقدم، ولا يُعذر في هذا أحد، لأن الدين قد وصل إلى الجميع، ولو فُرض وجود إنسان لم يبلغه نداء الدين ولم يحصل عنده نداء الفطرة للتطلع والتفكر في وجوده ووجود العالم حوله، فمثل هذا الانسان (لو وُجِد) معفو عن الحساب والعقاب لو لم يبحث عن الدين، لعدم اكتمال الحجة عليه، قال الله تعالى (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)(1)
وهذا الوجوب هو عقلي بحت –كما تقدم قبل قليل-، وهو المسمى بدليل (دفع الضرر المحتمل)، وهو يمثل نقطة الصفر للانطلاق من الشك والتردد نحو اليقين، وللعقل فيه آلية خاصة تعمل هنا، وسيتمّ إشباع البحث فيه فيما بعد إنْ شاء الله تعالى، ومعه، فتكون الآيات والروايات المذكورة فيه إرشادية لذلك الحكم العقْلي الصرْف.
وهنا سؤالان:
لماذا قُيّد الضرر هنا بالمحتمل، ولم يُقيّد بالمتيقن؟
الجواب: لأن المحتمل هنا قوي جداً بحيث يكفي الظن –بل الاحتمال- في ترتيب الأثر عليه، فإن (الخلود في جهنم) ضرر بليغ، يقضي العقل بلزوم
ص: 40
دفعه ولو كان على نحو الاحتمال، تماماً كما لو قيل لشخص: إن في هذا الكأس سُماً زعافاً، فإن هذا يقتضي دفعه ولو كان احتماله ضئيلاً. هذا أولاً.
وثانياً: إذا حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، فحكمه بلزوم دفع الضرر المتيقن يكون من باب أولى، فتمّ تسليط الضوء على الفرد الخفي من حكم العقل، وهو الضرر المحتمل، خصوصاً وأن الفرض أن الشخص المحتمِل ما زال في بداية الطريق، وهو الآن شاكٌّ في الحقيقة، ففرض الضرر المتيقن فيه خلاف كونه شاكاً.
((ماذا عن حساب الشخص كامل العقل، ولكنَّه لم يكن قد سمع بالدين، ككثير من الطوائف البشرية التي تعيش في المناطق النائية، إذ من الممكن أن يوجد أُناس في قارّات أفريقيا أو غابات الأمازون وغيرها لم يسمعوا بالإسلام أصلاً، أو سمعوا به ولكن لم تتوفَّر لهم الوسائل لمعرفته عن كثب، أو لم يمكنهم الاستجابة لظرف قاهر، فما مصير هؤلاء؟
في الجواب: لا بدَّ أن نعرف الفرق بين القاصر والمقصِّر، والفرق بين الأحكام التي لا يمكن أن يعرفها الإنسان من دون بيان من الشرع وبين الأحكام التي يمكن للإنسان أن يعرفها بمحض عقله وإن لم يُبيِّنها الشرع.
أمَّا الفرق بين القاصر والمقصِّر، فنضرب لبيانه مثالاً: لنفترض شخصين في مكان ما، طول أحدهما متر واحد فقط، وطول الآخر مترين، وطُلِبَ منهما أن يلتقطا شيئاً معلَّقاً علىٰ بعد متر ونصف، فالشخص الأوَّل لا يمكنه ذلك،
ص: 41
لا لتقصير منه، بل لأنَّ طوله لا يساعده، فهذا قاصر عن تنفيذ الأمر، وهو غير مؤاخَذ، لأنَّه قاصر. وأمَّا الشخص الثاني، فإنَّه إذا لم يقم ويأخذ ذلك الشيء فهو مقصِّر، ويُعتَبر مخالفاً للأمر، لأنَّه كان بإمكانه تنفيذ الأمر من دون حرج ولا مشقَّة.
وهكذا في قضيَّة الأحكام الشرعية، فهناك من الناس من لا يمكنه أن يصل إلىٰ البلاد الإسلاميَّة، أو لا يمكنه الاطِّلاع علىٰ العقائد والأحكام الصحيحة، لا لتقصير منه، بل لظرف قاهر لا يمكنه تجاوزه، كما قد يقال ذلك في سكّان البلاد النائية، وربَّما يكون منهم النساء المستضعَفات ممَّن هنَّ علىٰ غير خطِّ أهل البيت (عليهم السلام) حيث لا يمكنهنَّ الخروج من بيوتهنَّ والاطِّلاع علىٰ العقائد الحقَّة، (ولو من باب الفرض لا التحقيق).
عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن المستضعَفين؟ فقال: «البَلْهاء في خدرها، والخادم تقول لها: صلّي فتُصلّي لا تدري إلَّا ما قلت لها، والجليب(1)
الذي لا يدري إلَّا ما قلت له، والكبير الفاني، والصبي الصغير. هؤلاء المستضعَفون. وأمَّا رجل شديد العنق، جدل خصم، يتولّىٰ الشرىٰ والبيع لا تستطيع أن تغبنه في شيء، تقول: هذا مستضعَف؟ لا ولا كرامة»(2).
ص: 42
ولكن هناك منهم من له اطِّلاع علىٰ العقائد، ويسمع بها ويسمع بالدعاة إليها، ولكنَّه لا يستجيب لهم ولا يُكلِّف نفسه عناء البحث عن الحقيقة، فمثل هذا الشخص يُعتَبر مقصِّراً.
ثمّ إنَّ الأحكام منها ما لا يمكن للإنسان الاطِّلاع عليه إلَّا إذا بيَّنه الشارع ووصل ذلك البيان له، كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها، (وهو المسمىٰ بالأحكام التعبّدية أو الشرعية المحضة).
ومنها ما لا يحتاج فيه الإنسان إلىٰ بيان من الشرع، بل العقل لوحده عنده القدرة علىٰ إدراك حسنه أو قبحه، كإدراكه لحسن الإحسان إلىٰ المحسن، والعدل، وكإدراكه لقبح القتل والزنا والسرقة وغيرها.
إذا تبيَّن هذا نقول:
المستفاد من كلمات العلماء هو أنَّ الجاهل المقصِّر محاسب علىٰ كلا نوعي الأحكام، لأنَّ عدم التزامه كان بإرادته بعد الاطِّلاع أو إمكان الاطِّلاع. وأمَّا القاصر فهو غير محاسب عن الأحكام التي لا يمكنه الاطِّلاع عليها؛ لأنَّ الحجَّة لم تكتمل في حقِّه، وشرط الوجوب عليه هو بيان الشارع له ووصوله إليه، والفرض أنَّه لم يصل إليه البيان. قال تعالىٰ: ]وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً[(1)
وأمَّا الأحكام التي يستطيع العقل معرفتها، فإنَّه سيُحاسَب عليها
ص: 43
جزماً، لأنَّ العقل حجَّة علىٰ الإنسان، وهو الحجَّة الباطنية- كما عبَّر الإمام الكاظم (عليه السلام)- علىٰ الإنسان، حيث روي عنه (عليه السلام)أنَّه قال لهشام بن الحكم: « يَا هِشَامُ، إِنَّ للهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ والأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ»(1).
فسيُحاسَب الإنسان علىٰ ظلمه لغيره أو سرقته حقَّه أو ضربه من دون حقٍّ، لأنَّ العقل لوحده يُدرك قبح هذه التصرُّفات ولو لم يأتِ الأمر الشرعي بها.))(2)
ص: 44
وهذا أمر ثابت بالوجدان، ومنكره مكابر، وفي الحقيقة لا ينكره أحد بقلبه، إنما بلسانه فقط، وإلا فإن إنكاره لا واقع له أيضاً، والحال أنه يريد إثبات حقانية كلامه وأنه لا واقع، وهو خُلفٌ.
وبعبارة واضحة:
أننا نسأل الذي يُنكر الواقع ونقول له: إنكارك هذا واقعي أو مجرد وهم؟
فإن قال: إنه واقعي، قلنا له: بهذا ثبتت بعض الواقعيات، وهو خلف قولك: إنه لا واقع ثابتاً أصلاً.
وإن قال: لا واقع له، قلنا له: هذا معناه أن إنكارك لا واقع له، فلا يصدق به عاقل.
وقد وضّح السيد الطباطبائي (قدس سره) هذا الأمر الوجداني بعبارة واضحة فقال:
إنا معاشر الناس أشياء موجودة جداً، ومعنا أشياء أخر موجودة، ربما فعلت فينا أو انفعلت منا، كما أنا نفعل فيها أو ننفعل منها. هناك هواء نستنشقه، وغذاء نتغذى به، ومساكن نسكنها، وأرض نتقلب عليها،
ص: 45
وشمس نستضيء بضيائها، وكواكب نهتدي بها، وحيوان، ونبات، وغيرهما. وهناك أمور نبصرها، وأخرى نسمعها، وأخرى نشمها، وأخرى نذوقها، وأخرى وأخرى. وهناك أمور نقصدها أو نهرب منها، وأشياء نحبها أو نبغضها، وأشياء نرجوها أو نخافها، وأشياء تشتهيها طباعنا أو تتنفّر منها، وأشياء نريدها لغرض الاستقرار في مكان أو الانتقال من مكان أو إلى مكان أو الحصول على لذة أو الاتقاء من ألم أو التخلص من مكروه أو لمآرب أخرى. وجميع هذه الأمور التي نشعر بها، ولعل معها ما لا نشعر بها، ليست بسدى، لما أنها موجودة جداً وثابتة واقعاً. فلا يقصد شيء شيئاً إلا لأنه عين خارجية وموجود واقعي أو منتهٍ إليه، ليس وهما سرابياً. فلا يسعنا أن نرتاب في أن هناك وجوداً، ولا أن ننكر الواقعية مطلقاً، إلا أن نكابر الحق فننكره أو نبدي الشك فيه، وإن يكن شيء من ذلك فإنما هو في اللفظ فحسب. فلا يزال الواحد منا وكذلك كل موجود يعيش بالعلم والشعور، يرى نفسه موجوداً واقعياً ذا آثار واقعية. ولا يمس شيئاً آخر غيره إلا بما أن له نصيباً من الواقعية.(1)
ص: 46
هل ينحصر الوجود بالموجود المادي أو أن هناك موجوداً من نوع آخر؟
لا شك أننا نرى الوجود المادي ونعيشه يومياً، ولهذا الوجود مميزات:
مميزات الوجود المادي:
أولاً: الجسمية، أي إن له طولاً وعرضاً وعمقاً (ارتفاعاً)
ثانياً: الكون في جهة من الجهات، بحيث تمكن الإشارة الحسية إليه في جهة من الجهات دون غيرها.
ثالثاً: الكون في مكان معين، بحيث لا يشغل مكاناً آخر في نفس الزمان.
رابعاً: لا بد أن يكون له زمن، أي إن له بداية، وله نهاية.
خامساً: إمكان إدراكه بالحواس الظاهرة، بحيث يمكن رؤيته بالعين (نعم، قد يكون بعيداً جداً فنحتاج إلى تلسكوب، وقد يكون صغيراً جداً فنحتاج إلى مجهر) أو لمسه أو سماعه أو حتى تذوقه.
سادساً: إمكان تقسيمه إلى أجزاء، أي إنه مركب من عدة أجزاء.(1)
ص: 47
فهل ينحصر الوجود بهذا النوع من الموجودات؟
الجواب:
هنا مدرستان:
التي تفترض بأنه لا موجود إلا المادي، وأي شيء لا يمكن إدراكه بالحواس فهو غير موجود.(1)
ص: 48
التي تفترض وجود ثلاثة أنواع من الموجودات:
مادي، وقد تقدمت خصائصه.
ومثالي: وفيه آثار المادة (الطول والعرض والارتفاع) دون المادة نفسها. (وتفصيله في علم الفلسفة، وهو الذي يُقال بوجوده للإنسان في عالم البرزخ، ومثاله الواضح الصورة في المرآة)
ومجرد، وهو الموجود الذي لا تجري عليه أحكام المادة ولا آثارها.
الدليل على وجود المجرد:
لقد أثبت العلم الحديث أن ذرات وخلايا هذا الجسم المادي تتعرض لعملية تسمى علمياً بعملية الهدم والبناء، فتموت خلايا وتولد بدلها خلايا جديدة، بحيث إنه وفي كل ثمان سنوات تتغير خلايا الجسم كلها، بمعنى أن خلايا يدك اليوم ليست هي قبل ثمان سنوات.
فالجسم المادي متغير باستمرار، وهذا ما يؤمن به حتى الملاحدة، اتباعاً
ص: 49
للاكتشافات العلمية الحديثة.
ولكن رغم هذا، يحس كل واحد منّا بأنه ورغم هذا التغير المستمر، إلا أن هناك شيئاً ما في داخله يبقى ثابتًا لم يتغير، يشير إليه بكلمة (أنا)
فما هو نوع ذلك الشيء؟
إنه ليس مادياً، لأن الفرض أن كل الجسم قد تغير في تلك السنوات وهو لم يتغير.
إذن، هو موجود من نوع آخر، وهو ما يسمى بالروح.
وهي وإن لم نكتشف حقيقتها إلى الآن، إلا أننا نحس بوجودها، وآثارُها واضحة في حياتنا.
إننا ومن خلال العين مثلاً نلتقط صوراً عن الموجودات المادية الخارجية، ومن خلال هذه الصور نتعامل مع الخارج، ولكن، هل هذه الصور مادية؟
لو كانت مادية فمعنى هذا أن تلك الأشياء الكبيرة تنتقل بنفسها إلى ذهن الإنسان، ويلزم منه أن ذلك الذهن الصغير سينطبع فيه الجبل والشجر والبناء وغيرها، وهذا واضح البطلان.
ويلزم منه أنك لو نظرت إلى ثقل بوزن 100 كغم، فسيصبح وزن ذهنك ورأسك 100 كغم، وكلنا يعرف أن هذا لا يقع.
إذن، تلك الصور من نوع آخر من الوجود، وهو الوجود المجرد.
ص: 50
إن لدى الإنسان قدرة على تذكر صور كثيرة لأشياء مادية كان قد رآها فيما مضى، رغم أنه انقطع عن مباشرتها، وأيضاً لديه القدرة على تخيل صور لم يرها، ولكنه يستطيع أن يرسمها في ذهنه عندما توصف له، وتلك الصور ليست من النوع المادي، بالتقريب المتقدم، خصوصاً في الصور المتخيلة، التي لا واقع لها، أو التي لم يرها، وهذا يعني أن هناك موجوداً من نوع آخر غير مادي، وهو الموجود المجرد.
نكتة مهمة: لا مجال للحواس في ساحة المجردات.
إن الوسائل والأدوات التي يستفاد منها في معرفة الموجودات المادية هي الحواس عادة، وأما الوسيلة التي يمكن التعرف من خلالها على الموجودات المجردة فهو العقل، فلا مجال للحواس في ساحة المجردات.
وعليه؛ فليس من المنطقي أن يطالبنا أحد بأن نثبت له الوجود المجرد من خلال الوسائل المادية، كالعين، لأنه سؤال خطأ.
وهذا ما بينه أمير المؤمنين (عليه السلام) لذعلب اليماني، حيث سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): أ فأعبد ما لا أرى! فقال: وكيف تراه؟ فقال (عليه السلام): لَا تُدْرِكُه الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ، ولَكِنْ تُدْرِكُه الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ...(1)
فيحق لشخص أن يطالبنا بدليل عقلي على وجود الله تعالى، وهو ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ص: 51
ص: 52
وهنا نقطتان:
إن أصل العلية هو عبارة عن قضية تدلّ على حاجة المعلول إلى العلة، ولازم ذلك أن المعلول لا يتحقق من دون علة، ويمكن بيان هذا الموضوع في قالب (القضية الحقيقية) بهذه الصورة: (كل معلول فإنه محتاج إلى العلة).(1)
وهذه في الحقيقة (قضية تحليلية، ومن البديهيات الأولية المستغنية عن البرهان)(2)
فالعلة ببساطة تعني السبب، والمؤثِّر.
والمعلول يعني المسبَّب (بالفتح)، والمتأثر، والنتيجة التي تترتب على العلة. فالنار مثلاً علة لوجود الحرارة، والحرارة ناتجة عن وجود النار ومعلولة لها.
والعلة لها اصطلاحان(3):
ص: 53
الأول: العلة الناقصة: وتعني (ذلك الموجود الذي يتوقف عليه تحققُ موجود آخر، وإن لم يكن وحده كافياً لتحققه)، أو قل: (ذلك الموجود الذي بدونه يستحيل تحقق موجود آخر)، وإن لم يكن كافياً لوحده لتحقق
ذلك الآخر المعلول، فالعلة الناقصة إذن هي (التي وإنْ كان المعلول لا يتحقق بدونها، إلا أنها وحدها لا تكفي لوجود المعلول، ولا بد من إضافة شيء آخر إليها حتى يُصبح وجود المعلول ضرورياً).
الثاني: العلة التامة: وتعني (ذلك الموجود الذي يكفي وحده لتحقق موجود آخر) أو قل: (ذلك الموجود الذي بوجوده يتحقق موجود آخر بالضرورة) إذن (وجود المعلول ليس متوقفاً على شيء آخر سواها، وبعبارة أخرى: مع فرض وجودها، يُصبح وجود المعلول ضرورياً).
أما خصائصهما فهي التالي:
أولاً: إن المعلول لا يمكن أن يوجد في الخارج إذا لم تكن علته التامة موجودة أيضاً بمرتبة أسبق، وإلا لم يكن معلولاً.
ثانياً: إن وجود العلة التامة يدل على وجود المعلول، ووجود المعلول يدل على وجود علته. فإنك إذا رأيت النار فإنك تتيقن بوجود الحرارة، وإذا أحسست بالحرارة تيقنت بوجود مصدر لها، وهو النار مثلاً.(1)
ص: 54
ثالثاً: إن وجود المعلول الخارجي مترتب على الوجود الواقعي الخارجي للعلة، وليس على الوجود الذهني التصوري للعلة في الذهن. فالحرارة مترتبة على الوجود الخارجي للنار، لا على التصور الذهني لها، وهل إذا تصور أحدنا أنه جالس تحت جهاز تبريد سيحس بالبرودة!
رابعاً: السنخية: بمعنى أن الصفات الكمالية التي نجدها في المعلول تشير إلى وجود تلك الصفات في العلة، وإلا فمن أين حصل المعلول عليها مع فرض أنه معلول؟! إذ الفرض أن كل ما عنده هو من العلة، ولا يمكن أن نفترض أن العلة ليست عندها تلك الصفات ومع ذلك تعطيها للمعلول، فإن فاقد الشيء [الكمال] لا يعطيه.
خامساً: إن وجود الكمالات في المعلول في الوقت الذي يشير إلى وجودها في العلة، هو يشير إلى أن في العلة أكمل وأعظم وأكثر من تلك الكمالات.
يعني أنه يكشف عن خصوصيات العلة وعن كمالاتها، تماماً كما إذا رأيت كتاباً مؤلَّفاً في علم من العلوم فإنك تقول: إن لهذا الكتاب كاتباً، وتستطيع أن تعرف مقدار عقل ذلك الكاتب من خلال ما هو موجود في هذا الكتاب، وهكذا.
سادساً: إن المعلول كما هو محتاج إلى العلة في أصل حدوثه، هو محتاج إليها في استمرار وجوده، وإلا لم يكن معلولاً لها. لأن ملاك احتياج المعلول إلى علته هو الإمكان، والإمكان محفوظ في المعلول مهما قوي وجوده.(1)
ص: 55
سابعاً: إن الشيء إذا كان علة لآخر، فلا يمكن أن يكون الآخر علة للأول، فالعلة لا تكون معلولة لمعلولها، وإلا لزم الدور الباطل.
ثامناً: إن سلسلة العلل لا بد أن تصل إلى علة غير معلولة، وإلا لزم التسلسل الباطل(1).
عندما ننظر إلى الواقع، نجد أنه لا يخلو من إحدى حالات ثلاث:
بأن نفترض أن كل ما في هذا الكون يحصل من دون نظام، وعلى نحو العبث، وهذا الأمر هو ما ينادي به الملحدون رغم أنهم يعيشون النظام.
إن امتناع هذه الحالة هو من الوضوح بمكان، إذ العبث والجزاف أشبه بأن نُجلس قرداً على حاسبة ونقول له: اكتب لنا قصيدة تشابه المعلقات السبع، أو اكتب لنا نظرية تشابه نظرية أينشتاين النسبية، هل يمكن أن نتصور هذا؟ هل يعقله عاقل!
بأن نفترض أن كل ما في الوجود هو خارق للعادة، وهذا الأمر أيضاً واضح البطلان، إذ هو خلاف الواقع الذي نعيشه، فإنك لا تستطيع أن
ص: 56
تعطل نظام الجاذبية بشكل عام، ولا تستطيع أن تعيش من دون تنفس الأوكسجين، وهكذا.
وهذا هو ما عليه الواقع، فنحن نرى أن كل الموجودات تتشابك فيما بينها بنظام مرتب دقيق، من الذرة إلى المجرة.
وهذا النظام الوجداني هو ما يدل بصورة قطعية لا تقبل الشك على وجود الله تعالى. [وسيتبين أكثر في محله أكثر إن شاء الله تعالى]
إن النظام في الحقيقة معلول، إذ لا يمكن أن أكون أنا من أوجدت نفسي، ولا الشجرة أوجدت نفسها، وهكذا كل موجود نراه بأعيننا نجد أنه لم يوجد نفسه. هذا أولاً.
وثانياً: النظام والدقة، والترتيب، يملأ هذا الوجود، وبحسب خصائص العلة والمعلول فإن ذلك يشير إلى أن العلة التي أوجدت هذا النظام وهذا الكون عالمة قادرة حكيمة بصورة عظيمة جداً.
ص: 57
ص: 58
وفيه: مقدمة وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: إثبات واجب الوجود جل وعلا.
المبحث الثاني: مبحث التوحيد.
المبحث الثالث: تفاصيل الصفات.
ص: 59
ص: 60
ينطلق البحث في إثبات العقائد الدينية من الإيمان بالواقعية، والتي تعني الإيمان القاطع بالثلاثية التالية:
1/ وجود واقع، في قبال من رفض الواقع واعتقد بأن كل ما نراه هو وهْمٌ وخيال.
2/ توفّر علم حصولي بذلك الواقع، في قبال من اعترف بالواقع، ولكنه أنكر إمكانية الوصول إليه أو معرفته أو التواصل معه.
3/ صوابية هذا العلم لذلك الواقع بتمامه وكماله، في قبال من آمن بالواقع وبإمكانية الوصول إليه، لكنه قال بأنه لا مُثْبِتَ يضمن لنا أنّ علمنا الحصولي مطابق للواقع، وبالتالي يبقى الشك قائماً فيما نراه، وأنه هو الواقع بالفعل أم أنه مجرد صورة يرسمها الذهن من نسج الخيال.
إن إيمان الواقعيين بتلك الثلاثية كان وراء تشييد بناءاتهم المعرفية وصروحهم العلمية، في حين بقي السفسطائيون ينكرون الصوابية [أي إنهم يقولون باستحالة أن تكون علومنا مصيبة للواقع]، أو يُنكرون إمكان التعرف على الواقع، بل بعضهم أنكر الواقع بتمامه حتى واقعية نفسه-.
ومن الواضح أن أي علم من العلوم لا بد أن تكون منطلقاته وبداياته
ص: 61
بديهية، لأنها إذا كانت نظرية فهي تحتاج إلى ما يُثبتها، فيتسلسل، إلا أنْ نصل إلى بديهي ثابت لا يقبل الشك.
والمقولات الدينية في علم الكلام تبدأ من ثابت محوري هو (وجود الإله)، وهذا يبتني على قبول تلك الأسس الثلاثة للواقعية، التي تؤسس للإيمان بوجود الإله.
ثم إن قضية الألوهية تم تناولها في مجالين من الفكر الديني:
وهي كثيرة جداً، وهي تُشير إلى أن وجود (الإله) هو من الأمور الواضحة والجلية والتي لا تحتاج أصلاً إلى استدلال، وهو مفاد ما يُقال من أنّ وجوده تعالى أمر بديهي لا يقبل الشك بحكم العقل لوحده، وبالتالي تكون النصوص الشرعية إمضائية لتلك البداهة.
ومن تلك النصوص هي التالي:
(وَلِله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 115]
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم 10]
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد 4]
ص: 62
(كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ أَيَكُونُ لِغَيْرُكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ ؟ مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلَ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً...)(1)
(بِكَ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ ودَعَوْتَنِي إِلَيْكَ وَلَوْلا أَنْتَ لَمْ أَدْرِ ما أَنْتَ...)(2)
(يا مَنْ دَلّ عَلَى ذَاتِه بِذَاتِهِ)(3)
هذه بعض النصوص المباركة من القرآن الكريم والنصوص الروائية -من باب المثال لا الحصر-، وكلها تُلفتُ إلى أن قضية الألوهية هي بمستوى من الواقعية والوضوح والحتمية، المتجاوزة لمرتبة الاستدلال، بل وصل الأمر ببعضها إلى نسبة العمى إلى المنكر والمتوقف، والإنكار على المشككين فيها، وعدم منهجية النقاش المبني على الإنكار والإلحاد، فهي من الواقعيات التي لا تقبل اللبس والارتياب، فليست هي كبعض القضايا العلمية التي تدرس بعض جوانب الواقع الذي نعيشه، حيث نراها تحتاج إلى تجشم عناء الفكر والاستدلال للوصول إليها وإثباتها، بل هي من صميم الواقعية البديهية. نعم هي تحتاج إلى تنبيه الغافلين عنها.
ص: 63
وقد وفّرت هذه العلوم –بالدقة- تنبيهات لمن غفل عن تلك الحقيقة البديهية غير المحتاجة إلى استدلال، وأن الطرق للاستدلال (أو بالدقة: للتنبيه) على وجوده جلّ وعلا كثيرة، (وقد قدّم المفكرون الإسلاميون أدلة إثبات وجود الله في سبعة حجج، هي: (دليل الفطرة) و (برهان الوجوب والإمكان)، و (برهان الحدوث)، و (برهان الحركة)، و (برهان النفس)، و (دليل النظام)، و (برهان الصدّيقين)...يمكن تصنيف البراهين الإسلامية هذه إلى أربعة أصناف، هي:
1/ برهان الإجماع العام، وهو (دليل الفطرة)
2/ البراهين الكونية، وتشمل برهان الملازمات العقلية وبرهان الصديقين وبرهان الوجوب والإمكان، وبرهان الحدوث، وبرهان الحركة.
3/ برهان (إتقان الصنع) أو (برهان النظام)
4/ برهان النفس.(1)
ونضيف إليها أيضاً برهان (المفهوم) أو (الحقيقة)، الذي لم تُسلّط عليه الأضواء في الكتب المدْرسية، رغم أنه برهان قاطع لا يقبل الشك، بل هو أخصر البراهين للوصول إلى إثبات الغيب، فتكون عندنا خمسة محاور إن شاء الله تعالى.(2)
ص: 64
وسنمرّ على هذه الأدلة سريعاً إن شاء الله تعالى، وبعد الانتهاء من سرد هذه المبادئ والطرق سيتضح لنا جلياً أن مقولة (وجود الإله) ليست قضية اجتهادية، وإنما هي قضية بديهية.
فإن القضية الاجتهادية هي القضية التي تحكي عن واقعية لا تتمتع بدرجة عالية من الجلاء والوضوح، وبالتالي قد يختلف الباحثون عنها وتتعدد آراؤهم فيها، فبعضهم يصل إلى أعماقها، وآخر لا يصل، وثالث يصل إلى بعض زواياها، ورابع يصل إلى زوايا اخرى، وينتج عن ذلك التعددية في تلك القضية وبالشكل التالي:
أ- أن يكون كل من المختلفين غير مصيبين لواقع القضية.
ب- أن يكون كل من المختلفين مصيبين للواقع، ولكن أحدهما أصاب
ص: 65
زاوية مختلفة عما أصابه الآخر من زوايا الواقع.
ج- أن يكون الأول مصيباً والثاني مخطئاً، أو بالعكس.
هذه ضابطة القضية الاجتهادية ولوازمها من التعددية بالشكل السابق.
وقضية الواقعية، وقضية الدين الأولى (وجود إله) لا تُعدّان من صغريات القضية الاجتهادية، لأنهما لا يقبلان إلا شكلاً واحداً، وهي صوابية الواقعي والديني، حيث تأسست تلك القضيتان على البداهة والعصمة والوضوح، وبالتالي لا تقبل الرأي والرأي الآخر والإنكار والتشكيك.
صحيح أن قضية (وجود الإله) قضية بديهية، ولكن هذا لا يجعلها متفقًا عليها، فالبديهي عموماً وإن كان معناه: الواضح والعام والمعروف والجلي والبيّن، ولكن لا يُشترط فيه أنْ يكون مُجْمعاً عليه من الجميع، فالإجماع والاتفاق ليس من مقومات بداهة البديهي.
وهذا يعني: أن عدم قبول البديهي لا يساوي دائماً السفسطة، لأنه قد لا يؤمن الشخص بالبديهي لعدم التفاته إليه، فيحتاج إلى تنبيه، نعم، لو كان ملتفتاً إلى البديهي الواضح، ومع ذلك أنكره، فهي السفسطة.
ثم إن غير المتلفت إلى البديهي، يحتاج إلى تنبيه، ولكن إلفات نظره إلى البديهي قد لا يكون سهلاً وبسيطاً، بل قد يحتاج إلى جهد عضلي (كما تقدم في
ص: 66
احتياج التواتر إلى استقراء...) وهذا أمر قد يستغرق وقتاً طويلاً من البحث والاستقصاء، وقد يحتاج إلى جهد علمي طويل المدى، لأن تصوراته تحتاج إلى تخصّص علمي من أجل استيضاحها تماماً، فالقضية الأولية (الممكن محتاج) لا بد من تصور أطرافها بصورة صحيحة حتى يتمّ التصديق بها، ومن هنا، فإن المشكّكين يعملون على إخفاء البديهي من خلال التلاعب بتصوراته التي هي أساسه.
إذن، بداهة وجود الإله، لا تنافي احتياجها إلى (تنبيه) وإلى (تخصص علمي).
كيف نوفّق بين كون البديهي واضحاً، وبين كونه محتاجاً إلى علم وتخصّص ودراسة؟!
ونفس السؤال يُقال في التوفيق بين كون الدين فطرياً واضحاً، وبين كونه محتاجاً إلى (نبوة) و (تعبّد) و (تخصّص)؟!
والجواب أنْ يُقال:
أولاً: لا بدّ أن نفهم أن كون البديهي واضحاً بيّناً، لا يعني أنه علة تامة لفرض نفسه على الإنسان بالتصديق به، ولا يعني أن الإنسان سوف يضطرّ إلى قبوله، بل إن البديهي هو مقتضي للقبول، مما يعني إمكان أنْ توجد موانع في قباله، سواء كانت موانع علمية، أو خارجية، فالبديهي ميزته أنه لا يحتاج إلى استدلال في اقتضائه للقبول، وليس هو علة تامة لمنع الدليل المقابل أو الشبهة التي تسبّب التشويش.
ص: 67
ونفس الكلام يُقال في الفطرة، فهي قد تُدفن بفعل المؤثرات الخارجية، ولكنها لا تموت ولا تفنى، بل تبقى مهما ضعفت، فيمكن أن ترجع لتوهجها إثر المرور بظرف معين (كانكسار سفينة في البحر في تعبير بعض الروايات) أو دليل يُبعد التشويش عنها.
فالبداهة والفطرة لا تمنع من العناد في قبالها، أو عدم التصديق بها لعدم تصور أطرافها بصورة جلية، أو لوجود عوامل نفسية معينة تمنع من ذلك، أو لوجود أدلة معاكسة (وإن كانت في حقيقتها شُبهات لكنها تلبست بلباس الدليل)، كل ذلك لأن العصب المحرك للإنسان في كل مفردات حياته هي صفة (الاختيار).
ومن هنا، تنفتح الحاجة إلى المتخصّص الذي يقوم بدور الحماية والدفاع والصيانة والمناعة لذلك البديهي، وللنبي وللقدوة لحماية وتجلية الفطرة.
وثانياً: إن طبيعة العلاقة بين البديهي والنظري هي علاقة الاشتقاق الفلسفي، أي إن النظري مشتق من البديهي، أو قل: هو تفصيل له، فالبديهي هو أمر بسيط (فلسفياً أي غير مركب) فهو منبع الاشتقاق بالنسبة للنظري، والنظري هو اشتقاق منه، والعلوم البرهانية كلها هي عملية ومحاولة الاشتقاق من البديهي.
وفي عملية الاشتقاق هذه نحتاج إلى متخصص يتمكن من الاشتقاق والتفريع والتفصيل من البديهي، ولا مانع أبداً بين كون البسيط بديهياً، والاشتقاق منه نظرياً، بل قد يصل الاشتقاق إلى مرحلة يعجز عنها الإنسان،
ص: 68
فيحتاج إلى وسيط سماوي ومعجزة ووحي.
فالحاجة إلى المتخصص إذن تتجلى فيما تتجلى فيه في التمكّن من الاشتقاق من البديهي والاستخراج منه.
إن الاشتقاق من البديهي البسيط هو أشبه بما يُقال في التنزّل على نحو التجلي (الذي يبقى فيه الوجود واحداً رغم الأخذ منه والاشتقاق منه وتكثرّه، كتنزّل العلم من فرد لآخر، فإن إعطاء الفرد للمعلومة إلى الآخر لا يعدمها عند الأول، وهكذا لو أعطاها لألف شخص)، لا على نحو التجافي (الذي يكون الوجود واحداً وإذا انتقل فإنه ينعدم من الأول، تماماً كما إذا أراد أحدهم النزول من السلم، فإن نزوله هنا على نحو التجافي، فإنه إذا نزل من الدرجة الأولى إلى الثانية، فقد ترك مكانه في الأولى وانعدم وجوده هناك وتحول إلى الثانية).
وقد يُعبّر عن هذا الاشتقاق بالتقشير، وهو ليس تقشيراً مادياً (كتقشير البصلة إلى طبقاتها حيث إن أخذ أي طبقة يعدم شيئاً من البصلة إلى أن تنعدم) وإنما هو تقشير معنوي، (كتقشير المفاهيم، فإن الذهن البشري يشتق من مفهوم الإنسان مثلاً مفاهيم عديدة، كمفهوم الشاعر والكاتب والطبيب والمحامي ووو، من دون أن ينعدم مفهوم الإنسان، ولذلك تكونت سلسلة الأنواع والأجناس)
وهكذا، فإن البديهي يبقى بديهياً وبسيطاً مهما اُشتُق منه ومهما تمّ تقشيره
ص: 69
بنحو التجلي بالمعاني الفلسفية لا المادية لهذه المصطلحات، وهذه العملية (من التقشير أو التنزل أو الاشتقاق) ليست متاحة للجميع، بل هي عملية معقّدة جداً في كثير من الأحيان، الأمر الذي يعني ضرورة المتخصّص.
ومنه نفهم: أن القول بأن الدين بديهي، يُعنى به الدين في أصوله، أما في تفريعاته، فإنها تحتاج إلى متخصّص؛ لأنها ليست بديهية كلها، بل الكثير منها نظرية، فتحتاج إلى وسيط معصوم يقوم بعملية التفريع من ذلك البديهي.
والخلاصة: أن العلوم وإن انتهت إلى البديهي، والبديهي واضح، ولكن وضوحه لا ينفي الحاجة إلى المتخصص أو الوسيط والوحي، للسبب الذي ذكرناه هنا.
إن الحاجة إلى المتخصص ليست مختصة بالعلوم البرهانية (التي يتم الانتقال فيها من الكلي إلى الجزئي، عبر صغرى وكبرى، تبدأ من بديهتين وتستمر بالتشقيق إلى أنْ تصل إلى النظري الموغل في النظرية)، بل حتى العلوم الاستقرائية (التي يتم الانتقال فيها من الجزئي إلى الكلي) تحتاج إلى متخصص، فإن عملية الاستقراء والمتابعة والإحصاء والتجربة وملاحظة وتكرر المشاهدة وما شابه هذه الأمور، ليست متاحة للجميع، وحتى لو كانت متاحة للجميع، إلا أن نظرة المتخصّص إلى الجزئيات ليست كنظرة غيره إليها، ومن ثم كان استنباط قاعدة عامة من تلك الجزئيات ليس متاحاً إلا لمن عنده تخصّص ومعرفة في مجال العلوم الاستقرائية.
ص: 70
إن الانتقال من الجزئي إلى الجزئي، وهو المسمى بالتمثيل منطقياً وبالقياس أصولياً، لا يُنتج إلا تخمينات وظنيات، ومن هنا لم يصح الاعتماد عليه كحجة شرعية.
ص: 71
ص: 72
ويعني هنا الاستدلال بصياغة برهانية منتجة لليقين، فهو يحمل بين طياته أمرين:
الأول: قناعة الطرف المستدِل بمؤدى الدليل.
الثاني: نقل القناعة إلى طرف آخر: مشككٍ أو جاهلٍ.
وهو من المفاهيم البديهية التي لا تحتاج إلى بيان، وإنْ عُبّر عنه بحيثية طرد العدم.
لغة:
أله بالفتح إلاهة، أي عبد عبادة... ومنه قولنا (الله) وأصله إلاه على فعال، بمعنى مفعول، لأنه مألوه أي معبود... فلما أُدخلت عليه الألف
ص: 73
واللام حُذفت الهمزة تخفيفاً، لكثرته في الكلام...(1)
اصطلاحاً:
تعرف هذه الحقيقة –في الثقافة الإسلامية- باسم (الله)، وهو يعني: الرب الواجد لجميع صفات الجمال والجلال، وهو الوجود الأسمى والأكمل من جميع الموجودات، وخالق كل ما سواه.(2)
وقيل: عَلَم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال غير مشتق.
أو: عَلَم دالٌّ على الإله الحق دلالة جامعة لجميع الأسماء الحسنى الإلهية الأحدية، جَمَع جميع الحقائق الوجودية.(3)
لم يختلف المعنى اللغوي والاصطلاحي كثيراً عما عرّفت به الروايات الشريفة ذلك الاسم العظيم، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في معنى (الله): معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق و يُؤلَه إليه، والله هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات، وقال الباقر (عليه السلام): الله معناه
ص: 74
المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيته.(1)
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير (إله): أنّ تفسير (الإله) هو الذي ألِه الخلق عن درْك ماهيته وكيفيته بحس أو بِوَهْمٍ، لا، بل هو مبدع الأوهام وخالق الحواس.(2)
ص: 75
ص: 76
والكلام يقع في خمسة محاور، نتابعها بالتوالي إن شاء الله تعالى:
الفطرة هنا تعني (الخلقة)، قال الفراهيدي: (فطر الله الخلق، أي: خلقهم، وابتدأ صنعة الأشياء، وهو فاطر السماوات والأرض. والفطرة: التي طبعت عليها الخليقة من الدين. فطرهم الله على معرفته بربوبيته. ومنه حديث النبي (صلى الله عليه وآله): (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه).(1)
وقال ابن منظور: فطر الله الخلق يفطرهم: خلقهم وبدأهم. والفطرة: الابتداء والاختراع. وفي التنزيل العزيز: الحمد لله فاطر السماوات والأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي أنا ابتدأت
ص: 77
حفرها. وذكر أبو العباس أنه سمع ابن الأعرابي يقول: أنا أول من فطر هذا، أي ابتدأه. والفطرة، بالكسر: الخلقة... والفطرة: ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به...)(1)
وعلى هذا، فإنه يُقصد من فطرة الإنسان: (جبلّته وغريزته المكوّنة لذاته والمستودعة فيه من قبل البارئ تبارك شأنه، فهي رغبةٌ جامحةٌ واستعدادٌ تامٌّ لأداء كلّ عملٍ يتّصف بالحُسن ويراد منه الخير، بحيث لو تُرك الإنسان وشأنه فهو يبادر إلى القيام بهذا العمل بمحض إرادته ورغبته ما لم تُغبَّش مدركاته بعوامل خارجية.)(2)
هذا، وإنّ (أحد المعاني للفطرة هو تطابقها مع التعاليم الدينية، ولا سيّما الأديان السماوية؛ فعندما يذكر الدين والإنسان معاً يُراد من ذلك أنّ الدين قد شُرّع بحسب الحاجة النفسية للإنسان وانسجاماً مع مقتضيات ذاته...)(3)
ومعه، فيكون معنى الدليل الفطري باختصار، هي (قدرة الإنسان على الاعتقاد بوجود الله تعالى اعتماداً على مدركاته الفطرية من دون الحاجة إلى تعليمٍ وتربيةٍ).(4) أو قل: (إن الإنسان خُلق بكيفية تقتضي الوصول إلى معرفة
ص: 78
الله تعالى، إذا لم يكن هناك مانع، كالشبهات التي يوردها الملاحدة)(1) ورغم تعدد الصياغات وتعقيدها في بعض الأحيان، ولكن هذا المعنى المختصر يكفي لبيانه بشكل واضح لا لبس فيه. فهو يحمل اتفاق جميع الناس على مبادئ عامة، ومن تلك المبادئ ما يوصلهم إلى ضرورة وجود خالق لهذا الكون. ولذلك أطلقت عليه فلسفة اللاهوت الغربي ببرهان الإجماع العام.(2)
(إنّ التجربة تدل على أن مشكلات الحياة إذا ألمّت بالإنسان، وعجزت كل السبل والحيل عن حلّها وعلاجها، أزالت يد البلاء القوية حجب المعرفة، وحينئذٍ يغدو الناس جميعاً حتى المنكرون لله، عارفين بالله مستمدّينه في أمورهم)(3)
وقد اُعتبر (دفع الضرر المحتمل) أحد الأدلة الفطرية على ضرورة البحث عن الله تعالى، وبالتالي على وجوده جلّ وعلا. إذ العاقل بفطرته يعمل على البحث عن هذا الإله الذي أوعد مخالفيه بالعذاب الدائم الأبدي...
وقد أشارت بعض الآيات والروايات إلى تجلّي هذا الدليل في فطرة الإنسان، وظهوره في ساعة العسرة والحرج.
قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
ص: 79
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(1)
وقال تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(2)
وقال تعالى (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ. ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)(3)
وفي هذه الآيات إشارة واضحة إلى أن الإنسان قد يتعمد تغطية فطرته وعدم الالتفات إلى تنبيهاتها، ولكن هذا لا يعني انعدامها في داخله، ولذلك فهو يرجع إليها نادماً عند الشدة والحرج.
وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هاتين الحقيقتين أيضاً (أعني دلالة الفطرة على وجود الله تعالى، وإمكان تغبيش الفطرة وتغييبها عملياً لسبب وآخر وإن اعتقد بها في داخله)، ومنها الروايات التالية:
عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (حُنَفاءَ لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِه) قَالَ (عليه السلام): الْحَنِيفِيَّةُ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ الله النَّاسَ
ص: 80
عَلَيْهَا (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله) قَالَ: فَطَرَهُمْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِه.(1)
وعن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (فطرة الله التي فطر الناس عليها)؟ قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم ولولا ذلك لم يعلموا إذا سُئلوا من ربهم ولا من رازقهم.(2)
وعنه (صلى الله عليه وآله): كل نسمة تولد على الفطرة، حتى يُعرِب عنها لسانُها، فأبواها يهودانها وينصرانها.(3)
وعنه (صلى الله عليه وآله): كل مولود يولد من والد كافر أو مسلم فإنه يولد على الفطرة على الاسلام كلهم، ولكن الشياطين أتتهم فاجتالتهم(4)
عن دينهم، فهوّدتهم ونصّرتهم ومجّستهم وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً.(5)
وروي أنه قالَ رَجُلٌ لِلصَّادِقِ (عليه السلام): يَا بنَ رَسولِ اللهِ، دُلَّني عَلَى اللهِ ما هُوَ ؟
فَقَد أكثَرَ عَلَيَّ المُجادِلونَ وحَيَّروني.
فَقالَ لَهُ: يا عَبدَ الله، هَل رَكِبتَ سَفينَةً قَطُّ ؟
قالَ: نَعَم.
قالَ: فَهَل كُسِرَتْ بِكَ حَيثُ لا سَفينَةَ تُنجيكَ ولا سِباحَةَ تُغنيكَ ؟
ص: 81
قالَ: نَعَم.
قالَ: فَهَل تَعَلَّقَ قَلبُكَ هُنالِكَ أنَّ شَيئاً مِنَ الأَشياءِ قادِرٌ عَلى أن يُخَلِّصَكَ
مِن وَرطَتِكَ ؟
فَقالَ: نَعَم.
قالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): فَذلِكَ الشَّيءُ هُوَ اللهُ القادِرُ عَلَى الإِنجاءِ حَيثُ لا
مُنجِيَ، وعَلَى الإغاثَةِ حَيثُ لا مُغيثَ...(1)
قالَ رَجُلٌ لِجَعفَرِ بنِ مُحَمَّد (عليهما السلام): مَا الدَّليلُ عَلَى اللهِ ؟ ولا تَذكُر لِيَ العالَمَ وَالعَرَضَ وَالجَوهَرَ.
فَقالَ لَهُ: هَل رَكِبتَ البَحرَ ؟
قالَ: نَعَم.
قالَ: هَل عَصَفَت بِكُمُ الرّيحُ حَتّى خِفتُمُ الغَرقَ ؟ قالَ: نَعَم، قالَ: فَهَلِ
انقَطَعَ رَجاؤُكَ مِنَ المَركَبِ وَالمَلاّحينَ ؟
قالَ: نَعَم.
قالَ: فَهَل تَتَبَّعَت نَفسُك أنَّ ثَمَّ مَن يُنجيكَ ؟
قالَ: نَعَم.
قالَ: فَإِنَّ ذاكَ هُوَ اللهُ، قالَ اللهُ تَعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ
ص: 82
مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)(1)،
(إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)(2).(3)
نكتة:
في قوله تعالى (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا)(4)يمكن القول بأن المقصود من هذه الفطرة(5) التي يحاول إبليس تغييرها هو ما تقدم بيانه من معناها، فإنَّ الله تعالى فطر الانسان على الاستقامة والاعتدال، ولكن الشيطان –ومن حذا حذوه- يحاول أن يحرفه عن هذه الطبيعة التي خلقه الله عزّ وجلّ عليها، نظير ما ورد في الحديث الشريف: (كل مولود يولد على الفطر وإنّما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه)، وهناك آية كريمة لعله يمكن الاستفادة منها في هذا المجال وهي قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(6)،
فعبّر ب- (خلق الله) عن الفطرة، وأيّ فطرة؟ هي (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)، يعني أنَّ الفطرة
ص: 83
تقتضي الدين، وإنما المحيط والشياطين هي التي تؤثر على الإنسان.
ص: 84
وتشمل برهان الملازمات العقلية وبرهان الصديقين وبرهان الوجوب والإمكان، وبرهان الحدوث، وبرهان الحركة.
تنطلق هذه البراهين من قبول الواقعية ورفض السفسطة، أي قبول الواقع الذي يمكن إدراكه بصوابية، وعلى مرحلتين:
ويمكن تصوير هذه المرحلة بتصويرين:
وبيانه بالآتي:
للدليل والبرهان شكلان:
1/ الدليل الإني، وهو الانتقال من العلم بالمعلول إلى العلم بالعلة.
2/ الدليل اللمي، وهو الانتقال من العلم بالعلة إلى العلم بالمعلول.
وهناك شكل ثالث ممن البرهان أسموه بدليل الملازمات أو شبيه اللمّ أو الإنّ، وهو يبتني على:
ص: 85
أ- الاستفادة من الواقعية فقط، من دون الحاجة إلى التعرف على خصائص تلك الواقعية أو ألوانها، أي من دون ملاحظة كون هذا الواقع علة أو معلولاً، بسيطاً أو مركباً، واحداً أو كثيراً، واجباً أو ممكناً..بل ملاحظة أصل الواقعية فقط.
ب- رفض السفسطة بكل أشكالها (إنكار الواقع، التشكيك به، إنكار أمكانية إدراكه بعد التسليم به)، أي قبول أن هناك واقعاً يمكن إدراكه.
فميزة هذا البرهان هو عدم انطلاقه من الواقع المعلوم معلوليته، بل ينطلق من الواقع مطلقاً، في قبال برهان الإن الذي ينطلق من المعلول المعلوم معلوليته (كما في براهين الإمكان والحدوث والحركة)
وعليه، فتكون صورة الدليل على إثبات وجود الواجب هكذا:
الواقع – مطلقاً – إما واجب فهو، وإلا لكان ممكناً، فيحتاج – لمكان إمكانه القاضي بتوقفه على علته لتخرجه من حيز الإمكان إلى ظرف الوجود- إلى الواجب، وإلا لدار (والدور باطل ضرورة لأنه يلزم من الدور اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما) أو تسلسل (والتسلسل باطل ضرورة – لمن يقبلها فيه – أو بالدليل(1)
ص: 86
وبعبارة أخرى:
هذا الواقع الذي ندركه، إن كان فيه موجود واجب، فهو المطلوب، وإن لم يكن فيه ذلك، أي كانت تلك الواقعيات كلها ممكنة، فهذا يعني أنها بحاجة إلى علة تخرجها من الإمكان إلى الوجود، وحينئذٍ نسأل: الموجود الأول مثلاً ما هي علته؟ لا بد أن تكون علته هو الموجود الثاني، وهو موجود ممكن حسب الفرض، فهو أيضاً بحاجة إلى علة، فعلَّتُه إن كانت هي الموجود الأول، لزم الدور، وإن كانت ممكناً ثالثاً، فيحتاج إلى علة، وهكذا يتسلسل، والتسلسل باطل.
فليس لدينا أمام هذا الواقع الذي ندركه إلا ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يكون هناك موجود واجب، هو الذي أوجد الممكنات، وهو لا يحتاج إلى علة توجده؛ لأنه واجب.
الثاني: أن تكون علة الأول هو الثاني، وعلة الثاني هو الأول، وهذا يلزم منه الدور.
الثالث: أن تكون علة الأول هو الثاني، وعلة الثاني هو الثالث...، وهكذا إلى ما لا نهاية، فيلزم التسلسل.
ص: 87
وحيث إن الدور والتسلسل باطلان، إذن لا مناص من قبول الأول، وهو المطلوب.
فنلاحظ هنا: أن إثبات أي لازم من هذين اللازمين (الواقع والواجب) يؤدي بالضرورة إلى إثبات اللازم الآخر، فإثبات الواقع يستلزم إثبات الواجب، وإثبات الواجب كذلك يستلزم إثبات الواقع.
التصوير الثاني: برهان (الصدّيقين)(1)
لاحظنا أن برهان الملازمات يعتمد على بطلان الدور والتسلسل، ولكن
ص: 88
يمكن الاستفادة منه من دون الحاجة إلى المرور بالدور والتسلسل، وهو مفاد برهان الصديقين ونبينه بطريقين(1):
إجمالي، وتفصيلي.
هذا الواقع، إما مستقل فهو، وإلا فهو رابط، ولا حقيقة لرابط برابط، بل حقيقة الرابط بالمستقل، فلا بد من مستقل. فيلزم.(2)
، فأن يقال:
إن برهان الصدّيقين يبتني على ثلاث مقدمات:
اتفقوا على أن الوجود مشترك بين الموجودات، ولكن اختلفوا في نحو هذا الاشتراك على رأيين:
الرأي الأول: إن الاشتراك معنوي، فالمفهوم والمعنى من الوجود في كل الموجودات واحد، والاختلاف إنما هو بحسب المصاديق ومراتبها شدة
ص: 89
وضعفاً، باعتبار أن الوجود مفهوم مشكك لا متواطئ.
الرأي الثاني: إن الاشتراك لفظي، فالمشترك بين الموجودات هو لفظ الوجود فقط، وأما معناه فهو يختلف من مصداق لآخر.
وقد ثبت في علم الفلسفة أن الأول هو الحق.
إن كل ممكن في الخارج فهو زوج تركيبي من الوجود والماهية في الذهن، ولا شك أن للموجود الخارجي آثاراً معينة، فهذه الآثار هل هي آثار الوجود أم الماهية؟
هنا خمسة آراء –كما قيل-:
1/ إن الأصيل هي الماهية. (كان يُقال به قبل زمن ملا صدرا)
2/إن الأصيل هو الوجود (وهو المذهب السائد بعد زمن ملا صدرا)
3/ أصالة كل من الوجود والماهية. (نُسب للشيخ الإحسائي)
4/ إن الأصيل في الواجب هو الوجود، وفي الممكن هي الماهية.
5/ لا أصيل في الخارج، أي ليس هناك مؤثر في الخارج، وهو مذهب السفسطائيين.
والتحقيق في الفلسفة على أن الوجود هو الأصيل، وأن الماهية هي حدّ الوجود لا أكثر.
ص: 90
نظام العالم هو نظام العلة والمعلول، ولكن ما هو الموضوع لأصل العلية؟ أي لماذا يكون شيء ما محتاجاً إلى علة؟
طُرحت في هذا المجال عدة نظريات نذكرها سريعاً من دون توقف عليها(1):
النظرية الأولى: إن علة الاحتياج إلى العلة هو الوجود، فكل موجود هو محتاج إلى العلة.
وهي بلا دليل، ويُنقض عليها بوجود الواجب.
النظرية الثانية: إن علة الاحتياج إلى العلة هو الحدوث، فكل حادث (أي لم يكن موجوداً في زمان ما ثم وُجد) فهو محتاج إلى علة.
النظرية الثالثة: إن علة الاحتياج إلى العلة هو الإمكان، فكل ممكن (أي ما لا يستحيل فرض العدم عليه، ولا يأبى العدم من ذاته) فهو محتاج إلى العلة.
النظرية الرابعة: إن علة احتياج الموجود إلى العلة هي (كيفية وجوده، وبعبارة أخرى: فإن الفقر الوجودي والتعلّق الذاتي لبعض الموجودات هو ملاك احتياجها إلى الوجود الغني غير المحتاج، إذن، موضوع القضية المذكورة هو (الموجود الفقير) أو (الموجود المتعلق)، وحينما نأخذ بعين الاعتبار المراتب
ص: 91
التشكيكية للوجود، حيث تكون كل مرتبة أضعف متقومة بالمرتبة الأقوى، فإننا نستطيع أن نجعل موضوع القضية هو (الموجود الضعيف)، فيصبح ملاك الاحتياج إلى العلة هو (ضعف مرتبة الوجود).(1)
(وبالالتفات إلى هذه المقدمات، يمكن صبّ برهان الصدّيقين على أساس منهج صدر المتألهين بهذه الصورة:
إن مراتب الوجود –باستثناء أعلى مراتبه التي تتميز بالكمال اللا متناهي وعدم الاحتياج والاستقلال المطلق- هي عين الربط والتعلّق، ولو لم تكن تلك المرتبة العليا متحقّقة، فإن سائر المراتب لا تتحقق أبداً، لأنه يلزم من فرض تحقق سائر المراتب من دون تلك المرتبة العليا أن تكون المراتب المذكورة مستقلّة وغير محتاجة إليها، بينما حيثية وجودها هي عين الربط والفقر والاحتياج)(2)
المرحلة الثانية: إن الواقعية الملونة بلون معين (كالإمكان أو الحدوث أو الحركة) تدل على الغيب(3)
وفي هذه المرحلة، يتم الاستدلال على إثبات وجود الله تعالى من خلال
ص: 92
الواقعية المحيّثة بحيثية معينة، كحيثية الإمكان أو الحدوث أو الحركة، فهنا ثلاثة براهين تشترك في اعتمادها على كبريات بديهية كما سيتبين إن شاء الله تعالى، والبراهين هي:
وهو من إبداعات الفارابي، وذكره ابن سينا أيضاً في كتبه، بل قد اشتهر بدليل ابن سينا، وإن (أول من تداول استعمال هذا البرهان في اللاهوت والفلسفة الغربية هو توماس أكويناس... وقد تابعه على ذلك لايبنتز(1)،
وقد تم تقرير هذا البرهان بتقريرات عديدة(2)،
نذكر منها تقريراً واحداً، وقبل بيانه نبين التالي:
معنى الممكن والواجب.
هناك أربعة إطلاقات للإمكان في الفلسفة: (الإمكان العام والخاص والذاتي والاستعدادي)، والمهم هو أنّ المقصود من الممكن هنا هو: ما لا يقتضي من ذاته الوجود ولا العدم، (وهو معنى الإمكان الذاتي) مما يعني أن وجوده أو عدمه يكون من غيره، فهو محتاج في وجوده إلى العلة، ويكفي في عدم وجوده عدمُ وجود علة وجوده.
ومعه، فخلاصة ما يمكن قوله في خواصّ الممكن هو أن له أربع خواص:
ص: 93
1/عدم اقتضائه للوجود أو العدم من ذاته.
2/مما يعني أنه محتاج إلى غيره في أصل وجوده.
3/بل وفي استمرار وجوده، لأنه لا يقتضي الوجود من ذاته، فيكون استمرار وجوده كأصل وجوده نابعاً من غيره.
4/ أن كل ممكن فهو زوج تركيبي من وجود، وحدٍّ للوجود (ماهية)، لأن الممكن لا يظهر في هذا العالم إلا بوجود، ولأنه موجود محدود متناهٍ في وجوده –لفرض أنه ممكن وليس واجباً- فله حدٌ معين (وهي الماهية) وبالتالي، فكل ممكن فهو مركب –ذهناً- من وجود وماهية.
أما الواجب، فهو ما يكون وجوده نابعاً من ذاته، فذاته هو الوجود، لا شيء آخر، وإن صفته الأصيلة هي الغنى المطلق، بما تحمله هذه الكلمة من امتناع كل ما من شأنه أن يؤدي إلى النقص في الذات، ولذلك فإن نفس كونه واجباً ينفي التركيب والاثنينية والحاجة وكل نقص. وهذا يعني أن التعبير ب- (واجب الوجود) يستبطن إثبات كل الصفات الكمالية ونفي كل الصفات السلبية، وبالتالي فكل صفات الممكنات الحاكية عن النقص تكون منفية عن الواجب.
إذا تبيّن هذا نقول:
لا شك أن هنا موجوداً في الخارج (أصل الواقعية يثبت ذلك) فإنْ كان هذا الموجود واجباً فقد ثبت المطلوب، وإنْ كان ممكناً، احتاج إلى علة لكي
ص: 94
يوجد، وعلته إنْ كانت واجبة فبها، وإنْ كانت علته هو نفس الموجود الأول دار، وإنْ كانت غيره وهو ممكن تسلسل، والدور والتسلسل باطلان، فلزم وجود واجب وجود في الخارج، وهو المطلوب.
ويمكن تلخيص البرهان المذكور في النقاط التالية:
1/الإذعان بحقيقة وجود الواقع الخارجي.
2/ تقييد الوجود الحقيقي بممكن وواجب.
3/ افتقار الممكن إلى علة في وجوده أمرٌ بديهي اقتضاءً لماهيته وذاته.
4/ استحالة حدوث الدور والتسلسل على صعيد العلّية.
