شَمسُ الأُصُول المجلد 5

هویة الکتاب

شَمسُ الأُصُول

آیة الله العظمی الحاج الشیخ شمس الدين الواعظي

دار المحجة البيضاء

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ص: 5

ص: 6

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

اشارة

ولابدّ في بيان هذه القاعدة من ذكر اُمور:

الأمر الأوّل :في مدرك هذه القاعدة:

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «هو عبارة عن روايات كثيرة في كتب الفريقين يروي هذه الجملة عن رسول اﷲ(صلی الله علیه و آله)، وهي بمنزلة كبرىً كلّيّة يطبّقها(صلی الله علیه و آله) في موارد عديدة»(1).

منها: ما عن أبي بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال:

«إنّ سمرة بن جندب كان له عذق(2) في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاريّ بباب البستان، وكان يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاريّ أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى، جاء الأنصاريّ إلى

ص: 7


1- القواعد الفقهيّة 1: 211.
2- العذق: كلّ غصنٍ له شعب، والعذق أيضاً: النخلة عند أهل الحجاز. والظاهر: أنّ المراد هنا هو الثاني. انظر: لسان العرب 10: 238، مادّة (عذق).

رسول اﷲ(صلی الله علیه و آله) فشكا إليه، وخبّره الخبر. فأرسل إليه رسول اﷲ(صلی الله علیه و آله) وخبّره بقول الأنصاريّ وما شكا، وقال: إذا أردت الدخولفاستاذِن، فأبى، فلمّا أبى ساومه، حتى بلغ به من الثمَن ما شاء اﷲ، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يُمدّ لك في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اﷲ(صلی الله علیه و آله) للأنصاريّ: اذهب فاقلعْها وارمِ بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار»(1).

ومنها: رواية عبد اﷲ بن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) نحو ما مرّ، إلّا أنّه قال: «فقال له رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله) إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر و لا ضرار على مؤمن، ثمّ أمر بها رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله) فقُلِعت، ثمّ رُمي بها إليه، وقال له رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله): انطلق فاغرسها حيث شئت»(2).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة بنفس المضمون.

ولا يخفى: أنّا هنا لسنا بحاجة إلى الحديث حول سند هذه الروايات بعد ذكرها في المصادر المعتبرة لدى العامّة والخاصّة على السواء، بحيث يمكن الاطمئنان بصدورها عن النبيّ(صلی الله علیه و آله)، مضافاً إلى إمكان القطع بصحّة سند بعض هذه الروايات.

هذا فيما يتعلّق بفقرة (لا ضرر ولا ضرار)، وأمّا كلمة (في الاسلام) فقد نقلها ابن الأثير الجزريّ في نهايته(3).

ص: 8


1- الكافي 5: 292 - 293.
2- المصدر نفسه 5: 294.
3- النهاية في غريب الحديث 3: 81.

ولكنّها رواية عامّيّة مرسلة، فلا يكاد يمكن الاستناد إليها، وقد أرسلها الصدوق في الفقيه(1)، ولكن حيث قد تلقّاها الأصحاب بالقبول فلا يكاد يضرّ إرسالها، وإن كان إسناد هذه الكلمة إلى النبيّ(صلی الله علیه و آله) لا يخلو من إشكال.

وعلّق اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) في قواعده على ذلك بقوله:

«ولكن يمكن أن يقال: بعدم اعتبار عدم ذكرها في بعض الطرق بعد بناء الأصحاب على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة؛ لبناء العقلاء على ذلك»(2).

ولكن لا يخفى: أنّ هذه القاعدة إنّما تتمّ لبناء العقلاء إن كان احتمال الغفلة في النقص أقوى من احتمال الغفلة في الزيادة، ولكنّ هذا إنّما يتمّ لو تعارضتا بأنفسهما، ولم يكن هناك دليل على الخلاف، وإلّا، فمع وجود القرائن على الخلاف، لا يمكن لنا أن نتمسّك بالقاعدة، فيبعد جريان أصالة عدم الزيادة. إذ:

أوّلاً: النقص قد ورد في روايات كثيرة.

