قراءة جديدة للفتوحات الإسلامية المجلد 2

هویة الکتاب

قراءة جديدة للفتوحات الإسلامية

بقلم

علي الكوراني العاملي

المجلد الثاني

الطبعة الأولى:1432-2011

ص: 1

اشارة

ص: 2

الفصل الرابع: أصحاب الأدوار المدعاة في الفتوحات

كثرة القادة الحقيقيين والمدعى لهم

قد يبلغ عدد القادة والأبطال الذين شاركوا في معارك الفتوحات بشكل مؤثر وأولئك الذين ادعت لهم السلطة المشاركة المؤثرة.. ثلاث مئة شخصية .

وقد كتبنا ترجمات لنماذج منهم ، لنقدم بها صورة صحيحة للفتوحات ، لكن بعض الشيعة الذين لم نترجم لهم لا يقلون أهمية عنهم . ومن أمثلتهم:

المقداد بن الأسود الكندي ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وأبان بن سعيد بن العاص ، وسعيد بن خالد بن سعيد بن العاص ، وشرحبيل بن حسنة ، وأبو ذر الغفاري ، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، وطليب بن عمير بن وهب ، وأبو الدرداء عويمر بن زيد الخزرجي ، وعبادة بن الصامت بن أخ أبي ذر ، وأبو أمامة الباهلي ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو أيوب الأنصاري ، ومذعور بن عدي ، ومجموعة الفرسان النخعيين في فتوح الشام ، ومثلهم في فتوح العراق وفارس .

ومن أمثلة غير الشيعة :

أبو عبيدة بن الجراح ، ويزيد بن أبي سفيان ، وضرار بن الأزور ، وضرار بن الخطاب ، وأبو موسى الأشعري ، والزبير بن العوام ، وأبو سفيان بن حرب ،

ص: 3

والقعقاع بن عمرو ، وعاصم بن عمرو ، وعياض بن غنم ، وعكرمة بن أبي جهل ، وعبد الرحمن بن خالد ، وحبيب بن مسلمة ، وصفوان بن أمية ، وعمرو بن عنبسة ، والسمط بن الأسود ، وذو الكلاع الحيري ، ومعاوية بن حديج ، ولقيط بن عبد القيس ، وحوشب ذو ظليم ، وعصمة بن عبد الله .

هل اخترع رواة السلطة أبطالاً من خيالهم؟

وقد أثبتنا في ترجمة مالك الأشتر أن رواة السلطة أعطوا بعض بطولاته الى ضرار بن الأزور ، مع أنه قتل قبل اليرموك بسنوات في حرب اليمامة ! وكذلك فعلوا لضرار بن الخطاب ، فجعلوه من أبطال اليرموك مع أنه قتل في أجنادين .

والسؤال: هل صحيح أن رواة السلطة لم يكتفوا بالمبالغة والتضخيم ، وتحريف النصوص والأحداث ، ومدح من لايستحق والتنقيص من أصحاب البطولة.. حتى اخترعوا صحابة وأبطالاً لاوجود لهم ، ونسبوا لهم البطولات والأفعال والأقوال ، بل الأحاديث النبوية ؟

أجاب العالم الباحث السيد مرتضى العسكري (رحمة الله) بالإيجاب فألف كتاباً بإسم: خمسون ومئة صحابي مختلق! حاول فيه إثبات أن رواة السلطة اخترعوا عدداً من الصحابة من خيالهم ، ولم يكن لهم وجود في الواقع ، ومنهم قادة في الفتوح ، وسياسيون ، ومنهم رواة ، وأولياء أصحاب كرامات .. الخ.

ومن هؤلاء المخترَعين: القعقاع بن عمرو ، وأخوه عاصم بن عمرو، والأسود بن قطبة ، وابنه نافع بن الأسود ، وعمرو بن العاص التميمي، وعمرو بن مالك

ص: 4

وعفيف بن المنذر ، وزياد بن حنظلة ، وحرملة بن مريطة التميمي، وحرملة بن سلمى ، والربيع بن مطر بن ثلج ، وربعي بن الأفكل، وأُط بن أبي أُط التميمي.

كما ألف السيد العسكري كتاباً بإسم: عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى ، حاول فيه إثبات أن ابن سبأ أسطورة اخترعها الراوي سيف بن عمرو ، ولاوجود له .

ولا يتسع المجال لبسط القول في ذلك ، وقد تتبعت النصوص المتعلقة بعبد الله بن سبأ فوجدت أنه لايمكن موافقة الكاتب المصري طه حسين ، والسيد العسكري على أنه مختلق من أصله ، بل المختلق أدواره المدعاة في إيقاع الفتنة بين المسلمين وعثمان ، وبين علي (علیه السلام) وطلحة والزبير وعائشة .

وأميل الى ذلك في عدد من قادة الفتوحات ومنهم ضرار بن الأزور والقعقاع ، فقد ضخمهم رواة السلطة وكذبوا لهم ، ليغطوا بذلك على بطولة الأبطال الحقيقيين رضوان الله عليهم .

قال ابن حجر في ترجمة القعقاع في الإصابة:5/342: « قال سيف: قالوا: كتب عمر إلى سعد: أي فارس كان أفرس في القادسية؟ قال: فكتب إليه إني لم أر مثل القعقاع بن عمرو ، حمل في يوم ثلاثين حملة ، يقتل في كل حملة بطلاً».

وقال السيد العسكري في خمسون ومائة صحابي مختلق:1/134: «خلاصة البحث: القعقاع هو الذي أنشب القتال في اليرموك ، وفاز فيها كما فاز بأيام العراق ، واشترك في فتح اليرموك ، ودمشق ، وفحل ، ونظم فيها الأراجيز ، وأضيف إلى عدد القتلى في الفتوح عشرة آلاف ومائة ألف قتيل » !

ص: 5

خالد بن الوليد.والغدر ونبل الفروسية !

1. أبوه الوليد بن المغيرة رئيس بني مخزوم ، وأشد المشركين على النبي (صلی الله علیه و آله) وفيه نزل قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً . وَبَنِينَ شُهُوداً . وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً . سَأُرْهِقْهُ صَعُوداً . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لا تُبْقِى وَلا تَذَرُ . لَوَاحَةٌ لِلْبَشَرِ . عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ . (المدثر:11-30).

والوليد هو ( العُتُلُّ الزَّنِيم) الذي لم يتسع له حلم الله العظيم ، فأنزل فيه قوله: وَلاتُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. وقد اتفق المؤرخون والمفسرون على نزول هذه الآيات في الوليد، ففي تفسير الجلالين/758: «دعيٌّ في قريش، وهو الوليد بن المغيرة . ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة». وابن إسحاق:2/140، والقرطبي:19/71. وعشرات المصادر .

وهو أول المستهزئين الذين قتلهم الله تعالى في السنة الثالثة من بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) . فقد اتفق المفسرون والمحدثون على أن آيات: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ ، نزلت عندهلاكه ورفقائه ، بعد ثلاث سنين من البعثة .

فقد روينا في السيرة ، ورواه الذهبي في تاريخه(1/224) وصححه قال: «المستهزئون: الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، وأبو زمعة الأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى ، والحارث بن عيطل السهمي ، والعاص بن وائل . فأتاه جبريل فشكاهم النبي (صلی الله علیه و آله) إليه فأراه الوليد وأومأ جبريل إلى أبجله(شريانه)فقال:ما صنعت؟ قال: كُفيته . ثم أراه الأسود ، فأومأ جبريل إلى

ص: 6

عينيه فقال: ما صنعت؟ قال: كفيته . ثم أراه أبا زمعة فأومأ إلى رأسه فقال:ما صنعت؟قال كفيته. ثم أراه الحارث فأومأ إلى رأسه أو بطنه وقال: كفيته.فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبالاً فأصاب أبجله فقطعها. وأما الأسود فعمي. وأما ابن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها. وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها. وأما العاص فدخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت فمات . حديث صحيح».انتهى.

وفي رواية أن الوليد لما حضرته الوفاة: «دعا ولده هشاماً وخالداً والوليد والفاكه وأبا قيس وقيساً وعبد شمس وعمارة ، فقال لهم: يا بَنيَّ إني أوصيكم بثلاث فلا تضيعوهن: دمي في خزاعة فلا تُطِلُّنَّهُ ، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكن أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم ! ورباي في ثقيف فلا تدَعوه حتى تأخذوه ، وعُقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به ، وكان أبو أزيهر قد زوجه ابنة له ثم أمسكها عنه ، فلم يدخلها عليه حتى مات ».

وسبب طلبه ديته من خزاعة أنه « مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه ، فمات وهو يقول: قتلني رب محمد! (الخصال/279) ، فاعترف بأن رب محمد (صلی الله علیه و آله) قتله ، ومع ذلك أوصى بأخذ الدية من صاحب السهام ! قال أبو طالب (رحمة الله) :

«رجال تمالوا حاسدين وبغضة *** لأهل العلى فبينهم أبداً وتر

وليدٌ أبوه كان عبداً لجدنا *** إلى علجة زرقاء جاش بها البحر

وتيمٌ ومخزومٌ وزهرةُ منهم *** وكانوا لنا مولىً إذا ابتغيَ النصر

فقد سفهت أحلامهم وعقولهم *** وكانوا كجفر بئس ماصنعت جفر»

(ابن هشام:1/173وابن إسحاق: 2/133)

ص: 7

2. ونشأ خالد على يد أبيه الوليد في العداء للنبي (صلی الله علیه و آله) ، وكان بارزاً بين إخوته ، فنفذوا وصية أبيهم واغتالوا أبا أزيهر الدوسي! (المنمق/191، و ابن هشام:2/278).

وكان خالد أحد الذين انتدبتهم قريش لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة الهجرة فبات عليٌّ (علیه السلام) في فراشه: «فلما بصر بهم عليٌّ (علیه السلام) قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة، وثب به عليٌّ فختله وهمز يده ، فجعل خالد يقمص قماص البكر». (أمالي الطوسي/467 . والمعنى: يصرخ كالجمل البَكر ، الصغير السن ).

وشارك خالد وإخوته مع المشركين في بدر ، فنجا خالد ، وقُتل أخوه أبو قيس ، وأُسر أخوه الوليد بن الوليد . (شرح النهج: 14/203).

وكان خالد من قادة المشركين في أحد، وسبباً في هزيمة المسلمين بعد انتصارهم وانشغالهم بالغنائم ، فقد اغتنم هو وعكرمة الفرصة وهاجموهم من خلفهم .

وبعد انهزام الأحزاب في حربهم على النبي (صلی الله علیه و آله) رأى خالد أن ميزان القوة قد تحول الى جانب النبي (صلی الله علیه و آله) ، فجاء الى المدينة هو وعمرو بن العاص ، وأسلما .

وبعد فتح مكة شارك مع قريش الى جانب النبي (صلی الله علیه و آله) في حرب حنين ، لكنه كان في أول المنهزمين بخيله من بني سليم .

وبعد فتح الطائف أخذ خالد يستوفي ربا أبيه الوليد من ثقيف فمنعه النبي (صلی الله علیه و آله) (المنمق/203) ثم عاد وطالبهم به فشكوه الى النبي (صلی الله علیه و آله) ، فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.(عمدة القاري: 11/201).

ثم ادعى خالد أنه أسلم قبل خيبر، وأنه شارك فيها ، فصدقه رواة السلطة ، لكن علماءها استحوا من الكذب الصريح فردوا قوله !

ص: 8

فقد روى أحمد (4/89 )عن خالد قال: « غزوت مع رسول الله غزوة خيبر، فأسرع الناس في حظائر يهود فقال: يا خالد ناد في الناس أن الصلاة جامعة » !

وقال في نصب الراية (6/58):«أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة عن بقية».

وقال ابن حزم إنه موضوع(عمدة القاري:17/248. وراجع (الإستيعاب:2/427).

وقال في مجمع الزوائد(9/351): «كان إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة عند النجاشي، فقدموا المدينة في صفر سنة ثمان من الهجرة ». وبه قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية/259،وابن حجر في تهذيب التهذيب: 3/107، وابن تيمية في فتاويه:4/397.

3.كان عمر بن الخطاب يبغض خالداً ولايطيقه ، لأنه كسر ساقه في شبابه! فكان عمر يخوي ويفحج في مشيه كل عمره.(النهاية:7/131، وتفسير الطبري:2/79).

والسبب الآخر أن خالداً يرى أنه ابن أكبر شخصية في قريش، ويرى عمر شخصاً مغموراً من قبيلة مغمورة ، يعمل مُبَرْطِشاً ، أي دلال كراية حمير وإبل. (نهاية ابن الأثير:1/119، وتاج العروس:9/58) .

كما كان عمر خادماً لأخيه عمارة بن الوليد في سفره ، فاتهمه عمارة أنه أراد أن يغدر به ويقتله . (المنمق/130). وكان خالد يسخر من أم عمر ولا يقبل أنها من مخزوم ، ويسمي عمر: «الأعيسر ابن أم شملة» !

قال الطبري في خبر قتل خالد مالك بن نويرة:2/503: «فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر ، وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته ! وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامة له ، قد غرز في عمامته أسهماً ، فلما أن

ص: 9

دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال:أرئاءً ! قتلت امرءاً مسلماً ثم نزوت على إمرأته ، والله لأرجمنك بأحجارك ! ولا يكلمه خالد بن الوليد ، ولايظن إلا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتى دخل على أبي بكر ، فلما أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر ، وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك ! قال فخرج خالد حين رضي عنه أبوبكر وعمر جالس في المسجد فقال:هلم إليَّ يا ابن أم شملة ! قال: فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه ، فلم يكلمه ودخل بيته » !

ومعنى أم شملة: أم وزرة ، يعيِّره بأن أمه كانت معدمة فرباها رجل من بني مخزوم !

وقد عارض عمر تأمير خالد فلم يطعه أبو بكر ، ثم طالبه عمر أن يقتله بمالك بن نويرة ، فلم يسمع كلامه ، وقال إن خالداً اجتهد فأخطأ .

ولما مات أبو بكر وتولى عمر ، كان أول عمل قام به عزلُ خالد ، وكتب لأبي عبيدة أن يهينه وينزعه عمامته ، ويطلب منه أن يكذب نفسه ويسحب طعنه في أم عمر ، وإن لم يفعل فليقاسمه ما يملك ، ويصادر نصف أمواله !

قال الطبري:2/622: «عن صالح بن كيسان قال: كان أول كتاب كتبه عمر حين ولي إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد..وعزل خالد بن الوليد !

حدثنا سلمة عنه قال: إنما نزع عمر خالداً في كلام كان خالد تكلم به فيما يزعمون..فكتب عمر إلى أبي عبيدة إنْ خالدٌ أكذب نفسه فهو أمير على ماهو عليه ، وإن هو لم يُكَذِّب نفسه فأنت الأمير على ماهو عليه ، ثم انزع عمامته عن رأسه ، وقاسمه ماله نصفين ! فلما ذكر أبوعبيدة ذلك لخالد قال: أنظرني أستشر أختي في أمري ، ففعل أبوعبيدة ، فدخل خالد على أخته فاطمة بنت الوليد ،

ص: 10

وكانت عند الحارث بن هشام ، فذكر لها ذلك فقالت: والله لا يحبك عمر أبداً ، وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك ! فقبل رأسها وقال: صدقت والله . فتم على أمره وأبى أن يكذب نفسه..قال (أبو عبيدة) أُمِرت أن أنزع عمامته وأقاسمه ماله ، فقاسمه ماله حتى بقيت نعلاه..فأخذ نعلاً وأعطاه نعلاً.. فحسب ذلك فبلغت قيمته ثمانين ألف درهم ، فناصفه عمر ذلك ، فأعطاه أربعين ألف درهم وأخذ المال..فكان عمر يرى أنه قد اشتفى من خالد حين صنع به ذلك ».

4. وكتب عمر الى خالد: «بلغني أنك تَدَلَّكْتَ بخمر..فكتب إليه: إنا قتلناها فعادت غسولاً غير خمر. فكتب إليه عمر: إني لأظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه ». (تاريخ دمشق:16/264، والطبري:3/166، والنهاية:7/92).

5. وعاش خالد معزولاً ومات في حمص ، فمنع عمر أقاربه من البكاء عليه! «لما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين ، فجاء عمر ومعه ابن عباس ومعه الدرة ، فقال: يا عبدالله أدخل على أم المؤمنين فأمرها فتحتجب وأخرجهن عليَّ ، فجعل يخرجهن عليه وهو يضربهن بالدرة ! فسقط خمار امرأة منهن فقالوا: يا أمير المؤمنين خمارها! فقال: دعوها فلا حرمة لها ! وكان يُتعجب من قوله: لا حرمة لها ». (عبد الرزاق:3/557).

6.تقرأ الكثير عن فروسية خالد وبطولاته ، في مصادر الخلافة ، لكنك تفتش في المعارك فلا تجد له أي مبارزة ، أو مشاركة حقيقية في معركة منها !

ثم تقرأ حديثه عن نفسه لتعرف نوع شخصيته وتفكيره وتصرفه، فتجد أنه يمدح نفسه مدحاً مفرطاً ، وأن بطولاته المدعاة من أقواله .

ص: 11

كما تجده يفتخر بأبيه الوليد بن المغيرة وبأجداده ، غير مكترث بذم القرآن له !

وتجده يعمل بمعادلات الربح والخسارة ، ويميل مع ميزان القوى ، ولا يدخل في حسابه القيم الإسلامية ، ولا القيم القرشية والعربية .

وقد وصف المعادلة التي دفعته الى الدخول في الإسلام فقال: «وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد ، فليس موطن أشهده إلا وأنصرف وإني أرى في نفسي أني مُوضعٌ في غير شئ ، وأن محمداً سيظهر » !

وقال: «فلما جاء (النبي (صلی الله علیه و آله) ) لعمرة القضاء تغيبت ولم أشهد دخوله ، فكان أخي الوليد بن الوليد دخل معه ، فطلبني فلم يجدني ، فكتب إليّ كتاباً فإذا فيه: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وقلة عقلك ، قد سألني عنك رسول الله، فقال: أين خالد..». (النهاية:4/272، وتاريخ دمشق:16/226 ، وكثير من المصادر ) .

ومعنى: موضعٌ في غير شئ: رأيت نفسي أني أقاومه بدون نتيجة ! وكان زميله عمرو بن العاص مثله ، فقال كما رواه مجمع الزوائد ووثقه (9/350): «لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعملون والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت أمراً فما ترون فيه؟ قالوا:وما رأيت؟ قلت: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد ! وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا ، فلن يأتينا منهم إلا خير . قالوا: إن هذا الرأي ..

ثم وصف عمرو كيف وافقه خالد على رأيه . فقررا بعد عمرة القضاء في السنة السابعة ، أن يسلما ، وجاءا الى المدينة وأسلما . وتاريخ الطبري: 2/313.

ص: 12

7. ويلفتك في شجاعة خالد ، ما كتبه له أبو بكر لما بعثه لحرب مسيلمة ، قال: «فإذا عزمت على الحرب فباشرها بنفسك ، ولا تتكل على غيرك ، وصف صفوفك وأحكم تعبئتك ». (فتوح ابن الأعثم:1/23).

ومعناه أن أبا بكر يعرف أن طريقة خالد أن يقاتل بغيره ، ولا يقاتل بنفسه ! لكن رغم تأكيد أبي بكر عليه ، جلس خالد في معركة اليمامة على سريره في خيمته ولم يقاتل، لا في اليوم الأول ولا الثاني ! وعندما وصلت هزيمة المسلمين الى فسطاطه هرب تاركاً زوجته ، ودخل أعداؤه خيمته ورَعْبَلُوهَا بسيوفهم !

ثم رأينا شجاعته عندما ذهب الى الحديقة فجاءه فارس فاشتبك معه فوقعا عن فرسيهما وخالد فوقه ، فبذل جهده ليتخلص منه ويهرب فوجد فرسه قد هرب ، ثم نجا خالد وهو مرهق ووصل الى خيمته ، لكن لاسالماً ولا غانماً !

وظل جالساً في الخيمة حتى انتصرالمسلمون ، وجاءه خبر قتل مسيلمة ، فجاءته الشجاعة وذهب الى الحديقة ، ومعه حراس ! وقد وثقنا ذلك كله في حرب اليمامة!

8. إذا تتبعت تاريخ خالد العسكري ، من مشاركته مع المتآمرين البضعة عشر لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) ليلة الهجرة ، الى أن توفي في حمص بعد ثلاثين سنة ، لا تجد فيها حالة مبارزة واحدة ، ولا حملة حقيقية في حرب ، إلا ما كذَبوه له ولم يثبت ، أو كذَبه هو لنفسه وثبت عكسه !

ففي حروب المشركين كان على الخيل. قال ابن حجر في الإصابة (2/215): «كان أحد أشراف قريش في الجاهلية ، وكان إليه أعنة الخيل في الجاهلية ، وشهد مع كفار قريش الحروب إلى عمرة الحديبية ، كما ثبت في الصحيح ».

ص: 13

ولم يبرز خالد الى أحد من المسلمين ، ولا المشركين بعد إسلامه أبداً. وأشهر ما عرف به أنه في أحُد بعد هزيمة قريش، اغتنم فرصة انشغال المسلمين بجمع الغنائم ، فالتفَّ عليهم من ورائهم هو وعكرمة بخيلهم ، وقتلوا الرماة حرَّاس المضيق ، وهاجموا المسلمين من خلفهم ، ورجع المشركون المنهزمون من أمامهم فأطبقوا على المسلمين فقتلوا حمزة وسبعين من المسلمين، وكانت هزيمة أحُد ، التي قصها الله تعالى في القرآن . ولم يبارز فيها خالدٌ أحداً ولا قتل أحداً .

وفي معركة الخندق ، لم يكن خالد مع فرسان المشركين الذين عبروا الخندق ، بل كمن خلف الخندق، واختار فرصة عبور شيخ هرم كبير السن في جانب المسلمين ، هو أنس بن أوس بن عتيك ، فرماه بسهم فقتله. (الإصابة:1/270).

وفي غزوة الحديبية كان خالد على خيل المشركين، ووقعت بينهم وبين المسلمين مناوشات ، ووقع فيها قتلى وأسرى أكثر من خمسين،لكن لم يرد فيها ذكر خالد .

وفي عمرة القضاء في السنة الثانية تقدم أن خالداً قال إنه غيب نفسه عن مكة .

9. واشتهر غدر خالد ببني جذيمة رغم إعلانهم الإسلام ! ففي فتح مكة أرسله النبي (صلی الله علیه و آله) في خيل الى بني جذيمة وهم على مسافة يوم من مكة ، ليدعوهم الى الإسلام ، فاحتال عليهم خالد حتى وضعوا أسلحتهم ، فكتفهم وغدر بهم وقتَّلهم ليثأر لعمه الذي قتله رجل جذيمي في الجاهلية !

وقال مقاتل كما في تفسيره (3/158) إن عدد الذين قتلهم خالد سبعون رجلاً !

وتسمى منطقتهم الغميصاء و الرميصاء ، ويسمى مكان قتلهم: الخندمة .

ص: 14

وفي معجم البلدان (4/214): «الغميصاء: موضع في بادية العرب قرب مكة ، كان يسكنه بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة ، الذين أوقع بهم خالد بن الوليد عام الفتح ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، ووداهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) على يدي علي بن أبي طالب، وقالت امرأة منهم:

ولولا مقالُ القوم للقوم أسلموا *** للاقت سليمٌ يوم ذلك ناطحا

لماصعهم بشرٌ وأصحاب جحدمٍ *** ومُرَّةُ حتى يتركوا الأمر صابحا

فكائن ترى يوم الغميصاء من فتى *** أصيب ولم يُجرح وقد كان جارحا

ألظت بخطَّاب الأيامى وطلقت *** غداة ئذ منهن من كان ناكحا ».

وفي إعلام الورى: 1/228: « بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر ، وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بني المغيرة نسوة ، وقتلوا عم خالد ، فاستقبلوه وعليهم السلاح وقالوا: ياخالد إنا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ، ونحن مسلمون، فانظر فإن كان بعثك رسول الله (صلی الله علیه و آله) ساعياً فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها ، فقال: ضعوا السلاح ، قالوا: إنا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهلية وقد أماتها الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ..الخ.

وجاء رسولهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره بما فعل خالد بهم ، فرفع يده إلى السماء وقال:اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد وبكى! ثم دعا علياً (علیه السلام) فقال: أخرج إليهم وانظر في أمرهم ، وأعطاه سفطاً من ذهب ، ففعل ما أمره وأرضاهم».

وفي أمالي الطوسي/498: «فأدى إليهم ديات رجالهم ، وما ذهب لهم من أموالهم وبقي معه من المال زعبة فقال لهم: هل تفقدون شيئاً من أموالكم وأمتعتكم؟

ص: 15

فقالوا: ما نفقد شيئاً إلا ميلغة كلابنا فدفع إليهم مابقي من المال فقال: هذا لميلغة كلابكم وما أنسيتم من متاعكم .

وأقبل إلى النبي (صلی الله علیه و آله) فقال: ماصنعت؟ فأخبره حتى أتى على حديثهم، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : أرضيتني رضي الله عنك . يا عليُّ أنت هادي أمتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة ».

وفي المنمق/216: «وقد كان القوم تأهبوا لحرب خالد بن الوليد ، فصاح بهم خالد أن ضعوا السلاح ، فإن الناس قد أسلموا . فقال رجل منهم يقال له جحدم: يا بني جذيمة ! إنه خالد بن الوليد ، فوالله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار ، ولا بعد الإسار إلا حزُّ الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبداً !

فأخذه رجال من قومه وقالوا: يا جحدم ! أتريد أن تسفك دماءنا ، إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس ، فلم يزالوا به حتى وضع سلاحه ووضع قومه السلاح ، ثم وضع خالد فيهم السيف فأكثر القتل !

فكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف في ذلك كلام فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام !

فقال خالد: إنما ثأرت بأبيك ! فقال عبد الرحمن: كذبت ، قد قتلتُ قاتل أبي ، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة» !

وفي فتح الباري(8/45): «عن أبي جعفر يعني الباقر قال: بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) خالد بن الوليد حين افتتح مكة إلى بني جذيمة داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً ».

ص: 16

أقول: روت مصادرهم فَعْلة خالد في بني جذيمة ، لكن أكثرهم حذف تبرؤ النبي (صلی الله علیه و آله) من فعل خالد ، كما حذفوا مدحه لعلي (علیه السلام) ! وحاولوا تبرير فعل خالد بأنه لم يفهم كلام بني جذيمة ، فأخطأ وقتلهم ! واعترف بعض النواصب كالذهبي بأن النبي (صلی الله علیه و آله) تبرأ من فعل خالد ، لكنه خففه !

قال في ميزان الإعتدال (2/379): «كما تبرأ النبي مما صنع خالد لما أسرع في قتل بنى جذيمة ، ومع ذلك فقال فيه: خالد سيف سله الله على المشركين . فالتبري من ذنب سيغفر لا يلزم منه البراءة من الشخص» .

فقد هوَّن قتل خالد لسبعين مسلماً بالحيلة بأن ذنبه مغفور، وصحح الحديث المكذوب على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه مدح خالداً بأنه سيف سله الله تعالى ، فكأنه يقول حتى لو قتلهم ، فإن الله تعالى هو الذي سل سيف خالد عليهم !

10. وارتكب خالد جريمةً تصلح أن تُعْمَل فيلماً ! فقد روتها عامة مصادر السيرة والحديث والتاريخ، مع شاب غريب عاشق ، ممن غدر بهم وقتلهم .

ففي سيرة ابن هشام:4/886: « قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ، عن الزهري ، عن ابن أبي حدرد الأسلمي، قال: كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد ، فقال لي فتى من بنى جذيمة وهو في سنى ، وقد جمعت يداه إلى عنقه برُمَّة (بضم الراء: الحبل) ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى، فقلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضى إليهن حاجة ، ثم تردني بعدُ ، فتصنعوا بي ما بدا لكم ؟

قال: قلت: والله ليسيرٌ ما طلبت، فأخذت برمته فقدته بها، حتى وقف عليهن فقال: إسلمي حبيش ، على نفدٍ من العيش!

ص: 17

أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم *** بحليةَ أو ألفيتكم بالخوانقِ

ألم يك أهلاً أن يُنَوَّلَ عاشقٌ *** تكلفَ إدلاجَ السُّرى والودائق

فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معاً *** أثيبي بود قبل إحدى الصفائق

أثيبي بود قبل أن تشحط النوى *** وينأى الأمير بالحبيب المفارق

قالت: وأنت فحييت سبعاً وعشراً وترا ، وثمانياً تترى . قال: ثم انصرفت به فضربت عنقه )!

وفي المنمق لابن حبيب/216، عن الأسلمي قال: «كنت مع خالد يوم الغميصاء ، فأسرت غلاماً منهم وجمعت يديه إلى عنقه.. وذكر القصة وفيها:

فأجابته وقالت: وأنت فحييت عشراً وتسعاً وتراً ، وثمانياً تترى .ثم انصرف فضربتُ عنقه. فلما رأته حبيش أقبلت فأكبت عليه ولم تزل تشهق حتى ماتت» !

وفي فتح الباري (8/46): «روى النسائي والبيهقي في الدلائل بإسناد صحيح ، من حديث ابن عباس نحو هذه القصة وقال فيها: فقال: إني لست منهم ، إني عشقت امرأة منهم ، فدعوني أنظر إليها نظرة ! وقال فيه: فضربوا عنقه ، فجاءت المرأة فوقعت عليه ، فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت! فذكروا ذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) فقال:أما كان فيكم رجل رحيم »! والطبري:2/342 ، وعشرات المصادر .

11. جعلوا جبن خالد بن الوليد في معركة مؤتة بطولة ! لأنه موالٍ للسلطة ، وقصة مؤتة أن النبي (صلی الله علیه و آله) أرسل في السنة السادسة رسائل الى ملوك العالم ، ومنها الى هرقل الروم ، فأجابه هرقل جواباً ليناً ، لكنه أخذ يستعد لغزو المدينة ،

ص: 18

ويجمع قواته في دومة الجندل في الجزيرة وفي الشام . فكانت غزوة مؤتة عملية استشهادية لإثبات القوة النوعية للمسلمين، ليتراجع هرقل عن خطته .

واختار لها النبي (صلی الله علیه و آله) ثلاثة قادة أبطال: جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فزيد بن حارثة، فإن قتل فعبد الله بن رواحة . واختار لها مكاناً قريباً من القدس، حيث كان هرقل نذر أن يحج ماشياً شكراً للمسيح (علیه السلام) لأنه بزعمه نصره على كسرى !

وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف ، فاشتبكوا مع الروم في مؤتة ، وتقدم القادة الثلاثة وأظهروا بطولة نادرة ، وقاتلوا حتى استشهدوا رضوان الله عليهم ، وكان النبي (صلی الله علیه و آله) على منبره في المدينة يصف معركتهم .

وبعد شهادتهم وقعت الهزيمة في المسلمين. قال ابن سعد:(2/129): «ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة ، فطاعن حتى قتل .ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة ».

وقال أبو هريرة: «شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب ، فبرق بصري! فقال لي ثابت بن أرقم: مالك يا أبا هريرة كأنك ترى جموعاً كثيرة! قلت: نعم» (تاريخ دمشق (2/13).

وفي فتح الباري (7/ 393 ): «عن عروة قال:ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فالتوى بها بعض الإلتواء ، ثم تقدم على فرسه ثم نزل فقاتل حتى قتل . ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري فقال: إصطلحوا على رجل ، فقالوا: أنت لها . قال: لا . فاصطلحوا على خالد بن الوليد .

وروى الطبراني من حديث أبي اليسر الأنصاري قال: أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب عبد الله بن رواحة ، فدفعها إلى خالد بن الوليد » !

ص: 19

وفي تاريخ دمشق: 68/87 ، عن رجل من بني مرة ، قال: « لما قتل ابن رواحة نظرت إلى اللواء قد سقط ، واختلط المسلمون والمشركون ، فنظرت إلى اللواء في يد خالد منهزماً ، واتبعناه فكانت الهزيمة » !

وفي سيرة ابن هشام (3/836): «جعل الناس يَحْثُون على الجيش التراب ويقولون: يافُرَّار، فررتم في سبيل الله ! قال: فيقول رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ليسوا بالفرار ولكنهم الكُرار إن شاء الله تعالى...قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص:مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومع المسلمين؟ قالت:والله مايستطيع أن يخرج ، وكلما خرج صاح به الناس يافُرار فررتم في سبيل الله ! حتى قعد في بيته فما يخرج ».

«قال الواقدي: وقد روي أن خالداً ثبت بالناس فلم ينهزموا ، والصحيح أن خالداً انهزم بالناس». (شرح النهج:15/68).

وفي إمتاع الأسماع للمقريزي(1/341): «إن خالداً انهزم بالناس، فعُيِّروا بالفرار وتشاءم الناس به » .

فقد روت مصادرهم المعتبرة حقيقة فرار خالد وتشاؤم المسلمين به ، لكن أتباع بني أمية وبني مخزوم ، أنكروا انهزامه بالمسلمين بعين يابسة، بل حولوها الى منقبة وبطولة!

ثم كذبوا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) بأن الله فتح على يده في مؤتة، وسماه سيف الله المسلول !

ثم كذبوا فزعموا أن معركة مؤتة استمرت سبعة أيام ، وكان بطلها خالد !

ص: 20

ثم كذَب هو وقال إنه كسَّر سيوفاً على رؤوس الروم ، ورووا كذبته في أصح كتاب كما زعموا ! قال خالد :«لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية ».(صحيح البخاري:5/87).

وقال علماء بني أمية: «اقتتل المسلمون مع المشركين سبعة أيام . وروى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وهذا الذي ذكره أبو عامر والزهري ، وعروة ، وابن عقبة ، وعطاف بن خالد ، وابن عائذ وغيرهم ، هو ظاهر قوله (صلی الله علیه و آله) في حديث أنس: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه «!» . وفي حديث أبي قتادة مرفوعاً كما سيأتي: ثم أخذ خالد بن الوليد اللواء ولم يكن من الأمراء ، هو أمَّرَ نفسه ، ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) إصبعه ثم قال: اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره . فمن يومئذ سمي خالد بن الوليد سيف الله ! رواه الإمام أحمد برجال ثقات. ويزيده قوة ويشهد له بالصحة ما رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والبرقاني ».(سبل الهدى: 6/150).

وتتعجب من جرأة الكذابين على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، قالوا كما في تاريخ دمشق: 16/238 وبغية الطلب:7/3122وكنز العمال:10/386 ، أنه (صلی الله علیه و آله) وصف شهادة القادة الثلاثة فقال: « ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم قتل ، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ، ثم قال: الآن حمي الوطيس.. نعم عبد الله وأخو العشيرة وسيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين».

ومعنى حمي الوطيس أنه جاء خالد البطل فحمي الوطيس ، لأنه أشجع من القادة الذين كانوا قبله! ثم مدحه بأنه نعم العبد لله ، وأخ العشيرة ، وأنه سيف الله ..الخ.

ص: 21

وقد كتب السيد جعفر مرتضى في الصحيح من السيرة (20/53) بحثاً وافياً في أكثر من خمسين صفحة في رد كذبهم على النبي (صلی الله علیه و آله) بأنه سمى خالداً سيف الله المسلول ، وقال: «الحقيقة هي أن هذا اللقب من مختصات علي (علیه السلام) ، ولكنه سُرق في جملة كثيرة من فضائله ومناقبه (علیه السلام) ، في غارات شعواء من الشانئين والحاقدين والمبطلين والمزورين للحقائق ». انتهى.

وأعجب ما في هرب خالد من مؤتة جرأته على الكذب بأنه دق تسعة سيوف في قتاله مع الروم ! لكن الذي يعرف مشابهته لأبيه الوليد لايتعجب من فجوره هنا ، ولا من فجوره عندما انتقده عبد الرحمن بن عوف الزهري لغدره بسبعين مسلماً من بني جذيمة وقتلهم ، فقال له خالد: قتلتُهم ثأراً بأبيك الذي قتله بنو جذيمة ! فقال له ابن عوف: «كذبتَ، قد قتلتُ قاتل أبي ، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة ». (المنمق/216) .

ولو دامت معركة مؤتة سبعة أيام لما حثا أهل المدينة التراب على وجه خالد وجيشه ، وسموهم الفرارين ! ولوجدنا وصفاً للمعركة وقتلاها ! لكنا لا نجد إلا رواية واحدة عن قتل مسلم يمني من بني مدد لجندي رومي غيلةً ، عندما كان المسلمون هاربين، فأخذ منه خالد نصف سلبه، فشكى اليمني المددي الى النبي (صلی الله علیه و آله) فسأل خالداً:لماذا أخذه ؟ قال إنه استكثره عليه !

ففي السيرة الحلبية:2/793: «وقتل رجل من المسلمين رجلاً من الروم فأراد أخذ سلبه فمنعه خالد ، فلما أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) بذلك قال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته عليه . فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إدفعه له ».

ص: 22

12. واعترفوا بجبن خالد في اليمن ستة أشهر ! لكنهم أصروا على مدحه رغم قتله عشرات المسلمين الأبرياء ، وافتخاره بعد إسلامه بأبيه الفرعون الذي وصفه الله تعالى بأنه: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . كذبوا له أن النبي (صلی الله علیه و آله) سماه سيف الله المسلول ، لكنهم اعترفوا بأنه بعثه النبي (صلی الله علیه و آله) الى اليمن يدعوهم الى الإسلام أو يقاتلهم ، فلم يستجيبوا له ، فخاف أن يقاتلهم وكان سيفه مشلولاً ، وبقي ستة أشهر يراوح مكانه في اليمن ! فبعث النبي (صلی الله علیه و آله) سيف الله المسلول علياً (علیه السلام) ، وأمر خالداً أن يرجع ، لكنه بقي يراقب علياً (علیه السلام) لعله يجد خطأ يأخذه عليه !

وقد شهد الذهبي في تاريخه (2/690) بصحة حديث جبن خالد وشجاعة علي (علیه السلام) : «عن البراء ، أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث خالد بن الوليد إلى اليمن، يدعوهم إلى الإٍ سلام . قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه . ثم إن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث علياً فأمره أن يُقفل خالداً إلارجلٌ كان يمَّم مع خالد ، أحب أن يعقب مع علي (علیه السلام) فليعقب معه، فكنت فيمن عقب مع علي... هذا حديث صحيح أخرج البخاري بعضه بهذا الإسناد».انتهى.

ومعناه أن النبي (صلی الله علیه و آله) حلَّ جيش خالد ، لكن خالداً عصى وبقي مع بعض أصحابه للبحث عن خطأ لعلي (علیه السلام) ! وتوغل علي (علیه السلام) في اليمن فأسلمت على يده همدان وغيرها ، وقاتل في بعض المناطق وغنم غنائم ووزعها ، وعزل منها الخمس لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ، واختار جارية فقوَّم قيمتها وحسبها من سهمه من الخمس ، ولعله تزوجها . فرأى خالد في ذلك انتصاراً يُعوض به فشله لنصف سنة ! فكتب إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مع بريدة وثلاثة أشخاص ، ووصل بريدة إلى المدينة ففرح مبغضوا علي (علیه السلام) وقالوا له عجل وأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) لتسقط مكانته عنده !

ص: 23

لكن النتيجة كانت معكوسة عليهم ! فقد غضب النبي (صلی الله علیه و آله) غضباً شديداً ، وأخرج من يكره علياً (علیه السلام) من الإسلام ، وقال لهم: إن حب علي إيمان وبغضه نفاق ، وإنه وليهم من بعده..الخ.

ويُعرف هذا الحديث بحديث بريدة ، وهو صحيح عندهم روته مصادرهم بصيغ عديدة، ومنها ما في مجمع الزوائد:9/127: «عن بريدة قال: أبغضت علياً بغضاً لم أبغضه أحداً قط ! قال: وأحببت رجلاً من قريش لم أحبه إلا على بغضه علياً ! قال: فبعث ذلك الرجل على جيش فصحبته ، ما صحبته إلا ببغضه علياً..وفي حديث: وأخذ عليٌّ جارية من الخمس ، فدعا خالد بن الوليد بريدة فقال: إغتنمها فأخبر النبي ماصنع! فقدمت المدينة ، ودخلت المسجد ورسول الله (صلی الله علیه و آله) في منزله وناس من أصحابه على بابه فقالوا: ما الخبر يا بريدة؟فقلت: خيراً فتح الله على المسلمين. فقالوا: ما أقدمك؟ قلت: جارية أخذها عليٌّ من الخمس فجئت لأخبر النبي (صلی الله علیه و آله) .فقالوا: فأخبر النبي فإنه يسقط من عينه، ورسول الله يسمع الكلام فخرج مغضباً فقال: ما بال أقوام ينتقصون علياً ! من تنقص علياً فقد تنقصني، ومن فارق علياً فقد فارقني، إن علياً مني وأنا منه ، خلق من طينتي وخلقت من طينة إبراهيم ، وأنا أفضل من إبراهيم ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . يابريدة: أما علمت أن لعليٍّ أكثر من الجارية التي أخذ، وأنه وليكم بعدي؟ فقلت: يا رسول الله ، بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديداً ! قال: فما فارقته حتى بايعته على الإسلام » !

ومنها ما رواه الحاكم( 3 /110) وفيه: «فتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله إذا لقينا النبي (صلی الله علیه و آله) أخبرناه بما صنع علي! قال عمران: وكان المسلمون إذا قدموا من سفر

ص: 24

بدؤوا برسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فنظروا إليه وسلموا عليه ثم انصرفوا إلى رحالهم ، فلما قدمت السرية سلموا على رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال أحد الأربعة:يا رسول الله ، ألم تر أن علياً صنع كذا وكذا ! فأعرض عنه ! ثم قام الثاني فقال مثل ذلك فأعرض عنه! ثم قام الثالث فقال مثل ذلك فأعرض عنه ! ثم قام الرابع فقال: يا رسول الله ألم تر أن علياً صنع كذا وكذا! فأقبل عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله) والغضب في وجهه فقال: ما تريدون من علي ! إن علياً مني وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن . هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ».

وفي رواية الطوسي في أماليه:1/249: «فدعاني خالد فقال: يا بريدة قد عرفت الذي صنع، فانطلق بكتابي هذا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره وكتب إليه . فانطلقت بكتابه حتى دخلت على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأخذ الكتاب فأمسكه بشماله ، وكان كما قال الله لا يكتب ولا يقرأ ، وكنت رجلاً إذا تكلمت طأطأت رأسي حتى أفرغ من حاجتي، فطأطأت وتكلمت ، فوقعت في عليٍّ حتى فرغت ، ثم رفعت رأسي فرأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد غضب غضباً شديداً لم أره غضب مثله قط إلا يوم قريظة والنضير! فنظر إليَّ فقال: يا بريدة إن علياً وليكم بعدي ، فأحب علياً فإنما يفعل ما يؤمر ! قال: فقمت وما أحد من الناس أحب إلي منه . وقال عبد الله بن عطاء: حدثت بذلك أبا حرب بن سويد بن غفلة ، فقال: كتمك عبد الله بن بريدة بعض الحديث ، أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال له: أنافقتَ بعدي يا بريدة ؟!».

أما البخاري فعادته في مثل هذا الحديث أن يحذفه كلياً ، أو يبتره ، أو يحرفه ويحوله الى ذم لعلي (علیه السلام) ! قال في صحيحه (5/110): «عن بريدة قال: بعث النبي علياً إلى خالد ليقبض الخمس، وكنت أبغض علياً وقد اغتسل، فقلت لخالد:

ص: 25

ألاترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي ذكرت ذلك له ، فقال: يا بريدة أتبغض علياً ؟ قلت: نعم. قال: لا تبغضه ، فإن له في الخمس أكثر من ذلك ».

فقد تعمد البخاري التزوير ليوهم أن خالداً هو الذي قاتل وغنم ، وأن علياً (علیه السلام) ذهب جابياً للخمس ! فانظر كيف مدح خالداً ، وطعن في علي (علیه السلام) !

وقصة بريدة حجة بالغة على إمامة علي (علیه السلام) وخلافته ، بحثناها في العقائد الإسلامية (4/91) ، لكن غرضنا هنا إثبات جبن خالد وحسده لعلي (علیه السلام) ! ورد ما زعموه من بطولته ، فلا هو فارس ولا بطل ، لكنه يتفارس ويتباطل ! نعم هو مناورٌ حاسد !

13. بلغ كذبهم في بطولات خالد في فتح العراق ، أنهم اخترعوا له أبطالاً لاوجود لهم ، ومعارك لاوجود لها ! من ذلك أنه قتل قائداً فارسياً إسمه هرمز في كاظمة قرب الكويت ، مع أنه لم يمر من هناك بل دخل العراق من جهة حائل وهي جهة مخالفة لكاظمة. كما أنه لم يكن في كاظمة جيش فارسي في أي وقت ، وحتى البصرة كانت فيها مسالح فارسية صغيرة ، ولم يكن فيها جيش .

والطريف أنهم جعلوا كذبتهم هذه حديثاً نبوياً طويلاً، وصححوه وأشبعوه صحة ! كما صحح البخاري تقطيع خالد تسعة أسياف على رؤوس الروم في مؤتة ، مع أنها مخالفة للواقع بنصهم الصحيح !

قال في مجمع الزوائد(6/223): «عن خريم بن أوس قال: سار خالد إلى مسيلمة فسرنا معه، فلما فرغنا من مسيلمة وأصحابه أقبلنا إلى ناحية البصرة فرأينا هرمز بكاظمة في جمع عظيم ، ولم يكن أحد أعدى للعرب من هرمز . قال أبو السكن: وبه يضرب المثل تقول العرب: أكفر من هرمز ، فبرز له خالد بن الوليد ودعا

ص: 26

إلى البراز فبرز له هرمز ، فقتله خالد بن الوليد ، وكتب بذلك إلى أبى بكر فنفله سلبه، فبلغت قلنسوته مائة ألف . ثم سرنا على طريق الطرف حتى دخلنا الحيرة فكان أول من تلقانا فيها الشيماء بنت بقيلة على بغلة شهباء بخمار أسود ،كما قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) فتعلقت بها وقلت: هذه وهبها لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فدعاني خالد عليها البينة فأتيته بها ، فسلمها إليَّ !

وبلغني في غير هذا الحديث أن الشاهدين كانا محمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر . رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم وقد تقدم معنى هذا الحديث من حديث عدى بن حاتم في باب قتال فارس والروم ورجاله رجال الصحيح».

ورواه الطبري وردَّه (2/309) ، قال: «لما قدم كتاب خالد على هرمز ، كتب بالخبر إلى شيرى بن كسرى ، وإلى أردشير بن شيرى ، وجمع جموعه ثم تعجل إلى الكواظم في سرعان أصحابه ليتلقى خالداً.. فلما أتى الخبر خالداً بأن هرمز في الحفير أمال الناس إلى كاظمة ، وبلغ هرمز ذلك فبادره إلى كاظمة فنزلها وهو حسير، وكان من أسوأ أمراء ذلك الفرج جواراً للعرب ، فكل العرب عليه مغيظ ، وقد كانوا ضربوه مثلاً في الخبث حتى قالوا: أخبث من هرمز وأكفر من هرمز . وتعبأ هرمز وأصحابه واقترنوا في السلاسل والماء في أيديهم ، وقدم خالد عليهم فنزل على غير ماء، فقالوا له في ذلك فأمر مناديه فنادى: ألا انزلوا وحطوا أثقالكم ، ثم جالدوهم على الماء فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين، فحطت الأثقال والخيل وقوف ، وتقدم الرجل ثم زحف إليهم حتى لاقاهم، فاقتتلوا وأرسل الله سحابة فأغزرت ما وراء صف المسلمين فقواهم بها..ثم خرج هرمز فنادى:رجل ورجل أين خالد؟ وقد عهد إلى

ص: 27

فرسانه عهده ، فلما نزل خالد نزل هرمز ودعاه إلى النزال، فنزل خالد فمشى إليه فالتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد ، وحملت حامية هرمز وغدرت ، فاستلحموا خالداً فما شغله ذلك عن قتله ، وحمل القعقاع بن عمرو واستلحم حماة هرمز فأناموهم، وإذا خالد يماصعهم وانهزم أهل فارس ، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل. وجمع خالد الرثاث (جرحاهم) وفيها السلاسل فكانت وقر بعير ألف رطل، فسميت ذا السلاسل وأفلت قباذ وأنو شجان.. كان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم.. فكان هرمز ممن تم شرفه فكانت قيمتها مائة ألف ، فنفلها أبو بكر خالداً وكانت مفصصة بالجوهر...

نادى منادي خالد بالرحيل وسار بالناس واتبعته الأثقال حتى نزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة ، وقد أفلت قباذ وأنو شجان . وبعث خالد بالفتح وما بقي من الأخماس وبالفيل ، وقرأ الفتح على الناس » .

وقد بلغ من افتضاح قصة البطل هرمز أن المؤرخين غير الطبري ردوها أيضاً ، كالواقدي والبلاذري ، قال: (2/295): «والذي عليه أصحابنا من أهل الحجاز أن خالداً قدم المدينة من اليمامة ، ثم خرج منها إلى العراق ، على فيد والثعلبية ، ثم أتى الحيرة». وقال الطبري:2/556: «وهذه القصة في أمر الأبلة وفتحها خلاف ما يعرفه أهل السير، وخلاف ماجاءت به الآثار الصحاح »!

14. اخترعوا لخالد بطولات في معارك لا وجود لها ، فصرت تقرأ في تاريخ الطبري (2/557) مثلاً:وقعة المذار..وقعة الولجة..وقعة ألِّيس.. وقعة أمغيشيا..وقعة يوم المقر.. وقعة الأنبار وهي ذات العيون.. وقعة كلواذى..

ص: 28

وقعة عين التمر.. وقعة دومة الجندل..وقعة حصيد..وقعة الخنافس.. وقعة بني البرشاء.. وقعة الثنى والزميل.. وقعة الفرائض..

وتقرأ خوف الفرس من خالد وإرسالهم الرسل اليه ، وإرسالهم الجيوش بقيادة قادة كبار، كالقائد قارن ، الذي برز اليه خالد لكن سبقه اليه شخص آخر وقتله قبله مع الأسف ، ولولا ذلك لقتله خالد وقطعه إرباً إرباً !

قالوا: «وخرج خالد سائراً حتى ينزل المذار على قارن في جموعه ، فالتقوا وخالد على تعبيته فاقتتلوا على حنق وحفيظة ، وخرج قارن يدعو للبراز فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش ، فابتدراه فسبقه إليه معقل فقتله.. وقُتلت فارس مقتلة عظيمة فضموا السفن ، ومنعت المياه المسلمين من طلبهم وأقام خالد بالمذار ، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت ، وقسم الفئ ونفل من الأخماس أهل البلاء ، وبعث ببقية الأخماس . عن أبي عثمان قال: قتل ليلة المذار ثلاثون ألفاً سوى من غرق ! ولولا المياه لأتيَ على آخرهم ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة وأشباه العراة ». (الطبري:2/558).

وزاد ابن كثير على الطبري فقال في نهايته:6/379: « وسار خالد بمن معه من الجيوش حتى نزل على المذار وهو على تعبئته ، فاقتتلوا قتال حنق وحفيظة ، وخرج قارن يدعو إلى البراز فبرز إليه خالد وابتدره الشجعان من الأمراء فقتل معقل بن الأعشى بن النباش قارناً ، وقتل عدي بن حاتم قباذ ، وقتل عاصم أنوشجان ، وفرَّت الفرس وركبهم المسلمون في ظهورهم ، فقتلوا منهم يومئذ ثلاثين ألفاً ، وغرق كثير منهم في الأنهار والمياه ، وأقام خالد بالمذار وسلم

ص: 29

الأسلاب إلى من قتل ، وكان قارن قد انتهى شرفه في أبناء فارس . وجمع بقية الغنيمة وخمَّسها وبعث بالخمس والفتح والبشارة إلى الصديق ، مع سعيد بن النعمان أخي بني عدي بن كعب ، وأقام خالد هناك حتى قسم أربعة الأخماس وسبى ذراري من حصره من المقاتلة ».

وفي رواية للطبري:2/562: «عن المغيرة قال: كانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر ، قوت العسكر ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون ، ثلاثة أيام. وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلاً من بنى عجل » .

«قدم خالد على المقدمة فأطاف بالخندق وأنشب القتال ، وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به . وتقدم إلى رماته فأوصاهم وقال: إني أرى أقواماً لا علم لهم بالحرب ، فارموا عيونهم ولا تَوَخَّوْا غيرها ، فرموا رشقاً واحداً ثم تابعوا ففُقئ ألف عين يومئذ ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون ! وتصايح القوم: ذهبت عيون أهل الأنبار ، فقال شيرزاذ: ما يقولون؟ ففسر له فقال: آباذ ، آباذ ، فراسل خالداً في الصلح على أمر لم يرضه خالد ، فرد رسله ، وأتى خالد أضيق مكان في الخندق في برذايا الجيش (أي إبل النقل) فنحرها ، ثم رمى بها فيه فأفعمه (ملأه) ، ثم اقتحم الخندق والرذايا جسورهم.. فقال خالد: اللهم إن هزمتهم فعليّ أن لا أستبقي منهم من أقدر عليه ، حتى أُجري من دمائهم نهرهم ! فانهزمت فارس فنادى منادي خالد: الأسراء الأسراء ! ألا من امتنع فاقتلوه ، فأقبل بهم المسلمون أسراء ، ووكل بهم من يضرب أعناقهم يوماً وليلة . فقال له القعقاع وغيره: لو قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم ، فأرسل عليها الماء تَبُرَّ يمينك ، ففعل . وسميَ نهر الدم ! ووقف خالد على الطعام وقال للمسلمين: قد

ص: 30

نفلتكموه ، فتعشى به المسلمون وجعل من لم يَرَ الرقاق (الخبز المرقوق) يقول: ما هذه الرقاق البيض ! وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً ، وكانت الوقعة (وقعة أليس) في صفر » ! (الكامل:2/389).

وتتعجب من جرأة هؤلاء الرواة ووقاحتهم! فلا خالد ذهب الى المذار وميسان والبصرة ، ولا كان يوجد جيش فارسي هناك ، وحتى أسماء القادة الفرس اخترعها الرواة من جيوبهم !

15. ورووا أن خالداً خاض حرباً ، وأفطر رمضان ولم يصمه بسبب الجهاد ! قال الطبري:2/327: «ثم قصد خالد بعد الرضاب وتغلب إلى الفراض والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة ، فأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها الغزوات والأيام ، ونظمن نظماً أكثر فيهن الرجاز ، إلى ما كان قبل ذلك منهن . قالوا فلما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس ، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر فأمدوهم ، ثم ناهدوا خالداً حتى إذا صار الفرات بينهم قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم؟ قال خالد: بل أعبروا إلينا قالوا فتنحوا حتى نعبر ، فقال خالد: لا نفعل ولكن اعبروا أسفل منا. وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة . فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: إحتسبوا ملككم ، هذا رجل يقاتل على دين وله عقل وعلم ، ووالله لينصرن ولنخذلن . ثم لم ينتفعوا بذلك فعبروا أسفل من خالد ، فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح من أينا يجيئ ففعلوا، فاقتتلوا قتالاً

ص: 31

شديداً طويلاً. ثم إن الله عز وجل هزمهم ، وقال خالد للمسلمين: ألِحُّوا عليهم ولا ترفهوا عنهم ، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه ، فإذا جمعوهم قتلوهم ، فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف ! وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشراً ، ثم أذن في القفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة ، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم ، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم ، وأظهر خالد أنه في الساقة» !

فانظر الى هذه المعركة الضخمة المزعومة ، واجه فيها خالد قوات دولتين هما الفرس والروم ، واستمدوا بثلاث قبائل عربية هي تغلب وإياد والنمر بن قاسط ، ولم يقتل فيها أحد من جيش خالد ، وقتل هو من أعدائه وفي الطلب أي الغارات التي كان يرسل فيها خيله ، مئة ألف !

لكن لا يوجد إسم قتيل واحد منهم ، ولا يوجد وصف للمعركة ، لا من بدأها ولا من بارز فيها ، ومن قاد الميمنة والميسرة والقلب والجناحين ، ولا وصف شئ من قتالها ولا وصف بطولة واحدة لخالد بارز فيها أحداً ، أوحمل فيها !

مع أنك تجد في حملته الآتية على بني تغلب أسماء بعض الذين قتلهم وهم نائمون ! وإسمي الشخصيْن المسلمين اللذين قتلهما وهما يتشهدان ودفع ديتهما أبو بكر ، وهما: « عبد العزى بن أبي رهم أخو أوس مناة ، ولبيد بن جرير » .

إنه لاسبب لإبهام الرواة الشديد ، إلا أن أصل المعركة مكذوبة من أجل خالد !

16. خالد متخصص في شن الغارات على العرب وليس على الروم والفرس وكل عمله في العراق كان من هذا النوع ، فلم يواجه قوات الفرس أبداً ، وأغار

ص: 32

على قبيلة تغلب وغدر بهم ، زاعماً أنهم ارتدوا ، فباغتهم ليلاً وقتل منهم وسبى نساءً ، كما فعل بمالك بن نويرة وحيِّه ، حيث أمَّنهم ثم غدر بهم !

قال ابن سعد في الطبقات:1 /316: «قدم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفد بني تغلب ستة عشر رجلاً، مسلمين ونصارى عليهم صُلُبُ الذهب ، فنزلوا دار رملة بنت الحارث ، فصالح رسول الله (صلی الله علیه و آله) النصارى على أن يقرهم على دينهم ، على أن لا يصبغوا (يُعَمِّدُوا) أولادهم في النصرانية ، وأجاز المسلمين منهم بجوائزهم.

ووصف الطبري:2 /398، كيف احتال عليهم خالد عندما أراد أن يغدر بهم: «وعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها إلى المصيخ ، وخرج خالد من العين قاصداً إليهم ، فلما كانت تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعاً بالمصيخ ، فأغاروا على الهذيل ومن معه وهم نائمون ، من ثلاثة أوجه فقتلوهم ، وأفلت الهذيل في ناس قليل ، وكثر فيهم القتل ، وكان مع الهذيل عبد العزى بن أبي رهم أخو أوس مناة ، ولبيد بن جرير ، وكانا قد أسلما ومعهما كتاب أبي بكر بإسلامهما ، فقتلا في المعركة ! فبلغ أبا بكر قول عبد العزى:

أقول إذ طرق الصباح بغارة *** سبحانك اللهم رب محمد

سبحان ربي لا إله غيره *** رب البلاد ورب من يتورد

فوَدَاهما(أعطى ديتهما لأولياء الدم) وأوصى بأولادهما . فكان عمر يعتد بقتلهما وقتل مالك بن نويرة على خالد! أي كان عمر يدين خالداً بذلك ، ويرى وجوب قتله قصاصاً لغدره بهؤلاء المسلمين .

ص: 33

هذا، وقد يكون التغلبيون اعترضوا على خلافة أبي بكر كما فعلت قبائل كندة في حضرموت ، وكما فعل بنو يربوع ، فاتهمهم خالد بالإرتداد ليسبيهم !

وهكذا كانت معارك خالد في العراق غارات غدر على مواطنين ومزارعين عرب وغير عرب ، ولم يكن فيها معركة مع الفرس ! وكذلك في طريقه الى الشام شن غارات مباغتة على غير الروم !

لاحظ نص البلاذري: 1/130و132: «لما أتى خالد بن الوليد كتاب أبي بكر وهو بالحيرة خلف المثنى بن حارثة الشيباني على ناحية الكوفة ، وسار في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة في ثمان مئة ، ويقال في ست مئة ويقال في خمس مئة . فأتى عين التمر ففتحها عنوة، ويقال إن كتاب أبى بكر وافاه وهو بعين التمر وقد فتحها ، فسار خالد من عين التمر فأتى صندودآء وبها قوم من كندة وإياد والعجم فقاتله أهلها فظفر ، وخلف بها سعد بن حرام الأنصاري فولده اليوم بها . وبلغ خالداً أن جمعاً لبني تغلب بن وائل بالمضبح والحصيد مرتدين عليهم ربيعة بن بجير، فأتاهم ، فقاتلوه فهزمهم وسبى وغنم ، وبعث بالسبي إلى أبى بكر...ثم أغار خالد على قراقر وهو ماء لكلب ، ثم فوَّز منه إلى سُوى وهو ماء لكلب أيضاً ومعهم فيه قوم من بهراء ، فقتل حرقوص بن النعمان البهراني من قضاعة واكتسح أموالهم ...

قال الواقدي: خرج خالد من سوى إلى الكواثل ، ثم أتى قرقيسيا فخرج إليه صاحبها في خلق ، فتركه وانحاز إلى البر ومضى لوجهه ! (أي خاف وهرب منه).

ص: 34

وأتى خالد أركة وهي أرك فأغار على أهلها وحاصرهم ، ففتحها صلحاً على شئ أخذه منهم للمسلمين . وأتى دومة الجندل ففتحها . ثم أتى قصم فصالحه بنو مشجعة بن التيم بن النمر بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وكتب لهم أماناً . ثم أتى تدمر فامتنع أهلها وتحصنوا ثم طلبوا الأمان فأمنهم على أن يكونوا ذمة ، وعلى أن قروا المسلمين ورضخوا لهم .

ثم أتى القريتين فقاتله أهلها فظفر وغنم . ثم أتى حوارين من سنير فأغار على مواشي أهلها فقاتلوه ، وقد جاءهم مدد أهل بعلبك وأهل بصرى ، وهي مدينة حوران ، فظفر بهم فسبى وقتل .

ثم أتى مرج راهط فأغار على غسان في يوم فصحهم وهم نصارى فسبى وقتل. ووجه خالد بسر بن أبي أرطاة العامري من قريش وحبيب بن مسلمة الفهري إلى غوطة دمشق ، فأغارا على قرى من قراها . وصار خالد إلى الثنية التي تعرف بثنية العقاب بدمشق، فوقف عليها ساعة ناشراً رايته ، وهي راية كانت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) سوداء ، فسميت ثنية العقاب يومئذ».

وفي تاريخ دمشق:2/68: «فمر بدومة ، فأغار عليها فقتل بها رجالاً وهزمهم ، وسبا ابنه الجودي».

وفي تاريخ الطبري:2/610: «ثم سار خالد على وجهه ذلك حتى أغار على غسان بمرح راهط ، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى ، وعليها أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان فاجتمعوا عليها فرابطوها حتى صالحت بصرى على الجزية وفتحها الله على المسلمين، فكانت أول مدينة من

ص: 35

مدائن الشام فتحت في خلافة أبى بكر ، ثم ساروا جميعاً إلى فلسطين مدداً لعمرو بن العاص، وعمرو مقيم بالعربات من غور فلسطين ، وسمعت الروم بهم فانكشفوا عن جلق إلى أجنادين وعليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه .

وأجنادين بلد بين الرملة وبيت جبرين من أرض فلسطين . وسار عمرو بن العاص حين سمع بأبي عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان حتى لقيهم ، فاجتمعوا بأجنادين ، حتى عسكروا عليهم».

أقول: إن أبسط قارئ يرى أن خالداً يغير على الضعفاء من العرب سكان هذه القرى والدساكر الآمنه المسالمة للمسلمين ، فيقتل وينهب ويسبي ! وهذه هي كل بكولاته ، أما إذا رأى أن الطرف قوي فيهرب منه ، ويقولون إنه انحاز عنه وانكشف ولا يقول هرب ولا انهزم !

17.الصورة الحقيقية لعمل خالد في العراق: أنه دخل في أوائل السنة الثانية عشرة للهجرة ، وكانت سنة هادئة عسكرياً ، لأن الفرس كانوا مشغولين بوضعهم الداخلي، فاقتصر عمل خالد على إبرام عقود صلح مع الدساكر والمدن في المناطق التي حررها المثنى ، أو انهار فيها الحكم الفارسي .

وكان العمل الثاني لخالد أن يرسل المثنى بن حارثة الى بعض المدن أو الدساكر التي فيها حاميات من بقايا النظام ، أو من أهلها ، فإذا انتصر عليهم جاء خالد فأبرم معهم صلحاً ، وأخذ المبلغ المرقوم !

قال الطبري:2/573: «أقام خالد في عمله سنة ومنزله الحيرة، يُصَعِّد ويُصَوِّب قبل خروجه إلى الشام وأهل فارس يخلعون ويملكون، ليس إلا الدفع عن بهرسير.

ص: 36

وذلك أن شيرى بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى كسرى بن قباذ ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه ، فقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جوار ، فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه».

أقول: هذا نصٌّ على أن الفرس كانوا مشغولين بصراعهم على منصب الملك ، فلم يخوضوا حرباً ، إلا الدفاع عن بهرسير وهي عاصمتهم ، وهي من مجموعة المدائن .

وهذا يرد كل ما رووه عن جيوش الفرس وتحشيدهم للألوف المؤلفة التي زعموا أن خالداً واجهها وخاض معها معارك ، فلم يكن في العراق إلاحاميات صغيرة ومتوسطة ، الى أن أرسلوا جيشاً بعد ذهاب خالد بنحو سنة فكانت معركة الجسر ، ثم كانت معركة القادسية بعد معركة الجسر بأكثر من سنة ، ثم كان فتح المدائن بعد معركة القادسية بسنتين !

أما إبرام خالد الصلح مع الدساكر المفتوحة وشبه المفتوحة على مبالغ ، فقد بدأ في أول دخوله الى العراق حيث أبرم صلحاً مع القُرَيَّات، وهي سكاكة الفعلية وما حولها وهي اليوم في السعودية وكانت قديماً من العراق . ثم دخل الى الحيرة ووقع مع حاكمها صلحاً وقبض المال ، وهكذا..

قال الطبري:2/551: «ثم كانت سنة اثنتي عشرة من الهجرة..كتب إليه أبو بكر وخالد مقيم باليمامة.. يأمره أن يسير إلى العراق ، فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السواد يقال لها بانقيا وباروسما وأليس ، فصالحه أهلها. وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا، وذلك في سنة اثنتي عشرة فقبل منهم خالد الجزية ، وكتب لهم كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد لابن صلوبا السوادي ومنزله بشاطئ الفرات إنك آمن بأمان الله إذ حقن دمه بإعطاء

ص: 37

الجزية وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتيك بانقيا وباروسما ألف درهم فقبلها منك ورضى من معي من المسلمين بها منك ولك ذمة الله وذمة محمد (صلی الله علیه و آله) وذمة المسلمين على ذلك..

ثم أقبل خالد بن الوليد بمن معه حتى نزل الحيرة ، فخرج إليه أشرافهم مع قبيصة بن إياس بن حية الطائي ، وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله والى الإسلام فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين لكم مالهم وعليكم ما عليهم ، فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم الجزية فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة ، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم . فقال له قبيصة بن إياس: ما لنا بحربك من حاجة ، بل نقيم على ديننا ونعطيك الجزية . فصالحهم على تسعين ألف درهم ، فكانت أول جزية وقعت بالعراق هي والقريات ، التي صالح عليها ابن صلوبا».

وفي معجم البلدان(4/335): «القُريات ، جمع تصغير القرية: من منازل طئ ، قال أبو عبيد الله السكوني: من وادي القرى إلى تيماء أربع ليال ، ومن تيماء إلى القريات ثلاث أو أربع ، قال: والقريات دومة وسكاكة والقارة ».

أقول: ذكر المؤرخون مصالحات خالد الكثيرة مع عدد من المدن والقرى بمبالغ كبيرة أو صغيرة ، وكان ينفق قسماً منه ، ويرسل قسماً الى أبي بكر ، وعندما وصل الى الشام وصادر عمر نصف ثروته ، أقر بثمانين ألف درهم ، فصادر منه أربعين .

وينبغي الإلفات هنا الى أن اهتمام الخليفة وقادته بالمال أمرٌ بارز في الفتوحات ، ومنه أموال الجزية التي تؤخذ على كل رأس ، وأموال الخراج التي تؤخذ على الأراضي ،

ص: 38

وأموال الصلح التي تؤخذ للكف عنهم وحمايتهم . وزاد عليها خالد أموال الغارات على القرى والدساكر وتشمل النهب والسبي !

تقرأ مثلاً في الطبري:2/582: «أن خالد بن الوليد أتى الأنبار فصالحوه على الجلاء ثم أعطوه شيئاً رضي به... ثم سار إلى عين التمر ففتحها عنوة فقتل وسبى، وبعث بالسبي إلى أبي بكر فكان أول سبي قدم المدينة من العجم . وسار إلى دومة الجندل فقتل أكيدر وسبى ابنة الجودي ورجع فأقام بالحيرة . هذا كله سنة اثنتي عشرة شهراً ».

وفي الطبري:2/327: «واستبى الشرخ (الأطفال دون البلوغ) وبعث بخمس الله إلى أبي بكر مع النعمان بن عوف بن النعمان الشيباني.. وكانت على خالد يمين ليبغتن تغلب في دارها.. وقسم خالد فيأهم في الناس ، وبعث الأخماس إلى أبي بكر مع الصباح بن فلان المزني ، وكانت في الأخماس ابنة مؤذن النمري ، وليلى بنت خالد ، وريحانة بنت الهذيل بن هبيرة ».

وفي الطبري(2/308):«فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم . فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق ».

وفي الطبري(2/319): «ولما صالح أهل الحيرة خالداً خرج صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف ، حتى دخل على خالد عسكره فصالحه على بانقيا وبسما وضمن له ما عليهما وعلى أرضيهما من شاطئ الفرات جميعاً ، واعتقد لنفسه وأهله وقومه على عشرة آلاف دينار ، سوى الخرزة خرزة كسرى(ضريبة) وكانت على كل رأس أربعة دراهم ».

ص: 39

وفي تاريخ دمشق:2/87: «وسبى من عين التمر بشراً كثيراً فبعث بهم إلى أبي بكر وذلك أول سبي قدم المدينة. من ذلك السبي أبو عمرة أبو عبد الله بن أبي عمرة، وعبيد مولى المعلى ، وأبو عبيد الله مولى بني زهرة ، وخير مولى أبي داود ، ويسار مولى قيس بن مخرمة..وكان فيهم عمير بن زيتون الذي ببيت المقدس ، ويسار مولى أبي بن كعب ، وهو أبو الحسن بن أبي الحسن البصري ».

وفي فتوح البلاذري:1/131: «ثم أغار خالد على قراقر وهو ماء لكلب ، ثم فوَّزَ منه إلى سُوى وهو ماء لكلب أيضاً ومعهم فيه قوم من بهراء ، فقتل حرقوص بن النعمان البهراني من قضاعة ، واكتسح أموالهم » .

وفي الكامل:2/379: «فلما فرغ من أليس سار إلى أمغيشيا، وقيل اسمها منيشيا فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله ، لأن أهلها أعجلهم المسلمون أن ينقلوا أموالهم وأثاثهم وكراعهم وغير ذلك ، وأرسل إلى أبي بكر بالفتح ومبلغ الغنائم والسبي وأخرب أمغيشيا ! فلما بلغ ذلك أبا بكر قال:عجزت النساء أنْ يلدن مثل خالد ».

لاحظ أن خالد بن الوليد ، القائد المسلم الفاتح ، لم يدع أحداً الى الإسلام ولم يخير أهل القرى بين الإسلام والجزية ، وأنه أجاد المباغتة فلم يمهل أهل أمغيشيا النصارى أن يحملوا شيئاً من أموالهم فنهبها كلها ، ولما أرسلها الى الخليفة المحترم فرح بها وقال: «عجزت النساء أنْ يلدن مثل خالد » !

يعني مثله في الغارة ونهب أموالهم وأثاثهم وكراعهم وغير ذلك ! أي نساءهم واطفالهم ! وكل ذلك باسم الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، وتقرباً الى الله تعالى لهداية الناس !

ص: 40

لكن الرواة لم يكتفوا بأخبار جباية خالد ونهبه ، فقدموه بطلاً قائداً مقاتلاً ، واخترعوا له بطولات ومعارك وهمية ، مع نفس هذه القرى والدساكر التي أغار عليها ونهبها وسبى منها ، وكتب معها عهود صلح !

قال الطبري:2/562 و563 :«عن المغيرة قال: كانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون ثلاثة أيام ، وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلاً...فقدم على أبى بكر بالخبر وبفتح أليس وبقدر الفئ..قال وبلغت قتلاهم من أليس سبعين ألفاً جلهم من أمغيشيا.. بلغ سهم الفارس ألفا وخمس مائة سوى النفل الذي نفله أهل البلاء . وقالوا جميعاً قال أبو بكر حين بلغه ذلك: يا معشر قريش ، يخبرهم بالذي أتاه: عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله . أُعجزت النساء أن يُنشئن مثل خالد».

وفي أكثر المصادر: عجزت النساء أن يلدن مثل خالد . والخراذيل القطع الصغار ، ولعلها معربة من الخردة الفارسية , والمعنى أن أسد العرب غلب أسد الفرس على قطع اللحم .

18. لكن عمر كان يَتَّهم خالداً بقتل الأنفس المحترمة ، وبخيانة بيت المال! وقد طلب من أبي بكر القصاص منه لأنه قاتل ، واتهمه بخيانة المسلمين وسوء الأمانة ! وعندما صار خليفة بادر الى مصادرة نصف أمواله !

قال في الإصابة:2/218:«وكان سبب عزل عمر خالداً ما ذكره الزبير بن بكار قال:كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى أبي بكر حساباً ».

وينبغي الإلفات الى أن النظرة المادية كانت حالة طاغية على تفكير قريش والجزيرة ، حتى قال أمير المؤمنين (علیه السلام) إن أكثرهم لم يؤمنوا بالإسلام حتى رأوا صدق وعد النبي (صلی الله علیه و آله) بالفتوحات وأموالها ورفاهيتها ، فلانت قلوبهم !

ص: 41

قال (علیه السلام) كما في شرح النهج (20/298): «ولولا أن قريشاً جعلت إسمه ذريعة إلى الرياسة ، وسلَّماً إلى العز والأمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ، ولارتدت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكراً .

ثم فتح الله عليها الفتوح فأثْرت بعد الفاقة ، وتمولت بعد الجَهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً ، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا ! ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء القائمين بها » !

والقارح والبازل من الإبل كبير السن ، والجذع والبكر صغيرها . وهو مثلٌ للتراجع.

19. وتعمدت روايات السلطة أن تصور خالداً على أنه بطل فتوحات العراق، ولم تنس أن تعد من قادة جيشه الأبطال: ضرار بن الأزور وزيد بن الخطاب اللذين دفنهما خالد في اليمامة !

قال الطبري (2/571): «كانت الثغور في زمن خالد بالسِّيب (منطقة في الكوفة) بعث ضرار بن الأزور ، وضرار بن الخطاب ، والمثنى بن حارثة ، وضرار بن مقرن ، والقعقاع عمرو ، وبسر بن أبي رهم ، وعتيبة بن النهاس ، فنزلوا على السيب في عرض سلطانه ، فهؤلاء أمراء ثغور خالد ، وأمرهم خالد بالغارة والإلحاح ، فمخروا ما وراء ذلك إلى شاطئ دجلة » .

أقول: نعم كان أكثر هؤلاء مع خالد في العراق ، وقد مخروا بعض مناطقه ، لكن بغارات على الضعفاء المسالمين ولم يخوضوا أي معركة كبيرة ، ما عدا المثنى الذي ركز عملياته على مسالح الفرس ثم جيشهم .

ص: 42

بل زعموا أن خالداً فتح المدائن ، مع أنها فتحت بعد ذهابه من العراق بأربع سنوات ، لأنها معركة الجسر بعد ذهابه بسنة، وفتح المدائن بعدها بثلاث سنين!

20. واخترع خالد صلاةً فتحير فيها فقهاء السلطة ، ولم يفهموها الى يومنا هذا! فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق:16/247: «عن الشعبي قال:لما فتح خالد الحيرة صلى صلاة الفتح ثمان ركعات لا يسلم فيهن ! ثم انصرف وقال: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف ! وما لقيت قوماً كقوم لقيتهم من أهل فارس ، وما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل ألِّيس ».

وقال الشيخ حسن بن فرحان المالكي في كتابه: نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي/64: «لكن صلاة خالد هذه رواها سيف ويريد بها صلاة الفتح..وصلاة الفتح هذه لفظة منكرة ، فليس في الإسلام ما يسمى بصلاة الفتح ! فهذه صلاة مبتدعة وهذه الرواية صحيحة » .

21. وزعم خالد لنفسه الإنتصارات ، وأن سببها أنه يحمل من شعر النبي (صلی الله علیه و آله) في قلنسوته! ففي مستدرك الحاكم:3/299: «أن خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك فقال: أطلبوها فلم يجدوها، ثم طلبوها فوجدوها ، وإذا هي قلنسوة خَلِقة (قديمة) فقال خالد: اعتمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فحلق رأسه ، وابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة ، فلم أشهد قتالاً وهي معي ، إلا رزقت النصر».

وفي مغازي الواقدي:2/883:«خرج مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع فلما حلق رسول الله (صلی الله علیه و آله) رأسه أعطاه ناصيته فكانت في مقدم قلنسوته ، فكان لا يلقى

ص: 43

أحداً إلا هزمه الله تعالى . ولقد قاتل يوم اليرموك فوقعت قلنسوته فجعل يقول: القلنسوة ، القلنسوة ! فقيل له بعد ذلك: يا أب سليمان عجباً لطلبك القلنسوة وأنت في حومة القتال! فقال: إن فيها ناصية النبي (صلی الله علیه و آله) ولم ألق بها أحداً إلا ولَّى».

22. وقد بينا عدم صحة بطولته المزعومة في معركة طليحة ، في حرب اليمامة وأن الفعل المؤثر كان لعدي بن حاتم رضي الله عنه وقبيلته طيئ والأنصار، فنسبت الحكومة ذلك الى خالد ! مع أنهم اعترفوا بأنه سيطر عليه الخوف وسرى منه الى جيشه ، عندما قتل طليحة الفارسين اللذين ذهبا للإستطلاع ، فرجع خالد بجيشه من قرب بزاخة ، وذهب الى طيئ يطلب معونتهم.

قال الطبري(2/484):«وأقبل خالد بالناس حتى مروا بثابت بن أقرم قتيلاً، فلم يفطنوا له حتى وطأته المطي بأخفافها، فكبر ذلك على المسلمين، ثم نظروا فإذا هم بعكاشة بن محصن صريعاً، فجزع لذلك المسلمون.. لما رأى ما بأصحابه من الجزع عند مقتل ثابت وعكاشة قال لهم: هل لكم إلى أن أميل بكم إلى حيٍّ من أحياء العرب ، كثير عددهم شديدة شوكتهم، لم يرتد منهم عن الإسلام أحد؟ فقال له الناس:ومن هذا الحي الذي تعنى فنعم والله الحي هو؟قال:لهم طئ . فقالوا: وفقك الله ، نعم الرأي رأيت ، فانصرف بهم حتى نزل بالجيش في طئ».

وبزاخة معسكر طليحة ، في أول نجد ، وجبال طيئ في جهة العراق والأردن !

وقد تقدم بالتفصيل فضح ما ادعاه خالد ، وما ادعوه له في معركة اليمامة .

23. وروينا بطولة خالد ، لكن في هجومه على بيت الزهراء (علیها السلام) ! فقد روى العياشي في تفسيره:2 /66 ، والمفيد في الإختصاص/185، عن أبي المقدام ، قال: «ما أتى

ص: 44

على علي (علیه السلام) يوم قط أعظم من يومين أتياه ، فأما أول يوم فاليوم الذي قبض فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأما اليوم الثاني ، فوالله إني لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي بكر والناس يبايعونه ، إذ قال له عمر: يا هذا ليس في يديك شئ ما لم يبايعك علي! فابعث إليه حتى يأتيك يبايعك فإنما هؤلاء رعاع ، فبعث إليه قنفذ فقال له: إذهب فقل لعلي: أجب خليفة رسول الله .

فذهب قنفذ فما لبث أن رجع فقال لأبي بكر: قال لك: ما خلف رسول الله أحداً غيري ! قال: إرجع إليه فقل: أجب، فإن الناس قد أجمعوا على بيعتهم إياه وهؤلاء المهاجرون والأنصار يبايعونه وقريش، وإنما أنت رجل من المسلمين لك ما لهم وعليك ما عليهم ، فذهب إليه قنفذ ، فما لبث أن رجع فقال قال لك: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي وأوصاني إذا واريته في حفرته ، لا أخرج من بيتي حتى أؤلف كتاب الله ، فإنه في جرايد النخل وفي أكتاف الإبل .

قال عمر: قوموا بنا إليه ، فقام أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وخالد بن الوليد ، والمغيرة بن شعبة ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة، وقنفذ ، وقمت معهم فلما انتهينا إلى الباب فرأتهم فاطمة (علیها السلام) فأغلقت الباب في وجوههم، وهي لاتشك أن لايدخل عليها إلا بإذنها، فضرب عمر الباب برجله فكسره وكان من سعف ، ثم دخلوا فأخرجوا علياً ملبباً !

فخرجت فاطمة فقالت: يا أبا بكر أتريد أن ترمِّلني من زوجي، والله لئن لم تكفَّ عنه لأنشرن شعري ولأشقنَّ جيبي ولآتين قبر أبي ولأصيحنَّ إلى ربي ، فأخذت بيد الحسن والحسين وخرجت تريد قبر النبي (صلی الله علیه و آله) فقال عليٌّ لسلمان: أدرك ابنة محمد (صلی الله علیه و آله) فإني أرى جنبتي المدينة تكفيان ، والله إن نشرت شعرها

ص: 45

وشقت جيبها وأتت قبر أبيها وصاحت إلى ربها ، لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها ! فأدركها سلمان فقال: يا بنت محمد إن الله إنما بعث أباك رحمة فارجعي. فقالت: يا سلمان يريدون قتل علي! ما على عليٍّ صبر ، فدعني حتى آتى قبر أبي ، فأنشر شعري وأشق جيبي وأصيح إلى ربي! فقال سلمان: إني أخاف أن يخسف بالمدينة ، وعليٌّ بعثني إليك ويأمرك أن ترجعي إلى بيتك وتنصرفي . فقالت: إذاً أرجع وأصبر وأسمع له وأطيع .

قال: فأخرجوه من منزله ملبباً ومروا به على قبر النبي (صلی الله علیه و آله) قال فسمعته يقول: يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي.. إلى آخر الآية .

وجلس أبو بكر في سقيفة بني ساعدة وقَدِم عليٌّ فقال له عمر: بايع ! فقال له علي: فإن أنا لم أفعل فمَهْ؟

فقال له عمر: إذا أضرب والله عنقك !

فقال له علي: إذاً والله أكون عبد الله المقتول وأخا رسول الله.

فقال عمر: أما عبد الله المقتول فنعم وأما أخو رسول الله فلا، حتى قالها ثلاثاً ! فبلغ ذلك العباس بن عبد المطلب ، فأقبل مسرعاً يهرول فسمعته يقول: إرفقوا بابن أخي ولكم عليَّ أن يبايعكم ، فأقبل العباس وأخذ بيد علي فمسحها على يد أبي بكر ، ثم خلوه مغضباً ».

وقال السيد مرتضى في مأساة الزهراء (علیها السلام) (1/226): «ذكر لنا التاريخ أسماء عدد من المهاجمين مثل: أبي بكر ، عمر ، قنفذ ، أبي عبيدة بن الجراح ، سالم مولى أبي حذيفة ، المغيرة بن شعبة ، خالد بن الوليد ، عثمان ، أسيد بن حضير ، معاذ بن

ص: 46

جبل ، وعبد الرحمان بن عوف ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، ومحمد بن مسلمة ، وهو الذي كسر سيف الزبير ، وزيد بن أسلم ، وعياش بن ربيعة ، وغيرهم».

فقد كان خالد معهم ، كما كان قبل عشر سنوات مع المتآمرين البضعة عشر من قبائل قريش ، لقتل النبي (صلی الله علیه و آله) .

24. وروينا بطولة خالد في محاولة اغتيال أميرالمؤمنين (علیه السلام) وذلك بأمر أبي بكر ! قال السيد مرتضى في مأساة الزهراء (علیها السلام) : (1/228): «وقد تآمروا أيضاً على قتل علي (علیه السلام) على يد خالد بن الوليد ، وهو يصلي في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، حينما نطق أبو بكر قبل التسليم قائلاً: لا يفعلن خالدٌ ما أمرته !

وقد أفتى أبو حنيفة بجواز التكلم قبل التسليم استنادا إلى هذه القضية كما يقال وأفتى سفيان الثوري استناداً إلى هذه القضية أيضاً ، بأن من أحدث قبل التسليم وبعد التشهد ، فصلاته تامة».

ويقصد ما رواه عدد من مصادرنا، ومنها الإحتجاج للطبرسي:1/118، قال: «ورويَ أن أبا بكر وعمر بعثا إلى خالد بن الوليد، فواعداه على قتل علي (علیه السلام) وضمن ذلك لهما فسمعت ذلك الخبر أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر في خدرها، فأرسلت خادمة لها ، وقالت ترددي في دار علي وقولي له: إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ.. ففعلت الجارية وسمعها علي (علیه السلام) فقال:رحمها الله ، قولي لمولاتك: فمن يقتل الناكثين والمارقين والقاسطين؟!

ووقعت المواعدة لصلاة الفجر إذ كان أخفى ،واختيرت للسدفة والشبهة فإنهم كانوا يُغَلِّسُون بالصلاة حتى لاتعرف المرأة من الرجل، ولكن الله بالغ أمره .وكان أبو بكر قال لخالد بن الوليد: إذا انصرفت من صلاة الفجر فاضرب

ص: 47

عنق علي. فصلى إلى جنبه لأجل ذلك وأبو بكر في الصلاة يفكر في العواقب فندم ، فجلس في صلاته حتى كادت الشمس تطلع ، يتعقب الآراء ويخاف الفتنة ولا يأمن على نفسه ، فقال قبل أن يسلم في صلاته: ياخالد لاتفعل ما أمرتك به، ثلاثاً . وفي رواية: لايفعلن خالد ما أمر به !

فالتفت علي (علیه السلام) فإذا خالد مشتمل على السيف إلى جانبه ، فقال: يا خالد ما الذي أمرك به؟ قال: بقتلك ! قال: أو كنت فاعلاً؟ فقال: إي والله لولا أنه نهاني لوضعته في أكثرك شعراً ! فقال له علي (علیه السلام) : أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لولا ما سبق به القضاء ، لعلمت أي الفريقين شر مكاناً وأضعف جنداً .

وفي رواية لأبي ذر: أن أمير المؤمنين أخذ خالداً بأصبعيه السبابة والوسطى في ذلك الوقت ، فعصره عصراً فصاح خالد صيحة منكرة ، ففزع الناس وهمتهم أنفسهم وأحدث خالد في ثيابه ، وجعل يضرب برجليه الأرض ولا يتكلم» !

أقول:يظهر أن هذا الخبر كان معروفاً من قديم ، فقد روى السمعاني في الأنساب (3/95) عن ابن حبان قال: «عباد بن يعقوب الرواجني من أهل الكوفة ، يروي عن شريك حدثنا عنه شيوخنا ، مات سنة خمسين ومائتين في شوال ، وكان رافضياً داعية إلى الرفض، ومع ذلك يروي المناكير عن أقوام مشاهير فاستحق الترك ، وهو الذي روى عن شريك عن عاصم عن زر عن عبد الله قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه . قلت: روى عنه جماعة من مشاهير الأئمة مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، لأنه لم يكن داعية إلى هواه ، وروى عنه حديث أبي بكر أنه قال: لا يفعل خالد ما أمر به . سألت

ص: 48

الشريف عمر بن إبراهيم الحسيني بالكوفة عن معنى هذا الأثر، فقال: كان أمر خالد بن الوليد أن يقتل علياً ، ثم ندم بعد ذلك فنهى عن ذلك ».

هذا ، وقد رويت روايات متفاوتة فيما فعله علي (علیه السلام) بخالد على أثرها، ومنها أنه طوق عنقه بعمود حديد غليظ، فلم يستطيعوا فكه حتى توسط العباس عند علي (علیه السلام) ، وفي بعضها طلب منه أبو بكر ففكه . ونحن نقبله إذا صح سنده ، فليس هو بأعجب من دحي علي (علیه السلام) باب خيبر ثم حمله وجعله جسراً للجيش . وقد رويت أعاجيب عن قوته البدنية (علیه السلام) .

ففي المناقب (2/121): «فلما ترعرع (علیه السلام) كان يصارع الرجل الشديد فيصرعه.. وربما يلحق الحصان الجاري فيصدمه فيرده على عقبيه.. لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس.. ويقال أنه كان يتأبط باثنين ويدير واحداً برجله..ثم روى عن أبي سعيد الخدري وجابر الأنصاري وعبد الله بن عباس من خبر طويل قصة تطويقه لعنق خالد بعمود حديد ، وأنه بقي في عنقه أياماً حتى شفع له أبو بكر فأقسم عليه فقبض على رأس الحديد من القطب فجعل يفتل منه يمينه شبراً شبراً فيرمي به !

25. برز من أولاد خالد ابنه عبد الرحمن ، وكان قائد جيش معاوية في صفين ، وأحبه أهل الشام فطلبوا من معاوية أن يجعله ولي عهده ، فقتله بالسم على يد طبيب مسيحي، فجاء أخوه المهاجر من مكة وقتل الطبيب . وكان المهاجر شيعياً صلباً شهد مع علي (علیه السلام) حرب الجمل وصفين ، وأولاده شيعة. (الإستيعاب:4/1453). وأم المهاجر أسماء الخثعمية ، وليست أم تميم زوجة مالك بن نويرة ، ولا زوجته الأخرى ميَّة بنت مجَّاعة الحنفي . (تاريخ دمشق:61/264).

ص: 49

سعد بن أبي وقاص قائد عيَّرته زوجته بالجُبن

1. سعد بن أبي وقاص ويكنى أبا إسحاق ، وإسم أبي وقاص مالك بن أهيب ، بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب . وعبد مناف الذي في نسب بني زهرة غير عبد مناف الجد المشترك لبني هاشم وأمية .

قال رواة السلطة إن سعداً أسلم وهو شاب ابن17سنة (المنتظم:5/281) وقال ابنه محمد: « قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلاماً ؟ فقال: لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين، ولكن كان أفضلنا إسلاماً ». (الطبري:2/60) .

وقال ابن حجر في الإصابة:3/61: «وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية ، بنت عم أبي سفيان بن حرب بن أمية». وقد عاشت طويلاً ولم تسلم (فتح الباري:7/66) .

وقالوا غضبت عليه وقالت له: « يا سعد بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ، وإن الطعام والشراب على حرام حتى تكفر بمحمد » . فشكى سعد الى النبي (صلی الله علیه و آله) فعل أمه، فنزلت آية تأمر ببر الوالدين وعدم طاعتهما في الكفر . (الكشاف:3/198) .

ثم تحيروا في أي آية نزلت ، لأن المطلوب آية نزلت في الوقت المبكر الذي فرضه سعد لإسلامه ! وآية الأمر بالإحسان الى الوالدين وتحريم قول أف لهما ، في سورة الإسراء:23، وآية: وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا في سورة العنكبوت:8 ، ولقمان:15، وآية: اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ..في لقمان:14. وآية: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا..في الأحقاف:15.

وكل هذه السور متأخرة عن توقيتهم لإسلام سعد ، ولذلك داخ مشايخهم!

ص: 50

وقد أطال بحث ذلك ابن حجر ولم يصل الى نتيجة مقنعة (فتح الباري:10/335).

هذا ، وقد طعن عبد الله بن مسعود في أم سعد ، عندما كان والي بيت المال في الكوفة فاستقرض منه سعد مبلغاً ، وطالبه بعد مدة فلم يسدده ، وأهانه فقال له: يا ابن حمنة ! وهو تشكيك بنسبته الى أبيه ! وكان التشكيك بأبيه من زمن النبي (صلی الله علیه و آله) ، فقد قال سعد إنه شكى ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) فقال له إن أمك بريئة !

قال سعد كما في الرياض النضرة للمحب الطبري(4/319) قلت للنبي (صلی الله علیه و آله) : «من أنا يا رسول الله ؟ قال أنت سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة ؛ من قال غير ذلك فعليه لعنة الله . أخرجه الضحاك . أمه حمنة بنت سفيان بن أبي أمية بن عبد شمس . قاله ابن قتيبة والدار قطني وغيرهما» .

ولكن رواية سعد هذه تزيدنا الشك في الأمر ، ولا ترفعه !

وقال مفلح بن راشد في إلزام النواصب/171: « وقد نسبوا سعداً إلى غير أبيه وأنه من رجل من بني عذرة كان خدناً لأمه ، ويشهد بذلك قول معاوية له حين قال سعد لمعاوية: أنا أحق بذلك الأمر منك ، فقال له معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عذرة ، وضرط له ! روى ذلك النوفل بن سلمان » . يقصد أنك لست قرشياً !

2. كان سعد قصيراً ، غليظاً ، أسمر ، أفطس ، أشعر الجسد ، يخضب السواد ،

هكذا وصفته ابنته ، والرواة ، ومنهم ابن الجوزي في كتاب المنتظم (5/281).

وكان صاحب قوس وصيد ، وقد أمَّره النبي (صلی الله علیه و آله) على بعض سراياه ، وزعموا أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله ، في السرية التي أرسلها النبي (صلی الله علیه و آله) بإمرة

ص: 51

عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، فاعترضت قافلة لقريش ، ولم يكن بينهم قتال ، وتراموا ببعض السهام ، فقيل إن سعداً جرح أحدهم بسهمه !

3. وهناك مشكلة أخرى في نسب سعد، فقد قيل إن بني وقاص ليسوا من زهرة بل من بني عذرة ، كما ذكر بعض النسابين ، وقد حكم به عبد الله بن مسعود .

وقد روى في شرح نهج البلاغة:6/55 ، قول حسان في عتبة بن أبي وقاص:

«فمن عاذري من عبد عذره بعدما *** هوى في دجوجي شديد المضايق

وأورث عاراً في الحياة لأهله *** وفى النار يوم البعث أم البوائق

ثم قال: وإنما قال عبد عذرة ،لأن عتبة بن أبي وقاص وإخوته وأقاربه في نسبهم كلام ، ذكر قوم من أهل النسب أنهم من عذرة ، وأنهم أدعياء في قريش ، ولهم خبر معروف ، وقصة مذكورة في كتب النسب..وتنازع عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص في أيام عثمان في أمر فاختصما ، فقال سعد لعبد الله: أسكت يا عبد هذيل ، فقال له عبد الله: أسكت يا عبد عذرة ».

ورووا أن عمر قال إن سعد لا يصلح للخلافة ، لأنه يقال إنه من بني عذرة ، كما أن معاوية حكم بنفي بني وقاص عن بني زهرة وقريش !

روى المسعودي في مروج الذهب:1/353 ، عن ابن إسحاق: «لما حج معاوية طاف بالبيت ومعه سعد ، فلما فرغ انصرف معاوية إلى دار الندرَة ، فأجلسه معه على سريره ، ووَقَعَ معاوية في علي وشَرَعَ في سَبَّه ، فزحف سعد ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي، واللهّ لأن يكون فيَّ خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس واللّه لأن

ص: 52

أكون صهراً لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وأن لي من الولد ما لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، والله لأن يكون رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي ما قاله يوم خيبر:لأعطيَنَّ الراية غداً رجلاً يحبه اللّه ورسوله ويحب اللهّ ورسوله ليس بِفَرَّار ، يفتح اللهّ على يديه ، أحب إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، واللهّ لأن يكون رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لي ما قال له في غزوة تبوك:ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، أحبُّ إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس . وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت ، ثم نهض...عنِ ابن عائشة وغيره ، أن سعداً لما قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرَطَ له معاوية وقال له: أقعد حتى تسمع جواب ما قلت: ما كُنْتَ عندي قَطُّ ألأم منك الآن ، فهلا نصرته ، ولمَ قعدت عن بيعته ، فإني لو سمعت من النبي مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعلي ما عشت! فقال سعد: واللّه إني لأحق بموضعك منك ، فقال معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عذرة ! وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة..وفي ذلك يقول السيد بن محمد الحميري :

سائل قريشاً بها إن كنت ذا عَمَهٍ *** مَنْ كان أثْبَتَهَا في الدين أوْتَادَا

من كان أقدمها سلما ، وأكثرها *** علماً ، وأطهرها أهلاً وأولادا

من وحَّدَ اللّه إذ كانت مكذبة *** تدعو مع اللّه أوثاناً وأندادا

من كان يُقْدِم في الهيجاء إن نكلوا *** عنها وإن بَخِلوا في أزمة جادا

من كان أعدلها حكماً ، وأقسطها *** حلماً ، وأصدقها وعداً وإيعادا

إن يَصْدَقوك فلم يَعدوا أبا حسن *** إن أنت لم تلق للأبرار حسادا

إن أنت لم تلق من تَيْمٍ أخا صَلَف *** ومن عدي لحق اللّه جُحَّادا

ص: 53

أو من بني عامر أو من بني أسد *** رَهْط العبيد ذوي جهل وأوغادا

أورهط سعد وسعد كان قد علموا *** عن مستقيم صراط اللّه صَدَّادا

قوم تَدَاعَوْا زنيماً ثم سادهُمُ *** لولا خمول بني زهر لما سادا

وكان سعد ، وأسامة بن زيد ، وعبد اللّه بن عمر ، ومحمد بن سلمة ، ممن قعد عن علي بن أبي طالب وأبوا أن يبايعوه هم وغيرهم ممن ذكرنا من القُعَّاد وذلك أنهم قالوا: إنها فتنة ، ومنهم من قال لعلي: أعْطِنا سيوفاً نقاتل بها معك ، فإذا ضربنا بها المؤمنين لم تعمل فيهم ونَبَتْ عن أجسامهم ، وإذا ضربنا بها الكافرين سَرَتْ في أبدانهم ، فأعرض عنهم عليّ وقال: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ».

4. مع معرفة سعد بفضل علي (علیه السلام) فقد كان يكرهه ، لأنه قتل من أخواله في بدر! فقد جعله عمر أحد أعضاء الشورى ، الذين عيَّنهم ليختاروا خليفته منهم، وأعطى حق النقض لعبد الرحمن بن عوف. (الإستيعاب:2/606).

فوصفهم علي (علیه السلام) بقوله كما في نهج البلاغة(1/35): «حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ! فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريب في مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكني أسْفَفْتُ إذ أسفوا ، وطِرْتُ إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن » !

قال الشريف المرتضى في رسائله (2/111): «أراد المائل إلى صهره عبد الرحمن بن عوف الزهري، فإنه كان بينه وبين عثمان مصاهرة معروفة ، فعقد له الأمر ومال

ص: 54

إليه بالمصاهرة.والذي مال إليه لضغنه إنما هو سعد بن أبي وقاص الزهري ، فإنه كان منحرفاً عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو أحد من قعد عن بيعته في وقت ولايته».

5. امتنع سعد عن بيعة علي (علیه السلام) ونصرته ، فتركه علي (علیه السلام) ولم يجبره على البيعة . وكان سعد يتقرب اليه ليوليه فلم يوله وأخبره أن ابنه عمر سيقتل الحسين (علیه السلام) ! «كان (علیه السلام) يخطب الناس وقال: سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله ماتسألوني عن شئ مضى ولا شئ يكون إلا نبأتكم به . قال فقام إليه سعد بن أبي وقاص وقال: يا أمير المؤمنين: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟فقال له: والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنك ستسألني عنها ! وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ! وإن في بيتك لسخلاً يقتل الحسين ابني ! وعمر يومئذ يدرج بين يدي أبيه». (أمالي الصدوق/ 196).

6. أدان سعد سب معاوية لعلي (علیه السلام) ، وشهد ببعض أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) فيه وحديثه مشهور في صحيح مسلم (7/120) وغيره:« أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه، فقال له على: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان! فقال له رسول الله: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر:لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال فتطاولنالها فقال:أدعوا لي علياً فأتى به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه . ولما نزلت هذه الآية: فقل

ص: 55

تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ، دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال: اللهم هؤلاء أهلي».

وروى في مروج الذهب (1/354) عن ابن عائشة وغيره ، أن سعداً لما قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم، ضرَطَ له معاوية (أي سخر به بصوت من فمه) وقال له: «أقعد حتى تسمع جواب ما قلت: ما كُنْتَ عندي قَطُّ ألأم منك الآن فهلا نصرته، ولمَ قعدت عن بيعته؟فإني لو سمعت من النبي مثل الذي سمعت فيه ، لكنت خادماً لعلي ما عشت! فقال سعد: واللّه إني لأحق بموضعك منك ! فقال معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عذرة! وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة».

وفي تاريخ دمشق:20/360: عن المديني قال:«حج معاوية بن أبي سفيان فمر بالمدينة فجلس في مجلس فيه سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ، فالتفت إلى عبد الله بن عباس فقال: يا أبا عباس إنك لم تعرف حقنا من باطل غيرنا، فكنت علينا ولم تكن معنا ، وأنا ابن عم المقتول ظلماً يعني عثمان بن عفان وكنت أحق بهذا الأمر من غيري ! فقال ابن عباس: اللهم إن كان هكذا فهذا وأومأ إلى ابن عمر أحق بها منك ، لأن أباه قتل قبل ابن عمك ! فقال معاوية: ولا سواء ، إن أبا هذا قتله المشركون وابن عمي قتله المسلمون . فقال ابن عباس: هذا والله أبعد لك ، وأدحض لحجتك !

فتركه وأقبل على سعد فقال: يا أبا إسحاق أنت الذي لم تعرف حقنا وجلس فلم تكن معنا ولا علينا ! قال فقال سعد: إني رأيت الدنيا قد أظلمت فقلت لبعيري إخ فأنختها حتى انكشفت ، قال فقال معاوية: لقد قرأت ما بين اللوحين ما قرأت في كتاب الله عز وجل إخ ! قال فقال سعد: أما إذا أبيت فإني

ص: 56

سمعت رسول الله يقول لعلي:أنت مع الحق والحق معك حيث ما دار! قال فقال معاوية: لتأتيني على هذا ببينة ! قال فقال سعد: هذه أم سلمة تشهد على رسول الله. فقاموا جميعاً فدخلوا على أم سلمة فقالوا: يا أم المؤمنين إن الأكاذيب قد كثرت على رسول الله ، وهذا سعد يذكر عن النبي ما لم نسمعه أنه قال يعني لعلي: أنت مع الحق والحق معك حيث ما دار . فقالت أم سلمة: في بيتي هذا قال رسول الله لعلي! قال فقال معاوية لسعد: يا أبا إسحاق ما كنت ألومك الآن إذ سمعت هذا مع من رسول الله وجلست عن علي ! لو سمعت هذا من رسول الله لكنت خادماً لعلي حتى أموت» !

وأورده ابن كثير في النهاية:8/84 ، وضعفه على تردد بدون ذكر السبب ! إلا ما تربى عليه من بغض علي (علیه السلام) قال: «وفي إسناد هذا ضعف والله أعلم » !

أقول: هذا الحوار بين سعد ومعاوية يكفي لكشف شخصيتيهما ، فمعاوية يقول له: لماذا أنت لئيم متناقض، تشهد لعلي بما شهدت به ثم لاتبايعه ولا تنصره ، فلو أني سمعت من النبي (صلی الله علیه و آله) ما سمعته أنت فيه لكنت خادماً له كل حياتي ! أي أن الحجة تامة على سعد بما رواه ، فيجب عليه طاعة علي (علیه السلام) !

وكان ينبغي لسعد أن يعترف بتناقضه ويقول لمعاوية: والحجة عليك أيضاً تامة بما رويت لك عن النبي (صلی الله علیه و آله) ، فلماذا خرجت على عليٍّ وحاربته ؟

لكنه اختار الجواب من زاوية أخرى فقال له: أنا وأنت ظلمنا علياً من أجل الخلافة وخالفنا منطق النبوة واخترنا منطق قريش القبلي ، وأنا بها المنطق أحق بها منك لأني أحد أعضاء الشورى الذين رشحهم عمر زعيم قريش للخلافة !

ص: 57

فأجابه معاوية إجابة قاصعة فطعن في نسبه وقال له: يأبى عليك أنك من بني عذرة ولست قرشياً من بني زهرة كما تدعي !

7. زعموا أن النبي (صلی الله علیه و آله) بشَّر عشرة قرشيين بالجنة ، وجعلوا سعداً أحدهم . روى ذلك سعيد بن نفيل ابن عم عمر ، وعدَّ نفسه وسعداً منهم . وقد رد حديثه علي (علیه السلام) وقال إن سعيداً كذبه في خلافة عثمان .

فقد روى في الإحتجاج:1/237: «لما التقى أمير المؤمنين (علیه السلام) أهل البصرة يوم الجمل ، نادى الزبيرَ يا أبا عبد الله أخرج إليَّ ، فخرج الزبير ومعه طلحة . فقال لهما: والله إنكما لتعلمان وأولوا العلم من آل محمد وعائشة بنت أبي بكر ، أن كل أصحاب الجمل ملعونون على لسان محمد (صلی الله علیه و آله) ، وقد خاب من افترى. قالا: كيف نكون ملعونين ونحن أصحاب بدر وأهل الجنة ؟! فقال: لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم . فقال له الزبير: أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي أنه سمع من رسول الله يقول: عشرة من قريش في الجنة؟ قال علي (علیه السلام) : سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته .

فقال الزبير: أفتراه كذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ فقال له علي (علیه السلام) : لست أخبرك بشئ حتى تسميهم. قال الزبير: أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن عمرو بن نفيل . فقال له علي (علیه السلام) : عددت تسعة فمن العاشر؟قال له: أنت . قال علي (علیه السلام) : قد أقررت أني من أهل الجنة ، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فأنا به من الجاحدين الكافرين ! قال له: أفتراه كذب على رسول الله؟ قال: ما أراه كذب ولكنه والله اليقين ! فقال علي (علیه السلام) : والله إن بعض من سميته لفي

ص: 58

تابوت في شعب في جب في أسفل درك من جهنم ، على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع تلك الصخرة ! سمعت ذلك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلا أظفرك الله بي وسفك دمي على يديك ، وإلا أظفرني الله عليك وعلى أصحابك وسفك دمائكم على يدي ، وعجل أرواحكم إلى النار ! فرجع الزبير إلى أصحابه وهو يبكي » !

8. أسرة سعد بن أبي وقاص أسرةٌ عجيبة ، فمنها سعد كبيرهم الذي ستعرفه ، ومنها ابن أخيه هاشم بن عتبة ، البطل الشيعي الفاتح ، الذي ستعرفه .

ومنها عتبة والد هاشم وأخ سعد ، وكان شديد العداوة للنبي (صلی الله علیه و آله) وقد تعاقد مع نفر من عتاة قريش منهم والد الزهري ، على قتل النبي (صلی الله علیه و آله) في معركة أحد .

قال المقريزي في إمتاع الأسماع(14/339): «ومن أعداء رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبد الله بن شهاب..الزهري..وعتبة بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف ، وعبد الله بن شهاب الزهري ، وعمرو بن قمئة الأدمي من بني تميم..وعبد الله بن حميد بن زهير.. بن أسد بن عبد العزى بن قصي.. وذلك أنه لما كان يوم أحد تعاقد هؤلاء مع أبيِّ بن خلف على قتل رسول الله (صلی الله علیه و آله) !

أما عتبة بن أبي وقاص فرماه بأربعة أحجار ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى ، وشق شفته السفلى . وأما ابن قمئة فكَلَمَ وجنتيه (صلی الله علیه و آله) وغيب حَلَق المغفر فيهما ، وعلاه بالسيف فلم يقطع ، وسقط رسول الله (صلی الله علیه و آله) فجحشت ركبته (رُضَّت).

وأما أبي بن خلف فشد بحربة ، فأعان الله عز وجل رسوله (صلی الله علیه و آله) فقتله .

وأما عبد الله بن حميد فأقبل يريد النبي (صلی الله علیه و آله) فشد عليه أبو دجانة فضربه وقال: خذها وأنا ابن خرشة ، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : اللهم ارض عن ابن خرشة ، فإني عنه

ص: 59

راض . قال الواقدي: دعا رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الذين تعاقدوا على قتله فقال: اللهم لا تُحِلْ أحداً منهم الحول ، فمات عتبة من وجع أليم أصابه فتعذب به، وأصيب ابن قمئة في المعركة ، ويقال إنه لما رمى مصعب بن عمير فقتله قال: خذها وأنا ابن قمئة ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : أقمأه الله، فعهد إلى شاة ليحلبها بعد الوقعة فنطحته وهو معتقلها فقتلته ، ووجد ميتاً بين الجبال ».

أقول: نفى الإمام الباقر (علیه السلام) أن تكون رباعية النبي (صلی الله علیه و آله) كُسرت وقال « قبضه الله سليماً » (معاني الأخبار/406). ويظهر أن سنه تخلخلت . وقد بينا في السيرة النبوية هروب جميع الصحابة بمن فيهم سعد ، ما عدا علي (علیه السلام) وأبي دجانة ونسيبة ، وقد جُرحا . وجاء علي (علیه السلام) وأصعد النبي (صلی الله علیه و آله) من الحفرة ، وأمره جبرئيل أن يستطل بالصخرة ، وأن يقاتل علي (علیه السلام) وحده ويرد الحملات التي تستهدف قتله .

وقال في شرح نهج البلاغة:6/55: «عتبة بن أبي وقاص ، الذي كسر رباعية رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم أحد ، وكلم شفتيه وشج وجهه ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ، ويقول:كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم ، وهو يدعوهم إلى ربهم.. وقال حسان بن ثابت في ذلك اليوم :

إذا الله حيا معشراً بفعالهم *** ونصرهم الرحمن رب المشارق

فهدك ربي يا عتيب بن مالك *** ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق

بسطت يميناً للنبي محمد *** فدميت فاه قطعت بالبوارق

فهلا ذكرت الله والمنزل الذي *** تصير إليه عند إحدى الصواعق

فمن عاذري من عبد عذره بعدما *** هوى في دجوجي شديد المضايق

وأورث عاراً في الحياة لأهله *** وفى النار يوم البعث أم البوائق

ص: 60

وإنما قال عبد عذرة ،لأن عتبة بن أبي وقاص وإخوته وأقاربه في نسبهم كلام ، ذكر قوم من أهل النسب أنهم من عذرة ، وأنهم أدعياء في قريش».

وفي سيرة ابن هشام:3/598: «وقال حسان بن ثابت لعتبة بن أبي وقاص ، وذكر أربعة أبيات وقال: «تركنا منها بيتين أقذع فيهما ».

وقد تركهما من أجل سعد ، ولكن عمر ومعاوية وابن مسعود، صرحوا بمضمونهما !

9. وكان يفتخر برميه يوم أحد ويقول: « نَثَلَ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كنانته يوم أحُد وقال إرم فداك أبي وأمي». (سنن النسائي:6/57) ! مع أنه هرب وترك النبي (صلی الله علیه و آله) ! (راجع معركة أحُد في السيرة النبوية عند أهل البيت (علیهم السلام) ).

وقد زعم سعد أنه رجع الى النبي (صلی الله علیه و آله) ورمى عنه بألف سهم ، ففدَّاه النبي (صلی الله علیه و آله) بأبيه وأمه ، ودعا له أن يسدد الله سهمه ويستجيب دعوته ، فصارسهمه مسدداً ودعوته مستجابة !