5/ فرضية (واجب الوجود) هي الفرضية الوحيدة التي نستطيع من خلالها تبرير وجود الممكنات بأسرها.(1)
هذا، وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذا البرهان في عدد من آياته، ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(2) وقوله تعالى (واللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)(3)
وروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:...وكُلُّهُمْ إِلَيْه مُحْتَاجٌ وهُوَ غَنِيٌّ عَمَّنْ سِوَاه.(4)
ص: 95
وعلّق عليه المازندراني: (وكلهم إليه محتاج) لاستناد جميع الآثار إليه، إذ كل أثر فهو عن مؤثره والكل منته في سلسلة الحاجة إليه، وإفراد الخبر باعتبار لفظ الكل (وهو غني عمن سواه) كما قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).(1)
ينطلق هذا البرهان من قضية أثبتها الوجدان والعلم الحديث، بأن كل مفردات هذا العالم داخلة تحت التغيير، فلا شيء في هذا العالم ثابت، وبالتالي، تغيره يحكي عن حدوثه، فيحتاج إلى محدِث غير متغير ولا حادث (قطعاً للتسلسل)، فيثبت وجود محدِث لهذا العالم غير حادث، وهو القديم، وهو الله تعالى. ويُعرف هذا البرهان ببرهان المتكلمين، لأنهم أكثروا من استعماله.
فهنا عدة مقدمات لا بد أنْ نفهمها جيداً:
الحادث هو المسبوق بالعدم، يعني كان معدوماً ثم وُجِد، ويقابله القديم، وهو الموجود غير المسبوق بالعدم.
وللحادث والقديم معنيان:
ص: 96
هو الموجود الذي لا يكون الوجود ذاتياً له، بل يكون الوجود مفاضاً عليه من غيره، فهو محتاج إلى ذلك الغير حتى يوجد. وهذا المعنى يشمل كل ما عدا الله تعالى، سواء كان من عالم الطبيعة أو من عالم المجردات.
هو الموجود الذي يكون الوجود ذاتياً له، فلا يكون الوجود مفاضاً عليه من غيره، فهو غير محتاج إلى غيره حتى يوجد، وهذا المعنى منحصر بالله جلّ جلاله، إذ هو (واجب الوجود) الذي يعني أن وجوده ضروري، فلا ينفكّ عنه، لأنه يلزم منه تفكيك الذاتي عن الذات، وهو محال.
هو الموجود الذي سبقه زمان لم يكن موجوداً في ذلك الزمان، يعني هناك فترة زمنية كانت وهو غير موجود فيها. فأنا مثلاً لم أكن موجوداً قبل مائة سنة، وبالتالي فأنا حادث زماناً.
للقديم الزماني إطلاقان:
ص: 97
هو الموجود الذي وُجِد مع الزمان، فليست هناك قطعة زمنية كانت وهو لم يكن، ومثاله عالم الطبيعة كله، فعالم الطبيعة وُجِد في اللحظة أو الآن الذي وُجد فيه الزمان، بحيث وجدا (الزمان وعالم الطبيعة) في لحظة واحدة.
ومثاله أيضًا: الزمان نفسه، فإنه لم يسبقه زمان غيره، فهو قديم زماني.
والذي يُقابل هذا المعنى للقديم الزماني هو الحادث الزماني، فأنا حادث زماناً، أي إنه مرّ زمن لم أكن موجوداً فيه، ثم وُجدتُ بعد ذلك، ولكن عالم الطبيعة ككل هو قديم زماناً.
وهنا سؤال: نحن نعلم أن هناك موجودات غير زمانية، يعني موجودة قبل خلق الزمان، مثل الملائكة، فهذه ماذا نسميها؟
الجواب: نسميها (حادثة ذاتاً) فهي موجودات لا تقتضي الوجود من ذاتها، وقد استعمل المحقق الميرداماد مصطلح (الحدوث الدهري) للتعبير عن الوجودات المجردة وتقدمها على الوجودات المادية.(1)
إن معنى القديم الزماني مساوق للقديم الذاتي، فكل ما عدا الله تعالى هو حادثٌ ذاتاً وزماناً. فالقديم الزماني والقديم الذاتي هما بمعنى أن يكون الموجود موجوداً منذ الأزل ولا بداية زمنية له، وهو واجب الوجود حصراً،
ص: 98
وكل ما عداه، سواء كان من عالم الطبيعة أو من عالم المجردات، أي سواء كان مسبوقاً بالعدم الزماني (مثلي ومثلك) أو لم يكن مسبوقاً به (كما في عالم الطبيعة) أو كان غير زماني أصلاً (كعالم المجردات)، فكل تلك الموجودات مسبوقة بالعدم الذاتي، فهي موجودات حادثة، لم تكن ثم كانت.
فالمقدمة الأولى تقول: إن هذا العالم الذي نراه ونحسه، في كل مفرداته، هو عبارة عن أجسام، تختلف فيما بينها من حيث الصغر والكبر، وكل جسم هو إما ساكن أو متحرك، والسكون والحركة حدوث، لأن السكون هو كونٌ ثانٍ في المكان الأول، والحركة هي كونٌ ثانٍ في مكان ثانٍ، فبين الحركة والسكون تقابل ضدّين، لأنهما وجودان، لا يجتمعان في مكان واحد في زمان واحد، وبما أن هنا وجوداً ثانياً، ولم يكن موجوداً عند الوجود في المكان الأول، فهو حادث، فالسكون والحركة حادثان.
وبعبارة أخرى: إن الموجود المادي يتشخص فيما يتشخص به بالزمان والمكان، فإذا تغير الزمان دون المكان فهو السكون، وإذا تغير الزمان والمكان فهي الحركة.
فهذه المقدمة إذن مقدمة وجدانية.
وكل ما كان له حوادث، فهو حادث، فالجسم الذي له حوادث لا بد أن يكون حادثاً، إذ لو كان قديماً فحوادثه إما قديمة أو حادثة، والأول خلاف الفرض، إذ الفرض أنها حوادث، فكيف تكون قديمة، والثاني، يعني هو قديم وحوادثه حادثة، هذا يلزم منه أنه كان في آنٍ ما غير موصوف بالسكون
ص: 99
والحركة، لأنه قديم، وحوادثه (من الحركة والسكون) حادثة حسب الفرض، وهو خلف كونه جسماً، إذ ثبت أن الجسم إما متحرك أو ساكن.
وهذه المقدمة يثبتها نظام (العلة والمعلول)، فهي مقدمة وجدانية، إذ المعلول (الحادث) لا يمكن أن يكون هو من أوجد نفسه. وإلا لدار، والدور باطل بالضرورة.
وهذه مقدمة وجدانية أيضاً، لانحصار الموجود بالحادث والقديم.
إذ لو جئنا للفرد (سين) الحادث الذي أوجده (صاد)، ف- (صاد) إن كان حادثاً فلا بد له من محدِث، فموجِدُه إن كان (سين) دار، وإن كان غيره، وهو حادث أيضاً، تسلسل. والدور والتسلسل باطلان بالضرورة.
النتيجة: لا بد أنْ يكون المحدِث لهذا العالم قديماً، لينقطع التسلسل، وهو المطلوب.
والمقصود من القديم هنا هو القديم الذاتي، لأن القديم الزماني باصطلاح الحكماء (وهو بمعنى العالم الطبيعي) هو في ذاته ممكن الوجود، فيحتاج إلى علة توجده، ولا بد أن تكون العلة قديمة قطعاً للدور والتسلسل، فينتهي أيضاً إلى القديم الذاتي.
ص: 100
خلاصة هذا البرهان هو الآتي:
إن العالم متحرِّك، وكل متحرِّك لا بد أن يكون له محرِّك، لأن كل معلول لا بد له من علة، وهذا المحرِّك، إنْ كان محتاجاً إلى محرِّك دار أو تسلسل، فلا بد من الوصول إلى محرّك لا يحتاج إلى غيره في التحريك، وهو في نفسه غير متحرك، لأنه لو كان متحركاً لاحتاج إلى علة للتحريك، فيدور أو يتسلسل، وذلك المحرك غير المتحرك هو الواجب تعالى.
فهو لا يختلف كثيراً في صياغته عن صياغة برهان الحدوث.
بيان مصطلح الحركة(1):
ربما يكون مفهوم الحركة أمراً واضحاً عرفاً، فقد تُفهم الحركة على أنها: (الانتقال من مكان إلى آخر)، ولكن هذا تعريف عرفي إذا صحّ التعبير، وهو يحكي إحدى مفردات الحركة، والتعريف العلمي لها هو: أن الحركة تعني: (التغير التدريجي)، أو (خروج الشيء تدريجاً من القوة إلى الفعل)(2)،
يعني من الفقدان إلى الوجدان، وهو معنى الاستكمال.
وهذا يعني: أن المتحرك فلسفياً هو موجود ناقص في حدّ نفسه، ويستكمل بالحركة، فهو إذن ممكن الوجود، فلا بد أن ينتهي إلى واجب الوجود.
ص: 101
الحركة –فلسفياً- لها خمسة أنواع:
الأول: الحركة المكانية، وهذه واضحة جداً للعيان. وهي من مقولة (الأين).
الثاني: الحركة الكيفية، كتغير التفاحة من اللون الأخضر إلى اللون الأحمر. وهي من مقولة (الكيف).
الثالث: الحركة الكمّية، كنمو جسم النبات والحيوان والإنسان وكبره شيئاً فشيئاً. ومثالها الواضح هي (السمنة) التي تحدث للجسم بعد أنْ كان نحيفاً مثلاً، وهي من مقولة (الكم).
الرابع: الحركة الوضعية، كدوران الأرض حول نفسها، وهي من مقولة (الوضع).
وهذه الأنواع الأربعة كلها تحدث في الأعراض لا في الجوهر.
الخامس: الحركة الجوهرية، وهذه الحركة استدل عليها الحكيم صدر الدين الشيرازي، وخلاصتها: التالي:
عندما نلاحظ مثلاً الإنسان، منذ اللحظة الأولى من انعقاد نطفته إلى أن يولد ويكبر، نلاحظ أنه يتحرك أيناً وكماً وكيفاً ووضعاً، ولكن هناك شيئًا آخر يتحرك فيه، وهو جوهر النواة، فجوهر النواة فيه يتحرك من النطفة إلى العلقة إلى المضغة وهكذا إلى أن يصبح إنساناً سوياً، فجوهره واحد متحرك
ص: 102
من القوة إلى الفعل. (1)
وتفصيل هذه الأنواع موكول إلى علم الفلسفة.
هذا وقد أثبتت العلوم التجريبية حركة كل الموجودات المادية، حتى الذرة والإلكترون والنيوترون حول النواة.
ص: 103
ص: 104
وهذا البرهان ينطلق من الواقعية بلون (النظام).
((النظام لونٌ من ألوان علاقة الانسجام بين أجزاء مجموعة، تكوّنت من أجل تحقيق هدف محدّد، بحيث يكون كل جزء من أجزاء المجموعة مكمّلاً للآخر، وفقدان أي منها يتسبب في أن تفقد المجموعة هدفها المعين، وأثرها المنشود، وإنّ واقع (النظام) في الظواهر الطبيعية لا يعدو اجتماع أجزاء مختلفة من حيث الكم والكيف، ائتلفت مع بعضها لأجل أن يُسفر تكاملها وتعاونها عن تحقيق هدف معين.
ويدلّنا تحليل مفهوم (النظام) وتعريفه إلى أنّ تحقّقه رهينٌ بتأتّي الأركان التالية:
1/وجود عدد من الأشياء أو الأجزاء المختلفة.
2/ حالة الترتيب والانسجام والتناغم السائدة عليها.
3/ وجود هدف معين.
4/ التأثير النسبي لكل جزء من الأجزاء في تحقيق الهدف، وارتهان تحقق الهدف باجتماعها وائتلافها.
ص: 105
5/عنصر الربط وعامل تلك العُلقة الموجَدة بين الأجزاء.))(1)
وخلاصة «برهان النظم» هي:
أن ههنا نظامًا دقيقًا يحكم عالم الوجود من الذرة إلى المجرة. وإن العقل يحكم بامتناع أن يكون هذا النظام من دون منظِّم عالم قادر مريد. وينتج عن هذا: أن العالم له منظِّم، عالم، قادر، حي، مريد، وهذا المنظِّم نحن نسمّيه «الله» جل جلاله.
وفي الحقيقة هنا صغرى وكبرى، فالصغرى تنص على أن العالم مبتنٍ على نظام، ونظام دقيق، وهذه لا تحتاج إلى إثبات، وإنما يمكنك فقط أن تنظر إلى كل مفردات العالم لتجد أنها مبتنية على أساس النظام، وكلما تطور العلم اكتشف أنظمة أكثر في هذا الوجود، وهذا ما قد تشير له الآية الكريمة. ﴿إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾(2)
فالعلماء هم الذين يستطيعون أن يكتشفوا هذا النظام الدقيق الموجود في مخلوقات الكون على اختلاف تخصّصاتهم، فصغرى القياس ومفرداتها يثبتها كل علم في مجاله، فعندما تذهب إلى الطب – مثلًا – ويبحث لك في جسم الإنسان فإنه يستخرج لك نظامًا دقيقًا فيه، بل في كل عضو من أعضاء الجسم الداخلية، فلا ينفرد العضو بنفسه في عمله على نحو الاستقلال، وإنما هناك توافق في العمل بين الأعضاء ليأخذ كل واحد منها دوره وليؤدّي
ص: 106
واجبه الذي عليه، فهذا التنسيق الدقيق يتوافق في العمل ويحفظ النظام في الجسم كله.
هذ، وقد حقّقت العلوم التجريبية انتصارات باهرة في مختلف مظاهر الطبيعة، وكشفت اللثام عن الحقيقة المتقدمة، بواسطة مكرسكوبات دقيقة، وتوصلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هي وحدة صغيرة جداً تسمى الخلية، ويوجد في جسم الإنسان كمعدل (عشرة ملايين مليار خلية)، وأول من اكتشف الخلية وسمّاها بذلك هو العالم (هوك) في القرن السابع عشر الميلادي، واستمرت الدراسات بشكل مستمر، وأخيراً، وبعد جهود مضنية اكتشفوا أن الخلية عبارة عن مدينة كاملة فيها آلاف التأسيسات، ومجهّزة بمنشآت ومعامل لتبديل المواد الغذائية إلى المواد التي يحتاجها الجسم، وإن هذه المدينة لها ثلاثة أقسام:
1/ جدار الخلية، وهو بمثابة سور المدينة.
2/القسم الأوسط للخلية (السيتوبلازم).
3/النواة أو مركز الخلية.
وهناك قنوات كثيرة تمتدّ من الجدران إلى أطراف النواة لتحويل المواد الغذائية إلى بروتينات.
ثم إن في نواة الخلية وحدات صغيرة جداً وظريفة تسمى (الكروموسومات) وهي تظهر عند انقسام الخلية، وفي خلية الإنسان يوجد
ص: 107
(46) كروموسوماً، وهذه ال-(46) منها (23) تأتي من الرجل إلى المرأة، و(23) عند المرأة في بويضتها، يتحدان فيكوّنان الخلية الأولى للجنين، والغريب أن هذه الكروموسومات لو زادت واحدة من أحد الطرفين لأثّر على الجنين ليخرج بما يسمى ب-(الجنين أو الوليد المنغولي.)!
ثم إن في الكروموسومات توجد أجسام صغيرة جداً تسمى (الجينات)، وطبقاً لدراسات العلماء، فإن عدد الجينات يصل إلى (25) ألف جين، وهذه الجينات هي المسؤولة عن نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء(1)!!
(أُنثى أحد الدبابير الطفيلية على سبيل المثال، حينما تريد أن تبيض فهي تقوم بتخدير حشرةً تنقضّ عليها وتجعل بيوضها في بدنها ثمّ تموت مباشرةً، لذا عندما تفقس هذه البيوض تقوم المواليد الجديدة بالتغذي من بدن الحشرة المضيفة، حيث تجد طعامها طازجاً؛ لذلك لو أنّ الحشرة الأمّ كانت قد قتلت تلك الحشرة ولم تخدّرها، لفسد جسمها ولما حصل الصغار على طعامٍ طازجٍ، بل فاسدٍ يهلكها فور ولادتها. والمذهل أيضاً في هذه الدورة الحياتية أنّ المواليد الجديدة تكرّر نفس العملية حينما تصل إلى سنّ البلوغ من دون أن تشاهد الأمّ وهي تفعل ذلك. فما تبرير هذه الظاهرة العجيبة؟!
ومثالٌ آخر على هذا النمط من النَّظم: نوعٌ من سمك الجرّيث (الجلكي)، حيث يقطع آلاف الكيلومترات في أعماق المحيطات متّجهاً نحو جزر برمودا لأجل وضع بيوضه، وبعد ذلك يموت مباشرةً. وأمّا الصغار التي تخرج من
ص: 108
البيوض فهي تعود إلى وطنها الأصلي لتعود مرّةً أخرى بعد أن تصل إلى سنّ البلوغ من دون أن تضلّ طريقها أو تضع بيوضها في مكانٍ آخر؛ ومن المؤكّد أنّه لا يوجد مرشدٌ يرشدها إلى الطريق أو يعلّما ما عليها القيام به، لذلك لا بدّ من وجود قدرةٍ غيبيةٍ وراء هذه الظاهرة المذهلة والنَّظم الذي يبهر العقول..)(1)
وبالنتيجة: إن الصغرى تدعونا إلى النظر في كل ما في الآفاق وما في الأنفس لنكتشف دقة هذا النظام.
وأما كبرى القياس، فهي تنص على أن النظام لابد له من منظِّم، وهذه وجدانية عقلية لا ينكرها إلّا مجنون أو مكابر، وإلّا فالمسألة تُطرَحُ بحسب الفطرة، إذ إن العقل هو الذي يحكم بأنه لا يمكن أن يوجد نظام من دون أن يوجد من يُنظّمه، وذلك المنظِّم يكون عالمًا، تمامًا كما لو رأيت لوحة مرسومة بدقة ومعلّقة على الحائط! ولو تركت الأمر لعقلك لاستحال عليه أن يقول بأن هذه اللوحة رُسِمَتْ لوحدها وذهبت بنفسها من دون يد إنسان أقلّتها وتعلَّقت على الحائط، العقل يحكم بأن هناك من أخذها وعلّقها على الحائط بعد أنْ قام شخص ما برسمها، هذا بصورة مصغرة، فالعقل يدرك أن النظام لابد له من منظم، وهذه مسألة وجدانية لا تحتاج إلى أكثر من التفكر قليلًا، وفي الحقيقة، إن هذا الأمر يثبته نظام (العلة والعلول) حيث تقدم أن المعلول
ص: 109
يكشف إنّاً عن صفات علته، تطبيقاً لقاعدة (فاقد الشيء لا يُعطيه).(1)
إن برهان «النظم» لا يحتاج إلى أكثر من مطالعة النظام وتطبيقه على القاعدة العقلية التي تقول: إن النظام لابد له من منظِّم.
ص: 110
وفي الحقيقة أن برهان النظم يريد تسليط الضوء على (التلازم العقلي بين (النظام) في ظاهرة ما، و (الوعي) الذي يتصف به فاعل تلك الظاهرة، فهو جوهر هذ الدليل)(1)
إنّ برهان النُظم ينتهي إلى إثبات أن هذا العالم لا بد له من منظّم، أما أنّ هذا المنظِّم لا بد أن يكون واجب الوجود، فهذا ما يحتاج إلى استئناف دليل آخر، كبرهان الوجوب والإمكان.
وهذا لا يُفرّغ برهان النظم من أي فائدة، بل تبقى فائدته في نفي كون العالم مخلوقاً للطبيعة، إذ الطبيعة موجود غير عاقل، فلا يمكن –بحكم العقل- أن تصدر منها أفعال تحكي عن العلم والحكمة والعقل، فإذا أوصلَنا برهانُ النُظم إلى هذه النتيجة، أمكن أن يُبحث بعدها في أن هذا المنظّم للعالم، هل هو موجود ممكن مثله أو هو موجود واجب الوجود؟ وتأتي حينها الأدلة السابقة التي سيقت لبيان ضرورة واجب الوجود.
في الحقيقة، نجد أن برهان النظم هو من أكثر البراهين شياعاً بين الأنبياء والمرسلين، بل إنه (وحسب الوثائق التاريخية، فهو يضرب بجذوره في العصر الإغريقي، ولا سيما في آراء الفيلسوفين: أفلاطون، وأرسطو)(2)
و (تعود
ص: 111
سابقة هذا البرهان في التراث والنصوص الفلسفية إلى (رسالة طيمايوس) من رسائل أفلاطون (348 ق.م)، وللبرهان الأخير من البراهين الخمسة التي ساقها أكويناس (1274م)...)(1)
ونجد في الآيات الكريمة بعض الإشارات إلى بعض الأدلة الفلسفية والكلامية، لكن أكثر الآيات تشير إلى هذا البرهان، ومن تلك الآيات الكثيرة هي التالي: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)(2)
وقوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(3)
ص: 112
وغيرها من الآيات الكثيرة في هذا الجانب.
والسبب في ذلك – والله العالم – يرجع إلى التالي:
أولًا: إن هذا البرهان يتلاءم مع المستويات العلمية المختلفة، وحتى المتباينة، فالإنسان العادي الفطري الذي ليست له أي شهادة أو معرفة كثيرة، هو يستطيع أن يستدل بنفس هذا البرهان على وجود الله تعالى، فهو برهان يشمل الجميع، ويمكن أن يستعمله الجميع، وليس كبرهان «الوجوب والإمكان» مثلًا، إذ يحتاج إلى دراسة معمّقة في الفلسفة ومعرفة كثير من الاصطلاحات والقواعد الفلسفية ومعرفة بطلان «الدور والتسلسل»، فيكون خاصًا بفئة من الفئات.
ثانياً: هذا البرهان خالٍ من التعقيدات اللفظية والمصطلحات العلمية والفلسفية التي تحتاج إلى درس وتأمل ومحط القيل والقال، وبمجرد عرضه على أي شخص بلغة بسيطة فإن مسائله تتضح بكل يسر.
ثالثاً: هذا البرهان متجدد مع الزمن، باعتبار أن صغراه ترتكز على النظام الموجود في الكون، وكلما تقدمت العلوم اكتشفت أنظمة أكثر، فيتجدد هذا البرهان مع تجدد العلوم.
ص: 113
ص: 114
وهذا البرهان ينطلق من الواقعية بلون (النفس الإنسانية).
وقد ذكره بعض الفلاسفة، ومنهم السيد الطباطبائي في نهاية الحكمة(1)،
ونسَبه إلى الطبيعيين، وهو برهان يعتمد على العديد من المقدمات الفلسفية، لذا نُعرض عن ذكر تفاصيله هنا، ونأخذ مقدماته على نحو الأصول الموضوعية، وخلاصته التالي:
هنا عدة مقدمات:
المقدمة الأولى: إنّ النّفس الإنسانية مجرّدة ذاتاً، فهي موجودٌ مجرّد لا مادي، وإن تعلقت بالبدن.
ص: 115
المقدمة الثانية: إن النفس موجود حادث، بحدوث البدن.
المقدمة الثالثة: ولأن النفس حادثة، فهي ممكنة الوجود.
المقدمة الرابعة: ولأنها ممكنة، فهي بحاجة إلى علة، إذ تقدم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة لتوجده.
المقدمة الخامسة: إن علة النفس لا يمكن أنْ تكون جسماً (أي ما له أبعاد ثلاثة: طول وعرض وعمق) ولا جسمانياً (أي الصورة النوعية المنطبعة في الجسم، لأن الجسم في الخارج لا يمكن أن يوجد إلا ضمن صورة نوعية، كالنبات والحيوان والمعدن ونحوها).
والنتيجة: إن علة النفس لا بد أن تكون موجوداً مجرداً، وهذا المجرد، إنْ كان واجباً فهو المطلوب، وإنْ كان ممكناً فلا بد أنْ يرجع إلى الواجب، قطعاً للدور أو التسلسل (برهان الوجوب والإمكان).
ملحوظة:
إن برهان (الحركة) وبرهان (الحدوث) وبرهان (النفس) كلها تعتبر مصاديق لبرهان (الوجوب والإمكان)، سوى أن برهان الوجوب والإمكان يستدل بالممكن -من غير تعيين المصداق- على لزوم وجود الواجب، وأما هذه البراهين فهي تستدل بمصداق معين من الممكن، لتثبت ضرورة انتهائه إلى الواجب.
وهكذا برهان (النظم) حيث تقدم أنه لا يُثبت وجود الواجب إلا من
ص: 116
خلال الرجوع إلى برهان الوجوب والإمكان.
بيان بعض مقدمات هذا البرهان(1):
وهو بيان للمقدمة الأولى: إنّ النّفس الإنسانية مجرّدة ذاتاً، فهي موجودٌ مجرّد لا مادي، وإن تعلقت بالبدن.
أقيمت على ذلك أدلة كثيرة جداً، نقتصر على دليلين:
الدليل الأول:
وفيه مقدمتان:
العلم الحسي: هو ما تدركه النفس من خلال الحواس.
وفيه خلافان:
الخلاف الأول: هل هو حضوري أو حصولي؟
ذهب شيخ الإشراق إلى الأول، وأن معناه: إحاطة النفس بالخارج من خلال الأعضاء والحواس.
ورُدَّ: بأنه لو كان حضورياً لما وقع فيه الخطأ، ولكنه قابل للخطأ، فالصحيح أنه حصولي.
ص: 117
الخلاف الثاني: هل هو مادي - فيحلّ في جزء بدني أو في محل مادي - أو مجرد؟
الصحيح هو الثاني؛ إذ لو كان مادياً للزم انطباع الكبير في الصغير، وهو محال، إذ إننا ندرك الجبل - مثلاً - على كبره، فلو كان العلم به مادياً لا نطيع الجبل في الذهن، وهو محال.
عندما تعلم النفس بشيء، فإنها تتحد معه، أي إنه لا يكون في عالم الذهن وجودان: وجود للنفس، وآخر للجبل مثلاً، وإنما هو وجود واحد للنفس والجبل، غايته أن العلم بالجبل كمال للنفس، تستكمل به، فتتسع، وهذا هو معنى اتحاد العالم (النفس) والمعلوم.(1)
إذا تبيَّنت هاتان المقدمتان، نقول:
حيث إن العلم الحسّي مجرد، وهو متحد مع النفس وجوداً، فالنفس إذن مجردة، للاتحاد بينهما.
الدليل الثاني:
1/ الإنسان يدرك ويعلم بالأشياء، وحيث إن العلم مجرد - كما تقدم - إذن، الإنسان يُدرك بغير بدنه.
ص: 118
فهناك مدرِك، وهو غير البدن، فلا يقبل الإشارة الحسية، وهي النفس.
2/إن ذلك المدرِك حاضر معلوم عند الإنسان، لا أنه غائب مجهول.
ينتج: أن ذلك المدرِك مجرد، إذ لو كان مادياً، لأمكنت الإشارة الحسية له، لأنه حاضر لدى الإنسان، وكل أمر مادي حاضر للإنسان فهو قابل للإشارة الحسية.
وهو بيان للمقدمة الثانية: إن النفس موجود حادث، بحدوث البدن.
فنذكر أولاً هنا بعض الآراء في المقام:
الرأي الأول: أن النفس قديمة زماناً وذاتاً، فلا علة لها أوجدتها.
الرأي الثاني: أنها قديمة زماناً، لكنها حادثة ذاتاً، أي إنها مسبوقة بعدم ذاتي، فهي موجودة بالغير، أي إن لها علة أوجدتها، لا أنها قديمة ذاتاً، كما قال الرأي الأول.
الرأي الثالث: أنها حادثة قبل حدوث البدن كما صُرّح بذلك في الروايات (خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام).
الرأي الرابع: أنها حادثة مع البدن، فهما موجودان - النفس والبدن - حدثا معاً في لحظة واحدة.
الرأي الخامس: أنها حادثة بحدوث البدن، فهناك موجود واحد حدَث،
ص: 119
هو النفس، وبها صار البدن بدناً، وقبله كان جسماً، وهو لصدر المتألهين، وهو المقصود في مقدمة هذا البرهان.
وبعبارة أخرى:
هناك جسد وهناك بدن، والفرق بينهما أن الثاني متقوم بالنفس، وهذا يعني أنه بمجرد حدوث النفس يحدث البدن، أمّا قبل ذلك فهو مجرد جسد لا بدن.
هذا مجمل الآراء، وهناك آراء أخرى.
وعلى كل حال، فقد اختلفت الآراء وتعددت، وكثر النقاش فيها إلى حد التناقض، وقد انتهى بعض العلماء إلى أن العقل عاجز عن اكتشاف الواقع في المسألة.
ومع عجز العقل لابد من الرجوع إلى منهج الوحي لنكتشف من خلاله حدوث أو قدم النفس.
وبالرجوع إليه، ننتهي إلى حدوثها، ببيان:
أن من المبرهن عليه أن العالم حادث –كما تقدم في برهان الحدوث-، وحيث إن المقصود بالعالم هو كل ما عدا الواجب جل وعلا، أي إنه يشمل النفس، فتكون حادثة.
والحاصل:
بعد عجز الدليل العقلي عن الوصول إلى نتيجة قطعية في حدوث النفس
ص: 120
أو قدمها فلا مناص من الرجوع إلى:
1 - الإجماع على حدوث النفس.
2 - الدليل النقلي على ذلك.
بيان المقدمة الخامسة:
أما أن علة النفس الإنسانية ليست هي جسماً، لأنها لو كانت كذلك للزم أن يكون كل جسم له نفس إنسانية، لأن المعلول (النفس حسب الفرض) لا ينفك عن علته (الجسم حسب الفرض)، وهو واضح البطلان.
وأما أن العلة للنفس ليست جسمانية، فلأن الجسماني لا يفعل إلا مع وضع خاص، فالنار مثلاً لا تُحرق إلا مع وضع خاص مع المحترق، من قرب منه وعدم رطوبة وما شابه، ولذلك فإن النار لا تحرق من بعيد، والنفس الإنسانية مجردة (كما تقدم) وبالتالي فلا وضع لها مع الجسماني.
وبعبارة أخرى أسهل وأوضح: حيث إن النفس مجردة، والمجرد أقوى وأشرف وجوداً من الجسم والجسماني، فلا يمكن أن يكون أحدهما علة لها، لأن العلة لا بد أن تكون أقوى وجوداً من المعلول.
ص: 121
ص: 122
إن المحقق الأصفهاني(1)
استدل على إثبات واجب الوجود بالاستفادة من نفس مفهوم واجب الوجود، أي بالاستغناء حتى عن ثبوت الواقعية سلفاً، بل هو يثبتها ويثبت الواجب تعالى دفعة واحدة، ببيان:
1 – العلم تصور وتصديق، والتصديق يحكي الواقع الخارجي (مفاد كان التامة والناقصة) فمرة يحكي وجود زيد، وأخرى اتصاف زيد بالعلم.
أما التصور، فهو لا يحكي إلا عن واقعه، ولا دخل له بالخارج نفياً وإثباتاً، بل هو لا بشرط، فمفهوم زيد لا يحكي إلا زيدية زيد، ولا يحكي طوله أو عرضه أو بقية مشخصاته بل ولا الوجود أو العدم، وهكذا بقية المفاهيم.
إذن، المفهوم التصوري يحكي عن محكّيه بصورة مطلقة، من دون تقييد بالوجود الخارجي أو الذهني أو أية خصوصية أخرى، بمعنى أنه لا يشترط في حكاية المفهوم التصوري أن يكون له مصداق خارجي، فحكاية المفهوم هي بنحو اللا بشرط عن المصداق الخارجي أو عن خارجية محكّيه. هذا.
ص: 123
2/ولكن هناك سنخاً من المفاهيم التصورية تقتضي أن يكون لها واقع موجود في الخارج (1)، وإلا لانقلبت حقيقتها، ومن ذلك مفهوم واجب الوجود، فهو وإن كان مفهوماً تصورياً لا يحكي إلا عن واقعه، ولكنه يستلزم أن يكون له خارجية، باعتبار أنه لو لم يكن موجوداً في الخارج، فهو حينئذٍ إما ممتنع أو ممكن الوجود – وهو خلف كونه واجباً – فلم يبق إلا أن يكون موجوداً. وهو المطلوب.
وهكذا مصداق مفهوم واجب الوجود، فأي مصداق تفرضه له لا بد وأن يكون واجب الوجود، وإلا لم يكن مصداقاً لذلك المفهوم، أي لكان ممتنعاً أو ممكناً، وهو خلف.
1/عدم الاتّكاء في مرحلة أسبق على الواقعية وإثباتها خارج أفق النفس، بل يكفي فيه أن نتوفر على الإيمان بالنفس وإدراكاتها(2)
فقط وفقط، حيث إن هذا المعنى وهو واجب الوجوب ومقارناته- ينضم في دائرة المدركات فيؤدي إلى الانتقال إلى الوجود الخارجي.
2/ترتب نتائج أفقية مهمة ومتعددة عليه وهي التالي:
أ- إثبات وجوده تعالى.
ص: 124
ب- إثبات الواقعية خارج أفق النفس.
ت- القضاء على الدور والتسلسل.
3/السلامة من إشكالية المصادرة وهي أخذ النتيجة في احدى مقدمات الدليل، حيث إن مقدمة الدليل هي تصور معنى واجب الوجود(1)،
والنتيجة عن تصور تلك المقدمة هو إثبات واجب الوجود في الخارج وضرورة تحقّقه فيه.
إشكالية شريك الباري(2):
هناك مفردة عنوانها (شريك الباري) يقال بامتناع وجودها في الخارج لقيام الدليل على استحالتها، وهنا لو أعدنا النظر في تصورها قبل الذهاب الى أدلة بطلانها فما هي حقيقتها؟
إن حقيقتها ومعناها هي عبارة عن واجب ثانٍ للواجب الوجود، يشترك مع الأول ويرافقه في شأن الألوهية، فهو واجب وجود استحال وقوعه في الخارج بحسب المستدِل بدليل المفهوم وبقية الأعلام الذين استدلّوا بغير دليل المفهوم، وهنا يأتي الإشكال الذي يُوجَّه للمستدل خصوصاً، وحاصله:
لا يلزم من تصور الواجب وجودُه في الخارج، بل هي مجرد فرضية يبقى وجودها في الخارج وعدمه رهن الدليل، فقد يقوم على الضرورة، وقد يقوم على الامتناع، كما في الباري وشريكه، حيث إن الأول قام الدليل على
ص: 125
ضرورته، والآخر على استحالته، فالمهم أن الدليل الذي سيق وجاءت فيه ضرورة الانتقال من المفهوم الى الوجود الخارجي غير تام، ويُنقَض عليه بفرد مسلّم لا نقاش فيه ولا غبار يعتريه.
وبعبارة أخرى:
أن برهان الحقيقة لوحده لا يُثبت واجب الوجود، بل هو يحتاج إلى تتمة تثبت الواجب، والشاهد هو مفهوم (شريك الباري)، إذ هو مفهوم يمكن افتراضه واجب وجود أيضاً، كل ما في الأمر أنه قام الدليل على عدم وجوده، فلو كان مجرد مفهوم واجب الوجود كافٍ لإثبات وجوده، لأدى ذلك إلى وجود شريك الباري، لأنه أيضاً واجب الوجود حسب الفرض. وهو خلاف المطلوب.
الجواب:
هناك نكتة معرفية يشير إليها الأعلام ويؤكدون عليها في كل فرضية يراد إثباتُها أو نفيها، وحاصلها: إننا قبل أن نذهب إلى الواقع ودائرة النفي والإثبات، لا بد من التركيز على تعقّل الفرضية وصحتها في حد ذاتها من عدمه، فأحياناً تكون الفرضية مغلوطة وغير متعقّلة، وبالتالي يكون الدخول في عالم الواقع من خلالها لا معنى له ولا محصل منه.
وهنا لو جئنا الى ما ذكره المستشكل على الدليل وما استشهد به من فرضية (شريك الباري)، لرأينا أنها فرضية غير متعقّلة وهي ذات مضمون غير مقبول في حدّ ذاته، فهي محاولة فاشلة أُريد منها تصوّر صورة ثالثة
ص: 126
من صورتين متعقّلتين، ولكن لا يستفاد من تركّبهما تلك الصورة الثالثة
الجديدة، وهذا له نظائر كثيرة من قبيل (المثلث المستطيل) و (المربع الدائرة) و (الإنسان الخشبة) و (الشمس القماش) ومنها (شريك الباري)، فكلها صور غير متعقّلة، وإن كان ما تركبت منه صور ومفردات متعقّلة، اقترنت في الذهن فقط، من دون أن تعطي صورة ثالثة، كما في حصص أخرى تقترن وتتركب فتعطي صورة جديدة (غلام زيد) (حرارة الحديد) وغيرها.
والحاصل: أن الفرضية بما أنها غير متعقلة، فلا تصل النوبة إلى النقض بها على الدليل وإثارة الغبار في طريقيته ودليليته.
إشارة: أنحاء المعاني.
إن المعاني على أنحاء:
1/معاني متعقّلة وواقعة في الخارج.
2/ معاني متعقّلة وغير واقعة في الخارج.
3/معاني غير متعقّلة ولا تصل النوبة فيها إلى الواقع الخارجي.
فلا بد من تحديد دائرة المعنى أولاً ثم البحث عن وقوعه.
والنقض الذي جاء به المستشكل هو من القسم الثالث، فالواجب الثاني هي فرضية غير متعقلة المعنى، وهي من قبيل (المربع الدائرة) و (الإنسان الخشب) حيث لا تصلح صفة وموصوفاً ولا مضافاً ولا مضافاً اليه ولا مبتدأ ولا خبراً.
ص: 127
نعم يبقى الكلام في دليل استحالة الفرضية، فمرة يكون بديهياً، وتارة يكون نظرياً، المهم أنه محال في نفسه أو من غيره، وفرضية الواجب الثاني مما قام الدليل على استحالته من غيره(1)
حيث ثبت في بحث التوحيد استحالة الواجب الثاني بمستوى الذات والمعنى، أي إنه غير متعقّل في نفسه وذاته، وتفصيل ذلك موكول إلى أدلة التوحيد.
من الواضح أن الإنسان يبدأ حياته من دون أي معلومة فعليةٍ سوى الاستعداد للتعلم، وقد جهّزه الله تعالى بمنافذ للتعلم، حيث يقول تعالى: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(2)
والذي ينبغي الالتفات إليه، أن عملية تحصيل العلم تتم بالطريقة التالية:
يبدأ الحس –سواء كان ظاهراً أو باطناً- بتغذية الثروة التصورية للنفس، من خلال التقاطه للصور المتكثرة عن العالم الخارجي، وإيداعها في النفس، ومن هنا قيل (من فقَدَ حساً فقدْ فقدَ علماً). فرأس مال الإنسان العلمي يأتي من الحس.
والعقل أيضاً يدخل على خط تغذية النفس ببعض الصور، ذلك عندما يقوم بعملية تحليل الصور المودَعة عند النفس، والتي استلمتها من خلال
ص: 128
الحس، فيكوّن منها تصورات جديدة، نظير المصور الفوتوغرافي، الذي يلتقط صوراً بواسطة عدسة الكاميرا، ولكنه يدخلها في ما بعد في برامج خاصة ليضيف عليها مؤثرات قد تظهر بصورة جديدة أو أجلى مما التقطته الكاميرا.
فالحس إذن يعمل على تزويد النفس بالصور باستمرار، فهو يعمل دوماً على التقاط الصور وإرسالها إلى النفس، وهكذا، ثم تعمل تلك القدرة المودعة لدى الإنسان على تجزئة وتركيب وتحليل تلك الصور، لتأتي بصور جديدة، أو لتكشف عن خفايا الصور الملتقطة بواسطة الحس.
وهذا يعني أنّ الحسّ يوفّر لنا مجرد التصورات، أما التصديق، والحكم، والصدق والكذب، وتكوين القضايا، فهو يأتي من تلك القوى المودعة داخل النفس.
وإلى هنا، نلاحظ أن بداية المعرفة بدأت من الحس، والعقل إلى هنا يتعامل مع الصور الملتقطة بواسطة الحس، فكيف انتقل العقل إلى إثبات الغيب؟ فقد لاحظنا عدة أدلة عقلية تدل على وجود موجود غير مادي، تدل على الغيب، تدل على أن عالمنا لا ينتهي عند حدود المادة، مما يعني أن العقل البشري لم يتوقف على الظاهر المحسوس المادي الذي يشاهده، وإنما تمكن أن ينتقل من هذا العالم المرئي المحسوس إلى عالم الغيب، وإلى ما وراء المادة، إلى البعد الميتافيزيقي في الوجود، فكيف انتقل العقل إلى الغيب رغم أن بداياته من الحس؟
ص: 129
الجواب:
توجد آليتان اعتمدهما الانسان في تأمين هذا الانتقال:
بمعنى أنّ العقل قام أولاً بعملية (جرْد) واستقراء للبديهيات العامة في هذا العالم المحسوس، فتعرّف عليها من خلال طريقتين:
الطريقة الأولى: البديهيات التي التقطها بواسطة الحس الظاهر، وحينما فتّش الانسان في أروقة عالم المادة وجد أن بديهيات هذا العالم المحسوس محدودة وقد لا تعدو أصابع اليدين، حيث أدرك بداهة كلٍ من:
1/ أصل الواقعية على الأرض.
2/ماديتها.
3/كثرتها.
4/إمكانها.
5/ معلوليتها.
6/حركتها.
7/ حدوثها....
الطريقة الثانية: البديهيات التي التقطها بواسطة الحس الباطن:
فأول ما أدرك الانسان في حسه الباطن هي أناه/ ذاته/ كينونته، استشعر
ص: 130
هذه الذات وأحسّ بها، وأدرك بعدها جملة من الحالات النفسانية المرتبطة بها، أدرك جوعها، وألمها، وحزنها وفرحها...
وأدرك أيضاً نزعتها الفطرية للكمال، أدرك أنه لا يحب لها طرفة عين تلفاً، أدرك أنها تنزع نحو النمو والوجدان، لا الضمور والفقدان.
وأيضا أدرك أن لديه شاشات تحكي الواقع الخارجي، مرايا تعكس الواقع في نفسه وتجعله عالمِاً به. فهو ليس موجوداً أصمّاً.
هذه البديهيات بكلا شقيها لا زال سقفها ومداها هو العالم المادي المحدود، إذ كلها تنتمي الى العالم الطبيعي المرئي، تنتمي الى عالم الشهادة، فكل هذه المعطيات المعرفية – الإمكان، الحركة ونحوهما- هي عبارة عن توصيفات بعيدة عن الدين ولا علاقة للدين بها.
والنقلة الى الدين تمت من خلال ثلاثة طرق:
وهو طريق المفهوم، فبمجرد تصور مفهوم (واجب الوجود) يثبت (واجب الوجود)، وعالم الغيب، وهو برهان (المفهوم) أو (المعنى) أو (الحقيقة).
وهو طريق أن الدين والواقعية العامة متلازمان وجوداً وعدماً.
ص: 131
وفي هذا الطريق استطاع العقل البشري أن يكتشف التماهي بين الواقعية والغيب، فمن يشكك في الدين، فهو في الحقيقة يشكك في الواقعية.
وبعبارة واضحة: اكتشف العقل أنه لو لم يقبل بالدين فإنه في الحقيقة يُنكر الواقعية، فالواقعية والدين (أو قل: الغيب) في عرض واحد، فالواقعي هو متدين بلا فصل.
ومن هنا، فإن غير المتدين يكون بشكل تلقائي غير واقعي، ومنتمياً شاء أم أبى- إلى السفسطة وعدم الواقعية، فالدين والواقع يكونان في عرض واحد وبمستوى واحد، وليس بينهما طولية في هذا الطريق.
وهنا كان برهان (الصدّيقين)، الذي حدّه الأوسط هو أصل الواقعية فقط، لا الواقعية الملوّنة بلون معين (مثل لون الإمكان أو الحدوث وما شابه)
وهو طريق التراتبية الطولية بين الدين والواقعية.
البداية في هذا الطريق كانت من البديهي الواقعي، وعلى ضوئه تم تأسيس الدين وبناؤه، فالواقعية أولاً ثم الدين ثانياً، فأسّس العقل تديّنه على الواقعية، فلأنه واقعي، إذن هو متدين. فهو طريق لا يبدأ من الواقعية العامة، وإنما من الواقعية بلون معين، كلون (الإمكان أو الحدوث...).
تنبيه:
هناك عنصر مشترك في كل هذه الطرق المذكورة في هذه الآلية، وهو أن
ص: 132
الإنسان يبدأ من نفسه، ولكنه لا يبقى متقوقعاً عليها، وإنما يخرج منها إلى آفاق السماء وأقطار الأرض، فهي عملية اكتشاف الواقع الذي هو خارج النفس.
فذلك (المعمل الداخلي) والقوى النفسية الداخلية، تعمل على تكثير العلوم واكتشاف الواقع.
فتلك الطرق في الحقيقة كلها تعمل على إنتاج (مرايا) للإطلال على الواقع الخارجي.
أما الخارج، فهو يوفّر للنفس صوراً حسّية، أي توفير مواد خام، بنحو الموجبة الجزئية، والباقي يتم تصنيعه من خلال التحليل والتجزئة والتركيب، وكلها تقوم بها أجهزة داخلية (العقل) لإنتاج تلك المرايا.
فمثلاً، في برهان الإمكان، أنت تنطلق من عمل داخلي، يقوم على تحليل الممكن، وكونه محتاجاً، تنتقل إلى لا بديّة أنْ يكون له موجد، وحتى لا يدور أو يتسلسل، فإنه لا بدّ أنْ ينتهي إلى الواجب.
وهكذا بقية البراهين المذكورة.
أو آلية (دفع الضرر المحتمل)، وفي تلك الآلية، رأينا أن المعصوم (عليه السلام) يستعمل طريقة يجعل المنكر يحتمل وجود إله، وغيب، وبالتالي، يحكم عقله بضرورة دفع الضرر المحتمل، ولزوم البحث حتى يصل إلى قناعة مستدلة.
ص: 133
ولكي تتضح الصورة، نذكر بعض الروايات التي استعملت هذه الآلية العقلية للانتقال إلى إثبات الغيب.
في رواية طويلة:
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) لِلزِّنْدِيقِ: أتَعْلَمُ أَنَّ لِلأَرْضِ تَحْتاً وفَوْقاً؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَدَخَلْتَ تَحْتَهَا؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: فَمَا يُدْرِيكَ مَا تَحْتَهَا؟
قَالَ: لَا أَدْرِي إِلَّا أَنِّي أَظُنُّ أَنْ لَيْسَ تَحْتَهَا شَيْءٌ.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): فَالظَّنُّ عَجْزٌ لِمَا لَا تَسْتَيْقِنُ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): أ فَصَعِدْتَ السَّمَاءَ؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: أ فَتَدْرِي مَا فِيهَا؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: عَجَباً لَكَ لَمْ تَبْلُغِ الْمَشْرِقَ ولَمْ تَبْلُغِ الْمَغْرِبَ ولَمْ تَنْزِلِ الأَرْضَ ولَمْ تَصْعَدِ السَّمَاءَ، ولَمْ تَجُزْ هُنَاكَ فَتَعْرِفَ مَا خَلْفَهُنَّ، وأَنْتَ جَاحِدٌ بِمَا فِيهِنَّ، وهَلْ يَجْحَدُ الْعَاقِلُ مَا لَا يَعْرِفُ!
ص: 134
قَالَ الزِّنْدِيقُ: مَا كَلَّمَنِي بِهَذَا أَحَدٌ غَيْرُكَ.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): فَأَنْتَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَكٍّ فَلَعَلَّه هُوَ ولَعَلَّه لَيْسَ هُوَ؟
فَقَالَ الزِّنْدِيقُ: ولَعَلَّ ذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): أَيُّهَا الرَّجُلُ لَيْسَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ولَا حُجَّةَ لِلْجَاهِلِ...(1)
وفي رواية أخرى للإمام الصادق (عليه السلام) مع عبد الكريم ابن أبي العوجاء: يا عبد الكريم... إِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ ولَيْسَ كَمَا تَقُولُ، نَجَوْنَا ونَجَوْتَ. وإِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وهُوَ كَمَا نَقُولُ، نَجَوْنَا وهَلَكْتَ.
فَأَقْبَلَ عَبْدُ الْكَرِيمِ عَلَى مَنْ مَعَه، فَقَالَ: وَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَزَازَةً فَرُدُّونِي فَرَدُّوه، فَمَاتَ لَا رَحِمَه الله.(2)
وعن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (عليه السلام) قال: دخل رجل من الزنادقة علي أبي الحسن (عليه السلام) وعنده جماعة فقال أبو الحسن (عليه السلام): أَيُّهَا الرَّجُلُ، أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَكُمْ ولَيْسَ هُوَ، كَمَا تَقُولُونَ ألَسْنَا وإِيَّاكُمْ شَرَعاً سَوَاءً، لَا يَضُرُّنَا مَا صَلَّيْنَا وصُمْنَا وزَكَّيْنَا وأَقْرَرْنَا؟ فَسَكَتَ الرَّجُلُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): وإِنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَنَا وهُوَ قَوْلُنَا ألَسْتُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ ونَجَوْنَا؟!(3)
ومن مناظرة للإمام الصادق (عليه السلام) مع الطبيب الهندي: أرأيت إنْ كان
ص: 135
القول قولك، فهل يُخاف علي شيء مما أخوّفك به من عقاب الله؟ قال: لا. قلتُ: أفرأيت إنْ كان كما أقول والحقُّ في يدي ألستُ قد أخذتُ فيما كنتُ أحاذر من عقاب الخالق بالثقة، وأنك قد وقعتَ بجحودك وإنكارك في الهلكة؟ قال: بلى. قلتُ: فأينا أولى بالحزم وأقرب من النجاة؟ قال: أنت.(1)
وبملاحظة هذه الروايات يُستفاد التالي:
إن الإمام (عليه السلام) يتكلم مع (الزنديق) ببداهات، لا نظريات معقّدة، فهو (عليه السلام) ينطلق في نقاشه من:
1/ أن العقل لا يُنكر ما لا يعرف. فإن عدم العلم لا يعني العلم بالعدم، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. غاية الأمر أن عدم العلم قد يقتضي التوقف في مرحلة معينة، إلا أن المهم أنه لا يدعو إلى الإنكار والجحود.
2/ الدعوة إلى الاحتياط، لأن عدم العلم يقتضي الفحص، وأثناء فترة الفحص لا بد من الاحتياط، حتى لا يقع العاقل في الضرر البليغ.
ص: 136
والاحتياط سيؤسس إلى أن الإيمان أسلم من الإنكار، وأن المجيء معنا أسلم من الذهاب مع غيرنا. لذلك عبّر الإمام (عليه السلام) بقوله: (إِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ -ولَيْسَ كَمَا تَقُولُ- نَجَوْنَا ونَجَوْتَ. وإِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا نَقُولُ -وهُوَ كَمَا نَقُولُ- نَجَوْنَا وهَلَكْتَ.)
فنحن ناجون على كل حال، وأما نجاتك فهي إما وإما، والعقل في مثل هذا المورد يحكم بلزوم الاحتياط، واختيار النجاة المتيقّنة، خصوصاً وأن الهلاك المقابل ليس من النوع العادي، وإنما هو من نوع العذاب الخالد.
وبالتالي فالعقل يحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل، وليس خصوص الضرر المتيقن، لأنه وكما قلنا: إن الضرر هو من النوع الذي يستحيل تحمله.
ويحكم أيضاً بلزوم الاعتناء بالاحتمال الضعيف إذا كان المحتمل قوياً.
إن آلية (دفع الضرر المحتمل) توفر الطمأنينة في ساعة التردّد والشك، فهي تعطي فسحة من الأمل بالنجاة فيما لو كنتُ على خطأ، لأني كنتُ محتاطاً حسب الفرض، فإنّ الاحتياط يعني أني أبقى على صلاتي وصومي حتى أصل إلى الحقيقة، أما الذي لا يلتزم هذا الطريق فإنه سيترك الصلاة، وبالتالي، فأنا حتى لو كنت في صيامي وقيامي مخطئاً، فلا ضير سيلحقني سوى وصفي بالمخطئ، أما ذاك الذي ترك الاحتياط، فإنه يبقى يعيش القلق وعدم الاستقرار، لأن احتمال كونه على خطأ يستتبعه عذاب أليم لا تتحمله
ص: 137
الجبال الرواسي.(1)
وهذا يعني أن مجرد (الشك) و (عدم العلم) لا يُعفي المرء من الاحتياط أولاً، والبحث حتى الوصول إلى الحقيقة ثانياً.
فالاحتياط إذن منهج للسلامة الفكرية والاطمئنان النفسي، وهو يُعبّر عن سلّم للنجاة من مرض القلق، وهو جهاز من أجهزة السيطرة على النفس.
إن الإيمان من مقولة الاعتقاد، وهو فرع التصديق، والاحتياط ليس فيه تصديق، وبالتالي لا اعتقاد فيه، وإنْ كان في مقام العمل يمكن أن يأتي الفرد بسلوك احتياطي، (بأن يصلي قصراً وتماماً مثلاً، بل إنه يستطيع أنْ يأتي بعمل احتياطي برجاء المطلوبية) ولكن الكلام في الإيمان الذي هو اعتقاد.
ومن هنا، احتجنا إلى تصوير الاحتياط في باب الإيمان، فكيف يدعو الاحتياط إلى الإيمان؟
علماً أن الكلام كل الكلام هو مع الشاكّ المتردّد الذي يريد البحث والوصول إلى الحقيقة، لا مع المنكر المعاند الذي لا يريد الوصول إلى الواقع
ص: 138
والحق، يعني أن الكلام مع الذي يتبنى (اللا بشرط) عن الإيمان وعدمه، لا الذي يتبنى نظرية (بشرط لا) عن الإيمان.
إن الإنسان الشاك في وجود الغيب، إذا اتّبع منهج الاحتياط، فإنه سيتلبس بإحدى الخطوات التالية، والتي تُعبّر في أولى خطواتها عن الترفّع عن حالة الشك غير المنهجي إلى الشك الموضوعي، وكالتالي:
أولاً: الإيمان الإجمالي(1).
بأن يعقد قلبه على الإيمان إجمالاً، كأن يقول المؤمن الذي لا اطلاع تفصيلياً عنده بالمعارف الشيعية: أنا على ما عليه جعفر بن محمد (عليه السلام) مهما كان.(2)
أو يقول المسلم الذي يسمع بدعوى حقانية التشيع دون غيره: أنا على ما عليه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مهما كان.
أو يقول المسيحي الذي يؤمن بالنبي عيسى (عليه السلام) عندما يسمع بالإسلام: أنا على ما عليه عيسى بن مريم من الواقع مهما كان.
أما الملحد، فبداية الحديث معه سيكون من طرح قضية كلية، هي الواقع،
ص: 139
فإذا قبل الواقع، تُطرح عليه قضية: أن الإله أمر واقعي، فيمكنه أن يعقد قلبه على ما في الواقع، وبعدها يبدأ خطواته العملية نحو البحث.
وهذه الحالات كلها أفضل من الإنكار العملي، لأنها نوع من أنواع الالتزام وإن كان التزاماً كلياً ومن دون تفاصيل.
فالاحتياط هنا وفّر للباحث إيماناً ملفوفاً وبلا تفاصيل، متضمناً عدم إنكار الواقع والحق لو انكشف، ويستتبع البحث عن الحقيقة(1)،
وهذا في الحقيقة كالملكة وتفعيلها، فالشخص الذي عنده ملكة، عنده قدرة ملفوفة على الاستنباط، وهي تظهر بالتفعيل وممارسة الاستنباط.
بأن يعقد قلبه على الإيمان بنحو القضية الشرطية.
بأن يقول مثلاً: إذا كان هناك إله فأنا مؤمن.
فنفس هذه الشرطية هي أفضل من الإنكار والشك المطلق، فإنّ هناك من يشكّك بالإله، ولا يرضى بغير شيء، ولكن هناك من عنده شك موضوعي، ويعمل على تحصيل الدليل الذي يدفع عنه الشك ويستبدله باليقين، والذي يعقد قلبه على الإيمان المشروط فهذا معناه أن شكه موضوعي، لا شكَّ لجاج وعناد، ومعناه أنه يتعامل مع الشك تعاملاً موضوعياً يقبل الرأي الآخر، وهو –أكيداً- أفضل من الشك غير الموضوعي والمتعصّب، فالإيمان الشرطي
ص: 140
يفتح الباب للتقدم نحو الخروج من حالة الشك والتردد المطلق.
فالذي يقول: أنا أبقى شاكّاً حتى لو ثبت بالدليل أن هناك إلهاً، يختلف عن ذاك الذي يقول: أنا أبقى شاكّاً إلى أن يثبت بالدليل أن هناك إلهاً. فالثاني بكل تأكيد متقدم خطوة نحو الإيمان، فإن الشك من دون عناد ليس كمثله مع العناد.
وفي الحقيقة، فإن هذا الإيمان هو لازم للإيمان الأول، فالذي يعقد قلبه على الإيمان الإجمالي، فإنه لا محالة سيتولد عنده الإيمان الشرطي. إذ هو متفرع عليه.
هناك بعض الآيات التي اكتفت بالظن في بعض الموارد، نذكر منها التالي:
(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(1)
(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ واللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(2)
ص: 141
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(1)
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(2)
وقد روى ابن شهرا شوب أن الآية نزلت في علي وعثمان بن مظعون وعمار وأصحاب لهم.(3)
وهؤلاء –وعلى الأقل أمير المؤمنين (عليه السلام)- يمثلون القمة في اليقين بيوم القيامة، ولكن مع ذلك فالقرآن عبّر عنهم بأنهم ظنوا بلقاء الله تعالى.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) يقول: يوقنون أنهم مبعوثون، والظن منهم يقين.(4)
وهذه الرواية تقول بأن القرآن استعمل الظن بمعنى اليقين، أي إنه استعمال مجازي، والاستعمال المجازي يحتاج إلى بيان المناسبة حتى يصح، وإلا، فإنه من دون المناسبة يكون الاستعمال غلطاً، إذ سيكون استعمالاً للّفظ في غير ما وُضع له من دون مناسبة.
ليس هذا فحسب، بل لا بد من بيان وجه الأبلغية في الاستعمال المجازي
ص: 142
على الحقيقي، إذ إن الاستعمال المجازي هو من وجوه البلاغة.
فما هي مناسبة ذلك الاستعمال ووجه الأبلغية؟
يقول السيد الطباطبائي (قدس سره) في ذلك:
هذا المورد، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن والحسبان الذي لا يمنع النقيض، قال تعالى: (وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(1)، ويمكن أن يكون الوجه فيه الأخذ بتحقق الخشوع، فإن العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه وشك ثم ترجح أحد طرفي النقيض ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئاً فشيئاً حتى يتم الادراك الجازم وهو العلم، وهذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس وقلقها وخشوعها إنما تبتدئ الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الادراك العلمي وتمامه، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الانسان لا يتوقف على زيادة مؤنة على العلم إنْ تنبه بأن له ربّاً يمكن أن يلاقيه ويرجع إليه وذلك كقول الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج سراتهم في الفارسي المرد
وإنما يخوف العدو باليقين لا بالشك ولكنه أمرهم بالظن لان الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد
ص: 143
إلى ايجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم، وعلى هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا...).(1)
وبعبارة أوضح: أن هذه المفاهيم (البعث، الآخرة...) هي سنخ مفاهيم تجذب الإنسان، وتوجب له الخشوع والخضوع بمجرد الظن، أي قبل الوصول إلى درجة اليقين، وإنْ كان المطلوب فيها اليقين، ولكن الخشوع يبدأ بمجرد ترجح طرف وقوعها وحقانيتها على الطرف الآخر، ولو من دون نفي الطرف الآخر.