وثانياً: يحتمل أن تكون الزيادة من كلام الصدوق(قدس سرّه) لا من كلام النبيّ(صلی الله علیه و آله)؛ فإنّ كثرة الموارد التي تكون من النظائر قد تؤدّي إلى وقوع الإنسان في الغفلة، كما في مثل: لا رهبانيّة في الإسلام، ولا إخصاء في

ص: 9


1- من لا يحضره الفقيه 4: 334، باب ميراث أهل الملل.
2- القواعد الفقهيّة 1: 213.

الإسلام؛ فإنّ وجود هذهاللّفظة في نظائر هذه الجمل قد يوقع الإنسان في الغفلة مع أنّ كلمة (في الاسلام) لم ترد في شيءٍ من مسانيد أصحابنا.

ويمكن أن يكون الاشتباه قد حصل من الناسخ لا من الصدوق(قدس سرّه)، وأن يكون هو) قد نقل هذا الحديث عارياً من هذه الكلمة، والذي أدّى إلى اشتباه الناسخ هو كلمة (فالاسلام) في قوله: يزيد المسلم خيراً، وهو متّصل بقوله: (لا ضرر ولا ضرار)، فوقع الناسخ في الاشتباه، فكتب تلك الكلمة (في الإسلام).

ومثله يقال في رواية مجمع البحرين الذي نقل حديث الشفعة بلفظ «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(1)، مع أنّه إنّما أخذ هذا الحديث من الكافي، وهو هناك بهذا اللّفظ:

«قضى رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار»(2).

إلى غير ذلك من القرائن التي تؤكّد عدم وجود هذه الكلمة في كلام النبيّ(صلی الله علیه و آله).

وأمّا كلمة (على المؤمن) الواردة في رواية ابن مسكان، فإنّها ضعيفة السند، حيث ورد في هذا السند النقل عن (بعض أصحابنا)، ما يدلّ على مجهوليّة الراوي.

ص: 10


1- مجمع البحرين 3: 16، مادّة (ضرر).
2- الكافي 5: 281، باب الشفعة، ح4.

اللّهمّ إلّا أن يقال - كما هو غير بعيد -:بأنّ التعبير بكلمة (بعض أصحابنا) يدلّ على الوثاقة. بخلاف مثل ما لو أتى بكلمة (عن رجل) فإنّه من مضعّفات الرواية.

ولعلّه لأجل ذلك، تعرّض الشيخ الأعظم(رحمة الله) لهذه الرواية جاعلاً إيّاها من «أصحّ ما في الباب سنداً وأوضحه دلالةً»(1).

الأمر الثاني: في بيان مفردات هذه الفقرة:

ذكر بعضهم - على ما نقله الاُستاذ المحقّق(رحمة الله)(2) - أنّ الضرر أمر وجوديّ، وهو ضدّ النفع. وقال آخرون: هو بمعنى النقص.

ولكن لا ينبغي أن يخفى: أنّ الضرر لا يطلق على عدم النفع مطلقاً، بل إنّما يطلق عليه - عرفاً - في بعض الموارد دون بعض، فمثلاً: إذا كان في بلد حانوت واحد، فجاء شخص وفتح حانوتاً ثانياً في نفس البلاد، فقد يقال بصدق الضرر عليه - حينئذٍ - عرفاً، مع أنّ قاعدة لا ضرر لا تشمل هذا المورد؛ لأنّ فتح الثاني حانوته ليس بحرام حتى تشمله القاعدة.وأمّا (الضرار) فهو مصدر بمعنى المفاعلة، على ما قيل، والمفاعلة فعل الاثنين، ولابدّ فيها من طرفين، فيكون معناه: الضرر على الغير مقابل الضرر عليه.

ص: 11


1- فرائد الاُصول 2: 457.
2- القواعد الفقهيّة 1: 214.