وقد بالغ رواة السلطة بحديثه وصححه الحاكم على شرط مسلم(3/26) وجاء فيه: «قال: لما جال الناس(فروا) عن رسول الله تلك الجولة يوم أحد تنحيت (من بين الفارين) فقلت: أذود عن نفسي فإما أن أستشهد وإما أن أنجو حتى ألقى رسول الله ، فبينا أنا كذلك إذا برجل مخمر وجهه ، ما أدرى من هو فأقبل المشركون حتى قلت قد ركبوه ، ملأ يده من الحصى ثم رمى به في وجوههم فنكبوا على أعقابهم القهقري حتى يأتوا الجبل ! ففعل ذلك مراراً ، ولا أدرى من هو وبيني وبينه المقداد بن الأسود ، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه إذ قال المقداد: يا سعد هذا رسول الله يدعوك . فقلت: وأين هو؟ فأشار لي المقداد إليه فقمت

ص: 61

ولكأنه لم يصبني شئ من الأذى ، فقال رسول الله: أين كنت اليوم يا سعد؟فقلت: حيث رأيت يا رسول الله (هارباً). فأجلسني أمامه فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوك ، ورسول الله يقول: اللهم استجب لسعد اللهم سدد لسعد رميته ، إيهاً سعد ، فداك أبي وأمي . فما من سهم أرمى به إلا قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : اللهم سدد رميته وأجب دعوته . إيهاً سعد . حتى إذا فرغت من كنانتي نثر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما في كنانته فنبَّلني سهماً نضياً ، قال:وهو الذي قد ريَّش وكان أشد من غيره . قال الزهري: إن السهام التي رمى بها سعد يومئذ كانت ألف سهم . هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه».

أقول: معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) لسعد حسب قوله: أين كنت اليوم يا سعد ؟ أن سعداً كان مع الفارين من الضحى الى ما بعد الظهر، وقد عاد بعضهم بعد انسحاب قريش عصراً ! ولا يصح قول سعد إنه جلس أمام النبي (صلی الله علیه و آله) ورمى العدو لأن النبي (صلی الله علیه و آله) كان في ظل الصخرة وكان المشركون بعيدين عنه لا تصل اليهم السهام ، فكانت الكتيبة منهم تحمل على النبي (صلی الله علیه و آله) فيردها عليٌّ وجبرئيل (علیهما السلام) ، فكيف تصل اليهم سهام سعد وهو جالس كما زعم في حضن النبي (صلی الله علیه و آله) !

فلا الوقت الذي رجع فيه من هروبه وقت رمي سهام ، ولا مكانه ، ولا سمعنا أن قرشياً جرح بسهم من سهام سعد !

ونلاحظ أنه لم يرو أحد غير سعد أنه رجع من فراره في أحُد ، ولا رووا أنه شارك في الصلاة على شهداء أحُد بعد الظهر .

ص: 62

كما لا يصح ما قاله سعد وصححه مجمع الزوائد (9/155) من أن مشركاً جاء يسب المسلمين ، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) لسعد: « إرم فداك أبي ، قال: فنزعت بسهم ليس فيه نصل ، فأصبت جنبه فوقع وانكشفت عورته ، فضحك النبي (صلی الله علیه و آله) حتى نظرت إلى نواجذه» ! ولم يقل سعد ولا الراوي في أي معركة كان ذلك ، ولا يصح أن يكون في معركة أحُد ، ولا أظنه يصح في غيرها !

كما لم يصح أنه قتل أحداً بسهم قبل فراره ، فقد قال ابن سعد (2/41) عن غلام بني عبد الدار الذي حمل اللواء في أحد ، واسمه صواب: «وقال قائل: قتله سعد بن أبي وقاص ، وقال قائل: قتله علي بن أبي طالب ، وقال قائل: قتله قزمان ، وهو أثبت القول».

وقد روى ابن هشام في السيرة:2/532 ، أنه قَتَل يوم بدر حذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة ، لكن ابن عبد البر ذكره في الأسرى (الدرر:1/111) وذكره بعضهم فيمن قتله علي (علیه السلام) (المستجاد:1/71) فإن صحت روايتهم أن سعداً قتله ، فلا بد أن يكون رماه بسهم ولم يبرز اليه ، لأنه لم يثبت عنه أنه بارز أحداً أو شارك في قتال!

10. ويكفي لإثبات جُبن سعد أنه أحد الذين عيَّرهم الله تعالى بالخوف في بدر ! قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ..

قال الطبري في تفسيره:5/233: «نزلت في قوم من أصحاب رسول الله كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد... فلما فرض عليهم القتال شقَّ عليهم»!

ص: 63

وفي أسباب النزول لابن حجر:2/918: «وقال مقاتل بن سليمان : نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص وهما من بني زهرة ، وقدامة بن مظعون والمقداد بن الأسود ، وذلك أنهم استأذنوا في قتال كفار مكة لما يلقون منهم من الأذى فقال: لم أؤمر بالقتال ، فلما هاجر إلى المدينة وأذن بالقتال ، كره بعضهم ذلك ». وقال الزركشي:1/422: «هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا من القوم الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ».

وفي تفسير الرازي:10/184: «والأولى حمل الآية على المنافقين ، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله:وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ.. ولاشك أن من هذا كلام المنافقين..فالمعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضاً». وروى الحاكم:2 /66 ، تفسيرها بابن عوف وأصحابه، وصححه على شرط بخاري وكذا النسائي: 6/3 ، والبيهقي: 9/11.

وهو يدل على وجود منافقين في مكة ، وقد ادعى رواة قريش أن المنافقين فقط في المدينة ! كما يدل على جبن هؤلاء الصحابة الكبار، ومن المؤكد أن سعداً منهم ، وأن المقداد ليس منهم ، وقد نص البخاري على موقفه الشجاع في بدر .

11. وادعى سعد لنفسه فضيلة أنه مستجاب الدعوة، وكان يخوِّف بها خصومه فقد زعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) دعا له أن تُجاب دعوته ، وأنه قال ذات يوم للنبي (صلی الله علیه و آله) : «يا رسول الله ، أدع الله أن يجيب دعوتي، فقال: إنه لا يستجيب الله دعوة عبد حتى يطيب مطعمه . فقال: يا رسول الله أدع الله أن يطيب مطعمي ، فدعا له . قالوا: فكان سعد يتورع من السنبلة يجدها في زرعه فيردها من حيث أخذت . وقد

ص: 64

كان كذلك مجاب الدعوة لايكاد يدعو بدعاء إلا استجيب له.. روى ذلك عنه ابن كثير في النهاية (8/82) وذكر أن عمر خاف أن يدعو عليه سعد ، عندما خرجت جارية لسعد يقال لها زبراء وعليها قميص جديد فكشفتها الريح ، فشد عليها عمر بالدرة ، وجاء سعد ليمنعه فتناوله عمر بالدرة ، فذهب سعد يدعو على عمر فناوله الدرة وقال: إقتص مني ، فعفا عن عمر .

ثم روى له ابن كثير موارد من استجابة دعائه على أشخاص ونساء ، ثم قال: « قال محمد بن سيرين:طاف سعد على تسع جوار في ليلة! فلما انتهى إلى العاشرة أخذه النوم فاستحيت أن توقظه. وذكر أنه دفن بالبقيع وقد جاوز الثمانين ، وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفاً ».

أقول: كان مصروف العائلة في ذلك الوقت ثلاث مئة درهم ، فما تركه سعد يعتبر ثروة . وقد تكون ثروته من حلال لكن ليته أوفى دينه الذي اقترضه من بيت المال وكان واليه عبد الله بن مسعود !

12. واقترض سعد من ابن مسعود الوالي على بيت المال مبلغاً كبيراً ولم يُوفه! وكان سعد يعمل بالزراعة في الكوفة والمدينة ، ويملك أراضي بالإقطاع ودوراً عديدة ، وقطعاناً من المواشي والأباعر ، وقد ذكر عدداً منها عمر بن شبة في تاريخ المدينة . وفي مروج الذهب:2/333 ، وابن خلدون:1/205: «ابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، فرفع سمكها ووسع فضاءها وجعل أعلاها شُرُفاتٍ».

ومع ثروته ، لم يوف ما اقترضه من بيت المال ، وشتم ابن مسعود !

ص: 65

فقد روت ذلك مصارد السلطة ووثقته وصححته ، كما في مجمع الزوائد (9/154) ، أن ابن مسعود قال لسعد: «أدِّ المال الذي قِبَلَك . فقال له: والله لأراك لاقٍ مني شراً ! هل أنت إلا ابن مسعود ، وعبد من هذيل ! فقال: أجل والله إني لابن مسعود، وإنك لابن حمنة ! فقال لهما هاشم بن عتبة: إنكما صاحبا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينظر الناس إليكما .فطرح سعد عوداً كان في يده ، ثم رفع يده فقال: اللهم رب السماوات. فقال له ابن مسعود: قل قولاً ولا تلعن . فسكت ثم قال سعد: لولا اتقاء الله لدعوت عليك دعوةً ما تخطؤك ...».

فاعجب من إهانة سعد لابن مسعود لأنه طالبه بأداء دينه لبيت المال ! فأين عدالة الصحابة ، وأين طيب المطعم الذي هو شرط لاستجابة الدعوة ، وأين المناقب والفضائل التي ادعوها لسعد وهو غني ويأكل الحرام ، عن عمد وإصرار ، ويهين أمين المسلمين على مالهم عندما يطالبه به ؟!

وكبر خلافهما حتى عرَّض ابن مسعود بحمنة أم سعد ونسبه الى بني عذرة ، وصار قضية في المجتمع الكوفي ، وطال أكثر من عشرين سنة ، ففي تاريخ الطبري: 3/311: «عن الشعبي قال: كان أول ما نزغ به بين أهل الكوفة وهو أول مصر ، نزغ الشيطان بينهم في الإسلام أن سعد بن أبي وقاص استقرض من عبد الله بن مسعود من بيت المال مالاً فأقرضه، فلما تقاضاه لم يتيسر عليه ، فارتفع بينهما الكلام حتى استعان عبد الله بأناس من الناس على استخراج المال واستعان سعد بأناس من الناس على استنظاره ، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضاً يلوم هؤلاء سعداً ويلوم هؤلاء عبد الله».

ص: 66

وواصل ابن مسعود مطالبته لأنه مسؤول عن المال ، وواصل سعد هروبه من الدفع وشتمه لابن مسعود ! ففي تاريخ الطبري:3/311: «لما وقع بين ابن مسعود وسعد الكلام في قرض أقرضه عبد الله إياه فلم يتيسر على سعد قضاؤه ، غضب عليهما عثمان وانتزعها (الكوفة) من سعد وعزله ، وغضب على عبد الله وأقره ».

ففي تاريخ الذهبي:3/315: «وقيل عزل عثمان سعداً عن الكوفة ، لأنه كان تحت ديْن لابن مسعود فتقاضاه واختصما ، فغضب عثمان من سعد وعزله» !

13.ويظهر أن سعداً لايستطيع أن يعطي شيئاً أخذه،وهو طبع في بعض الناس ففي فتوح البلدان (1/8): «وجد غلاماً يقطع الحمى فضربه وسلبه فأسه ! فدخلت مولاته أو امرأة من أهله على عمرفشكت إليه سعداً فقال عمر:رد الفأس والثياب أبا إسحاق رحمك الله. فأبى وقال: لاأعطي غنيمة غنمنيها رسول الله ! سمعته يقول: من وجدتموه يقطع الحمى فاضربوه واسلبوه ! فاتخذ من الفأس مسحاة ، فلم يزل يعمل بها في أرضه حتى توفى» !

والحمى: الواحة أو الأرض المحمية لرعي الخيل أو مواشي الدولة ، ولا يمكن أن يعطي النبي (صلی الله علیه و آله) حق الفوضى لكل من رأى شخصاً يقطع من شجر الحمى أن يضربه ويسلبه !

ونحن لا نثق بمدائح سعد لنفسه ! فالذين لاترد لهم دعوة هم أصحاب المعجزات ، النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام) ، وبعض الأولياء الذين لا يأكلون الحرام . وقد بحثنا ذلك في سيرة الإمام زين العابدين (علیه السلام) في المجلد الرابع من جواهر التاريخ .

ص: 67

14.عينه عمر والياً على العراق ، أميراً على المثنى ، وجرير بن عبد الله البجلي: «وتنازع جرير والمثنى بن حارثة الإمارة ، فبعث عمر سعد بن مالك وكتب إليهما أن اسمعا له وأطيعا ». (تاريخ خليفة/87).

وأمده بمجموعات مقاتلة عديدة . قال ابن الأعثم:1/137: «ثم دعا سعد بن أبي وقاص فقال: يا سعد بني وهب، إن الله تبارك وتعالى إذا أحب خلقاً حببه إلى خلقه ، وأنا موجهك إلى أرض العراق لتكون أميراً على جميع من قدم عليه ، فسر وقل لاحول ولا قوة إلا بالله ، واعلم أني لست أترك أحداً يطيق حمل السلاح إلا وجهت به إليك ، وأنا أرجو أن يفتح الله على يديك.

ثم جمع له عمر من كل أوب حتى صار سعد في سبعة آلاف ،ثم سار حتى نزل بموضع يقال له شراف ، وجعل عمر لا يقدم عليه أحد إلا وجه به إليه ، فكان أول من قدم عليه عمرو بن معد يكرب الزبيدي في زهاء خمس مائة رجل ، وطليحة بن خويلد الأسدي في ثمان مائة فارس، وشرحبيل بن السمط الكندي في سبع مائة راكب ، وفرات بن حيان العجلي في سبع مائة راكب ، والمغيرة بن شعبة في ثلاث مائة راكب ، وعاصم بن عمرو التميمي في أربع مائة راكب ، وعاصم بن زرارة التميمي في ست مائة راكب ، وخثيم بن عبد الله السلمي في الف راكب ، والمكشوح المرادي في أربع مائة راكب . قال: وصار إليه جرير بن عبد الله البجلي في ست مائة راكب من بجيلة ».

15. ورأى المسلمون في الكوفة أن سعداً لا يقاتل في المعارك! ولا يهتم بمشاكل المسلمين ، فهو مشغولٌ بالصيد والقنص ، وقد بنى قصراً في الكوفة ! فشكوه الى

ص: 68

عمر ، فأرسل محمد بن مسلمة الى الكوفة فسألهم عنه فقام: «رجل يقال له أبو سعدة أسامة بن قتادة فقال: أما إذ ناشدتنا ، فإن سعداً لا يقسم بالسوية ، ولايعدل في الرعية ، ولا يغزو في السرية ». (النهاية:7/121).

وفي تاريخ اليعقوبي(2/155): «ثم إن أهل الكوفة شكوا سعداً وقالوا: لا يحسن يصلي ، فعزله عمر عنهم ».

وفي الأخبار الطوال/129: «وأقام سعد أميراً على الكوفة وجميع السواد ثلاث سنين ونصفاً ، ثم عزله عمر ، وولى مكانه عمار بن ياسر على الحرب ، وعبد الله بن مسعود على القضاء ، وعمرو بن حنيف على الخراج ».

وفي الطبري:3/209): «قال سعد: إني لأول رجل أهرق دماً من المشركين.. وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أصلي ، وأن الصيد يلهيني» ! يقصد أنه أول من رمى سهماً ، فجرح مشركاً . وكان ذلك كما زعم سعد:«في السرية التي خرج فيها مع عبيدة بن الحارث في ستين راكباً ، وهي أول السرايا بعد الهجرة ». (فتح الباري:11/247) .

وقال خليفة في تاريخه/33: «ولم يك بينهم قتال، غير أن سعد بن مالك رمى يومئذ بسهم ، فكان أول سهم رمي به في الإسلام».

لكن ابن عبد البر قال في الإستيعاب(2/772): «ويقال طليب بن عمير أول من أهرق دماً في سبيل الله ، وقيل بل سعد بن أبي وقاص » .

وحتى لو كان سعدٌ أول من رمى بسهم ، فهذا لايمنع أنه كان في الكوفة مغرماً بالصيد ، مشغولاً به عن المسلمين كما اتهموه .

ص: 69

ويدل على سوء إدارة سعد أنه بنى قصراً في الكوفة ، وكان يحتجب به عن المسلمين ، فأرسل عمر من أحرقه ! قال سيد سابق في فقه السنة(2/590): «وحرَّق (عمر) قصر سعد بن أبي وقاص بالكوفة ، لما احتجب فيه عن الرعية». وعمدة القاري:14/142، والإصابة:6 /29، والوافي:5/21.

وقد نص اليعقوبي (2/155) على أن شكاية أهل الكوفة لسعد كانت في أول تحشيد الفرس لمعركة نهاوند ، فسكن سعد المدينة وانشغل ببناء قصره ، ولم يشارك في شئ من أمر نهاوند . وولى عمر بدله عمار بن ياسر نحو سنتين ، فقام عمار رضي الله عنه بالإعداد لمعركة نهاوند ، وشارك فيها . (البلاذري:2/343).

16. وتتعجب من عمر فقد كان رأيه سلبياً في سعد،ومع ذلك ولاه ودافع عنه! فقد رووا عن عمر بسند معتبر عندهم أنه طعن في سعد عندما سأله ابن عباس عمن يرشحه للخلافة بعده ، ففي شرح النهج:12/259، والشافي للمرتضى:4/202: « عن ابن عباس قال: قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد (صلی الله علیه و آله) ، وذلك قبل أن يطعن، فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم ؟قال: أصاحبكم يعني علياً ؟قلت: نعم والله هو لها أهل ، في قرابته من رسول الله (صلی الله علیه و آله) وصهره وسابقته وبلائه . فقال عمر: إن فيه بطالة وفكاهة. قلت: فأين أنت عن طلحة؟ قال: فأين الزهو والنخوة! قلت: عبد الرحمن؟ قال: هو رجل صالح على ضعف فيه (أمره في يد امرأته) قلت: فسعد ! قال: ذاك صاحب مقنب( البَرِّ) وقِتال، لايقوم بقرية لو حمل أمرها . قلت: فالزبير؟ قال: وَعْقَةٌ لقس(متضجر سئ الخلق) مؤمن الرضى كافر الغضب».

ص: 70

وفي تذكرة ابن حمدون:3/110، و نثر الدر:1/116، وشرح النهج:1/186، أن عمر خاطب الذين رشحهم للخلافة وشهد أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) توفي وهو عنهم راض فأعطى حق النقض لعبد الرحمن بن عوف ، وأمر أن يقتل من خالف منهم ، ثم وبخهم: «ثم أقبل على سعد فقال: إنما أنت صاحب قنص وقوس وأسهم ، ومقنب من المقانب ، وما زهرة والخلافة وأمور الناس! ثم أقبل على علي بن أبي طالب ، فقال: لله أنت لولا دعابة فيك، أما والله لو وليتهم لحملتهم على المحجة البيضاء والحق الواضح ، ولن يفعلوا ».

ومع ذلك رشح سعداً للخلافة، وأوصى كما في فتح الباري(13/157، و:7/45): « لم أعزله لضعف ولالخيانة.. وأوصى عمر من يلي الخلافة بعده ، أن يولي سعداً».

أقول:السبب الحقيقي لتمسك عمر بسعد هو السبب لتمسكه بسالم مولى حذيفة وبأبي عبيدة ، وإعلانه قبل موته بأنه لو كان أحدهما حياً لعهد اليه بالخلافة ، مع أن سالماً عبد فارسي ! فقد كان سعد عضواً قديماً في قادة الحزب القرشي الذين اتفقوا من بعد فتح مكة ، وعملوا لأخذ خلافة النبي (صلی الله علیه و آله) وإبعاد أهل بيته عنها .

وقد ورد إسم سعد في البضعة عشر أصحاب ليلة العقبة ، الذين هموا بما لم ينالوا في رجوع النبي (صلی الله علیه و آله) من تبوك . ورواه ابن حزم بسند موثق ولايتسع له مجالنا .

17. كما صادر عمر من ولاته نصف ثرواتهم ، وبعث اليهم برسالة موحدة: «أما بعد فإنكم معشر العمال تقدمتم على عيون الأموال ، فجبيتم الحرام ، وأكلتم الحرام ، وأورثتم الحرام ! وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة الأنصاري فيقاسمك مالك ، فأحضره مالك والسلام ». (كنز العمال: 5/853).

ص: 71

وفي تاريخ اليعقوبي:2/157: «قيل إن منهم سعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة وعمرو بن العاص عامله على مصر ، وأبا هريرة عامله على البحرين ».

18.كانت مشكلة سعد أنه رأى نفسه كبيراً ، لأن عمر جعله أحد أعضاء الشورى الستة الذين يصلحون للخلافة ! مع أنه كان يرى أن علياً (علیه السلام) أحقهم بها ، لكنه قرر أن لايبايعه وينتظر لعل الفرصة تأتيه ، وكذلك لم يبايع معاوية ولم يعترف به خليفة ، ودخل عليه وقال: السلام عليك أيها الملك..الخ.

وقد كتب له معاوية في زمن علي ليكون الى صفه ، فأجابه: «أما بعد فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة من قريش ، فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا بإجماعنا عليه ، ألا إن عليا كان فيه ما فينا ، ولم يكن فينا ما فيه، وهذا أمر قد كرهت أوله ، وكرهت آخره ، فأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما ، والله يغفر لام المؤمنين ما أتت والسلام». (شرح النهج:3/114، وتاريخ اليعقوبي:2/187، وصفين لابن مزاحم/74 ، وأورد شعراً في رسالة معاوية وجواب سعد له. والإمامة والسياسة:1/90 ، وفيه: غير أن علياً كان من السابقة ولم يكن فينا ما فيه، فشاركنا في محاسننا ولم نشاركه في محاسنه ، وكان أحقنا كلنا بالخلافة ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه . وجواهر المطالب لابن الدمشقي:2/36، وفيه: غير أن علياً كان فيه ما فينا ولم يكن فينا ما فيه ، ولو لم يطلبها ولزم بيته لطلبته العرب ولو بأقصى اليمن ).

ولا يغرك ما يرويه سعد في فضل أمير المؤمنين (علیه السلام) وما يشهد على نفسه في حقه كقوله: «قال أما بعد فإن علياً لم يسبقه أحد من هذه الأمة من أولها بعد نبيها ولن يلحق به أحد من الآخرين منهم ». (تاريخ دمشق:13/275) .

فقد كان مع ذلك يبغض علياً (علیه السلام) حسداً ويريد الخلافة لنفسه! فاعتزله ولم

ص: 72

يبايعه ولم ينصره ، ولم ينتفع بتحذير أمير المؤمنين (علیه السلام) له ولابنه عمر بن سعد قاتل الحسين (علیه السلام) ! فقد «كان (علیه السلام) يخطب الناس وقال: سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله ما تسألوني عن شئ مضى ولا شئ يكون إلا نبأتكم به ، قال فقام إليه سعد بن أبي وقاص وقال: يا أمير المؤمنين: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة ؟ فقال له: والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنك ستسألني عنها،وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ، وإن في بيتك لسخلاً يقتل الحسين ابني! وعمر يومئذ يدرج بين يدي أبيه» ! (كامل الزيارات/155، وأمالي الصدوق/196 ، وخصائص الأئمة/62، والإحتجاج:1/389).

ولم ينتفع سعد بن وقاص لدنياه أيضاً باعتزاله عن علي (علیه السلام) ومعاوية ، فقد قتله معاوية بالسُّم ، في سنة قتله للإمام الحسن (علیه السلام) ! ولله في خلقه شؤون .

19. ورووا أن سعداً كان جريئاً على معاوية ، يواجهه بأنه ملك وليس خليفة ، ففي مصنف عبد الرزاق (10 /391): «دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال: السلام عليك أيها الملك ! فقال معاوية: فهلا غير ذلك ، أنتم المؤمنون وأنا أميركم ، فقال سعد: نعم ، إن كنا أمرناك ، قال: فقال معاوية: لايبلغني أن أحداً يقول: إن سعداً ليس من قريش إلا فعلت به وفعلت» !

وهو يقصد الطعن في نسب سعد ، وأنه ليس من قريش !

وروى اليعقوبي:2/217، قول سعد: «ذاك إن كنا أمَّرناك ، إنما أنت مُنْتَزٍ» أي قافزٌ مغتصبٌ للخلافة . ورواه ابن عساكر في تاريخه(17/324، والأزدي في الجامع:10/390 ، وابن حنبل في فضائل الصحابة:2/988، والبلاذري في أنساب الأشراف /1111، والفصول المهمة:2/733 ، والنصائح الكافية/195.

ص: 73

وفي الكامل لابن الأثير:3/409: «لما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه سعد بن أبي وقاص فقال: السلام عليك أيها الملك . فضحك معاوية وقال: ما كان عليك يا أبا إسحاق لو قلت يا أمير المؤمنين . فقال: أتقولها جذلان ضاحكاً والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به». أي أخذتها بالقهر بغير حق، أما هو فيريدها بحق !

وقد حاول معاوية استمالته في زمن علي (علیه السلام) وبعده فرفض سعد ، وكتب ذات مرة الى معاوية: « أما بعد فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة من قريش ، فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا بإجماعنا عليه ، إلا إن علياً كان فيه ما فينا ولم يكن فينا ما فيه، وهذا أمر قد كرهت أوله وكرهت آخره ، فأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيراً لهما ، والله يغفر لأم المؤمنين ما أتت: والسلام».(شرح النهج: 3 /114، واليعقوبي: 2/187، والإمامة والسياسة:1 /90).

20. زعم سعد أنه أحق بالخلافة ، ولذلك قرر عدم بيعة علي (علیه السلام) ولا معاوية ، وأن ينتظر في قصره بالعقيق.قال البلاذري في أنساب الأشراف/344: «قال سعد بن أبي وقاص: أنا أحق الناس بهذا الأمر لم أشرك في دم عثمان ، ولم أحضر شيئاً من هذه الأمور الفتنة ». لكن لم ينفعه انتظاره حتى تجاوز الثمانين ولا اعتزاله . فقد قتله معاوية بالسم ليزيحه من طريق يزيد .(عمدة القاري:6/5).

قال علي بن الحسين البيهقي الشافعي المتوفى483في كتابه لباب الأنساب/40: «وأمر والي المدينة سعيد بن العاص حتى سقاه السم ، مع سعد بن أبي وقاص وجماعة من المهاجرين، فمات الحسن مسموماً بعد يومين وسعد بن أبي وقاص في يومه».

ص: 74

وفي الإستيعاب:2/609: «وكان سعد ممن قعد ولزم بيته في الفتنة وأمر أهله ألا يخبروه من أخبار الناس بشئ حتى تجتمع الأمة على إمام ، فطمع فيه معاوية وفي عبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة ، وكتب إليهم يدعوهم إلى عونه على الطلب بدم عثمان ويقول لهم إنهم لا يُكَفِّرُون ما أتوه من قتله وخذلانه إلا بذلك ، ويقول إن قاتله وخاذله سواء ، في نثر ونظم كتب به إليهم تركت ذكره .

فأجابه كل واحد منهم يرد عليه ما جاء به من ذلك ، وينكر مقالته ويعرفه بأنه ليس بأهل لما يطلب . وكان في جواب سعد بن أبي وقاص له:

معاوي داؤك الداءُ العياءُ *** وليس لما تجئ به دواءُ

أيدعوني أبو حسن عليٌّ *** فلم أردد عليه ما يشاء

وقلت له اعطني سيفاً بصيراً *** تميز به العداوة والولاء

فإن الشر أصغره كبيرٌ *** وإن الظهر تثقله الدماء

أتطمع في الذي أعيا علياً *** على ما قد طمعت به العفاء

ليوم منه خير منك حياً *** وميتاً أنت للمرء الفداء

فأما أمر عثمان فدعه *** فإن الرأي أذهبه البلاء

قال أبو عمر:سئل علي رضي الله عنه عن الذين قعدوا عن بيعته ونصرته والقيام معه؟ فقال: أولئك قوم خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل ).

21. وكان معاوية يرى أن الذنب ليس ذنب سعد ، في طموحه غير المشروع للخلافة، بل ذنب عمر بن الخطاب الذي جرأ قبائل قريش على بني عبد مناف !

قال في تاريخ دمشق:19/197: « أرسل معاوية إلى حضين بن المنذر الذهلي ، فدعاه وأدناه حتى كان قريباً منه ، ثم أجلسه وألقيت تحته وسادة ، ثم قال له

ص: 75

معاوية: بلغني أن لك عقلاً ورأياً وعلماً بالأمور ، فأخبرني ما فرَّقَ بين هذه الأمة ومن سفك دمائها وشق عصاها وفرق ملأها؟ قال: قتل أمير المؤمنين عثمان . قال: ما صنعت شيئاً . قال: مسير علي إلى عائشة وطلحة والزبير ، ومسير علي إليك وقتالكم بصفين ، والذي كان بينكم من سفك الدماء والاختلاف ! قال: ما صنعت شيئاً ! قال: فأخبرني يا أمير المؤمنين ! فحمد الله معاوية ثم قال: إن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، فدعا الناس إلى الإسلام فعمل رسول الله بكتاب الله عز وجل حتى قبضه الله وعصمه بالوحي، ثم استخلف المسلمون أبا بكر فكان أفضل من تَعْلَمُ وتعلمون ، فعمل أبو بكر بكتاب الله وسنة رسوله حتى قبضه الله إليه ، ثم استخلف أبو بكر على المسلمين عمر ، فعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسنة أبي بكر حتى أصاب عمر من قضاء الله ما أصابه ، فخيَّر بين ستة فجعلها شورى ولم يَجب إلا بجعلها بينهم ، وكانوا خير من تعلم على الأرض ، فلما جلسوا لها وتنازعوها دعا كل رجل منهم إلى نفسه ، فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها ويَسْتَخْلِف؟ فأبى القوم وكان أزهدهم فيها فقلدوها إياه فاستخلف عثمان ! فما زال كل رجل من أهل الشورى يطمع فيها ويطمع له فيها أحباؤهم ، حتى وثبوا على عثمان فقتلوه ، واختلفوا بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً ! فهذا الذي سفك دماء هذه الأمة وشق عصاها وفرق ملأها» ! انتهى.

فاعجب لمعاوية كيف لايقول لعمر شكراً لك لترتيبك الأمر لبني أمية ، بإعطائي حكم الشام ، ثم بترتيب الشورى وحق النقض لمصلحة عثمان!

فبدل أن يشكره يرى أن عمر أسس الخراب لأنه أشرك غيرهم معهم ولو في شورى شكلية ، فسبَّب ذلك طمع أعضاء الشورى من غير بني أمية !

ص: 76

واعجب لضعف عمر العدوي أمام أبي سفيان ومعاوية ، فقد نصب معاوية نفسه بعد موت أخيه فوافق عمر عليه ! ولم يسمع لاعتراض الصحابة على حداثة سنه ! (تاريخ دمشق:59/86 ، وسير الذهبي:3/126).

22. ومن ضعف شخصية سعد أنه كان يتقرب الى معاوية ، ويدعي أنه حاول نصرة عثمان! فقد روى عمر بن شبة في تاريخ المدينة(4/1223): «قال سعد: أرسل إليَّ عثمان وهو محصور يشكو إليَّ ما هو فيه ، فأخرج فأجد علياً قاعداً في المسجد في حجره سيف في غمد أحمر، فجلست إليه ووضعت ركبتي على ركبته وجعلت أذكره الله وأقول: إن ابن عمك مقتول! فقال: ما أنا من هذا في شئ . فلما كثرت عليه وضع يده على أرنبتي فعركها ، وقال...». انتهى.

أقول: في نسخة الكتاب بياض قدر ثلث سطر ، فقد حذفوا جواب علي (علیه السلام) لأنه شديدٌ بزعمهم ضد عثمان ! وبذلك يقول سعد حاولت أن ينصره علي لكنه أبى ! لكن أين كان سعد نفسه وقوسه وسيفه ، ولماذا لم ينصره ؟!

فقد روى الطبري(3/406) عن محمد بن مسلمة قال: «قالوا إنطلق معنا إليه ، فقد كلمنا علياً ووعدنا أن يكلمه إذا صلى الظهر ، وجئنا سعد بن أبي وقاص فقال: لا أدخل في أمركم . وجئنا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فقال مثل هذا ».

23. وأراد معاوية أن يبايع بعده لابنه يزيد فاعترض عليه سعد وكثيرون ، فقتلَ مجموعة بالسُّم منهم سعد ، ليزيحهم من طريق يزيد .

قال في البدء والتاريخ:5/85: «روى شعبة أن سعداً والحسن بن علي ماتا في يوم واحد قال: ويرون أن معاوية سمهم». ونحوه أنساب الأشراف للبلاذري: 1/404.

ص: 77

وفي مقاتل الطالبيين/48: «وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن شئ أثقل من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص، فدسَّ إليهما سماً فماتا منه».

وفي لباب الأنساب والألقاب للبيهقي/40: « وأمر والي المدينة سعيد بن العاص حتى سقاه السم مع سعد بن أبي وقاص وجماعة من المهاجرين ، فمات الحسن رضي الله عنه مسموماً بعد يومين ، وسعد بن أبي وقاص في يومه ». انتهى .

والبيهقي هذا: علي بن زيد البيهقي الشافعي توفي 565 وهو عالم مشهور له مصنفات أدبية وتاريخية وهندسية. ( راجع: إيضاح المكنون:1/ 154، والذريعة: 18/277 ) وهو غير البيهقي المشهور صاحب السنن ، واسمه علي بن الحسين البيهقي ، توفي 483 .

وفي الآحاد والمثاني للضحاك:1/169: «ومات سعد بن أبي وقاص بالعقيق (في قصره) وحمل فدفن بالمدينة ، وهو ابن ثلاث وثمانين سنة » .

24. بلغ من اهتمام سعد بأولاده أنه أحضر لهم من العراق معلماً نصرانياً خاصاً قال البلاذري في أنساب الأشراف/294، والفتوح:3/583: «وكان عبيد الله بن عمر الخطاب لما قتل أبوه اتهم الهرمزان ورجلاً من أهل الحيرة نصرانياً ، كان سعد بن أبي وقاص أقدمه المدينة معه فكان يعلم ولده والناس الكتاب والحساب ، يقال له جفينة...وكان جفينة ظئراً لسعد بن أبي وقاص». أي أرضعت سعداً أم جفينة . (والطبري:3/303، وفتوح البلاذري:3/583، والطبقات:3/356، وفيه: من نصارى الحيرة وكان ظئراً لسعد بن أبي وقاص أقدمه المدينة للملح الذي كان بينه وبينه .

25. وقد ورَّث سعد طموحه للخلافة الى أولاده ! فثار ابنه محمد مع ابن الأشعث على عبد الملك ، وهزمهم الحجاج وأسرهم . قال ابن الأعثم (7/102): «فقدم بالأسارى على الحجاج ، والحجاج يومئذ بواسط العراق، فأول من قدم

ص: 78

إليه محمد بن سعد بن أبي وقاص، وقد كان يلقب بظل الشيطان من طوله، فلما رآه الحجاج قال: يا ظل الشيطان! كيف رأيت صنيع الله بك؟ ثم التفت الحجاج إلى جلسائه فقال: إن هذا رغب عن يزيد بن معاوية وزعم أنه أحق بالأمر منه ، يتشبه بالحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ، ثم ما زال يركض في الفتن إلى أن تبع حوالي كندة وصار مؤدباً للظالمين . فقال محمد بن سعد: أيها الأمير إنك قد ظفرت، فإن تعف فقد أمر الله عز وجل بالعفو وإن تقتل فقد قدرت». فقتله الحجاج.

نسبوا النصر الى سعد الهارب من قيادة جيشه !

إذا تتبعت البطولات التي ذكروها لسعد بن أبي وقاص، تجدها من نوع بطولات خالد بن الوليد ، من اختراعه ونشر رواة الحكومات ، الذين هم كوكالة الأنباء في عصرنا ، لأنه كان موالياً لأبي بكر وعمر وعثمان !

لكن سعداً أقل ادعاء من خالد ، فخالد يقول إنه دقَّ تسعة أسياف في مؤتة ، وسعد لم يدعِ أنه دقَّ تسعة أسياف في بدر ، ولا خمسة في القادسية !

ففي ولايته على الكوفة كانت معركة القادسية ولم يشارك فيها ! وكان بعدها فتح المدائن وجلولاء وغيرها ، ثم معركة نهاوند الكبرى ، ولم يقاتل سعد في أيٍّ منها ! لكن الدعاية الحكومية قالت إنه قائدُ فتح العراق ، وقسمٍ من إيران !

وقال ابن حبان في ثقاته:2/210: «وكان الناس قد أجبنوا سعداً وقالوا: أجبنت عن محاربة الأعداء ، فاعتذر إلى الناس ، وأراهم ما به من القروح في فخذيه ، حتى سكت الناس » !

ص: 79

أقول: لكن الناس لم يسكتوا ، وهجوه بقصائد ، بل لم يستطع سعد أن يقنع زوجته سلمى بتبرير هروبه ! فعندما رأت المسلمين منهزمين والخيل هاربة ، وسعدٌ جالس في قصره بحجة أن في فخذه دُمَّلاً ويصعب عليه ركوب الفرس ، صاحت سلمى: وامثنياهْ ، مَنْ للخيل يقودها ويردها الى المعركة ! فقد تذكرت بطولات زوجها البطل المثنى بن حارثة رضي الله عنه .

وقال المتعصبون لسعد: « طلع بجسده طلوعٌ منعه من الركوب ، فاشتد القتال يوماً فأشرفت سلمى من القصر فقالت: وا مثناه ولا مثنى اليوم للخيل! فلطمها سعد وقال: أين المثنى؟! فقالت: أغيرةً وجُبْناً ! فقال سعد: ما يعذرني أحد إذا لم تعذريني ، وأنت ترين ما بي » ! (الإصابة لابن حجر:8/183).

وفي فتوح البلاذري(2/316): «وكان مقيماً في قصر العذيب ، فجعلت امرأته وهي سلمى بنت حفصة من بنى تيم الله بن ثعلبة ، امرأة المثنى بن حارثة ، تقول: وامثنياه ولامثنى للخيل ، فلطمها. فقالت: يا سعد ، أغيرة وجبناً» !

وقال الطبري(3 /51): «فلما رأت ما يصنع أهل فارس قالت: وامثنياه ولامثنى للخيل اليوم ! هي عند رجل قد أضجره ما يرى من أصحابه وفي نفسه ، فلطم وجهها وقال: أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى ، يعني أسداً وعاصماً وخيله، فقالت: أغيرةً وجبناً (فذهبت مثلاً)! قال: والله لايعذرني اليوم أحد إذا أنت لم تعذريني وأنت ترين ما بي ، فتعلقها الناس.فلما ظهر الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه.وكان غير جبان ولا ملوم ». ونحوه الكامل:2/473.

ص: 80

وفي معارف ابن قتيبة/48: «فقالت: القوم أقرانٌ ولا مثنى لهم! فلطم سعد عينها».وفي التذكرة الحمدونية(1/271): «فقالت: أف لك ، أجبناً وغيرةً ! وكانت مغاضبة لسعد عشية أرماث ، وليلة الهدأة ، وليلة السواد ، حتى إذا أصبحت أتته وصالحته ».

أقول: أخذتها الغيرة لهزيمة المسلمين ، وتذكرت شجاعة المثنى ، وهي ترى جُبن سعد ! وهي أدرى به من غيرها ، فلو كان عذره مقبولاً لما رمته بالجبن !

ويؤيد ذلك رواية الطبري: «فتعلقها الناس ، فلما ظهر الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه» أي تعلق الناس بكلمة زوجته ، واحتجوا عليه بشهادتها بأنه جبان !

كما يؤيده أنها غضبت عليه وهجرته يومين ، وكانا حديثي عهد بزواجها ، فقد تزوج بها تلك الأيام بشراف ، ثم نزل بها القادسية . (الطبري:3/51).

وقد أخفت الحكومة أكثر الشعر في جبن سعد ، مع أنه من وثائق القادسية !

ومن بقاياه في الطبري: (3/81) ومعجم البلدان (4/291):«وقاتل المسلمون يومئذ وسعد في القصر ينظر إليهم فنُسب إلى الجبن ، فقال رجل من المسلمين:

«ألم ترَ أن الله أنزل نصره *** وسعدٌ بباب القادسية مُعصمُ

فأبنا وقد آمت نساء كثيرة *** ونسوة سعد ليس فيهن أيِّمُ »

وقال بشر بن ربيعة في ذلك اليوم:

ألمَّ خيال من أميمة موهناً *** وقد جعلت أولى النجوم تغور

ونحن بصحراء العذيب ودوننا *** حجازية ، إن المحل شطير

فزارت غريباً نازحاً جل ماله *** جواد ومفتوق الغرار طرير

وحلت بباب القادسية ناقتي *** وسعد بن وقاص علي أمير

تذكر هداك الله وقع سيوفنا *** بباب قديس والمكر ضرير

ص: 81

عشية ود القوم لو أن بعضهم *** يُعار جناحي طائر فيطير

إذا برزت منهم إلينا كتيبة *** أتونا بأخرى كالجبال تمور

فضاربتهم حتى تفرق جمعهم *** وطاعنت إني بالطعان مهير

وعمرو أبو ثور شهيد وهاشم *** وقيس ونعمان الفتى وجرير».

وقال جرير بن عبد الله البجلي كما في النهاية:7/53:

«أنا جرير وكنيتي أبو عمرو *** قد فتح الله وسعد في القصر».

وقد حاول المتعصبون لسعد الى يومنا أن يدافعوا عنه بأنه مريض معذور ، وقد ذموا زوجته لأنها وصفته بالجبن !

قال ابن كثير في النهاية (7/44و52): «فقالت: أغيرةً وجبناً ! يعني أنها تُعَيِّرُهُ بجلوسه في القصر يوم الحرب ! وهذا عناد منها ، فإنها أعلم الناس بعذره ، وما هو فيه من المرض المانع من ذلك.. إن سعداً كان به قروح وعرق النسا فمنعه من شهود القتال، لكنه جالس في رأس القصر ينظر في مصالح الجيش، وكان مع ذلك لا يغلق عليه باب القصر لشجاعته !ولو فرَّ الناس لأخذته الفرس قبضاً باليد لايمتنع منهم».

فقد صار ابن كثير من تعصبه طبيباً وفحص سعداً وأعطاه شهادة طبية ، ثم صار جغرافياً فجعل قصر العذيب في القادسية ، مع أن الحموي قال في معجم البلدان (4/92): «بينه وبين القادسية أربعة أميال».

وقال الطبري في تاريخه(3/76): «قادس قرية إلى جانب العذيب، فنزل الناس بها، ونزل سعد في قصر العذيب».

ص: 82

«ومن القادسية إلى العذيب وهي أول خط البادية ستة أميال». (الإدريسي:1/383)

«وكان بين موضع الوقعة مما يلي القادسية وبين حصن العذيب نخلة ، فإذا حمل الجريح وفيه تمييز وعقل ونظر الى تلك النخلة.. قال لحامله: قد قربت من السواد ، فأريحوني تحت ظل هذه النخلة». (مروج الذهب للمسعودي :2/317)

ثم جعل ابن كثير سعداً شجاعاً لأنه ترك باب قصره مفتوحاً ! مع أن القصر خلف جيش المسلمين بمسافة ، ولذا أرسل رستم قوة ليقتلوا سعداً ، فاستغاث بالمسلمين ، فأرسلوا قوة لحمايته وعطلوها عن المعركة !

قال اليعقوبي(2/144): «وكان سعد يومئذ عليلاً فصار إلى قصر العذيب فنزله وتحصن فيه ، فبلغ رستم فوجه خيلاً فأحدقت بالقصر ، فلما بلغ المسلمين ذلك صاروا إلى القصر».

ولا أدري ما هو الموجب لتصديق سعد دون زوجته إلا التعصب ، فكيف يتهمونها بعداوته وقد اختارته بعد وفاة زوجها المثنى ، وفضلته على إخوة المثنى وفرسانه ، وهم أفضل من سعد وأجمل.

ويؤيد رأي سلمى غياب سعد عن كل المعارك في فتح العراق وإيران ! فهل كانت تخرج بفخذه دمُّلة عند كل معركة ، ولسنوات طويلة ؟!

وأين كان سعد عندما دهم الخطر المسلمين ، وتجمع الفرس في نهاوند بمئة وخمسين ألف جندي، ثم كانت معركة نهاوند العظيمة التي سماها المسلمون فتح الفتوح ، ولم يكن لسعد فيها دور سوى أنه نفذ ما أمره به عمر من إرسال ثلث قوات الكوفة الى المعركة ، فأرسلها ، ثم ذهب الى المدينة وبدأ ببناء قصره !

ص: 83

وكيف نشط وشفي من الدمامل وذهب الى المدائن بعد أن فتحها المسلمون وأخذ يجمع الأموال ، وأرسل المرقال في قيادة الجيش الى خانقين أو جلولاء !

ولما انتصروا في جلولاء أرسلوا اليه ليحضر فلم يحضر حتى غضب المسلمون ، فشفي من الدمامل ووكل سلمان الفارسي بالأموال وذهب كالمجبر ، ثم رجع !

قال ابن الأعثم في الفتوح(1/216): «ورحل المسلمون من جلولاء إلى خانقين فنزلوها يومهم ذلك ، ثم رحلوا منها إلى قصر شيرين فنزلوها ، وكتبوا إلى سعد بن أبي وقاص يستأذنونه في التقدم إلى حلوان ، ويحثونه على المصير إليهم ليكون لهم ملجأ وسنداً يلجؤون إليه ويشاورونه في أمورهم ، وقد كان سعد عليلاً فتباطأ عنهم ولم يصر إليهم ، وكتب إليهم يأمرهم بالتقدم إلى حلوان ! قال: فغضب المسلمون لقعود سعد عنهم وإبطائه عن نصرتهم ، ثم أنشأ إبراهيم بن حارثة الشيباني يقول في ذلك:

أما بال سعد خامَ عن نصر جيشه *** لقد جئت يا سعد ابن زهرة منكرا

وأقسم بالله العلي مكانه *** لو ان المثنى كان حياً لأصحرا

وقاتل فيها جاهداً غير عاجز *** وطاعن حتى يحسب الجون أحمرا

كشداته يوم البجيلة معلماً *** يريد بما يبلي الثواب الموفرا

وضارب بالسيف الحسام مقدماً *** جموع الأعادي خشية أن يعيرا

ولكن سعدا لم يرد أجر يومه *** ولم يأتنا في يوم بأس فيعذرا

قال: فبلغت سعداً هذه الأبيات فكأنه تحرك للمسير على علته ، ثم دعا سلمان الفارسي فاستخلفه على المدائن وأوصاه بحفظ الغنائم ، وصار فيمن معه من أصحابه حتى لحق بالمسلمين ، وهم يومئذ نزول بقصر شيرين فنزل معهم

ص: 84

يومهم ذلك . فلما كان من غد نادى في الناس بالرحيل إلى حلوان ، فرحل ورحل الناس معه ، وبلغ ذلك منوشهر بن هرمزدان المقيم بحلوان ، فخرج عن حلوان هارباً حتى لحق بيزدجرد وهو في جمع أصحابه .

وأقبل سعد بن أبي وقاص وعلى مقدمته جرير بن عبد الله البجلي ، حتى دخل (جرير لا سعد) حلوان ، فأنشأ عبد الله بن قيس الأزدي يقول:

فأبلغ أبا حفص بأن خيولنا *** بحلوان أضحت بالكماة تجمجم

ونحن دهمناها صباحاً بفيلق *** جريرٌ علينا في الكتيبة مُعْلم

ونحن أبدنا الفرس في كل موطن *** بجمع كمثل الليل والليل مظلم

نقاتل حتى أنزل الله نصره *** وسعد بباب القادسية مُعصم

فأبنا وقد أيمت نساء كثيرة *** ونسوة سعد ليس فيهن أيِّم

أولئك قومي إن سمعت بمعشري *** وموضع أيسارى إذا نيل مغنم».

وفي فتوح ابن الأعثم:1/217: «فتقدم إلى سعد رجل من خثعم يقال له بشر بن ربيعة ، وكان من الفرسان المعدودين ، فطلب من سعد زيادة فلم يزده شيئاً فغضب الخثعمي لذلك، ويقال إنه هجا سعد بن أبي وقاص ، فأنشأ يقول:

ينوب عن القوم الكرام بجمعهم *** وفَضَّل سعد بالعطية خالدا

فإن تكرم العذرى بالقسم واصلاً *** فأجدر برأي السوء للجور زائدا

أتنهب جهلاً لا أبا لك حقنا *** لقد ضقت ذرعاً عن مدى الحق حائدا

متى كان ميراث ابن خثعم قل لنا *** لخالد يا للناس لا كنت جاهدا

لعمري لئن كانت قريش تعطفت *** عليك أبا وهب فألفيت رافدا

لقد غمرت آباؤك اللؤم دهرها *** وألفيت في فهر تحل الوصائدا».

ص: 85

وفي فتوح البلدان للبلاذري:2/320: (وقال بشر بن ربيعة بن عمرو الخثعمي:

ألمَّ خيالٌ من أميمة موهناً *** وقد جعلتْ أولى النجوم تغورُ

ونحن بصحراء العذيب ودارُها *** حجازيةٌ إن المحل شطير

ولا غروَ إلا جَوْبُها البيد في الدجى *** ومن دوننا رعنٌ أشمُّ وقور

تحنُّ بباب القادسية ناقتي *** وسعد بن وقاص عليَّ أمير

وسعد أميرٌ شرُّه دون خيره *** طويل الشذى كابي الزناد قصير

تذكر هداك الله وقع سيوفنا *** بباب قديس والمكِرُّ عسير

عشية ود القوم لو أن بعضهم *** يُعَارُ جناحي طائر فيطير».

فقارن بالله هذه الحقائق الدامغة ، بما قاله علماء السلطة عن سعد !

أقول: بعد كل ما عرفت عن سعد ، فاقرأ الصورة الكاذبة التي قدمها رواة الحكومات وعلماؤها ، كالتي دونها ابن عبد البر . قال في الإستيعاب:2/608: «وكان أحد الفرسان الشجعان من قريش ، الذين كانوا يحرسون رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مغازيه ، وهو الذي كوَّف الكوفة ، ولقيَ الأعاجم وتولى قتال فارس ، أمَّره عمر بن الخطاب على ذلك ، ففتح الله على يده أكثر فارس ، وله كان فتح القادسية وغيرها . وكان أميراً على الكوفة فشكاه أهلها ورموه بالباطل فدعا الذي واجهه بالكذب عليه دعوة ظهرت فيه إجابتها والخبر بذلك مشهور».

فادعوا له الشجاعة ، وأنه لقي جيوش الفرس وحاربهم ، مع أنه جبن عن المعارك ، حتى هجاه المسلمون بالشعر ! ونسبوا له تمصير الكوفة ، مع أنهم رووا أن الذي اختار مكانها سلمان الفارسي (رحمة الله) بما علمه النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) .

وأخيراً فقد ناقضوا أنفسهم ، وشهدوا أن أهل الكوفة شكوا سعداً وأرسل عمر من يتحقق فثبت له صدق شكايتهم ، فاضطر الى عزله ! (النهاية:7/121).

ص: 86

جرير بن عبد الله البجلي مقاول حرب في سبيل الله

1. هو جرير، بن عبد الله ، بن جابر، بن مالك، بن نضر، بن ثعلب، بن جشم من بني زيد بن كهلان بن سبأ. وتلتقي بجيلة وخثعم في أنمار بن إراش، وبجيلة جدتهم زوجة أنمار . وفي جرير وبجيلة قال الشاعر (سيرة ابن هشام:1/49):

لولا جريرٌ هلكتْ بجيلة *** نِعْمَ الفتى وبئست القبيلة

وكان جرير طويلاً، وقد بالغوا في وصف طوله بأحاديث أسانيدها صحيحة على شرط الشيخين البخاري ومسلم ! فقالوا كان طوله ستة أذرع ، وقالوا كان رأسه يصل الى سنام البعير، وكان طول نعله ذراعاً .

وقالوا: كان جميلاً وسيماً ، وكان يتباهى بذلك فقال: رآني عمر متجرداً ، أي عرياناً، فقال: ما أرى أحداً من الناس صُوِّر صورةَ هذا إلا ما ذكر من يوسف ! وقد أمَّره عمر على قبيلته بجيلة، فشاركوا في القادسية وبعدها.(الإصابة:1/583).

2. أسلم قبل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بأربعين يوماً ، وزعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) بشر المسلمين به قبل أن يصل ، وقال إنه خير أهل اليمن ، وإن عليه مسحة مَلِك ، وإنه دعا له بالبركة ولذريته ، ومسح بيده على رأسه ووجهه وصدره وبطنه، حتى انحنى جرير حياء أن تدخل يد النبي (صلی الله علیه و آله) تحت إزاره ! ثم بسط له عرض ردائه وقال له: على هذا يا جرير فاقعد ! (أوسط الطبراني:6/179، ومسند أحمد:4/360).

وفي الإستيعاب:1/237: «قال جرير: أسلمت قبل موت النبي (صلی الله علیه و آله) بأربعين يوماً».

وفي صحيح بخاري:4/25: «ما حجبني النبي منذ أسلمت ، ولا رآني إلا تبسم في وجهي. ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده في صدري وقال:

ص: 87

اللهم ثبته ، واجعله هادياً مهدياً ». وحذف البخاري منه قول جرير إن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يتبسم له حتى لو كان في الصلاة ! (مبسوط السرخسي:1/77).

وزعم جرير أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال:«جرير منا أهل البيت ظهراً لبطن، قالها ثلاثاً». وإذا جاءته الوفود يقول له إلبس حلتك، فيباهي به الناس!(مجمع الزوائد:9/373).

وهو بذلك يضاهي سلمان الفارسي رضي الله عنه ، عندما رأى احترام المسلمين له ، ودوره المؤثر في فتح العراق وإيران .

كما قالوا إن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث جريراً الى المتنبئ العنسي في اليمن ، والى ذي الكلاع اليهودي، قال البلاذري:1/125: «قالوا: فبعث رسول الله جرير بن عبد الله البجلي في السنة التي توفى رسول الله فيها، وفيها كان إسلام جرير، إلى الأسود يدعوه إلى الإسلام فلم يجبه.وبعض الرواة ينكر بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) جريراً إلى اليمن ».

وفي صحيح بخاري: 4/23: «قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ألا تريحني من ذي الخلصة؟ وكان بيتاً في خثعم يسمى كعبة اليمانية . قال: فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس ، وكانوا أصحاب خيل، قال: وكنت لا أثبت على الخيل ، فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري ، وقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً . فانطلق إليها فكسرها وحرقها ثم بعث إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخبره ، فقال رسول جرير: والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجوف أو أجرب . قال: فبارك في خيل أحمس ورجالها ، خمس مرات» .

أقول: هذه نماذج من تعظيم جرير لنفسه ، وقد قبل رواة الخلافة كلامه ، لأنه مرضي عند الحكومة . وقد يكون النبي (صلی الله علیه و آله) بعثه الى اليمن لهدم صنم أو لإبلاغ رسالة الى

ص: 88

الأسود العنسي ، أو ذي الكلاع اليهودي ، لكنَّ تباهي جرير وإفراطه في مدح نفسه مردود ، لأن المبالغة والتبجح فيه ظاهران !

3. وصف أمير المؤمنين (علیه السلام) جريراً وصديقه وأستاذه الأشعث بن قيس بقوله: «أما هذا الأعور ، يعنى الأشعث ، فإن الله لم يرفع شرفاً إلا حسده ، ولا أظهر فضلاً إلا عابه ، وهو يُمنى نفسه ويخدعها ، يخاف ويرجو ، فهو بينهما لا يثق بواحد منهما . وقد من الله عليه بأن جعله جباناً ، ولو كان شجاعاً لقتله الحق !

وأما هذا الأكثف عند الجاهلية ، يعنى جرير بن عبد الله البجلي ، فهو يرى كل أحد دونه ، ويستصغر كل أحد ويحتقره ، قد ملئ ناراً ، وهو مع ذلك يطلب رئاسة ويروم إمارة ، وهذا الأعور يغويه ويطغيه ، إن حدثه كذبه ، وإن قام دونه نكص عنه ، فهما كالشيطان إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِئٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ». (شرح النهج:20/286)

ومعنى الأكثف عند الجاهلية: الثقيل التصرف عندما تثور جاهليته . والرجل الكثيف: الثقيل الغليط المعاشرة ، لشدة أنانيته .

4. دخل جرير الى العراق مع خالد بعد اليمامة ، وساعده في عقود الصلح وجباية الأموال . وذلك في أوائل السنة الثانية عشرة للهجرة ، أما قبلها فلم يقم جرير بشئ إلا ما روي أنه جاء الى أبي بكر(الكامل:2/375): «وأمره أن يستنفر من قومه من ثبت على الإسلام ويقاتل بهم من ارتد عن الإسلام ، وأن يأتي خثعم فيقاتل من خرج غضباً لذي الخلصة . فخرج جرير وفعل ما أمره ، فلم يقم له أحد إلا نفر يسير فقتلهم وتتبعهم».

ص: 89

ونحن نشك في ذلك أو في أهميته ، لأن بجيلة كانت متفرقة في القبائل ، كما ستعرف . فالمؤكد أن جريراً بدأ نشاطه بعد سنة ونصف من وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بذهابه مع خالد .

قال البلاذري: 2 /296: «وقد روى أن خالداً لما كان بناحية اليمامة كتب إلى أبى بكر يستمده ، فأمده بجرير بن عبد الله ، فلقيه جرير منصرفاً من اليمامة ، فكان معه ، وواقع صاحب المذار بأمره . والله أعلم» .

وقال البلاذري:2/299: «ثم بعث خالد جرير بن عبد الله البجلي إلى أهل بانقيا ، فخرج إليه بصبهرى بن صلوبا فاعتذر إليه من القتال وعرض الصلح ، فصالحه جرير على ألف درهم وطيلسان . ويقال إن ابن صلوبا أتى خالداً فاعتذر إليه وصالحه هذا الصلح . فلما قتل مهران ومضى يوم النخيلة (أي بعد سنتين) أتاهم جرير فقبض منهم ومن أهل الحيرة صلحهم ، وكتب لهم كتاباً بقبض ذلك..

وقوم ينكرون أن يكون جرير بن عبد الله قدم العراق إلا في خلافة عمر بن الخطاب ، وكان أبو مخنف والواقدي يقولان: قدمها مرتين . قالوا: وفتح جرير بوازيج الأنبار ، وبها قوم من مواليه ».

5.كما ساعد خالد بن الوليد في قتال بني تغلب ، وغدر بهم كصاحبه خالد ! ومن المعروف أن النبي (صلی الله علیه و آله) ركز في حروبه على الروم والفرس ، وعمل لجذب العرب الى جانبه ، لكن خالداً لما جاء الى العراق وعقد عقود الصلح مع المزارعين من أهل البلاد ، كسر هذه السياسة ، وغدر ببني تغلب كما ذكرنا في ترجمته ، وكان معه جرير في هذه الغارة .

ص: 90

قال الطبري:2/326: «فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه وهم نائمون من ثلاثة أوجه ، فقتلوهم ، وأفلت الهذيل في أناس قليل ، وامتلأ الفضاء قتلى فما شبهوا بهم إلا غنماً مُصَرَّعة !وكان حرقوص معرساً بامرأة من بني هلال تدعى أم تغلب فقتلت تلك الليلة ، وعبادة بن البشر، وامرؤ القيس بن بشر، وقيس بن بشر، وهؤلاء بنو الثورية من بني هلال ، وأصاب جرير بن عبدالله يوم المصيخ من النمر عبد العزى بن أبي رهم بن قرواش أخا أوس مناة من النمر ، وكان معه ومع لبيد بن جرير كتاب من أبي بكر بإسلامهما ! وبلغ أبا بكر قول عبد العزى وقد سماه عبدالله ليلة الغارة قال: سبحانك اللهم رب محمد. فوداه وودى لبيداً وكانا أصيبا في المعركة.. وكان عمر يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك يعني ابن نويرة ، فيقول أبو بكر:كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب في ديارهم. وقال عبدالعزى:

أقول إذ طرق الصباح بغارة *** سبحانك اللهم ربَّ محمدِ

سبحان ربي لا إله غيره *** رب البلاد ورب من يتورد».

6. وزعموا أن جريراً لما كان مع خالد قتل مرزبان المذار ، ولا يصح ذلك ، قال البلاذري:2/296: «وقد رويَ أن خالداً لما كان بناحية اليمامة كتب إلى أبى بكر يستمده ، فأمده بجرير بن عبد الله ، فلقيه جرير منصرفاً من اليمامة فكان معه . وواقع صاحب المذار بأمره والله أعلم . وقال الواقدي: والذي عليه أصحابنا من أهل الحجاز أن خالداً قدم المدينة من اليمامة ، ثم خرج منها إلى العراق على فيد والثعلبية ، ثم أتى الحيرة ». أي لم يمر من جهة البصرة وميسان والمذار .

ص: 91

وفي تاريخ اليعقوبي:2/143: «فوجه عمر جرير بن عبد الله ، فقدم الكوفة ، ثم خرج منها فواقع مرزبان المذار فقتله ، وانهزم جيشه وغرق أكثرهم في دجلة ».

وقال الطبري:2/557: «وكانت وقعة المذار في صفر سنة اثنتي عشرة».

أقول: المذار مكان قرب مدينة العمارة العراقية ، ولم يكن فيها جيش فارسي ، وقد تكون فيها حامية صغيرة ، وقد ذكرت روايات أن عتبة بن غزوان قتل مزبان المذار ، قال في الأخبار الطوال/117: «ثم إن عتبة سار إلى المذار وأظهره الله عليهم ، ووقع مرزبانها في يده فضرب عنقه وأخذ بزته، وفي منطقته الزمرد والياقوت ، وأرسل بذلك إلى عمر وكتب إليه بالفتح ، فتباشر الناس بذلك وأكبوا على الرسول يسألونه عن أمر البصرة ، فقال إن المسلمين يهيلون بها الذهب والفضة هيلاً ، فرغب الناس في الخروج ، حتى كثروا بها ، وقوي أمرهم ». والطبقات:7/7.

7.كان جرير جندياً في جيش خالد بن سعيد فجاءته فكرة لجمع بجيلة فرجع ففي تاريخ الطبري:2/568: «كان جرير بن عبد الله ممن خرج مع خالد بن سعيد بن العاص إلى الشام ، فاستأذن خالداً إلى أبي بكر ليكلمه في قومه ليجمعهم له وكانوا أوزاعاً في العرب وليتخلصهم ، فأذن له فقدم على أبى بكر فذكر له عِدَةً من النبي (صلی الله علیه و آله) وأتاه على العِدَة بشهود وسأله إنجاز ذلك ، فغضب أبو بكر وقال له: ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين فارس والروم ، ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا يغنى عما هو أرضى لله ولرسوله ، دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين ، فسار حتى

ص: 92

قدم على خالد وهو بالحيرة ، ولم يشهد شيئاً مما كان بالعراق ، إلا ما كان بعد الحيرة ، ولا شيئاً مما كان خالد فيه من أهل الردة ».

ومعنى ذلك أن جريراً ترك معركة أجنادين التي كانت في تلك الفترة وبطلها خالد بن سعيد بن العاص ، فقد استأذنه جرير وجاء الى المدينة ليطالب أبا بكر بوعد زعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) وعده فيه أن يجمع له قبيلته بجيلة تحت إمرته !

فأخر أبو بكر حاجته لأنه مشغول بحرب الروم والفرس ، فلم يعد جرير الى الشام ، بل ذهب الى خالد بن الوليد في العراق ، ثم لم يذهب مع خالد الى الشام بل استأذنه ورجع الى أبي بكر يطالبه بإصدار مرسوم ليجمع قبيلته !

قال الطبري:2/643: «وكان جرير بن عبد الله وحنظلة بن الربيع ونفر ، استأذنوا خالداً من سُوَى(قرب السماوة) فأذن لهم فقدموا على أبى بكر ، فذكر له جرير حاجته فقال: أعلى حالنا ! وأخره بها .

فلما وليَ عمر دعاه بالبينة فأقامها ، فكتب له عمر إلى عماله السعاة في العرب كلهم: من كان فيه أحد ينسب إلى بجيلة في الجاهلية وثبت عليه في الإسلام يعرف ذلك ، فأخرجوه إلى جرير ، ووعدهم جرير مكاناً بين العراق والمدينة، فتتاموا ، قال لجرير: أخرج حتى تلحق بالمثنى ، فقال: بل الشام ، قال: بل العراق فإن أهل الشام قد قووا على عدوهم ، فأبى ، حتى أكرهوا . فلما خرجوا له وأمرهم بالموعد عوَّضه لإكراهه واستصلاحاً له، فجعل له ربع خمس ما أفاء الله عليهم في غزاتهم هذه ، له ولمن اجتمع إليه ولمن أخرج له إليه من القبائل ، وقال: إتخذونا طريقاً فقدموا المدينة ثم فصلوا منها إلى العراق ، مُمِدِّينَ للمثنى».

ص: 93

8. وبعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر ، قاول جرير عمر على«الجهاد» بقومه قال البلاذري:2/311 ، وابن سلام في الأموال/79: «أخبرني الشعبي أن عمر وجه جرير بن عبد الله إلى الكوفة ، بعد قتل أبي عبيد أول من وجه ، قال: هل لك في العراق وأنفلك الثلث بعد الخمس؟ قال: نعم» !

وقال البلاذري:2/310: «مكث عمر بن الخطاب سنة لايذكر العراق ، لمصاب أبى عبيد وسليط . وكان المثنى بن حارثة مقيماً بناحية ألِّيس يدعو العرب إلى الجهاد . ثم إن عمر ندب الناس إلى العراق فجعلوا يتحامونه ويتثاقلون عنه.. وقدم جرير بن عبد الله من السراة في بجيلة ، فسأل أن يأتي العراق على أن يعطيه وقومه ربع ما غلبوا عليه . فأجابه عمر إلى ذلك ، فسار نحو العراق ».

أقول: تلاحظ التفاوت في مقاولة جرير مع الخليفة ، فرواية تقول أكرهه عمر ثم أعطاه ، ورواية تقول إن عمر عرض عليه فقبل ، ورواية تقول إن جريراً طلب من عمر فقبل . كما أن القيمة المروية متفاوتة !

ويتضح منه أن جريراً لم يشارك في فتوح الشام ولا العراق قبل معركة البويب . وكان جنوده ست مائة ، فقضى وقتاً في العراق وهو يراسل المثنى ليستقبله ويعترف به أميراً عليه ، والمثنى يجيبه أنت مدد لي ، فتفضل الى الجهاد .

قال ابن الأعثم:1/136: «ثم دعا عمر بجرير بن عبد الله البجلي فقال له:ويحك يا جرير! إنا قد أصبنا بالمسلمين مصيبة عظيمة والمثنى بن حارثة في وجه العدو غير أنه جريح لما به ، فسر نحو العراق فعسى الله عز وجل أن يدفع شر هؤلاء الأعاجم وتخمد بك جمرتهم. قال: فسار جرير بن عبد الله من المدينة في سبع مائة

ص: 94

رجل حتى صار إلى العراق فنزلها، وبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني ، فكتب إليه: أما بعد يا جرير فإنا نحن الذين أقدمنا المهاجرين والأنصار من بلدهم ، وأقمنا نحن في نحر العدو نكابدهم ليلاً ونهاراً ، وإنما أنت مدد لنا، فما انتظارك رحمك الله لا تصير إلينا؟ فصر إلينا وكثِّرنا بأصحابك... قال فكتب إليه جرير: أما بعد فقد ورد كتابك عليَّ فقرأته وفهمته ، فأما ما ذكرت أنك الذي أقدمت المهاجرين والأنصار إلى حرب العدو ، فصدقت . وليتك لم تفعل !

وأما قولك: إن المهاجرين والأنصار لحقوا ببلدهم ، فإنه لما قتل أميرهم لحقوا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وأما ما ذكرت أنك أقمت في نحر العدو فإنك أقمت في بلدك ، وبلدك أحب إليك من غيره .

وأما ما سألتني من المصير إليك ، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم يأمرني بذلك ، فكن أنت أميراً على قومك ، وأنا أمير على قومي. والسلام ».

«وتنازع جرير والمثنى بن حارثة الإمارة ، فبعث عمر سعد بن مالك وكتب إليهما أن اسمعا له وأطيعا». (تاريخ خليفة/87).

ثم شارك جريراً في المعركة ، ولا بد أنه قاول المثنى وأخذ منه امتيازاً !

ومن العجيب اعتذار عمر بن الخطاب عن تأمير المثنى على جرير بأن جريراً من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) بينما المثنى ليس من أصحابه! مع أن المثنى صحابي أسلم على أثر وقعة ذي قار أي في السنة الثانية أو الثالثة للهجرة ، ووفد الى النبي (صلی الله علیه و آله) . بينما أسلم جرير قبل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بأربعين يوماً !

ص: 95

قال الطبري:2/654: «وكتب المثنى إلى عمر يَمْحُلُ بجرير(ينتقده) فكتب عمر إلى المثنى إني لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب محمد ، يعني جريراً ، وقد وجه عمر سعد بن أبي وقاص إلى العراق في ستة آلاف أمَّره عليهم ، وكتب إلى المثنى وجرير بن عبد الله أن يجتمعا إلى سعد بن أبي وقاص وأمَّر سعداً عليهما» .

وهذا يدل على أن الحكام كانوا يعطون لقب الصحابي وامتيازاته الى المرضي عندهم وينزعوه عن غيره ، حتى لو كان صحابياً وأفضل منه !

وقد رووا (مجمع الزوائد:8/40)أن سلمان الفارسي رضي الله عنه ، حاول أن يصحح معنى الصحابي ، ووثقوا حديثه: «عن أبي البختري قال: جاء الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي إلى سلمان الفارسي ، فدخلا عليه في حصن في ناحية المدائن فأتياه فسلما عليه وحيياه ، ثم قالا: أنت سلمان الفارسي؟ قال: نعم . قالا: أنت صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال: لا أدري . فارتابا وقالا: لعله ليس الذي نريد ، قال لهما: أنا صاحبكما الذي تريدان ، إني قد رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) وجالسته ، فإنما صاحبه من دخل معه الجنة ، فما حاجتكما؟ قالا: جئناك من عند أخ لك بالشام ، فقال: من هو؟ قالا: أبو الدرداء ..».

9. ثم شارك جرير مع بني بجيلة في معركة البويب ، بقيادة المثنى رضي الله عنه ولعل البجليين ضغطوا عليه عندما طلب منه المثنى المشاركة ، لأن جيش الفرس داهم المسلمين ، وكان جرير بعد ذلك يزعم أن المعركة كانت بقيادته !

قال البلاذري (2/311 ): «وكان على الناس فيما تزعم بجيلة جرير بن عبد الله ، وفيما تقول ربيعة المثنى بن حارثة . وقد قيل إنهم كانوا متسايدين ، على كل قوم

ص: 96

رئيسهم . فالتقى المسلمون وعدوهم ، فأبلى شرحبيل بن السمط الكندي يومئذ بلاء حسناً ، وقُتل مسعود بن حارثة أخو المثنى بن حارثة ، فقال المثنى: يا معشر المسلمين ، لا يَرُعْكُم مصرع أخي، فإن مصارع خياركم هكذا ! فحملوا حملة رجل واحد محققين صابرين ، حتى قتل الله مهران وهزم الكفرة ».

وقد ذكرنا بطولات المثنى في ترجمته، ورويت بطولات لجرير وقومه ، منها ما رواه الطبري:2/652: «قال المثنى يومئذ: من يتبع الناس حتى ينتهى إلى السيب؟ فقام جرير بن عبد الله في قومه فقال: يا معشر بجيلة إنكم وجميع من شهد هذا اليوم في السابقة والفضيلة والبلاء سواء ، وليس لأحد منهم في هذا الخمس غداً من النفل مثل الذي لكم منه، ولكم ربع خمسه نفلاً من أمير المؤمنين ، فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم ، للذي لكم منه ، ونيةً إلى ماترجون ، فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين الشهادة والجنة والغنيمة والجنة . ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستقتلوا من منهزمة يوم الجسر ، ثم قال: أين المستبسل بالأمس وأصحابه؟ إنتدبوا في آثار هؤلاء القوم إلى السيب ، وأبلغوا من عدوكم ماتغيظونهم به هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا .. فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ثم أخرجهم في آثار القوم ، واتبعتهم بجيلة ، وخيول من المسلمين تغذُّ من كل فارس، فانطلقوا في طلبهم حتى بلغوا السيب ولم يبق في العسكر جسريٌّ إلا خرج في الخيل، فأصابوا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئاً كثيراً فقسمه المثنى عليهم ، وفضل أهل البلاد من جميع القبائل ، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية،وبعث بثلاثة أرباعه مع عكرمة » . أي الى عمر .

ص: 97

10. ورأى جرير القائد مهران مقتولاً فقطع رأسه وأخذ سلبه ، وادعى أنه قتله! قال الدينوري في الأخبار الطوال/114: «واجتمع عظماء فارس إلى بوران ، فأمرت أن يتخير اثنا عشر ألف رجل من أبطال الأساورة ، وولت عليهم مهران بن مهرويه الهمداني، فسار بالجيش حتى وافى الحيرة ، وزحف الفريقان ، بعضهم لبعض ، ولهم زجل كزجل الرعد ، وحمل المثنى في أول الناس ، وكان في ميمنة جرير وحملوا معه ، وثار العجاج ، وحمل جرير بسائر الناس من الميسرة والقلب وصدقتهم العجم القتال ، فجال المسلمون جولة (انهزموا) فقبض المثنى على لحيته وجعل ينتف ما تبعه منها من الأسف ، ونادى: أيها الناس، إليَّ إليَّ ، أنا المثنى ! فثاب المسلمون فحمل بالناس ثانية وإلى جانبه مسعود بن حارثة أخوه ، وكان من فرسان العرب فقتل مسعود ، فنادى المثنى: يا معشر المسلمين ، هكذا مصرع خياركم ، إرفعوا راياتكم ».

وقال ابن كثير في النهاية:7/36: «فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره ، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة ، وحمل غلام من بني تغلب نصراني ، فقتل مهران وركب فرسه .

كذا ذكره سيف بن عمر، وقال محمد بن إسحاق: بل حمل عليه المنذر بن حسان بن ضرار الضبي فطعنه ، واحتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي ، واختصما في سلبه فأخذ جرير السلاح وأخذ المنذر منطقته ، وهربت المجوس ، وركب المسلمون أكتافهم ».

ص: 98

أقول: كان القائد الفارسي وهو حاكم آذربيجان ، يقف في قلب جيشه ويقاتل ويظهر أن جريراً قابله ، فتقدم اليه مهران والتقيا ، وارتجز مهران:

إن تسألوا عنى فإني مهران *** أنا لمن أنكرني ابن باذان

وذكر الطبري (2/654) أن مهران: «نشأ مع أبيه باليمن إذ كان عاملاً لكسرى».

وقصد مهران جريراً فاقتتلا، وساعد آخرون جريراً عليه ، فتخلص منهم مهران ورجع الى صفه ، فحمل عليه المثنى رضي الله عنه ، فانحاز مهران أمامه عن القلب الى الميمنة ، فاضطرب جيشه ، فرآه الشاب التغلبي النصراني فقصده وطعنه فوقع عن فرسه ، وانشغل الشاب بأخذ الفرَس، فجاء جرير وقطع رأس مهران وأخذ سلبه . وفي رواية أن الذي طعنه المنذر بن حسان الضبي وانشغل بفرسه هو ، فجاء جرير وحز رأسه وأخذ سلبه .

قال ابن الأعثم:1/158: «ولحق المنذر بن حسان فرسه فأخذه ، ثم رجع إلى مهران ليسلبه ، فإذا جرير بن عبد الله قد سبقه وأخذ سلبه ، فقال له المنذر: أبا عمرو! أنا قتلت مهران وسلبه لي ولا حق لك فيه ، وإنما شغلني عنه فرسي ، ولقد كنت سيداً في الجاهلية وأنت اليوم سيدٌ في الإسلام ، ولا يجمل بك أن تأخذ ما ليس لك فاردد علي السلب ! قال جرير: فادفع إليَّ المنطقة وخذ باقي السلب ، فقال المنذر بن حسان: إذاً لا أفعل ، لأني أنا طعنت مهران وأنا صرعته عن فرسه ، وأنا قطعت رجله».

هذا ، وذكر ابن الأعثم أن قتل مهران كان في القادسية وهو خطأ . وذكر أنه كان عليه: «قباء حرير وقرطق ديباج ، وفي وسطه منطقة من الذهب مرصعة بالجوهر، وفي أذنه قرطان من الذهب في كل قرط حبتان من بنات الدر، وتحته

ص: 99

فرس له أشقر..فقُوِّمَ السلب فكانت قيمته بضعة عشر ألف درهم ، وقومت المنطقة فكانت قيمتها ثلاثين ألف دينار ».

وقال ابن الأثير في الكامل:2/243: «وقتل غلام نصراني من تغلب مهران واستوى على فرسه ، فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله، وكان التغلبي قد جلب خيلاً هو وجماعة من تغلب ، فلما رأوا القتال قاتلوا مع العرب .

قال: وأفنى المثنى قلب المشركين والمجنبات بعضها يقاتل بعضاً ، فلما رأوه قد أزال القلب وأفنى أهله ، وثب مجنبات المسلمين على مجنبات المشركين ، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم ، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم: عاداتكم في أمثالهم ، أنصروا الله ينصركم حتى هزموا الفرس، وسبقهم المثنى إلى الجسر وأخذ طريق الأعاجم، فافترقوا مصعدين ومنحدرين، وأخذتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم وجعلوهم جثثاً ».

أقول: ويؤيد رأي ابن الأثير رواية الطبري ، عن محفز بن ثعلبة قال: «جلب فتية من بني تغلب أفراساً ، فلما التقى الزحفان يوم البويب قالوا: نقاتل العجم مع العرب ، فأصاب أحدهم مهران يومئذ ومهران على فرس له وَرْدٍ مجفف بتجفاف أصفر ، بين عينيه هلال ، وعلى ذنَبه أهلة من شَبَّه ، فاستوى على فرسه ثم انتمى: أنا الغلام التغلبي أنا قتلت المرزبان ، فأتاه جرير وابن الهوبر في قومهما ، فأخذا برجله فأنزلاه .

وروى الطبري أيضاً: وقتل غلام من التغلبيين نصراني مهران واستوى على فرسه فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله ، وكذلك إذا كان المشرك في خيل رجل فقتل

ص: 100

وسلب ، فهو للذي هو أمير على من قَتل ، وكان له قائدان أحدهما جرير ، فاقتسما سلاحه والآخر ابن الهوبر . وروى أيضاً: أن جريرا والمنذر اشتركا فيه فاختصما في سلاحه فتقاضيا إلى المثنى ، فجعل سلاحه بينهما ، والمنطقة والسوارين بينهما ». انتهى.

على أيٍّ ، لم يكن دور جرير في المعركة بطولياًً ، فلا هو غلب مهران وقتله عندما التقيا بل استعان عليه بالبجليين وهو في المبارزة خطأ وضعف !

ولا هو حمل عليه كما حمل المثنى فهرب مهران أمامه الى الميمنة ، ولا هو لحقه وقتله كالفتى التغلبي . ولا عندما رآه قتيلاً حمد الله تعالى وترك سلبه لقاتله !

لكن أتباع السلطة ظلوا يكتبون أن جريراً قتل مهران ! «عن الشعبي أن جرير بن عبد الله البجلي بارز مهران فقتله ، فقومت منطقته بثلاثين ألفاً ». ( نصب الراية:4/302).

11. سكن جرير وقومه الكوفة وشارك في معركة القادسية وكان قائد الميمنة ، قال ابن الأعثم:1/137: «ثم سار(سعد) حتى نزل بموضع يقال له شُراف ، وجعل عمر لايقدم عليه أحد إلا وجه به إليه، فكان أول من قدم عليه عمرو بن معدي كرب الزبيدي في زهاء خمس مائة رجل... قال: وصار إليه جرير بن عبد الله البجلي في ست مائة راكب من بجيلة».صار اليه: جاء اليه جرير من داخل العراق.

قال الطبري:3/79: «فبعث خالد بن عرفطة حليف بني أمية ، ووجه معه عياض بن غنم في أصحابه ، وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله البجلي ، وعلى ميسرتهم زهرة بن حوية التميمي وتخلف سعد لما به من الوجع».

ص: 101

وكان دور جرير والبجليين مؤثراً في معركة القادسية لكنهم بالغوا فيه كثيراً ، فجعلوا بجيلة ربع الجيش مع أنهم ست مئة رجل من مجموع نحو ثلاثين ألفاً !

قال جرير: «لقد أتى على نهر القادسية ثلاث ساعات من النهار ما تجري إلا بالدم ، مما قتلنا من المشركين ». (مصنف ابن أبي شيبة:8/14).

وقال ابن حجر في الإصابة:1/583: «وقدمه عمر في حروب العراق على جميع بجيلة وكان لهم أثر عظيم في فتح القادسية».

وقال حازم البجلي كما في الطبري (3/78): «كنا ربع الناس ، فوجهوا إلينا ستة عشر فيلاً وإلى سائر الناس فيلين ، وجعلوا يلقون تحت أرجل خيولنا حسك الحديد ويرشقوننا بالنشاب فكأنه المطر علينا ، وقرنوا خيلهم بعضها إلى بعض لئلا يفروا . قال: وكان عمرو بن معديكرب يمر بنا فيقول يا معشر المهاجرين كونوا أسوداً فإنما الأسد من أغنى شأنه ، فإنما الفارسي تيس إذا ألقى نيزكه . قال: وكان إسوار منهم لا يكاد تسقط له نشابة ، فقلنا له: يا أبا ثور إتق ذلك الفارسي فإنه لا تقع له نشابة ! فتوجه إليه ورماه الفارسي بنشابة فأصاب قوسه وحمل عليه عمرو فاعتنقه فذبحه ، واستلبه سوارين من ذهب ، ومنطقة من ذهب ، ويلمقاً من ديباج . وقتل الله رستم ، وأفاء على المسلمين عسكره وما فيه . وإنما المسلمون ستة آلاف ، أو سبعة آلاف ».

12. وارتكب عمر خطأ كبيراً ، فقسم أرض العراق على المقاتلين في القادسية ! وكان يحب جريراً فجعل لبجيلة سهمهم وربع الخمس ، وربع ما فتحوه من أرض العراق !

ص: 102

فقد صححوا رواية قيس البجلي، قال: «كنا ربع الناس في القادسية فأعطانا عمر ربع السواد ، وأخذناها ثلاث سنين ، ثم وفد جرير بن عبد الله البجلي إلى عمر بعد ذلك فقال: أما والله لولا أني قاسم مسؤول ، لكنتم على ما قسم لكم ، وأرى أن تردوا على المسلمين . ففعلوا ». (المجموع:19/454 ، والبيهقي:9/135).

وقال السرخسي في شرح السير:2/645: «واستدل عليه بفعل عمر ، فإنه حين بعث الناس إلى العراق قال لجرير بن عبد الله البجلي: لك ولقومك ربع ما غلبتم عليه ففتحوا السواد . ثم جعل عمر الأرض بعد ذلك أرض خراج ، ولم يمنعه ما نفل جريراً وقومه من ذلك ».

وفي تاريخ دمشق:2/202: «قال محمد بن إدريس الشافعي: ليس للإمام إنفاقها (الأرض المفتوحة) وإنما يلزمه قسمتها ، فإن اتفق المسلمون على إيقافها ورضوا أن لاتقسم ، جاز ذلك . واحتج من ذهب إلى هذا القول بما روي أن عمر بن الخطاب قسم أرض السواد بين غانميها وحائزيها ، ثم استنزلهم بعد ذلك عنها واسترضاهم منها فوقفها. فأما الأحاديث التي تقدمت فإن عمر لم يقسمها فإنها محمولة على أنه امتنع من إمضاء القسم واستدامته ، بأن انتزع الأرض من أيديهم أو أنه لم يقسم بعض السواد وقسم بعضه ، ثم رجع فيه». راجع الأم:4/297.

فهذه الروايات الصحيحة صريحة في أن عمر قسَّمَ أرض العراق بالفعل بين جيش القادسية قبل أن يستشير ، واستمر ذلك ثلاث سنين ، ثم أقنعه علي (علیه السلام) فرجع عن خطئه ، وإلا لتكونت في تاريخ العراق طبقة إقطاعية «شرعية» وحولها جماهير فقيرة لاتملك شيئاً !

ص: 103

لكن محبي عمر أنكروا خطأه الذي استمر مصراً عليه ثلاث سنين ، وقالوا إنه أراد ذلك واستشار علياً وأخذ برأيه !

قال ابن حجر في فتح الباري:6/157: «روى أبو عبيد في كتاب الأموال من طريق ابن إسحاق ، عن حارثة بن مضرب ، عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد فشاور في ذلك فقال له علي: دعهم يكونوا مادة للمسلمين فتركهم».

وقال اليعقوبي:2/151: «وشاور عمر أصحاب رسول الله في سواد الكوفة ، فقال له بعضهم: تقسمها بيننا ، فشاور علياً فقال: إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجئ بعدنا شئ ، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها ، فتكون لنا ولمن بعدنا . فقال: وفقك الله ! هذا الرأي ».

وقال البلاذري:2/326: «عن حارثة بن مضرب أن عمر بن الخطاب أراد قسمة السواد بين المسلمين ، فأمر أن يحصوا فوجد الرجل منهم نصيبه ثلاثة من الفلاحين. فشاور أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ذلك فقال على: دعهم يكونوا مادة للمسلمين . فبعث عثمان بن حنيف الأنصاري فوضع عليه ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر ».

على أن التوزيع الذي اعتمده عمر للأراضي ركز ملكية المشاركين في القادسية على حساب سكان العراق ، وعلى حساب الذين جاؤوا بعدهم ، وشاركوا في الفتوحات .

ففي تاريخ الطبري:3/137: «وجمع سعد من وراء المدائن وأمر بالإحصاء فوجدهم بضعة وثلاثين ومائة ألف ، ووجدهم بضعة وثلاثين ألف أهل بيت ووجد قسمتهم ثلاثة لكل رجل منهم بأهلهم ، فكتب في ذلك إلى عمر فكتب إليه عمر أن أقر الفلاحين على حالهم ، إلا من حارب أو هرب منك إلى عدوك

ص: 104

فأدركته . وأجْرِ لهم ما أجريت للفلاحين قبلهم ، وإذا كتبت إليك في قوم فأجروا أمثالهم مجراهم . فكتب إليه سعد فيمن لم يكن فلاحاً؟

فأجابه: أما من سوى الفلاحين فذاك إليكم ما لم تغنموه، يعني تقتسموه ، ومن ترك أرضه من أهل الحرب فخلاها فهي لكم ، فإن دعوتموهم وقبلتم منهم الجزاء ورددتموهم قبل قسمتها فذمة ، وإن لم تدعوهم ففئ لكم لمن أفاء الله ذلك عليه . وكان أحظى بفئ الأرض أهل جلولاء: استأثروا بفئ ما وراء النهروان ، وشاركوا الناس فيما كان قبل ذلك .

فأقروا الفلاحين ودعوا من لج ، ووضعوا الخراج على الفلاحين ، وعلى من رجع وقبل الذمة ، واستصفوا ما كان لآل كسرى ومن لج معهم ، فيئاً لمن أفاء الله عليه ، لا يجاز بيع شئ من ذلك فيما بين الجبل إلى الجبل من أرض العرب ، إلا من أهله الذين أفاء الله عليهم. ولم يجيزوا بيع ذلك فيما بين الناس يعني فيمن لم يفئه الله تعالى عليه ممن يعاملهم ممن لم يفئه الله عز وجل عليه ، فأقره المسلمون لم يقتسموه لأن قسمته لم تتأت لهم . فمن ذلك الآجام ، ومغيض المياه ، وما كان لبيوت النار ، ولسكك البُرْد ، وما كان لكسرى ومن جامعه ، وما كان لمن قتل والأرحام .

فكان بعد من يرق يسأل الولاة قسم ذلك فيمنعهم من ذلك الجمهور ، فأبوا ذلك ، فانتهوا إلى رأيهم ولم يجيبوا وقالوا: لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لفعلنا . ولو كان طلب ذلك منهم على ملأ لقسمها بينهم ».

ص: 105

ونلفت هنا أن قول جرير وبجيلة إنهم كانوا في القادسية ربع المسلمين ، جاء مقابل قول النخعيين ، ففي مصنف ابن أبي شيبة:7 /718: « كنت لا تشاء أن تسمع يوم القادسية: أنا الغلام النخعي، إلا سمعته».

«فقال عمر: ما شأن النخع أصيبوا من بين سائر الناس ، أفر الناس عنهم؟! قالوا:لا، بل ولوا أعظم الأمر وحدهم » . (ابن أبي شيبة: 8/14، والإصابة:1/196).

وذكر ابن أبي شيبة أن النخع كانوا في القادسية ألفين وأربع مئة ، أي ربع جيش المسلمين على رواية أنه عشرة آلاف ، وأن ثقل المعركة كان عليهم !

وفي تاريخ الطبري: 3/82 ، أنهم هاجروا من اليمن مع عوائلهم ، وزوجوا سبع مائة من بناتهم إلى المسلمين ، خاصة الأنصار . (ونحوه تاريخ دمشق: 65 /100).

فقد كان جرير وبنو بجيلة ، خاصة في الثلاث سنوات التي ملكهم فيها عمر ربع أراضي العراق المفتوحة ، بحاجة الى تبرير ذلك ، فكانوا يبررونه تارة بكثرة عددهم وأنهم كانوا ربع جيش القادسية مع أنهم كانوا ست مئة . وتارة بأن دورهم في الحرب كان أكثر من غيرهم . مع أن ثقل القادسية كان على النخعيين وليس عليهم .

كما ينبغي أن نلفت الى أن السياسة المالية التي طبقها الخلفاء والقادة والجنود ، في الأراضي المفتوحة والغنائم وأموال الدولة، فيها تجاوزات كثيرة عن أحكام الإسلام كما بينها أهل البيت (علیهم السلام) . ولا يتسع المجال للتفصيل ، فنحيلك الى مصادر الحديث والفقه في أحكام الأراضي المفتوحة ، وأحكام الأنفال ، والغنائم ، والأخماس .

13. وكان جرير قائداً في معركة جلولاء تحت إمرة هاشم المرقال رضي الله عنه قال ابن الأعثم في الفتوح:1/210: «وحمل جرير بن عبد الله من الميمنة ، وحجر بن

ص: 106

عدي من الميسرة ، والمكشوح المرادي من الجناح ، وعمرو بن معد يكرب من القلب، وصدقوهم الحملة لولوا مدبرين ، ووضع المسلمون فيهم السيف ، فقتل منهم من قتل ، وانهزم الباقون حتى صاروا إلى خانقين ».

قال البلاذري:2/324: «مكث المسلمون بالمدائن أياماًثم بلغهم أن يزدجرد قد جمع جمعاً عظيماً ووجهه إليهم، وأن الجمع بجلولاء، فسرح سعد بن أبي وقاص هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إليهم في اثني عشر ألفاً ، فوجدوا الأعاجم قد تحصنوا وخندقوا ، وجعلوا عيالهم وثقلهم بخانقين ، وتعاهدوا أن لا يفروا ، وجعلت الأمداد تقدم عليهم من حلوان والجبال . فقال المسلمون: ينبغي أن نعاجلهم قبل أن تكثر أمدادهم ، فلقوهم وحجر بن عدي الكندي على الميمنة ، وعمرو بن معدى كرب على الخيل ، وطليحة بن خويلد على الرجال ، وعلى الأعاجم يومئذ خرزاد أخو رستم . فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله ، رمياً بالنبل ، وطعناً بالرماح حتى تقصفت ، وتجالدوا بالسيوف حتى انثنت .

ثم إن المسلمين حملوا حملة واحدة قلعوا بها الأعاجم عن موقفهم ، وهزموهم فولوا هاربين ، وركب المسلمون أكتافهم يقتلونهم قتلاً ذريعاً ، حتى حال الظلام بينهم . ثم انصرفوا إلى معسكرهم ».

وقال ابن الأعثم إن جريراً البجلي كان على الميمنة ، ثم قال في:1/166: «فكان أول من تقدم إلى الحرب من المسلمين جرير بن عبد الله الجبلي ، ثم حمل فقاتل فأحسن القتال ، وحمل على أثره علي بن جحش العجلي ، ثم حمل في أثره إبراهيم بن الحارثة الشيباني ، ثم تقدم عمرو بن معد يكرب الزبيدي . قال: فجعل القوم

ص: 107

يقتتلون . قال: ثم حمل جرير بن عبد الله على جمع أهل جلولاء ، فلم يزل يطاعن حتى انكسر رمحه وجرح جراحات كثيرة ، فأنشأ بعض بني عمه يقول في ذلك:

تواكلت الأمور فلم تواكل *** أخو النجدات فارسها جرير

جرير ذو الغني وبما تولى *** أحق إذا تقسمت الأمور

أغاث المسلمين وقد تواصوا *** وقدر الحرب حامية تفور

أبا حفص سلام الله منا *** عليك ودوننا بلد شطير

حمدنا فعل صاحبنا جرير *** ولم نحمد لك الوالي العطير

فلا تغفل بجيلة إن فيها *** دواء الداء والحبر الكبير

قال: ثم أقبل جرير بن عبد الله البجلي على بني عمه فقال: يا معشر بجيلة إعلموا أن لكم في هذه البلاد إن فتحها الله عليكم حظاً سنياً ، فاصبروا لقتال هؤلاء الفرس التماساً لإحدى الحسنيين: إما الشهادة فثوابها الجنة ، وإما النصر والظفر ففيهما الغني من العيلة . وانظروا ، لا تقاتلوا رياءً ولا سمعةً فحسب الرجل خزياً أن يكون يريد بجهاده حمد المخلوقين دون الخالق .

وبعد ، فإنكم جربتم هؤلاء القوم ومارستموهم ، وإنما لهم هذه القسي المنحنية وهذه السهام الطوال ، فهي أغنى سلاحهم عندهم ، فإذا رموكم بها فتترسوا والزموا الصبر وصابروهم ، فو الله إنكم الانجاد الأمجاد الحسان الوجوه في اقتحام الشدائد ! فاصبروا صبراً يا معشر البجيلة ! فوالله إني لأرجو أن يرى المسلمون منكم اليوم ما تقر به عيونهم ، وما ذاك على الله بعزيز ، ثم أنشأ جرير في ذلك يقول:

تلكم بَجِيلَةُ قومي إن سألتَ بها *** قادوا الجيادَ وفضوا جمع مهرانِ

وأدركوا الوتر من كسرى ومعشره *** يوم العروبة وتر الحي شيبانِ

ص: 108

فسائلِ الجمعَ جمعَ الفارسيِّ وقد *** حاولتْ عند ركب الحيِّ قحطان

عز الأولى كان عزاً من يصول بهم *** ورميةٌ كان فيها هُلْك شيطان

كان الكفور وبئس الفرسُ إن له *** آباء صدق نموه غير ثبيان

قال: ثم حمل جرير بن عبد الله على جمع أهل جلولاء ، فلم يزل يطاعن حتى انكسر رمحه وجرح جراحات كثيرة ، فأنشأ بعض بني عمه يقول في ذلك:

تواكلتِ الأمور فلم يواكل *** أخو النجدات فارسُها جريرُ

جريرٌ ذو الغني وبما تولى *** أحقُّ إذا تقسمت الأمور

أغاث المسلمين وقد تواصوا *** وقدر الحرب حاميةٌ تفور

أبا حفص سلام الله منا *** عليك ودوننا بلد شطير

حمدنا فعل صاحبنا جرير *** ولم نحمد لك الوالي العطير

فلا تغفل بجيلة إن فيها *** دواء الداء والحبر الكبير ».

14.ثم تقدم جرير داخل إيران وفتح بعض المدن الصغيرة بدون مقاومة تذكر قال البلاذري:2/370: «قالوا: لما فرغ المسلمون من أمر جلولاء الوقيعة ضم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى جرير بن عبد الله البجلي خيلاً كثيفة ، ورتبه بجلولاء ليكون بين المسلمين وبين عدوهم... وقدم حلوان فأقام بها والياً عليها إلى أن قدم عمار بن ياسر الكوفة ، فكتب إليه يعلمه أن عمر بن الخطاب أمره أن يمد به أبا موسى الأشعري ، فخلف جرير عزرة بن قيس على حلوان ، وسار حتى أتى أبا موسى الأشعري في سنة تسع عشرة».

ص: 109

15. ثم أمره عمار أن يُمد أبا موسى الأشعري في محاصرة عاصمة الأهواز «فكتب عمار إلى جرير وكان مقيماً بجلولاء ، يأمره باللحاق بأبي موسى، فخلف جرير بجلولاء عروة بن قيس البجلي في ألفي رجل من العرب ، وسار ببقية الناس حتى لحق بأبي موسى ، فكتب أبو موسى إلى عمر يستزيده من المدد ، فكتب عمر إلى عمار يأمره أن يستخلف عبد الله بن مسعود على الكوفة في نصف الناس ، ويسير بالنصف الآخر حتى يلحق بأبي موسى ، فسار عمار حتى ورد على أبي موسى ، وقد وافاه جرير من ناحية جلولاء ». (الأخبار الطوال/130).

أقول: وقعت معركة في فتح تستر على أبواب المدينة ، واستشهد فيها بعض المسلمين فتحصن أهل تستر داخل المدينة ، وتحصن الهرمزان في قلعتها . ثم جاءهم فارسي ليلاً ودلهم على طريق الى المدينة فدخلوا في الصباح وفاجؤوا أهلها واحتلوها ، واستسلم الهرمزان على أن يبعثوا به الى عمر ، فأخذه عمار الى المدينة مع الغنائم .

أما دور جرير وبجيلة في فتح تستر فكان عادياً ضمن دور الكوفيين بقيادة والي الكوفة عمار بن ياسر رضي الله عنه .

16. ثم أرسله أبو موسى الأشعري الى رامهرمز ليدعوهم الى الإسلام فسباهم!

قال ابن الأعثم في الفتوح:2/276: «دعا(أبو موسى) بالنعمان بن مقرن المزني وجرير بن عبد الله البجلي ، فأمرهما بالمسير إلى رام هرمز على أنهما يدعوان أهلها إلى الإسلام . قال: فسار جرير حتى نزل على رام هرمز ، ثم إنه بعث بالنعمان بن مقرن ففتح قلعتين من قلاع رام هرمز وأصاب منها سبياً وخيراً كثيراً .

ص: 110

قال: وفتح جرير بن عبد الله مدينة رام هرمز بالسيف قسراً ، فاحتوى على أموالها ونسائها وذريتها . قال: وبلغ ذلك أبا موسى الأشعري فقال لأهل البصرة: ويحكم ! إني كنت أعطيت أهل رام هرمز الأمان وأجلتهم ستة أشهر إلى أن يروا رأيهم ، فعجل جرير بن عبد الله وأهل الكوفة ففتحوا مدينتهم قسراً وقسموا السبايا ، فهاتوا ما عندكم من الرأي !

فقال أهل البصرة : الرأي في ذلك عندنا أن تكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عنه وتخبره بذلك..فكتب عمر إلى صلحاء عسكر أبي موسى مثل حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب وأنس بن مالك وسعيد بن عمرو الأنصاري وغيرهم أن ينظروا في ذلك ، فإن كان أبو موسى قد أعطى رام هرمز من الأمان قبل ذلك كما زعم وأعطاهم عهداً وكتاباً مكتوباً ، أن يرد الناس ما في أيديهم من السبي ، وإن كانت امرأة حامل أن تحبس في موضع ويوكل عليها ويجرى لها النفقة حتى تضع ما في بطنها ، ثم تخير بعد ذلك بين الإسلام والمقام مع صاحبها فإن اختارت الإسلام فذلك ، وإن أبت ردت إلى بلادها ، وأن تستحلفوا أبا موسى الأشعري أنه قد كان أعطى أهل رام هرمز عهداً وأماناً وضرب لهم أجلاً ستة أشهر كما زعم ، فإذا حلف بذلك فيرد السبي ولا سبيل عليهم إلى انقضاء المدة والأجل. فاستحلف المسلمون أبا موسى فحلف أنه قد أعطى أهل رام هرمز أماناً وعهداً مؤكداً وضرب لهم أجلاً ، وكانوا في موادعته ستة أشهر .

ص: 111

فلما حلف أبو موسى بذلك رد المسلمون السبي إلى بلادهم ووضعت الحوامل ما في بطونهن فخيرن بعد ذلك ، فمنهن من اختارت الإسلام ، فأقامت مع صاحبها ، ومنهن من أبت فردت إلى بلادها .

قال: وكتب بعض أصحاب جرير بن عبد الله إلى عمر بن الخطاب أبياتاً يذكر فعل جرير بأهل رام هرمز، وأنه لم يفعل ما فعل إلا بأمر أبي موسى ، وأن أبا موسى هو الذي أمرهم بالنزول عليهم وبمحاربتهم ..».

أقول: يتعجب الباحث من تغييب سلمان الفارسي عن فتح رامهرمز ، وهي بلده ومنشؤه ، فقدكانت أمه منها ، وأبوه من أصفهان لكنه دهقان رامهرمز ، وقد غيَّب رواة السلطة دوره في دعوة أهلها ، وقد يكون هو الذي طلب لهم المهلة ستة أشهر ليقرروا بين الإسلام والجزية .

ولعل أبا موسى بعث جريراً والنعمان بن مقرن الى حصون رامهرمز ، فبعثه جرير الى الحصون وقصد هو المدينة ، ولم يكن فيها قتال يذكر ، ولا نظنه خيَّرهم بين الإسلام والجزية ، ولا بد أنهم أخبروه أن أبا موسى أعطاهم مهلة ليختاروا ولم تنته المهلة ، ولعلهم طلبوا حضور ابن بلدهم سلمان الفارسي ، لكن جريراً لم يسمع كلامهم واستباح المدينة ونهبها وسبى نسائها المعروفات بالجمال !

مهما يكن فقد حكم صلحاء معسكر أبي موسى الذين كلفهم عمر بالتحقيق في الأمر ، بأن جريراً أخطأ أو تعمد فنهب وسبى بغير وجه شرعي !

ص: 112

وحكموا عليه فأرجع جنده شيئاً مما أخذوه وبعض الرجال والنساء اللائي لم يحملن ، وبقيت الحوامل حتى تضعن حملهن ، فإن لم تسلم تعطي حملها لأبيه وتعود الى بلدها ! وهي صورة سيئة عما ارتكبه المسلمون !

لكن جريراً وجماعته ظلوا يؤكدون ويحلفون أن أبا موسى هو المقصر فقد أمرهم بقتال أهل رامهرمز وسبيهم ! ولعله أمرهم بقتالهم ، ثم تراجع ، ولا نطيل بذكر مجادلاتهم وشكاياتهم !

17. ثم التحق جرير بجيش المسلمين لمواجهة تجمع جيش الفرس في نهاوند ، فقد كانت معارك المسلمين المهمة مع الفرس خمسة: معركة الجسر والبُويب والقادسية وجلولاء ، وآخرها نهاوند ، وهي أهمها وسميت فتح الفتوح .

فقد جمع فيها الفرس من أنحاء بلادهم مئة وخمسين ألفاً ، ونووا أن يقصدوا المدينة المنورة لاستئصال أصل دين العرب ! فكتب عمار بن ياسر رضي الله عنه وكان والي الكوفة الى عمر بخبرهم ، فخاف عمر وجمع الصحابة .

قال ابن الأعثم (2/291): «فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقرأه وفهم ما فيه ، وقعت عليه الرعدة والنفضة حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه ! ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد ، وجعل ينادي: أين المهاجرون والأنصار! ألافاجتمعوا رحمكم الله وأعينوني أعانكم الله». فأشاروا عليه بآراء مختلفة ، فقال له علي (علیه السلام) : «فأقم بالمدينة ولاتبرحها فإنه أهيب لك في عدوك وأرعب لقلوبهم ، فإنك متى غزوت الأعاجم بنفسك يقول بعضهم لبعض: إن ملك العرب قد غزانا بنفسه لقلة أتباعه وأنصاره ، فيكون ذلك أشد

ص: 113

لكلبهم عليك وعلى المسلمين ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه وابعث من يكفيك هذا الأمر والسلام . قال: فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا الحسن ! فما الحيلة في ذلك ، وقد اجتمعت الأعاجم عن بكرة أبيها بنهاوند ، في خمسين ومائة ألف يريدون استئصال المسلمين ؟ فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الحيلة أن تبعث إليهم رجلاً مجرباً قد عرفته بالبأس والشدة ، فإنك أبصر بجندك وأعرف برجالك، واستعن بالله وتوكل عليه واستنصره للمسلمين فإن استنصاره لهم خير من فئة عظيمة تمدهم بها ، فإن أظفر الله المسلمين فذلك الذي تحب وتريد ، وإن يكن الأخرى وأعوذ بالله من ذلك ، تكون ردءا للمسلمين وكهفاً يلجؤون إليه ، وفئة ينحازون إليها . قال فقال له عمر: نعمَ ما قلت يا أبا الحسن... فلما سمع عمر مقالة علي كرم الله وجهه ومشورته ، أقبل على الناس وقال: ويحكم عجزتم كلكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن ! والله لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي.ثم أقبل عليه عمر بن الخطاب فقال: يا أبا الحسن ! فأشر علي الآن برجل ترتضيه ويرتضيه المسلمون أجعله أميراً ، أستكفيه من هؤلاء الفرس فقال: قد أصبته. قال عمر: ومن هو ؟ قال: النعمان بن مُقرن المزني ، فقال عمر وجميع المسلمين: أصبت يا أبا الحسن! وما لها من سواه . قال: ثم نزل عمر عن المنبر ودعا بالسائب بن الأقرع بن عوف ..».

وقال ابن حبان في الثقات:2/224: «فلما بلغ الخبر أهل الكوفة من المسلمين كتبوا إلى عمر فلما أخذ عمر الصحيفة مشى بها إلى منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو باكٍ وجعل ينادى: أين المسلمون ! أين المهاجرون والأنصار ! من هاهنا من

ص: 114

المسلمين ! فلم يزل ينادي حتى امتلأ عليه المسجد رجالاً..قام علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه... فطبق عمر ثم أهل مكبراً يقول: الله أكبر الله أكبر ، هذا رأي هذا رأي كنت أحب أن أتابع عليه . صدق بن أبي طالب ، لو خرجت بنفسي لنقضت عليَّ الأرض من أقطارها، ولو أن العجم نظروا إلى عياناً ما زالوا عن العرص حتى يقتلوني أو أقتلهم . أشر على يا علي بن أبي طالب برجل أوليه هذا الأمر. الخ.).

أقول: لم يذكر ابن الأعثم أن عمر عين قائداً بعد النعمان ، لكن قال الطبري (4/122): «وكتب (عمر) إلى النعمان وكان بالبصرة ، أن يسير بمن هناك من الجنود إلى نهاوند ، وإذا اجتمع الناس فكل أمير على جيشه ، والأمير على الناس كلهم النعمان بن مقرن ، فإذا قتل فحذيفة بن اليمان ، فإن قتل فجرير بن عبد الله فإن قتل فقيس بن مكشوح ، فإن قتل قيس ففلان ثم فلان ، حتى عد سبعة أحدهم المغيرة بن شعبة . وقيل لم يُسم منهم ، والله أعلم ».

كما روى الطبري(3/203) أن النعمان بن مقرن: «عبَّأ كتائبه وخطب الناس فقال: إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان ، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله ، وإن أصيب جرير بن عبد الله ، فعليكم قيس بن مكشوح ».

وقال في الأخبار الطوال/135: «إن قتل النعمان فوليُّ الأمر حذيفة بن اليمان ، وإن قتل حذيفة فولى الأمر جرير بن عبد الله البجلي، وإن قتل جرير فالأمير المغيرة بن شعبة ، وإن قتل المغيرة فالأمير الأشعث بن قيس ».

ص: 115

أقول: تضاربت الرواية فيمن يخلف النعمان ، ولا يعلم أن جريراً كان منهم ، والمتفق عليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، وقد أثبت كفاءة عالية ، وفتح الله على يده وانتصر المسلمون ، وانهزم الفرس ، ثم واصل فتح المدن والمناطق داخل إيران .

وقد رويت بطولات لعدد من الفرسان والقبائل في نهاوند ، ومنهم بنو بجيلة .

قال ابن الأعثم في الفتوح:2/306: «ثم أقبل جرير بن عبد الله البجلي على الناس فقال: يا معشر المسلمين ، إنكم قد علمتم بأن أميرنا النعمان بن مقرن قد قتل منذ ثلاثة أيام وهذا الرابع ، وهؤلاء الأعاجم كلما كسرنا لهم جيشاً زحفوا إلينا بجيش هو أعظم منه ، وقد تعلمون أن يزدجرد ملك الأعاجم قاطبة قد صار إلى أصفهان ، ولست آمن أن يبعث إليكم بجيش عظيم فيكون فيه البوار ، وهذه الشمس قد زالت كما ترون ، فاعلموا أنها لا تغيب إلا ونحن في جوف قلعة نهاوند إن شاء الله ولا قوة إلا بالله . قال فقال طليحة بن خويلد الأسدي: والله ما الرأي إلا ما رأيت يا أبا عمرو ! ولقد قلت قولاً ويجب أن نجعلها واحدة ، لنا أم علينا ، فإنا لا نطيق كثرة هؤلاء القوم . قال: فقال عمرو بن معد يكرب: ويحك يا طليحة ! لا تقل علينا فإني أرجو أن تكون لنا وقلبي يشهد بذلك ، كما أنه يشهد أني مقتول في هذا اليوم ، ألا ! وإني حامل فاحملوا معي رحمكم الله ، فوالله لأجهدن أني لا أرجع دون أن أفتح أو أقتل ».

18. ثم عيَّن عمر جريراً والياً على همدان ، وبقي والياً عليها في زمن عثمان ، قال البلاذري:2/394: « فلما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة ، ولى جرير بن عبد الله همذان ، وولى البراء بن عازب قزوين ، وأمره أن يسير إليها فإن فتحها الله على يده غزا الديلم منها ، وإنما كان مغزاهم قبل ذلك من دستبى ، فسار البراء ومعه

ص: 116

حنظلة بن زيد الخيل حتى أتى أبهر فقام على حصنها ، وهو حصن بناه بعض الأعاجم على عيون سدها بجلود البقر والصوف واتخذ عليها دكة ، ثم أنشأ الحصن عليها ، فقاتلوه ثم طلبوا الأمان ، فآمنهم على مثل ما أمن عليه حذيفة أهل نهاوند ، وصالحهم على ذلك ، وغلب على أراضي أبهر ».

ويظهر أن جريراً كان ينتقد عثمان ، فقد كان مع مالك الأشتر في الذين ذهبوا لشكاية والي عثمان على الكوفة ، وكانوا عائدين من العمرة ، فوجدوا أبا ذر قد توفي في الربذة فجهزوه وصلوا عليه ودفنوه . (أنساب الأشراف:5/545).

قال اليعقوبي:2/165: «ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الكوفة مكان سعد ، وصلى بالناس الغداة وهو سكران أربع ركعات ، ثم تهوع في المحراب ، والتفت إلى من كان خلفه فقال: أزيدكم؟ ثم جلس في صحن المسجد وأتى بساحر يدعى بطروى من الكوفة ، فاجتمع الناس عليه فجعل يدخل من دبر الناقة ويخرج من فيها ويعمل أعاجيب... وأخذ الوليد أبا سنان فضربه مائتي سوط ، فوثب عليه جرير بن عبد الله ، وعدي بن حاتم ، وحذيفة بن اليمان ، والأشعث بن قيس ، وكتبوا إلى عثمان مع رسلهم ، فعزله وولى سعيد بن العاص مكانه» .

لكن يظهر أن جريراً تقرب الى عثمان واسترضاه ، وسيأتي أن مالك الأشتر رضي الله عنه اتهمه بأن عثمان اشترى منه دينه بولاية همدان . (وقعة صفين/60).

19. وكان جرير البجلي يشرب الخمر ، ويظهر من كلامه أنه كان مدمناً عليها !