وهذا يكشف عن أبلغية استعمال الظن في هذه المفاهيم، فهي من المفاهيم التي يكفي- لترتيب الآثار عليها- الظن فضلاً عن اليقين.
فمثل هذه المفاهيم يقتضي الاحتياط فيها ترتيب الأثر ولو لم يصل إلى القطع فيها.
تنبيه: دور العقل بعد إثبات الغيب.
تقدم أن الخطوة الأولى لإثبات الدين تتم بواسطة العقل، إذ استعمال النقل يعني الدور، والسؤال هنا: إنه بعد الوصول إلى الدين، وإثبات وجود الله تعالى وأنه أرسل أنبياءً وشرّع شريعة، هل يبقى للعقل دور في الدين؟ أم أنه يتحول من (فاعل) و(مستكشف) و(معلِّم) إلى (قابل) و(متلقي) و(متعلم) فقط؟
ص: 144
نُسب إلى الأشاعرة إلغاؤهم دور العقل تماماً، فلا مسرح للعقل إلى جنب النقل، ونُسب إلى (الأخبارية) تهميشهم العقل إلى حد كبير.
ونُسب إلى المعتزلة اعتمادهم على العقل ولو أدّى ذلك إلى تأويل النص الديني الثابت لو خالف العقل. أي إن اعتمادهم على العقل والمبالغة فيه أدّى إلى تطويعهم النصوص وفق ما يقتضيه العقل. وهذا ما نُسب إلى فلسفة المشّاء أيضاً، بل نجد أن بعض الفلسفات الحديثة اعتمدت على العقل تماماً بحيث صار ملاك قبول أو عدم قبول التراث الديني هو قبول أو رضا العقل به. الأمر الذي أدّى إلى تهميش النقل.
وبين ذين وذين، جاء منهج متوازن بين العقل والنقل، وأن للعقل دوراً غير منفصل عن النقل، وأن هناك نوعاً من التكامل بين العقل والنقل. مع الالتفات إلى أن العقل لا يتدخل في (التعبّديات) ولا في (ملاكات الأحكام) لأنها خارج نطاق قدرته. وأن نطاق قدرته هو وجود (البرهان) أي القضايا العقلية الكلية.
ومع الالتفات أيضاً إلى أن العقل لا يمد يده إلى التفكر في حقيقة الذات الإلهية، باعتبار تناهيه وعدم تناهي الذات المقدسة، (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)(1)
وعلى كل حال نُلفت النظر إلى التالي:
أولاً: إن العقل الذي تم بواسطته الوصول إلى الدين، وكانت له حجية
ص: 145
قطعية، هذا العقل ما زال يعمل، ولم يأت دليل على نفي أو إلغاء حجيته (في غير التعبديات كما أُشير إليه)، فهو حجة قبل وبعد الوصول إلى الغيب.
ثانياً: بل نجد أن (النقل) قد حثّ العقل على مزاولة الحركة والعمل، فقال تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)(1)وقال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(2)وقال
تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(3)
ليس هذا فحسب، بل إن النصوص قد جعلت العقل هو مدار الثواب والعقاب، ولذلك فأصل التكليف شرعاً مشروط بالعقل، وقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: لَمَّا خَلَقَ الله الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَه، ثُمَّ قَالَ لَه: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ. ثُمَّ قَالَ لَه: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ. ثُمَّ قَالَ: وعِزَّتِي وجَلَالِي، مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، ولَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ، أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وإِيَّاكَ أَنْهَى، وإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وإِيَّاكَ أُثِيبُ.(4)
هذا فضلاً عن الروايات التي مدحت العقل كثيراً، فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: مَنْ كَانَ عَاقِلاً كَانَ لَه دِينٌ، ومَنْ كَانَ لَه دِينٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ.(5)
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَا قَسَمَ الله لِلْعِبَادِ شَيْئاً أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ، فَنَوْمُ
ص: 146
الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ الْجَاهِلِ، وإِقَامَةُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ، ولَا بَعَثَ الله نَبِيّاً ولَا رَسُولاً حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ، ويَكُونَ عَقْلُه أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ عُقُولِ أُمَّتِه، ومَا يُضْمِرُ النَّبِيُّ فِي نَفْسِه أَفْضَلُ مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، ومَا أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ الله حَتَّى عَقَلَ عَنْه، ولَا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِلُ، والْعُقَلَاءُ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(1).(2)
كل هذه النصوص تشير إلى أن العقل لم يستقل بالجملة، بل بقي حجة حتى بعد الوصول إلى النقل والدين ولو في الجملة.
ثالثاً: إن النقل ليس كله مجرد (تعبّديات) محضة حتى يُقال بأنه لا دور للعقل بعد الوصول إليه، بل إن في الدين الكثير من الاستدلالات والانتقال من الحد الأوسط إلى النتيجة، وحيث وُجد الاستدلال وُجد مجال لتدخل العقل.
بل إن النقل نفسه أشار في العديد من النصوص إلى استدلالات تحتاج إلى ضبط عقلي، مثل قوله تعالى (أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(3)وقوله تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)(4)
ص: 147
فهذه النصوص الشرعية استعملت الأسلوب العقلي، فكان المخاطَب بها العقل، مما يعني ضرورة تفعيل العقل فيها للوصول إلى النتيجة المرجوة.
ص: 148
ثبت في المبحث الأول أن الخالق لهذا الكون هو موجود واجب الوجود، وكونه واجب الوجود يعني أن وجوده غني من كل جهة، ولا مجال لتطرق الحاجة له بأي شكل من الأشكال، وأي تصوير له يؤدي إلى خلل في هذه الحقيقة (الغنى المطلق) يعني أن ذلك التصوير ليس صحيحاً، وهو ليس تصويراً لواجب الوجود.
إن صفة «التوحيد» هي من أهم الصفات التي يُبحَثُ عنها في علم الكلام، باعتبار أنها كانت محل الخلاف مع المشركين، وجهود الأنبياء (عليهم السلام) كانت منصبّة على تخليص الناس من عقيدة الشريك الفاسدة، وقد ذكروا لهذه الصفة عدّة معانٍ، ونختصر على معنيين منها، هما:
المعنى الأول: التوحيد في الذات.
المعنى الثاني: التوحيد في الصفات.
ص: 149
ص: 150
هو أول مصطلح من مصطلحات التوحيد وأهمها، وقد ذكر الفلاسفة فكرة محصلها: استحالة التجزؤ في واجب الوجود، ببيان:
إن واجب الوجود لا يقبل التبعيض والتجزؤ، بحيث يكون واجباً من بعض الجهات وممكناً من جهات أخرى، فواجب الوجود واجب من كل جهة، وإلا كان ممكناً من كل جهة، والقضية تأبى البرزخية والوسطية، وهذا الكلام يجري في معنى اللامتناهي، فانه يتمحض في اللا تناهي من كل جهاته وحيثياته ولا يقبل أي حيثية تناهٍ، وإلا صار متناهياً ومحدوداً من كل جهة، والذي يتحصل من الوجوب من كل جهة واللا تناهي من كل حيثية: عدم شذوذ أي كمال وجودي عنه، بل كل كمال ثابت له، ومن ثم فلا يخلو عنه مكان و لا يشذ عنه زمان، فهو حاضر في الكل، كما ورد في الدعاء (يا موجوداً في كل مكان).
وهل يمكن تصور وفرض واجب وجود آخر مثله ولا متناهي، صفاته كصفاته، أو إن ذلك فرض خاطئ ويتقاطع معنوياً مع فرضية الواجب، فهي تتلخص بفرد واحد لا غير؟
والإجابة عن هذا:
ص: 151
أن هذا الفرض خاطئ، ولا يمكن قبوله، وحتى يتبين الحال فيه نقول التالي:
إن التوحيد بهذا المعنى ينقسم إلى قسمين، أو قل «يُتَكَلَّمُ» فيه من جهتين:
هو نفي وجود ذات واجبة الوجود غير ذات الباري جل وعلا. أو قل: نفي الشريك عنه جل وعلا، أي إن الواجب له مصداق واحد فقط... وكل ما عدا واجب الوجود هو ممكن الوجود.
وقد ذكروا معنيين للوحدة:
بمعنى أن هناك مفهوماً ينطبق على عدّة مصاديق، أو قل: «يمكن» عقلاً أنْ يوجد له أكثر من فرد، ولكن صادَفَ أنه في الخارج لا يوجد منه إلّا فرد واحد، ومثالها الشمس، فالشمس مفهومها ذلك الجرم السماوي الذي يشع نوراً من ذاته، وهذا كمفهوم يمكن أن توجد له عدّة أفراد، لكنه صادف أننا هنا -في هذه الأرض- ما وجدنا إلّا شمساً واحدة.
وتعني كون الموجود لا يقبل الاثنينية ولا التكثّر ولا التكرار، بحيث يمتنع وجود فرد آخر له.
والمقصود من الوحدة هنا هي الحقيقية، أي إنه عز وجل واحد ويمتنع
ص: 152
وجود فرد آخر له، والامتناع هنا عقلي.
وإليه أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (وَاْحِد لَا بِعَدَدٍ)(1)
ولقد ذكرت الكثير من الأدلة على أن الله تبارك وتعالى واحد في ذاته بالوحدة الحقيقية، حتى أنّ البعض أوصلها إلى عشرين دليلاً، والحقيقة أن العقل يحكم بالوحدة الحقيقية، وما يُذكر إنما هو من باب الإرشاد لحكم العقل، ونذكر هنا دليلين أو تنبيهين على ذلك:
الدليل الأول: إن تعدد الواجب ولنفترض أن هنا واجبين- يقتضي وجود أمرين:
الأمر الأول: ما به الاشتراك، ولنقل أن ما به الاشتراك هو (وجوب الوجود)
الأمر الثاني: ما به الامتياز، إذ انعدام التمايز بينهما ينفي اثنينيتهما، لأن افتراض عدم المائز بينهما من كل جهة يعني أنهما واحد، إذ الكثرة فرع التمايز.
وتوفر ما به الامتياز يستلزم التركيب من ما به الاشتراك وما به الامتياز، والمركب محتاج إلى أجزائه، وهذا خلاف كونه واجب الوجود.
وبعبارة أخرى: إن معنى الواجب بذاته يأبى الاثنينية والتعددية، وذلك لأن الثاني المفروض إما أن يكون مماثلاً للأول من كل جهة، فهو عينه إذن، وقوام الاثنينية هو التمايز والتعددية، وبالتالي يعود الثاني أولاً!
ص: 153
وإما أن يكون الثاني متمايزاً عن الأول؛ حفظاً للتعددية، ويترتب على ذلك: أن يكون كلٌّ منهما واجداً لجهة وكمال يفقده الآخر، وبالتالي يكونان ممكنين؛ لأن الفاقد للكمال ممكن، وهو خلف ما تم افتراضه من الوجوب في الوجود لكل منهما.
والمتحصل من هذا: أن افتراض الثاني افتراض غلط، حيث يؤول إما الى الاول، أو إلى إمكانهما، وكلٌّ منهما لا ينفع في تصوير الثاني على مستوى الفرض والمقبولية العقلية، وعلى هذا، فإن الوحدة التي تثبت له سبحانه هي الوحدة الحقيقية الحقة التي تأبى التكرار والتعدد إطلاقاً، وليست كالوحدة العددية المتعارفة.
الدليل الثاني: إذا كان هناك مصداقان لواجب الوجود، فلا يخلو:
1) إما أن يكونا ضعيفين، فلا يصلحان للربوبية..
2) أو أن أحدهما ضعيف والآخر قوي، فلا يصلح الضعيف للربوبية.
3) أو يكون كلاهما قويًا، وحينئذٍ، إما أن يشتركا من كل جهة، أو أن يختلفا في جهة ما.
والأول ينفي الاثنينية.
والثاني –ولنفترض أنهما يختلفان في الإرادة- فحينئذٍ يلزم فساد الكون، وهو ما أشار إليه الله (عزوجل) بقوله: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتا﴾، ويلزم منه كذلك تكليف المكلف بالمحال.
ص: 154
بيانه:
لو فرضنا أن «زيدًا» جاءه التكليف من الواجب الأول يقول له: «صلِّ»، وعلى خلافه قال له الواجب الثاني: «لا تُصلِّ»- من باب ما افترضناه من أنهما مختلفان في الإرادة – فإذا أطاع الأول وصلّى فسوف يعاقبه الثاني، وإذا أطاع الثاني فسوف يعاقبه الأول، فلا يستطيع أن يطيع الاثنين معًا: «أصلّي ولا أصلّي» هذا تكليف بالمحال، فلا يستطيع إطاعتهما جميعًا لعدم قدرته على ذلك، والتكليف بالمُحال ممتنع عقلاً..
وهذا الذي أشار له أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله لولده الإمام المجتبى (عليه السلام): « واعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّه لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُه، ولَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِه وسُلْطَانِه، ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَه وصِفَاتِه، ولَكِنَّه إِلَه وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَه، لَا يُضَادُّه فِي مُلْكِه أَحَدٌ ولَا يَزُولُ أَبَداً ».(1)
والذي يعني الإيمان بأن الله (عزوجل) غير مركب من أجزاء حقيقية، سواء أكانت أجزاءً خارجية أو أجزاء ذهنية، ويعبر عن هذا المعنى ب-«البساطة» فلسفياً، فيقال: إن واجب الوجود بسيط (غير مركب: لا من أجزاء ذهنية ولا من أجزاء خارجية حقيقية)، والدليل على هذا القسم من التوحيد: أن التركيب يستلزم الاحتياج إلى الأجزاء، والاحتياج خلاف وجوب الوجود.
وإلى هذين المعنيين من التوحيد، أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما روي أن
ص: 155
أعرابيًا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إن الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه، قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي، إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، و وجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه، فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال: ثالث ثلاثة. وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فبهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه، وجل ربنا عن ذلك و تعالى.(1)
وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم(2)، كذلك ربنا عز وجل.(3)
ص: 156
ثبت أن الشريك -أو الواجب الوجود الثاني أو اللا متناهي الثاني- محال في حد نفسه، ولكن هل يمكن افتراض مخلوق، له صلاحيات عالية أو غير متعارفة، بحيث تكون صلاحياته مستمدة من اللامتناهي وفي طوله؟
الجواب: من الواضح أن هذا الفرض لا يتضادّ مع التوحيد ولا يتقاطع معه، ما دام الثاني في طول الأول اللا المتناهي ويعود إليه بالمطلق، بل إن التشكيك في إمكان ذلك تشكيك -في الحقيقة- في قدرة الواجب اللا متناهي الواحد بالوحدة الحقيقية.
ومنه نفهم حقانية نظرية التفويض بالمعنى الذي يقول به أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، حيث إنها لا تخرج عن القول بأن للمعصومين (عليهم السلام) صلاحيات عالية، لكنها مهما علت تبقى في طول وبإذن الواجب جل وعلا، وهذا ينفي الغلو الذي قد يُرمى به أتباع المذهب الحق في أئمتهم (عليهم السلام).
ومنه نفهم الروايات التي بيّنت أن للأئمة (عليهم السلام) دوراً في حساب الناس يوم القيامة مثلاً(1)،
أو التي ذكرت أن لهم اطلاعاً على أعمال العباد(2)، أو أن
ص: 157
لهم دوراً في التكوين، وما شابه هذه الأمور.
والسر في ذلك: إن الاثنينية هنا يمكن تحققها، لوجود مقومها، وهو التمييز بين الأول والثاني، سوى إنه تميزٌ من طرف الثاني(1)،
فإنه ممكن في حدّ نفسه، وينتظر الإفاضة عليه من غيره الذي هو الواجب بالذات، وهذا التميز كافٍ في تحقق الاثنينية المطلوبة، ومن ثم تكون فرضية الثاني المتناهي ممكنة في حد ذاتها ولا تواجه مانعاً يحول دون قبولها، حتى لو كان لذلك المخلوق إمكانيات هائلة بالنسبة لغيره من الممكنات.
يتفرع على إثبات صفة التوحيد، نفي أي صفة يلزم من إثباتها للواجب جل وعلا إثبات نقص وجودي فيه، مما يعني ضرورة سلبها عن الذات المقدسة، وتفاصيلها إلى المعنى الثاني من التوحيد إن شاء الله تعالى.
ص: 158
إن الصفات الإلهية يمكن تنويعها إلى ثلاثة أنواع:
و هذا النوع من الصفات له عدة خصائص، أهمها:
1- إن هذه الصفات هي من النوع الذي يليق بالباري جل وعلا، فيجب أن نثبتها له سبحانه، كالعلم والحياة، في قبال ما لا يليق به جل وعلا فيجب سلبه عنه، كالتركيب والظلم، فهي صفات لا تليق به سبحانه وتعالى فيجب سلبها عنه عز وجل.
2- إن هذه الصفات تشير إلى كمال في الذات المقدسة، ولذلك يجب إثباتها له عز وجل من باب أن واجب الوجود متصف بجميع الصفات الكمالية، وهذا معنى الكمالية.
وهذا النوع له صنفان:
بمعنى أنه يكفي في تحققها وجود الذات المقدسة فقط، أي إنها لا تحتاج الى طرف آخر لتثبت، ويقابلها الصفات الإضافية.
ص: 159
والبحث في هذه الصفات يقع في أنه: هل لهذه الصفات وجود حقيقي أو ليس لها وجود حقيقي؟ وعلى فرض وجودها الحقيقي، فهل هي عين الذات أو زائدة على الذات؟
تعددت الآراء في هذه المسألة وتناقضت أيضاً، فبعض الآراء أخذ جانب الإفراط، وبعض الآراء دخل جانب التفريط:
1- ف- (الأشاعرة) - كما سيأتي بيانه إن شاء الله- أرادوا الحفاظ على وصف الباري جل وعلا بالصفات الكمالية حقيقةً، ولكنهم لم يتعقلوا وصف الله بها إلا بالقول بأنها (زائدة على الذات)، وهم يمثلون جانب الإفراط.
2- على طرف النقيض منه وقف (المعتزلة) الذين أرادوا تنزيه الباري عز وجل عن النقص والتركيب، فقالوا بعدم وجود أي صفة حقيقية، وأن الذات الإلهية تقوم مقام الصفات، وهؤلاء يمثلون جانب التفريط.
3- وجاء الحكماء والإمامية من أتباع اهل البيت (صلوات الله عليهم) برأي يثبت الصفات الحقيقية له عز وجل بحيث لا تكون هذه الصفات زائدة على الذات، فخالفوا بذلك الأشاعرة، ولا يلزم منها تركّب الذات فخالفوا به المعتزلة، فقالوا بأن: صفات الله عز وجل هي عين ذاته.
إن الصفات الكمالية قائمة بنفسها، زائدة على الذات، بمعنى أن الصفات
ص: 160
الإلهية لها وجود مستقل حقيقةً عن وجود الذات المقدسة. فهناك ذات إلهية، وإلى جنبها توجد صفة (العلم) وصفة (القدرة) وصفة (الحي) وهكذا. فهي مستقلة زائدة على الذات، فتوجد ذات، وتوجد صفة خارجة عن الذات تعرض عليها.
وبعبارة أخرى: إن الصفات الالهية موجودة في الخارج والواقع على نحو اللوازم للذات الموجودة في الواقع أيضاً، وبالمحصلة عندنا ذات وصفات متلازمة، وكلها بنحو القدم، فتؤول القضية في نهاية المطاف إلى مقولة القدماء الثمانية أو ربما أكثر أو بحسب تعدد الصفات.
وربما يكون السر وراء قولهم ذلك: هو أنه حيث إن الصفات ثابتة ومتكثرة بنص القرآن الكريم، فيجب علينا أن نثبتها له جل وعلا، وحتى يتم الحفاظ على عدم تركيب الذات المقدسة، يلزم القول باستقلال الصفات عنها.
إلا أن الإشكال جاء من قولهم بأن تلك الصفات هي قديمة بقدم الله تعالى، وإلا –أي لو كانت حادثة- فإنه يلزم خلو الذات من العلم مثلاً قبل حدوثها، وهو محال، وحيث إنها مستقلة عنه جل وعلا، فقد لزم من ذلك تعدد القدماء.
إن هذا القول يلزم منه عدة محاذير، نذكر منها:
ص: 161
المحذور الأول: إن هذا القول يلزم تعدد القدماء، فالله قديم، والعلم قديم، و القدرة قديمة، وكذا الحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام النفسي(1). وهو ما يُقال بأن قولهم ينتهي إلى القول بالقدماء الثمانية: الذات المقدسة وصفاتها الكمالية السبعة، وأدلة التوحيد تنفيه.
المحذور الثاني: هذا القول يلزم منه افتقار الذات المقدسة إلى الصفات الزائدة، أي إننا عندما ننظر الى الذات بغض النظر عن غيرها، أي عندما نقصر النظر على الذات (التي هي غير العلم و غير القدرة و غير الحياة... إلى بقية السبعة) نجدها مفتقرة إلى العلم حتى تصير عالمة، وهكذا في بقية الصفات.
فالذات افتقرت إلى تلك الصفات الخارجة عنها، والافتقار صفة الممكن.
المحذور الثالث: إن هذا القول يلزم منه النقص ومحدودية الذات، لأن الذات بالاستناد إلى دعواهم تكون في مرتبة وجودها الخاص غير الوجود الخاص بالعلم، وغير الوجود الخاص بالقدرة، وغير الوجود الخاص بالحياة... إلخ، فالذات في تلك المرتبة الخاصة بوجودها خالية من الصفات الذاتية، ففي ذاتها ستكون ناقصة، وهذا خُلفُ وجوب الوجود.
ص: 162
ذهبوا إلى أنه ليس هناك أي تحقق ووجود للصفات، فليس عندنا إلا الذات المقدسة، نعم، هذه الذات تنوب عن هذه الصفات، فهي ذات بسيطة واحدة لها آثار متعددة، فمنها أثر يشبه أثر الحياة، ولكن لا توجد صفة حياة في الحقيقة، وإنما هناك أثر يشبه أثر الحياة، وهناك أثر يشبه أثر العلم، وآخر يشبه أثر القدرة، وهكذا.
وبعبارة أخرى: أن الصفات الالهية غير موجودة في الواقع والخارج، وإنما الموجود فقط هي الذات المقدسة، ولكنها سنخُ ذات واجدة لكمال القدرة لا القدرة، ولكمال الحياة لا الحياة، ولكمال العلم لا العلم، وهكذا، فالذات لها آثار الصفات وكمالاتها من دون أن تكون فيها تلك الصفات خارجاً وواقعاً، فتؤول القضية الى خلو الذات عن الصفات.
ولعل السرّ في قولهم ذاك هو: محاولتهم الحفاظ على بساطة الذات المقدسة من جهة، وعدم تعدد القدماء من جهة أخرى.
يلزم من هذا القول التالي:
أولاً: تعطيل الذات عن الصفات بأن تكون معطلة في مرتبة ذاتها عن الاتصاف بها.
ثانياً: مخالفة صريح القرآن الكريم والروايات الشريفة التي وصفت الله
ص: 163
عز وجل بتلك الصفات، فصرحت بأنه تعالى هو القادر، وهو العالم، وهو الحي، مريد... لا أن له أثر القدرة، أو أن له أثر الحياة، فالقرآن واضح جداً في بيانه حين يصف الله عز وجل بأنه سميع، ولا يقول بأن له سبحانه أثر السمع، وفي هذا التصريح القرآني إثبات صريح لصفات الله عز وجل.
قال تعالى (هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)
تنبيه:
قال الشيخ السبحاني:
ثم إن المشهور أن المعتزلة نافون للصفات مطلقا وقائلون بنيابة الذات عن الصفات، ولكنه لا أصل له، فالمنفي عندهم هو الصفات الزائدة الأزلية، لا أصل الصفات فهم قائلون بالعينية كالإمامية، ويدل على ذلك كلام الشيخ المفيد الآنف الذكر، نعم يظهر القول بالنيابة من عباد بن سليمان وأبي علي الجبائي .(2)
وقد استفاد الشيخ السبحاني هذا المطلب من الشيخ المفيد (قدس سره)، حيث قال: وأقول: إن الله - عز وجل اسمه - حي لنفسه لا بحياة، وأنه قادر
ص: 164
لنفسه و عالم لنفسه لا بمعنى كما ذهب إليه المشبهة من أصحاب الصفات ولا الأحوال المختلفات كما أبدعه أبو هاشم الجبائي وفارق به سائر أهل التوحيد وارتكب أشنع من مقال أهل الصفات، وهذا مذهب الإمامية كافة والمعتزلة إلا من سميناه وأكثر المرجئة وجمهور الزيدية وجماعة من أصحاب الحديث والمحكمة.(1)
أو قل: إن صفات الواجب هي عين ذاته واقعاً، غيرها مفهوماً، وهو الصحيح في المقام.
فالصفات موجودة حقيقية (بخلاف ما قالت به المعتزلة من عدم وجود الصفات)، وفي نفس الوقت هذه الصفات الموجودة هي عين الذات، (وليست زائدة على الذات كما ذهبت إليه الأشاعرة)، فالذات الإلهية المقدسة ذات واحدة بسيطة، وهذه الذات الواحدة البسيطة هي نفسها قادرة، وحيّة، ومدركة، وسميعة، وبصيرة... إلى آخر الصفات.
وبعبارة أخرى: أن الصفات الإلهية عين الذات المقدسة في الواقع والخارج، وليست الذات تنوب مناب الصفات، ولا الصفات لازمة للذات، بل هي عينها وعينها هي، وهكذا الصفات فيما بينها، نعم هذا على مستوى الواقع والخارج، وأما على مستوى الادراك والتلقّي الذهني فإنها على نحو التكثر والتعددية، وليست على نحو الجامع الواحد، وهذا يعود إلى ضعف في
ص: 165
المُدرِك وعجز المتلقي عن أن يتلقى ذلك التوحيد الواقعي كما هو، وهذا ليس بالأمر الشاذ، فإن الامر لا يقف عند هذا الحد، إذ الذهن البشري يعجز عن تصور الممكنات بنحو الوحدة، وهو من عالمها وسنخها، فكيف يتمكن من التسلق والقفز إلى إدراك وحدة الواجب وصفاته الذاتية الكمالية جل شأنه وعز سلطانه.
فالذات الالهية واحدة، لكن هذه الذات الإلهية عالمة قادرة حيّة مدركة... وصفاتها هذه لها مفاهيم يختلف الواحد منها عن الآخر، لكن لدينا في الخارج شيء واحد، وهو الذات الإلهية المقدسة البسيطة، وهذا هو رأي الإمامية.(1)
وقد أشارت الروايات الشريفة إلى هذا الاعتقاد بنصوص واضحة جلية، فعن الامام الكاظم (صلوات الله و سلامه عليه) أنه قال: أَوَّلُ الدِّيانَةِ بِهِ مَعرِفَتُهُ، وكَمالُ مَعرِفَتِهِ تَوحيدُهُ، وكَمالُ تَوحيدِهِ نَفيُ الصِّفاتِ عَنهُ ؛ بِشَهادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيرُ المَوصوفِ، وشَهادَةِ المَوصوفِ أَنَّهُ غَيرُ الصِّفَةِ، وشَهادَتِهِما
ص: 166
جَميعاً بِالتَّثنِيَةِ المُمتَنِعِ مِنهُ الأَزَلُ. (1)...(2)
و نظيره ما ورد عن امير المؤمنين (صلوات الله و سلامه عليه): أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه، وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللَّه سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه ومَنْ جَهِلَه فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْه، ومَنْ أَشَارَ إِلَيْه فَقَدْ حَدَّه ومَنْ حَدَّه فَقَدْ عَدَّه...(3)
وروي أنه سئل أبو جعفر الثاني (عليه السلام): يَجوزُ أَن يُقالَ للهِ تعالى: إِنَّهُ شَيءٌ ؟ قالَ -: نَعَم، يُخرِجُهُ مِن الحَدَّينِ: حَدِّ التَّعطيلِ وحَدِّ التَّشبيهِ.(4)
وعن محمّد بن عيسى بن عبيد: قال لي أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام): ما تَقولُ إِذا قيلَ لَكَ: أَخبِرني عَنِ اللهِ عزّ وجلّ شَيءٌ هُوَ أَم لا ؟
قالَ: فَقُلتُ لَهُ: قَد أَثبَتَ اللهُ عزّ وجلّ نَفسَهُ شَيئاً، حَيثُ يَقولُ: (قُلْ أيُّ شَيءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)(5)، فَأَقولُ: إِنَّهُ شَيءٌ لا كَالأَشياءِ ؛ إِذ في نَفيِ الشَّيئِيَّةِ عَنهُ إِبطالُهُ ونَفيُهُ.
ص: 167
قالَ لي: صَدَقتَ وأَصَبتَ.
ثُمَّ قالَ لِيَ الرِّضا (عليه السلام): لِلنَّاسِ فِي التَّوحيدِ ثَلاثَةُ مَذاهِبَ: نَفيٌ، وتَشبيهٌ، وإِثباتٌ بِغَيرِ تَشبيه. فَمَذهَبُ النَّفيِ لا يَجوزُ، ومَذهَبُ التَّشبيهِ لا يَجوزُ ؛ لأنّ اللهَ تَبارَك وتَعالى لا يُشبِهُهُ شَيءٌ، وَالسَّبيلُ فِي الطَّريقَةِ الثّالِثَةِ: إِثباتٌ بِلا تَشبيه.(1)
وهي كالصنف الأول في كونها مما يليق إثباته بالواجب تعالى، لأنها تحكي عن كمال وجودي، ولكنها تختلف عنها في أنها ليست ذاتية، أي إنها تحتاج إلى طرف آخر لتحصل، مثل الخالقية والرازقية وصفة الجود وغيرها من الصفات، وهي صفات حادثة لأنها تحتاج إلى طرف آخر، وكل ما عدا الله سبحانه وتعالى فهو ممكن وحادث، نعم، القدرة عليها صفة ذاتية، فهو تعالى قادر على الخلق والرزق والإعطاء منذ الأزل، أما تفعيل هذه القدرة وإبرازها بإيجاد المخلوق والمرزوق والمعُطى، فهو الحادث بحدوث الطرف الثاني.
إن مبدأ الصفات الذاتية هي صفة الحياة، كما أن مبدأ الصفات الفعلية وأصلها هي صفة القدرة أو القيومية.
وقد جُمعا في قوله تعالى {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(2)
ص: 168
إن الصفات الذاتية لا متناهية، لأنها عين الذات وهي قديمة بقدم الذات، أمّا الصفات الفعلية فهي متناهية وإلا لم تقبل ما يقابلها، وكذلك هي زائدة على الذات وحادثة.
أما كيف يمكن التمييز ما بين الصفات الذاتية وبين الصفات الفعلية؟
فقد ذكروا أنه توجد ضابطتان للتمييز، الأولى للمتكلمين والثانية للحكماء:
أما الضابطة الأولى (للمتكلمين) فهي: إذا كانت الصفة لا يمكن أنْ تتصف الذات بها وبنقيضها فهي ذاتية، كالعلم والقدرة، فالعلم نقيضه الجهل، ولا يمكن أنْ يتصف به الباري سبحانه، وأما إذا كانت الصفة يمكن أنْ تتصف الذات بها وبنقيضها، فهي صفة فعلية كالرازقية والخالقية، فالرزق نقيضه عدم الرزق، ويمكن أنْ يتصف الباري، بأنه يرزق ولا يرزق، أو يغضب ويرضى، أو يبسط ويقبض، وغيرها مما يمكن أن يتصف بها وبنقيضها، فهي صفة فعلية.
أما الضابطة الثانية (للحكماء) فهي: أنّ الصفات الذاتية منتزعة من نفس الذات من دون حاجة إلى شيء وراء الذات كالعلم والقدرة، فهي تنتزع من الذات نفسها من دون حاجة إلى المعلوم أو المقدور.
أما الصفات الفعلية: فإن الذات وحدها لا تكفي للاتصاف بها، وإنما
ص: 169
تحتاج إلى أمر آخر وراء الذات، كالرازقية والخالقية، فقبل أنْ يكون هناك مرزوق أو مخلوق، لا يتصف بأنه رازق وخالق.
نعم، الصفات الفعلية ترجع إلى صفة ذاتية هي (القيومية).
وهي الصفات التي يجب تنزيه الباري عز وجل منها، فكما أن هناك من الصفات ما يليق بذات الله جل وعلا فيجب أن نثبتها له سبحانه لحكايتها عن كمال وجودي. فهناك صفات لا تليق به تبارك وتعالى عنها علّواً كبيراً، هي صفات يلزم من إثباتها للواجب تعالى إثبات نقص وجودي، فكان لزاماً نفيها عنه تعالى، فإذا أردنا وصف الله تعالى بها، فلا بد أن يسبقها حرف نفي وسلب، لذا سُمّيت بالسلبية.
وهذا النوع له صنفان أيضاً:
وهي الصفات التي يجب أن نسلبها عن الذات المقدسة بغض النظر عن أي شيء آخر وهذه الصفات هي:
1- إنه عز وجل ليس مركّباً.
2- ليس جسماً.
3- ليس له شريك.
ص: 170
4- ليس له مكان.
5- لا يرى بالعين.
6- ليس محتاجاً.
7- ليس محلاً للحوادث.
والتفصيل يأتي إن شاء الله تعالى.
هذه الصفات تتعلق بالفعل الإلهي، حيث يجب تنزيه فعل الباري عز وجل عنها، وفرقها عن الأولى أنها صفات راجعة إلى الفعل وليس إلى الذات، فإذا لاحظنا فعل الله عز وجل وما يصدر عنه سبحانه من الأفعال، فلا بد أن ننزه فعله جل وعلا عن تلك الصفات، كصفة (الظلم) وهي صفة الفعل، ومثلها صفات الجور والعبث والشر واللعب والخطأ والاشتباه، فكل هذه الصفات تعد من الصفات السلبية الفعلية لأنها منفية عن فعله جل و علا، والدليل على ضرورة سلبها عن فعله تعالى ما يأتي إن شاء الله تعالى في باب (العدل الإلهي) من نفي مناشئ الفعل غير العادل عن فعله تعالى.
وعلى كل حال، فلأنه عز وجل واجب الوجود، فكل ما يتصف به ممكن الوجود يكون منفياً عنه جل وعلا.
ص: 171
يُمكن إقامة عدة براهين على ذلك، وفي الحقيقة هي تنبيهات:
البرهان الأول: بعد أنْ ثبت أنّ الله تعالى هو واجب الوجود، وبعد أن عرفنا أن معنى كونه واجب الوجود هو كونه كاملاً من جميع الجهات، بحيث إن افتراض أي جهة نقص فيه يثلم اتصافه بواجبية الوجود، يكون اتصافه بالصفات الثبوتية أمراً لا بد منه، وإلا يلزم خلف الفرض.
وإثبات الكمالات له بنحو مطلق، يستلزم نفي الصفات السلبية عنه بنحو مطلق كذلك كما هو واضح.
البرهان الثاني: بعد أن ثبت أن عالم الإمكان معلول له تعالى، وبعد أن رأينا وجداناً أن عالم الإمكان يتصف بالكثير من الصفات الكمالية، كالعلم والقدرة والحياة، يكون إثباتها في الذات الواجبة الوجود أمراً بديهياً، وإلا، فإن اتصاف الممكنات بتلك الصفات يحتاج إلى علة، تنتهي إلى الواجب كما هو واضح، وافتراض خلو الذات الواجبة من الكمالات مع افتراض أنها علة لها في الممكنات أمر محال في قانون العلة والمعلول، باعتبار أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن المعلول لا يمكن أن يكون أكمل من علته.
على أن برهان النظام –كما تقدم- يُثبت علم وقدرة وحياة المنظِّم.
فضلاً عن أن القرآن الكريم كان قد أثبت الصفات لله تعالى.
ص: 172
عرفنا أن هناك صفات ثبوتية، وأخرى سلبية، وهنا سؤال: أيهما يرجع إلى الآخر: هل ترجع الصفات الثبوتية إلى السلبية؟ أو بالعكس؟
الجواب: هنا رأيان:
الرأي الاول: إن الصفات الثبوتية ترجع الى الصفات السلبية، فصفة (عالم) في أصلها أو في حقيقتها تعني (ليس بجاهل)، وصفة (القادر) تعني (ليس بعاجز)، وصفة (الحي) معناها (ليس بالميت)، و (مريد) تعني (ليس بمُكرَه) وهكذا.
وقد ذكروا لذلك تبريرين:
الأول: عدم تعقّل اتصاف الواجب بالصفات الثبوتية من دون تركيب أو احتياج (سواء انتهوا إلى القول بزيادة الصفات على الذات أو إلى القول بنيابة الذات عن الصفات)، ولضمان وصفه تعالى بالصفات الكمالية مع عدم الانتهاء إلى التركيب، قالوا بأن الصفات الثبوتية في حقيقتها ترجع إلى سلوب متعددة. والسلب لا يلزم من التركيب.
الثاني: إن معرفة كنه وحقيقة الصفات الثبوتية محجوب عنا(1)، فنحن لا نستطيع أن نفهم المعنى الحقيقي لعلم الله جل وعلا، ولا لبقية الصفات
ص: 173
الثبوتية، لأن فهم حقيقة الصفات الثبوتية غير معقول لنا، وكيف يفهم المحدودُ اللامحدود؟ فما نفهمه هو السلوب (أي سلب الجهل) فنقول (ليس بجاهل) فهذه واضحة عندنا. وهكذا بقية الصفات.
الرأي الثاني: إن الصفات السلبية ترجع إلى الثبوتية، بمعنى أن كل الصفات السلبية ترجع الى صفة سلبية واحدة هي صفة سلب الإمكان، والذي ليس له سوى معنى واحد هو وجوب الوجود.
وأما عن الرأي الأول فهو باطل من عدة جهات:
الجهة الأولى: إن إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية يعني (التعطيل)، أي عدم إثبات أي صفة ثبوتية لله عز وجل، فلا نقول: (الله العالم)، وبالمقابل نقول: (الله ليس بجاهل)، ويترتب على هذا: أن أي صفة ثبوتية لا تثبت لله عز وجل، فإذا ما سألوك: هل الله عالم؟ أجبتهم: لا، الله ليس بجاهل!
الجهة الثانية: إن نفي الصفات الثبوتية عنه جل وعلا هو على خلاف ظاهر القرآن الكريم الذي أثبت وبصراحة تامة- الصفات الثبوتية له سبحانه، قال عز من قائل (هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(1)
ص: 174
الجهة الثالثة: لا منافاة بين عدم فهم أو عدم القدرة على فهم الصفات الثبوتية (بلحاظ عجز الانسان عن معرفة حقيقة الصفات الثبوتية) وبين إثباتها لله عز وجل، فإذا كان العلم - مثلاً - هو عين الذات، والذات غير محدودة، إذن فالعلم غير محدود كذلك، ونحن محدودون فلا يمكننا أن ندرك العلم، ولكن لا مانع من أن نثبت تلك الصفة له تعالى ونقول: (الله عالم)، فالمقدمة –التي ذكروها- صحيحة، لكن النتيجة –التي انتهوا إليها- غير صحيحة. فنحن نصف الله عز وجل بما وصف به نفسه.
في قدرة العقل البشري على اكتناه الصفات الالهية ظهرت الاتجاهات التالية:
حصيلة هذا الاتجاه: أننا لا نعرف أي شيء عن أي صفة من الصفات الإلهية والتي قامت عليها الأدلة وأثبتتها البراهين، ولا نحيط بها علماً، بل نجهلها جهلاً تصورياً مطبقاً، ونصدق بها فقط لقيام الدليل التام عليها.
وخلفية ذلك التالي:
أن المفاهيم التي نمتلكها عن تلك الصفات اُشتُقت من عالم الإمكان واُنتزعت من فضائنا المحدود، وبالتالي لا محكي لها ولا مصداق تنطبق عليه خارج هذه المحوّطة وتلك الحدود، ولا ضمان على انطباقها على فضاء أرحب
ص: 175
منها وأوسع بفاصلة لا تُتصور ولا تُحدّد، وهو فضاء اللامتناهي، وبالتالي يبقى ما نفهمه بحدود عالمنا، ولا يمكننا أن ننتقل منه إلى أي عالم آخر(1).
وحصيلة هذا الاتجاه: إن هناك نواقص بلحاظ صفاتنا، فلا بد أن ننفيها عن صفاته سبحانه وتعالى، فمثلاً الجهل والعجز والفقر وغيرها كلها نواقص بلحاظنا، فمن باب أولى يلزم أن تُسلَب عنه تعالى، ومن ثَمّ نفهم من علمه أنه عدم الجهل فقط، ومن قدرته عدم العجز، ومن غناه عدم الفقر والحاجة، وهكذا.
وحصيلة هذا الاتجاه تتوقف على بيان بعض المقولات المعرفية والمنطقية وهي التالي:
أولاً: إن مفهوم المشترك المعنوي يحكي عن الحيثية المشتركة في مصاديق متعددة، فالإنسان مفهوم يحكي عن الحيثية المشتركة بين زيد وعمرو وبكر، والحيوانية تحكي الحيثية المشتركة بين الفرس والإنسان والغزال، وهكذا الجسمية والجوهرية.
ثانياً: المشترك المعنوي لا يستلزم تماثلاً بين حقائق المصاديق المحكيّة به، فهو لا يعدو كونه أشبه بحكاية خيط رفيع ومشترك بين المصاديق المتنوعة،
ص: 176
وأما حقائقها ومكوناتها الداخلية فلا يفيد التماثل فيما بينها، فمثلاً الجوهر يحكي عن حيثية الوجود لا في موضوع فقط، وأما كون تلك المصاديق متماثلة وكلها حيوان أو نبات أو...الخ فهذا لا يفيده الجوهر، نعم قد نجد بعض المشتركات تفيد ذلك، ولكن هذا لا من زاوية أنه مشترك معنوي، بل لخصوصية مرتبطة بمثال ومورد معين.
ثالثاً: المشترك المعنوي له أنماط متعددة ومستويات مختلفة من زاوية حكايته عن مصاديقه، فتارة المشتركات تحكي عن حيثيات متباينة، وأخرى عن حيثيات متداخلة، وهنا المحكي تارة يكون ضعيفاً وأخرى قوياً، أي إن الحكاية لها مراتب ضعيفة وشديدة، ومثال المتباينة: الجوهر والعرض، ومثال المتداخلة ذات الدرجات: الجوهر والجسم والجسم النامي، حيث إنها تبدأ من الأضعف ثم تشتد شيئاً فشيئاً.
وعموماً: فإن المشتركات المعنوية لا تواطؤ فيها من جهة الحكاية عن المصاديق والمحكيات.
رابعاً: المشترك المعنوي كلما ابتعد وعمَّ واتسع كلما كانت حكايته عن حيثية ما أضعف وأبعد، أي إن المحكي يكون ضئيلاً وضعيفاً، نعم مصاديقه تكبر وتتكاثر، ولكن محكيّه يضعف ويقلّ، فمثلاً الجوهر والجسمية كلٌّ منهما يتّسم بطابع العمومية والسعة، وبذا يكشفان عن حيثية ضعيفة في مصاديقهما، وفي نفس الوقت مصاديقهما كبرت بمقدار سعتهما وعموميتهما، وبالمحصلة المشترك المعنوي الوسيع جداً والعام يعطي معرفة إيجابية ضعيفة
ص: 177
ذات مصاديق كثيرة.
إن الصفات الالهية المشتركة معنىً، كالعلم والقدرة والحياة والوجود والغنى...، هي صفات ومشتركات عامة وواسعة جداً، ومن ثَمّ يكون المحكي بها حيثية ضعيفة لا تكاد تبين، وأقرب إلى الإبهام منها إلى المعرفة والعلم، ولذا نجد المصاديق كبيرة وكثيرة، وعندما يراد التمييز فيما بينها وفصل الخالق عن المخلوق والواجب عن الممكن، فإن العقل البشري المحدود يقف عاجزاً دون الوصول لضبط ما به الامتياز الإيجابي له سبحانه وتعالى، ولا ملجأ له إلا العودة الى السلب والنفي للتمييز والمعرفة، وبذا يضطر إلى التوصيفات التالية: الوجود اللامتناهي، العلم اللامحدود، والقدرة التي ليس كمثلها شيء، والحياة غير المتناهية، وهكذا في بقية الصفات.
فصحيح أننا نبدأ بمعرفة إيجابية، ولكنها ذات خيط ضعيف جداً، وإذا أُريد لها الاتّساع والتّعمق، فلا خيار لها إلا السلب وضبط كل وصف وإلحاقه بمقولة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(1)
تجدر الإشارة أولاً (إلى أن حقيقة الاسم والصفة واحدة، ولا يختلفان إلا على مستوى اللفظ والاعتبار الذهني، فالاسم هو الذات بضميمة الصفة)(2)
ص: 178
ويؤيد هذا المعنى عدة أمور:
الأمر الأول: ورود بعض الأحاديث التي أطلقت لفظ (الاسم) تارة ولفظ (الصفة) تارة أخرى على معنى واحد، فمثلاً روي عن هشام بن سالم، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي: أتنعت الله؟ فقلت: نعم، قال: هات، فقلت: هو السميع البصير، قال: هذه صفة يشترك فيها المخلوقون(1)!
قلت: فكيف تنعته؟ فقال: هو نور لا ظلمة فيه، وحياة لا موت فيه، وعلم لا جهل فيه، وحق لا باطل فيه. فخرجت من عنده وأنا أعلم الناس بالتوحيد.(2)
فأطلق هنا الصفة على (السميع البصير)
ولكن روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال:...ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبّدهم وابتلاهم إلى أن يدعوه بها، فسمّى نفسه سميعاً بصيراً قادراً قائماً ظاهراً باطناً لطيفاً خبيراً قوياً عزيزاً حكيماً عليماً وما أشبه هذه الأسماء...(3)
وهنا أطلق (الاسم) على (السميع البصير) أيضاً.
الأمر الثاني: تصريح بعض الروايات الشريفة بأن الاسم والصفة شيء
ص: 179
واحد، من قبيل ما روي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَوْ قُلْتُ لَه: جَعَلَنِي اللَّه فِدَاكَ نَعْبُدُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ
الْوَاحِدَ الأَحَدَ الصَّمَدَ؟ قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ مَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمُسَمَّى بِالأَسْمَاءِ أَشْرَكَ وكَفَرَ وجَحَدَ، ولَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً بَلِ اعْبُدِ اللَّه الْوَاحِدَ الأَحَدَ الصَّمَدَ الْمُسَمَّى بِهَذِه الأَسْمَاءِ دُونَ الأَسْمَاءِ، إِنَّ الأَسْمَاءَ صِفَاتٌ وَصَفَ بِهَا نَفْسَه.(1)
وفي رواية أخرى عن محمد بن سنان قال: سألته [أي الإمام الرضا (عليه السلام)] عن الاسم ما هو؟ قال: صِفَةٌ لموْصُوْف.(2)
ولكن مع ذلك، فقد فرّقوا بين الاسم والصفة، واختلفوا على عدة آراء، وأنسبها ما ذهب إليه صاحب الميزان، حيث قال:
لا فرق بين الصفة والاسم غير أن الصفة تدل على معنى من المعاني يتلبس به الذات أعم من العينية والغيرية، والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف. فالحياة والعلم صفتان، والحي والعالم اسمان...(3)
بمعنى أن الاسم هو اللفظ المأخوذ إما من الذات بما هي هي، أو بكونها موصوفاً بوصف أو مبدأً لفعل، فالأول كلفظ الجلالة له سبحانه، والرجل والإنسان لغيره، والثاني كالعالم والقادر، والثالث كالرازق والخالق، وأما الصفة فهو الدال على المبدأ مجرداً عن الذات، كالعلم والقدرة والرزق
ص: 180
والخلق، ولأجل ذلك يصح أن يقال: الاسم ما يصح حمله، كما يُقال: الله عالم وخالق ورحمن ورحيم، والصفة لا يصح حملها، كالعلم والخلق والرحمة(1)،
وهذا هو المشهور بين المتكلمين، بل الحكماء والعرفاء، فالصفات مندكّة في الاسماء من غير عكس.(2)
وردت عدة روايات تدعو المؤمن إلى أن يتأدب بآداب الله تعالى، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):...فتأدبوا أيها النفر بآداب الله عز وجل للمؤمنين.(3)
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): من تأدب بآداب الله عز وجل أداه إلى الفلاح الدائم.(4)
ومن لم يصلح على أدب الله لم يصلح على أدب نفسه.(5)
وروي أن جبرئيل (عليه السلام) هبط إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام، ويقول لك: اقرأ (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ)(6)، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) منادياً ينادي: من لم يتأدب بأدب الله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.(7)
ص: 181
فما معنى التأدب بآداب الله تعالى؟
الجواب: الظاهر والله العالم أن واحداً من ملاكات الأخلاق الفاضلة هو أن يعمل المؤمن على أن يتمثل الصفات الإلهية في حياته اليومية، باعتبار ما تقدم من أن الصفات الوجودية تخضع لنظام التشكيك، وبالتالي فالصفات الإلهية وإن كانت غير متناهية، ولكن هناك تجليات لتلك الصفات في عالم الإمكان بصورة مخففة، وإن الالتزام بتلك الصفات المخففة جداً يؤدي إلى أن يتكامل الفرد المؤمن، ومن هنا جاءت الدعوة إلى هذا التأدب.
وهذا المعنى ما تشير إليه بعض النصوص التربوية، ومنها ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إِنَّ اللَّه يُحِبُّ الرِّفْقَ ويُعِينُ عَلَيْه، فَإِذَا رَكِبْتُمُ الدَّوَابَّ الْعُجْفَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإِنْ كَانَتِ الأَرْضُ مُجْدِبَةً فَانْجُوا عَنْهَا، وإِنْ كَانَتْ مُخْصِبَةً فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا.(1)
وهذا الحديث «إن الله تعالى رفيق يحب الرفق» يدل على أن ملاك حسن الأخلاق وفضائل الملكات وجود مثلها أو ما يناسبها في صفات الله تعالى، مثلاً الله كريم يحب الكرم، فالكرم من الملكات الفاضلة وحليم يحب الحلم، والجود حسن لأن الله جواد، والسخاء حسنة وإنْ لم يوصف الله تعالى بالسخاء لكن وُصف بما يناسبها، والشجاعة حسنة ولا يقال له تعالى شجاع، لكن يتصف بعدم الخوف، وهذا معنى ما قيل: تخلقوا بأخلاق الله تعالى.
وبالجملة: هو الموجود الكامل الجامع لجميع الكمالات المنزه من جميع
ص: 182
النقائص، وتحصيل كل كمال تشبه بالخالق تعالى وما يسلب عنه كالجسمية والمحسوسية والمكان والزمان والتركيب وأمثال ذلك من صفات النقص ويجب الترفع عنها على الإنسان بقدر استطاعته وهو معنى التقرب إلى الله وجعله غاية للعبادات.(1)
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): إِنَّ اللَّه جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، ويُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ النِّعْمَةِ عَلَى عَبْدِه.(2)
يعني أنه تعالى جميل الفعال يحب منكم التجمل والتزين وإظهار نعمه وعدم الحاجة إلى الغير.(3)
أو بمعنى أنه حسن الأفعال كامل الأوصاف.(4)
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): وإِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ الله سُبْحَانَه، وإِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ ولَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ...(5)
ومعه، فينبغي على المؤمن أن يكون رحيماً بالناس، ليرحمه الله تعالى، ينبغي عليه أن يكون ودوداً معهم، وينبغي أن يكون صبوراً، شكوراً، عزيزاً، جليلاً، إلى آخر الصفات الكمالية له جل وعلا.
ص: 183
قُسمت الأسماء الإلهية إلى قسمين:
القسم الأول: الأسماء والصفات المستأثرة، وهي الأسماء التي تحكي عن نفس الذات الإلهية المقدسة، مما يعني أنها لا تصح إلا في واجب الوجود، وهذه لا يصح لأحد أن يتسمى بها، لاختصاصها به جل وعلا، مثل أسماء: الله، واجب الوجود، اللا متناهي، واللا محدود، ومثلاً (الذي نفسي بيده) و(الذي فلق الحبة وبرأ النسمة)، و(مقلب القلوب والأبصار) وما شابه...(1)
القسم الثاني: الأسماء المشتركة بينه جل وعلا وبين غيره –باعتبار فكرة التشكيك-، كأسماء: الرب، والخالق، والرازق، وغيرها، وهذه الأسماء، إنْ أُريد منها مرتبتها الوجودية المطلقة واللا محدودة، فهي من مختصات الله جل وعلا، وإنْ أريد منها المرتبة الممكنة منها، فهي من مختصات الممكنات، ويمكن إطلاقها عليها، ومن هنا، نجد أن القرآن الكريم استعمل صيغة أفعل التفضيل في بعض الأسماء، من قبيل (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)(2)، أو استعمل الأسماء مشتركة بينه وبين غيره من الممكنات، من قبيل قوله تعالى
ص: 184
(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(1)
الإشارة السابعة: توقيفية أو عدم توقيفية أسماء الله تعالى(2)
هناك بحث يذكر في كتب الكلام حول أسماء الله عز وجل، وأنه هل يجوز لنا أن نطلق اسماً على الله عز وجل وإن لم يرد هذا الاسم في القرآن الكريم أو السنة؟ أو أنه لا يجوز أن نسمي الله عز وجل باسم ألا إذا كان وارداً في الكتاب أو السنة؟
رأيان:
الراي الاول: توقيفية الأسماء، فلا يجوز إطلاق أي اسم عليه عز وجل إلا إذا كان وراداً في الكتاب أو السنة.
الرأي الثاني: عدم توقيفية الأسماء، بمعنى أنه لا يشترط في وصف الله عز وجل أو تسميته باسم أن يكون ذلك الاسم أو الصفة وارداً في الكتاب أو السنة، بل تجوز تسميته عز وجل بأسماء أو وصفه بصفات وإن لم ترد في الكتاب و السنة لكن بشرط، وهو:
أن يدل الدليل على صحة وصف الله تعالى به، بأن لا يكون الاسم أو الصفة توهم نسبة النقص له جل وعلا، ولذا منعوا من تسميته تعالى بالشام والذائق حتى بناءً على عدم توقيفية الأسماء، لأن مثل هذه الأسماء توهم
ص: 185
النقص في الذات المقدسة.
هذا وقد يُستدل على الأول ببعض الروايات، من قبيل ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: كَتَبَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام) إِلَى أَبِي: أَنَّ اللَّه أَعْلَى وأَجَلُّ وأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْلَغَ كُنْه صِفَتِه، فَصِفُوه بِمَا وَصَفَ بِه نَفْسَه، وكُفُّوا عَمَّا سِوَى ذَلِكَ.(1)
عَنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنْ شَيْءٍ مِنَ الصِّفَةِ فَقَالَ: لَا تَجَاوَزْ مَا فِي الْقُرْآنِ.(2)
وبغض النظر عن النقاش في سند أو دلالة مثل هذه الروايات وأمثالها، فالذي يُراد قوله هنا هو:
أولاً: أن الاحتياط يقتضي الاقتصار في وصفه تعالى على ما ورد في الكتاب والسنة، وهو ما أشار إليه العلامة الطباطبائي (قدس سره) بقوله: والاحتياط في الدين يقتضي الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق السمع...(3)
ثانياً: أن إطلاق اسم عليه لم يرد في كتاب أو سنة، ولو مع صحة المعنى وعدم استلزامه النقص –كاسم واجب الوجود- يحتاج إلى إلمام كبير وخبرة طويلة في علم الكلام، وليس متاحاً لأي أحد.
ص: 186
وهي الصفات التي أخبر القرآن الكريم بثبوتها له تعالى، فلا بد من إثباتها له تعالى، ولكن ظاهرها التجسيم، كاليد، والوجه، والعرش، والكرسي، والخلاف فيها من حيث جواز حملها على ظاهرها وإن لزم منه التجسيم، أو ضرورة حملها على معانٍ كنائية تتناسب مع وجوب الوجود، وستأتي تفاصيلها في محلها إن شاء الله تعالى.
ص: 187
ص: 188
بعد أن عرفنا أنواع الصفات وبعض الإشارات المتعلقة بها، ينبغي لنا أنْ نُفصّل القول فيها ومحاولة الإجابة عن بعض ما يدور حولها إن شاء الله تعالى.(1)
ونذكر هنا الصفات الرئيسية الثلاثة: (العلم والقدرة والحياة) ونشير إشارة سريعة إلى ما يتفرع على هذه الصفات.
ونذكر صفة رابعة فيها هي صفة (الإرادة) لأن هناك رأياً يتبنّاه العديد من علمائنا يجعل منها صفة تابعة للعلم الإلهي، إذ يفسرونها بأنها العلم بالنظام الأصلح كما سيتبين في محله إن شاء الله تعالى.
ص: 189
ص: 190
لا خلاف في أصل ثبوت صفة العلم له تعالى بين الموحّدين، إنما الاختلاف في بعض التفاصيل المتعلقة بها، وسنسلط الضوء على المهم منها ضمن نقاط:
ذكروا عدة أدلة –أو تنبيهات- لإثبات أنه تعالى عالم، نذكر منها:
الدليل الأول(1):
وخلاصته النظر إلى إحكام الكون وإتقانه ونظمه في جميع مفرداته، والانتقال من هذا النظم إلى علم باريه وخالقه.
وإثبات النظم الدقيق في الكون تتكفل به علوم الطبيعة.
وإن شكّك أحد في كاشفية هذا النظام عن علم صانعه وادعى أن النظام وليد الصدفة، فيجاب بأن استمرار الدقة وتواليها ينفي احتمال الصدفة.
وهذا الدليل يرجع بالدقة إلى قاعدة (فاقد الشيء لا يُعطيه) وحيث ثبت أن الممكن ذاتاً وصفة وفعلاً هو معلول لله تعالى، وحيث إن الممكن يتصف بالعلم، إذن، لا بد أن يكون الله تعالى عالماً، تطبيقاً لتلك القاعدة.
ص: 191
على أن الأولى أن يُقال في نص القاعدة: إن معطي الكمال لا يكون فاقداً له، حتى يخرج مثل المشي والأكل وما شابه، فلا يُقال: إن الله تعالى أعطى الإنسان المشي، والمشي نقص، لأنه يحكي عن حاجة. وكذا الأكل والنوم وما شابه.
الدليل الثاني(1):
وهو يبدأ بتصوير علم الذات بالذات، ثم الانتقال إلى علم الذات بغيرها، ببيان:
أما علم الذات بالذات، فيثبته أن الله تعالى ما دام مجرداً (2)،
فهو يعقل ذاته، لحضور ذاته عند ذاته، وعدم غياب الذات عن الذات. وحيث إنه تعالى مجرد عن المادة، فلا مانع من التعقل.
وإذا عقل ذاته، فهو تعالى يعقل المقارن لذاته، إذ مع تعقله لذاته فهو يعقل الملازمات العامة لذاته وصفاتها، إذ لا مانع من التعقل لمكان تجرده.
ما دام تعالى قد خلق الجميع، إذن لا بد أن يعلم بالجميع. إذ عموم العلة (الخلق) يستلزم عموم الصفة (العلم).