ولكنّ هذا غير تامّ، كما أفاده المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه) بقوله:

«الضرار وإن كان مصدراً لباب المفاعلة، والأصل فيه أن يكون فعل الاثنين، كما هو المشهور، إلّا أنّه لا أصل له، كما تشهد له الاستعمالات الصحيحة الفصيحة القرآنيّة وغيرها؛

فإنّ فيها ما لا يصحّ ذلك، وفيها ما لا يراد منه ذلك، كقوله تع-الى: ﴿ي-ُخَادِعُونَ الله َ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾(1)، فإنّ الغرض نسبة الخديعة منهم إلى اﷲ وإلى المؤمنين، لا منهما إليهم أيضاً، وقوله تعالى:﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله ِ﴾(2)، و﴿ي-ُرَآؤُونَ﴾(3)، و﴿وَنَادَي-ْنَاهُ﴾(4)، و﴿نَافَقُواْ﴾(5)، و﴿شَآق--ُّواْ﴾(6)، و﴿مَسْجِداً ضِرَاراً﴾(7)، و﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّضِرَاراً﴾(8)، و﴿لَا ت--ُؤَاخِذْنِي﴾(9)، إلى غير ذلك. ومن الاستعمالات: عاجله بالعقوبة، وبارزه بالحرب، وباشر الحرب، وساعده التوفيق، وخالع المرأة، وواراه في الأرض، فإنّ جميع

ص: 12


1- البقرة: 9.
2- النساء: 100.
3- النساء: 142.
4- الصافّات: 104.
5- آل عمران: 167.
6- الأنفال: 13.
7- التوبة: 107.
8- البقرة: الآية 231.
9- الكهف: الآية 73.

ذلك بين ما لا يصحّ فيه إرادة الانتساب إلى الاثنين، وما لا يراد منه ذلك»، إلى آخر كلامه«(1).

فالضرار - إذاً - بمعنى تكرار الضرر من شخص واحد.

هذا بالنسبة إلى المفردات.

وأمّا شرح الجملة ككلّ، أعني: (لا ضرر ولا ضرار)، فالأقوال المعروفة في المسألة عند الفقهاء أربعة:

القول الأوّل: أن يكون مفادها النهي عن إيجاد ضرر الغير، أو مطلقاً، حتى على النفس، فيكون مساقها مساق قوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(2)، حيث إنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة هذه الاُمور في الحجّ، ونظائرها كثيرة في الأخبار، ونريد من نظائرها: ما كان ظاهر الكلام فيها هو النفي، ولكن لم يُرَد من هذا النفي سوىالنهي، كما روي من قوله(علیه السلام): «لا سبق إلّا في خفٍّ أو حافر أو نصل»(3)، وما إلى ذلك من الروايات الكثيرة.

وهذا هو القول الذي أصرّ عليه شيخ الشريعة الأصفهاني(قدس سرّه) ذاهباً إلى تعيين هذا الاحتمال من بين الاحتمالات الأربعة(4).

ص: 13


1- نهاية الدراية 2: 746، بتصرّف يسير.
2- البقرة: الآية: 197.
3- وسائل الشيعة 11: 493، باب 17 من أبواب أحكام الدوابّ، ح2.
4- راجع: قاعدة لا ضرر: ص 24 - 27.

القول الثاني: أن يكون مفادها هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. أي: بمعنى نفي حقيقة الضرر وماهيّته ادّعاءً، كنايةً عن نفي الحكم الضرريّ، ونظائرها كثيرة في الأخبار والمأثورات التي تصيّدوها من الروايات، نحو: «لا شكّ لكثير الشكّ»(1)، وقوله(علیه السلام): «لا سهو في سهو»(2)، وقوله(علیه السلام): «لا سهو للإمام مع حفظ المأموم»(3).

إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

فيكون المراد من الجملة محلّ الكلام، بناءً على هذا القول: أنّ الموضوعات التي لها أحكام بعناوينها الأوّليّة إذا صارتضرريّة وتعنونت بعنوان الضرر فإنّ ذلك الحكم يرتفع عن ذلك الموضوع، وعليه: فتكون هذه القاعدة حاكمةً على الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقاً في جانب الموضوع. وهذا القول هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية(قدس سرّه)(4).

القول الثالث: أن يكون مفادها عبارة عن نفي الحكم الضرريّ، بمعنى: أنّ كلّ حكم صدر من الشارع، فإن كان مستلزماً لضرر، أو حصل من قِبل جعله ضرر على العباد، - سواء كان الضرر على المكلّف نفسه أم

ص: 14


1- انظر: وسائل الشيعة 8: 227 - 230، باب 17 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2- المصدر نفسه 8: 243، باب 25 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.
3- المصدر نفسه 8: 239 - 242، باب 24 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
4- انظر: كفاية الاُصول: ص 381، قال): «كما أنّ الظاهر أن يكون (لا) لنفي الحقيقة، كما هو الأصل في هذا التركيب، حقيقةً أو ادّعاءً كنايةً عن نفي الآثار...»، انتهى موضع الحاجة.