فقد روى ابن حزم في المحلى:7 /488: « عن عثمان بن قيس أنه خرج مع جرير بن عبد الله البجلي إلى حمام له بالعاقول ، فأكلوا معه ثم أوتوا بعسل وطلاء، فقال: إشربوا العسل أنتم ، وشرب هو الطلاء وقال: إنه يستنكر منكم ولا يستنكر منى !قال: وكانت رائحته توجد من هنالك ، وأشار إلى أقصى الحلقة » !

ص: 117

أقول: دير العاقول بين بغداد والنعمانية ، والمقصود هنا العاقول بالكوفة ، وهو على شاطئ الفرات ، ومعناه أن جريراً كان عنده بستان فيه حمام، ودعا اليه بعض الشخصيات المحترمين، وجاء لهم بعد الغداء بشراب عسل، وله بخمر، وقال لهم: هذا يناسبني ولا يناسبكم ! وكانت رائحته قوية فوصلت الى آخر الحلقة !

20. وكان جرير تلميذ الأشعث ، وأداته في الحسد ، والفتنة ، والتحريش ، وقد رووا كيف كذب على عمر فسقَّط شرحبيل بن السمط ، وعزل عمار بن ياسر. قال عمر بن شبَّة في تاريخ المدينة:3/819: « أوفد سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله إلى عمر ، فقال له الأشعث بن قيس: إن استطعت أن تنال من شرحبيل بن السمط عند عمر فافعل ! وكان شرحبيل قد شرف بالكوفة وكان أثيراً عند سعد ، فغَمَّ ذلك الأشعث ! فلما قدم جرير على عمر سأله عن الناس فقال: هم كقداح الحصير فيها الأعضل الطائش والقائم الرائش، وسعد أمامها يقيم ميلها ويعمر عضاها، وقد قال قائل ! قال: وماقال القائل؟قال: قال:

ألا ليتني والمرء سعد بن مالك *** وزبراء وابن السمط في لجة البحر

فيغرق أصحابي وأخرج سالماً *** على ظهر قرقور أنادي أبا بكر

قال عمر: أقد فعلها؟وكيف طاعة الناس له؟ قال: يقيمون الصلاة لوقتها ويؤتون الزكاة ولاتها. قال: الله أكبر، إذا أقيمت الصلاة ، وأوتيت الزكاة كانت الطاعة . وكتب إلى سعد: أن احمل إلي زبراء وشرحبيلاً ، فأرسلهما ، فأمسك زبراء عنده بالمدينة ، وحمل شرحبيل إلى الشام ، فشرف بها ».

ص: 118

وفي مصنف ابن أبي شيبة:8 /9، أن جريراً وفد مع عمار الى عمر ، وكان عمار والياً على الكوفة: «فقال عمر: ألا تخبراني عن منزليكم هذين(يقصد الكوفة والمدائن) قال فقال جرير: أنا أخبرك يا أمير المؤمنين ، أما أحد المنزلين فأدنى نخلة من السواد إلى أرض العرب ، وأما المنزل الآخر فأرض فارس وعليها وَحْرُها وبقها ، يعني المدائن . قال: فكذبني عمار فقال: كذبت !

قال: فقال عمر: أنت أكذب ! ثم قال: ألا تخبروني عن أميركم هذا أمجزٍ هو؟ قالوا: لاوالله ما هو بمجزٍ ولاعالم بالسياسة . فعزله وبعث المغيرة بن شعبة» . والطبري:3/242، وتاريخ دمشق:43/450.

ومسألة عزل عمار أعمق من هذا التبسيط ، وقد كان جرير أداة للأشعث وعمر فيها.

21. عندما بايع المسلمون علياً (علیه السلام) دعا جرير المسلمين عنده الى بيعته ووفد اليه قال في أعيان الشيعة:4/73: «كتب(علي (علیه السلام) ) إلى جرير بن عبد الله البجلي مع زحر بن قيس ، وكان جرير عاملاً لعثمان على ثغر همدان ، يخبره بوقعة الجمل ونكثهم بيعته ، وفعلهم بعامله عثمان بن حنيف وعفوه عنهم، ومسيره إلى الكوفة . فخطبهم جرير فقال: أيها الناس، هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو المأمون على الدين والدنيا ، وقد كان أمره وأمر عدوه ما نحمد الله عليه ، وقد بايعه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها . ألا وإن البقاء في الجماعة والفناء في الفرقة، وعليٌّ حاملكم على الحق ما استقمتم فإن ملتم أقام ميلكم. فقال

ص: 119

الناس: سمعاً وطاعةً، رضينا. فأجاب جرير وكتب جواب كتابه بالطاعة.. وقال جرير في ذلك:

أتانا كتاب عليٍّ فلم *** نردَّ الكتاب بأرض العجم

ولم نعصِ ما فيه لمَّا أتى *** ولما نُضام ولما نُلَم

ونحن ولاةٌ على ثغرها *** نضيم العزيز ونحمي الذمم

نساقيهم الموت عند اللقاء *** بكأس المنايا ونشفي القرم

طحناهم طحنةً بالقنا *** وضرب سيوف تطير اللمم

مضينا يقيناً على ديننا *** ودين النبي مجلي الظلم

أمين الإله وبرهانه *** وعدل البرية والمعتصم

رسول المليك ومِن بعده *** خليفتنا القائم المدَّعم

علياً عنيت وصيَّ النبي *** نجالد عنه غواة الأمم

له الفضل والسبق والمكرمات *** وبيتُ النبوة لا يهتضم

قال: ثم أقبل جرير سائراً من ثغر همذان حتى ورد على علي (علیه السلام) بالكوفة ، فبايعه ودخل فيما دخل فيه الناس من طاعة علي (علیه السلام) واللزوم لأمره ». وكتاب صفين لنصر بن مزاحم/7، والإمامة والسياسة:1/82 ، وجمهرة خطب العرب:1/308.

22. وبعثه علي (علیه السلام) الى معاوية يدعوه أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون ويبايعه ، قال الطبري:3/560: «وجه علي عند منصرفه من البصرة إلى الكوفة وفراغه من الجمل ، جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى بيعته ، وكان جرير حين خرج علي إلى البصرة لقتال من قاتله بها بهمذان عاملاً عليها ، كان عثمان استعمله عليها ، وكان الأشعث بن قيس على آذربيجان عاملاً عليها، كان عثمان

ص: 120

استعمله عليها. فلما قدم علي الكوفة منصرفاً اليها من البصرة كتب إليهما يأمرهما بأخذ البيعة له على من قبلهما من الناس والإنصراف إليه ، ففعلا ذلك وانصرفا إليه ، فلما أراد علي توجيه الرسول إلى معاوية قال جرير بن عبد الله..إبعثني إليه فإنه لي وُدّ ، آتيه فأدعوه إلى الدخول في طاعتك .

فقال الأشتر لعلي: لا تبعثه فوالله إني لأظن هواه معه ! فقال علي: دعه حتى ننظر ما الذي يرجع به إلينا. فبعثه إليه وكتب معه كتاباً يعلمه فيه اجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ونكث طلحة والزبير وما كان من حربه إياهما ، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته ، فشخص إليه جرير ، فلما قدم عليه ماطله واستنظره ، ودعا عمراً (بن العاص) فاستشاره فيما كتب به إليه ، فأشار عليه أن يرسل إلى وجوه الشام ، ويُلزم علياً دم عثمان ويقاتله بهم ، ففعل ذلك معاوية .

وكان أهل الشام.. لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضباً بدمه وبأصابع نائلة زوجته مقطوعة بالبراجم إصبعان منها وشئ من الكف، وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام ، وضع معاوية القميص على المنبر وكتب بالخبر إلى الأجناد وثاب إليه الناس ، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه ، وآلى الرجال من أهل الشام ألا يأتوا النساء ولا يمسهم الماء للغسل إلا من احتلام ولا يناموا على الفرش ، حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشئ أو تفنى أرواحهم !

فمكثوا حول القميص سنة والقميص يوضع كل يوم على المنبر ، ويجلله أحياناً فيلبسه ، وعلق في أردانه أصابع نائلة ، فلما قدم جرير بن عبد الله على علي فيما

ص: 121

حدثني عمر بن شبة قال: حدثنا أبو الحسن عن عوانة ، فأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشأم معه على قتاله ، وأنهم يبكون على عثمان ويقولون إن علياً قتله وآوى قتلته ، وإنهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه .

فقال الأشتر لعلي: قد كنت نهيتك أن تبعث جريراً وأخبرتك بعداوته وغشه ، ولو كنت بعثتني كان خيراً من هذا ، الذي أقام عنده حتى لم يدع باباً يرجو فتحه إلا فتحه ، ولا باباً يخاف منه إلا أغلقه !

فقال جرير: لو كنت ثَمَّ لقتلوك ، لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان !

فقال الأشتر: لو أتيتهم والله يا جرير لم يُعْينِي جوابهم ، ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر ، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين (علیه السلام) لحبسك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه ، حتى تستقيم هذه الأمور !

فخرج جرير بن عبد الله إلى قرقيسياء ، وكتب إلى معاوية ، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه ، وخرج أمير المؤمنين فعسكر بالنخيلة ، وقدم عليه عبد الله بن عباس بمن نهض معه من أهل البصرة ».

أقول: صرح جرير في كلامه وشعره بعقيدته في علي (علیه السلام) وأنه وصي النبي (صلی الله علیه و آله) ، فكان عقله مع علي (علیه السلام) وهواه مع معاوية ، وذلك لضعف إيمانه ، مع أنه صرح برأيه السلبي في معاوية . وعندما كان مبعوثاً من علي (علیه السلام) في الشام ، كانت له مواقف ضعيفة ومواقف قوية ، منها ما كتبه الى شرحبيل بن السمط وهو من أركان معاوية:

شرحبيل يا ابن الصمت لاتتبع الهوى *** فما لك في الدنيا من الدين من بدل

وقل لابن حرب ما لك اليوم حرمة *** تروم بها ما رمت فاقطع له الأمل

شرحبيل ان الحق قد جد جده *** وأنك مأمون الأديم من النغَل

فأوردْ ولا تُفرط بشئ نخافه *** عليك ولا تعجل فلا خير في العجل

ولا تك كالمجري إلى شر غاية *** فقد خرق السربال واستنوق الجمل

ص: 122

وقال ابن هند في علي عُضَيْهَةً *** ولله في صدر ابن أبي طالب أجل

وما لعلي في ابن عفان سقطة *** بأمر ولا جلْبٍ عليه ولا قتل

وما كان إلا لازماً قعر بيته *** إلى أن أتى عثمان في بيته الأجل

فمن قال قولاً غير هذا فحسبه *** من الزور والبهتان قول الذي احتمل

وصي رسول الله من دون أهله *** وفارسه الحامي به يضرب المثل

فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذُعر وفكر وقال: هذه نصيحة لي في ديني ودنياي، ولا والله لا أعجل في هذا الأمر بشئ . وفي نفسي منه ! فلفَّفَ له معاوية الرجال يدخلون اليه ويخرجون ، ويُعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به علياً (علیه السلام) ! ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلفة ، حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه ! وذلك لما سبق في علم الله من شقائه». «أعيان الشيعة:4/73).

ويظهر أن جريراً كان يحب أن يلتحق بمعاوية ويكون معه في صفين قائداً أو مشاوراً ، خاصة أنه كتب له يدعوه للحضور اليه ، لكنه اصطدم برأي قبيلته بجيلة التي أجمعت على نصرة علي (علیه السلام) وحرب معاوية ، فقرر أن يعتزل الطرفين ! واتخذ من توبيخ الأشتر وشتمه له مبرراً لذلك !

قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين/60: «فلما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسيا ولحق به أناس من قسر من قومه(قسر بطن صغير من بجيلة) ولم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر ، ولكن أحمس (بطن من بجيلة وهم كثرة وفرسان) شهدها منهم سبع مائة رجل ! وخرج علي إلى دار جرير فشعث منها ، وحرق مجلسه(فقط) وخرج أبو زرعة بن عمر بن جرير فقال: أصلحك الله ، إن فيها أرضاً لغير جرير ، فخرج على منها إلى دار ثوير بن عامر فحرقها وهدم منها(مجلسه) وكان

ص: 123

ثوير رجلاً شريفاً وكان قد لحق بجرير . وقال الأشتر فيما كان من تخويف جرير إياه بعمرو ، وحوشب ذي ظليم ، وذي الكلاع:

لعمرُك يا جرير لَقولُ عَمْرٍ *** وصاحبه معاويةُ الشآمي

وذي كلع وحوشبَ ذي ظليمٍ *** أخفُّ عليَّ من زفِّ النعام

إذا اجتمعوا عليَّ فخلِّ عنهم *** وعن بازٍ مخالبه دوام

فلستُ بخائف ما خوفوني *** وكيف أخاف أحلامَ النيام

وهمُّهمُ الذين حاموا عليه *** من الدنيا ، وهمي ما أمامي

فإن أسلم أعمُّهم بحربٍ *** يشيبُ لهولها رأس الغلام

وإن أهلك فقد قدمتُ أمراً *** أفوز بفلجةٍ يوم الخصام

وقد زأروا إليَّ وأوعدوني *** ومن ذا مات من خوف الكلام»

أقول: لاحظ أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أحرق من بيت جرير وثوير غرفة مجلسهما فقط ، وكأنه يقصد مركز الفساد والنفاق في منزليهما .

كما كان الوجهاء ورؤساء العشائر يتخذون في دورهم أو أحيائهم مساجد ، وكان المنافقون أمثال الأشعث وجرير يتذخونها مساجد ضرار ، فسماها أمير المؤمنين (علیه السلام) المساجد الملعونة في الكوفة !

قال الإمام الباقر (علیه السلام) : « إن بالكوفة مساجد ملعونة ومساجد مباركة..وأما المساجد الملعونة فمسجد ثقيف ، ومسجد الأشعث ، ومسجد جرير ، ومسجد سماك ، ومسجد بالخمراء بُنِيَ على قبر فرعون من الفراعنة . وروي أنها المساجد التي فرح أهلها بقتل الحسين (علیه السلام) ). (الكافي:3/490، والخمراء: هي باخمرى قرية قرب الكوفة ، وفيها قبر ابراهيم بن عبد الله بن الحسن ).

23. وكان جرير يبغض علياً (علیه السلام) ، وقد حرَّف حديث الغدير فأضاف فيه مدح أبي بكر وعمر! وزعم أن النبي (صلی الله علیه و آله) أخذ بذراع علي (علیه السلام) يوم الغدير ، وقال: من

ص: 124

يكن الله ورسوله مولاه ، فإن هذا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . اللهم من أحبّه من الناس فكن له حبيباً ، ومن أبغضه فكن له مبغضاً . اللهم إنّي لا أجد أحداً استودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين.أي أبا بكر وعمر!

وكان جرير والأشعث بن قيس وابن حريث وعدة من مترفي الكوفة وشخصياتها المنافقة ، يتنزهون ويشربون ، وقد سخروا من أمير المؤمنين (علیه السلام) وبايعوا ضباً بإمرة المؤمنين ! (رجال الطوسي/33، والنجاشي/71، ومعجم السيد الخوئي:4 /362 ، والوافي للصفدي:1/59 ، والنهاية:5/91).

وروى في مناقب آل أبي طالب:2/97، والخرائج:2/747: «بإسناده عن الأصبغ قال: أمرنا أمير المؤمنين بالمسير من الكوفة إلى المداين ، فسرنا يوم الأحد وتخلف عنا عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي ، مع خمسة نفر فخرجوا إلى مكان بالحيرة يقال له الخورنق والسدير وقالوا: إذا كان يوم الجمعة لحقنا علياً قبل أن يجمع الناس ، فصلينا معه . فبينا هم جلوس وهم يتغدون إذ خرج عليهم ضب فاصطادوه ، فأخذه عمرو بن حريث فبسط كفه فقال: بايعوا هذا أمير المؤمنين! فبايعه الثمانية، ثم أفلتوه وارتحلوا وقالوا: إن علي بن أبي طالب يزعم أنه يعلم الغيب ، فقد خلعناه وبايعنا مكانه ضباً !

فقدموا المداين يوم الجمعة ، فدخلوا المسجد وأمير المؤمنين (علیه السلام) يخطب على المنبر فقال (علیه السلام) : يا أيها الناس، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أسرَّ فيما أسرَّ إليَّ من العلم حديثاً فيه ألف باب، وكل باب يفتح منه ألف باب ، وإني سمعت الله يقول: يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ..وإني أقسم بالله قسماً حقاً ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر من عسكري هذايدعون أنهم أصحابي، لحقوا بنا آنفاً ، إمامهم ضبٌّ اصطادوه في طريقهم وبايعوه ، ولو شئت أن أسميهم لفعلت ! فتغيرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ، وكان عمرو بن حريث ينتفض كما تنتفض السعفة جبناً وفرقاً » !

ص: 125

24. لكن بجيلة أخلصت ولاءها لأمير المؤمنين (علیه السلام) واستبدلت جريراً برفاعة ، وقد شاركت مع علي (علیه السلام) في صفين فقد كان الأحمسيون الفرسان سبع مئة ، وربما كان الباقون من بقية بطون بجيلة أكثر . بينما لم يكن منهم مع معاوية إلا قلة .

قال نصر في صفين/229: «وأمر(علي (علیه السلام) )كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام ، إلا قبيلة ليس منهم بالشام أحد ، مثل بجيلة لم يكن بالشام منهم إلا عدد يسير ، فصرفهم إلى لخم » . أي جعلهم مقابل قبيلة لخم .

وذكر في صفين /205، أن رئيسهم كان رفاعة بن شداد رضي الله عنه ، وهو فارس ، وفقيه ، وسيد قراء الكوفة ، وكان من كبار شيعة علي (علیه السلام) وشارك معه في حرب الجمل هو وكثير من البجليين . وهذا يدل على أن رئاسة بجيلة خرجت من يد جرير رغم ثروته من الفتوحات ، وولايته لمنطقة همدان المهمة .

وقد روى النسائي وابن ماجة عن رفاعة ، ووثقوه . وروى هو عن أستاذه الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي. (تهذيب التهذيب:3/243)

وقد ثبت رفاعة على التشيع بعد علي (علیه السلام) . وعندما قبض معاوية على حجر بن عدي وأصحابه، طلبه فهرب مع عمرو بن الحمق الى الموصل . ثم كان من رؤساء التوابين. ثم خرج مع المختار للطلب بدم الإمام الحسين (علیه السلام) .(راجع: أنساب الأشراف:5/272، و:6/364، والفتوح لابن الأعثم:2/462، والطبري:4/523).

نتيجة

يتضح لك من سيرة جرير بن عبد الله البجلي، دوره الحقيقي في معارك الفتوحات ، وأنه كان دوراً متوسطاً أو أقل ، وقد ضخموه لأنه مرضي عند السلطة ! على أنه يبقى أشجع من خالد وسعد ، ويبقى دوره الميداني أكبر من أدوارهما المزعومة ، لأن جريراً كان مقاتلاً أحياناً ، بينما كان خالد وسعد سياسيين ، في ثوب فرسان !

ص: 126

عمرو بن العاص.. لا نبلٌ ولا شجاعة !

1. كان أبوه العاص بن وائل السهمي من زنادقة قريش ، وقد سماه الله الأبتر قال المؤرخ ابن حبيب في المنمق/388 ، إن زنادقة قريش..تعلموا الزندقة (الإلحاد) من نصارى الحيرة: «وهم: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي ، وصخر بن حرب ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي بن خلف ، وأبو عزة ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، من بني عبد الدار ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج » .

وفي الكنى والألقاب:1/56: «وكان العاص بن وائل السهمي بيطاراً يعالج الخيل، وكان ابنه عمرو جزاراً ، وكذلك أبو حنيفة صاحب الرأي والقياس».

وكان العاص أحد المستهزئين الخمسة ، وهم أشد المشركين عداءً للنبي (صلی الله علیه و آله) . وقد عملوا لقتله (صلی الله علیه و آله) ثلاث سنوات وهم يتربصون الفرصة لقتله غيلةً ، ويطالبون أبا طالب وبني هاشم أن يدفعوه اليهم ليقتلوه ، ثم أنذروه وحددوا له وقتاً ليتراجع عن نبوته ، وإلا قتلوه جهاراً ! فأنزل الله عليه قوله:فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ .

وجاءه جبرئيل (علیه السلام) وقال له: لقد كفاك الله إياهم ! فقتل الله خمستهم ، كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه ، في يوم واحد .

فأما الوليد بن المغيرة والد خالج فمرَّ بنبل لرجل راشه ووضعه في الطريق فأصابه شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه فمات وهو يقول: قتلني رب محمد!

وأما العاص بن وائل السهمي ، فإنه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده تحته حجر ، فتقطع قطعة قطعة ، فمات وهو يقول: قتلني رب محمد !

ص: 127

وأما الأسود بن عبد يغوث ، فخرج يستقبل ابنه زمعة فاستظل بشجرة ، فأتاه جبرئيل (علیه السلام) فأخذ رأسه فنطح به الشجرة ، فقال لغلامه: إمنع هذا عني فقال: ما أرى أحداً يصنع بك شيئاً إلا نفسك! فقتله وهو يقول:قتلني رب محمد !

وأما الأسود بن المطلب فدعا عليه النبي (صلی الله علیه و آله) أن يعمي الله بصره ، ويثكله ولده فلما كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع ، فأتاه جبرئيل (علیه السلام) بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي ، وبقي حتى أثكله الله عز وجل ولده !

وأما الحارث بن الطلاطلة فخرج من بيته في السموم فتحول حبشياً فرجع إلى أهله فقال: أنا الحارث ، فغضبوا عليه فقتلوه وهو يقول: قتلني رب محمد !

فقتل الله خمستهم ! قد قتل كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه ، في يوم واحد ! وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقالوا له: يا محمد ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك ! فدخل النبي (صلی الله علیه و آله) منزله فأغلق عليه بابه مغتماً لقولهم ، فأتاه جبرئيل (علیه السلام) عن الله عز وجل من ساعته فقال: يامحمد ، السلام يقرأ عليك السلام، ويقول لك: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. يعني أظهر أمرك لأهل مكة ، وادعهم إلى الإيمان. قال: يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني؟ قال له: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ، قال: يا جبرئيل كانوا الساعة بين يدي! قال:وقدكفيتهم.فأظهر أمره عند ذلك».(حلية الأبرار:1/127).

وفي سيرة ابن هشام:2/265 ، وأسباب النزول للواحدي/307: « كان العاص بن وائل السهمي إذا ذُكر رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لاعقب له ، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه،فأنزل الله تعالى في ذلك:إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.

ص: 128

ما هو خير لك من الدنيا وما هو فيها ، والكوثر: العظيم من الأمر . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ: العاص بن وائل ».

« عن ابن عباس قال: نزلت هذه السورة في العاص بن وائل بن هشام بن سُعَيْد بن سهم ، أنه رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا، وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس، فلما دخل العاص قالوا له: من الذي كنت تحدث؟ قال: ذاك الأبتر ، يعني النبي (صلی الله علیه و آله) وكان قد توفى قبل ذلك عبد الله بن رسول الله وكان من خديجة ، وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر، فسمته قريش عند موت ابنه أبتر وصنبوراً فأنزل الله سبحانه: إنا أعطيناك الكوثر». ( أسباب النزول/306 )

وفي مناظرة الإمام الحسن (علیه السلام) مع عمرو كما في التشريف بالمنن لابن طاووس/362: «أنت كالكلب لايحمد منه رأس ولا ذنب . قديمك مذموم ، وحديثك بالشر موسوم ، ولدت على فراش مشترك ، واختصم فيك خمسة ، فغلب عليك ألأمهم حسباً وأخبثهم منصباً . وأنت الأبتر شانئ محمد (صلی الله علیه و آله) ، وأنت الراكب إلى النجاشي لانتقاص جعفر وتعريضه للتلف . وأنت الهاجي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسبعين بيتاً حتى قال: اللهم العنه بكل بيت لعنة ! وأنت الملهب المدينة ناراً على عثمان ، والهارب إلى فلسطين ، والبائع بعدُ من معاوية بدنياه الدين ».

ورواه في الاحتجاج:1/411، مفصلاً وفيه: «ثم قمت خطيباً وقلت: أنا شانئ محمد وقال العاص بن وايل: إن محمداً رجل أبتر لا ولد له فلو قد مات انقطع ذكره ،

ص: 129

فأنزل الله تبارك وتعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ . وكانت أمك تمشي إلى عبد قيس تطلب البغية ، تأتيهم في دورهم ورحالهم وبطون أوديتهم!

ثم كنت في كل مشهد يشهده رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عدوه أشدهم له عداوة ، وأشدهم له تكذيباً. ثم كنت في أصحاب السفينة الذين أتوا النجاشي والمهجر الخارج إلى الحبشة في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وساير المهاجرين إلى النجاشي، فحاق المكر السئ بك ، وجعل جدك الأسفل ، وأبطل أمنيتك ، وخيب سعيك ، وأكذب أحدوثتك ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا. ولسنا نلومك على بغضنا ، ولا نعاتبك على حبنا ، وأنت عدو لبني هاشم في الجاهلية والإسلام ، وقد هجوت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسبعين بيتاً من شعر فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : اللهم إني لا أحسن الشعر ولا ينبغي لي أن أقوله ، فالعن عمرو بن العاص بكل بيت ألف لعنة » !

أقول: في سورة الكوثر حقائق كثيرة ، لايتسع لها المجال. ومعناها أن الله تعالى أعطى لرسوله (صلی الله علیه و آله) كوثر الذرية من فاطمة (علیها السلام) ، وحوض الكوثر في المحشر ، ونهر الكوثر في الجنة . فقد استعملت الكلمة في عدة معان ، وهذا من بلاغة القرآن .

2. وتُعرف أم عمرو بالنابغة ، وهي أمَةٌ لبني عنزة ، كانت في مكة صاحبة راية وقد اختارت أباً لعمرو بعد ولادته ، من بين خمسة رجال زنوا بها! قال الزمخشري في ربيع الأبرار:4/275: «كانت النابغة أم عمرو بن العاص أمةً رجل من عنزة ، فسبيت فاشتراها عبد الله بن جدعان فكانت بَغِيّاً ثم عتقت ، ووقع عليها أبو لهب ، وأمية بن خلف ، وهشام بن المغيرة ، وأبو سفيان بن حرب ، والعاص بن

ص: 130

وائل في طهر واحد ، فولدت عمراً ، فادعاه كلهم فحُكِّمَتْ فيه أمه (وكانت القاعدة تحكيم البغية) فقالت: هو للعاص ، لأن العاص كان ينفق عليها ، وقالوا: كان أشبه بأبي سفيان ».

وقال الأميني (رحمة الله) في الغدير (2/122) ما خلاصته: قال الكلبي في مثالب العرب في باب تسمية ذوات الرايات: وأما النابغة أم عمرو بن العاص فإنها كانت بغيّاً قدمت مكة ومعها بنات لها، فوقع عليها العاص بن وائل ، وأبو لهب ، وأمية بن خلف، وهشام بن المغيرة ، وأبو سفيان بن حرب ، في طهر واحد فولدت عمراً فاختصم القوم جميعاً فيه كل يزعم أنه ابنه ، ثم إنه أضرب عنه ثلاثة وأكبَّ عليه اثنان: العاص بن وائل، وأبو سفيان بن حرب فقال أبو سفيان: أنا والله وضعته في حر أمه . فقال العاص: ليس هو كما تقول هو ابني ، فحكَّمَا أمه فيه ، فقالت: للعاص . فقيل لها بعد ذلك: ما حملك على ما صنعت وأبو سفيان أشرف من العاص؟ فقالت: إن العاص كان ينفق على بناتي ، ولو ألحقته بأبي سفيان لم ينفق عليَّ العاص شيئاً ، وخفت الضيعة .

وقال حسان بن ثابت لعمرو بن العاص ، رداً على هجائه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) :

أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت *** لنا فيك منه بينات الدلائلِ

ففاخر به إما فخرت ولا تكن *** تفاخر بالعاص الهجين بن وائلِ

وإن التي في ذاك يا عمرو حكمت *** فقالت رجاء عند ذاك لنائلِ

من العاص عمرو تخبر الناس كلما *** تجمعت الأقوام عند المحاملِ

ووصفوا أبا سفيان بأنه: دميمٌ قصيرٌ أخفش العينين. (سمط اللآلي/332).

ووصفوا عمرو العاص بأنه قصير ، يخضب لحيته بالسواد . (الحاكم:3/452) .

ص: 131

«قصيراً عظيم الهامة ناتئ الجبهة ، واسع الفم ، عظيم اللحية ، عريض ما بين المنكبين ، عظيم الكفين والقدمين » . (فتوح مصرللقرشي المصري/133) .

ومما نلاحظه أن علياً (علیه السلام) كان يسميه: ابن النابغة ، ولم يقل ابن العاص أبداً !

3. وكان عمرو من طفولته كأبيه العاص يُبغض النبي (صلی الله علیه و آله) ويُبغض عشيرته ، فقد روى المقريزي في إمتاع الأسماع:5/333 ، عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) قال: «توفي القاسم بن النبي (صلی الله علیه و آله) فمر رسول الله وهو آت من جنازته على العاص بن وائل وابنه عمرو بن العاص ، فقال عمرو حين رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إني لأشنؤه فقال العاص: لاجرم لقد أصبح أبتراً ، وأنزل الله تعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَالأَبْتَرُ ».

وقد عمل عمرو مع أبيه ضد النبي (صلی الله علیه و آله) ، وأرسلته قريش مرتين الى النجاشي تطلب منه أن يرد اليها المسلمين الذين اضطهدتهم وهاجروا الى الحبشة !

ففي ذخائر العقبى/213 ، عن ابن مسعود:« أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي ، فبلغ ذلك قريشاً فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد ، وجمعوا للنجاشي هدية.. ».

وقال دحلان في سيرته:1/ 417:«كان لعمرو بن العاص هجرتان إلى الحبشة في شأن المهاجرين على ما يذكره التاريخ: أحدهما مع عمارة في بدء الهجرة ، والثاني مع عبد الله بن ربيعة بعد بدر ، ورجع خائباً خاسراً ».

وقال له الإمام الحسن (علیه السلام) في مناظرته (الإحتجاج:1/415»: «وأما أنت يا عمرو بن العاص الشاني اللعين الأبتر..كنت في كل مشهد يشهده رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عدوه أشدهم له عداوة وأشدهم له تكذيباً ! ثم كنت في أصحاب السفينة الذين

ص: 132

أتوا النجاشي في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وساير المهاجرين ، فحاق المكر السئ بك ، وجعل جدك الأسفل ، وأبطل أمنيتك وخيب سعيك ، وأكذب أحدوثتك، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا».

وقد أبغض عمرو النبي (صلی الله علیه و آله) وحاربه وهجاه في حياته، وكذب عليه بعد وفاته!

ففي مصباح البلاغة:4/27: «ومن كلامه (علیه السلام) لما بلغه أن عمرو بن العاص خطب الناس بالشام فقال: بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله) على جيش فيه أبو بكر وعمر فظننت أنه إنما بعثني لكرامتي عليه ، فلما قدمت قلت: يا رسول الله ، أي الناس أحب إليك؟ فقال: عايشة . قلت: من الرجال؟ قال: أبوها . وهذا عليٌّ يطعن على أبي بكر وعمر وعثمان . وقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه ، وقال في عثمان: إن الملائكة لتستحي من عثمان ، وقد سمعت علياً وإلا فَصُمَّتا يروي على عهد عمر أن نبي الله نظر إلى أبي بكر وعمر مقبلين فقال: يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ، ما خلا النبيين منهم والمرسلين ، ولا تحدثهما بذلك فيهلكا !

فقال علي (علیه السلام) : العجب من طغاة أهل الشام حيث يقبلون قول عمرو ويصدقونه وقد بلغ من حديثه وكذبه وقلة ورعه أن يكذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد لعنه سبعين لعنة ، ولعن صاحبه الذي يدعو إليه في غير موطن ! وذلك أنه هجا رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقصيدة سبعين بيتاً فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : اللهم إني لا أقول الشعر ، فالعنه أنت وملائكتك بكل بيت لعنة تترى على عقبه إلى يوم القيامة !

ص: 133

ما لقيت من هذه الأمة من كذابها ومنافقها ! لكأني بالقراء الضعفة المجتهدين قد رووا حديثه وصدقوه فيه ، واحتجوا علينا أهل البيت بكذبه أنا نقول خير هذه الأمة أبو بكر وعمر ، ولو شئت لسميت الثالث . والله ما أراد بقوله في عايشة وأبيها إلا رضا معاوية!ولقد استرضاه بسخط الله! وأما حديثه الذي يزعم أنه سمعه مني ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لَيَعلم أنه كذب عليَّ يقيناً ، وإن الله لم يسمعه مني سراً ولا جهراً! اللهم العن عمرواً والعن معاوية بصدهما عن سبيلك، وكذبهما على كتابك، واستخفافهما بنبيك (صلی الله علیه و آله) ، وكذبهما عليه وعليَّ»

وفي شرح النهج:4/63: «إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (علیه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير.. وأما عمرو بن العاص، فروى عنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مسنداً متصلاً بعمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، إنما وليي الله وصالح المؤمنين !

وأما أبو هريرة ، فروى عنه الحديث الذي معناه أن علياً خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأسخطه ، فخطب على المنبر وقال: لاها الله! لا تجتمع ابنة ولى الله وابنة عدو الله أبي جهل! إن فاطمة بضعة منى يؤذيني ما يؤذيها ، فإن كان على يريد ابنة أبي جهل ، فليفارق ابنتي وليفعل ما يريد » .

وهذا يدل على أن عمرو العاص كان محترفاً للكذب ، وكان يؤكد ذلك بفجور !

ص: 134

4. وكان عمرو من نشأته حريصاً على أن يظهر بمظهر الفروسية والشجاعة ، كغيره من شباب المجتمع القرشي ، وقد شارك في حروب قريش ضد النبي (صلی الله علیه و آله) لكن لم يعهد عنه أنه برز الى أحد ، أو شارك في القتال بجدية في حرب من الحروب ، بل كان مناوراً يجنب نفسه القتال ، كصديقه خالد بن الوليد .

وكان صديقه معاوية أصغر منه سناً ، ورووا لهما حفلات لهو ، فقد كانا بعد وقعة أحُد يتغنيان بمقتل حمزة رضي الله عنه ، ويسخران بالنبي (صلی الله علیه و آله) !

قال الصحابي أبو برزة وغيره: «كنا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في سفر , فسمع رجلين في غرفة في ربوة يتغنيان وأحدهما يجيب الآخر ، وهو يقول:

تركت حوارياً تلوح عظامه *** زوى الحرب عنه أن يُجنَّ فيُقبرا

فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : أنظروا من هما ؟ قال: فقالوا: عمرو ومعاوية . فقال (صلی الله علیه و آله) : الّلهم اركسهما ركساً ، ودُعَّهما إلى النار دعّاً ».

وقد صححه بعض أئمة الحديث . أنظر: جزء أحاديث الشعر/95 ، للمقدسي ، ومسند أبي يعلى: 13 /429 ، والطبراني الكبير:11/38 ، والأوسط: 7/133 ، وابن أبي شيبة: 7/508 .

ومعنى البيت: افتخار المشركين بأنهم تركوا بعيراً في أحد ظاهرة عظامه ، وقد شغل الحرب المسلمين أن يدفنوه ، ويقصدون حمزة (رحمة الله) .

ومعنى الرَّكْسُ: قلبُ الشئ على رأْسه أَو ردُّ أَوله على آخره . والدَّعُّ: الدفع بدون احترام .

وفي الغارات:2/513: «بلغ علياً (علیه السلام) أن ابن العاص ينتقصه عند أهل الشام فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عجباً لاينقضي لابن النابغة ، يزعم لأهل الشام أن فيَّ دعابة ، وأني أمرؤٌ تلعابة ، أعافس وأمارس ، إنه والله يعلم لقد قال كاذباً ونزغ آثماً ، أما يشغله عن ذلك ذكر الموت وخوف الله والحساب؟

ص: 135

أما وشر القول الكذب ، إنه ليقول فيكذب ، ويعد فيخلف ، ويسأل فيلحف ، ويُسأل فيبخل ، وينقض العهد ويقطع الإلّ . فإذا كان عند البأس فزاجر وآمر ، ما لم تأخذ السيوف مآخذها من الهام ، فإذا كان ذلك فأكبر مكيدته أن يُمَرْقط ويمنح إسته ، قبحه الله وتَرَّحه » . وأمالي الطوسي/131

ولم أجد معنى يُمرقط، ولابد أن تكون بمعنى ينكص ويهرب . وقد تفرد بروايتها الثقفي ، وفي أكثر المصادر: فغاية مكيدته أن يمنح القِرْمَ سُبَّته ! أي إذا تفوق عليه من يبارزه كشف عورته أمامه ، ليغض بصره ويتركه ، فينجو من القتل !

وهذا أمر مشهور عن عمرو ، تكرر منه في مبارزته لعلي (علیه السلام) ، وعيَّره به معاوية ، وكفى به رداً على من ادعى له بطولة في الفتوحات !

قال في شرح النهج:6/317: «وروى الواقدي قال: قال معاوية يوماً بعد استقرار الخلافة له لعمرو بن العاص: يا أباعبد الله لا أراك إلا ويغلبني الضحك! قال: بماذا ؟ قال: أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفين ، فأزريت نفسك فرقاً من شبا سنانه وكشفت سوأتك له ! فقال عمرو: أنا منك أشد ضحكاً ، إني لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سحرك ، وربا لسانك في فمك ، وغصصت بريقك ، وارتعدت فرائصك ، وبدا منك ما أكره ذكره لك !

فقال معاوية: لم يكن هذا كله ، وكيف يكون ودوني عك والأشعريون ! قال: إنك لتعلم أن الذي وصفت دون ما أصابك ، وقد نزل ذلك بك ودونك عك والأشعريون ، فكيف كانت حالك لو جمعكما مأقط الحرب؟ فقال:يا أبا عبد الله خض بنا الهزل إلى الجد ، إن الجبن والفرار من عليٍّ لا عار على أحد فيهما » !

ص: 136

5. اعترف عمرو وزميله خالد بن الوليد أن سبب إسلامهما هو الطمع الدنيوي فقد قال كما في مجمع الزوائد ووثقه: (9/350):«لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق جمعتُ رجالاً من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني ، فقلت لهم: تعملون والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً ، وإني قد رأيت أمراً فما ترون فيه ؟ قالوا: وما رأيت؟ قلت: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد ! وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا ، فلن يأتينا منهم إلا خير . قالوا: إن هذا الرأي ».

ثم وصف عمرو كيف أن خالد بن الوليد وافقه على رأيه . لكنهما قررا أن يُسلما بعد عمرة القضاء في السنة السابعة ، وجاءا الى المدينة وأسلما .

6. ضخموا دور عمرو وزميله خالد مع النبي (صلی الله علیه و آله) في السنتين اللتين أسلما فيهما ،

وقد كشفنا ذلك في السيرة النبوية عند أهل البيت (علیهم السلام) ، فراجع ما كتبناه عن دور خالد في غزوة مؤتة ، ودور عمرو في غزوة ذات السلاسل .

7. وضخموا دور عمرو في فتوحات فلسطين ومصر ، واخترعوا له بطولات !

ونلاحظ أنه لا أثر له في معارك الردة ، في الدفاع عن المدينة ، ثم في معركة بزاخة مع طليحة الأسدي ، ولا في معركة اليمامة مع مسيلمة الكذاب ، ولا في معارك البحرين وعمان مع المرتدين، وكذا في فتح العراق وفارس .

ص: 137

ثم ننظر في معارك وفلسطين والشام ومصر فلا نجد له مبارزةً ولا قتالاً جاداً في أي منها ، بل نجد أنه والرواة معه اخترعوا معارك لاوجود لها ! وقد كان غائباً عن بعضها، وحاضراً في بعضها ، لكنه غير مقاتل ، ولاقائد ميداني !

قال البلاذري:1/130: «فأول وقعة كانت بين المسلمين وعدوهم بقرية من قرى غزة يقال لها دائن، كانت بينهم وبين بطريق غزة ، فاقتتلوا فيها قتالاً شديداً ، ثم إن الله تعالى أظهر أولياءه وهزم أعداءه وفض جمعهم ، وذلك قبل قدوم خالد بن الوليد الشام . وتوجه يزيد بن أبي سفيان في طلب ذلك البطريق فبلغه أن بالعربة من أرض فلسطين جمعاً للروم ، فوجه إليهم أبا أمامة الصديّ بن عجلان الباهلي فأوقع بهم ، وقتل عظيمهم ثم انصرف .

روى أبو مخنف في يوم العربة أن ستة قواد من قواد الروم نزلوا العربة ، في ثلاثة آلاف ، فسار إليهم أبو أمامة في كثف من المسلمين فهزمهم وقتل أحد القواد ، ثم اتبعهم فصاروا إلى الدبية وهي الدابية ، فهزمهم وغنم المسلمون غنماً حسناً..

كانت أول وقائع المسلمين وقعة العربة ولم يقاتلوا قبل ذلك مذ فصلوا من الحجاز . ولم يمروا بشئ من الأرض فيما بين الحجاز وموضع هذه الوقعة إلا غلبوا عليه بغير حرب ، وصار في أيديهم ».

أقول: لم يكن عمرو بن العاص ولا خالد في هذه الوقعة . وأبو أمامة إسمه صديُّ بن عجلان الباهلي رضي الله عنه ، وهو صحابي من خيرة شيعة علي (علیه السلام) .

فقد روى عنه محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين (علیه السلام) :1/545 ، بسنده أنه: «دخل على معاوية بن أبي سفيان فألطفه وأدناه ، ثم دعا بغداء فجعل يطعم أبا

ص: 138

أمامة بيده ، ثم أوسع رأسه ولحيته طيباً بيده ثم أمر له ببدرة دنانير فأتي بها فدفعها إليه ثم قال: يا أبا أمامة سألتك بالله ، أنا خير أم علي بن أبي طالب؟! فقال أبو أمامة: والله لا كذبت ، ولو بغير الله سألتني لصدقت، فكيف وسألتني بالله! عليٌّ والله خير منك وأكرم وأقدم هجرة ، وأقرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قرابة وأشد في المشركين نكاية وأعظم على المسلمين مِنَّةً، وأعظم غَنَاءً عن الأمة منك! يا معاوية أتدري ويلك مَن علي؟ ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين، وأبو الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، وابن أخي حمزة سيد الشهداء ، وأخو جعفر ذي الجناحين الطيار مع الملائكة في الجنة ، فأين تقع أنت من هذا يا معاوية ، أو ظننت أني سأخيِّرُك على علي بن أبي طالب بإلطافك وإطعامك ومالك، فأدخل إليك مؤمناً وأخرج عنك كافراً ! بئس ما سولت لك نفسك يا معاوية ! ثم نفض ثوبه وخرج من عنده . قال: فأتبعه معاوية بالمال فقال: والله لا أرزأ منه ديناراً أبداً ».

8. وجعلوا دور شرحبيل وخالد بن سعيد وغيرهم لابن العاص وابن الوليد ! قال الحموي في معجم البلدان:2/127: «وفتحت طبرية على يد شرحبيل بن حسنة في سنة13صلحاً على أنصاف منازلهم وكنائسهم، وقيل: إنه حاصرها أياماً ، ثم صالح أهلها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم إلا ما جلوا عنه وخلوه ، واستثنى لمسجد المسلمين موضعاً . ثم نقضوا في خلافة عمر ، واجتمع إليهم قوم من شواذ الروم فسير أبو عبيدة إليهم عمرو بن العاص في أربعة آلاف وفتحها على

ص: 139

مثل صلح شرحبيل . وفتحَ (شرحبيل) جميع مدن الأردن على مثل هذا الصلح ، بغير قتال... جرش.. وهو من فتوح شرحبيل بن حسنة في أيام عمر ».

وقال اليعقوبي:2/141: «وكان المتولي لذلك (صلح الأردن) شرحبيل بن حسنة».

وقال الحموي:4/311: «قَدَس: بالتحريك والسين المهملة أيضاً: بلد بالشام قرب حمص ، من فتوح شرحبيل بن حسنة ، وإليه تضاف بحيرة قدس ».

أما معركة أجنادين التي كانت سبب فتح فلسطين ، فكانت قيادتها مشتركة وكانت بطولتها للصحابي خالد سعيد بن العاص رضي الله عنه ، وهو من كبار شيعة علي (علیه السلام) . لكن الرواة جعلوا قيادتها وبطولتها لعمرو بن العاص !

لقد نص المؤرخون على أن أبا بكر أرسل الى بلاد الشام أربعة ، وأمَّر كل واحد منهم على جيشه ، وأمَّر عليهم إن اجتمعوا أبا عبيدة بن الجراح . فكان الجيش الأول بقيادة يزيد بن أبي سفيان ، الى البلقاء في الأردن ، وكان أول من خرج . والثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة ، الى الأردن ، وقصد في طريقه بُصرى في شرق سوريا . والثالث بقيادة أبي عبيدة الى الجابية قرب دمشق . والرابع بقيادة عمرو بنالعاص الى فلسطين ، وكان آخر الجيوش .

أما خالد بن سعيد بن العاص ، فكان القائد العام لجيوش الشام ، ثم أصرَّ عمر على أبي بكر أن يعزله فعزله وهو في الطريق ، فسلم الجيش ليزيد بن أبي سفيان ، وذهب مع شرحبيل بن حسنة ، وكان شرحبيل يحترمه ويعامله كقائده .

ص: 140

قال في الطبقات:4/98: «لما عزل أبو بكر خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة ، وكان أحد الأمراء فقال: أنظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثلما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه لو خرج والياً عليك ، وقد عرفت مكانه من الإسلام ، وأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) توفي وهو له وال ، وقد كنتُ وليتُه ثم رأيت عزله ، وعسى أن يكون ذلك خيراً له في دينه ، ما أغبط أحداً بالأمارة ! وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك على ابن عمه ، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وليكن خالد بن سعيد ثالثاً ، فإنك واجد عندهم نصحاً وخيراً. وإياك واستبداد الرأي عنهم ، أو تطوي عنهم بعض الخبر .

قال محمد بن عمر(وهو الواقدي): فقلت لموسى بن محمد: أرأيت قول أبي بكر قد اختارك على غيرك؟ قال: أخبرني أبي أن خالد بن سعيد لما عزله أبو بكر كتب إليه أي الأمراء أحب إليك؟فقال: ابن عمي أحب إليَّ في قرابته وهذا أحب إلي في ديني فإن هذا أخي في ديني على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وناصري على ابن عمي. فاستحب أن يكون مع شرحبيل بن حسنة ».

أقول: يقصد بابن عمه يزيد بن أبي سفيان . أما شرحبيل فهو بن المطاع الكندي صحابي عرف باسم أمه حسنة ، وهو من قبيلة غوث من كندة ، ولد في مكة وتحالف مع بني زهرة ، وأسلم وهاجر إلى الحبشة ، وكان فارساً صديقاً لخالد بن سعيد ، فاختار سعيد أن يكون معه ، فأعطاه قيادة الخيل ، ولعل خطط شرحبيل العسكرية كلها من خالد بن سعيد .

ص: 141

وكان هرقل يومها في حمص ، فأخذ يجمع الجيش لقتال المسلمين في أجنادين بفلسطين ، وتقع في منطقة الخليل قرب مدينة بيت جبرين .

قال البلاذري:1/135:ثم كانت وقعة أجنادين وشهدها من الروم زهاء مئة ألف سرَّب هرقل أكثرهم، وتجمع باقوهم من النواحي، وهرقل يومئذ مقيم بحمص». « واجتمعت الروم بأجنادين ، وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه ، وقيل كان على الروم القبقلار. والكامل: 2/417 ، وفتوح ابن الأعثم:1/113.

« فتوافت جنود المسلمين والروم بأجنادين ، فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، فظهر المسلمون وهزم الله المشركين ، وقتل خليفة هرقل » .(تاريخ الطبري: 2 /611).

وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق:16/66:«فحملت خيلهم على خالد بن سعيد ، وكان واقفاً في جماعة من المسلمين في ميمنة الناس يحرض الناس ويدعو الله عز وجل ثم ينقض عليهم فحملت طائفة منهم عليه فنازلهم فقاتلهم قتالاًشديداً».

واستبسل فيها أخوه أبان بن سعيد: «ورُمِيَ أبان بن سعيد بن العاص بنشابة فنزعها وعصبها بعمامته فحمله أخواه خالد بن سعيد وعمرو بن سعيد فقال: لا تنزعوا عمامتي عن جرحي ، فإنكم إذا انتزعتموها عن جرحي تبعتها نفسي ، أما والله ما أحب أنها بأقصى حجر من البلاد مكاني ، فلما نزعوا العمامة مات (رحمة الله) .. واستشهد من المسلمين طائفة..وانتهى خبر الوقعة إلى هرقل ، فنَخِبَ قلبه ومُلئ رعباً ، فهرب من حمص إلى أنطاكية ». (معجم البلدان:1/103) .

ص: 142

وفي التنبيه للمسعودي/248: «ولقيتهم الروم بأجنادين،ثم بمرج الصُّفَّر ، فهزموا وقتلوا قتلاً ذريعاً. وسار المسلمون إلى دمشق فنزلوا عليها(عادوا الى محاصرتها) وتوفي أبو بكر وهم محاصروها ، وكانت وفاته بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة13للهجرة ».

أقول: تكشف النصوص المتقدمة عن أن دور عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كان في أجنادين كغيرهما أو أقل ، فلم يسجل لهما الرواة ضربةً بسيف ولا طعنةَ برمح ، لكنهم مع ذلك جعلوا المعركة مرة لهذا ، ومرة لذاك !

ففي تاريخ دمشق:2/100: «كانت أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأميرها عمرو بن العاص ، ومعه خالد بن الوليد ، ويزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة».

وقال ابن عبد البر في الإستيعاب:1/64: «وكان بأجنادين أمراء أربعة: أبو عبيدة ابن الجراح ، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة كلٌّ على جنده. وقيل إن عمرو بن العاص كان عليهم يومئذ» .

واكتفى المتعصبون ب-«قيلَ» أو بقول عمرو ، أو بقول ابنه عبد الله الذي كان يفتخر بأبيه في بيت المقدس ! كما في تاريخ دمشق:2/102: «عن أبي العوام مؤذن بيت المقدس قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث في بيت المقدس يقول: شهدنا أجنادين ونحن يومئذ عشرون ألفاً وعلى الناس يومئذ عمرو بن العاص فهزمهم الله تعالى ، ففاءت فئة (من الروم ) إلى فحل في خلافة عمر، فسار إليهم في الناس عمرو بن العاص » .

ص: 143

أما المتعصبون لخالد بن الوليد ، فقالوا إن أجنادين معركة خالد ، ولاقائد غيره ولا بطل غيره ! قالت رواية البلاذري:1/135: «ثم كانت وقعة أجنادين، وشهدها من الروم زهاء مئة ألف سرَّب هرقل أكثرهم، وتجمع باقوهم من النواحى ، وهرقل يومئذ مقيم بحمص ، فقاتلهم المسلمون قتالاً شديداً ، وأبلى خالد بن الوليد يومئذ بلاءَ حسناَ ثم إن الله هزم أعداءه ».

وفي رواية البلاذري أيضاً:1/134: « إن خالد بن الوليد صار إلى غوطة دمشق ، ثم فرعها إلى ثنية ومعه راية بيضاء تدعى العقاب فبها سميت ثنية العقاب ، وصار إلى حوران ، فقصد مدينة بصرى فحاربهم ، فسألوه الصلح فصالحهم ، ثم صار إلى أجنادين وبها جمع للروم ، فحاربهم محاربة شديدة ، وتفرق جمع الكفرة » .

وقال ابن الأعثم:1/115: «ذكر وقعة أجنادين وهي أول وقعة لخالد بن الوليد مع الروم، قال:فأصبح خالد يوم السبت يعبي أصحابه فجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته سعيد بن عامر بن جديم ، وعلى جناح الميمنة يزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة على جناح الميسرة، وخالد بن سعيد بن العاص على الكمين، ثم جعل خالد بن الوليد نساء المسلمين من وراء الصفوف وأمرهن فاحتزمن وتشمرن وأخذن في أيديهن الحجازة ، وجعلن يدعون الله ويستنصرنه على أعداء المسلمين . قال: وجعل خالد بن الوليد لا يقر بمكان واحد ، ولكنه يقف على كتيبة كتيبة من المسلمين ويقول: إتقوا الله عباد الله ! وقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، ولا تنكصوا على أعقابكم..».

ص: 144

ثم لم تصف الرواية كيف قتال خالد للروم ، بل وصفت تقتيل خالد لأسراهم بعد هزيمتهم ، فقالت: «واحتوى المسلمون على غنائم الروم فجمعوها ، وقدم خالد من أسر منهم وهم يزيدون على ثمان مائة رجل ، فضرب أعناقهم صبراً ، وما أبقى على واحد منهم ».

وهكذا يلخصون المعركة بعبقريةٍ لابن العاص أو ابن الوليد ، لاترى أثرها ، أو بطولةٍ تسمع إسمها ولاتجد فعلها ، إلا قتل الأسرى المكتَّفين !

ولا ينفعهم أن يكون القائد العام للمعركة عمرو ، بعد أن وصفه الإمام علي (علیه السلام) : «فإذا كان عند البأس فزاجرٌ وآمر ، ما لم تأخذ السيوف مآخذها من الهام »!

ومن عجيب تعصبهم لخالد ، أن أبا بكر توفي بعد معركة أجنادين مباشرةً ، فكان أول مرسوم كتبه عمر بعزل خالد بن الوليد . لكن الرواة واصلوا رواية عبقرية خالد القيادية وبطولاته حتى وهو معزول ، وحتى وهو غائب .

ومن عجيب تعصبهم لابن العاص أنهم يروون حوله وعنه أنه كان دنيوياً لا دين له ، يتاجر بدماء المسلمين ويسرقهم ، ثم يمدحون بطولاته ومكره وكيده !

9. لفقدان عمرو البطولة الحقيقية اخترع لنفسه بطولات في المكر والدهاء فصرت تقرأ له قصصاً أسطورية عن مناوراته ودهائه ، كقصة ذهابه متنكراً الى الأرطبون ، الذي زعم أنه كان قائد جيش الروم في معركة أجنادين .

ففي الطبري:2/101: «وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غوراً وأنكاها فعلاً ، وقد كان وضع بالرملة جنداً عظيماً ، وبإيلياء جنداً عظيماً ، وكتب عمرو إلى عمر

ص: 145

بالخبر ، فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد رمينا أرطبون الروم وبأرطبون العرب ، فانظروا عم تتفرج » !

فذهب عمرو الى الأرطبون كأنه رسول من عمرو ، فاكتشفه أرطبون من فصاحته أنه هو عمرو بن العاص قائد جيوش المسلمين ، فأراد أن يقتله ، لكن عمرواً تخلص منه عمرو وقال له نحن عشرة قادة فصحاء أرسلنا عمر بن الخطاب مشاورين لولي الله عمرو بن العاص ، فأرسل معه شخصاً لآتيك بهم ، فأرسل معه شخصاً فتخلص منه ونجا ! «وعلم الرومي بأنه قد خدعه فقال: خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق، فبلغت عمر فقال: غلبه عمرو ، لله عمرو» !

ثم صار الأرطبون صديقاً لعمرو ، وكان يعلم المغيبات ، فأخبره أن الذي يفتح بيت المقدس هو عمر: «قال: صاحبها رجل إسمه عمر ثلاثة أحرف ، فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر ، وكتب إلى عمر يستمده ويقول: إني أعالج حرباً كؤداً صدوماً ، وبلاداً ادُّخِرَتْ لك ، فرأيك .

ولما كتب عمرو إلى عمرو بذلك عرف أن عمرواً لم يقل إلا بعلم ، فنادى في الناس ، ثم خرج فيهم حتى نزل بالجابية». (الطبري:3/103).

ثم ذكرت الأسطورة أن الأرطبون هذا ذهب الى مصر ، فكان في بلبيس يحرك المقوقس أن يقاتل المسلمين ولا يصالحهم ، وكان يعدهم بنصرة الروم لهم لكن عمرواً قاتلهم وانتصر عليهم ، وهرب الأرطبون ! (الطبري:3/198).

قال الدكتور حسن ابراهيم حسن في كتابه: تاريخ عمرو بن العاص/76:

ص: 146

«ذكر بطلر/ 215، أن لفظ أرطبون الذي يطلقه العرب على هذا القائد خطأ، والصحيح أريطيون». فترى هذا الدكتور يقبل أساطير عمرو، لم يوثِّق قصة أرطبون ولا قيادته التي زعمها لجيش الروم في أجنادين ، والمعروف أن قادة الجيش الرومي كانوا: أخ هرقل لأبيه وأمه ، وابنه ولي عهده ، وآخرون ليس فيهم أرطبون .

أما الواقدي فكأنه لم يعجبه إسم الأرطبون ، فجعله المقوقس ملك مصر! ونقل قصته (2/56) شبيهاً بقصة أرطبون عند الطبري وأن عمرواً ذهب اليه متنكراً ! ومما جاء فيها: «فلما سمعوا كلام عمرو وفصاحته وجوابه الحاضر قالوا بالقبطية للملك: إن هذا العربي فصيح اللسان جرئ الجنان ، ولا شك أنه المقدم على قومه وصاحب الجيش ، فلو قبضت عليه لانهزم أصحابه عنا . قال، وغلام عمرو وردان يسمع ذلك ، فقال الملك: إنه لا يجوز لنا أن نغدر برسول لا سيما ونحن استدعيناه الينا . فقال وردان بلسان آخر ما قالوه ، ففهم عمرو كلامه.. فقالوا..يا أخا العرب ما نظن أن في أصحابك من هو أقوى منك جناناً ولا أفصح منك لساناً . فقال عمرو:أنا ألكن لساناً ممن في صحابي ، ومنهم من لو تكلم لعلمت أني لا أقاس به.فقال الملك: هذا من المحال أن يكون فيهم مثلك. فقال: إن أحب الملك أن آتيه بعشرة منهم يسمع خطابهم؟ فقال الملك: أرسل فاطلبهم.فقال عمرو: لا يأتون برسالة ، وإنما إن أراد الملك مضيت وأتيت بهم. فقال الملك لوزرائه: إذا حضروا قبضنا عليهم ، والأحد عشر أحسن من الواحد ووردان يفهم ذلك . ثم إن الملك قال لعمرو: إمض ولا تبطئ عليَّ ، فوثب عمرو قائماً وركب جواده ، فقال الملك بالقبطية: لأقتلنهم أجمعين . فلما خرج

ص: 147

من مصر قال له وردان ما قاله الملك، فلما وصل إلى الجيش أقبلت الصحابة وسلموا عليه وهم يقولون:والله يا عمرو لقد ساءت بك الظنون، فأقبل يحدثهم بما وقع له معهم ، وبما قالوه وبما قاله وردان ، فحمدوا الله على سلامته».

10. وبلغ عمرو أوج كذبه في أسطورة الملكة العروس أرمانوسة بنت المقوقس!

تقرأ في الواقدي(2/43) أسطورة أخرى عن لسان البطل الداهية عمرو بن العاص ، بأنه أغار على موكب الملكة أرمانوسة بنت الملك المقوقس ، وكانوا يزفونها الى زوجها ابن هرقل، ويحرسها جيش من عشرة آلاف مقاتل وأكثر فغنمها عمرو ، ومن معها وما معها ، ثم تفضل وأرجعها الى أبيها ، فأسلمت !

قال الواقدي(2/44): «كان فلسطين بن هرقل قد تزوج بابنة المقوقس أرمانوسة وكان قد جهزها أبوها وأرسلها مع غلمانها وأموالها إلى بلبيس ، ثم إنها وجهت حاجبها تميلاطوس إلى الفرماء في ألفي فارس ، لحفظ ذلك المكان..

وأتوا إلى عسكر أرمانوسة وإذا به عسكر كبير أكثر من عشرة آلاف .. أنفذت (أرمانوسة) كتاباً إلى أبيها المقوقس تعلمه بذلك وأنها مغلوبة معهم وأن العرب متوجهون مع رجل يقال له عمرو بن العاص ، وأنا منتظرة جوابك .

قال: فلما وصل الكتاب اليه دعا أرباب دولته وقال لهم: قد تم من الأمر علي كذا وكذا ، فما تشيرون به علي؟ قالوا: أيها الملك نرى لك من الأمر أن تنفذ جيشاً إلى الملكة ينصرها على عدوها ، وتنفذ إلى جلباب ملك البرية تستنصر به على هؤلاء العرب ، وتنفذ إلى مازع بن قيس ملك البجاوة ينفذ لك جيشاً ،

ص: 148

وتنفذ إلى من بالإسكندرية يأتون ، والى من بالصعيد يأتون ، فإذا اجتمعت إليك هذه الأمم فالق بهم العرب ، ولا تأمن لهم فيطمعوا فيك .

فقال: يا أهل دين النصرانية إعلموا أن الملك محتاج إلى سياسة ، ومن ملك عقله ملك رأيه ، ومن ملك رأيه أمن من حوادث دهره ، وليست الغلبة بالكثرة وانما هي بحسن التدبير ، والله لقد كان قيصر أكثر مني جنداً وأوسع بلاداً وأعظم عدة ، وقد جمع من بلاد الروم إلى اليونانية ، ومن أقاليمه ومن القسطنطينية ومن سائر البلاد ، وبلاد الأندلس واستنصر بنا وبغيرنا ، فما أغنى عنه جمعه شيئاً ، ولا قدر أن يرد القضاء والقدر عنه...

قال: فترك عمرو بن العاص الأثقال ومعها من يحفظها ، وركب وسار بجرائد الخيل وترك مع الأثقال عامر بن ربيعة العامري... فما كان قبل طلوع الفجر... ووضعوا السيف في القبط ، فما طلعت الشمس إلا وقد قتل من القبط أكثر من ألف ، وأسر منهم خلق كثير ، وولى الباقي منهزمين ، وأخذت أرمانوسة ابنة الملك وجميع ما معها من الأموال والرجال والجواري والغلمان .

فقال عمرو بن العاص لأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) :إن الله سبحانه وتعالى قد قال: هل جزاء الإحسان ، وهذا الملك قد علمتم أنه كاتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وبعث هدية ، ونحن أحق بمن كافأ عن نبيه (صلی الله علیه و آله) هديته، وقد رأيت أن ننفذ إلى المقوقس ابنته وما أخذنا معها..فاستصوبوا رأيه ، فبعث بها مُكَرَّمةً مع جميع ما معها ...قال الواقدي: وأسلمت أرمانوسة ومن كان يلوذ بها ».

ص: 149

وغرض هذه الأسطورة إثبات بطولة عمرو العاص بأنه واجه عشرة آلاف جندي وأكثر ! بمجموعة قليلة من الفرسان ، فقتل منهم ألفاً وانتصر عليهم !

ولم يقل عمرو العاص هل كان هؤلاء الجنود من الروم ، وقد انسحبوا من مصر ؟ أم كانوا من الأقباط ولم يكن عندهم جيش منظم ؟! أو من الملائكة !

ثم تريد الأسطورة إثبات أن عمرو مؤمنٌ ونبيل ، فقد أطلق ابنة المقوقس ، ليشكر المقوقس ويردَّ له احترامه للنبي (صلی الله علیه و آله) وهديته له !

11. ونسبوا الى عمرو قصة اليمامة التي باضت على فسطاطه ليقولوا كان نبيلاً! قال الحموي في معجم البلدان:4/263: «وذكر يزيد بن أبي حبيب أن عدد الجيش الذين شهدوا فتح الحصن خمسة عشرألفاً وخمس مائة ، وقال عبد الرحمن بن سعيد بن مقلاص: إن الذين جرت سهامهم في الحصن من المسلمين اثنا عشر ألفاً وثلاث مائة بعد من أصيب منهم في الحصار بالقتل والموت ، وكان قد أصابهم طاعون ، ويقال إن الذين قتلوا من المسلمين دفنوا في أصل الحصن .

فلما حاز عمرو ومن معه ما كان في الحصن ، أجمع على المسير إلى الإسكندرية فسار إليها في ربيع الأول سنة20 ، وأمر عمرو بفسطاطه أن يقوض فإذا بيمامة قد باضت في أعلاه فقال: لقد تحرمت بجوارنا ، أقروا الفسطاط حتى تنقف (تخرج من البيضة) وتطير فراخها ، فأقر فسطاطه ووكل به من يحفظه أن لا تهاج ، ومضى إلى الإسكندرية وأقام عليها ستة أشهر ، حتى فتحها الله عليه».

أقول: لا شك أنه يوجد في المسلمين أهل نبل ووجدان ديني رفيع ، وأصحاب قلوب شفافة ، يصدر منها أمثال هذا العمل ، وقد كان في الثلاثة آلاف أو أربعة آلاف الذين دخلوا مصر مع عمرو, من هم أهل لأن يصدر منهم هذا الفعل .

ص: 150

لكن الكلام في نسبته الى عمرو بن العاص ، لأنه لاينسجم مع شخصيته وتاريخه ولا مع حصاره لذلك الحصن القبطي ، وقتل أهله ونهبه !

على أنه لم يثبت حصول أي مقاومة أو معركة للمسلمين مع المصريين .

12. وكل المعارك في فتح مصر من مكذوباتهم ، لأنها فتحت صلحاً بلا قتال! فقد اخترع عمرو واخترعوا له معارك وبطولات في فتح مصر، مع أنه لم تكن فيه أي معركة على الإطلاق ! فلم يكن في مصر جيش رومي لأنهم سحبوا قواتهم الى فلسطين وسوريا والقسطنطينة ، والذين بقوا من الروم في مصركانوا سكاناً أو موظفين لامقاتلين . أما أهل مصر الأقباط فقد قرروا أن يصالحوا المسلمين ولا يحاربوهم ، وقد تحملوا لذلك غضب هرقل .

إن حقيقة فتح مصرأن عمرواً دخلها في ثلاثة آلاف وخمس مئة رجل ، فاستقبله ملكها المقوقس ووقَّع معه عهد الصلح على أن يدفع مبلغاً فعلاً ، ويدفع عن كل مصري دينارين في السنة، وتم ذلك بدون ضربة سيف ولاسوط وحكم المسلمون مصر بدل الروم ، وأخذوا يديرونها ، ويأتون اليها للسكنى .

وقد ذكرنا الأدلة على ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب ، وأن كل ما ادعاه عمرو العاص ورواته من معارك ، مكذوب مخترع من أصله !

ومن هذه المعارك المزعومة:

أ.«فقدم عمرو بن العاص، فكان أول موضع قوتل فيه الفرما ، قاتلته الروم قتالاً شديداً نحواً من شهر ، ثم فتح الله على يديه ». (فتوح مصر وأخبارها/134).

ص: 151

ب.«أتى أم دنين فقاتلوه بها قتالاً شديداً ، وأبطأ عليه الفتح فكتب إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف فقاتلهم». (فتوح مصر وأخبارها/136).

ج.«أن عمرو بن العاص حصرهم بالقصر الذي يقال له باب اليون حيناً، وقاتلهم قتالاً شديداً يصبِّحهم ويُمَسِّيهم، فلما أبطأ عليه الفتح كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده ويعلمه بذلك ، فأمده بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم رجل ، وكتب إليه عمر بن الخطاب: إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم رجل مقام الألف:الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ، ومسلمة بن مخلد... وقال آخرون بل خارجة بن حذافة الرابع ، لا يعدون مسلمة ، وقال عمر بن الخطاب: إعلم أن معك اثنا عشر ألفاً ولا تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة ». (فتوح مصر وأخبارها/138).

وقد تقدمت رواية الطبري أنهم فتحوا باب الحصن، وخرجوا اليهم مصالحين.

د. «لما حاصروا باب اليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم بها شهراً، فلما رأى القوم الجد منهم على فتحه والحرص، ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط وخرجوا من باب القصر القبلي». (فتوح مصر وأخبارها/136).

ه. «ثم التقوا بسلطيس فاقتتلوا بها قتالاً شديداً ، ثم هزمهم الله .ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا بها بضعة عشر يوماً. وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة ، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو». (فتوح مصر وأخبارها/156).

ص: 152

ومما يوجب الشك في هذه المعارك أنه روي ما يضادها ، وأن روايتها لاتذكر صورة عن جانب أو حدث منها، ولا تسمي أحداً قتل فيها ، من المسلمين أو غيرهم !

13. واستطاب عمرو طعم خراج مصر ، فخوَّنه عمر وصادر نصف أمواله ! ففي فتوح مصر وأخبارها/173: «لما فتح عمرو بن العاص مصر، صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط ، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ، ليس فيهم امرأة ولا صبي ولا شيخ ، على دينارين دينارين ، فأحصوا ذلك فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف ».

وفي معجم البلدان(4/263): «وكان الذي انعقد عليه الصلح أن فرض على جميع من بمصر ، أعلاها وأسفلها ، من القبط ، ديناران على كل نفس في السنة من البالغين ، شريفهم ووضيعهم ، دون الشيوخ والأطفال والنساء. وعلى أن للمسلمين عليهم النزول حيث نزلوا ثلاثة أيام ، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعترضون في شئ منها ، وكان عدد القبط يومئذ أكثر من ستة آلاف ألف نفس والمسلمون خمسة عشر ألفاً ».

وفي معجم البلدان(5/141): «وكان المقوقس قد تضمن مصر من هرقل بتسعة عشر ألف ألف دينار ، وكان يجبيها عشرين ألف ألف دينار ، وجعلها عمرو بن العاص عشرة آلاف ألف دينار أول عام ، وفي العام الثاني اثني عشر ألف ألف ، ولما وليها في أيام معاوية جباها تسعة آلاف ألف دينار ، وجباها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار» .

وهذا يدل على أن مجموع سكان مصر من الأقباط ، كان بضعة عشر مليوناً .

ص: 153

وفي شرح النهج:1/174: «وروى الزبير بن بكار قال: لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر، بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق وصامت ، فكتب إليه: أما بعد ، فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك ، ولا كان لك مال قبل أن أستعملك ، فأنى لك هذا ! فوالله لو لم يهمني في ذات الله إلا من أختان في مال الله لكثر همى وانتثر أمري ، ولقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك ولكني قلدتك رجاء غنائك ، فاكتب إليَّ من أين لك هذا المال ، وعجل .

فكتب إليه عمرو: أما بعد ، فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين ، فأما ما ظهر لي من مال فإنا قدمنا بلاداً رخيصة الأسعار كثيرة الغزو ، فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها ، ووالله لو كانت خيانتك حلالاً ما خنتك وقد ائتمنتني . فإن لنا أحساباً إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك .

وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير منى ، فإذا كان ذاك فوالله ما دققت لك يا أمير المؤمنين باباً ، ولا فتحت لك قفلاً .

فكتب إليه عمر: أما بعد، فإني لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شئ ، ولكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال ولن تعدموا عذراً ، وإنما تأكلون النار وتتعجلون العار ! وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة ، فسلم إليه شطر مالك . فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاماً ودعاه فلم يأكل ، وقال هذه تقدمة الشر، ولو جئتني بطعام الضيف لأكلت ، فنح عنى طعامك ، وأحضر لي مالك ، فأحضره ، فأخذ شطره . فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال: لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر، والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما

ص: 154

عباءة قطوانية ، لا تجاوز مأبض ركبتيه ، وعلى عنقه حزمة حطب ، والعاص بن وائل في مزررات الديباج. فقال محمد: إيهاً عنك يا عمرو ! فعمر والله خير منك ، وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار ، ولولا الإسلام لألفيت معتلفاً شاة ، يسرك غزرها ، ويسوءك بكؤها. قال: صدقت ، فاكتم عليَّ .قال: أفعل ».

وفي أنساب الأشراف للبلاذري:1/258: «لما قاسم محمد بن مسلمة عمرو بن العاص قال عمرو: إن زماناً عاملنا فيه ابن حنتمة هذه المعاملة لزمان سوء . لقد كان العاص يلبس الخز بكفاف الديباج . فقال محمد: مه ! لولا زمان ابن حنتمة هذا الذي تكرهه ألفيت معتقلاً عنزاً بفناء بيتك يسرك غزرها ويسوءك بكؤها. قال: أنشدك الله أن لا تخبر عمر بقولي فإن المجالس بالأمانة . فقال: لا أذكر شيئاً مما جرى بيننا وعمر حي». والغَزْر: غزارة الحليب . والبكأ: شحة الحليب .

وفي الوافي(5/20) أن عمرواً حاول أن يرشو محمد بن مسلمة، فلم يقبل!

14. وأحرق سعد كتب الفرس وأحرق عمرو مكتبة الإسكندرية ، بأمر عمر! فقد روى ذلك المؤرخون وحاول بعضهم نفيه، لكن علماء الوهابية افتخروا به ! قال ابن خلدون في تاريخه:1/480: « ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتباً كثيرة ، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين ، فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء ، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه ، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله ! فطرحوها في الماء أو في النار ، وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا .

ص: 155

وأما الروم فكانت الدولة منهم اليونان أولاً ، وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب ، وحملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة وغيرهم ، واختص فيها المشاؤون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم ، كانوا يقرأون في رواق يظلهم من الشمس والبرد على ما زعموا ، واتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدن، ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ، ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفردوسي وتامسطيون ، وغيرهم ، وكان أرسطو معلماً للإسكندر ملكهم الذي غلب الفرس على ملكهم وانتزع الملك من أيديهم ، وكان أرسخهم في هذه العلوم قدماً وأبعدهم فيه صيتاً ، وكان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر .

ولما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة ، وأخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها ، وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدة باقية في خزائنهم ، قد ملكوا الشام وكتب هذه العلوم باقية فيهم ، ثم جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له ، وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم، وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة عن الصنائع ، حتى إذا تبحبح من السلطان والدولة وأخذ الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم ، وتفننوا في الصنائع والعلوم تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية ، بما سمعوا من الأساقفة والأقسسة المعاهدين بعض ذكر منها ، وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث

ص: 156

إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطبيعيات فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها، وازدادوا حرصاً على الظفر بما بقي منها.

وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله ، فانبعث لهذه العلوم حرصاً ، وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي ، وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب ، وعكف عليها النظار من أهل الإسلام ، وحذقوا في فنونها ، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها، وخالفوا كثيراً من آراء المعلم الأول ، واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنده ، ودونوا في ذلك الدواوين ، وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم. وكان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي ، وأبو علي بن سينا بالمشرق ، والقاضي أبو الوليد بن رشد ، والوزير أبو بكر بن الصائغ بالأندلس ، إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم، واختص هؤلاء بالشهرة والذكر ، واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم ، وماينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات ، ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على مسلمة بن أحمد المجريطي ، من أهل الأندلس وتلاميذه». ورواه في كشف الظنون:1/679 .

وقد ألف الشيخ ناصر بن حمد الفهد وهو من علماء الوهابية كتاباً للدفاع عن فعل عمر سماه: إقامة البرهان على وجوب كسر الأوثان .

وألف الشيخ سفر الحوالي الوهابي كتاباً باسم:ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي، وزعم في (2/41) أن قوله تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً. يدل على وجوب إحراق هذه الكتب! لكن

ص: 157

الآية لا علاقة لها بالموضوع ! قال الحوالي: «فهذه الآية نسفت كل النظريات والفلسفات المخالفة للوحي ، الكوني منها والإنساني ، ووسمت أصحابها باسم المضلين، وما كانوا دائماً إلا كذلك ، وعلى هذا المنهج سار عمر بن الخطاب -نفسه فإنه لما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة ، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين...وعليه كذلك كان موقف أئمة الإسلام وعلماء الملة ، كالأئمة الأربعة ووكيع وابن المبارك والسفيانين والفضيل، وغيرهم ممن سبقهم أو لحقهم . وعلى هذا ثبتت الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة في كل العصور، فقد تعرضت كتب الفلسفة والمنطق للحرق والمصادرة في عصور متعاقبة ، ولاحقها علماء الإسلام بالفتاوى المدمرة ».

أقول: هناك فرق في الموقف من الكتب التي تتضمن أفكاراً مخالفة للإسلام ، بين مذهب أهل البيت (علیهم السلام) ومذهب الخلافة القرشية ، وقد تمسكت الخلافة بموقف عمر بن الخطاب وحكمه بوجوب حرقها وإتلافها ومعاقبة الذين يدرسونها .

بينما يرى مذهب أهل البيت (علیهم السلام) بأن ملاك الحكم فيها هو سوء الإستفادة منها والإضرار بالمسلمين، ولهذا أفتوا بجواز اقتنائها ودراستها لنقد ما فيها من مخالفات . وقد بحثوا حكمها في كتب الفقه تحت عنوان: كتب الضلال .

15. ونقض عمرو عهد الصلح مع أهل مصر وزعم أن بعضهم استنصر بالروم ! قال عمرو بن العاص وإعلام السلطة إن أهل الإسكندرية نقضوا عهد الصلح مع المسلمين ، ودعوا الروم فبعث لهم هرقل ثلاث مئة مركب ، وقاتلوا المسلمين ليخرجوهم من مصر ، ويعيدوها الى حكم الروم !

ص: 158

وادعى عمرو مجيئ جيش الروم الى الإسكندرية ، وجعله حجةً لمهاجمة قرى الإسكندرية ومدينتها ، فهاجمها ونهبها وسباها وهدم سورها !

وقال عمرو إنها كانت معركة كبرى كان هو بطلها ، ولم تذكر رواية منها أنه شارك في قتال ، بل ذكرت رواية أن فرسه أصيب بسهم .

وعندما تدقق في النصوص والمصادر تجد أن الذي نقض عهد الصلح هو عمرو، حيث رفع مبلغ الصلح المتفق عله ، وجعله متغيراً كل سنة حسب رأيه !

ثم تجد أن الخليفة عثمان نفى أن يكون أهل مصر نقضوا الصلح أو استنصروا بالروم ، وأمر عمرواً بإرجاع الأموال التي نهبها وبإطلاق السبايا من النساء والأطفال الذين استرقهم ! وفيما يلي رواية عمرو ، ثم ما ينقضها .

قالت رواية السيوطي في المواعظ والإعتبار:1/209: «وكانت الإسكندرية انتقضت وجاءت الروم عليهم منويل الخصيّ في المراكب ، حتى أرسوا بالإسكندرية فأجابهم من بها من الروم ، ولم يكن المقوقس تحرّك ولا نكث . وقد كان عثمان عزل عمرو بن العاص وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فلما نزلت الروم سأل أهل مصر عثمان أن يقرّ عمراً حتى يفرغ من قتال الروم ، فإن له معرفة بالحرب وهيبة في العدوّ ففعل .

وكان على الإسكندرية سورها فحلف عمرو بن العاص: لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها ، حتى تكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان ، فخرج إليهم عمرو في البرّ والبحر فضموا إلى المقوقس من أطاعه من القبط ، وأمّا الروم فلم يطعه منهم أحد فقال خارجة بن حذافة لعمرو: ناهضهم قبل أن يكثر مددهم

ص: 159

فلا آمن أن تنتقض مصر كلها. فقال عمرو: لا ، ولكن أدعهم حتى يسيروا إليّ فإنهم يصيبون من مرّوا به فيخزي الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى ، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها ويأكلون أطعمتها وينتهبون ما مروا به ، فلم يتعرّض لهم عمرو حتى بلغوا نفيوس ، فلقوهم في البرّ والبحر فبدأت الرومُ القبطَ ، فرموا بالنشاب في الماء رمياً شديداً ، حتى أصابت النشاب يومئذِ فرس عمرو في لبته وهو في البر فعقر فنزل عنه عمرو . ثم خرجوا من البحر فاجتمعوا هم والذين في البرّ فنفحوا المسلمين بالنشاب فاستأخر المسلمون عنهم شيئاً ، وحملوا على المسلمين حملة ولى المسلمون منها وانهزم شريك بن سميّ في خيله ، وكانت الروم قد جعلت صفوفاً خلف صفوف. وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب ، فدعا إلى البراز فبرز إليه رجل من زبيد يقال له: حومل يكنى أبا مذحج فاقتتلا طويلاً برمحين يتطاردان ، ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف فألقى حومل رمحه وأخذ سيفه ، وكان يعرف بالنجمة ، فجعل عمرو يصيح: أبا مذحج فيجيبه: لبيك ، والناس على شاطئ النيل في البر على تعبيتهم وصفوفهم ، فتجاولا ساعة بالسيف ثم حمل عليه البطريق فاحتمله ، وكان نحيفاً فاخترط حومل خنجراً كان في منطقته أو في ذراعه ، فضرب به نحر العلج أو ترقوته ، فأثبته ووقع عليه ، فأخذ سلبه ثم مات حومل بعد ذلك بأيام فرؤي عمرو يحمل سريره بين عمودي نعشه حتى دفنه بالمقطم .

ص: 160

ثم شدّ المسلمون عليهم فكانت هزيمتهم فطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية ففتح اللّه عليهم ، وقتل منويل الخصي ، وقتلهم عمرو حتى أمعن في مدينتهم ، فكلم في ذلك فأمر برفع السيف عنهم ، وبنى في ذلك الموضع الذي رفع فيه السيف مسجداً وهو المسجد الذي بالإسكندرية الذي يقال له مسجد الرحمة ، سُمي بذلك لرفع عمرو السيف هناك . وهدم سورها كله وجمع ما أصاب منهم ، فجاءه أهل تلك القرى ممن لم يكن نقض فقالوا: قد كنا على صلحنا ، وقد مرّ علينا هؤلاء اللصوص فأخذوا متاعنا ودوابنا ، وهو قائم في يديك ، فردّ عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه ، وأقاموا عليه البينة ، وقال بعضهم لعمرو: ما حلّ لك ما صنعت بنا ، كان لنا أن تقاتل عنا لأنا في ذمّتك ولم ننقض ، فأما من نقض فأبعده الله !فندم عمرو وقال: يا ليتني كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية ».

وقالت رواية البلاذري:1/260: «ثم إن عمرو بن العاص استخلف على الإسكندرية عبد الله بن حذافة.. في رابطة من المسلمين وانصرف إلى الفسطاط. وكتب الروم إلى قسطنطين بن هرقل، وهو كان الملك يومئذ ، يخبرونه بقلة من عندهم من المسلمين وبما هم فيه من الذلة وأداء الجزية . فبعث رجلاً من أصحابه يقال له منويل في ثلاث مئة مركب مشحونة بالمقاتلة . فدخل الإسكندرية وقتل من بها من روابط المسلمين إلا من لطف للهرب فنجا ، وذلك في سنة خمس وعشرين . وبلغ عمرواً الخبر فسار إليهم في خمسة عشر ألفاً فوجد مقاتلتهم قد خرجوا يعيثون فيما يلي الإسكندرية من قرى مصر. فلقيهم

ص: 161

المسلمون فرشقوهم بالنشاب ساعة والمسلمون متترسون،ثم صدقوهم الحملة فالتحمت بينهم الحرب ، فاقتتلوا قتالاً شديداً . ثم إن أولئك الكفرة ولوا منهزمين ، فلم يكن لهم ناهية ولا عرجة دون الإسكندرية فتحصنوا بها ونصبوا العرادات ، فقاتلهم عمرو عليها أشد قتال ونصب المجانيق فأخرب جدرها ، وألح بالحرب حتى دخلها بالسيف عنوة فقتل المقاتلة وسبى الذرية، وهرب بعض رومها إلى الروم ، وقتل عدو الله منويل . وهدم عمرو والمسلمون جدار الإسكندرية ، وكان عمرو نذر لئن فتحها ليفعلن ذلك ».

أقول:هذا ما رووه ، لكن توجد رواية ترد على النقاط الأساسية في هذه الرواية ، رواها عامة المؤرخين ، منهم المقريزي في المواعظ والإعتبار:1/210، قال: «وكان سبب نقض الإسكندرية هذا أن «طلما » صاحب إخنا ، قدم على عمرو فقال: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصير لها؟ فقال عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك ! إنما أنتم خزانة لنا ، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم ! فغضب صاحب إخنا وخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله تعالى وأُسر، فأتي به إلى عمرو فقال له الناس: أقتله فقال:لا بل إنطلق فجئنا بجيش آخر! وسوَّره وتوَّجه وكساه برنس، فرضي بأداء الجزية،فقيل له:لو أتيت ملك الروم؟فقال:لو أتيته لقتلني وقال:قتلت أصحابي».

فالذي نقض عهد الصلح هو عمرو بسياسته الظالمة مع أهل مصر ، فقد كان يزيد على الخراج المقرر وهو ديناران عن كل بالغ ، ما عدا الصغار والنساء والشيوخ ، وكان

ص: 162

لا يخبرهم بقدر ما يريد منهم حتى يأتي الموسم فيعلن مقرراته لهذه السنة ، فلما سأله رئيس الأقباط في إخنا عن مقدار الجزية في تلك السنة لم يخبره وقال كلمة سيئة: إنما أنتم خزانة لنا، نأخذ منها حسب حاجتنا ورغبتنا ! فغضب رئيس إخنا ، قيل استنصر بالروم وأتى بجيش هرقل ، فهزمهم عمرو ، وقتلهم جميعاً ، وأسر الإخنوي !

وقد ذكر المؤرخون بنود عهد الصلح الذي يظهر بوضوح أنه عمرواً نقضه ! منهم ابن تغري في النجوم الزاهرة:1/20: «قال عبيد الله بن أبي جعفر: حدثني رجل ممن أدرك عمرو بن العاص قال: للقبط عهد عند فلان ، وعهد عند فلان ، فسمى ثلاثة نفر . وفي رواية أن عهد أهل مصر كان عند كبرائهم ، قال: وسألت شيخاً من القدماء عن فتح مصر ، قلت له: فإن ناساً يذكرون أنه لم يكن لهم عهد ، فقال: ما يبالي ألا يصلي من قال إنه ليس لهم عهد! فقلت: فهل كان لهم كتاب؟ فقال: نعم ، كتب ثلاثة: كتاب عند طلما صاحب إخنا ، وكتاب عند قزمان صاحب رشيد ، وكتاب عند يحنس صاحب البرلس.قلت:كيف كان صلحهم؟ قال: دينارين على كل إنسان جزية ، وأرزاق المسلمين. قلت: أفتعلم ما كان من الشروط؟ قال: نعم ، ستة شروط: لا يُخرجون من ديارهم، ولاتنزع نساؤهم ، ولا أولادهم، ولا كنوزهم ، ولا أراضيهم ، ولا يزاد عليهم . وكان فتح مصر يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين من الهجرة». والأموال للقاسم بن سلام: 1/366، والأربعون البلدانية لابن عساكر:1/124، ومعجم البلدان للحموي:/77، وفتوح مصر وأخبارها /270 ،و 302 ، وحسن المحاضرة في أخبار مصرللسيوطي/57 .

ص: 163

ولم يثبت أن طَلْمَا صاحب إخنا ذهب الى الروم أو استعان بهم، نعم قد يكون قاوم بجماعته مأموري عمرو لجمع الخراج ، بالروم فقاتله المسلمون وأسروه. ثم ادعى عمرو أنه استعان بالروم فهاجم إخنا والإسكندرية وقراها واستباحها وسباها !

وقد كشفت بعض المصادر مكيدة عمرو فقال ابن العماد في شذرات الذهب:1/36: «وسبب العزل أنه غزا الإسكندرية ، ظاناً نقض العهد ، فقتل وسبى . ولم يصح عند عثمان نقضهم للعهد ، فأمر برد السبي وعزله ، فاعتزل عمرو في ناحية فلسطين ، وكان ذلك بدء المخالفة» .

وقال في شرح النهج:6/320: «قال أبو عمر: ثم إن عمرو بن العاص ادعى على أهل الإسكندرية أنهم قد نقضوا العهد الذي كان عاهدهم ، فعمد إليها فحارب أهلها وافتتحها ، وقتل المقاتلة وسبى الذرية ، فنقم ذلك عليه عثمان ، ولم يصح عنده نقضهم العهد ، فأمر برد السبي الذي سبوا من القرى إلى مواضعهم ، وعزل عمراً عن مصر، وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري مصر بدله ، فكان ذلك بدو الشر بين عمرو بن العاص وعثمان بن عفان ، فلما بدا بينهما من الشر ما بدا ، اعتزل عمرو في ناحية فلسطين بأهله ، وكان يأتي المدينة أحياناً . فلما استقر الأمر لمعاوية بالشام ، بعثه إلى مصر بعد تحكيم الحكمين فافتتحها، فلم يزل بها إلى أن مات أميراً عليها في سنة ثلاث وأربعين».

لاحظ قوله: «فأمر برد السبي الذي سبوا من القرى إلى مواضعهم» لتعرف أن مكيدة عمرو كانت طمعاً بأموال الإسكندرية ، وأنه سبي بناتهم وصبيانهم !

ص: 164

ولا بد أنه نهب الملايين في تلك الحملة التي سماها جهاداً وفتحاً ، وسبى الألوف من نسائهم وصبيانهم ، فباع أكثرهم ، وعندما انكشف أمره أرجع أقلهم !

ومما يوجب الشك في مجيئ أي قوات من الروم الى مصر في عهد عمرو ، أن روايات المعركة تضمنت أوصاف قوات معركة ذات الصواري التي وقعت بعد عشر سنين ، مما يدل على أن الرواة أسقطوها عليها ، ولم يكن فيها عمرو بن العاص بل قادها محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة رضي الله عنهما.

ثم تجد التفاوت في روايات القصة في المراكب الرومية ، التي زعم ابن العاص أنها كانت ثلاث مئة مركب مشحونة بالمقاتلة ، فذكرت رواية البلاذري أنهم دخلوا الإسكندرية وقتلوا المرابطين المسلمين ، إلا من لطف للهرب فنجا .

لكن رواية ابن خلدون: (1/126) تقول: «ونزلوا بساحل الإسكندرية لمنعهم المقوقس من الدخول إليه».

ورواية نهاية الإرب(19/407) تقول: «فانهزم الروم ، وتبعهم المسلمون إلى أن أدخلوهم الإسكندريّة».

وتؤيدها رواية السيوطي في (حسن المحاضرة/57) قالت: «ثم شد المسلمون عليهم ، فكانت هزيمتهم . فطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية».

إن عدد جيش الروم المزعوم حسب الرواية نحو ثلاثين ألف جندي ، لأن معدل المركب العادي مئة مقاتل.(مروج الذهب:1/205) .

فكيف يعقل أن يكون عمرو قاتل ثلاثين ألف جندي رومي بقليل من المسلمين وقتلهم كلهم كما تقول الرواية ، أو يكون ألجأهم الى دخول الإسكندرية ، أو

ص: 165

يكونوا نزلوا خارج الإسكندرية وانتظروا هم والمسلمون حتى أرسل أهل مصر الى عثمان يطلبون منه أن يطلب من عمرو دفع ذلك الجيش ، فجاء عمرو البطل من الفسطاط ، وقاتلهم ؟!

قال ابن تغري في النجوم الزاهرة (1/78 ): «السنة الخامسة من ولاية عمرو بن العاص الأولى على مصر ، وهي سنة أربع وعشرين من الهجرة . فيها سار منويل الخصي إلى الإسكندرية ، فسأل أهل مصر عثمان إرسال عمرو بن العاص لقتال منويل المذكور ، فجاء إليها عمرو وحارب حتى افتتحها الفتح الثاني في هذه السنة وقيل بل كان ذلك في سنة خمس وعشرين وهو الأصح».

والمرجح عندي أن عمرواً عندما أحس أن عثمان سيعزله عن مصر ، وضع هذه المكيدة ، فادعى أن هرقل أرسل جيشاً الى قرى الإسكندرية ، فهاجمها عمرو وبطش فيها ونهبها وسباها ، وكان منها طَلْما رئيس إخنا ، ولعل فيها بعض الروم المقيمين .

ثم هاجم عمرو الإسكندرية ، وهدم سورها ، ورجع الى الفسطاط ، وجعل عبده وردان حاكماً على الإسكندرية .

قال البلاذري:2/262: «لما ولى عمرو وردان مولاه الإسكندرية ورجع إلى الفسطاط، فلم يلبث إلا قليلاً حتى أتاه عزله، فولى عثمان بعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح..وكان أخا عثمان من الرضاعة ، وكانت ولايته في سنة خمس وعشرين».

وتلاحظ هنا تناقضات فقهاء السلطة ، فقد حكموا بصحة عقد الصلح الذي عقده عمرو مع المصريين ، فصارت مفتوحة صلحاً ، وثبتت ملكية أهلها لأرضهم .

ص: 166

ثم نقض عمرو عهد الصلح ، وادعى عليهم زوراً أنهم نقضوه ، وغزاهم وأخضعهم ، فحكم فقهاء السلطة بأنها صارت أرضاً مفتوحة عنوةً ، وسلبت ملكية أرضها من أهلها وصارت لكل المسلمين ! فاتبع الفقهاء هوىالحاكم مع الأسف !

16. ولم يكتف عمرو بالبطش والنهب ، بل هدم سور الإسكندريةكالجبابرة ! وقد ألبس فعله ثوباً شرعياً فقال إنه نذر أن يهدم سور الإسكندرية ، وهو نذر غير شرعي ، في أي مذهب من مذاهب المسلمين !

قال القرشي المصري في فتوح مصر وأخبارها:1/190: «كان على الإسكندرية سور فحلف عمرو بن العاص لئن أظهره الله عليهم ليهدمن سورها ، حتى تكون مثل بيت الزانية ، تؤتى من كل مكان ! فخرج إليهم عمرو في البر والبحر . قال غير الليث: وضوى إلى المقوقس من أطاعه من القبط ، فأما الروم فلم يطعه منهم أحد». والإكتفاء للكلاعي:4/49، والمواعظ للمقريزي:1/210.

ونلاحظ أن المقوقس حسب الرواية كان مع قواته القبطية الى جانب عمرو ، كما نلاحظ جبروت عمرو وبذاءة لسانه في قوله إن سيجعل الإسكندرية مثل بيت الزانية! وهي مدينة عريقة ، ويسكنها المعاهدون والمرابطون .

ويشبه ذلك ما رواه عنه الزمخشري في ربيع الأبرار:1/107، وفي طبعة:2/66، قال: «حبس عمرو بن العاص عن جنده العطاء ، فقام إليه رجل حِمْيَرِي فقال: أصلح الله الأمير إذا لم تعطنا فاتخذ جنداً من حجارة لا يأكلون ولا يشربون! قال: أسكت يا كلب ! قال: إن كنت كذلك ، فأنت أمير الكلاب »! والأذكياء لابن الجوزي/97، وغرر الخصائص الواضحة للوطواط:1 /109.

ص: 167

وقد لطَّفه من يحب عمرواً كالطبري:3/201 ، وابن كثير في النهاية:7/113، والنجوم الزاهرة: 1/26، فقالوا إنه كان يحُمس المقاتلين في معركته مع المقوقس: «ويحثهم على الثبات،فقال له رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ..».

مع أنه لم تكن له معركة مع المقوقس أبداً ، ولا معركة مهمة مع غيره ، كما بينا .

17. حكم عمرو مصر سبع سنين ، ثم عزله عثمان وولى أخاه لأمه ابن أبي سرح الأموي ، فغضب عمرو غضباً شديداً ، وأخذ يحرض الناس على عثمان .

قال عمر بن شبة في تاريخ المدينة:3/1089: «كان عمرو بن العاص من أشد الناس طعناً على عثمان ، وقال: والله لقد أبغضت عثمان وحرضت عليه ، حتى الراعي في غنمه ، والسَّقَّاية تحت قربتها ».

وفي الطبري:3/392: «قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يطعن على عثمان ، فأرسل إليه يوماً عثمان خالياً به فقال: يا ابن النابغة ! ما أسرع ما قَمِلَ جِرْبَانُ جُبَّتِك ، إنما عهدك بالعمل عام أول ، أتطعن عليَّ وتأتيني بوجه وتذهب عني بآخر ، والله لولا أكلةٍ (تريدها ) ما فعلت ذلك! قال فقال عمرو: إن كثيراً مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل، فاتق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك . فقال عثمان:والله لقد استعملتك على ظَلَعِك وكثرة القالة فيك . فقال عمرو: قد كنت عاملاً لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض. قال فقال عثمان: وأنا والله لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت ولكني لنت عليك فاجترأت عليَّ.

أما والله لأنا أعز منك نفراً في الجاهلية وقبل ان أليَ هذا السلطان. فقال عمرو: دع عنك هذا ، فالحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وهدانا به . قد رأيت العاص بن

ص: 168

وائل ورأيت أباك عفان ، فوالله للعاص كان أشرف من أبيك ! قال: فانكسر عثمان وقال: مالنا ولذكر الجاهلية . قال: وخرج عمرو ودخل مروان فقال يا أمير المؤمنين وقد بلغت مبلغاً يذكر عمرو بن العاص أباك؟ فقال عثمان: دع هذا عنك . من ذكر آباء الرجال ذكروا أباه . قال: فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه ، يأتي علياً مرة فيؤلبه على عثمان ، ويأتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان ويأتي طلحة مرة فيؤلبه على عثمان ، ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان ! فلما كان حصر عثمان الأول خرج من المدينة حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها السبع ، فنزل في قصر له يقال له العجلان ، وهو يقول: العجب ما يأتينا عن ابن عفان ! قال فبينا هو جالس في قصره ذلك ومعه ابناه محمد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي ، إذ مر بهم راكب فناداه عمرو: من أين قدم الرجل؟ فقال: من المدينة . قال: ما فعل الرجل يعني عثمان؟ قال: تركته محصوراً شديد الحصار . قال عمرو: أنا أبو عبد الله ، قد يضرط العير والمكواة في النار ! فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مر به راكب آخر فناداه عمرو: ما فعل الرجل يعني عثمان؟ قال: قتل . قال: أنا أبو عبد الله ، إذا حككت قرحة نكأتها ، إن كنت لأحرِّض عليه حتى أني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل! فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش إنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق فكسرتموه فما حملكم على ذلك؟ فقال: أردنا أن نخرج الحق من خاصرة الباطل ، وأن يكون الناس في الحق شرعاً سواء . وكانت عند عمرو أخت عثمان لأمه ، أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، ففارقها حين عزله».

ص: 169

18. وجمع عمرو ثروة طائلة من الفتوحات ، وكان شديد الحرص على الولاية وقد ظهرت ثروته مبكراً في عهد عمر، ففي شرح النهج:1/174: «وروى الزبير بن بكار قال: لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر، بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق وصامت ، فكتب إليه...» . وقد خونه عمر ، لكن أبقاه على مصر!

وفي معجم البلدان:5/386: «الوَهَط: وهو مالٌ كان لعمرو بن العاص بالطائف.. عَرَشَ عمرو بن العاص بالوهط ألف ألف عود كرم على ألف ألف خشبة ، ابتاع كل خشبة بدرهم ، فحج سليمان بن عبد الملك فمر بالوهط فقال: أحب أن أنظر إليه ، فلما رآه قال: هذا أكرم مال وأحسنه ، ما رأيت لأحد مثله أ لولا أن هذه الحرة (بورة) في وسطه فقيل له: ليست بحرة ولكنها مسطاح الزبيب ، وكان زبيبه جمع في وسطه فلما رآه من البعد ظنه حرة سوداء! وقال ابن موسى: الوهط قرية بالطائف على ثلاثة أميال من وج كانت لعمرو بن العاص».

وفي تاريخ دمشق:46/109: «وشهد فتح دمشق وكان له بها دار عند سقيفة كرمس في جيرون ، ودار في ناحية باب الجابية ما بين دار الشعارين وزقاق الهاشميين ، ودار تعرف ببني حجيحة في رحبة الزبيب ، ودار تعرف بالمارستان الأول عند عين الحمى».

وفي التراتيب الإدارية:2/402: « وممن كان يعد من أغنياء الصحابة عمرو بن العاص خرج ابن عساكر أن عمراً كان يلقح كروم الوهط بستان له بالطائف بألف الف خشبة كل خشبة بدرهم فالكرم الذي يحتاج إلى خشب بألف الف كم تكون غلته وكانت له دور كثيرة بمصر ودور بدمشق منها دار بجرون ودار

ص: 170

في ناحية الجابية ودار تعرف بدار بني أحيحة ودار تعرف بالمارستان . أنظر تاريخ ابن عساكر حتى قال بعض العصريين: إن ما ذكره المؤرخون من مقدار ثروة عمرو لا يقبله العقل ».

وفي مستدرك الحاكم:3/452: «لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال: كيلوا مالي، فكالوه فوجدوه اثنين وخمسين مُداً ، فقال من يأخذه بما فيه ، يا ليته كان بعراً ! قال: وكان المد ستة عشر أوقية ، الأوقية منه مكوكان . ومات عمرو بن العاص يوم الفطر وقد بلغ أربعاً وتسعين سنة ».

وفي تاريخ دمشق:46/191: «لما احتضر عمرو بن العاص ، نظر إلى صناديق فقال: من يأخذها بما فيها ، يا ليته كان بعراً ! ثم أمر الحرس فأحاطوا بقصره ، فقال بنوه ما هذا ؟ فقال: ما ترونَ هذا يغني عني شيئاً » !

19. ولم يشبع عمرو ، وظل يفكر ، حتى أخذ خراج مصر طُعمةً من معاوية روى البلاذري في أنساب الأشراف:2/285: أن علياً (علیه السلام) أرسل جرير بن عبد الله البجلي الى معاوية يطلب منه أن يبايعه ويدخل فيما دخل فيه المسلمون ، فأرسل معاوية الى عمرو بن العاص وكان مقيماً في فلسطين: «فلما أتاه الكتاب دعا ابنيه عبد الله ومحمداً فاستشارهما، فقال له عبد الله: أيها الشيخ إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبض وهو عنك راض ، ومات أبو بكر وعمر وهما عنك راضيان ، فإياك أن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها من معاوية ، فتكبَّ كبّاً في النار . ثم قال لمحمد: ما ترى؟ فقال: بادر هذا الأمر ، تكن فيه رأساً قبل أن تكون ذنَباً..

ص: 171

فلما أصبح عمرو دعا مولاه وردان فقال: إرحل بنا يا وردان فرحل ، ثم قال: حطَّ ، فحط . ففعل ذلك مراراً ، فقال له وردان: أنا أخبرك بما في نفسك ، اعترضت الدنيا والآخرة في قلبك ، فلست تدري أيّتهما تختار ! قال: للَّه درّك ما أخطأت، فما الرأي ؟ قال: تقيم في منزلك فإن ظهر أهل الدين عشت في دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغن عنك ! فقال عمرو: إرحل يا وردان على عزم .

ثم قدم على معاوية فذاكره أمره ، فقال: أما عليٌّ فلا تسوي العرب بينك وبينه في شئ من الأشياء ، وإن له في الحرب لَحَظَّاً ما هو لأحد من قريش.

قال: صدقت ، وإنما نقاتله على ما في أيدينا ونلزمه دم عثمان . فقال عمرو: وإن أحق الناس أن لا يذكر عثمان لأنا وأنت ، أما أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين ، وأما أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي فسار إليه ، فقال معاوية: دع ذا وهات فبايعني.

قال: لا لعمرو الله ، لا أعطيك ديني حتى آخذ من دنياك ! فقال معاوية: سل . قال: مصر تطعمني إياها . فغضب مروان بن الحكم وقال: ما لي لا أستشار؟ فقال معاوية: أسكت فما يستشار إلا لك .

فقام عمرو مغضباً فقال له معاوية: يا أبا عبد الله ، أقسمت عليك أن تبيت الليلة عندنا . وكره أن يخرج فيفسد عليه الناس، فبات عنده وقال:

معاوي لا أعطيك ديني ولم أنلْ *** به منك دنياً فانظرن كيف تصنعُ

فإن تعطني مصراً فأربح صفقة *** أخذت بها شيخاً يضرُّ وينفع

وما الدين والدنيا سواء وإنني *** لآخذ ما تعطي ورأسي مقنَّع

ص: 172

ولكنني أعطيك هذا وإنني *** لأخدع نفسي والمخادع يُخدع

فلما أصبح معاوية دخل عليه عتبة بن أبي سفيان فقال له: يا معاوية ما تصنع؟ أما ترضى أن تشتري من عمرو دينه بمصر! فأعطاه إياها وكتب له كتاباً ».

وفي شرح النهج:2/67: «فخرج عمرو من عنده ، فقال له إبناه: ما صنعت؟ قال: أعطانا مصر طعمة . قالا: وما مصر في ملك العرب؟!

قال: لا أشبع الله بطونكما إن لم تشبعكما مصر.. قال: وكتب معاوية له بمصر كتاباً ، وكتب:على ألا ينقض شرطٌ طاعة ، فكتب عمرو:على ألا تنقض طاعةٌ شرطاً ، فكايد كل واحد منهما صاحبه.

يقصد معاوية أن بيعة عمرو غير مشروطة بمصر ، وقصد عمرو أنها مشروطة بها.

قال نصر:فلما كتب الكتاب قال معاوية لعمرو: ماترى الآن؟ قال: إمض الرأي الأول ، فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله ، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه...». (راجع صفين لنصر بن مزاحم/44).

وقال ابن سعد في الطبقات:4/258: « لما صار الأمر في يدي معاوية استكثر طُعْمَةَ مصر لعمرو ما عاش ، ورأى عمرو أن الأمر كله قد صلح به وبتدبيره وعنائه وسعيه فيه ، وظن أن معاوية سيزيده الشام مع مصر فلم يفعل معاوية ، فتنكر عمرو لمعاوية ، فاختلفا وتغالطا ، وتميز الناس وظنوا أنه لا يجتمع أمرهما ، فدخل بينهما معاوية بن حديج فأصلح أمرهما ، وكتب بينهما كتاباً وشرط فيه شروطاً لمعاوية وعمرو خاصة ، وللناس عليه ، وأن لعمرو ولاية مصر سبع سنين ، وعلى أن على عمرو السمع والطاعة لمعاوية ، وتواثقا وتعاهدا على ذلك

ص: 173

وأشهد عليهما به شهوداً .ثم مضى عمرو بن العاص على مصر والياً عليها وذلك في آخر سنة تسع وثلاثين، فوالله ما مكث بها إلا سنتين أو ثلاثاً حتى مات» !

يشير الراوي الى أن معاوية دس السم لعمرو ! وتاريخ دمشق: 46/174، وتاريخ اليعقوبي:2/185 ، ومروج الذهب:2/354، وتاريخ أبي الفدا/184.

20.أشار عمرو بن العاص على معاوية بإيقاف الفتوحات الإسلامية فأوقفها وبعث معاوية إلى قيصر بالهدايا وعقد معه صلحاً على جزية سنوية يدفعها معاوية ، وهي مئة ألف دينار ذهباً ، ليتفرغ لحرب علي (علیه السلام) ! بل نصت رواية ابن الأعثم على أن معاوية اتفق مع هرقل على أن يساعده إذا انهزم في صفين !

قال المسعودي في مروج الذهب(2/377): «وامتنع المسلمون عن الغزو في البحر والبر لشغلهم بالحروب ، وقد كان معاوية صالح ملك الروم على مال يحمله اليه لشغله بعلي (علیه السلام) » .

وقال ابن الأعثم(2/539): «فنادى علي في الناس فجمعهم ، ثم خطبهم خطبة بليغة وقال: أيها الناس ! إن معاوية بن أبي سفيان قد وادع ملك الروم ، وسار إلى صفين في أهل الشام عازماً على حربكم ، فإن غلبتموهم استعانوا عليكم بالروم ». وقد صححوا روايته في مسند أحمد:4/111، وتفسير ابن كثير: 2/333.

بينما لم يوقف علي (علیه السلام) الفتوحات، رغم أن أعداءه شغلوه بثلاثة حروب داخلية فقد فتح ولاته (علیه السلام) مناطق كثيرة من خراسان والهند وإفريقيا .

ص: 174

فقد أرسل ابن أخته جعدة بن هبيرة لإكمال فتح خراسان .وأرسل من لم يرغب في حرب معاوية الى مناطق من فارس والقفقاز . وأرسل جيشاً من البحرين لفتح مناطق في الهند . كما أرسل بالتهديد الى هرقل .

وقال اليعقوبي في تاريخه: 2/183: «ولما فرغ من حرب أصحاب الجمل ، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان » .

وفي شرح النهج: 18/308: «هبيرة بن أبي وهب ، كان من الفرسان المذكورين ، وابنه جعدة بن هبيرة ، وهو ابن أخت علي بن أبي طالب ، أمه أم هاني بنت أبي طالب ، وابنه عبد الله بن جعدة بن هبيرة ، هو الذي فتح القندهار ، وكثيراً من خراسان ، فقال فيه الشاعر:

لولا ابن جعدةَ لم تُفتح قهندركم *** ولا خراسانُ حتى ينفخ الصور

وفي معجم البلدان: 4/419 ، وصحاح الجوهري: 1/433: قهندز بالزاي ، والظاهر أن جعدة رضي الله عنه فتح بقية خراسان وأفغانستان .

وقال الطبري في تاريخه: 4 /46: « فانتهى إلى أبر شهر وقد كفروا وامتنعوا فقدم على علي (علیه السلام) فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه وصالحه أهل مرو ، وأصاب جاريتين من أبناء الملوك نزلتا بأمان ، فبعث بهما إلى علي فعرض عليهما الإسلام وأن يزوجهما ، قالتا زوجنا ابنيك فأبى، فقال له بعض الدهاقين ادفعهما إليَّ فإنه كرامة تكرمني بها ، فدفعهما إليه فكانتا عنده يفرش لهما الديباج ويطعمهما في آنية الذهب ، ثم رجعتا إلى خراسان». .

ص: 175

وقال خليفة بن خياط في تاريخه/143 ، في حوادث سنة 36: « وفيها ندب الحارث بن مرة العبدي(من البحرين ) الناس إلى غزو الهند ، فجاوز مكران إلى بلاد قندابيل ووغل في جبال الفيقان...».

وفي فتوح البلدان للبلاذري:3 /531: « فلما كان آخر سنة ثمان وثلاثين وأول سنة تسع وثلاثين في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، توجه إلى ذلك الثغر الحارث بن مرة العبدي متطوعاً بإذن علي (علیه السلام) فظفر وأصاب مغنماً وسبياً ، وقسم في يوم واحد ألف رأس» .

وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم/115: «فأجاب علياً إلى السير والجهاد جل الناس إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه ، وفيهم عبيدة السلماني وأصحابه ، فقالوا له: إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم، ونعسكر على حدةٍ حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام ، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له ، أو بدا منه بغي كنا عليه. فقال على: مرحباً وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين والعلم بالسنة. من لم يرض بهذا فهو جائر خائن . وأتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود ، فيهم ربيع بن خيثم وهم يومئذ أربع مائة رجل، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك ، ولاغناء بنا ولا بك ولا المسلمين عمن يقاتل العدو ، فولنا بعض الثغور نكون به تم نقاتل عن أهله . فوجهه على على ثغر الري ، فكان أول لواء عقده بالكوفة لواء ربيع بن خيثم .

ص: 176

عن ليث بن سليم قال: دعا عليٌّ باهلة فقال: يا معشر باهلة ، أشهد الله أنكم تبغضوني وأبغضكم ، فخذوا عطاءكم واخرجوا إلى الديلم . وكانوا قد كرهوا أن يخرجوا معه إلى صفين » !

21. وكان موقف علي (علیه السلام) من عمرو شديداً ، متناسباً مع شدة نفاقه ومكائده فلم يعبر عنه الإمام (علیه السلام) إلا بابن النابغة ، وكأنه بذلك يُعيره بأمه وسلوكها السيئ، أو ثبت عنده أنه ليس ابن العاص، أو يرى أن معنى قوله تعالى عن العاص: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ . ينفي وجود ذرية للعاص ، وأنه عقيم حقيقة !