بيانه:
إن الخلق المتقن لا يكون من دون علم، فكل مفردة من مفردات الخلق
ص: 192
تكشف عن أن الخالق عالم، وحيث إنه تعالى خالق كل شيء (فهو علة لكل شيء ممكن) إذن هو يعلم بكل شيء.
وهذا الدليل يثبت عموم علمه تعالى حتى للممتنعات، ببيان:
إن كل ما في العالم هو معلول له تعالى، بما في ذلك الإنسان وعلمه، وعلم الإنسان فيه صور متعددة، وهي معلومة له تعالى، والإنسان عنده علم بالمعدوم، أي صورة عن العدم – وإن كان قد حصل عليها من خلال المقايسة مع الوجود – ولكن هناك صورة للممتنع في أذهاننا، ومعه تكون معلومة له تعالى لأنه يعلم بمعلولاته وبعلمها.
إن الجسمية تحجب العالم عن العلم بغيره، في الوقت نفسه قُدّر للإنسان أن يتكامل من خلال عالم المادة، بدءاً من جسميته وانتهاءً بمفردات عالم الطبيعة، ومن هنا قيل: إن الإنسان مجرد ذاتاً مادي فعلاً، يعني أن الإنسان في مجال الاستكمال لا بد أن يسلك من خلال المادة والطبيعة ليتجاوز نقصه، ولكن في الوقت نفسه نجد أن هذه المادة التي هي طريق تكامله هي طريق جهله وتراجعه، ففي الوقت الذي يتكامل الإنسان بعلمه وقدرته وبقية صفاته من خلال الاستعانة بجسمه وعالم الطبيعة، فإن الجسم وعالم الطبيعة يشكلان حاجباً عن علمه ومعرفته بالأشياء، ومن هنا، فكلما تجرد الإنسان عن الطبيعة والجسمية كلما أتيحت له المعرفة بشكل أكبر، وبالتالي إذا وصل إلى مستوى من التجرد التام استغنى عن المادة والطبيعة في معرفته للأشياء
ص: 193
حيث تنكشف له الأشياء.
وحينما نأتي لله تعالى فهو ليس جسماً ولا مادياً، فهو مجرد في ذاته، وهذا التجرد يتيح للمجرد أن يعلم أولاً بذاته(1).
ثم يتيح له ثانياً أن يعلم بمقارنات الذات، وهي الصفات التي تتصف بها الذات من القدرة والوحدة والحياة و...
ويتيح له ثالثاً العلم بما هو خارج عن الذات، التي هي المعلولات.
وهنا عدة خطوات:
قُسم العلم إلى قسمين: حضوري وحصولي، ومُيّز بين هذين القسمين بالتالي:
المميز الأول: أن العلم الحصولي هو العلم بالأشياء من خلال المفهوم والماهية، وبالدقة: العلم بماهية الأشياء، أي إن الحصولي هو حضور ماهيات الأشياء لدى النفس.
وأما الحضوري فهو العلم بوجود الأشياء، أو حضور وجود الأشياء لدى النفس.
هذا هو التمييز المدرسي بينهما.
ص: 194
المميز الثاني: أن الحصولي هو العلم بالأشياء بواسطة المفهوم والصورة، والحضوري هو العلم بالشيء بشكل مباشر.
المميز الثالث: أن الحصولي هو عبارة عن مجرد حكاية النفس، أي إن النفس تكون مرآة تُري الأشياء لذاتها.
وأما الحضوري فهو عبارة عن حضور الشيء لدى النفس، أي مشاهدة النفس لا حكايتها، أي شعور النفس بالشيء والإحساس به...(1)
ومنه نعلم: أن معنى علمه تعالى هو حضور نفس الأشياء عنده تعالى لا بتوسط صورة ولا مفهوم ولا ماهية.
قالوا: إن العلم الحصولي كيفما فُرض، فهو بحاجة إلى معلوم بالذات في أفق النفس، غير المعلوم بالعرض الذي هو خارج أفق النفس.
وقد ارتكزوا في هذه الرؤية، إلى أن العلم قد يخطئ وقد يصيب، وعند الخطأ لا يمكن افتراض عدم محض، بل لا بد من افتراض شيء ذاتيه الحكاية...
ومعه، فلا بد له من محكي، وهو المعلوم بالذات. ودائماً العلم الحصولي بلحاظ المعلوم بالذات هو مصيب، والخطأ إنما يكون في المعلوم بالعرض(2).
ص: 195
ومن هنا، فإن ظاهرة الخطأ والصواب تتصور في العلم الحصولي.(1)
وأما العلم الحضوري فليس فيه تلك الظاهرة، ذلك لأن الخطأ والصواب يحتاج إلى ثنائية: مطابِق (بالكسر) ومطابَق (بالفتح)، وهذا إنما يُتصوّر في الحكاية، وحيث لا حكاية في الحضوري فلا يُتصوّر الخطأ.(2)
ومنه نعلم: أنه لا يُتصور الخطأ في علمه تعالى، لأنه حضوري.
للعلم الحضوري مستويات ثلاثة:
ص: 196
قلنا: إن العلم الحضوري هو الإحساس والشعور بوجود الشيء، ولا توجد ذات لا تتحسس ذاتها، بل كل ذات لا تغيب عنها ذاتها. فهذا المستوى من العلم الحضوري واضح.
كالألم والحب والبغض والإيمان والغضب والجوع... فهذا الصفات يحس بها الإنسان ويشعر بها، وهذا لا يمنع من تصورها، بل يمكن للإنسان أن يتصورها، ولكنها تبقى أحاسيس داخلية يشعر بها الإنسان. وهكذا كل القضايا الوجدانية – التي هي إحدى البديهيات الستة – مستلة من العلم الحضوري الباطني، وإن كان مثل قولك (أنا جائع) هي قضية حصولية.
إن علم الذات بالغير وإن كان حصولياً، ولكن العلم لا يتوقف على ذلك فقط، بل هناك إحساس وشعور وجداني بالغير، فالإحساس بنعومة شيء بوضع اليد عليه إحساس داخلي، وشعور وجداني، أي علم حضوري بالنعومة...
نعم، هذه الإحساسات التي نحصل عليها بواسطة الحواس لا تعطي معلومة مطابقة للواقع دائماً، فربما يشعر أحدهم بشيء أنه ناعم والحال أن واقعه خشن، ولكن نحن هنا بصدد إثبات أن علاقتنا مع الغير ليست متوقفة
ص: 197
على العلوم الحصولية فقط، وإنما كثير منها علوم حضورية، ولذا تشعر بالراحة النفسية عندما تقترب من أبيك أو أخيك المؤمن، لا تشعر بها عندما تتصور صورته من بعد...
وعلى كل حال، فكون علمه تعالى حضورياً يعني أنه تعالى يعلم بذاته وصفاته وأفعاله، مما يعني أنه تعالى يعلم بكل مخلوقاته، لأنها أفعال له تعالى.
وهذا أمر تؤكده النصوص الدينية، التي أشارت إلى أدقّ علم يمكن أن يكون بلحاظ الآخر، فقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(1)، فما دام تعالى خلق الإنسان، إذن هو يعلم به.(2)
إن حقيقة العلم الحصولي تكون بتوسط صورة (معلوم بالذات) بين العالم (الذات) وبين المعلوم بالعرض (الشيء الخارجي)، أي إن التعرف على الخارج يكون بواسطة الصورة، فإذا كان علمه تعالى حصولياً، فهذا يعني أنه يحتاج في علمه إلى تلك الصورة حتى يدرك الخارج، وهو خلف كونه واجب وجود.
سُجّلت العديد من الإشكالات على صفة العلم الإلهي، وهي إن تمت
ص: 198
فهي إما تنفي صفة العلم، وبالتالي ننتهي إلى نظرية النيابة أو ما يشبهها، أو تحدّد في علمه تعالى، فيصبح علمه تعالى محدوداً لا مطلقاً.
ونستعرض بعضاً منها هنا:
الإشكال الأول: نفي علمه تعالى بذاته.(1)
توجد نظرية حاولت أن تناقش في علمه تعالى بذاته، باعتبار أن العلم يقتضي التغاير مع المعلوم، فلا بد من تصوير الاثنينية حتى يصح أن يكون لدينا عالم ومعلوم ؛ ذلك أن العلم هو إضافة بين العالم والمعلوم، فلا بد من فكرة الاثنينية(2).
إذ الإضافة تحتاج إلى طرفين، ومعه لا يتعقل أن تعلم الذات بذاتها، لأن الذات واحدة وعلمها عينها ولا تغاير في الساحة المقدسة.
والجواب:
نقضاً: بعلم الإنسان بذاته، إذ هو وذاته واحد لا متعدد، فلو سُلّم الإشكال للزم عدم علمنا بذواتنا، وهو باطل بالوجدان.
وحلاً: إن الذات واحدة بسيطة، والتغاير بين الذات وعلمها اعتباري،
ص: 199
وهو كافٍ في المقام، فالذات من جهة علمها بذاتها هي عالمة، ومن حيث كون ذاته تعالى معلومة له فذاته معلومة.(1)
وبعبارة مختصرة: أن الاثنينية الحقيقية معتبرة في العلم بالغير أما في العلم بالذات فتكفي المغايرة الاعتبارية.
بعد تسليم علمه تعالى بذاته، قد يُنفى علمه تعالى بمخلوقاته، ببيان:
أن العلم هي صورة ذهنية مساوية للمعلوم، إذ هي عين المعلوم الخارجي ماهيةً، وإن اختلفت عنه في ظرف الوجود(2)...
ومعه، إذا كان تعالى عالماً بغيره من الماهيات، للزم أن يمتلك صوراً بعدد الماهيات المغايرة له تعالى، وهذه الصور إما عين الذات، أو عارضة عليها(3).
فإن قلنا باتحاد العلم والعالم، وإن علاقة العلم بالعالم هي علاقة العينية، فيلزم تكثر الذات، لأن العلم عين الذات، وحيث كانت الصور العلمية كثيرة، فما هو عينها – وهو الذات – كذلك.
وإن قلنا: إن علاقة العلم بالعالم هي علاقة العارض والمعروض.
ص: 200
فيلزم أن تصبح الذات قابلة لتلك الصور، وحيث إنه لا بد لتلك الصور من موجد، وموجدها هو الله تعالى، إذ لا موجد غيره، فيلزم منه أن تكون الذات المقدسة قابلاً لتلك الصور وفاعلاً لها في نفس الوقت! وهو محال، إذ يستحيل أن يكون الشيء قابلاً فاعلاً، لأن القابلية تعني الفقدان، والفاعلية تعني الوجدان، والفقدان والوجدان لا يجتمعان. لأنهما ملكة وعدم، فلا يجتمعان في زمان ومكان وجهة واحدة.
بل ويلزم أنه تعالى لا يفعل فعله إبداعاً – لا عن مثال سابق-، وإنما يفعل بتوسط تلك الصور. وهذا محال، لأنه ننقل الكلام إلى تلك الصور المتوسطة، فهي مخلوقة له، فإن كانت موجودة لا عن مثال سابق، أي لا علم يسبقه، فليوجد العالم كذلك، وهو المطلوب، أي إمكان الإيجاد لا عن علم سابق.
وإن كانت عن مثال سابق، فيلزم التسلسل.
والجواب:
إن هذا الإشكال يجعل الحد الأوسط في نفي علمه تعالى بالأشياء هو أنه يلزم من العلم بها لوازم باطلة، ككونه تعالى قابلاً وفاعلاً، وكلزوم التكثر، والمثال السابق، وما شابه.
ولكن النكتة التي أسست لتلك اللوازم هي أن العلم حصولي، وأن العلم هي صورة منطبعة في العالم، وأن العلم يكون بتوسط المفهوم والصورة، وهذا لا يفرق فيه بين كونه قبل أو بعد الخلق.
ص: 201
ولكن تقدم أنه علمه تعالى بالأشياء ليس حصولياً، وإنما هو علم بوجود الأشياء مباشرةً وحضورياً وبلا توسط صورة. (1)
ومعه فيمكن صوغ الإشكال نفسه لنفي العلم الحصولي فيه تعالى، للزومه التكثر والفقدان و...، وهو محال على الذات الواجبة المقدسة.(2)
إن العلم يتغير بتغير المعلوم الخارجي، والجزئيات بطبيعتها متغيرة، فالعلم بها سوف يكون متغيراً، فإذا قلنا: إنه تعالى يعلم بالجزئيات الزمانية المتغيرة المتحركة، يلزم القول بتغير علمه تعالى، وبالتالي تغير ذاته تعالى، بمعنى أن الذات سوف تكون محلاً للصورة تلو الأخرى، فيعلم بجزئي، وإذا علم بجزئي جديد فهذا معناه حصول علمٍ لم يكن، أي إن الذات تكاملت،
ص: 202
وحدث التغير في الذات، وهو ينافي ثبات الذات. فلا بد أن لا يكون عالماً بالجزئيات.
وبالتأمل، نجد أن هذا الاعتراض وقع فيما فرّ منه، إذ افترض: أن العلم بالجزئيات المتغيرة يلزم منه تغير العلم، الذي يلزم منه تغير الذات، وهو محال. ونحن نسأل: لماذا كان هذا محالاً؟ إذ ليس عندنا قانون يقول بأن ثبات الذات من الكمالات وتغيرها من النقص.
فلا بد أن يرجع تغير الذات المحال إلى نقص الذات واستكمالها بالصورة تلو الأخرى، فعملية رفع الجهل المتدرج بالعلم بالجزئيات المتغيرة، والاستكمال بالعلم بها هو المحال عليه تعالى. فالمحال هو نسبة الجهل إليه تعالى.
ولكن هذا الاعتراض وصل إلى نتيجة أنه تعالى لا يعلم بالجزئيات، فنسب الجهل إليه تعالى أيضاً، وهذا معناه أنه وقع فيما فرّ منه.
والجواب:
إن ما ذُكر وجيه في العلم الحصولي، إذ الحصولي يتم من خلال حلول صورة الموجود الخارجي في النفس، وهذا معناه أن الموجود الذي لم يوجد بعد، فلا صورة له حتى يحصل العلم به، فإذا وجد ووجدت له صورة حصل العلم به، فيحصل التغير في العلم وبالتالي في الذات.
أما إذا كان العلم حضورياً، بأن يحضر نفس الموجود، فالتغير لا يحصل
ص: 203
في الذات، إنما يحصل في المعلوم فقط.
وبعبارة أخرى: العلم الحصولي من قبيل الإرادة، وأما العلم الحضوري فهو من قبيل القدرة، ببيان: أن الصفات الحقيقية التي تطلب متعلّقاً – كالعلم الذي يحتاج إلى معلوم – بعضها ثابت ولا يتغير بتغيّر المتعلّق، كالقدرة، فإذا تغير متعلّقها – المقدور – فلا تستجدّ صفة جديدة، وبعضها تتغير بتغير متعلّقها، كالإرادة، فإرادة شرب الماء غير إرادة التعلم وغير إرادة السفر...
ومعه، فالعلم الحضوري بالجزئيات لا يؤول إلى استكمال الذات.
العلم عموماً – ومنه العلم بالجزئيات – له مستويان: قبل الإيجاد، وبعد الإيجاد، وبعبارة دقيقة: العلم منه ما هو صفة ذاتية، ومنه ما هو صفة فعلية...
والصفة الذاتية هي موجودة بوجود الذات، وبالتالي فهي قبل الإيجاد- ولا يعني هذا انتفاءها بعد الإيجاد(1)
فالعلم الذاتي هو صفة ذاتية، فهو عين الذات.
أما العلم الفعلي- بعد الإيجاد- فهو عين الفعل، أي يستخلص من الشيء بعد وجوده، فهو صفة لذلك الشيء المعلوم لا صفة للذات المقدسة.
إذا اتضح هذا نقول: إن أريد بالعلم بالجزئيات هو العلم الفعلي، فنسلم أنه يتغير، ولكن هذا لا إشكال فيه، لأنه عين الفعل، لا عين الذات. فالتغير
ص: 204
يحصل في الفعل لا في الذات.
وإن أريد العلم الذاتي، فهو لا يتغير بتغير الجزئيات، بل هناك علم ذاتي ثابت بحصول الجزئيات تدريجاً...
وهذا الجواب ليس ناظراً لكون العلم حصولياً أو حضورياً، وإنما يعتمد على أن التغير الحاصل في العلم إنما هو في العلم الفعلي، أما في العلم الذاتي السابق على الفعل فهو ليس متغيراً ولا متدرجاً.
إن علم الله تعالى بالأشياء هو قبل أن توجد، لعموم علمه تعالى، ولا يستثنى من ذلك حتى أفعالنا الاختيارية، وهذا يعني أن ما يعلمه الله تعالى لا بد أن يقع، وإلا انقلب علمه جهلاً.
وهذا أحد الأسس التي اعتمدتها نظرية الجبر.
والجواب:
العدلية ناقشوا بعدة مناقشات:
أولاً: صحيح أن عموم علمه تعالى يقتضي وقوع المعلوم، ولكن العلم لا يتعلق بالنتيجة فقط، وإنما يتعلق بالنتيجة مع أولياتها، فالعلم لا يتعلق بفعل الإنسان فقط، وإنما يعلمه مع مقدماته وأولياته، ومن مقدمات فعل الإنسان وأولياته هو الاختيار، وهذا العلم لا ينافي الاختيار، بل يتلاءم معه تماماً، فلا جبر.
ص: 205
ثانياً: الضرورة التي اُدّعيت في الفعل، إما أن يراد بها الضرورة السابقة على الفعل أو اللاحقة له(1).
فإن أريد الأولى فهو باطل، لأن تلك الضرورة السابقة على الفعل – المسماة بالوجوب بالغير- آتية من العلة التامة، والعلم ليس علة تامة للفعل، فليس الفعل ضرورياً بضرورة سابقة عليه.
وإن أريد الضرورة اللاحقة – المسماة بالضرورة بشرط المحمول – فهذا لا إشكال فيه، لأن كل وجود بعد وجوده يصبح وجوده ضرورة، ولكن هذه الضرورة:
1/آتية من الوجود، ولا علاقة لها بالعلم لا من قريب ولا من بعيد...
2/إن هذه الضرورة لا تتنافى مع الاختيار، لأن معنى الاختيار هو كون الفعل والترك متاحاً إلى أن يتحقق الفعل ويصدر، فإذا تحقق الفعل فلا مجال لوصفه بأنه اختياري أو لا، وعليه فالضرورة اللاحقة لا تتنافى مع الاختيار، لأنها تصف الفعل بعد أن يوجد، لا قبله. وكل فعل بعد أن يوجد فهو ضرورة بشرط المحمول.
وإن أريد من ضرورة الفعل ضرورة مطابقة الفعل للعلم الإلهي، فهذا مُسَلَّم، ولا بد أن يأتي الفعل مطابقاً للعلم الإلهي، ولكن العلم هنا تابع للفعل لا متبوع له. وذلك لأن العلم يكشف عن الفعل، لا أنه يوجده ويصوغه.
ص: 206
وبعبارة أخرى: أن الأفعال إن كانت غير اختيارية، فلا دور للعلم أبداً فيها، وإن كانت اختيارية، فلا ريب أنها تتقوم بمجموعة عوامل، منها العلم السابق، فالعلم أساس مهم لاتصاف الفعل بالاختياري، ولكن ما هي طبيعة دخالة العلم بالفعل الاختياري؟
إنها مجرد الكشف عن الفعل الاختياري فقط، أي يكشف عن الفعل الذي يريد المختار أن يقوم به، وهذا معناه: أن العلم تابع للفعل الاختياري، لأنه كاشف عنه، وإذا كان كاشفاً فلا يؤثر شيئاً في اختيارية الفعل. لأنه حينئذٍ ليس فاعلاً للفعل ولا يؤثر شيئاً في صياغته ووجوده.
لاحظنا أن العلم الإلهي يحمل خصيصتين:
1 – العلمية، في قبال كونه جهلاً مركباً من الخطأ والسهو والنسيان. فعلمه تعالى علم مضمون الحقانية.
2 – العمومية، وهي أيضاً مقابل الجهل. أي لا يوجد واقع مجهول على الله تعالى. فهو علم عام.
ولاحظنا أن المدخل لإثبات حقّانية وعموم علمه تعالى هو تصوير تجرد العلم وكونه حضورياً...
وهذا يدل على أن محدودية علمنا في هذا العالم إنما هي بسبب المادة، فالمادة
ص: 207
هي التي جعلت من علومنا علوماً حصولية معرّضة للخطأ وغير مضمونة الحقانية، وهي التي شكّلت مانعاً من الإحاطة التامة بالواقع.
ومن هنا نرى أن العقل الحديث حاول التوفر على:
أ – العصمة والابتعاد عن الخطأ، وهو ما تنبئ عنه الدقة غير المتناهية للأجهزة الحديثة.
ب – التجرد والاقتراب من العمومية، وهو ما تنبئ عنه الأجهزة الدقيقة التي كشفت عن أشياء لا ترى بالعين المجردة.
ج - تقليص المسافات، وهو ما ينبئ عنه اكتشاف الفضاء الذي يبعد عنا آلاف بل ملايين السنين الضوئية..
ولكنه رغم ذلك، لم يصل إلى العصمة المطلقة أبداً، رغم دقة الأجهزة... والعائق هي المادة أيضاً... ولم يصل إلى العمومية، رغم تراكم الخبرة الإنسانية على طول تجربتها الحياتية... والعائق هو العائق ذاته...
إذن... البشرية تسعى لتقليل الأخطاء قدر الإمكان، وإلى تجاوز المعوقات ومعرفة الواقع في أكبر قدر ممكن منه، ولذا عملت على تخطي الزمن للوصول إلى تلك النتائج المرجوة...
ومع كل هذا فقد احتاجت إلى زمان طويل حتى تصل إلى ما وصلت إليه اليوم، وبقراءة كلية لتاريخها، نجد أنها مرت بإخفاقات كثيرة، وتخلّلتها بعض المشكلات إلى حدٍّ أنه ظهرت ظواهر عديدة كالحروب والإبادة
ص: 208
الجماعية والمعتقلات ومصادرة حقوق الآخرين، فليست حضارة اليوم هي حضارة من كل الإبعاد...
ولذا احتاجت إلى مؤسسات تعيد البشرية إلى رشدها، كمؤسسة الأمم المتحدة ولائحة حقوق الإنسان وجوائز نوبل للسلام... فالحضارة البشرية التي استغرقت آلاف السنين لم تخلص من الجانب الحيواني والعدواني...
إن الشعور الوجداني عند البشر بالحاجة إلى العصمة يوضح حاجة البشر إلى (معصوم)، مع ضرورة عدم اختزال معنى المعصوم في الظاهرة الدينية فقط، وإنما هو مشروع حضاري كامل من شأنه اختزال الزمن – من دون هدر الطاقات والأوقات- وتخليص الحضارة من وجهها الظالم والمستبد...
وهذا يعني: أن إدبار الأمة عن المعصوم يعني بدء مسيرة طويلة جداً نحو العصمة، ولكنها لا تصل من دونه...
عندما نمزج بين العلم والقدرة والحكمة والوعد الإلهي – بعد الالتفات إلى عموم العلم والقدرة، والوعد الإلهي باستخلاف الصالحين الأرضَ – نحصل على مجموع مكوّر لو آمن به الشخص لعاش حالة إيمانية وشعورية بأن آلام الأمة ستنتهي مهما طالت، ومهما اشتد البلاء على المؤمن حسب درجته الإيمانية...
وبالتالي سيشعر المؤمن بالطمأنينة التامة، وإن عاش حالة من الآلام
ص: 209
والمصاعب... ولكن بالنتيجة ستنتهي هذه الآلام... والجولة ستكون لصالح المؤمن تنفيذاً للوعد الإلهي...
نعم، هذا يستغرق ردحاً من الزمن غير معلوم، ولكن المعلوم أكيداً هو أن النتيجة لصالح المؤمن... وفطنة الإنسان وتقواه والتزامه بالمبدأ له أقوى الأثر في تسريع الوصول إلى النتيجة، وهذا يعني: أن البشرية إذا لم تعمل بما أمرت به، فإنها ستتسبّب في تطويل المدة للوصول إلى النتيجة مدة غير معلومة، وربما تستغرقنا هذه الجولة آلاف السنين...
وبعبارة أخرى: أن هذا العالم عالم أسباب ومسببات، وهذا يعني ضرورة تدخل الأمة في عملية تسريع الوصول إلى النتيجة، والحكمة الإلهية وإن اقتضت كون النتيجة لصالح المؤمن، لكنها لم تقتض كون ذلك مبنياً على أسلوب (الاتكالية) البشرية، وإنما على أن للبشرية الدور الأهم في الوصول إلى تلك النتيجة المرجوة... وكلما قصرت الأمة في أداء دورها، كلما طال أمد الوصول إلى تلك النتيجة...
إن الإيمان بعلم الله تعالى المطلق والشعور بهذه الحقيقة ومعايشتها وجداناً... يوفر للإنسان رادعاً ذاتياً يمنعه من مواقعة المعاصي، بحيث لا يحتاج معه إلى رقيب خارجي منفصل...
وهذا الشعور يختلف من شخص إلى آخر، وفي الشخص الواحد من
ص: 210
وقت لآخر...
ولا شك أن استشعار واستحضار تلك الحقيقة باستمرار له دور مهم في تطوير ذلك الرادع الذاتي، ولا شك أن مطالعة حالات العظماء – كأمير المؤمنين (عليه السلام) – مع الله تعالى وكيفية تعاملهم مع حقيقة العلم الإلهي المطلق له دور في تطوير الشعور لدى المؤمن...
هناك صفات ثبوتية –ذاتية أو فعلية- تلازم صفة العلم، أو هي ترجع إلى صفة العلم، ومنها:
حيث فُسّرا بكونه تعالى عالماً بالمسموعات والمبصرات. لا أنه يسمع بآلة، للزومه الجسمية.
حيث (عُرّفت الحكمة في أمّهات المصادر اللغويّة - مثل: العين، وصحاح اللغة، ولسان العرب، ومفردات الراغب، وغيرها - بأنّها تعني: «العلم»، و«معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم» (1)،
و«إصابة الحقّ بالعلم
ص: 211
والعقل» (1)، و«إتقان الأفعال» (2)، وما إلى ذلك. وعلى أيّ حال، فإنّ الفعل الحكيم هو الفعل الصادر عن مصلحة، المشتمل على هدف وغرض، وهو لا يتحقّق من دون علم مسبق)(3)
حيث فُسّرت بأنها (العلم بالنظام الأصلح في عالم الخلق)(4)
التي وردت في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(5) وغيرها من الآيات، وقد (فُسّرت الأقربية بالعلم، أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد، ويكون معنى الآية: نحن أعلم به)(6)
في اللغة فعيل بمعنى فاعل من مادة (خبر) وهو يدل على علم، فالخبير
ص: 212
بمعنى (عليم)(1)، وقد ذهب ابن الأثير(2)
إلى أنه العالم بما كان وبما يكون، وعارف بحقيقة الشيء...(3)
وقد روي هذا المعنى عن الإمام الرضا (عليه السلام) حيث قال: وَأَمَّا الخَبيرُ فَالَّذي لا يَعزُبُ عَنهُ شَيء ولا يَفوتُهُ، لَيسَ لِلتَّجرِبَةِ ولا لِلاِعتِبارِ بِالأَشياءِ، فَعِندَ التَّجرِبَةِ وَالاِعتبار عِلمانِ ولَولاهُما ما عُلِمَ ؛ لأَنَّ مَن كانَ كَذلِكَ كانَ جاهِلا، وَاللهُ تَعالى لَم يَزَل خَبيراً بِما يَخلُقُ، وَالخَبيرُ مِنَ النَّاسِ المُستَخبِرُ عَن جَهلِ المُتَعَلِّمِ، فَقَد جَمَعَنَا الاِسمُ وَاختَلَفَ المَعنى.(4)
فقد فُسر العرش والكرسي بالعلم أيضاً، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ثم العرش في الوصل متفرد من الكرسي، لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعا غيبان، وهما في الغيب مقرونانلأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنه الأشياء كلها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والأين والمشية وصفة الإرادة، وعلم الألفاظ والحركات والترك، وعلم العود والبدء، فهما في العلم بابان مقرونان لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي
ص: 213
وعلمه أغيب من علم الكرسي.(1)
إن الشهيد مبالغة في الشاهد مشتق من (شهد)، وهو يدل على علم وحضور وإعلام.(2). (3)
فهذا الاسم أيضاً شعبة من العلم، وهو يُشير إلى حضور الله تعالى المطلق، بحيث لا يغيب عنه أي شيء من مخلوقاته، ومنه يُعلم (أن تقسيم الأشياء إلى الغيب والشهادة تقسيم نسبي إلينا، وأما بالنسبة إليه فالأشياء كلها مشهودات له، فلأجل ذلك يقول تعالى (أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(4).(5)
ويقول تعالى (واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(6)وقال تعالى (إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا)(7)
ومن هذا يُعلم ضعف ما قاله ابن الأثير من كون الشهيد هو المتعلق بالأمور الظاهرة، حيث قال: الشهيد هو الذي لا يغيب عنه شيء. والشاهد: الحاضر، وفعيل من أبنية المبالغة في فاعل، فإذا اعتبر العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة
ص: 214
فهو الشهيد، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على خلق يوم القيامة بما علم.(1)
تنبيه: تعابير قرآنية ترجع إلى العلم الإلهي.
هناك تعابير قرآنية ترجع في حقيقتها إلى كونها شعبة من شعب العلم والشهود والحضور الإلهي، فينبغي الالتفات إلى ذلك حتى لا نقع في التجسيم أو التحديد وما شابه، ومن ذلك:
أولاً: أنه تعالى مع كل أحد:
(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)(2)
ثانياً: أنه تعالى في كل مكان:
قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(3)
وعن هذين التعبيرين روي عن عيسى بن يونس قال: قَالَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي بَعْضِ مَا كَانَ يُحَاوِرُه: ذَكَرتَ يا أَبا عَبدِ اللهِ فَأَحَلتَ عَلى غائِب: وَيلَكَ ! كَيفَ يَكونُ غائِباً مَن هُوَ مَعَ خَلقِهِ شاهِدٌ، وإِلَيهِم أَقرَبُ مِن حَبلِ الوَريدِ، يَسمَعُ كَلامَهُم ويَرى أَشخاصَهُم ويَعلَمُ أَسرارَهُم؟
ص: 215
فَقَالَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ: أهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ ألَيْسَ إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَكُونُ فِي الأَرْضِ وإِذَا كَانَ فِي الأَرْضِ كَيْفَ يَكُونُ فِي السَّمَاءِ؟
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنَّمَا وَصَفْتَ الْمَخْلُوقَ الَّذِي إِذَا انْتَقَلَ عَنْ مَكَانٍ اشْتَغَلَ بِه مَكَانٌ وخَلَا مِنْه مَكَانٌ، فَلَا يَدْرِي فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَارَ إِلَيْه مَا يَحْدُثُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيه، فَأَمَّا الله الْعَظِيمُ الشَّأْنِ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ فَلَا يَخْلُو مِنْه مَكَانٌ ولَا يَشْتَغِلُ بِه مَكَانٌ ولَا يَكُونُ إِلَى مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْه إِلَى مَكَانٍ.(1)
ثالثاً: عالم الغيب والشهادة، عالم الغيب، علام الغيوب، عالم غيب السموات والأرض:
كلها تشير إلى إحاطته تعالى وشهوده وعلمه.
رابعاً: القائم على كل نفس بما كسبت:
قال تعالى (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(2)
حيث فُسر هذا المعنى بأنه تعالى (المهيمن المتسلط على كل نفس، المحيط بها، والحافظ لأعمالها)(3)
ص: 216
في أحد تفسيراته، حيث يُفسر بأنه العالم بدقائق الأمور وغوامضها، أو من يعلم حقائق المصالح وغوامضها.(1)
الكلمة من الحوط، وهو الإطافة بالشيء، ويطلق الحائط على الجدار الذي يحوط بالمكان.
والمراد من (المحيط) كوصف لله تعالى أحد معنيين:
الأول: الإحاطة الوجودية، بمعنى أن وجوده تعالى محيط بكل وجود، ولا يوجد وجود يحيط به، فهو محيط غير محاط، فهو وجود مطلق غير محدود، وهذه الإحاطة مؤسسة على وجوب الوجود.
الثاني: الإحاطة العلمية، أي إنه تعالى قد أحاط بكل شيء علماً، فلا يعزب ولا يغيب عن علمه شيء أبداً، قال تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)(2)
(إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)(1)وقال تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق 12]
ص: 218
إن البحث في هذه الصفة هو من المباحث الكلامية المهمة، والتي تترتب عليها الكثير من البحوث والثمرات، على مستوى الفكر والسلوك والمنهج، وقد استدلوا على إثباتها له جل وعلا بما يقرب من الأدلة التي تقدمت على إثبات صفة (العلم) له تعالى، ككونه تعالى واجب الوجود الذي اتصف بكل الكمالات الوجودية، ومنها القدرة، مما يعني أن عدم اتصاف الواجب بالقدرة يستلزم نسبة النقص والحاجة والعجز له، ووجوب وجوده ينفي كل تلك النقائص.
وأيضًا فإنّ الممكنات قادرة، فلا بد أن يكون هو تعالى قادراً، وإلا ففاقد الكمال لا يكون معطياً له. فضلاً عن أنه قد ثبت أن ذات الممكن فضلاً عن صفاته إنما هي له بالغير، فلا بد أن تنتهي صفاته إلى ما بالذات.
بالإضافة إلى إرشاد القرآن الكريم إلى ثبوت تلك الصفات في الكثير من الآيات الكريمة، قال تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1) (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(2)وغيرها من الآيات الكثيرة في هذا المعنى.
ص: 219
وحتى تتضح الصورة نذكر عدة نقاط:
عندما نتابع الكتب الكلامية، نجد أن البحث في القدرة الإلهية ينجرّ تلقائياً إلى البحث في الاختيار الإلهي. فالمحقق الطوسي (رحمه الله تعالى) عنْون بحثه في هذه الصفة بقوله (في أنه تعالى قادر)(1)ولكنه
انتهى إلى أنه تعالى قادر مختار، بل نجده في استعراض شبهة الواسطة –كما سيتبين إن شاء الله تعالى- يصرح بالاختيار ويصبّ المحاولة ونقدها على هذه الصفة.
بل نجد أن العلامة الحلي عنْون بحثه في القدرة بعنوان: إنه تعالى قادر مختار.(2)
وهكذا عندما نتابع الكتب الكلامية الحديثة، نجد أن البحث في القدرة لا ينفكّ عن البحث في الاختيار، فهل القدرة والاختيار مترادفان أو متلازمان أو ماذا؟
والجواب:
لا بد لنا من الإلمام التصوري الصحيح بمعنى القدرة والاختيار حتى تتبلور صحة الانتقال من الحديث عن صفة القدرة إلى الحديث عن صفة
ص: 220
الاختيار، فنقول:
القدرة:
معناها السلطنة، وهي من الصفات التي تحتاج إلى متعلق، ومتعلقها: إما الفعل أو الترك.
وحتى تكون القدرة على الفعل أو الترك قدرة، فهي مشروطة بالقدرة على النقيض، بمعنى: أن القدرة لو تعلّقت بالفعل فقط، فلا يقال عنها إنها قدرة، إلا إذا كان هناك سلطنة على الترك.
فشرطُ اتصاف الفعل بأنه مقدور، هو اتصاف الترك بأنه مقدور، فهناك قدرتان، إحداهما تتعلق بالفعل، والأخرى بالترك، وكل منهما لا يتم إلا بالأخرى.
وبدون هذه السلطنة الثانية لا يكون الفاعل قادراً، بل يكون موجَباً.
وهذا هو فرق القادر عن الموجَب، فكلٌّ من الفاعل القادر والموجَب فاعلٌ للفعل، ولكن القادر له سلطنة على الطرف المقابل – فهو مسلَّط على فعله- دون الموجَب.
وبعبارة أخرى:
(إن نسبة الفعل إلى الفاعل لا تخلو عن أقسام ثلاثة:
1/ أن يكون ملازماً للفعل غير منفكّ عنه، كالنار بالنسبة إلى الإحراق.
2/ أن يكون ملازماً لتركه، فيكون ممتنعاً عليه، كالنار بالنسبة إلى البرودة.
ص: 221
3/ أن يكون الفاعل غير مقيد بواحد من النسبتين، فلا يكون الفعل ممتنعاً عليه حتى يتقيد المبدأ بالترك، ولا الترك ممتنعاً عليه حتى يتقيد بالفعل، فيعود الأمر في تعريف القادر إلى كونه مطلقاً غير مقيد بشيء من الفعل والترك)(1)
وهذا الثالث هو معنى القادر.
أما الاختيار:
فهي صفة واحدة، عبارة عن مجموع القدرتين: القدرة على الفعل والقدرة على الترك معاً.
وبذا اختلفت عن القدرة، إذ القدرة تتعلق بأحد الطرفين مشروطاً بالطرف الآخر، أما الاختيار فهي صفة واحدة تتعلق بكلا الطرفين.
ولذا يقال: إن القدرة أحادية المتعلق، وإن الاختيار ثنائيّ المتعلق.
ومعه، فالقدرة على الفعل صفة، والقدرة على الترك صفة أخرى(2)،
أما الاختيار فهي صفة واحدة من مجموع القدرتين معاً.
وبعبارة أخرى: أن الاختيار هي السلطنة على الفعل والترك معاً.، أما القدرة فهي السلطنة على الفعل بدليل القدرة على الترك.
وهذا يعني: أن هناك تلازماً وثيقاً بين القدرة والاختيار، يقترب من الترادف، ليفسر لنا دغم علماء الكلام بينهما في حديثهم.
ص: 222
للقدرة ثلاثة إطلاقات:
والمُكرَه هو من توجد قوة أعلى منه تجبره على فعلٍ ما، ولا إشكال بين الإلهيين في كونه تعالى قادراً بهذا المعنى، إذ لا توجد قوة أعلى منه تعالى تجبره على فعل أي شيء، إذ هو خالق كل شيء.
وربما يُشير إلى أحد معاني هذا الإطلاق قوله تعالى ردّاً على اليهود المفوضة (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)(1)
والعاجز هو من ليس عنده القابلية على إصدار فعلٍ ما، ولا خلاف أيضاً في كونه تعالى قادراً بهذا المعنى، فهو تعالى لا يعجزه شيء أبداً، وإليه أشار تعالى بقوله (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)(2)
وهذان الإطلاقان خارجان عن محل الكلام.
ص: 223
فالقادر هنا يرادف تقريباً المختار. وهنا محل الكلام، وبالدقة، فإن الخلاف إنما هو في تفسير معنى الاختيار الإلهي.
لا خلاف بين الحكماء والمتكلمين في أن الواجب يتصف بالقدرة، بمعنى أنه لم يُجبر من الخارج، ودليلهم على ذلك واحد، وهو أنه لا خارج أسبق منه حتى يجبره. واللاحق له معلوله، فلا يعقل أن ينقلب علة له.
وكلٌّ منهم سعى لإثبات هذه الصفة الذاتية له تعالى. فليس هناك من يقبل هذه الصفة وآخر ينكرها.
وكذلك اتفقوا على مبدأ الحدوث للعالم (ما سوى الواجب تعالى)، وإلا لصار العالم واجباً! واتفاق الشرائع السماوية على حدوث العالم يؤيد هذا المعنى.
نعم، اختلفوا في تصوير هذا الحدوث وكونه ذاتياً (للحكماء) أو زمانياً (للمتكلمين). أو اتفقوا على كونه زمانياً ولكن اختلفوا على تفسيره.
وإنما كان خلافهم في صغرى محدّدة، أصرّ على إثباتها الحكماء ونفاها المتكلمون بشدة، وهي (الممكن القديم)(1)
فهذا العالم، هل هو موجود من الأزل بوجود علته التامة التي هي
ص: 224
الواجب تعالى، رغم كونه معلولاً للواجب؟ فيكون معنى حدوثه حينئذٍ هو كون وجوده ليس ذاتياً له بل هو مستمد من الغير؟
وهذا ما أصرّ عليه الحكماء، حتى مَن قَبِل منهم حدوث العالم زمناً، بيْد أنه فسّره بما ينسجم مع أزلية الممكن وعدم مسبوقيته بالعدم خارجاً.
أم أن وجوده متأخر زمناً عن وجود علته التامة، فليس وجود العالم أزلياً،(1)
بل إنه لم يكن ثم كان، أما العلة فوجودها أزلي؟
وهذا ما أصر عليه المتكلمون.
وكل من الفريقين كان يروم من التزامه برأيه الحفاظ على التوحيد في زاوية من زواياه، لما رأى من الآخر ما لا يتلاءم مع التوحيد.
فالحكماء قالوا:
مع فرض تمامية العلة، فإن نفْي قِدَم العالم يستلزم نسبة النقص وسلب الكمال عن العلة (الواجب تعالى)، إذ إنه مع تمامية العلة فلماذا لم يصدر المعلول (العالم)؟
إن هذا يعني عدم تمامية العلة، وهو ينافي ثبات الواجب وعدم تغيره، وهو ينافي التوحيد، أو نقول بالجزاف (عدم الترجيح مع وجود المرجح)،
ص: 225
وهو ينافي التوحيد أيضاً.
ولذا فإنه يجب صدور المعلول عند تمامية علته. (وهذا هو مفاد قاعدة الوجوب بالغير التي استند إليها الحكماء في مقولتهم.)
والمتكلمون قالوا: إن تصوير العالم قديماً يستلزم سلب القدرة عنه تعالى على وجود العالم وعدمه، وهو ينافي التوحيد.
بالإضافة إلى أنّ ظاهر الحدوث الذي اتفقت عليه الشرائع هو الحدوث الزماني، فقول المتكلم لم يخرج عن حرم النص الشرعي!
ومن هنا حاول المتكلمون مناقشة قاعدة الوجوب، فقالوا:
إن قاعدة الوجوب تؤدي إلى نفي قدرة الواجب ووصفه بالعجز عن (عدم إيجاد العالم)، وبالمقابل الاضطرار إلى وجوده.
بمعنى أنه نسأل: مع تمامية العلة هل يقدر الواجب على عدم إيجاد العالم أم لا؟
على الأول يلزم رفض قاعدة الوجوب.
وعلى الثاني يلزم نفي القدرة عن الواجب ووصفه بالعجز.
وحيث إن الثاني مرفوض بالاتفاق، فلا بد من التنازل عن قاعدة الوجوب، وأن العلة وإن كانت تامة من الأزل، إلا أنها لم توجِد من الأزل، بل بعد العدم، وهذا يلزم منه الحدوث الزماني للعالم، وهو المطلوب.
ص: 226
وبعبارة أخرى: أن الالتزام بقاعدة الوجوب يلزم منه نفي القدرة (التي هي صحة الفعل والترك معاً كما تقدم)، مما يعني كون الواجب موجَباً (بالفتح) على إيجاد العالم.
فعدم تخلف المعلول يعني: أن العلة غير قادرة على الطرف المقابل لإيجاد العالم، فتنتفي القدرة على الطرف الأول أيضاً، وهي سمة الموجَب.
جواب الحكيم عن هذا الإشكال:
إن القول بقاعدة الوجوب لا يلزم منه نفي القدرة، واللازم الذي ذكره المتكلم إنما يلزم لو كان العالم صادراً بدون إرادة من الواجب، ولكننا نقول:
إن صدور العالم كان بإيجاب من الواجب، والإيجاب الصادر من الواجب – والذي هو حيثية من حيثيات العلة التامة- لا ينافي القدرة والاختيار، فهو الذي أوجب صدور العالم، ولا مانع من ذلك.
وفرض تمامية العلة لا يتلاءم مع إمكان عدم صدور المعلول، إذ عدم صدوره يعني عدم تماميتها، وهو خلف.
هذا ويمكن للمتكلم أن يقول:
بعيداً عن الاصطلاحات، فإن العلة وإن كانت هي التي أوجبت صدور المعلول وألزمت نفسها بذلك، ولكن يبقى مفاد قاعدة الوجوب هو عجز العلة عن عدم الإيجاد، للاضطرار إلى إيجاده بحكم تماميتها! فلا بد من التنازل عن قاعدة الوجوب.
ص: 227
وباختصار، كان رهان الحكيم على وضع فرق بين الموجِب والموجَب، وأن الثاني يتنافى مع الاختيار، وأما الأول فهو نتاج الاختيار، بينما المتكلم لاحظ أن الموجِب موجَب في المحصلة، فهو مسلوب القدرة...
مقاربة للمحقق الطوسي (رحمه الله تعالى)(1):
للمحقق الطوسي رحمه الله تعالى مقاربة في هذا المجال ذكرها في التجريد، وحاصل ما أفاده هو التالي:
قال الحكيم: إن وجود المعلول دائر بين الإيجاب والامتناع، إذ إنه:
أ / مع فرض تمامية العلة واستكمال جميع عناصر التأثير، فإنه يجب وجود المعلول، وعدم وجوده يرجع إما إلى عدم تمامية العلة – وهو خلف-، وإما إلى الترجيح بلا مرجح، بل إلى ترجيح المرجوح، إذ إن فرض تمامية العلة يعني أن الراجح هو الوجود، فعدم الوجود – لو كان- يعني ترجيح المرجوح.
ب / أما مع عدم استكمال العلة لجميع عناصر التأثير، فإنه يمتنع حينئذٍ صدور المعلول.
وقال المتكلم: إن فرض وجوب صدور المعلول ينفي قدرة العلة على عدم الإيجاد، وهو محال، فلا بد من رفض قاعدة الوجوب.
وهنا جاء المصنف وقدّم المقاربة التالية بين تعريف القدرة الكلامي وبين
ص: 228
قاعدة الوجوب واستحالة انفكاك المعلول عن علته التامة، فقال:
يمكننا أن نلحظ المعلول بلحاظين:
فبلحاظ نسبته إلى علته التامة المستكملة لجميع عناصر التأثير، والتي منها: إرادة العلة لوجود معلولها، فإن صدور المعلول حينئذٍ يكون واجباً.
وبلحاظ نسبته إلى ذات العلة – بغض النظر عن عناصر التأثير التي منها الإرادة – فالفعل ممكن الوجود لا واجب.
وبذا أمكن إيجاد مصالحة بين الطرفين، فالقائل بإمكان تخلف المعلول عن علته يصح قوله بلحاظ نسبة المعلول إلى ذات العلة.
والقائل بقاعدة الوجوب يصح قوله بلحاظ نسبة المعلول إلى العلة التامة، ووجوب المعلول بإيجاب وبإرادة العلة لا ينافي قدرتها، ما دام هذا الوجوب قد جاء نتيجة إرادة العلة، تماماً كما أن الوجوب اللاحق للمعلول (والمسمى بالضرورة بشرط المحمول) لا يتنافى مع قدرة واختيار العلة.
إشكال آخر في المقام:
هذا إشكال آخر لصالح قاعدة الوجوب الفلسفية على تعريف المتكلمين للقدرة بأنها صحة الفعل والترك، وحاصله:
إن الفعل لا يمكن أن يوصف بالإمكان، بل هو إما واجب أو ممتنع، فلو كانت القدرة بمعنى الإمكان، فلا قدرة في البين، ببيان:
إن الأثر المعلول – في لحظة وصفه بأنه مقدور وممكن – هو إما موجود
ص: 229
وحاصل في الحال، فهو إذن واجب الوجود – بالغير – فلا إمكان، فلا قدرة. وإما أن يكون في تلك اللحظة معدوماً، فهو ممتنع الوجود – بالغير – فلا إمكان، فلا قدرة.
إذن، في لحظة وجوده لا يمكن أن يكون معدوماً، وهكذا بالعكس، حيث يلزم اجتماع المتناقضين.
وقد أجاب المحقق الطوسي (رحمه الله تعالى) عن هذا الإشكال بما حاصله(1):
هذا صحيح، ولكن مع ذلك يمكننا تصوير إمكان الفعل بلحاظ المستقبل. فالفعل وإن كان موجوداً وواجب الوجود الآن، ولكن بلحاظ الزمن الاستقبالي فإن الفاعل قادر على إعدامه، فيكون بلحاظ ذلك الزمن ممكن الوجود، وهذا هو معنى القدرة.
وبعبارة: أن متعلق القدرة (أي المقدور) هو الفعل المقدور الاستقبالي في ظرف الاستقبال، ولكن القدرة على ذلك الفعل موجودة من الآن، فالقدرة الآن ذاتية وصفة الفعل استقبالية.
والخلاصة: أن الفعل بلحاظ الزمن الحالي واجب بالغير(2)،
وبلحاظ الزمن الاستقبالي ممكن الصدور.
ص: 230
والحاصل:
أنه تلخص من جواب الإشكالين الأخيرين أن المحقق الطوسي (قدس سره) حاول المصالحة بين مقولتي الحكماء والمتكلمين من خلال الخروج عن إطلاق كلتا المقولتين إلى تحييثهما، بالبيان التالي:
1- أن المعلول يجب وجوده بلحاظ نسبته إلى علته التامة المستكملة لجميع شرائط التأثير والعلية- بما في ذلك العلم والاختيار للفعل – (الحكماء).
وهو ممكن الوجود بلحاظ نسبته إلى ذات علته (المتكلمين).
2 – أن المعلول واجب الوجود بلحاظ نسبته إلى الزمن الحالي (الحكيم).
وممكن الوجود بلحاظ نسبته إلى الزمن الاستقبالي (المتكلم).
تفريع: إشكالات أخرى وأجوبتها(1)
لنفرض أن علة العالم مختارة، ولكن لنفرض أنها ليست هي الواجب، بل
ص: 231
هي معلولة للواجب وهو موجب، فهي واسطة مختارة بين الفاعل الموجب وبين العالم، والدليل لا ينفي هذا.
والجواب:
هذه الواسطة، لا تخلو من أحد احتمالين:
أما أن تكون حادثة، فهي من مفردات العالم الذي يعني كل ما سوى الواجب.
وأما أن تكون قديمة، والمفروض أنه لا قديم سوى الله تعالى.
إن مؤدى تعريف المتكلم للقادر بأنه من إذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل هو احتياج العدم إلى علة وفاعل، لأنه قال (وإن شاء لم يفعل)، والحال أن العدم هو لا شيء، فلا يحتاج إلى فاعل البتة. ولذا قيل: لا تمايز في الأعدام.
وما دام العدم لا يحتاج إلى علة، فلا تتعلق به القدرة، وهذا يعني أن تعريف المتكلم ينتهي إلى أن القادر هو من له قدرة على الفعل فقط، فلا قدرة
ص: 232
حينئذٍ، باعتبار أن القدرة هي إمكان الفعل والترك، وحيث إن العدم غير مقدور – من باب السالبة بانتفاء الموضوع-، فتبقى العلة فاعلة للفعل فقط، فيكون الفعل ضرورياً لا ممكناً.
أما الحكيم فقد عرف القادر بأنه (إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل)، وهو يتلاءم مع كون العدم لا يحتاج إلى أكثر من عدم المشيئة.
وأجيب عنه(1):
إن ما قيل صحيح، ولكن تعبير المتكلم بقوله (وإن شاء لم يفعل) لا يقصد منه أن العدم يحتاج إلى علة، كلا، بل هو يتفق مع الحكيم في أن العدم لا يحتاج إلا لعدم المشيئة، ولكن صدر منه هذا التعبير مسامحة، تماماً كما عبّر الحكيم مسامحة وقال (عدم العلة علة لعدم المعلول).
وهذا القدر كافٍ في نسبة الفعل إلى فاعله بالإمكان بعد أن كان قادراً على أن لا يفعله... وليس شرطاً في القدرة على الفعل القدرة على فعل العدم، بل يكفي القدرة على عدم الفعل.
إشارة:
1/ لا ريب أن الله تعالى علة تامة للعالم، واجدة لكل عناصر التأثير ومن الأزل، بدليل أنه لو لم يكن كذلك – بمعنى أنه لو كان علة ناقصة وتتم فيما بعد – للزم التغير في الذات المقدسة، وهو محال، لأن الذات المقدسة ثابتة
ص: 233
وليست محلاً للحوادث.
2 /المعلول:
إن قلنا: إنه يأبى الوجود من الأزل، وإنه ممتنع في الأزل ومسبوق بالعدم خارجاً قبل أن يوجد خارجاً، فبحكم كونه معلولاً يمتنع أن يكون وجوده غير متناهٍ من طرف البداية (أي من الأزل).
فهنا لا مشكلة في فرض تمامية العلة من الأزل وبين حدوث المعلول زمناً، إذ الفاعل وإن كان تام الفاعلية من الأزل، ولكن المعلول لا قابلية له للوجود من الأزل، فنقص العلة ليس من طرف الفاعل بل من طرف القابل.
وإن قلنا: إنه لا مشكلة في وجود المعلول من الأزل، بحيث لا يلزم التناقض من فرض وجوده من الأزل وكونه معلولاً. فهنا لا مشكلة في فرض قدم المعلول زمناً، وجوده بوجود العلة، مع حفظ معلوليته للعلة وانحطاط رتبته عن رتبتها.
وهذا هو الذي بنى عليه القائل بقاعدة الوجوب بالغير. (ولكن هناك مشكلة من موقع آخر كما سنرى).
3 / قد تعرفنا على مباني كل من المتكلمين والحكماء، وهنا تعليق:
لكي يكون الحل المطروح لأي مشكلة موضوعياً، فلا بد أن يكون متوازناً بحيث يعطي صورة خالية من أي خلل، وفي المقام، لابد من إعطاء حلٍ يتناسب مع التوحيد وما يلازمه من معانٍ. فمن أراد الحفاظ على القدرة
ص: 234
الإلهية لابد عليه أن لا يتنازل عن الحكمة الإلهية. والعكس بالعكس.
وعليه نقول:
أ / أما بالنسبة للحكيم الذي قال بقاعدة الوجوب، فلكي نقبل مقولته لابد عليه أن يقدم لنا تصويراً صحيحاً وواضحاً لعدم تخلف المعلول عن علته التامة زمناً، بحيث لا يخل ذلك بالقدرة الإلهية، بمعنى أنه لابد عليه أن يصور لنا سلطنة الفاعل على التراجع عن الفعل حتى آخر لحظة قبل صدور الفعل.
ومحاولة الحكيم – من أجل الحفاظ على اختيارية الفاعل مع أزلية المعلول- بتصوير الفاعل الموجَب والموجِب، وإن كانت صحيحة، ولكن الموجِب بالنتيجة –وحسب المتكلم- يرجع إلى الموجَب، بمعنى أنه مسلوب الإرادة، لأنه لا يمكنه التراجع عن الفعل في اللحظة الأخيرة.
وعليه، فإن استطاع الحكيم تصوير اختيار الفاعل حتى آخر لحظة قبل صدور الفعل، أمكن حينئذٍ قبول قاعدة الوجوب، وإلا فلا بد من التنازل عن أزلية المعلول.
ب / وأما بالنسبة للمتكلم الذي قال بأن القدرة هي صحة الفعل والترك، وبعدم إمكان تطرق الحوادث للذات المقدسة، وأن العلة تامة، والمعلول (العالم) حادث زمناً، فنقول له:
نحن نقبل فكرة حدوث العالم زمناً، لكن بشرط أن لا توصلنا هذه
ص: 235
الفكرة إلى فكرة الترجيح بلا مرجح أو الجزاف، إذ إنه مع كون العلة تامة من الأزل بجميع شرائطها – التي منها العلم بالمصلحة في الفعل والإرادة – ومع كون القابل تام القابلية نسأل: لماذا لم يصدر العالم؟ إن عدم صدوره يعني إما الترجيح بلا مرجح، بل ترجيح المرجوح، أو يعني الجزاف، وكلاهما محال على الذات المقدسة، لأنه ينافي الحكمة الإلهية، وبالتالي يلزم المنافاة مع التوحيد.
فلكي نقبل مقولة المتكلم، عليه أن يقدم لنا تصويراً لحدوث العالم زمناً، رغم تمامية علته بجميع شرائطها لا يتنافى مع الحكمة الإلهية.
هناك عدة خصائص للقدرة الإلهية، نذكر منها التالي:
بحكم أن الله تعالى هو خالق كل شيء، والخلق يستلزم القدرة، فلا بد أن تكون القدرة عامة لكل مخلوق ومقدور(1).
فعموم العلة (الخلق) يستلزم عموم الصفة (القدرة). فما دام هو تعالى خالق كل شيء، فهو القادر على كل شيء.
ص: 236
وبعبارة أخرى:
إن عموم القدرة فرع أمرين:
الأمر الأول: إن الفاعل تام الفاعلية، أي إن المقتضي للفعل تام من جهته، وهذا الأمر متوفر في الواجب جل وعلا.
الأمر الثاني: إنه لا مانع يمنع من تحقق القدرة في الخارج، إذ المانع المتصور هو أحد أمور:
أولاً: المانع الذاتي، بأن يكون الشيء في نفسه ممتنع الوجود، كشريك الواجب.
وعدم تعلق القدرة به لنقص فيه لا لنقص في الفاعل (وستتبين هذه النقطة أكثر في الخصيصة الثانية إن شاء الله تعالى)
ثانياً: المانع العرضي، بأن تكون هناك قدرة معارضة لقدرة الفاعل تمنع من تحقيق فعله وتفعيل قدرته، وهذا المانع لا يُتصور في قدرة الباري جل وعلا، إذ الفرض أن كل ما دونه ممكن الوجود، فلا يمكن أن يعارضه، فإن قدرة الممكن مستمدة من قدرة الواجب، وفرع عنها، فكيف يمكن أن تعارضها.
ثالثاً: عدم تمامية الفاعل، وقد عرفنا في الأمر الأول أن الفاعل جل وعلا تام الفاعلية، إذ هو الغني المطلق الذي لا يعجزه شيء.
فإذن، القدرة الإلهية عامة لكل شيء، إذ المقتضي للعموم موجود، والمانع
ص: 237
عنه مفقود.
وبعبارة أخرى: حيث إنه تعالى لا محدود، فكذلك صفاته التي هي عين ذاته، ومنها القدرة.
من قال بتحديد القدرة(1)؟
ويقابل هذا الرأي آراء عديدة(2)، منها:
1 / الفلاسفة:
حيث ذهبوا إلى أن القدرة الإلهية تتعلق بالمعلول الأول فقط، دون ما يليه من المعلولات، وكان ذلك منهم نتيجة التزامهم بقاعدة الواحد المشهورة.(3)
2/ المجوس:
قالوا: هناك مبدآن، مبدأ للخير، وهو الله تعالى، ومبدأ للشر، وهو حادث، وهو الشيطان. فالقادر على الشر وخالقه هو الشيطان.
ص: 238
3 / الثنوية – أو المانوية على اختلاف النسبة-:
قالوا: إن مبدأ الخير هو النور، وهو الله تعالى. ومبدأ الشر هو الظلمة. وهو مبدأ قديم.(1)
4 / النظّام:
قال: إن الله تعالى لا يقدر على القبيح، إذ القبيح يدور أمره بين الحاجة والجهل، وهما ممتنعان في حق الله تعالى.
5 / البلخي:
قال: إن الله تعالى قادر على كل شيء إلا أفعال البشر الاختيارية، لأنها لا تخرج عن الطاعة أو المعصية، وهما لا ينسبان إلى الله تعالى. إذ لا معنى لطاعته تعالى لنفسه أو معصيته لها.