على غيره، كوجوب الوضوء الذي حصل من قبل وجوبه ضرر ماليّ أو بدنيّ على المكلّف، وكلزوم المعاملة في المعاملة الغبنيّة حيث نشأ من قبله الضرر على المغبون -.

القول الرابع: أنّ مفادها هو نفي الضرر غير المتدارك، بمعنى: أنّ الشارع ينهى عن الضرر غير المتدارك.

وتقريبه: بأن يكون الضرر المتدارك في حكم العدم، ولا يراه الشارع ضرراً، كما هو كذلك عند العرف والعقلاء، وبناءً على هذا الفرض: فإنّ نفي الضرر المطلق يكون عائداً إلى نفي الضرر غير المتدارك.

والظاهر - حينئذٍ - من نفي الضرر غير المتدارك في عالم التشريع:

هو لزوم التدارك؛ لأنّ المفروض أنّ الضرر المتدارك منزّل في كلام الشارع المقدّس منزلة العدم. فإذا كان النفيبمنزلة النهي، فيكون الضرر غير المتدارك منهيّاً عن إيجاده، وهذا كناية عن وجوب تداركه، وهذا كما أنّه إذا قال: (لا تَقْبل هديّة بلا عوض) - مثلاً - فإنّه يكون كناية عن أنّه إذا أهدى إليك شخص هديّةً ما، فلا تجعله بلا عوض ولا تدارك، بل يجب عليك أن تتداركها، وذلك بإهداء شيء إلى المُهدي في مقابلها.

وقد اختار الاُستاذ المحقّق القول الثالث(1)، وهو مختار كلٍّ من الشيخ الأعظم والميرزا النائيني".

قال في الفرائد: «إذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم أنّ المعنى بعد تعذّر إرادة

ص: 15


1- القواعد الفقهيّة 1: 218 - 219.

الحقيقة: عدم تشريع الضرر، بمعنى: أنّ الشارع لم يشرّع حكماً يلزم منه ضرر على أحد، تكليفيّاً كان أو وضعيّاً، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون، فيُنفى بالخبر...»(1).

وقال المحقّق النائيني): «وكيف كان، فأحسن الوجوه وأصحّها هو ما اختاره شيخنا الأنصاريّ - وهو ثالث الوجوه في كلامه -؛ لأنّ هذا الوجه يصلح لأن يكون مدركاً للقاعدة الفقهيّة المتداولة بين الفقهاء، دون الثاني والرابع»(2).وقال الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) في تبرير ذهابه إلى اختيار هذا القول:

«وذلك من جهة أنّه لا شكّ في أنّه(صلی الله علیه و آله) في مقام التشريع، وفي مقام أنّ الحكم المشروع في المقام حكم امتنانيّ على الاُمّة، فالحديث ظاهر سياقاً في أمرين: أحدهما: أنّ الرفع تشريعيّ؛ إذ لا معنى لأن يكون إنشاء الرفع لرفع تكوينيّ»؛ وذلك:

أوّلاً: لأنّ الشارع إنّما يرفع شيء يكون قابلاً للرفع والوضع تشريعاً؛ لأنّ الرفع التكوينيّ خارج عن دائرة وظيفته كشارع.

وثانياً: لأنّ الرفع التكوينيّ إنّما يكون من جهة رفع أسبابه، ولا مجال لرفعه بالانشاء، بل لابدّ من أسبابه التكوينيّة.

وأمّا احتمال أنّه يكون إخباراً عن الرفع التكوينيّ، فباطل؛ لوقوع كثير

ص: 16


1- فرائد الاُصول 2: 460.
2- منية الطالب 3: 382.

من الضرر، والشارع إنّما يبيّن ما يكون راجعاً اليه، ومناسباً لمقامه بوصفه شارعاً، والرفع التكوينيّ ليس كذلك.

والدليل على كونه في مقام الامتنان - مضافاً إلى تسالم الأصحاب على ذلك في فتاواهم - هو ما يدلّ عليه سياق الكلام من أنّه6 وبّخ سمرة قائلاً له: (أنت رجل مضارّ)، أي: مصرّ على الضرر.