وقال (علیه السلام) في إحدى خطبه: «أنبهوا نائمكم ، واجتمعوا على حقكم، وتجردوا لحرب عدوكم . قد بدت الرغوة عن الصريح ، وقد بان الصبح لذي عينين ، إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ، وأولي الجفاء ، ومن أسلم كرهاً ، وكان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أنفَ الإسلام كله حرباً . أعداءُ الله والسنة والقرآن ، وأهلُ البدع والإحداث ، ومن كانت بوائقه تتقى ، وكان على الإسلام وأهله مخوفاً ، وأكَلَة الرشا، وعبدة الدنيا! لقد أنهيَ إليَّ أن ابن النابغة لم يبايع حتى أعطاه ثمناً، وشرط أن يؤتيه أَتِيَّةً ، هي أعظم مما في يده من سلطانه . ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا ، وخزيت أمانة هذا المشترى نصرة فاسق غادر ، بأموال المسلمين ». (الغارات للثقفي:1/316، ونهج البلاغة/115)

وفي شرح النهج:20/326:«كنت في أيام رسول الله (صلی الله علیه و آله) كجزء من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينظر إلي كما ينظر إلى الكواكب في أفق السماء ، ثم غض الدهر مني فقُرِنَ بي فلانٌ وفلان ، ثم قُرِنْتُ بخمسة أمثلهم عثمان، فقلت: وا ذفراه ! ثم لم يرض الدهر لي

ص: 177

بذلك ، حتى أرذلني ، فجعلني نظيراً لابن هند وابن النابغة ! لقد استنت الفصال حتى القرعى».

ومعنى واذِفْرَاهْ: أي فاحت رائحةٌ كريهة . واستنت الفصال حتى القرعى: أي تسابقت الإبل حتى المريضة بالقرع . وهو مثل «يضرب لمن يتشبه بمن هو فوقه» (فتح الباري:6/4) .«يضرب للذي يتكلم مع الذي لا ينبغي له أن يتكلم بين يديه لجلالة قدره ، والقرعى: جمع قريع كمريض ومرضى ، وهو الذي به قرع بالتحريك ، وهو بثر أبيض يطلع في الفصال». (حياة الحيوان:2/304).

وكتب (علیه السلام) الى معاوية جواباً على كتابه: «وسأجيبك فيما قد كتبت بجواب ، لا أظنك تعقله أنت ولاوزيرك ابن النابغة عمرو ، الموافق لك كما وافق شنٌّ طَبَقَة، فإنه هو الذي أمرك بهذا الكتاب وزينه لك ، وحضركما فيه إبليس ومردة أصحابه . والله لقد أخبرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعرفني أنه رأى على منبره اثني عشر رجلاً أئمة ضلال من قريش ، يصعدون منبر رسول الله وينزلون على صورة القرود ، يردون أمته على أدبارهم عن الصراط المستقيم . قد خبرني بأسمائهم رجلاً رجلاً ، وكم يملك كل واحد منهم ، واحد بعد واحد . عشرة منهم من بني أمية ورجلان من حيين مختلفين من قريش، عليهما مثل أوزار الأمة جميعاً إلى يوم القيامة ، ومثل جميع عذابهم ، فليس من دم يهراق في غير حقه ، ولا فرج يغشى حراماً ، ولا حكم بغير حق إلا كان عليهما وزره . وسمعته يقول: إن بني أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلاً جعلوا كتاب الله دخلاً وعباد الله خولاً ومال الله دولاً». (كتاب سُلَيْم/302).

ص: 178

وعندما غزا عمرو بن العاص مصر بجيش من الشام ، وقاتل محمد بن أبي بكر والي عليٍّ عليها ، خطب (علیه السلام) مستنهضاً المسلمين لمساعدة المصريين ، فقد روى جندب بن عبد الله: « إني لعند علي جالسٌ إذ جاءه عبد الله بن قعين جد كعب يستصرخ من قبل محمد بن أبي بكر ، وهو يومئذ أميرٌ على مصر، فقام علي (علیه السلام) فنادى في الناس: الصلاة جامعة فاجتمع الناس ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلی الله علیه و آله) ثم قال: أما بعد فهذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر ، وقد سار إليهم ابن النابغة عدو الله وعدوكم ، فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت ، أشد اجتماعاً على باطلهم وضلالتهم منكم على حقكم ، فكأنكم بهم قد بدؤوكم وإخوانكم بالغزو ، فاعجلوا إليهم بالمواساة والنصر. عباد الله إن مصر أعظم من الشام خيراً، وخير أهلاً ، فلا تُغلبوا على مصر، فإن بقاء مصر في أيديكم عزٌّ لكم ، وكبتٌ لعدوكم . أخرجوا إلى الجرعة لنتوافى هناك كلنا غداً ، إن شاء الله». (الغارات:1/290).

وروى أبو جعفر الإسكافي في المعيار والموازنة/103، جواب رسالة من علي (علیه السلام) الى عمرو، وفيها «ابن العاصي وليس العاص»: «من علي بن أبي طالب إلى عمرو بن العاصي، أما بعد ، فإن الذي أعجبك مما تلويت من الدنيا ، ووثقت به منها منفلت منك ، فلا تطمئن إلى الدنيا فإنها غرارة ، ولو اعتبرت بما مضى حذرت ما بقي ، وانتفعت منها بما وعظت به ، ولكن أتبعت هواك وآثرته ، ولولا ذلك لم تؤثر على ما دعوناك إليه ».

ص: 179

لكن أشد موقف لأمير المؤمنين (علیه السلام) من عمرو كان في صفين ، يوم كتبوا عهد الهدنة والتحكيم . روى الطوسي في أماليه/187: «لما وقع الإتفاق على كتْب القضية بين أمير المؤمنين (علیه السلام) وبين معاوية بن أبي سفيان ، حضر عمرو بن العاص في رجال من أهل الشام ، وعبد الله بن عباس في رجال من أهل العراق، فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) للكاتب: أكتب هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان . فقال عمرو بن العاص: أكتب إسمه واسم أبيه ولا تسمه بإمرة المؤمنين، فإنما هو أمير هؤلاء وليس بأميرنا. فقال الأحنف بن قيس: لا تمح هذا الاسم فإني أتخوف إن محوته لا يرجع إليك أبداً . فامتنع أمير المؤمنين (علیه السلام) من محوه ، فتراجع الخطاب فيه ملياً من النهار ، فقال الأشعث بن قيس: أمح هذا الإسم ترَّحه الله ! فقال أمير المؤمنين: الله أكبر سُنَّةٌ بسنة ومَثَلٌ بمثل ، والله إني لكاتب رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم الحديبية وقد أملى علي: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو . فقال له سهيل: أمح رسول الله فإنا لا نقر لك بذلك ولا نشهد لك به ، أكتب إسمك وإسم أبيك ، فامتنعت من محوه فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : أمحه يا علي وستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض . فقال عمرو بن العاص: سبحان الله ، ومثل هذا يشبه بذلك ، ونحن مؤمنون وأولئك كانوا كفاراً !

فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : يا ابن النابغة ، ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمسلمين عدواً ، وهل تُشبه إلا أمك التي دفعت بك؟ فقال عمرو: لا جرم لا يجمع بيني

ص: 180

وبينك مجلس أبداً . فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) : والله إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك ! ثم كتب الكتاب وانصرف الناس ».

وفي الإيضاح/235، أن معاوية كان يلعن في قنوته علياً (علیه السلام) وأصحابه على المنابر. وأن علياً كان يلعن معاوية في قنوته ، وعمرو بن العاص ، وأبا الأعور السلمي وأبا موسى الأشعري .

وللإمام الحسن (علیه السلام) مواقف صريحة من عمرو في مناظراته معه بعد صلحه مع معاوية، منها ما رواه الطبرسي في الإحتجاج:1/411:«وأما أنت يا عمرو بن العاص ، الشاني اللعين الأبتر ، فإنما أول أمرك أن أمك بَغِيَّة ، وأنك ولدت على فراش مشترك ، فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبو سفيان بن حرب ، والوليد بن المغيرة ، وعثمان بن الحرث ، والنضر بن الحرث بن كلدة ، والعاص بن وايل ، كلهم يزعم أنك ابنه ، فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسباً ، وأعظمهم بغية .

ثم قمت خطيباً وقلت: أنا شانئ محمد ، وقال العاص بن وايل: إن محمداً رجل أبتر لا ولد له ، فلو قد مات انقطع ذكره . فأنزل الله تبارك وتعالى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ . وكانت أمك تمشي إلى عبد قيس تطلب البغية ، تأتيهم في دورهم ورجالهم وبطون أوديتهم ، ثم كنت في كل مشهد يشهده رسول الله (صلی الله علیه و آله) من عدوه أشدهم له عداوة ، وأشدهم له تكذيباً .

ثم كنت في أصحاب السفينة: الذين أتوا النجاشي والمهجر الخارج إلى الحبشة في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وساير المهاجرين إلى النجاشي ، فحاق المكر

ص: 181

السئ بك ، وجعل جدك الأسفل ، وأبطل أمنيتك ، وخيب سعيك ، وأكذب أحدوثتك ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا .

وأما قولك في عثمان ، فأنت يا قليل الحياء والدين الهبت عليه نارا ، ثم هربت إلى فلسطين تتربص به الدوائر ، فلما أتاك خبر قتله حبست نفسك على معاوية ، فبعته دينك يا خبيث بدنيا غيرك ، ولسنا نلومك على بغضنا ، ولم نعاتبك على حبنا ، وأنت عدو لبني هاشم في الجاهلية والإسلام ، وقد هجوت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بسبعين بيتاً من شعر ، فقال رسول الله: اللهم إني لا أحسن الشعر ، ولا ينبغي لي أن أقوله ، فالعن عمرو بن العاص بكل بيت ألف لعنة !

ثم أنت يا عمرو المؤثر دنياك على دينك . أهديتَ إلى النجاشي الهدايا ، ورحلت إليه رحلتك الثانية ، ولم تنهك الأولى عن الثانية ، كل ذلك ترجع مغلوباً حسيراً تريد بذلك هلاك جعفر وأصحابه ، فلما أخطأك ما رجوت وأملت ، أحلت على صاحبك عمارة بن الوليد ».

22.كان عمرو في الثمانينات ومعاوية في الأربعينات، ويشعر بالحاجة الى مكائده فعندما قرر معاوية أن يخرج على علي (علیه السلام) ويقاتله ، أرسل الى عمرو وكان في فلسطين وأحضره ، وفاوضه واتفق معه على إعطائه الثمن وهو مصر طعمةً له ! عندها قال معاوية لنبدأ بأول رأي عندك: «فلما كتب الكتاب قال معاوية لعمرو: ماترى الآن؟قال: إمض الرأي الأول . فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله ، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه». (كتاب صفين لنصر بن مزاحم/44).

ص: 182

إن كثيراً من أعمال معاوية وجرائمه ، كانت تطبيقاً لآراء عمرو بن العاص ، وكان معاوية يجاهر بذلك ، وقد يفتخر به ! وأعظم مكائد عمرو بن العاص ، وأكثرها تأثيراً على التاريخ الإسلامي ، مكيدته في رفع المصاحف في صفين ، عندما شارف علي (علیه السلام) على النصر ومعاوية على الهزيمة !

قال في الأخبار الطوال/188: «ثم إن علياً قام من صبيحة ليلة الهرير في الناس خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ، إنه قد بلغ بكم وبعدوكم الأمر إلى ما ترون، ولم يبق من القوم إلا آخر نفس ، فتأهبوا رحمكم الله لمناجزة عدوكم غداً ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين .

وبلغ ذلك معاوية ، فقال لعمرو: ما ترى ، فإنما هو يومنا هذا وليلتنا هذه ! فقال عمرو: إني قد أعددت بحيلتي أمراً أخرته إلى هذا اليوم ، فإن قبلوه اختلفوا، وإن ردوه تفرقوا ، قال معاوية: وما هو؟ قال عمرو: تدعوهم إلى كتاب الله حكماً بينك وبينهم فإنك بالغ به حاجتك . فعلم معاوية أن الأمر كما قال . قالوا: وإن الأشعث بن قيس قال لقومه وقد اجتمعوا إليه: قد رأيتم ما كان في اليوم الماضي من الحرب المبيرة . وإنا والله إن التقينا غداً إنه لبوار العرب وضيعة الحرمات ! قالوا: فانطلقت العيون إلى معاوية بكلام الأشعث فقال: صدق الأشعث ، لئن التقينا غداً ليميلن الروم على ذراري أهل الشام ، وليميلن دهاقين فارس على ذراري أهل العراق ، وما يبصر هذا الأمر إلا ذوو الأحلام ، أربطوا المصاحف على أطراف القنا .

ص: 183

قالوا: فربطت المصاحف ، فأول ما ربط مصحف دمشق الأعظم ربط على خمسة أرماح ، يحملها خمسة رجال ، ثم ربط سائر المصاحف ، جميع ما كان معهم وأقبلوا في الغلس، ونظر أهل العراق إلى أهل الشام قد أقبلوا ، وأمامهم شبيه بالرايات فلم يدروا ما هو حتى أضاء الصبح ، فنظروا فإذا هي المصاحف...

فقال علي رضي الله عنه: ما الكتاب تريدون ، ولكن المكر تحاولون...

ثم أقبل أبو الأعور السلمي على برذون أشهب وعلى رأسه مصحف ، وهو ينادي: يا أهل العراق ، هذا كتاب الله حكماً فيما بيننا وبينكم . فلما سمع أهل العراق ذلك قام كردوس بن هانئ البكري فقال: يا أهل العراق ، لا يهدئكم ما ترون من رفع هذه المصاحف ، فإنها مكيدة...

ثم تكلم الحضين بن المنذر فقال: أيها الناس، إن لنا داعياً قد حمدنا ورده وصدره وهو المأمون على ما فعل ، فإن قال: لا، قلنا: لا، وإن قال: نعم، قلنا: نعم .فتكلم علي وقال: عباد الله، أنا أحرى من أجاب إلى كتاب الله ، وكذلك أنتم ، غير أن القوم ليس يريدون بذلك إلا المكر ، وقد عضتهم الحرب ، والله لقد رفعوها وما رأيهم العمل بها ، وليس يسعني مع ذلك أن أدعى إلى كتاب الله فأبى، وكيف وإنما قاتلناهم ليدينوا بحكمه .

فقال الأشعث: يا أمير المؤمنين نحن لك اليوم على ما كنا عليه لك أمس ، غير أن الرأي ما رأيت من إجابه القوم إلى كتاب الله حكماً .

فأما عدي بن حاتم وعمرو بن الحمق فلم يهويا ذلك ، ولم يشيروا على علي به . ولما أجاب علي رضي الله عنه قالوا له: فابعث إلى الأشتر ليمسك عن الحرب

ص: 184

ويأتيك . وكان يقاتل في ناحية الميمنة ، فقال علي ليزيد بن هانئ:إنطلق إلى الأشتر فمره أن يدع ما هو فيه ويقبل ، فأتاه فأبلغه فقال: إرجع إلى أمير المؤمنين فقل له إن الحرب قد اشتجرت بيني وبين أهل الناحية ، فليس يجوز أن انصرف . فانصرف يزيد إلى علي فأخبره بذلك ، وعلت الأصوات من ناحية الأشتر ، وثار النقع ، فقال القوم لعلي: والله ما نحسبك أمرته إلا بالقتال !

فقال: كيف أمرته بذلك ولم أساره سراً ! ثم قال ليزيد: عد إلى الأشتر ، فقل له أقبل فإن الفتنة قد وقعت . فأتاه فأخبره بذلك . فقال الأشتر: ألرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم . قال: أما والله لقد ظننت بها حين رفعت أنها ستوقع اختلافاً وفرقة . فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم فقال: يا أهل الوهن والذل ، أحين علوتم القوم تنكلون لرفع هذه المصاحف ؟ أمهلوني فواق ناقة ، قالوا: لا ندخل معك في خطيئتك !

قال: ويحكم ، كيف بكم وقد قتل خياركم وبقي أراذلكم، فمتى كنتم محقين؟ أحين كنتم تقاتلون أم الآن حين أمسكتم؟ فما حال قتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم، أفي الجنة أم في النار ؟ قالوا: قاتلناهم في الله ، وندع قتالهم في الله . فقال: يا أصحاب الجباة السود ، كنا نظن أن صلاتكم عبادة وشوق إلى الجنة ، فنراكم قد فررتم إلى الدنيا ، فقبحاً لكم .

فسبوه وسبهم ، وضربوا وجه دابته بسياطهم ، وضرب هو وجوه دوابهم بسوطه. وكان مسعر بن فدكي وابن الكواء وطبقتهم من القراء الذين صاروا بعد خوارج ، كانوا من أشد الناس في الإجابة إلى حكم المصحف ».

ص: 185

وفي تاريخ الطبري:4/34: «عبد الرحمن بن جندب الأزدي عن أبيه أن علياً قال: عباد الله إمضوا على حقكم وصدقكم قتال عدوكم ، فإن معاوية وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ، والضحاك بن قيس ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً ، فكانوا شر أطفال وشر رجال ! ويحكم إنهم ما رفعوها ثم لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيها ، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدةً .فقالوا له: ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله عز وجل فنأبى أن نقبله .

فقال لهم: فإني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم هذا الكتاب ، فإنهم قد عصوا الله عز وجل فيما أمرهم ، ونسوا عهده ونبذوا كتابه .

فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذ دعيت إليه ، والا ندفعك برمتك إلى القوم ، أو نفعل كما فعلنا بابن عفان، إنهم دعونا أن نعمل بما في كتاب الله عز وجل فقبلناه ، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك! قال قال: فاحفظوا عنى نهيي إياكم ، واحفظوا مقالتكم لي . أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا ، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم ».

أقول: كانت مكيدة عمرو ضربة كبيرة للإسلام ، نتج عنها اختلاف جيش علي (علیه السلام) ، ثم خدعة التحكيم التي كان بطلها عمرو ، وظهور الخوارج ، ثم قتل علي (علیه السلام) وغلبة معاوية ، وما ارتكبه هو وابنه يزيد من كبائر في الأمة..الخ.

كل ذلك أسس له عمرو العاص بمكيدته ، وهو يعلم أنه أن عمله ضد مصلحة الإسلام والمسلمين ، لكنه الطمع الدنيوي بخراج مصر !

ص: 186

23. غزا عمرو مصر بجيش معاوية وقتل واليها محمد بن أبي بكر فلعنته عائشة وكان عمرو لايحترمها فقد قال لها بعد هزيمتها في حرب الجمل: «لوددت أنك قُتِلْتِ يوم الجمل. قالت:ولمَ لا أباً لك ! قال: كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ، ونجعلك أكبر التشنيع على علي بن أبي طالب» ! (شرح النهج:6/322) .

وعندما جاءها خبر قتل عمرو لأخيها محمد وإحراق جثته ، بكت عليه ولعنت معاوية وعمرو بن العاص ! ثم استرضاها معاوية بالمال فسكتت . ثم ساءت علاقتها به لما أراد أخذ البيعة ليزيد ، لأنها كانت تأمل بها لأخيها عبد الرحمن !

قال الثقفي في الغارات:1/285: « لما أتاها نعي محمد بن أبي بكر وما صُنع به ، كظمت حزنها ، وقامت إلى مسجدها حتى تشخَّبَتْ دماً ». وفي رواية تشخَّب ثدياها دماً ، وقد يفسر ذلك إن صح بارتفاع ضغط الجسم من الحزن !

لكن الذي زاد ارتفاع ضغط عائشة أكثر أن ضُرَّتها رملة بنت أبي سفيان ، المعروفة بأم حبيبة أم المؤمنين ، فرحت بقتل أخيها معاوية لمحمد أخ عائشة ، واحتفلت به بطريقة هند آكلة الأكباد ! «لما قتل ووصل خبره إلى المدينة مع مولاه سالم ومعه قميصه ، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء ! فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي بكبش فَشُوِيَ ، وبعثت به إلى عائشة وقالت: هكذا قد شُوِيَ أخوك ! فحلفت عائشة لا تأكل شواءً أبداً، فما أكلت شواءً بعد مقتل محمد سنة 38 حتى لحقت بالله سنة57 ، وما عثرت قط إلا قالت: تَعِسَ معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن حديج».( الغارات:1/287، و:2/757 وأنساب الأشراف:2/403 ، وحياة الحيوان للدميري:1/404).

ص: 187

وفي الكامل لابن الأثير:3/357: «لما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً وقنتت في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو ، وأخذت عيال محمد إليها ».

وفي سير الذهبي:2/186: « إن معاوية لما حج قدم فدخل على عائشة ، فلم يشهد كلامها إلا ذكوان مولى عائشة ، فقالت لمعاوية: أأمنت أن أخبئ لك رجلاً يقتلك بأخي محمد ! قال: صدقت . وفي رواية قال لها: ما كنت لتفعلي».ونحوه الطبري: 4/205 ، والإستيعاب:1/238 ، وشرح الأخبار:2/171. راجع جواهر التاريخ: 2 /148.

24. ونقل الرواة عن عمرو حالة صحو وجرأة اعترف فيها بالحق على نفسه ففي كتاب تاريخ عمرو بن العاص للدكتور حسن إبراهيم/270: «وقال عمرو بن العاص: أعجب الأشياء أن المبطل يغلب المحق ! يُعَرِّض بعلي ومعاوية !

فقال معاوية: بل أعجب الأشياء أن يعطى الإنسان ما لايستحق . يعرض بعمرو ومصر التي أخذها له طُعمة » !

وروى في الفصول المختارة للمفيد/265، اعترافاً من عمرو بن العاص لعلي (علیه السلام) ، قال عمرو: «مرَّ علي بن أبي طالب على أبي بكر ومعه أصحابه ، فسلم عليه ومضى ، فقال أبو بكر: من سره أن ينظر إلى أول الناس في الإسلام سبقاً ، وأقرب الناس برسول الله قرابةً ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب » !

25. تزوج عمرو العديد من النساء ، لعل أشهرهن بنت أبي معيط الخمار بمكة وهي أخت عثمان بن عفان من أمه . (الطبقات:8/230) .

وكان له ولدان عبد الله ومحمد ، واشتهر عبد الله بأنه كان يحب العلم ، فأخذ يكتب أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) فنهاه أبوه وفلان لأنها تفضح قريشاً ! قال: «كنت

ص: 188

أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا أتكتب كل شئ تسمعه ، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا ! فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: أكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق ». (سنن أبي داود:2/176).

لكن الشاب عبد الله بن عمرو أطاع قريشاً ولم يكتب الحديث النبوي ، وأُغرم بثقافة اليهود ، فكان التلميذ المطيع لكعب الأحبار ، ثم وجد حمل بعير من كتبهم مترجمة الى العربية فكان يحدث منها !

قال ابن حجر في فتح الباري:1/167: « إنه قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب ، فكان ينظر فيها ويحدث منها » .

وكان يؤمن بنسخة التوراة الموجودة فقال:«رأيت فيما يرى النائم كأن في إحدى أصبعيَّ سمناً وفي الأخرى عسلاً فأنا ألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال:تقرأ الكتابين التوراة والفرقان فكان يقرؤهما»!«مسند أحمد:2/222).

قال عنه الشيخ الأزهري محمود أبو رية في كتابه القيم: شيخ المضيرة أبو هريرة/124: « هو أحد العبادلة الثلاثة الذين رووا عن كعب الأحبار ، وكان قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب ، وكان يرويها للناس ، فتجنب كثير من أئمة التابعين الأخذ عنه.وكان يقال له:لا تحدثنا من الزاملتين».

ومعنى قولهم إنه كان يحدث منها: أنه كان ينسب ما فيها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنه قال: حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج !

ص: 189

قال ابن تيمية في فتاواه:13/366: « قال(ص): بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولاحرج ، ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو.ولهذا كان عبد الله قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما ، بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك».

يقصد أن ابن العاص فهم الإذن من النبي (صلی الله علیه و آله) أن ينسبوا اليه الإسرائيليات! وهذا من نوع حيل أبيه عمرو ، لأن معنى قول النبي (صلی الله علیه و آله) : حدثوا عن بني إسرائيل ولاحرج: قولوا في انحرافهم ما شئتم فهو صحيح ، فحرفه وجعل معناه: خذوا الحديث منهم وانسبوه إليَّ ، ولاحرج عليكم !

قال ابن كثير في النهاية:2 /12: «عن عبد الله قال: نظر رسول الله إلى الشمس حين غابت فقال: في نار الله الحامية ، لولا ما يَزَعُها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض فيه غرابة.. وقد يكون موقوفاً من كلام عبد الله بن عمرو، فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين فكان يحدث منها» !

أقول: نهى زعماء قريش عن تدوين السنة النبوية في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) ، ثم منعوا تدوينها بعد وفاته ، وقربوا حاخامات اليهود مثل كعب الأحبار وعبد الله بن سلام ووهب بن منبه ، وأطلقوا أيديهم في نشر الإسرائيليات ، ونشأ لهم تلاميذ كأبي هريرة وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمر ، ولذلك ترانا لانقبل رواياتهم وقد بحثنا ذلك في كتاب تدوين القرآن،وكتاب ألف سؤال وإشكال .

ص: 190

هذا ، وذكر ابن عبد البر أن عبد الله بن عمرو كان نادماً على حضوره صفين وقتاله علياً (علیه السلام) لكن أنى ينفعه ذلك مع مذهبه في التحديث ولم يصلح ما أفسد !

قال في الإستيعاب:3/958: «واعتذر رضي الله عنه من شهوده صفين، وأقسم أنه لم يرم فيها برمح ولا سهم، وأنه إنما شهدها لعزمة أبيه عليه في ذلك، وأن رسول الله قال له: أطع أباك ! كان يقول:ما لي ولصفين! ما لي ولقتال المسلمين! والله لوددت أني متُّ قبل هذا بعشر سنين ثم يقول: أما والله ما ضربت فيها بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم ، ولوددت أني لم أحضر شيئاً منها، وأستغفر الله عز وجل عن ذلك وأتوب إليه .إلا أنه ذُكر أنه كانت بيده الراية يومئذ ، فندم ندامة شديدة على قتاله مع معاوية وجعل يستغفر الله ويتوب إليه».

26. أخذ عمرو لقب فاتح فلسطين ومصر ، لكنه ترك في الإسلام أسوأ الآثار قال ابن حجر الإصابة:4/540، إنه عاش تسعين سنة ، وكان أكبر من عمر بن الخطاب ببضع سنين ، ومات بعده بعشرين سنة ».

وفي تاريخ اليعقوبي:2/187: «فلما نزل به قال له ابنه عبد الله بن عمرو: يا أبت إنك كنت تقول عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه ، كيف لا يصفه ، فصف لنا الموت وعقلك معك . فقال: يا بني الموت أجل من أن يوصف ، ولكني سأصف لك منه شيئاً أجدني كأن على عنقي جبال رضوى ، وأجدني كأن في جوفي شوك السلاء ، وأجدني كأن نَفَسي يخرج من ثقب إبرة...توفي عمرو بن العاص يوم الفطر بمصر سنة اثنتين وأربعين، وهو وال عليها».والحاكم: 3 /454.

ص: 191

وفي الإستيعاب لابن عبد البر:3/1190، عن الشافعي قال: «دخل ابن عباس على عمرو بن العاص في مرضه فسلَّم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصلحت من دنياي قليلاً وأفسدت من ديني كثيراً ! فلو كان الَّذي أصلحت هو الَّذي أفسدت ، والَّذي أفسدت هو الَّذي أصلحت ، لفُزت . ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت ، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت ، فصرت كالمنجنيق بين السماء والأرض ، لا أرقى بيدين ولا أهبط برجلين» !

وهكذا اعترف عمرو بأنه أفسد دينه بالمعاصي ، لكن بعد فوات الأوان ! ولو كانت معاصيه شخصية لكان الأمر أهون ، لكنها معاصٍ كتبت تاريخ المسلمين وبعض عقائدهم ، الى يومنا هذا ، مع الأسف .

«جزع عمرو بن العاص عند الموت جزعاً شديداً فلما رأى ذلك ابنه عبد الله بن عمرو قال: ياأبا عبد الله ما هذا الجزع وقد كان رسول الله يدنيك ويستعملك؟ قال: أي بنى قد كان ذلك، وسأخبرك عن ذلك: إني والله ما أدري أحباً ذلك كان أم تألفاً يتألفني! ولكن أشهد على رجلين أنه قد فارق الدنيا وهو يحبهما: ابن سمية وابن أم عبد». «مسند أحمد: 4/200، وصححه في الزائد:9/353 ).

ومعناه أنه أحس أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يتألفه ، فهو من المؤلفة قلوبهم وليس من المؤمنين !

ص: 192

الفصل الخامس: الأبطال الشيعة قادة الفتوحات

فاتح العراق المثنى بن حارثة رضي الله عنه

1. «المثنى بن حارثة ، بن سلمة ، بن ضمضم ، بن سعد ، بن مرة ، بن ذهل ، بن شيبان » . (الإصابة:5/568).

قال ابن قتيبة في المعارف/100، ملخصاً: «وأما ذهل بن شيبان فولده مرة بن ذهل بن شيبان وفيه العدد والبيت، وربيعة بن ذهل، ومحلم بن ذهل، والحارث بن ذهل..ومن الأشراف من بنى شيبان عوف بن محلم بن ذهل الذي قيل فيه: لاحُرَّ بوادي عوف . ومنهم الضحاك بن قيس الشارى، وشبيب وقعنب الخارجيان. ومنهم هانئ بن مسعود صاحب يوم ذي قار ، وأخوه قيس بن مسعود . ومنهم جساس قاتل كليب ، والمثنى بن حارثة الذي افتتح السواد ».

2. كان بنو شيبان متحالفين مع أبناء عمهم بني عجل وكانوا يعيشون معهم ومع اللهازم من هذيل ، في جنوب العراق . وقد زارهم النبي (صلی الله علیه و آله) في موسم الحج وعرض عليهم دعوته وتلا عليهم من القرآن ، فأعجبهم الإسلام . وطلب منهم أن يذهب معهم الى العراق ويحموه من قريش والعرب ليبلغ رسالة ربه ، فاعتذروا له بأنهم مجاورون لكسرى ، ولا يستطيعون ذلك .

ص: 193

وزعماؤهم يومها مفروق وهانئ بن مسعود والمثنى، فقال له مفروق: (دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة ، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا زلةٌ في الرأي وقلة فكر في العواقب ، وإنما تكون الزلة مع العجلة ، ومن ورائنا قوم نكرهُ أن نعقد عليهم عقداً ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر!

وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا . فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك، وإنما أنزلنا بين ضرتين (صيرتين)! فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) :ما هاتان الضرتان؟ قال: أنهار كسرى ومياه العرب ، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لانحدث حدثاً ولا نؤي محدثاً ، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك ، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا . فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) :ما أسأتم في الرد ، إذ أفصحتم بالصدق ، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله من جميع جوانبه . أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم ، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم نعم» .

وفي رواية أن النبي (صلی الله علیه و آله) أعجب بهم وقال: ( أيَّةُ أخلاق في الجاهلية ما أشرفها ، بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض».(ثقات ابن حبان: 1/80).

ص: 194

فقد عرض المثنى على النبي (صلی الله علیه و آله) أن يحميه من قبائل العرب دون الفرس ، فشكره النبي (صلی الله علیه و آله) ومدح صدقهم وأخلاقهم ، وبشرهم بأن الله سيورثهم ملك كسرى .

3. وبعد سنوات قليلة كانت معركة ذي قار، قرب مدينة الناصرية بين بني شيبان ومعهم بنو عجل، وبين الفرس، فقال شيخهم: إجعلوا شعاركم إسم الرجل القرشي الذي دعاكم في مكة ، فجعلوا شعارهم: يا محمد ، يا محمد . فنصرهم الله باسم النبي (صلی الله علیه و آله) ، وكان ذلك بعد معركة بدر بأربعة أشهر ، وأرسلوا خمس الغنائم الى النبي (صلی الله علیه و آله) فقبلها وشكرهم ، كما يأتي .

4. بدأ المثنى فعاليته بتحرير العراق زمن النبي (صلی الله علیه و آله) ، وواصلها بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) ، قال ابن عبد البر في الإستيعاب:4/1456: «المثنى بن حارثة الشيباني كان إسلامه وقدومه في وفد قومه على النبي (صلی الله علیه و آله) سنة تسع ، وقد قيل سنة عشر . وبعثه أبو بكر سنة إحدى عشرة في صدر خلافته إلى العراق . كان المثني شجاعاً شهماً بطلاً ميمون النقيبة ، حسن الرأي والإمارة ، أبلى في حروب العراق بلاء لم يبلغه أحد .. قدم على أبي بكر فقال: يا خليفة رسول الله إبعثني على قومي فإن فيهم إسلاماً ، أقاتل بهم أهل فارس وأكفيك أهل ناحيتي من العدو .

ففعل ذلك أبو بكر ، فقدم المثنى العراق فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحي السواد ، حولاً مُجَرَّماً (كاملاً) ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبي بكر يسأله المدد ، ويقول له: إن أمددتني وسمعت بذلك العرب أسرعوا إليَّ وأذل الله المشركين . مع أني أخبرك يا خليفة رسول الله أن الأعاجم تخافنا وتتقينا .

ص: 195

فقال له عمر: إبعث خالد بن الوليد مدداً للمثنى بن حارثة ، يكون قريباً من أهل الشام ، فإن استغنى عنه أهل الشام ألح على أهل العراق حتى يفتح الله عليه ، فهذا الذي هاج أبا بكر على أن يبعث خالد بن الوليد إلى العراق».

وفي فتوح ابن الأعثم (1/72): «وبلغ أبا بكرعنه فعاله فقال للمسلمين:ويحكم مَن هذا الذي تأتينا أخباره ووقائعه قبل معرفة خبره؟ قال: فوثب قيس بن عاصم المنقري فقال: يا خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا رجل غير خامل الذكر ، ولا مجهول الحسب ، ولا بقليل العدد والمدد ، هذا المثنى بن حارثة الشيباني . قال: فأرسل إليه أبو بكر فجعله رئيساً على قومه ، وبعث إليه بخلعة ولواء وأمره بقتال الفرس . قال: فجعل المثنى بن حارثة يقاتل الفرس من ناحية الكوفة وما يليها ، ويغير على أطرافها ، فلم يترك لهم سارحة ولا رائحة إلا استاقها (أخذ المواشي) وأقام على ذلك حولاً كاملاً أو نحواً من ذلك..

ثم إنه (المثنى) دعا بابن عم له يقال له سويد بن قطبة بن قتادة بن جرير بن بشار بن ثعلبة بن سدوس ، فضم إليه جيشاً ووجهه إلى نحو البصرة ، فجعل يحارب أهل أبُلَّة وما يليهم من الفرس . قال: فكان المثنى بن حارثة بناحية الكوفة وما يليها ، وسويد بن قطبة من ناحية البصرة وما يليها، هذا في جيش وهذا في جيش، جميعاً يحاربان الفرس ، ولا يفتران عن ذلك ».

أقول: فقد اتسعت فعاليات المثني الى البصرة ، وكان عنده قادة ، ذكروا منهم: «سبرة بن عمرو التميمي..كان مع المثنى بن حارثة في جملة قواده في حروب العراق ». (الإصابة(3/25) .«مضارب بن زيد البجلي ، له إدراك (صحابي) ثم شهد بعد ذلك القادسية». (الإصابة(6/99).

ص: 196

فقد اغتنم المثنى انشغال الفرس بصراعهم الداخلي ، ووسع جهاده في كل العراق ما عدا شرقي دجلة من جهة إيران ، وذلك قبل مجئ خالد بن الوليد .

5. ينبغي الإلتفات الى ثلاثة عوامل في فتح العراق ، أولها: حالة الإنهيار في النظام الفارسي مما شَجَّعَ العرب وساعدهم في عمليات الفتح ومعاركه .

وثانيها: أن النبي (صلی الله علیه و آله) بشَّر الأمة بفتح بلاد كسرى وقيصر، وبشر بني شيبان خاصة بفتح العراق فقال لهم: «أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك:اللهم لك ذلك ». (شرح الأخبار للقاضي النعمان: 2/387).

وثالثها: الهمة العالية والشجاعة التي اتصف بها زعيم بني شيبان المثنى بن حارثة الشيباني ، فقد كان هذا الصحابي الجليل شخصية مميزة وقائداً شجاعاً . وكانت أخباره تصل الى المدينة فيعجب المسلمون به .

قال ابن حجر في الإصابة(5/568): «قال عمر بن شبة: كان المثنى بن حارثة يغير على السواد ، فبلغ أبا بكر خبره فقال: من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه ! ثم قدم على أبي بكر فقال: يا خليفة رسول الله إبعثني على قومي فإن فيهم إسلاماً أقاتل بهم أهل فارس ، وأقتل أهل ناحيتي من العدو . ففعل ، فقدم المثنى العراق فقاتل وأغار على أهل السواد وفارس ».

وقال البلاذري(2/295): «فبلغ أبا بكر خبره فسأل عنه فقال له قيس بن عاصم بن سنان المنقري: هذا رجل غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ، ولا ذليل العماد ، هذا المثنى بن حارثة الشيباني . ثم إن المثنى قدم على أبى بكر فقال له: يا خليفة رسول الله ، استعملني على من أسلم من قومي أقاتل هذه الأعاجم من

ص: 197

أهل فارس . فكتب له أبو بكر في ذلك عهداً ، فسار حتى نزل خفان ، ودعا قومه إلى الإسلام فأسلموا » .

وهذا يدل على أن إسلام المثنى قبل ذلك ، ويدل على استجابة قومه له ، وإن كان الإسلام انتشر فيهم من بعد معركة ذي قار .

6. كان المثنى وعشيرته من شيعة علي (علیه السلام) ، وكان أبناؤه وعشيرته مع علي (علیه السلام) في حرب الجمل، واستشهد فيها ابنه ثمامة (رحمة الله) .قال في أنساب الأشراف/244: «وقتل يومئذ ثمامة بن المثنى بن حارثة الشيباني ، فقال الأعور الشني:

يا قاتل الله أقواماً هم قتلوا *** يوم الخُريبة علباءً وحسانا

وابن المثنى أصاب السيف مقتله *** وخير قرائهم زيد بن صوحانا

وكانت وقعة الجمل بالخريبة ، وحسان الذي ذكره: حسان بن محدوح بن بشر بن حوط (الذهلي) كان معه لواء بكر بن وائل ، فقتل فأخذه أخوه حذيفة بن محدوح فأصيب ، ثم أخذه بعده عدة من الحوطيين فقتلوا ، حتى تحاموه ».

وفي مصنف ابن أبي شيبة (3/139) أن أخاه مصعب بن المثنى بن حارثة: «قال يوم الجمل: أدفنونا وما أصاب الثرى من دمائنا »! أي نحن شهداء الله تعالى.

وفي أنساب السمعاني:1/44: « التقى رجلان من بكر بن وائل ، أحدهما من بني شيبان بن ثعلبة، والآخر من بني ذهل بن ثعلبة ، فقال الشيباني: أنا أفضل منك. وقال الذهلي: بل أنا أفضل منك . فتحاكما إلى رجل من همدان ، فقال: لست مفضلاً واحداً منكما على صاحبه ، ولكن إسمعا ما أقول لكما: من أيكما كان عمران بن مرة الذي ساد في الجاهلية والإسلام ؟ قال الشيباني: كان مني . قال:

ص: 198

فمن أيكما كان عوف بن النعمان الذي كان يأخذ في الإسلام ألفين وخمس مائة (لشجاعته في الحرب) ؟ قال الشيباني: كان مني. قال: فمن أيكما كان المثنى بن حارثة الذي فتح الكوفة وخطب على منبرها؟ قال الشيباني: كان مني. قال: فمن أيكما كان مصقلة بن هبيرة الذي أعتق خمس مائة أهل بيت من بني ناجية؟ قال الشيباني: كان مني. قال: فمن أيكما كان يزيد بن رويم الذي كان يقود الجيش؟ قال الشيباني: كان مني. قال: فمن أيكما كان بشير بن الخصاصية الذي هاجر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان إسمه زحماً فسماه رسول الله بشيراً ؟ قال الذهلي: كان مني . قال: فمن أيكما كان عبد الله بن الأسود الذي هاجر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ قال الذهلي: كان مني . قال: فمن أيكما كان قطبة بن قتادة الذي أغار على البصرة والأبلة ووليهما؟ قال الذهلي: مني. قال: فمن أيكما كان علباء بن الهيثم صاحب لواء ربيعة وكندة يوم الجمل، وعزل عنه الأشعث بن قيس؟ قال الذهلي: مني. قال: فمن أيكما حسان بن محدوج الذي قتل يوم الجمل ومعه لواء ربيعة وكندة؟ قال الذهلي: مني ، قال: فمن أيكما كان مجزأة بن ثور الذي شرى المسلمين بنفسه وفتح الله على وجهه الأهواز ؟ قال الذهلي: مني ، قال: فمن أيكما شقيق بن ثور الذي ساد قومه ورئسهم أربعين سنة؟ قال الذهلي: مني. قال: فمن أيكما كان سود بن منجوف الذي كان أعظم الناس وفادة وأكثرهم شفاعة وخير شريف قوم ليتيم وأرملة؟ قال الذهلي: مني. قال: فمن أيكما كان مرثد بن ظبيان الذي هاجر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوهب له أسرى بكر بن وائل وكتب معه إلى بكر بن وائل كتابا أن: أسلموا تسلموا ؟ قال الذهلي: مني ، قال: فمن أيكما كان الحضين بن المنذر صاحب راية ربيعة يوم صفين؟ قال الذهلي: مني. قال: فمن

ص: 199

أيكما كان عبد الله بن الأسود ، الذي هاجر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) صاحب القرون باليمامة ؟ قال الذهلي: مني. قال: فمن أيكما القعقاع بن شور الذي كان أكرم العرب مجالسة ، وأفصحهم لساناً ، وأحسنهم وجهاً ، وأكرمهم طروقة ؟ قال الذهلي: مني. قال: فهذا الذي أقول لكما ».

أقول: يظهر أنه يفضل الذهليين على الشيبانيين وإن كان لكل منهما مفاخر ، لكنه يكشف عن أنهم جميعاً كانوا من شيعة علي (علیه السلام) ، وانهم قدَّموا معه شهداء في حياته ، وبعد مماته . وقد قتل ابن رئيسهم عبد الرحمن بن حسان بن محدوج ، مع حجر بن عدي (رحمة الله) ، لأنه رفض أن يسب علياً (علیه السلام) .

ولا بد أن المثنى كان يلتقي بعليٍّ (علیه السلام) عندما كان يذهب الى المدينة في وفد بني شيبان الى النبي (صلی الله علیه و آله) أو بعد وفاته (صلی الله علیه و آله) ،ولعله (علیه السلام) أشار على أبي بكر باعتماد المثنى وإمداده بالمقاتلين فاعتمده ، كما نصوا على أنه أشار على عمر باعتماد النعمان بن مقرن قائداً لمعركة نهاوند ، وبعده حذيفة .

ولعل حساسية عمر من المثنى كانت بسبب تشيعه لعلي (علیه السلام) وارتباطه به ، فقد صرح من زمن ابي بكر بأنه سيعزله إن تولى الخلافة ، وعزله فلم ينعزل ، ثم مات المثنى في ظرف غامض ، كما يأتي .

7. ذكروا للمثنى عدة إخوة ، وكلهم قادة شجعان ، أبرزهم مسعود والمعنى ، وذكر ابن الأعثم (1/166) أخاه إبراهيم بن الحارثة ، في قادة معركة جلولاء . وذكروا أن أخاه مسعوداً استشهد في معركة البويب ، وسيأتي . وذكروا ابنته الفارعة ، وقد تزوجت أنس بن مالك ، ورزقت منه بأولاد . (الطبقات:7/192) .

ص: 200

وذكروا مضافاً الى ابنه ثمامة الذي استشهد في حرب الجمل أخاه مصعباً ، الذي كان معه في حرب الجمل، وابنه عبد الرحمن بن المثنى ، وذكروا عنه قصة غريبة ، وهي أنه زوج بنت عامر بن عبد الأسود بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار ، الى عبيد الله بن زياد ، بحكم أن عبد الرحمن ابن المثنى رئيس بني شيبان، والبنت من أحفاد حليفهم حنظلة وهو رئيس بني عجل بن لجيم ، وهو قائد معركة ذي قار فغضب عليه عمر بن الخطاب وضربه وحبسه ، لأن ابن زياد ليس كفؤاً لهم ، فهو عبدٌ للحارث بن كلدة . (إكمال الكمال:4/436).

وهذا يدلنا على أن حساسية عمر من المثنى انتقلت الى أولاده ، رضي الله عنهم !

8. أرسل أبو بكر خالد بن الوليد مدداً للمثنى ، فبقي في العراق سنةً وكسراً ، وكانت فترة هادئة عسكرياً ، لأن الفرس كانوا مشغولين بوضعهم الداخلي ، وكانت العمليات على بقايا المسالح الفارسية ، وبعض الدساكر لإخضاعها. ولم يخض خالد أي معركة منها ، بل كان القتال على المثنى وفرسانه .

قال الدينوري في الأخبار الطوال/111: « فلما أفضى الملك إلى بوران بنت كسرى بن هرمز، شاع في أطراف الأرضين أنه لا مَلِكَ لأرض فارس وإنما يلوذون بباب امرأة ، فخرج رجلان من بكر بن وائل ، يقال لأحدهما المثنى بن حارثة الشيباني والآخر سويد بن قطبة العجلي ، فأقبلا حتى نزلا فيمن جمعا بتخوم أرض العجم ، فكانا يغيران على الدهاقين فيأخذان ما قدرا عليه ، فإذا طلبا أمعنا في البر فلا يتبعهما أحد ، وكان المثنى يغير من ناحية الحيرة ، وسويد من ناحية الأبلة ، وذلك في خلافة أبي بكر .

ص: 201

فكتب المثنى بن حارثة إلى أبي بكر يعلمه ضراوته بفارس ويعرفه وهنهم ، ويسأله أن يمده بجيش . فلما انتهى كتابه إلى أبي بكر كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد ، وقد كان فرغ من أهل الردة ، أن يسير إلى الحيرة فيحارب فارس ، ويضم إليه المثنى ومن معه .

وكره المثنى ورود خالد عليه وكان ظن أن أبا بكر سيوليه الأمر ، فسار خالد والمثنى بأصحابهما ، حتى أناخا على الحيرة وتحصن أهلها في القصور الثلاثة...

ثم صالحوه من القصور الثلاثة على مائة ألف درهم يؤدونها في كل عام إلى المسلمين . ثم ورد كتاب أبي بكر على خالد مع عبد الرحمن جميل الجمحي، يأمره بالشخوص إلى الشام ليمد أبا عبيدة بن الجراح بمن معه من المسلمين ، فمضى وخلف بالحيرة عمرو بن حزم الأنصاري مع المثنى » .

أقول: يمكن أن يكون المثنى في نفسه كره تأمير خالد عليه ، لكن لم يظهر منه إلا الطاعة لأنه القائد المعين من الخليفة . وكان المثنى معتمد خالد في عامة عملياته العسكرية ، كما بينا ذلك في الحديث عن خالد .

وقد بالغ رواة السلطة في دور خالد ، والتنقيص من دور المثنى ، لكن لم يثبت لخالد أي مبارزة أو مشاركة في حملة فيها قتال ، بل كان عمله استعراضياً ، أو مباغتةً وغدراً لنائمين كما صنع في تغلب ، أو حضوراً لقبض مبلغ الصلح المقرر .

ففي فتوح البلاذري (2 /295) مختصراً: «وكتب لأبي بكر أن يمدَّه بالجيش لحرب الفرس، فأرسل إليه خالد بن الوليد فوجَّه المثنى بن حارثة الى أُلَّيْس، منطقة قرب السماوة فخرج إليه صاحبها جابان بجيشه فالتقوا قرب النهر ، فهزمهم المثنى ثم صالحهم . ثم دنا المثنى بمن معه الى الحيرة ، فخرجت إليه خيول

ص: 202

صاحب كسرى التي كانت في المخافر فهزمهم . ثم جاء خالد فصالحهم ، بعد أن وطَّدَ المثنى بن حارثة له الأمور » .

وفي الطبري(2/552): «وأقبل خالد بن الوليد يسير فعرض له جابان صاحب أليس ، فبعث إليه المثنى بن حارثة فقاتله فهزمه وقتل جل أصحابه ، إلى جانب نهر ثم يدعى نهر الدم لتلك الوقعة ، وصالح أهل ألِّيس ».

فكان خالد يبتعد بنفسه ، ويبعث المثنى لقتال هذه الحامية الفارسية ، أو تلك الجماعة أو القرية ، فينتصر عليهم ويتفق معهم ، فيأتي خالد ويوقع الصلح ويأخذ المبلغ والأعيان المتفق عليها، ونادراً ما يذهب هو في غارة !

لذلك، نجد رواية الطبري (2/552) تقول إنه بعث المثنى فقاتل في أليس فقبلوا بالمصالحة . ثم نجد رواية (2/560) تقول إنهم كانوا ألوفاً فبرز خالد الى قائدهم وقتله ، وكانوا أعدوا طعاماً فقال لهم ضعوا فيه السم فسمموه ، وجاء خالد والمسلمون فأكلوا منه ولم يتسمموا ، ثم اتفقوا معه فصالحهم .

فتعرف أن هذه الرواية تريد مدح خالد بأنه مقاتل بطل، وأنه ضد التسمم لقوة إيمانه!

ومثلها رواية (تاريخ الطبري:2/559) عن وقعة يوم الولجة ، تزعم أن خالداً بارز «رجلاً من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله فلما فرغ اتكأ عليه ودعا بغدائه» !

ثم نجد أن هذه المعركة كانت غارة على نصارى بكر بن وائل العرب وقتل منهم خالد وأسر! (الطبري:2/560) ، أما القادة الفرس فكانوا معروفين ، وردت أسماؤهم في المعارك الكبيرة والصغيرة التي خاضها المسلمون ، مثل جابان ، ومردانشاه ، وذي الحاجب ، ومهران ، والجالينوس ، وقائدهم العام رستم . وقد أخفى الراوي هنا إسم القائد الذي قتله خالد ، لأنه لاوجود له !

ص: 203

والصحيح أن خالداً كان يصالح ويقبض المال ، والذي كان يقاتل هو المثنى!

وتقرأ في فتوح البلاذري(2/297وما بعدها) عن آخر أعمال خالد: « وسار خالد إلى الأنبار فتحصن أهلها ، ثم أتاه من دله على سوق بغداد وهو السوق العتيق الذي كان عند قرن الصراة ، فبعث خالد المثنى بن حارثة فأغار عليه ، فملأ المسلمون أيديهم من الصُّفَّراء والبيضاء وما خف محمله من المتاع... فلما رأى أهل الأنبار ما نزل بهم صالحوا خالداً على شئ رضى به فأقرهم...

وأتى خالد بن الوليد رجل دله على سوق يجتمع فيها كلب وبكر بن وائل وطوائف من قضاعة فوق الأنبار، فوجه إليها المثنى بن حارثة ، فأغار عليها فأصاب ما فيها ، وقتل وسبى . ثم أتى خالد عين التمر فألصق بحصنها ، وكانت فيه مسلحة للأعاجم عظيمة فخرج أهل الحصن فقاتلوا ، ثم لزموا حصنهم فحاصرهم خالد والمسلمون حتى سألوا الأمان فأبى أن يؤمنهم، وافتتح الحصن عنوة وقتل وسبى، ووجد في كنيسة هناك جماعة سباهم ، فكان من ذلك السبي حمران ابن أبان بن خالد التمري..وسيرين أبو محمد بن سيرين وإخوته وهم: يحيى بن سيرين ، وأنس بن سيرين ، ومعبد بن سيرين ..ثم سار خالد من عين التمر إلى الشام ، وقال للمثنى بن حارثة: إرجع رحمك الله إلى سلطانك فغير مقصرٍ ولا وانٍ ».

ومع ذلك تقرأ عنتريات خالد وقوله كما في تاريخ الطبري (2/319): «لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف ، وما لقيت قوماً كقوم لقيتهم من أهل فارس وما لقيت من أهل فارس قوماً كأهل أَليس » .

ص: 204

فهو يفتخر ببطولته في مؤتة ، ويزعم أنه كسَّر على رؤوس الروم تسعة أسياف ، ويقول إن الفرس أشجع من الروم ، وإن أهل ألِّيس أشجع الفرس! فأين قاتل خالد في مؤتة وقد هرب منها حتى المسلمون التراب في وجهه؟ وأين قاتل أهل ألّيس ولم يذهب الى منطقتهم بل بعث المثنى فقاتلهم وصالحوه ؟!

وفي الطبري(2/308):«وأقبل حتى دنا من الحيرة ، فخرجت إليه خيول آزاذبه صاحب خيل كسرى التي كانت في مسالح ما بينه وبين العرب ، فلقوهم بمجتمع الأنهار، فتوجه إليهم المثنى بن حارثة فهزمهم الله . ولما رأى ذلك أهل الحيرة خرجوا يستقبلونه.. قال لهم خالد: إني أدعوكم إلى الله وإلى عبادته وإلى الإسلام فإن قبلتم فلكم مالنا وعليكم ما علينا وإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فقد جئناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم شرب الخمر ، فقالوا: لاحاجة لنا في حربك ، فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم ، فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق ».

وفي الطبري(2/584): «ثم أعطوه شيئاً رضى به فأقرهم..وجه المثنى على سوق فيها جمع لقضاعة وبكر فأصاب ما في السوق».

وذكر النويري(19/115) وقعة حصيد ووقعة الخنافس وما بعدها التي نسبوها الى خالد ، وقال لم تكن مع خالد بل مع خليفته على العراق أي المثنى !

ويكفي لرد الوقعات التي نسبوها الى خالد أن ابن الأعثم (1/134) قال عن وقعة الجسر ما لفظه: «ذكر وقعة الجسر وهي أول وقعة للمسلمين مع الفرس». وقد كانت بعد ذهاب خالد بشهور وربما بسنة !

ص: 205

ومعناه أن كل ما قبلها من عمليات المثنى رضي الله عنه ، قبل خالد ، إنما هو عمليات على حاميات وليس على جيش نظامي ، وكانت أول معركة مع جيش فارسي نظامي معركة بابل بعد ذهاب خالد ، وبعدها معركة النمارق ، ثم معركة الجسر .

معركة بابل أول معركة مع الجيش الفارسي النظامي

9. كانت أول معركة مع الجيش النظامي الفارسي بعد ذهاب خالد من العراق

وكانت قبل أن يمد عمر المثنى بأبي عبيد الثقفي ونحو ألف مقاتل ، فقد عاجل الفرس المثنى عندما ملكوا عليهم شهر براز ، فأرسل جيشاً لحربه .

قال الطبري:2/605: «واستقام أهل فارس على رأس سنة من مقدم خالد الحيرة ، بعد خروج خالد بقليل ، وذلك في سنة ثلاث عشرة على شهر براز بن أردشير بن شهريار ، ممن يناسب إلى كسرى ثم إلى سابور ، فوجه إلى المثنى جنداً عظيماً ، عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف ومعه فيل ، وكتبت المسالح إلى المثنى بإقباله ، فخرج المثنى من الحيرة نحوه وضم إليه المسالح ، وجعل على مجنبتيه المعنى ومسعوداً ابني حارثة ، وأقام له ببابل .

وأقبل هرمز جاذويه وعلى مجنبتيه الكوكبد والخوكبذ ، وكتب إلى المثنى:

من شهر براز إلى المثنى: إني قد بعثت إليك جنداً من وحش أهل فارس ، إنما هم رعاة الدجاج والخنازير ، ولست أقاتلك إلا بهم !

فأجابه المثنى: من المثنى إلى شهر براز: إنما أنت أحد رجلين ، إما باغ فذلك شر لك وخير لنا ، وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفى الناس

ص: 206

الملوك ! وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اصطررتم إليهم ، فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير!

فجزع أهل فارس من كتابه وقالوا: إنما أتى شهر براز من شؤم مولده ولؤم منشئه ، وكان يسكن ميسان ، وبعض البلدان شين على من يسكنه ! وقالوا له: جرأت علينا عدونا بالذي كتبت به إليهم ، فإذا كاتبت أحداً فاستشر!

فالتقوا ببابل فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا ، على الطريق الأول قتالاً شديداً .

ثم إن المثنى وناساً من المسلمين اعتوروا الفيل ، وقد كان يفرق بين الصفوف والكراديس ، فأصابوا مقتله فقتلوه وهزموا أهل فارس ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ، حتى جازوا بهم مسالحهم ، فأقاموا فيها ، وتتبع الطلب الفالة حتى انتهوا إلى المدائن . وفى ذلك يقول عبدة بن الطبيب السعدي ، وكان عبدة قد هاجر لمهاجرة حليلة له ، حتى شهد وقعة بابل فلما آيسته رجع إلى البادية فقال:

هل حبلُ خولةَ بعد البين موصولُ *** أم أنت عنها بعيدُ الدار مشغولُ

وللأحبةِ أيامٌ تُذكِّرُها *** وللنوى قبل يوم البيْن تأويل

حلت خويلةُ في حيٍّ عهدتهم *** دون المدائن فيها الديك والفيل

يقارعون رؤس العُجْمِ ضاحيةً *** منهم فوارسُ لا عزلٌ ولا ميللُ

القصيدة للفرزدق يعدد بيوتات بكر بن وائل. وذكر المثنى وقتله الفيل:

وبيت المثنى قاتلُ الفيل عنوةً *** ببابل إذ في فارس ملك بابل

ومات شهر براز منهزم هرمز جاذويه (حكم أربعين يوماً فقتلوه) واختلف أهل فارس وبقى ما دون دجلة وبرس من السواد في يدي المثنى والمسلمين .

ص: 207

ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهربراز على دخت زنان ابنة كسرى ، فلم ينفذ لها أمر فخلعت وملك سابور بن شهربراز . قالوا: ولما ملك سابور بن شهربراز قام بأمره الفرخزاذ بن البندوان فسأله أن يزوجه أزر ميدخت ابنة كسرى ففعل، فغضبت من ذلك وقالت: يا ابن عم أتزوجني عبدي؟ قالت: استحى من هذا الكلام ولا تعيديه على فإنه زوجك فبعثت إلى سياوخش الرازي وكان من فتاك الأعاجم فشكت فيه الذي تخاف ، فقال لها: إن كنت كارهة لهذا فلا تعاوديه فيه وأرسلي إليه وقولي له فليقل له فليأتك فأنا أكفيكه ، ففعلت وفعل واستعد سياوخش ، فلما كان ليلة العرس أقبل الفرخزاذ حتى دخل فثار به سياوخش فقتله ومن معه ، ثم نهد بها معه إلى سابور فحضرته ، ثم دخلوا عليه فقتلوه وملكت آزر ميدخت بنت كسرى ، وتشاغلوا بذلك وأبطأ خبر أبي بكر على المسلمين فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية ووضع مكانه في المسالح سعيد بن مرة العجلي وخرج المثنى نحو أبى بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين ، وليستأذنه في الإستعانة بمن قد ظهرت توبته وندمه من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو ، وليخبره أنه لم يخلف أحداً أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم. فقدم المدينة وأبو بكر مريض ، وقد مرض أبو بكر بعد مخرج خالد إلى الشام مرضته التي مات فيها بأشهر ، فقدم المثنى وقد أشفى وعقد لعمر فأخبره الخبر ، فقال: عليَّ بعمر ، فجاء فقال له: إسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به ، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا وذلك يوم الإثنين فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى ، وإن تأخرت إلى الليل فلا

ص: 208

تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى... فمات أبو بكر ، وندب عمر الناس مع المثنى » .

ومعنى ذلك أن قوة المثنى التي وصلت الى بضعة آلاف بلغت من القوة أنها هزمت جيشاً نظامياً من عشرة آلاف ، وقد كان لبطولته مع إخوانه قادة المعركة الفضل الأول في تحقيق النصر . وقد أدركت الخلافة أهمية فتح العراق وتقوية جبهته .

10. وكان أول من أمدَّ بهم عمر المثنى أبا عبيد الثقفي ، أرسله والياً على العراق

قال الطبري:2/630: «أول ما عمل به عمر أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس قبل صلاة الفجر من الليلة التي مات فيها أبو بكر، ثم أصبح فبايع الناس ، وعاد فندب الناس إلى فارس ، وتتابع الناس على البيعة ففرغوا في ثلاث ، كل يوم يندبهم فلا ينتدب أحد إلى فارس ، وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم وأثقلها عليهم ، لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم . قالوا: فلما كان اليوم الرابع عاد فندب الناس إلى العراق فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود وسعد بن عبيد الأنصاري حليف بنى فزارة هرب يوم الجسر».

أقول: وصفت الروايات خوف المسلمين من قتال الفرس، وأن عمر ندبهم ثلاثة أيام وخطب فيهم المثنى ، فاستجاب له أبو عبيد بن مسعود أبو المختار الثقفي (رحمة الله) فذهب المثنى قبله ، وجمعوا لأبي عبيد ألف مقاتل أو أكثر .

ثم وصفت الرواية أوضاع فارس ومعارك المسلمين معهم ، وفيها مناقبية أبي عبيد ونزاهته عن المال الحرام ، وبطولات المثنى ، الذي تحمَّل ثقل المعارك .

ص: 209

وكان أبو عبيد رضي الله عنه من أفضل القادة الذين أمدت بهم الخلافة المثنى ، فهو من نوع عمار وهاشم المرقال وحجر بن عدي شجاعة ونزاهة وتعففاً .

قال الطبري (2/630): «وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم وأثقلها عليهم لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم ، وقهرهم الأمم ! قالوا: فلما كان اليوم الرابع عاد فندب الناس إلى العراق ، فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود ، وسعد بن عبيد الأنصاري.. وتكلم المثنى بن حارثة فقال: يا أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه ، فإنا قد تبحبحنا ريف فارس ، وغلبناهم على خير شِقَّي السواد ، وشاطرناهم ونلنا منهم ، واجترأ مَن قبلنا عليهم ، ولها إن شاء الله ما بعدها . وقام عمر في الناس فقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النعجة ، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك . أين القرَّاء المهاجرون عن موعود الله ، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها ، فإنه قال: ليظهره على الدين كله . والله مظهر دينه ومعز ناصره ومولي أهله مواريث الأمم..

فلما اجتمع ذلك البعث قيل لعمر: أَمِّر عليهم رجلاً من السابقين من المهاجرين والأنصار. قال: لاوالله لا أفعل إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب إلى الدعاء . والله لا أؤمر عليهم الا أولهم انتداباً . ثم دعا أبا عبيد وسليطاً وسعداً فقال: أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى مالكما من القدمة ، فأمَّر أبا عبيد على الجيش وقال لأبي عبيد: إسمع من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) وأشركهم في الأمر ، ولاتجتهد مسرعاً حتى تتبين ، فإنها الحرب والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث ، الذي يعرف الفرصة والكف ».

ص: 210

المعركة الثانية مع الجيش الفارسي معركةالنمارق

11. خاض المثنى وأبو عبيد معركتين ، أبليا فيهما بلاء حسناً: النمارق، والجسر. فقد جاءت بوران ملكة الفرس برستم بن فرخزاد حاكم خراسان ، ونصبته نائباً لها وقائداً عاماً لجيش الفرس لعشر سنين ، وألبسته تاجاً ، ثم عزَّز ذلك ملكهم يزدجرد عندما تَوَّجوه في السنة التي جاء فيها أبو عبيدة الى العراق .

فحرك رستم المرازبة الفرس(حرس الحدود) وقادة الدساكر في العراق ، لينقضوا عقود الصلح ويثوروا على المسلمين ، فسارع الى الثورة قائدان هما جوبان في منطقة النمارق ، والنرسي في منطقة زند رود . وكلاهما قرب واسط .

قال ابن كثير في النهاية (7/35): «فملكوه (يزدجرد) عليهم وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وهو من ولد شهريار بن كسرى ، وعزلوا بوران واستوثقت الممالك له واجتمعوا عليه وفرحوا به وقاموا بين يديه بالنصر أتم قيام واستفحل أمره فيهم وقويت شوكتهم به ، وبعثوا إلى الأقاليم والرساتيق فخلعوا الطاعة للصحابة ونقضوا عهودهم وذممهم ! وبعث الصحابة إلى عمر بالخبر ، فأمرهم عمر أن يتبرزوا من بين ظهرانيهم (يخرجوا من مناطق العراق الزراعية)وليكونوا على أطراف البلاد حولهم على المياه ، وأن تكون كل قبيلة تنظر إلى الأخرى بحيث إذا حدث حدث على قبيلة لا يخفى أمرها على جيرانهم . وتفاقم الحال جداً ، وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة ».

ص: 211

وقال الطبري (2/634): «وقدم المثنى الحيرة من المدينة في عشر ، ولحقه أبو عبيد بعد شهر فأقام المثنى بالحيرة خمس عشرة ليلة. وكتب رستم إلى الدهاقين للسواد أن يثوروا بالمسلمين ، ودس في كل رستاق رجلاً ليثور بأهله ، فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل ، وبعث نرسي إلى كسكر ووعدهم يوماً وبعث جنداً لمصادمة المثنى ، وبلغ المثنى ذلك فضم إليه مسالحه وحَذِرَ . وعجَّل جابان فثار ونزل النمارق ، وتوالوا على الخروج ، فخرج نرسي زندورد (وكلها ما بين الكوت والكوفة) وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله ، وخرج المثنى في جماعة حتى ينزل حفان ، لئلا يؤتى من خلفه بشئ يكرهه ، وأقام حين قدم عليه أبو عبيد فكان أبو عبيد على الناس ، فأقام بخفان أياماً ليستجم أصحابه ، وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير . وخرج أبو عبيد بعد ما جمَّ الناس وظَهْرُهم (دوابهم) وتعبأ فجعل المثنى على الخيل، وعلى ميمنته والق بن جيدارة ، وعلى ميسرته عمرو بن الهيثم بن الصلت بن حبيب السلمي . وعلى مجنبتي جابان: جشنس ماه ، ومردانشاه . فنزلوا على جابان بالنمارق فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فهزم الله أهل فارس وأُسِر جابان ، أسره مطر بن فضة التميمي ، وأُسِر مردان شاه ، أسره أكتل بن شماخ العكلي ، فأما أكتل فإنه ضرب عنق مردانشاه ، وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه حتى تفلت منه بشئ فخلى عنه ، فأخذه المسلمون فأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه الملك ، وأشاروا عليه بقتله فقال: إني أخاف الله أن أقتله ، وقد آمنه رجل مسلم ، والمسلمون في التواد والتناصر كالجسد ، ما لزم بعضهم فقد لزمهم كلهم .

ص: 212

فقالوا له إنه الملك ! قال: وإن كان ، لا أغدر ، فتركه... ما تروني فاعلاً معاشر ربيعة ، أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا ! معاذ الله من ذلك .

وقسم أبو عبيد الغنائم وكان فيها عطر كثير ونفل ، وبعث بالأخماس ...

وقال أبو عبيد حين انهزموا وأخذوا نحو كسكر ليلجؤوا إلى نرسي ، وكان نرسي ابن خالة كسرى، وكانت كسكر قطيعة له ، وكان النرسي يحميه لا يأكله بشر ولا يغرسه غيرهم ، أو ملك فارس إلا من أكرموه بشئ منه ، وكان ذلك مذكوراً من فعلهم في الناس، وأن ثمرهم هذا حمى ، فقال له رستم وبوران: إشخص إلى قطيعتك فاحمها من عدوك وعدونا وكن رجلاً ، فلما انهزم الناس يوم النمارق ، ووجهت الفالة نحو نرسي ونرسي في عسكره ، نادى أبو عبيد بالرحيل وقال للمجردة: إتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسي ، أو تبيدوهم فيما بين النمارق إلى بارق إلى درتا...

ومضى أبو عبيدة حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسي بكسكر ، ونرسي يومئذ بأسفل كسكر، والمثنى في تعبيته التي قاتل فيها جابان ، ونرسي على مجنبتيه ابنا خاله وهما ابنا خال كسرى: بندويه وتيرويه ابنا بسطام ، وأهل باروسما ونهر جوبر والزوابي معه إلى جنده ، وقد أتى الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان ، فبعثوا إلى الجالنوس ، وبلغ ذلك نرسي وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزاب ، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة ، وعاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية ، فاقتتلوا في صحارى ملس قتالاً شديداً ، ثم إن الله هزم فارس ، وهرب نرسي وغُلب على عسكره وأرضه .

ص: 213

وأخرب أبو عبيد ما كان حول معسكرهم من كسكر ، وجمع الغنائم فرأى من الأطعمة شيئاً عظيماً ، فبعث فيمن يليه من العرب ، فانتقوا ما شاؤوا ، وأخذت خزائن نرسي ، فلم يكونوا بشئ مما خزن أفرح منهم بالنرسيان ، لأنه كان يحميه ويمالؤه عليه ملوكهم فاقتسموه ، فجعلوا يطعمونه الفلاحين وبعثوا بخمسه إلى عمر ، وكتبوا إليه: إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحرمونها ! وأحببنا أن تروها لتذكروا إنعام الله وإفضاله !

وأقام أبو عبيد وسرح المثنى إلى باروسما ، وبعث والقاً إلى الزوابي ، وعاصماً إلى نهر جوبر ، فهزموا من كان تجمع ، وأخرجوا وسبوا وكان مما أخرب المثنى وسبى أهل زندورد وبسريسي ، وكان أبو زعبل من سبى زندورد .

وهرب ذلك الجند إلى الجالنوس ، فكان ممن أسر عاصم أهل بيتيق من نهر جوبر ، وممن أسر والق أبو الصلت ، وخرج فروخ وفرونداذ إلى المثنى يطلبان الجزاء والذمة ، دفعاً عن أرضهم فأبلغهما أبا عبيد.. فأعطياه عن كل رأس أربعة دراهم ، فروخ عن باروسما وفرونداذ عن نهر جوبر، ومثل ذلك لزوابي وكسكر ، وضمنا لهم الرجال عن التعجيل ، ففعلوا وصاروا صلحاً .

وجاء فروخ وفرونداذ إلى أبى عبيد بآنية فيها أنواع أطعمة فارس من الألوان والأخبصة وغيرها ، فقالوا: هذه كرامة أكرمناك بها وقِرى لك . قال: أأكرمتم الجند وقريتموهم مثله؟ قالوا لم يتيسر، ونحن فاعلون ، وإنما يتربصون بهم قدوم الجالنوس وما يصنع.

فقال أبو عبيد: لا حاجة لنا فيه ، بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوماً من بلادهم أهرقوا دماءهم دونه أو لم يهريقوا ، فاستأثر عليهم بشئ يصيبه ، لاوالله

ص: 214

لا يأكل مما أفاء الله عليهم ، إلا مثل ما يأكل أوساطهم.. ودخل أبو عبيد باروسما ونزل هو وأصحابه قرية من قراها ، فاشتملت عليهم ، فصنع لأبي عبيد طعام فأتى به ، فلما رآه قال:ما أنا بالذي آكل هذا دون المسلمين. فقالوا له: كل، فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وهو يؤتى في منزله بمثل هذا ، أو أفضل. فأكل . فلما رجعوا إليه سألهم عن طعامهم ، فأخبروه بما جاءهم » .

وفي الطبري:2/638: «كان جابان ونرسي استمدا بوران فأمدتهما بالجالنوس في جند جابان ، وأمر أن يبدأ بنرسي ثم يقاتل أبا عبيد بعد ، فبادره أبو عبيد فنهض في جنده قبل أن يدنو ، فلما دنا استقبله أبو عبيد فنزل الجالنوس بباقسياثا من باروسما ، فنهد إليه أبو عبيد في المسلمين وهو على تعبيته ، فالتقوا على باقسياثا فهزمهم المسلمون وهرب الجالنوس. وأقام أبو عبيد قد غلب على تلك البلاد».

وفي تاريخ خليفة/46: «وبعث أبو عبيد المثنى بن حارثة إلى زندورد فحاربوه ، فقتل وسبى » .

وروى الكلاعي في الاكتفاء:2/404، عن المدائني: «وبلغ يزدجرد أن ملك العرب يسير إليه ، فشاور أهل بيته ومرازبته ، فقالوا له: وجه إلى أطرافك فحصنها وأخرج من فيها من العرب ، فوجه جالينوس ورستم وليس بالأزدى ومردان شاه ونرسي ابن خال أبرويز ، وكل واحد فى خمسة آلاف ، وأمرهم أن ينزلوا متفرقين ، ويكون بعضهم قريباً من بعض كل رجل فى أصحابه ، ويمد بعضهم بعضاً إن احتاجوا إلى ذلك ، وأمرهم أن يقتلوا من قدروا عليه من العرب ، فخرجوا والمثنى بالحيرة ، فبلغه مسيرهم ، فخرج لينزل على البلاد ، فلقى على

ص: 215

قنطرة النهرين خرزاذبه فقتله . ومضى المثنى فنزل من وراء أليس ، ونزل العجم متفرقين ، فنزل نرسى كسكر ، ونزل مردان شاه فيما بين سورا وقبين ، ونزل رستم بابل ، ونزل جالينوس بارسمى ، ووجه جالينوس جابان فى ألف إلى أليس ، ووجه أزاذبه إلى الحيرة فى ألف ، وفصل أبو عبيد بن مسعود من المدينة فى ألف وثمان مائة من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فيهم من ثقيف أربع مائة معهم أبو محجن ، كان مع خالد بن الوليد بالشام فلما أتتهم وفاة أبى بكر رجع إلى المدينة ، فخرج مع أبى عبيد ، وانضم إلى أبي عبيد فى الطريق مائة من بنى أسد ، ومائتان من طيئ ومائة من بنى ذبيان بن بغيض ، ومائة من بنى عبس ، معهم خمسة وعشرون فرساً .

وخرج المثنى بن حارثة فى ثلاث مائة وسبعين من بكر بن وائل ، وثلاث مائة من بنى تميم حنظلة وعمرو وسعد والرباب ، فتلقى أبا عبيد ثم أقبل معه حتى نزل عسكره الذى كان فيه ، ووضع عيوناً على المسلحة التى بأليس فأتوه فأعلموه فأخبر أبا عبيد ، فقال له: إن أذنت لي سرت إليهم ، فأذن له وضم إليه ابنه جبر بن أبى عبيد وقال لابنه جبر: لا تخالفه ، فسار المثنى فصبح أليس وهم آمنون فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزموا ، فأصاب المسلمون سلاحاً ومتاعاً ليس بالكثير ، ورجع إلى أبى عبيد .

ونزل جابان فيما بين الحيرة والقادسية وكتب أبو عبيد إلى عمر بخبر أليس ، فسر المسلمون ونشطوا ، وخرج قوم من المدينة إلى أبي عبيد ، وتقدم أبو عبيد

ص: 216

فلقى جابان فيما بين الحيرة والقادسية ، وجابان فى ألفين معه آزاذبه ، فلم يطل القتال بينهم حتى انهزم المشركون » .

أقول: هكذا سارت عمليات تحرير العراق باطراد في مصلحة المسلمين ، وكان الفضل فيها لإخلاص المثنى وأبي عبيد الثقفي وتضحياتهما ، رضي الله عنهما .

وكان أبو عبيد من أفضل القادة الذين بعثتهم الخلافة الى العراق ، شجاعاً نزيهاً مخلصاً، كعمار وحذيفة والمرقال ، يعيش مع جنوده ويقاتل أمامهم ، ولا يجلس في خيمته كسعد ، ولا يغير ويقتل وينهب ويسبي كخالد ، ولا يسرق الحيوانات من أهل القرى ليطعم جيشه كجرير وأمثاله !

وقد ختم أبو عبيد انتصاراته بخطأ ذريع بسبب عنفوانه وعجلته ، فلا عصمة إلا للمعصومين صلوات الله عليهم ، فقد خيَّره القائد الفارسي في معركة الجسر في العبور، فاختار أبو عبيد أن يعبر هو حتى لايقال إنه خاف ، فعبر بجيشه الى مكان ضيق لا يصلح للمسلمين للقتال ، فكانت معركة صعبة عليهم ، وخسروا أربعة آلاف شهيد وغريق ، واستشهد فيها أبو عبيد نفسه ، وسبعة من خواصه الثقفيين .

معركة الجسر

12. وخاض المثنى وأبو عبيد رضي الله عنهما ، معركة الجسر أو قِسُّ الناطف ، وتسمى أيضاً معركة المروحة ، وسماها الطبري معركة القرقس ، وكانت في أواخر السنة الثالثة عشرة وقيل الرابعة عشرة للهجرة . ووقعت فيها أكبر خسارة على المسلمين وأقساها بسبب إصرار أبي عبيد (رحمة الله) على خطئه العسكري !

ص: 217

قال البلاذري (2/313): (وأقبل رستم ، وهو من أهل الري ، ويقال بل هو من أهل همذان ، فنزل بَرْس (قرب الحلة- معجم البلدان:1/103)ثم سار فأقام بين الحيرة والسيلحين أربعة أشهر ، لايقدم على المسلمين ولا يقاتلهم ، والمسلمون معسكرون بين العذيب والقادسية . وقدَّمَ رستمُ ذا الحاجب فكان معسكراً بطيزناباذ . (قرب الكوفة- معجم البلدان:4/55) وكان المشركون زهاء مئة ألف وعشرين ألفاً ومعهم ثلاثون فيلاً ، ورايتهم العظمى التي تدعى درفش كابيان .

وكان جميع المسلمين ما بين تسعة آلاف إلى عشرة آلاف ، فإذا احتاجوا إلى العلف والطعام أخرجوا خيولاً في البر ، فأغارت على أسفل الفرات ».

و«درفش كابيان:إضافة إلى كابي صاحبها، والدرفش بالفارسية القديمة الراية. وقد حليت بالذهب وأنواع الجواهر الثمينة ، وكانت لا تظهر إلا في حروب عظيمة تنشر على رأس الملك أو ولى عهده ، أو من يقوم مقامه ، فلم تزل معظمة عند جميع ملوكهم إلى أن وجه بها يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس من الساسانية ، مع رستم الآذري لحرب العرب ». ( التنبيه والإشراف/76).

ويلفظ الفرس كابي«كاوه» وهو حدادٌ أصفهاني قتل الملك الضحاك ابنيه ، فأخذ حربة وعلق عليها قطعة ودعا الى حرب الضحاك ، فأجابه الناس وقصد الضحاك فقتله ، وملَّك عليهم إفريدون من عقب جمشيد ، فصار لكابي عندهم مقام ، وعظموا رايته وكللوها بالجواهر واليواقيت ، وكان ملوكهم يستفتحون بها في الحرب المهمة حتى غنمها المسلمون في القادسية.(صبح الأعشى:13/297).

ص: 218

وفي الطبري:2/640: «استعمل رستم على حرب أبى عبيد بهمن جاذويه وهو ذو الحاجب ورد معه الجالنوس ومعه الفيلة فيها فيل أبيض عليه النخل ، وأقبل في الدهم وقد استقبله أبو عبيد حتى انتهى إلى بابل ، فلما بلغه انحاز حتى جعل الفرات بينه وبينه فعسكر بالمروحة .

ثم إن أبا عبيد ندم حين نزلوا به وقالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر ، فحلف ليقطعن الفرات إليهم وليمحصن ما صنع ، فناشده سليط بن قيس ووجوه الناس وقالوا إن العرب لم تلق مثل جنود فارس مذ كانوا ، وإنهم قد حفلوا لنا واستقبلونا من الزهاء والعدة بما لم يلقنا به أحد منهم ، وقد نزلت منزلاً لنا فيه مجال وملجأ ومرجع ، من فرة إلى كرة . فقال: لا أفعل جبنت والله ! وكان الرسول فيما بين ذي الحاجب وأبى عبيد مردانشاه الخصي ، فأخبرهم أن أهل فارس قد عيروهم! فازداد أبو عبيد مَحْكاً ، ورد على أصحابه الرأي وجبَّن سليطاً فقال سليط: أنا والله أجرأ منك نفساً وقد أشرنا عليك الرأي فستعلم».

وفي تاريخ الطبري (2/641): «أقبل ذو الحاجب حتى وقف على شاطئ الفرات بقس الناطف ، وأبو عبيد معسكر على شاطئ الفرات بالمروحة ، فقال: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم؟ فقال أبو عبيد: بل نعبر إليكم ، فعقد ابن صلوبا الجسر للفريقين جميعاً... ثم نهد بالناس فعبروا وعبروا إليهم ، وعضلت الأرض بأهلها وألحم الناس الحرب . فلما نظرت الخيول إلى الفيلة عليها النخل، والخيل عليها التجافيف ، والفرسان عليهم الشعر ، رأت شيئاً منكراً لم تكن ترى مثله ! فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم ، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل(الأجراس) فرقت بين كراديسهم ، لا تقوم لها الخيل

ص: 219

إلا على نفار ، وخزَّقهم الفُرس بالنشَّاب ، وعضَّ المسلمين الألم ، وجعلوا لا يصلون إليهم ، فترجل أبو عبيد وترجل الناس ثم مشوا إليهم فصافحوهم بالسيوف ، فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم ، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة وقطعوا بُطُنها (أحزمتها) وأقلُبُوا عنها أهلها ، وواثب هو الفيل الأبيض فتعلق ببطانة فقطعه، ووقع الذين عليه وفعل القوم مثل ذلك ، فما تركوا فيلاً إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه ! وأهوى الفيل لأبي عبيد فنفح مشفره بالسيف فاتقاه الفيل بيده ، وأبو عبيد يتجرثمه فأصابه بيده فوقع ، فخبطه الفيل وقام عليه ، فلما بصر الناس بأبي عبيد تحت الفيل، خشعت أنفس بعضهم وأخذ اللواء الذي كان أمَّره بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد فاجترَّه إلى المسلمين وأحرزوا شلوه (جثته)... وتتابع سبعة من ثقيف كلهم يأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت ، ثم أخذ اللواء المثنى وهرب الناس .

فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقى أبو عبيد وخلفاؤه وما يصنع الناس ، بادرهم إلى الجسر فقطعه وقال: يا أيها الناس موتوا على ما مات عليه أمراؤكم ، أو تظفروا . وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر وخشع ناس فتواثبوا في الفرات فغرق من لم يصبر وأسرعوا فيمن صبر ، وحما المثنى وفرسان من المسلمين الناس ونادى: يا أيها الناس إنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا ، فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب ، ولا تغرقوا أنفسكم .

فعبروا الجسروعبد الله بن مرثد قائم عليه يمنع الناس من العبور ، فأخذوه فأتوا به المثنى فضربه وقال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ليقاتلوا .

ص: 220

ونادى من عبر فجاؤوا بعلوج فضموا إلى السفينة التي قطعت سفائنها ، وعبر الناس ، وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس .

وعبر المثنى وحمى جانبه فاضطرب عسكره ، ورامهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم ، فلما عبر المثنى ارفضَّ عنه أهل المدينة حتى لحقوا بالمدينة ، وتركها بعضهم ونزلوا البوادي ، وبقى المثنى في قلة... هلك يومئذ أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان وبقى ثلاثة آلاف ، وأتى ذا الحاجب الخبر باختلاف فارس فرجع بجنده ، وكان ذلك سبباً لارفضاضهم عنه ، وجرح المثنى وأثبت فيه حلق من درعه هتكهن الرمح ».

وفي رواية خليفة بن خياط/91: « وبدأت المعركة واقتتلوا أعظم قتال ، فقتل أبو عبيد ، وقتل عدد كبير من المسلمين ، قيل إنه بلغ أربعة آلاف ، وبعضهم مات غرقاً ، فاضطرَّ المثنى وحذيفة الى الإنسحاب بالباقين ».

وجاء في رواية البلاذري:2/308: « فقال سليط بن قيس: يا أبا عبيد ، قد كنت نهيتك عن قطع هذا الجسر إليهم وأشرت عليك بالإنحياز إلى بعض النواحي.. فأبيت! وقاتل سليط حتى قتل... وقاتل عروة بن زيد الخيل يومئذ قتالاً شديداً عُدل بقتال جماعة ، وقاتل أبو زبيد الطائي الشاعر حمية للمسلمين بالعربية ، وكان أتى الحيرة في بعض أموره وكان نصرانياً. وأتى المثنى أليس فنزلها، وكتب إلى عمر بن الخطاب بالخبر مع عروة بن زيد . وكانت وقعة الجسر يوم السبت آخر شهر رمضان سنة ثلاث عشرة».

وجاء في رواية ابن الأعثم:1/134: «ذكر وقعة الجسر، وهي أول وقعة للمسلمين مع الفرس...وتقدمت قبيلة من الفرس ومعهم فيل لهم يقال له الأصم على

ص: 221

ظهره قبة ديباج ، فيها قائد من قواد كسرى يقال له شهريار وهو أخو رستم. قال: فلما نظرت خيل المسلمين إلى ذلك الفيل كأنها فزعت منه ، ونظر أبو عبيد إلى ذلك الفيل فتهيأ للحملة عليه.. فقال سليط بن قيس: أيها الأمير! ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أحمل على هذا الفيل حملة وأضرب خرطومه بسيفي فأقتله إن شاء الله تعالى! قال سليط: أيها الأمير ! دع عنك هذا الفيل فلك في غيره سعة فقال أبو عبيد: ما أريد سواه ولا أقصد غيره ، ثم قال أبو عبيد: إقرأ على قبر محمد (صلی الله علیه و آله) مني السلام ، ثم قال: يا معشر المسلمين أنظروا إن أنا قتلت فأميركم من بعدي وهب ابني، فإن أصيب فابني مالك ، فإن أصيب فابني جبر، فإن أصيب فسليط بن قيس ، فإن أصيب فأبو محجن الثقفي، فإن أصيب فالمثنى بن حارثة ، فإن أصيب فأمر بعضكم إلى بعض. ثم تقدم راجلاً بسيفه نحو الفيل ثم حمل على الفيل فضرب خرطومه ضربة فقطعه ، وذهب ليولي إلى عسكره فعثر على وجهه ، ووقع عليه الفيل فحطمه رحمة الله عليه... واشتبك الحرب وكثر القتل في المسلمين ، ثم وقعت الهزيمة ..

وأفلت رجل يقال له معاذ بن حصين الأنصاري ، فمرَّ على وجهه يقطع البلاد حتى صار إلى المدينة ، فدخل إلى عمر بن الخطاب.. فقال: أنعى إليك أبا عبيد وأنعي إليك بنيه الثلاثة وهباً ومالكاً وجبراً ، وأنعى إليك سليط بن قيس الأنصاري وفلاناً وفلاناً ، فلم يزل يعد وجوه المهاجرين والأنصار ، فقال له عمر: فالمثنى بن حارثة الشيباني ما حاله؟ فقال: تركته جريحاً يا أمير المؤمنين . قال: فضج الناس بالبكاء والنحيب ».

ص: 222

وقال البلاذري:2/310: «مكث عمر بن الخطاب سنة لا يذكر العراق لمصاب أبى عبيد وسليط. وكان المثنى بن حارثة مقيماً بناحية أليس يدعو العرب إلى الجهاد . ثم إن عمر ندب الناس إلى العراق فجعلوا يتحامونه ويتثاقلون عنه ، حتى هم أن يغزو بنفسه . وقدم عليه خلق من الأزد يريدون غزو الشام ، فدعاهم إلى العراق ورغبهم في غناء آل كسرى ، فردوا الإختيار إليه فأمرهم بالشخوص . وقدم جرير بن عبد الله من السراة في بجيلة، فسأل أن يأتي العراق على أن يعطيه وقومه ربع ما غلبوا عليه . فأجابه عمر إلى ذلك فسار نحو العراق ».

13. واصل المثنى جهاده بعد معركة الجسر مباشرة ، فأسر قائدين من الفرس ! وهذا أيضاً يضعف روايتهم بأنه أصيب في معركة الجسر، ومات بسبب جراحه! قال الطبري (2/643): «خبر أليس الصغرى.. وخرج جابان ومردانشاه حتى أخذا بالطريق وهم يرون أنهم (المسلمين) سيرفضون ولا يشعرون بما جاء ذا الحاجب من فرقة أهل فارس . فلما ارفضَّ أهل فارس وخرج ذو الحاجب في آثارهم ، وبلغ المثنى فعلة جابان ومردانشاه ، استخلف على الناس عاصم بن عمرو ، وخرج في جريدة خيل يريدهما ، فظنا أنه هارب فاعترضاه ، فأخذهما أسيرين ! وخرج أهل أليس على أصحابهما فأتوه بهم أسراء وعقد لهم بها ذمة . وقدمهما وقال أنتما غررتما أميرنا وكذبتماه واستفززتماه ، فضرب أعناقهما وضرب أعناق الأسراء ». ونهاية الإرب:19/185.

ص: 223

أقول: قام المثنى بعملية جريئة فذهب بمجموعة من فرسانه ، وأسر قائدين كانا يحكمان منطقة أليس المهمة ، وبعث الى بلدهما بالخبر ، وطلب وفداً منهم ليعقد معهم صلحاً ، وعقد الصلح ، ثم قتل القائدين والأسرى الذين كانوا معهما .

واتخذ المثنى بلدة ألِّيس مقراً لقيادته ، وواصل عملياته واستعداده للحرب ، لأن الفرس كانت تتهيأ . قال البلاذري:2/308: «وأتى المثنى أليس فنزلها (بعد وقعة الجسر) وكتب إلى عمر بن الخطاب بالخبر ، مع عروة بن زيد ».

المثنى يقود معركة البويب بجدارة

14. وأمدَّ عمر المثنى بجرير سنة 13بعد معركة الجسر، وقبيل معركة البويب. قال البلاذري:2/311 ، وابن سلام في الأموال/79: «أخبرني الشعبي أن عمر وجه جرير بن عبد الله إلى الكوفة بعد قتل أبي عبيد أول من وجه ، قال: هل لك في العراق وأنفلك الثلث بعد الخمس؟ قال: نعم » !

وقال ابن الأعثم:1/136: «فسار جرير بن عبد الله من المدينة في سبع مائة رجل حتى صار إلى العراق فنزلها، وبلغ ذلك المثنى بن حارثة الشيباني فكتب إليه:

أما بعد يا جرير فإنا نحن الذين أقدمنا المهاجرين والأنصار من بلدهم ، وأقمنا نحن في نحر العدو نكابدهم ليلاً ونهاراً ، وإنما أنت مدد لنا، فما انتظارك رحمك الله لا تصير إلينا؟ فصر إلينا وكثِّرنا بأصحابك ، فإن زعمت أنك رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لايلي عليك إلا من كان مثلك ، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولى أبا عبيد بن مسعود الثقفي على المهاجرين والأنصار فلما

ص: 224

حضرته وفاته قد كان ولاني ، ولو علم أني لا أقوم مقامه ما فعل، فرأيك أبا عمرو فيما كتبت إليك ، والسلام .

قال: فكتب إليه جرير: أما بعد فقد ورد كتابك عليَّ فقرأته وفهمته ، فأما ما ذكرت أنك الذي قدمت المهاجرين والأنصار إلى حرب العدو، فصدقت وليتك لم تفعل . وأما قولك: إن المهاجرين والأنصار لحقوا ببلدهم ، فإنه لما قتل أميرهم لحقوا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وأما ما ذكرت أنك أقمت في نحر العدو فإنك أقمت في بلدك ، وبلدك أحب إليك من غيره .

وأما ما سألتني من المصير إليك ، فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم يأمرني بذلك ، فكن أنت أميراً على قومك ، وأنا أمير على قومي. والسلام .

قال: وجرى بينهما اختلاف وبلغ ذلك عمر، فجمع المهاجرين والأنصار وشاورهم في أن يصير إلى العراق بنفسه ، فكلٌّ أشار عليه بذلك.. وقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال.. الرأي عندي أن لا تصير إلى العراق بنفسك».

ثم ذكر ابن الأعثم أن علياً (علیه السلام) أشار على عمر أن يبعث سعد بن أبي وقاص فبعثه. وهذا بعيد ، لأن رأي علي (علیه السلام) في سعد كان سيئاً، وكان لا يراه شجاعاً .

ومعنى قول المثنى: «فإن زعمت أنك رجل من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) لا يلي عليك إلا من كان مثلك» ، فهو تنزل من المثنى لأنه لايعرف أن جريراً أسلم قبل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بأربعين يوماً ! والمثنى صحابي وفد على النبي (صلی الله علیه و آله) وسمع منه .

ويظهر من قول جرير: «فأما ما ذكرت أنك الذي قدمت المهاجرين والأنصار إلى حرب العدو، فصدقت وليتك لم تفعل» ! على شدة تأثير هزيمة معركة الجسر

ص: 225

عليهم ، وأن رأي عمر أن المثنى أخطأ وورط المسلمين في فتح العراق ! وهذا يفتح الباب لأن يكون المثنى قتل غيلة ، ولم يجرح في معركة الجسر كما زعموا .

15. وأدار المثنى خلافه مع جرير ، حتى شارك ومن معه في معركة البويب . قال الطبري:2/644: «وبعث المثنى بعد الجسر فيمن يليه من المُمِدِّين ، فتوافوا إليه في جمع عظيم . وبلغ رستم والفيرزان ذلك ، وأتتهم العيون به وبما ينتظرون من الإمداد . واجتمعا على أن يبعثا مهران الهمذاني حتى يريا من رأيهما ، فخرج مهران في الخيول ، وأمراه بالحيرة . وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ بين القادسية وخفان ، في الذين أمدوه من العرب عن خبر بشير وكنانة وبشير يومئذ بالحيرة ، فاستبطن فرات بادقلى وأرسل إلى جرير ومن معه:

إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا ، فعجلوا اللحاق بنا وموعدكم البويب ، وكان جرير ممداً له .

وكتب إلى عصمة ومن معه وكان ممداً له بمثل ذلك ، وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك ، وقال: خذوا على الجوف فسلكوا القادسية والجوف، وسلك المثنى وسط السواد فطلع على النهرين ، ثم على الخورنق. وطلع عصمة على النجف ومن سلك معه طريقه . وطلع جرير على الجوف ومن سلك معه طريقه..

فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلي موضع الكوفة اليوم ، وعليهم المثنى وهم بإزاء مهران وعسكره ، فقال المثنى لرجل من أهل السواد: ما يقال للرقعة التي فيها مهران وعسكره؟ قال: بسوسيا فقال: أكدى مهران وهلك ! نزل منزلاً هو البسوس ! وأقام بمكانه حتى كاتبه مهران ، إما أن تعبروا إلينا

ص: 226

وإما أن نعبر إليكم ، فقال المثنى: أعبروا ، فعبر مهران فنزل على شاطئ الفرات معهم في الملطاط ، فقال المثنى لذلك الرجل: ما يقال لهذه الرقعة التي نزلها مهران وعسكره؟ قال: شوميا . وذلك في رمضان، فنادى في الناس: إنهدوا لعدوكم فتناهدوا ، وقد كان المثنى عبى جيشه فجعل على مجنبتيه مذعوراً والنسير وعلى المجردة عاصماً ، وعلى الطلائع عصمة ، واصطف الفريقان وقام المثنى فيهم خطيباً فقال: إنكم صُوَّام ، والصوم مَرَقَّةٌ ومَضْعَفَةٌ ، وإني أرى من الرأي أن تفطروا ثم تقووا بالطعام على قتال عدوكم . قالوا: نعم ، فأفطروا . فأبصر رجلاً يستوفز ويستنتل من الصف فقال: ما بال هذا؟ قالوا: هو ممن فر من الزحف يوم الجسر ، وهو يريد أن يستقتل ، فقرعه بالرمح وقال: لا أباً لك إلزم موقفك ، فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ، ولا تستقتل . قال: إنى بذلك لجدير ، فاستقر ولزم الصف .

وروى الطبري(2/653): «فأقبلوا إلى المسلمين في صفوف ثلاثة ، مع كل صف فيل ورَجْلُهم أمام فيلهم ، وجاؤا ولهم زجل، فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت وائتمروا همساً ، فدنوا من المسلمين وجاؤوهم من قبل نهر بنى سليم.. وكان على مجنبتي المثنى بسربن أبى رهم ، وعلى مجردته المعنى وعلى الرجل مسعود (وهما أخو المثنى)وعلى الطلائع قبل ذلك اليوم النسير ، وعلى الردء مذعور (العجلي). وكان على مجنبتي مهران: بن الآزاذ به مرزبان الحيرة ، ومردانشاه .

ص: 227

ولما خرج المثنى طاف في صفوفه يعهد إليهم عهده ، وهو على فرسه الشموس وكان يدعى الشموس من لين عريكته وطهارته ، فكان إذا ركبه قاتل وكان لا يركبه إلا لقتال يودعه ما لم يكن قتال ، فوقف على الرايات راية يحضضهم ويأمرهم بأمره ويهزهم بأحسن ما فيهم تحضيضاً لهم، ولكلهم يقول: إني لأرجو أن لا تؤتى العرب اليوم من قبلكم ، والله ما يسرني اليوم لنفسي شئ إلا وهو يسرني لعامتكم ، فيجيبونه بمثل ذلك . وأنصفهم المثنى في القول والفعل وخلط الناس في المكروه والمحبوب فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولاً ولا عملاً. ثم قال: إني مكبر ثلاثاً فتهيؤوا ثم احملوا مع الرابعة . فلما كبر أول تكبيرة أعجلهم أهل فارس وعاجلوهم فخالطوهم مع أول تكبيرة ، وركدت حربهم ملياً فرأى المثنى خللاً في بعض صفوفه ، فأرسل إليهم رجلاً وقال إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم! فقالوا: نعم واعتدلوا ، وجعلوا قبل ذلك يرونه وهو يمد لحيته لما يرى منهم فاعتنوا بأمر لم يجئ به أحد من المسلمين يومئذ ، فرمقوه فرأوه يضحك فرحاً والقوم بنو عجل، فلما طال القتال واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال فقال: يا أنس إنك امرؤ عربي ، وإن لم تكن على ديننا ، فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي ! وقال لابن مردى الفهر مثل ذلك فأجابه ، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته ، ثم خالطوهم واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم ، لا المشركون ولا المسلمون ، وارتث مسعود يومئذ وقواد من قواد المسلمين ، وقد كان قال لهم إن رأيتمونا أصبنا فلا

ص: 228

تدعوا ما أنتم فيه ، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف ، إلزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم . وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين ، وقتل غلام من التغلبيين نصراني مهران ، واستوى على فرسه فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله وكذلك إذا كان المشرك في خيل رجل فقتل وسلب فهو للذي هو أمير على من قتل ، وكان له قائدان فاقتسما سلاحه ، أحدهما جرير ، والآخر ابن الهوبر ».

وفي الطبري(2/649):«جلب فتية من بنى تغلب أفراساً ، فلما التقى الزحفان يوم البويب قالوا: نقاتل العجم مع العرب ، فأصاب أحدهم مهران يومئذ ومهران وتقدم ذلك في ترجمة جرير ..

عن أبي روق قال:والله إن كنا لنأتي البويب فنرى فيما بين موضع السكون وبنى سليم عظاماً بيضاً تلولاً ، تلوح من هامهم وأوصالهم يعتبر بها.

عن محمد وطلحة قالا: وقف المثنى عند ارتفاع الغبار حتى أسفر الغبار وقد فنى قلب المشركين والمجنبات قد هز بعضها بعضاً ، فلما رأوه وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت المجنبات مجنبات المسلمين على المشركين ، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم ، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل عليهم من يذمرهم ، ويقول إن المثنى يقول: عاداتكم في أمثالهم، أنصروا الله ينصركم . حتى هزموا القوم فسابقهم المثنى إلى الجسر فسبقهم ، وأخذ الأعاجم فافترقوا بشاطئ الفرات مصعدين ومصوبين ، واعتورتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم ثم جعلوهم جُثَىً (بضم الجيم كومة التراب)! فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أبقى رِمَّةً منها .

ص: 229

ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ وكان صرع قبل الهزيمة ، فتضعضع من معه فرأى ذلك وهو دنف قال: يا معشر بكر بن وائل إرفعوا رايتكم ، رفعكم الله ، لا يهولنكم مصرعي! وقاتل أنس بن هلال النمري يومئذ حتى ارتث ، ارتثه المثنى(مَرَّضه) وضمه وضم مسعوداً إليه .

وقاتل قرط بن جماح العبدي يومئذ حتى دق قنى وقطع أسيافاً ، وقتل شهربراز من دهاقين فارس وصاحب مجردة مهران .

قال: ولما فرغوا جلس المثنى للناس من بعد الفراغ يحدثهم ويحدثونه ، وكلما جاء رجل فتحدث قال له: أخبرني عنك ، فقال له قرط بن جماح: قتلت رجلاً فوجدت منه رائحة المسك ، فقلت مهران ورجوت أن يكون إياه ، فإذا هو صاحب الخيل شهربراز ، فوالله ما رأيته إذ لم يكن مهران ، شيئاً !

فقال المثنى: قد قاتلت العرب العجم في الجاهلية والإسلام ، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد على من ألف من العرب . ولمائة اليوم من العرب أشد على من ألف من العجم ! إن الله أذهب مصدوقتهم وأوهن كيدهم ، فلا يروعنكم زهاء ترونه ، ولا سواد ولا قسى فج ، ولا نبال طوال ، فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت !

وقال ربعي وهو يحدث المثنى: لما رأيت ركود الحرب واحتدامها قلت: تترسوا بالمجان ، فإنهم شادُّون عليكم فاصبروا لشدتين ، وأنا زعيم لكم بالظفر في الثالثة ، فأجابوني والله فوفى الله كفالتي .

ص: 230

وقال ابن ذي السهمين محدثاً: قلت لأصحابي إني سمعت الأمير يقرأ ويذكر في قراءته الرعب ، فما ذكره إلا لفضل عنده ، إقتدوا برايتكم وليحم راجلكم خيلكم ، ثم احملوا فما لقول الله من خلف ، فأنجز الله لهم وعده وكان كما رجوت . وقال عرفجة محدثاً: حُزْنا كتيبةً منهم الفرات ، ورجوت أن يكون الله تعالى قد أذن في غرقهم وسلى عنها بها مصيبة الجسر ، فلما دخلوا في حد الإحراج كروا علينا فقاتلناهم قتالاً شديداً حتى قال بعض قومي لو أخرت رايتك فقلت عليَّ إقدامُها وحملت بها على حاميتهم فقتلته ، فولوا نحو الفرات فما بلغه منهم أحد فيه الروح !

وقال ربعي بن عامر بن خالد: كنت مع أبي يوم البويب ، قال وسمى البويب يوم الأعشار: أحصى مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة في المعركة يومئذ!

وكان عروة بن زيد الخيل من أصحاب التسعة ، وغالب من بنى كنانة من أصحاب التسعة ، وعرفجة من الأزد من أصحاب التسعة .

وقُتل المشركون فيما بين السكون اليوم ، إلى شاطئ الفرات ضفة البويب الشرقية ، وذلك أن المثنى بادرهم عند الهزيمة الجسر فأخذه عليهم ، فأخذوا يمنة ويسرة ، وتبعهم المسلمون إلى الليل ومن الغد إلى الليل. وندم المثنى على أخذه بالجسر وقال: لقد عجزت عجزة وقى الله شرها ، بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم ، فإني غير عائد فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيها الناس ، فإنها كانت منى زلة لا ينبغي إحراج أحد ، إلا من لا يقوى على امتناع .

ص: 231

ومات أناس من الجرحى من أعلام المسلمين ، منهم خالد بن هلال ومسعود بن حارثة فصلى عليهم المثنى ، وقدمهم على الأسنان والقرآن وقال: والله إنه ليهون على وجدى أن شهدوا البويب ، أقدموا وصبروا ولم يجزعوا ولم ينكلوا».

ويدلك كلام المثنى هذا على أخلاقيته ومناقبيته ، فهو يعتبر أن استيلاءه على الجسر ومنعه عدوه من الفرار ، خطيئة وعمل غير أخلاقي يوصي المسلمين أن لايرتكبوه !

وقال الطبري(2/647): «وقدم أنس بن هلال النمري ممداً للمثنى ، في أناس من النمر نصارى وجلاب ، جلبوا خيلاً . وقدم ابن مردى الفهر التغلبي في أناس من بنى تغلب نصارى وجلاب جلبوا خيلاً ، وهو عبد الله بن كليب بن خالد وقالوا حين رأوا نزول العرب بالعجم: نقاتل مع قومنا ».

وجاء في رواية ابن كثير في النهاية:7/35:«فلما سمع بذلك أمراء الفرس، وبكثرة جيوش المثنى، بعثوا إليه جيشاً آخر مع رجل يقال له مهران ، فتوافوا هم وإياهم بمكان يقال له البويب ، قريب من مكان الكوفة اليوم..

وقال المثنى لهم: إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيؤوا ، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا، فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول ، فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم واقتتلوا قتالاً شديداً ، ورأى المثنى في بعض صفوفه خللاً فبعث إليهم رجلا يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا العرب اليوم ! فاعتدلوا . فلما رأى ذلك منهم وهم بنو عجل أعجبه وضحك وبعث إليهم يقول: يامعشر المسلمين عاداتكم ، أنصروا الله ينصركم..

ص: 232

فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره ، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة ، وحمل غلام من بني تغلب نصراني فقتل مهران وركب فرسه...وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم يفصلونهم فصلاً.. بقية ذلك اليوم وتلك الليلة ، ومن بعد إلى الليل فيقال إنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف ولله الحمد والمنة...

وذلت لهذه الوقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة ، فغنموا شيئاً عظيماً لا يمكن حصره... وكانت هذه الواقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام» .

وقال ابن خلدون في تاريخه:2 ق2/90: «وكتب (المثنى) بالخبر إلى جرير وعصمة أن يقصدا العذيب مما يلي الكوفة ، فاجتمعوا هنالك ، ومهران قبالتهم عَدْوَةَ الفرات وتركوا له العبور فأجاز إليهم.. ثم حمل المثنى على مهران فأزاله عن مركزه وأصيب مسعود أخو المثنى وخالط المثنى القلب ، ووثبت المجنبات على المجنبات قبالتهم - فانهزمت الفرس وسبقهم المثنى إلى الجسر فهربوا مصعدين ومنحدرين ، واستلحمتهم خيول المسلمين ، وقتل فيها مائة ألف أو يزيدون وأحصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة ، وتبعهم المسلمون إلى الليل ، وأرسل المثنى في آثار الفرس فبلغوا ساباط ، فغنموا وسبوا ساباط واستباحوا القرى وسخروا السواد بينهم وبين دجله ، لا يلقون مانعاً ».

16. بعد انتصاره في معركة البويب، بسط المثنى غاراته ونفوذه على أكثر العراق،

ص: 233

قال الطبري(2/652): «كان أول الناس انتدب يومئذ للمثنى واتبع آثارهم المستبسل وأصحابه ، وقد كان أراد الخروج بالأمس إلى العدو من صف المسلمين واستوفز واستقتل، فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر، ثم أخرجهم في آثار القوم واتبعتهم بخيله ، وخيول من المسلمين تغذ من كل فارس ، فانطلقوا في طلبهم حتى بلغوا السيب...وألقى الله الرعب في قلوب أهل فارس وكتب القواد الذين قادوا الناس في الطلب إلى المثنى ، وكتب عاصم وعصمة وجرير: إن الله عز وجل قد سلم وكفى ووجه لنا ما رأيت ، وليس دون القوم شئ ، فتأذن لنا في الإقدام؟ فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط ، وتحصن أهل ساباط منهم . واستباحوا القريات دونها ، وراماهم أهل الحصن بساباط عن حصنهم ، وكان أول من دخل حصنهم ثلاثة قواد عصمة وعاصم وجرير ، وقد تبعتهم أوزاع من الناس كلهم ثم انكفؤا راجعين إلى المثنى ...

وقد كان المثنى وعصمة وجرير أصابوا في أيام البويب على الظهر نَزْل مهران غنماً ودقيقاً وبقراً ، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس ، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم وهم بالحيرة ، وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات الذين بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة ، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل يصايحن حسبنها غارة ، فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد ! فقال عمرو: هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش ، وبشروهن بالفتح وقالوا هذا أوله وعلى الخيل التي أتتهم بالنزل النسير . وأقام في خيله حامية لهم ورجع عمرو بن عبد المسيح فبات بالحيرة ».

ص: 234

وقال الطبري(2/653): «عن عطية بن الحارث قال: لما أهلك الله مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة ، فمخروها لا يخافون كيداً ولا يلقون فيها مانعاً.وانتقضت مسالح العجم فرجعت إليهم ، واعتصموا بساباط ، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة ، وكانت وقعة البويب في رمضان سنة ثلاث عشرة، قتل الله عليه مهران وجيشه وأفعموا جنبتي البويب عظاماً حتى استوى وما عفى عليها إلا التراب...وكان مغيضاً للفرات أزمان الأكاسرة يصب في الجوف . وقال الأعور العبدي الشني:

هاجت لأعور دار الحي أحزانا *** واستبدلت بعد عبد القيس حسانا

وقد أرانا بها والشمل مجتمعٌ *** إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا

إذ كان سار المثنى بالخيول لهم *** فقتَّل الزحف من فرس وجيلانا

سما لمهران والجيش الذي معه *** حتى أبادهم مثنى ووحدانا

وجاء في رواية في الأخبار الطوال/114: «وزحف الفريقان بعضهم لبعض، ولهم زجل كزجل الرعد ، وحمل المثنى في أول الناس... وصدقتهم العجم القتال، فجال المسلمون جولة (انهزموا) فقبض المثنى على لحيته وجعل ينتف ما تبعه منها، من الأسف (خاف أن تتكرر معركة الجسر) ونادى: أيها الناس إليَّ إليَّ ، أنا المثنى! فثاب المسلمون فحمل بالناس ثانية ، وإلى جانبه مسعود بن حارثة أخوه ، وكان من فرسان العرب فقتل مسعود ، فنادى المثنى: يا معشر المسلمين ، هكذا مصرع خياركم ، إرفعوا راياتكم .

ص: 235

وحض عدي بن حاتم أهل الميسرة ، وحرض جرير أهل القلب وذمرهم وقال لهم: يا معشر بجيلة ، لا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو منكم ، فإن لكم في هذه البلاد إن فتحها الله عليكم حظوة ليست لأحد من العرب ، فقاتلوهم التماس إحدى الحسنيين . فتداعى المسلمون وتحاضوا وثاب من كان انهزم ، ووقف الناس تحت راياتهم ثم زحفوا ، فحمل المسلمون على العجم حملة صدقوا الله فيها ، وباشر مهران الحرب بنفسه وقاتل قتالاً شديداً وكان من أبطال العجم ، فقتل مهران وذكروا أن المثنى قتله ، فانهزمت العجم لما رأوا مهران صريعاً واتبعهم المسلمون ، وعبد الله بن سليم الأزدي يقدمهم، واتبعه عروة بن زيد الخيل ، فصار المسلمون إلى الجسر وقد جازه بعض العجم وبقي بعض ، فصار من بقى منهم في أيدي المسلمين ، ومضت العجم حتى لحقوا بالمدائن ، وانصرف المسلمون إلى معسكرهم ، فقال عروة بن زيد الخيل في ذلك.. (وذكر الأبيات المتقدمة وبعدها):

ما إن رأينا أميراً بالعراق مضى *** مثل المثنى الذي من آل شيبانا

إن المثنى الأمير القرم لا كذب *** في الحرب أشجع من ليث بخفانا

قالوا:ولما أهلك الله مهران ومن كان معه من عظماء العجم ، استمكن المسلمون من الغارة في السواد ، وانتقضت مسالح الفرس ، وتشتت أمرهم واجترأ المسلمون عليهم ، وشنوا الغارات ما بين سورا وكسكر والصراة إلى الفلاليج والأستانات».

ص: 236

وقال الطبري(2/657): «فلما رجع المثنى إلى الأنبار سرح فرات بن حيان وعتيبة بن النهاس ، وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين ، ثم اتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبي سلمى الهجيمي ، فلما دنوا من صفين افترق المثنى وفرات وعتيبة وفر أهل صفين ، وعبروا الفرات إلى الجزيرة ...