6 / الجبائيان:
قالا: إن الله تعالى يقدر على كل شيء إلا على فعل العبد، لأن الله تعالى لو لم يرد الفعل الذي أراده العبد، لاجتمع الضدان على فعل واحد، ولا معنى لتغلّب إرادة الله تعالى على إرادة العبد، للزومه الجبر، والفرض أن العبد مختار.
ص: 239
وفي مقام الجواب نقول:
هنا خطوتان:
1/ إن تصريح القرآن الكريم والسنة الشريفة واضح جداً في عموم القدرة، فمخالفة هذا الأمر الثابت أمر غير منهجي.
2/ليس للإنسان في وجوده إلا الفعل الاختياري(1)،
أما الآلات ومقدمات الفعل فخارجة عن اختياره، وهذا الاختيار هو الذي دار عليه الثواب والعقاب، علماً أنه متوقف على العلم، و العلم من الله تعالى أيضاً.
3 / كثير من الذين حدّدوا في قدرة الله تعالى لم يستطيعوا أن يفهموا التحليل الصحيح للأفعال الصادرة من الإنسان، إذ للفعل الإنساني جنبتان:
جنبة كونه وجوداً من الوجودات، وهذا يمكن نسبته إلى الفاعل الحقيقي – الله تعالى – كوجود مجرد عن أية صفة أخرى، فلا يوصف بالخير أو الشر أو العدل أو الظلم أو غيره من الصفات.
وجنبة كونه فعلاً اختيارياً للإنسان، وهذا الاختيار هو الذي يصبغ الفعل بألوان متعددة، ففعل فيزيائي واحد ربما يجعله الاختيار أمراً راجحاً ومرغوباً فيه، وربما يجعله أمراً تكاد السموات يتفطرْنَ منه والجبال!
فصبغة كونه خيراً أو شراً هي نتيجة كونه اختياراً للإنسان، لا نتيجة
ص: 240
كونه فعلاً وجودياً منسوباً إلى الفاعل التام – الله تعالى-.
وكمثال على ذلك نأخذ الشر(1)، فالشر في الحقيقة ما هو إلا عدم(2)، ولمّا كان بناء عالم الدنيا على التزاحم والتضاد ومحدودية الفرص، كان الإنسان بين أن يلتزم بما رسمه الله تعالى له من القوانين، فلا يتصادم مع غيره ولا يقع الكل في الحرج، ولا يخرجون عن الحق، وبين أن يحاول تخطّي الحدود الإلهية، مما يتسبّب في أخذ حق الغير، أي مما يسبّب حرمان الغير من بعض حقوقه وفرصه الوجودية، وهذا الحرمان هو الذي ندعوه بالشر. فهو في حقيقته أمر عدمي لا وجودي، وأتى نتيجة فعل اتصف بالاختيار الإنساني، لا نتيجة فعل انتسب إلى الله تعالى. فالشر لا ينسب إلى الله تعالى حتى نحتاج إلى تحديد القدرة الإلهية بما عدا الشر – كما فعل المجوس مثلاً-.
إذن، نفس الفعل ليس شراً، إنما اختيار لون الفعل وصفته هو الشر، وهذا نتيجة اختيار الإنسان.
إن ما ذكر من تحديد للقدرة يصح لو كان معنى القدرة هو صدور الفعل فعلاً. أما وقد قلنا: إن القدرة هي بمعنى الإمكان الصدوري، والإمكان متوفر في جميع الأفعال، إذن يكون التحديد بما ذكر في غير محله.
فالشر والظلم والقبيح ليس خارجاً عن قدرة الله تعالى بهذا المعنى –
ص: 241
الإمكان-، وإنما لم تصدر منه تعالى لمكان حكمته التي تأبى صدور مثل هذه الأفعال عنه تعالى. تماماً كما يقال في العصمة، فهي لا تمنع المعصوم من صدور المعصية تكويناً، إنما بإرادته لا يفعل المعصية.(1)
ص: 242
ينبغي أن نفهم جيداً هذه الخصيصة، فبها تنحلّ العديد من الشبهات التي تُثار.
ص: 243
إن القدرة تحتاج إلى مقدور، أي إنها من الصفات ذات المتعلق، فما هو متعلق القدرة الإلهية؟
من المعلوم أن المفاهيم المتصورة في الذهن ثلاثة:
الأول: واجب الوجود، وهو منحصر به جل وعلا، وهو تعالى قادر بالمطلق.
الثاني: ممكن الوجود، والقدرة الإلهية تتعلق به من دون أدنى إشكال، بل هي عامة لكل ممكن كما تقدم.
الثالث: ممتنع الوجود، وفي الحقيقة هذا المفهوم هو عدم بالحمل الشائع، فلا تحقق له في الواقع، بل هو عدم محض، فلا شيئية له، وتعلق القدرة به يعني كونه شيئاً، وهو خلف.
فالممتنع هو لا شيء، فلا تتعلق به القدرة، لا لخلل في القدرة أو القادر، بل لخلل في الممتنع نفسه.
ومعه فالقدرة لا تتعلق بواجب الوجود الثاني (شريك الباري) ولا بممتنع الوجود، لأنه وكما تقدم فإن القدرة ثنائية المتعلق، أي إنها تعني القدرة على الفعل بشرط القدرة على الترك، أو قل: هي صحة الفعل وصحة عدمه، والواجب لا يقبل إلا الوجود حسب الفرض، والممتنع لا يقبل إلا العدم حسب الفرض، فلا تتعلق بهما القدرة.(1)
ص: 244
إذا فهمنا هذا سنفهم عدم صحة بعض الكلمات التي تصدر من دون تحليل عقلي منهجي، كأن يُقال: هل يقدر الله تعالى على أن يوجد واجب وجود ثانٍ معه؟ وهل يقدر أن يضع العالم على كبره في البيضة على صغرها؟ وهل يستطيع أن يجعل الأربعة فرداً والثلاثة زوجاً؟ وأمثال هذه الكلمات، إذ مما تقدم تبين:
أولا: أن تعلق القدرة بإيجاد (واجب وجود ثانٍ، أو قل: شريك الباري) أمرٌ محال، لأن فرض (الواجب الثاني) محال في حد نفسه كما تقدم.
ثانياً: أن تعلق القدرة بإدخال العالم على كبره في البيضة على صغرها محال، لأن الخلل في أن يكون المظروف أكبر من الظرف، فهذا ممتنع، فلا تتعلق به القدرة.
ثالثاً: أن الزوجية أمر ذاتي للأربعة والفردية أمر ذاتي للثلاثة، أي إن ثبوت الزوجية للأربعة واجب، لأنها من ذاتياتها، فلا تتعلق بها القدرة. وهكذا في الفردية والثلاثة.
ص: 245
يظهر من الروايات الشريفة أن بعض هذه الأسئلة كانت قد طُرحت على الأئمة (عليهم السلام)، خصوصاً سؤال العالم والبيضة.
والملاحظ أن الجواب قد اختلف بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين الإمام الصادق والإمام الرضا (عليهما السلام)، والظاهر والله العالم أن سبب ذلك راجع إلى اختلاف حال السائل وكونه من أهل الاختصاص فيحتاج إلى جواب علمي، أو من العامة فيكفيه الجواب الخطابي الإقناعي.
فقد روي عن عمر بن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل يقدر ربك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون.(1)
فأمير المؤمنين (عليه السلام) يُصرح هنا بأن عدم تعلق القدرة بهذا الطلب من باب أنه ممتنع (لا يكون).
ولكن الإمام الرضا (عليه السلام) أعطى الجواب بطريقة أخرى، حيث روي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: جاء رجل إلى الإمام الرضا (عليه السلام) فقال: هل يقدر ربك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال: نعم، وفي أصغر من البيضة، قد جعلها في عينك وهي أقل من البيضة، لأنك إذا فتحتها
ص: 246
عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها.(1)
وهكذا روي عن الإمام الصادق ما يقرب من هذا الجواب، فقد روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ الله الدَّيَصَانِيَّ سَأَلَ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ فَقَالَ لَه: ألَكَ رَبٌّ؟ فَقَال: بَلَى. قَالَ: أقَادِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَادِرٌ قَاهِرٌ. قَالَ: يَقْدِرُ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ لَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ ولَا تَصْغُرُ الدُّنْيَا؟ قَالَ هِشَامٌ: النَّظِرَةَ [أي المهلة] فَقَالَ لَه: قَدْ أَنْظَرْتُكَ حَوْلاً.
ثُمَّ خَرَجَ عَنْه فَرَكِبَ هِشَامٌ إِلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْه فَأَذِنَ لَه، فَقَالَ لَه: يَا ابْنَ رَسُولِ الله، أَتَانِي عَبْدُ الله الدَّيَصَانِيُّ بِمَسْأَلَةٍ لَيْسَ الْمُعَوَّلُ فِيهَا إِلَّا عَلَى الله وعَلَيْك.َ فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): عَن مَاذَا سَأَلَكَ؟ فَقَالَ: قَالَ لِي: كَيْتَ وكَيْتَ.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): يَا هِشَامُ، كَمْ حَوَاسُّكَ؟ قَالَ: خَمْسٌ. قَالَ: أَيُّهَا أَصْغَرُ؟ قَالَ: النَّاظِرُ. قَالَ: وكَمْ قَدْرُ النَّاظِرِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْعَدَسَةِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهَا. فَقَالَ لَه (عليه السلام): يَا هِشَامُ فَانْظُرْ أَمَامَكَ وفَوْقَكَ وأَخْبِرْنِي بِمَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَرَى سَمَاءً وأَرْضاً ودُوراً وقُصُوراً وبَرَارِيَ وجِبَالاً وأَنْهَاراً.
فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): إِنَّ الَّذِي قَدَرَ أَنْ يُدْخِلَ الَّذِي تَرَاه الْعَدَسَةَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ، لَا تَصْغَرُ الدُّنْيَا ولَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ.
فَأَكَبَّ هِشَامٌ عَلَيْه وقَبَّلَ يَدَيْه ورَأْسَه ورِجْلَيْه وقَالَ: حَسْبِي يَا ابْنَ رَسُولِ
ص: 247
الله وانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِه... (1)
هل هناك علاقة بين الصفات الإلهية بعضها مع البعض الآخر أو أنها تعمل بصورة منفصلة عن بعضها؟
باختصار نقول: إن الصفات الإلهية محكومة لصفة عامة هي صفة (الحكمة) والتي تعني وضع الشيء في موضعه المناسب له، ولذلك فإن الله تعالى رغم أنه يعلم كل شيء، لكنه لم يعطِ علمه كله لنا مثلاً، لأن الحكمة تقتضي أن يُخفي عنا بعض العلوم، كالعلم بساعة الموت مثلاً.
ص: 248
وهكذا نقول في القدرة، فصحيح أن الله تعالى قادر على كل شيء، ولكنه تعالى لا يفعل كل ما يقدر عليه، بل إنه تعالى يحدد فعله بما تقتضيه الحكمة اللا متناهية.
ومنه نعرف الجواب بكل وضوح عن بعض الأسئلة التي تُطرح، من قبيل: هل يقدر الله تعالى أن يُدخل الأنبياء النار؟ وهل يقدر أن يدخل الشيطان الجنة؟ وأمثال هذه الأسئلة، فإن الجواب يكون عنها بإمكان ذلك بلا أدنى شك، لكننا نقول بامتناع وقوعه منه تعالى؛ لمكان حكمته التي تقتضي خلاف ذلك.
فالقدرة الذاتية إذن أوسع من الفعل الذي تعلقت به القدرة فعلاً. لأن الحكمة تحدد ما تتعلق به القدرة مما لا تتعلق به.
وهذا التحديد ناشئ من كمال الذات المقدسة لا من شيء خارج عن ذاتها.
وتحديد القدرة وفق الحكمة أمر وجداني، واقع حتى عندنا نحن الممكنات كما هو واضح.
هناك صفات تلازم القدرة أو ترجع إليها، نذكر منها التالي:
إن (الخالق) اسم فاعل من مادة (خلق)، والخلق في الأصل بمعنى
ص: 249
التقدير، ويستعمل بمعنى إيجاد الشيء على أساس التقدير(1).
وهذا المعنى لا يتحقق من دون القدرة كما هو واضح، بمعنى أن القدرة هي مبدأ من مبادئ الخلق، فغير القادر لا يمكنه أن يخلق كما هو واضح.
وفي إشارة إلى هذا المعنى قال تعالى: ﴿وَلِلهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(2)
ملحوظة:
إن صفة (الخالق) هي من صفات الفعل، وعليه، فهي تتصف بصفات الفعل الإلهي من الحكمة بمعنى وضع الشيء في موضعه المناسب، وكذلك نفي العبث واللهو، ونفي الحاجة في فعله إلى غيره. ونفي التعب عنه، وما شابه هذه النقوصات التي يلزم نفيها عن فعله جل وعلا.
قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾(3)
وقد جاء عن مولاتنا الزهراء (عليها السلام) في خطبتها المعروفة: «ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلّا تثبيتاً لحكمته، وتنبيهاً على طاعته، وإظهاراً لقدرته، تعبداً لبريته وإعزازاً
ص: 250
لدعوته...».(1)
ونفس الملحوظة تأتي في الصفة التالية لأنها فرع الخالقية.
البارئ في اللغة اسم فاعل من مادة (برأ)، وهو أصلان، أحدهما (الخلق)، والآخر (التباعد من الشيء ومزايلته)، ومن الأصل الأول يقال: برأ الله الخلق، يبرؤهم، برءاً: خلقهم، وهو البارئ: الخالق(2).
والخلق يلازم القدرة بلا شك.
وفي لسان العرب: البارئ: هو الذي خلق الخلق لا عن مثال. قال: ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلّما تستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة وخلق السماوات والأرض(3).
ومنه يظهر (أن البارئ يُستعمل في الحيوان كثيراً دون الخالق، ولأجل ذلك صحّ الجمع بين الخالق والبارئ في بعض الآيات)(4)،
كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(5)
ص: 251
إن صفة الفاطر ترجع إلى صفة الخالق، فإن: (الفاطر) اسم فاعل من مادة (فطر) وهو يدل على فتح شيء وإبرازه، ولهذا يستعمل في الشق والخلق والإيجاد الابتدائي. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما (فاطر السماوات والأرض) حتّى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأت حفرها(1).
والله تعالى فاطر الأشياء؛ لأن ابتداء الأشياء وخلقتها بإرادته تعالى(2).
وفي ذلك يقول السيد الطباطبائي (قدس سره): قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرضِ﴾(3):
الفطر - على ما ذكره الراغب - هو الشق طولاً، فإطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنه شق العدم فأخرج من بطنها السماوات والأرض، فمحصل معناه: أنه موجد السماوات والأرض إيجاداً ابتدائياً من غير مثال سابق، فيقرب معناه من معنى البديع والمبدع(4).
وهاتان الصفتان أيضاً ترجعان إلى (الخالق) والقدرة على الخلق. فإن غير القادر لا يكون مبدعاً ولا خالقاً كما تقدم.
(البدئ والبديع في اللغة كلاهما فعيل بمعنى فاعل من مادة (بدأ)
ص: 252
و(بدع). وهما متقاربان في المعنى. قال ابن فارس: (بدأ) من افتتاح الشيء، يقال: بدأت بالأمر وابتدأت، من الابتداء، وقال أيضاً: (بدع) ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال. قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى (المبدئ)، هو الذي أنشأ الأشياء واخترعها ابتداء من غير سابق مثال، وقال أيضاً: في أسماء الله تعالى (البديع)، هو الخالق المخترع لا عن مثال سابق. بناء على ما تقدم، فالبدئ والبديع في اللغة هو الذي أحدث الأشياء ابتداء وبلا سابق مثال)(1).
(وحري بالقول في توضيح هاتين المزيتين أن المعنى اللغوي للبدئ والبديع افتتاح الشيء، والإنشاء والإحداث الابتدائي بلا سابقة، وسابقة الشيء وعدم ابتدائيته إمّا من جهة المادة، أو من جهة الصورة. بعبارة أخرى: وجود سابقة للشيء إمّا يتمثل في أن المادة الأولية لذلك الشيء كانت موجودة سابقاً وأنشأ الصانع الشيء منها، أو يتمثل في وجود صورة الشيء من قبل، وهذان النوعان من السابقة يلاحظان بوضوح في عمل الخياط الذي يقص القماش على أساس عينة موجودة سابقاً ويخيطه فيصير لباساً كان قد صور في تلك العينة، في حين نفت الأحاديث كلا النوعين من السابقة لله في إحداث الأشياء وإنشائها)(2).
فالله تعالى بديع بمعنى أوجد الأشياء من العدم، لا عن مثال في مادة ولا عن مثال في صورة.
ص: 253
الفرق بين الإبداع والفطر هو: أن العناية في الإبداع متعلّقة بنفي المثال السابق، وفي الفطر بطرد العدم وإيجاد الشيء من رأس(1).
القاهر مأخوذ من القهر بمعنى الغلبة، قال ابن فارس: (قهر) القاف والهاء والراء كلمة صحيحة تدل على غلبة وعلو. يقال قهره يقهره قهراً. والقاهر الغالب. وأُقهر الرجل إذا صُير في حال يُذل فيها(2).
وقال الراغب: القهر الغلبة والتذليل معاً ويستعمل في كل واحد منهما، قال: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) وقال: (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ - فَوقَهُمْ قَاهِرُوْن - فأمّا الْيَتيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تُذْلِلْ...(3).
وأمّا معنى القهار في الله تعالى، فهو:
أولاً: أن الأشياء لا يمكنها أن تمتنع منه تعالى، ولا يمكنها التملص مما أراده تعالى تكويناً منها.
قال الشيخ الصدوق (قدس سره): (القدير، القاهر) القدير والقاهر معناهما أن الأشياء لا تطيق الامتناع منه ومما يريد الإنفاذ فيها، وقد قيل: إن القادر من يصح منه الفعل إذا لم يكن في حكم الممنوع، والقهر الغلبة، والقدرة مصدر
ص: 254
قولك: قدر قدرة أي ملك، فهو قدير قادر مقتدر، وقدرته على ما لم يوجد واقتداره على إيجاده هو قهره وملكه له: وقد قال عز ذكره: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾(1)ويوم الدين لم يوجد بعد، ويقال: إنه (عزوجل) قاهر لم يزل، ومعناه أن الأشياء لا تطيق الامتناع منه ومما يريد إنفاذه فيها، ولم يزل مقتدراً عليها ولم تكن موجودة كما يقال: مالك يوم الدين، ويوم الدين لم يوجد بعد(2).
ثانياً: أن الموجودات كلها محتاجة إليه تعالى، ولا يمكنها الاستغناء عنه بحال، لأنها مجرد وجودات رابطة ولا حقيقة لها إلّا بالمستقل. وعليه فإن (قاهريته تعالى تعني أن جميع الموجودات لما كانت مخلوقة لله وقائمة به فهي محتاجة إليه في وجودها وجميع شؤونها وترتدي لباس الذلة والمسكنة أمامه)(3).
لقد أوضحت النصوص الدينية أن قاهرية الله تعالى تختلف عن القاهرية الموجودة بين أبناء البشر، فإنها عند البشر قد تعتمد على الحيلة والخديعة، وقد ينقلب القاهر مقهوراً، وليس الأمر هكذا في قاهرية الله تعالى، وقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: «... وأَمَّا الْقَاهِرُ، فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى عِلَاجٍ ونَصَبٍ واحْتِيَالٍ ومُدَارَاةٍ ومَكْرٍ، كَمَا يَقْهَرُ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، والْمَقْهُورُ مِنْهُمْ يَعُودُ قَاهِراً، والْقَاهِرُ يَعُودُ مَقْهُوراً، ولَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا
ص: 255
خَلَقَ مُلَبَّسٌ بِه الذُّلُّ لِفَاعِلِه، وقِلَّةُ الِامْتِنَاعِ لِمَا أَرَادَ بِه، لَمْ يَخْرُجْ مِنْه طَرْفَةَ عَيْنٍ أَنْ يَقُولَ لَه: كُنْ فَيَكُونُ، والْقَاهِرُ مِنَّا عَلَى مَا ذَكَرْتُ ووَصَفْتُ، فَقَدْ جَمَعَنَا الِاسْمُ واخْتَلَفَ الْمَعْنَى، وهَكَذَا جَمِيعُ الأَسْمَاءِ، وإِنْ كُنَّا لَمْ نَسْتَجْمِعْهَا كُلَّهَا...(1).
ص: 256
اتفقت الكلمة على اتصافه تعالى بصفة الحياة، ولا مجال للخلاف في ثبوتها بعد أن صرّح القرآن بثبوتها له تعالى في الكثير من الآيات. وإنما الخلاف في حقيقة وتفسير هذه الصفة، فخلاصة الخلاف هو في (ما هي حياته) لا في (هل هو حي)
وهنا تنبيه:
وهو: أنه في بعض الصفات لا يمكننا أن نضع تفسيراً واضحاً لها، بل ما يمكننا هو أنْ نحدّد موقع تلك الصفة بالنسبة إلى الصفات الأخرى، أي تمييزها عن بقية الصفات، وتمييزها عما عداها يقرب إلى الذهن فهم حقيقتها...
وصفة الحياة من هذا القبيل، فلم يتوفر تفسير واضح عن معنى الحياة، حتى على مستوى التعريف اللفظي – الذي هو مجرد شرح الاسم –، وإنما لمس العلماء ترابطاً وثيقاً بين العلم والقدرة وبين الحياة، وكلُّ ما وجد من تعريفات لها هو في بيان موقع هذه الصفة بين الصفات الأخرى... وحتى ما ذُكر من أدلة على ثبوتها لم يعْدُ هذا المعنى...
وحتى تتبين الصورة أكثر، نذكر عدة نقاط:
ص: 257
قد ذكر لإثبات الحياة له تعالى عدة أدلة –أو بالأحرى تنبيهات-، نذكر منها:
إن الحياة موجودة في عالمنا، فلا بد أن تكون موجودة فيه تعالى، لأن فاقد الشيء [الكمال] لا يكون معطياً.
إن صفة الحياة هي صفة كمال، وهو تعالى واجب الوجود، فيجب أن يوجد فيه كل كمال متصوّر، وإلا لم يكن واجب وجود، لاستلزام فقدها فيه النقصَ... نعم، هي موجودة فيه بنحو يتناسب مع مرتبته الوجودية اللا متناهية...
حيث ثبت أنه تعالى عالم قادر، فيجب أن يكون حياً، بمعنى أن أصل وجود العلم والقدرة فيه تعالى دليل على اتصافه بالحياة، إذ لا يوجد العلم والقدرة إلا في موجودات خاصة، أي إن العلم والقدرة ليسا شأناً من شؤون الوجود، وإلا لوجدا في كل موجود، وإنما هما شأن الموجود الحي، فالعلم والقدرة معنى يرجع إلى الحياة، وما دام تعالى متصفاً بالعلم والقدرة، فهو تعالى حي.
ص: 258
إنها – كما أُشير إليه قبل قليل- معنى يُدرك ولا يُوصف.
وحتى نوضح الصورة نذكر التالي:
لغة: الحياة: ضد الموت والحي: ضد الميت.
وقال الراغب الأصفهاني في مادة (حيي):
الحياة تستعمل على أوجه:
الأول: للقوة النامية الموجودة في النبات والحيوان، ومنه قيل: نبات حي، قال عز وجل: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(1)
الثانية: للقوة الحساسة وبه سمى الحيوان حيواناً، قال عز وجل (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ)(2)
الثالثة: للقوة العاملة العاقلة كقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(3)
وقول الشاعر:
وقد ناديتَ لو أسمعتَ حياً *** ولكن لا حياة لمن تنادي
ص: 259
والرابعة: عبارة عن ارتفاع الغم، وبهذا النظر قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الاحياء
وعلى هذا قوله عز وجل: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1)أي
هم متلذذون لما روى في الأخبار الكثيرة في أرواح الشهداء.
والخامسة: الحياة الأخروية الأبدية وذلك يتوصل إليه بالحياة التي هي العقل والعلم قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(2)،
وقوله: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)(3)يعنى بها الحياة الأخروية الدائمة.
والسادسة: الحياة التي يوصف بها الباري، فإنه إذا قيل فيه تعالى (هو حي) فمعناه لا يصح عليه الموت وليس ذلك إلا لله عز وجل.
وما ذكره الراغب صحيح، ولكنه ليس تفسيراً لحقيقة الحياة، وإنما هو ذكر لآثار الحياة المختلفة باختلاف مراتبها، أما حقيقة الحياة فلم تتبين من كلامه.
فالمهم إذن، أن نعرف أن الحياة هي مبدأ لمثل هذه الآثار التي ذكرها الراغب، وهي تعبر عن (عدم الموت) في تلك المراتب المختلفة.
ص: 260
والذي يهمنا هنا هو معرفة الحياة بالنسبة للباري جل وعلا، وقد وجدت في تفسيرها ثلاثة أقوال:
وفق مبناهم من زيادة الصفات على الذات ولزومها لها، فقالوا: الحياة صفة ثبوتية زائدة، موجودة مستقلة عن الذات تكون منشأً لصفتي العلم والقدرة...
وهو أنه ليست الحياة إلا عدم استحالة العلم والقدرة، فنفس إمكان العلم والقدرة هي صفة الحياة.
الحياة صفة ثبوتية –لا سلبية كما نُسب إلى المعتزلة- وهي عين الذات –لا زائدة كما نُسب إلى الأشاعرة-، وهي منشأ لصفتي العلم والقدرة. وهو ما عليه الإمامية أعلى الله مقامهم وكلمتهم.
إن الأحاديث الشريفة التي تعرضت لصفة الحياة ذكرت عدة أمور، تمثل خصائص لحياة الله تبارك وتعالى، نذكر منها التالي:
حيث إن حياته تعالى هي عين ذاته، إذن، لا يمكننا فهم وإدراك كنهها، لما
ص: 261
تقدم أكثر من مرة من عدم إمكان أن يُدرك المحدودُ اللا محدودَ. ولذلك نحن نبحث عن آثار هذه الصفة ولوازمها التي يمكن أن تعطينا صورة واضحة عن حياته جل وعلا، وقد تقدمت الأدلة والتنبيهات على حياته جل وعلا.
أن حياة الباري جل وعلا تختلف عن حياة غيره من الموجودات الحية، فإن حياة غيره من الموجودات هي حياة حادثة لا أزلية، فانية لا أبدية، وقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: كان عز وجل إلهاً حياً بلا حياة حادثة... بل حي لنفسه.(1)
أن حياته تعالى لا يعرضها الموت ولا العدم ولا الضعف كما في الموجودات الأخرى، ولذا روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: إن الله نور لا ظلمة فيه، وعلم لا جهل معه، وحياة لا موت فيه...(2)
أن حياته تعالى هي المصدر لحياة الموجودات الأخرى، وهذا يعني أن حياة غيره هي به، ولا حياة من دون حياته جل وعلا، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:... وهُوَ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، ونُورُ كُلِّ شَيْءٍ، سُبْحَانَه وتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيرا.. وبِحَيَاتِه حَيِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وبِنُورِه اهْتَدَوْا إِلَى
ص: 262
مَعْرِفَتِه.(1)
ويتفرّع على الأمر الرابع، أنه تعالى هو (المحيي) وهو (المميت)، والمحيي اسم فاعل من مادة (حيّ) أي الذي يُعطي الحياة، والمميت اسم فاعل من مادة (موت)، أي الذي يُنهي الحياة ويُحدث الموت في الموجود.
فإذا شاء الله تعالى أعطى الحياة لغيره من الموجودات فتصبح موجودات حية، وإذا شاء جلّ وعلا، أمات أي موجود غيره، لأن الحياة لغيره ليست ذاتية، فيمكن سلبها وبالتالي إماتته.
فمن أراد الحياة -سواء كانت الحياة الدنيوية أو الأخروية، المادية أو المعنوية- فلن يحصل عليها إلا من الحي المطلق جل وعلا.
ومن هنا روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لولده الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): واعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ، وأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ، وأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ.(2)
ص: 263
ص: 264
لا خلاف هنا أيضاً في ثبوت صفة الإرادة له جل وعلا، وإنما الخلاف في تفسيرها، على غرار ما تقدم في صفة الحياة، وحتى تتضح الصورة نذكر عدة نقاط:
ذكروا عدة أدلة –أو تنبيهات- على ذلك، نذكر منها:
لا ريب أن ما وُجد في هذا العالم ليس هو كل ما يمكن أن يوجد، بل هناك ما يمكن أن يوجد ولكنه لم يوجد، كإنسان له ألف رأس، وجبل من ذهب في كل مدينة، وبحر زئبق كذلك، فعالمنا لا يمثل كل ما يمكن أن يوجد...
ووجود شيء دون آخر لا بد له من مخصص، وهي الإرادة...
الإنسان – كمثال – غير موجود من الأزل، وتخصيص إيجاده بزمن دون آخر لا بد له من مخصّص، وهي الإرادة.
وهذان الدليلان ينطلقان من حقيقة واحدة، هي: أن دائرة الإمكان
ص: 265
أوسع من دائرة الوجود المخلوق بالفعل.
وما دام الممكن أوسع من الموجود، فلِمَ وُجِدَ هذا الممكن دون غيره من الممكنات؟ إنه لا بد من وجود مخصص، وهو لا يخلو إما أن يكون هو:
أ / القدرة، وهو محال، لأن القدرة متساوية النسبة إلى المقدور، فلا ترجيح فيها.
ب / العلم، وهو محال، إذ لا اقتضاء فيه للوجود كي يصلح أن يكون مخصصاً، أي إن العلم لوحده ليس مقتضياً للوجود، فلا يمكن أن يكون هو المخصِّص المذكور.
ج / فلا بد من وجود مخصّص، وهو الذي نسميه الإرادة.
هذا هو مفاد الدليل الأول.
وأيضاً، وجود الممكن في مقطع محدد وفي فترة محددة لا قبل ولا بعد يحتاج إلى مخصص – بعد أن كان يمكن أن يوجد قبل أو بعد-، وليس هو القدرة ولا العلم، لما تقدم، فلا بد من مخصص، وهي الإرادة.
من المعلوم أنه لا يمكننا التعرف على صفاته تعالى مباشرة، لأن المحدود لا يمكنه إدراك اللا محدود، وإنما يمكن أن نفهم شيئًا من ذلك من خلال فهْم الصفات فينا، وننتقل منها إلى إثبات الكمالية منها له تعالى بعد تجريدها عن شوائب النقص، وبما يناسب وجوده تعالى، فهنا خطوتان:
ص: 266
1/ تمييز صفات الكمال عن صفات الاستكمال.
الصفات الكمالية هي ما لو خلا منها أي موجود لكان ناقصاً. فهي كمال وجودي، كالعلم والقدرة، أما صفات الاستكمال فهي لا تمثل كمالاً وجودياً، بل هي لمعالجة نقص كالدواء، وتسمى صفات كمال نشأة، كالحركة.
فأما صفات الكمال فيمكن – بل يجب – اتصاف الباري تعالى بها، لأن عدمها يعني النقص، وهو منفي عنه تعالى.
وأما صفات الاستكمال فلا يجوز وصف الباري تعالى بها، لأنه كمال مطلق غير مستكمل، والمستكمل هو الناقص الذي يريد تفادي نقصه بما مُنح من أدوات – كالحركة – تعالج نقصه.
2/ إن الكمال الوجودي موجود فيه تعالى، لكن لا بنفس صيغة وجوده فينا، بل هو موجود فيه تعالى بما يتناسب مع وجوده الواجب. فهي فيه جل وعلا غير متناهية، وفينا متناهية، وهذا فرقٌ فارق كما هو واضح، لأن الاختلاف بين المتناهي واللا متناهي هو بحدّ اللا متناهي.
إذا تبين هذا نبيّن:
وهذا القول ليس خاصاً بصفة الإرادة، بل إن هناك منحى كلامياً في تفسير الصفات الإلهية سلبياً، هرباً من المثلية بين صفاته تعالى وصفاتنا، فقيل بأنه لا نفهم من صفاته تعالى إلا سلب النقص الموجود فينا، إذ ليس
كمثله شيء، فغاية ما نفهم من قدرته تعالى أنه ليس بعاجز، ومن علمه تعالى أنه ليس بجاهل، لأن العجز والجهل فينا نقصان، فهما منفيان ومسلوبان عنه تعالى بالأولوية، وما عدا ذلك فهو عصيٌّ على فهمنا.
وهكذا الإرادة، فإننا لا نفهم منها إلا أنه تعالى (ليس بمغلوب وليس بمستكرَه)، نعم، يمكن أن نعطي معنى ثبوتياً للصفات فينا، ومنها الإرادة. وهذا هو قول النجار.
وفيه:
إن هذا التفسير لو أُريد له أن يكون صحيحاً ومناسباً للإرادة، لكان من اللازم أن يدل على- المعرَّف- الإرادة – ولو بالتلازم-، والحال أنه لا يدل على الإرادة أبداً، إذ كونه ليس بمغلوب ولا مستكره لا يدل على أنه تعالى مريد، وإنما يعني أن قدرته تعالى نافذة وعامة، وهذا لا علاقة له بالإرادة.
وبعبارة أخرى: فهم الصفة سلبياً هو بمعنى سلب ما يقابلها، والإكراه والغلبة لا يقابل الإرادة، بل الذي يقابل الإرادة هي الكراهة...
ص: 268
وهنا قولان فرعيان:
وافترق القائلون بقدمها إلى رأيين:
أ / هي قديمة بقدم الذات المقدسة، وهي عين الذات، وهو المنسوب للحكماء وأكثر الإمامية.
ب / هي قديمة زائدة على الذات، وهو قول الأشاعرة، ومن الواضح أنه يلزم منه تعدد القدماء.
وعلى كل حال، فالذي يمكن قوله: إنه قد ظهر رأيان يمكن قبولهما في تفسير الإرادة، وهما:
أ/ أن الإرادة هي العلم الخاص، وهي صفة ذاتية وعين الذات، فترجع إلى صفة العلم، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك عندما تكلّمنا عن الصفات الملازمة لصفة العلم.
ب/ أن الإرادة هي عين الفعل، أي هي إحداث الفعل، وإحداث الفعل والفعل واحد ذاتاً، وحينئذٍ تكون من الصفات الفعلية.
والخلاصة: (تنقسم الإرادة الإلهيّة إلى قسمين: ذاتيّ وفعليّ: أمّا الإرادة الذاتيّة فهي العلم بالنظام الأصلح في عالم الخلق، أو هي حبّ الكمالات،
ص: 269
وأمّا الإرادة الفعليّة فهي عين الإيجاد، وتحقيق الفعل الإلهيّ. وعليه: فإنّ الإرادة الذاتيّة هي عين العلم، والإرادة الفعليّة صفة من الصفات الإلهيّة الفعليّة)(1)
وبعبارة أخرى:
أن الإرادة الذاتية هي بمعنى أنه تعالى (يعلم أي نظام أفضل وأصلح لعالم الوجود، ويعلم أفضل الأوقات المناسبة لإيجاد الموجودات، وهذا العلم منبع تحقق الموجودات وحدوث الظواهر في الأزمنة المختلفة، وكذلك فإنه سبحانه وتعالى يعلم مصلحة عباده الكامنة في هذه القوانين والأحكام، وأن روح هذه القوانين والأحكام هي علمه بالمصالح والمفاسد)(2)
وأما الإرادة الفعلية فإنها (تُعدُّ من الصفات الفعلية، لذا فإن إرادته في خلق السموات والأرض هي عين حدوثها، وإرادته في فرض الصلاة هي عين وجوبها، وفي تحريم الكذب هي عين تحريمه)(3)
إن الآراء في معنى الإرادة كثيرة، ومتشعبة، ويكفينا أن نؤمن بأنه تعالى مريد ومتصف بصفة الإرادة الكمالية تعبداً، إذ إن القرآن الكريم أثبتها له جل وعلا في آيات كثيرة(4)، ومنها قوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ
ص: 270
مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(1)
وقوله تعالى: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(2)
وقوله تعالى: (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(3)
وقوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(4)
وقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(5)
وهكذا السنة الشريفة، مع الالتفات إلى أن الروايات يظهر منها أن الإرادة هي صفة فعل حادثة(6)، وليست قديمة بقدم الذات.
ومنها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (...لَمْ يَزَلِ اللهُ عَالِماً قَادِراً ثُمَّ أَرَادَ)(7)
وعَنْ بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): عِلْمُ الله ومَشِيئَتُه هُمَا
ص: 271
مُخْتَلِفَانِ أَوْ مُتَّفِقَانِ؟ فَقَالَ: الْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ الْمَشِيئَةَ ألَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ الله، ولَا تَقُولُ سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ عَلِمَ الله، فَقَوْلُكَ: (إِنْ شَاءَ اللهُ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّه لَمْ يَشَأْ، فَإِذَا شَاءَ كَانَ الَّذِي شَاءَ كَمَا شَاءَ، وعِلْمُ الله السَّابِقُ لِلْمَشِيئَةِ.(1)
يمكن أن نقسم الإرادة بعدة تقسيمات بحسب اختلاف الجهات المنظورة في التقسيم، ومن تلك التقسيمات هي التالي:
وهذا التقسيم هو باعتبار كونها صفة ذاتية أو فعلية، وقد تقدم الكلام فيها.
وهذا التقسيم هو باعتبار أن المراد إن كان من النوع الذي قضى الله تعالى بأنْ يقع، بحيث لا يقبل النقض ولا مناص من تحققه، فهي الإرادة الحتمية، وإن كان من النوع الذي قدّر الله تعالى إمكان تغيّره لتغيّر بعض ظروفه التي جعلها الله تعالى هي مدار تحقق أو عدم تحقق تلك الإرادة، فهي غير حتمية. ومثالها أمر الله تعالى النبي إبراهيم (عليه السلام) بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام)، أو أمر الله تعالى المسلمين بتقديم صدقة قبل الدخول لمناجاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
ص: 272
ومحل بحث هذين النوعين هو موضوع (البداء)، لأن غير الحتمية هي ما يقع فيها البداء والتغيير، وستأتي تفاصيلها في محلها إن شاء الله تعالى.(1)
يمكن تقسيم الإرادة بلحاظ آخر إلى قسمين، وهما: التكوينية (وقد يُطلق عليها: إرادة حتم) والتشريعية (وقد يُطلق عليها: إرادة عزم).
والمقصود من التكوينية: (هي الإرادة التي يفيض منها وجود جميع الكائنات والموجودات، أو بتعبير آخر هي عين إيجادها جميعاً، أما الإرادة التشريعية، فهي الإرادة التي تفيض منها جميع الأوامر والنواهي الإلهية، وجميع الأحكام والقوانين الشرعية، وبتعبير آخر: عين هذه الأحكام والقوانين)(2)
ولإيضاح الفرق بينهما أكثر نذكر التالي:
1/الإرادة التكوينية تتعلق بالأمور الحقيقية، لا الاعتبارية، مثلاً إرادة كون الشمس مضيئة، أو إرادة خلق الإنسان بهذه الكيفية، أو خلق العالم بهذا النظام، وهكذا.
أما التشريعية، فهي تتعلق بالأمور الاعتبارية، أي باعتبار أن هذا الشيء الفلاني واجب مثلاً على ذمة المكلف، وذاك أمر محرم، أي إنها التكاليف الشرعية الخمسة.
ص: 273
2/الإرادة التكوينية يفعلها الله تعالى، ولا دخل للإنسان فيها، أما التشريعية، فإن الله تعالى يُحدث الأمر بها، وعلى الإنسان أن يمتثل لأمر الله تعالى ونهيه ويحقق تلك الإرادة بإرادته كما أراد الله تعالى له أن يحدثها بإرادته.
3/ التكوينية لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، لأنه لم يُلق في ذمة المكلف شيء اتجاهها، أما التشريعية فهي مدار الثواب والعقاب فيما لو امتثل العبد أو لم يمتثل.
ملحوظة: الترابط بين التشريع والتكوين:
ومعنى هذا: أن القرآن الكريم والسنة الشريفة يؤكدان على وجود علاقة طردية بين الالتزام بالأحكام التكليفية التشريعية وبين رضوخ القوانين التكوينية للإنسان، وسيرها في مصلحته، فكلما ازداد التزام المرء بالأحكام الشرعية، كلما خضعت له القوانين التكوينية، والعكس بالعكس، ولا أدلّ على ذلك من حياة الأنبياء وكيف كانت القوى الكونية تخضع لهم، فصارت النار برداً وسلاماً على إبراهيم (عليه السلام)، وهي التي لم ترحم أحداً وقع فيها، وصار الطين طيراً حياً لعيسى (عليه السلام)، وهو الذي لم تنبع فيه حياة على يد مخلوق، وصار الحديد ليّناً لداود (عليه السلام)، وهو الصلب على مر الحياة، وانشق القمر للنبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وما انشق بعدها لأحد، وغيرها كثير مما هو واضح في حياة الأنبياء، وما كان ذلك إلا لأنهم كانوا –فيما كانوا عليه- على قمة الالتزام بالقوانين التشريعية، التي تؤدي بالإنسان أن يقول للشيء: كن، فيكون.
والآيات والأحاديث في هذا المضمار كثيرة، نختار منها ما يلي:
ص: 274
يقول تعالى (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(1)
ويقول تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(2)
ويقول تعالى على حكاية عن النبي نوح (عليه السلام): (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(3)
وعَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): قَالَ: أَمَا إِنَّه لَيْسَ مِنْ عِرْقٍ يَضْرِبُ ولَا نَكْبَةٍ ولَا صُدَاعٍ ولَا مَرَضٍ إِلَّا بِذَنْبٍ وذَلِكَ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فِي كِتَابِه: (وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)(4)قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ومَا يَعْفُو الله أَكْثَرُ مِمَّا يُؤَاخِذُ بِه.(5)
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار.(6)
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد الله بن جندب في وصيته له: يا ابن جندب، لو أن شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة، ولأظلهم الغمام،
ص: 275
ولأشرقوا نهاراً، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولما سألوا الله شيئاً إلا أعطاهم.(1)
وغيرها من الروايات الكثيرة الدالة على هذا الأمر.
وأوضح تطبيق لهذه العلاقة وهذا القانون، هو ما جاء في الروايات عن البركات والتقدم في دولة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وهي كثيرة في هذا المجال نذكر منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهب الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلا على النبات وعلى رأسها زينتها (زنبيلها) لا يهيجها سبع ولا تخافه.(2)
وعن الإمام السجاد (عليه السلام): إذا قام قائمنا أذهب الله عز وجل عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد، وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلا، ويكونون حكام الأرض وسنامها.(3)
تقدم الكلام في أن القدرة الإلهية شاملة لكل شيء، وأن المقصود من الشيء هنا هو الممكن، لا الواجب ولا الممتنع، ونفس الكلام نقوله هنا، فإن
ص: 276
الإرادة الإلهية (سواء قلنا إنها ذاتية أو فعلية) فهي تسع كل شيء ممكن، ولا يمكن أن يمتنع أي شيء عن إرادته تعالى، قال تعالى: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(1)
وقال تعالى: (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(2)
(وطبعاً إن هذا الكلام لا يعني وجود الحوادث والموجودات في لحظة واحدة، بل يعني وجودها وحدوثها وفق الإرادة الإلهية والأمر الإلهي بدون تقديم أو تأخير ولو لحظة واحدة...)(3)
لا يمكن أن نتصور شيئاً (والمقصود هو الممكن طبعاً كما تقدم) يمكنه أن يحول بين الله عز وجل وبين وقوع ما يريد وقوعه، أو عدم وقوع ما لا يريد وقوعه، إذ المانع غيره ليس إلا الممكن، وهو لا شيء أمام الله تعالى كما هو واضح.
قال تعالى مُعرّضاً بمن ادّعى ألوهية عيسى (عليه السلام): (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرضِ جَمِيعاً وَلِلهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ
ص: 277
وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1)
وقال تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(2)
وقال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(3)
ويترتب على الإيمان بهذه الخصّيصة واستشعارها بالوجدان:
الاطمئنان بأن كل ما يجري في هذه الحياة فإن إرادة الله تعالى هي الحاكمة فيه، فلو ترك المؤمن أمره بين يدي الله تعالى، وترك تقدير أموره إلى تقدير الله تعالى، أي إنه لو كان سعيه في هذه الحياة كما يريده الله تعالى بالإرادة التشريعية، حينها سيعيش المؤمن حياته بكل اطمئنان، وعندها سوف لا يثنيه شيء عن الوصول إلى هدفه في مرضاة الله تعالى مهما كانت الظروف قاسية، ومهما اشتدت عليه الريح في يوم عاصف.
وإلى هذا المعنى تشير العديد من الروايات الشريفة، منها ما روي عن رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: مَنْ طَلَبَ مَرْضَاةَ النَّاسِ بِمَا يُسْخِطُ اللَّه كَانَ حَامِدُه مِنَ النَّاسِ ذَامّاً، ومَنْ آثَرَ طَاعَةَ الله بِغَضَبِ النَّاسِ كَفَاه الله عَدَاوَةَ كُلِّ عَدُوٍّ وحَسَدَ
ص: 278
كُلِّ حَاسِدٍ وبَغْيَ كُلِّ بَاغٍ وكَانَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه نَاصِراً وظَهِيراً.(1)
وكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى الْحُسَيْنِ (عليه السلام): عِظْنِي بِحَرْفَيْنِ. فَكَتَبَ إِلَيْه: مَنْ حَاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِيَةِ الله كَانَ أَفْوَتَ لِمَا يَرْجُو وأَسْرَعَ لِمَجِيءِ مَا يَحْذَرُ.(2)
وروي أيضاً أنه كتب رجل إلى الحسين بن علي (عليهما السلام): يا سيدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإنه من طلب رضا الله تعالى بسخط الناس، كفاه الله تعالى أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله تعالى، وكله الله تعالى إلى الناس، والسلام.(3)
تقدم في بحث القدرة: أن القدرة رغم سعتها، لكن الحكمة هي التي يمكن أن تقيّدها، وكذلك الإرادة الإلهية، تقيّدها الحكمة الإلهية، فعلى المؤمن أن يطمئنّ بأن ما اختاره الله تعالى له –ككونه من الأب الفلاني أو من العشيرة الفلانية أو في البلد المعين أو بالشكل المعين وما مشابه هذه الأمور- هو الأصلح له حسب العلم والحكمة الإلهية، إذ لا بخل في ساحته جل وعلا، وإرادته نافذة في كل شيء، فلا بد أن يكون الظرف الذي خرج فيه الإنسان هو أفضل الظروف له على الإطلاق.
هذا ما يتعلق بالإرادة التكوينية، ونفس الكلام في الإرادة التشريعية،
ص: 279
حيث إن الرحمة الإلهية تجلّت في إرادته جل وعلا، فرغم أنه تعالى كان قادراً على أن يريد تشريعاً من البشر بحيث يعجزون عنه، لكنه جل وعلا أراد منهم يسيراً، وكلّفهم بأقل من وسعهم، فالإرادة هنا رغم سعتها، لكن الحكمة والرحمة جعلا من دائرتها أضيق بكثير من واقع سعتها.
قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىٰ لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدىٰ وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلىٰ ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1)
تؤكد العديد من الآيات الكريمة: أن إرادة الله تعالى في هذا الكون، كانت على أن الخير هو المنتصر، لكن ولو بعد حين، إذ الإرادة هنا تعلّقت بانتصار الخير لكن بعد أن تمر البشرية بأطوار عديدة من التقلبات، وبعد أن تجرّب حظها في حكم الحياة بعيداً عن الإرادة الإلهية، فلا يبقى لها سوى أن تُذعن بأن تجربتها الشخصية غير قادرة على جعل الحياة مهداً مستقراً لنشوء الإنسان بسعادة واطمئنان، وحينها سيأذن الله تعالى لوليه الأعظم (عجل الله تعالى فرجه) بأن يظهر ليقود الدنيا نحو السعادة والأمن والاطمئنان.
قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ
ص: 280
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)(1)
وقال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(2)
وقال تعالى: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(3)
فرغم شمول وسعة الإرادة الإلهية، ورغم قدرته جل وعلا على خلق الإنسان مجبراً وكالآلة، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك، وإنما جعل الإنسان مريداً مختاراً، فبإرادته تعالى كان الإنسان مريداً، وتفصيل هذه الخصيصة يكون في بحث العدل الإلهي والاختيار الإنساني والأمر بين الأمرين إن شاء الله تعالى.
ص: 281
ص: 282
إن من أهم الصفات الثبوتية الفعلية هي صفة العدل، وقد أُفرد لها بحث الأصل الثاني من أصول الدين، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الصفات الفعلية كالخالقية في بحث القدرة.
وعليه، فنذكر هنا فقط صفة (الكلام الإلهي) وبتبعها صفة (الصدق).
لقد أثبتت النصوص الشرعية صفة المتكلم له تعالى بعبارات مختلفة، قال تعالى (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(1)
وقال تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ باللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى باللهِ وَكِيلاً)(2)
وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ
ص: 283
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(1)
وقد وقع الخلاف – كالعادة – في تصنيف هذه الصفة على عدة آراء، نذكر منها:
أ/ أنها صفة ذاتية، قديمة بقدمه تعالى وعين ذاته، وترجع إلى نحو من أنحاء القدرة أو العلم.
ب/ أنها صفة ذاتية مغايرة للصفات الذاتية الأخرى، (للأشاعرة).
ج/أنها صفة فعلية حادثة، وهي عين الفعل، فمحلّها الفعل نفسه – لا الذات المقدسة-،(للإمامية).
توضيح رأيي الأشاعرة والمعتزلة(2):
قالت الأشاعرة:
إن الكلام صفة ذاتية لها معنى مستقل لا يرجع إلى العلم أو القدرة أو بقية الصفات، وحقيقتها أنها صفة تكون مدلولاً للكلام اللفظي، فاللفظ يحكي عن واقع نفسي، ذلك الواقع النفسي هو الكلام النفسي، وهو غير التمني والترجي والعلم والقدرة بل وغير الطلب، فالكلام النفسي هو في الإخبارات، وهو بعينه الطلب في الإنشاءات.
وقد استدلوا بقول القائل:
ص: 284
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جُعل اللسان على الفؤاد دليلا (1)
وقد شغلت هذه الفكرة مساحة من التفكير الكلامي والفلسفي، ورُبطت بشكل وبآخر بمسألة خلق القرآن! إذ ما دام الكلام النفسي صفة ذاتية قديمة فالقرآن سيكون قديماً.
وبعبارة أخرى: أن الأشاعرة قالوا: إن لله كلامين: كلاماً نفسياً، وكلاماً مقروءاً، والأول قديم، والآخر حادث.
أما ما هو الكلام النفسي فهو محل خلاف شديد بينهم، ويمكن بيانه بالتالي:
إن الجمل قسمان: إخبارية، وهي تقوم على العلم، ووراء العلم يوجد شيء.
وإنشائية فهي الأمر والنهي وبقية الأساليب الإنشائية، ووراء الأمر والنهي و...، يوجد شيء، فوراء الإرادة والكراهة يوجد شيء ما.
وذاك الشيء الموجود وراء العلم في الإخبارية ووراء الإرادة والكراهة في الإنشائية هو الكلام النفسي، وأما هذه الألفاظ فهي تعبير عن ذلك الكلام النفسي، ومعه فالكلام النفسي عين الذات المقدسة، فيكون قديماً.
وحينها يُقال: إن المقصود من أن القرآن الكريم قديم هو الكلام النفسي لا الكلام الموجود المقروء بين أيدينا اليوم لأنه تعبير عن ذلك الكلام النفسي.
ص: 285
ورد المعتزلة عليهم:
قبل مطالعة أدلة الكلام النفسي، وأنه صفة غير العلم والقدرة والتمني والترجي والطلب و...، سماها الأشاعرة بالكلام النفسي، لا بد من تقديم معنى محصل لهذا الكلام النفسي نتصوره ويكون معقولاً، فما زلنا لا نحمل صورة واضحة عن معناه، وهذا ما عجز عن تقديمه حتى الأشاعرة أنفسهم. خصوصاً مع عدم وجود أي إشارة – ولو من بعيد – عن الكلام النفسي لا في الكتاب ولا في السنة بل ولا كلام الأعلام!
وقالت المعتزلة:
الكلام فينا هو صوت يتولد عن الحنجرة ضمن سياقات خاصة من أوتار صوتية وهواء متخلل وهواء وسيط يحمل الذبذبات الصوتية وينقلها إلى المقابل، وهذه الوسائط – والسياقات – منفية عنه تعالى لنفي الجسمية عنه تعالى. ولكن هذا لا ينفي أن يوجِد الله الكلام – بمعنى الصوت – ويخلقه في جسم من الأجسام، فيصدر ذلك الصوت عن ذلك الجسم، كما حدث للشجرة التي كلمت موسى (على نبينا وآله وعليه السلام)
فالكلام الإلهي إذن هو: خلقُ الله تعالى الصوتَ في جسم من الأجسام، لينقل مقاصده تعالى إلى البشر، فهي صفة فعلية لا ذاتية.
أو قل: إن (المراد من الكلام الإلهيّ تلك الحروف والأصوات التي تُحدثها القدرة الإلهيّة بنحو معيّن في بعض الحقائق الخارجيّة؛ مثل: الشجرة،
ص: 286
والملائكة، وقلب الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعليه: فإنّ الكلام لا ينتمي إلى الصفات الإلهيّة الذاتيّة، ولا يُعدّ قديماً أو قائماً بالذات الإلهيّة، بل يمثّل واحداً من المخلوقات التي خلقها الله تَبَارَكَ وَتَعَالىٰ. والكلام الصادر من الشجرة، أو القادم من الملك على هيأة كتاب سماويّ هو كلام إلهيّ بلا شكّ.)(1)
وقد أشارت الروايات الشريفة إلى حقيقة حدوث الكلام الإلهي، وإلى أن كلام الله تعالى ليس بلسان جسماني كما فينا، وإنما هو خلق الله تعالى، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:... يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ ولَهَوَاتٍ، ويَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وأَدَوَاتٍ يَقُولُ ولَا يَلْفِظُ... يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَه كُنْ فَيَكُونُ، لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ ولَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ، وإِنَّمَا كَلَامُه سُبْحَانَه فِعْلٌ مِنْه أَنْشَأَه ومَثَّلَه، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً، ولَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً...)(2)
إن الكلام الإلهي يُطلق تارة ويُراد منه نفس الفعل الإلهي، فإذا أوجد الله تعالى الصوت في شيء ما، فإن نفس خلقه ذاك الصوت في الشجرة مثلاً يُطلق عليه كلام الله.
وأخرى يُطلق ويُراد منه ما ينتج من فعل الله تعالى، أي المخلوق نفسه، وهذا المخلوق قد يكون لفظاً، كما في الحروف التي صدرت من تلك الشجرة، أو كما هو القرآن الكريم.
ص: 287
وقد يكون شيئاً آخر غير اللفظ، كما في تسمية النبي عيسى (عليه السلام) بأنه كلمة الله تعالى(1)، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)(2)
وقد تطلق الكلمة ويُراد منها الحكم والقضاء الإلهي، قال تعالى
ص: 288
(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَىٰ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)(1)
إن هناك مجموعة من الموانع تمنع من التزام قدم الكلام الإلهي، نذكر منها:
1/ إن البناء على أن كلام الله تعالى قديم يستوجب تعدد القدماء، وهو باطل بالضرورة كما اتضح أكثر من مرة.
2/إن الكلام مركب من الحروف والأصوات، والكلام السابق ينعدم بوجود الكلام اللاحق، والقديم لا ينعدم وجوده، لأنه خلف. فالكلام حادث.
3/لو كان كلامه تعالى قديماً للزم عليه الكذب –وحاشاه-، لأنه يُخبر عن أمور، مثل إرسال نوح (عليه السلام)، والطوفان، و...، فإذا كان الكلام قديماً فمعناه أنه يتحدث عن إرسال نوح (عليه السلام) قبل خلقه، فهذا إخبار، ولكنه لم يخلق نوحاً (عليه السلام) بعد، فهو إخبار عن أمر لم يتحقق بعد، وهو كذب، والعياذ بالله، وهكذا في بقية إخبارات القرآن.
والصحيح ما عليه أئمة أهل البيت من أن القرآن مخلوق وأن كلام الله حادث، وقد نطق بذلك القرآن الكريم.
الصدق:
ويلحق بمبحث الكلام الإلهي: بحث الصدق.
ص: 289
ويُعنى من الصدق: (مطابقة الكلام للواقع ونفس الأمر)، وهو يقابل الكذب (مخالفة الكلام للواقع).
ومن هذا يُفهم: أن الصدق صفة الكلام، وحيث إن الكلام حادث (إذ إنّه فعل من أفعال الله تعالى الحادثة كما ثبت سابقاً) فالصدق كذلك، لأنه وصف للكلام الحادث.
(إن هذه الصفة التي تعدّ من الصفات الفعلية، تشكل العمود الأساس في الوثوق بدعوات الأنبياء، لأنه –نعوذ بالله- لو كان يمكن تصور صدور الكذب عنه جل وعلا، لما بقيت هنالك ثقة لا بمسألة الوحي، ولا بالوعود الأخروية، ولا بالأخبار التي تحدثت عن المعارف الدينية، أو عن عوامل سعادة البشر وشقاوتهم، وبتعبير آخر: فإن أسس المسائل الدينية تنهار بصورة تامة بنفي هذه الصفة، ومن هنا يتضح مدى تأثير الإيمان بصدق الله في فهم حقائق الدين)(1)
أولاً:
دليل عقلي راجع إلى انتفاء القبح عنه تعالى، لأن الحسن والقبح عقليان كما ثبت في محله، وهنا نأخذ هذه النتيجة كأصل موضوعي، وقد تبنّاه المعتزلة والإمامية بقوة، على اختلاف في صياغته.
ويمكن بيان هذا الدليل العقلي بعدة بيانات، نذكر منها(2):
ص: 290
1/إن الكذب نقص، فهو قبيح، ولا يتصف الواجب بالقبيح، لأنه خلاف الكمال.
2/إنه تعالى حكيم، والحكيم لا يفعل القبائح رغم قدرته عليها كما هو واضح.
3/إن الداعي للكذب ليس هو إلا العجز والاضطرار، والله تعالى لا يُعجزه شيء ولا يضطره، لأنه القادر المطلق والقوي المطلق.
4/ لو جاز عليه الكذب لارتفع منه الوثوق والاعتماد بوعده ووعيده، لاحتمال تخلّفه في ثوابه وعقابه، وكذلك لانتفت فائدة الترغيب في الطاعات والترهيب من المعاصي، والتالي مخالف لضرورة العقل.
ثانياً:
الإجماع وهو للأشاعرة، فحيث إن مبناهم من أن التحسين والتقبيح شرعيان لا عقليان- لا يثبت الصدق، لذا لجؤوا إلى دليل آخر، فقالوا بالإجماع على ذلك، فدليلهم على اتصافه تعالى بالصدق هو الإجماع لا غير.
وبالنتيجة، فإن الكل متفق على اتصاف كلام الله تعالى بالصدق، إما لدلالة العقل أو للإجماع.
ويلحق بهذه الصفة اتصاف الله تعالى بانه صادق الوعد، وهو لا يخلف الميعاد؛ لأن خلف الوعد قبيح عقلاً.