فخرج المثنى على مقدمته في غزواته هذه بعد البويب كلها حذيفة بن محصن الغلفاني ، وعلى مجنبتيه النعمان بن عوف بن النعمان مطر الشيبانيان ، فسرح في أدبارهم حذيفة واتبعه فأدركوهم بتكريت دوينها من حيث طلبوهم يخوضون الماء ، فأصابوا ما شاؤوا من النعم.. حتى أغاروا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين فأغاروا عليهم حتى رموا بطائفة منهم في الماء » !

عمر يعزل المثنى في أوج انتصاراته !

17. كان عمر لا يطيق ظهور شخص ناجح قوي ، خاصة إذا كان يوالي غيره ، ولذلك كان يكره المثنى! فقد روى ابن عساكر (16/261) بسند صحيح عندهم عن ابن عباس أنه كان يقول في خلافة أبي بكر: « أما والله لئن صير الله هذا الأمر إليَّ ، لأعزلن المثنى بن حارثة عن العراق ، وخالد بن الوليد عن الشام ، حتى يعلما إنما نصر الله دينه ليس إياهما ما نصر»! وهو نص في أن المثنى هو الوالي على العراق !

وفي تاريخ خليفة/81: «بويع عمر بن الخطاب فعزل خالد بن الوليد عن الشام ، والمثنى بن حارثة عن ناحية السواد سواد الكوفة » !

وفي الإصابة:5/569: «وللمثنى أخبار كثيرة في الفتوح ساقها سيف والطبري والبلاذري وغيرهم . وذكر ثابت في الدلائل أن عمر كان يسميه: مُؤَمِّرُ نَفْسِهِ».

ص: 237

يقصد عمر أن المثنى بادر الى تحرير العراق دون أن يأخذ إجازة من الخليفة، لكن أبا بكر كان معجباً بعمل المثنى ، وقد اعتمده ونصبه والياً وقائداً . وقد يكون سبب كره عمر للمثنى موالاة المثنى لعلي (علیه السلام) . والسبب الذي ذكره عمر غير مقنع وهو أن المثنى وخالداً قد أعجبا بنفسيهما وأخذهما الغرور بما حققاه من انتصارات فيجب تأديبهما !

لكن المثنى كان يباشر الحرب بنفسه ، ولم يكن مغروراً . أما خالد فكان يستعمل الخديعة والغدر ولا يقاتل بنفسه ، بل يفر من المعركة كما بيناه في حرب طليحة وحرب اليمامة ، ثم ينسب انتصارات المسلمين الى نفسه .

والصحيح أن عزلهما لأسباب أخرى ، وقد ذكروا أن السبب الحقيقي لعزل عمر لخالد عداوتهما من شبابهما !

قال ابن كثير في النهاية(7/ 131): «اصطرع عمر وخالد وهما غلامان ، وكان خالد ابن خال عمر (نفى خالد ذلك ) فكسر خالد ساق عمرفعولجت وجبرت ، وكان ذلك سبب العداوة بينهما » .

ويضاف اليه أن خالداً كان يسخر من حنتمة أم عمر ويسميها أم شملة وينكر قول عمر إنها من بني مخزوم ! كما كان يسخر من عمر ويسميه الأعيسر!

قال الطبري (2/608) وابن حبان في الثقات (2/185): «فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يمد أهل الشام فيمن معه من أهل القوة ، ويستخلف على بقية الناس رجلاً منهم، فلما أتاه كتاب أبى بكر قال خالد: هذا عمل الأعيسر بن أم شملة ، يعنى عمر بن الخطاب ، حسدني أن يكون فتح العراق على يدي» !

وفي تاريخ اليعقوبي:2/139: «وكتب عمر إلى أبي عبيدة إن أكذب خالد نفسه فيما كان قاله فله عمله ، وإلا فانزع عمامته وشاطره ماله . فشاور خالد أخته فقالت:

ص: 238

والله ما أراد ابن حنتمة إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك من عملك ، فلا تفعلن! فلم يكذب نفسه ، فقام بلال فنزع عمامته ، وشاطره أبو عبيدة ماله حتى نعله فأفرد واحدة عن الأخرى » !

أي أخذ فردة من نعليه ! وحنتمة أم عمر . وأم شملة: أي تلبس إزاراً واحداً !

ومهما يكن ، فقد اتفقت هذه الأسباب مع نظرية عمر في خفض رؤوس شخصيات المجتمع وإذلالهم ، وقد طبقها مع أبي سفيان ، ومع رئيس بني تميم ، ورئيس الأنصار أبيّ بن كعب ، وحتى مع طفله الصغير الذي كان فرحاً بثيابه ، فضربه حتى تذل نفسه! « دخل ابن لعمر بن الخطاب عليه وقد ترجل(تمشط) ولبس ثياباً فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه فقالت له حفصة: لم ضربته؟ قال:رأيته قد أعجبته نفسه فأحببت أن أصغرها إليه»!(كنز العمال: 12/ 668).

واعترف عمر بأنه عزل المثنى ثم خالداً بسبب بروزهما ! فقال كما في الطبري(3/98): «إني لم أعزلهما عن ريبة ، ولكن الناس عظموهما ، فخشيت أن يوكلوا إليهما ».

18. لكن المثنى لم ينعزل بعزل عمر إياه، فقد سلم المناصب والأموال لخلفه ، وهو عتبة بن غزوان في البصرة ، وجرير البجلي في الكوفة ، لكنه واصل جهاده بحكم إسلامه ، وبحكم أن العراق بلده ، وهو الذي بنى فيه الوجود القوي للمسلمين . ثم لا ننسى مكانته في قبيلته وقبائل العرب .

19. جاءت موجةٌ فارسية مقدمةً لمعركة القادسية ، فاستعاد الفرس المسالح فقد استمر تفوق المسلمين العسكري على الفرس سنة وأكثر ، وجعل المثنى فيها مقر قيادته في ألِّيس في وسط العراق ، ووصلت غاراته الى البصرة جنوباً ، والى

ص: 239

صفين وسوريا غرباً ، وكانت هزيمة الفرس في معركة البويب قاسية عليهم ، فأخذوا يستعدون لمعركة فاصلة بقوات أكبر .

قال خليفة/92: «وعاد جيش المسلمين الى ما كان عليه قبل يوم الجسر من الإغارة على القرى الواقعة تحت سلطان الفرس».

ثم بدأت موجة الفرس بإعادة مسالحهم وتقويتها، فكتب المثنى الى عمر يخبره بالوضع ، ففاجأه عمر بأمره أن يسحب المسلمين الى أطراف العراق !

قال الطبري:3/3: «كتب المثنى إلى عمر باجتماع فارس على يزدجرد وببعوثهم وبحال أهل الذمة ، فكتب إليه عمر أن تَنَحَّ إلى البَرِّ وادع من يليك ، وأقم منهم قريباً على حدود أرضك وأرضهم ، حتى يأتيك أمري !

وعاجلتهم الأعاجم فزاحفتهم الزحوف وثار بهم أهل الذمة ، فخرج المثنى بالناس حتى ينزل العراق ففرقهم فيه من أوله إلى آخره ، فأقاموا ما بين غضى إلى القطقطانة مسالحه ، وعادت مسالح كسرى وثغوره واستقر أمر فارس ، وهم في ذلك هائبون مشفقون والمسلمون متدفقون ، قد ضَرَوْا بهم كالأسَد ينازع فريسته ، ثم يعاود الكر . وأمراؤهم يكفكفونهم لكتاب عمر ».

أقول: معناه أن أمْر عمر بسحب المسلمين الى أطراف العراق من جهة الحجاز كان مفاجئاً للمثنى وقادة جيشه ، وثقيلاً عليهم على كل المسلمين !

ولا أرى له سبباً إلا الخوف أو الإنتقام من المثنى ! وقد فرح الفرس بذلك فحركوا عليهم الفلاحين وأهل الدساكر ، فنقض أكثرهم عهود صلحهم مع المسلمين !

ص: 240

المثنى يموت فجأة بعد أن غضب عليه عمر !

20. وفي أوج انتصارات المثنى وقبول جرير بقيادته ، جاء سعد بن أبي وقاص وجاء معه أمر عمر المسلمين بالإنسحاب من العراق الى حدود الحجاز ، فلم يرتض ذلك المثنى، فمات المثنى فجأة بسبب غير مقنع ، كما مات العلاء الحضرمي وعتبة بن غزوان ، عندما غضب عليهما عمر !

وتحرك سعد بن أبي وقاص بجيشه من المدينة ، وقطع ثلث الطريق الى الكوفة، وخيَّمَ في نجد على أبواب العراق في شُراف أو زرود ، وأرسل الى المثنى أن ينسحب من العراق ويأتيه، ويظهر أن المثنى امتنع أولاً ، ثم ذهب اليه وأبقى معسكره عند ذي قار!

قال ابن الأعثم:1/137: «فالتأمت العساكر إلى سعد في جمع عظيم ، وهو نازل بشُراف ، وقد هجم عليه الشتاء وأكبت عليه الأمطار ، والفرس في جمع عظيم.. فكان سعد بن أبي وقاص مقيماً بشراف ينتظر أن ينحسر عنه الشتاء ».

وقال الطبري:3/7: «وأمدَّ عمر سعداً بعد خروجه بألفي يماني ، وألفي نجدي من غطفان وسائر قيس ، فقدم سعد زرود في أول الشتاء فنزلها ، وتفرقت الجنود فيما حولها من أمواه بني تميم وأسد ، وانتظر اجتماع الناس وأمر عمر ، وانتخب من بني تميم والرباب أربعة آلاف ثلاثة آلاف تميمي ، وألف رِبي ، وانتخب من بني أسد ثلاثة آلاف ، وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة ، فأقاموا هنالك بين سعد بن أبي وقاص وبين المثنى بن حارثة .

وكان المثنى في ثمانية آلاف من ربيعة: ستة آلاف من بكر بن وائل وألفان من سائر ربيعة ، أربعة آلاف ممن كان انتخب بعد فصول خالد ، وأربعة آلاف كانوا

ص: 241

معه ممن بقي يوم الجسر . وكان معه من أهل اليمن ألفان من بجيلة وألفان من قضاعة وطيئ ، ممن انتخبوا إلى ما كان قبل ذلك. على طيئ عدي بن حاتم ، وعلى قضاعة عمرو بن وبرة ، وعلى بجيلة جرير بن عبد الله .

فبينا الناس كذلك سعد يرجو أن يقدم عليه المثنى والمثنى يرجو أن يقدم عليه سعد ، مات المثنى من جراحته التي كان جرحها يوم الجسر ، انتقضت به ، فاستخلف المثنى على الناس بشير بن الخصاصية ، وسعد يومئذ بزرود ، ومع بشير يومئذ وجوه أهل العراق ، ومع سعد وفود أهل العراق الذين كانوا قدموا على عمر ، منهم فرات بن حيان العجلي ، وعتيبة ، فردهم مع سعد ».

وقال الطبري(2/376) إن المثنى وجريراً جاءا الى سعد: «وكتب إلى المثنى وجرير بن عبدالله أن يجتمعا إلى سعد بن أبي وقاص ، وأمَّرَ سعداً عليهما ، فسار سعد حتى نزل شُراف ، وسار المثنى وجرير حتى نزلا عليه ، فشتى بها سعد ، واجتمع إليه الناس . ومات المثنى بن حارثة ».

وقال البلاذري:2/313 :« وكان المثنى بن حارثة مريضاً، فأشار عليه (على سعد) بأن يحارب العدو بين القادسية والعذيب ، ثم اشتد وجعه ، فحمل إلى قومه فمات فيهم . وتزوج سعد امرأته » .

21- ملاحظات على روايات موت المثنى

أ. قطع سعد بجيشه نحو نصف الطريق من المدينة الى الكوفة ، وأقام في زرود على طرف الصحراء الحجازية ، ولم يدخل عملياً الى العراق !

ص: 242

وهذه استراتيجية أصر عليها عمر، لأنه كان يرى أنه بذلك يجر الفرس الى طرف الصحراء من جهة الحجاز ويحاربهم هناك ، فإذا انهزم المسلمون انهزموا في الصحراء التي يعرفونها ولا يعرفها الفرس ، وقد صرح في كلامه بذلك .

لكن المثنى والمسلمين عامة ، لم ينفذوا أمره بالإنسحاب من العراق ، لأنه صعب عملياً ويفسره الفرس بأنه هزيمة ، كما أن الماء في زرود وشراف وأمثالها من عيون الماء وآباره في الصحراء ، لا تكفي لهم ولا لعشرة آلاف جندي وأكثر جاء بهم سعد ، ولذلك اضطر أن يرسل قسماً من جيشه الى هنا ، وقسماً الى هناك .

وقد دافعت رواية الطبري(2/659) عن عمر دفاعاً شديداً ، وجعلت نقض أهل السواد لعهود الصلح قبل وصول أمره !

قالت: «وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزجرد المثنى والمسلمين ، فكتبوا إلى عمر بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد من كان له منهم عهد ومن لم يكن له منهم عهد ، فخرج المثنى على حاميته حتى نزل بذى قار، وتنزل الناس بالطف في عسكر واحد ، حتى جاءهم كتاب عمر: أما بعد فاخرجوا من بين ظهري الأعاجم ، وتفرقوا في المياه التي تلى الأعاجم ، على حدود أرضكم وأرضهم » !

والصحيح أن نشاط الفرس كان متواصلاً ، وأنهم زادوا فعاليتهم مع قرى العراق ودساكره ، واستطاعوا أن يقنعوا عدداً منها بنقض عهودهم مع المسلمين. وأن عمر أرسل أمره بانسحاب المسلمين بعد انتصار المثنى في معركة البويب ، وربما قبل ذلك، ففرح به الفرس وطمعوا بغلبة المسلمين ، وسارعوا بتحشيد قواتهم للقادسية !

ص: 243

ب. اقترح المثنى على عمر وسعد أن تكون ساحة الحرب بينهم وبين الفرس قرب الكوفة كما نصت رواية البلاذري: (فأشار عليه بأن يحارب العدو بين القادسية والعذيب) . وهذا ما حدث أخيراً لأنه واقع عملي .

ج. لا يمكن الأخذ برواية الطبري التي تقول إن المثنى زار سعداً في زرود ، فقد نصت رواية أخرى على أنه وسعد كان ينتظر أحدهما الآخر . (فبينا الناس كذلك سعد يرجو أن يقدم عليه المثنى والمثنى يرجو أن يقدم عليه سعد ، مات المثنى من جراحته التي كان جرحها يوم الجسر ، انتقضت به ، فاستخلف المثنى على الناس بشير بن الخصاصية ، وسعد يومئذ بزرود ). فقد كان المثنى في ذي قار قرب الناصرية وبينها وبين زرود مسافة كبيرة .

د. طالت إقامة سعد على مشارف العراق ستة أشهر ، فالروايات تقول إنه انتظر حتى ينقضي الشتاء ، وتقول إن المثنى في هذه المدة توفي وتزوج سعد بزوجته لما جاءته وبنى بها في زرود . فلا بد أنها أمضت عدتها بعد وفاته أربعة أشهر وعشرة أيام ، مما يعني أن المثنى توفي في أوائل نزول سعد في زرود .

وقد ذكرت الروايات أن أخاه المعنى تأخر حتى حضر مع زوجة أخيه الى سعد ، فقد انشغل بترتيب وضع الحيرة ، إعداداً لمعركة القادسية .

ه. توفي المثنى في ذي قار ، ولا توجد رواية عن مدة مرضه إلا قولهم إن جراحه يوم الجسر انتقضت عليه فمات ، وأن جراحه كانت في وجهه من حلق الدرع ! وكل ما قالوه عن سبب وفاته رضي الله عنه غير مقنع .

قال الطبري:3/7: « مات المثنى من جراحته التي كان جرحها يوم الجسر انتقضت به ، فاستخلف المثنى على الناس بشير بن الخصاصية . وسعد يومئذ بزرود ومع بشير

ص: 244

يومئذ وجوه أهل العراق ، ومع سعد وفود أهل العراق الذين كانوا قدموا على عمر ، منهم فرات بن حيان العجلي وعتيبة ، فردهم مع سعد ».

وفرات العجلي هذا من سكان مكة ، حليف لبني سهم ، وكان جاسوساً لقريش على النبي (صلی الله علیه و آله) فأسرته سرية ، فادعى أنه مسلم فتركه النبي (صلی الله علیه و آله) !

وعتيبة بن النهاس عجلي أيضاً ، وكانا من قادة المثنى ، ويبدو أنهما كانا جاسوسين لعمر على المثنى ، أوكانا وفداً يشكوان المثنى لعمر ، لأنهما يحسدانه !

وقال الطبري:2/642:«وأثبت فيه حلق من درعه هتكهن الرمح» وكذا نهاية الإرب (19/184) لكن المثنى قام بعد معركة الجسر بنفسه بعمليات عسكرية ، فقد أسر قائدين من الفرس هما جابان ومردان شاه ، ثم قاد معركة بحجم معركة اليرموك وخاض معاركها بنفسه ، ثم قام بعمليات واسعة بنفسه عبر في بعضها حدود العراق الى صفين داخل سوريا ، ولم يظهر عليه أي شكاية ! وهذا يوجب الشك في أن يكون سبب وفاته جرح من حلق الدرع ، كما زعموا.

ويظهر أن سلامة المثنى وفعاليته بعد معركة الجسر جعلت رواة السلطة يكذبون علناً!

ففي رواية خليفة/91: «لكن المثنى أصيب بجرح عميق فاضطر للإنسحاب بمن تبقَّى معه ، وأوغل بقومه بكر بن وائل وبني شيبان الى أعماق الصحراء ، خشية أن يفتك بهم الفرس ، فأدركته المنية فمات في بعض الطريق » !

تقول هذه الرواية إنه هرب من معركة الجسر بقومه ، فمات في الطريق! وهو كذب صريح ، لأنه بعد معركة الجسر قام بعمليات بطولية بنفسه ، وأعد لحرب البويب وقادها وخاض قتالها بنفسه ، ثم قام بعمليات واسعة بنفسه ، لا لاحظ أحد منه شكاية أو أثراً في وجهه !

ص: 245

و. ومما يؤكد الشك في موت المثنى تأكيد الرواة على أنه لم يخالف عمر أبداً ، وأنه أوصى وصية مؤكدة ولم يكتبها ويبعثها الى عمر على عادته ، بل أوصى أخاه المعنَّى وزوجته سلمى (الطبري:3 /9) بأن يسرعا بها الى سعد ، فانشغل المعنَّى بمعالجة وضع ملك الحيرة الذي أخذ الفرس يستميلونه ، ثم ذهب الى زرود مع أرملة أخيه سلمى ، وأوصلا الوصية الى سعد ، بموافقة المثنى على رأي عمر أن لا يقاتل الفرس داخل العراق: « وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم ، فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم ، وإن يكن الأخرى فاؤا إلى فئة ثم يكونوا أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم . فلما انتهى إلى سعد رأي المثنى ووصيته ترحم عليه ، وأمَّر المعنَّى على عمله ، وأوصى بأهل بيته خيراً وخطب سلمى فتزوجها ، وبنى بها ».

وهذا يدلك على أن الغرض من وصية المثنى المزعومة تسكيت الذين اعترضوا على قرار عمر بسحب المسلمين ، وما سبَّبه من جرأ ة المزارعين ومَلِك الحيرة على نقض عهودهم مع المسلمين ، وانضمامهم الى الفرس !

ويدلك على أن السلطة واجهت اتهاماً من القاعدة الشعبية للمثنى بأن السلطة قتلته ، فدبرت السلطة أخاه وزوجته ليقولوا إن علاقته بسعد وعمر كانت على أفضل ما يرام وإن خطة عمر حكيمة ، وقد وافق عليها المثنى وأوصى بها عند موته ، وأمر أخاه وزوجته أن يسرعوا ويبلغوها الى سعد ليبلغها الى عمر !

وبقي عليهم أن يقولوا إن المثنى كان معجباً بسعد ، وقد أوصى زوجته أن تتزوج سعداً ولا تتزوج أحد إخوته الذين هم أجمل من سعد ، فقد كان سعد أسمر أفطس بينما عرف المثنى وإخوته بكمال الأجسام ، وقد اختاروا المعنى في الوفد الى يزدجرد وقالوا: (وأما من لهم منظر لأجسامهم وعليهم مهابة ولهم آراء ، فعطارد بن حاجب ،

ص: 246

والأشعث بن قيس ، والحارث بن حسان ، وعاصم بن عمرو ، وعمرو بن معدي كرب ، والمغيرة بن شعبة ، والمعنى بن حارثة ، فبعثهم دعاة إلى الملك). (الطبري:3/14)

ز. إذا لاحظنا عهد عمر على نفسه من زمن أبي بكر أن يعزل المثنى ، وأنه كان يسميه مؤمر نفسه بنفسه ! ففي الإصابة:5/569: « وذكر ثابت في الدلائل أن عمر كان يسميه: مُؤَمِّرُ نَفْسِهِ». مع أن أبا بكر أمَّر المثنى على العراق ، ومات وهو يوصي عمر به فاضطر عمر أن يمده بجيش ، ويتبنى جهاده لفتح العراق وإيران ، لكن لفترة !

ثم عزله عمر فلم ينعزل ، بل فرض المثنى قيادته حتى على جرير وكل الصحابة الذين بعثهم عمر الى العراق . ثم رآه عمر ينتقد سياسته عندما قرر سحب المسلمين الى أطراف العراق الصحراوية ، ويترك العراق عملياً للفرس !

فقد يكون عمر دعا على المثنى فمات ، كما دعا سعد عبادة فقتلته الجن ، أو دعا على عتبة بن غزوان عندما اعترض على تأميره سعداً عليه ، فمات في محطة في طريقه الى العراق ! (تاريخ بغداد:1/168).

أو كما دعا على العلاء الحضرمي عندما خالفه وغزا جنوب إيران فمات في نفس المحطة في طريقه الى العراق ! «كتب عمر بن الخطاب إلى العلاء بن الحضرمي وهو بالبحرين أن سر إلى عتبة بن غزوان فقد وليتك عمله..وقد وليت قبلك رجلاً فمات قبل أن يصل، فإن يرد الله أن تلي وليت » ! (الطبقات:4/260).

أوكما دعا على بلال وجماعته ، وكانوا نحو ثلاثين صحابياً في الشام فاعترضوا على عمر لتوليته معاوية المتهتك ، فدعا عليهم دعوة واحدة ، فماتوا واحداً بعد الآخر ، فلم تَدُرْ عليهم السنة حتى ماتوا جميعاً. (سنن البيهقي: 9/138) .

فقد يكون دعا على المثنى دعوة واحدة ، فاستجاب الله له ، ومات المثنى !

ص: 247

هاشم المرقال نقيض أبيه وعكس عمه

1. هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال الزهري رضي الله عنه، صحابي جليل، وخطيب مُفَوَّهٌ وبطلٌ شجاع ، وشيعيٌّ صلب .

كان ضخم الجثة بطلاً ، قائداً في معركة أجنادين في فتح فلسطين ، ومعركة اليرموك ، وقد سارع بعدها بجيش وشارك في معركة القادسية ، ثم قاد فتح المدائن ، وفتح جلولاء ، وفتح حلوان ، وعدة مناطق من إيران .

وقلنا إنه نقيض أبيه ، لأنه صاحب إيمان وتقوى ، بينما أبوه عتبة بن أبي وقاص من عتاة قريش ، وقد بقي على شركه وعداوته للنبي (صلی الله علیه و آله) حتى مات .

وقلنا إنه على عكس عمه سعد بن أبي وقاص ، لأنه من أبطال الإسلام والتاريخ ، وعمه سعداً بشهادة لم يبرز يوماً لفارس ، ولا شارك بجدية في حملة أبداً ! وإذا حضر المعركة يحفظ نفسه في الخط الخلفي في مكان آمن . وقد كان قائد معركة القادسية ، فوكل بها رجلاً وقعد في قصر العذيب مدعياً أن في فخذه دُمَّلاً ، حتى عيرته زوجته والمسلمون ووصفوه بالجُبن !

وسُمِّيَ المرقال لأنه يرقل برايته في الحرب ، أي يهرول فيها هرولة خاصة . وفي العبقات(3/39)عن القرطبي أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال له: أرقل يا ميمون !

وكان عمه سعد والياً على الكوفة ، فاستفاد هاشم من ذلك ، فكان يقود جيش المسلمين في المعارك ، وكانت علاقته بعمه جيدة ، وهذا من ذكاء هاشم ، فهو شيعي ورأيه بعمه سئ لكنه كان يداريه ، وقد تزوج ابنته أم إسحاق . (المحبر/69) وكان سعد يفتخر بابن أخيه ، لأنه قائد بطل ، رغم أنه شيعي !

ص: 248

وقد انتصر له سعد عندما أهانه سعيد بن العاص ، وكان والياً على الكوفة فسأل حضَّاره: «من رأى الهلال منكم؟ وذلك في فطر رمضان. فقال القوم: ما رأيناه ، فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص: أنا رأيته . فقال له سعيد: بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم ؟فقال هاشم: تعيرني بعيني وإنما فقئت في سبيل الله ! وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك .

ثم أصبح هاشم في داره مفطراً وغدا الناس عنده ، فبلغ ذلك سعيد بن العاص فأرسل إليه فضربه وحرق داره ، فخرجت أم الحكم بنت عتبة بن أبي وقاص وكانت من المهاجرات ، ونافع بن عتبة بن أبي وقاص من الكوفة ، حتى قدما المدينة فذكرا لسعد بن أبي وقاص ما صنع سعيد بهاشم ، فأتى سعد عثمان فذكر له ذلك ، فقال عثمان: سعيد لكم بهاشم ، إضربوه بضربه ، ودار سعيد لكم بدار هاشم ، فأحرقوها كما حرق داره . فخرج عمر بن سعد بن أبي وقاص ، وهو يومئذ غلام يسعى ، حتى أشعل النار في دار سعيد بالمدينة ، فبلغ الخبر عائشة فأرسلت إلى سعد بن أبي وقاص تطلب إليه وتسأله أن يكف ففعل. ورحل من الكوفة ». (تاريخ دمشق:21/114)

2. مدح علماء السنة وأئمتهم هاشم المرقال وروى عنه الستة ، ووثقه ابن معين والنسائي، وأحمد والبزار . وحدث عن ابن المسيب وعامر وعائشة ابني سعد بن مالك ، وإسحاق بن عبد الله ، وغيرهم . وعنه موسى بن يعقوب الزمعي، ومالك وأبو أسامة وابن نمير ومردان بن معاوية وشجاع بن الوليد وأبو ضمرة وجماعة.(تهذيب التهذيب:11/20). وعقدوا لمناقبه أبواباً كالحاكم في المستدرك (3/395).

ص: 249

وقال في الإستيعاب (4/1546): «كان من الفضلاء الخيار، وكان من الأبطال البُهْم ، فُقئت عينه يوم اليرموك ، ثم أرسله عمر من اليرموك مع خيل العراق إلى سعد كتب إليه بذلك ، فشهد القادسية وأبلى بها بلاء حسناً، وقام منه في ذلك ما لم يقم من أحد، وكان سبب الفتح على المسلمين . وكان بهمةً من البَهم فاضلاً خيراً. وهو الذي افتتح جلولاء فعقد له سعد لواء ووجهه، وفتح الله عليه جلولاء ولم يشهدها سعد ». والبُهْمَة الفارس الشديد البأس . (الصحاح:5/1875).

وروى المرقال أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) في فضائل أهل البيت (علیهم السلام) كحديث الغدير، وحديثاً صححه الحاكم والذهبي بشرط الشيخين(4/398):«عن أم سلمة أن رسول الله اضطجع ذات يوم فاستيقظ وهو خائر النفس ، وفي يده تربة حمراء فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟فقال: أخبرني جبريل أن هذا يقتل بأرض العراق للحسين ، فقلت لجبريل: أرني تربة الأرض التي يقتل بها ، فهذه تربتها » .

وقال ابن حجر في الإصابة:6/404: «هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بن أهيب بن زهرة بن عبد مناف الزهري ، الشجاع المشهور ، المعروف بالمرقال ، بن أخي سعد بن أبي وقاص . قال الدولابي: لقب بالمرقال لأنه كان يرقل في الحرب أي يسرع ، من الإرقال وهو ضرب من العَدْو...قال الهيثم بن عدي: عقد له عمه سعد على الجيش الذي جهزه إلى قتال يزد جرد ملك الفرس ، فكانت وقعة جلولاء.. كانت راية علي يوم صفين مع هاشم بن عتبة .

ص: 250

قال المرزباني: لما جاء قتل عثمان إلى أهل الكوفة ، قال هاشم لأبي موسى الأشعري: تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الأمة علي ! فقال: لا تعجل . فوضع هاشم يده على الأخرى فقال: هذه لعلي وهذه لي، وقد بايعت علياً (علیه السلام) ، وأنشد:

أبايع غير مكترثٍ عليا *** ولا أخشى أميراً أشعريا

أبايعه وأعلم أن سأرضي *** بذاك الله حقاً والنبيا».

وذكر ابن الأعثم(2/438)أن موقف هاشم في قصر الإمارة كان مطلب أهل الكوفة بعد بيعة علي (علیه السلام) في المدينة ، فهو يدل على تخلف أبي موسى عن البيعة حتى ضغط عليه المسلمون: « فقامت الناس إلى أميرهم أبي موسى الأشعري فقالوا: أيها الرجل! لم لا تبايع علياً وتدعو الناس إلى بيعته ، فقد بايعه المهاجرون والأنصار؟ فقال أبو موسى: حتى أنظر ما يكون ، وما يصنع الناس بعد هذا » !

3. ومدحه علماء الشيعة ، فوصفوه بأنه صحابي جليل ، خَيِّرٌ فاضلٌ رضي الله عنه من خواص أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، شهد معه حرب الجمل ، وكان حامل لوائه الأعظم يوم صفين ، واستشهد فيها هو وعمار بن ياسرفصلى عليهما علي (علیه السلام) ودفنهما بثيابهما ولم يُغسِّلهما، وأعطى لواءه لابنه عبد الله ، وكان زعيماً في البصرة ورئيس الشيعة فيها. (معجم السيد الخوئي:15/241، والمستدركات:8/133).

وفي الطبقات (3/258و362): «لما كان اليوم الذي قتل فيه عمار والراية يحملها هاشم بن عتبة ، وقد قتل أصحاب عليٍّ ذلك اليوم حتى كانت العصر، ثم تقرب عمار من وراء هاشم يقدمه ، وقد جنحت الشمس للغروب ، ومع عمار ضياح من لبن ، فكان وجوب الشمس أن يفطر ، فقال حين وجبت الشمس وشرب

ص: 251

الضياح: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: آخر زادك من الدنيا ضياحٌ من لبن ! قال: ثم اقترب فقاتل حتى قتل ، وهو يومئذ ابن أربع وتسعين سنة !

عن أبي إسحاق أن علياً (علیه السلام) صلى على عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة رضي الله تعالى عنهما ، فجعل عمار مما يليه وهاشماً أمام ذلك ، وكبر عليهما تكبيراً واحداً ، خمساً أو ستاً أو سبعاً ، والشك في ذلك من أشعث ».

وكانت الأنصار عامتها مع أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقريش عامتها مع معاوية ، ولم يكن مع علي (علیه السلام) إلا خمسة ، ولكنهم شخصيات .

ففي رجال الكشي(1/281) ، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان مع أمير المؤمنين (علیه السلام) من قريش خمسة نفر ، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية . فأما الخمسة فمحمد بن أبي بكر رحمة الله عليه ، أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس. وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال . وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي ، وكان أمير المؤمنين (علیه السلام) خاله وهو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان: إنما لك هذه الشدة في الحرب من قبل خالك . فقال له جعدة: لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك . ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، و الخامس سِلْفُ أمير المؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة ، وهو صهر النبي (صلی الله علیه و آله) أبو الربيع ».

4. فضَّله أمير المؤمنين (علیه السلام) على محمد بن أبي بكر مع حبه لمحمد ، رضي الله عنهما ، ففي نهج البلاغة (1/116): «من كلام له (علیه السلام) لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فمُلكت عليه ، فقُتل: وقد أردتُ تولية مصر هاشم بن عتبة ، ولو وليته إياها لما خلى لهم العرصة ولا أنهزهم الفرصة. بلا ذم لمحمد بن أبي بكر ، فلقد كان إليَّ حبيباً

ص: 252

وكان لي ربيباً».«رحم الله محمداً ، كان غلاماً حدثاً . أما والله لقد كنت أردت أن أولي المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص مصر. والله لو أنه وليها لما خلى لعمرو بن العاص وأعوانه العرصة ، ولما قتل إلا وسيفه في يده بلا ذم لمحمد بن أبي بكر ، فلقد أجهد نفسه وقضى ما عليه. فقيل لعلي (علیه السلام) : لقد جزعت على محمد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين ! قال: وما يمنعني؟ إنه كان لي ربيباً وكان لبنيَّ أخاً ، وكنت له والداً ، أُعِدُّه ولداً ». (الغارات للثقفي:1/300 ).

5. بقي هاشم في الكوفة بعد أن تركها عمه سعد، ثم جاء مع علي (علیه السلام) الى البصرة ، وأرسله الإمام (علیه السلام) من ذي قار برسالة الى عامله على الكوفة أبي موسى الأشعري ليستنهض المسلمين لموافاته في ذي قار .

قال في فتح الباري(13/48): «كان عليٌّ أقرَّ أبا موسى على إمرة الكوفة، فلما خرج من المدينة أرسل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إليه أن أنهض من قبلك من المسلمين ، وكن من أعواني على الحق، فاستشار أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فقال: إتبع ما أمرك به. قال: إني لا أرى ذلك ! وأخذ في تخذيل الناس عن النهوض ! فكتب هاشم إلى علي بذلك وبعث بكتابه مع محل بن خليفة الطائي، فبعث على عمار بن ياسر والحسن بن علي ، يستنفران الناس ».

ورواه في شرح النهج (14/9) ، وفيه: «فأبى ذلك، وحبس الكتاب وبعث إلى هاشم يتوعده ويخوفه. قال السائب: فأتيت هاشماً فأخبرته برأي أبى موسى، فكتب إلى علي (علیه السلام) : لعبد الله على أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة أما بعد يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على امرئ مشاق بعيد الود ، ظاهر الغل والشنآن، فتهددني بالسجن وخوفني بالقتل ، وقد كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة

ص: 253

أخي طئ ، وهو من شيعتك وأنصارك ، وعنده علم ما قِبلنا فاسأله عما بدا لك ، واكتب إلى برأيك. والسلام...فقال علي (علیه السلام) : والله ما كان عندي بمؤتمن ولا ناصح، ولقد أردت عزله ، فأتاني الأشتر فسألني أن أُقره ، وذكر أن أهل الكوفة به راضون ، فأقررته».

وروى الطبري (3/501) أن الأشتر ذهب الى الكوفة بعد عمار والإمام الحسن (علیه السلام) «فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة وقد اجتمع الناس في المسجد الأعظم ، فجعل لا يمر بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلا دعاهم ويقول:إتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فاقتحم القصر فدخله وأبو موسى قائم في المسجد يخطب الناس ويثبطهم ، يقول: أيها الناس إن هذه فتنة عمياء صماء تطأ خطامها . النائم فيها خير من القاعد ، والقاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ، والساعي فيها خير من الراكب . إنها فتنة باقرة كداء البطن ، أتتكم من قبل مأمنكم تدع الحليم فيها حيران كابن أمس ، إنا معاشر أصحاب محمد أعلم بالفتنة ، إنها إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت أسفرت !

وعمار يخاطبه ، والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أم لك ، وتنح عن منبرنا . وقال له عمار: أنت سمعت هذا من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ فقال أبوسى: هذه يدي بما قلت . فقال له عمار: إنما قال لك رسول الله (صلی الله علیه و آله) هذا خاصة ، فقال: أنت فيها قاعداً خير منك قائماً ! ثم قال عمار: غلب الله من غالبه ، وجاحده !

عن أبي مريم الثقفي قال: والله إني لفي المسجد يومئذ وعمار يخاطب أبا موسى ويقول له ذلك القول ، إذ خرج علينا غلمان لأبي موسى يشتدون ، ينادون يا أبا

ص: 254

موسى هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا . فنزل أبو موسى فدخل القصر، فصاح به الأشتر: أخرج من قصرنا لا أم لك ، أخرج الله نفسك ، فوالله إنك لمن المنافقين قديماً ! قال: أجلني هذه العشية . فقال: هي لك ، ولا تبيتن في القصر الليلة . ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر ، وأخرجهم من القصر وقال: إني قد أخرجته . فكف الناس عنه ».

أقول: وافي ألوف المسلمين من الكوفة أمير المؤمنين (علیه السلام) بذي قار ، وساروا معه الى البصرة. ولم يؤثر فيهم تثبيط أبي موسى ، فقد واجهه عمار بالتكذيب وفضحه بأنه من أصحاب العقبة الذين أرادوا قتل النبي (صلی الله علیه و آله) فلعنه ليلتها ! فلم ينكر ذلك أبو موسى، بل قال لعمار: إن النبي (صلی الله علیه و آله) استغفر له بعد ذلك ! فأجابه عمار: لقد شهدت اللعن، ولم أشهد الإستغفار ! ثم واجهه الأشتر رضي الله عنه بقوته وتأثيره في الكوفة .

أما هاشم المرقال «فجرد معه من بنيه من كان منهم قد أنْبت ، وخرج بهم إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى ذي قار ، فكان أول من قدم عليه ». (أخبار الشعراء للمرزباني/ 38 ).

6. وكان هاشم بصيراً بمعاوية والقرشيين المخالفين لعلي (علیه السلام) ويرى أنهم طلاب دنيا فقد روى نصر بن مزاحم في وقعة صفين/92: «لما أراد علي (علیه السلام) المسير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال: أما بعد فإنكم ميامين الرأي، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والأمر. وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم ، فأشيروا علينا برأيكم. فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن

ص: 255

يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهداً ، مشاحة على الدنيا ، وضناً بما في أيديهم منها . وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان . كذبوا ليسوا بدمه يثأرون ولكن الدنيا يطلبون . فسر بنا إليهم فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال . وإن أبوا إلا الشقاق فذلك الظن بهم. والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ويسمع إذا أمر».

7. كان هاشم المرقال صاحب راية علي (علیه السلام) في حرب صفين ، أي القائد العام لجيشه ففي وقعة صفين/326: «دفع على الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وكانت عليه درعان ، فقال له على كهيئة المازح: أيا هاشم ، أما تخشى من نفسك أن تكون أعور جباناً ؟ قال: ستعلم يا أمير المؤمنين . والله لألفَّنَّ بين جماجم القوم لفَّ رجل ينوي الآخرة . فأخذ رمحاً فهزه فانكسر، ثم آخر فوجده جاسياً فألقاه ثم دعا برمح لين فشد به لواءه ».

8. وقاتل هاشم في أيام صفين قتال الأبطال ، حتى استشهد هو وعمار في يوم واحد ! ففي وقعة صفين/353: «عن أبي سلمة ، أن هاشم بن عتبة دعا في الناس عند المساء: ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فليقبل. فأقبل إليه ناس فشد في عصابة من أصحابه على أهل الشام مراراً ، فقاتل قتالاً شديداً ثم قال لأصحابه: لا يهولنكم ماترون من صبرهم ، فوالله ما ترون منهم إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها ، وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق.

يا قوم إصبروا وصابروا واجتمعوا ، وامشوا بنا إلى عدونا على تؤده رويداً واذكروا الله ، ولا يسلمن رجل أخاه ، ولا تكثروا الإلتفات ، وجالدوهم

ص: 256

محتسبين حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين . قال أبو سلمة: فبينا هو وعصابة من القراء يجالدون أهل الشام ، إذ خرج عليهم فتى شاب يقول:

أنا ابن أرباب الملوك غسان *** والدائن اليوم بدين عثمان

أنبأنا أقوامنا بما كان *** أن علياً قتل ابن عفان

ثم شد فلا ينثني يضرب بسيفه ثم يلعن علياً ويشتمه ويسهب في ذمه ! فقال له هاشم بن عتبة: إن هذا الكلام بعده الخصام ، وإن هذا القتال بعده الحساب . فاتق الله فإنك راجع إلى ربك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به .

قال: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذُكر لي ، وأنكم لا تصلون . وأقاتلكم لأن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله .

فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان؟ إنما قتله أصحاب محمد وقراء الناس، حين أحدث أحداثاً وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين ، وأولى بالنظر في أمور المسلمين . وما أظن أن أمر هذه الأمة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قط !

قال الفتى: أجل أجل ، والله لا أكذب ، فإن الكذب يضر ولا ينفع ، ويشين ولا يزين . فقال له هاشم: إن هذا الأمر لا علم لك به ، فخله وأهل العلم به . قال: أظنك والله قد نصحتني . وقال له هاشم: وأما قولك إن صاحبنا لايصلي فهو أول من صلى مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأفقهه في دين الله ، وأولاه برسول الله .

وأما من ترى معه فكلهم قارئ الكتاب ، لا ينامون الليل تهجداً . فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون !

ص: 257

قال الفتى: يا عبد الله إني لأظنك امرأً صالحاً وأظنني مخطئاً آثماً ، أخبرني هل تجد لي من توبة ؟ قال: نعم ، تب إلى الله يتب عليك ، فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، ويحب التوابين ويحب المتطهرين.

قال: فذهب الفتى بين الناس راجعاً ، فقال له رجل من أهل الشام: خدعك العراقي ! قال: لا ، ولكن نصحني العراقي » .

«ولما دفع على الراية إلى هاشم قال له رجل من بكر بن وائل من أصحاب هاشم: أقدم هاشم ، يكررها، ثم قال: مالك يا هاشم قد انتفخ سحرك ، أعَوَراً وجُبْناً ؟ قال: من هذا ؟ قالوا: فلان . قال: أهلها وخير منها ، إذا رأيتني قد صُرعتُ فخذها. ثم قال لأصحابه: شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم ، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثاً ، فاعلموا أن أحداً منكم لا يسبقني إليها...ثم نظر هاشم إلى عسكر معاوية فرأى جمعاً عظيماً فقال: من أولئك؟ قيل أصحاب ذي الكلاع..قال: من عند هذه القبة البيضاء؟قيل معاوية وجنده . قال فإني أرى دونهم أسودة ؟ قالوا: ذاك عمرو بن العاص وابناه ومواليه . وأخذ الراية فهزها فقال له رجل من أصحابه: أمكث قليلاً ، ولا تعجل. فقال هاشم:

قد أكثروا لومي وما أقلا *** إني شريت النفس ، لن أعتلا

أعور يبغي نفسه محلا *** لا بد أن يَفل أو يُفلا

قد عالج الحياة حتى ملا *** أشدُّهم بذي الكعوب شلا

مع ابن عم أحمد المعلى *** فيه الرسول بالهدى استهلا

أولُ من صدقه وصلى *** فجاهد الكفار حتى أبلى».

ص: 258

وقال (رحمة الله) : أيها الناس، إني رجل ضخم فلا يهولنكم مسقطي إن أنا سقطت ، فإنه لايفرغ مني أقل من نحر جزور حتى يفرغ الجزار من جزرها ». (صفين/353).

وفي الأخبار الطوال/183: «فلما أصبح عليٌّ غادى أهل الشام القتال ، ودفع رايته العظمى إلى هاشم بن عتبة فقاتل بها نهاره كله ، فلما كان العشي انكشف أصحابه انكشافه ، وثبت هاشم في أهل الحفاظ منهم والنجدة ، فحمل عليهم الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه طعنة جائفة ، فلم ينته عن القتال. ووافاه رسول علي (علیه السلام) يأمره أن يقدم رايته ، فقال للرسول: أنظر إلى ما بي ، فنظر إلى بطنه فرآه منشقاً ! فرجع إلى علي فأخبره ، ولم يلبث هاشم أن سقط ، وجال أصحابه عنه وتركوه بين القتلى ، فلم يلبث أن مات .

وحال الليل بين الناس وبين القتال ، فلما أصبح علي (علیه السلام) غَلَّسَ بالصلاة ، وزحف بجموعه نحو القوم على التعبية الأولى، ودفع الراية إلى ابنه عبد الله بن هاشم بن عتبة ، وتزاحف الفريقان فاقتتلوا . فروي عن القعقاع الظفري أنه قال: لقد سمعت في ذلك اليوم من أصوات السيوف ما الرعد القاصف دونه . وعلي رضي الله عنه واقف ينظر إلى ذلك ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ، والله المستعان ، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين .

ثم حمل علي بنفسه على أهل الشام حتى غاب فيهم ، فانصرف مخضباً بالدماء ، فلم يزالوا كذلك يومهم كله والليل حتى مضى ثلثه ، وجرح عليٌّ (علیه السلام) خمس جراحات ، ثلاث في رأسه واثنتان في وجهه .

ص: 259

«وقاتل هاشم هو وأصحابه قتالاً شديداً حتى أتت كتيبة لتنوخ ، فشدوا على الناس فقاتلهم وهو يقول:أعور يبغي أهله محلا..الخ. حتى قتل تسعة نفر أو عشرة ، وحمل عليه الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه فسقط ». (صفين /155).

وفي أسد الغابة (5/49): «فقطعت رجله يومئذ ، وجعل يقاتل من دنا منه وهو بارك ويقول: الفحل يحمى شوله معقول . وقيل فيه يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة: يا هاشم الخير جزيت الجنة...قاتلت في الله عدو السنة ».

وفي وقعة صفين/359، وفتوح ابن الأعثم:3/119: «وفي قتل هاشم بن عتبة يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة وهو من الصحابة ، وقيل إنه آخر من بقي من صحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وشهد مع علي (علیه السلام) صفين ، وكان من مخلصي الشيعة:

يا هاشمَ الخير جزيت الجنهْ *** قاتلت في الله عدوَّ السنه

والتاركي الحق وأهل الظِّنَّه *** أعظم بما فزت به من منه

صيرني الدهر كأني شنه *** يا ليت أهلي قد علوني رنه

من حَوْبةٍ وعمةٍ وكِنَّه

«ولما قتل هاشم جزع الناس عليه جزعاً شديداً،وأصيب معه عصابة من أسلم من القراء، فمرَّ عليهم علي (علیه السلام) وهم قتلى حول أصحابه الذين قتلوا معه، فقال:

جزى الله خيراً عصبةً أسلميةً *** صباحَ الوجوه صُرِّعُوا حولَ هاشمِ

يزيدٌ وعبد الله بشرٌ ومعبدٌ *** وسفيانُ وابنا هاشم ذي المكارم

وعروة لايبعد ثناه وذكره *** إذا اخترطت يوماً خفاف الصوارم

ثم قام عبد الله بن هاشم ، وأخذ الراية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:يا أيها الناس ، إن هاشماً كان عبداً من عباد الله ، الذين قدر أرزاقهم ، وكتب آثارهم ،

ص: 260

وأحصى أعمالهم ، وقضى آجالهم ، فدعاه ربه الذي لا يعصى فأجابه، وسلم لأمر لله ، وجاهد في طاعة ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأول من آمن به ، وأفقههم في دين الله ، المخالف لأعداء الله المستحلين ما حرم الله ، الذين عملوا في البلاد بالجور والفساد ، واستحوذ عليهم الشيطان ، فزين لهم الإثم والعدوان، فحق عليكم جهاد من خالف سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وعطل حدود الله ، وخالف أولياء الله .

فجودوا بمهج أنفسكم في طاعة الله في هذه الدنيا ، تصيبوا الآخرة والمنزل الأعلى، والملك الذي لايبلى. فلو لم يكن ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار، لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية ، ابن أكالة الأكباد . فكيف وأنتم ترجون ما لا يرجون ». (وقعة صفين /356 ) .

9.كان هاشم من خاصة أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) فقد كان يمازحه ، وأخبره بيوم شهادته ، وبشره بأنه سيأكل هذا اليوم من طعام الجنة .

قال نصر/346: «ثم إن علياً (علیه السلام) دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة ومعه لواؤه، وكان أعور، فقال له: يا هاشم ، حتى متى تأكل الخبز وتشرب الماء؟! فقال هاشم: لأجهدن على ألا أرجع إليك أبداً ! قال علي (علیه السلام) : إن بإزائك ذا الكلاع وعنده الموت الأحمر. فتقدم هاشم ، فلما أقبل قال معاوية: من هذا المقبل؟ فقيل هاشم المرقال . فقال: أعور بني زهرة قاتله الله.. فأقبل هاشم وهو يقول:

أعْوَرُ يبغي نفسه خلاصا *** مثل الفنيق لابساً دلاصا

قد جرب الحرب ولا أناصا *** لا ديةً يخشى ولا قصاصا

كل امرئ وإن كبا وحاصا *** ليس يرى من موته مناصا

وحمل صاحب لواء ذي الكلاع وهو رجل من عذرة ، وهاشم حاسر وهو يقول:

ص: 261

يا أعور العين وما بي من عورْ *** أثبت فإني لست من فرعي مضر

نحن اليمانون وما فينا خور *** كيف ترى وقع غلام من عذر

ينعي ابن عفان ويلحى من غدر *** سيان عندي من سعى ومن أمر

فاختلفا طعنتين فطعنه هاشم فقتله ، وكثرت القتلى وحمل ذو الكلاع فاجتلد الناس ، فقتلا جميعاً . وأخذ ابن هاشم اللواء ، وهو يقول:

أهاشم بن عتبة بن مالك *** أعزز بشيخ من قريش هالك

تخبطه الخيلات بالسنابك *** في أسود من نقعهن حالك

أبشر بحور العين في الأرائك *** والروح والريحان عند ذلك».

10. وصفوا شجاعته في الفتوحات وصفين ، ومن ذلك ما في الأخبار الطوال/174: «وخرج يوماً آخر المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في خيل ، فخرج إليه أبو الأعور السلمي في مثل ذلك ، فاقتتلوا بين الصفين جل النهار . فلم يفر أحد ».

«فحمل يومئذ يرقل إرقالاً..فجعل عمرو بن العاص يقول: إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملاً لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم..والتقى الزحفان فاقتتل الناس قتالاً شديداً لم يسمع الناس بمثله..عن أبي السفرقال:لما التقينا بالقوم في ذلك اليوم وجدناهم خمسة صفوف قد قيدوا أنفسهم بالعمائم ، فقتلنا صفاً صفاً حتى قتلنا ثلاثة صفوف ، وخلصنا إلى الصف الرابع ، ما على الأرض شامي ، ولا عراقي يولي دبره ». (وقعة صفين/327 ).

وقال نصر في وقعة صفين/326: (ودفع على الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكانت عليه ذلك اليوم درعان ، فقال له على كهيئة المازح: أيا هاشم ،

ص: 262

أما تخشى من نفسك أن تكون أعور جباناً؟ قال: ستعلم يا أمير المؤمنين ، والله لألفَّنَّ بين جماجم القوم لفَّ رجل ينوي الآخرة ».

وفي الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة/422: «قال المؤيد الخوارزمي: كان عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة وعبد الله بن بديل فرسان العراق ، ومردة الحرب ، ورجال المعارك ، وسيوف الأقران ، وأمراء الأخيار ، وأمراء أمير المؤمنين (علیه السلام) وقد أوقعوا بأهل الشام ما بقى ذكره على مرِّ الأحقاب حتى احتالوا لقتلهم . وفيهم يقول الأشتر ذاكراً لهم متأسفاً عليهم:

أبعد عمارٍ وبعد هاشمِ *** وابن بديلٍ فارس الملاحمِ

أرجو البقاءَ ضلَّ حُلمُ الحالم

وفي فتوح ابن الأعثم:3/43: ( وخرج عمرو بن العاص فجعل يقول:

لا عيش إن لم ألق يوماً هاشما *** ذاك الذي أجشمني المجاشما

ذاك الذي يشتم عرضي ظالما *** ذاك الذي أقام فينا الماتما

ذاك الذي إن ينج مني سالما *** يكن شجى حتى الممات لازما

قال: فما لبث عمرو أن خرج إليه هاشم المرقال وهو يرتجز ويقول:

لا عيش إن لم ألق يومي عمرا *** ذاك الذي نذرت فيه النذرا

ذاك الذي أعذرت فيه العذرا *** ذاك الذي ما زال ينوي الغدرا

أو يحدث الله لأمر أمرا *** لا تجزعي يا نفس صبراً صبرا

ضرباً إذا شئت وطعناً شزرا *** يا ليت ما تحتي يكون قبرا

قال: ثم حمل هاشم على عمرو بن العاص واختلفا بطعنتين ، فطعنه هاشم طعنة جرحه منها جراحة منكرة،فرجع عمرو إلى معاوية وجراحته تشخب دماً»

ص: 263

«وقد كان قال معاوية لعمرو: ويحك ، إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة ، وقد كان من قبل يرقل به إرقالاً ، وإنه إن زحف به اليوم زحفاً ، إنه لليوم الأطول لأهل الشام ، وإن زحف في عنق من أصحابه إني لأطمع أن تقتطع . فلم يزل به عمار حتى حمل ، فبصر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه ومن يزن بالبأس والنجدة منهم في ناحيته ، وكان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومعه يومئذ سيفان ، قد تقلد واحداً وهو يضرب بالآخر ، وأطافت به خيل علي (علیه السلام) فقال عمرو: يا الله ، يا رحمن ، إبني إبني ! قال: ويقول معاوية: صبراً صبراً فإنه لا بأس عليه . قال عمرو: ولو كان يزيد بن معاوية ، إذاً لصبرت ! ولم يزل حماة أهل الشام يذبون عنه حتى نجا هارباً على فرسه ومن معه ، وأصيب هاشم في المعركة ». (وقعة صفين/340).

11. خاض هاشم المرقال رضي الله عنه معارك الجهاد ، وقادها ، لمدة ربع قرن ، في فتوح فلسطين ، والشام ، ومصر ، والعراق ، وإيران ، ثم في حروب علي (علیه السلام) وهي مدة طويلة ، والأهم من بطولاته: إيمانه وإخلاصه (رحمة الله) !

فقد أرسله أبو بكر قائداً في فتح فلسطين والشام، قال ابن الأعثم:1/85 ، ملخصاً: «دعا أبو بكر بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وهو ابن أخي سعيد بن أبي وقاص فقال: يا هاشم إن من سعادة جِدِّك ووفاء حظك أنك أصبحت ممن تستعين به الأمة على جهاد عدوها ، وممن يثق الوالي بوفائه وصدقه ونصحه وبأسه وشجاعته. وقد بعث أبو عبيدة بن الجراح والمسلمون يخبرونني باجتماع الكفار عليهم ، فاخرج فعسكر حتى أندب إليك الناس..قال هاشم: أفعل ذلك إن شاء الله . فعندها قام أبو بكر في الناس خطيباً فحمد الله عز وجل وأثنى عليه،

ص: 264

ثم قال: أيها الناس، إن إخوانكم من المسلمين الذين أغزيناهم إلى الشام إلى جهاد عدوهم معافون، مدفوع عنهم مصنوع لهم ، قد ألقى الله الرعب في قلوب أعدائهم ، وقد جاءني كتاب أبي عبيدة يخبرني بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم ونزوله مدينة أنطاكية ، وقد اجتمع عليه خلق كثير من النصرانية . وقد رأيت أن أمد إخوانكم بجند منكم فيشد الله عز وجل بكم ظهورهم ، ويكبت بكم أعداءهم ويلقى الرعب في قلوبهم، فانتدبوا رحمكم الله مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، واحتسبوا في ذلك الأجر العظيم فإنكم إن قاتلتم ونصرتم فهو الفلح والغنيمة ، وإن هلكتم فهو الشهادة والسعادة. قال: فانتدب لأبي بكر خلق كثير من همدان وأسلم وغفار ومزينة ومراد والأزد ، وجميع القبائل ».

وقال ابن الأعثم:1/95: «ثم سار هاشم بن عتبة في ثلاثة آلاف مجهز ، حتى قدم على أبي عبيدة بن الجراح ، قال: فَسُرَّ أبو عبيدة وجميع المسلمين بقدوم هاشم بن عتبة ومن معه سروراً شديداً » .

وكانت أول مشاركة لهاشم في معركة أجنادين ، وهي المعركة الفاصلة التي فتحت على أثرها فلسطين ، وقادها هاشم مع خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنهما ، فكان هو قائد الميسرة في معارك فتح وفلسطين والشام: أجنادين ومرج الصُّفَّر وفِحل واليرموك ، وكان خالد بن سعيد قائد الخيل كلها ، في المعارك الأربعة .

ففي تاريخ دمشق:16/66:«عن سهل بن سعد الأنصاري قال: كانت وقعة أجنادين وقعة عظيمة ، كانت بالشام وكانت في سنة ثلاث عشرة في جمادى الأولى ، فذكر بعض أمرها ، ثم ذكر إغاثة الروم لأهل دمشق حين حصارها ، قال: فتركوا مرج الصُّفَّر ، فصمد المسلمون صمدهم ، وخرج إليهم أهل القوة

ص: 265

من أهل دمشق وصحبهم ناس كثير من أهل حمص ، فالقوم نحو من خمسة عشر ألفاً . فلما نظر إليهم خالد عبأ لهم كتعبئة يوم أجنادين ، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل سعيد بن زيد بن نفيل ، وترك أبا عبيدة في الرجال ، وزحف إليهم..».وقد صحح ابن عساكر إسم سعيد بن زيد بخالد بن سعيد ، وهو الصحيح ، كما يأتي .

وفي تاريخ اليعقوبي:2/140: « وقد كان الروم لما بلغهم إقبال أبي عبيدة تحولوا إلى فحل ، فعبأ أبو عبيدة المسلمين فجعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وعلى الرجالة سعد بن زيد ، وعلى الخيل خالد بن الوليد (بن سعيد) وأقبلت الروم فكان أول من لقيهم خالد (بن سعيد لأنه في جيش شرحبيل) فهزم الله الروم وطلبوا الصلح ، على أن يؤدوا الجزية ، فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك وانصرف ، وخلف عمرو بن العاص على باقي الأردن ».

وقال بن الأعثم:1/151: «ثم حمل خالد بن الوليد وحمل معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، في زهاء ألف رجل من أهل الصبر واليقين ، فنقضوا تعبية الكفار وكسروا صفوفهم بعضها على بعض ». وخالد هنا هو ابن سعيد كما يأتي.

وقال البلاذري:1/160: «وذهبت يوم اليرموك عين الأشعث بن قيس ، وعين هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري ، وهو المرقال ، وعين قيس بن مكشوح . واستشهد عامر بن أبي وقاص الزهري ، وهو الذي كان قدم الشام بكتاب عمر بن الخطاب إلى أبى عبيدة بولايته الشام ».

ص: 266

12. وبعد اليرموك مباشرة سارع هاشم في نخبة من جيش المسلمين من الشام الى العراق ، للمشاركة في معركة القادسية .

ففي تاريخ اليعقوبي:2/144: «ثم أصبحوا من غدٍ فوافاهم ستة آلاف من جيش أبي عبيدة بن الجراح ، وهم الذين كانوا مع خالد بن الوليد: خمسة آلاف من مضر وربيعة ، وألف من أفناء المسلمين ، عليهم المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وكان فتح الشأم قبل القادسية بشهر، فأصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم ، وأخرج رستم الفيلة فلما نظرت إليها الكتائب كادت أن تفترق ، ثم حمل المسلمون عليها ففقأوا أعينها وقطعوا مشافرها .

وزحف المسلمون وأصبحوا في اليوم الرابع وللمسلمين العلو ، وقتل رستم ، وقع عليه عدل كان على بغل فقتله ، وكان الذي طرح عليه العدل هلال بن علفة ، وصعد على سريره وصاح: قتلت رستم ورب الكعبة ، إليَّ إلي ! وقيل قتله زهير بن عبد شمس بن أخي جرير بن عبد الله ، وقتل منهم مقتلة عظيمة وانكشفوا مدبرين ، وجمعت الأموال والأسلاب وبيع سلب رستم فبلغ سهم الرجل لكل فارس أربعة عشر ألفاً ، وسهم الراجل سبعة آلاف ومائة ، ورضخ لعيال الشهداء من صلب الفئ ، ورضخ للنساء من صلب الفئ ، فأما العبيد فإنهم عفواً، وأوفد سعد إلى عمر وفداً فأجازهم عمر ثمانين ديناراً ثمانين ديناراً .

وكان بالقادسية من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أهل بدر سبعون رجلاً ، ومن أهل بيعة الرضوان ومن شهد الفتح مائة وعشرون ، ومن أصحاب رسول الله مائة . ونفرت جميع الفرس إلى المدائن منهزمين ، لا يلوون على شئ ، ويزدجرد

ص: 267

الملك بها ، فاتبعهم سعد(أي هاشم ) بالمسلمين فحاصرهم شهراً وخمسة عشر يوماً ثم خرج الفرس هاربين ، وفتحت المدائن، وقيل إن ذلك كان في سنة 16».

وفي الطبري:2/627: «قدم على أبي عبيدة كتاب عمر بأن اصرف جند العراق إلى العراق وأَمُرهم بالحث ، إلى سعد بن مالك . فأمَّر على جند العراق هاشم بن عتبة ، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو ، وعلى مجنبتيه عمر بن مالك الزهري وربعي بن عامر ، وضربوا بعد دمشق نحو سعد ، فخرج هاشم نحو العراق في جند أهل العراق ، وخرج القواد نحو فحل ، وأصحاب هاشم عشرة آلاف ، إلا من أصيب منهم ، فأتموهم بأناس ممن لم يكن منهم ، منهم قيس والأشتر».

يقصد أن الأشتر وقيساً ولعله قيس بن سعد بن عبادة ، كانا جريحين فبقيا في الشام ، ولم يشاركا في القادسية ، لكن الأشتر كان يطارد جيش الروم ، حتى وصل بهم الى جبال اللكام في تركيا ، كما سيأتي في محله .

وفي تاريخ الطبري:3/60: «قدم هاشم في أهل العراق من الشام ، فتعجل في أناس ليس معه أحد من غيرهم إلا نفر ، منهم ابن المكشوح ، فلما دنا تعجل في ثلاث مائة ، فوافق الناس وهم على مواقفهم فدخلوا مع الناس في صفوفهم .

قدم هاشم بن عتبة القادسية يوم عماس ، فكان لا يقاتل إلا على فرسن أنثى لا يقاتل على ذكر ، فلما وقف في الناس رمى بسهم فأصاب أذن فرسه ، فقال: واسوأتاه من هذه ، أين ترون سهمي كان بالغاً ولم يصب أذن الفرس؟ قالوا: كذا وكذا . فأجال فنزل وترك فرسه ، ثم خرج يضربهم حتى بلغ حيث قالوا ».

وفي تاريخ دمشق:49/496: «وأمدهم يعني أبا عبيدة بن الجراح لأهل القادسية بتسعة عشر رجلاً ممن شهد اليرموك ، منهم عمرو بن معدي كرب الزبيدي ،

ص: 268

وطليحة بن خويلد الأسدي، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري ، والأشعث بن قيس الكندي ، وقيس بن مكشوح المرادي ».

وفي تاريخ الطبري:3/59: فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل وطلعت نواصيها كبَّر وكبر الناس وقالوا جاء المدد ، وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها ، فجاؤوا من قبل خفان فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب ، فاختلفوا الضرب والطعن ومددهم متتابع ، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم وقد طلعوا في سبع مائة ، فأخبروه برأي القعقاع وما صنع في يوميه ، فعبأ أصحابه سبعين سبعين فلما جاء آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه ، فيهم قيس بن هبيرة بن عبد يغوث ، ولم يكن من أهل الأيام إنما أتى من اليمن اليرموك فانتدب مع هاشم ، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب كبَّر ، كبر المسلمون وقد أخذوا مصافهم ..

وقد بات المشركون في علاج توابيتهم حتى أعادوها وأصبحوا على مواقفهم ، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وُضُنُها ، ومع الرجالة فرسان يحمونهم ، إذا أرادوا كتيبة دلفوا لها بفيل وأتباعه لينفروا بهم خيلهم ، فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس ، لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش ، وإذا أطافوا به كان آنس ، فكان القتال كذلك حتى عدل النهار ، وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديداً، العرب والعجم فيه على السواء ، ولا يكون بينهم نقطة إلا تعاورها الرجال بالأصوات (كالبريد) حتى تبلغ يزدجرد ، فيبعث إليهم أهل النجدات ، ممن بقى عنده فيقوون بهم ، وأصبحت عنده للذي لقى

ص: 269

بالأمس الإمداد على البرد ، فلولا الذي صنع الله للمسلمين بالذي ألهم القعقاع في اليومين ، وأتاح لهم بهاشم لكسر ذلك المسلمين».

وفي تاريخ الطبري:3/60: «قدم هاشم بن عتبة من قبل الشام معه قيس بن المكشوح المرادي في سبع مائة بعد فتح اليرموك ودمشق ، فتعجل في سبعين فيهم سعيد بن نمران الهمداني . قال مجالد: وكان قيس بن أبي حازم مع القعقاع في مقدمة هاشم..فتعجل في أناس ليس معه أحد من غيرهم إلا نفر ، منهم ابن المكشوح، فلما دنا تعجل في ثلاث مائة فوافق الناس وهم على مواقفهم فدخلوا مع الناس في صفوفهم.. كان اليوم الثالث يوم عماس ولم يكن في أيام القادسية مثله ، خرج الناس منه على السواء كلهم على ما أصابه كان صابراً».

وفي تاريخ الطبري:3/16: «فانهزموا حتى انتهوا إلى الصراة ، فطلبناهم فانهزموا حتى انتهوا إلى المدائن ، فكان المسلمون بكوثى وكان مسلحة المشركين بدير المسلاخ ، فأتاهم المسلمون فالتقوا فهزم المشركون حتى نزلوا بشاطئ دجلة ، فمنهم من عبر من كلواذى ومنهم من عبر من أسفل المدائن.. وعلى مقدمة سعد هاشم بن عتبة ».

حصار المسلمين للمدائن

13. وحاصر المسلمون المدائن شهوراً، وقيل تسعة أشهر ، وقيل أكثر من ذلك وكانوا يترامونهم بالمنجنيق والسهام . قال في معجم البلدان:1/515: «بَهُرَ سِير.. إحدى المدائن السبع التي سميت بها المدائن.. كأن معناه خير مدينة أردشير ، وهي في غربي دجلة ، وقد خربت مدائن كسرى ولم يبق ما فيه عمارة غيرها ،

ص: 270

وهي تجاه الإيوان ، لأن الإيوان في شرقي دجلة وهي في غريبه..وفي كتاب الفتوح: لما فرغ سعد بن أبي وقاص من القادسية سار حتى نزل بهر سير ففتحها وأقام عليها تسعة أشهر وقيل ثمانية ، حتى أكلوا الرطب مرتين ، ثم عبر دجلة فهرب منهم يزدجرد ، وذلك في سنة خمس عشرة وست عشرة ».

وفي فتوح البلاذري: 2/338: «لما فرغ سعد بن أبي وقاص من وقعة القادسية ، وجه إلى المدائن فصالح أهل الرومية وبهرسير ، ثم افتتح المدائن وأخذ أسبانبر وكردبنداذ عنوة ، فأنزلها جنده فاحتووها ».

وفي تاريخ الطبري:3/117: «نزل المسلمون على بهرسير وعليها خنادقها وحرسها وعدة الحرب فرموهم بالمجانيق والعرادات ، فاستصنع سعد شيرزاذ المجانيق فنصب على أهل بهرسير عشرين منجنيقاً ، فشغلوهم بها».

وفي فتوح الواقدي:2/197: «فلما نظر سعد إلى ذلك دعا سرزاد وقال له:إن أهل هذا البلد لم يتركوا للصلح موضعاً ، وأريد منكم أن تصنعوا لنا مجانيق ففعل سرزاد وعمل مجانيق ، فما مضت ثلاثة أيام حتى صنع له ذلك ونصب له ذلك على نهمشير ، أكثر من عشرين منجنيقاً فأشغلوهم بها عن قتال المسلمين ، والعرب فرحت بذلك ، فلما طال على البلد الحصار خرجوا يقاتلون المسلمين وتبايعوا على الصبر ، فقاتلهم المسلمون قتالاً شديداً ، وترامت الفرس بنشابها والعرب بنبالها ».

وهنا ظهرت شجاعة هاشم وبطولته ، مقتدياً بإمامه ومولاه أمير المؤمنين (علیه السلام) : قال الواقدي: (2/197): «فلما ترتبت الصفوف كان أول من برز واشتهر وسما

ص: 271

وافتخر فيروز ورطن بالفارسية وقال: يا هؤلاء العرب لقد أطمعتم أنفسكم فيما لا تصلون اليه ، وساءت ظنونكم وزعمتم أنكم تملكون العراق وتأخذونه من أيدي الأكاسرة ، وهذا ظن لا يصير أبداً ! ونحن كتيبة كسرى أولوا الشدة والباس والقوة والمراس ، وأنا مقدمهم والرئيس فيهم ، فليبرز إليَّ مقدمكم ويفعل مثل ما فعلت أنا من بين قومي . قال فما استتم كلامه حتى خرج اليه هاشم بن المرقال يجر قناته من ورائه ، وحمل عليه وحصل بينهما حرب يشيب منها الطفل ، ثم إن هاشماً طعنه في صدره فأطلع السنان من ظهره ! قال: فلما قتله هاشم ورجع إلى المسلمين قبَّله سعد بين عينيه ..فكتب سعد إلى أمير المؤمنين..وإننا نزلنا على نهمشير بعد ما لقينا فيما بين القادسية ونهمشير عسكراً مع قرط بن فيروز ، وظفرنا الله به وبمن معه ، وإن فيروز قتله هاشم ، وانهزم من بقي معه ، ونزلنا بعد ذلك على نهمشير ، وبثثنا عساكرنا فأصابوا من الفلاحين ألف نفر فما رأيك فيهم؟».

ثم ذكر الواقدي أن المسلمين حاصروا المدينة شهرين ، حتى هرب يزدجرد ، فدخلوها بدون مقاومة .

وقال الواقدي في فتوح الشام:2/209: «لما انهزمت الفرس من المدائن واستولى عليها سعد بن أبي وقاص..وأنشد عاصم بن عمر في ذلك:

شهدنا بعون الله أفضل مشهد *** بأكرم من يقوى على كل موكب

ركبنا على الجرد الجياد سوابحاً *** بكل قناة بل بكل مقضب

وكنا بعون الله لا نرعوى إذا *** تبادر طعن كالغمام المشطب

ص: 272

وكان جهادٌ قد ملكنا بأمره *** من الملك مستعلى البناء المذهب

ترانا وإنا في الحروب أسودها *** لنا العزم لا يخفى لكل مجرب

نجول ونحمي والرماح شوارع *** ونطعن يوم الحرب كل مخبب

قدمنا على كسرى بشدة حربنا *** وما حربنا في النائبات بمختبي».

14. وبعد قيادته فتح المدائن ، قصد هاشم تجمع الفرس في جلولاء وخانقين، ففي تاريخ الطبري:3/79: «ثم إن الفرس هربت من ديرقرة إلى المدائن يريدون نهاوند ، واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والفرند والحرير والسلاح وثياب كسرى وبناته ، وخلوا ما سوى ذلك ، وأتبعهم سعد الطلب من المسلمين ، فبعث خالد بن عرفطة حليف بني أمية ، ووجه معه عياض بن غنم في أصحابه ، وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله البجلي ، وعلى ميسرتهم زهرة بن حوية التميمي، وتخلف سعد لما به من الوجع ، فلما أفرق سعد من وجعه ذلك اتبع الناس بمن بقى معه من المسلمين حتى أدركهم دون دجلة على بهرسير .

فلما وضعوا على دجلة العسكر والأثقال طلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها حتى أتى سعداً علج من أهل المدائن فقال: أدلكم على طريق تدركونهم قبل أن يمعنوا في السير، فخرج بهم على مخاضة بقطربل فكان أول من خاض المخاضة هاشم بن عتبة في رجله فلما جاز اتبعته خيله ، ثم أجاز خالد بن عرفطة بخيلة ، ثم أجاز عياض بن غنم بخيله ، ثم تتابع الناس فخاضوا حتى أجازوا ، فزعموا أنه لم يهتد لتلك المخاضة بعد .

ص: 273

ثم ساروا حتى انتهوا إلى مظلم ساباط فأشفق الناس أن يكون به كمين للعدو فتردد الناس وجبنوا عنه ، فكان أول من دخله بجيشه هاشم بن عتبة ، فلما أجاز ألاح للناس بسيفه ، فعرف الناس أن ليس به شئ تخافونه ، فأجاز بهم خالد بن عرفطة ، ثم لحق سعد بالناس حتى انتهوا إلى جلولاء وبها جماعة من الفرس فكانت وقعة جلولاء بها فهزم الله الفرس ، وأصاب المسلمون بها من الفئ أفضل مما أصابوا بالقادسية ، وأصيب ابنة لكسرى يقال لها منجانة ، ويقال بل ابنة ابنه ». والصحيح أن سعداً لم يكن في الجيش الذي قصد جلولاء .

وفي تاريخ الطبري:3/113: « ثم إن سعداً ارتحل بعد الفراغ من أمر القادسية كله.. ثم أتبعهم هاشم بن عتبة وقد ولاه خلافته عمل خالد بن عرفطة ، وجعل خالداً على الساقة ، ثم أتبعهم وكل المسلمين فارس مؤد ، قد نقل الله إليهم ما كان في عسكر فارس من سلاح وكراع ومال ، لأيام بقين من شوال ..».

وفي تاريخ الطبري:3/116: «ثم إن سعداً قدَّم زهرة إلى بهرسير (المدائن) فمضى زهرة من كوثي في المقدمات حتى ينزل بهرسير ، وقد تلقاه شيرزاذ بساباط بالصلح وتأدية الجزاء ، فأمضاه إلى سعد ، فأقبل معه وتبعته المجنبات .

وخرج هاشم وخرج سعد في أثره ، وقد فلَّ زهرة كتيبة كسرى بوران حول المظلم ، وانتهى هاشم إلى مظلم ساباط (كالننفق) ووقف لسعد حتى لحق به ، فوافق ذلك رجوع المُقَرَّط أسدٌ كان لكسرى قد ألَّفه وتخيَّره من أسود المظلم (أسود حماية النفق) وكانت به كتائب كسرى التي تدعى بوران ، وكانوا يحلفون بالله كل يوم لا يزول ملك فارس ما عشنا . فبادر المقرط الناس حين انتهى إليهم سعد ، فنزل إليه هاشم فقتله ، فقبَّل سعد رأس هاشم ».

ص: 274

«وقيل نظر هاشم إلى الناس قد أحجموا ووقفوا فقال: ما لهم؟ فقيل له: أسد قد منعهم ، ففرج هاشم الناس وقصد له فثاوره الأسد وضربه هاشم فقطع وصليه كأنما احتدم غضباً ، ووقعت الضربة في خاصرته». (الروض المعطار/297).

أقول: الذي فلَّ كتيبة كسرى أو كتيبة بوران بقتل قائدها هو هاشم رضي الله عنه ، وليس زهرة بن حوية ، كما نصت الروايات .

15. وقاد هاشم المرقال جيش المسلمين في معركة جلولاء الكبرى ، وبعدها ، في تاريخ الطبري:3/134، عن محفَّز قال: «إني لفي أوائل الجمهور مدخلهم ساباط ومظلمها ، وإني لفي أوائل الجمهور حين عبروا دجلة ودخلوا المدائن، ولقد أصبت بها تمثالاً لو قسم في بكر بن وائل لسد منهم مسداً ، عليه جوهر فأديته ، فما لبثنا بالمدائن إلا قليلاً حتى بلغنا أن الأعاجم قد جمعت لنا بجلولاء جمعاً عظيماً ، وقدموا عيالاتهم إلى الجبال ، وحبسوا الأموال ».

أقول: تقع جلولاء في شمال شرق بغداد قرب الحدود العراقية الإيرانية ، وتبعد عن بغداد 180كيلو متراً ، وقد اتخذها الفرس مركزاً لتجميع القوات الآتية من أنحاء إيران لنجدة يزدجرد في المدائن . وعندما انهزم يزدجرد في المدائن هرب الى خانقين مع من بقي من جيشه ، ثم هرب في مجموعة قليلة الى حلوان ، ثم الى أصفهان .

وتجمَّع في جلولاء جيش الفرس في مئة ألف كما روي ، وجاءهم جيش المسلمين وكان اثني عشر ألفاً بقيادة هاشم المرقال ، وروي أربع وعشرون ألفاً.

وفي الطبري:3/134:«ففَصَل هاشم بن عتبة بالناس من المدائن في صفر سنة ست عشرة في اثني عشر ألفاً ، منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ، ممن

ص: 275

ارتد وممن لم يرتد ، فسار من المدائن إلى جلولاء أربعاً ، حتى قدم عليهم وأحاط بهم ، فحاصرهم وطاولهم أهل فارس، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلا إذا أرادوا وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفاً ، كل ذلك يعطى الله المسلمين عليهم الظفر ، وغلبوا المشركين على حسك الخشب ، فاتخذوا حسك الحديد ».

والحسك ، قطع مسننة من حديد أو خشب ترمى على الأرض لتدوسها الخيل فتعقر أقدامها أو تصاب .

16. وانشغل سعد بخزائن كسرى في المدائن ، وكتب له هاشم والمسلمون يطلبون حضوره اليهم فحضر على مضض، ورجع ولم يذهب معهم الى حلوان! قال ابن الأعثم في الفتوح(1/216): «ورحل المسلمون من جلولاء إلى خانقين فنزلوها يومهم ذلك ، ثم رحلوا منها إلى قصر شيرين فنزلوها ، وكتبوا إلى سعد بن أبي وقاص يستأذنونه في التقدم إلى حلوان ، ويحثونه على المصير إليهم ليكون لهم ملجأ وسنداً يلجؤون إليه ويشاورونه في أمورهم ، وقد كان سعد عليلاً فتباطأ عنهم ولم يصر إليهم، وكتب إليهم يأمرهم بالتقدم إلى حلوان !

قال: فغضب المسلمون لقعود سعد عنهم وإبطائه عن نصرتهم ، ثم أنشأ إبراهيم بن حارثة الشيباني يقول في ذلك:

أما بال سعد خامَ عن نصر جيشه *** لقد جئت يا سعد ابن زهرة منكرا

وأقسم بالله العلي مكانه *** لو ان المثنى كان حياً لأصحرا

وقاتل فيها جاهداً غير عاجز *** وطاعن حتى يحسب الجون أحمرا

كشداته يوم البجيلة معلماً *** يريد بما يبلي الثواب الموفرا

وضارب بالسيف الحسام مقدماً *** جموع الأعادي خشية أن يعيرا

ص: 276

ولكن سعداً لم يرد أجر يومه *** ولم يأتنا في يوم بأس فيعذرا

قال: فبلغت سعداً هذه الأبيات فكأنه تحرك للمسير على علته ، ثم دعا سلمان الفارسي فاستخلفه على المدائن ، وأوصاه بحفظ الغنائم ، وصار فيمن معه من أصحابه حتى لحق بالمسلمين ، وهم يومئذ نزول بقصر شيرين فنزل معهم يومهم ذلك . فلما كان من غد نادى في الناس بالرحيل إلى حلوان ، فرحل ورحل الناس معه ، وبلغ ذلك منوشهر بن هرمزدان المقيم بحلوان ، فخرج عن حلوان هارباً حتى لحق بيزدجرد وهو في جمع أصحابه .

وأقبل سعد بن أبي وقاص وعلى مقدمته جرير بن عبد الله البجلي ، حتى دخل حلوان ، فأنشأ عبد الله بن قيس الأزدي يقول:

فأبلغ أبا حفص بأن خيولنا *** بحلوانَ أضحت بالكماة تُجمجمُ

ونحن دهمناها صباحاً بفيلقٍ *** جريرٍ علينا في الكتيبة معلمُ

ونحن أبدنا الفرس في كل موطن *** بجمع كمثل الليل والليل مظلمُ

نقاتل حتى أنزل الله نصره *** وسعدٌ بباب القادسية مُعْصِمُ

فأُبنا وقد أيْمَتْ نساءٌ كثيرةٌ *** ونسوة سعد ليس فيهن أيِّمُ

أولئك قومي إن سمعت بمعشري *** وموضع أيسارى إذا نيل مغنمُ».

أقول: لاحظ أن ابراهيم بن المثنى رضي الله عنهما كان في جلولاء ، وأنه كان ممن هجا سعداً لعدم مشاركته المسلمين في الحرب ، وعيَّره بأبيه المثنى ، فتحرك سعد !

وقال البلاذري:2/324: « فلقوهم وحجر بن عدي الكندي على الميمنة ، وعمرو بن معدى كرب على الخيل ، وطليحة بن خويلد على الرجال ، وعلى الأعاجم يومئذ خرزاد أخو رستم . فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله ، رمياً بالنبل وطعناً بالرماح حتى تقصفت ، وتجالدوا بالسيوف حتى انثنت .

ص: 277

ثم إن المسلمين حملوا حملة واحدة قلعوا بها الأعاجم عن موقفهم وهزموهم ، فولوا هاربين ، وركب المسلمون أكتافهم يقتلونهم قتلاً ذريعاً حتى حال الظلام بينهم ، ثم انصرفوا إلى معسكرهم .

وجعل هاشم بن عتبة جرير بن عبد الله بجلولاء في خيل كثيفة ليكون بين المسلمين وبين عدوهم . فارتحل يزدجرد من حلوان ، وأقبل المسلمون يغيرون في نواحي السواد ، من جانب دجلة الشرقي ، فأتوا مهروذ ، فصالح دهقانها هاشماً على جريب من دراهم ».

17. بقي هاشم المرقال القائد العام لجيش المسلمين من القادسية الى نهاوند ، فقد جعله عمه سعد خليفته والقائد العام لجيش الفتح ، بدل خالد بن عرفطة ، قال الطبري:3/113: «ثم إن سعداً ارتحل بعد الفراغ من أمر القادسية كله وبعد تقدم زهرة بن الحوية في المقدمات إلى اللسان ، ثم أتبعه عبد الله بن المعتم ، ثم أتبع عبد الله شرحبيل بن السمط ، ثم أتبعهم هاشم بن عتبة ، وقد ولاه خلافته عمل خالد بن عرفطة ، وجعل خالداً على الساقة ، ثم أتبعهم ».

فقد كان سعد والي العراق ، لكنه لايباشر الحرب بنفسه ، بل اعتمد على خالد بن عرفطة العذري وهو كالمراسل عنده فجعله خليفته في معركة القادسية. ولما جاء ابن أخيه هاشم من اليرموك جعله خليفته بدل ابن عرفطة .

ثم ذهب سعد الى المدائن ، لكن بعد فتحها أو بعد أن حاصرها المسلمون شهوراً ، وظهرت علائم فتحها .

ص: 278

ثم أرسل سعد هاشم الجيش بقيادة المرقال الى جلولاء ، فكانت معركة شديدة انتصر فيها المسلمون ، وألحوا على سعد بالحضور فحضر . ثم أرسل الجيش الى حلوان ، ورجع هو الى المدائن ، وقسم الغنائم ورجع الى الكوفة .

وكان هاشم يباشر المعاركة بنفسه ويديرها ، واستمر في منصبه القيادي حتى بعد أن عزل عمر سعداً عن ولاية الكوفة ، وولى عمار بن ياسر ، فقد اعتمد عمار على هاشم أيضاً في الإعداد لمعركة نهاوند .

18. كان الإعداد لمعركة نهاوند على عاتق عمار وهاشم ، ثم النعمان وحذيفة ، فقد كان فتح المدائن ضربة موجعة للفرس هرب بسببها ملكهم يزدجرد ، واستطاع المسلمون أن يحتلوا بقية العراق ، وينتصروا على بقية جيشه في جلولاء وخانقين وحلوان . هذا من جهة بغداد والكوفة ، أما من جهة البصرة فقد فتحوا أكثر الأهواز ، فاتصلت فتوحاتهم من الجانبين .

لكن الفرس رغم ذلك استعادوا المبادرة ، وجمعوا قوات كبيرة في نهاوند بلغت مئة وخمسين ألفاً، واستعادوا كثيراً من المناطق التي فتحها المسلمون داخل إيران وكتب عمار بن ياسر والي الكوفة الى عمر بن الخطاب ، كما في فتوح ابن الأعثم: 2/291: «قد اجتمعوا بأرض نهاوند في خمسين ومائة ألف ، من فارس وراجل من الكفار ، وقد كانوا أمروا عليهم أربعة من ملوك الأعاجم ، منهم ذو الحاجب خرزاد بن هرمز ، وسنفاد بن حشروا ، وخهانيل بن فيروز، وشروميان بن إسفنديار، وإنهم قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا وتكاتبوا وتواصوا وتواثقوا على أنهم يخرجوننا من أرضنا ويأتونكم من بعدنا . وهم جمع عتيد وبأس شديد ودواب فره وسلاح شاك ، ويد الله فوق أيديهم . فإني أخبرك يا أمير المؤمنين

ص: 279

أنهم قد قتلوا كل من كان منا في مدنهم ، وقد تقاربوا مما كنا فتحناه من أرضهم ، وقد عزموا أن يقصدوا المدائن ويصيروا منها إلى الكوفة ، وقد والله هالنا ذلك وما أتانا من أمرهم وخبرهم ».

وفي الأخبار الطوال/133: «ثم كانت وقعة نهاوند سنة إحدى وعشرين ، وذلك أن العجم لما قُتلوا بجلولاء ، وهرب يزدجرد فصار بقم، ووجه رسله في البلدان يستجيش ، فغضب له أهل مملكته ، فتحلبت إليه الأعاجم من أقطار البلاد ، فأتاه أهل قومس وطبرستان وجرجان ودنباوند والري وأصبهان وهمذان والماهين ، واجتمعت عنده جموع عظيمة ، فولى أمرهم مردان شاه بن هرمز ، ووجههم إلى نهاوند . وكتب عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فخرج عمر بن الخطاب ، وبيده الكتاب حتى صعد المنبر..».

وقد ذكرنا جانباً من أدوار هؤلاء الشيعة الأربعة في معركة نهاوند رضوان الله عليهم.

19. وذكر الواقدي أن هاشم المرقال شارك بعد القادسية في فتوح الشام ومصر قال الواقدي في فتوح الشام:1/147: «وقسم الأمير أبو عبيدة عسكر المسلمين أربع فرق ، فبعث فرقة مع المسيب بن نجبة الفزاري ، فنزل بهم على باب الجبل مما يلي باب الصغير ، وبعث فرقة أخرى مع المرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فنزل بهم على باب الرستق ، وبعث فرقة أخرى مع يزيد بن أبي سفيان ، فنزل على باب الشام . ونزل الأمير أبو عبيدة وخالد بن الوليد على باب الصغير . وزحف المسلمون إليهم من كل مكان وقاتلوهم بقية يومهم هذا ، وسهام الروم

ص: 280

تصل إليهم فيتلقونها بالحجف ، ونبال العرب تصل إليهم والى من بأعلى السور فأثرت لأجل ذلك ..» .

وفي فتوح الشام:1/151: «قال الواقدي: عن ثابت بن قيس بن علقمة قال: كنت ممن حضر عند أبي عبيدة ، فعند ذلك دعا أهل الرأي والمشورة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال لهم: إن هذا حصن شديد منيع ليس لنا إلى فتحه سبيل إلا بالحيلة والخديعة ، وأريد أن أجعل منكم عشرين رجلاً في عشرين صندوقاً ، وتكون الأقفال عندهم من باطنها ، فإذا صاروا في المدينة فثوروا على اسم الله تعالى ، فإنكم تنصرون على من فيها من المشركين . فقال خالد بن الوليد فإذا عزمت على ذلك فلتكن الاقفال ظاهرة ويكون أسفل الصناديق أنثى في ذكر من غير شئ يمسكها ، فإذا حل أصحابنا في حصن من هؤلاء القوم يخرجون جملة واحدة ويكبرون فإن النصر مقرون بالتكبير ، فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك ، وأخذ صناديق الطعام المنتخبة عند الروم ، ففض أسافلها وجعلها ذكراً في أنثى فأول من دخل في الصناديق ضرار بن الأزور ، والمسيب أبن نجبة ، وذو الكلاع الحميري ، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي ، والمرقال هاشم بن عتبة ، وقيس بن هبيرة ، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، ومالك بن الأشتر ، وعوف بن سالم وصابر بن كلكل ، ومازن بن عامر ، والأصيد بن سلمة ، وربيعة بن عامر وعكرمة بن أبي جهل ، وعتبة بن العاص ، ودارم بن فياض العبسي ، وسلمة بن حبيب ، والفازع بن حرملة ، ونوفل بن جرعل ، وجندب بن سيف ، وعبد الله بن جعفر الطيار ، وجعله أميراً عليهم، وسلموا الصناديق إلى الروم . فلما حطت الصناديق في الرستن ألقاها نقيطاس في قصر إمارته ، وارتحل الأمير أبو

ص: 281

عبيدة ، وسار حتى نزل في قرية يقال لها السودية ، فلما أظلم الليل بعث خالد بن الوليد بجيش الزحف إلى الرستن ينظر ما يكون من أصحابه ، وما فعلت الصحابة ، فسار خالد بن الوليد برجاله حتى وصل القنطرة وإذا بالصياح قد علا والتهليل والتكبير من داخل مدينة الرستن .

قال الواقدي: كان من أمر الصحابة أنه لما ركهم نقيطاس في دار إمارته ركب إلى البيعة مع بطارقته وأهل مدينته ليصلوا صلاة الشكر ، لأجل رحيل المسلمين عنهم ، وارتفعت أصواتهم بقراءة الإنجيل وسمع أصواتهم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فخرجوا من الصناديق وشدوا على أنفسهم وشهروا سلاحهم ، وقبضوا على امرأة نقيطاس وحريمه ، وقالوا نريد مفاتيح الأبواب فسلمتها إليهم ، فلما حصلت المفاتيح في أيديهم رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير ، وكبس القوم على أبواب مدينتهم فلم يجسروا عليهم لأنهم بدون عدة وسلاح ، وبعث عبد الله بن جعفر الطيار ربيعة بن عامر والأصيد بن سلمة وعكرمة بن أبي جهل وعتبة بن العاص والفارع بن حرملة ، وسلم إليهم المفاتيح وقال:إفتحوا الأبواب وارفعوا أصواتكم بالتهليل وإخوانكم المسلمين من حول المدينة كاملون ، فتبادر الخمسة إلى الباب القبلي ، وهو باب حمص وفتحوه ، ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير ودخلوا المدينة ، وإذا هم بعسكر الزحف وعلى المقدمة خالد بن الوليد ، فأجابوهم بالتهليل والتكبير ودخلوا المدينة ، وسمع أهل الرستن أصوات أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) فعلموا أنهم في قبضتهم ، وأن مدينتهم قد أخذت من أيديهم فاستسلموا جميعاً..».

ص: 282

وقال الواقدي:1/230: «ثم دعا بالمرقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وضم اليه خمسة آلاف فارس مع جمع من المسلمين ، وسرحه على أثر شرحبيل بن حسنة ، وقال له: إنزل على حصنها(بيت المقدس)وأنت منعزل عن أصحابك ».

وقال الواقدي:2/222: «وكانت الصحابة لما فتحت مصر والوجه البحري قد تفرقوا ، فمنهم في الإسكندرية وأمسوس ودمياط ورشيد وبلبيس، وكان أكثرهم بوسط البحيرة في المكان المعروف بالمنزلة ، مثل القعقاع بن عمرو التميمي، وهاشم بن المرقال، وميسرة بن مسروق العبسي، والمسيب بن نجبة».

أقول: الرستن هو نهر العاصي ، وهذه المدينة التي قال الواقدي إنهم فتحوها بهذه الحيلة ، هي مدينة العاصي قرب حمص ، ولا نعرف وجود مدينة بهذا الإسم هناك ، وأكبر ظني أن القصة من الموضوعات !

وينبغي التنبيه الى أمثال هذه القصة في فتوح العراق والشام ومصر، والمرجح أنها موضوعة لإثبات بطولة المسلمين وذكر المعجزات التي رافقت الفتوحات ، أو البطولات الخارقة لبعض القادة والفرسان ، وقد يكون الواحد منهم ميتاً قبل تلك القصة المدعاة بسنين كضرار بن الأزور ! وقد تتضمن القصة أو الأسطورة خللاً تاريخياً أو جغرافياً واضحاً فاضحاً !

لذلك لايمكننا قبول معركة الرستن ولا معركة فتح دمشق والقدس، لأن كل هذه المدن سقطت بهزيمة الروم في اليرموك ، وتوديع هرقل لسوريا ، وانسحابه منها الى القسطنطينية . وكذلك انسحب الروم من مصر فكان فتحها صلحاً بدون قتال . أما معركة ذات الصواري فكانت بعد فتح مصر ببضع عشرة سنة ، وقد وقعت مع الروم وليس مع الأقباط .

ص: 283

والقاعدة العامة لفهم واقع الفتوحات:أن ننطلق من الأحداث والمعارك القطعية وهي في العراق غارات المثنى على الحاميات الفارسية والمحلية ، ومعركة بابل والجسر والبويب والقادسية وجلولاء ونهاوند .

وفي فلسطين: معركة أجنادين ومرج الصفر وفحل واليرموك .

20.كان لهاشم المرقال إخوة قادة ، وكان أبناؤه أكثر شبهاً به وكانوا شيعة مثله ومن إخوته حمزة بن عتبة ، وكان مع علي (علیه السلام) في صفين واستشهد فيها. كما في وقعة صفين/278، وذكر الحاكم نافع بن عتبة:3 /430، وذكره ابن حبان في ثقاته:3/412، وذكر أن له صحبة ورواية ، وأنه هو الذي استشهد في صفين .

وذكر البخاري في تاريخه الصغير:2/72، ابنه هاشم بن هاشم ، وذكره ابن حبان في ثقاته:2/342، والذهبي في سيره:6/206. وذكر خليفة/185، ابنه إسحاق بن هاشم . وذكر ابن حجر في الإصابة:3/201، ابنه سليمان ، وفي تقريب التهذيب:1/229، ابنه حفصاً .

كما ذكروا له ابنين استشهدا معه في صفين ، وأنهما المقصودان بقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في رثائه: وابنا هاشم ذي المكارمِ . لكن في رواية شرح النهج:8/34: وابنا معبد ذي المكارم .

وذكر له في تاريخ دمشق:33/347 ، ثلاثة أولاد ، قال: (عبد الرحمن وعبد الله وعبد الملك، وأمهم أمية بنت عوف..من الأزد).وذكر الإصابة:4/601،ابنته درة .

لكن أشهر أبنائه عبد الله ، الذي نص ابن مزاحم وغيره من المؤرخين على أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أعطاه الراية في صفين بعد شهادة أبيه فخطب خطبة بليغة سجلها الرواة . واشتهر في أجوبته المفحمة لمعاوية وعمرو بن العاص ، لما قبض عليه بعد صفين . وكان وجيه الشيعة في البصرة .

ص: 284

ففي شرح النهج:8/32، ومروج الذهب:3/8 ، عن أبي عبيد الله المرزباني قال: «إن معاوية لما تم له الأمر بعد وفاة علي (علیه السلام) بعث زياداً على البصرة ونادى منادى معاوية: أمن الأسود والأحمر بأمان الله ، إلا عبد الله بن هاشم بن عتبة !

فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب ولا يعرف له خبراً ، حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة فقال له: أنا أدلك على عبد الله بن هاشم بن عتبة ، أكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية ! فدعا كاتبه فكتب: من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان ، أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعمد إلى حي بنى مخزوم ففتشه داراً داراً حتى تأتى إلى دار فلانة المخزومية ، فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق رأسه وألبسه جبة شعر وقيده وغل يده إلى عنقه واحمله على قتب بعير بغير وطاء ولا غطاء ، وانفذ به إليَّ... فاقتحم الدار واستخرج عبد الله منها ، فأنفذه إلى معاوية ، فوصل إليه يوم الجمعة وقد لاقى نصباً كثيراً ، ومن الهجير ما غير جسمه ، وكان معاوية يأمر بطعام ، فيتخذ في كل جمعة لأشراف قريش ولأشراف الشام ووفود العراق .

فلم يشعر معاوية إلا وعبد الله بين يديه وقد ذبل وسَهِمَ وجهه فعرفه ولم يعرفه عمرو بن العاص ، فقال معاوية: يا أبا عبد الله ، أتعرف هذا الفتى؟ قال لا ، قال: هذا ابن الذي كان يقول في صفين:

إني شَرَيْتُ النفس لما اعتلَّا *** وأكْثَرَ اللوم وما أقلَّا

أعور يبغي أهله محلَّا *** قد عالج الحياة حتى ملَّا

لا بد أن يفُلَّ أو يُفَلا *** أشلُّهم بذي الكعوب شلا

لا خير عندي في كريمٍ ولَّى

ص: 285

فقال عمرو متمثلَا:

وقد ينبتُ المرعى على دمن الثرى *** وتبقى حَزازاتُ النفوس كما هيا

دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب ، فاشخب أوداجه على أسباجه ، ولا تردَّه الى أهل العراق ، فانه لا يصبر على النفاق ، وهم أهل غدر وشقاق ، وحزب إبليس ليوم هيجاء ، وأن له هوى سيرديه ، ورأياً سيطغيه ، وبطانة ستقويه ، وجزاء سيئة سيئة مثلها .

فقال عبد الله: ياعمرو إن أُقتَل فرجلٌ أسلَمه قومه وأدركه يومه ، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال ، ونحن ندعوك الى النزال ، وأنت تلوذ بسمال النطاف ، وعقائق الرصاف ، كالأمة السوداء ، والنعجة القوداء ، لا تدفع يد لامس !

فقال عمرو: أما والله لقد وقعت في لهاذم شَذقم للأقران ذي لبد ، ولا أحسبك منفلتاً من مخاليب أمير المؤمنين.

فقال عبد الله: أما والله يا ابن العاص إنك لبطر في الرخاء ، جبان عند اللقاء ، غشوم إذا وليت ، هيابة إذا لقيت ، تهدر كما يهدر العَوْد المنكوس المقيد ، بين مجرى الشول لا يستعجل في المدة ، ولا يرتجى في الشدة ، أفلا كان هذا منك إذا غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً ، ولم يمزقوا كباراً ، لهم أيدٍ شداد ، وألسنة حداد ، يدعمون العوج ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل!

فقال عمرو: أما والله لقد رأيت أباك يومئذ تخفق أحشاؤه ، وتبق أمعاؤه ، وتضطرب أطلاؤه ، كأنما انطبق عليه صمد .

فقال عبد الله: يا عمرو ، إنا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوباً غادراً ، خلوت بأقوام لا يعرفونك ، وجند لا يسامونك ، ولو رمت المنطق في غير أهل

ص: 286

الشام لجحظ إليك عقلك ، ولتلجلج لسانك ، ولاضطرب فخذاك اضطراب القَعود الذي أثقله حمله . فقال معاوية: إيهاً عنكما ، وأمر باطلاق عبد الله ، فقال عمرو لمعاوية: أمرتُك أمراً حازماً فعصيتني ، وكان من التوفيق قتل ابن هاشم أليس أبوه يا معاوية الذي أعان علياً يوم حزِّ الغَلاصم فلم ينثني حتى جرت من دمائنا بصفين أمثال البحور الخضارم ، وهذا ابنه والمرء يُشبه شيخه ويوشك أن تقرع به سن نادم ! فقال عبد الله يجيبه:

معاويَ إن المرء عمراً أبَتْ له *** ضغينةُ صدرٍ غشُّها غير نائم

يرى لك قتلي يا ابن هند وإنما *** يرى ما يرى عمرٌو ملوك الأعاجم

على أنهم لا يقتلون أسيرهم *** إذا منعت عنه عهودُ المسالم

وقد كان منا يوم صِفّين نفرةٌ *** عليك جناها هاشم وابن هاشم

قضى ما انقضى منها وليس الذي مضى *** ولا ما جرى إلا كأضغاث حالم

فإن تعْفُ عني تعفُ عن ذي قرابةٍ *** وإن تَرَ قتلي تستحل محارمي

فقال معاوية:

أرى العفو عن عُليا قريش وسيلة *** إلى الله في يوم العصيب القماطر

ولست أرى قتلي الغداة ابن هاشم *** بإدراك ثأري في لؤي وعامر

بل العفو عنه بعدما بان جُرمُه *** وزلت به إحدى الحدود العوائر

فكان أبوه يوم صفين جمرةً *** علينا فأردته رماحٌ نهابِر ».

أقول: كان معاوية يتحالم ، لأنه لايريد أن يفتح معركة مع بني زهرة ، فيكون لهم ثأر عنده بقتل ابن المرقال . أما عمرو العاص فلا يعرف الحلم ولا التحالم.

ص: 287

سلمان الفارسي المحمدي رضي الله عنه

1. نشأ سلمان في أصفهان على المجوسية ، ثم أعجبته المسيحية فهاجر إلى الشام، وعاش مع كبير علماء النصارى ، ثم ذهب إلى العراق ، ثم الى تركيا ، حيث كان كبير علمائهم ، فأخبره بأنه سيظهر نبي في بلاد العرب ، فجاء سلمان إلى أرض العرب ينتظر ظهوره ، فوجد جماعة من اليهود ينتظرونه أيضاً.

ففي كمال الدين/161، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «كان بين عيسى وبين محمد (صلی الله علیه و آله) خمس مائة عام ، منها مائتان وخمسون عاماً ليس فيها نبي ولاعالم ظاهر . قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى (علیه السلام) . قلت: فما كانوا ؟ قال: كانوا مؤمنين . ثم قال: ولا تكون الأرض إلا وفيها عالم. وكان ممن ضرب في الأرض لطلب الحجة سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فلم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه ، ويبحث عن الأسرار ويستدل بالأخبار ، منتظراً لقيام القائم سيد الأولين والآخرين محمد (صلی الله علیه و آله) أربع مائة سنة، حتى بشر بولادته فلما أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي » . أي أخذ على أنه عبد وباعوه .

ووجد سلمان في المدينة امرأة فارسية جاءت قبله تنتظر النبي الموعود (صلی الله علیه و آله) ! «قال سلمان: لما قدمت المدينة رأيت امرأة إصبهانية كانت قد أسلمت قبلي ، فسألتها عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فهي التي دلتني على رسول الله».( طبقات المحدثين بأصبهان لابن حبان: 1/123 ، والإصابة لابن حجر: 8/29 ، وأخبار إصبهان: 1/44 ).

وفي إعلام الورى:1/60: «وكان آخر من أتى آبي ، فمكث عنده ما شاء الله ، فلما

ص: 288

ظهر النبي (صلی الله علیه و آله) قال آبي: يا سلمان إن صاحبك الذي تطلبه بمكة قد ظهر ، فتوجه إليه سلمان ». أي آخر عالم نصراني عاش معه سلمان إسمه آبي .

وقال له الراهب: «أي بني والله ما أعلمه بقيَ أحد على مثل ما كنا عليه . ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم ، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل . وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة ، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة . فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل ، فإنه قد أظلك زمانه . فلما واريناه أقمت على خير حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب ، فقلت لهم: تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب وأعطيكم غنمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم ، فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبداً من رجل من يهود بوادي القرى ».

ثم باعه مالكه إلى بني قريظة في المدينة ، وبقي نحو سنتين حتى هاجر النبي (صلی الله علیه و آله) : «فوالله إني لفي رأس عذق إذ جاء ابن عم له فقال: قاتل الله بني قَيْلَة، والله إنهم الآن لفي قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي! فوالله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء يقول الرعدة حتى ظننت لأسقطن على صاحبي ، ونزلت أقول: ما هذا الخبر وما هو؟فرفع مولاي فلكمني لكمة شديدة وقال: ما لك ولهذا، أقبل قبل عملك! فقلت:لاشئ، إنما سمعت خبراً وأحببت أعلمه فلما أمسيت وكان عندي شئ من طعام فحملته وذهبت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بقبا فقلت: إنه بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحاباً لك غرباء ، وقد كان عندي شئ للصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد به فها هو هذا فكل منه، فأمسك رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده وقال لأصحابه:كلوا ولم يأكل ، فقلت في نفسي: هذه

ص: 289

خلة مما وصف لي صاحبي.. فاستدرت لأنظر إلى الخاتم في ظهره فلما رآني رسول الله (صلی الله علیه و آله) استدير عرف أني أستثبت من شئ قد وصف لي ، فوضع رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي ! فقال: تحول يا سلمان هاكني، فتحولت فجلست بين يديه، وأحب أن يسمع أصحابه حديثي فحدثته».(سيرة ابن إسحاق:2/68وأحمد: 5/443) .

وقال سلمان: « فكنت أسقي كما يسقي البعير ، حتى دَبَر ظهري وصدري (جُرح) من ذلك ، ولا أجد أحداً يفقه كلامي ، حتى جاءت عجوز فارسية تستقي فكلمتها ففهمت كلامي ، فقلت لها: أين هذا الرجل الذي خرج دليني عليه؟ قالت: سيمر بك بكرةً إذا صلى الصبح ». ( أخبار أصبهان:1/76 ) .

2. كان سلمان رضي الله عنه في أعلى درجات الإيمان ، بعد المعصومين (علیهم السلام) ، ففي الخصال /447، عن عبد العزيز القراطيسي قال: « قال لي أبو عبد الله (علیه السلام) : يا عبد العزيز، إن الإيمان عشر درجات ، بمنزلة السلم ، يُصعد منه مِرْقاةٌ بعد مرقاة ، فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الاثنتين لست على شئ . حتى تنتهي إلى العاشرة . ولا تسقط من هو دونك فيسقطك الذي هو فوقك. وإذا رأيت من هو أسفل منك فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره ، فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره . وكان المقداد في الثامنة ، وأبو ذر في التاسعة ، وسلمان في العاشرة » .

وقال الإمام الصادق (علیه السلام) : «أدرك سلمان العلم الأول والعلم الآخر، وهو بحرٌ لا يُنزح، وهو منا أهل البيت..وكان عنده الإسم الأعظم» .(الكشي:1/52و56).

ص: 290

وقال الإمام الصادق (علیه السلام) :«كان سلمان مُحَدَّثاً. قال قلت: فما آية المحدث؟قال:يأتيه مَلَكٌ فينكت في قلبه كيت وكيت ». ( بصائر الدرجات/342 ).

3. لم يرو المسلمون لأحد بعد النبي (صلی الله علیه و آله) من المعجزات والكرامات ، كما رووا لأهل البيت المعصومين (علیهم السلام) . ولم يرووا لأحد من الصحابة معجزات وكرامات كما رووا لسلمان الفارسي رضوان الله عليه . فشخصيته شبيهةٌ بشخصيات الأنبياء (علیهم السلام) في علمه ، ومنطقه ، وسيرته ، وبقية ملامح شخصيته .

فقد أعده الله تعالى من شبابه ونشأته ليكون من آيات رسوله (صلی الله علیه و آله) ، وعاش عمراً طويلاً ، ليكون شاهداً على وراثة النبي (صلی الله علیه و آله) لعيسى المسيح (علیه السلام) ورسالته .

وأعطاه من العلم والأسرار ما يعجز عن حمله أكثر الناس . ومن العقلانية والحكمة والصبر ما جعل النبي (صلی الله علیه و آله) يشترط على أبي ذر عندما آخى بينهما ، أن يطيعه ولا يعصيه ، وكان حذيفة وأمثاله تلاميذ بين يديه !

وأعطاه من قوة الإرادة والأعصاب أنه كان يحمل الإسم الأعظم ، فلا تردُّ له دعوة ، لكنه لايدعو لأغراضه الشخصية ، بل لتبليغ الدين وهداية الناس !

وجعل معه ملكاً يحدثه ويوجهه كيف يتصرف ، فيقول له: إعمل كذا ، ولا تعمل كذا ، وقل كذا ، أو لا تقل ! وجعل الملائكة يسمعون كلامه ويطيعونه !

ففي أمالي الطوسي/128: «مرض رجل من أصحاب سلمان فافتقده فقال: أين صاحبكم؟ فقالوا: مريض. قال: إمشوا بنا نعوده فقاموا معه ، فلما دخلوا على الرجل إذا هو يجود بنفسه ، فقال سلمان: يا ملك الموت إرفق بولي الله . قال ملك

ص: 291

الموت بكلام يسمعه من حضر: يا أبا عبد الله ، إني أرفق بالمؤمنين ، ولو ظهرت لأحد لظهرت لك » !

وقد تبلغ كرامات سلمان ومعجزاته رضي الله عنه مئة معجزة ، من إخباره بغيب ، الى رده السهام بقراءة آية عندما كان يفاوض الرماة من أبراج قصر كسرى ، الى تكليمه الظباء ومجيئها اليه طائعة ، الى تسخيره الكلاب لحراسة المدائن ودفع السراق ..الخ.

4. كان سلمان أبيض اللون ، بهيَّ الطلعة والشيبة ، قويَّ البنية ، عاش طويلاً ، وروي أنه عاش نحو500 سنة ، وأدرك حواريي المسيح (علیه السلام) ، وقيل360 سنة ، وأقل قول في عمره250 سنة . وروي أنه إسمه روز به (الواقدي:2/204) أي النهار الحسن ، وفي ذكر أخبار إصبهان:1/48 ، إسمه ماهويه بن بدخشان بن آذرجشنس، من ولد منوشهر الملك . وقد آمن بالنبي (صلی الله علیه و آله) عند هجرته، واشتراه النبي (صلی الله علیه و آله) من مالكه وأعتقه ، فهو مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ففي مسند أحمد:5/354: (وكان لليهود فاشتراه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بكذا وكذا درهماً ، على أن يغرس نخلاً فيعمل سلمان فيها حتى تطعم . قال: فغرس رسول الله (صلی الله علیه و آله) النخل إلا نخلة واحدة غرسها عمر ، فحملت النخل من عامها ولم تحمل النخلة ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) :ما شأن هذه؟ قال عمر: أنا غرستها يا رسول الله . قال فنزعها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم غرسها فحملت من عامها » .

واكتمل تحرير سلمان رضي الله عنه بعد حرب أحُد ، فشهد حروب النبي (صلی الله علیه و آله) بعدها ، وكان من خواص أصحابه وحوارييه .

ص: 292

5. كان سلمان يعمل في حفر الخندق بقدر عشرة رجال فأصابوه بالعين فعالجه النبي (صلی الله علیه و آله) ! ففي الإمتاع (1/226) وسبل الهدى (4/365): «وجعل لسلمان خمس أذرع طولاً وخمساً في الأرض ففرَّغها وحده ، وهو يقول: اللهم لاعيش إلا عيش الآخرة..وكان سلمان يعمل عمل عشرة رجال حتى عانه قيس بن أبي صعصعة ، فلُبِطَ به (أصابه بالعين فصرع) فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : مروه فليتوضأ له وليغتسل به سلمان ، وليكفئ الإناء خلفه ، ففعل فكأنما حُلَّ من عقال».

ولُبِطَ به الأرض: «صرع من عين أو حمى أو أمر يغشاه شبه مفاجأة ». (العين:7/431).

ومروه فليتوضأ له: أي يغسل الذي أصابه بالعين يديه في طشت أو إناء ، فيصبه سلمان على بدنه ، ويلقي ما بقي منه خلفه . ففعلوا ذلك فصح سلمان ونهض .

وروى البيهقي بمعناه (9/351 ) أن عامر بن ربيعة مرَّ على سهل بن حنيف وهو يغتسل فقال: لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة (أي لا تصل الى جماله الجارية المخدرة)!

فما لبث أن لُبِط به، فأتى النبي (صلی الله علیه و آله) فقيل له: أدرك سهلاً صريعاً، فقال: من تتهمون به؟ قالوا عامر بن ربيعة، فقال على مَ يقتل أحدكم أخاه ! إذا رأى ما يعجبه فَلْيَدْعُ بالبركة . وأمره أن يتوضأ ويغسل وجهه ويديه إلى مرفقيه وركبتيه وداخلة إزاره ، ويصب الماء عليه . قال معمر قال الزهري: ويكفئ الإناء من خلفه).