ص: 291
ص: 292
سُمّيت سلبية لأنها لا تثبت كوصف لله تعالى إلا إذا سبقها حرف سلب، ذلك لأن إثباتها له جل وعلا يلزم منه نسبة النقص له جل وعلا، وهو تعالى منزّه عن أي نقص، ويطلق عليها أيضاً (صفات الجلال)، أي ما يُجلُّ الله تعالى عن أن يتصف بها، كما يُطلق على الصفات الثبوتية بصفات الجمال والكمال، لأنها تُعبّر عن كمال في الذات التي تتصفُ بها.
والصفات السلبية كثيرة، يجمعها عنوان: سلب كل نقص عنه جل وعلا، (وبعبارة أخرى يمكن القول: بأن جميع الصفات السلبية مجموعة في هذه الجملة، وهي: إن الله مقدّس ومنزّه عن كل ألوان العيوب والنقائص وعوارض وصفات الممكنات)(1)
والاسم الذي يُشير إلى هذه الحقيقة، هو: اسم (السُبّوح) و(القدّوس)، ولا بأس بالتوقف عند هذين الاسمين قليلاً:
أما (السبوح):
فهو من الفعل (سبَح)، وله معاني لغوية عديدة، وما يهمنا هو معنى
ص: 293
التنزيه، فإنّ (التسبيح: التنزيه)(1)
وقولك: (سبحان الله: معناه: تنزيهاً لله من الصاحبة والولد، وقيل: تنزيه الله تعالى عن كل ما لا ينبغي له أَن يوصف به)(2)
(كأنه قال: أبرّئ الله من السوء براءة)(3)
وسبوح صيغة مبالغة منه، ومعناه أيضاً (الذي يُنَزَّه عن كل سُوء)(4)
وعلى هذا، فإنه يمكن القول: إن التسبيح لله تعالى جاء للدلالة على التنزيه عن كل عيب ونقص.
وقد روي في هذا المعنى أنه جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسأله أعلمهم فقال له: أخبرني عن تفسير (سبحان الله)... فقال النبي (صلى الله عليه وآله): علم الله عز وجل أن بني آدم يكذبون على الله عز وجل فقال سبحان الله براءة مما يقولون...(5)
وروي عن طلحة بن عبيد الله، قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن تفسير سبحان الله فقال: هو تنزيه الله من كل سوء.(6)
وقد روي أنه سأل رجل عمر بن الخطاب فقال: يا أمير... ما تفسير سبحان الله؟ قال: إن في هذا الحائط رجلاً كان إذا سُئل أنبأ، وإذا سكت
ص: 294
ابتدأ، فدخل الرجل فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا أبا الحسن ما تفسير (سبحان الله)؟ قال: هو تعظيم جلال الله عز وجل وتنزيهه عما قال فيه كلُّ مشرك، فإذا قالها العبد صلى عليه كلُّ ملك.(1)
وعَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):...فَمَا تَفْسِيرُ سُبْحَانَ الله؟ فقَالَ (عليه السلام): أَنَفَةٌ لله، أمَا تَرَى الرَّجُلَ إِذَا عَجِبَ مِنَ الشَّيْءِ قَالَ سُبْحَانَ الله.(2)
وأنفةٌ لله تعالى أي: تنزيه لذاته الأحدية عن كل ما لا يليق بجنابه، يقال: أنف من الشيء إذا استنكف عنه وكرهه وشرف نفسه عنه.(3)
بالإضافة إلى هذا المعنى العام، فإنه قد ورد استعمال صيغة (سبحان الله) للدلالة على عدة معاني منها(4):
المعنى الأول: سبحان بمعنى براءة من الله وتنزه منه. كما في قوله تعالى (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ)(5)
المعنى الثاني: سبحان بمعنى التحميد، كما في قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي
ص: 295
سَخَّرَ لَنا هذا)(1)
المعنى الثالث: بمعنى التعجب والتعظيم لما اشتمل الكلام عليه، كما في قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ)(2)
وقوله تعالى (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ.)(3)وهو
تعجب ممن يقول ذلك.
وأما (القُدّوس) فمعناه التالي:
(قدس)... يدل على الطهر. ومن ذلك: الأرض المقدسة هي المطهرة. وتسمى الجنة حظيرة القدس أي الطهر. وجبرئيل (عليه السلام) روح القدس. وكل ذلك معناه واحد. وفي صفة الله تعالى القدوس وهو ذلك المعنى لأنه منزه عن الأضداد والأنداد والصاحبة والولد تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.(4)
فالقدوس (من الأسماء الحسنى، بمعنى صاحب القدس والمتّصف به وبالطهارة المعنويّة الحقّة والمنزّه عمّا يخالف القدس وعن كلّ ضعف ونقص وعيب ومحدوديّة وفقر، فهو قدّوس مطلق من جميع الجهات بذاته وفي ذاته)(5)
ص: 296
والخلاصة: (أَن هاتين الصفتين (السُّبوح والقُدوس) متقاربتان من حيث المعنى، فكلاهما يدلان على تنزيه الخالق- جلّ وعلا- من النقائص والعيوب، وقد جاء في الآيات والأَحاديث الكثير من الموارد المهمّة التي يجب تنزيه الخالق منها، ومن جملتها: الشريك، والولد، والتجسيم، وفعل العبث، ومن الطبيعي أَن التنزيه لا ينحصر بهذه الموارد، فيجب تنزيه الخالق من كل النواقص والعيوب)(1)
وهنا نقاط توضيحية:
الأولى: أن صيغة (سبوح) لم ترد في القرآن الكريم، وإنما وردت بصيغة (سبحان) (يسبح) (سبح)، وأما قدوس، فقد وردت في القرآن الكريم، قال تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(2)
الثانية: وردت صفة (السُّبوح) مقترنة بِالقُدوس في أَحاديث متعددة، وعلى سبيل المثال روي عن الرسول الأَكرم (صلى الله عليه وآله) أَنّه كان يقول في سجوده وفي ركوعه: سُبّوحاً قُدّوساً رَبَّ المَلائِكَةِ وَالرّوحِ.
وروي عن أَمير المؤمنين علي (عليه السلام) أَنه كان يقول: سبوحاً قدوساً تعالى أَن يجري منه ما يجري من المخلوقين.
وورد عن الأَئمّة الأَطهار (عليهم السلام) أنَّهم كانوا يقولون: يا قدوس يا نور
ص: 297
القدس، يا سبوح يا منتهى التسبيح.(1)
الثالثة: أن اسم القدوس ورد بعد اسم الملك في آيتين، قال تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(2)
وقال تعالى (يُسَبِّحُ لِلهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(3)
(ولعله لبيان أن كونه تعالى ملكاً يُفارق كون غيره ملكاً، فالملوكية جُبلت على الظلم والتعدي والإفساد، قال سبحانه: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ)(4)
وقال سبحانه: (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)(5)
فذكْرُه مع اسم (القدوس) لتبيين نزاهته من كل ما يُنسب إلى الملوك من الأفعال والصفات)(6)
فالله تعالى رغم أنه مالك لكل شيء، ولا يمكن لشيء أن يقف دون إرادته، ولكنه تعالى تنزه عن كل الصفات السلبية التي اتصف بها ملوك
ص: 298
الدنيا، فهو ملك عادل لا يحيف ولا يظلم أبداً.
الرابعة: ينبغي للمؤمن أن يعمل على أن يتصف بالنزاهة والطهارة المعنوية والمادية ما أوتي إلى ذلك سبيلاً، فإن النزاهة والطاهرة صفات كمالية اتصف بهما الباري جل وعلا، فيلزم على المؤمن أن يتمثل هاتين الصفتين في كل أفعاله وأقواله، على أن يكون مخلصاً في ذلك، ولا يعمل رياءً أبداً.
إن (...حظَّ العبد من هذا الاسم واتّصافه بهذه الصفة: أن يكون له قداسة وطهارة في أفكاره وعقائده، وفي صفاته وأخلاقه، وفي أعماله وآدابه، بحيث لا يشوبه خلل وانكدار في هذه المراتب الثلاث، ويكون منزّها عن كلّ عيب وانحراف في ظاهره وباطنه.
وأمّا من يظهر القدس في أعماله الظاهرة ويرائي ويتقدّس: فهو من المراءين المنحرفين، نعوذ بالله من شرورهم ومكائدهم.
فانّ شرّهم للإسلام والمسلمين أشدّ من شرور الكفّار والمشركين، فانّهم من مصاديق المشركين والمنافقين المعاندين في الحقيقة، ويدّعون ما ليس في باطنهم منه أثر، ويراؤون ما ليس في قلوبهم منه خبر، ويقولون ما لا يعلمون، وهم عن الحقّ لمبعدون.)(1)
وبعد هذه المقدمة، نذكر عددا من الصفات السلبية كالتالي:
ص: 299
أي إنه تعالى بسيط لا جزء له، وهذا ما تقدم بيانه في صفة التوحيد، حيث قلنا هناك ما نصه: إن واجب الوجود بسيط (غير مركب: لا من أجزاء ذهنية ولا من أجزاء خارجية حقيقية)، والدليل على هذا القسم من التوحيد: أن التركيب يستلزم الاحتياج إلى الأجزاء، والاحتياج خلاف وجوب الوجود.
فنكتفي بهذا القدر المتقدم.
الجسم هو ما له أبعاد ثلاثة: طول وعرض وعمق (ارتفاع)، والدليل على امتناع اتصاف الله تعالى بالجسمية بات واضحاً، إذ الجسم مركب، والمركب محتاج إلى أجزائه، والله تعالى ليس محتاجاً ولا مركباً.
وأيضاً: الجسم محتاج إلى المكان ليستقر فيه، والله تعالى غني مطلق. ولو كان محتاجاً لكان ممكناً لا واجباً.
وإذا لم يكن (جل جلاله جسماً) إذن:
أ/لا يقع في جهة دون جهة.
ب/ لا تمكن الإشارة الحسية له.
فما دام الله تعالى ليس جسماً، فإذن هو لا يقع في جهة دون أخرى، ولا تمكن الإشارة له بالإشارة المادية، لأنها تستلزم أن يكون المشار إليه في جهة معينة، بمعنى أنك عندما تشير إلى شيء، فإنك تتوهم خطاً ممتداً من طرف
ص: 300
إصبعك (المشير) وينتهي بالمشار إليه، فذلك المنتهى هو طرف الامتداد، وذلك الطرف هو الجهة، ومن ذلك الطرف يتولد يمين ويسار وفوق وتحت وأمام وخلف... وهذه الجهة منفية عنه تعالى، لأن الجهة إنما تتصور في الإشارة الحسية، وهي تتصور في عالم الأجسام فقط(1)،
وهو تعالى ليس جسماً، فلا جهة له تعالى.
ثالثاً: إنه تعالى ليس متحيزاً، لأن التحيّز هو: إشغال حيّز في المكان، والحيّز هو السطح أو البعد. ولو كان متحيزاً لكان محتاجاً إلى الحيْز، والحاجة سمة الممكن.
وأيضاً كل متحيّز محدود، ووجوب الوجود ينفي المحدودية.
البحث في هذه المسألة دقيق، ولكن نحاول أن نبينه بصورة إجمالية عبر النقاط التالية:
أولاً: قالوا في الفلسفة: هناك وجود، وهو الثابت العين، والمتحقق، وهناك ماهية، والماهية لها معنيان:
المعنى الأول: الماهية بالمعنى الأعم، أي ما يساوق الوجود، فلكل وجود ماهية، أي ثبوت وتحقق، فالماهية هنا بمعنى التحقق والثبوت والوجود، وهذا المعنى كما يصدق على الإنسان، يصدق على الله تعالى، فالله تعالى له
ص: 301
ماهية بالمعنى الأعم، أي له تحقق وثبوت ووجود.
المعنى الثاني: الماهية بالمعنى الأخص، أي ما به الامتياز، بمعنى حدّ الوجود.
بيانه:
أنا وانت، كلانا وجود، ولكن وجودنا متناهي، أي ليس وجوداً مطلقاً لا محدوداً، إذ الوجود المطلق واللا متناهي واللا محدود منحصر بالله تعالى، وأما غيره من الوجودات فهي وجودات متناهية محدودة بحد معين.
وحد الوجود هو ما يسمى بالماهية بالمعنى الأخص، فلوجودي حد معين، فأنا ابن فلان، واسمي فلان، موجود في المكان الفلاني والزمان الفلاني، ولي لون كذا، وهكذا. وبهذه الحدود يمتاز وجودي عن وجودك، لأن وجودك له حدود أخرى غير حدود وجودي.
إذن، الماهية بالمعنى الأخص هو حد للوجود، فهي لا تكون إلا في الموجود المحدود.
وهذا معناه: أن الله تعالى لا يُقال عنه: إن له ماهية بالمعنى الأخص، بمعنى حد الوجود، لأنه تعالى لا حدّ له.
ثانياً: الجوهر: هي الماهية التي إذا وُجدت في الخارج وُجدت لا في موضوع.
والعرض: هي الماهية التي إذا وُجدتْ، وُجدت في موضوع.
فزيد موجود في الخارج، ولكنه لا يحتاج إلى موضوع ما حتى يوجد في
ص: 302
الخارج، وأما البياض، فهو أيضاً موجود في الخارج، ولكنه لا يوجد إلا في موضوع معين، كالجسم مثلاً.
ثالثاً: إن الجوهر والعرض، هما من أحكام الماهية بالمعنى الأخص، وحيث إن الله تعالى منزه عن الماهية بالمعنى الأخص، إذن، هو تعالى لا جوهر ولا عرض.
فنفي الماهية بالمعنى الأخص يعني نفي الحدّ والمحدودية عنه تعالى، وبالتالي ينفي الجوهرية والعرضية عنه تعالى.
وقد أشارت الروايات إلى ذلك المعنى بوضوح، حيث روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لَيْسَ لَه حَدٌّ يُنْتَهَى إِلَى حَدِّه)(1)
وعنه (عليه السلام): (وحَدَّ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا عِنْدَ خَلْقِه إِبَانَةً لَهَا مِنْ شِبْهِه وإِبَانَةً لَه مِنْ شِبْهِهَا)(2)
للضد عدة معاني، نذكر هنا اوضحها، وهو: المساوي في القوة الممانع. وهذا ينفيه كونه تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(3). إذ الضد لا بد أن يكون مثل ضده الآخر، ليتمكن من أن يضاَّده، ولكنه حيث لا شيء مثل الله تعالى، فلا يوجد من هو بمستوى أن يكون ضداً لله تعالى، فكل شيء هو مخلوق له
ص: 303
ضعيف أمامه.
ومعه، فليس من الصحيح أن نفترض وجود ضدٍّ له، لكن قوته وقدرته وعلمه و...، أقل مما عند الواجب، فهو ليس كمثل الواجب، لكنه أقل منه؛ لأن قدرة الممكن وعلمه وقدرته إنما هي في طول ما عند الواجب. أي إن ما عند الممكن ليس مستقلاً البتة، بل هو من الواجب تعالى. وغير المستقل لا يمكن أن يزاحم المستقل أو يضاده.
أي إنه تعالى لا يتّصف بما لم يكن فيه ثم كان.
والمحال هو اتصافه تعالى بصفة حقيقية هي كمال له لم يكن متصفاً بها من قبل ثم اتصف بها.
وهذا يعني: أنه تعالى لا يكون فاقداً لكمال ثم يكتسبه، إنما كل كمال متصور فهو ثابت له تعالى من الأزل، وإلا، فلو كان فاقداً لبعض الصفات الكمالية، لم يكن واجب الوجود، لأنه سيكون محتاجاً للاستكمال.
فهو تعالى غني مطلق، باعتبار أن وجوب الوجود ينفي الحاجة، وللحاجة إطلاقات، نذكر منها اثنين:
فقدان الشيء لما هو كمال له أو لما ينبغي أن يثبت له، مع إمكان تداركه
ص: 304
بالغير.
فالصحة مثلاً كمال للإنسان، وينبغي أن تثبت له، فإذا فقدها أمكنه تداركها بالغير، فهو محتاج إلى ذلك الغير ليتدارك هذا الكمال.
فالحاجة هنا أمر عدمي (الفقدان)، ويقابله الغنى بمعنى الوجدان.
هذا الإطلاق منفي عنه تعالى بالضرورة لوجوب الوجود.
التعلّق بشيء خارج عن الذات من أجل الذات أو الصفات، فأنت تحتاج إلى غيرك في وجودك وعلمك و... ويقابله الغنى بمعنى عدم التعلّق.
وهذا الإطلاق أيضاً منفي عنه تعالى بوجوب الوجود.
فتحصّل: أنه تعالى لا يوصف بالفقر بمعنى أنه لا يحتاج إلى الغير ولا يفقد أي كمال أبداً. وهذا ينتج نتيجة مهمة، وهي: أنه تعالى واجب الوجود ليس فقط في وجوده، وإنما هو واجب الوجود من كل جهة، فعلمه وقدرته وحياته وكل كمال له فهو واجب الوجود.
هذا وقد ذكروا عدة أدلة على غناه وعدم حاجته (جل وعلا) مطلقاً، نذكر منها واحداً، وهو:
لو كان (تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا) محتاجاً إلى غيره في أي شيء فُرض، فذلك الغير لا يخلو: إما أن يكون واجب وجود، أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، والأول تبطله أدلة التوحيد المتقدمة التي أثبتت أنه لا واجب وجود
ص: 305
إلا الله تعالى، والثاني باطل أيضاً، لأن الممتنع هو لا شيء، فكيف يصح أن يُعطي شيئاً للموجود، والثالث باطل أيضاً، لأن الفرض أنه ممكن الوجود، أي إنه محتاج في أصل وجوده وفي استمرار وجوده، في ذاته وصفاته وأفعاله إلى غيره وهو الواجب، فكيف يكون الواجب هو محتاجاً إليه وكل ما عند الممكن إنما هو من الواجب؟!
إذن لم يبق إلا أن نقول: إن الله تعالى غني مطلق، ولا يحتاج إلى أي شيء خارج ذاته.
نكتة تربوية:
يؤكد القرآن الكريم على أن الله تعالى غني مطلق، وعلى أن الإنسان غارق في الحاجة، يقول تعالى: (وَقالَ مُوسىٰ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(1)
وقال تعالى: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(2)
وقال تعالى: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(3)
ص: 306
وقال تعالى: (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(1)
وقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(2)
ومن هذه الآيات الكريمة وأمثالها نستنتج:
أولاً: أن الله تعالى عندما كلّف البشر بالتكاليف الشرعية، لم يكن يبغي من ورائها المنفعة لنفسه، لأنه تعالى غني مطلق، وإنما كلّفهم لمصلحتهم هم، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه وتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، ولَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه)(3)
ثانياً: أن العقل يحكم بلزوم تعلّق الفقير بالغني الذي يستطيع أن يدفع الفقر والحاجة عنه، وليس من الصحيح أن يتعلق الفقير بفقير مثله، لأن ضم التراب إلى التراب لا يعطي غير التراب.
ثالثاً: إذا كان كل البشر فقراء في ذاتهم، فلا داعي إذن أن نخدع أنفسنا ببعض المتعلقات التي تكون تحت أيدينا، ولا داعي أيضاً إلى أن نحتقر غيرنا بداعي الفقر المادي أو العوز الفكري، وقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) أنه قَالَ: مَنِ اسْتَذَلَّ مُؤْمِناً واسْتَحْقَرَه لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِه ولِفَقْرِه شَهَرَه اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
ص: 307
رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ.(1)
الألم على قسمين(2):
أي سوء المزاج وعدم انتظام عمل أعضاء الجسم بصورة منتظمة مما يُسبب الإحساس بالألم.
وهو إدراك المنافي. أي أن يدرك الموجودُ شيئاً ينافي ذاته أو صفاته أو أفعاله.
والله تعالى لا يوصف بكلا الألمين، أما الأول فلأنه مرتبط بالجسم، والله تعالى ليس جسماً، وأما الثاني فلأنه ليس هناك ما ينافي الذات المقدسة، إذ لا ذاته تعالى ولا صفاته ولا أفعاله منافية له تعالى، فلا ألم عقلياً له تعالى، وإنما يتصور الألم العقلي في عالم الإمكان حيث التزاحم والتضاد.
وبالمقابلة فإن اللّذة على قسمين أيضاً:
وهي المرتبطة باعتدال المزاج وعدم وجود خلل في الأعضاء، ونفيها عن
ص: 308
الله تعالى واضح جداً لأنها مرتبطة بالجسم، والله تعالى ليس جسماً.
أي إدراك الملائم للذات، وحيث إنه تعالى يدرك ذاته وصفاته وجميل فعله، فهو يدرك الملائم. مع ملاحظة أن إطلاق صفة أو اسم اللذة عليه تعالى يحتاج إلى إذن شرعي؛ بناءً على توقيفية الأسماء، بل حتى لو بنينا على
عدم التوقيفية؛ لأن اسم (الملتذ) أو (المنبسط) شديد الالتصاق بالجسمية، لذا يقتضي الاحتياطُ عدمَ التسمية به.
على أنه يوجد رأي ينفي حتى اللذة العقلية عنه جل وعلا؛ إذ (منَع بعضُهم عن توصيفه سبحانه باللذة العقلية أيضاً؛ لعدم الإذن الشرعي بذلك... ومن المانعين له المحقق البحراني حيث قال(1): اتفق المسلمون على عدم إطلاق هذين اللفظين عليه تعالى... وأما الفلاسفة فإنهم ... لمّا فسروا اللذة بأنها إدراك الملائم، أطلقوا عليه لفظ اللذة، وعنوا بها علمه بكمال ذاته ، فلا نزاع معهم إذن في المعنى، إذ لكل أحد أن يفسر لفظه بما شاء، لكنّا ننازع في إطلاق هذا اللفظ عليه؛ لعدم الإذن الشرعي.)(2)
وهنا عدة نقاط:
من الواضح أن الرؤية البصرية تحتاج إلى أن يكون المرئي
ص: 309
ذا جهة وجسم، وهذا منفي عنه تعالى لوجوب وجوده. فينتج بكل وضوح امتناع رؤيته تعالى بالرؤية الحسية. وهذا يعني أن نفي الرؤية البصرية عنه جل جلاله هو من فروع وثمرات نفي الجسمية عنه، ولكن أُفرد البحث فيها بالخصوص للخلاف الواقع فيها ولأن المخالف حاول أن يستدل بالقرآن نفسه على إثبات الرؤية، فالكلام صار فيها أطول من غيرها من الصفات المتفرعة على صفة الجسمية.
وعلى كل حال، فنفي الجسمية يلزم منه نفي الرؤية البصرية.
قال الشيخ الطوسي (رحمه الله): (الله تعالى ليس بمرئي بحاسة البصر، بدليل أن كل مرئي لا بد أن يكون في جهة، وهو محال)(1)
بالإضافة إلى تصريح القرآن الكريم بامتناع رؤيته جل وعلا.
قال تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(2)
نعم، الرؤية القلبية جائزة، بمعنى العلم بوجود الله تعالى واستشعار عظمته وهيبته، وتذكره جل وعلا وفي كل لحظة، وما شابه هذه المعاني المعنوية التي لا تستلزم التجسيم ولا التحديد، وفي ذلك روي أنه بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، إِذْ قَامَ إِلَيْه رَجُلٌ يُقَالُ لَه ذِعْلِبٌ، ذُو لِسَانٍ بَلِيغٍ فِي الْخُطَبِ شُجَاعُ الْقَلْبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟
ص: 310
قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّاً لَمْ أَرَه. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ رَأَيْتَه؟ قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، لَمْ تَرَه الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأَبْصَارِ، ولَكِنْ رَأَتْه الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ)(1)
ومع ذلك فإنه ظهر رأيان في قبال هذا الرأي:
ص: 311
حيث جوّزوا رؤيته جل وعلا بالرؤية المادية، لأنهم أصلاً اعتبروا (إلههم) مادياً، ولا كلام لنا معهم لبداهة بطلان ما ذهبوا إليه.
حيث قالوا بإمكان الرؤية الحسية له تعالى وإنْ كان مجرداً! حتى قال قائلهم: (وَنَدِينُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا جَاءَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ رَسُولِ الله.
وَنَقُولُ: إنَّ الْكَافِرِينَ، إذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ، عَنْهُ مَحْجُوبُونَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: { كَلّاً إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ }، وَأَنَّ مُوسَى سَأَلَ اللَّهَ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ اللَّهَ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَجَعَلَهُ دَكّاً فَعَلِمَ بِذَلِكَ مُوسَى أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا)(1)
وقال أبو الحسن الأشعري في شرح معتقدات السنة: (إن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، وإنه ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ وله يدان وعينان ووجه، وغير ذلك من الأعضاء) ثم قال: (وبكل ما ذكرنا من قولهم نقوله وإليه نذهب)(2)
كلٌّ من النافي لإمكان الرؤية ومثبتها اتفقوا على قضيتين:
ص: 312
الأولى: أنه في الآخرة سيحصل انكشاف تام وعلم لا ريب فيه بوجوده تعالى حتى عند غير العارفين به تعالى، بحيث لا تبقى شبهة في وجوده تعالى، ولعل هذا من تطبيقات قوله تعالى (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(1)
الثانية: أن الرؤية بالطريقة المادية في عالمنا –عالم الدنيا- (مدّ الطرف لجسم مادي) منفية عنه تعالى.
فالخلاف إذن على إمكان الرؤية البصرية يوم القيامة، وقد استدل المجوّزون للرؤية البصرية بعدة أدلة نذكر منها التالي:
استدلوا على ذلك بالوقوع، حيث قالوا: إن القرآن الكريم يحكي طلب النبي موسى (عليه السلام) رؤية ربه تعالى، ولو كانت الرؤية محالة لما طلبها. إذن الرؤية ممكنة، وإذا كانت ممكنة فيمكن أن تقع، نعم هي في الدنيا لا تقع، ولذلك لم تقع للنبي موسى (عليه السلام)، والمهم أنها ممكنة لا مستحيلة.
قال تعالى (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(2)
ص: 313
والجواب:
أن سياق الآيات يدلّ على أن النبي موسى (عليه السلام) لم يطلب الرؤية له، بل طلبها لقومه بعد أن كان بيّن لهم امتناع ذلك، لكن إصرارهم على ذلك جعل منه يطلب ذلك من باب إقناعهم باستحالة ذلك. حيث إنهم سألوا النبي موسى (عليه السلام) أن يسأل ربه تعالى أن يريه نفسه له ويصفه لهم بعد أن سمعوا كلامه، حيث علموا أنهم لا يستطيعون رؤيته تعالى. لذا قال النبي موسى (أرني)، فهو في الحقيقة ليس طلباً من النبي، وإنما من قومه على لسانه.
وما ذكر مستفاد من بعض الروايات الشريفة، فعن علي بن محمد بن الجهم، قال:
حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له: فما معنى قول الله عز وجل: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني- الآية) كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أن الله تعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟
فقال الرضا (عليه السلام): إن كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) علم أن الله تعالى أعزّ عن أن يُرى بالأبصار، ولكنه لمّا كلمه الله عز وجل وقرّبه نجياً، رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثم اختار منهم سبعة آلاف ثم اختار منهم سبعمائة، ثم
ص: 314
اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه، فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسى عليه السلام إلى الطور وسأل الله تبارك و تعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة، ثم جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه.
فقالوا: لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة!
فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا، بعث الله عز وجل عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.
فقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إياك، فأحياهم الله وبعثهم معه.
فقالوا: إنك لو سألت الله إن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته.
فقال موسى (عليه السلام): يا قوم، إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه.
فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله.
فقال موسى (عليه السلام): يا رب، إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله جل جلاله إليه: يا موسى اسألني ما سألوك، فلن
ص: 315
أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى (عليه السلام): (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه) وهو يهوي (فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) بآية من آياته (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي (وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) منهم بأنك لا ترى.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.(1)
إن القرآن الكريم حكى نظر أهل الجنة إلى ربهم تعالى، قال تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(2)
والنظر هو تقليب الحدقة الذي تترتب عليه الرؤية والإبصار وإدراك المرئي، مما يعني إمكان أن يُرى الله تعالى يوم القيامة بالرؤية البصرية، بل ووقوعه بنص الآية.
ويُجاب:
هذا النظر بهذا المعنى محال عليه تعالى، لأنه يستلزم أن يكون المرئي جسماً، وهو تعالى ليس بجسم، فلا بد أن يُراد به معنى مجازياً، والذي يمكن تفسيره به هو:
أولاً: أن النظر هنا معنوي، أي إنهم ينظرون إلى نعمة الله تعالى ورحمته و... وقد حُذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو أمر ذائع في اللغة
ص: 316
العربية.
فالمعنى: أن وجوه المؤمنين ناضرة، (يعنى مشرقة تنتظر ثواب ربها)(1)
أو قل: (مشرقة مضيئة، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملأ القلب سروراً عند الرؤية.
نضر وجهه ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر. والنضرة مثل البهجة والطلاقة، وضده العبوس والبسور، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله عليها من النور علامة للخلق والملائكة على أنهم مؤمنون مستحقون الثواب)(2)
أما وجوه الكافرين، فقالت عنهم الآيات البعدية (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(3)
(يعني وجوه أهل الكفر. والبسور ظهور حال الغمّ في الوجه معجلًا قبل الإخبار عنه... والفاقرة الكاسرة لفقار الظهر بشدة، ومثل الفاقرة: الداهية والآبدة.)(4)
ثانياً: أن المقصود من (ناظرة) هو منتظرة، أي إن تلك الوجوه الناضرة المنتعشة تنتظر ربها ورحمته ولطفه وعنايته، وفي ذلك روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه مع الزنديق الذي سأله عن بعض متشابهات القرآن: الناظرة في بعض اللغة هي: المنتظرة ألم تسمع إلى قوله تعالى: (فَناظِرَةٌ بِمَ
ص: 317
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(1)أي:
منتظرة بم يرجع المرسلون.(2)
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله تعالى):
(إلى ربها ناظرة) معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه أن يصل إليهم... والمراد به الانتظار والتأميل، وأيضاً فإنه في مقابلة قوله في صفة أهل النار (تظن أن يفعل بها فاقرة) فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب، والكفار يظنون الفاقرة، وكلُّه راجعٌ إلى فعل القلب)(3)
فالكفار وكما يُخبر القرآن عنهم (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(4)
وبعبارة أخرى:
قد يُقال: إن المراد من النظر هو النظر الحقيقي – بواسطة العين – وبلا تقدير، ويكون المعنى: أن المؤمنين عندما يدخلون الجنة سينظرون ويفتشون في الجنة علهم ينظرون إلى ربهم هناك، ولكنهم لا يرونه.
وهذا بعيد جدًا؛ لأن من يدخل الجنة سيكون عالماً علماً لا يساوره شك في أنه تعالى ليس جسماً ولا مادياً، فلا يمكن أن تقع العين عليه أبداً، ومع هذا
ص: 318
العلم كيف يصح بحثهم عنه تعالى!
من هنا، لا بد من التقدير في معنى النظر، بعد الاتفاق على أن النظر الحقيقي المادي غير مراد لمكان تجرده تعالى، والتقدير على أحد احتمالين:
الأول: أن يراد المعنى الحقيقي للنظر – أي مدّ الطرف- لكن مع تقدير كلمة يصح معها الحمل، فنقول: إن المعنى هو (إلى ثواب ربها ناظرة).(1)
الثاني: أن النظر هنا بمعنى الانتظار، و(إلى) اسم مفرد لكلمة (آلاء)، وحينئذ يكون المعنى: إن وجوه المؤمنين يوم القيامة منتظرة إلى (أي آلاء) ربها ونعمته، وهو دخول الجنة.
وهذا الانتظار لا قلق فيه ولا غمّ، لأنه يقع بعد تبشيرهم بأنهم من أهل الجنة، فيضمنون بذلك الرضا الإلهي، ولكن يبقون منتظرين تنفيذ الأمر بدخولهم الجنة.
والدليل على أن هذا الأمر يقع بعد تبشيرهم بالجنة وقبل دخولها:
أن الآيات الواردة بعد تلك الآيات المتقدمة تتكلم عن وجوه الكفار، فتقول (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ. تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ)(2)
فلو كان هذا الكلام بعد دخولهم جهنم لكان المناسب أن يعبر ب- (قد فُعل بها فاقرة)، أمّا وقد عبّر بالظن، فهذا معناه أنه قد حُكم عليهم بدخولها ولمّا يدخلوها.
ص: 319
والخلاصة:
أنه يظهر مما تقدم عدم صحة استدلال الأشاعرة بالآيات القرآنية المتقدمة على إمكان الرؤية، وحتى لو سلمنا ظهورها الأولي في إمكان الرؤية، ولكن هناك قرائن منفصلة تمنع من هذا الظهور، من قبيل قوله تعالى (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(1)
ومن قبيل الروايات الكثيرة النافية لإمكان الرؤية.
على أن هناك قرينة حالية عقلية – بحكم المتصلة- تمنع من ذلك الظهور، وهي: حكم العقل باستحالة الرؤية البصرية، وهذا الحكم العقلي مستفاد من حكم أكثر العقلاء باستحالة الرؤية لواجب الوجود. فيكون هذا الحكم بديهياً أو قريباً من البديهيات. فيصلح للقرينية. وعليه فلا بد من تأويل الآيات الظاهرة في إمكان الرؤية.
هناك الكثير من الروايات النافية للرؤية، والدالّة على استحالتها، والملاحظ أن تلك الروايات لم تكتف بدعوى نفي الرؤية والاستدلال عليها، وإنما دعت العقول إلى استنتاج هذه النتيجة من خلال التأمل وربط الآيات بعضها مع البعض الآخر.
وعندما نلاحظ الروايات الواردة حول مسألة الرؤية، وكثرة السؤال عنها وكيفيته ونوع السائل، نعرف بأن هذه المسألة كانت مطروحة وبشدّة في ذلك الزمن.
ص: 320
ومن أظهر تلك الروايات هي التالي:
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ الْمُحَدِّثُ أَنْ أُدْخِلَه عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) فَاسْتَأْذَنْتُه فِي ذَلِكَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ عَلَيْه، فَسَأَلَه عَنِ الْحَلَالَ والْحَرَامِ والأَحْكَامِ، حَتَّى بَلَغَ سُؤَالُه إِلَى التَّوْحِيدِ فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ:
إِنَّا رُوِّينَا: أَنَّ اللَّه قَسَمَ الرُّؤْيَةَ والْكَلَامَ بَيْنَ نَبِيَّيْنِ، فَقَسَمَ الْكَلَامَ لِمُوسَى ولِمُحَمَّدٍ الرُّؤْيَةَ.
فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): فَمَنِ الْمُبَلِّغُ عَنِ الله إِلَى الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ والإِنْسِ: (لَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ ولَا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً) (ولَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ)، ألَيْسَ مُحَمَّدٌ؟!
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: كَيْفَ يَجِيءُ رَجُلٌ إِلَى الْخَلْقِ جَمِيعاً فَيُخْبِرُهُمْ أَنَّه جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله، وأَنَّه يَدْعُوهُمْ إِلَى الله بِأَمْرِ الله، فَيَقُولُ: (لَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ) و (لَا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً) و (ليْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ) ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا رَأَيْتُه بِعَيْنِي وأَحَطْتُ بِه عِلْماً وهُوَ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ؟!
أمَا تَسْتَحُونَ! مَا قَدَرَتِ الزَّنَادِقَةُ أَنْ تَرْمِيَه بِهَذَا أَنْ يَكُونَ يَأْتِي مِنْ عِنْدِ الله بِشَيْءٍ ثُمَّ يَأْتِي بِخِلَافِه مِنْ وَجْه آخَرَ.
قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَإِنَّه يَقُولُ: (ولَقَدْ رَآه نَزْلَةً أُخْرى)؟
فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): إِنَّ بَعْدَ هَذِه الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا رَأَى حَيْثُ قَالَ:
ص: 321
(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) يَقُولُ: مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ مَا رَأَتْ عَيْنَاه، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا رَأَى فَقَالَ: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّه الْكُبْرى) فَآيَاتُ الله غَيْرُ الله، وقَدْ قَالَ اللَّه: (ولا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً)، فَإِذَا رَأَتْه الأَبْصَارُ فَقَدْ أَحَاطَتْ بِه الْعِلْمُ ووَقَعَتِ الْمَعْرِفَةُ.
فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَتُكَذِّبُ بِالرِّوَايَاتِ؟!
فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَاتُ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ كَذَّبْتُهَا ومَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْه أَنَّه لَا يُحَاطُ بِه عِلْماً ولَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ ولَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ.(1)
ص: 322
ذكرنا أن هناك صفات سلبية ذاتية –وكان الكلام فيها-، وسلبية فعلية، وهي المتعلقة بنفي النقص عن فعله جلّ وعلا، وفي الحقيقة أن البحث التفصيلي فيها سيكون في مباحث العدل الإلهي إن شاء الله تعالى، ولكن سنذكر هنا العديد من الصفات التي أثبتها القرآن للباري جل وعلا، والتي قد يظهر منها بدواً نسبة الأفعال السلبية له جل وعلا، وسنعرف حقيقة الحال فيها إن شاء الله تعالى، فنقول:
قد تقدم أن معنى الصفات السلبية هي الصفات التي يلزم من إثباتها لله تعالى نسبة النقص له جل وعلا، وبالتالي فلا بد أن يسبقها حرف نفي عند وصف الله تعالى بها، ولذا سًميت بالسلبية.
هذا ولكن نجد أن القرآن الكريم يثبت بعض الصفات لأفعال الله تعالى مما ظاهره النقص، كالكيد والمكر والقهر والتكبر والإضلال وغيرها، وهذا ما لا يتوافق مع وجوب الوجود.
وحتى تتضح الصورة فيها، نذكرها تباعاً مع بيان حقيقة الحال فيها:
ص: 323
ص: 324
يقول تعالى: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً)(1)
ويقول تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)(2)
ويقول تعالى )أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ((3)
ويقول تعالى )وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ((4)
وقال تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَىٰ الصَّلاةِ قامُوا كُسالىٰ يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً)(5)
هذه الآيات صريحة في وصف فعل الله تعالى بالكيد والمكر والخداع والاستدراج و...، وهي من الصفات غير المحبذّة كما هو واضح.
ص: 325
الجواب:
بدايةً، نعطي قاعدة عامة في كل ما سيأتينا من الصفات المشار إليها، وهي الآتي:
أ: أن الشارع الأقدس لم تكن له لغة خاصة في خطاباته مع الناس، وإنما هو استعمل اللغة العربية وقوانينها المعروفة من دلالة اللفظ على المعنى بالوضع والاستعمال، والكنايات، والمجازات، وما شابه. ومعه، فلا بد من الرجوع إلى قوانين اللغة العربية لمعرفة المعنى المقصود من ألفاظ الشارع المقدس في القرآن والروايات.
ب: صحيحٌ أننا نرجع إلى قوانين اللغة العربية في فهم المعنى المراد من لفظ ما، ولكن علينا أن ننتبه إلى حقيقة، وهي: أن اللفظ قد يكون له معنى لغوي معين نجده في القواميس اللغوية، ولكن وبعد مرور فترة من الزمن، يكتسب ذلك اللفظ معنى جديداً مضافاً إلى معناه اللغوي، أو ربما لا يمتّ إلى المعنى اللغوي بصلة، ومن أمثلة ذلك لفظ (العصابة)، فأي واحد منا اليوم إذا سمع لفظ (عصابة)، فإنه يتبادر إلى ذهنه معنى سلبي تماماً يحكي عن مجموعة من قطّاع الطرق أو المجرمين، ولكن لو رجعنا إلى القواميس اللغوية لوجدنا أن معناها هو فقط: (الجماعة من الناس والخيل والطير)(1)
(والعُصْبةُ والعِصابةُ: جماعةُ ما بين العَشَرة إِلى الأَربعين)(2)
ص: 326
ومن ذلك أيضاً لفظ (الحيوان) حيث إنه وضع للدلالة على كل ما يدبّ على الأرض، ولكن اليوم حصل في معناه زحاف واضح بحيث صار يُستعمل في غير الإنسان، أي إنه حصل تضييق في مفهومه بإخراج الإنسان منه.
ج: وهذا يعني: أنه إذا ورد لفظ ما في نص شرعي، فلا بد أن نرجع إلى زمن صدور النص لنعرف ما هو المعنى الذي كان يُستعمل فيه اللفظ آنذاك، ونفسّر اللفظ بالمعنى المقصود في ذلك الزمن، والذي قد يكون هو نفس المعنى المستعمل في زمننا، وقد يكون غيره كما أوضحنا.
وهذه الملحوظة لا بد أن نضعها في الحسبان في كل الصفات التي نتكلم فيها في هذا التفصيل.
إذا تبين هذا نقول:
الكيد في اللغة: ضرب من الاحتيال، وقد يكون مذموماً وقد يكون ممدوحاً، وإنْ كان يستعمل في المذموم أكثر، وكذلك الاستدراج والمكر، ويكون بعض ذلك محموداً.(1)
وبنفس المعنى جاء المكر، قال الراغب في مفرداته: (المَكْرُ: صرف الغير عمّا يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكر محمود، وذلك أن يتحرّى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال [تعالى] (والله خَيْرُ الْماكِرِينَ)(2).
ومذموم، وهو أن
ص: 327
يتحرّى به فعل قبيح، قال تعالى: (ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه)(1)(2) فالكيد لغة هو العمل الذي يخفى على الآخر (احتيال)، وهو قد يكون ممدوحاً، وقد يكون مذموماً، مما يعني أنه من الصفات التي تتلبس بأكثر من عنوان حسب ما تتعلق به، تماماً كضرب الولد، فإنه إن كان للتأديب كان حسناً، وإن كان للتشفّي كان قبيحاً، والكيد كذلك، فإن كان لخديعة الآخر بما ليس بحق، كان قبيحاً، وإن كان لرد كيد الكائدين والتخلص من شرورهم كان حسناً.
نعم، تعارف عندنا، استعمال الكيد في الأمور المذمومة، ولكن كثرة استعماله فيه لا تنفي إمكان استعماله في الممدوح والحسن.
ومعه نقول: إن نسبة الكيد إلى الله تعالى لا محالة تُحمل على الممدوح منه، لما ثبت من حكمته تعالى، ولما ثبت من أنه تعالى لا يخاف من أحد حتى يلجأ إلى الحيلة والمكر في أخذ حقه منه مثلاً، ولما ثبت أيضاً من أنه لا قوي يضادّه حتى يحتاج إلى أن يتحايل عليه بعمل خفي ليثني قوته ويرديه، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
والمعنى المقبول لذلك هو التالي:
إن كيد الكافرين يكون بالتحايل على المؤمنين ومحاولة خداعهم وإظهار الإيمان لهم، أو محاولة إيقاعهم في الفخ ليقضوا عليهم، أو محاولة إخفاء الأدلة
ص: 328
والحجج على الحق ليخدعوا الناس عن الدين الحق.
أما الكيد من الله تعالى فهو:
مجازاة الكافرين على ما فعلوه من كيد ومكر سيء، فيجازيهم بالعذاب.
أو ينصر المؤمنين بطريقة لا تخطر على قلب الكافرين، فهو يكيد بالكافرين بمعنى يُخفي عنهم الطرق التي ينصر بها عباده المؤمنين، والتي سيجازيهم بها اليوم أو غداً.
ونفس الكلام يُقال في المكر، حيث إن (المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم، وهو الاقتران بنوع من الشيطنة، وعلى هذا فإنه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد...)(1)
وهذا المعنى هو ما أطبق عليه مفسرونا رضوان الله عليهم، وننقل بعض كلماتهم:
جاء في تفسير علي بن إبراهيم: (انهم يكيدون كيدا) أي يحتالون الحيل (وأكيد كيداً) فهو من الله العذاب.(2)
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله تعالى) في تبيانه: (إنهم يكيدون كيدا) أي يحتالون في رفع الحجج وإنكار الآيات ويفعلون ما يوجب الغيظ... فقال تعالى (وأكيد كيداً) أي أجازيهم على كيدهم، وسمي الجزاء على الكيد باسمه لازدواج
ص: 329
الكلام.
وقيل: المعنى: أنهم يحتالون لهلاك النبي وأصحابه، وأنا أسبّب لهم النصر والغلبة وأقوّي دواعيهم إلى القتال، فسمى ذلك كيدا من حيث يخفى عليهم ذلك.(1)
وقال الشيخ الطبرسي (رحمه الله تعالى) في جوامع الجامع: (إِنَّهُم يَكِيدُونَ) يَحتَالُونَ في إيْقَاعِ المكْروهِ بكَ وبِمَنْ مَعَكَ. (وَأَكِيدُ كَيْداً) أُدَبِّرُ ما يَنْقُضُ كَيْدَهُم واحتِيَالَهُم مِن حيثُ يَخْفَى عليهم.(2)
ونفس المعنى يُقال في كون الله تعالى أسرع مكراً من الكافرين، فمعنى: (الله اسرع مكراً) هو: أنه أقدر جزاءً على المكر، وذلك أنهم: جعلوا جزاء النعمة المكر مكان الشكر، فقوبلوا بما هو أشد. والسرعة عمل الشيء في وقته الذي هو أحق به، والمعنى: أن ما يأتيهم من العقاب أسرع مما أتوه من المكر، أي وقع في حقه.(3)
وبعبارة أخرى: أن القرآن الكريم يقول للكافرين: إن الله تعالى (يدبر عقابكم ويوقعه بكم قبل أن تدبروا في إطفاء نور الإسلام)(4)
ونفس الكلام يُقال في وصف كيده جل وعلا بأنه متين (إِنَّ كَيْدِي
ص: 330
مَتِينٌ)، حيث فُسّر بأن عذاب الله تعالى شديد.
قال الشيخ الطوسي (رحمه الله تعالى): معناه: إن (عذابي) وسماه كيداً لنزوله بهم من حيث لا يشعرون. وقيل: إنه أراد أن جزاء كيدهم، وسماه كيدا للازدواج على ما بينّا نظائره. ومعنى (متين) شديد قوي.(1)
وقال الشيخ الطبرسي (رحمه الله تعالى): (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي: عذابي قوي منيع، لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع، وسماه كيدًا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون.(2)
وأما ما يتعلق بالاستدراج.
فهو بمعنى (أن الله تعالى لا يتعجّل بالعذاب على الطغاة والعاصين المتجرئين وفقاً لسنته في عباده، بل يفتح عليهم أبواب النعم. فكلما ازدادوا طغياناً زادهم نعماً.
ومن هذا يتضح: أن الاستدراج يعني:
أ: إمهال العاصي وعدم استعجاله بالعقوبة، وهذا أمر حسن عقلاً كما هو واضح.
ب: زيادة النعم على العاصي، وهو أمر حسن بلا أدنى شك، كل ما في الأمر أن العاصي باختياره قد يختار الطريق الأسوأ لاستعمال هذه النعم.
ج: إنزال العقوبة بالعاصي بعد إتمام الحجة، وهذا أمر حسن أيضاً كما هو
ص: 331
واضح، وإلا قد تلزم الفوضى والاغترار بالحلم الإلهي وغيرها من اللوازم التي يذكرونها في بحث التكليف.
وقد حذّرت الروايات كثيراً من الاستدراج، فقد روي أنه سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الِاسْتِدْرَاجِ فَقَالَ: هُوَ الْعَبْدُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُمْلَى لَه، وتُجَدَّدُ لَه عِنْدَهَا النِّعَمُ فَتُلْهِيه عَنِ الِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ فَهُوَ مُسْتَدْرَجٌ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ.(1)
وهكذا فيما يتعلق بالخداع في قوله تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَىٰ الصَّلاةِ قامُوا كُسالىٰ يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً)(2)
فإنه يُحمل على أنه تعالى يجازيهم على خداعهم، وليس بمعنى أنه يمارس الخداع، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فعن الحسن بن علي بن فضال، عن الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، قال: سألته عن قول الله عز وجل (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) وعن قول الله عز وجل: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وعن قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) وعن قوله (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) فقال: إن الله تبارك وتعالى لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع، ولكنه عز وجل يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء، وجزاء المكر والخديعة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً...(3)
ص: 332
أو يكون بمعنى العذاب، وعبّر عنه بالخداع للملابسة مع كلام المنافقين، وهو ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (الخديعة من الله: العذاب)(1)
وكذا فيما يتعلق بالاستهزاء والسخرية.
فإن من الأمور التي يعلمها كل عاقل أن الاستهزاء بالآخرين والسخرية منهم أمر مبغوض عقلاً، وقد نهى القرآن عنه، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأَيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(2)
ولكن رغم ذلك نجد أن القرآن الكريم صرّح بنسبة الاستهزاء والسخرية إلى الله تعالى، قال تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(3)
وقال تعالى: (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلىٰ شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(4)
ص: 333
ولكن يُقال:
إن الاستهزاء وإن كان يُفهم منه معنى سلبي، ولكن معناه لا ينحصر بذلك، بل يُمكن أن يُراد منه معنى آخر غير سلبي، وعلى أقل التقادير فإنه إذا نُسب إلى الله تعالى فلا بد من صرفه عن معناه السيء إلى معنى يتناسب مع حكمته تعالى مما لا يتناسب مع كونه مستهزئاً بالمعنى المعروف، وهو ما أشارت له الروايات الشريفة، حيث فسّرت الاستهزاء منه تعالى بالمجازاة على الأعمال، ولكنه عبّر عنه بالاستهزاء من باب المقابلة لما كان يفعله الكافرون من الاستهزاء بأوامر الله تعالى وأحكامه. وقد تقدمت رواية بن فضال عن الإمام الرضا (عليه السلام) الدالة على هذا المعنى.
وعلى هذا المنوال جاءت كلمات المفسرين، قال الشريف الرضي (رضوان الله عليه): (والمراد بها: أنه تعالى يجازيهم على استهزائهم بإرصاد العقوبة لهم، فسمى الجزاء على الاستهزاء باسمه، إذ كان واقعًا في مقابلته، والوصف بحقيقة الاستهزاء غير جائز عليه تعالى، لأنه عكس أوصاف الحليم، وضد طريق الحكيم)(1)
فالصحيح إذن هو أنه: (ليس المقصود من السخرية في الآيات المباركة أنّ الله تعالى استهزأ بالكفّار والمنافقين لفظياً وسلوكياً كما يفعل البشر، بل المراد منه الاستهزاء بهم عن طريق معاقبتهم دنيوياً أو أخروياً إثر معاصيهم اللفظية والسلوكية؛ وهذا المعنى تدعمه الآيات نفسها.
ص: 334
مثلاً خاطب الله عزّ وجلّ الكفّار الذين سخروا من النبيّ نوح (عليه السلام) حينما كان يصنع السفينة قائلاً: )وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ((1)
وبعد ذلك ذكر حادثة الطوفان وكيف أنّه أغرقهم فرجع استهزاؤهم عليهم وأصبحوا هم الخاسرين، وهذا الهلاك في الواقع هو بمثابة استهزاء بهم ردّاً على استهزائهم، أي إهلاكهم إثر استهزائهم، وكأنّما الاستهزاء سببٌ لفنائهم الذي هو في الحقيقة تحقيرٌ لقدراتهم وإهانةٌ لهم.)(2)
ص: 335
ص: 336
ذُكرت هذه الصفة في القرآن الكريم ثمان مرات، ومعناها المتبادر: التغلب على الآخرين والتسلط عليهم وسلب حرياتهم وإذلالهم، وهو معنى سلبي، فكيف أثبته القرآن الكريم للذات المقدسة؟
والجواب:
أن ما ذُكر من معنى للقهر يمثل أحد استعمالاته، وليس الاستعمال المنحصر، إذ القهر كما يُستعمل في إذلال الآخر(1)، وهو الذي نُهي عنه في قوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)(2)أي لا تُذلّه، كذلك يُستعمل في معنى الغلبة، حيث قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (القهر: الغلبة والتذليل، ويُستعمل في كُلٍّ منهما)(3).
وهذا معناه: أن معنى (القهر) يتعين بالمتعلّق، أي إنه يتبين معناه من الشيء المقهور.
إذا تبين هذا نقول: هنا نقطتان:
ص: 337
وهي جاءت بنحوين:
النحو الأول: ست منها استعملت مادة (قهر) بصيغة المبالغة: (القهار) وقُرنت بصفة (الواحد)، والآيات الست هي:
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(1)
(قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(2)
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(3)
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(4)
(لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(5)
(يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ
ص: 338
الْقَهَّارِ)(1)
وهذا ما يفسره العلامة الطباطبائي في تفسيره بأنه يعني الأحدية، بمعنى أن مضمون الواحد القهار هي الأحدية.(2)
النحو الثاني: الآية السابعة والثامنة وردت بصيغة اسم الفاعل (القاهر) بدون الواحد، والآيتان هما:
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(3)
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)(4)
عندما نريد تفسير القهر الإلهي، فلا بد أن ننظر إلى جميع الصفات الإلهية على أنها لوحة واحدة متكاملة، لا أن ننظر لبعض مقطوعاً عن البعض الآخر، وهذه ملحوظة عامة في كل الصفات الإلهية، ومعه نقول:
إن المراد من القهر في الصفات الإلهية هو الغلبة، ولكن ليست الغلبة المقرونة بالكيد والمكر والحيلة والإذلال وغيرها من شوائب الصفات السيئة، كلا، لأن هذه الأمور تتنافى مع وجوب الوجود والغنى المطلق
ص: 339
والقدرة والحكمة، وإنما هو بمعنى آخر، يشمل الحالات التالية:
الحالة الأولى:
أنه تعالى قهر العدم بالوجود، بمعنى أنه تعالى أوجد الممكنات من العدم، فإن حقّها قبل أن يوجدها الله تعالى هو العدم لا غير، فلمّا أوجدها الله تعالى وأخرجها من كتم العدم فإنه قهر العدم.
الحالة الثانية:
أنه تعالى من القدرة والغلبة بحيث لا يمكن لأي شيء أن يقف بوجه إرادته لو أراد شيئاً ما، بلا حاجة إلى أن يلجأ إلى الأساليب الملتوية والخديعة والمداهنة، وإنما هو تعالى متسلط على أي شيء بنحو (كن فيكون).
وهذا لا يعني أن يعيش الفرد خوفاً من سلطته وغلبته جل وعلا بمعنى الخوف من ظلمه، كلا، فإن غناه عن ظلم غيره، وحكمته وعدله تجعل الفرد -وعلى عكس التعامل مع الأقوياء- يلجأ إليه جل وعلا، ويطمئن بالكون تحت رعايته وسلطته.
فهو تعالى قاهر للأعداء، وقاهر للأضداد والأنداد، بل هو قاهر لكل شيء بهذا المعنى.
الحالة الثالثة:
أنه تعالى قهر عباده على الاختيار، بمعنى أن قاهريته جل وعلا لا تعني أنه سلب الحرية والاختيار من الإنسان، بل على العكس تماماً، فإن قاهريته أبت إلا أن يكون الإنسان فاعلاً بالاختيار، مما يعني أن الإنسان هو مسؤول عن فعله وما يصدر منه، فلا يصح حينها أن يرمي البعض سوء فعله على قاهرية الله تعالى.
ص: 340
الحالة الرابعة:
أنه تعالى قهر عباده بأن جعل مصيرهم إليه شاؤوا أم أبوا، فالكل صائر إليه وراجع إليه، فهو الذي (قهر عباده بالموت والفناء). وهو ما تشير إليه بكل وضوح الآية الكريمة: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(1)
وكل هذه المعاني ترجع إلى حقيقة واحدة، وهي: (أنّ جميع الموجودات لمّا كانت مخلوقة لله وقائمة به، فهي محتاجة إليه في وجودها وجميع شؤونها، وترتدي لباس الذلّة والمسكنة أَمامه)(2)
وهذا ما يمكن أن نجده بكل وضوح من الروايات المفسرة لاسم القاهر والقهار، فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (...وأَمَّا الْقَاهِرُ فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى عِلَاجٍ ونَصَبٍ واحْتِيَالٍ ومُدَارَاةٍ ومَكْرٍ، كَمَا يَقْهَرُ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، والْمَقْهُورُ مِنْهُمْ يَعُودُ قَاهِراً، والْقَاهِرُ يَعُودُ مَقْهُوراً، ولَكِنْ ذَلِكَ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا خَلَقَ مُلَبَّسٌ (مُتَلَبِّسٌ) بِه الذُّلُّ لِفَاعِلِه، وقِلَّةُ الِامْتِنَاعِ لِمَا أَرَادَ بِه، لَمْ يَخْرُجْ مِنْه طَرْفَةَ عَيْنٍ، (غير أنه) أَنْ يَقُولَ لَه كُنْ فَيَكُونُ، والْقَاهِرُ مِنَّا عَلَى مَا ذَكَرْتُ ووَصَفْتُ، فَقَدْ جَمَعَنَا الِاسْمُ واخْتَلَفَ الْمَعْنَى وهَكَذَا جَمِيعُ الأَسْمَاءِ...)(3)
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (فَلَا شَيْءَ (إِلَّا الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الَّذِي
ص: 341
إِلَيْه مَصِيرُ جَمِيعِ الأُمُورِ، بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا، وبِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا، ولَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا)(1)
ومن هنا قال الشيخ الصدوق (رحمه الله تعالى): (القدير والقاهر معناهما أن الأشياء لا تطيق الامتناع منه ومما يريد الانفاذ فيها)(2)
ص: 342
الجبار أيضاً من الصفات التي أثبتها القرآن الكريم لله عز وجل في آية واحدة هي قوله تعالى: (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(1)
وهي كما ترى يتبادر منها معانٍ غير محبذة.
وقد أضحت طريقة بيان مثل هذه الصفة واضحة جلية، إذ عندما نرجع إلى اللغة نجد أن معناها هو التالي:
جبر: أصل واحد وهو جنس من العظمة والعلوّ والاستقامة. فالجبّار الَّذي طال وفات اليد، يقال: فرس جبّار ونخلة جبّارة وذو الجبّورة وذو الجبروت. وجبرت العظم فجُبر، ويقال للخشب الَّذي يُضمّ به العظم الكسير: جبّارة، والجمع جبائر.(2)
ومنه يتبين: أن الجبر يأتي على عدة معاني، منها: العظمة، والعلو، الاستقامة، إصلاح الكسر وترميمه.
وكما ترى فليس في المعاني اللغوية أي معنى سلبي، إنما الناس في
ص: 343
تعاملاتهم اليومية استعملوا الجبار في خصوص المتعالي ظلماً وجوراً، ولكنه استعمال من استعمالات مادة (جبر) وليس منحصراً بها، وقد استعمله القرآن الكريم في وصف بعض المنحرفين، فقد وصف البعض بأنه جبار بمعنى (من يضرب ويقتل ويدمر من منطلق الغضب ولا يتبع أمر العقل، وبتعبير آخر: هو من يجبر سواه على اتّباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء العظمة والتكبر الظاهري)(1)
قال تعالى: (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)(2)
وقال تعالى: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقىٰ مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)(3)
وقال تعالى: (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)(4)
ومعه، فإذا نُسب الجبر إلى الله تعالى، فإنه يتمحّض في الدلالة على:
أولاً: الغلبة والسيطرة والقهر.
وهو ما يظهر من قوله تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
ص: 344
السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(1)
وهذا المعنى يدخل تحت الصفة السابقة (القهار) ومعناه معناها.
ثانياً: الجبران.