وفي المناقب:1/75: «وكان الناس يحفرون الخندق وينشدون ، سوى سلمان، فقال النبي (صلی الله علیه و آله) :اللهم أطلق لسان سلمان ولو على بيتين من الشعر، فأنشأ سلمان:

مالي لسانٌ فأقول شعرا *** أسأل ربي قوةً ونصرا

على عدوي وعدو الطهرا *** محمد المختار حاز الفخرا

ص: 293

حتى أنال في الجنان قصرا *** مع كل حوراء تحاكي البدرا

فضج المسلمون وجعلت كل قبيلة تقول: سلمان منا،فقال النبي (صلی الله علیه و آله) :سلمان منا أهل البيت).

6. اشتهر تشيع سلمان رضي الله عنه بمواقفه واحتجاجه عند وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) ، وقد روىت عنه أحاديث كثيرة احتج بها على أهل السقيفة ، واستنكر إقصاءهم لعلي (علیه السلام) وبيعتهم لأبي بكر ، وقال: كرديد ونكرديد ، حق علي را برديد ! أي فعلتم وما فعلتم ، حق علي (علیه السلام) غصبتم !

وقال: « أما والله لقد فعلتم فعلةً أطمعتم فيها الطلقاء ولعناء رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! ولو بايعتم علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم .

قال ابن عمر: فلما سمعت سلمان يقول ذلك أبغضته وقلت: لم يقل هذا إلا بغضاً منه لأبي بكر . فأبقاني الله حتى رأيت مروان بن الحكم يخطب على منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقلت: رحم الله أبا عبد الله ، لقد قال ما قال بعلم كان عنده».

( أنساب الأشراف للبلاذري:1/591 ، والثاقب في المناقب/129، والإيضاح/457 ).

وفي الإحتجاج: 1/151، عن الإمام الصادق (علیه السلام) : «خطب سلمان الفارسي بعد أن دفن النبي (صلی الله علیه و آله) بثلاثة أيام فقال: ألا يا أيها الناس: إسمعوا عني حديثي ثم اعقلوه عني ، ألا وإني أوتيت علماً كثيراً ، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضايل أمير المؤمنين (علیه السلام) لقالت طائفة منكم هو مجنون ، وقالت طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان ! ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا ، ألا وإن عند علي (علیه السلام) علم المنايا والبلايا وميراث الوصايا ، وفصل الخطاب ، وأصل الأنساب ، على منهاج هارون بن عمران من موسى إذ يقول له رسول الله (صلی الله علیه و آله) : أنت وصيي في

ص: 294

أهل بيتي وخليفتي في أمتي ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى !

ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل، فأخطأتم الحق ، فأنتم تعلمون ولاتعلمون! أما والله لتركبن طبقاً عن طبق ، حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة !

أما والذي نفس سلمان بيده لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم ، ولو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء ، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولي الله ، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله .

ولكن أبيتم فوليتموها غيره ، فأبشروا بالبلايا ، واقنطوا من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء !

عليكم بآل محمد فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها يوم القيامة .

عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مراراً جمة مع نبينا ، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا ! فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه ، وقد حسد هابيل قابيل فقتله ! وكفاراً قد ارتدت أمة موسى بن عمران ، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل ، فأين يذهب بكم !

أيها الناس: ويحكم ما لنا وأبو فلان وفلان ؟! أجهلتم أم تجاهلتم؟ أم حسدتم أم تحاسدتم؟ والله لترتدن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة ، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة !

ألا وإني أظهرت أمري وسلمت لنبيي (صلی الله علیه و آله) ، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علياً أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، وإمام الصديقين ، والشهداء والصالحين ».

ص: 295

أقول: ركز سلمان في احتجاجه على أهل السقيفة على علم علي (علیه السلام) ، وأن الذين يريدون عزله ليس عندهم علم الكتاب ولا علوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) .

ثم ركز على الرخاء والرفاهية والنتائج المادية التي سيحققونها لو ولوا علياً (علیه السلام) .

7. شهد سلمان رضي الله عنه جميع حروب النبي (صلی الله علیه و آله) بعد أن تحرر من العبودية ثم شارك في فتوحات العراق وإيران والشام ومصر ، وكان في فتح العراق وإيران داعية المسلمين ورائدهم ، أي المفاوض عنهم ، وكان وجوده مؤثراً في إقناع بعض قادة الفرس بالتسليم وعدم الحرب ، وإقناع بعضهم بالإسلام .

قال الطبري في تاريخه:3/9: «بعث عمر الأطبة ، وجعل على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور ، وجعل إليه الأقباض وقسمة الفئ ، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي » .

وفي تاريخ الطبري:3/124: «عن عطية بن الحارث وعطاء بن السائب ، عن أبي البختري قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي ، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس . قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير. وأمروه يوم القصر الأبيض فدعاهم ثلاثاً . قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إياهم أن يقول: إني منكم في الأصل ، وأنا أرقُّ لكم ، ولكم في ثلاث أدعوكم إليها ، ما يصلحكم: أن تسلموا ، فإخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإلا فالجزية ، وإلا نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين . قال عطية: فلما كان اليوم الثالث في بهرسير أبوا أن يجيبوا إلى شئ ، فقاتلهم المسلمون حين أبوا . ولما كان

ص: 296

اليوم الثالث في المدائن ، قبل أهل القصر الأبيض وخرجوا ، ونزل سعد القصر الأبيض ، واتخذ الإيوان مصلى ، وإن فيه لتماثيل جص فما حركها ».

وفي سنن الترمذي:3/52 ، وذكر أخبار إصبهان:1/55: «عن أبي البختري: أن جيشاً من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي، فحاصروا قصراً من قصور فارس فقيل: يا أبا عبد الله ألا تنهد إليهم؟ قال:دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يدعوهم. قال: فأتاهم سلمان فقال لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي ترون العرب تطيعني، فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه ، وأعطيتمونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وأنتم غير محمودين . وإن أبيتم نابذناكم على سواء . قال: فرطن لهم بالفارسية . رواه زائدة عن عطاء فيه فقالوا: وما الجزية قال: درم وخاكت بسر».

ومعناه: أن تعطي المال وأنت ذليل . وهذا يدل على أن سلمان كان قائداً في الفتح، مضافاً الى أنه داعية المسلمين ورائدهم . ونستطيع أن نقدر له أدواراً غير معلنة ، ونرجح أن يكون ساعد في إقناع الفرس بعدم المقاومة ، وفي دخول شخصيات منهم في الإسلام ، وربما كان منهم الهرمزان الذي هو خال شيروية ابن كسرى ، وكان حاكم الأهواز وقائداً في معركة القادسية وغيرها ، ثم استأسر للمسلمين في معركة تستر ، وأخذه عمار بن ياسر الى المدينة ، وأمنه عمر ، وأسلم على يد علي فصار مولى علي (علیه السلام) .

8.أتقن سلمان العربية فكان يتكلم بها وقد ينظم الشعر، لكن بقيت عنده لُكْنَةٌ فارسية ، ولذلك كان يقدم أحد الصحابة الفصحاء ليخطب الجمعة ويصلي

ص: 297

بالناس ، ففي طبقات ابن سعد: 6/124، عن أبي قدامة: «أنه كان في جيش عليهم سلمان الفارسي ، فكان يؤمهم زيد بن صوحان ، يأمره بذلك سلمان ».

وفي مصنف ابن أبي شيبة:8/17: «كان سلمان أمير المدائن ، فإذا كان يوم الجمعة قال لزيد: قم فذكر قومك ».

أقول: هذا من فقه سلمان رضي الله عنه وتقواه ، فهو يقدم من هو أفصح منه ، للخطبة والصلاة . وفي قوله لزيد: ذكر قومك ، إلفاتٌ الى حسن كون القارئ والخطيب من نفس القوم الذين يذكرهم ، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ .

لكن سلمان رضي الله عنه كان يعرف دقائق القرآن وأحكامه أفضل من زيد .

ففي مصنف ابن أبي شيبة:7/152: «عن خليد العصري قال: لما قدم علينا سلمان أتيناه ليستقرئنا القرآن فقال: القرآن عربي فاستقرؤوه رجلاً عربياً ، فاستقرأنا زيد بن صوحان ، فكان إذا أخطأ أخذ عليه سلمان ، فإذا أصاب قال: أيم الله ».

وفي تاريخ دمشق:19/439: «كان يقرؤنا زيد بن صوحان ، ويأخذ عليه سلمان ، فإذا أخطأ رد عليه سلمان. هذا لفظ المحاملي، وقال الجروي: فإذا أخطأ غير علته ، فإذا أصاب قال: إي والله».

أقول: خُلَيْد بن حسان العصري ، من كبار التابعين ، وهو شيخ قتادة المفسر ، وبنو عصر بطن من عبد القيس ، وكان خليد في البصرة وسكن بخارى (تاريخ دمشق: 47/104، وتاريخ الذهبي:10/168) فمعنى قوله: لما قدم علينا سلمان ، أي الى البصرة . ولعل ذلك في فتح الأهواز ، لما استأسر الهرمزان ، وفتحت تستر.

ص: 298

9. ورووا «أن قوماً من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئاً من القرآن، فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية ». (مجموع النووي:3/380، ومناهل العرفان:2/115).

ولعله ترجم لهم كل القرآن ، أو قسماً منه ، فهو أول مترجم للقرآن الى غير العربية ، ولا بد أن يكون لذلك تأثير كبير في إقبال الفرس على الإسلام .

وروى ابن سعد (4/84) أن سلمان رضي الله عنه سكن الكوفة في زمن عمر ، وكانت الكوفة مقصد الفرس الذين يريدون أن يتعلموا الإسلام .

10. أخفى رواة السلطة دور سلمان في الفتوحات والمفاوضات مع الفرس ! وتتعجب عندما تقرأ في معركة القادسية وفتح المدائن وغيرها أن الملك يزدجرد أو رستم طلبوا من المسلمين أن يرسلوا لهم ممثلاً ليتفاوض معه ، فأرسلوا المغيرة بن شعبة ، أو وفداً من فلان وفلان وبعضهم حديثوا الإسلام ، ووصفوا لباسهم وذهابهم وحديثهم مع يزدجرد ورستم ، ورجوعهم ، ولم يذكروا سلمان مع أنه كان «رائد المسلمين وداعيتهم» الرسمي بمرسوم الخليفة عمر ، وقد تقدمت رواية وفدهم في معركة القادسية !

وغاية ما ذكروه أن قالوا: «كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس. وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير. وأمروه يوم القصر الأبيض فدعاهم ثلاثاً ». (الطبري:3/124).

قال الطبري (3/121): «فانتهينا إلى القصر الأبيض وفيه قوم قد تحصنوا ، فأشرف بعضهم فكلَّمَنا ، فدعوناهم وعرضنا عليهم فقلنا:ثلاث تختارون منهن

ص: 299

أيتهن شئتم.قالوا: وما هن؟قلنا:الإسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا. وإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فمناجزتكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم.

فأجابنا مجيبهم: لا حاجة لنا في الأولى ولا في الآخرة ولكن الوسطى..عن عطية بمثله قال: والسفير سلمان ».

لاحظ أن الرواية ذكرت مفاوضة المسلمين مع حامية قصر كسرى ، ولم تذكر سلمان الفارسي ، بينما ذكرته رواية عطية ، وهذا يدل على سياسة الحكومات في كتابة الفتوحات ، وتعمدهم طمس دور سلمان وأمثاله من شيعة علي (علیه السلام) !

11. ورووا معجزةً لسعد بن أبي وقاص وسلمان رضي الله عنه في فتح المدائن ، وذلك لما حاصروها ، وكان نهر دجلة يفصلهم عنها ، فقالوا إن سعداً أمر الناس بالعبور وكان معه سلمان ، فعبرت خيولهم الماء .

قال الطبري:3/121: «فلما استووا على الفراض هم وجميع كتيبة الأهوال (كتيبة عمرو بن معديكرب) بأسرهم، أقحم سعد الناس ، وكان الذي يساير سعداً في الماء سلمان الفارسي، فعامت بهم الخيل وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل ، والله لينصرن الله وليه وليظهرن الله دينه ، وليهزمن الله عدوه ، إن لم يكن في الجيش بغيٌ أو ذنوب تغلب الحسنات. فقال له سلمان: الإسلام جديد ، ذُلِّلَتْ لهم والله البحور كما ذُلل لهم البر . أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً. فطبقوا الماء حتى ما يرى الماء من الشاطئ ، ولهم فيه أكثر حديثاً منهم في البر لو كانوا فيه، فخرجوا منه كما قال سلمان لم يفقدوا شيئاً،ولم يغرق منهم أحد ».

ص: 300

أقول: دلت روايات فتح المدائن على أنه لم تقع معركة فيه إلا مع كتيبة كسرى الخاصة التي كانت في موقع يدعى «مظلم ساباط» قبل المدائن ، فخرج قائدها وطلب المبارزة ، فبرز له هاشم المرقال رضي الله عنه وقتله ، فانهزمت الكتيبة ، وتقدم المسلمون نحو المدينة الرومية ، ثم الى قصر كسرى في المدائن .

وروي أن بعض فرسان المسلمين كحجر بن عدي رضي الله عنه ، عبر بفرسه: «فتقدم حِجْر وقرأ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. وأقحم فرسه وهو يقول: باسم الله ، فعبر وعبر المسلمون على أثره ! فلما رآهم العدو قالوا: ديوان ديوان (جمع دِيو: الغول) يعني شياطين شياطين ! فهربوا فدخلنا عسكرهم».(تفسير ابن كثير:1/419) .

وروي أن عامر بن مالك الأشعري (تاريخ قم/268، وأسد الغابة:4/282) أول من عبر بفرسه نهر دجلة الى المدائن ، وقال في ذلك مرتجزاً:

إمضوا على البحر إن البحر مأمور *** والأول القاطع منكم مأجور

قد خاب كسرى وأبوه سابور *** ما تصنعون والحديث مأثور

ورووا أن شخصاً دلَّ المسلمين على معبر ، فعبروا منه . فأين معجزة سعد ؟ كما رووا أن سعد بن أبي وقاص لم يكن في الجيش الذي توجه الى المدائن ، بل كان بقيادة خالد بن عرفطة ، وهاشم المرقال .

قال البلاذري(2/323): «وجه سعد بن أبي وقاص خالد بن عرفطة على مقدمته ، فلم يَرِد سعد حتى فتح خالد ساباط . ثم قدم فأقام على الرومية حتى صالح أهلها على أن يجلو من أحب منهم ويقيم من أقام على الطاعة والمناصحة ، وأداء

ص: 301

الخراج ، ودلالة المسلمين ، ولا ينطووا لهم على غش . ولم يجد معابر فدُلَّ على مخاضة عند قرية الصيادين فأخاضوها الخيل ، فجعل الفرس يرمونهم فسلِموا غير رجل من طيئ يقال له سليل بن يزيد بن مالك السنبسي ، لم يصب يومئذ غيره » .

ورواية البلاذري هذه مقدمة على رواية الطبري التي تقول إن سعداً أمرهم بالعبور بدوابهم وأثقالهم فعبروا سالمين . لأنها تريد إثبات معجزةً لسعد ، وقد استعانت بسلمان رضي الله عنه لأجل تصديقها .

كما أنها لاتنافي رواية البلاذري بعبور بعضهم سباحة بخيولهم ، كحجر بن عدي وعامر بن مالك. وشاهدنا حضور سلمان رضي الله عنه في فتح المدائن، حضوراً مميزاً.

12. رووا نموذجاً من عمل سلمان ، وأنه أقنع كتيبة المرازبة باعتناق الإسلام ! قال الواقدي في فتوح الشام:2/204: «خرجنا بعد فتح القصر الأبيض وكان قد تحصن به رجال من المرازبة ، وكانوا أشد جلداً وأقوى عزيمة من جميع الفرس ، وتحالفوا أنهم لا يسملون أبداً ، والذين حصلوا وتولوا حصارهم كتيبة الأهوال وهي كتيبة القعقاع ، فلما رأينا عزمهم على الموت بَعُدْنَا عن نَشَّابهم وحجارة مجانيقهم ، وطال علينا ذلك وشكونا ذلك إلى سعد وقلنا له: قد حرمنا الجهاد بحصارنا لهؤلاء الأعلاج . فقال سعد لسلمان:تقدم إليهم ودبِّر شيئاً فيه مصلحة المسلمين وأمنهم. فتقدم إليهم سلمان رضي الله عنه وكلمهم بالفارسية فأمسكوا عن رميه وقالوا له: من أنت؟ فقال: أنا رسول من المسلمين ، إعلموا أن الرجل يقاتل عن نفسه وماله وولده إذا رجا الخلاص ، وما أرى لكم من خلاص قط

ص: 302

وهذا الملك قد انهزم وأخذنا مملكته وخزائنه ، وما بقي في المدائن أحد غيركم فاتقوا الله في أنفسكم ولا تهلكوها ، وسلموا لنا هذا الحصن ، ولكم الأمان إلى أي جهة توجهتم ، لايعارضكم منا أحد .

قال: فلما سمعوا قوله قالوا: لا نسلم حتى نهلك عن آخرنا ، ثم رموا سلمان بالنشاب فقرأ: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ، وأشار إلى النشاب بيده فذهبت السهام يميناً وشمالاً ولم يصبه منها شئ ! قال: فلما رأوا ذلك قالوا: زنهار( إنتبه وأمسك) فبحق ما تشير اليه من أنت؟ قال: أنا روزبه ، وقد عمرت أربع مائة سنة ولحقت آخر أيام عيسى بن مريم ، وطفت الأرض حتى لحقت بنبي هذه الأمة ، فلما أتيته أكرمني وخدمته ، فعظمني حتى أنه جعلني من أهل بيته فقال: سلمان منا أهل البيت . فلما سمعوا قوله وحققوا معرفته ، علموا أنه كان من عظماء أهل دينهم ، قال: فصقعوا له ، وقالوا: والله ما نخفي عليك شيئاً من أمرنا ، وسبب قتالنا ليس بسبب مال ولا متاع ، وإنما الملك قد مضى يريد نهاوند ، ولم يقدر على أخذ ابنته معه ، وهي مريضة ، وقد سلمها الينا ، فلزمنا من أمرها ما لزم. فإن كنتم تعطون الأمان عليها سلمنا لكم ، وإلا نموت يداً واحدة !

فلما سمع سلمان منهم ذلك قال: دعوا هذا الأمر حتى أشاور الأمير ، ثم عاد وحدث سعداً بما سمعه فقال: يا أبا عبد الله إن المسلمين قد انتشروا في العراق ونخاف أن يقع بهم أحد فلا يُبقي عليهم . ولكن قل لهم: لكم علينا أن نذب عنكم وتكونوا في ذمامنا حتى تجاوزوا أي جهة تريدونها ، وبعد ذلك لا نضمن

ص: 303

لهم ما يأتي عليهم . قال: فحدثهم سلمان بما قاله الأمير ، فقال العقلاء منهم: لولا أن العرب على حق ما نصروا علينا ، ومن الرأي أن نرجع إلى دين هؤلاء العرب ونعيش في ظلهم ، وإن القوم لا يريدون ملكاً ، وقد رأيتم هذا الرجل وما ظهر لكم من كرامته .

قال: ففتحوا باب السر وخرجوا إلى العسكر ، وأتوا إلى سلمان فأتى بهم إلى سعد ، وأسلموا على يديه . فلما جرى ذلك بكى سعد وقال: اللهم انصر الإسلام ، وقرأ قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ .

وبعث إلى صاحب الأقباض فأخذ جميع ما في القصر الأبيص من الأموال وخزانة الملك ، فلما قسم الغنائم على المسلمين ، أعطى أولئك أوفى نصيب ، وأنزلهم منازل كسرى ، وسائر دور المدائن ».

أقول: تلاحظ أن رواية الواقدي عن المتحصنين في القصر ، هي نفس رواية الطبري التي طمسوا فيها دور سلمان رضي الله عنه . وأن سلمان بإيمانه حوَّل هؤلاء المرازبة (كتيبة حراس الحدود) وهم من كبار الموظفين ، من أعداء مقاتلين الى مسلمين مؤمنين .

أما حضور سعد يومها فقد يكون صحيحاً لأن حصارهم للمدائن طال شهوراً ، وقد يكون سعد حضر في آخر الحصار .

13. جمعوا أموال قصور كسرى وبيوت المدائن، وجعلوها بيد سلمان الفارسي ، ففي تاريخ الطبري:3/125: «ووكل بالأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن ، وأمره بجمع ما في القصر والإيوان والدور وإحصاء ما يأتيه به الطلب ، وقد كان أهل المدائن تناهبوا عند الهزيمة غارة ، ثم طاروا في كل وجه فما أفلت أحد منهم

ص: 304

بشئ لم يكن في عسكر مهران بالنهروان ولا بخيط ، ألح عليهم الطلب فتنقذوا ما في أيديهم ورجعوا بما أصابوا من الأقباض فضموه إلى ما قد جمع ، وكان أول شئ جمع يومئذ ما في القصر الأبيض ، ومنازل كسرى ، وسائر دور المدائن».

وفي الإصابة:3/192: «عن غلام لسلمان يقال له سويد وأثنى عليه خيراً ، قال: لما فتحت المدائن أصبت سلة ، فقال سلمان: هل عندك شئ؟ قلت: سلة ، قال: هاتها فإن كان طعاماً أكلناه ، أو مالاً رفعناه إلى هؤلاء . قال: ففتحناها فإذا أرغفة حواري وجبنة ، فكان أول ما رأت العرب الحواري ».

وقد تقدم في ترجمة هاشم أن سعداً بقي في المدائن ، ولم يذهب الى جلولاء إلا بعد أن هجاه المسلمون، ومنهم ابراهيم بن المثنى بن حارثة ، فذهب على مضض ، ثم رجع من هناك ، ولم يذهب مع جيشه الى حلوان !

14. وصار الفارسي المشرد حاكماً لعاصمة كسرى، ونموذجاً للحاكم المسلم قال ابن الأعثم:1/220: «كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره أن يولي سلمان الفارسي المدائن وما والاها ، ويرجع هو إلى الكوفة ».

وروى في تاريخ دمشق:21/435 ، أنه كتب الى عمر يعتذر عن تولي المدائن فلم يقبل منه ، فقد قال لمن سأله لماذا قبلت الولاية: « إن عمر أكرهني ، فكتبت إليه فأبى مرتين ، وكتبت إليه فأوعدني » !

ص: 305

واستقبله الناس ومهدوا له قصر الإمارة ، فقال: إستأجروا لي حانوتاً في السوق أحكم بين الناس، فاستمر على هذا الحال حتى فاضت دجلة وخربت أكثر المنازل ».(نفس الرحمن في فضائل سلمان/551) .

وفي تاريخ دمشق:21/436: «قال حذيفة لسلمان:ألا نبني لك مسكناً يا أبا عبد الله؟ قال: لمَ تجعلني مَلِكاً ، أوَتجعلُ لي بيتاً مثل دارك التي بالمدائن؟قال: لا، ولكن نبني لك بيتاً من قصب ونسقفه بالبردي ، إذا قمت كاد أن يصيب رأسك وإذا نمت كاد أن يمس طرفيك ! قال: فكأنك كنت في نفسي » !

وفي الطبقات: 4/90: «كان سلمان يقول لنفسه: سلمان بمير . يقول: مُتْ» !

وكان لا يأكل إلا من عمل يده ، فكان يتصدق براتبه أو عطائه ، وكان أربعة آلاف درهم في السنة (البلاذري:3/559) أوستة آلاف درهم (ابن أبي شيبة:7/616).

ويصنع من الخوص حصراً وزنابيل ، ويقول: « أشتري خُوصاً بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم ، فأعيد درهماً فيه ، وأنفق درهماً على عيالي ، وأتصدق بدرهم . ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت ». (الطبقات:4/89).

و«كان إذا سَجَدَت له العجم طأطأ رأسه وقال: خشعت لله». (الطبقات:4/88).

وكان لايتميز عن فقراء المسلمين بلباسه ، وقد حسبه بعضهم فقيراً أو حمالاً ففي الطبقات:4/88: «كان سلمان أميراً على المدائن ، فجاء رجل من أهل الشام من بني تيم الله ، معه حمل تينٍ وعلى سلمان أندرورد (سروال) وعباءة ، فقال لسلمان: تعال إحمل ، وهو لا يعرف سلمان ، فحمل سلمان فرآه الناس فعرفوه فقالوا: هذا الأمير ! قال: لم أعرفك.. !

ص: 306

وعن شيخ من بني عبس: «أتيت السوق فاشتريت علفاً بدرهم ، فرأيت سلمان ولا أعرفه فسخرته فحملت عليه العلف ، فمر بقوم فقالوا: نحمل عنك يا أبا عبد الله . فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا سلمان صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقلت: لم أعرفك ضعه عافاك الله ، فأبى حتى أتى منزلي ، فقال: قد نويت فيه نية فلا أضعه حتى أبلغ بيتك ».

وقيل له: «مايُكرهك الإمارة؟ قال: حلاوة رضاعها ، ومرارة فطامها». (الطبقات:4/88). أي أكره الإمارة لمرارة عاقبتها ، وحساب الإنسان عليها .

ورويَ أن سُراق المدائن استهانوا به ، فسلط عليهم الكلاب ! « لما أرسل سلمان إلى المدائن والياً على أهلها جلس في مسج ، وجعل يسفُّ الخوص بيده لأجل قوته فلما علم به الرعية إن مثل هذا حاكم عليهم ، لم يعبؤوا به ، وكثرت السرقة والفساد فيهم ، فخرج من المسجد فرأى كلباً فأومى إليه فجاء الكلب فتكلم معه ، فرجع الكلب مسرعاً وصعد على مرتفع وعوى بصوت مرتفع ، فاجتمعت عليه كلاب البلاد فسارَّها ، ثم تفرقت في البلاد ، ثم إن سلمان أرسل رجلاً ينادي في البلاد: من خرج بعد ساعة كذا من الليل فإنه يقتل، فخرجت اللصوص ولم يبالوا بأمر حاكمهم ، فمزقتهم الكلاب ، ولم تبق منهم أحداً» . (نفس الرحمن في فضائل سلمان/358).

15. واختار سلمان مكان الكوفة منزلاً ومِصراً للمسلمين ، بما عنده من علم فقد ذكرت بعض مصادر الحكومات أن الذي اختار مكان الكوفة للمسلمين

ص: 307

سعد بن أبي وقاص أو عمر ، والصحيح أن الذي اختارها سلمان رضي الله عنه بما عنده من علم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتوجيهات أمير المؤمنين (علیه السلام) .

فقد روى الكشي(1/73 ) عن المسيب بن نجبة الفزاري قال: «لما أتانا سلمان الفارسي قادماًتلقيته فيمن تلقاه ، فسار حتى انتهى إلى كربلاء فقال: ما تسمُّون هذه؟ قالوا: كربلاء ، فقال: هذه مصارع إخواني ، هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم ، قُتل بها خير الأولين ، ويقتل بها خير الآخرين!

ثم سار حتى انتهى إلى حروراء فقال: ما تسمون هذه الأرض؟ قالوا: حروراء فقال: حروراء خرج بها شر الأولين ويخرج بها شر الآخرين . ثم سار حتى انتهى إلى بانقيا وبها جسر الكوفة الأول فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: بانقيا . ثم سار حتى انتهى إلى الكوفة قال:هذه الكوفة؟ قالوا: نعم . قال: قبة الإسلام »!

أقول: لم أعرف المقصود بخير الأولين الذي قتل في كربلاء . وكذا شر الأولين ، الذين خرجوا في حروراء . ويحتمل أن يكون خير الأولين هابيل (علیه السلام) .

وقد ذكرنا في سلسلة القبائل العربية أن الكوفة كانت معروفة للنبي وأهل بيته (صلی الله علیه و آله) وأن إبراهيم (علیه السلام) كما أسس القدس وجدد الكعبة لذريته ، أسس القادسية وهي النجف والكوفة والسهلة والنخيلة لولده المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف، واشترى أرض كربلاء لولده الحسين (علیه السلام) .

وبهذا العلم اختار سلمان رضي الله عنه الكوفة منزلاً ومدينة للمسلمين .

ص: 308

روى في كامل الزيارات/78 ، عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: «عُرِجَ بي إلى السماء ، وإني هبطت إلى الأرض فأهبطت إلى مسجد أبي نوح (علیه السلام) وأبي إبراهيم وهو مسجد الكوفة ، فصليت فيه ركعتين » .

وفي تاريخ الطبري:3/145: «كتب عمر إلى سعد: أنبئني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه: إن العرب خددهم وكفأ ألوانهم وخومة المدائن ودجلة فكتب إليه إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان ، فابعث سلمان رائداً وحذيفة ، وكانا رائدي الجيش ليرتادا منزلاً برياً بحرياً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولاجسر، ولم يكن بقى من أمر الجيش شئ إلا وقد أسنده إلى رجل فبعث سعد حذيفة وسلمان فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار ، فسار في غربي الفرات لايرضى شيئاً حتى أتى الكوفة . وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة .

والكوفة على حصباء وكل رملة حمراء ، يقال لها سهلة ، وكل حصباء ورمل هكذا متخلطين فهو كوفة ، فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة: دير حرقة ودير أم عمرو ودير سلسلة وخصاص خلال ذلك ، فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا وقال كل واحد منهما: اللهم رب السماء وما أظلت ، ورب الأرض وما أقلت ، والريح وما ذرت ، والنجوم وما هوَت ، والبحار وما جرت ، والشياطين وما أضلت ، والخصاص وما أجنت ، بارك لنا في هذه الكوفة ، واجعله منزل ثبات .وكتب إلى سعد بالخبر » .

ص: 309

وفي فتوح البلاذري(2/354) أن سلمان رضي الله عنه قال: « الكوفة قبة الإسلام ، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها ، أو يهوي قلبه إليها ».

وفي تاريخ دمشق:37/15: «عن عبد الملك بن أبي ذر الغفاري ، قال: أمرني أبي بصحبة سلمان الفارسي ، فصحبته إلى الشام فرابطنا بها ، حتى إذا انقضى رباطنا أقبلنا نريد الكوفة ، فلما أتينا إلى النجف قال لي سلمان: أهي هي؟ قال: قلت لا ، وكانت أبيات الحيرة . قال: فسرنا حتى بدت لنا أبيات الكوفة فقال لي: أهي هي؟ قال: قلت نعم . قال: واهاً لك أرض البلية ، وأرض التقية ! والذي نفس سلمان بيده إني لأعلم أن لك زماناً لا يبقى تحت أديم السماء مؤمن إلا وهو فيك أو يحن إليك . والذي نفس سلمان بيده كأني أنظر إلى البلاء يصب عليك صباً ، ثم يكشفه عنك قاصم الجبارين . والذي نفس سلمان بيده ما أعلم أنه تحت أديم السماء أبيات يدفع الله عنها من البلاء والحزن إلا دون ما يدفع عنك ، إلا أبياتاً أحاطت ببيت الله الحرام أو بقبر نبيه (علیه السلام) . والذي نفس سلمان بيده كأني أنظر إلى المهدي قد خرج منك في أثني عشر ألف عنان لا يرفع له راية إلا أكبها الله لوجهها ، حتى يفتح مدينة القسطنطينية».

أقول: يذكر هذا النص سفر سلمان الى الشام وبيروت والصرفندة ، لمشاركة المرابطين على ثغور الدولة الإسلامية ، مقابل الروم والفرنجة ، وتثبيتهم بآيات القرآن وأحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) ، وقد رويت عنه أحاديث هناك .

كما يدل كلامه عن الكوفة على أن مروره عليها كان قبل مجيئه هو وحذيفة لاختيارها مركزاً للمسلمين وتمصيرها .

ص: 310

أما كلامه عن المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وأن الكوفة عاصمته فهو من أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) ، ولا بد أن يكون معنى قوله إنه يفتح القسطنطينية أنه يفتح بلاد الروم . ولعله قال يَفتح الروم كما في بعض الأحاديث ، فطبقها الراوي على القسطنطينية .

16. قدم سلمان نموذج الحاكم المسلم الذي ينبغي أن يقتدي به كل الحكام ، فقد كان يتصدق بمخصصاته من بيت المال ، ويصرف من كسب يده ، ويعيش كأدنى مستوى في الذين يحكمهم ، في مأكله وملبسه ومسكنه ، فكان له بيت متواضع ، وقطعة أرض صغيرة يزرع فيها الخضروات ، وتوفيت زوجته الكِنْدية فتزوج أمةً له: « وتزوج مولاة له يقال لها بَقِيرة ...فأتاه يطلبه فأخبره أنه في مبقلة له ، فتوجه إليه فلقيه معه زبيل فيه بقل ، قد أدخل عصاه في عروة الزبيل وهو على عاتقه ، فقال: يا أبا عبد الله..». (مسند أحمد:5/439).

«كان يأكل من عمل يده ويطحن مع الخادمة ، ويعجن عنها إذا أرسلها في حاجة ويقول: لا تجمع عليها عملين . وكان يعمل من الخوص قفافاً، فيبيع ذلك بثلاثة دراهم فيرد درهماً في الخوص وينفق على عياله درهماً ويتصدق بدرهم ، وكان لا يأكل من صدقات الناس ويقول: إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: سلمان منا أهل البيت ». (الدرجات الرفيعة/261).

وفي الطبقات: 4/90: «أن رجلاً دخل على سلمان وهو يعجن قال فقال: أين الخادم؟قال: بعثناها لحاجة فكرهنا أن نجمع عليها عملين . قال: إن فلاناً يقرؤك السلام. فقال له سلمان: منذ كم قدمت؟ قال: منذ ثلاثة أيام . قال: أما إنك لو لم تؤدها لكانت أمانة لم تؤديها».

ص: 311

17. وكان وهو والٍ على المدائن يخرج الى الجهاد والغزو قائداً ويرجع الى المدائن ففي تاريخ دمشق:21/429: «أن سلمان الفارسي مر بجسر المدائن غازياً وهو أمير الجيش ، وهو ردف رجل من كندة على بغل موكوف ، فقال أصحابه: أعطنا اللواء أيها الأمير نحمله عنك فيأبى ويقول: أنا أحق من حمله ، حتى قضى غزاته ورجع وهو ردف ذلك الرجل الكندي ، على ذلك البغل الموكوف»!

وستأتي مشاركته في غزوة بلنجر سنة 22 أي بعد 4 سنوات من حكمه المدائن.

وفي الطبقات:4/87: «عن رجل من عبد القيس قال: كنت مع سلمان الفارسي وهو أمير على سرية ، فمرَّ بفتيان من فتيان الجند فضحكوا وقالوا: هذا أميركم ! فقلت: يا أبا عبد الله ، ألا ترى هؤلاء ما يقولون ؟قال: دعهم ، فإنما الخير والشر فيما بعد هذا اليوم» !

18. وشارك سلمان رضي الله عنه في فتح إرمينيا والقفقاز في سنة 22 هجرية ، قال ابن الأثير في الكامل:4/42: «وكان زهير بن القين البجلي قد حج ، وكان عثمانياً ، فلما عاد جمعهما الطريق وكان يساير الحسين (علیه السلام) من مكة ، إلا أنه لا ينزل معه ، فاستدعاه يوماً الحسين فشق عليه ذلك ، ثم أجابه على كره ، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين (علیه السلام) ، ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد ، وسأحدثكم حديثاً: غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، وكان معنا سلمان الفارسي فقال لنا: إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم !

ص: 312

فأما أنا فأستودعكم الله ، ثم طلق زوجته وقال: لها إلحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير ، ولزم الحسين (علیه السلام) حتى قتل معه» .

وروى نحوه الحميري في الروض المعطار/94، والطبري في تاريخه:4/298 ، لكنه جعل القائل سلمان الباهلي . ومن المؤكد أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان في تلك الغزوة ، فقد تقدم من الطبقات (4/92) وغيرها أنه غنم فيها عطراً ، ولم نجد أنه كان فيها جندياً أو قائداً ، أما سلمان بن ربيعة الباهلي فكان فيها قائداً وقتل فيها . ولعلهم فتحوها أولاً ثم جمع لهم حاكمها جيشاً ففتحوها ثانية ، فقُتل سلمان بن ربيعة الباهلي في الفتح الثاني .

وقال البكري في معجمه:1/276: « بَلَنْجَر..مدينة ببلاد الروم ، شهد فتحها عدد من الصحابة . قال زهير بن القين البجلي: غزوت بلنجر وشهدت فتحها ، فسمعت سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول: أفرحتم بفتح الله لكم ، فإذا أدركتم شباب آل محمد ، فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم..الخ.».

وكان فتح بلنجر سنة22هجرية ، وذكرت بعض الروايات أنها تقع في أرمينيا ، وبعضها أنها تقع في بلاد الروم . ولا توجد اليوم مدينة بهذا الإسم .

وقال بعض المؤرخين إنها كانت مكان مدينة بُويْنَاكْس الفعلية ، الواقعة جنوبي بحر الخزر . وقال بعضهم إنها تقع في دولة داغستان في شرق آسيا ، قرب نهر سولاك . ولا فائدة مهمة في تحقيق ذلك .

ص: 313

والمهم في القصة أن سلمان رضي الله عنه كان عنده من علم النبي (صلی الله علیه و آله) أن الحسين (علیه السلام) يقتل ، وأن بعض الذين كانوا معه في فتح بلنجر ، كزهير بن القين ، سيدركون خروجه ، فدعاهم الى الجهاد معه !

وقد حدث تحول سريع في موقف زهير رضي الله عنه من العثمانية الى ولاية العترة النبوية ، وانضم الى الحسين (علیه السلام) بيقين وشوق كأنه وجد ضالته في كلام سلمان معه قبل ثمانية عشرة سنة ! ولا يبعد أن يكون الحسين (علیه السلام) ذكَّره به !

وننبه الى خطأ وقعت فيه بعض المصادر وكتب المقاتل نسبت هذا الحديث الى سلمان بن ربيعة الباهلي ، وقد كان فعلاً في قائداً فتح بلنجر وقتل في أرمينية ، لكن نص البكري وغيره على أن الحديث مع سلمان الفارسي رضي الله عنه .

19. كان سلمان رضي الله عنه يزور الشام ، فيستقبلونه بإجلال كاستقبالهم للخليفة فقد روى البخاري في التاريخ الصغير:1/98، وابن عساكر في تاريخ دمشق:12/374، عن القاسم أبي عبد الرحمن قال:«زارنا سلمان وخرج الناس يتلقونه كما يُتلقى الخليفة فلقيناه وقد صلى بأصحابه العصر وهو يمشي، فتوقفنا نسلم عليه ، فلم يبق فيها شريف إلا عرض عليه أن ينزل به ، فقال: جعلت في نفسي مرتي هذه أن أنزل على بشير بن سعد . فلما قدم سأل عن أبي الدرداء فقالوا هو مرابط ، فقال: وأين مرابطكم؟ فقالوا: بيروت . قال فتوجه قِبَلَه فقال لهم سلمان: يا أهل بيروت ، ألا أحدثكم حديثاً يذهب الله به عنكم غرض الرباط: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه ، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجير من فتنة القبر ، وجرى له صالح ما كان يعمل إلى يوم القيامة ».

ص: 314

أقول: هذا النص يدلنا على المكانة العظيمة لسلمان رضي الله عنه عند المسلمين ، ولا عجب في ذلك ، لأنهم رأوا منه معجزات وسلوكاً لم يروه من غيره من الصحابة ، فسلمان بعد المعصومين (علیهم السلام) أكثر الصحابة كرامات ومعجزات !

كما يدل هذا النص على أنه رضي الله عنه ذهب الى الشام عدة مرات التي أقام فيها مدة طويلة في أول شبابه . وكان يأتي ليقوي إيمان المسلمين وعقيدتهم ، ويحدثهم عن النبي (صلی الله علیه و آله) رغم منع الخلافة للتحدثي وتدوين الحديث .

روى عبد الله بن المبارك في كتابه الجهاد/160، أن سلمان زارهم وهم محاصرون لحصن في بلاد الروم . قال شرحبيل بن السمط الكندي: «طال رباطنا وإقامتنا على حصن ، فاعتزلت من العسكر أنظر في ثيابي لما آذاني منه ، قال فمر بي سلمان فقال: ماتعالج يا أبا السمط؟ فأخبرته فقال: إني لأحسبك تحب أن تكون عند أم السمط ، فكانت تعالج هذا منك . قلت: إي والله . قال: لا تفعل فإني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: رباط يوم وليلة أو يوم أو ليلة كصيام شهر وقيامه ، ومن مات مرابطاً أجريَ عليه مثل ذلك من الأجر ، وأجريَ عليه الرزق ، وأمن من الفتَّان ، واقرؤوا إن شئتم: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا ، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَخَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ). وفتح القدير:3/466، وفيه: حصن بأرض الروم .

20. آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بينه وبين أبي ذر: « واشترط على أبي ذر أن لا يعصي سلمان» (الكافي: 8 /162). كما آخى بينه وبين أبي الدرداء ، فسكن أبو الدرداء الشام ، وكانا يتراسلان ويتزاوران: «كتب أبو الدرداء إلى سلمان: أما بعد فإني أدعوك

ص: 315

إلى الأرض المقدسة وأرض الجهاد ، قال فكتب إليه سلمان: أما بعد فإنك قد كتبت إلى تدعوني إلى الأرض المقدسة وأرض الجهاد ، ولعمري ما الأرض تقدس أهلها ، ولكن المرء يقدسه عمله ». (مصنف ابن أبي شيبة:8/182).

وكتب سلمان الى أبي الرداء: « إنما العلم كالينابيع فينفع به الله شاء ، ومثل حكمة لا يتكلم بها كجسد لاروح له ، ومثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه ، ومثل العالم كمثل رجل أضاء له مصباح في طريق ، فجعل الناس يستضيئون به وكل يدعو له بالخير ». (مصنف ابن أبي شيبة:8/1179).

21. مرَّتْ علاقة سلمان بعمر في مراحل، من عداء الى صداقة ، ثم الى عداء ، فقد: «دخل مجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذات يوم فعظموه وقدموه وصدروه ، إجلالاً لحقه وإعظاماً لشيبته ، فدخل عمر فنظر إليه فقال: من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب؟! فصعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) المنبر فخطب فقال: إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى ، سلمان بحر لاينزف ، وكنز لاينفد ، سلمان منا أهل البيت ، سلسل يمنح الحكمة ، ويؤتى البرهان ». (الإختصاص للمفيد/341).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) : «جلس عدة من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ينتسبون وفيهم سلمان الفارسي، وإن عمر سأله عن نسبه وأصله، فقال: أنا سلمان بن عبد الله كنت ضالاً فهداني الله بمحمد (صلی الله علیه و آله) ، وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمد (صلی الله علیه و آله) ، وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمد (صلی الله علیه و آله) . وهذا حسبي ونسبي. ثم خرج رسول

ص: 316

الله (صلی الله علیه و آله) فحدثه سلمان وشكى إليه ما لقي من القوم وما قال لهم. فقال النبي (صلی الله علیه و آله) : يا معشر قريش، إن حسب الرجل دينه ، ومروته وأصله عقله ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . يا سلمان ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله ، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل». (الكافي:8/181).

ورووا أن سعد بن أبي وقاص هو الذي عيَّر سلمان بنسبه ، فانتصر له عمر ! ففي تاريخ دمشق:21/424:«كان بين سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي شئ فقال سعد وهم في مجلس: إنتسب يا فلان فانتسب ، ثم قال للآخر انتسب ، ثم قال للآخر حتى بلغ سلمان فقال: إنتسب يا سلمان . فقال: ما أعرف لي أباً في الإسلام ، ولكني سلمان بن الإسلام . فنمي ذلك إلى عمر فقال عمر لسعد ولقيه: إنتسب يا سعد . فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين . قال: وكأنه عرف ، فأبى أن يدعه حتى انتسب . ثم قال للآخر ، حتى بلغ سلمان فقال: إنتسب يا سلمان . فقال: أنعم الله عليَّ بالإسلام فأنا سلمان بن الإسلام . فقال عمر: قد علمت قريش أن الخطاب كان أعزهم في الجاهلية ، وأنا عمر بن الإسلام ، أخو سلمان بن الإسلام ».وذكر البلاذري(10/17) أن حذيفة هو الذي شكى سعداً.

وقد ساءت علاقة سلمان مع عمر عند وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) وإدانته السقيفة وبيعتهم لأبي بكر ، فقد خطب سلمان ، ومما قال: «فأين يذهب بكم؟! ما أنا وفلان وأبو فلان ! ويحكم والله ما أدري أتجهلون أم تتجاهلون ، أم نسيتم أم تتناسون!

ص: 317

أنزلوا آل محمد (صلی الله علیه و آله) منكم منزلة الرأس من الجسد ، بل منزلة العينين من الرأس ، والله لترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف ، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة ويشد الناجي على الكافر بالنجاة ، ألا اني أظهرت أمري وآمنت بربي وأسلمت بنبيي ، واتبعت مولاي ومولى كل مسلم» .(رجال الكشي/88).

ثم وصلت علاقته بهم الى حد الصدام، في آخر احتجاجات أمير المؤمنين (علیه السلام) عليهم بعد أيام: «وقام إليه سلمان الفارسي فقال: الله أكبر الله أكبر! سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهاتين الأذنين وإلا صُمَّتَا، يقول: بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه، إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل من معه ، فلست أشك إلا وإنكم هم ! فهمَّ به عمر بن الخطاب ، فوثب إليه أمير المؤمنين (علیه السلام) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض، ثم قال: يا ابن صهاك الحبشية ! لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم ، لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً ! ثم التفت إلى أصحابه فقال: إنصرفوا رحمكم الله ، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون إذ قال له أصحابه: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ . والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو لقضية أقضيها ، فإنه لا يجوز لحجة أقامها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يترك الناس في حيرة »! والإحتجاج:1/105.

وفي عهد أبي بكر وعمر خف التوتر وساعد على ذلك جلالة سلمان واحترام المسلمين له. وكان يحضر في مجلس عمر في دار الخلافة ، وكان عمر يزوره:

ص: 318

ففي مجمع الزوائد(8/174) عن أنس: «دخل عمر على سلمان الفارسي فألقى له وسادة فقال: ما هذا يا أبا عبد الله ؟فقال سلمان الفارسي: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول:ما من مسلم يدخل عليه أخوه المسلم فيلقى له وسادة إكراماً وإعظاماً إلا غفر الله له ».

وكان علي (علیه السلام) يرسله في الأمور المهمة الى عمر، ففي الخرائج(1/233) قال سلمان: «دعاني علي (علیه السلام) فقال: صر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق ولم يعلم به أحد ، وقد عزم أن يحتبسه فقل له: يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من جعل لهم ، ولا تحبسه فأفضحك !

قال سلمان: وأديت إليه الرسالة فقال: حيرني أمر صاحبك فمن أين علم هو به؟ قلت: وهل يخفى عليه مثل هذا . فقال: ياسلمان إقبل مني ما أقول لك: ما عليٌّ إلا ساحر ، وإني لمشفق عليك منه ، والصواب أن تفارقه وتصير في جملتنا . قلت: بئس ما قلت ، لكن علياً قد ورث من آثار النبوة ما قد رأيت منه وما هو أكبر منه. قال: إرجع إليه فقل له: السمع والطاعة لأمرك... ».

وروينا أن سلمان خطب من عمر ابنته: «فرده ، ثم ندم فعاد إليه ، فقال: إنما أردت أن أعلم ذهبت حمية الجاهلية عن قلبك ، أم هي كما هي» ! (الكشي:1/62).

ورووا في ذلك روايات مضطربة ، منها أن عمر وافق لكن ابنه عبد الله «شكاه إلى عمرو بن العاص فقال: أنا أردُّه عنك. فقال: إن رددته بما يكره أغضبت أمير المؤمنين ، قال: عليَّ أن أردّه عنك راضياً ، فأتى سلمان فضرب بين كتفيه بيده ثم قال: هنيئاً لك أبا عبد الله هذا أمير المؤمنين يتواضع بتزويجك ! فالتفت إليه مغضباً وقال:أبي يتواضع! واللَّه لا أتزوّجها أبداً» . (عيون الأخبار لابن قتيبة:1/380).

ص: 319

ثم رووا أن سلمان قال: «إنكم معشر العرب لا نتقدمكم في صلاتكم، ولاننكح نساءكم.إن الله فضلكم علينا بمحمد (صلی الله علیه و آله) ».(إرواء الغليل:6/278، وجَوَّدَهُ).

وهم بذلك يريدون الدفاع عن عمر ، وعن رأيه في تحريم زواج العربية من غير عربي ، لأنه بزعمه ليس كفؤاً لها !

وروى في سبل السلام (3/130): «عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على سلمان الفارسي ». وأن سلمان تزوج امرأة من كندة ! (عبد الرزاق:6/153).

لكن هذه الأحداث لم تؤثر كثيراً على علاقة سلمان بعمر ، فقد كانت مكانته وأخلاقه وليونته الفارسية تفرض على عمر احترامه والطمع فيه . وقد عينه والياً على المدائن ، ولما جاء سلمان الى المدينة خرج عمر مع المسلمين لاستقباله .

ففي شعب الإيمان للبيهقي:7/378: «كتب عمر بن الخطاب إلى سلمان أن زرني . قال فخرج سلمان إليه ، فلما بلغ عمر قدومه قال لأصحابه: هذا سلمان قد قدم فانطلقوا نتلقاه . قال: فلقيه عمر فالتزمه ، وساءله ، ثم رجعا إلى المدينة ».

وكان عمر يسأل سلمان عن بعض أمور دينه، فقد قال له: «بلغني أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ما من وال يلي شيئاً من أمور الناس إلا يأتي به يوم القيامة يده مغلولة إلى عنقه ، فيوقف على جسر من النار ينتفض ذلك الجسر انتفاضة يزيل كل عضو منه عن موضعه ، ثم يعاد فيحاسب ، فإن كان محسناً نجاه إحسانه ، وإن كان مسيئاً انحرف به ذلك الجسر فهوى به في النار سبعين خريفاً !

قال له: ممن سمعت هذا؟ قال من أبي ذر وسلمان ، فأرسل إليهما عمر فسألهما فقالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلی الله علیه و آله) . فقال عمر: واعمراه ، من يتولاها بما

ص: 320

فيها؟ فقال أبو ذر: من أرغم الله أنفه وألصق خده بالأرض! قال: فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ، ثم بكى وانتحب حتى أبكاني » . (شعب الإيمان:6/32).

وكان عند عمر سؤال يسأله دائماً: هل أنا ملك من ملوك الدينا ، أم خليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ فقد روى الطبري:3/279، أن عمر سأله: « أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ، ثم وضعته في غير حقه ، فأنت ملك غير خليفة . فاستعبر عمر».

وفي تاريخ المدينة:2/702 ، أن عمر سأله عندما خرج من المدينة لا ستقباله: «فقال عمر لسلمان: أبا عبد الله أتراني مستحقاً لهذا الاسم؟قال:نعم ، ما لم تستأثر على الناس بتمرة ، فقال عمر: الله أكبر».

22. ثم ساءت علاقة سلمان بعمر في أواخر حياته ، كما تدل رسالة سلمان اليه ، وقد روى نصها في الإحتجاج: (1/185): «بسم الله الرحمن الرحيم . من سلمان مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى عمر بن الخطاب: أما بعد ، فإنه أتاني منك كتاب يا عمر تؤنبني وتعيرني ، وتذكر فيه أنك بعثتني أميراً على أهل المدائن ، وأمرتني أن أقصَّ أثر حذيفة وأستقصي أيام أعماله وسيرته ، ثم أعلمك قبيحها ، وقد نهاني الله عن ذلك يا عمر في محكم كتابه حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَابٌ رَحِيمٌ . وما كنت لأعصي الله في أثر حذيفة وأطيعك . وأما ما ذكرت أني أقبلت على سفِّ الخوص وأكل الشعير ، فما هما مما يعيَّرُ به مؤمن ويؤنَّب عليه ، وأيم الله يا عمر لأكل الشعير وسف

ص: 321

الخوص والإستغناء به عن رفيع المطعم والمشرب ، وعن غصب مؤمن حقه وادعاء ما ليس له بحق ، أفضل وأحب إلى الله عز وجل وأقرب للتقوى . ولقد رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا أصاب الشعير أكل وفرح به ولم يسخطه .

وأما ما ذكرت من عطائي ، فإني قدمته ليوم فاقتي وحاجتي . ورب العزة يا عمر ما أبالي إذا جاز طعامي لهواتي وانساغ في حلقي ، ألباب البر ومخ المعز كان أو خشارة الشعير .

وأما قولك: إني ضعَّفْتُ سلطان الله ووَهَّنْتُهُ وأذللت نفسي وامتهنتها ، حتى جهل أهل المدائن إمارتي واتخذوني جسراً يمشون فوقي ، ويحملون عليَّ ثقل حمولتهم ، وزعمت أن ذلك مما يوهن سلطان الله ويذله .

فاعلم أن التذلل في طاعة الله أحب إليَّ من التعزز في معصيته ، وقد علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) يتألف الناس ويتقرب منهم ويتقربون منه في نبوته وسلطانه ، حتى كأنه بعضهم في الدنو منهم ، وقد كان يأكل الجشب ويلبس الخشن ، وكان الناس عنده قرشيهم وعربيهم وأبيضهم وأسودهم سواء في الدين .

وأشهد أني سمعته يقول: من وليَ سبعة من المسلمين بعدي ثم لم يعدل فيهم ، لقي الله وهو عليه غضبان . فليتني يا عمر أسلم من إمارة المدائن مع ما ذكرت أني أذللت نفسي وامتهنتها ، فكيف يا عمر حال من ولي الأمة بعد رسول الله وإني سمعت الله يقول: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . إعلم أني لم أتوجه ، أسوسهم وأقيم حدود الله فيهم إلا بإرشاد دليل عالم ، فنهجت فيهم بنهجه ، وسرت فيهم بسيرته .

ص: 322

واعلم أن الله تبارك وتعالى لو أراد بهذه الأمة خيراً، أو أراد بهم رشداً، لولى عليهم أعلمهم وأفضلهم .

ولو كانت هذه الأمة من الله خائفين ، ولقول نبي الله متبعين ، وبالحق عالمين ، ما سموك أمير المؤمنين ، فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا !

ولا تغتر بطول عفو الله عنك وتمديده ذلك ، من تعجيل عقوبته . واعلم أنه سيدركك عواقب ظلمك في دنياك وآخرتك ، وسوف تسأل عما قدمت وأخرت ، والحمد لله وحده ».

أقول: لانعلم تاريخ هذه الرسالة ، لكن يظهر أنها كانت قبيل وفاة سلمان ووفاة عمر بقليل . ولم أجد رواية عن ردة فعل عمر على هذه الرسالة الصريحة ، ويبدو أن عمر تحملها في الظاهر ولم يعزله ، فقد توفي سلمان رضي الله عنه وهو والي المدائن .

23. تزوج سلمان امرأة من كندة ورزق منها أولاداً ذكروا منهم محمداً وعبد الله وعبد الرحمن . روى الكشي:1/68، عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: «تزوج سلمان امرأة من كندة فدخل عليها ، فإذا لها خادمة وعلى بابها عباءة ، فقال سلمان: إن في بيتكم هذا لمريضاً ، أوقد تحولت الكعبة فيه؟ فقيل: المرأة أرادت أن تستر على نفسها فيه . قال: فما هذه الجارية ؟ قالوا: كان لها شئ فأرادت أن تُخدم . قال: إني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: أيما رجل كانت عنده جارية ، فلم يأتها أولم يزوجها من يأتيها ثم فجرت ، كان عليه وزر مثلها ».

وعاشت معه حتى توفيت في المدائن ، فكتب له أمير المؤمنين (علیه السلام) يعزيه: «بسم الله الرحمن الرحيم ، قد بلغني يا أبا عبد الله مصيبتك بأهلك ، وأوجعني بعض ما

ص: 323

أوجعك . ولعمري لمصيبة يتقدم أجرها خير من نعمة يسأل عن شكرها ولعلك لا تقوم بها ، والسلام عليك» . (تاريخ دمشق:21/429).

وتزوج بعدها أمةً له إسمها بقيرة وكانت عنده حتى توفي .(الطبقات:4/92).

ورزق من زوجته الكندية أولاداً ، فقد رووا عن ابنه عبد الله ، كما في تاريخ دمشق: 21/403، وذكر أخبار إصبهان:1/52، والمنفردات لمسلم /105. وعن ابنه عبد الرحمن ، كما في أسد الغابة:5/440، وعن ابنه محمد ، كما في مستدركات رجال الحديث:7/114.

ورووا عن ابنه يحيى بن سلمان ، كما في تاريخ دمشق: 5 /227. وعامر بن سلمان ، كما في المنفردات لمسلم بن الحجاج /104. ولعله هو عمر بن سلمان كما في كشف الظنون:2 /1488. رووا عن ابنه زاذان بن سلمان ، كما في الدر النظيم /321 .

وذكر في فهرست منتجب الدين/52، ذريةً له من ولده محمد هو: الشيخ بدر الدين الحسن بن على بن سلمان بن أبى جعفر بن أبي الفضل... بن محمد بن سلمان الفارسى رضى الله عنه صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، نزيل أشناباد السد من الري ، واعظ فصيح صالح.

وقال في مستدركات رجال الحديث:2/454: (ينتهي إلى إبراهيم بن سلمان بن محمد بن سلمان الفارسي بعشرين واسطة».

وفي نفس الرحمن في فضائل سلمان/561: «قيل إنه (سلمان) عاد إلى إصفهان في زمان عمر ، وقيل: كان له أخ بشيراز له نسل ثَمَّ ، وبنت بإصفهان لها نسل ، وبنتان بمصر ، وقيل كان له ابن يقال له: كثير » .

24. علم سلمان بوفاته ، وجاء علي (علیه السلام) من المدينة وصلى عليه ورجع من يومه ، روى الكشي (1/66) بسنده عن ابن أبي عمير عن عمر بن يزيد ، قال: «قال سلمان: قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إذا حضرك أو أخذك الموت ، حضر أقوامٌ يجدون الريح

ص: 324

ولا يأكلون الطعام ، ثم أخرج صرة من مسك فقال: هبةٌ أعطانيها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، قال: ثم بلها ونضحها حوله ، ثم قال لامرأته: قومي أجيفي الباب ، فقامت وأجافت الباب ، فرجعت وقد قُبض رضي الله عنه » !

وفي رواية الطبقات:4/92: «أصاب سلمان صُرَّة مسك يوم فتحت جلولاء فاستودعها امرأته ، فلما حضرته الوفاة قال: هاتي هذه المسكة فمرسها في ماء ، ثم قال: إنضحيها حولي فإنه يأتيني زوار الآن . قال ففعلت ، فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلاً حتى قبض » . وفي رواية: أصاب مسكاً عند فتح مدينة بلنجر في أرمينيا ، وهي اليوم في داغستان . فكأن الرواة استكثروا عليه هدية النبي (صلی الله علیه و آله) فجعلوا المسك من مناطق شارك في فتحها ، لكن مع وجود العطر من النبي (صلی الله علیه و آله) فلا يفضل سلمان ولا الملائكة عليه عطراً آخر . والأمر المهم في الموضوع أن سلمان رضي الله عنه يعرف وقت وفاته ، ويستقبل ملائكة الموت بالعطر !

وفي الطبقات:4/92: «لما حضرته الوفاة دعاني وهو في عِلِّيَّةٍ له لها أربعة أبو أب فقال: إفتحي هذه الأبواب يا بقيرة، فإن لي اليوم زواراً لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون عليِّ ، ثم دعا بمسك له فقال أديفيه في تنور ففعلت ، ثم قال: إنضحيه حول فراشي ، ثم انزلي فامكثي ، فسوف تطلعين فتريني على فراشي . فاطلعت فإذا هو قد أخذت روحه ، فكأنما هو نائم على فراشه».

وفي رواية: يحضرني خلق من خلق الله يجدون الريح ولا يأكلون الطعام ، ثم اجفئي عليَّ الباب وانزلي . قالت: ففعلت وجلست هنيهة فسمعت هسهسة . قالت: ثم صعدت فإذا هو قد مات ».

وقد توفي سلمان في خلافة عمر ، وقيل في خلافة عثمان . (الطبقات:4/93).

ص: 325

وروى في الخرائج(2/562) «أن علياً (علیه السلام) دخل المسجد بالمدينة غداة يوم وقال: رأيت في النوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) البارحة ، وقال لي: إن سلمان توفي ، ووصاني بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، وها أنا خارج إلى المدائن لذلك .

فقال عمر: خذ الكفن من بيت المال . فقال علي (علیه السلام) : ذاك مكفيٌّ مفروغٌ منه . فخرج والناس معه إلى ظاهر المدينة ، ثم خرج وانصرف الناس ، فلما كان قبل الظهيرة رجع وقال: دفنته . وكان أكثر الناس لم يصدقوه ، حتى كان بعد مدة ووصل من المدائن مكتوب: إن سلمان توفي ليلة كذا ، ودخل علينا أعرابي فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه ، ثم انصرف ! فتعجبوا كلهم» .

وفي الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة/219، أن جابر بن عبد الله الأنصاري وغلامه قنبر ذهبا مع علي (علیه السلام) الى المدائن لتغسيل سلمان ، فدخل علي (علیه السلام) وكشف الرداء عن وجهه فتبسم سلمان وهمَّ أن يجلس ، فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام) : عد إلى موتك . فلما صلى عليه كنا نسمع تكبيراً شديداً، وكنت رأيت معه رجلين فسألته عنهما، فقال: أحدهما أخي جعفر والآخر الخضر ، ومع كل واحد منهما سبعون صفاً من الملائكة . وقد أشار إلى هذه الحكاية أبو الفضل اليمنى في قوله:

سمعت منى يسيراً من عجائبه *** وكل أمر عليٍّ لم يزل عجبا

دَرَيْتَ عن ليلةٍ سار الوصيُّ بها *** إلى المدائن لما أن لها طلبا

فألحدَ الطهرَ سلماناً وعاد إلى *** عراص يثرب والإصباح ما قربا

كآصفٍ قبل رَدِّ الطرف من سبأ *** بعرش بلقيس وافى يخرق الحجبا

أراك في آصف لم تغل فيه بلى *** بحيدر أنا غال أوردُ الكذبا !

إن كان أحمد خير المرسلين فذا *** خير الوصيين أو كل الحديث هبا).

ص: 326

حجر بن عدي الكندي رضي الله عنه

1. حجر بن عدي الكندي رضي الله عنه ، صحابيٌّ جليل ، وفارسٌ من كبار قادة الفتوحات ، كان كثير العبادة ، حتى وصفوه براهب الصحابة .

قال الحاكم في المستدرك:3/468: «ذكر مناقب حجر بن عدي رضي الله عنه ، وهو راهب أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) » .

وكان باراً بأمه محباً لها: فكان يرتب لها مكان نومها بيديه ، ثم ينام فيه ليطمئن أنه ممهد ! (تاريخ دمشق:12/212 ، ومكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا/76) .

2.كان فارساً قائداً في فتح العراق وإيران والشام ، فكان في معركة القادسية قائد الميسرة . وفي معركة فتح المدائن، ومعركة جلولاء أو خانقين . وشارك في فتح الشام ، وهو الذي فتح مرج عذراء ، الذي حبسه فيه معاوية وقتله فيه ! (المحبر/292والطبري:3/135، وابن الأعثم:1/211، والطبقات:6/217، والغارات:2/812 ) .

وفي مذيل الطبري /149: «وفد إلى النبي (صلی الله علیه و آله) مع أخيه هانئ بن عدي ، وشهد القادسية . وهو الذي افتتح مرج عذراء ».

وكان قائد الميمنة في معركة جلولاء . قال البلاذري:2/324: (فقال المسلمون: ينبغي أن نعاجلهم قبل أن تكثر أمدادهم فلقوهم وحجر بن عدي الكندي على الميمنة » . والأخبار الطوال/127 .

وفي فتح حلوان: «عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: لما قَتل معاويةُ حجرَ بن عدي الكندي ، قال أبى: لو رأى معاوية ما كان من حجر في قنطرة حلوان ، لعرف أن له غَنَاءً عظيماً عن الإسلام ». (فتوح البلاذري:2/370).

ص: 327

وجاء في معركة جلولاء الكبرى(البلاذري:2/324 ): « فلقوهم وحجر بن عدي الكندي على الميمنة، وعمرو بن معدى كرب على الخيل ، وطليحة بن خويلد على الرجال وعلى الأعاجم يومئذ خرزاد أخو رستم . فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله ، رمياً بالنبل وطعناً بالرماح حتى تقصفت ، وتجالدوا بالسيوف حتى انثنت . ثم إن المسلمين حملوا حملة واحدة قلعوا بها الأعاجم عن موقفهم وهزموهم فولوا هاربين ، وركب المسلمون أكتافهم يقتلونهم قتلاً ذريعاً.. وكانت وقعة جلولاء في آخر سنة ست عشرة ».

3. كان شجاعاً تقياً ، وظهرت له كرامات في حروبه وشهادته ، وكان أول من اقتحم بفرسه نهر دجلة العريض في فتح المدائن ، فقد طال اصطفاف المسلمين والفُرس ، وكان الفُرس على الضفة الأخرى لدجلة ، فتقدم حِجْر وقرأ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. وأقحم فرسه وهو يقول باسم الله ، فعبر وعبر المسلمون على أثره ! فلما رآهم العدو قالوا: ديوان ديوان ! يعني شياطين شياطين (ديوان: جمع دِيو: الغول) فهربوا فدخلنا عسكرهم». (كرامات الأولياء اللالكائي/152، وتفسير ابن كثير:1/419)

4. كان حِجر من كبار أصحاب علي (علیه السلام) ، وأراد أن يوليه رئاسة كندة ، ويعزل الأشعث بن قيس ، وكلاهما من ولد الحارث بن عمرو آكل المرار ، فأبى حِجر بن عدي أن يتولى الأمر والأشعث حيّ ». (الأخبار الطوال:/224).

وكان يكتب الحديث عن علي (علیه السلام) ولا يطيع أمر تحريم تدوين السنة ! «قال: ناولني الصحيفة من الكوة ، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما سمعت علي بن أبي

ص: 328

طالب يذكر: إن الطهور نصف الإيمان» . (الغارات:2/812 ) .

وكان في صفين قائد ميمنة علي (علیه السلام) :( تاريخ الطبري:4/63). وقائد قوات كندة (تاريخ خليفة146 ، والغارات:1/51) .

وهو أول من خرج لرد غارات معاوية على مسالح العراق:«وطارد الضحاك بن قيس فلحقه في تدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً ، وقُتل من أصحابه رجلان،وحال بينهم الليل فهرب الضحاك وأصحابه». ( تاريخ الطبري:4/104) .

5. كان مع بعض أصحابه يشتمون أهل الشام ، فنهاهم أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال حجر: يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك .

ففي بحار الأنوار:32/399: «روى نصر عن عبد الله بن شريك قال: خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يُظهران البراءة من أهل الشام، فأرسل علي (علیه السلام) إليهما أن كُفَّا عما يبلغني عنكما ، فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين ألسنا محقين؟ قال: بلى . قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لَعَّانين شتامين تشتمون وتبرؤون ، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا ومن أعمالهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر . وقلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: اللهم أحقن دماءهم ودماءنا ، وأصلح ذات بينهم وبيننا ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان منهم من لج به ، لكان أحب إلي وخيراً لكم . فقالا: يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدب بأدبك» .

6. وحِجْر هو الذي فضح تآمر الأشعث رئيس كندة في قتل أمير المؤمنين (علیه السلام) . ففي مقاتل الطالبيين/20: «والأشعث في بعض نواحي المسجد ، فسمع حجر بن

ص: 329

عدي الأشعث يقول لابن ملجم: النجاء النجاء لحاجتك ، فقد فضحك الصبح ، فقال له حجر: قتلته يا أعور ، وخرج مبادراً إلى علي (علیه السلام) ».

7.وكان حِجْر معتمدَ الإمام الحسن (علیه السلام) :« تحرك الحسن (علیه السلام) وبعث حجر بن عدي فأمر العمال بالمسير ، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفَّ معه أخلاط من الناس». (الإرشاد:2/10، ومقاتل الطالبيين/39) .

8. وقتله معاوية بدون أي حجة إلا تشيعه لعلي (علیه السلام) ، وبعد أن وقَّع في صلحه مع الإمام الحسن (علیه السلام) أن لايتعقب أحداً من شيعة علي (علیه السلام) .

واعترف بجريمته وقال: «ما قتلت أحداً إلا وأنا أعرف فيمَ قتلتُه وما أردت به ! ما خلا حجر بن عدي ، فإني لا أعرف فيمَ قتلته».(تاريخ دمشق:12/231)

وكان قتله في صفر سنة إحدى وخمسين هجرية: (الطبري:4/187، وتاريخ خليفة بن خياط/160، ومستدرك الحاكم:3/468، ومعارف ابن قتيبة/178).

9. وغضب الإمام الحسين (علیه السلام) لقتل حجر ، وعائشة والصحابة وأخيار الأمة . ففي الإحتجاج:2/19: «عن صالح بن كيسان قال: لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حج ذلك العام فلقي الحسين بن علي (علیه السلام) فقال:يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال (علیه السلام) : وما صنعت بهم؟قال: قتلناهم وكفناهم وصلينا عليهم! فضحك الحسين (علیه السلام) ثم قال: خَصَمَكَ القوم يا معاوية، لكننا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم ولا قبرناهم ! ولقد بلغني وقيعتك في عليٍّ وقيامك ببغضنا ، واعتراضك بني هاشم بالعيوب ، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ثم سلها الحق عليها ولها ،

ص: 330

فإن لم تجدها أعظم عيباً فما أصغر عيبك فيك، وقد ظلمناك يا معاوية فلا توترن غير قوسك ولاترمين غير غرضك ، ولاترمنا بالعداوة من مكان قريب ، فإنك والله لقد أطعت فينا رجلاً ما قدم إسلامه ولاحدث نفاقه ولا نظر لك! فانظر لنفسك أو دع». يقصد عمرو العاص ، الذي له دور أساسي في خطط معاوية !

وقالت له عائشة:«يامعاوية أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال:لست أنا قتلتهم ، إنما قتلهم من شهد عليهم»! (الطبري:4/208، والإستيعاب:1/331، وأنساب الأشراف/1265. وفي الطبقات:6/219،أن عائشة بعثت رسالة الى معاوية وأنها وصلت بعد قتله ! والروض الأنف:3/366 ، وفيه: (فقال أوَأنا؟ ! إنما قتلهم من شهد عليهم) !

يقصد بذلك شهدوا عليهم بأنهم طعنوا في معاوية وخرجوا من بيعته !

قال ابن سيرين: «أربع خصال كنَّ في معاوية ، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ! واستخلافه بعده ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير . وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : الولد للفراش وللعاهر الحجر . وقتله حجراً وأصحاب حجر ، فيا ويلاً له من حجر ! ويا ويلاً له من أصحاب حجر » . (الطبري:4/208).

10. كان الربيع بن زياد المذحجي من القادة أبطال الفتح ، وهو يشبه حجر بن عدي الكندي رضي الله عنهما ، وعندما قتل حجر كان حاكم خراسان .

قال ابن سعد في الطبقات(6/159): «وكان عمر يقول: دلوني على رجل إذا كان في القوم وهو أمير ، فكأنه ليس بأمير ، وإذا كان فيهم وهو غير أمير فكأنه أمير . فقالوا: ما نعلمه إلا الربيع بن زياد بن أنس ، وكان متواضعاً خيراً ، وقد ولي

ص: 331

خراسان ، وفتح عامتها ».

وقد نزل عليه قتل حجر بن عدي كالصاعقة ، فقال: ذلت العرب بعد قتل حجر صبراً ! قال الطبري:4/216: « فقال:لاتزال العرب تُقتل صبراً بعده ، ولو نَفَرَتْ عند قتله لم يقتل رجل منهم صبراً ، ولكنها أقرت فذلت ! فمكث بعد هذا الكلام جمعة ، ثم خرج في ثياب بياض في يوم جمعة فقال: أيها الناس إني قد مللت الحياة ، وإني داع بدعوة فأمنوا . ثم رفع يده بعد الصلاة وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك عاجلاً ، وأمَّن الناس ، فخرج فما توارت ثيابه حتى سقط ، فحمل إلى بيته واستخلف ابنه عبد الله ، ومات من يومه».

11. وكان حجرٌ يردد عند موته الحديث النبوي: الموت في حب علي (علیه السلام) شهادة ! ففي مختصر أخبار الشعراء للمرزباني/49: «لما قَدِمَ حجر عذراء قال:ماهذه القرية؟ فقيل: عذراء . فقال: الحمد لله ، أما والله إني لأول مسلم ذكر الله فيها وسجد ، وأول مسلم نبح عليه كلابها في سبيل الله ، ثم أنا اليوم أحمل إليها مصفداً في الحديد ! ثم قال حجر للذي أمر بقتلهم: دعني أصلي ركعتين خفيفتين ، فلما سلم انفتل إلى الناس فقال: لولا أن يقولوا جزع من الموت لأحببت أن يكونا أنفس مما كانتا وأيم الله لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني ما هاتان بنافعتيَّ شيئاً ، ثم أخذ ثوبه فتحزَّم به ، ثم قال لمن حوله من أصحابه: لاتحلوا قيودي فإني أجتمع ومعاوية على هذه المحجة ! ثم مشى إليه هدبة الأعور بالسيف ، فشخص إليه حجر فقال: ألم تقل إنك لم تجزع من الموت؟ فقال: أرى كفناً منشوراً ، وقبراً محفوراً ، وسيفاً مشهوراً ، فما لي لا أجزع ! أما والله لئن جزعت لا أقول ما يسخط الرب ! فقال له: فابرأ من علي وقد أعدَّ لك معاوية جميع ما

ص: 332

تريد إن فعلت ! فقال: ألم أقل إني لاأقول مايسخط الرب ! والله لقد أخبرني حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بيومي هذا ! ثم قال: إن كنت أمرت بقتل ولدي فقدمه ، فقدمه فضربت عنقه ، فقيل له: تعجلت الثكل ! فقال: خفت أن يرى هوْل السيف على عنقي فيرجع عن ولاية علي (علیه السلام) فلا نجتمع في دار المقامة التي وعدها الله الصابرين !

ولما حمل عبد الرحمن بن حسان العنزي ، وكريم بن عفيف الخثعمي ، وكانا من أصحابه ، قال العنزي: يا حجر لاتُبعد ولايبعد ثوابك ، فنعم أخو الإسلام كنت . وقال الخثعمي:ياحجر لاتُبعد ولاتُفقد، فلقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ثم ذهب بهما فأتبعهما حجر بصره ، وقال:

كفى بشَفَاةِ القبر بعداً لهالكٍ وبالموت قطَّاعاً لحبل القرائن

ثم التفت إلى بقية أصحابه فرأى منهم جزعاً ، فقال: قال لي حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله) : يا حجر تقتل في محبة عليٍّ صبراً ، فإذا وصل رأسك إلى الأرض مادت وأنبعت عين ماء فتغسل الرأس! فإذا شاهدتم ذلك فكونوا على بصائركم ، وقدم فضربت عنقه فلما وصل رأسه إلى الأرض مادت من تحته وأنبعت عين ماء فغسلت الرأس ! قال: فجعل أصحابه يتهافتون إلى القتل فقال لهم أصحاب معاوية: يا أصحاب علي ، ما أسرعكم إلى القتل ! فقالوا: من عرف مستقره سارع إليه » !

وعندما كان محبوساً في بستان في مرج عذراء أصابته جنابة ، فقال للسجان أعطني من الماء شرابي اليوم وغداً لأتطهر به، ولا أطلب منك شيئاً . قال: أخاف أن تموت عطشاً فيقول معاوية أنت قتلته ! قال: فبنى حِجْر حِجَاراً (حوضاً) ودعا الله فأسكبت سحابة فصبت من الماء ما أراد ، فتطهر حجر ! فقال له بعض أصحابه: لو دعوت الله أن يخلصنا لفعل ! فقال حجر: اللهم خِرْ لنا ،

ص: 333

ثلاثاً » . (فيض القدير:4/166، والغارات:2/812 ، ومختصر أخبار شعراء الشيعة/49):

وقيل إن شجر ذلك البستان جفَّت من يوم شهادته ! (شرح الأخبار:2/171).

12. وقُتل مع حِجْر خمسة من أصحابه ضربت أعناقهم رضي الله عنهم وهم: شريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ضبيعة العبسي ، ومحرز بن شهاب السعدي ثم المنقري ، وكدام بن حيان العنزي . أما السابع عبد الرحمن بن حسان العنزي ، فأعاده معاوية إلى زياد بن أبيه ، وأمره أن يدفنه حياً في الكوفة ليرهب به الناس !

وتوسط لهم الصحابة وزعماء القبائل والشخصيات ، فلم يقبل معاوية وساطتهم إلا في سبعة فأطلقهم ، وهم: كريم بن عفيف الخثعمي ، وعبد الله بن حوية التميمي ، وعاصم بن عوف البجلي ، وورقاء بن سمي البجلي ، والأرقم بن عبد الله الكندي ، وعتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر، وسعيد بن نمران الهمداني» . (تاريخ دمشق:8/27)

13. وقد أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) بأن حجر بن عدي سيقتل ويغضب الله له روت عائشة كما في تاريخ دمشق:12/226: «عن أبي الأسود قال: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل حجر وأصحابه؟ فقال: يا أم المؤمنين أني رأيت قتلهم صلاحاً للأمة وأن بقاءهم فساد للأمة!فقالت:سمعت رسول الله يقول: سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم أهل السماء». وفيض القدير:4/166.

وفي تاريخ دمشق:12/227: «عن ابن زرير الغافقي عن علي (علیه السلام) قال: يا أهل الكوفة ، سيقتل فيكم سبعة نفر خياركم ، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود ».

ص: 334

وقال حجر: «قال لي علي (علیه السلام) :كيف تصنع أنت إذا ضربت وأمرت بلعنتي؟قلت له: كيف أصنع؟ قال: إلعني ولا تبرأ مني فإني على دين الله». (البحار:39/324) .

14. أرسل اليه معاوية مجرماً كبيراً فأحضره اليه ثم قتله ! «سمعت أبا داود قال: قتل حجر بن عدي على يدي أبي الأعور السلمي». (سؤالات الآجري:1/331)

وفي تاريخ الطبري:4/190: «فشُدَّ في الحديد ثم حُمل إلى معاوية ، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فقال له معاوية: أمير المؤمنين ! أما والله لا أقيلك ولا أستقيلك ، أخرجوه فاضربوا عنقه ! فأخرج من عنده ، فقال حجر للذين يلون أمره: دعوني حتى أصلي ركعتين فقالوا: صَلِّهْ فصلى ركعتين خفف فيهما ، ثم قال: لولا أن تظنوا بي غير الذي أنا عليه ، لأحببت أن تكونا أطول مما كانتا ، ولئن لم يكن فيما مضى من الصلاة خير فما في هاتين خير . ثم قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عني حديداً ولا تغسلوا عني دماً فإني ألاقي معاوية غداً على الجادة ، ثم قدم فضربت عنقه».

معناه أن حجر قال له إني بايعتك بأمر الإمام الحسن (علیه السلام) ولم أنقض بيعتي ، وقد افترى عليَّ عاملك على الكوفة وقال إنه نقض بيعتك ! فقال له معاوية: لا أقبل منك وسأقتلك !

15. وأصيب معاوية بالهلوسة قبل موته ، فكان يهذي باسم علي (علیه السلام) ، وحجر، وعمرو بن الحمق . قال ابن الأعثم في الفتوح:4/344: «وجعل معاوية يبكي لما قد نزل به...وكان في مرضه يرى أشياء لاتسره ! حتى كأنه ليهذي هذيان المدنف وهو يقول: إسقوني إسقوني فكان يشرب الماء الكثير فلا يروى ! وكان ربما غُشيَ عليه اليوم واليومين ، فإذا أفاق من غشوته ينادي بأعلى صوته: ما لي ومالك يا

ص: 335

حجر بن عدي!مالي وما لك يا عمرو بن الحمق! مالي ومالك يا ابن أبي طالب»!

وقال الطبري في تاريخه:4/191:«قال ابن سيرين: بلغنا أنه لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالموت وهو يقول: يومي بك ياحجر يوم طويل». ونهاية الإرب/4459.

16. ووقد حاول معاوية وواليه أن يلعن حِجْرٌ علياً (علیه السلام) ويتبرأ منه فلم يفعل، ففي شرح النهج:4/58: «وأمر المغيرة بن شعبة وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية ، حجرَ بن عدي أن يقوم في الناس فليلعن علياً ! فأبى ذلك فتوعده فقام فقال: أيها الناس ، إن أميركم أمرني أن ألعن علياً فالعنوه ! فقال أهل الكوفة: لعنه الله ، وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد ».

وفي رجال الكشي:1/319 ، أنه قال مثل ذلك عندما طلب منه حاكم اليمن أن يلعن علياً (علیه السلام) في صنعاء ! وفي الغدير:9/119: «قاموا إليهم فقالوا: تبرؤون من هذا الرجل؟ قالوا: بل نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ منه . فأخذ كل رجل منهم رجلاً وأقبلوا يقتلونهم واحداً واحداً، حتى قتلوا ستة».(الطبري:6/141،والنهاية: 7/49).

17. وأوصى حجر أن يدفنوه بثيابه ودمائه ، ليخاصم معاوية وهو مضرج بدمه ففي مصنف ابن أبي شيبة:3/139: «قال حجر بن عدي لمن حضره من أهل بيته: لا تَغْسلوا عني دماً ، ولا تُطلقوا عني حديداً ، وادفنوني في ثيابي ، فإني ألتقي أنا ومعاوية على الجادة غداً !». ( ونحوه في تاريخ دمشق:12/225 ، والطبقات: 6/219).

وبعد أن قتل معاوية حجراً ، أمر عامله فهدم داره بالكوفة! (الطبري:4/536).

18. كان حجر رئيس قبائل كندة ، أو في مرتبة رئيسها ، وقد تحمل الإضطهاد أو القتل معه عدد من أصحابه من رؤساء القبائل وشخصيات الإسلام

ص: 336

وفرسانه ، الذين فتحوا العراق والشام ، فمنهم مثلاً: «سعيد بن نمران الهمداني الناعطي، كان كاتباً لعلي (علیه السلام) وأدرك من حياة النبي (صلی الله علیه و آله) أعواماً وشهد اليرموك ، وسار إلى العراق مدداً لأهل القادسية ، وكان من أصحاب حجر بن عدي ، وسيَّره زياد مع حجر إلى الشام ، فأراد معاوية قتله مع حجر ، فشفع فيه حمزة بن مالك الهمداني فخلى سبيله». (أسد الغابة:2/316).

وكفى بذلك دليلاً على اضطهاد قادة الفتح وفرسانه بيد الحكام السياسيين والإداريين ، فالعسكريون يضحون ويحققون النصر للمسلمين ويفتحون البلاد ، ويسلمونها الى الخليفة ، فيسلمها الى أناس يختارهم لإدارتها ، وهم عادة من أجبن الناس وأبعدهم عن الجهاد والفروسية وأخلاقها ، فيصادرون جهود غيرهم ، ويضطهدونهم ، ثم يزعمون أنهم هم الذين جاهدوا وفتحوا !

وقد كان لاعتقال حِجْرٍ وسجنه ثم قتله تأثير كبير على المجتمع الإسلامي آنذاك ، رغم سيطرة معاوية . وقد روى الطبري:4/191، والبلاذري في أنساب الأشراف/1256، وغيرهما مواقف حجر مع حاكم الكوفة المغيرة بن شعبة ، ومع ابن زياد ، وتفاصيل حملة اعتقاله وأصحابه ، وتسفيرهم الى الشام ، وما كذبوه عليهم .

وقال الشعراء كثيراً في رثاء حجر الشهيد رضي الله عنه ، ورووا قصائد عديدة في أمهات المصادر كالطبري وابن عساكر . وقال ابن سعد:6/220: «وقد كانت هند بنت زيد الأنصارية ، وكانت شيعية ، قالت حين سير بحجر إلى معاوية:

ترفع أيها القمر المنيرُ *** ترفع هل ترى حجراً يسيرُ

يسير إلى معاوية بن حرب *** ليقتله كما زعم الخبير

تجبرت الجبابر بعد حجر *** وطاب لها الخورنق والسدير

وأصبحت البلاد له محولا *** كأن لم يحيها يوما مطير..الخ).

ص: 337

حذيفة بن اليمان أمين سرّ رسول الله (صلی الله علیه و آله)

1. عُرِفَ حذيفة رضي الله عنه بأنه صاحب سِرِّ النبي (صلی الله علیه و آله) علَّمه بعض المغيبات وأسماء المنافقين، خاصة الصحابة الذين حاولوا اغتياله (صلی الله علیه و آله) ليلة العقبة في طريق رجوعه من تبوك . وقد سئل أمير المؤمنين (علیه السلام) عن حذيفة كما في الإحتجاج(1/388) ، فقال: «ذاك امرؤٌ عُلِّم أسماء المنافقين ، إن تسألوه عن حدود الله تجدوه بها عالماً» .

وفي تاريخ دمشق:12/275: «امرؤ عُلِّمَ المعضلات».

وأضاف فيه في تاريخ دمشق:12/275، و:21/422: «وسأل عن المعضلات حين غُفل عنها، فإن تسألوه تجدوه بها عالماً . قالوا:فحدثنا عن سلمان؟ قال: من لكم بمثل لقمان الحكيم ! ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت ، أدرك العلم الأول وعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، بحر لا ينزف ».

وفي أمالي الطوسي/222، قال حذيفة: «إن الناس كانوا يسألون رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن الخير ، وكنت أساله عن الشر ، فأنكر ذلك القوم عليه فقال: سأحدثكم بما أنكرتم: إنه جاء أمر الإسلام ، فجاء أمر ليس كأمر الجاهلية ، وكنت أعطيت من القرآن فقهاً ، وكانوا يجيئون فيسألون النبي (صلی الله علیه و آله) فقلت أنا: يا رسول الله ، أيكون بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم . قلت: فما العصمة منه . قال: السيف . قال: قلت: وهل بعد السيف بقية؟ قال: نعم ، تكون إمارة على إقذاء وهدنة على دخن . قال: قلت: ثم ماذا ؟ قال: ثم تفشو دعاة الضلالة ، فإن رأيت يومئذ خليفة عدل فالزمه ، وإلا فمت عاضاً على جذل شجرة » .

ص: 338

وفي صحيح البخاري:4/178و:8/93، قال: «كان الناس يسألون رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاء نا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم . قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم ، وفيه دُخْن . قلت: وما دُخْنُهُ؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر . قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟قال: نعم ، دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ! قلت: يا رسول الله صفهم لنا . فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا » !

وفي كتاب الفتن لابن حماد/17: «قلت: وما دُخْنُه ؟ قال قوم يستنون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر » .

2. وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على صحابي مات إلا إذا صلى عليه حذيفة ، ففي سنن البيهقي: 8/200: « كان عمر بن الخطاب في خلافته إذا مات رجل يظن أنه من أولئك الرهط ، أخذ بيد حذيفة فاقتاده إلى الصلاة عليه ، فإن مشى معه حذيفة صلى عليه ، وإن انتزع حذيفة يده فأبى أن يمشي معه ، انصرف عمر معه فأبى أن يصلي عليه ».

وفي شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي:1/44: «كان عمر لا يصلي على ميت حتى يصلي عليه حذيفة ، يخشى أن يكون من المنافقين » .

وذكر ابن كثير في السيرة النبوية:4/35، أن عمر سأل حذيفة عن نفسه هل هو من المنافقين ! قال: «وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال

ص: 339

لحذيفة: أقسمت عليك بالله أأنا منهم؟ قال: لا. ولا أبرى بعدك أحداً . يعني حتى لا يكون مفشياً سر النبي (صلی الله علیه و آله) ».

أقول: لقد استفاد عمر من علم حذيفة بالمنافقين والفتن استفادةً محدودة جداً وكذلك فعل أبو بكر وعثمان ، وهذا لايتناسب مع عقيدتهم وإجماعهم على أن حذيفة خبير بالمنافقين وبالفتن، وموثقٌ من النبي (صلی الله علیه و آله) ، فكان يجب عليهم الإستفادة من علمه الخطير ، وسؤاله عن المنافقين لاستبعادهم عن مناصب الدولة ، وعن الفتن لتوقي ما يمكن توقيه منها ! فلماذا يا ترى لم يفعلوا ذلك ؟

الجواب: أنه لايناسبهم العمل بعلمه لأن رأيه منحاز لعلي وعترة النبي (صلی الله علیه و آله) يرى أنهم ورثة علم النبي (صلی الله علیه و آله) الذي لاتنجو الأمة بدونه ، وأنهم أولياء الأمة وأئمتها بأمر الله تعالى ، ولانجاة من المنافقين والفتن والضلال إلا بتسليم قيادتها لهم وطاعتهم .

قال الباحث حسن بن فرحان المالكي في كتابه: نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي/184: «كما أنه من المعلوم أن أعلم الناس بالفتنة حذيفة بن اليمان ، وقد أوصى باتباع علي في الفتنة ، ولم يأمر بالإعتزال . فكان يقول: « عليكم بالطائفة التي تدعو إلى أمر علي بن أبي طالب فإنها على الحق » رواه البزار وصححه الحافظ ابن حجر . وحذيفة أعلم بالفتن من المعتزلين ، بل هو أعلم الصحابة مطلقاً بأخبار الفتن وما يجب فيها ».

3. اشتهر حذيفة بتشيعه لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وهو أحد الأركان الأربعة للتشيع الذين ثبتوا مع أمير المؤمنين (علیه السلام) واستعدوا للموت في مواجهة مؤامرة السقيفة .

ص: 340

قال العلامة في الخلاصة/131: «حذيفة بن اليمان العبسي (رحمة الله) عداده في الأنصار ، أحد الأركان الأربعة ، من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) ».

وروى عنه في الكافي:8/32 ، أن أمير المؤمنين (علیه السلام) خطب بعد السقيفة خطبة بليغة ، جاء فيها: «أيها الأمة التي خُدعت فانخدعت ، وعرفت خديعة من خدعها فأصرت على ما عرفت ، واتبعت أهواءها ، وضربت في عشواء غوايتها ، وقد استبان لها الحق فصدت عنه ، والطريق الواضح فتنكبته...

والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد علمتم أني صاحبكم والذي به أمرتم ، وأني عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ، ووصي نبيكم وخيرة ربكم ولسان نوركم ، والعالم بما يصلحكم ، فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وُعدتم ، وما نزل بالأمم قبلكم ، وسيسألكم الله عز وجل عن أئمتكم ، معهم تحشرون وإلى الله عز وجل غداً تصيرون... قال ثم خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة ، فقال: والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله (صلی الله علیه و آله) بعدد هذه الشياه لأزلت أبن آكلة الذبان عن ملكه . قال: فلما أمسى بايعه ثلاث مائة وستون رجلاً على الموت ، فقال لهم أمير المؤمنين (علیه السلام) : أغدوا بنا إلى أحجار الزيت مُحَلِّقِين، وحَلَقَ أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فما وافى من القوم محلقاً إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ، وجاء سلمان في آخر القوم .

فرفع يده (علیه السلام) إلى السماء فقال: اللهم إن القوم استضعفوني ، كما استضعفت بنو إسرائيل هارون ، اللهم فإنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى عليك شئ في الأرض ولا في السماء ، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين ».

ص: 341

وأحاديث تشيع حذيفة رضي الله عنه، وتشدده في التشيع ، كثيرة تزيد على مئة حديث ، وفيها متواتر ، وقد روت مصادر الطرفين عدداً منها!

فمن ذلك ما رواه محمد بن سليمان في المناقب:1/222 ، بسنده عن ربيعة السعدي ، وروته مصادر الطرفين ، قال ربيعة: « أتيت حذيفة بن اليمان فقلت: يا أبا عبد الله إنا نتحدث في علي وفي مناقبه فيقول لنا أهل البصرة: إنكم لتفرطون في علي وفي مناقبه ، فهل أنت تحدثني في علي بحديث ؟ فقال حذيفة: يا ربيعة إنك لتسألني عن رجل والذي نفسي بيده لو وضع عمل جميع أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) في كفة الميزان من يوم بعث الله محمداً إلى يوم الناس هذا ، ووضع عمل علي يوماً واحداً في الكفة الأخرى، لرجح عمله على جميع أعمالهم!

فقال ربيعة: هذا الذي لا يقام له ولا يقعد ! فقال حذيفة: وكيف لا يُحتمل هذا يا ملكعان (يا أحمق) ! أين كان أبو بكر وعمر وحذيفة ثكلتك أمك ، وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود ينادي للمبارزة؟ فأحجم الناس كلهم ما خلا علياً فقتله الله على يديه ؟! والذي نفسي بيده لعمله ذلك اليوم أعظم عند الله من جميع أعمال أمة محمد (صلی الله علیه و آله) إلى يوم القيامة » .

ومن ذلك: فرحته قبل أن يموت لما بلغه بيعة المسلمين لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، فخطب خطبة بليغة صريحة ، روى منها في مروج الذهب:2/383، فقال: «وقد كان حذيفة عليلاً بالكوفة في سنة ست وثلاثين ، فبلغه قتل عثمان وبيعة الناس لعلي فقال: أخرجوني وادعوا الصلاةَ جامعةً فوضع على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وعلى آله ، ثم قال:

ص: 342

أيها الناس، إن الناس قد بايعوا علياً فعليكم بتقوى الله وانصروا علياً ووازروه فو الله إنه لعلى الحق آخراً وأولًا ، وإنه لخير من مضى بعد نبيكم ومن بقي الى يوم القيامة ، ثم أطبق يمينه على يساره ثم قال: اللهم اشهد إني قد بايعت علياً ، وقال: الحمد لله الذي أبقاني الى هذا اليوم . وقال لابنيه صفوان وسعد: إحملاني وكونا معه ، فستكون له حروب كثيرة فيهلك فيها خلق من الناس ، فاجتهدا أن تستشهدا معه ، فإنه والله على الحق ومن خالفه على الباطل . ومات حذيفة بعد هذا اليوم بسبعة أيام ، وقيل: بأربعين يوماً ».

وروى هذه الخطبة بتفصيلها الديلمي في إرشاد القلوب:2/323: وفيها: «صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على محمد وآل محمد ، ثم قال: الحمد لله الذي أحيا الحق وأمات الباطل وجاء بالعدل ودحض الجور وركبت الظالمين .

أيها الناس إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقاً حقاً، وخير من نعلمه بعد نبينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأولى الناس بالناس، وأحقهم بالأمر ، وأقربهم إلى الصدق وأرشدهم إلى العدل ، وأهداهم سبيلاً ، وأدناهم إلى الله وسيلة وأقربهم برسول الله (صلی الله علیه و آله) رحماً . أنيبوا إلى طاعة أول الناس سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأصدقهم طريقة ، وأسبقهم إيماناً ، وأحسنهم يقيناً ، وأكثرهم معروفاً ، وأقدمهم جهاداً ، وأعزهم مقاماً...

فقام الناس بأجمعهم فبايعوا أمير المؤمنين (علیه السلام) بأحسن بيعة وأجمعها .

فلما استتمت البيعة ، قام إليه فتى من أبناء العجم وولاة الأنصار لمحمد بن عمارة بن التيهان أخي أبي الهيثم بن التيهان ، يقال له مسلم متقلداً سيفاً ، فناداه

ص: 343

من أقصى الناس: أيها الأمير ، إنا سمعناك تقول في أول كلامك إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقاً حقاً ، تعريضاً بمن كان قبله من الخلفاء أنهم لم يكونوا أمراء المؤمنين حقاً ، فعرِّفنا ذلك أيها الأمير رحمك الله ، ولا تكتمنا ، فإنك ممن شهد وغبنا ، ونحن مقلدون ذلك في أعناقكم ، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لأمتكم ، وصدق الخبر عن نبيكم (صلی الله علیه و آله) .

قال حذيفة: أيها الرجل ، أما إذا سألت وفحصت هكذا فاسمع وافهم ما أخبرك به . أما من تقدم من الخلفاء قبل علي بن أبي طالب ممن تسمى بأمير المؤمنين ، فإنهم تسموا بذلك ، وسماهم الناس به .

وأما علي بن أبي طالب (علیه السلام) فإن جبرائيل سماه بهذا الإسم عن الله تعالى وشهد له الرسول (صلی الله علیه و آله) عن جبرائيل بإمرة المؤمنين ، وكان أصحاب رسول الله يدعونه في حياة رسول الله بأمير المؤمنين . قال الفتى: أخبرنا كيف كان ذلك ، يرحمك الله.

قال حذيفة... وذكر حديث النبي (صلی الله علیه و آله) في ذلك وهو طويل وفيه موقف أبي بكر وعمر وأبي عبيدة من أمر النبي (صلی الله علیه و آله) .. وقال للفتى: هذه أنباء ما سألتني عنه .

فقال الفتى: لا جزى الله الذين شاهدوا رسول الله (صلی الله علیه و آله) وسمعوه يقول هذا القول في عليٍّ ، خيراً ، فقد خانوا الله ورسوله وأزالوا الأمر عمن رضي به الله وأقروه فيمن لم يره الله ولارسوله لذلك أهلاً ، لا جرم والله لن يفلحوا بعدها أبداً ! ونزل حذيفة عن منبره فقال: يا أخا الأنصار إن الأمر كان أعظم مما تظن! إنه عزب والله البصر، وذهب اليقين، وكثر المخالف، وقل الناصر لأهل الحق !

ص: 344

فقال له الفتى: فهلا انتضيتم أسيافكم ووضعتموها على رقابكم ، وضربتم بها الزائلين عن الحق قدماً قدماً حتى تموتوا ، أو تدركوا الأمر الذي تحبونه من طاعة الله عز وجل ، وطاعة رسوله (صلی الله علیه و آله) ؟

فقال له: أيها الفتى إنه أُخذ والله بأسماعنا وأبصارنا وكرهنا الموت ، وزينت عندنا الحيرة وسبق علم الله بإمرة الظالمين ، ونحن نسأل الله الصفح لذنوبنا ، والعصمة فيما بقي من آجالنا ، فإنه مالك رحيم .

ثم انصرف حذيفة إلى منزله وتفرق الناس .

ثم قال الراوي وهو عبد الله بن سلمة: فبينما أنا ذات يوم عند حذيفة أعوده في مرضه الذي مات فيه وقد كان يوم قدمت فيه من الكوفة وذلك من قبل قدوم علي (علیه السلام) إلى العراق ، فبينما أنا عنده إذ جاء الفتى الأنصاري فدخل على حذيفة فرحب به..ثم ذكر حديث حذيفة مع الفتى الأنصاري ، وهو طويل وفيه حقائق كثيرة عن إخبار النبي (صلی الله علیه و آله) بما يجري بعده على علي والعترة (علیهم السلام) ، وإتمامه الحجة على المخالفين لهم .

4. وكان حذيفة رضي الله عنه يستعمل أسلوب المدارة والتقية ، مع الحاكم ، روى عنه ذلك الموالون والمخالفون ، قال الذهبي في سيره:2 /361: « حذيفة بن اليمان ، من نجباء أصحاب محمد ، وهو صاحب السر... كان يقول: ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا قد اشترى بعض دينه ببعض ! قالوا: وأنت ؟ قال: وأنا والله » ! إني لأدخل على أحدهم وليس أحد إلا فيه محاسن ومساوئ

ص: 345

فأذكر من محاسنه ، وأعرض عما سوى ذلك ، وربما دعاني أحدهم إلى الغداء فأقول: إني صائم ، ولست بصائم ».

ومعنى شراء بعض دينه ببعض: أنه كان يكتم أحاديث النبي (صلی الله علیه و آله) ويكتم رأيه في الحاكم الذي يعتقد بنفاقه ، حتى لا يعاديه ويمنعه من خدمة الإسلام وأمته ، وقيادة معارك الفتوحات ! ويدل قوله (رحمة الله) إنه صائم وليس بصائم، على أنه يرى جواز الكذب للتخلص من أكل الحرام أو المشبوه .

قال السرخسي في المبسوط:24/46: «وقد كان حذيفة رضي الله عنه ممن يستعمل التقية على ما روى أنه يداري رجلاً فقيل له إنك منافق ! فقال: لا ، ولكني أشتري ديني بعضه ببعض ، مخافة أن يذهب كله ».

وقال السرخسي:30/214: «عن النزال بن سيدة قال: جعل حذيفة يحلف لعثمان رضي الله عنه على أشياء بالله ما قالها ، وقد سمعناه يقولها ، فقلنا له: يا أبا عبد الله سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها ، وقد سمعناك قلتها ! فقال: إني أشتري ديني بعضه ببعض، مخافة أن يذهب كله . وإن حذيفة رضي الله عنه من كبار الصحابة ، وكان بينه وبين عثمان رضي الله عنه بعض المداراة ، فكان يستعمل معاريض الكلام فيما يخبره به ويحلف له عليه ، فلما أشكل على السامع سأله عن ذلك فقال: إني اشترى ديني بعضه ببعض ، يعني أستعمل معاريض الكلام على سبيل المداراة ، أو كأنه كان يحلف ما قالها ويعنى ما قالها في هذا المكان ، أو في شهر كذا..فهذا ونحوه من باب استعمال المعاريض ».

ص: 346

ومعنى المعاريض: التورية تقيةً وتخلصاً من الكذب ، لكن الظاهر من كلام حذيفة أنه يستحل الكذب للضرورة ، وأن الضرورة عنده واسعة ، فهي تشمل التعايش مع الحاكم ومدحه لأغراض دينية .

ومع أن علاقة حذيفة مع الخلفاء كانت جيدة ، وكانوا يحترمونه احتراماً خاصاً ، فقد كان بعضهم يتجسس عليه لينم عليه عند الخليفة .

روى الترمذي:3/253: « عن همام بن الحارث قال: مر رجل على حذيفة بن اليمان فقيل له هذا يبلغ الأمراء الحديث عن الناس ، فقال حذيفة: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: لا يدخل الجنة قَتَّات » . أي جاسوس نمام.

وقد وصف حذيفة تسلط المنافقين بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) .

قال البخاري في صحيحه:8/100: «عن حذيفة بن اليمان قال: إن المنافقين اليوم شرٌّ منهم على عهد النبي (صلی الله علیه و آله) ، كانوا يومئذ يُسِرُّون ، واليوم يجهرون » !

وفي صحيح البخاري: 4/34: «ابتلينا حتى أن الرجل ليصلى وحده وهو خائف».

وفي صحيح مسلم:1/91: «فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سراً ».

وقال ابن حجر في شرحه في فتح الباري:6/124: «وأما قول حذيفة: فلقد رأيتنا ابتلينا إلى آخره ، فيشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان من ولاية بعض أمراء الكوفة كالوليد بن عقبة ، حيث كان يؤخر الصلاة أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلي وحده سراً أ ثم يصلي معه خشية من وقوع الفتنة.وقيل كان ذلك حين أتم عثمان الصلاة في السفر أ وكان بعضهم يقصر سراً وحده أ خشية الإنكار » .

ص: 347

أقول: يدل قول حذيفة على أن تحريف الحكام وصل في عهده الى الوضوء والصلاة !

ولا ننس أن حذيفة من كبار الفقهاء ، فقد اختصم جيرانٌ في ملكية جدار قصب بينهم فبعثه النبي (صلی الله علیه و آله) ليقضي بينهم ، فقضى أن معاقد القصب من جهة أحدهم أمارة على ملكيته ، فأمضى ذلك النبي (صلی الله علیه و آله) وصار قاعدة في أمارات اليد والملكية . (العروة الوثقى:6/649، ومغني ابن قدامة:5/43)

5. قال حذيفة إن النبي (صلی الله علیه و آله) حَذَّرَ من اثني عشر إماماً ، وبَشَّرَ باثني عشر إماماً ! روى ابن حماد في كتاب الفتن/15، عن حذيفة قال: «ما من صاحب فتنة يبلغون ثلاث مائة إنسان إلا ولو شئت أن أسميه باسمه واسم أبيه ومسكنه إلى يوم القيامة ، كل ذلك مما علمنيه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ».

وقال كما في صحيح مسلم:8/122، قال النبي (صلی الله علیه و آله) : « في أصحابي اثنا عشر رجلاً منافقاً لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ».

وفي كفاية الأثر/136، قال: «صلى بنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم أقبل بوجهه الكريم علينا فقال: معاشر أصحابي أوصيكم بتقوى الله والعمل بطاعته ، فمن عمل بها فاز وغنم ، ومن تركها حلت به الندامة ، فالتمسوا بالتقوى السلامة من أهوال يوم القيامة ، فكأني أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا ، ومن تمسك بعترتي من بعدي كان من الفائزين ، ومن تخلف عنهم كان من الهالكين . فقلت: يا رسول الله على من تخلفنا؟ قال: على من خلف موسى بن عمران قومه؟ قلت: على وصيه يوشع بن

ص: 348

نون . قال: فإن وصي وخليفتي من بعدي علي بن أبي طالب ، قائد البررة وقاتل الكفرة ، منصور من نصره مخذول من خذله .

قلت: يا رسول الله فكم يكون الأئمة من بعدك؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين ، أعطاهم الله علمي وفهمي...ثم رفع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يده إلى السماء ودعا بدعوات فسمعته فيما يقول: اللهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي ، وفي زرعي وزرع زرعي» .

6. كان حذيفة (رحمة الله) يخبر المسلمين بغرائب ستحدث ، فيدهشون ويتحيرون ، فقد روى ابن حماد بسند صحيح عندهم في كتابه الفتن/45، أن حذيفة قال:« لو حدثتكم أن أمكم تغزوكم أتصدقوني ؟ قالوا أو حق ذلك ؟ قال حق » !

وفي إرشاد القلوب/337: عن حذيفة قال: « أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) خادمةً لأم سلمة فقال: إجمعي لي هؤلاء يعني نساءه ، فجمعتهن له في منزل أم سلمة ، فقال لهن: إسمعن ما أقول لكن ، وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب ، فقال لهن: هذا أخي ووصيي ووارثي ، والقائم فيكن وفي الأمة من بعدي ، فأطعنه فيما يأمركن به ، ولا تعصينه فتهلكن لمعصيته . ثم قال: يا علي أوصيك بهن ، فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك ، وأنفق عليهن من مالك ، وأمرهن بأمرك ، وانههن عما يريبك ، وخل سبيلهن إن عصينك . فقال علي (علیه السلام) : يا رسول الله إنهن نساء وفيهن الوهن وضعف الرأي . فقال (صلی الله علیه و آله) : إرفق بهن ما كان الرفق أمثل ، فمن عصاك منهن فطلقها طلاقاً يبرأ الله ورسوله منها . قال: كل نساء النبي (صلی الله علیه و آله) قد صمتن فما يقلن شيئاً ، فتكلمت عائشة فقالت: يا رسول الله ما كنا لتأمرنا بشئ فنخالفه

ص: 349

إلى ما سواه ! فقال لها: بلى قد خالفت أمري أشد خلاف ! وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصينه بعدي،ولتخرجين من البيت الذي خلفتك فيه متبرجة فيه ، قد حف بك فئامٌ من الناس ، فتخالفينه ظالمة له عاصية لربك ولتنبحنك في طريقك كلاب الحوأب. ألا أن ذلك كائن! ثم قال:قمن فانصرفن إلى منازلكن. فقمن فانصرفن » !

وفي أمالي المفيد/58: «سمعت حذيفة بن اليمان قبل أن يقتل عثمان بن عفان بسنة وهو يقول: كأني بأمكم الحميراء قد سارت ، يساق بها على جمل وأنتم آخذون بالشوى والذنب ، معها الأزد أدخلهم الله النار ، وأنصارها بنوضبة جذَّ الله أقدامهم ! قال: فلما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادي أمير المؤمنين صلوات الله عليه: لا يبدأنَّ أحد منكم بقتال حتى آمركم . قال: فرموا فينا فقلنا: يا أمير المؤمنين قد رمينا ، فقال: كُفُّوا ، ثم رمونا فقتلوا منا ، قلنا يا أمير المؤمنين قد قتلونا ، فقال: إحملوا على بركة الله . قال: فحملنا عليهم فأنشب بعضنا في بعض الرماح حتى لو مشى ماش لمشي عليها ، ثم نادي منادي علي: عليكم بالسيوف فجعلنا نضرب بها البيض فتنبوا لنا ، فنادى منادي أمير المؤمنين:عليكم بالأقدام . قال: فما رأينا يوماً كان أكثر قطع أقدام منه .

قال: فذكرت حديث حذيفة أنصارها بنو ضبة جذَّ الله أقدامهم فعلمت أنها دعوة مستجابة . ثم نادى منادي أمير المؤمنين (علیه السلام) : عليكم بالبعير فإنه شيطان . قال: فعقره رجل برمحه ، وقطع إحدى يديه رجل آخر فبرك ورغا ، وصاحت عائشة صيحة شديدة ، فولى الناس منهزمين ، فنادى منادي أمير المؤمنين (علیه السلام) : لا

ص: 350

تجيزوا على جريح ، ولا تتبعوا مدبراً ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ».

7. رووا عنه مديحاً لبعض الخلفاء ، فإن صح فلا بد أن يكون من باب التقية كالذي رواه الذهبي في سيره:1/478: «عن حذيفة قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد » .

والذي رواه البخاري:1/133: «سمعت حذيفة قال: كنا جلوساً عند عمر رضي الله عنه فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الفتنة؟ قلت.. ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين ، إن بينك وبينها باباً مغلقاً . قال: أيكسر أم يفتح؟ قال: يكسر . قال إذاً لا يغلق أبداً. قلنا: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم كما أن دون الغد الليلة . إنى حدثته بحديث ليس بالأغاليط ، فهبنا أن نسأل حذيفة ، فأمرنا مسروقاً فسأله فقال: الباب عمر». على أن هذا إخبار عما سيحدث أكثر منه مدحاً .

8. شارك في حرب أحُد وما بعدها ، واستشهد فيها أبوه (رحمة الله) وكان شيخاً كبيراً !

في معجم الطبراني الكبير:3/162: «عن عامر بن سعد أنه أقبل حذيفة وأبوه يوم بدر فلقيهم أبو جهل وأصحابه ، فقالوا لهما: لعلكما تريدان محمداً ، قالا قلنا: لا . قال: فأخذ علينا أن لا نعين عليهم . فلما أتينا النبي (صلی الله علیه و آله) ذكرنا ذلك له وقلنا: يا نبي الله إن القوم قد أخذوا علينا ، وإن أمرتنا أن نقاتل معك فعلنا . فقال: بل نستعين الله ونفي لهم». ونحوه الحاكم:3/201 .

ص: 351

وقال ابن هشام في السيرة النبوية:3/604: « لما خرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى أحُد ، رُفع حسيل بن جابر وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان ، وثابث بن وقش ، في الآطام مع النساء والصبيان ، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا أباً لك ما تنتظر! فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار إنما نحن هامة اليوم أوغد ، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله (صلی الله علیه و آله) لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟ فأخذا أسيافهما ثم خرجا، حتى دخلا في الناس ولم يُعلم بهما . فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فاختلفت عليه أسياف المسلمين ، فقتلوه ولا يعرفونه ، فقال حذيفة: أبى ! فقالوا: والله إن عرفناه ، وصدقوا. قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، فأراد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يَدِيَهُ، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله خيراً ».

وفي أنساب الأشراف:1/322: «والتفَّت سيوف المسلمين على أبى حذيفة بن اليمان وهو حسيل بن جابر فقتل، وحذيفة يقول: أبي أبي ! ثم قال: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. ويقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود ، فوهب حذيفة دمه للمسلمين.. وأظهر المسلمون الشعار بعدُ » .

وكان لحذيفة أدوار تضحية في معارك النبي (صلی الله علیه و آله) ، منها: أن النبي (صلی الله علیه و آله) اختاره يوم الخندق ، وأمره أن يذهب ليلاً ، ويدخل الى معسكر المشركين ويأتيه بخبرهم !

ص: 352

قال الإمام الصادق (علیه السلام) ، كما في الكافي:8/277: «قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) على التل الذي عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب ، في ليلة ظلماء قرَّة (باردة) فقال: من يذهب فيأتينا بخبرهم وله الجنة؟ فلم يقم أحد ، ثم أعادها فلم يقم أحد !

فقال أبو عبد الله بيده: وما أراد القوم ، أرادوا أفضل من الجنة ؟!

ثم قال: من هذا ؟ فقال: حذيفة ، فقال: أما تسمع كلامي منذ الليلة ولا تَكلم! أقُبِرْت؟! فقام حذيفة وهو يقول:القَرُّ والضُّرُّ جعلني الله فداك منعني أن أجيبك فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إنطلق حتى تسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم ، فلما ذهب قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده . وقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) : يا حذيفة لا تحدث شيئاً حتى تأتيني ، فأخذ سيفه وقوسه وحجفته .

ص: 353

قال حذيفة: فخرجت وما بي من ضُر ولا قَر ، فمررت على باب الخندق وقد اعتراه المؤمنون والكفار . (تواجدوا عليه) .

فلما توجه حذيفة قام رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونادى: يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرين ، إكشف همي وغمي وكربي ، قد ترى حالي وحال أصحابي .

فنزل عليه جبرئيل (علیه السلام) فقال: يا رسول الله إن الله عز ذكره قد سمع مقالتك ودعاءك ، وقد أجابك وكفاك هول عدوك . فجثى رسول الله (صلی الله علیه و آله) على ركبتيه وبسط يديه وأرسل عينيه ، ثم قال: شكراً شكراً كما رحمتني ورحمت أصحابي .

ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : قد بعث الله عز وجل عليهم ريحاً من السماء الدنيا فيها حصى ، وريحاً من السماء الرابعة فيها جندل .

قال حذيفة: فخرجت فإذا أنا بنيران القوم ، وأقبل جند الله الأول ريحٌ فيها حصى ، فما تركت لهم ناراً إلا أذرتها ، ولا خباءً إلا طرحته ، ولا رمحاً إلا ألقته حتى جعلوا يتترسون من الحصى ، فجعلنا نسمع وقع الحصى في الأترسة ، فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين ، فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين ، فقال: أيها الناس إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذاب ، ألا وإنه لن يفوتكم من أمره شئ ، فإنه ليس سنة مقام ، قد هلك الخف والحافر فارجعوا ، ولينظر كل رجل منكم من جليسه ، قال حذيفة: فنظرت عن يميني فضربت بيدي فقلت: من أنت؟ فقال: معاوية . فقلت للذي عن يساري: من أنت ؟ فقال سهيل بن عمرو !

قال حذيفة: وأقبل جند الله الأعظم ، فقام أبو سفيان إلى راحلته ثم صاح في قريش: النجاء النجاء ! وقال طلحة الأزدي: لقد زادكم محمد بشر! ثم قام إلى راحلته وصاح في بني أشجع: النجاء النجاء ! وفعل عيينة بن حصن مثلها ، ثم فعل الحرث بن عوف المزني مثلها ، ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها ، وذهب الأحزاب ، ورجع حذيفة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره الخبر . قال أبو عبد الله (علیه السلام) : إنه كان ليشبه يوم القيامة » .

وفي رواية الواقدي:1/488: «فكان حذيفة بن اليمان يقول: لقد رأيتنا في الخندق مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) في ليلةٍ شديدة البرد ، قد اجتمع علينا البرد والجوع والخوف ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : من رجلٌ ينظر لنا ما فعل القوم جعله الله رفيقي في الجنة . فقال حذيفة: يشرط له رسول الله (صلی الله علیه و آله) الجنة والرجوع فما قام منا رجلٌ ! ثم عاد

ص: 354

يقول ذلك ثلاث مرات ، وما قام رجلٌ واحدٌ من شدة الجوع والقر والخوف. فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) ذلك لا يقوم أحد دعاني فقال: يا حذيفة ! قال: فلم أجد بداً من القيام حين فوَّهَ باسمي ، فجئته ولقلبي وَجَبَانٌ في صدري، فقال: تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم ! فقلت: لا والذي بعثك بالحق إن قدرت على ما بي من الجوع والبرد . فقال: إذهب فانظر ما فعل القوم ولا ترمين بسهمٍ ولا بحجر ولا تطعن برمح ولا تضربن بسيفٍ حتى ترجع إلي . فقلت: يا رسول الله مابي يقتلوني ، ولكني أخاف أن يمثلوا بي . قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : ليس عليك بأس! فعرفت أنه لا بأس عليَّ.. فأقبلت فجلست على نارٍ مع قوم ، فقام أبو سفيان فقال: إحذروا الجواسيس والعيون ، ولينظر كل رجلٍ جليسه . قال فالتفتُّ إلى عمرو بن العاص فقلت: من أنت وهو عن يميني. فقال: عمرو بن العاص . والتفت إلى معاوية بن أبي سفيان فقلت: من أنت فقال: معاوية بن أبي سفيان . ثم قال أبو سفيان: إنكم والله لستم بدار مقام ، لقد هلك الخف والكراع وأجدب الجناب ، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ، وقد لقينا من الريح ما ترون ! والله ما يثبت لنا بناءٌ ، ولا تطمئن لنا قِدْر ، فارتحلوا فإني مرتحل..الخ.».

ومنها: مشاهدته الصحابة المنافقين الذين شاركوا في مؤامرة اغتيال النبي (صلی الله علیه و آله) ، فقد روى مسلم في صحيحه: 8/123، عن أبي الطفيل قال: «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال فقال له القوم: أخبره إذْ سألك ! قال: كنا نُخْبَر أنهم أربعة عشر ،

ص: 355

فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر! وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حربٌ لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ! وعَذَرَ ثلاثة قالوا: ما سمعناه منادي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا علمنا بما أراد القوم ! وقد كان في حَرَّة فمشى فقال: إن الماء قليل فلايسبقني إليه أحد ، فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ».

يقصد الراوي أن النبي (صلی الله علیه و آله) عَذَر ثلاثة منافقين كانوا في أعلى الجبل مع الذين كمنوا لقتله ، وقَبل قولهم إنهم لم يسمعوا منادي النبي (صلی الله علیه و آله) في جيش تبوك بأن يمروا من خلف الجبل ولا يمر أحد من طريق العقبة ، الذي أراد أن يسلكه !

أما قصة الذين سبقوا النبي (صلی الله علیه و آله) الى الماء وشربوا فلعنهم ، فهي حادثة منفصلة عن مؤامرة العقبة في المكان والزمان ، وقد شرب منه بعض أصحاب العقبة ، فلعنهم النبي (صلی الله علیه و آله) ثانيةً ، بعد لعنة العقبة !

وقد أنزل الله في مؤامرة العقبة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ..

واتفق الرواة على أن غزوة تبوك كانت في الصيف ، وكانوا يسيرون ليلاً اتقاء الحر ، وكان أمامهم طريق مختصر من العقبة لا يصلح لجيش من ثلاثين ألفاً فسلك الجيش طريق الوادي ، وقرر النبي (صلی الله علیه و آله) أن يسلك طريق العقبة ، وأحس بشئ ، فنادى مناديه أن لايسلك أحد العقبة .

فبادر المتآمرون وصعدوا الجبل ليدحرجوا صخوراً كبيرة عليه فتقتله ، أو تنفر ناقته فتسقط في الوادي، وكان مسلكاً ضيقاً يتسع في نقطة منه لجمل واحد ، وكان واديه عميقاً ، روي أنه مقدار ألف رمح ! (البحار: 82/267).

ص: 356

ومعنى رواية صحيح مسلم الرسمية أن المتآمرين كانوا بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بين المسلمين ، وكان حذيفة وعمار يعرفانهم . وقد أمر الله نبيه (صلی الله علیه و آله) أن لا يعاقبهم وأن يكتم أسماءهم ، لأن قتلهم يسبب ارتداد قريش وبعض العرب !

قال الواقدي: 2/1042: «فلما أصبح قال له أسيد بن الحضير...يا رسول الله فقد اجتمع الناس ونزلوا ، فمُرْ كل بطنٍ أن يقتل الرجل الذي همَّ بهذا . فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله . وإن أحببت والذي بعثك بالحق فنبئني بهم فلا تبرح حتى آتيكم برؤوسهم ، وإن كانوا في النبيت فكفيتكهم ، وأمرت سيد الخزرج فكفاك من في ناحيته ، فإن مثل هؤلاء لا يتركون يا رسول الله ! حتى متى نداهنهم وقد صاروا اليوم في القلة والذلة ، وضرب الإسلام بجرانه ، فما تستبقي من هؤلاء؟! قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : يا أسيد إني أكره أن يقول الناس إن محمداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين ، وضع يده في قتل أصحابه ! فقال: يا رسول الله فهؤلاء ليسوا بأصحاب ! قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولا شهادة لهم ! قال: أليس يظهرون أني رسول الله؟ قال: بلى ولا شهادة لهم ! قال: فقد نهيت عن قتل أولئك ».

وفي تاريخ دمشق: 32/93، عن حكيم قال: «كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال: مالي ولك ألست أخاك ؟ قال: ما أدري ، إلا أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) يلعنك ليلة الجبل ! قال: إنه قد استغفر لي ! قال عمار: قد شهدت اللعن ، ولم أشهد الإستغفار!

ص: 357

9. شارك حذيفة في فتوح الشام ، وجاء ببشارة النصر في اليرموك ، الى عمر ، ففي أسد الغابة:1/391: « شهد حذيفة فتح الجزيرة ، ونزل نصيبين وتزوج بها ».

وقال الواقدي في فتوح الشام:2/165: (وأرسل النعمان بن معرف إلى أهل أنكل فأسلموا ، وسميت باليمانية لأنها فتحت على يد حذيفة بن اليمان ».

وفي تاريخ اليعقوبي:2/141: «وأوفد أبو عبيدة إلى عمر وفداً ، فيهم حذيفة بن اليمان ، وقد كان عمر أرِقَ عدة ليال واشتد تطلعه إلى الخبر ، فلما ورد عليه الخبر خرَّ ساجداً وقال: الحمد لله الذي فتح على أبي عبيدة ، فوالله لو لم يفتح لقال قائل: لو كان خالد بن الوليد ».

وقال الواقدي في فتوح الشام:1/227: «ودعا ( أبو عبيدة) بحذيفة بن اليمان ودفع الكتاب اليه ، وضم اليه عشرة من المهاجرين والأنصار وقال لهم: سيروا بكتاب الفتح والبشرى إلى أمير المؤمنين وبشروه بذلك وأجركم على الله ، فأخذ حذيفة الكتاب وسار هو والعشرة من وقتهم وساعتهم ، يجدُّونَ السير ليلاً ونهاراً ».

10. سكن حذيفة في الكوفة وشارك في فتح المدائن ومعركة جلولاء وخانقين ففي أعيان الشيعة:4/595: «وأقطع (سعد في الكوفة) حذيفة بن اليمان مع جماعة من عبس نصف الآري ، وهو فضاء كانت فيه خيل المسلمين . وكان تمصير الكوفة سنة 15من الهجرة ، وكان حذيفة في الجيش الذي فتح العراق ، فلما أقطعه سعد الآري ابتنى داراً وسكنه مع عشيرته ».

ص: 358

وقد ذكرنا في ترجمة سلمان أنه استطلع هو وحذيفة رضي الله عنهما الأماكن في العراق ، فاختارا الكوفة منزلاً للمسلمين فمَصَّرُوها.

وقال الطبري:3/145:« كتب حذيفة إلى عمر: إن العرب قد أترفت بطونها وخفت أعضادها وتغيرت ألوانها ، وحذيفة يومئذ مع سعد..كتب عمر إلى سعد.. فابعث سلمان رائداً وحذيفة، وكانا رائدي الجيش ليرتادا منزلاً برياً بحرياً ، ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر ».

وقال ابن حجر في الإصابة:2/40: «وفي الصحيحين أن أبا الدرداء قال لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره ؟ يعني حذيفة . وفيهما عن عمر أنه سأل حذيفة عن الفتنة . وشهد حذيفة فتوح العراق وله بها آثار شهيرة ».

ثم ذهب حذيفة الى الشام وشارك في معركة اليرموك ، وجاء بخبر النصر فيها الى المدينة ، ثم رجع الى الشام ثم الى العراق ، فشارك في فتح المدائن وما بعدها .

قال الطبري:3/16، في فتح المدائن: «وعلى مقدمة سعد هاشم بن عتبة...فبعث عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان على أهل الكوفة ..».

قال البلاذري:2/334: «أن عمر بعث حذيفة وابن حنيف إلى خانقين ، وكانت من أول ما افتتحوا ، فختما أعناق أهل الذمة ، ثم قبضا الخراج» .

11. ثم توغل جيش المسلمين داخل إيران ، فشارك حذيفة في معركة تستر قال ابن الأعثم:2/277: «وعزم المسلمون على حرب أهل تستر ، فوثب أبو موسى يعبئ أصحابه، فكان على ميمنته جرير بن عبد الله البجلي ، وعلى ميسرته النعمان بن مقرن المزني ، وعلى الجناح البراء بن عازب ، وعلى أعنة الخيل عمار بن

ص: 359

ياسر ، وعلى رجالته حذيفة بن اليمان . ثم إنه زحف بخيله ورجله نحو تستر ، ورجل من المسلمين يقرأ هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً. قال: وخرج الهرمزدان صاحب تستر إلى حرب المسلمين في الأساورة والمرازبة ، وبين يديه قواد الأعاجم ، وكذلك عن يمينه وشماله ، فقال رجل من المسلمين: اللهم تعلم أني أحب لقاءك وأبغض أعداءك ، فانصرنا عليهم ، واقبضني إليك يا رب ، إنك على كل شيء قدير ، قال: ثم إنه حمل على أهل تستر فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة ، ثم وقف في ميدان الحرب ، قال: ثم حمل ثانية على أهل تستر ، فلم يزل يقاتل حتى قتل رحمة الله عليه .

قال: واشتبك الحرب بين الفريقين فاقتتلوا ساعة من النهار ، وحمل رجل من الفرس يقال له مراد شاه في زهاء ألف فارس من أبطال الفرس على ميسرة أهل الكوفة ، وفيهم يومئذ بنو بكر بن وائل وجماعة من كندة ، قال: وانكشف الكوفيون بين يدي الفرس كشفة أطمعوهم في أنفسهم ، ثم رجعوا عليهم فطردوهم بين أيديهم طرداً وكدوهم بحملتهم عليهم كداً ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، قال: ثم وقعت الهزيمة على أهل تستر ، فانهزموا والسيف يأخذهم حتى دخلوا مدينتهم. فلما كان من غد ، عبأ أبو موسى أصحابه كما عبأهم بالأمس ، ثم زحف بهم نحو باب تستر .

قال: وخرج الهرمزدان صاحب تستر إلى قتال المسلمين ، وقد عبأ أصحابه تعبية خلاف تعبيته بالأمس ، وعلى ميمنته رجل من قواد يزدجرد يقال له

ص: 360

مهريار في نيف من عشرة آلاف من الأساورة ، وعلى ميسرته رجل من الري يقال له شيرواهات في أربعة آلاف من الفرس ، وبين يديه ملك من ملك الأهواز يقال له خرشيد بن بهرام في نيف عن عشرة آلاف فارس ، ما يبين منهم شئ سوى حوافر الخيل من كثرة السلاح والتجافيف ، والهرمزدان يومئذ في القلب في جماهير الأعاجم ، عليه جوشن مذهب وبيضة مذهبة وسيف محلى بالذهب ، وقد التحف بدرقة مذهبة ، وفي يده طبرزين مذهب ، وكل ذلك مما أتحفه به يزدجرد حين قاتل معه يوم جلولاء».الى آخر ما ورد في وصف معركة تستر.

12. ثم قاد حذيفة معركة نهاوند ، أكبرمعارك فتح فارس، وحقق فيها النصر ،

فقد كانت معارك المسلمين المهمة مع الفرس خمسة: معركة الجسر ، والبُويب ، والقادسية ، وجلولاء ، ونهاوند . وأكبرها نهاوند ، وسميت فتح الفتوح .

فقد جمع الفرس فيها قواتهم من أنحاء البلاد وقيل بلغت مئة وخمسين ألف مقاتل ، ونووا أن يقصدوا المدينة المنورة لاستئصال أصل دين العرب بزعمهم !

فكتب عمار بن ياسر رضي الله عنه وكان والي الكوفة الى بخبرهم الى عمر ، فخاف عمر وجمع الصحابة .

قال ابن الأعثم (2/291): «فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقرأه وفهم ما فيه ، وقعت عليه الرعدة والنفضة حتى سمع المسلمون أطيط أضراسه . ثم قام عن موضعه حتى دخل المسجد ، وجعل ينادي: أين المهاجرون والأنصار ! ألا فاجتمعوا رحمكم الله ، وأعينوني أعانكم الله».

ص: 361

فأشاروا عليه بآراء مختلفة ، فقال له علي (علیه السلام) : «فأقم بالمدينة ولاتبرحها ، فإنه أهيب لك في عدوك ، وأرعب لقلوبهم ، فإنك متى غزوت الأعاجم بنفسك يقول بعضهم لبعض: إن ملك العرب قد غزانا بنفسه لقلة أتباعه وأنصاره ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وعلى المسلمين ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه وابعث من يكفيك هذا الأمر والسلام .

قال فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا الحسن ! فما الحيلة في ذلك ، وقد اجتمعت الأعاجم عن بكرة أبيها بنهاوند في خمسين ومائة ألف يريدون استئصال المسلمين؟ فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الحيلة أن تبعث إليهم رجلاً مجرباً قد عرفته بالبأس والشدة ، فإنك أبصر بجندك وأعرف برجالك ، واستعن بالله وتوكل عليه واستنصره للمسلمين ، فإن استنصاره لهم خير من فئة عظيمة تمدهم بها ، فإن أظفر الله المسلمين فذلك الذي تحب وتريد ، وإن يكن الأخرى وأعوذ بالله من ذلك، تكون ردءً للمسلمين وكهفاً يلجؤون إليه، وفئة ينحازون إليها . قال فقال له عمر: نعمَ ما قلت يا أبا الحسن...

فلما سمع عمر مقالة علي كرم الله وجهه ومشورته ، أقبل على الناس وقال: ويحكم عجزتم كلكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن ! والله لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي .ثم أقبل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أبا الحسن ! فأشر علي الآن برجل ترتضيه ويرتضيه المسلمون أجعله أميراً ، أستكفيه من هؤلاء الفرس فقال علي رضي الله عنه: قد أصبته . قال عمر: ومن هو ؟ قال: النعمان بن مُقرن المزني ، فقال عمر وجميع المسلمين:

ص: 362

أصبت يا أبا الحسن! وما لها من سواه . قال: ثم نزل عمر رضي الله عنه عن المنبر ودعا بالسائب بن الأقرع بن عوف ..».

وقال الطبري (4/122): «وكتب (عمر) إلى النعمان وكان بالبصرة ، أن يسير بمن هناك من الجنود إلى نهاوند ، وإذا اجتمع الناس فكل أمير على جيشه ، والأمير على الناس كلهم النعمان بن مقرن ، فإذا قتل فحذيفة بن اليمان ، فإن قتل فجرير بن عبد الله ، فإن قتل فقيس بن مكشوح ، فإن قتل قيس ففلان ثم فلان ، حتى عد سبعة أحدهم المغيرة بن شعبة .وقيل لم يُسم منهم ، والله أعلم ».

كما روى الطبري(3/203) أن النعمان بن مقرن: «عبَّأ كتائبه وخطب الناس فقال: إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان ، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله ، وإن أصيب جرير بن عبد الله ، فعليكم قيس بن مكشوح».

وقال الطبري:3/207: «ثم هز اللواء الثالثة ، فحمل كل إنسان على من يليه من العدو، قال: فوالله ما علمت من المسلمين أحداً يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله حتى يقتل أو يظفر فحملنا حملة واحدة ، وثبتوا لنا فما كنا نسمع إلا وقع الحديد على الحديد حتى أصيب المسلمون بمصائب عظيمة ، فلما رأوا صبرنا وأنا لا نبرح العرصة انهزموا فجعل يقع الواحد فيقع عليه سبعة بعضهم على بعض في قياد (سلسلة) فيقتلون جميعاً وجعل يعقرهم حسك الحديد الذي وضعوا خلفهم.

فقال النعمان رضي الله عنه: قدموا اللواء فجعلنا نقدم اللواء ونقتلهم ونهزمهم فلما رأى أن الله قد استجاب له ورأى الفتح ، جاءته نشابة فأصابت خاصرته فقتلته . قال: فجاء أخوه معقل فسجى عليه ثوباً وأخذ اللواء فقاتل ، ثم قال:

ص: 363

تقدموا نقتلهم ونهزمهم ، فلما اجتمع الناس قالوا: أين أميرنا؟ قال معقل: هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح ، وختم له بالشهادة . قال: فبايع الناس حذيفة ».

وقال ابن الأعثم:2/303: «وتقدم أخوهما الأصغر واسمه سويد بن مقرن ، قال: وجعل سويد بن مقرن يقاتل حتى أثخن بالجراحات ولم يقتل ، فرجع بالراية فدفعها إلى حذيفة بن اليمان ، قال: فأخذها حذيفة فرفعها للمسلمين ، ثم قال: إني حامل ، وحمل حذيفة وحمل الناس معه ، فاقتتلوا قتالاً شديداً يومهم ذلك ، إلى أن جاء الليل فحجز بينهم ، ورجع الفريقان بعضهم عن بعض .

قال: فلما أصبح القوم زحف بعضهم إلى بعض ، وتقدم رجل من الأساورة على فرس له لا ينال من طوله حتى وقف بين الجمعين ، ثم نادى: يا معشر العرب ! أنا بوذان بن أرديه فهلموا إلى البراز ! قال: فلما سمعه الناس وهو يتكلم بالعربية كأنهم هابوه فلم يخرج إليه أحد ، قال: ونظر الفارسي أنه ليس يخرج إليه أحد فحمل على المسلمين حملة فشق الصفوف وخرج من الجانب الآخر ، ثم كر راجعاً على المسلمين فخالطهم واستلب منهم رجلاً عن فرسه فجعل يركض به والرجل معلق بيده حتى صار به إلى أصحابه فرمى به إليهم فقتل الرجل !

ثم أقبل بوذان حتى صار إلى الموضع الذي كان فيه بدياً . قال: فاغتم المسلمون لذلك وجعل عمرو بن معد يكرب يرتجز ، ثم حمل بوذان على المسلمين ليفعل كفعلته الأولية ، وحمل عليه عمرو بن معد يكرب من ورائه فضربه بالصمصامة ضربة على بيضته فقدَّ البيضة والهامة ، ومرت الصمصامة تهوي حتى صارت

ص: 364

إلى جوف بوذان فسقط قتيلاً ، فنزل إليه عمرو فسلبه ما كان عليه ، فيقال إنه كان في وسط بوذان منطقة قُوِّمت بسبعة آلاف دينار .

قال: ودنت الفرس حتى تقاربت من صفوف المسلمين في خلق عظيم ، فجعلوا يرمون بالنشاب حتى جرحوا جماعة ، وهمَّ المسلمون بالحملة عليهم فقال حذيفة: لا تعجلوا حتى آذن لكم ، قال: فصبر المسلمون ساعة والفرس في خلال ذلك لا يفترون من الرمي ، وما يسقط منهم نشابة إلا في رجل من المسلمين ، فلما رأوا ذلك وإن الجراحات قد فشت فيهم تركوا وصية حذيفة ، ثم كبروا وحملوا على الفرس فكشفوهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، ثم رجعوا إلى مراكزهم . قال: ورجعت إليهم الفرس كأنهم السباع الضارية في جموع لم يروا مثلها قبل ذلك ، فصاح عمرو بن معد يكرب: يا معاشر العرب والموالي ! ويا أهل الإسلام والدين والقرآن ! إنه لا ينبغي لكم أن يكون هؤلاء الأعاجم أصبر منكم على الحرب ، ولا أحرص منكم على الموت ، فتناسوا الأولاد والأزواج ، ولا تجزعوا من القتل فإنه موت الكرام ومنايا الشهداء .

قال: ثم نزل عمرو عن فرسه ونزل معه أبطال بني عمه ، قال: والأعاجم في الآلة والأسلحة ، وبين أيديهم ثلاثون فيلاً ، على كل فيل منهم جماعة من أساورة الفرس، قال: ونظر عامة المسلمين إلى عمرو بن معد يكرب وأصحابه وقد ترجلوا ، فنزل الناس وترجلوا ، ثم تقدموا نحو الخيل والفيلة ، فلم يكن إلا ساعة من أول النهار حتى إحمرت الأرض من دماء الفرس ، وقتلت الفيلة بأجمعها ، فما أفلت منها واحد . قال: فتراجعت الفرس إلى ورائها ، وإذا بفيلة

ص: 365

أخرى من الفرس قد أقبلت في قريب من عشرة آلاف بمطاردها وأعلامها ، وبين أيديهم رجل من قواد كسرى يقال له لرداود بن ادركرد ، وكان من أهل قاشان ، قال فتقدم على فيل له مزين وعلى رأسه تاج له يلمع بالجوهر ، وعن يمينه خمسة فيلة وعن يساره كذلك، على كل فيل منها جماعة من أساورة الفرس. قال: ونظر إليهم قيس بن هبيرة المرادي فلم يكذب أن حمل على ذلك الفيل المزين، فضرب خرطومه ضربة وقطعه ، ثم تأخر عنه وطعنه في عينه طعنة فإذا الفيل تقهقر إلى ورائه حتى أنه مر بساقية فيها ماء فعثر بها وسقط عنه لرداد بن ادركرد . قال: وتقدم قائد من قواد نهاوند يقال له هرمزد بن داران في نيف على خمسة آلاف فارس من نخبة الأعاجم حتى وقف بين الجمعين ، فأقبل حذيفة بن اليمان على الناس فقال: أيها المسلمون ! إن هؤلاء الأعاجم ليست معهم نَصَفَة أن يخرج منهم رجل إلى رجل ، وذلك أنه إذا خرج منهم قائد لم يجد بداً من أن يخرج معه كل أصحابه ، وهذا عسكر لجب قد برز إليكم في مثل هذه التعبية من الخيل والجنود والفيلة ، فثقوا بربكم وقاتلوا عن دينكم وصلوا على نبيكم . قال: فكان أول من خرج إلى هرمزد وأصحابه رجلان من قيس عيلان من بني مضر يقال لأحدهما بكير والآخر مالك ، فخرجا على فرسين لهما ثم أقبل أحدهما على الآخر فقال له: يا أخي إعلم أني حامل على هذا الجيش ولست أطلب منهم إلا عميدهم وكبيرهم هرمزد بن داران ، فما الذي ترى ؟

فقال أخوه: أرى أني معك أحمل إذا حملت ، ومعك أقتل إن قتلت ، ومعك أرجع إن رجعت . قال: فخرجا جميعاً نحو هرمزد وأصحابه فطعنا في الخيل

ص: 366

ساعة حتى فروا هائمين يمنة ويسرة ، ثم إنهما حملا على هرمزد بن داران ، هذا عن يمينه وهذا عن يساره فطعناه فسقط إلى الأرض قتيلاً!

قال: وتكاثرت الفرس من كل ناحية على هذين الفتيين بكير ومالك ، فقتلا جميعاً ، رحمة الله عليهما..». الى آخر وصف المعركة ، وقد واصلها حذيفة حتى كتب الله لهم النصر المبين ، وسميت فتح الفتوح ، لما ترتب عليها من انهيار قوة الفرس ، وهرب ملكهم يزجرد ، وانفتاح الطريق أمام المسلمين لاستكمال فتح إيران .

قال البلاذري: 2/274: (فسميَ ذلك الفتح فتح الفتوح . وكان فتح نهاوند في سنة تسع عشرة يوم الأربعاء . ويقال في سنة عشرين».

وفي معجم البلدان:5/314: «وذلك أول سنة 19، لسبع سنين من خلافة عمر بن الخطاب ، وقيل: كانت سنة 20 ، والأول أثبت»..

وقال في الأخبار الطوال/133: «كانت وقعة نهاوند سنة إحدى وعشرين».

13. ثم قاد حذيفة أغلب معارك فتح إيران ، من الشرق والغرب والوسط ، من نهاوند الى همدان وأصفهان والري وخراسان وجرجان ، ثم الى بلاد آسيا التي خلف إيران ! ويكفي أن تقرأ قول خليفة بن خياط/107: «مضى حذيفة بن اليمان بعد نهاوند ، إلى مدينة نهاوند فصالحه دينار على ثماني مائة ألف درهم في كل سنة . ثم غزا حذيفة بن اليمان مدينة الدينور فافتتحها عنوة ، وقد كانت فتحت لسعد فانتقضت . ثم غزا حذيفة ماسبدان فافتتحها عنوة ، وقد كانت

ص: 367

فتحت لسعد فانتقضت ، وقد قيل في ماه غير هذا ، ويقال أبو موسى افتتح ماه دينار ، ويقال السائب بن الأقرع افتتح ماه دينار..

عن طارق بن شهاب قال: غزا أهل البصرة ماه ، فأمدهم أهل الكوفة وعليهم عمار، فأرادوا أن يشتركوا في الغنائم فأبى أهل البصرة ، فكتبوا إلى عمر فكتب عمر: إن الغنيمة بين من شهد الوقعة .

قال أبو عبيدة: غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة ولم تكن فتحت قبل ذلك . ثم غزا الري فافتتحها عنوة ولم تكن فتحت قبل ذلك ، وإليها انتهت فتوح حذيفة . قال أبو عبيدة: فتوح حذيفة هذه كلها في سنة اثنتين وعشرين».

ويقصد ابن خياط أن فتوح حذيفة في تلك السنة انتهت، وإلا فقد واصل جهاده .

وقال الحافظ الأصفهاني في أخبار إصبهان:1/63: «لما قتل النعمان بنهاوند ووليَ حذيفة فتح الله على يده الجبل ، فبعث(عبد الله بن) بديل بن ورقاء ومجاشع بن مسعود فتوجها نحو إصبهان ، فعدلا عن مدينتها فأخذ بديل إلى الطبسين وفتحها ، ثم خرج يريد قهستان من أرض خراسان .

وأقبل مجاشع إلى قاسان ففتح القاسانين ، وأتى حصن أبروز فحاصر من فيه فقتل المقاتلة وسبى الذرية ، وكان أبو موسى أمير البصرة فخرج أبو موسى يريد ما يليه من الأرض ، فوافى أبو موسى من قبل الأهواز يريد إصبهان ».

وقال الطبري:3/321: «أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس حيث كانت ، وأمر بعض من كان بالبصرة من جنود المسلمين وحواليها بالمسير إلى أرض فارس وكرمان وأصبهان، وبعض من كان منهم بناحية الكوفة وماهاتها

ص: 368

إلى أصبهان وآذربيجان والري ، وكان بعضهم يقول إنما كان ذلك من فعل عمر في سنة ثمان عشرة ».

أقول: كان رأي عمر أن لايتوسع المسلمون داخل إيران ، وأن يحصنوا حدود العراق مع الفرس ، فأقنعه علي (علیه السلام) فغير رأيه .

وروى ابن الأعثم في الفتوح (2/78): أن علياً (علیه السلام) حدَّث عمر عن خراسان ومدنها، فقال عمر: «يا أبا الحسن لقد رغبتني في فتح خراسان ، قال علي (علیه السلام) : قد ذكرت لك ما علمت منها مما لا شك فيه ».

وروى الطبري (3 /246) « عن أبي الجنوب اليشكري عن علي بن أبي طالب قال: لما قدم على عمر فتح خراسان ، قال لوددت أن بيننا وبينها بحراً من نار ، فقال علي: وما يشتد عليك من فتحها ، فإن ذلك لموضع سرور » !

وفي الطبري:3/222: «بدا له (عمر) أن يأذن في الإنسياح...لما رأى عمر أن يزدجرد يبعث عليه في كل عام حرباً ، وقيل له لا يزال هذا الدأب حتى يخرج من مملكته . أذن الناس في الإنسياح في أرض العجم حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان في يدي كسرى . فوجه الأمراء من أهل البصرة بعد فتح نهاوند ، ووجه الأمراء من أهل الكوفة بعد فتح نهاوند...وولى عمار بن ياسر .. وقدمت الألوية من عند عمر إلى نفر بالكوفة زمان زياد بن حنظلة فقدم لواء منها على نعيم بن مقرن.. إلى خراسان . وبعث عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله وعقد لهما على آذربيجان.. وجعل مكانهما حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف حذيفة على ما سقت دجلة وما وراءها وعثمان على ما سقى الفرات من السوادين جميعاً...

ص: 369

وكتب إلى أهل الكوفة إني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً ، وجعلت عبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً ، ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها ، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى ».

وقال الطبري:3/308: «ثم إن الوليد (بن عقبة والي عثمان على الكوفة)صالح أهل آذربيجان على ثمان مائة ألف درهم ، وذلك هو الصلح الذي كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان سنة اثنين وعشرين بعد وقعة نهاوند بسنة . ثم إنهم حبسوها عند وفاة عمر ، فلما ولى عثمان وولى الوليد بن عقبة الكوفة سار حتى وطأهم بالجيش، فلما رأوا ذلك انقادوا له وطلبوا إليه أن يتم لهم على ذلك الصلح ، ففعل فقبض منهم المال وبث فيمن حولهم من أعداء المسلمين الغارات ».

وقال الطبري في تاريخه:3/324، عن فتح خراسان وشمال إيران: «غزا سعيد بن العاص (والي الكوفة) من الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان ، ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومعه الحسن والحسين ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير ..

وخرج عبد الله بن عامر من البصرة يريد خراسان فسبق سعيداً (بن العاص) ونزل أبرشهر ، وبلغ نزوله أبرشهر سعيداً فنزل سعيد قومس ، وهي صلح صالحهم حذيفة بعد نهاوند ، فأتى جرجان فصالحوه على مائتي ألف .

ثم أتى طميسة وهي كلها من طبرستان متاخمة جرجان ، وهي مدينة على ساحل البحر وهي في تخوم جرجان ، فقاتله أهلها حتى صلى صلاة الخوف ، فقال لحذيفة:كيف صلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فأخبره ، فصلى بها سعيد صلاة الخوف

ص: 370

وهم يقتتلون ، وضرب يومئذ سعيد رجلاً من المشركين على حبل عاتقه فخرج السيف من تحت مرفقه ، وحاصرهم فسألوا الأمان ، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً ، ففتحوا الحصن فقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً ، وحوى ما كان في الحصن»!

أقول: ذكرنا في فصل تأصيل الفتوحات ، عدم صحة مشاركة الحسن والحسين (علیهما السلام) في الفتوحات ، فلا يمكن قبول هذه الفقرة من الرواية .

وقال البلاذري:2/400: «إن المغيرة بن شعبة قدم الكوفة والياً من قبل عمر بن الخطاب ، ومعه كتاب إلى حذيفة بن اليمان بولاية آذربيجان ، فأنفذه إليه وهو بنهاوند أو بقربها ، فسار حتى أتى أردبيل ، وهي مدينة آذربيجان وبها مرزبانها وإليه جباية خراجها ، وكان المرزبان قد جمع إليه المقاتلة من أهل باجروان وميمذ والنرير وسراة والشيز والميانج وغيرهم . فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً أياماً ، ثم إن المرزبان صالح حذيفة عن جميع أهل آذربيجان على ثمان مئة ألف درهم وزن ثمانية ، على أن لا يقتل منهم أحداً ولا يسبيه ولا يهدم بيت نار ، ولا يعرض لأكراد البلاسجان وسبلان وساترودان، ولا يمنع أهل الشيز خاصة من الزفن في أعيادهم ، وإظهار ما كانوا يظهرونه . ثم إنه غزا موقان وجيلان ، فأوقع بهم وصالحهم على أتاوة ».

ثم ولاه عمر آذربيجان فعقد صلحاً مع أهل أردبيل وجيلان ، ففي فتوح البلاذري: 2/400: «أن المغيرة بن شعبة قدم الكوفة والياً من قبل عمر بن الخطاب ، ومعه كتاب إلى حذيفة بن اليمان بولاية أذربيجان ، فأنقذه إليه وهو بنهاوند أو بقربها ،

ص: 371

فسار حتى أتى أردبيل ، وهي مدينة أذربيجان وبها مرزبانها ، وإليه جباية خراجها . وكان المرزبان قد جمع إليه المقاتلة من أهل باجروان وميمذ والنرير وسراة والشيز والميانج وغيرهم ، فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً أياما ، ثم إن المرزبان صالح حذيفة عن جميع أهل أذربيجان على ثمان مئة ألف درهم وزن ثمانية ، على أن لا يقتل منهم أحداً ولا يسبيه ولا يهدم بيت نار ، ولا يعرض لأكراد البلاسجان وسبلان وساترودان ، ولا يمنع أهل الشيز خاصة من الزفن في أعيادهم وإظهار ما كانوا يظهرونه . ثم أنه غزا موقان وجيلان ، فأوقع بهم وصالحهم على أتاوة» .

وفي تاريخ جرجان للسهمي/46: «باب ذكر من دخل جرجان من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) : منهم أبو عبد الله الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وحذيفة بن اليمان وسعيد بن العاص ، وسويد بن مقرن ، وعبد الله بن أبي أوفى وأبو هريرة ، وعبد الله بن الزبير ، ويقال الحسن بن علي ، وسواد بن قطبة ويقال سوادة بن قطبة ، وسماك بن مخرمة ، وهند بن عمرو ، وعتيبة بن نهاس... عن سليم بن عبد قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان ومعه حذيفة بن اليمان وأصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) فقال: من سمع من رسول الله (صلی الله علیه و آله) في صلاة الخوف؟فقال حذيفة: أنا سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: صُفَّ صفاً مما يليك وصفاَ مما يلي العدو فصل بمن يليك ركعة وسجدتين، ثم ينطلق هؤلاء يصلون معك ركعة وسجدتين ، ثم سلم». وتقدم نفي مشاركة الحسنين (علیهما السلام) بنفسيهما في الفتوح .

ص: 372

وقال الطبري:3/333: «صرف (عثمان) حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة ، وخرج معه سعيد بن العاص ، فبلغ معه آذربيجان وكذلك كانوا يصنعون ، يجعلون للناس ردءً، فأقام حتى قفل حذيفة ثم رجعا».

وقال في:3/375: «ورجع العمال إلى أعمالهم ومضى حذيفة إلى الباب».

وقال الطبري:3/353: «استعمل (والي الكوفة) على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان ، وكان على ذلك الفرج (أرمينيا وما حاذاها) قبل ذلك عبد الرحمن بن ربيعة وأمدهم عثمان في سنة عشر بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة القرشي... فأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما كان يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة ، فلما أحس حذيفة أقر وأقروا ، فغزاها حذيفة بن اليمان ثلاث غزوات ، فقتل عثمان في الثالثة ، ولقيهم مقتل عثمان ».

وفي صحيح بخاري:6/99: «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ».

وسيأتي دور حذيفة رضي الله عنه في توحيد نسخة القرآن الكريم .

والنتيجة: أن حذيفة رضي الله عنه قاد جيش المسلمين بعد نهاوند في الفتوحات سنين متطاولة، حتى أنه عندما قتل عثمان كان يفتح مناطق جديدة في آسيا الوسطى .

ص: 373

وقد كان دوره وافراً في معارك فتح إيران: ففي معركة جلولاء التي كان قائدها وبطلها هاشم المرقال ، كان حذيفة فيها قائداً . ثم قاد حذيفة معركة حلوان وفتحها. ثم كان في معركة تستر قائداً .

14. شارك حذيفة في فتح أرمينيا وكان والياً عليها لفترة ، في زمن عمر وعثمان ذكر ابن الأعثم:2/346 ، أن عثمان عزل حبيب بن مسلمة عن أرمينية وولى عليها حذيفة بن اليمان ، فدعا حذيفة برجل من بني عمه يقال له صلة بن زفر العبسي ، فوجه به إلى بلاد أرمينية وجعله خليفة لها بها ، وأقام حذيفة بالمدينة ، وأقبل صلة بن زفر العبسي إلى بلاد أرمينية فأقام بها حولاً كاملاً ، وجعل يذل ملوكها بغاية الذل والهوان ، حتى أذعنوا له بالسمع والطاعة .

ثم عزل عثمان حذيفة من أرمينية وولى عليها المغيرة بن شعبة مع آذربيجان ، ثم عزله عثمان وولى مكانه الأشعث بن قيس ، فكان بها إلى أن قتل عثمان بن عفان، فكان الأشعث على أرمينية وأذربيجان يجبي خراجها ويحمله إلى عثمان.

بينما قال الطبري(3/353): «فغزاها حذيفة بن اليمان ثلاث غزوات ، فقتل عثمان في الثالثة ، ولقيهم مقتل عثمان ».

والجمع بين هاتين الروايتين بأن الأشعث كان والياً على الخراج ، وكان حذيفة يتولى غزو المناطق الباقية . وإسم أرمينية يشمل في روايات الفتوحات عدة دول في آسيا الشرقية ، فقد ورد أن بلنجر مدينة في أرمينية ، وهي الآن مدينة في منطقة داغستان .

15. وكان حذيفة والي المدائن مع سلمان رضي الله عنهما ، ومسح أرض العراق في الطبري:3/222: «وكتب (عمر) إلى أهل الكوفة إني بعثت إليكم عمار بن ياسر

ص: 374

أميراً ، وجعلت عبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً ، ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها ، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى».

وفي تاريخ اليعقوبي:2/152: «ووجه (عمر) عثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان ، فمسحا السواد ، وأمرهما أن لا يحملا أحداً فوق طاقته ، فاجتبى خراج السواد ثمانين ألف ألف درهم ، وأجرى على عثمان بن حنيف خمسة دراهم في كل يوم وجراباً من دقيق ، وأمره أن لا يمسح تلاً ولا أجمةً ولا مستنقع ماء ولا ما لا يبلغه الماء . وأن يمسح بالذراع السوداء وهو ذراع وقبضة وأقام إبهامه فوق القبضة شيئاً يسيراً ، فمسح عثمان كل شئ دون جبل حلوان إلى أرض العرب وهو أسفل الفرات ، فكتب إلى عمر: إني وجدت كل شئ بلغه الماء من عامر وغير عامر ، بلغه الماء ، عمله صاحبه أو لم يعمله درهماً وقفيزاً وعلى الكرم عشرة دراهم ، وعلى الرطاب خمسة دراهم . وفرض على رقابهم: على الموسر ثمانية وأربعين ، وعلى من دون ذلك أربعة وعشرين ، وعلى من لا يجد اثني عشر درهماً، وقال: درهم في الشهر لا يعوز رجلاً ! فحمل من خراج السواد ، في أول سنة ، ثمانون ألف ألف درهم، وحمل من قابل عشرون ومائة ألف ألف درهم».

وقال البلاذري:2/333: «مسح حذيفة سقى دجلة ، ومات بالمدائن . وقناطر حذيفة نسبت إليه وذلك أنه نزل عندها ويقال جددها ».

وروي أن حذيفة كان في تلك الفترة يتردد على الكوفة وعلى المدينة ، وفي تاريخ دمشق: 12/294: «سمعت أبا إسحاق يقول: كان حذيفة يجئ كل جمعة من المدائن إلى الكوفة . قال أبو بكر: فقلت له يستطيع أن يجئ من المدائن إلى الكوفة؟ قال: نعم

ص: 375

كانت له بغلة فارهة». والمسافة بين الكوفة والمدائن نحو مئة كيلو متر، لكن الفرس أو البغلة السريعة يمكن أن تقطعها في بضع ساعات .

وفي تاريخ الطبري:3/88: «عن سعيد بن جبير قال: بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بعد ما ولاه المدائن وكثر المسلمات أنه بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها . فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام ، وما أردت بذلك؟ فكتب إليه: لا بل حلال ، ولكن في نساء الأعاجم خلابة ، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم ، فقال الآن . فطلقها».

16. ومضافاً الى بطولات حذيفة في الفتوحات ،كان بطل توحيد نسخة القرآن فعندما كان قائداً لجيش المسلمين في فتح أرمينيا ، وقع اختلاف بين جند الشام وجند العراق في ألفاظ في قراءة القرآن ، فكان بعضهم يقول إن ما تقرأه لم ينزله الله تعالى وليس قرآناً ، ويجيبه الآخر كذلك ، فكادت تقع بينهم حرب !

فهدأهم حذيفة وقصد الى المدينة يطلب من عثمان توحيد نسخة القرآن ، فكلفه أن يجمع نسخة أبي بن كعب التي عند ابنه محمد ، ونسخة عمر التي عند حفصة ونسخة أبي موسى الأشعري من البصرة، ونسخة عبدالله بن مسعود في الكوفة فنهض حذيفة بذلك .

وكلف عثمان سعيد بن العاص وزيد بن ثابت أن يكتبا النسخة المعتمدة ، فكتبا كثيراً منها عن نسخة علي (علیه السلام) ، ثم أرسلها عثمان الى الأمصار .

وسبب ما وقع من خلاف في ألفاظ القرآن أن النبي (صلی الله علیه و آله) كان يصحح للمسلمين قراءتهم للقرآن ، لأنه نزل بصيغة واحدة لا تقبل التغيير ولا التعدد .

ص: 376

وبعد وفاته (صلی الله علیه و آله) كان الناس يراجعون الخليفة فيقول لهم عمر: إقرؤوا كيفما شئتم ، فالقرآن كله صواب ! ثم سمع أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، أي أقسام: أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص، فاتخذها عمر حجة للتوسع في نص القرآن ، وقال إن القرآن نزل على سبعة أحرف أي يتسع لسبة أنواع من القرأءة ! فنتج عن ذلك التفاوت في القراءات حتى انفجر ذلك بين المسلمين في فتح أرمينيا ! (تدوين القرآن للمؤلف/192).

روى عمر بن شبه في تاريخ المدينة:3/991: « عن ابن شهاب قال: حدثني أنس بن مالك ،أنه اجتمع لغزوة أرمينية وأذربيجان أهل الشام وأهل العراق ، فتذاكروا القرآن ، فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة، فركب حذيفة بن اليمان إلى عثمان لما رأى من اختلافهم في القرآن ، فقال: إن الناس قد اختلفوا في القرآن حتى والله إني لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الإختلاف ! ففزع لذلك عثمان فزعاً شديداً... فإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود ، ويأتون بما لم يسمع أهل الشام ، ويقرأ أهل الشام بقراءة أبي بن كعب ويأتون بما لم يسمع أهل العراق ، فيكفرهم أهل العراق.. أن ناساً كانوا بالعراق يسأل أحدهم عن الآية ، فإذا قرأها قال: فإني أكفر بهذه » !

ووصف ابن شبة مصادرة حذيفة مصحف أبي موسى الأشعري بما فيه من زيادات ! فقال في تاريخ المدينة:3 /998: « استأذن رجل على ابن مسعود فقال الآذن: إن القوم والأشعري ( جالسين معه)وإذا حذيفة يقول لهم: أما إنكما إن شئتما أقمتما هذا الكتاب على حرف واحد، فإني قد خشيت أن يتهون الناس فيه تهون أهل

ص: 377

الكتاب ، أما أنت يا أبو موسى فيطيعك أهل اليمن ، وأما أنت يا ابن مسعود فيطيعك الناس. قال ابن مسعود: لو أني أعلم أن أحداً من الناس أحفظ مني لشددت رحلي براحلتي حتى أنيخ عليه. قال: فكان الناس يرون أن حذيفة رضي الله عنه ممن عمل فيه حتى أتى على حرف واحد.. أتيت دار أبي موسى الأشعري فإذا حذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري فوق إجار (دكة) فقلت: هؤلاء والله الذين أريد ، فأخذت أرتقي لهم فإذا غلام على الدرجة فمنعني أن أرتقي إليهم فنازعته حتى التفت إليَّ بعضهم فأتيتهم حتى جلست إليهم ، فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان فأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه ، فقال أبو موسى: ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها ، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه فيه ! فقال حذيفة: فكيف بما صنعنا ، والله ما أحد من أهل هذا البلد يرغب عن قراءة هذا الشيخ يعني ابن مسعود ، ولا أحد من أهل اليمن يرغب عن قراءة هذا الآخر يعني أبا موسى . وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان أن يجمع المصاحف على مصحف أحد».انتهى.

(راجع تفصيل ذلك في كتاب تدوين القرآن/177، وكتاب قرآن علي للمؤلف) .

17. ذكر بعضهم أن حذيفة كان عامل النبي (صلی الله علیه و آله) على دُبا وهي عاصمة قديمة لعمان ، لأنهم أزديون وحذيفة عبسي وعبس من الأزد .

قال ابن سعد في الطبقات:5/527: «قبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعامله على دُبا حذيفة بن اليمان ». والصحيح أنه حذيفة آخر ، وقد ورد اسمه في بعض الروايات: حذيفة بن محصن البارقي .(البلاذري:1/92).

ص: 378

وقال في الطبقات: 7/101: « ودُباء فيما بين عمان والبحرين ، وقد كانوا أسلموا وقدم وفدهم على رسول الله (صلی الله علیه و آله) مقرين بالإسلام ، فبعث عليهم مصدقاً منهم يقال له حذيفة بن اليمان الأزدي من أهل دباء ، وكتب له فرائض الصدقات ، فكان يأخذ صدقات أموالهم ويردها على فقرائهم ، فلما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ارتدوا ومنعوا الصدقة فكتب حذيفة إلى أبي بكر بذلك ، فوجه أبو بكر عكرمة بن أبي جهل إليهم فالتقوا فاقتتلوا ، ثم رزق الله عكرمة عليهم الظفر فهزمهم الله وأكثر فيهم القتل ، ومضى فلهم إلى حصن دباء فتحصنوا فيه ، وحصرهم المسلمون في حصنهم ثم نزلوا على حكم حذيفة بن اليمان الأزدي فقتل مائة من أشرافهم وسبى ذراريهم ، وبعث بهم إلى أبي بكر إلى المدينة وفيهم أبو صفرة غلام لم يبلغ يومئذ».

أقول: نصت الرواية على أن حذيفة هذا من أهل دبا ، وحذيفة بن اليمان عبسي أزدي لكنه من عبس في الحجاز ، وليس من عمان .

18. من صفات حذيفة: أن النبي (صلی الله علیه و آله) خيَّره بين أن يكون مهاجراً أو أنصارياً فاختار أن يكون أنصارياً ، لأنه عبسي أسلم وهاجر ، ولأن أباه ترك بني عبس لصراع بينهم وقد قتل منهم رجلاً وهرب الى المدينة ، وتحالف مع الأنصار وسمي اليماني لأنه حالف الأنصار اليمانيين ، (الطبقات:3/441، والإصابة:2/39

وتقدم ذكر أبيه واستشاده في أحد ، وأمه أنصارية هي الرباب بنت كعب بن عدي بن عبد الأشهل . وقال ابن سعد: ولدت لليمان حذيفة وسعداً وصفوان ومدلجاً وليلى. (الإصابة: 8/131).

ص: 379

وأولاده: صفوان وسعيد ، فازا بالشهادة بين يدي أمير المؤمنين (علیه السلام) بوصية أبيهما رضي الله عنهم. وعمران بن حذيفة ، كان من مقدمي أصحاب المختار في ثورته لأخذ ثأر الحسين (علیه السلام) وقتله مصعب بن الزبير بعد قتل المختار. (الكامل:4/280).

وله إبن آخر هو ربيعة ، نسب اليه: إبراهيم بن مسلم الحذيفي، وهو ابن مسلم بن عثمان، بن مسلم، بن مسعود، بن مسلم، بن ربيعة، بن حذيفة بن اليمان العبسي ، بغدادي سكن همدان. (اللباب لابن الأثير:1/351 ، وتاريخ بغداد:6/184).

وذكر ابن سعد بنته أم موسى بنت حذيفة (6/297) وبنته أم سلمة وأنها روت عن أبيها (8/477) وذكر زوجته جمانة بنت المسيب بن نجبة الفزاري (8/482).

ص: 380

الأحنف بن قيس رائد فتح خراسان

1- إسمه الضحاك ، بن قيس ، بن معاوية ، بن الحصين «مقاعس» بن عبادة ، بن النزال، بن مرَّة بن عبيد، بن الحارث بن كعب، بن سعد بن زيد مناة بن تميم .

أدرك النبي (صلی الله علیه و آله) ولم يره (أسد الغابة:1/55 ) وروي أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث رجلاً يدعو بني سعد الى الإسلام وكان الأحنف فيهم ، فجعل يعرض عليهم الإسلام فقال الأحنف: والله إنه يدعو الى خير ويأمر بالخير ، وما أسمع إلا حسناً ، وإنه ليدعو الى مكارم الأخلاق ، وينهى عن ملا ئمها ، فذكر الرجل ذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) فقال: اللهم إغفر للأحنف » .

2- وفد الى المدينة على عهد عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري ، الذي كان والياً على البصرة آنذاك، ليرفعوا إليه بعض حوائج أهل البصرة ، فلم يتكلم أحد سوى الأحنف ، وكان مما قال: « وإنَّا أناس بين سبحة وبين بحر أجاج ، لا يأتينا طعامنا إلا في مثل حلقوم النعامة ، فأعد لنا قفيزنا ودرهمنا ، فأعجب منه ذلك عمر ، لكنه أعرض عنه لحداثة سنه ، فقال له أجلس يا أحنف فغلب لقبه على إسمه ». (تاريخ دمشق: 24/312).

قال الأحنف بن قيس:« قدمت على عمر بن الخطاب فاحتبسني حولاً ، فقال: يا أحنف ، إني قد بلوتك وخبرتك وخبرت علانيتك ، فلم أر إلا خيراً ، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك ، وإنا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم ، فإذا أنت مؤمن عليم اللسان ». (تهذيب الكمال: 2/285).

ص: 381

أقول: لا وجه لحبس عمر للأحنف لمدة سنة إلا مزاج عمر ، وقد أثبت بصبره أنه فهم مزاج عمر ، وأثبت أنه صاحب عقل وافر . وقد سماه عمر الأحنف ، فغلب عليه هذا الإسم ، والأحنف: الذي في مشط قدمه مَيْلٌ أو تشوه . (الصحاح:4/1374).

3- يضرب به المثل في الحلم والحكمة والنبل فيقال:أحلم من الأحنف بن قيس وله في ذلك أخبار مأثورة .(الغارات:2 :754 ). واشتهر بالحكمة ، ورويت عنه حكم كثيرة ، منها أنه قال: الكامل من عدت هفواته . ( ربيع الأبرار:2/100).

وقال: جنبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام ، فإني أبغض الرجل يكون وصافاً لبطنه وفرجه » . ( ربيع الأبرار:2/252).

وقال: إني لأجالس الأحمق ساعة ، فأتبين ذلك في عقلي . ( ربيع الأبرار:2/40).

وقال: لا صديق لملول ، ولا وفاء لكذوب ، ولا راحة لحسود ، ولا مروءة لبخيل ، ولا سؤدد لسئ الخلق ». (عيون الأخبار لابن قتيبة:2/13) .

وقال: «أربع من كن فيه كان كاملاً، ومن تعلق بخصلة منها كان صالحاً: دين يرشده، أو عقل يسدده ، أو حسب يصونه، أو حياء يحجزه».(معدن الجواهر للكراجكي/45). وقال: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال. ( ربيع الأبرار:2/215).

وقال: لقد مرت على مائة هنة كلها أطأطئ لها رأسي فتجوزني ، ولو نصبت لإحداهن لاصطلمتني . ( ربيع الأبرار:2/226).

وقال: لست حليماً وإنما أنا صبور . ( ربيع الأبرار:3/96).

وقيل لشيخ: علَّمني الحلم، قال: هو يا ابن أخي، الذل أفتصبر عليه!

ص: 382

وقال الأحنف: مايسرني بنصيبي من الذل حمر النعم! فقال له رجل: أنت أعز العرب فقال: إن الناس يرون الحلم ذلاً». (عيون الأخبار لابن قتيبة:1/407) .

وقال الحسن البصري: ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف . وقال سفيان: ما وزن عقل الأحنف بعقل إلا وزنه . (تاريخ دمشق: 4/316) .

وفي ربيع الأبرار:2/135: «قيل لرجل: بمَ سادكم الأحنف فوالله ما كان أكبركم سناً ولا بأكثركم شيئاً؟ قال: بقوة سلطانه على نفسه».

وفي مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا/109: « صعد الأحنف بن قيس فوق بيته فأشرف على جاره ، فقال: سوءة سوءة ! دخلت على جاري بغير إذن ! لا صعدت فوق هذا البيت أبداً ». وبقي الأحنف سيداً لتميم أربعين سنة .

وتوفي الأحنف في الكوفة سنة سبع وستين ، ودفن في الثوية.(الغارات:2/754).

وفي معجم البلدان:1/55: «قال المدائني: إن الأحنف لم يكن له ولد إلا بحر ، وبه كان يكنى ، وبنت ، فولد بحر ولداً ذكراً ودرج ولم يعقب ، وانقرض عقبه من ابنته أيضاً » .

4- وعندما وصلت عائشة الى البصرة دعته لنصرتها ، وأرسلت إليه أن يأتيها مرتين فأبى! « فكتبت إليه: يا أحنف ما عذرك في ترك جهاد قتلة أمير المؤمنين ، أمن قلَّة عدد أو أنك لاتطاع في العشيرة ؟ فكتب إليها: إنه والله ما طال العهد بي ، ولانسيت عهدي في العام الأول ، وأنت تحرضين على جهاده ، وتذكرين أن جهاده أفضل من جهاد فارس والروم » ! (شرح الأخبار: 1/381).

ص: 383

5- كان الأحنف من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وروى عن أبي ذر (رحمة الله) قال: «كنا ذات يوم عند رسول الله (صلی الله علیه و آله) في مسجد قبا، ونحن نَفَرٌ من أصحابه فقال: معاشر أصحابي يدخل عليكم من هذا الباب رجل هو أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، قال فنظروا وكنت فيمن نظر ، فإذا نحن بعلي بن أبي طالب قد طلع ، فقام (صلی الله علیه و آله) فاستقبله وعانقه وقبَّل مابين عينيه ، وجاء به حتى أجلسه الى جانبه ، ثم أقبل علينا بوجهه الكريم فقال:هذا إمامكم بعدي، طاعته طاعتي ومعصيته معصيتي وطاعتي طاعة الله ، ومعصيتي معصية الله عز وجل» . (أمالي الصدوق/634).

6- كان أول من أجاب دعوة أميرالمؤمنين (علیه السلام) حينما دعا أهل البصرة لقتال معاوية ، فلما وصل كتاب أمير المؤمنين الى ابن عباس في البصرة ، قرأه للناس وقال: «أيها الناس استعدوا للشخوص الى إمامكم، وانفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم.. فلما أتمَّ كلامه ، قام الأحنف فقال: نعم والله لنجيبك ، ونخرج معك على العسر واليسر ، والرضا والكره ، نحتسب في ذلك الأجر، ونأمل به من الله الثواب العظيم». (شرح النهج: 3/187).

وجاء الأحنف مع وجوه قومه وأشراف البصرة من القبائل الأخرى الى الإمام (علیه السلام) في الكوفة فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين إن تك سعد لم تنصرك يوم الجمل فإنها لم تنصر عليك ، وقد عجبوا أمس ممن نصرك وعجبوا اليوم ممن خذلك ، لأنهم شكوا في طلحة والزبير ، ولم يشكوا في معاوية ، وعشيرتنا بالبصرة ، فلو بعثتنا إليهم فقدموا إلينا فقاتلنا بهم العدو وانتصفنا بهم ، وأدركوا اليوم ما فاتهم بالأمس..فقال (علیه السلام) : أكتب الى قومك من بني سعد، فكتب الأحنف الى بني

ص: 384

سعد:« أما بعد ، فإنه لم يبق أحد من بني تميم إلا وقد شقوا برأي سيدهم غيركم عصمكم الله برأيي حتى نلتم ما رجوتم ، وأمنتم ما خفتم ، وأصبحتم منقطعين من أهل البلاء ، لاحقين بأهل العافية ، وإني أخبركم بأنا قدمنا على تميم الكوفة فأخذوا علينا بفضلهم مرتين ، بمسيرهم إلينا مع علي ، وإجابتهم الى المسير الى الشام، فأقبلوا إلينا ، ولاتتكلوا عليهم». (أعيان الشيعة: 1/ 466).

7- اقترح الأحنف على أمير المؤمنين (علیه السلام) أن يكون مندوبه للتحكيم بعد صفين ، مقابل ابن العاص فقال:«يا أمير المؤمنين: إنك رُميت بحجر الأرض ، ومن حارب الله ورسوله أنف الإسلام ، وإني قد عجمت هذا الرجل، يعني أبا موسى، وحلبت شطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر ، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم، ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم، فإن شئت أن تجعلني حكماً فاجعلني، وإن شئت فاجعلني ثانياً أو ثالثاً، فإن عمراً لايعقد عقدة إلاحللتها، ولا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها ، فعرض الإمام ذلك على الناس فأبوه!وقالوا لايكون إلا أبو موسى»(شرح النهج:2/230).

ولما رأى الأحنف إصرار أهل الكوفة على تحكيم أبي موسى ، نصح أبا موسى عندما ودَّعه قائلاً: «يا أبا موسى إعرف خَطْبَ هذا الأمر ، واعلم إن له ما بعده وإنك إن أضعت العراق فلا عراق ، إتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك ، وإذا لقيت غداً عمراً فلا تبدأه بالسلام ، فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس بأهلها، ولا تعطه يدك فإنها أمانة ، وإياك أن يقعدك على صدر الفراش ، فإنها

ص: 385

خدعة ، ولا تلقه إلا وحده ، وأحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع ، تخبأ لك فيه الرجال والشهود ». (شرح النهج:2/249).

8- قال له معاوية: « أنت الساعي على أمير المؤمنين عثمان ، وخاذل أم المؤمنين عائشة، والوارد الماء على عليٍّ بصفين؟! فقال الأحنف: من ذاك ما أعرف ومنه ما أنكر، أما أمير المؤمنين فأنتم معاشر قريش حضرتموه بالمدينة ، والدار منا عنه نازحة ، وقد حضره المهاجرون والأنصار وكنتم بين خاذل وقاتل ، أما عائشة فإني خذلتها في طول باع ورحب سرب، وذلك أني لم أجد في كتاب الله إلا أن تقرَّ في بيتها . أما ورودي الماء بصفين ، فإني وردت حين أردت أن تقطع رقابنا عطشاً ! فقام معاوية وأمر له بخمسين ألف درهم » . (شرح الأخبار:1/745).

9- خطب شاميٌّ في مجلس معاوية: « فكان آخر كلامه أن لعن علياً (علیه السلام) فأطرق الناس! وتكلم الأحنف فقال لمعاوية: إن هذا القائل لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم ، فاتق الله ودع عنك علياً ، فقد لقي ربه وأفرد في قبره وخلا بعمله ، وكان والله المبرز بسبقه ، الطاهر خلقه ، الميمون نقيبته ، والعظيم مصيبته . فقال معاوية: يا أحنف لقد أغضيت العين على القذى ، وقلت بغير ما ترى ، وأيم الله لتصعدنَّ المنبر فلتلعنه طوعاً أو كرهاً !

فقال له الأحنف: إن تعفني فهو خير لك ، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري به شفتاي أبداً . قال: فاصعد المنبر ! قال الأحنف: أما والله لأنصفنَّك في القول والفعل. قال: وما أنت قائل يا أحنف؟ قال: أصعد المنبر فأحمد الله بما هو أهله ، وأصلي على نبيه (صلی الله علیه و آله) ثم أقول: أيها الناس إن معاوية أمرني أن ألعن علياً ،

ص: 386

وإن علياً ومعاوية إختلفا واقتتلا وادَّعى كل واحد منها أنه بغى على فئته ، فإذا دعوت فأمِّنوا رحمكم الله ، ثم أقول:اللهم ألعن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه، وألعن الفئة الباغية، أللهم العنهم لعناً كثيراً ! يا معاوية: لا أزيد على هذا ولا أنقص حرفاً، ولو كان فيه ذهاب نفسي ، فسكت معاوية وأعفاه عن ذلك ».(مواقف الشيعة: 1/244).

«عن الحسن البصري قال:جلسوا عند معاوية فتكلَّموا وصمت الأحنف ، فقال معاوية: يا أبا بحر ، مالك لاتتكلَّم ؟ قال: أخافكم إن صدقتكم، وأخاف اللَّه إن كذبت .« (عيون الأخبار لابن قتيبة:2/195) .

وفي ربيع الأبرار للزمخشري:2/61: «خطب معاوية فقال: إن الله يقول: وَإِنْ مِنْ شَئٍْ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ، فعلامَ يلوموني إذا قصرت في عطياتكم؟ فقال الأحنف: إنا والله لا نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن على ما أنزله من خزائنه فجعلته أنت في خزانتك ، وحُلْتَ بيننا وبينه» !

10. «قال الأحنف: دخلت على معاوية فقدَّم إليَّ من الحلو والحامض ما كثر تعجبي منه ، ثم قدم لونا ما أدري ما هو فقلت: ما هذا ؟ قال: مصارين البط مَحْشُوَّةٌ بالمخ (بمخاخ العصافير)، قد قليت بدهن الفستق ، وذر عليه الطبرزد . فبكيت فقال: ما يبكيك؟قلت: ذكرت علياً ، بينا أنا عنده فحضر وقت إفطاره ، فسألني المقام إذ دعا بجراب مختوم ، قلت: ما في الجراب ؟ قال: سويق شعير . قلت: خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟ قال: لا ولا أحدهما ، ولكني خفت أن يَلِتَّهُ الحسن والحسين بسمن أو زيت . قلت: محرم هو يا أمير المؤمنين ؟ قال:

ص: 387

لا ، ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدوا أنفسهم من ضعفة الناس ، لئلا يطغى بالفقير فقره ! قال معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله ».( التذكرة الحمدونية/69).

11- كان (رحمة الله) شجاعاً قائداً ، فقد جعله أمير المؤمنين (علیه السلام) أميراً على تميم البصرة كلها في معركة صفين.(شرح نهج البلاغة: 4/27) كما كان له دور قيادي في الفتوحات ، فكان أول من توجه الى فتح خراسان ، وطارد يزدجرد وقاتله وهزمه ، وكان فتح مرو الروذ وغيرها على يديه . (تاريخ دمشق:24/313 ) .

وكان على مقدمة الجيش في فتح هرات، وطخارستان، وطالقان، والجوزجان وغيرها . (شرح النهج:4/27) . راجع ما كتبناه عنه في فتح إيران .

وفي عيون الأخبار لابن قتيبة:1/330: «كتب معاوية إلى زياد: أنظر رجلاً يصلح لثغر الهند فولَّه، فكتب إليه إنّ قبلي رجلين يصلحان لذلك: الأحنف بن قيس، وسنان بن سلمة الهذلي . فكتب إليه معاوية: بأي يومي الأحنف نكافيه؟ أبخذلانه أمّ المؤمنين ، أم بسعيه علينا يوم صفّين؟ فوجه سناناً .

فكتب إليه زياد: إن الأحنف قد بلغ من الشرف والحلم والسؤدد ، ما لا تنفعه الولاية ، ولا يضرُّه العزل » !

ص: 388

خالد بن سعيد بن العاص بطل فتح فلسطين

1. شاء الله عز وجل أن يجعل من أبناء الفرعون أبي أُحَيْحَة ، مسلمين مؤمنين! وأبو أحيحة هو سعيد بن العاص الأموي ، من كبار أثرياء قريش ، ومعنى الأُحَيْحَة الضغينة في الصدر، وروي أن ابنه أحيحة قتل في حرب الفِجار .

والمعروف من أبنائه ابنه العاص الذي شهد بدراً مع المشركين فقتله علي (علیه السلام) ، وخالد ، وعمرو ، وأبان ، والحكم ، وسعيد ، وقد أسلموا وختم الله لهم بالشهادة ، وأفضلهم خالد . وانحصرت ذرية أبي أحيحية بحفيده سعيد بن العاص ، وقيل إن خالداً له عقب ولم يثبت ذلك .

«كان أبو أحيحة إذا اعْتَمَّ بمكة لا يعتم أحد بلون عمامته إعظاماً له، وكان يقال له: ذو التاج. وكان شديداً على المسلمين ، وكان أعز من بمكة ، فمرض فقال: لئن الله رفعني من مرضي هذا ، لا يعبد إلهُ ابن أبي كبشة بمكة ! فقال ابنه خالد عند ذلك: اللهم لا ترفعه . فتوفي في مرضه ذلك» . (أسد الغابة:2/82) .

2.أكرم الله خالداً برؤيتين كانتا سبب هدايته قبل أن يصدع النبي (صلی الله علیه و آله) بدعوته! ففي الإستيعاب:2/422: «عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال:كان إسلام خالد بن سعيد قديماً ، وكان أول إخوته إسلاماً ، وكان بدء إسلامه أنه رأى في النوم أنه وقف به على شفير النار ، فذكر من سعتهما ما الله أعلم به، وكأن أباه يدفعه فيها، ورأى رسول الله (صلی الله علیه و آله) آخذاً بحقويه لا يقع فيها، ففزع وقال: أحلف باللَّه إنها لرؤيا حق».

ص: 389

وفي الطبقات:1/166،وتاريخ دمشق: 16/67، قالت ابنته أم خالد المولودة في الحبشة: «لما كان قبيل مبعث النبي (صلی الله علیه و آله) بينا خالد بن سعيد ذات ليلة نائم، قال: رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لايبصر امرؤٌ كفه، فبينا هو كذلك إذ خرج نور من زمزم ثم علا في السماء فأضاء في البيت ، ثم أضاء مكة كلها، ثم إلى نجد، ثم إلى يثرب فأضاءها حتى أني لأنظر إلى البُسْر(الرطب) في النخل! قال: فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد، وكان جَزِلَ الرأي (راجح الرأي) فقال: يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبد المطلب! ألا ترى أنه خرج من حفيرة أبيهم (زمزم) قال خالد: فإنه لمما هداني الله به للإسلام .

قالت أم خالد: فأول من أسلم أبي ، وذلك أنه ذكر رؤياه لرسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: يا خالد أنا والله ذلك النور ، وأنا رسول الله ، فقص عليه ما بعثه الله به ، فأسلم خالد ، وأسلم عمرو » . والمنمق/292 ، وكنز الفوائد/93 .

وفي طبقات ابن سعد(4/94و95): «فلقي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو بأجياد فقال يا محمد إلى ما تدعو قال: أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، وخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ، ولا يدري من عبده ممن لم يعبده ! قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله . فسُرَّ رسول الله بإسلامه... وتغيب خالد ، وعلم أبو ه بإسلامه فأرسل بطلبه من بقي من ولده ممن لم يسلم ، ورافعاً مولاه فوجدوه ، فأتوا به إلى أبيه أبي أحيحة ، فأنبه وبكَّته وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه ،

ص: 390

ثم قال: أتبعت محمداً وأنت ترى خلافه قومه ، وما جاء به من عيب آلهتهم ، وعيب من مضى من آبائهم ! فقال خالد: قد صدق والله واتبعته .

فغضب أبو أحيحة ونال من ابنه وشتمه ، ثم قال:إذهب يا لكع حيث شئت فوالله لأمنعك القوت ! فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به. فأخرجه وقال لبنيه: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت به ، فانصرف خالد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فكان يلزمه ويكون معه» والحاكم:3/248.

وفي الآحاد والمثاني:1/387: « وكان جميلاً ، وسيماً ، قُتل وهو ابن نحو خمسين » .

3. هرب من سجن أبيه وعاش هو وزجته في مكة فترةً ، ثم هاجر الى الحبشة. قال ابن سعد في الطبقات: 4/95: « كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص ثالثاً أو رابعاً ، وكان ذلك ورسول الله (صلی الله علیه و آله) يدعو سراً.. فضربه أبو أحيحة بقراعة في يده حتى كسرها على رأسه ، ثم أمر به إلى الحبس وضيق عليه وأجاعه وأعطشه ، حتى لقد مكث في حر مكة ثلاثاً مايذوق ماء ، فرأى خالد فُرجة فخرج ، فتغيب عن أبيه في نواحي مكة ، حتى حضر خروج أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الحبشة في الهجرة الثانية » .

أقول: أثبتنا في السيرة النبوية من مصادر الطرفين أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث أولاً الى بني هاشم خاصة فجمعهم لحمايته مقابل قريش ، التي أصرت على قتله ، ولم يدعُ الناس إلا بعد ثلاث سنوات عندما أنزل الله تعالى عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وجاء جبرئيل (علیه السلام) وقال له: لقد كفاك الله إياهم! وكانوا خمسة فراعنة فقتلهم الله في يوم واحد ، كما تقدم في ترجمة ابن الوليد .

ص: 391

وفي تلك السنوات الثلاث لم يؤمن إلا بعض بني هاشم وأبو ذر بكرامة رآها ، وسعيد بن العاص بكرامة رآها . وهذا يدل على مقامهما المميز رضي الله عنهما .

وفي الإستيعاب:2/420: «هاجر إلى أرض الحبشة مع امرأته الخزاعية، وولد له بها ابنه سعيد بن خالد وابنته أم خالد...قالت..وشهد أبي مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمرة القضاء وفتح مكة وحنيناً والطائف وتبوك ، وبعثه رسول الله على صدقات اليمن ، فتوفى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأبي باليمن » .

أقول: لم ينقطع سعيد عن النبي (صلی الله علیه و آله) بعد هجرته ، ويظهر أنه كان مأموراً بالبقاء في الحبشة مع جعفر ، وكان يتحرك الى الشام واليمن بأمر النبي (صلی الله علیه و آله) .

قال ابن سعد(4/99) وابن عساكر في تاريخه (16/71): « إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعثه في رهط من قريش إلى ملك الحبشة فقدموا عليه..هو وأصحابه وقد فرغ رسول الله (صلی الله علیه و آله) من وقعة بدر ، فأقبل يمشي ومعه ابنته فقال: يا رسول الله لم نشهد معك بدراً ، فقال (صلی الله علیه و آله) : أوَمَا ترضى يا خالد أن يكون للناس هجرة ولكم هجرتان ثنتان ؟ قال: بلى يا رسول الله . قال: فذاك لكم . ثم إن خالداً قال لابنته: إذهبي إلى عمك ، إذهبي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسلمي عليه ، فذهبت الجويرية حتى أتته من خلفه فأكبت عليه ، وعليها قميص أصفر فأشارت به إلى رسول الله تريه فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : سنه سنه ، يعني بالحبشية: أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي».

كما أن قول ابن عبد البر: «وبعثه رسول الله على صدقات اليمن» خطأ أو مسامحة . وقد أرسله (صلی الله علیه و آله) الى اليمن مرات ، منها في فتحها مع علي (علیه السلام) ، وآخرها والياً على صنعاء الى أن توفي النبي (صلی الله علیه و آله) ، قال ابن عساكر (16/77): «فاستعمل على

ص: 392

صنعاء خالد بن سعيد بن العاص». وفي مكاتيب النبي (صلی الله علیه و آله) للأحمدي:1/303: «وكتب له (صلی الله علیه و آله) كتاب الفرائض».

4. أسلم خالد وأخوه عمرو ، وأقنعا بالمراسلة أخاهما أباناً ، فأسلم عند عودتهما من الهجرة وحسن إسلامه ، فولاه النبي (صلی الله علیه و آله) على البحرين ، وبقي والياً عليها حتى توفي النبي (صلی الله علیه و آله) وشارك في فتح الشام ، واستشهد مع أخويه في السنة الرابعة عشرة للهجرة . (الإصابة:1/169). وسيأتي الكلام في شهادة خالد !

ويفهم من شعر أبان أن زوجة خالد الخزاعية كان لها دور في إقناعه بالإسلام ، فقد بعث لأخويه خالد وعمرو رسالة إلى الحبشة ، كما في تاريخ دمشق: 6/129:

« ألا ليت ميتاً بالظريبة شاهداً *** لما يفترى في الدين عمرو وخالد

أطاعا بنا أمر النساء فأصبحا *** يعينان من أعدائنا من نكابد

فأجابه أخوه خالد:

أخي ما أخي لا شاتمٌ أنا عرضه *** ولا هو عن سوء المقالة مقصر

يقول إذا اشتدت عليه أموره *** ألا ليت ميتاً بالظريبة ينشر

فدع عنك ميتاً قد مضى لسبيله *** وأقبل على الحيِّ الذي هو أقفر »

ثم أسلم أبان وحسن إسلامه ، وكذا الحكم بن سعيد .

قال في دمشق:29/57: «استشهد الحكم بن سعيد بن العاص يوم مؤتة مع جعفر بن أبي طالب ، واستشهد مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم حصن الطائف سعيد بن سعيد بن العاص... وولد سعيد بن العاص أبو أحيحة ثمانية رجال ، لم يمت أحد منهم على فراشه ! فقتل ثلاثة مع المشركين ، وخمسة مع المسلمين ! قتل أحيحة

ص: 393

يوم الفجار ، وقتل العاص بن سعيد بن العاص ، وعبيدة بن سعيد بن العاص يوم بدر، وقتل سعيد بن سعيد يوم الطائف ، وقتل الحكم بن سعيد يوم اليمامة ، وكان يُعلم الحكمة بالمدينة ، وقتل خالد يوم مرج الصُّفَّر ، وهو الذي يقول:

مَنْ فارسٌ كَرِهَ الطعان يعيرني *** رمحاً إذا نزلوا بمرج الصُّفَّر

وقتل أبان وعمرو يوم أجنادين . وقال ابن الكلبي: قتل عمرو يوم فحل...قال علي بن محمد عن أبي معشر المدني في تسمية من استشهد من المسلمين يوم اليمامة: الحكم بن سعيد بن العاص بن أمية.. وذكر أبو بكر البلاذري أن الحكم قد استشهد يوم اليمامة ، قال: ويقال إنه قتل يوم مؤتة».

5. هاجر خالد إلى الحبشة فكان مع جعفر وكان يتردد على النبي (صلی الله علیه و آله) ويكلفه بمهمات ، فقد أرسله إلى قيصر، وتأثر به كبير الأساقفة.( تاريخ دمشق: 16/67).

وكان يتاجر إلى اليمن فجاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله) بمنجنيق من جرش( إمتاع الأسماع:2/21).

وكان يكتب للنبي (صلی الله علیه و آله) ، وهو أول من بدأ الرسائل بكتابة البسملة في أول كتب النبي (صلی الله علیه و آله) (الدر المنثور:1/11) وتجد في مكاتبات النبي (صلی الله علیه و آله) بضعة عشركتاباً ختمت بعبارة: « وكتبه خالد بن سعيد بن العاص» منها كتابه (صلی الله علیه و آله) الى بني عمرو من حمير (مكاتيب الرسول للأحمدي:1/214) وكتابه الى ثقيف (المصدر:3/58) وكتابه الى بني أسد (المصدر:3 /239 ) ولبني عريض (المصدر:3/255) والى بني غاديا (المصدر:3 /421 ) والى بني عوف من بني سليم (المصدر:3/434) والى راشد بن عبد رب السلمي (المصدر:3/436) والى بني جفال بن ربيعة بن زيد الجذاميين (المصدر:3/447) والى العداء بن خالد بن هوذة (المصدر:3/449) والى سعيد بن

ص: 394

سفيان الرعلي(المصدر:3 /475) والى عك ذي خيوان (سنن أبي داود:2/40) والى يهود تيماء (الفائق:3/231) والى بني عمرو من حمير (الطبقات:1/265) والى بني أسد (الطبقات:1/269) والى بني عريض طعمة وهم قوم من يهود (الطبقات: 1/ 278).

وكان سفير النبي (صلی الله علیه و آله) والمفاوض عنه لثقيف ، وكتب عهدهم . (الدرر/248).

ومن حبه للنبي (صلی الله علیه و آله) صنع لنفسه في الحبشة خاتماً عليه إسمه فأعجب النبي (صلی الله علیه و آله) فأخذه منه ، وكان خاتمه الشريف .

وقال في الإستيعاب:2/422: «ذكر البغوي..أنه أتى النبي (صلی الله علیه و آله) وعليه خاتم من فضّة مكتوب عليه:محمد رسول الله ، قال: فأخذه مني فلبسه وهو الَّذي كان في يده (صلی الله علیه و آله) ». وفي الإستيعاب:3/1177: أنه كان خاتم أخيه عمرو بن سعيد ، وأنه بعد النبي (صلی الله علیه و آله) : « أخذه أبو بكر فكان في يده ، ثم أخذه عمر فكان في يده ، ثم أخذه عثمان فكان في يده عامة خلافته ، حتى سقط منه في بئر أريس ».

ورجع من الهجرة مع جعفر بن أبي طالب في سنة سبع. (الإستيعاب: 3/1177 ) .

6. شارك سعيد بفعالية في حروب النبي (صلی الله علیه و آله) وأمَّره في فتح مكة على سرية وأرسله قائد سرية الى ذي عَرَنة . ( التنبيه والإشراف/233 ).

وأرسله مع علي (علیه السلام) لفتح اليمن فجعله علي (علیه السلام) قائد مقدمته ، وبرز الى عمرو بن معدي كرب فنهاه علي (علیه السلام) ، وبرز اليه علي (علیه السلام) وصاح بعمرو صيحة علويةً فهرب ! ثم جاء عمرو واستأمن ، وأعطى سيفه المشهور الصمصامة الى خالد .

ص: 395

وكان النبي (صلی الله علیه و آله) بعث خالد بن الوليد في جيش الى اليمن ، فبقي ستة أشهر ولم يستطع فعل شئ ، فأرسل علياً (علیه السلام) فقصد جهة ، فتحرك خالد ليسبقه اليها فنهاه فلم ينتهِ ، فبعث اليه خالد بن سعيد فأجبره على طاعة أميره.(كشف الغمة:1/229).

وقال ابن حجر في الإصابة:2/203: «وثبت في ديوان عمرو بن معد يكرب أنه مدح خالد بن سعيد بن العاص لما بعثه النبي (صلی الله علیه و آله) مصدقاً عليهم بقصيدة يقول فيها:

فقلت لباغي الخير إن تأت خالداً *** تُسَرَّ وترجعْ ناعمَ البال حامدا

وقال ابن إسحاق وخليفة والزبير بن بكار: استشهد خالد يوم مرج الصفر وكذا قال إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة . وقال محمد بن فليح عن موسى بن عقبة: استشهد يوم أجنادين . كذا قال أبو الأسود عن عروة . وقد اختلف أهل التاريخ أيهما كان قبل».

7. وعندما توفي النبي (صلی الله علیه و آله) جاء الى المدينة ، وتفاجأ ببيعة أبي بكر ، فغضب ، واستنكر عمل أهل السقيفة ، ووقف بقوة الى جانب علي (علیه السلام) وقال لبني هاشم: أنتم الظهار والبطان ، والشعار دون الدثار، والعصا دون اللحا ، فإذا رضيتم رضينا ، وإذا أسخطتم سخطنا...وبلغت أبا بكر فلم يحفل بها ، واضطغنها عليه عمر ، فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام ، قال له عمر: أتُولي خالداً وقد حبس عليك بيعته ، وقال لبني هاشم ما قال !». (شرح النهج:2/58).

وفي أسد الغابة:2/84:«فقال لبني هاشم: إنكم لطوال الشجر طيبوا الثمر ، ونحن تبع لكم . فلما بايع بنو هاشم أبا بكر بايعه خالد وأبان . ثم استعمل أبو بكر

ص: 396

خالداً على جيش من جيوش المسلمين حين بعثهم إلى الشام ، فقتل بمرج الصُّفَّر في خلافة أبى بكر ».

وفي الإحتجاج:1/97، والخصال/461، عن أبان بن تغلب قال: « قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیهما السلام) : جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله (صلی الله علیه و آله) ؟

قال: نعم ، كان الذي أنكر على أبي بكر اثني عشر رجلاً. من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني أمية ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي. ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان ، وسهل وعثمان ابنا حنيف ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبي بن كعب ، وأبو أيوب الأنصاري.. وغيرهم، فلما صعد المنبر تشاوروا بينهم في أمره فقال بعضهم: هلا نأتيه فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وقال آخرون: إن فعلتم ذلك أعنتم على أنفسكم، وقال الله عز وجل:وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْتَّهْلُكَةِ ، ولكن إمضوا بنا إلى علي بن أبي طالب نستشيره ونستطلع أمره . فأتوا علياً (علیه السلام) فقالوا: يا أمير المؤمنين ضيعت نفسك وتركت حقاً أنت أولى به ، وقد أردنا أن نأتي الرجل فننزله عن منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فإن الحق حقك ، وأنت أولى بالأمر منه ، فكرهنا أن ننزله من دون مشاورتك .

فقال لهم علي (علیه السلام) : لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا حرباً لهم ، ولا كنتم إلا كالكحل في العين أو كالملح في الزاد ، وقد اتفقت عليه الأمة التاركة لقول نبيها والكاذبة على ربها ! ولقد شاورت في ذلك أهل بيتي فأبوا إلا السكوت ، لما تعلمون من

ص: 397

وغر صدور القوم ، وبغضهم لله عز وجل ولأهل بيت نبيه (صلی الله علیه و آله) ، وأنهم يطالبون بثارات الجاهلية!

والله لو فعلتم ذلك لشهروا سيوفهم مستعدين للحرب والقتال ،كما فعلوا ذلك حتى قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني ، وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك ، فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي ! وذاك أني ذكرت قول رسول الله (صلی الله علیه و آله) : يا علي إنِ القوم نقضوا أمرك واستبدوا بها دونك وعصوني فيك ، فعليك بالصبر حتى ينزل الأمر ! ألا وإنهم سيغدرون بك لامحالة ، فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك ، فإن الأمة ستغدر بك بعدي ! كذلك أخبرني جبرئيل عن ربي تبارك وتعالى !

ولكن إئتوا الرجل فأخبروه بما سمعتم من نبيكم (صلی الله علیه و آله) ، ولا تجعلوه في الشبهة من أمره ، ليكون ذلك أعظم للحجة عليه ، وأبلغ في عقوبته إذا أتى ربه وقد عصى نبيه (صلی الله علیه و آله) وخالف أمره !

قال: فانطلقوا حتى حفوا بمنبر رسول الله يوم جمعة فقالوا للمهاجرين: إن الله عز وجل بدأ بكم في القرآن فقال: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، فبكم بدأ . وكان أول من بدأ وقام ، خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية فقال: يا أبا بكر إتق الله فقد علمت ما تقدم لعلي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألا تعلم أن رسول الله قال لنا ونحن محتوشوه في يوم بني قريظة ، وقد أقبل على رجال منا ذوي قدر فقال: يامعشر المهاجرين والأنصار أوصيكم بوصية فاحفظوها ، وإني مؤد إليكم أمراً فاقبلوه ، ألا إن علياً أميركم من بعدي ، وخليفتي فيكم ،

ص: 398

أوصاني بذلك ربي. وإنكم إن لم تحفظوا وصيتي فيه وتؤووه وتنصروه ، اختلفتم في أحكامكم ، واضطرب عليكم أمر دينكم ، وولي عليكم الأمر شراركم !

ألا وإن أهل بيتي هم الوارثون أمري ، القائمون بأمر أمتي ، اللهم فمن حفظ فيهم وصيتي فاحشره في زمرتي ، واجعل له من مرافقتي نصيباً يدرك به فوز الآخرة . اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي فأحرمه الجنة التي عرضها السماوات والأرض !

فقال له عمر بن الخطاب:أسكت يا خالد فلست من أهل المشورة ولا ممن يُرضى بقوله. فقال خالد: بل أسكت أنت يا ابن الخطاب ، فوالله إنك لتعلم أنك تنطق بغير لسانك ، وتعتصم بغير أركانك !

والله إن قريشاً لتعلم أني أعلاها حسباً ، وأقواها أدباً ، وأجملها ذكراً ، وأنك ألأمها حسباً ، وأقلها عدداً ، وأخملها ذكراً ، وأقلها من الله عز وجل ومن رسوله غنى . وإنك لجبانٌ عند الحرب ، بخيلٌ في الجدب ، ليئمُ العنصر ، ما لك في قريش مفخر ! قال: فأسكته خالد فجلس !

ثم قام أبو ذر (رحمة الله) فقال ، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد يا معشر المهاجرين والأنصار، لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: الأمر لعلي بعدي ، ثم للحسن والحسين ، ثم في أهل بيتي من ولد الحسين ، فاطَّرحتم قول نبيكم ، وتناسيتم ما أوعز إليكم ، واتبعتم الدنيا وتركتم نعيم الآخرة الباقية التي لايهدم بنيانها ولا يزول نعيمها ، ولا يحزن أهلها ، ولايموت سكانها .

ص: 399

وكذلك الأمم التي كفرت بعد أنبيائها بدلت وغيرت ، فحاذيتموها حذو القذة بالقذة ، والنعل بالنعل ، فعما قليل تذوقون وبال أمركم ، وما الله بظلام للعبيد !

ثم قام سلمان الفارسي (رحمة الله) فقال: يا أبا بكر إلى من تستند أمرك إذا نزل بك القضاء ، وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلم ، وفي القوم من هو أعلم منك وأكثر في الخير أعلاماً ومناقب منك ، وأقرب من رسول الله (صلی الله علیه و آله) قرابة وقدمة ، وفي حياته قد أوعز إليكم فتركتم قوله ، وتناسيتم وصيته ، فعما قليل يصفو لكم الأمر حين تزوروا القبور ، وقد أثقلت ظهرك من الأوزار ، لو حملت إلى قبرك لقدمت على ما قدمت ، فلو راجعت إلى الحق وأنصفت أهله لكان ذلك نجاة لك يوم تحتاج إلى عملك ، وتفرد في حفرتك بذنوبك بما أنت له فاعل ، وقد سمعت كما سمعنا ورأيت كما رأينا ، فلم يردعك ذلك عما أنت له فاعل، فالله الله في نفسك ، فقد أعذر من أنذر !

ثم قام المقداد بن الأسود (رحمة الله) فقال: يا أبا بكر إربع على نفسك ، وقس شبرك بفترك والزم بيتك ، وابك على خطيئتك، فإن ذلك أسلم لك في حياتك ومماتك ورُدَّ هذا الأمر إلى حيث جعله الله عز وجل ورسوله (صلی الله علیه و آله) ولا تركن إلى الدنيا ، ولا يغرنك من قد ترى من أوغادها ، فعما قليل تضمحل عنك دنياك ، ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك . وقد علمت أن هذا الأمر لعلي وهو صاحبه بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وقد نصحتك إن قبلت نصحي .

ثم قام بريدة الأسلمي فقال: يا أبا بكر، نسيت أم تناسيت أم خادعتك نفسك أما تذكر إذا أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فسلمنا على علي بإمرة المؤمنين ، ونبينا عليه

ص: 400

السلام بين أظهرنا ! فاتق الله ربك وأدرك نفسك قبل أن لا تدركها ، وأنقذها من هلكتها، ودع هذا الأمر ووكله إلى من هو أحق به منك ، ولا تمادِ في غيك ، وارجع وأنت تستطيع الرجوع ، فقد نصحتك نصحي ، وبذلت لك ما عندي ، فإن قبلت وفقت ورشدت !

ثم قام عبد الله بن مسعود فقال: يا معشر قريش قد علمتم وعلم خياركم أن أهل بيت نبيكم أقرب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) منكم ، وإن كنتم إنما تدعون هذا الأمر بقرابة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتقولون: إن السابقة لنا ، فأهل نبيكم أقرب إلى رسول الله منكم وأقدم سابقة منكم . وعلي بن أبي طالب صاحب هذا الأمر بعد نبيكم فأعطوه ما جعله الله له ، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين !

ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا أبا بكر ، لا تجعل لنفسك حقاً جعله الله عز وجل

لغيرك ، ولا تكن أول من عصى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وخالفه في أهل بيته ، واردد الحق إلى أهله ، يخفّ ظهرك وتقل وزرك ، وتلقى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهو عنك راض ، ثم تصير إلى الرحمن فيحاسبك بعملك ويسألك عما فعلت !

ثم قام خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال: يا أبا بكر ألست تعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري؟ قال: نعم ، قال: فأشهد بالله أني سمعت رسول (صلی الله علیه و آله) يقول: أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل ، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم !

ص: 401

ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا أبا بكر أنا أشهد على النبي (صلی الله علیه و آله) أنه أقام علياً فقالت الأنصار: ما أقامه إلا للخلافة ، وقال بعضهم: ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه ولي من كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) مولاه ، فقال (صلی الله علیه و آله) : إن أهل بيتي نجوم أهل الأرض فقدموهم ولا تقدموهم .

ثم قام سهل بن حنيف فقال: أشهد أني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال على المنبر: إمامكم من بعدي علي بن أبي طالب ، وهو أنصح الناس لأمتي .

ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال: إتقوا الله في أهل بيت نبيكم ، وردوا هذا الأمر إليهم ، فقد سمعتم كما سمعنا في مقام بعد مقام ، من نبي الله (صلی الله علیه و آله) أنهم أولى به منكم . ثم جلس . ثم قام زيد بن وهب فتكلم ، وقام جماعة من بعده ، فتكلموا بنحو هذا ..

قال الصادق (علیه السلام) : فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يحر جواباً ، ثم قال:وليتكم ولست بخيركم ، أقيلوني أقيلوني !

فقال له عمر بن الخطاب: إنزل عنها يا لكع! إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام؟ والله لقد هممت أن أخلعك وأجعلها في سالم مولى أبي حذيفة. قال: فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله ، وبقوا ثلاثة أيام لايدخلون مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ! فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل(يقصد هيأ ألفاً) فقال لهم: ماجلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم؟ وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل،

ص: 402

فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد رسول الله، فقال عمر:

والله يا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه! فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال: يا ابن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددوننا ، أم بجمعكم تفزعوننا، والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم ، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قليلين ، لأن حجة الله فينا.

والله لولا أني أعلم أن طاعة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وطاعة إمامي أولى بي ، لشهرت سيفي وجاهدتكم في الله إلى أن أبلي عذري! فقام أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال: أجلس يا خالد ، فقد عرف الله لك مقامك وشكر لك سعيك . فجلس .

وقام إليه سلمان الفارسي فقال: الله أكبر الله أكبر! سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله) بهاتين الأذنين وإلا صُمَّتَا ، يقول: بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه ، إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار ، يريدون قتله وقتل من معه، فلست أشك إلا وإنكم هم ! فهمَّ به عمر بن الخطاب ، فوثب إليه أمير المؤمنين (علیه السلام) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ، ثم قال: يا ابن صهاك الحبشية ! لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم ، لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً !

ثم التفت إلى أصحابه فقال: إنصرفوا رحمكم الله ، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون إذ قال له أصحابه: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ. والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو لقضية أقضيها ، فإنه لا يجوز لحجة أقامها رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يترك الناس في حيرة »! والإحتجاج:1/104.

ص: 403

وتقدم بعضه في الفصل الأول ، والفقرة الأخيرة تحدد موقف علي (علیه السلام) من نظام الخلافة القرشية بدقة . وقد كان موقف خالد بن سعيد رضي الله عنه شديداً على أهل السقيفة، فقام علي (علیه السلام) وهدأه ، وإلا لاصطدم بعمر وأهل السقيفة واقتتلوا !

وينبغي الإلتفات الى أن الفقرات التي نقلتها الرواية من خطب هؤلاء المهاجرين والأنصار هي بعض خطبهم ،ولا بد أنها تضمنت حججاً أخرى منها بيعة الغدير ، وقد احتجت بها الزهراء (علیها السلام) فقالت: وهل ترك أبي لأحد في غدير خم عذرا ؟!

8. ووصف علي (علیه السلام) أيام السقيفة فقال: «فأتى رهط من أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) يعرضون عليَّ النصرة ، منهم خالد وأبان ابنا سعيد بن العاص ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، وسلمان الفارسي ، والزبير بن العوام ، وأبو سفيان بن حرب ، والبراء بن مالك الأنصاري . فقلت لهم: إن عندي من نبي الله العهد وله الوصية ، وليس لي أن أخالفه ، ولست أجاوز أمره وما أخذه علي لله ! لو خزموا أنفي لأقررت سمعاً وطاعة لله عز وجل .

فبينا أنا على ذلك إذ قيل: قد انثال الناس على أبي بكر وأجفلوا عليه ليبايعوه ، وما ظننت أنه تخلف عن جيش أسامة ، إذ كان النبي (صلی الله علیه و آله) قد أمَّره عليه وعلى صاحبه ، وأمر أن يجهز جيش أسامة ، فلما رأيته قد تخلف وطمع في الأمارة ، ورأيت انثيال الناس عليه أمسكت يدي...فلبثت ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس ، رجعت عن الإسلام وأظهرت ذلك ، يدعون إلى محو دين الله وتغيير ملة محمد (صلی الله علیه و آله) ! فخشيت إن لم أنصر الإسلام وقعدت ، أن أرى فيه ثلماً وهدماً تكون مصيبته عليَّ أعظم من فوت ولاية أموركم ، التي إنما هي متاع أيام قلائل ، ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب ، وينقشع كما ينقشع السحاب .

ص: 404

ورأيت الناس قد امتنعوا بقعودي عن الخروج إليهم، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فتألفته، ولولا أني فعلت ذلك لباد الإسلام !

ثم نهضت في تلك الأحداث حتى انزاح الباطل وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره المشركون». (المسترشد/411 , طبعة97، ودلائل الإمامة:1/83، من منشور من بضع صفحات كتبه (علیه السلام) ليقرأه المسلمون في بلادهم ).

9. وعرض عليه أبو بكر وعلى إخوته أن يرسلهم ولاة على بلدان ، فرفضوا ، فقد روى في الإستيعاب:2/422:«قال خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد: أخبرني أبي أنّ أعمامه خالداً ، وأباناً ، وعمرا ، بني سعيد بن العاص رجعوا عن عمالتهم حين مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال أبو بكر: ما لكم رجعتم عن عمالتكم؟ ما أحد أحقُّ بالعمل من عمَّال رسول الله (صلی الله علیه و آله) إرجعوا إلى أعمالكم . فقالوا: نحن بنو أبى أحيحة لا نعمل لأحد بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أبداً . ثم مضوا إلى الشام (الى الجهاد) فقتلوا جميعاً . وكان خالد على اليمن ، وأبان على البحرين ، وعمرو على تيماء وخيبر وقرى عربية ، وكان الحكم يعلم الحكمة . ويقال: ما فتحت بالشام كورة إلا وجد فيها رجل من بنى سعيد بن العاص ميتاً . وكان سعيد بن سعيد بن العاص قد قتل مع رسول الله (صلی الله علیه و آله) بالطائف». ونحوه الحاكم:3/249 مختصراً .

10. واستشار أبو بكر علياً (علیه السلام) في غزو الروم فشجعه ، وعين خالد بن سعيد قائداً عاماً لجيش الشام . ويظهر أنه عندما نهض علي (علیه السلام) لنصرة الإسلام ودفع هجوم القبائل على المدينة بعد ستين يوماً من وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) ، كان معه خالد بن سعيد وإخوته ، ولا بد أن أدوارهم كانت مميزة كعادتهم ، وأن أبا بكر رأى

ص: 405

بطولتهم في رد هجوم أتباع طليحة ، ورآهم رفضوا الولاية ، فعرض على خالد قيادة جيش فتح الشام ، واستشار خالدٌ علياً (علیه السلام) فشجعه ، فكان أول لواء عقده أبو بكر لواء خالد ، وكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشام ومعه سبعة آلاف ، ووصل الى ذي المروة ، وهو قرب تيماء على بعد أربعة أيام من المدينة .

وفي تاريخ اليعقوبي:2/133: «وأراد أبو بكر أن يغزو الروم ، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله ، فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي طالب ، فأشار أن يفعل فقال: إن فعلت ظفرت . فقال: بُشِّرْتَ بخير ! فقام أبو بكر في الناس خطيباً وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم ، فسكت الناس ، فقام عمر فقال: لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً ، لانتدبتموه ! فقام عمرو بن سعيد فقال: لنا تضرب أمثال المنافقين يا ابن الخطاب ، فما يمنعك أنت ماعبت علينا فيه؟

فتكلم خالد بن سعيد وأسكت أخاه فقال: ما عندنا إلا الطاعة ! فجزَّاه أبو بكر خيراً ، ثم نادى في الناس بالخروج وأميرهم خالد بن سعيد ، وكان خالد من عمال رسول الله باليمن ، فقدم وقد توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) فامتنع عن البيعة ، ومال إلى بني هاشم، فلما عهد أبو بكر لخالد قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس عنك بيعته وقال لبني هاشم ما قد بلغك؟ فوالله ما أرى أن توجهه ! فحل لواءه ودعا يزيد بن أبي سفيان ، وأبا عبيدة بن الجراح ، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، فعقد لهم وقال: إذا اجتمعتم فأمير الناس أبو عبيدة».

ص: 406

وفي تاريخ الطبري:2/586 ، وشرح النهج:2/58:«واضطغنها عليه عمر ، فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام ، قال له عمر: أتولي خالداً وقد حبس عليك بيعته ، وقال لبني هاشم ما قال» !

وروى البلاذري(1/128) عن أبي مخنف: «لما عقد أبو بكر لخالد بن سعيد ، كره عمر ذلك، فكلم أبا بكر في عزله وقال: إنه رجل فخور يحمل أمره على المغالبة والتعصب . فعزله أبو بكر ووجه أبا أروى الدوسي لأخذ لوائه ، فلقيه بذى المروة فأخذ اللواء منه وورد به على أبى بكر ، فدفعه أبو بكر إلى يزيد بن أبي سفيان ، فسار به ومعاوية أخوه يحمله بين يديه . ويقال بل سلم إليه اللواء بذى المروة فمضى على جيش خالد وسار خالد بن سعيد محتسباً في جيش شرحبيل».

وفي تاريخ دمشق: 65/244: «عن ابن عمر قال: لما عقد أبو بكر الأمراء على الشام كنت في جيش خالد بن سعيد بن العاص ، فصلى بنا الصبح بذي المروة وهو على الجيوش كلها ، فوالله إنا لعنده إذ أتاه آت فقال قدم يزيد بن أبي سفيان ، فقال خالد بن سعيد: هذا عمل عمر بن الخطاب كلم أبا بكر في عزلي ، وولى يزيد بن أبي سفيان ! فقال ابن عمر: فأردت أن أتكلم ثم عزم لي على الصمت . قال: فتحولنا إلى يزيد بن أبي سفيان وصار خالد كرجل منهم . وقال محمد بن عمر ( ابن عساكر ): وهذا أثبت عندنا مما روي في عزل خالد وهو بالمدينة».

أقول: ذو المروة قرب أم القرى ، وتبعد عن المدينة مسير أربعة أيام وأكثر ، ومعناه أن خالداً بعد أن قطع بجيش الشام هذه المسافة وصله بريد أبي بكر ، وكان عبد الله بن عمر في جيشه ، فسلم الجيش الى يزيد بن أبي سفيان ، وعاد هو الى المدينة .

ص: 407

11. رجع خالد بن سعيد الى المدينة وعَتِبَ على أبي بكر ، فاعتذر منه واحترمه ، فقد روى ابن عساكر(16/81): «عن محمد بن إسحاق أن خالد بن سعيد لما بلغه قول أبي بكر ونزعه ، لبس ثيابه وتهيأ بأحسن هيئة ، ثم أقبل نحو أبي بكر وعنده المهاجرون والأنصار أجمع ماكانوا عنده ، وقد تهيأ الناس وأمروا بالنزول بالعسكر، فسلم على أبي بكر ثم على المسلمين ثم جلس ، فقال لأبي بكر: أما أنت قد وليتني أمر المسلمين وأنت غير مُتَّهِمٍ لي ورأيك فيَّ حسن ، حتى خُوِّفْتَ أمراً ( أي خوفه عمر أن ينقلب عليه) والله لأن أخِرَّ من رأس حالق وتخطفني الطير بين السماء والأرض أحب إلي من أن يكون مني.(كأن عمر اتهمه عمر بحركة انقلاب)!

والله ما أنا في الإمارة براغب ، ولا أنا على البقاء في الدنيا بحريص ، وإني لأشهدكم أني وإخوتي ومن خرجنا في وجهنا به من عون أو قوة في سبيل الله نقاتل به المشركين أبداً حتى يهلكوا أو نموت ، لا نريد به سلطاناً ولا عرضاً من الدنيا . قال: فقال له الناس خيراً ودعوا له .

فقال أبو بكر: أعطاني الله في نفسي الذي أحب لك ولإخوتك ، والله إني لأرجو أن تكون من فصحاء الله في عباده، وإقامة كتابه واتباع سنة رسول الله.

قال فخرج هو وإخوته وغلمانه ومن اتبعه، وكان أول من عسكر ، قال: ولما تهيأ الناس للخروج وترافق الناس وانضمت المتطوعة إلى من أحبت ، نزل خالد بن سعيد تحت لواء أبي عبيدة يسير معه ، قال فقال بعض الناس لخالد بن سعيد حين تهيأ للخروج مع أبي عبيدة: لو كنت خرجت مع ابن عمك يزيد بن أبي سفيان . فقال: ابن عمي أحب اليَّ من هذا لقرابته ، وهذا أحب إليَّ من ابن عمي

ص: 408

في دينه وقرابته . هذا كان أخي على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) ووليي وناصري قبل اليوم على ابن عمي ، فأنا به أشد استئناساً وإليه أشد طمأنينة .

فلما أراد أن يغدو سائراً إلى الشام لبس سلاحه ، وأمر إخوته فلبسوا أسلحتهم عمرو والحكم وغلمته ومواليه ، ثم أقبلوا من العسكر إلى أبي بكر الصديق فصلوا معه الغداة في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلما انصرفوا قام إليه إخوته فجلسوا إليه فحمد الله خالد وأثنى عليه ثم قال: يا أبا بكر إن الله قد أكرمنا وإياك والمسلمين طراً بهذا الدين ، فأحقُّ من أقام السنة وأمات البدعة وعدل في السيرة الوالي على الرعية . كل امرئ من هذا الدين محقوق بالإحسان إلى إخوانه، ومَعْدَلَةُ الوالي أعم نفعاً، فاتق الله يا أبا بكر فيما ولاك الله من أمره ، وارحم الأرملة واليتيم ، وأعن الضعيف والمظلوم ، ولا يكن رجل من المسلمين إذا رضيت عنه آثر في الحق عندك منه إذا سخطت عليه ، ولا تغضب ما قدرت عليه فإن الغضب يجر الجور ، ولا تحقد وأنت تستطيع ، فإن حقدك على المسلم يجعله لك عدواً ، فإن اطلع على ذلك منك عاداك ، فإذا عادت الرعية الراعي كان ذلك مما يكون إلى هلاكهم داعياً. ولِنْ للمحسن واشتدَّ على المريب ، ولا تأخذك في الله لومة لائم .

ثم قال: هلم يدك يا أبا بكر أودعك ، فإني لا أدري هل تلقاني في الدنيا أبداً أم لا ، فإن قضى الله لنا الإلتقاء فنسأل الله لنا عفوه وغفرانه ، وإن كانت هي الفرقة التي ليس بعدها لقاء ، فعرفنا الله وإياك وجه النبي (صلی الله علیه و آله) في جنات النعيم .

ص: 409

ثم أخذ أبو بكر بيده وبكى وبكى المسلمون ، وظنوا أنه يريد الشهادة ، فطال بكاؤهم ! قال: ثم إن أبا بكر قال له: إنتظرني حتى أمشي معك . قال: ما أريد أن تفعل . قال: لكني أنا أريد ذلك ، ومن أراده من المسلمين . وقام الناس معه مشيعين ، فما زال يمشي معه حتى كثر من يشيع خالداً .

قال: فما رأى الناس مشيعاً من المسلمين معه من الناس من الصالحين ، أكثر مما شيع خالد بن سعيد وإخوته يومئذ !

فلما خرج من المدينة قال له أبو بكر قد أنصفت لك إذ أوصيتني برشدي ، وقد وعيت وصيتك ، فأنا مرضيك فاسمع وصيتي: إنك امرؤ قد جعل الله لك شرفاً وسابقة في هذا الدين ، وفضيلة عظيمة في الإسلام ، والناس ناظرون إليك ومستمعون منك ، وقد خرجت في هذا الوجه ، وأنا أرجو أن يكون خروجك بنية صادقة ، فثبِّتِ العالم وعَلِّمِ الجاهل وعاتبِ السفيه المترف ، وانصح لعامة المسلمين ..ثم أخذ بيده فودعه ثم أخذ بأيدي إخوته بعد ذلك فودعهم واحداً واحداً وودعهم المسلمون ، ثم دعوا بإبلهم فركبوها ، وكانوا يمشون مع أبي بكر ثم قيدت خيلهم معهم بهيئة حسنة، فلما أدبروا قال أبو بكر: اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، واحطط أوزارهم وأعظم أجورهم. ومضوا إلى العسكر الأعظم..قال ابن إسحاق إن خالد بن سعيد خرج وهو بمرج الصُّفَّر في يوم مطير ليستمطر فيه فقتله أعلاج من الروم».

ص: 410

أقول: بهذا تعرف المكانة المميزة لخالد بن سعيد التي تجعله يعظ الخليفة أبا بكر فيسمع منه ، والتي لاتصل اليها مكانة خالد بن الوليد ، ولا عمرو العاص ، ولا ابن وقاص.. وأمثالهم .

ومن الطبيعي أن خالداً لو التحق بجيش يزيد بن أبي سفيان لكان له موقع القائد ، لأنه أكبر منه سناً ، وهو صحابي قديم ويزيد من مسلمة الفتح ، وهو القائد والوالي من قِبَل رسول الله (صلی الله علیه و آله) . وهو بعد ذلك ابن أبي أحيحة سعيد بن العاص ، الأعرق في قيادة بني أمية من أبي سفيان وأولاده .

ويظهر من كلام أبي بكر أنه كان يشعر بتأنيب الضمير لأنه أطاع عمر في عزله لكنه يريد كسب أبي سفيان الذي رفض بيعته حتى يعطيه مناصب لأولاده !

وقد وقع الإشتباه في هذه الرواية لأن الصحيح أن خالداً اختار الذهاب مع شرحبيل ، وليس مع أبي عبيدة . ويدل عليه توصية أبي بكر لشرحبيل به:

قال ابن سعد في الطبقات:4/98: «لما عزل أبو بكر خالد بن سعيد ، أوصى به شرحبيل بن حسنة ، وكان أحد الأمراء فقال: أنظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك ، مثل ما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه ، لو خرج والياً عليك ، وقد عرفت مكانه من الإسلام ، وأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) توفي وهو له والٍ ، وقد كنت وليته ثم رأيت عزله ، وعسى أن يكون ذلك خيراً له في دينه . ما أغبط أحداً بالأمارة ! وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك على ابن عمه ، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح ، فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وليكن خالد بن سعيد ثالثاً ، فإنك واجد عندهم نصحاً وخيراً .وإياك واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر.

ص: 411

قال محمد بن عمر: فقلت لموسى بن محمد: أرأيت قول أبي بكر: قد اختارك على غيرك؟ قال: أخبرني أبي أن خالد بن سعيد لما عزله أبو بكر كتب إليه أي الأمراء أحب إليك؟فقال: ابن عمي أحب إلي في قرابته وهذا أحب إلي في ديني، فإن هذا أخي في ديني على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وناصري على ابن عمي، فاستحب أن يكون مع شرحبيل بن حسنة ».