أي تكميل نقص الغير، كما ورد في بعض الأدعية (يا جابر العظم الكسير...)، وهذا المعنى من التجبّر يدخل تحت الحكمة بمعنى الإتقان والدقة في الصنع، أو تحت الربوبية والتدبير، بمعنى أنه تعالى حيث إنه رب الجميع، فهو يدبّر أمورهم ويكمّل نقصهم.
إشارة:
إن كون الله تعالى جابراً وجباراً يختلف عن وصف المخلوق بذلك، ووجه الفرق أمور عديدة منها التالي:
أولاً: أن غير الله تعالى عندما يكون عالياً مقتدراً، فإنه قد يصدر منه الظلم والجور، وهو ما لا يمكن صدوره من الله تعالى، لغناه وحكمته كما تبين أكثر من مرة.
وبعبارة أخرى: أن غير الله تعالى لا يُؤمَن جانبه بالإطلاق، بل يبقى احتمال استعمال تسلطه في إضرار غيره وارداً، وهذا المعنى غير متصور في حق الله تعالى، فهو تعالى إنما يفعل في العبد ما فيه صلاحه، وإن ظنّ البعض أن ما وقع عليه من البلاء مثلاً هو في غير مصلحته، ولكن الله تعالى لحكمته ورأفته يفعل بالعبد ما هو صلاحه ولو من حيث لا يعلم.
ص: 345
ثانياً: أن غير الله تعالى إذا أراد أن يجبر غيره بمعنى أن يكمّله ويصلحه، فإنه لا يستغني عن المساعدين والآلات وما شابه، أما الله تعالى فهو الغني المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فهو تعالى جبار لا يُعان.
ثالثاً: أنه جل وعلا وإن كان جباراً قاهراً لعباده لا يمكن لشيء أن يقف دون إرادته، ولكن حلمه ورحمته تعالى قد سبقت جبره وغضبه وقهره، فهو جبار حليم رحيم ودود، وهذا ما يندر أن نجده في جبار غيره جل وعلا.
وما ألطف ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ِفي احتِجاجِهِ عَلى أَبي جَهل أنه قال له: أما عَلِمتَ قِصَّةَ إِبراهيمَ الخَليلِ (عليه السلام) لَمّا رُفِعَ فِي المَلَكوتِ، وذلِكَ قَولُ رَبّي (وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَ هِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام 75]، قَوَّى اللهُ بَصَرَهُ لَمّا رَفَعَهُ دونَ السَّماءِ حَتّى أَبصَرَ الأَرضَ ومَن عَلَيها ظاهِرينَ ومُستَتِرينَ، فَرَأَى رَجُلا وَامرَأَةً عَلى فاحِشَة فَدَعا عَلَيهِما بِالهَلاكِ فَهَلَكا، ثُمَّ رَأى آخَرَينِ فَدَعا عَلَيهِما بِالهَلاكِ فَهَلَكا، ثُمَّ رَأَى آخَرَينِ فَهَمَّ بِالدُّعاءِ عَلَيهِما بِالهَلاكِ، فَأَوحَى اللهُ إِلَيهِ:
يا إِبراهيمُ، اُكفُف دَعوَتَكَ عَن عِبادي وإِمائي ؛ فَإِنّي أَنَا الغَفورُ الرَّحيمُ الجَبّارُ الحَليمُ، لا تَضُرُّني ذُنوبُ عِبادي، كَما لا تَنفَعُني طاعَتُهُم... يا إِبراهيمُ، فَخَلِّ بَيني وبَينَ عِبادي فَإِنّي أَرحَمُ بِهِم مِنكَ، وخَلِّ بَيني وبَينَ عِبادي، فَإِنّي أَنَا الجَبّارُ الحَليمُ العَلاّمُ الحَكيمُ، أُدَبِّرُهُم بِعِلمي وأُنفِذُ فيهم قَضائي وقَدَري.(1)
ص: 346
إن التكبر من الصفات المذمومة كما صرحت بذلك الروايات الشريفة، يكفي أنه من محبطات الأعمال، وهو الذي جعل من إبليس ملعوناً مطروداً من الرحمة الإلهية، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الله بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَه الطَّوِيلَ وجَهْدَه الْجَهِيدَ، وكَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّه سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لَا يُدْرَى أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى الله بِمِثْلِ مَعْصِيَتِه، كَلَّا مَا كَانَ الله سُبْحَانَه لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً، بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِه مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَه فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ، ومَا بَيْنَ الله وبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِه هَوَادَةٌ، فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَه عَلَى الْعَالَمِينَ.(1)
ومعه فكيف نتعقل وصف الله تعالى بالمتكبر كما في قوله تعالى (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(2)؟!
والجواب: لا يختلف كثيراً عما تقدم من أجوبة، فإن المتكبر من الكبير بمعنى العظيم وخلاف الصغير، والله تعالى بلا شك هو أعظم العظماء، بل لا يُقاس
ص: 347
به عظيم، وكل ما دونه فهو صغير حقير أمامه، وعلى هذا فتكون هذه الصفة من الصفات الكمالية له جل وعلا، ولا يلزم منها نسبة النقص له جل وعلا.
نعم، في غيره من الممكنات، حينما يحاول ممكن فقير أن يتشبث بعظمة مصطنعة، ويجعل منها سبباً لاحتقار الآخرين والتعالي عليهم، تكون تلك الصفة مذمومة.
أما في الله تعالى، فحيث إنه الكبير ولا يُقاس به أحد، فالكبرياء والتكبر لا يكون على نحو الحقيقة إلا له جل وعلا.
ص: 348
نحن نعلم أن معنى الإرث هو: انتقال مال ما من شخص إلى آخر، بأنْ يموت الأول، فينتقل ملكه إلى الثاني، والثاني لم يكن مالكاً لهذا المال قبل موت الأول.
هذا هو المعنى اللغوي للإرث، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة مادة (ورث): وهو أن يكون الشيء لقوم، ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب.
وواضح أن هذا المعنى لا يمكن نسبته إلى الباري جل وعلا، فكيف لا يكون مالكاً لشيء إلا بعد أن ينتقل له عن طريق موت الآخر؟! والحال أنه تعالى المالك الحقيقي لكل شيء؛ لأنه الخالق الوحيد لكل شيء؟
الجواب:
أن معنى الوارث وإن كان كما قيل، ولكن هناك خصوصية في الوارث، هي ما سوّغت تسمية الباري جل وعلا بالوارث رغم كونه المالك الحقيقي لكل شيء من دون إرث، وتلك الخصوصية هي: أن الوارث هو من يبقى بعد موت المورِّث، وإلا فلو مات قبله فلا يكون وارثاً له. وأيضاً الوارث
ص: 349
يأتيه المال من دون أن يتعب فيه، فهو حصول على شيء من دون تعب.
وحيث إن الله تعالى هو الباقي بعد فناء الأشياء كلها، فهو من هذه الناحية وارث، أي إنه باقٍ بعد فناء كل شيء، وهو المالك لكل شيء من دون تعب ونصب، هذا فقط لا أكثر.
قال الشريف الرضي (رضوان الله عليه): فأما صفة اللَّه تعالى بأنه الوارث لخلقه كقوله: (وكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ)(1)وكقوله:
(ولله مِيراثُ السَّماواتِ والأَرْضِ)(2)فهو
مجاز. والمراد: أنه الباقي بعد فناء خلقه، وتقوّض سمائه وأرضه.(3)
وفسّر الشيخ الطبرسي (رحمه الله تعالى) قوله تعالى: (وكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) بمعنى: المالكين لديارهم، لم يخلفهم أحد فيها.(4)
والخلاصة: أن معنى إرث الله تعالى للمساكن بعد أهلها هو: (إشارة إلى خلوها من الساكنين، كما هي إشارة إلى أن مالكها الحقيقي هو الله سبحانه المالك لكل شيء، وإذا ما أعطى ملكاً اعتبارياً لأحد، فإنه لا يدوم له طويلاً حتى يرثه الله أيضاً).(5)
أو قل: إن (إِطلاق اسم (الوارث) على الله تعالى يعود إلى أنّ لكلّ
ص: 350
موجود في هذا العالم عمراً محدوداً، والموجود الأَزليّ الأَبديّ هو الله وحده، فهو بالنتيجة وارث كلّ شيء. أَجل، إِنّه سبحانه المالك الحقيقيّ المطلق لكلّ شيء دائماً وأَبداً، أَمّا اسم الوارث فإنّه يشير إِلى مالكيّة الله باعتبار بقائه عَزَّ اسمه بعد فناء الأَشياء.(1)
والاحتمال الآخر هو: أَنّه لمّا كان وارث الشيء هو من يملكه بلا تعب ولا عناء، وكان الله مالكاً لجميع الموجودات بلا تعب ولا عناء، فإنّه سبحانه يُسمّى الوارث.(2)
ملحوظة:
إن الإيمان بأن الوارث الحقيقي لكل شيء هو الله تبارك وتعالى، واستشعار واستحضار هذا المعنى في الذهن والسلوك، يستلزم أن يتم التعامل مع ما تحت أيدينا -من أموال ومناصب وجاه وما شابه- معاملة التخويل والتوكيل فقط، فلا نتجاوز حدود التوكيل، ولا نطمع بأكثر من التخويل، ولنتذكر قوله تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادىٰ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرىٰ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(3)
ص: 351
وقوله تعالى (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَىٰ الأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً.)(1)
ص: 352
ص: 354
أمَّا في القرآن الكريم، فمعنىٰ الهدىٰ والضلال لا يختلف كثيراً عن المعنىٰ اللغوي العامّ لهما، ولكن مع الالتفات إلىٰ التالي:
إنَّ مطالعة آيات القرآن الكريم فيما يتعلَّق بموضوعنا تكشف بصورة جليَّة أنَّ مفهوم (الهدىٰ) و(الضلال) من المفاهيم المشكَّكة لا المتواطئة، وبالتالي فله عدَّة مراتب، كما سنعرف ذلك إن شاء الله تعالىٰ.
فيقول القرآن مثلاً حكايةً عن أهل الكهف: [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىٰ ](1)
فالقرآن يُصرِّح بأنَّ الله تعالىٰ قد زاد أهل الكهف هدىٰ، ممَّا يعني أنَّ (الهدىٰ) له مراتب يمكن أن تزيد ويمكن أن تنقص.
ومن هنا فقد ذكر بعض العلماء أنَّ للهدىٰ والضلال معانٍ ستَّة، أو قل: مراتب ستَّة، ولكلِّ معنىٰ أو مرتبة منها شاهد قرآني.
قسَّم علماء الكلام اللطف إلىٰ قسمين: اللطف المحصِّل، واللطف المقرِّب.
1- بعد أن أوجد الله (عزوجل) الإنسان في هذا العالم، فإنَّه خَلَقه من أجل هدف معيَّن، يريد منه تشريعاً وباختياره أن يصل إليه، فهذا هو مقتضىٰ الحكمة
ص: 356
الإلهيَّة.
2- أنَّ هذا العالم لم يُنظَّم بصيغة تتوفَّر فيها مقتضيات الوصول إلىٰ الهدف من دون أيِّ موانع وعقبات، فإنَّه وإن كان ممكناً في حدِّ نفسه ولكنَّه خلاف الواقع، ولو كان كذلك لكنّا مجتمعاً ملائكياً لا بشرياً.
وكذلك فالعالم لم يُنظَّم بصيغة تتوفَّر فيها الموانع والعقبات من دون أيِّ تسهيلات وعلامات توصل إلىٰ الهدف، بحيث إنَّه لا تجد إلَّا المثبِّطات من دون أيِّ حوافز، فهذا الاحتمال وإن كان ممكناً في حدِّ نفسه أيضاً ولكنه جزاف وعبث وخارج عن قدرة الإنسان، فكيف يمكن للإنسان أن يصل إلىٰ هدفه من دون أن يعرف ما هو أو كيف يصل إليه أو مع تعجيزه وإقعاده رغماً عنه!؟
فالعالم إذن نُظِّم بصيغةٍ تتوفَّر فيها الموانع، وإلىٰ جنبها تتوفَّر مقتضيات وشروط الوصول إلىٰ الهدف، بحيث توفَّر لدىٰ الإنسان كلُّ ما يتوقَّف عليه مسيرُهُ نحو الهدف.
3- وهذا يعني أنَّ الوصول إلىٰ الهدف في الوقت الذي رُسِمَ طريقُهُ بكلِّ وضوح بحيث لم يبقَ عليه أيُّ تشويش أو ضبابية، لكن صاحَبَه العديد من الموانع والعقبات التي لا بدَّ للإنسان فيها من بذل الجهد لتجاوزها بإرادته واختياره.
وهذا التوازن بين الموانع والعقبات من جهة، وبين المقتضيات والشروط
ص: 357
للوصول إلىٰ الهدف من جهة أُخرىٰ، هو ما يُسمّىٰ باللطف المحصِّل.
أو قل: إنَّه توفير الشروط التي لا يمكن للإنسان أن يصل إلىٰ هدفه من دونها، لأنَّ في الطريق عقبات يحتاج إلىٰ ما يساعده في تجاوزها، وتلك المقتضيات والشروط هي ما تساعده علىٰ ذلك، فتوفيرها إلىٰ جنب الموانع هو اللطف المحصِّل.
4- ومن هذا يتبيَّن: أنَّ اللطف المحصِّل ليس شيئاً خارجاً عن مقتضىٰ (العدل الإلهي)، إذ العدل يقتضي توفير تلك المقتضيات إلىٰ جنب الموانع، ويبقىٰ علىٰ الإنسان تفعيل اختياره في توفير والاستفادة من أكبر قدر ممكن من المقتضيات والشروط، وليرفع ما يمكنه من الموانع والمثبِّطات.
فاللطف المحصِّل إذن هو ترجمة واقعية للعدل الإلهي في وجود الكون بعيداً عن الظلم والجبر.
إنَّ العدل الإلهي يقتضي إيجاد توازنات بين المقتضيات والموانع كما تقدَّم، أمَّا زيادة التسهيلات للوصول إلىٰ الهدف زائداً علىٰ العدل الإلهي فهذا الأمر ليس واجباً، وعدمه لا يُخِلُّ بالعدل، فلا يجب علىٰ الله تعالىٰ بمقتضىٰ العدل أكثر من تلك التوازنات.
ولكن الله تعالىٰ من حيث جوده وكرمه وتفضُّله ومنُّه ورحمتُه قد يُوفِّر عوامل الخير بعدد أكثر وبنوعية أكبر من عوامل الشر، قد يُقدِّم تسهيلات
ص: 358
إضافية بحيث تفتح فرصاً أكثر وتُعبِّد طرقاً أوسع للوصول إلىٰ الهدف، بحيث لو- وهذه ملحوظة مهمَّة- أراد الإنسان أن يُشغِّل ويُفعِّل عقله واختياره، فإنَّه سوف يلمس تلك التسهيلات ويستفيد منها أكثر، رغم وجود الصعوبات والعقبات.
إنَّ توفير تلك التسهيلات وعوامل الخير الإضافية التي تجعل الاختيار الإنساني يتَّجه باتِّجاه فعل الخير من دون أن تُسلَب إرادته، هي ما يُسمّىٰ باللطف المقرِّب.
إنَّ معاني الهداية ستَّة، فالهداية التكوينية العامَّة وهداية العقل والدعوة والتشريع، هي من نوع اللطف المحصِّل. وأمَّا هداية اللطف، فهي من نوع اللطف المقرِّب. وأمَّا هداية الفلاح، فهي نتيجة
العمل الذي يعمله الإنسان في هذه الحياة، وسنتعرَّف تفاصيل هذه المعاني الستَّة إن شاء الله تعالىٰ.
انتهت المقدمتان.
وهي بمعنىٰ تزويد كلِّ موجود عموماً بما في ذلك الإنسان بإمكانات ذاتية وطبيعية تعينه علىٰ الوصول إلىٰ غايته. وهذه الهداية عامَّة لكلِّ موجود، فإنَّه تعالىٰ جعل كلَّ موجود، سواء كان من الموجودات العلوية (المجرَّدة والمثالية)
ص: 359
أو السفلية (المادّية)، جعل فيه ما يهتدي به إلىٰ صلاح حياته وأُموره، كغريزة التكاثر عند الحيوان، والهروب من العدوِّ، وجمع القوت، وفهم بعضهم عن بعض منطقها، وكاهتداء الشمس والقمر والنجوم في مسيرها اليومي...، ولا يشذُّ عن هذه الهداية موجود من الموجودات، فإنَّه تعالىٰ خلق ما خلق ودبَّر أمره.
وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ عالمنا هذا هو عالم الحركة والاستكمال، وواحدة من مبادئ الحركة هي الغاية ووجهة الحركة.
وهداية التكوين تعني أنَّ الله تعالىٰ حينما أوجد العالم متحرِّكاً، فليس من الصحيح أن تكون حركته عشوائية ومن دون هدف، لأنَّه خلاف الحكمة، فلا بدَّ أن يكون له هدف. وبعد أن أوجد الله تعالىٰ العالم، وجعل له (بوصلة) تؤدّي إلىٰ (الهدف)، فلا بدَّ أن يوجد معه آلات ووسائل تساعده في الوصول إلىٰ ذلك الهدف، فخلق فيه الهواء والماء والتراب وغيرها من العناصر الضرورية لاستمرار الحياة، كما وجهَّز الإنسان بالإرادة والقدرة وأدوات المعرفة و...، وإلَّا فمن دون تلك الوسائل والآلات يكون الوصول إلىٰ الهدف ضرباً من المحال، وهو علىٰ غرار:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتلّ بالماءِ
فالهدف، وإمكانات الوصول إليه، هو معنىٰ هداية التكوين هنا.
إنَّ عدم تحديد (هدف) لمفردات هذا العالم، يساوق أن تنتج (النخلة) ثمرة (الليمون)، وهذا هو معنىٰ العشوائية! أو أن تكتب شعراً باللغة العربية،
ص: 360
فيُحوِّله القلم إلىٰ بذور تزرعها في الأرض!
من العقل: (هو دليل الحكمة ونفي العبث)، فحيث ثبت أنَّ الله تعالىٰ حكيم ولا مكان للعبث في فعله، فمن المستحيل أن يُوجِد هذا العالم المتحرِّك في كلِّ مفرداته، ثمّ لا يُحدِّد له الهدف، أو يُحدِّده من دون تزويده بالوسائل التي تساعده في الوصول إلىٰ هدفه.
ومن النقل: قوله تعالىٰ: [قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ ](1)
وقوله تعالىٰ: [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَىٰ. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ.](2)
إذا عرفنا معنىٰ الهداية هنا، أمكننا أن نتعرَّف علىٰ ما يقابلها من (الضلال).
والضلال في هذه المرحلة يكون بأحد أمرين:
الأمر الأوَّل: إعدام الإمكانات المشار إليها، أي عدم توفير هذه الإمكانات والوسائل للوصول إلىٰ الهدف، وقد تقدَّم أنَّ دليل الحكمة ونفي العبث ينفيه، فلا يُتصوَّر وقوع هذا المعنىٰ من الضلال في عالمنا.
ص: 361
الأمر الثاني- وهو المهمُّ-: إيجاد الموانع والعقبات في طريق الوصول إلىٰ الهدف.
وهذا المعنىٰ وجداناً حاصل، فأنت في طريق حركتك نحو الهدف والتكامل، تجد ألف عقبة ومانع، فالأمراض، والآفات، والهرم، وعدم توفُّر الفرص بسهولة، والزلازل، وحتَّىٰ الموت، كلُّها تقف في طريقك نحو التكامل.
إنَّ عالمنا- عالم المادَّة- مبنيٌّ في أصل وجوده علىٰ أساس نظام الأسباب والمسبَّبات، والموانع تدخل ضمن مفردات أسباب هذا العالم، باعتبار أنَّه عالم التزاحمات والتدافع، فظهور ظاهرة (الموانع) طبيعيٌّ جدّاً هنا.
لو فرضنا أنَّنا أردنا عالماً من دون أيِّ تزاحمات، فهذا الفرض ليس محالاً علىٰ الله تعالىٰ، بل هو قادر عليه بلا أدنىٰ شكٍّ، وإنَّما أمره فيه أن يقول له: كن فيكون، ولكنَّه سيتحوَّل حينها إلىٰ عالم آخر غير عالم الإنسان، سيتحوَّل إلىٰ عالم (الملائكة)، وهذا خروج عن حقيقة عالم المادَّة.
فما دمنا نتحدَّث وعالم المادَّة، إذن وجود الموانع سيكون أمراً طبيعياً فيه، وإلَّا لم يكن عالم المادَّة.
إنَّ وجود الموانع في عالم المادَّة لا يُخالف الحكمة أبداً، باعتبار أنَّ الإنسان موجود مختار، فلا بدَّ أن يُفعِّل اختياره وإرادته ليعمل علىٰ إزالة تلك الموانع،
ص: 362
هكذا أراد الله تعالىٰ، [يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ](1)
فهذا هو عالمنا، عالم الكدح والتعب والنصب، عالم الموانع التي صارت شعلة وهّاجة لتفجير طاقات الإنسان وإبداعاته الكامنة في مواجهة تلك الموانع، الأمر الذي أدّىٰ إلىٰ ظهور شطر كبير جدّاً من التطوّر الذي نعيش مفرداته اليوم، فلولا الزلازل لما بنىٰ العقل البشري عمارات مضادَّة للزلازل، ولولا الأمراض لما تطوَّر علم الطبِّ وتفرَّع إلىٰ هذه الفروع التي يصعب عدُّها، ولولا التقلُّبات الجوّية لما اخترع أجهزة التبريد والتدفئة التي أضفت راحة كبيرة علىٰ الحياة...
وهذا معناه: أنَّ فكرة تزويد الإنسان بالإمكانات (الهداية العامَّة المتقدِّمة)، لا تقتضي إيجاد عالم ليس فيه إلَّا مقتضيات وشروط الوصول بلا أيِّ تزاحم، وإلَّا لصار عالمنا عالم ملائكة، وحيث إنَّه لا بدَّ من التزاحم، إذن لا بدَّ من الموانع.
لقد شاء الله تعالىٰ أن يبني هذا العالم وفق هذا النظام، فلا وجود للوصول المجّاني فيه، وإنَّما لا بدَّ من بذل الجهد لاستغلال تلك الإمكانات المتاحة. ورغم إيجاده (عزوجل) لتلك الموانع، إلَّا أنَّه جلَّ وعلا أوجد إلىٰ جنبها نظاماً تكوينياً وهدايةً عامَّةً تُمكِّن الإنسان من التغلُّب علىٰ تلك الموانع والمزاحمات، تماماً كنظام (الإشارات المرورية)، فإنَّه في الوقت الذي يُمثِّل (عائقاً) من الانطلاق من دون توقُّف، ولكن لولاه لانقطع الطريق تماماً، فكثرة السيّارات في
ص: 363
الشارع تُمثِّل (عائقاً) و(مزاحماً) من الوصول، فكان إيجاد نظام الإشارات المرورية التفافاً علىٰ تلك التزاحمات ليُنظِّمها ويتغلَّب عليها، وبالتالي سيصل كلُّ فرد إلىٰ مقصده بأسرع وقت ممكن. لكن ذلك النظام احتاج عقلاً وفكراً وجهداً حتَّىٰ توصَّل الإنسان إليه.
إنَّه رغم وجود (الموانع) في هذا العالم، لكن (الهداية العامَّة) أوجدت إلىٰ جنبه ما يستطيع الإنسان من خلاله أن يتغلَّب عليها، لكن بشرط أن يُفعِّل الإنسان إرادته ولا يتكاسل ولا يتعاجز، فإذا فعل ذلك أمكنه الاستفادة من كلِّ إمكانات هذا العالم ليعيش في راحة وأمان.
وهذا يعني: أنَّ الضلال في هذه المرحلة غير متصوَّر أيضاً، إذ لو وُجِدَت الموانع من دون إمكانات التغلُّب عليها لأمكن القول بتصوّره، ولكن الله تعالىٰ أبىٰ إلَّا أن يُوجِد إلىٰ جنب تلك الموانع ما يُمكِّن الإنسان من خلاله من التغلُّب عليها.
في هذا العالم، يمكننا أن نتصوَّر فروضاً ثلاثة:
الفرض الأوَّل: أن نوجَدَ في هذا العالم، ويأتي الله تعالىٰ ليأخذ بأيدينا قهراً، ويوصلنا إلىٰ المطلوب، بطريقة التلقين والإملاء الجبري.
وهذا الفرض وإن كان ممكناً علىٰ الله تعالىٰ، ولكنَّه يعني سلب اختيار
ص: 364
الإنسان وتحويله إلىٰ آلة عمياء، وهو لم يقع أكيداً، ونحن نرىٰ أنفسنا مختارين بالوجدان.
الفرض الثاني: أن نفترض أنَّ الله تعالىٰ يوجِدنا في هذا العالم، ويترك لنا الاختيار تماماً، ويوجِدنا في أجواء مخملية تماماً، بحيث يوجد خيارات متعدِّدة لنا، ولا يوجد أيُّ مانع ولا مزاحم، أي إنَّه يُوفِّر جميع الشروط والمقتضيات من دون أيِّ مانع ولا مزاحم.
وهذا ممكن في حدِّ نفسه أيضاً، ولكنَّه في أفضل أحواله يُخرجنا عن عالم المادة، ويُحوِّل عالمنا إلىٰ عالم ملائكة، ونحن افترضنا أنَّنا في عالم المادَّة، وإن كان البعض يعتبر هذا الفرض نوعاً من الجبر.
الفرض الثالث: أن نفترض أنَّ الله تعالىٰ يوجِدنا في هذا العالم، ويترك لنا الاختيار تماماً، ويُوفِّر كلَّ ما من شأنه أن يساعدنا في الوصول إلىٰ الهدف، لكن هذه الأُمور المساعدة لا تُعطىٰ للإنسان بالمجانِّ، بل إنَّه تعالىٰ يخلق أمامها مجموعة من الموانع، وعلىٰ الإنسان أن يسعىٰ لإزالتها باختياره، ليصل إلىٰ الهدف، أي إنَّه (عزوجل) يريد من الإنسان أن يتعامل مع المانع تعاملاً إيجابياً، أي يُحوِّله إلىٰ حالة إيجابية تنفعه في الوصول إلىٰ الهدف.
وهذا الفرض هو المتعيَّن هنا، فتلك الموانع لا تقف حائلاً ضدَّ الهداية التكوينية العامَّة، بل هي جزء من نظام هذا العالم، والجزء الآخر منه أن تُعمِل اختيارك وتُفعِّله لتزيل تلك الموانع، أو لتُغلِّفها بطريقة تجعل منها عاملاً مساعداً للوصول إلىٰ هدفك، فالإمام الكاظم (عليه السلام) جعل من السجن فرصة
ص: 365
مناسبة للتعبُّد لله (عزوجل)، حيث نُقِلَ عن بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه:
«اللّهمّ إنَّني كنت أسألك أن تُفرِّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد»(1).
مع الالتفات إلىٰ أنَّ واحداً من أنظمة هذا العالم أيضاً هو التناسب الطردي بين الصعود التكاملي وبين كثرة الموانع، ممَّا يعني أنَّ التكامل يحتاج إلىٰ مزيد من الجهد وإعمال الاختيار، ولذا كان أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، حيث روي أنَّه سُئِلَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله): أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثل فالأمثل»(2).
وهي بمعنى تزويد الإنسان بالعقل، أو قل: بآلة الإدراك والتفكُّر، التي بها تميَّز وامتاز علىٰ جميع الموجودات علىٰ هذه الأرض، وبها استطاع أن يبني الحضارة وأن يتجاوز العقبات والأخطار المحيطة به، والتي أوجدها الله تعالىٰ ضمن نظام الأسباب والمسبَّبات في هذا العالم.
وهذه الهداية خاصَّة، إذ هو تعالىٰ كرَّم بالعقل بعض مخلوقاته (العالية والسافلة)، ومعلوم أنَّ الواجد للعقل يملك كمالاً يهتدي به إلىٰ أُمور لا يهتدي إليها من لا عقل له.
قال تعالىٰ: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ
ص: 366
بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ](1)
وقال تعالىٰ: [وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ](2)
إنَّ وجود العقل عند الإنسان- وكلامنا في الإنسان، وإلَّا فالعقل عند الملائكة أيضاً- أعطاه تميُّزاً وامتيازاً علىٰ غيره من موجودات هذه الأرض، ففي الوقت الذي يتميَّز الإنسان عن بقيَّة موجودات الأرض بالعقل، كان العقل أيضاً امتيازاً له، جعل له السلطنة والهيمنة علىٰ كلِّ الموجودات الأُخرىٰ، لذلك سخَّر الله تعالىٰ له كلَّ ما فيها، يقول عزَّ من قائل: [وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ](3)
ولا يخفىٰ علىٰ عاقل أهمّية العقل في حياة الإنسان، ولولاه لأضحىٰ الإنسان حجراً أصمّاً أو بهيمةً بكماء! وأدواره تكشف عن أهمّيته.
إذا عرفنا معنىٰ هداية العقل، فالضلالة حينئذٍ هي بأحد معاني:
المعنىٰ الأوَّل: عدم إعطاء العقل، كما في النبات والحيوان، أو بزوال العقل من الإنسان. وهو وإن كان من الله تعالىٰ، ولكنَّه ليس بقبيح في النباتات
ص: 367
والحيوانات كما هو واضح.
وأمَّا في الإنسان، فهو ليس قبيحاً أيضاً، لعدَّة أسباب، منها التالي:
أوَّلاً: أنَّ الإنسان باعتبار أنَّه عبد مملوك لله تعالىٰ فلا يستحقُّ شيئاً علىٰ الله (عزوجل) لا عقلاً ولا أيَّ شيء، وإعطاؤه العقل إنَّما هو من باب التفضُّل، فإذا لم يرد أن يتفضَّل فلا قبح فيه.
ثانياً: فضلاً عن هذا فإنَّ عدم إعطاء العقل للإنسان يعني الجنون، والجنون قد تكون له أسباب طبيعية تدخل ضمن نظام العلَّة والمعلول، إذ لعلَّه لمرض وراثي أو صدمة نفسية أو عقار معيَّن أفْقَدَ الإنسان عقله، وهذا هو نظام هذا العالم.
ثالثاً: أنَّ الله تعالىٰ عندما أعطىٰ العقل للإنسان فإنَّه جعله في موضع المسؤولية، فكلَّفه وأوجب عليه التزام التكليف، وأمَّا إذا فَقَدَ الإنسان عقله فتلك التكاليف تُرفَع عنه، فلا يلزم من ذهاب العقل تكليف المجنون بما لا يُطاق، فلا قبح من هذه الجهة.
المعنىٰ الثاني: التفاوت في درجات العقل، وهذا أمر واقع بالوجدان، ولكنَّه أمر تقتضيه طبيعة الحياة، فتصوَّر لو أنَّ كلَّ الناس أغنياء، فهل سيرضىٰ أحدهم أن يكون خادماً لآخر أو عاملاً عنده!؟
مع أنَّ هذا التفاوت قد يكون بسبب نفس الإنسان، كقلَّة التعليم أو عدمه، وكالوراثة. فضلاً عن أنَّه تعالىٰ لا يغبن قليل العقل، فإنَّ الروايات
ص: 368
تؤكِّد علىٰ أنَّ الحساب هو علىٰ درجة عقل الإنسان، فعن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إنَّما يداقُّ الله العباد في الحساب يوم القيامة علىٰ قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(1).
وينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ هذا المعنىٰ (المداقَّة علىٰ قدر العقول) يجري في جانب الثواب والعقاب كليهما، ولذا كان بعض الناس قليل العمل لكنَّه عظيم الثواب، والبعض عظيم العمل لكنَّه قليل الثواب، كلُّ ذلك تبعاً لمقدار المعرفة والعقل.
عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: «كيف عقله؟»، قلت: لا أدري، فقال: «إنَّ الثواب علىٰ قدر العقل، إنَّ رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر، ظاهرة الماء، وإنَّ ملكاً من الملائكة مرَّ به، فقال: يا ربِّ، أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله ]تعالىٰ[ ذلك، فاستقلَّه الملك، فأوحىٰ الله ]تعالىٰ[ إليه: أن اصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد، بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان، فأتيتك لأعبد الله معك، فكان معه يومه ذلك، فلمَّا أصبح قال له الملك: إنَّ مكانك لنزه، وما يصلح إلَّا للعبادة، فقال له العابد: إنَّ لمكاننا هذا عيباً! فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربِّنا بهيمة، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإنَّ هذا الحشيش يضيع، فقال له ]ذلك[ الملك: وما لربِّك حمار؟
ص: 369
فقال: لو كان له حمار ما كان يُضيِّع مثل هذا الحشيش، فأوحىٰ الله إلىٰ الملك: إنَّما أُثيبه علىٰ قدر عقله»(1).
المعنىٰ الثالث: عدم الجري علىٰ مقتضىٰ العقل وما يستدعيه، أي توظيف العقل توظيفاً خاطئاً. وهذا من الإنسان باختياره لا من الله تعالىٰ، فلا ظلم فيه ولا جبر.
والعجيب أنَّ بإمكان الإنسان أن يستعمل عقله في ضدِّ ما يمليه عليه عقله، وهذا من عجائب العقل، وعندئذٍ ينسلخ العقل عن حقيقته الملكوتية ليصبح أداة قاتلة وفتّاكة، وبدلاً من أن يدلَّ علىٰ الله تعالىٰ يصبح أداة للإبعاد عن الله تعالىٰ. وهذا المعنىٰ يدعونا إلىٰ أن نتعرَّف حقيقة العقل، فليس كلُّ ذكاء أو دهاء يُسمّىٰ عقلاً، بل العقل هو ما دعا صاحبه لطاعة الله تعالىٰ وألزمه بالعمل والجري علىٰ مقتضىٰ هذه الدلالة، فقد قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): ما العقل؟ قال: «ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان»، فقيل: فالذي كان في معاوية؟ فقال: «تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل»(2).
قال مطرف بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة علىٰ معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدَّث معه ثمّ ينصرف إليَّ، فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب ممَّا يرىٰ منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتمّاً، فانتظرته
ص: 370
ساعة، وظننت أنَّه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت: ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ فقال: يا بنيَّ، إنّي جئت من عند أخبث الناس!
قلت: وما ذاك؟
قال: قلت له وخلوت به: إنَّك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فإنَّك قد كبرت، ولو نظرت إلىٰ إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوَالله ما عندهم اليوم شيء تخافه.
فقال: هيهاتَ هيهاتَ، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فوَالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلَّا أن يقول قائل: أبو بكر. ثمّ ملك أخو عدي، فاجتهد وشمَّر عشر سنين، فوَالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلَّا أن يقول قائل: عمر. ثمّ ملك أخونا عثمان، فهلك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل وعمل به، فوَالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وذكر ما فعل به. وإنَّ أخا بني هاشم يُصرَخ به في كلِّ يوم خمس مرّات: (أشهد أنَّ محمّداً رسول الله)، فأيُّ عمل يبقىٰ بعد هذا لا أُمَّ لك؟ لا والله إلَّا دفناً دفناً(1).
ومن هذا القبيل- أي عدم الجري علىٰ مقتضىٰ العقل- ما يُبتلىٰ به البعض من الوسوسة وكثرة الشكِّ في وضوئه أو صلاته، فعن عبد الله بن سنان، قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلاً مبتلىٰ بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله: «وأيُّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟»، فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: «سَلْه، هذا الذي يأتيه من أيِّ شيء هو؟ فإنَّه
ص: 371
يقول لك: من عمل الشيطان»(1).
وهي بمعنىٰ إرسال الله (عزوجل) مجموعة من البشر بعنوان كونهم رسلاً منه جلَّ وعلا إلىٰ الناس، ليدلّوهم علىٰ ما فيه صلاحهم، وليبعدوهم عمَّا فيه هلاكهم، سواء كان ذلك فيما يتعلَّق بالأُمور الدنيوية أو ما يتعلَّق بالأُمور الأُخروية، لطفاً منه بعباده، وتحنُّناً عليهم.
وهي هداية منفصلة- في قبال الهداية المتَّصلة التي هي هداية العقل- بواسطة الأنبياء والرسل والأوصياء والكتب، وهي هداية عامَّة لكلِّ عاقل، فيكون العقل الذي ميَّز الإنسان عن غيره من الموجودات الأرضية قد عُزِّز بعقل منفصل يعينه ويدلُّه علىٰ الطريق المستقيم لكي لا يخفق أو يتعثَّر.
فكلُّ عاقل كان له ما يدفعه نحو ما يخالف مقتضىٰ العقل- من الجنِّ والإنس وغيرهما- فإنَّ الله تعالىٰ يُرسِل له الدعاة، سواء قبل العاقل منهم أو لم يقبل.
وهذه الهداية هي واجبة علىٰ الله تعالىٰ من باب اللطف، بمعنىٰ أنَّ الله تعالىٰ قد أوجب علىٰ نفسه أن يساعد بني آدم في الوصول إلىٰ الهدف، حيث علم جلَّ وعلا بأنَّهم يحتاجون إلىٰ تدخُّل غيبي، فمن باب اللطف بعث لهم الأنبياء والرُّسُل وأنزل الكتب ونصَّب الأوصياء.
ص: 372
وهذه الهداية تامَّة من قِبَل الله تعالىٰ، ولا خلل فيها، وهناك آيات عديدة تدلُّ علىٰ أنَّه جلَّ وعلا قد أكمل هذ المشروع علىٰ أتمّ وجه.
وتشير إلىٰ هذا النوع من الهداية عدَّة آيات، منها التالي:
[لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ](1)
فقبل إرسال الأنبياء كان الناس في ضلال من هذه الجهة، جهة عدم توفُّر الداعي إلىٰ الله تعالىٰ، فأزال الله جلَّ وعلا عنهم هذا الضلال بإرساله الأنبياء والرُّسُل، فهي هداية منه جلَّ وعلا.
وفي نفس السياق جاء قوله تعالىٰ: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ](2)
وأيضاً قوله تعالىٰ: [يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَىٰ النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ](3)
ص: 373
ضلال الدعوة:
الضلال في هذه المرتبة يُتصوَّر بأحد شكلين:
الشكل الأوَّل: عدم إرسال الله (عزوجل) الأنبياء والرسل، وعدم إنزال الكتب.
وهذا الأمر غير متحقَّق قطعاً، لأنَّ الله تعالىٰ لم يدع أُمَّة من غير نذير، قال تعالىٰ: [إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ](1)
وهنا قد يتبادر إلىٰ الذهن التالي:
إنَّ القرآن الكريم وفي مقام حديثه عن إرسال النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يُصرِّح بأنَّ إرساله كان علىٰ فترة من الرسل، قال تعالىٰ: [يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلىٰ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ](2)
ومعنىٰ (الفترة) هي ما بين الرسولين، فهذه الآية تقول: إنَّ الله تعالىٰ أرسل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في فترة كانت خالية من الرُّسُل، وهذا يتنافىٰ مع الآية المتقدِّمة الدالّة علىٰ أنَّ كلَّ أُمَّة كان فيها نذير.
والجواب: يأتي في مبحث النبوة إن شاء الله تعالى.
الشكل الثاني: الإضلال بمعنىٰ عدم اتِّباع الإنسان للنبيِّ، وهذا الأمر وإن كان واقعاً ولكنَّه ليس قبيحاً علىٰ الله تعالىٰ، لأنَّه من فعل الإنسان وباختياره.
ص: 374
فما هو من جانب الله تعالىٰ- وهو توفير الدعاة والحجج- قد كمل علىٰ أتمّ وجه.
ويبقىٰ ما هو علىٰ الإنسان، فهو عليه أن يُعمِل ويُفعِّل اختياره في اتِّباع الحجج، والله تعالىٰ لا يُجبِر أحداً ولا يسلب اختياره في هذا المجال.
وربَّما هذا واحد من معاني: [لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ]، بمعنىٰ أنَّ الله تعالىٰ لا يُجبِر أحداً علىٰ التزام الدين تكويناً، وإنَّما عليه بيان الحقِّ من الباطل: [قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقىٰ لاَ انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ](1)
وقال تعالىٰ مبيِّناً أنَّه جلَّ وعلا قد أكمل البيان، وترك الاختيار للإنسان: [إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً](2)
فالله تعالىٰ قد هدىٰ الإنسان نحو السبيل بأن بيَّن له الطريق، ولكن ترك اختيار سلوك أحد الطريقين للإنسان نفسه.
وعلىٰ نفس المنوال جاء قوله تعالىٰ: [وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ](3)، أي: بيَّنا له طريق الخير والشرِّ(4).
ويُبيِّن القرآن الكريم أنَّ السبب الرئيسي وراء عدم اتِّباع الناس للأنبياء
ص: 375
وللهدىٰ، هو اتِّباعهم لأهوائهم الضالَّة، يقول تعالىٰ: [فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىٰ مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ](1)
بعد أن هيَّأ الله (عزوجل) في الكون كلَّ ما من شأنه أن يخدم الإنسان في وصوله إلىٰ هدفه، وبعد أن ركَّب فيه عقلاً يُفكِّر به ويُدرك ويُحلِّل المعلومات ويعرف النافع من الضارِّ، وأيضاً به استطاع بناء حضارته، وأتمَّ ذلك له بإرسال الأنبياء الذين ما قصَّروا في أداء ما عليهم من مهمَّة هداية الناس، أكمل الله تعالىٰ لطفه ورحمته بالناس بأن أنزل لهم شريعةً ودستوراً يساعدهم في المسير نحو الهدف بكلِّ وضوح، فالشريعة هي أشبه بالعلامات التي تُوضَع علىٰ الطريق لتدلَّ المسافر علىٰ وجهته وهدفه، وهذا هو معنىٰ هداية التشريع.
إنَّها باختصار بمعنىٰ سنِّ القانون وجعل الأحكام والآداب والسنن، ليتمكَّن الذي جروا علىٰ مقتضىٰ العقل وقبلوا دعوة الدعاة الربّانيين من سلوك ما أمر به النبيُّ.
والدليل علىٰ هذا المعنىٰ قوله تعالىٰ: [الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ.](2)
ص: 376
وقوله تعالىٰ: [وَإِذْ آتَيْنا مُوسَىٰ الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ](1)
والآيات كثيرة في هذا الجانب.
والضلال في هذه المرحلة من العبد أيضاً، لأنَّه تعالىٰ لم يترك أُمَّة من دون قانون وميزان وتكليف.
نعم، شاء الله تعالىٰ أن لا يجبر عبده علىٰ التزام القانون إذا أراد ذلك العبد- باختياره- عدم الالتزام، وهذه ضلالة غير قبيحة علىٰ الله تعالىٰ، بل الهداية بالجبر فيها نقض للغرض الإلهي من خلقة الإنسان، إذ الحكمة هي اختبار العبد بالاختيار.
وهذا هو معنىٰ ما يُقال من أنَّ السماء تُلزم العبد تشريعاً لا تكويناً، فالله تعالىٰ لا يجبر عبداً علىٰ أن يلتزم الشريعة بحيث يسلب اختياره، كلَّا، بل هو إلزام تشريعي، تبقىٰ إرادة الإنسان محفوظة فيه بتمام معنىٰ الكلمة(2).
المقصود من اللطف هنا هو ما يُسمّىٰ في علم الكلام باللطف المقرِّب، وأمَّا المعاني المتقدِّمة فهي من اللطف المحصِّل، فهي هنا من نوع تقديم التسهيلات الإضافية التي تساعد الإنسان أكثر علىٰ الوصول إلىٰ الهدف،
ص: 377
وهي عطايا مجّانية من الله تعالىٰ من فضل جوده وكرمه ورحمته.
وهذه الهداية خاصَّة بمن اعتنىٰ والتزم بأحكام الدين وتشريعاته وسُننه، وراعىٰ طريقة التقوىٰ حقَّ رعايتها، وجزاءً لذلك يحمي الله تعالىٰ عبده الصالح من مكاره الدنيا وعن مضلّات الفتن، ويلطف به ألطافاً معنوية خفيَّة وظاهرة، وهي ما يُسمّىٰ بالتوفيق والعناية، كلُّ ذلك إذا أصبح العبد مُمهَّداً لتلقّي الفيوضات والهبات الربّانية.
وبعبارة أُخرىٰ أوضح:
بعد أن يقطع المؤمن أشواطاً في طريق تطهير الروح وتحصيل الكمال، يأتي اللطف الإلهي الخاصّ أو المقرِّب، ليُعطيَه نوعاً من التسهيلات، ليقطع طُرُقاً أصعب للصعود في مراتب الكمال، تماماً كما إذا لاحظ مدير شركة معيَّنة أنَّ أحد موظَّفيه تفانىٰ في عمله ولسنوات عديدة، فإنَّه قد يُعطيه (سرَّ المهنة)، ليتحصَّل بجهده علىٰ أرباح أكثر، أو كما إذا ارتأت مديرية التربية أن تُعطي فرصة للطلّاب الموهوبين، بعد أن أثبتوا جدارتهم، تُعطيهم فرصة لطيِّ مرحلة دراسية بوقت أسرع، حسب نظام تسريع المراحل أو ما يُسمّىٰ بنظام (العبور).
إنَّ هذه التسهيلات لم تأتِ من فراغ، وإنَّما جاءت بعد مراحل من العمل والإخلاص والتفاني، بحيث أثبت الفرد جدارته ليحصل علىٰ تسهيلات ليصل إلىٰ مبتغاه وهدفه بوقت أسرع، ولا يعني هذا إلَّا زيادة في تفعيل الإرادة وتوجيه الاختيار نحو الهدف بكلِّ جهد وإخلاص.
ص: 378
وعند مراجعة النصوص الدينية نجد أنَّنا لا نُعدَم الإشارات الواضحة لهذا المعنىٰ من الهداية، نذكر منها النصوص التالية:
النصُّ الأوَّل: قوله تعالىٰ في سورة الفاتحة: [اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ](1)
فهذه الآية من سورة الفاتحة جاءت بصيغة طلب الهداية، ولكن الهداية التي تقع بعد العبادة لله تعالىٰ والاستعانة به، ممَّا يعني أنَّها هداية ما بعد طيِّ مراحل العبودية والتوكُّل علىٰ الله تعالىٰ، وهو معنىٰ هداية اللطف.
وفي إشارة إلىٰ هذا المعنىٰ روي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في قوله: [اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ] أنَّه قال (عليه السلام): «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتَّىٰ نُطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا. والصراط المستقيم هو صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة. وأمَّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلوِّ، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلىٰ شيء من الباطل. وأمَّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلىٰ الجنَّة الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنَّة إلىٰ النار ولا إلىٰ غير النار سوىٰ الجنَّة»(2).
النصُّ الثاني: قوله تعالىٰ من بداية سورة البقرة: [الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ
ص: 379
يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلىٰ هُدىٰ مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.](1)
فنلاحظ أنَّ الهدىٰ هنا جاء مرَّتين، فمرَّة كان للمتَّقين، وهو هدىٰ التشريع. وأُخرىٰ جاء بعد الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق والإيمان بما أنزل الله تعالىٰ، فوصفتهم الآية بأنَّهم علىٰ هدىٰ من ربِّهم، فهذا الهدىٰ غير الهدىٰ المتقدِّم، فهو هدىٰ اللطف الإلهي والتقريب والتسهيل الإلهي الذي يكون كهدية ومكافأة علىٰ ما قدَّمه الإنسان بإرادته من التزام بالتشريع.
فهذه الآية في الحقيقة (تشير إلىٰ النتيجة التي يتلقّاها المؤمنون المتَّصفون بالصفات الخمس المذكورة، تقول: [أُولئِكَ عَلىٰ هُدىٰ مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]، وقد ضمن ربُّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم، وعبارة من ربِّهم إشارة إلىٰ هذه الحقيقة. واستعمال حرف (علىٰ) في عبارة [عَلىٰ هُدىٰ مِنْ رَبِّهِمْ] يوحي بأنَّ الهداية الإلهيَّة مثل سفينة يركبها هؤلاء المتَّقون لتوصلهم إلىٰ السعادة والفلاح، لأنَّ حرف (علىٰ) يوحي غالباً معنىٰ الاستعلاء. واستعمال كلمة (هدىٰ) في حالة نكرة يشير إلىٰ عظمة الهداية التي شملهم الله بها. وتعبير [هُمُ الْمُفْلِحُونَ] يفيد الانحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إنَّ الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين)(2).
النصُّ الثالث: قوله تعالىٰ في سورة العنكبوت: [وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ](3)
ص: 380
فالهداية هنا ترتَّبت علىٰ الجهاد في الله تعالىٰ، فهي فرع الجهاد، أي إنَّها تأتي بعد بذل الجهد الجهيد من المؤمن، فالخطوة الأُولىٰ من المؤمن، وتكملتها وتسهيل بلوغ الهدف بها من الله تعالىٰ.
وعلىٰ هذا السياق قال الإمام السجّاد (عليه السلام) لإبراهيم بن أدهم لمَّا قال له وقد كان متأخِّراً عن القافلة: ارفع رجلك حتَّىٰ تُدرك، فقال الإمام (عليه السلام): «عليَّ الجهاد، وعليه الإبلاغ، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: [وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]؟»(1).
وقال القمّي في ما يُنسَب له من التفسير: [وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا] أي صبروا وجاهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، [لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا] أي لنُثبتنَّهم، [وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ].
وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «هذه الآية لآل محمّد (صلى الله عليه وآله) ولأشياعهم»(2).
النصُّ الرابع: قوله تعالىٰ: [وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ](3)
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالىٰ: [وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ]، وقوله تعالىٰ: [إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي
ص: 381
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَىٰ اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ](1)، أنَّه قال (عليه السلام): «إذا فعل العبد ما أمره الله (عزوجل) به من الطاعة، كان فعله وفقاً لأمر الله (عزوجل)، وسُمّي العبد به موفَّقاً. وإذا أراد العبد(2) أن يدخل في شيء من معاصي الله، فحال الله تبارك وتعالىٰ بينه وبين تلك المعصية فتركها، كان تركه لها بتوفيق من الله تعالىٰ ذكره، ومتىٰ خلّىٰ بينه وبين تلك المعصية فلم يحل بينه وبينها حتَّىٰ يرتكبها، فقد خذله ولم ينصره ولم يُوفِّقه»(3).
وعلَّق الشيخ الصدوق ; علىٰ هذه الرواية بقوله: (التوفيق هو تهيئة الأسباب نحو الفعل، والأسباب بعضها بيد العبد وبعضها ليس كذلك. وما بيد العبد ينتهي أيضاً إليه تعالىٰ منعاً وإعطاءً، فلذلك: [ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ]، والتوفيق للطاعة هو اجتماع أسباب الفعل كلّها، والتوفيق لترك المعصية هو فقدان بعض الأسباب، فإن كان بيد العبد فهو الانقياد فيهما، وإلَّا فهو اللطف من الله تعالىٰ، وعدم التوفيق والخذلان في الطاعة وترك المعصية علىٰ عكس ذلك)(4).
النصُّ الخامس: من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: «إِلهِي اطْلُبْنِي بِرَحْمَتِكَ حَتَّىٰ أَصِلَ إِلَيْكَ، وَاجْذُبْنِي بِمَنِّكَ حَتَّىٰ أُقْبِلَ عَلَيْكَ»(5).
ص: 382
فالإمام الحسين (عليه السلام) وهو في الحجِّ وفي عرفات يرفع يديه بالدعاء، ليطلب تسهيلاً إلهيّاً من باب رحمته ومنِّه جلَّ وعلا، ليصل إلىٰ هدفه الأسمىٰ، فهو طلب للُّطف الخاصِّ.
النصُّ السادس: في مناجاة الزاهدين للإمام زين العابدين (عليه السلام): «إِلهِي فَزَهِّدْنا فِيها، وَسَلِّمْنا مِنْها بِتَوْفِيقِكَ وَعِصْمَتِكَ، وَانْزَعْ عَنَّا جَلابِيبَ مُخالَفَتِكَ، وَتَوَلَّ أُمُورَنا بِحُسْنِ كِفايَتِكَ، وَأَوْفِرْ مَزِيدَنا مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِكَ، وَأَجْمِلْ صِلاتِنا مِنْ فَيْضِ مَواهِبِكَ»(1).
فطلب الإمام (عليه السلام) واضح في أنَّه من باب التوفيق، وكفاية الله تعالىٰ، وسعة رحمته، وفيض مواهبه وعطاياه.
النصُّ السابع: من دعاء للإمام الصادق (عليه السلام): «وأعنّي علىٰ نفسي بما أعنت به الصالحين علىٰ أنفسهم»(2).
فهذه الفقرة من الدعاء تشير إلىٰ وجود إعانة خاصَّة للصالحين من العباد، غير الإعانة العامَّة من الله تعالىٰ للجميع، تلك الإعانة العامَّة التي يقول جلَّ وعلا عنها: [مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعىٰ لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ
ص: 383
وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً](1)
وغيرها من النصوص التي يمكن أن نجدها بالمتابعة ممَّا يشير إلىٰ الهداية الخاصَّة من هذا النوع.
وباختصار: إنَّ هذا المعنىٰ من الهداية هو من العبد باعتبار، ومن الله تعالىٰ باعتبار، فالتزام العبد بما يريده منه الله تعالىٰ وعلىٰ أتمّ وجه، يستتبع هذا المعنىٰ من الهداية.
والإضلال في هذه المرحلة وإن كان من الله تعالىٰ، لكنَّه ليس بقبيح، فإنَّه لا يجب أن يلطف الله تعالىٰ هذا اللطف بمن خالفه وعانده باختياره، إذ المخالف ليس أهلاً لذلك اللطف.
وبعبارة أوضح: إنَّ أساس منع هذا اللطف هو من العبد باختياره، فالله تعالىٰ جعل هذه التسهيلات وفق شروط خاصَّة، فمن لا يُتعِب نفسه في تحصيلها فإنَّه لا يستحقُّ تلك التسهيلات، أي إنَّ السبب في الحرمان هو العبد نفسه لا الله جلَّ وعلا.
فقد يكون الفرد مؤمناً ولكنَّه لا يسعىٰ أكثر لتحصيل تلك التسهيلات، أي إنَّ عدم هذه التسهيلات لا يعني الكفر أو الفسق أو ما شابه، بل يعني أنَّ الفرد يعيش الكسل والتعاجز عن تحصيل حوافز إضافية، كالموظَّف الذي يحضر إلىٰ دائرته من باب إسقاط الفرض من دون أن يُقدِّم أي أعمال
ص: 384
إضافية، ومن دون أن يُظهِر أيَّ رغبة في التطوير، فإنَّه بلا شكٍّ وبحكم العقل لا يستحقُّ أيَّ حوافز وأيَّ مشجِّعات إلَّا بالمستوىٰ العامّ الذي يشمل جميع الموظَّفين.
شاء الباري جلَّ وعلا أن يجعل لهذه الحياة أمداً محدوداً لا يعلمه إلَّا هو تبارك وتعالىٰ، فعُمُرُ الحياة متناهٍ محدودٍ، مهما طالت، فليس في هذه الحياة خلود.
وقد شاء الله (عزوجل) أن يختبر عباده بتكاليف بيَّنها لهم من خلال رُسُله وأنبيائه، وبما شرَّعه في الكتب التي أنزلها إلىٰ الناس، وكَتَبَ علىٰ نفسه أن يجعل الدنيا وما فيها من تكاليف ملاكاً ومقياساً للحياة الأبدية في عالم الآخرة، وهناك، سيَجزي الباري جلَّ وعلا من التزموا بما افترضه عليهم جنّاتٍ لم ترَ عينٌ ولم تَسمعْ أُذُنٌ بمثلها، ولم يخطر علىٰ قلب بشر أو فِكْرِه بشبهها، وهناك، سيفلح المؤمنون، وسينجو المخلصون.
وهذا الجزاء بالإثابة، هو خلاصة معنىٰ (هداية الفلاح).
وفي نفس الوقت، سيكون عقاب الضالّين والمنحرفين، ممَّن اختاروا طريق الانحراف بإرادتهم، هو تعبيراً آخر عن الضلال المقابل لهداية الفلاح.
وباختصار: إنَّ هداية الفلاح هي بمعنىٰ الإثابة والجزاء في الآخرة، ويقابلها الإضلال بمعنىٰ الإهلاك والتعذيب.
ص: 385
وإليه الإشارة بقوله تعالىٰ: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ](1)
وقوله تعالىٰ: [الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ... سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ](2)
وهذا المعنىٰ من الهداية أيضاً من العبد باعتبار ومن الله تعالىٰ باعتبار، فمن العبد بمعنىٰ أنَّه إذا التزم بما يريده الباري تعالىٰ منه فإنَّه سيحصل علىٰ الثواب وإلَّا فعلىٰ العقاب، ومن الله تعالىٰ بمعنىٰ أنَّه يجازي كلَّ عامل بما عمل.
ففي الحقيقة هذا النوع من الهداية يُمثِّل نتيجة الأعمال التي يقوم بها الفرد في الدنيا، وليست شيئاً خارجاً عن أعماله وآثارها. والإضلال كذلك يكون نتيجة أعمال الفرد في الدنيا، وليس شيئاً خارجاً عنها.
ص: 386
الصفات الخبرية: هي الصفات التي أثبتها القرآن الكريم لله تعالى، والتي ظاهرها الأولي أنها تصف الله تعالى بأوصاف الأجسام، كاليد والوجه والاستواء على العرش وما شابه.
تقدم أنه ليس للمشرع طريقة خاصة في بيان مراداته من أوامر ونواهي وقوانين وحقائق، وإنما هو اتخذ اللغة العربية كوسيلة لإيصال مراداته إلى البشر، ومن ثم استعمل الكناية والمجاز وبقية الأساليب البلاغية التي حوتها اللغة العربية، خصوصاً وأن القرآن الكريم كتاب بلاغة وإعجاز.
عندما يتحدث أحدنا بكلام، فإنه يريد أن يوصل معنى ما إلى الآخر، وحتى يوصله فإنه يستخدم أساليب مختلفة كما هو واضح، المهم هنا هو: أنه ليس بالضرورة أن يوضّح المتكلم مراده الجدّي والنهائي في جملة واحدة، أو في كلام واحد، بل إن له أن يعتمد على قرائن منفصلة تبين مراده، بمعنى أن يطرح كلامًا لا يظهر منه كل مراده الجدي، وإنما يتكلم بكلام آخر، إذا
ص: 387
ربطناه بالأول نفهم المعنى كاملًا، وهذه طريقة عقلائية نعمل بها في حياتنا اليومية، وهكذا ما يُقال عند تشريع بعض القوانين الوضعية بأنه يُنظّم بقانون لاحق هو: في الحقيقة يرجع إلى أن التقنين قد يكتمل بتقنين منفصل وليس شرطاً أن يصاغ بشكله النهائي بتقنين واحد.
هذا أمر وجداني، ويترتب عليه أمر مهم، وهو ضرورة الفحص في كل كلام المتكلم واستقصائه حتى نصل إلى قناعة تامة بأنه بيّن ما يريد بيانه تمامًا، حينها يمكننا أن نحكم عليه بحكم ما.
وتشتد الضرورة إلى الفحص في المتكلم الذي يُكثر من اعتماد المنفصل حتى يصبح عادة وديدناً له، كما هو الحال في المشرع الديني بغض النظر عن السبب الذي كان وراء اعتماده ذلك.