أقول: شرحبيل صحابي عرف باسم أمه أو مربيته حسنة . واسم أبيه المطاع من قبيلة غوث من كندة ، ولد ونشأ في مكة وتحالف مع بني زهرة ، وأسلم وهاجر الى الحبشة ، وكان صديقاً لخالد بن سعيد يحترمه ويناصره ، ولذلك اختار خالد أن يكون معه ، فأعطاه شرحبيل قيادة الخيل، وهي عصب القوة المقاتلة في الجيش ، ولا بد أن تكون خطط معركة أجنادين والمعارك التي خاضها شرحبيل من فكر خالد ، ولذا قلنا إن ثقل معركة أجنادين كان على عاتق خالد .

ومما يلاحظ أن خالد بن سعيد ، وهاشم المرقال ، وحفيدي عبد المطلب ، كانوا مع شرحبيل ، وأنهم نهضوا بثقل معركة أجنادين التي هي تبوك الثانية ، والثأر لجعفر بن أبي طالب ، كما يأتي .

وبعد فتح الشام ، ولى أبو عبيدة شرحبيل بن حسنة على الأردن .

ففي الإستيعاب:2/794: «وولَّى أبو عبيدة حين فتح الشامات يزيد بن أبي سفيان على فلسطين ، وشرحبيل بن حسنة على الأردن ، وخالد بن الوليد على دمشق ، وحبيب بن مسلمة على حمص ».

لكن شرحبيل لم يكن يعجب عمر ، فعزله ! ولا سبب إلا علاقته الحسنة مع خالد بن سعيد ، وأبي ذر ، وبلال ، وبقية الصحابة الذين يميلون الى علي (علیه السلام) ،

ص: 412

ولم يشفع له أنه أبلى بلاء حسناً في معركة أجنادين ومرج الصُّفَّر واليرموك ، وغيرها من معارك فلسطين والشام والأردن !

قال الطبري:3/165: «وعزل شرحبيل ، واستعمل معاوية ، وأمَّر أبا عبيدة وخالداً تحته ! فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، إنك لكما أحب ، ولكن أريد رجلاً أقوى من رجل ! قال: نعم ، فاعذرني في الناس لا تدركني هِجنة ، فقام في الناس فقال: أيها الناس إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة ، ولكني أردت رجلاً أقوى من رجل ».

وتوفي شرحبيل في طاعون عمواس وعمره 67سنة. (تاريخ دمشق:22/464).

12. ظلموا خالد بن سعيد لأنه شيعي ونسبوا بطولة معركة أجنادين الى غيره ! وتقع أجنادين قرب مدينة الخليل ، وقيل في وادي عَجُّور على بُعد 37 كيلو متراً عن الخليل، وثلاثين كيلو متراً عن الرملة. فهذه المنطقة بما فيها مؤتة ، كانت مركز قوات الروم المدافعة عن القدس .

وقد ذكرنا في السيرة النبوية عند أهل البيت (علیهم السلام) ، أن هرقل بعد انتصاره على كسرى حج ماشياً الى القدس ، وكان ينوي غزو المدينة المنورة ويجمع قوات العرب في الشام ودومة الجندل مقدمةً لقوات الروم ، فأراد النبي (صلی الله علیه و آله) أن ينقل المعركة الى بلاد الشام، فأرسل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في السنة الثامنة للهجرة بجيش من ثلاثة آلاف مقاتل ، فاشتبك مع قوات هرقل في مؤتة .

وكانت معركة مؤتة غير متكافئة، وقد استبسل جعفر بن أبي طالب ورفاقه قادة الجيش الإسلامي حتى استشهدوا وانسحب المسلمون ، لكنهم أوصلوا رسالة

ص: 413

بليغة الى هرقل، وتبعتها في السنة التالية غزوة تبوك بقيادة النبي نفسه (صلی الله علیه و آله) فكانت رسالة أبلغ ، فانسحب هرقل من تبوك الى حمص، وراسله النبي (صلی الله علیه و آله) فأجابه هرقل بجواب ليِّن ، ليتفادى المواجهة في تلك المرحلة .

ولم تقع مواجهة بين المسلمين والروم بعد تبوك إلا في أجنادين ، وقد انتصر فيها المسلمون وانهزم الروم ، وترتب عليها تحرير فلسطين .

وكان بطل أجنادين خالد بن سعيد ، فقد ثأر فيها لصديقه الحميم جعفر بن أبي طالب شهيد مؤتة ، فقد عاش معه خالد في الحبشة ، وعمل معه في دعوة الروم الى الإسلام ، وحمل رسالة النبي (صلی الله علیه و آله) الى هرقل .

قال ابن عساكر في تاريخ دمشق:16/66: «عن سهل بن سعد الأنصاري قال: كانت وقعة أجنادين وقعة عظيمة . كانت بالشام وكانت في سنة ثلاث عشرة في جمادى الأولى ، فذكر بعض أمرها ، ثم ذكر إغاثة الروم لأهل دمشق حين حصارها ، قال: فتركوا مرج الصُّفَّر فصمد المسلمون صَمْدهم...فلما نظر إليهم خالد عبأ لهم كتعبئة يوم أجنادين ، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل سعيد بن زيد بن نفيل ، وترك أبا عبيدة في الرجال ». وتقدم أن ابن عساكر صحح سعيد بن زيد بخالد بن سعيد .

قال البلاذري:1/135:«ثم كانت وقعة أجنادين وشهدها من الروم زهاء مئة ألف سرَّب هرقل أكثرهم،وتجمع باقوهم من النواحي وهرقل يومئذ مقيم بحمص».

ص: 414

وفي فتوح الواقدي:1/48: «ورد علينا عباد بن سعد الحضرمي، وكان قد بعثه شرحبيل بن حسنة...من بصرى يُعلم خالداً بمسير الروم اليه من أجنادين في تسعين ألف فارس.. وكان القادة أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) متفرقين في سوريا والأردن وفلسطين ، فكتب لهم أبو عبيدة أن يسيروا بقواتهم الى أجنادين ، وأمر الناس بالرحيل فرفعت القباب والهوادج على ظهور الجمال ، وساقوا الغنائم والأموال ». وهذا يدل على أن جيش شرحبيل كان أقرب الى جيش الروم .

«واجتمعت الروم بأجنادين ، وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه ، وقيل كان على الروم القبقلار » . (الكامل:2/417) .

وفي فتوح البلاذري:1/135: «ثم كانت وقعة أجنادين.. ثم إن الله هزم أعداءه ومزقهم كل ممزق وقتل منهم خلق كثير . واستشهد يومئذ عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم ، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية ، وأخوه أبان بن سعيد وذلك الثبت ، ويقال بل توفى أبان في سنة تسع وعشرين . وطُلَيْب بن عمير بن وهب بن عبد بن قصي، بارزه علج فضربه ضربة أبانت يده اليمنى فسقط سيفه مع كفه ، ثم غشيه الروم فقتلوه . وأمه أروى بنت عبد المطلب عمة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان يكنى أبا عدى . وسلمة بن هشام بن المغيرة ، ويقال إنه قتل بمرج الصُّفَّر . وعكرمة بن أبي جهل بن هشام المخزومي . وهبَّار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي ، ويقال بل قتل يوم مؤتة . ونعيم بن عبد الله النحام العدوى ، ويقال قتل يوم اليرموك . وهشام بن العاص بن وائل السهمي، ويقال قتل يوم اليرموك . وعمر بن الطفيل بن عمرو الدوسي ، ويقال قتل يوم

ص: 415

اليرموك . وجندب بن عمرو الدوسي . وسعيد بن الحارث . والحارث بن الحارث . والحجاج بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي..وقتل سعيد بن الحارث بن قيس يوم اليرموك ، وقتل تميم بن الحارث يوم أجنادين ، وقتل عبيد الله بن عبد الأسد أخوه يوم اليرموك . قال: وقتل الحارث بن هشام بن المغيرة يوم أجنادين . قالوا: ولما انتهى خبر هذه الوقعة إلى هرقل ، نَخَبَ (صار خالياً) قلبه ، وسقط في يده وملئ رعباً ، فهرب من حمص إلى أنطاكية ».

وفي الوافي:13/153: «ولم يزل به عُمر حتى عزله ، واعتذر إليه(أبو بكر) ثم أوصى به الأمراء ، وأبلى في حروب الشام بلاءً حسناً ، وقُتل خالد بمرج الصُّفَّر، وقيل بأجنادين ، وقيل باليرموك ، وقال وهو يقاتل أعلاج الروم:

هل فارسٌ كرهَ النِّزالَ يُعيرُني *** رمحاً إذا نزلوا بمرج الصُّفَّر ».

والصحيح أنه لم يقتل في هذه المعارك ولا في اليرموك ، وأنهم قتلوه بعد ذلك .

قال ابن عساكر في تاريخ دمشق:16/86: «خالد بن سعيد بن العاص بن أمية قتل بأجنادين.. وذكر سيف بن عمر في الفتوح أن خالد بن سعيد شهد اليرموك ، وأنه لم يقتل بمرج الصُّفَّر ، وذكر أبو حسان الزيادي أن خالد بن سعيد يكنى أبا سعيد، وأنه قتل وهو ابن خمسين أو أكثر ، وكان وسيماً جميلاً». وسيأتي خبر قتله .

وفي شرح النهج:2/59: «ثم إنه بايع أبا بكر ، وبلغت أبا بكر فلم يحفل بها ، واضطغنها عليه عمر ، فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر: أتولى خالدا وقد حبس عليك بيعته ، وقال لبني هاشم ما قال ! وقد جاء بورق من اليمن وعبيد وحبشان ، ودروع ورماح ! ما أرى أن توليه وما آمن

ص: 416

خلافه . فانصرف عنه أبو بكر ، وولى أبا عبيدة بن الجراح ، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنه ».

13. ونسبوا قيادة معركة أجنادين الى خالد بن الوليد لأنهم يحبون أباه الوليد ! بينما كانت القيادة مشتركة بين القادة الأربعة ، كل واحد منهم على جيشه . وكانت عمدة الإشتباك مع العدو لجيش شرحبيل بقيادة خالد بن سعيد .

قال خليفة في تاريخه/79: «قال ابن إسحاق: ثم ساروا جميعاً قِبَل فلسطين ، فالتقوا بأجنادين بين الرملة وبين بيت جبريل ، والأمراء كلٌّ على جنده . ويزعم بعض الناس أن عمرو بن العاص كان عليهم جميعاً . وعلى الروم القنقلار ، فقتل القنقلار . وهزم الله المشركين ».

وقال ابن عبد البر في الإستيعاب:1/64: «كانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة في خلافة أبى بكر الصديق قبل وفاة أبي بكر بدون شهر . ووقعة مرج الصُّفَّر في صدر خلافة عمر سنة أربع عشرة. وكان الأمير يوم مرج الصُّفَّر خالد بن الوليد ، وكان بأجنادين أمراء أربعة: أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص ، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، كلٌّ على جنده . وقيل إن عمرو بن العاص كان عليهم يومئذ ».

أقول: الأمر الطبيعي أن يكون كل قائد على جنده ، لأن خالداً جاء من العراق بخمس مئة نفر وقيل ست مئة وقيل ثمان مئة ، وكان جيش شرحبيل سبعة آلاف ، وفيه أهل مكة وقدامى الصحابة ، ومنه أكثر شهداء أجنادين، وجيوش القادة الثلاثة الآخرين شبيهة به ، ولم يعط أحدٌ منهم جيشه لابن الوليد ، لكن الرواة يكذبون

ص: 417

لمصلحته، لأن قريشاً مسكونة بحبه لأنه ابن زعيمها الوليد بن المغيرة ، فهي تحبه وتحترم أولاده ، وتغض النظر عن وصف الله تعالى له بأنه عُتُلٌّ زنيم !

لاحظ رواية ابن عساكر في تاريخ دمشق:2/113، و81: «وأرسل أبو بكر إلى خالد بن الوليد وهو بالعراق وقد فتح الله عليه القادسية وجلولاء ، فكتب له أن انصرف بثلاثة آلاف فارس فأمد إخوانك بالشام والعجل العجل . قال: فنزل خالد على شرحبيل ويزيد وعمرو فاجتمع هؤلاء الأمراء الأربعة ...

فأقبل خالد مغذاً جواداً فاشتق الأرض بمن معه حتى خرج إلى ضمير ، فوجد المسلمين معسكرين بالجابية . وتسامع الأعراب الذين كانوا في مملكة الروم بخالد ففزعوا له..فنزل خالد على شرحبيل بن حسنة ويزيد وعمرو ، فاجتمع هؤلاء الأربعة أمراء ، وسارت الروم من أنطاكية وحلب وقنسرين وحمص وما دون ذلك . وخرج هرقل كراهية لمسيرهم متوجهاً نحو الروم ، وسار باهان الرومي ابن الرومية إلى الناس بمن كان معه».

فقد بلغ الأمر في الراوي أنه من حبه الأعمى لخالد نسيَ أنه جاء من العراق قبل أن تقع القادسية وجلولاء بسنتين !

ونسي أن جيش خالد كان بضع مئات فقط ، قال البلاذري:1/130: «لما أتى خالد بن الوليد كتاب أبى بكر وهو بالحيرة ، خلف المثنى بن حارثة الشيباني على ناحية الكوفة وسار في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة في ثمان مئة ، ويقال في ست مئة ، ويقال في خمس مئة ».

ص: 418

ثم نسي رواة السلطة أن عمر بن الخطاب عزل خالد بن الوليد في أول يوم تولى فيه الخلافة بعد أبي بكر، وكان ذلك بعد معركة أجنادين ، وقبل فتح دمشق ! فتراهم يتحدثون عن خالد على أنه قائد الجيش وقائد المعارك بعد عزله !

ويظهر أنهم أخذوا من أخبار خالد بن سعيد في معركة أجنادين ومعركة فِحْل ومرج الصُّفَّر وفتح دمشق ، ونسبوها الى خالد بن الوليد !

والقاعدة لمعرفة ذلك ، أنهم إذا نسبوا اليه أنه برز لأحد أو كان في الصف المشتبك مع العدو ، فهذه صفات خالد بن سعيد ، أما خالد بن الوليد فهو وعمرو العاص كما وصفه علي (علیه السلام) : «فإذا كان عند البأس فزاجر وآمر ، ما لم تأخذ السيوف مآخذها من الهام . فإذا كان ذلك فأكبر مكيدته أن يُمَرْقط ويمنح إسته ، قبحه الله وترَّحَه » .(الغارات للثقفي:1/513).

وتظهر لك الحقيقة من اعترافهم بأن خالد بن الوليد كان في آخر جيش المسلمين ، بعيداً عن المعركة ! بينما كان خالد بن سعيد قائداً مقتحماً .

قال في تاريخ دمشق:16/84: «حدثني إسحاق بن بشر قال: فبينا المسلمون قد طمعوا في فتح المدينة ، إذ قيل لخالد هذا جيش قد أقبل مدداً لدمشق من ملك الروم بأنطاكية ، فنادى خالد في الناس أن انصرفوا عن هذه المدينة إلى المدد الذي قد جاء من عند صاحب الروم ، وعبأ خالد الناس فسيروا الأثقال والنساء ، ثم جعل يزيد بن أبي سفيان أمامهم بينهم وبين العدو ، وصار خالد وأبو عبيدة من وراء الناس ، ثم رجعوا نحو الجيش وذلك الجيش خمسون ألفاً ، فلما نظر إليهم خالد بن الوليد نزل فعبأ أصحابه تعبئة القتال على تعبئة أجنادين

ص: 419

ثم زحف إليهم فوقف خالد بن سعيد في مقدمة الناس يحرض الناس على القتال ويرغبهم في الشهادة فحملت عليه طائفة من العدو فقاتلهم واستشهد (رحمة الله) . ومنهم من قال لم يستشهد خالد بن سعيد في هذا الموضع ، ولكنه قتل بمرج الصُّفَّر ، وذلك أنه خرج في يوم مطير يستمطر فتفاوت عليه أعلاج من الروم فقتلوه ».

ومعنى قول الرواية إن خالد بن سعيد كان في مقدمة الناس ، وهو قائد خيل شرحبيل بن حسنة ، يكشف لك أن ثقل المعركة كان عليه .

بينما كان ابن الوليد من وراء الناس، والناس هنا ثلاثون ألفاً، أو خمسون ألفاً كما قالوا، فكيف يقاتل خالد أو أبو عبيدة جيش الروم من وراء الألوف؟!

ثم انظر الى الرواية التي تبناها ابن الأعثم وفيها قيادة خالد لمعركة أجنادين ! فقد وصف ترتيبه للمعركة ، ولم يصف قتاله فيها ، ثم كتب عن لسانه رسالة الى أبي بكر يخبره عن مجرى الحرب ويبارك له النصر .

قال ابن الأعثم:1/115: «ذكر وقعة أجنادين ، وهي أول وقعة لخالد بن الوليد مع الروم . قال: فأصبح خالد يوم السبت يعبي أصحابه ، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته سعيد بن عامر بن جذيم ، وعلى جناح الميمنة يزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة على جناح الميسرة ، وخالد بن سعيد بن العاص على الكمين ، ثم جعل خالد بن الوليد نساء المسلمين من وراء الصفوف وأمرهن فاحتزمن وتشمرن وأخذن في أيديهن الحجارة ، وجعلن يدعون الله ويستنصرنه على أعداء المسلمين . قال: وجعل خالد بن الوليد لا يقر

ص: 420

بمكان واحد ، ولكنه يقف على كتيبة كتيبة من المسلمين ويقول: إتقوا الله عباد الله ، وقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، ولا تنكصوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين، ولاتهنوا ولا تجبنوا عن عدوكم، ولكن إقداماً كإقدام الأسد الضارية فإنكم أحرار كرام ، وارفضوا عنكم هذه الدنيا واطلبوا ثواب الآخرة ، وأنتم الأعلون والله معكم . وبعد فإنكم إن هزمتم هؤلاء القوم كانت لكم هذه البلاد داراً للإسلام ما بقيتم أبداً ، مع رضوان الله والجنة .

قال: ودنت الروم من المسلمين بخيلها ورجلها في الآلة والسلاح الشاك ، وقد تعبَّوا ميمنةً وميسرةً وقلباً وجناحاً ، وبين أيديهم يومئذ بطريق من بطارقة الروم يقال له قلفط ، عليه ديباجة منسوجة وعلى رأسه تاج من ذهب ، وتحته فرس أدهم مغرق السرج واللجام بالذهب .

قال:فقال أبو عبيدة بن الجراح: كبروا أيها المسلمون تكبيرة واحدة ، فإن الله عز وجل مهلكهم ومبدد شملهم ، قال: فكبر المسلمون وألقى الله الرعب في قلوب الكفار . قال: وهمَّ المسلمون بالحملة عليهم ، فقال خالد: لا تعجلوا حتى أحمل أنا، فإذا رأيتموني قد حملت فاحملوا . قال: فوقف المسلمون وجعلت سهام الروم تقع على عسكر المسلمين كالمطر ، فصاح رجل من المسلمين بخالد بن الوليد: أيها الأمير ! لماذا قد نصبتنا لهؤلاء الأعلاج هدفاً يرموننا بنشابهم حتى قد جرحوا منا جماعة ! فقال له خالد: ويحك ! إنما أنتظر الوقت الذي كان النبي (صلی الله علیه و آله) يحارب فيه فإنه وقت مبارك .

ص: 421

قال:فوقف المسلمون لا يزول واحد منهم من موضعه والسهام تعمل في ذلك عملها، فقتل يومئذ بالسهام أبان بن سعيد بن العاص رحمة الله عليه ، وقتل أيضاً هشام بن العاص، وسلمة بن هشام المخزومي ، ونعيم بن صخر العدوي، وهبار بن سفيان الأزدي ، وعبد الله بن عمر الدوسي ، فعندها ضج المسلمون إلى خالد وأمروه بالحملة ، فعندها قال خالد: إحملوا ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم كبر وحمل وحمل المسلمون معه ، وانكشفت الروم من بين أيديهم وأخذتهم السيوف ، فقتل منهم في المعركة ألف وسبع مائة رجل ، وقتل صاحبهم قلفط ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم ، ومر القوم منهزمين على وجوههم حتى تفرقوا في الحصون . واحتوى المسلمون على غنائم الروم فجمعوها ، وقدم خالد من أسر منهم وهم يزيدون على ثمان مائة رجل ، فضرب أعناقهم صبراً ، وما أبقى على واحد منهم».

وأضاف ابن الأعثم: «ذِكْرُ كتاب خالد بن الوليد إلى أبي بكر رضي الله عنه بخبر وقعة أجنادين: بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله بن عثمان خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) من خالد بن الوليد سيف الله المصبوب على أعداء الله المشركين . سلام عليك ! أما بعد فإني أخبرك أيها الصديق ، أنا لقينا المشركين بموضع من أرض الشام يقال له أجنادين ، وقد جمعوا لنا جموعهم ورفعوا صلبانهم ونشروا أناجيلهم، وتقاسموا بأيمانهم أنهم لايفرون ولايبرحون ولاينصرفون ، حتى يقتلونا ويبيدونا ويخرجونا من بلادهم ، فلقيناهم ونحن بالله واثقون وبحبله معتصمون وعليه متكلون ، فطاعناهم بالرماح وكافحناهم بالصفاح ،

ص: 422

وأرميناهم بالسهام ، وأذقناهم حر الحمام، فلم نزل كذلك حتى أعز الله عز وجل نصرة الإسلام وأظهر أمره وأنجز وعده وأفلح جنده وهزم الكافرين وحده ، فقتلنا في كل واد وحجر ، وتحت كل شجر ومدر ، فاحمد الله عز وجل يا خليفة رسول الله على إعزاز دينه وأوليائه ، وإذلال أعدائه ، وحسن صنعه بالمسلمين ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . قال: فلما قرأ أبو بكر الكتاب الذي لخالد بن الوليد ، تهلل لذلك وجهه فرحاً وفرح فرحاً شديداً وسُرَّ سروراً ظاهراً ، ثم رمى بالكتاب إلى عمر بن الخطاب ، فلما قرأ الكتاب قَطَّبَ حاجبه وعبس وجهه ، ثم قال: قبح الله صلف خالد وتيهه وعجبه بنفسه ! يكتب إليك: من خالد بن الوليد سيف الله المصبوب على أعدائه . إن سيف الله هو الذي وضعه بذلك الموضع .

قال: فسكت أبو بكر هنيهة ثم قال: أبا حفص ! الحمد لله على نصر المسلمين فقرت بذلك عيوننا ، فقال عمر: نعم فالحمد لله على ذلك ، ولكن لا يجب أن يتسمى بسيف الله . قال: ثم كتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد كتاباً لطيفاً يشكره على فعله بالمشركين ويبشره بثواب الله عز وجل ، ويبشر من معه من المسلمين ، ويقوي عزمهم ، ويأمرهم بالشكر لله عز وجل وذكره كثيراً ».

أقول: لاحظ أن خالداً جاء من العراق ببضع مئات ، وتدعي الرواية أن الجميع سلموه جيوشهم ، فقادهم ووزع عليهم المسؤوليات ، ورتب المعركة ، وحقق النصر ، وكتب رسالة الى الخليفة بصفته قائد الجميع .

ص: 423

وأنه وجه المسلمين ووعظهم ، وفيهم كبار الصحابة كأبي ذر وخالد بن سعيد الذي تقدمت موعظته للخليفة أبي بكر عندما خرج لوداعه في المدينة .

وذكرت الرواية أن ابن الوليد ترك المسلمين تحت السهام حتى يحين الزوال ، فقتل منهم عدد من الصحابة ، ثم أمرهم بالحملة. ولم تذكر أنه أمرهم بالصلاة !

كما حذفت الرواية من المعركة المبارزة ، وقد روت المصادر أن المعركة بدأت بمبارزة البطريق الفارس ، الذي قتله الصحابي ابن عم النبي (صلی الله علیه و آله) وهو عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنهم .

كما جعلت الرواية المعركة حملة واحدة قتل فيها قائد الروم قلفط ، وألفٌ وسبع مئة منهم ، فانهزموا ، وأسر المسلمون منهم ثمان مئة فذبحهم خالد ، ولم يستعملهم ورقة تفاوض لمصلحة المسلمين .

ثم أورد ابن الأعثم نص رسالة خالد الى أبي بكر ، وذكر أنه بدأ فيها باسمه قبل إسم الخليفة ، والرسالة الموجودة بالعكس ، وذكر أن خالداً أعطى لنفسه لقب سيف الله ، وأن عمر رد هذا اللقب ، مما يكشف كذب قولهم إن النبي (صلی الله علیه و آله) لقبه به وإلا لما رده عمر أو لأجابه أبو بكر بأن النبي (صلی الله علیه و آله) لقبه به فكيف ترده .

الى غير ذلك من الملاحظات .

14. وجاء عمرو بن العاص، فنسب الى نفسه قيادة معركة أجنادين وبطولتها ! قال ابن كثير في النهاية:7/63: «كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بالمسير إلى إيليا ومناجزة صاحبها،فاجتاز في طريقه عند الرملة بطائفة من الروم، فكانت وقعة أجنادين، وذلك أنه سار بجيشه وعلى ميمنته ابنه عبد الله بن عمرو

ص: 424

وعلى ميسرته جنادة بن تميم المالكي، من بني مالك بن كنانة ، ومعه شرحبيل بن حسنة ، واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي، فلما وصل إلى الرملة وجد عندها جمعاً من الروم عليهم الأرطبون ، وكان أدهى الروم وأبعدها غوراً وأنكأها فعلاً ، وقد كان وضع بالرملة جنداً عظيماً وبايلياء جنداً عظيماً ، فكتب عمرو إلى عمر بالخبر . فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب ، فانظروا عما تنفرج ! وبعث عمرو بن العاص علقمة بن حكيم الفراسي ، ومسروق بن بلال العكي على قتال أهل إيليا ، وأبا أيوب المالكي إلى الرملة ، وعليها التذارق ، فكانوا بإزائهم ليشغلوهم عن عمرو بن العاص وجيشه ، وجعل عمرو كلما قدم عليه إمداد من جهة عمر يبعث منهم طائفة إلى هؤلاء وطائفة إلى هؤلاء .

وأقام عمرو على أجنادين لايقدر من الأرطبون على سقطة ، ولا تشفيه الرسل فوليه بنفسه ، فدخل عليه كأنه رسول ، فأبلغه ما يريد وسمع كلامه وتأمل حضرته (مجلسه) حتى عرف ما أراد ، وقال الأرطبون في نفسه: والله إن هذا لعمرو أو أنه الذي يأخذ عمرو برأيه ، وما كنت لأطيب القوم بأمر هو أعظم من قتله . فدعا حرسياً فسارَّه فأمره بفتكه فقال: إذهب فقم في مكان كذا وكذا ، فإذا مرَّ بك فاقتله ، ففطن عمرو بن العاص، فقال للأرطبون: أيها الأمير إني قد سمعت كلامك وسمعت كلامي، وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالي لنشهد أموره، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت. فقال الأرطبون: نعم ! فاذهب فأتني بهم ، ودعا رجلاً فسارَّه

ص: 425

فقال: إذهب إلى فلان فرُدَّه . وقام عمرو فذهب إلى جيشه ثم تحقق الأرطبون أنه عمرو بن العاص ، فقال: خدعني الرجل ، هذا والله أدهى العرب . وبلغت عمر بن الخطاب فقال: لله در عمرو !

ثم ناهضه عمرو فاقتتلوا بأجنادين قتالاً عظيماً كقتال اليرموك ، حتى كثرت القتلى بينهم ، ثم اجتمعت بقية الجيوش إلى عمرو بن العاص ، وذلك حين أعياهم صاحب إيليا وتحصن منهم بالبلد وكثر جيشه ، فكتب الأرطبون إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري ، أنت في قومك مثلي في قومي ، والله لا تفتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين ، فارجع ولا تُغَرّ فتلقى مثل ما لقي الذين قبلك من الهزيمة ، فدعا عمرو رجلاً يتكلم بالرومية فبعثه إلى أرطبون وقال إسمع ما يقول لك ثم ارجع فأخبرني . وكتب إليه معه: جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك ، لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد ، واقرأ كتابي هذا بمحضر من أصحابك ووزرائك . فلما وصله الكتاب جمع وزراءه وقرأ عليهم الكتاب ، فقالوا للأرطبون: من أين علمت أنه ليس بصاحب فتح هذه البلاد ؟ فقال: صاحبها رجل إسمه على ثلاثة أحرف !

فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال ، فكتب عمرو إلى عمر يستمده ويقول له: إني أعالج حرباً كؤداً صدوماً ، وبلاداً ادُّخِرت لك ، فرأيك . فلما وصل الكتاب إلى عمر علم أن عمراً لم يقل ذلك إلا لأمر علمه ، فعزم عمر على الدخول إلى الشام لفتح بيت المقدس » .

ص: 426

أقول: لاحظ أن الراوي يقول إن عمر أمر ابن العاص بفتح القدس ، فكانت أجنادين في طريقه ، كأنها معركة عابرة ، أو نزهة !

وقد نسي الراوي المحترم التاريخ ، فجعل معركة أجنادين بعد معركة اليرموك مع أنها قبلها بسنة وأشهر! وأهمل وجود جيش أبي عبيدة بن الجراح ، وجيش يزيد بن أبي سفيان ، وجنود خالد بن الوليد ، لكنه ذكر شرحبيل بن حسنة حتى لايفتضح، لأن الأبطال الذين قاتلوا وقطفوا النصر في أجنادين كانوا في جيش شرحبيل مثل قائد خيله خالد بن سعيد وإخوته ، وحفيدي عبد المطلب ، وقائد ميسرته هاشم المرقال ، وغيرهم .

ونلاحظ أن أرطبون عمرو يعرف المستقبل ، ويعرف إسم من يفتح القدس! وقد افترض الراوي وجود قوات رومية في القدس ، مع أن أقرب قواتهم اليها كانت في أجنادين ، ولم يكن في القدس قوة تذكر ، وبعد أجنادين هزم المسلمون الروم في مرج الصُّفَّر وفِحل ، ثم في اليرموك ، فأعلن هرقل انسحابه من سوريا وفلسطين ، وودعها ، وذهب من أنطاكية الى القسطنطينية . وبذلك تحررت سوريا وفلسطين ومصر من الروم نهائياً ، وتحررت القدس بلا ضربة سيف ، بل جاس المسلمون خلال ديار اليهود ، عملاء الروم ، كما وصف الله تعالى !

ثم انضم إمامهم ابن حبان الى الإمام ابن الأعثم والإمام ابن كثير ، في وصف بطولة عمرو العاص ، فقال في كتابه الثقات: 2/185: «ونزل عمرو بن العاص في قصره بغمر العربات ، ونزل الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين في سبعين ألفاً ، عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه ، فكتب عمرو بن العاص إلى أبى بكر يذكر له أمر الروم ويستمده ، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يمد أهل الشام فيمن معه

ص: 427

من أهل القوة ، ويستخلف على ضعفة الناس رجلاً منهم، فلما أتاه كتاب أبي بكر ، قال خالد: هذا عمل الأعيسر بن أم شملة ، يعنى عمر بن الخطاب ، حسدني أن يكون فتح العراق على يدي ، فسار خالد بأهل القوة من الناس ورد الضعفاء والنساء إلى المدينة ، وأمر عليهم عمير بن سعد الأنصاري ، واستخلف على من أسلم بالعراق من ربيعة وغيرهم المثنى بن حارثة الشيباني... واجتمع خالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان...ثم ساروا جميعاً إلى فلسطين مدداً لعمرو بن العاص وعمرو مقيم بالعربات من غور فلسطين ، وسمع الروم باجتماع المسلمين لعمرو بن العاص فانكشفوا عن جلق إلى أجنادين ، وأجنادين بلد بين الرملة وبيت جبرين من أرض فلسطين ، وسار المسلمون إلى أجنادين وكان الأمراء أربعة والناس أرباعاً إلا عمرو بن العاص كان يزعم أنه على جميعهم ».

أقول: كيف يثق الباحث بنصوص الفتوح وهو يرى هذه التناقضات في رواية معركة تحرير فلسطين ، بسبب التعصب لإثبات فضيلة لخالد بن الوليد ، أو لعمرو العاص ، وهما متنافسان مواليان للسلطة ، ويرى أحدهما يغمط حق الآخر ويهمل هو ، أو يخمل الراوي لمصلحته ، بطولة الأبطال وتضحيات المضحين ، ويصادر النصر من المسلمين ويكتبه لمن لم يضرب بسيف ولا رمح!

وكأن مهمة هذه المصادر أن تظلم الأبطال الأبرار ، وتصنع أبطالاً من ابن الوليد الذي تفرد بغارات القتل والنهب على العرب والفلاحين العُزَّل ، وأجاد فيهم الغدر والتكتيف والتقتيل ، وهرب من الفرس والروم !

ص: 428

وتصنع الأسطورة من عمرو العاص ، الذي لا يجيد إلا الحيلة والمكيدة ، وقد شهد فيه الصادق الأمين علي (علیه السلام) فقال: «فإذا كان عند البأس فزاجر وآمر ، ما لم تأخذ السيوف مآخذها من الهام . فإذا كان ذلك فأكبر مكيدته أن يُمَرْقط ويمنح إسته ، قبحه الله وترَّحَه » .(الغارات للثقفي:1/513).

وقد كشفنا في ترجم عمرو زيف عدد من ادعاءاته وادعاءات الرواة له .

قال الطبري:2/610: «وسار عمرو بن العاص حين سمع بأبي عبيدة بن الجراح ، وشرحبيل بن حسنة ، ويزيد بن أبي سفيان ، حتى لقيهم ، فاجتمعوا بأجنادين حتى عسكروا عليهم » .

وفي تاريخ دمشق: 2/66: «وكان جند عمرو الذين خرجوا معه من المدينة ثلاثة آلاف ، فيهم ناس كثير من المهاجرين والأنصار ، وخرج أبو بكر الصديق يمشي إلى جنب راحلة عمرو بن العاص وهو يوصيه ويقول: يا عمرو إتق الله في سر أمرك وعلانيته واستحيه، فإنه يراك ويرى عملك ، وقد رأيت تقديمي إياك على من هو أقدم سابقة منك ، ومن كان أعظم غناء عن الإسلام وأهله منك ، فكن من عمال الآخرة وأرد بما تعمل وجه الله ، وكن والداً لمن معك ولا تكشفن الناس عن أستارهم واكتف بعلانيتهم ، وكن مجداً في أمرك وأصدق اللقاء إذا لاقيت ، ولا تجبن وتقدم ».

أقول: لم يكن لعمرو وجنده دور يذكر في أجنادين ، فالذي اشتبك مع الروم هو جيش شرحبيل . كما أن وصية أبي بكر له بأن يصدق اللقاء ولايجبن ، تشير الى عادة عمرو في اللجوء الى الحيل ، لا إلى الشجاعة !

ص: 429

ومن حيله اختراعه قصة «أرطبون» وأنه تنكَّر وذهب اليه ، وعرفوه فنجا بأعجوبة ، ثم كتب الى عمر بن الخطاب ، فشكره على ذلك !

وقد بحثنا أسطورة الأرطبون في ترجمة عمرو ، ومما يكشف زيفها أن وقعة أجنادين كانت في خلافة أبي بكر ، وليس في خلافة عمر !

15. واعترفوا بأنه كان القائد في معركة مرج الصُّفَّر مع وجود القادة الأربعة !

في تاريخ خليفة/120: «قال ابن إسحاق: في هذه السنة وقعة مرج الصُّفَّر يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، والأمير خالد بن سعيد . وحدثني الوليد بن هشام عن أبيه عن جده قال: استشهد يوم مرج الصُّفَّر خالد بن سعيد بن العاص».

وقال الذهبي في تاريخه عن معركة مرج الصُّفَّر:3/84: « قال خليفة: كانت لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى، والأمير خالد بن سعيد . قال ابن إسحاق: وعلى المشركين يومئذ قلقط ، وقتل من المشركين مقتلة عظيمة ، وانهزموا ».

أقول: كانت مرج الصُّفَّر امتداداً لمعركة أجنادين ، وهي موضع بين دمشق والجولان ، وكان عدد الروم فيها شبيهاً بعددهم في أجنادين .

وإن تنازل القادة الأربعة ابن الجراح وابن أبي سفيان وابن العاص وشرحبيل ، عن قيادتهم للمعركة وتسليمها الى خالد بن سعيد ، يدل على أنهم رأوا منه في أجنادين من صحة الرأي والبطولة ما جعلهم يسلمون له القيادة في المعركة التالية ، التي كانت بعدها بنحو عشرين يوماً .

كما اعترف الرواة لخالد بأنه كان قائد الخيل في فتح الشام ، وفي معركة فِحل.

ص: 430

روى ابن عساكر: 16/66: «عن سهل بن سعد الأنصاري قال: كانت وقعة أجنادين وقعة عظيمة . كانت بالشام وكانت في سنة ثلاث عشرة في جمادى الأولى ، فذكر بعض أمرها ، ثم ذكر إغاثة الروم لأهل دمشق حين حصارها ، قال: فتركوا مرج الصُّفَّر فصمد المسلمون صَمْدهم ، وخرج إليهم أهل القوة من أهل دمشق، وصحبهم ناس كثير من أهل حمص فالقوم نحو من خمسة عشر ألفاً فلما نظر إليهم خالد عبأ لهم كتعبئة يوم أجنادين ، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الخيل سعيد بن زيد بن نفيل ، وترك أبا عبيدة في الرجال ، وزحف إليهم فذهب خالد فوقف في أول الصف يريد أن يحرض الناس ، ثم نظر إلى الصف من أوله إلى آخره ، فحملت لهم خيل على خالد بن سعيد بن زيد وكان واقفاً في جماعة من المسلمين في ميمنة الناس يحرض الناس ويدعو الله عز وجل ثم ينقض عليهم ، فحملت طائفة منهم عليه فنازلهم فقاتلهم قتالاً شديداً حتى قتل . كذا في الكتاب: ابن سعيد بن زيد ، وإنما هو خالد بن سعيد بن العاص ».

أقول: صحح ابن عساكر إسم قائد الخيل في المعركة الى خالد بن سعيد بن العاص . وقد جعله الراوي ابن سعيد بن زيد بن نفيل ، وهو ابن عم عمر بن الخطاب ، وهو صاحب حديث العشرة المبشرة في الجنة ، الذي كذبه علي (علیه السلام) ، وروي أن سعيداً هذا حضر في بعض الفتوحات ، لكن لم يكن من قادة الفتح . وسبب وضع إسمه بدل إسم خالد ، ما يأتي من أمر خالد مع عمر .

وقال الذهبي في العبر: 1/17: «وكانت وقعة هائلة استشهد فيها جماعة».

ص: 431

16. كان عدد الروم في أجنادين نحو سبعين ألفاً والمسلمين نحو ثلاثين ألفاً ، قال الطبري:2/600: « ونزلت الروم بثَنِيَّة جُلَّق بأعلى فلسطين ، في سبعين ألفاً ، عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه » .

وفي تاريخ دمشق:16/84: «وعبأ خالد الناس فسيَّروا الأثقال والنساء ، ثم جعل يزيد بن أبي سفيان أمامهم بينهم وبين العدو ، وصار خالد وأبو عبيدة من وراء الناس ثم رجعوا نحو الجيش ، وذلك الجيش خمسون ألفاً » .

وفي معجم البلدان:1/103: «وقالت العلماء بأخبار الفتوح: شهد يوم أجنادين مائة ألف من الروم ».

وفي فتوح الشام للواقدي:1/22: «واغتم عمرو بن العاص لفقدهم اغتماماً شديداً فلما أصبح النهار أمر عمرو الناس بجمع الغنائم ، وأن يخرجوا إخوانهم من بين الروم وبني الأصفر ، فالتقطوهم مائة وثلاثين رجلاً ، ثم صلى عليهم عمرو بن العاص ومن معه من المسلمين ثم أمر بدفنهم . وكان مع عمرو بن العاص من المسلمين تسعة آلاف رجل . وأرسل عمرو إلى أبي بكر كتاباً.. إني وصلت إلى أرض فلسطين ، ولقينا عسكر الروم مع بطريق يقال له روماس في مائة ألف رجل ، فمنَّ الله علينا بالنصر وقتلنا منهم أحد عشر ألفاً ، وقتل من المسلمين مائة وثلاثون رجلاً » .

أقول: هذه الرواية تريد إثبات قيادة عمرو العاص للمعركة ، وكأنه لايوجد غيره ، وزعمت أن جنوده تسعة آلاف وهم ثلاثة آلاف .

ص: 432

وتبالغ كتب المغازي والفتوحات في أعداد المقاتلين والقتلى والأسرى ، وتقليل القتلى من المسلمين ، فيحتاج الباحث الى تخمين ذلك ، من مجموع الروايات .

وقد كان قادة فتح الشام أربعة: شرحبيل بن حسنة ، وأبو عبيدة ، ويزيد بن أبي سفيان ، ومع كل واحد منهم نحو سبعة آلاف ، وعمرو بن العاص ، ومعه ثلاثة آلاف . أما خالد بن الوليد فقد جاء من العراق بأقل من ألف .

ولو فرضنا التحاق عدة ألوف بهم ، فيكون المجموع نحو ثلاثين ألفاً .

أما جيش الروم ، فذكر الرواة أنه كان مئة ألف، وقد يكون خمسين أو سبعين ألفاً ، بقرينة أن هرقل استعمل هذا العدد في معاركه مع الفرس .

أما خسائر المسلمين ففي الإستيعاب:3/1083: «استشهد من المسلمين بأجنادين ثلاثة عشر رجلاً ، منهم عكرمة بن أبي جهل ، وهو ابن اثنتين وستين سنة ».

بينما قالت رواية البلاذري(1/141) في معركة مرج الصُّفَّر التي هي شبيهة بأجنادين أو أقل منها: «وجرح من المسلمين زهاء أربعة آلاف» .

ويصعب قبول أن عدد الشهداء ثلاثة عشر فقط ، وينبغي أن لايقل عن مئة شهيد ، حتى يتناسب مع الأربعة آلاف جريح .

ويجب أن نأخذ في الإعتبار أن قائد الروم قتل في المعركة ، وقتل القائد والقادة يُسرِّعُ في انهيار الجيش وحدوث الهزيمة .

ومما يدل على سرعة هزيمة الروم في أجنادين بسبب قتل القائد الملكي وبقية القادة ، أن الروم لم يقبلوا بهذه الهزيمة السريعة ، فأعادوا تنظيم قواتهم ، وفتحوا معركة مرج الصُّفَّر بين دمشق والجولان ، بعد أجنادين بعشرين يوماً .

ص: 433

17. افتتح معركة أجنادين حفيدان لعبد المطلب ، ثأراً لجعفر بن أبي طالب ، فقد كان الزبير أكبر أبناء عبد المطلب ، وكان وصي أبيه رضي الله عنهما ، وهو صاحب حلف الفضول لنصرة المظلوم وحفظ حرمة الكعبة ، وقد حضره النبي (صلی الله علیه و آله) قبل بعثته ، مدحه وأقره بعد بعثته ، وتوفي الزبير قبل بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) .

وابنه عبدالله كان مسلماً ، وكان من الذين ثبتوا مع النبي (صلی الله علیه و آله) في حنين .

قال المفيد في الإرشاد:1/141: «ومن ثبت معه من بني هاشم يومئذ وهم ثمانية أمير المؤمنين تاسعهم: العباس بن عبد المطلب عن يمين رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، والفضل بن العباس بن عبد المطلب عن يساره، وأبو سفيان بن الحارث ممسك بسرجه عند ثفر بغلته. وأمير المؤمنين (علیه السلام) بين يديه بالسيف ، ونوفل بن الحارث، وربيعة بن الحارث ، و عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب حوله.وقد ولت الكافة مدبرين ».ونحوه تاريخ دمشق:41/15.

وذكرت مصادر المغازي أن عبد الله كان أول من برز يوم أجنادين فقد جاء بطريق مُعَلَّم ودعا إلى المبارزة ، وكانوا يعطون للفارس الشجاع درجة بطريق ، وكان مُعلماً أي عنده درجة في الفروسية ، فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، فاختلفا ضربات ثم قتله عبد الله بن الزبير ، ولم يتعرَّض لسلبه مع أنهم كانوا يحرصون على سلب هذا النوع من الفرسان ، وقد يختلفون على سلبه إذا اشترك في قتله أكثر من فارس ، لأنه يلبس قلنسوة مُذَهَّبة ، وحزاماً عريضاً مُذهباً ، يسمى مَنطقة .

ص: 434

لكن حفيد عبد المطلب رضي الله عنهما أعرض عنه ، لأنه رأى بطلاً رومياً آخر جاء يطلب المبارزة فبرز إليه ، فتشاولا بالرمحين ، ثم صارا إلى السيفين ، وكان الرومي مُدَرَّعاً ، فحمل عليه عبد الله فضربه على عاتقه ، وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب ! فشقت ضربته الدرع ، وأسرع السيف في منكب الرومي ، فولى منهزماً ، ثم سقط .وقيل لعبد الله كفاك هذا فلا تقاتل ! فقال: لا أجدني أصبر ، وحمل على الروم وقتل عدداً من فرسانهم . وبحث المسلمون عنه بعد المعركة فوجدوه مثخناً بالجراح ، في وجهه ثلاثون ضربة سيف ، وحوله عشرة من الروم مجندلين ، ووجدوا سيفه بيده لاصقاً ، فعالجوه حتى نزعوه بعد عناء .

وذكروا أن أمه مخزومية ، وله عدة أخوات ولاعقب له رضي الله عنه وأرضاه . (الإستيعاب:3/904، والإصابة:4/78، وتاريخ دمشق:8/138).

أما الحفيد الثاني لعبد المطلب ، الذي برز واستشهد في أجنادين فهو: طُلَيب بن عمير بن وهب من بنى عبد بن قصي: «أمّه أروى بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف . يكنى أبا عديّ . وعبد بن قصيّ هو أخو عبد الدار بن قصيّ ، وعبد مناف بن قصيّ ، وعبد العزى بن قصيّ بن كلاب . هاجر طُليب بن عمير إلى أرض الحبشة ثم شهد بدراً.. وكان من خيار الصحابة. قال الزبير بن بكار: كان طليب بن عمير بن وهب من المهاجرين الأولين ، وشهد بدراً ، قتل بأجنادين شهيداً ، ليس له عقب . وقال مصعب: قتل يوم اليرموك ».( الإستيعاب:2/772).

وفي تاريخ دمشق:25/145: «عن بَرَّة بنت أبي تجراة ، قالت: عرض أبو جهل وعدة معه من كفار قريش للنبي (صلی الله علیه و آله) فآذوه ، فعمد طُليب بن عمير إلى أبي جهل

ص: 435

فضربه ضربةً شجه ، فأخذوه فأوثقوه ، فقام دونه أبو لهب حتى خلاه ، فقيل لأروى: ألا ترين ابنك طليباً قد صيَّر نفسه غرضاً دون محمد !

فقالت: خير أيامه يوم يذب عن ابن خاله وقد جاء بالحق من عند الله تعالى .

فقالوا:ولقد اتبعت محمداً ؟ فقالت: نعم ، فخرج بعضهم إلى أبي لهب فأخبره فأقبل حتى دخل عليها، فقال: عجباً لك ولاتباعك محمداً ولتركك دين عبد المطلب ! فقالت: قد كان ذلك ، فقم دون ابن أخيك فاعضده وامنعه ، فإن يظهر أمره فأنت بالخيار أن تدخل معه ، أو تكون على دينك ، وإن تصب كنت قد أعذرت في ابن أخيك .

فقال أبو لهب: ولنا طاقة بالعرب قاطبة ، جاء بدين محدث ! ثم انصرف أبو لهب . قال محمد: وسمعت غير محمد بن عمر يذكر أن أروى قالت يومئذ:

إن طُليباً نصر ابن خالِه *** آساه في ذي دمه ومالِه ».

وقال البلاذري (1/135): «واستشهد يومئذ عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم ، وعمرو بن سعيد بن العاص بن أمية ، وأخوه أبان بن سعيد ، وذلك الثبت ، ويقال بل توفي أبان في سنة تسع وعشرين . وطُليب بن عمير بن وهب بن عبد بن قصي ، بارزه علج فضربه ضربة أبانت يده اليمنى ، فسقط سيفه مع كفه ، ثم غشيه الروم فقتلوه ». وذكروا أنه لم يعقب ، رضي الله عنه .

وذكر ابن عساكر (25/142) أن عمره عندما كان استشهد خمساً وثلاثين سنة .

«وقد انقرض جميع ولد عبد بن قصىّ وكان آخر من مات منهم رجل مات في أيام بنى العباس فورثه بالقعدد عبد الصمد بن على بن عبد الله بن العباس بن

ص: 436

عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى، وإسماعيل بن محمّد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطَّلب بن عبد مناف بن قصى ». (جمهرة أنساب العرب/128).

أقول: قلنا إن هذين الصحابيين كانا يطلبان من الروم دم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، لأن النبي (صلی الله علیه و آله) جعل دم جعفر هدفه في غزوة تبوك !

قال اليعقوبي في تاريخه:2 /67: « سار رسول الله (صلی الله علیه و آله) في جمع كثير إلى تبوك من أرض الشأم يطلب بدم جعفر بن أبي طالب (رحمة الله) ، ووجه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرهم ويرغبهم في الجهاد ، وحض رسول الله (صلی الله علیه و آله) أهل الغنى على النفقة ، فأنفقوا نفقات كثيرة ، وقووا الضعفاء » .

وفي تاريخ ابن خلدون: 2 ق1 /224: «وَجَد النبي( حَزِنَ ) على من قتل من المسلمين، ولا كوجده على جعفر بن أبي طالب ، لأنه كان تلاده ، ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف أن يتهيؤا لغزو الروم، فكانت غزوة تبوك».

والمعنى أن حزنه (صلی الله علیه و آله) على جعفر كان عميقاً ، لأنه من ذخائره القديمة العزيزة .

18. وقاد خالد بن سعيد والمرقال ، معركة أجنادين ومَرْجَ الصُّفَّر وفِحل ونهضا بثقل معاركها ، وحققا النصر للمسلمين ، وكذا في محاصرة دمشق !

قال ابن عساكر في تاريخ دمشق:16/66: «فلما نظر إليهم خالد (في مرج الصُّفَّر) عبَّأ لهم كتعبئة يوم أجنادين ، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل سعيد بن زيد بن نفيل(خالد بن سعيد) وترك أبا عبيدة في الرجال وزحف إليهم فذهب خالد فوقف في أول الصف يريد أن يحرض الناس ثم نظر إلى الصف من أوله إلى آخره ، فحملت لهم خيل على خالد بن

ص: 437

سعيد بن زيد ، وكان واقفاً في جماعة من المسلمين في ميمنة الناس يحرض الناس ويدعو الله عز وجل ، ثم ينقض عليهم ، فحملت طائفة منهم عليه فنازلهم فقاتلهم قتالاً شديداً حتى قتل . كذا في الكتاب ابن سعيد بن زيد وإنما هو خالد بن سعيد بن العاص» .

وسعيد بن زيد بن نفيل هو ابن عم عمر ، ولم يذكر أحد أنه كان في هذه المعارك !

وقال ابن سعد في الطبقات:4/98: «حدثني عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: شهد خالد بن سعيد فتح أجنادين وفحل ومرج الصُّفَّر » .

وفي تاريخ دمشق:16/84: «وعبأ خالد الناس فسيروا الأثقال والنساء ثم جعل يزيد بن أبي سفيان أمامهم بينهم وبين العدو وصار خالد وأبو عبيدة من وراء الناس ثم رجعوا نحو الجيش وذلك الجيش خمسون ألفاً .

فلما نظر إليهم خالد بن الوليد نزل فعبأ أصحابه تعبئة القتال على تعبئة أجنادين ثم زحف إليهم فوقف خالد بن سعيد في مقدمة الناس يحرض الناس على القتال ويرغبهم في الشهادة، فحملت عليه طائفة من العدو فقتلته واستشهد (رحمة الله) ومنهم من قال لم يستشهد خالد بن سعيد في هذا الموضع ولكنه قتل بمرج الصُّفَّر وذلك أنه خرج في يوم مطير يستمطر (يجمع ماء المطر) فتفاوت عليه أعلاج من الروم فقتلوه » ! وسيأتي كثرة مكذوباتهم في سبب موته .

وقال البلاذري:1/141: «ثم اجتمعت الروم جمعاً عظيماً ، وأمدهم هرقل بمدد . فلقيهم المسلمون بمرج الصُّفَّر وهم متوجهون إلى دمشق ، وذلك لهلال المحرم سنة أربع عشرة ، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى جرت الدماء في الماء وطحنت بها

ص: 438

الطاحونة ، وجرح من المسلمين زهاء أربعة آلاف . ثم ولى الكفرة منهزمين مفلولين لا يلوون على شئ ».

19. غَضِبَ عمر على خالد بن سعيد فعزله ثم قتله ، وانهالت عليه الإتهامات ! وقد بدأ توتر العلاقة بينه وبين عمر بن الخطاب ، عندما رجع خالد من اليمن وكان والياً للنبي (صلی الله علیه و آله) عليها ، فتفاجأ بخبر أن ثلاثة مهاجرين هم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة صفقوا على يد أبي بكر في السقيفة ، وأعلنوه خليفة ، وتجمهر حولهم الطلقاء وأخذوا يجبرون الناس على بيعته بالسيف !

قال الجوهري في كتابه السقيفة/48: «لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه ، شاء ذلك أو أبى» !

فاستنكر ذلك خالد لأن النبي (صلی الله علیه و آله) نصب علياً (علیه السلام) خليفة بعده ، فقام هؤلاء باستغلال فرصة انشغاله والمسلمين بجنازة النبي (صلی الله علیه و آله) ، وقاموا بهذه الفعلة !

فتشاور مع علي (علیه السلام) هو وأحد عشر من كبار المهاجرين والأنصار ، وقرروا أن يخطبوا في المسجد ، ويلزموا أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بإرجاع الحق الى أهله !

وكان «أول من قام خالد بن سعيد بن العاص بإدلاله ببني أمية فقال: يا أبا بكر إتق الله فقد علمت ما تقدم لعلي من رسول الله (صلی الله علیه و آله) ألا تعلم أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال لنا ونحن محتوشوه في يوم بني قريظة ، وقد أقبل على رجال منا ذوي قدر فقال: يامعشر المهاجرين والأنصار أوصيكم بوصية فاحفظوها ، وإني مؤد إليكم أمراً فاقبلوه ، ألا إن علياً أميركم من بعدي ، وخليفتي فيكم ، أوصاني بذلك ربي . وإنكم إن لم تحفظوا وصيتي فيه وتؤازروه وتنصروه ، اختلفتم في أحكامكم ، واضطرب عليكم أمر دينكم ، وولي عليكم الأمر شراركم ! ألا

ص: 439

وإن أهل بيتي هم الوارثون أمري ، القائمون بأمر أمتي ، اللهم فمن حفظ فيهم وصيتي فاحشره في زمرتي ، واجعل له من مرافقتي نصيباً يدرك به فوز الآخرة . اللهم ومن أساء خلافتي في أهل بيتي ، فاحرمه الجنة التي عرضها السماوات والأرض ! فقال له عمر بن الخطاب: أسكت يا خالد فلست من أهل المشورة ولا ممن يُرضى بقوله . فقال خالد: بل أسكت أنت يا ابن الخطاب ، فوالله إنك لتعلم أنك تنطق بغير لسانك، وتعتصم بغير أركانك ! والله إن قريشاً لتعلم أني أعلاها حسباً ، وأقواها أدباً ، وأجملها ذكراً ، وأنك ألأمها حسباً ، وأقلها عدداً ، وأخملها ذكراً ، وأقلها من الله عز وجل ومن رسوله غنى . وإنك لجبان عند الحرب ، بخيل في الجدب ، ليئم العنصر ، ما لك في قريش مفخر ! قال: فأسكته خالد فجلس » !(الإحتجاج:1/104).

وبعد ثلاثة أيام جاء أهل السقيفة الى المسجد وقد هيؤوا قوات الطلقاء وبني أسلم ، فوقف عمر وقال: «والله يا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه ! فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال: يا ابن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددوننا ، أم بجمعكم تفزعوننا، والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم ، وإنا لأكثر منكم وإن كنا قليلين ، لأن حجة الله فينا. والله لولا أني أعلم أن طاعة الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) وطاعة إمامي أولى بي ، لشهرت سيفي وجاهدتكم في الله إلى أن أبلي عذري ! فقام أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال: أجلس يا خالد ، فقد عرف الله لك مقامك ، وشكر لك سعيك . فجلس » . (الإحتجاج:1/97، والخصال/461).

وروى الحاكم (3/250) وصححه على شرط مسلم: «قدم بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتربص ببيعته شهرين يقول: قد أمرني رسول الله (صلی الله علیه و آله) ثم لم يعزلني حتى

ص: 440

قبضه الله عز وجل ، وقد لقي علي بن أبي طالب وعثمان بن عبد مناف فقال: يا بنى عبد مناف ، طبتم نفساً عن أمركم يليه غيركم ! فنقلها عمر إلى أبي بكر ، فأما أبو بكر فلم يحملها عليه وأما عمر فحملها عليه . ثم بعث أبو بكر الجنود إلى الشام فكان أول من استعمل على ربع منها خالد بن سعيد ، فأخذ عمر يقول: أتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال ؟! فلم يزل بأبي بكر حتى عزله ، وأمَّر يزيد بن أبي سفيان ».

أقول: هذا التصرف من عمر رد فعل طبيعي على هجوم خالد الكاسح عليه ، فعمر لم يواجه كل عمره مثل موقف خالد بن سعيد ! بل إن تأمير أبي بكر لخالد على جيش الشام كان غير طبيعي، بعد إدانته الشديدة لعملهم في السقيفة !

وهنا يظهر الفرق بين شخصية أبي بكر وعمر ، فأبو بكر أوسع صدراً من عمر لمن خالفه ، ويستطيع إخفاء غيضه أكثر من عمر !

ولذلك اختلفا في بعض الأمور والأشخاص ، منهم المثنى بن حارثة الشيباني ، وخالد بن الوليد ، وخالد بن سعيد ، ولم يستطع عمر أن يفرض عليه رأيه في خالد بن الوليد ، بل وبخه أبو بكر .

قال ابن الجوزي في المنتظم:4/80: «كان عمر يحرض أبا بكر على عزله ، وأن يقيد منه ، فقال أبو بكر: مه يا عمر، ما هو بأول من أخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ، ثم ودى مالكاً» .

أي كان يحرضه على أن يقتل خالداً قصاصاً بقتله مالك بن نويرة وأخذه زوجته ، فوبخه أبو بكر وأعطى دية مالك !

لكن عمر بقي مصراً على عزل خالد فكان أول مرسوم كتبه عندما صار خليفة عزل خالد ، لكنه لم يذكر أن السبب قتله لمالك بن نويرة ، بل صرح أن السبب كلام خالد في نفي أم عمر من بني مخزوم ، فقد كتب عمر الى أبي عبيدة: «إن أكذب خالد نفسه

ص: 441

فيما كان قاله فله عمله ، وإلا فانزع عمامته وشاطره ماله . فشاور خالد أخته فقالت:والله ما أراد ابن حنتمة إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك من عملك ، فلا تفعلن». (اليعقوبي:2/139).

لكن أبا بكر أطاع عمر في خالد بن سعيد فعزله ، والسبب أن ابن الوليد من الكوادر الخاصة لأبي بكر ، بينما غرضه من تأمير ابن سعيد أن يكسب بني أمية ، وهذا يحققه استبداله بأموي آخر مقبول عندهم ، فأمَّر بدله يزيد بن أبي سفيان .

20. وتكاد تطمئن بأن خالد بن سعيد مات مقتولاً بمؤامرة وليس بيد الروم ! وذلك لكثرة الروايات وتناقضها في مكان قتله وسببه ! فقيل إنه قتل في معركة أجنادين ، وقيل في معركة مرج الصفر ، وقيل في معركة فحل ، وقيل في معركة اليرموك . وقيل لم يقتل في المعركة ، بل كان في المعسكر فخرج يستقي الماء فقتله رومي ، وقيل إن الرومي رأى نوراً ساطعاً من جنازته فأسلم !

وهكذا ضيعوا مكان شهادته ، وزمانها ، وسببها ، وهذا جزاء من يخالف الخليفة !

وقد يكون عمر دعا على خالد بن سعيد فمات ، كالمثنى بن حارثة الشيباني ، وقد رووا أنه دعا على بلال وجماعته ، وكانوا نحو ثلاثين صحابياً كانوا في الشام فاعترضوا على عمر، فدعا عليهم دعوة واحدة ، فماتوا واحداً بعد الآخر ، فلم تَدُرْ عليهم السنة حتى ماتوا جميعاً. (سنن البيهقي: 9/138) .

قال في تاريخ دمشق:16/67: «فواقع الروم بمرج الصفر فقيل إنه قتل به ، وقيل لم يقتل به وبقي حتى شهد اليرموك».

وقال الطبري:2/601: «ثم كانت مرج الصفر ، استشهد فيه خالد بن سعيد بن العاص أتاهم أدرنجار في أربعة آلاف وهم غارُّون ، فاستشهد خالد وعدة من

ص: 442

المسلمين . قال أبو جعفر: وقيل إن المقتول في هذه الغزوة كان ابناً لخالد بن سعيد ، وإن خالداً انحاز حين قتل ابنه ».

وقالوا إنه خرج يستمطر فقتله الروم ! (الطبري:2/601، وفيض القدير:5/280).

أي خرج تحت المطر لكي يغتسل ، أو يجمع الماء ويأتي به . وخروجه غير مفهوم لأنه كان في جيشه ، ومعه غلمانه وخدمه ، ومعه إخوته وابنه ، فكيف يخرج وحده ويقتل ، ولا يتحرك منهم أحد ؟!

وقالوا لما قتل الرومي خالد بن سعيد ، قلب ترسه وأسلم واستأمن ! وقال مَن الرجل الذي قتلنا ، فإني رأيت له نوراً ساطعاً في السماء ؟!(تاريخ دمشق: 16/83) وإذا صح ذلك فقد يكون هذا الرومي مستأجراً لقتل خالد ، فاحتال بإعلان إسلامه لينجو من القصاص ، وأخفى من وراءه إسمه !

ثم نقضوا ذلك بقولهم (تاريخ دمشق:21/45و46) إن ابنه سعيداً كان قائد كردوس في اليرموك ، وهو الذي خرج مستمطراً فقتل ، وليس أباه !

ثم تزداد شكاً في قصة قتل خالد بن سعيد ، عندما تجد أنه تزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة ، أخ أبي جهل ، وزوجة عكرمة بن أبي جهل ، وبنت عم خالد بن الوليد . وهي امرأة مخزومية معروفة ، كانت من نساء قريش المعدودات اللاتي جئن مع أزواجهن المشركين الى بدر . ولما فتح النبي (صلی الله علیه و آله) مكة هرب زوجها عكرمة ، فأخذت له أماناً من النبي (صلی الله علیه و آله) وذهبت اليمن وجاءت به . ولا بد أن عمرها عندما تزوجها خالد نحو أربعين سنة .

ص: 443

قال ابن سعد في الطبقات:4/98: «شهد خالد بن سعيد فتح أجنادين وفحل ومرج الصُّفَّر ، وكانت أم الحكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل ، فقتل عنها بأجنادين ، فأعدت أربعة أشهر وعشراً ، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها ، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها في عدتها يتعرض للخطبة فحطت إلى خالد بن سعيد فتزوجها على أربع مائة دينار .

فلما نزل المسلمون مرج الصُّفَّر أراد خالد أن يعرس بأم حكيم فجعلت تقول: لو أخرت الدخول حتى يفض الله هذه الجموع ، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم . قالت: فدونك . فأعرس بها عند القنطرة التي بالصُّفَّر ، فبها سميت قنطرة أم حكيم ، وأولم عليها في صبح مدخله فدعا أصحابه على طعام، فما فرغوا من الطعام حتى صفَّت الروم صفوفها صفوفاً خلف صفوف ، وبرز رجل منهم معلم يدعو إلى البراز ، فبرز إليه أبو جندل بن سهيل بن عمرو العامري فنهاه أبو عبيدة، فبرز حبيب بن مسلمة فقتله حبيب ورجع إلى موضعه وبرز خالد بن سعيد فقاتل فقتل ، وشدت أم حكيم بنت الحارث عليها ثيابها وعَدَت وإن عليها لدرعاً والخلوق في وجهها...وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد بن سعيد معرساً بها . وكانت وقعة مرج الصُّفَّر في المحرم سنة أربع عشرة ، في خلافة عمر بن الخطاب».انتهى.

وهي رواية متهافتة ، لأن معركة مرج الصُّفَّر كانت بعد أجنادين بعشرين يوماً وعدتها بعد مقتل زوجها في أجنادين أربعة أشهر وعشراً ، فلا يصح أن يكون زواجهما في مرج الصُّفر .

ص: 444

وأوهى منها رواية تاريخ دمشق:70/226: «وقتل خالد بن سعيد بن العاص بمرج الصفر شهيداً ، وكانت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، دخل بها بمرج الصفر فخرج وهو عروس ، فقاتل فقتل وخرجت هي بعمود فقتلت سبعة من الروم ، وكانت قبله تحت ابن عمها عكرمة بن أبي جهل ، فقتل عنها يوم فحل ، فلما انقضت عدتها خطبها يزيد بن أبي سفيان وخالد بن سعيد فحطت إلى خالد ثم تزوجها عمر بن الخطاب ».

فإذا كان قتل عكرمة في معركة فِحل ، وهي بعد معركة مرج الصُّفر ومعركة أجنادين ، فيجب أن تكون العدة بعد ذلك .

على أن السؤال هنا:لماذا تكشف أم الحكم المخزومية علاقتها الزوجية مع زوجها خالد ، الذي أمضت معه سبعة أيام ، وقتل في اليوم الثامن،كما في رواية .

ولماذا مديح الرواة لزوجته وشجاعتها وأنها قتلت من الروم الذين قتلوا زوجها سبعة فرسان بعمود ! ومتى تزوجها بعده عدوه الخليفة عمر بن الخطاب ، فولدت له فاطمة بنت عمر.(تاريخ دمشق:70/225). راجع: الكافي:5/572، والموطأ:2/545 ، والمستدرك:3/241، وفتح الباري:8/9، والتوابين لابن قدامة/123 ، والطبقات:5/50.

وآخر ما نسجله من روايات السلطة، قولها إن خالد بن سعيد شارك في معركة اليرموك ، وجُرح فيها ، ثم اختفى فلا يدرى أين مات ؟!

قالت رواية الطبري:2/597: «عن أبي عثمان: وخالد كان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك ، عكرمة وعمرو بن عكرمة ، وسلمة بن هشام ، وعمرو بن سعيد ، وأبان بن سعيد ، وأثبت خالد بن سعيد (جُرح) فلا يدرى أين مات» !

ص: 445

وهنا نصل الى شهادة مهمة: لأحد كبار أئمة الزيدية الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم (245- 298) في كتابه تثبيت الإمامة/18، بأن خالد بن سعيد قتله الخليفة لموقفه من السقيفة ، قال: «وأين الإجماع ، وكثير من أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله) قد أبوا البيعة منهم: خالد بن سعيد ، كان ولاه رسول الله (صلی الله علیه و آله) زبيداً حين ارتد عمرو بن معديكرب ، فأخرج رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لحربهم، فلما هزمهم وأمكن الله منهم ولى عليهم خالد بن سعيد رضي الله عنه وأرضاه وكان على مقدمتهم، فلم يزل فيهم حتى قبض رسول (صلی الله علیه و آله) ثم قدم بزكواتهم ، فدفعها إلى أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وأبى أن يسلمها إلى أبي بكر ، فأرسل أبو بكر إلى علي (علیه السلام) فقبض منه الزكاة . ودعا أبو بكر خالد بن سعيد رضي الله عنه للبيعة فأبى، فأمره أن يلحق بأطراف الشام ! ثم زعم أصحاب الحديث والأخبار أنه أُمر بقتله فقتل . وزعم بعضهم أنه قُتل في وقعة كانت هنالك ، والصحيح أنه لم يكن ثَمَّ وقعة . وغيره ممن لم يبايع كثير » .

ويؤيد ذلك روايتهم بأنه خرج يستمطر ، وأن الرومي الذي قتله قد أسلم !

وقد يفهم من الرواية التالية أنه استقبل عمر، لما زار الشام. ففي الطبقات(4/99): «أن خالد بن سعيد بن العاص وهو من المهاجرين قتل رجلاً من المشركين ثم لبس سلبه ديباجاً أو حريراً ، فنظر الناس إليه وهو مع عمر، فقال عمر: ما تنظرون ! من شاء فليعمل مثل عمل خالد ، ثم يتلبس لباس خالد » !

ص: 446

والنتيجة: أن المرجح أن الصحابي خالد بن سعيد ، المجاهد البطل فاتح فلسطين والشريك في فتح الشام ، قد قتل بعد مشاركته في معركة اليرموك ، فيكون شارك في جميع معارك فتح فلسطين وبلاد الشام . رضي الله عنه .

والمظنون أن لزوجته أم الحكم المخزومية يداً في سمه ، فهي شبيهة بزوجة المثنى بن حارثة الشيباني ، التي تقدم ذكرها .

21. واضطربت السلطة ورواتها فوقعت في تناقضات فاضحة في موت خالد وسببه أن خالد بن سعيد رضي الله عنه شخصية مهمة ، يوازي في ميزان قريش وبني أمية شخصياتها الكبرى كعتبة بن الوليد والد هند ، أي أنه أكبر من أبي سفيان وأولاده ، لأنه ابن أبي أحيحة ، الثري الذي كان يلقب بذي التاج !

وهو في ميزان الحرب قائد معارك المسلمين في فتح الشام ، فبالرغم من أن أبا بكر عزله وجعل مكانه يزيد بن أبي سفيان ، لكنك لاتسمع ببطولة ليزيد ، بل رأيت أن يزيداً هذا وأبا عبيدة وخالد بن الوليد وابن العاص أعطوا قيادة معركة مرج الصفر الى خالد بن سعيد ! ويندر في التاريخ ، أن يعطي قادة أربعة جيوش قيادة معركة تشارك فيها جيوشهم ، الى قائد غير رسمي !

فقد فرض خالد نفسه على أولئك القادة ، ببطولته مع جماعته الفرسان مثل إخوته عمرو وأبان وابنه سعيد ، وزميله هاشم المرقال ، ثم انضم اليهم في معركة اليرموك مالك الأشتر ، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي ، ومجموعة فرسان النخع ، وكلهم ملتفون حول خالد ، كما كانوا في اليمن !

ص: 447

وهؤلاء هم الذين قطفوا النصر في اليرموك ، وكان في مقدمتهم بدل خالد بن سعيد أو معه ، مالك الأشتر ، الذي قتل أحد عشر أو ثلاثة عشر من قادة الروم قبل المعركة ، فاضطرب جيشهم ، وكانت الحملة ومعها هزيمتهم !

قال الكلاعي الأندلسي في الإكتفاء: 3/273: « إن الأشتر كان من جلداء الرجال وأشدائهم وأهل القوة والنجدة منهم ، وإنه قتل يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلاً من بطارقتهم ، قتل منهم ثلاثة مبارزة »!

وكان أول الذين قتلهم الأشتر قائد الروم المشهور باهان، ثم برز آخر فقتله، ثم ثالث ، ثم حمل على القادة أصحاب الرايات حملة حيدرية ، فقتل تسعة منهم واضطرب جيشهم مذعوراً ! فحمل عليهم المسلمون وكانت الهزيمة .

وقد نسبوا البطولة والنصر الى خالد بن الوليد وأبي عبيدة ، مع أنهما كاعا عن مبارزة باهان وغيره . ونسبوه الى ضرار بن الأزور صاحب خالد وقاتل مالك بن نويرة بأمره ، مع أنه قُتل قبل سنين في حرب اليمامة !

فقد لمع نجم خالد إذن في معارك الشام ، ومعه مجموعته الفرسان المميزون ! ويكفي أن يسطع نجم أحد وهو مخالف للخليفة ، حتى يتوجه اليه خطر التصفية !

ثم تتوجه اليه أنواع التهم الظالمة ، وهذا ما لاقاه خالد بن سعيد رضي الله عنه .

22. وكذب رواة السلطة على خالد بن سعيد واتهموه بأنه جبان في الحرب ! وقالوا إنه انهزم من الروم وظل يركض مئات الأميال حتى وصل الى تيماء ، فغضب عليه أبو بكر ومنعه من دخول المدينة ! ثم تفضل وسمح له بدخولها !

ص: 448

قال ابن كثير في النهاية:7/39: «وأمره الصديق على بعض الفتوحات كما تقدم . قتل يوم مرج الصُّفَّر في قول ، وقيل بل هرب فلم يمكنه الصديق من دخول المدينة تعزيراً له ، فأقام شهراً في بعض ظواهرها حتى أذن له» .

وجعلت رواية في الطبري (2/333) هزيمة خالد بن سعيد المزعومة في مرج الصُّفَّر مع أنه كان قائدها العام وحقق فيها النصر ، فقالت: « اقتحم على الروم طلبَ الحظوة (أي للفخر) وأعرى ظهره ، وبادر الأمراء بقتال الروم ، واستطرد له باهان فأرز هو ومن معه إلى دمشق ، واقتحم خالد في الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل مرج الصفر من بين الواقوصة ودمشق ، فانطوت مسالح باهان عليه ، وأخذوا عليه الطرق ولا يشعر ، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمطر في الناس فقتلوه ، وأتى الخبر خالداً فخرج هارباً في جريدة فأفلت من أفلت من أصحابه على ظهور الخيل والإبل ، وقد أجهضوا عن عسكرهم، ولم تنته بخالد بن سعيد الهزيمة عن ذي المروة (قرب تيماء) وأقام عكرمة في الناس ردءً لهم فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوه».

وفي رواية تاريخ دمشق:2/83: «كان أبو بكر قد وجه خالد بن سعيد بن العاص إلى الشام حيث وجه خالد بن الوليد إلى العراق ، وأوصاه بمثل الذي أوصى به خالداً ، أن خالد بن سعيد سار حتى نزل على الشام ولم يقتحم واستجلب الناس وعزَّ فهابته الروم ، وأحجموا عنه ، فلم يصبر على أمر أبي بكر ، ولكن توردها فاستطردت له الروم حتى أوردوه الصفرين ، ثم تعطفوا عليه بعدما أمن فوافقوا ابنه سعيد بن خالد مستمطراً فوافقوه فقتلوه ومن معه ، وأتى الخبر

ص: 449

خالداً (أباه) فخرج هارباً حتى أتى البر فنزل منزلاً ، واجتمعت الروم إلى اليرموك فنزلوا به وقالوا والله لنشغل أبا بكر في نفسه عن تورد بلادنا بخيوله !

وكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بالذي كان به ، فكتب أبو بكر إلى عمرو بن العاص وكان في بلاد قضاعة بالسير إلى بلاد اليرموك ففعل ، وبعث أبا عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان ، وأمر كل واحد منهما بالغارة وأن لا توغلوا حتى لايكون وراءكم أحد من عدوكم .

وقدم عليه شرحبيل بن حسنة بفتح من فتوح خالد(ابن الوليد) فسرحه نحو الشام في جند ، وسمى لكل واحد من أمراء الأجناد كورة من كور الشام فتوافوا باليرموك ، فلما رأت الروم توافيهم ندموا على الذي ظهر منهم ، ونسوا الذي كانوا يتواعدون أبا بكر به ، واهتموا وهمتهم أنفسهم وأشجوهم وشجوا بهم ثم نزلوا الواقوصة . وقال أبو بكر: والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد ، فكتب إليه بهذا الكتاب الذي فوق هذا الحديث وأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة على العراق في نصف الناس، وإذا فتح الله على المسلمين الشام فارجع إلى عملك بالعراق ». ورواه الطبري:2/603.

وقالت رواية في الطبري:2/104: «اقتحم على الروم طلب الحظوة وأعرى ظهره وبادر الأمراء بقتال الروم ، فاستطرد له باهان فأرز(هرب) هو ومن معه إلى دمشق واقتحم خالد في الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى نزل بالمرج مرج الصفر بين الواقوصة ودمشق ، فانطوت مسالح باهان عليه وأخذوا عليه الطرق ولا يشعر ، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمطر في

ص: 450

الناس فقتلوهم ، فأتى الخبر خالداً فخرج هارباً في جريدة فأفلت من أفلت من أصحابه على ظهور الخيل والإبل ، وقد أجهضوا عن عسكرهم ولم تنته بخالد بن سعيد الهزيمة عن ذي المروة ، وأقام عكرمة في الناس ردءاً لهم فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوه ».

وقالت رواية أخرى للطبري:2/587: «عن المغيرة ومحمد عن أبي عثمان قالوا: أمر أبو بكر خالداً بأن ينزل تيماء.. وقد أمره أبو بكر أن لا يبرحها وأن يدعو من حوله للإنضمام إليه ، وأن لا يقبل إلا ممن لم يرتد ولا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره ، فأقام فاجتمع إليه جموع كثيرة وبلغ الروم عظم ذلك العسكر ، فضربوا على العرب الضاحية البعوث بالشام إليهم ، فكتب خالد بن سعيد إلى أبى بكر بذلك وبنزول من استنفرت الروم ، ونفر إليهم من بهراء وكلب وسليح وتنوخ ولخم وجذام وغسان من دون زيزاء بثلاث ، فكتب إليه أبو بكر أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله ، فسار إليهم خالد فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم فنزله ودخل عامة من كان تجمع له في الإسلام ، وكتب خالد إلى أبى بكر بذلك فكتب إليه أبو بكر أقدم ولا تقتحمن ، حتى لا تؤتى من خلفك فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل ، حتى نزلوا فيما بين آبل وزيزاء والقسطل ، فسار إليه بطريق من بطارقة الروم يدعى باهان فهزمه وقتل جنده ، وكتب بذلك إلى أبى بكر واستمده».

وقالت رواية ثالثة للطبري:2/588 و589، عن عروة بن الزبير: «أن عمر بن الخطاب لم يزل يكلم أبا بكر في خالد بن الوليد وفى خالد بن سعيد ، فأبى أن يعطيه في

ص: 451

خالد بن الوليد وقال لاأشيم سيفاً سله الله على الكفار. وأطاعه في خالد بن سعيد ، بعد ما فعل فعلته...لما قدم خالد بن سعيد ذا المروة وأتى أبا بكر الخبر ، كتب إلى خالد أقم مكانك فلعمري إنك مقدام محجام ، نجاء من الغمرات لا تخوضها إلى حق ولا تصبر عليه ! ولما كان بعد وأذن له في دخوله المدينة قال خالد: أعذرني ! قال: أخطلٌ وأنت آمر ، وجبانٌ لدى الحرب ! فلما خرج من عنده قال: كان عمر وعلي أعلم بخالد ، ولو أطعتهما فيه اختشيته واتقيته».

أقول: الرواية الأخيرة تبرر إصرار عمر على عزل خالد ، وهي تزعم أن أبا بكر اكتشف صحة رأي عمر . وقد حشرت الرواية إسم علي (علیه السلام) لهذا الغرض .

وكل هذه الروايات تقول إن خالد بن سعيد كان جباناً، ولم يتقيد بأمر أبي بكر ولاعمر فسبب هزيمة المسلمين أمام الروم ، وهرب منهم مئات الأميال ، فأنقذ أبو بكر الموقف بالأبطال الشجعان مثل عكرمة وأبي عبيدة ، وخاصة خالد بن الوليد ، وأقسم أبو بكر أن ينسي الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد ، فأرسل اليه فحضر من العراق وأنساهم وساوس الشيطان !

والحمد لله أنه لاحافظة لكذوب ، فقد نسي واضعوها أن أبا بكر توفي بعد معركة أجنادين ببضعة أيام، وأن عمر عزل خالد بن الوليد في أول يوم تولى فيه الخلافة ، وأن ابن الوليد جاء من العراق ببضع مئات فلم يكن له دور في معارك الشام الأساسية الأربعة: أجنادين ، ثم مرج الصُّفَّر ، ثم فِحل ، ثم اليرموك . وأن خالد بن سعيد وإخوته وأصحابه هم الذين انسوا الروم وساوس الشيطان وفرضوا إعجابهم على قادة الجيوش ، فسلموه قيادتها في معركة مرج الصفر، فكتب الله على يد النصر المبين!

ص: 452

ففي تاريخ خليفة/120: «قال ابن إسحاق: في هذه السنة وقعة مرج الصُّفَّر يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، والأمير خالد بن سعيد . وحدثني الوليد بن هشام عن أبيه عن جده قال: استشهد يوم مرج الصُّفَّر خالد بن سعيد بن العاص».

وقال الذهبي في تاريخه:3/84: « قال خليفة: كانت لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى والأمير خالد بن سعيد . قال ابن إسحاق: وعلى المشركين يومئذ قلقط ، وقتل من المشركين مقتلة عظيمة ، وانهزموا ».

كما أن رواياتهم في اتهام خالد تناقضت فيما بينها في الأسباب والأحداث وتاريخها ، وخلطت بين عهدي أبي بكر وعمر ، وبين القادة والأحداث .

فقد قال بعضها إن أبا بكر منع خالد بن سعيد من دخول المدينة ، لأنه انهزم أما الروم هزيمة قبيحة ، وقال بعضها لأنه قرأ آيات من القرآن بقراءة مغايرة ، ولا علاقة لمنعه بهزيمته ! قال الطبري:2/623: «عن أبي سعيد قال: لما قام عمر رضي عن خالد بن سعيد والوليد بن عقبة فأذن لهما بدخول المدينة . وكان أبو بكر قد منعهما لقراءتهما التي قرآها وردهما إلى الشام وقال: ليبلغني عنكما عناء إبلاؤكما فانضما إلى أي أمرائنا أحببتما ، فلحقا بالناس فأبليا وأغنيا » .

ولم تذكر الرواية أي آيات وكيف قرآها ، لكنها تدل أن منع خالد المزعوم من دخول المدينة ، كان لسبب عقائدي وليس لهزيمته المزعومة !

وغرض الرواية تريد تبرئة عمر من عداوته لخالد بن سعيد ، خوفاً من بني أمية الذين يحرص على علاقته معهم في مواجهة بني هاشم !

ص: 453

وقال بعض رواياتهم إن خالداً جاء من اليمن لابساً جبة ديباج ، فصاح عمر بمن يليه: مزقوا عليه جبته (الطبري:2/586) .لكن متى كان عمر يجرأ قبل خلافة أبي بكر أن يقول ذلك لابن أبي أحيحة ؟

وقد نقضتها رواية أخرى (الطبقات:4/99) قالت: «إن خالد بن سعيد بن العاص وهو من المهاجرين ، قتل رجلاً من المشركين ثم لبس سلبه ديباجاً أو حريراً ، فنظر الناس إليه وهو مع عمر، فقال عمر: ما تنظرون ! من شاء فليعمل مثل عمل خالد ، ثم يتلبس لباس خالد » !

وقالت رواية (الطبري:2/586) إن خالداً قال لعلي (علیه السلام) وعثمان أيام السقيفة: «يا أبا الحسن يا بنى عبد مناف أغلبتم عليها؟ فقال علي (علیه السلام) :أمغالبة ترى أم خلافة؟ قال: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم يا بنى عبد مناف. وقال عمر لخالد:فض الله فاك والله لا يزال كاذب يخوض فيما قلت!ثم لا يضر إلا نفسه».

وقالت أخرى عن لسان ابنته (الطبقات:4/97) «وكان رأى أبي بكر فيه حسناً ، وكان معظماً له ، فلما بعث أبو بكر الجنود على الشام عقد له على المسلمين وجاء باللواء إلى بيته ، فكلم عمر أبا بكر وقال: تولي خالداً وهو القائل ما قال... فما شعرت إلا بأبي بكر داخل على أبي يعتذر إليه ، ويعزم عليه ألايذكر عمر بحرف ، فوالله ما زال أبي يترحم على عمر حتى مات».

ومعنى هذا الكلام على لسان ابنة خالد وهي زوجة الزبير، أن عداوته مع أبي بكر وعمر كانت معروفة ، فأرادت ابنته أو من وضع الرواية على لسانها ، أن يغطوا هذه الحقيقة المضرة لهم . وزادوا في تغطية موقف خالد بوضع حديث نبوي على لسانه يمدح ابا بكر وعمر ، فقد زعموا ان خالد قال إن النبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 454

خطب فقال: «أيها الناس: إني راض عن أبي بكر فاعرفوا ذلك له . إني راض عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف ، والمهاجرين الأولين فاعرفوا ذلك لهم . أيها الناس: إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية .

أيها الناس: إحفظوني في أصهاري وأصحابي وأحبابي ، لايطلبنكم أحد منهم بمظلمة ، فإنها مظلمة لا توهب في القيامة . أيها الناس: إرفعوا ألسنتكم عن الناس، وإذا مات المؤمن فلا تقولوا فيه إلا خيراً ثم نزل ».

(الرياض النضرة للمحب الطبري:1/40، و:3/55، وتاريخ دمشق:30/132، والشفا:2/55)

وقد ضعف الحديث بعض علمائهم كالعقيلي(4/148) ولكنهم لايهتمون بالتضعيف .

والنتيجة: أن رواياتهم في ذم خالد بن سعيد ، تدور كلها حول تبرئة أبي بكر وعمر أمام بني أمية ، من ظلم زعيمهم وابن زعيمهم خالد بن سعيد ، وإثبات أنهما خدماه وأمَّراه مع أنه أساء اليهما ، لكنه لم يكن أهلاً للقيادة فعزلاه !

لكن هذا الدفاع يؤكد التهمة التي تملك عشرات القرائن ، ولا يدفعها !

23. ولإخوة خالد أبان وعمرو وابنه سعيد قصص تشبه قصصه مع السلطة! قابل الواقدي في فتوح الشام:1/13: «خرج بهم سعيد بن خالد بن سعيد بن العاص وكان غلاماً نجيباً ، وذلك أن سعيد بن خالد أتى إلى الصديق فقال: يا خليفة رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنك أردت أن تعقد لأبي خالد راية ويكون قائداً من قواد جيشك، فتكلم فيه المتكلمون فعزلته حين رجع من بعثك ، وقد حبس نفسه في سبيل الله عز وجل ، ولم أزل مجيباً دعوتك في بعثك ، فهل لك أن تقدمني على هذا الجيش فوالله لا يراني الله وانياً أبداً ، ولا عاجزاً عن الحرب .

ص: 455

قال: وكان سعيد بن خالد نجيباً أنجب من أبيه وأفرس ، فعقد له أبو بكر راية ودفعها اليه ، وأمره على ألفين من العرب . قال: فلما سمع عمر بن الخطاب كلام سعيد بن خالد وأنه خير من أن يكون أميراً كره لك ذلك ، وأقبل على الصديق وقال: يا خليفة رسول الله عقدت هذه الراية لسعيد بن خالد على من هو خير منه ، ولقد سمعته يقول عندما عقدتها على رغم الأعادي . والله لتعلم أنه ما يريد بالقول غيري ، والله ما تكلمت في أبيه !

قال الواقدي: فثقل ذلك على أبي بكر ، وكره أن لا يعقد له ، وكره أيضاً أن يخالف عمر لمحبته له ونصحه ومنزلته عند النبي (صلی الله علیه و آله) ، ووثب قائماً ودخل على عائشة وأخبرها بخبر عمر بن الخطاب ، وما كان من كلامه فقالت عائشة: قد علمت أن عمر ينصر الدين ويريد النصر لرب العالمين ، وما في قلب عمر بغض للمسلمين . قال: فقبل قول عائشة ، ثم دعا بأزد الدوسي ، وقال له: إمض إلى سعيد بن خالد وقل له: رد علينا رايتك . قال: فردها وقال: والله لأقتلن تحت راية أبي بكر حيث كان ، فإني قد حبست نفسي في سبيل الله...

ثم إن أبا بكر دعا عمرو بن العاص فسلم اليه الراية وقال: قد وليتك على هذا الجيش يعني أهل مكة والطائف وهوازن وبني كلاب ، فانصرف إلى أرض فلسطين وكاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك..

قال أبو الدرداء: كنت مع عمرو بن العاص في جيشه ، فسمعت أبا بكر يقول وهو يوصيه... وابعث عيونك يأتونك بأخبار أبي عبيدة ، فإن كان ظافراً بعدوه فكن أنت لقتال من في فلسطين ، وإن كان يريد عسكراً ، فأنفذ اليه جيشاً في أثر

ص: 456

جيش ، وقدم سهل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام وسعيد بن خالد..» .

أقول: تقدم أن أبا بكر أرسل ابن العاص الى فلسطين بثلاثة آلاف ، وأن أبا عبيدة استدعاه الى أجنادين، ولم يكن له مشاركة قتالية ، فاخترع قصة الأرطبون وكان سعيد بن خالد في ذلك الوقت مع أبيه وأعمامه عمرو وأبان.

ولاحاجة الى الإفاضة في مكذوباتهم عن خالد بن سعيد وابنه سعيد وإخوته ، رضي الله عنهم ، فهي من نوع مكذوباتهم عن خالد بن سعيد .

24. بَخِل رواة السلطة بأخبار جهاد خالد وابنه سعيد وإخوته أبان وعمرو ، مع أنهم بموازين السلطة أهم من آل أبي سفيان ، وقد خاضوا كل حروب فتح فلسطين والشام ، وكانوا قادة فيها ، وكان خالد القائد العام لمعركة مرج الصُّفَّر وهي من أهم معاركها ، وقد تكون الأهم .

ونذكر فيما يلي بعض أخبار بني سعيد بن العاص «أبي أحيحة»:

كان أبان على خيل المشركين في أيام الحديبية ، وعندما أرسل النبي (صلی الله علیه و آله) عثمان بن عفان الى مكة ، أجاره أبان فدخل ، وقال له كما في تاريخ دمشق:6/134:

أسبل وأقبل لا تخف أحداً *** بنو سعيدَ أعزةُ الحرم».

أي أسبل إزارك ولا تشمره فأنت في جوار بني سعيد ، لأن القرشيين كانوا يُسْبِلُون أُزرهم ، ويأمرون من يدخل مكة أن يشمر إزاره الى نصف ساقه .

ص: 457

وقد أسلم أبان بعد الحديبية وجاء الى خيبر، قال أبو هريرة إن أباناً قال للنبي (صلی الله علیه و آله) : إقسم لنا.«قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله لاتقسم لهم. قال أبان: وأنت بهذا يا وبرٌ تحدر من رأس ضأن » ! (صحيح البخاري:5/82) .

وفي معجم الطبراني الأوسط: 3/307: تحدر من رأس الجبل). وهو مثل لعدم قيمة المتكلم !

وفي معجم السيد الخوئي:8 /28 و:1/141: «خالد بن سعيد بن العاص:من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. من الإثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر ، وكان أول من تكلم يوم الجمعة .. أبان بن سعيد بن العاص..من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله) وإخوته: خالد ، وعتبة ، وعمرو.. أبوا عن بيعة أبي بكر، وتابعوا أهل البيت (علیهم السلام) ، وبعدما بايع أهل البيت (علیهم السلام) بايعوا » .

وفي الإستيعاب:3/1178: «واستعمل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عمرو بن سعيد على قرى عربية منها تبوك وخيبر وفدك . وقُتل عمرو بن سعيد مع أخيه أبان بن سعيد بأجنادين سنة ثلاث عشرة ، هكذا قال الواقدي وأكثر أهل السير. وقال ابن إسحاق: قتل عمرو بن سعيد بن العاص يوم اليرموك ، ولم يتابع ابن إسحاق على ذلك ، والأكثر على أنه قتل بأجنادين.. وكانت أجنادين ومرج الصفر في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة» .

وفي تاريخ دمشق:6/126: «أبان بن سعيد.. له صحبة واستعمله النبي (صلی الله علیه و آله) على بعض سراياه ، ثم ولاه البحرين ، وقدم الشام مجاهداً فقتل يوم أجنادين ، وقيل يوم اليرموك وقيل مات سنة تسع وعشرين... لما توفي رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعث أبو بكر أبان بن سعيد بن العاص إلى اليمن فكلمه فيروز في دم داذويه ، فقال: إن

ص: 458

قيساً قتل عمي غدراً على عدائه ، وقد كان دخل في الإسلام وشرك في قتل الكذاب ، فأرسل أبان يعلى بن أمية إلى قيس فقال: إذهب فقل له أجب أبان بن سعيد ، وإن تردد فاضربه بسيفك . فقدم عليه يعلى فقال له: أجب الأمير أبان فقال له قيس: أنت ابن عمي ، فأخبرني لمَ أرسل إلي؟ فقال له: إن الديلمي كلمه فيك أنك قتلت عمه رجلاً مسلماً على عدائك ! قال قيس: ما كان مسلماً لا أنا ولا هو ، وكنت طالب ذحل قد قتل أبي وقتل عمي عبيدة وقتل أخي الأسود ، فأقبل مع يعلى فقال أبان لقيس: أقتلت رجلاً قد دخل في الإسلام وشرك في قتل الكذاب؟ قال: قدرت أيها الأمير فاسمع مني ، أما الإسلام فلم يسلم لا هو ولا أنا ، وكنت رجلاً طالب ذحل وأما الإسلام فتقبل مني وأبايعك عليه ، وأما يميني فهذه هي لك بكل حدث يحدثه كل إنسان من مذحج . قال: قد قبلنا منك . فأمر أبان المؤذن أن ينادي بالصلاة وصلى أبان بالناس صلاة خفيفة ، ثم خطب فقال:إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد وضع كل دم كان في الجاهلية».

ومن الملفت في أخبار أبان أنه تزوج بنت عتبة بن ربيعة ، أخت هند ، وإسمها: أم أبان ، وقالوا إنها كانت في الشام مع أخيها ، وإن أباناً قتل بعد زواجه منها بليلتين ، فكيف يكون قتل في أجنادين؟ «وقتل عنها يوم أجنادين . وقيل إنه لم يكن معها سوى ليلتين حتى قتل عنها». (تاريخ دمشق: 70/197).

ورووا أن عمر بن الخطاب خطب أم أبان بعد مقتل زوجها، فكرهته وقالت: « يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابساً ويخرج عابساً». (تاريخ الطبري:3/270).

ص: 459

ص: 460

فهرس المجلد الثاني

الفصل الرابع:أصحاب الأدوار المدعاة في الفتوحات

كثرة القادة الحقيقيين والمدعى لهم القيادة3

هل اخترع رواة السلطة أبطالاً من خيالهم؟ 4

خالد بن الوليد والغدر ونبل الفروسية !

1. أبوه الوليد بن المغيرة العتل الزنيم 6

2. نشأ خالد على بغض النبي (صلی الله علیه و آله) 8

3.كان عمر بن الخطاب يبغض خالداً ولايطيقه 9

4. وكتب عمر الى خالد: بلغني أنك تَدَلَّكْتَ بخمر.!11

5. وعاش خالد معزولاً ومات في حمص 11

6.تقرأ الكثير عن فروسية خالد ولا تجدها في المعارك 11

7. أوصاه أبو بكر أن يباشر الحرب فلم يباشرها 13

8. لم تثبت له مبارزة في كل تاريخه العسكري13

9. اشتهر غدر خالد ببني جذيمة رغم إعلانهم الإسلام !14

10. ارتكب خالد جريمةً تصلح فيلماً لمأساة العاشق ! 17

11. جعلوا جبن خالد في مؤتة بطولة !18

12. اعترفوا بجبن خالد لستة أشهر في اليمن!23

13. اخترعوا لخالد أبطالاً قتلهم لا وجود لهم !26

ص: 461

14. اخترعوا لخالد معارك عديدة لا وجود لها !28

15. ورووا أن خالداً حارب الفرس والروم في العراق !31

16. تخصص في شن الغارات على العرب لا الفرس ولا الروم!32

17.الصورة الحقيقية لعمل خالد في العراق36

18. اتهم عمر خالداً بقتل النفس المحترمة والسرقة 41

19تعمدت السلطة أن تصور خالداً على أنه بطل! 42

20. اخترع خالد صلاةً فتحير فيها فقهاء السلطة !43

21. وزعم خالد أنه يحمل شعر النبي (صلی الله علیه و آله) فينتصر!43

22. البطولة في حرب اليمامة لعدي بن حاتم والإسم لخالد !44

23. من بطولة خالد غارته على بيت الزهراء (علیها السلام) ! 44

24. ومن بطولته محاولته اغتيال أميرالمؤمنين (علیه السلام) 47

25. برز من أولاد خالد ابنه عبد الرحمن وابنه المهاجر الشيعي 49

سعد بن أبي وقاص قائد عيَّرته زوجته بالجُبن

1. نسب سعد بن أبي وقاص الزهري50

2. كان سعد قصيراً غليظاً أسمر أفطس 51

3. توجد أكثر من مشكلة في نسب سعد!52

4. كان سعد يكره علياً (علیه السلام) مع شهادته بفضله 54

5. امتنع سعد عن بيعة علي (علیه السلام) ونصرته 55

6. أدان سعد سب معاوية لعلي (علیه السلام) 55

7. زعموا أن سعداً من المبشرين بالجنة ، وردحديثهم علي (علیه السلام) 58

8. أسرة سعد بن أبي وقاص أسرةٌ عجيبة 59

9. اعترف سعد بفراره يوم أحد وزعم أنه رجع !61

ص: 462

10. سعد أحد: الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ..63

11. ادعى سعد لنفسه فضيلة أنه مستجاب الدعوة64

12.اقترض سعد من بيت المال وأبى أن يرده !65

13.سرق فاساً من حطاب وأبى أن يرجعها له !67

14.عينه عمر والياً على العراق 68

15. شهدوا عليه بأنه جبان وغير عادل 68

16. كان رأي عمر سلبياً فيه لكنه متمسك به !70

17. صادر عمر منه نصف ثرواته 71

18.كانت مشكلة سعد أنه رأى نفسه كبيراً 72

19. كان سعد جريئاً على معاوية 73

20. زعم سعد أنه أحق بالخلافة74

21. كان معاوية يرى أن عمر كبَّرسعداً !75

22.كان سعد ضعيف الشخصية أمام معاوية77

23. اعترض سعد على بيعة يزيد فقتله معاوية 77

24.جلب سعد لأولاده معلماً نصرانياً 78

25. ورَّث سعد طموحه للخلافة الى أولاده ! 78

26- هرب سعد من قيادة القادسية 79

جرير بن عبد الله البجلي مقاول حرب في سبيل الله

1. نسب جرير، بن عبد الله البجلي 87

2. أسلم قبل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) بأربعين يوماً 87

3. وصفه أمير المؤمنين (علیه السلام) وصديقه الأشعث !89

4.ذهب الى العراق مع خالد بعد اليمامة89

ص: 463

5.ساعد خالداً قتال بني تغلب 90

6.زعموا أن جريراً قتل مرزبان المذار 91

7.كان جرير جندياً في جيش خالد بن سعيد 92

8.قاول جرير عمر على«الجهاد» بقومه 94

9. شارك جرير مع بني بجيلة في معركة البويب 96

10. رأى جرير القائد مهران مقتولاً فقطع رأسه !98

11. سكن جرير وقومه الكوفة 101

12.ملَّكه جريراً وقومه ربع الأرض المفتوحة وندم 102

13. كان جرير قائداً في معركة جلولاء 106

14.تقدم جرير داخل إيران وفتح بعض المدن 109

15.أمره عمار أن يُمد أبا موسى الأشعري في تستر110

16. أرسلوه الى رامهرمز داعيا فسباهم ونهبهم110

17. التحق جرير بجيش المسلمين الى نهاوند 113

18.عيَّنه عمر والياً على همدان 116

19.رووا أن جريراًكان يشرب الخمر 117

20. كان جرير تلميذ الأشعث في التحريش 118

21. عندما بايع المسلمون علياً (علیه السلام) بايعه جرير 119

22.بعثه علي (علیه السلام) الى معاوية يدعوه الى بيعته 120

23. كان جرير يبغض علياً (علیه السلام) ، وحرَّف حديث الغدير 125

24. مال جرير الى معاوية فعزلته قبيلته !126

عمرو بن العاص.. لا نبلٌ ولا شجاعة !

1. اختلف فيه أربعة فاختارت أمه العاص بن وائل !127

ص: 464

2. أمه النابغة ، أمَةٌ لبني عنزة ذات علم !130

3.كان عمرو من طفولته يُبغض النبي (صلی الله علیه و آله) 132

4. وكان حريصاً على مظهر الفروسية 135

5. اعترف عمرو وخالد بأنهما أسلما طمعاً 137

6. ضخموا دوره وزميله خالد مع النبي (صلی الله علیه و آله) 137

7. وضخموا دوره في فتح فلسطين ومصر137

8. وجعلوا له دور شرحبيل وخالد بن سعيد 139

9. واخترع لنفسه بطولات في المكر والدهاء145

10. وبلغ أوج كذبه في أسطورة الملكة أرمانوسة 148

11.نسبوا له قصة اليمامة التي باضت !150

12.كذب لنفسه وكذبوا له معارك في فتح مصر 151

13. واستطاب عمرو طعم خراج مصر153

14. وأحرق عمرو مكتبة الإسكندرية 155

15.نقض عمرو عهد الصلح مع أهل مصر158

16. بطش بالإسكندرية بدون سبب ونهبها وهدم سورها 167

17. حكم عمرو مصر سبع سنين 168

18. جمع عمرو ثروة طائلة من الفتوحات 170

19. لم يشبع عمرو حتى أخذ خراج مصر طُعمةً 171

19.أشار على معاوية بإعطاء الروم جزية 174

20.كان موقف علي (علیه السلام) من عمرو شديداً177

21.كان عمرو في الثمانينات ومعاوية في الأربعينات182

22. غزا عمرو مصر بجيش معاوية وقتل واليها187

ص: 465

23. نقلوا عنه اعترافه بالحق على نفسه 188

24.أشهر زوجاته بنت أبي معيط الخمار 188

25. أخذ لقب فاتح فلسطين ومصر191

الفصل الخامس:الأبطال الشيعة قادة الفتوحات

فاتح العراق المثنى بن حارثة رضي الله عنه

1.المثنى بن حارثة بن سلمة من ذهل شيبان193

2. كان بنو شيبان حلفاء مع بني عجل بن لجيم 193

3. وخاضت القبيلتان معركة ذي قار مع كسرى 195

4. وبدأ المثنى فعاليته بتحرير العراق زمن النبي (صلی الله علیه و آله) 195

5. ثلاثة عوامل ساعدت على فتح العراق 197

6. كان المثنى وعشيرته من شيعة علي (علیه السلام) 198

7. للمثنى عدة إخوة كلهم قادة شجعان 200

8. أرسل أبو بكر خالد بن الوليد مدداً للمثنى 201

9. معركة بابل أول معركة مع الجيش الفارسي 206

10. خير من أمدَّ بهم عمر المثنى أبو عبيد الثقفي 209

11.المعركة الثانية مع الجيش الفارسي معركةالنمارق 211

12. وقاد أبو عبيد والمثنى معركة الجسر 217

13. واصل المثنى جهاده بعد معركة الجسر223

14. قاد المثنى معركة البويب بجدارة224

15.وأدار المثنى خلافه مع جرير وجره الى المشاركة 226

16. بعد معركة البويب، بسط المثنى غاراته233

ص: 466

17. عزل عمر المثنى في أوج انتصاراته !237

18. لكن المثنى لم ينعزل لعمق جذوره 239

19. جاءت موجةٌ فارسية مقدمةً لمعركة القادسية239

20. المثنى يموت فجأة بعد أن غضب عليه عمر !241

21. ملاحظات على روايات موت المثنى 242

هاشم المرقال نقيض أبيه وعكس عمه

1. هاشم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه248

2. مدح علماء السنة وأئمتهم هاشم المرقال249

3. ومدحه علماء الشيعة ، فوصفوه بأنه صحابي جليل 251

4. فضَّله أمير المؤمنين (علیه السلام) على محمد بن أبي بكر 252

5. بقي هاشم في الكوفة بعد أن تركها عمه سعد253

6. كان هاشم بصيراً بمعاوية والمخالفين255

7. كان صاحب راية علي (علیه السلام) في صفين 256

8. قاتل هاشم في صفين قتال الأبطال256

9.كان من خاصة أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) 261

10. وصفوا شجاعته في الفتوحات وصفين 262

11. خاض معارك الفتوح والتصحيح لمدة ربع قرن ،264

12. سارع بعد اليرموك الى القادسية 267

13. وحاصر هاشم المدائن مدة طويلة 270

14. بعد فتح المدائن قاد معركة جلولاء 273

15. وقاد المرقال جيش المسلمين بعد جلولاء 275

16. انشغل سعد بخزائن كسرى، فاستحضره هاشم 276

ص: 467

17. بقي هاشم القائد العام من القادسية الى نهاوند278

18.قام بالإعداد لمعركة نهاوند مع عمار279

19. ذكر الواقدي مشاركته في فتح مصر280

20.كان له إخوة قادة ، وكان أبناؤه أكثر شبهاً به284

سلمان الفارسي المحمدي رضي الله عنه

1. نشأ على المجوسية ، ثم أعجبته المسيحية فهاجر إلى الشام288

2. كان في أعلى درجات الإيمان بعد المعصومين (علیهم السلام) 290

3. أكثر صحابي رووا له كرامات 291

4. كان أبيض اللون ، بهيَّ الطلعة والشيبة ، قويَّ البنية292

5. كان يعمل في حفر الخندق فأصابوه بالعين 293

6. اشتهر تشيع سلمان رضي الله عنه 294

7. شهد جميع حروب النبي (صلی الله علیه و آله) بعد أحد 296

8.أتقن العربية وبقيت لكنته الفارسية 297

ترجم للفرس من القرآن 299

10. أخفى رواة السلطة دوره في الفتوحات 299

11 رووا له كرامات في فتح المدائن ، 300

12. رووا نموذجاً من عمله في الفتوحات 302

13. اختاروه أمين غنائم قصور كسرى304

14. وصار الفارسي المشرد حاكماً لعاصمة كسرى305

15. اختار سلمان مكان الكوفة منزلاً للمسلمين 307

16. قدم سلمان نموذج الحاكم المسلم 311

17. وكان يخرج من المدائن الى الجهاد312

ص: 468

18.شارك سلمان في فتح إرمينيا والقفقاز 312

19. كان يزور الشام فيستقبلونه كالخليفة 314

20 آخى النبي (صلی الله علیه و آله) بينه وبين أبي ذر 315

21. مرَّتْ علاقته بعمر في مراحل316

22.ساءت علاقة سلمان بعمر في أواخر حياته 321

23. تزوج سلمان امرأة من كندة 323

24 علم سلمان بوفاته وصلى عليه (علیه السلام) 324

حجر بن عدي الكندي رضي الله عنه

1.كان فارساً قائداً في فتح العراق وإيران والشام 327

2. كان شجاعاً تقياً ، وظهرت له كرامات 327

4. كان من كبار أصحاب علي (علیه السلام) 328

5. كان مع بعض أصحابه يشتمون أهل الشام 329

6. فضح تآمر الأشعث في قتل أمير المؤمنين (علیه السلام) 329

7.كان حِجْر معتمدَ الإمام الحسن (علیه السلام) 330

8. قتله معاوية بدون أي حجة إلا تشيعه لعلي (علیه السلام) 330

9. غضب الإمام الحسين (علیه السلام) لقتل حجر 330

10. ذلت العرب بقتل حجر بن عدي !331

11. كان يردد: الموت في حب علي (علیه السلام) شهادة !332

12. قُتل مع حِجْر خمسة من أصحابه الأبطال 334

13. أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) وعلي (علیه السلام) بشهادة حجر334

14.أرسل معاوية مجرماً كبيراً فقتل حجراً 335

15.أصيب معاوية بالهلوسة لقتل حجر 335

ص: 469

16أراد معاوية أن يلعن حِجْرٌ علياً (علیه السلام) فأبى 336

17. وأوصى حجر أن يدفنوه بثيابه ودمائه 336

18. كان حجر رئيس قبائل كندة336

حذيفة بن اليمان أمين سرّ رسول الله (صلی الله علیه و آله)

1. كان حذيفة أمين النبي (صلی الله علیه و آله) على سره 338

2. كان عمر بن الخطاب يسأله عن المنافقين 339

3. حذيفة أحد أركان التشيع الأربعة 340

4. كان حذيفة يستعمل التقية مع الخلفاء345

5. روى تحذيرالنبي (صلی الله علیه و آله) من أئمة الضلال وبشارته بأئمة الهدي 348

6. كان يخبر المسلمين بغرائب ستحدث !349

7. رووا عنه مديحاً لبعض الخلفاء ولم يصح 351

8. شارك في حرب أحُد وما بعدها351

9. شارك في فتوح الشام 358

10. سكن الكوفة وشارك في فتح المدائن وجلولاء358

11. ثم توغل جيش المسلمين داخل إيران359

12.قاد حذيفة معركة نهاوند 361

13.ثم قاد حذيفة أغلب معارك فتح إيران 367

14. شارك في فتح أرمينيا وكان والياً عليها 374

15. كان حذيفة والي المدائن مع سلمان 374

16. وكان حذيفة بطل توحيد نسخة القرآن 376

17. يوجد حذيفة بن اليمان آخر 378

ص: 470

18. خيَّره النبي (صلی الله علیه و آله) بين أن يكون مهاجراً أو أنصارياً 379

الأحنف بن قيس رائد فتح خراسان

1. وفد الى المدينة على عهد عمر 381

3. يضرب به المثل في الحلم والحكمة والنبل382

4. عندما وصلت عائشة الى البصرة دعته لنصرتها 383

5. كان من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) 384

6. كان أول من أجاب دعوة أميرالمؤمنين (علیه السلام) 384

7. اقترح على أمير المؤمنين (علیه السلام) أن يكون مندوبه للتحكيم385

8.جوابه لمعاوية في مقتل عثمان 386

9. لعن شاميٌّ علياً عند معاوية فأفحمه الأحنف 386

10. وصف الأحنف سفرة معاوية وذكر علياً (علیه السلام) 387

11. كان (رحمة الله) شجاعاً قائداً 388

خالد بن سعيد بن العاص بطل فتح فلسطين

1. أخرج الله مؤمنين من أبناء الفرعون أبي أُحَيْحَة389

2.أكرم الله خالداً برؤيتين كانتا سبب هدايته389

3. هرب من سجن أبيه وعاش هو وزجته 391

4. أسلم وأخوه عمرو وأقنعا بالمراسلة أخاهما أباناً 393

5. هاجر خالد إلى الحبشة فكان مع جعفر 394

6. شارك سعيد بفعالية في حروب النبي (صلی الله علیه و آله) 395

7.عندما توفي النبي (صلی الله علیه و آله) جاء الى المدينة 396

8.ونصر علياً (علیه السلام) أيام السقيفة 404

ص: 471

9. عرض عليه أبو بكر وعلى إخوته أن يرسلهم ولاة 405

10.استشار أبو بكر علياً (علیه السلام) في غزو الروم فشجعه 405

11. عَتِبَ خالد على أبي بكر ، فاعتذر منه408

12. ظلموا خالد بن سعيد لأنه شيعي 413

13.قاد معركة أجنادين فنسبوا قيادتها الى بن الوليد!417

14. ونسبوها الى عمرو العاص!424

15. واعترفوا بقيادة خالد لمعركة مرج الصُّفَّر430

16. كان عدد الروم في أجنادين نحو سبعين ألفاً 432

17. افتتح معركة أجنادين حفيدان لعبد المطلب 434

18. وقاد خالد بن سعيد أجنادين ومَرْجَ الصُّفَّر وفِحل 437

19. غَضِبَ عمر على خالد بن سعيد فعزله ثم قتله 439

20. روايتهم تشير الى أن خالد بن سعيد مات مقتولاً 442

21 اضطربت السلطة ورواتها وتناقضوا في سبب موته 447

22. كذب رواة السلطة على خالد بن سعيد كثيراً 448

23. وظلموا معه إخوته أباناً وعمرواً وابنه سعيدأً455

24. بَخِل رواة السلطة بأخباره خالد بن سعيد وأقاربه 457

(تم الكتاب والحمد لله رب العامين)

ص: 472

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.