هذا، وإن تأسيس المنفصل للزوم الفحص –أو قل: إن ضرورة الفحص عن القرينة- يأتي على خلفية:
أن الاعتماد على المنفصل يجعل من الكلام مبتلىً بالإجمال النسبي، بسبب احتمال وجود تتمة تكمل بيانه أو قانونه، تلك القرينة التي قد يتحول معها حال الكلام من الحقيقة إلى المجاز، أو من العام إلى الخاص، أو من المطلق إلى المقيد، وهكذا.
يتلخص:
المنفصل يؤسّس للإجمال ولو احتمالاً، والإجمال يؤسّس لضرورة
ص: 388
الفحص، فالفحص في المنفصلات لازم في أي كلام، فضلاً عن كلام المتكلم الذي اعتاد الاعتماد على المنفصل في بيان مراداته، فإن هذا يفرض ضرورة الفحص عن المنفصل بنحو آكد، ولفترة أطول وبجهد أكثر.
من ثَمَّ: يلزمنا البحث في كل موضع نحتمل فيه وجود كلام آخر للمتحدث يُكمل كلامه الأول ويوضحه تمامًا، وهذا لا يتوقف عند حدود كلام نفس المتكلم، وإنما يسري لزومه إلى كلام حواريي المتكلم ومن هم قريبو الأفق من فهم مراداته النهائية، وسيكون هذا الفحص أشبه بفهم كلام الأستاذ من خلال تفسير طلبته وتلامذته المقربين له.
لنضرب لذلك مثالًا:
قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(1) نفهم منه معنىً معيناً، وعندما نسمع قوله تعالى في آية أخرى: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(2)
نفهم معنىً آخر.
ولكن عندما نجمع الآيتين في مكان واحد، فإننا سنفهم منهما معنى جديداً لم نكن نفهمه من دون هذا الجمع، وهو أنّ أقل الحمل هو ستة أشهر.
ومن هنا روي أنه كان رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) يقال له: الهيثم، قد أرسله عمر بن الخطاب في جيش، فغاب غيبة بعيدة، ثم قدم، فجاءت امرأته
ص: 389
بولد بعد قدومه بستة أشهر فأنكر ذلك منها، وجاء بها إلى عمر بن الخطاب، وقص عليه قصتها، فقال لها عمر: ما تقولين؟ فقالت: والله ما فجرت ولا غشني رجل غيره، وإنه لابنه. فأمر به أن ترجم، فذهبوا بها، وحفروا لها حفيراً، وأنزلوها فيه لترجم. وبلغ علياً (عليه السلام) خبرها، فجاء مسرعاً، فأدركها قبل أن ترجم، فأخذ بيدها، فنشلها من الحفرة. ثم قال لعمر: أربع على نفسك (أي توقف) إنها صدقت، إن الله عز وجل يقول: (وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فالحمل والرضاع ثلاثون شهراً. فقال عمر: لولا علي لهلك عمر. وخلّى سبيلها. وألحق الولد بالرجل (1)
عندما يريد الواحد منا أن يفسّر آية من القرآن الكريم، فإنه لا بد من ملاحظة كل الآيات والنصوص الواردة في الموضوع الذي تتحدث عنه الآية، أو ما له علاقة بها، ويكمّل معناها، فإذا فعلنا ذلك، حينها يمكن أن نخرج بصورة كلية تتلاءم مع مجمل الآيات الكريمة، ولا تتعارض مع الثوابت الدينية، فضلًا عن أنها لا تعطي صورة منقوصة لعقيدة ما.
إن عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة، أو تغافلها، هو ما أوقع الأشاعرة في تفسير الصفات الخبرية بظاهرها، الذي يحكي عن التجسيم، ولو أنهم نظروا في الآيات الأخرى، والنصوص المفسرة لها، لما وقعوا في ما وقعوا فيه.
ص: 390
ملحوظة مهمة:
في كل صفة يوصف بها الله تعالى، فلا بد أن نضع في الحسبان آية تمثل حدًّا عامًا لكل الآيات التي ورد فيها وصفٌ له جل وعلا، وهي قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(1)، مما يعني أنه لو وُصف الله تعالى بشيء كالذي عندنا، فلا بد من تأويله.
فلا يوجد شيء هو مثل الله تعالى، فلو قيل: لله تعالى يدٌ، فالمعنى أنها ليست كأيادينا المادية نحن بني البشر، وإلا لو كانت مثل أيادينا المادية، لتعارض هذا المعنى مع آية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، وهذا تطبيق لما تقدم منا من أن الوصول إلى المعنى الكامل لمتحدث ما، يستدعي ملاحظة جميع ما له صلة بكلامه الفعلي وجمعه في مكان واحد للخروج بنتيجة صحيحة.
زعمت المجسمة والمشبهة أن لله سبحانه عينين ويدين مثل الإنسان... وهي نظرية واضحة البطلان لأنه يلزم منها التجسيم.
الأشاعرة يجرون هذه الصفات على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في
ص: 391
العرف، لكن لأجل الفرار عن التشبيه يقولون (بلا تشبيه ولا تكييف).
وحاصل هذه النظرية: أن له سبحانه هذه الحقائق لكن لا كالموجودة في البشر. فله يد وعين، لا كأيدينا وأعيننا، وبذلك توفّقوا -على حسب زعمهم- في الجمع بين ظواهر النصوص ومقتضى التنزيه.
ولكن هذه النظرية بهذا الطرح لا تخرج عن إطار أحد الأمرين التاليين:
1/التجسيم والتشبيه، وذلك فيما لو أجريت هذه الصفات على الله سبحانه بمعانيها المعهودة في الأذهان ومع حفظ حقيقتها.
2/التعقيد والغموض وذلك فيما لو أجريت على الله سبحانه بمعانيها المتبادرة من دون تفسير وتوضيح. فالقوم بين مشبِّه ومعقِّد، بين مجسم وملقلق باللسان.
وقد ذهب جمع من الأشاعرة وغيرهم إلى إجراء هذه الصفات على الله سبحانه مع تفويض المراد منها إليه. أي إنهم يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك، إلا أنهم يقولون: إنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه.
ولكن غاية تلك النظرية مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ولا فهم لمراد الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) منها. فإن الإيمان بالألفاظ وتفويض معانيها إلى الله سبحانه بمنزلة القول بأن الله تعالى خاطبنا عبثا، لأنه خاطبنا
ص: 392
بما لا نفهم.
تفسيرها بما يتلاءم مع ظاهرها، وبما لا يتخالف مع مجمل الصفات الكمالية الأخرى، بحيث نثبتها له جل وعلا، من دون تجسيم، ولا تفويض في معناها ولا خفاء، وهو ما قد يسميه بعض العلماء (بالإجراء بالمفهوم التصديقي، وحقيقة هذه النظرية: أنه يجب الامعان في مفهوم الآية ومرماها ومفادها التصديقي (لا التصوري) ثم توصيفه سبحانه بالمعنى الجُمَلي المفهوم منها من دون إثبات المعنى الحرفي للصفات ولا تأويلها.)(1)
وبعبارة واضحة: أن نفهم الآية المعينة من خلال تجميع كل الآيات والروايات التي عالجت نفس موضوعها، لننتهي إلى معنى شامل كاشف عن المراد الجدي النهائي للمتحدث، وهو ما أشرنا له في بداية الكلام عن الصفات الخبرية. وهو الصحيح.
سنطرح بعض تلك الصفات ونحاول أن نبين المقصود الواقعي منها، بحيث لا يتعارض مع محكمات الآيات الأخرى وما دلّ الدليل على امتناعه على الله جل وعلا.
ص: 393
ص: 394
أشار القرآن الكريم إلى أنّ لله عزّ وجلّ يداً، كما في الآيات المباركة التالية:
)إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ( ((1).
)وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ(((2).
)يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ(((3).
فهل يمكن أن نتصور أن لله تعالى يدًا مثل أيدينا؟
الجواب: أن هذا غير ممكن لأنه يستلزم الجسمية، وبالتالي الاحتياج، وهو ينافي وجوب الوجود.
ولذا روي عن عبد الله بن قيس عن الإمام الرِّضا (عليه السلام): سَمِعتُهُ يَقولُ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) فَقُلتُ لَهُ: لَهُ يَدانِ هكَذا؟ وأَشَرتُ بِيَدي إِلى يَدِهِ. فَقالَ: لا، لَو كانَ هكَذا لَكانَ مَخلوقاً.(4)
ص: 395
والمعنى الصحيح لها هو: القوة والغلبة، وقد تأتي بمعنى النعمة، وقد روي هذا المعنى عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) فقلت: قَولِهِ تَعالى: (يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَديَّ) فقال (عليه السلام): اليَدُ في كَلامِ العَرَبِ القُوَّةُ وَالنَعَمَةُ ؛ قالَ: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأْيْدِ)، وقالَ: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيْد) أَي بِقُوَّة، وقالَ: (وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنْهُ) أَي قَوّاهُم، ويُقالُ: لِفُلان عِندي أَيادي كثيرةٌ أي فواضلُ وإحسانٌ، وَلَهُ عِندي يَدٌ بَيضاءُ ؛ أَي نِعمَةٌ..(1)
قال الشيخ الطوسي في تبيانه: (والمراد: أنه أقوى وأقدر منهم وأنه القاهر لهم.)(2)
وهكذا فيما قالته اليهود من أن يد الله تعالى مغلولة، أرادوا أن قوته وسلطنته على الكون انتهت بعد أن انتهى
من خلقه، فلا يستطيع أن يفعل شيئًا بعد أن أتمّ الخلق، وهي نظرية التفويض التي قال بها المعتزلة أيضًا، فالقرآن الكريم يرد على اليهود مقولتهم، ويؤكد أن قدرة الله تعالى ما زالت منبسطة قبل وأثناء وبعد الخلق، فعبّر عن انبساط القوة بانبساط اليدين، وهو استعمال كنائي متعارف في لغة العرب.
وفي ذلك روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في قوله الله عز وجل: (وقالت اليهود يد الله مغلولة): لم يعنوا أنه هكذا، ولكنهم قالوا: قد فرغ
ص: 396
من الأمر، فلا يزيد ولا ينقص، فقال الله جل جلاله تكذيبا لقولهم: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) ألم تسمع الله عز وجل يقول: (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ(1).(2)
ومنه سنعرف المعنى مما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): يَدُ الله فَوْقَ رَأْسِ الْحَاكِمِ تُرَفْرِفُ بِالرَّحْمَةِ، فَإِذَا حَافَ وَكَلَه الله إِلَى نَفْسِه.(3)
وأيضًا سنعرف معنى قبضة الله تعالى ويمينه، إذ هما بمعنى القوة والقدرة، وقد روي عن سليمان بن مهران: سَأَلتُ أَبا عَبدِ اللهِ (عليه السلام) عَن قَولِ اللهِ عزّ وجلّ: (وَالأْرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ)(4).
فَقالَ: يَعني مَلَكَهُ لا يَملِكُها مَعَهُ أَحَدٌ، وَالقَبضُ مِنَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى في مَوضع آخَرَ المَنعُ، والبَسطُ مِنهُ الإِعطاءُ وَالتَّوسيعُ، كَما قالَ عزّ وجلّ: (واللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(5) يَعني يُعطي ويُوسِّعُ ويَمنَعُ ويُضَيِّقُ، والقَبضُ مِنهُ عزّ وجلّ في وَجه آخَرَ الأَخَذُ، وَالأَخذُ في وَجهِ القَبولِ منهُ، كَما قالَ: (وَيأْخُذُ الصَّدَقَاتِ)(6) أَي يَقبَلُها مِن أَهلِها ويُثيبُ عَلَيها. قُلتُ: فَقَولُهُ
ص: 397
عزّ وجلّ (وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ)(1)؟ قالَ: اليَمينُ اليَدُ، وَاليدُ القُدرَةُ وَالقُوَّةُ، يَقولُ عزّ وجلّ: (وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيّاَتُ) بِقُدرَتِهِ وقُوَّتِهِ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).(2)
ص: 398
لقد أثبت القرآن الكريم صفة الوجه له جل وعلا، ومن ذلك قوله تعالى )لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ(1)(. وقوله )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ((2). وقوله تعالى: )وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ((3).
(كما هناك آياتٌ أكّدت على أنّ عمل الإنسان يجب أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، ومنها قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(4)
على أساس ما ذكر في هذه الآيات الكريمة، يتساءل بعضهم: هل أنّ الله العليّ القدير له وجهٌ كالذي يمتلكه الإنسانٍ؟)(5)
ص: 399
والجواب:
أيضًا من الواضح عدم إمكان وصفه جل وعلا بالوجه الجسماني، للزومه التركب فالحاجة فالإمكان، وهو خلف وجوب الوجود.
يُضاف إليه: أنه لو كان المقصود هو الوجه الحقيقي، للزم أن الذي يبقى منه (جل وعلا عن ذلك علوًا كبيرًا) بعد فناء عالم الإمكان هو وجهه فقط، إذ الآية تقول: إن الذي يبقى فقط هو وجهه جل وعلا، (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، وهو واضح البطلان كما ترى.
أما المعنى الصحيح لوجه الله تعالى فيتبين من التالي:
أنّ الوجه في الاصطلاح العرفي يشير إلى إحدى الجهات أو ظاهر الشيء من الأمام، حيث يطلق على صورة الإنسان والحيوان وسائر الواجهات، حيث يقال: (واجهة المبنى) (وجه الإنسان) (وجه الحيوان)، وهذه الأوصاف واضحةٌ للجميع. فواجهة الشيء - الظاهرة في مقدّمته - هي التي تستقطب أنظار الآخرين، وبالنسبة إلى الإنسان والحيوان فالوجه إضافةً إلى اتّصافه بهذه الخصوصية فهو أيضاً يعدّ مركزاً أساسياً وحسّاساً في المحاورات المباشرة...
ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ بقاء الشيء أو فناءه يطلقان عرفاً على الوجه، مثلاً عند وصف فتاةٍ حسنة الوجه يقال: (هل سيبقى هذا الوجه الحسن؟!) أو يقال: (من المؤسف أنّ هذا الوجه الجميل سيأكله التراب!) كما نلحظ في هذين المثالين أنّ الفناء والبقاء لم يطلقا على نفس الشخص، بل على وجهه،
ص: 400
والمراد هو الشخص نفسه لكن استعمل وجهه كنايةً عنه.(1)
ومن هذا نخلص إلى التالي:
أن
الوجه يُستعمل ويُراد منه الذات، وبهذا المعنى يمكن إطلاقه على الله عز وجل، فيكون المقصود من قوله تعالى (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(2).
وقوله )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ((3). هو: أن كل ما في الكون يفنى إلا ذات الله تعالى.
ومن قوله تعالى: )وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ((4) هو: أن الإنسان أينما ذهب فإنه سيجد الله تعالى عالمًا محيطًا بكل شيء، فهو تعالى موجود في كل مكان، و (أن الله عزّ وجلّ موجودٌ في كلّ مكانٍ ولا يمكن الفرار من عظمته، فكلّ مكانٍ هو دليلٌ على وجوده وهو بالتالي وجهٌ له.)(5)
أما في قوله تعالى (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(6)
وقوله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
ص: 401
اللهِ)(1)
وقوله تعالى (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ)(2)
وقوله تعالى (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) ]الإنسان 9[
فإن المقصود هو: أن العمل الذي يقومون به إنما يقصدون به التقرب إلى الله تعالى، إلى ذاته المقدسة التي هي محض الكمال، (إذ لا بدّ للعبادة بشتّى أنواعها - من إنفاقٍ وغيره - أن تكون تقرّباً له عزّ شأنه كي ينال العبد الثواب وحسن العاقبة في يوم الحساب؛ لذا يقال: إنّ الإنفاق والعبودية الخالصة يراد بهما التقرّب إلى وجه الله تعالى.)(3)
ص: 402
هناك آيات عديدة في القرآن الكريم تصرح بأن لله تعالى عرشًا، وأنه استوى على عرشه، والبعض توهّم بأن المقصود من العرش في تلك الآيات هو ما يشبه سرير الملك، كالذي كان عند بلقيس مثلًا (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ)(1)وأنه
(جل شأنه عن ذلك) استوى على ذلك العرش، أي جلس عليه مستويًا.
وكذلك صرّح القرآن الكريم بأن لله تعالى كرسيًا قد وسع السماوات والأرض، وقد يتوهّم البعض أن المراد هم الكرسي المادي المتعارف، حتى رووا ما تقشعر منه أبدان الذين عرفوا عظمة الله وجلاله، مثل: (إن كرسيه وسع السماوات والأرض وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله)(2).
وعلى كل حال، فإن هذا الكلام يتعارض مع الثوابت العقلية والدينية التي دلت على أن الله تعالى ليس جسمًا ولا محدودًا، ولو كان العرش سريرًا يجلس عليه الله تبارك وتعالى للزم أن يكون العرش أكبر منه (استغفر الله
ص: 403
تعالى من كل ذنب وخطل قول) ولزم أن يكون جل شأنه محدودًا، وهذه اللوازم وأمثالها واضحة البطلان.
روي عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (وكانَ عَرْشُه عَلَى الْماءِ)؟ فَقَالَ: مَا يَقُولُونَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَرْشَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ والرَّبُّ فَوْقَه! فَقَالَ: كَذَبُوا، مَنْ زَعَمَ هَذَا فَقَدْ صَيَّرَ اللَّه مَحْمُولاً، ووَصَفَه بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ، ولَزِمَه أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْمِلُه أَقْوَى...(1)
لذلك لا بد من تفسير العرش والاستواء عليه بمعنى يتناسب مع وجوب وجوده جل وعلا، وبما لا يلزم منه نسبة أي نقص له جل وعلا، وذلك بالبيان التالي:
لغة: (عرش)(2): العين الراء والشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاع في شيء مبني، ثم يستعار في غير ذلك، من ذلك: العرش. قال الخليل: العرش سرير الملك، وهذا صحيح قال الله تعالى: (ورفع أبويه على العرش)، ثم استُعير ذلك فقيل لأمر الرجل وقوامه: عرش، وإذا زال ذلك عنه قيل: ثُلّ عرشُه، قال زهير:
تداركتما الأحلافَ قد ثُلّ عرشُها *** وذبيانُ إذ زلت بأقدامها النعلُ.
بالتأمل في المعنى اللغوي لمفردة العرش يتبين أنها:
ص: 404
1/ تدلّ في أصل وضعها على ارتفاعٍ في شيء مبني.
2/ أن العرب بأساليبهم البلاغية المتنوعة، قد استعاروا هذا المعنى في غير ما وضع له، فاستعملوه في العرش الذي هو سرير الملك.
3/ ثم توسّعوا أكثر في استعمال تلك المادة إلى أمر الرجل وقوامه، ولعله باعتبار أن عرش الملك فيه إشارة إلى سلطنته وكونه في موقع العلو بالنسبة إلى رعاياه في مملكته، فناسب إطلاق كلمة (العرش) على أمره ذاك وسلطنته وعلو منزلته بالنسبة إلى غيره.
ومنه يتضح: أن العرش كما يُستعمل في السرير المادي المرتفع (عرش الملك)، كذلك يستعمل للكناية عن السلطنة والتملك.
قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: واسْتَوَى يقال على وجهين: أحدهما: يسند إليه فاعلان فصاعدًا، نحو:
اسْتَوَى زيد وعمرو في كذا، أي: تَسَاوَيَا، وقال: (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ الله)(1)
والثاني: أن يقال لاعتدال الشيء في ذاته، نحو: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى)(2)، وقال: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ)(3)،(لِتَسْتَوُوا
ص: 405
عَلى ظُهُورِه)(1)،
(فَاسْتَوى عَلى سُوقِه)(2)،
واستوى فلان على عمالته، واستوى أمر فلان، ومتى عُدّي بعلى اقتضى معنى الاستيلاء، كقوله: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(3).(4)
ومنه يُعلم: (أن الاستواء في الآية ليس ظاهرًا في معنى الجلوس والاعتماد على الشيء)(5)، فإنه كما يُستعمل في معنى الجلوس، كذلك يستعمل في معنى الاستيلاء والسيطرة والتمكن التام.(6)
ص: 406
والمعنى المتحصل الذي يمكن وصف الله تعالى به هو التالي:
أن المقصود من عرش الله تعالى هو ملكه وسلطانه وهيمنته على الجميع.
والمراد من استيلائه عليه هو تمكنه من ملكه ودخول ملكه تحت هيمنته وعدم خروج أي شيء منه عن قدرته وسيطرته وتدبيره.
وهذا المعنى مقبول ومتناسب مع عظمته جل شأنه، ولا يتعارض مع أي ثابت عقائدي ثبت بالدليل العقلي أو النقلي.
إذن، المقصود هي الكناية عن سعة قدرة الله تعالى وتدبيره الكون كله.
ومن الشواهد على ذلك: (أنه سبحانه قد أتى بذكر التدبير في كثير من الآيات بعد القول باستيلائه على العرش. فذكر لفظ التدبير تارة، ومصداقه وحقيقته أخرى. أما ما جاء فيه التدبير بلفظه، فقوله سبحانه:
أ / (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ
ص: 407
أَفَلا تَذَكَّرُونَ).(1)
ب / (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ).(2)
ج / (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. (3)يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَىٰ الْأَرضِ..)
ففي الآية الأولى يرتب سبحانه التدبير على قوله: (ثم استوى على العرش) ليكون المعنى: استوى على عرش التدبير.
كما أنه في الآية الثانية بعد ما يذكر قسما من التدبير وهو تسخير الشمس والقمر يعطي ضابطة كلية لأمر التدبير ويقول: (ويدبر الأمر).
وعلى غرار الآية الأولى: الآية الثالثة.
وأما ما جاءت فيه الإشارة إلى حقيقة التدبير من دون تسميته فمثل قوله سبحانه: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين).
ص: 408
فقوله: (يغشي الليل النهار) الآية إشارة إلى حقيقة التدبير وبيان نماذج منه، ثم أتبعه ببيان ضابطة كلية وقال: (ألا له الخلق والأمر) أي إليه يرجع الخلق والإيجاد وأمر التدبير.)(1)
ثالثًا: الكرسي:
قال تعالى في آية الكرسي (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).(2)
قال ابن فارس: (كرس) الكاف والراء والسين: أصل صحيح يدل على تلبّد شيء فوق شيء وتجمعه.(3)
والكرسي معروف، سُمي كرسيًا لأن أجزاءه تُجمع بعضها مع البعض الآخر، فإنه: (هو السرير الَّذى يُجلس عليه ويُستقرّ به... حيث إنّ السرير يصنع من موادّ متلبّدة متجمّعة حتّى يعلو الأرض ومجالس الناس ويستقرّ صاحب السرير عليه.
والمعمول في سرير الملوك أن يكون مرتفعًا له طبقات، حتّى يشرف الملك على الجلساء ويعلو عليهم ويحيط بهم.
وقد استعملت الكلمة في القرآن الكريم، بناء على هذا المعنى المتعارف المعلوم المعروف.
فالكرسيّ حقيقة ما يستقرّ عليه شخص، وأمّا خصوصيّات مادّته
ص: 409
وشكله وسائر جزئيّاته: فغير مأخوذة في مفهومه، وتختلف باختلاف الموارد والأشخاص والاقتضاءات العرفيّة.
فقد يعتمل من فضّة أو ذهب أو ممّا يقوّم بأضعاف قيمتهما، ويصنع صغيرا يختصّ برجل واحد وكبيرًا لجماعة، وهكذا سائر الجهات.)(1)
فهل يمكن أن نتصور أن لله تعالى كرسيًا مثل هذا المتعارف؟
من الواضح جدًا أنه لا يمكن ذلك لما تقدم في العرش، وحينئذٍ، فإن المعنى المتناسب مع الله عز وجل من وصف الكرسي هو التالي:
أن (الكرسي المناسب لله المتعال: لا بدّ وأن يكون من جهة العظمة والسعة والارتفاع بمقدار يحيط جميع السماوات والأرض وما بينهما من خلقه، حتّى يشرف عليهم ويحيط بهم ويكون الخلق جميعا تحت سلطته وقيّوميّته وحكمه وأمره ونفوذه، بحيث لا يعزب عنه شيء... فتفسير الكرسي بالجسمانيّات وما يقارنها وإن عظمت: انحراف وضلال عن الحقيقة، بل تنزيل الربّ القيّوم المحيط بمنزلة المربوب المحاط).(2)
ومن هنا، فقد فسرت الروايات الشريفة الكرسي بأنه علم الله تعالى، وأنه محيط بكل شيء، والمناسبة هي أن الكرسي -وكما تقدم- يُصنع بشكل يجعل الجالس عليه مطلعًا على من هم تحته، ومحيطًا علمًا بهم، فاستُعير هذا المعنى للدلالة على الإحاطة العلمية الإلهية، فعُبّر عن سعة العلم الإلهي وإحاطته
ص: 410
بالكرسي، وقد روي عن حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (وسع كرسيه السماوات والأرض) قال: علمه.(1)
وعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله جَلَّ وعَزَّ: (وَسِعَ كُرْسِيُّه السَّماواتِ والأَرْضَ) فَقَالَ: يَا فُضَيْلُ، كُلُّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ: السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ وكُلُّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ.(2)
ص: 411
ص: 412
لقد نصّت بعض الآيات الكريمة على أن لله تعالى عينًا، قال تعالى فيما حكاه عن قصة النبي نوح (عليه السلام): (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(1)وقال تعالى (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(2)
وقال تعالى (وَحَمَلْناهُ عَلىٰ ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ.)(3)وقال
تعالى مخاطبًا نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله): (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)(4)
فهل لله تعالى عينٌ؟
الجواب: تبين مما سبق أنه لا يمكن وصفه جل وعلا بالعين المادية، وإنما لا بد من بيان يتلاءم مع وجوب وجوده (جل وعلا) مما لا يستلزم نسبة أي نقص له عز وجل.
ومما يهوّن الخطب، أن كتب اللغة العربية بيّنت وبكل وضوح أن كلمة (العين) كما تستعمل في الجارحة (الباصرة)، كذلك تستعمل للدلالة على:
ص: 413
(الجاسوس).
و (الثقب الذي يكون منفذًا للنظر)
و (الفتحة الموجودة في السقاء التي يسيل منها الماء)
و (الذهب) لأنه أفضل الجواهر فهو عينها، كما كانت العين الباصرة هي أفضل الجوارح.
واستعملت كذلك بمعنى (ذات الشيء) فتقول: عينه يعني ذاته.
كذلك (منبع الماء)، فإنه عين.
وهكذا نجد أن العين لا تستعمل فقط في الجارحة، وإنما تستعمل للدلالة على معانٍ أخر لمناسبة ما(1)،
ومن تلك المعاني التي ذكرت كتب اللغة أن العين
ص: 414
تستعمل فيها هو معنى الرعاية، حيث يُقال (للمراعي للشيء: عَيْنٌ، وفلان بِعَيْنِي، أي: أحفظه وأراعيه، كقولك: هو بمرأى منّي ومسمع، قال تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا)(1)، وقال: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا)(2)،
(واصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا)(3)،
أي: بحيث نرى ونحفظ. (ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)(4)، أي: بكلاءتي وحفظي. ومنه: عَيْنُ اللَّه عليك أي: كنت في حفظ اللَّه ورعايته)(5)
وعلى هذا، فقد أصبح واضحًا معنى أن لله تعالى (عينًا)، أي إنه تعالى يراعي عباده ويسددهم ويدلّهم على ما ينجيهم من مكائد الدنيا وفتنها، وعلى ذلك، جاء الأمر للنبي نوح (عليه السلام) بأن يصنع السفينة رغم استهزاء قومه به، فكان الله تعالى يطمئنه ويهدئه، ويخبره بأنه تحت رعايته وتحت كَنَفِه وحفظه، وبالتالي، فإن النبي نوح (عليه السلام) صبر على كل الأذى الذي كان يسمعه من قومه، من استهزاء وازدراء، وهذا ما حكاه القرآن الكريم بقوله عز من قائل: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)(6)
ص: 415
ونفس المعنى جاء فيما يتعلق بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حيث كان الله عز وجلّ يخفّف عليه (صلى الله عليه وآله) ألم ما أصابه من قومه، فأمره تعالى بالصبر، وطمأنه بأنه تحت رعايته جل وعلا، قال الشيخ الطوسي في تفسير قوله تعالى (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)(1)
(قال تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله): (واصبر) يا محمد (لحكم ربك) الذي حكم به وألزمك التسليم له (فإنك بأعيننا) أي بمرأى منا، ندركك، ولا يخفى علينا شيء من أمرك، نحفظك لئلا يصلوا إلى شيء من مكروهك)(2)
إشارة:
إن النصوص الدينية تشير في أكثر من موضع إلى أن الله تعالى قد أخذ على نفسه رعاية الناس عمومًا والمؤمنين خصوصًا، وبطرق شتى، ابتداءً من رعاية الجنين في بطن أمه، مرورًا بتسهيل عملية الولادة التي لا يُحس بألمها إلا تلك الأم التي عانت مرارتها الممزوجة بدموع فرحها، ثم تيسير أمور المعاش، وإلقاء العطف في قلب الأم لتنسى راحتها من أجل راحة وليدها، وهكذا توفير المناخ المناسب للعيش في هذه الحياة، إلى دفع أنواع البلايا مما لا يعلمه إلى الله تعالى، ومن تلك النصوص التالي:
قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)(3)
ص: 416
وقال تعالى: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَىٰ الْعالَمِينَ)(1)
وقال تعالى: (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(2)
إن الإنسان إذا أحس بوجدانه بالرعاية الإلهية له، حينها سيطمئن باله، وترتاح نفسه، وكما قال الشاعر:
وإذا العنايةُ لاحظتك عيونُها *** لا تخشَ من بأسٍ فأنت تصانُ
وبكلّ أرضٍ قد نزلتَ قفارَها *** نمْ فالمخاوف كلّهنَّ أمانُ
واصطدْ بها العنقاءَ فهي حبائلٌ *** واطعنْ بها الأعداءَ فهي سنانُ
وافتح كنوزَ الأرض فهي غرائمٌ *** واقتدْ بها الجوزاءَ فهي عنانُ
وخير من وصف تلك النعم أو بعضها، هو الإمام الحسين (عليه السلام) في دعائه يوم عرفة، والذي جاء فيه:
(إلهي...أَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى الَّذي لَه يَسَّرْتَني، وفيه أَنْشَأْتَني، ومِنْ قَبْلِ ذلِكَ رَؤُفْتَ بي، بِجَميلِ صُنْعِكَ وسَوابِغِ نِعَمِكَ، فابْتَدَعْتَ خَلْقي مِنْ مَنِىٍّ يُمْنى، وأَسْكَنْتَني في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ، بَيْنَ لَحْمٍ ودَمٍ وجِلْدٍ، لَمْ تُشْهِدْني خَلْقي، ولَمْ تَجْعَلْ إِلَىَّ شَيْئاً مِنْ أَمْري، ثُمَّ أَخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي
ص: 417
مِنَ الْهُدى إِلَى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً، وحَفِظْتَني فِى الْمَهْدِ طِفْلًا صَبِيّاً، ورَزَقْتَني مِنَ الْغِذاءِ لَبَناً مَرِيّاً، وعَطَفْتَ عَلَىَّ قُلُوبَ الْحَواضِنِ، وكَفَّلْتَني الأُمَّهاتِ الرَّواحِمَ، وكَلأْتَني مِنْ طَوارِقِ الْجانِّ، وسَلَّمْتَني مِنَ الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ، فَتَعالَيْتَ يا رَحيمُ يا رَحْمنُ، حتّى إِذَا اسْتَهْلَلْتُ ناطِقاً بِالْكَلامِ، أَتْمَمْتَ عَلَىَّ سَوابغَ الاْنْعامِ، ورَبَّيْتَني زايِداً في كُلِّ عامٍ، حَتّى إذَا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتي، واعْتَدَلَتْ مِرَّتي، أَوْجَبْتَ عَلَىَّ حُجَتَّكَ بِأَنْ أَلْهَمْتَني مَعْرِفَتَكَ، ورَوَّعْتَني بِعَجائِبِ حِكْمَتِكَ، وأَيْقَظْتَني لِما ذَرَأْتَ فِي سَمائِكَ وأَرْضِكَ مِنْ بَدائِعِ خَلْقِكَ، ونَبَّهْتَني لِشُكْرِكَ وذِكْرِكَ، وأَوجَبْتَ عَلَىَّ طاعَتَكَ وعِبادَتَكَ، وفَهَّمْتَني ما جاءَتْ بِه رُسُلُكَ، ويَسَّرْتَ لي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ، وَمَنَنْتَ عَلَىَّ في جَميعِ ذلِكَ بِعَونِكَ ولُطْفِكَ، ثُمَّ إِذْ خَلَقْتَني مِنْ خَيْرِ الثَّرى، لَمْ تَرْضَ لي يا إِلهي نِعْمَةً دُونَ أُخرى، ورَزَقْتَني مِنْ أَنواعِ الْمَعاشِ، وصُنُوفِ الرِّياشِ، بِمَنِّكَ الْعَظيمِ الأَعْظَمِ عَلَىَّ، وإِحْسانِكَ الْقَديمِ إِلَىَّ، حَتّى إِذا أَتْمَمْتَ عَلَىَّ جَميعَ النِّعَمِ، وصَرَفْتَ عَني كُلَّ النِّقَمِ، لَمْ يَمْنَعْكَ جَهْلي وجُرْأَتي عَلَيْكَ أَنْ دَلَلْتَني إِلى ما يُقَرِّبُني إِلَيْكَ، ووَفَّقْتَني لِما يُزْلِفُني لَدَيْكَ، فَإِنْ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَني، وإِنْ سَئَلْتُكَ أَعْطَيْتَني، وإِنْ أَطَعْتُكَ شَكَرْتَني، وإِنْ شَكَرْتُكَ زِدْتَني، كُلُّ ذلِكَ إِكْمالٌ لأَنْعُمِكَ عَلَىَّ، وإِحْسانِكَ إِلَىَّ، فَسُبْحانَكَ سُبْحانَكَ مِنْ مُبْدِئٍ مُعيدٍ حَميدٍ مَجيدٍ، تَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ، وعَظُمَتْ آلاؤُكَ، فَأَىَّ نِعَمِكَ يا إِلهي أُحْصي عَدَداً وذِكْراً، أَمْ أَىُّ عَطاياكَ أَقُومُ بِها شُكْراً، وهِىَ يا رَبِّ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصيَهَا الْعادّوُنَ، أَوْ يَبْلُغَ عِلْماً بِهَا الْحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ ودَرَأْتَ عَني اللَّهُمَّ مِنَ الضُرِّ والضَّرَّاءِ أَكْثَرُ مِمَّا ظَهَرَ لي مِنَ الْعافِيَةِ والسَّرَّاءِ...)
ص: 418
بعض الآيات الكريمة صرّحت بأن لله تعالى جنبًا يتحسّر البعض أنه فرّط فيه في الدنيا، قال تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتىٰ عَلىٰ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ.)(1)
والجنب هو شق الإنسان وغير الإنسان، تقول: جلست بجنبه، أي عند أحد شقيه، ولكن لا ريب في أن الله تعالى ليس له جنب بهذا المعنى، كما اتضح هذا الأمر أكثر من مرة، لأنه يستلزم الجسمية، فلا بد أن يكون المقصود هي الكناية عن شيء ما، يصح إطلاق جنب الله تعالى عليه، ونسبته إلى الله تعالى.
وبمراجعة الكتب اللغوية، نجد أن كلمة (الجنب) كما تستعمل في الشق المادي، كذلك تستعمل للكناية عن القرب، وبناءً عليه، فإن معنى جنب الله تعالى هو: أن هناك شيئًا قريبًا من الله تعالى بالقرب المعنوي طبعًا، وأن القرآن يحذّرنا في الآية الكريمة المتقدمة من التفريط بهذا الشيء القريب منه تعالى، لأن هذا التفريط والبعد عنه سيسبب الحسرة والندامة يوم القيامة.
ص: 419
أما ما هو هذا الشيء الذي اعتبر جنب الله تعالى؟
بعض الكلمات فسّرته بطاعة الله تعالى وحدوده التي حدّها للناس، ولكن نصوص أهل البيت (عليهم السلام) فسّرته بأن المقصود هم أهل البيت (عليهم السلام) فهم جنب الله تعالى، أي هم الأشخاص القريبون معنويًا من الله تعالى، وبالتالي يلزمنا عدم التفريط بهم، وعدم الابتعاد عن ولايتهم، لنحظى بالفوز عند الله تعالى. على أنه لا شك أن طاعتهم راجعة إلى طاعة الله تعالى، فلا مخالفة بين هذا التفسير وبين التفسير الأول.
فقد روي عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله) قَالَ: جَنْبُ الله أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وكَذَلِكَ مَا كَانَ بَعْدَه مِنَ الأَوْصِيَاءِ بِالْمَكَانِ الرَّفِيعِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الأَمْرُ إِلَى آخِرِهِمْ.(1)
ويظهر من الروايات أن إطلاق هذه التعابير ليس مقتصرًا على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقط، بل الأئمة (عليه السلام) كلهم كذلك.
فعن خيثمة عن الإمام أبي جعفر(عليه السلام) قال: سمعته يقول: نحن جنب الله، ونحن صفوته ونحن خيرته ونحن مستودع مواريث الأنبياء، ونحن
ص: 420
امناء الله ونحن حجة الله ونحن أركان الإيمان، ونحن دعائم الاسلام ونحن من رحمة الله على خلقه، ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم...(1)
فالمراد من كونهم (عليهم السلام) (جنب الله) هي الكناية عن قرب منزلتهم (عليهم السلام) لله تعالى، لأنهم أقرب الناس الى الله تعالى، أو هي كناية عن أن قرب الله تعالى لا يحصل إلا بالتقرب بهم، كما أن من أراد أن يقرب من الملك يجلس بجنبه.
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: معنى جنب الله: أنه ليس شيء أقرب إلى الله من رسوله، ولا أقرب إلى رسوله من وصيه، فهو في القرب كالجنب، وقد بيّن الله تعالى ذلك في كتابه بقوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتىٰ عَلىٰ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) يعني في ولاية أوليائه.(2)
ص: 421
ص: 422
هناك عدة آيات كريمة ذكرت أن الله تعالى يجيء، ويأتي، ومن تلك الآيات:
- )وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(((1).
- )هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ(((2).
- )وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ(((3).
- )قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ(((4).
وقد يُتوهم بأن المجيء والإتيان يقتضي الحركة والزمان والمكان، وبالتالي يكون الله تعالى جسمانيًا، فكيف الجواب؟
ص: 423
لقد أصبح واضحًا من خلال ما تقدم أنه لا يصح وصف الله تعالى بالأوصاف الجسمانية.
ومن المناسب أن نذكر المطلب التالي الذي يقرّبنا من الوصول إلى المعنى الحقيقي للآيات محل البحث، وحاصلها:
مطلب: أسلوب الذكر والحذف في اللغة العربية.
أن من الأساليب البلاغية في اللغة العربية هو أسلوب الذكر والحذف، فرغم أن الأصل في الكلام هو أن يكون بذكر كل أركانه بلا حذف، ولكن البلاغة في بعض الأحيان تقتضي حذف بعض الكلمات، خصوصًا وأن البلاغة تقتضي إيصال المعنى المراد بأقل لفظ ممكن من دون إخلال بالمعنى، وقد ذكروا أسبابًا بلاغية عديدة للحذف، نذكر بعضًا منها للتوضيح:
أ/ الحذف لأجل إخفاء الأمر، كما تقول مثلًا: سُرق المتاع، ولا تذكر السارق، لخوفك منه مثلًا، أو تقول: خُلق الخنزير، ولا تذكر الخالق، تنزيهًا له عن قرن لفظ اسمه بلفظ الخنزير.
ب/ الحذف لأجل المبادرة بذكر الحال، كما إذا سئل شخص عن حاله فقال: عليل، أي أنا عليل، فهو يريد المبادرة بذكر حاله، فحذف المبتدأ.
ج/ الحذف لأجل التعميم باختصار، نحو قوله جل وعلا ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾(1)؛ حيث إن المراد هو أن الله تعالى يدعو جميع خلقه إلى دار
ص: 424
السلام، فحذف المفعول للفعل (يدعو) ليكون حذفه دالًا على العموم.
فأسلوب الحذف إذن أسلوب بلاغي، يعتمد فيه المتكلم على نصب قرينة ما، أو على ذكاء المخاطب، وما شابه.
والقرآن الكريم كتاب استعمل اللغة العربية وأساليبها في بيان مراداته –كما تقدم-، ومعه فإنه قد يستعمل أسلوب الحذف لغاية ما، ولكن علينا نحن أن نتأمل في كل كلماته جل وعلا، لنعرف المقصود من كلامه الذي حُذف بعضٌ منه.
وفي الآيات المتقدمة يمكن القول:
إن التعبير بمجيء الله تعالى وإتيانه ليس على المعنى المادي المتعارف عندنا، لأنه يلزم منه الجسمية كما اتضح، وإنما هناك محذوف مقدر، لو أظهرناه لصحت نسبة المجيء والإتيان له تعالى، وهو من باب: حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وهو أسلوب بلاغي متعارف في الكلام، فإنك تقول: جاء الأمير، والحال أن الذي جاء هو رسوله أو جيشه، وتقول: فتح الأمير المدينة، أي جيش الأمير، فلا ضير إذا ما استعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب.
فذلك المحذوف المقدر في الآيات محل البحث هو مثل كلمة (أمر) فيقال: جاء أمر الله تعالى، أو مثل (عذاب) فيقال: جاء عذاب الله تعالى، أو مثل (ملائكة) فيقال: جاءت ملائكة الله تعالى، وهذا ما ذكرته الروايات
ص: 425
الشريفة الواردة في هذه الآيات، وتبعها المفسرون في ذلك.
فعن الحسن بن علي بن فضال قال: سألت الإمام الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) عن قول الله عز وجل (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فقال: إن الله عز وجل لا يوصف بالمجيء والذهاب تعالى عن الانتقال، إنما يعني بذلك: وجاء أمر ربك والملك صفّاً صفّاً.(1)
وعنه، عن الإمام الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، قال: سألته عن قول الله عز وجل: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) قال: يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام...(2)
وفي رواية الرجل الذي أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل، قال له (عليه السلام): ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل؟! فأخذ الرجل يعدّد آيات قرآنية تصوّر أنّ فيها خللًا ما، ومنها آيات المجيء والإتيان، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في جوابه:
أما قوله: (وجاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)، وقوله: (ولَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّه فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ والْمَلائِكَةُ)، وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ).
ص: 426
فإن ذلك حق كما قال الله عز وجل، وليس له جيئة كجيئة الخلق، وقد أعلمتك أن ربَّ شيءٍ من كتاب الله، تأويلُه على غير تنزيله، ولا يشبه كلام البشر، وسأنبئك بطرف منه، فتكتفي إن شاء الله تعالى، من ذلك قول إبراهيم (عليه السلام): إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى الله عز وجل، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله؟ وقال: (وأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيه بَأْسٌ شَدِيدٌ)، يعني السلاح وغير ذلك.
وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ يخبر محمدًا (صلى الله عليه وآله) عن المشركين والمنافقين الذين لم يستجيبوا لله وللرسول فقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ حيث لم يستجيبوا لله ولرسوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني بذلك العذاب) في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى، فهذا خبر يخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) عنهم.
ثم قال: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) يعني من قبل أن تجيء هذه الآية، وهذه الآية طلوع الشمس من مغربها، وإنما يكتفي أولو الألباب والحجا وأولو النهى أن يعلموا أنه إذا انكشف الغطاء رأوا ما يوعدون.
وقال في آية أخرى: (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) يعني أرسل عليهم عذابًا، وكذلك إتيانه بنيانهم، وقال الله عز وجل: (فَأَتَى اللَّه بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) فإتيانه بنيانهم من القواعد إرسال العذاب عليهم.
وكذلك ما وصف الله من أمر الآخرة تبارك اسمه وتعالى علوًا كبيرًا،
ص: 427
وتجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة كما تجري أموره في الدنيا، لا يغيب ولا يأفل مع الآفلين، فاكتفِ بما وصفتُ لك من ذلك مما جال في صدرك، مما وصف الله عز وجل في كتابه، ولا تجعل كلامه ككلام البشر، هو أعظم وأجلُّ وأكرم وأعز، تبارك وتعالى من أن يصفه الواصفون إلا بما وصف به نفسه في قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
قال: فرّجْتَ عني يا أمير المؤمنين، فرّج الله عنك، وحللت عني عقدة..(1)
إشارة: الجرأة في توصيف الله تعالى بأوصاف الأجسام المادية.
روى البعض من غير مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أن الله تعالى (عز وجل عن ذلك) ينزل إلى السماء الدنيا وفي رجليه نعلان و...
وفي الحقيقة، هذه جرأة على الله تعالى، ونكتفي في الرد على مثل هذه الخزعبلات بما روي عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول الله، ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؟
فقال (عليه السلام): لعن الله المحرّفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذلك، إنما قال (صلى الله عليه وآله): إن الله تبارك وتعالى يُنزل ملكًا إلى السماء الدنيا، كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل، فيأمره فينادي: هل
ص: 428
من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، يا طالب الشر أقصر، فلا يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء، حدثني بذلك أبي عن جدي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).(1)
ص: 429
ص: 430
يردد المسلمون يوميًا ملايين المرات قول (الله أكبر)، ومن الواضح أن كلمة (أكبر) هي أفعل تفضيل، تقتضي مشاركة أمرين في شيء، مع تفاضل أحدهما على الآخر فيه، فتقول: هذا أجمل من هذا، أي إنهما مشتركان في الجمال، ولكن أحدهما أكثر جمالًا من الآخر.
وفي كلمة (الله أكبر) قد يتوهم البعض أن هناك مقايسة بين الله تعالى، وبين غيره، بأن يكون هو وغيره مشتركان في حجم ما، ولكن الله تعالى أكبر حجمًا منه، وهذا التصوير يستلزم الجسمية، وقد عرفنا أنها باطلة فيه جل وعلا أكثر من مرة، فما هو المقصود منها؟
الجواب:
هنا مقدمة:
ذكر علماء البلاغة: أن أفعل التفضيل وإن كان يؤتى به لما ذُكر، من المشاركة في شيء وتفاضل أحد المشتركينِ على الآخر في ذلك الشيء، ولكن هذا يكون إذا ما استُعمل أفعل التفضيل في هذا المعنى، وإلا فقد يُستعمل في غير هذا المعنى، بأن لا يكون بين الشيئين مشاركة، ومع ذلك يتم استعمال صيغة أفعل التفضيل، ولكنها حينئذٍ تتضمن معنى اسم الفاعل. وذكروا
ص: 431
لذلك شواهد قرآنية عديدة، منها:
قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)(1)،
فإن كلمة ]أشد} هنا هي صيغة أفعل تفضيل، ولكنها لم تستعمل بمعنى التفاضل، أي لم تستعمل للاشتراك في صفة ما بين شيئين، مع زيادة أحدهما على الآخر، إذ إن قدرة العبد متناهية، ولا يمكن قياسها بقدرة الله تعالى، كيف؟ وما عند المخلوق من قدرة إنما هي مفاضة عليه من الله تعالى، ومن ثَمّ فإن التعبير هنا يُراد منه إثبات أن القدرة الإلهية هي من العظمة بحيث لا تُقاس بها أي قدرة أخرى.
ومثل ذلك قوله سبحانه: (ربكم أعلم بكم)(2)،
أي: عالم بكم؛ لأنه لا مشارك لله في علمه.
وهذا يعني: أن (اسم التفضيل) وإنْ كان يؤتى به لبيان اشتراك شيئين في وصف مع زيادة هذا الوصف في أحدهما. ولكن العرب قد تستعمله على غير هذا المعنى، بأن يؤتى به بين شيئين لا مشاركة بينهما وبالتالي لا تفاضل. وإنما تتضمن صيغة أفعل التفضيل حينئذٍ معنى اسم الفاعل.
والتعبير ب- (الله أكبر) هو من هذا القبيل، وهذا ما بيّنه أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) أنه قَالَ رَجُلٌ عِنْدَه: اللَّه أَكْبَرُ. فَقَال (عليه السلام): اللَّه أَكْبَرُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟
ص: 432
فَقَالَ الرجل: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) حَدَّدْتَه(1)!فَقَالَ الرَّجُلُ: كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ (عليه السلام): قُلْ: اللَّه أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ.(2) وعَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) أَيُّ شَيْءٍ: اللهُ أَكْبَرُ؟ فَقُلْتُ: الله أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ (عليه السلام): وكَانَ ثَمَّ شَيْءٌ فَيَكُونُ أَكْبَرَ مِنْه؟! فَقُلْتُ: ومَا هُوَ؟ قَالَ: الله أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ.(3)
ص: 433
ص: 434
مقدمة جامعةأم البنين عليها السلام 5
الاهداء 9
مقدمة المؤلف 11
الأمر الأول: مراتب المعرفة البشرية 17
أولا: اليقين البديهي: 17
ثانياً: اليقين البرهاني النظري، أو القطع البرهاني: 21
الأمر الثاني: النظام العام للإسلام 25
الخط الأول: الاعتقادات: 25
الخط الثاني: فروع الدين: 25
الخط الثالث: الآداب العامة (الأخلاق) 26
الأمر الثالث: الأدلة المستعملة في علم الكلام 31
النوع الأول: الأدلة العقلية: 31
النوع الثاني: الأدلة النقلية 33
إشارات: 34
الأمر الرابع: ضرورة البحث عن الدين؟ 39
السؤال الأول: الوجه في كفاية تقييد الضرر بالمحتمل. 40
السؤال الثاني: حساب من لم يسمع بالدين. 41
الأمر الخامس:إن ههنا واقعاً يمكنناإدراكه. 45
الأمر السادس:إن المجرد موجود له واقع. 47
إثبات الوجود المجرد 47
ص: 435
المدرسة الأولى: المدرسة المادية: 48
المدرسة الثانية: المدرسة الواقعية: 49
الدليل الأول: الروح (الأنا) 49
الدليل الثاني: التقاط الصور: 50
الدليل الثالث: تذكّر وتخيّل الصور: 51
الأمر السابع: نظام العلة والمعلول 53
النقطة الأولى: معنى العلة المعلول وخصائصهما: 53
النقطة الثانية: نظام الوجود نظام العلة والمعلول الطبيعي: 56
مقدمة 61
الأول: هي النصوص. 62
الثاني: العلوم الدينية، كالكلام والفلسفة. 64
المبحث الأول: 73
إثبات وجود الله عز وجل 73
مبادئ تصورية: 73
أدلة (أو تنبيهات)إثبات وجود الله تعالى 77
المحور الأول: برهان الإجماع العام، وهو (دليل الفطرة) 77
المحور الثاني: البراهين الكونية 85
المرحلة الأولى: أن الواقعية تلازم الاعتراف بالغيب. 85
التصوير الأول: برهان الملازمات العقلية 85
التصوير الثاني: برهان (الصدّيقين). 88
المرحلة الثانية: إن الواقعية الملونة بلون معين (كالإمكان أو الحدوث... 92
البرهان الأول: برهان الإمكان والوجوب: 93
البرهان الثاني: برهان الحدوث. 96
المعنى الأول: الحادث والقديم الذاتيان: 97
ص: 436
المعنى الثاني: الحادث والقديم الزمانيان: 97
البرهان الثالث: برهان الحركة. 101
المحور الثالث: برهان (إتقان الصنع) أو (برهان النظام) 105
إشارات: 110
الإشارة الأولى: سهولة تناول برهان النُظُم. 110
الإشارة الثانية: برهان النُظُم لا ينتهي إلى وجوب المنظِّم. 111
الإشارة الثالثة: سبب تركيز القرآن الكريم على برهان «النظم 111 .»
المحور الرابع: برهان النفس 11 5
أولاً: إثبات تجرد النفس. 117
المقدمة الأولى: في تجرد العلم الحسي: 117
المقدمة الثانية: اتحاد العالم والمعلوم. 118
ثانياً: حدوث النفس وكيفية وجودها: 119
بيان المقدمة الخامسة: 121
المحور الخامس: برهان (الحقيقة) و (المفهوم) 123
مميزات دليل المفهوم: 124
إشكالية شريك الباري: 125
كيفية استدلال العقل على الغيب. 128
الطريق الأول: طريق مختصر جداً. 131
الطريق الثاني: طريق متوسط: 131
الطريق الثالث: طريق مطوّل: 132
تصوير الاحتياط في باب الإيمان. 138
أولاً: الإيمان الإجمالي. 139
ثانياً: الإيمان ال طَرشْي. 140
ثالثاً: الإيمان الظني. 141
ص: 437
المبحث الثاني: 149
التوحيد 149
المعنى الأول: التوحيد في الذات 151
الجهة الأولى: التوحيد الواحدي. 152
المعنى الثاني: التوحيد في الصفات. 159
النوع الاول: الصفات الثبوتية الكمالية: 159
الصنف الأول: الصفات الثبوتية الكمالية الحقيقية (أو الذاتية). 159
القول الأول هو ما نُسب إلى (الاشاعرة). 160
المناقشة في قول الأشاعرة: 161
القول الثاني: للمعتزلة. 163
القول الثالث: عينية الصفات للذات. 165
النوع الثاني: الصفات السلبية: 170
الصنف الاول: الصفات السلبية الذاتية: 170
الصنف الثاني: الصفات السلبية الفعلية: 171
إشارات: 172
الإشارة الأولى: الدليل على لزوم اتصاف الذات بالصفات. 172
الإشارة الثانية: المرجع للصفات. 173
الإشارة الثالثة: فذلكة: العقل البشري واكتناه الصفات الإلهية: 175
الإشارة الرابعة: الفرق بين الاسم والصفة. 178
الإشارة الخامسة: معنى التأدب بآداب الله تعالى. 181
النوع الثالث: الصفات الخبرية. 187
المبحث الثالث: 189
تفاصيل الصفات الإلهية 189
التفصيل الأول: تفصيل الصفات الثبوتية الذاتية: 189
ص: 438
الصفة الأولى:إنه تعالى عالم 191
النقطة الأولى: الدليل على ثبوت هذه الصفة له تعالى. 191
النقطة الثانية: إن علمه تعالى حضوري. 194
النقطة الثالثة: بعض الإشكالات على العلم الإلهي. 198
الإشكال الأول: نفي علمه تعالى بذاته. 199
الإشكال الثاني: نفي علمه تعالى بمخلوقاته. 200
الإشكال الثالث: نفي علمه تعالى بالجزئيات: 202
الإشكال الرابع: إن العلم الذاتي يستلزم الجبر. 205
الإشارة الأولى: المادة هي سبب محدودية العلم. 207
الإشارة الثانية: دور البشرية في عملية التكامل. 209
الإشارة الثالثة: الإيمان بعلم الله تعالى رادع عن المعصية. 210
الإشارة الرابعة: صفات تلازم صفة العلم. 211
الصفة الثانية: القدرة 21 9
النقطة الأولى: التلازم بين القدرة والاختيار. 220
الأول: القدرة مقابل الإكراه: 223
الثاني: القدرة مقابل العجز: 223
الثالث: القدرة مقابل الإيجاب: 224
النقطة الثانية: الخلاف بين الحكماء والمتكلمين. 224
تفريع: إشكالات أخرى وأجوبتها. 231
النقطة الثالثة: خصائص القدرة الإلهية: 236
النقطة الرابعة: صفات تلازم القدرة: 249
الصفة الثالثة:إنه تعالى حي 257
النقطة الأولى: أدلة إثبات صفة الحياة. 258
النقطة الثانية: ما هي الحياة؟ 259
ص: 439
النقطة الثالثة: خصائص الحياة في النصوص الدينية: 261
الصفة الرابعة: فيأنه تعالى مريد 265
النقطة الأولى: إثبات صفة الإرادة له جل وعلا. 265
النقطة الثانية: الآراء في الإرادة. 266
الآراء في الإرادة. 267
النقطة الرابعة: تقسيمات الإرادة. 272
النقطة الخامسة: خصائص الإرادة الإلهية. 276
الخصيصة الثانية: عدم المانع من نفوذ إرادته. 277
الخصيصة الثالثة: تجلّي حكمته ورحمته جل وعلا في إرادته. 279
الخصيصة الرابعة: إرادة انتصار الخير. 280
الخصيصة الخامسة: إرادته تعالى لم تُلغِ إرادة الإنسان. 281
التفصيل الثاني: تفصيل الصفات الثبوتية الفعلية. 283
في أنه تعالى متكلم. 283
توضيح رأيي الأشاعرة والمعتزلة: 284
وهذا هو مختار الإمامية. 286
موانع القول بقدم الكلام الإلهي. 289
الصدق: 289
التفصيل الثالث: تفصيل الصفات السلبية الذاتية 293
مقدمة: 293
الصفة الأولى: إنه تعالى ليس بمركب. 300
الصفة الثانية: إنه تعالى ليس بجسم. 300
الصفة الثالثة: إنه تعالى ليس بجوهر ولا عرض. 301
الصفة الرابعة: أنه تعالى لا ضد له. 303
الصفة الخامسة: أنه تعالى ليس محلاًّ للحوادث. 304
ص: 440
الصفة السادسة: إنه تعالى غير محتاج 304
الصفة السابعة: في استحالة الألم واللذة عليه تعالى. 308
الصفة الثامنة: أنه تعالى لا يُرى بالرؤية الحسية. 309
النقطة الثانية: رأيا المجسمة والأشاعرة. 311
النقطة الثالثة: أدلة المجوزين للرؤية البصرية. 312
الدليل الأول: طلب النبي موسى الرؤية. 313
الدليل الثاني: إخبار القرآن الكريم بأن المؤمنين ينظرون... 316
النقطة الرابعة: رواية جامعة في نفي الرؤية. 320
التفصيل الرابع: في بعض الصفات السلبية الفعلية. 323
الصفة الأولى: الكيد والمكر والاستدراج والخداع والاستهزاء والسخرية 32 5
الصفة الثانية: القهر (القهار) 33 7
الصفة الثالثة: التجبر (الجبار) (ذو الجبروت). 343
الصفة الرابعة: التكبر (المتكبر) 347
الصفة الخامسة: الوراثة (الوارث) 349
فما هو معنى كونه تعالى وارثاً؟ 349
الصفة السابعة: الإضلال. 353
مقدمتان: 355
المعنى الأول: الهداية التكوينية العامَّة: 359
الضلال التكويني: 361
المعنى الثاني: هداية العقل: 366
الإضلال في العقل: 367
المعنى الثالث: هداية الدعوة: 372
ضلال الدعوة: 374
المعنى الرابع: هداية التشريع: 376
ص: 441
الضلال التشريعي: 377
المعنى الخامس: هداية اللطف. 377
المعنى السادس: هداية الفلاح: 385
التفصيل الخامس: الصفات الخبرية 387
تمهيد: 387
الآراء في الصفات الخبرية: 391
أهم الصفات الخبرية: 393
الصفة الأولى: اليد 395
الصفة الثانية: الوجه 399
الصفة الثالثة: العرش والكرسي والاستواء 403
الصفة الرابعة: العين 413
الصفة الخامسة: الجَنْب 419
الصفة السادسة: مجيء الله تعالى وإتيانه 423
الصفة السابعة: التفاضل بالحجم (الله أكبر) 431
ص: 442