ثمّ قال الاُستاذ(قدس سرّه): «فإذا ظهر ظهور الحديث في هذين الأمرين من دون الاحتياج إلى كلمة (على مؤمن) أو كلمة (في الاسلام)، فنقول: لا شكّ في أنّ الرفع التشريعيّ ظاهرهأنّ المرفوع من الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ رفعها يكون رفعاً حقيقيّاً، لا ادّعائيّاً؛ لأنّه لا وجود للأحكام الشرعيّة إلّا في عالم التشريع، فإذا رفعه في عالم التشريع يرتفع من عالم الوجود حقيقةً، وبقول مطلق. وقد بيّنّا في شرح مفردات وألفاظ الحديث أنّ كلمة (لا) ظاهرة في نفي جنس مدخولها حقيقةً إذا كان المدخول نكرة.

وأمّا إذا كان المرفوع أمراً تكوينيّاً، فلا بدّ أن يكون الرفع ادّعائيّاً لا حقيقيّاً، فتكون النتيجة: رفع الحكم حقيقةً برفع الموضوع ادّعاءً، كقولهم - المتصيّد من الروايات - (لا شكّ لكثير الشكّ)»(1).

وأمّا كلمة (لا)، فهي لنفي الجنس إذا كان ما وقع بعدها هو النكرة، وحينئذٍ: فيكون مدلولها هو النفي الحقيقيّ، إلّا إذا ثبت بأنّ النفي ادّعائيّ.

ص: 17


1- القواعد الفقهيّة 1: 219.

وفي النفي الحقيقيّ، وهو فيما إذا كان حاله حال النفي التكوينيّ، وهو إنّما يصحّ إذا كانت القضيّة من قبيل القضيّة الخبريّة المحضة، وكان المنفيّ هو الحكم؛ وذلك لأنّ تشريعه وجعله يكون عين تكوينه حقيقةً.

وأمّا إذا كان المنفيّ هو الموضوع الخارجيّ لا الحكم، فيكون نفيه حقيقةً على خلاف الواقع؛ لأنّ رفع الموضوع الخارجيّ ووضعه ليس بيد الشارع، كما لا يخفى، فلا محالة: يجب حمله على نفيه ادّعاءً، ولكنّ حال النفي الادّعائيّ هو عينه حال الإثبات ادّعاءً، بمعنى: أنّه لا يصحّ إلّا بلحاظ عدمترتّب الأثر الذي من المترقب أن يترتّب على الشيء، فيصحّ - حينئذٍ - نفيه ادّعاءً؛ حيث كان بمنزلة العدم؛ لعدم ترتّب الأثر عليه.

الأمر الثالث :هل تشمل القاعدة الأحكام العدميّة أم لا؟

قبل الخوض في تفصيلات في هذه القاعدة، لابدّ من معرفة أنّها هل تشمل الأحكام العدميّة كما تشمل الوجوديّة أم لا؟ فإذا حبس حرّاً غير أجير، ففات عمله، فالظاهر: عدم شمول قواعد الضمان لمثل ذلك؛ لعدم كونه إتلاف مال.

نعم، لو كان المحبوس عبداً أو حرّاً أجيراً، يكون الحبس إتلافاً لمال المالك والمستأجر، فيكون الحابس ضامناً. فيقال - مثلاً -: إنّ عدم الضمان حكم ضرريّ؛ لاستلزامه الضرر على الحرّ؛ لفوات عمله، فهل يشمله حديث نفي الضرر أم لا؟

ص: 18

قال الشيخ(أعلی الله مقامه) في رسالته المستقلّة المعمولة في قاعدة لا ضرر، في التنبيه الثاني، ما لفظه:

«لا إشكال - كما عرفت - في أنّ القاعدة المذكورة تنفي الأحكام الوجوديّة الضرريّة، تكليفيّةً كانت أو وضعيّة، وأمّا الأحكام العدميّة الضرريّة، مثل عدم ضمان ما يفوت على الحرّ من عمله بسبب حبسه، ففي نفيها بهذه القاعدة، فيجب أن يحكم بالضمان، إشكال:من أنّ القاعدة ناظرة إلى نفي ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعيّة، فمعنى نفي الضرر في الإسلام: أنّ الأحكام المجعولة في الإسلام ليس فيها حكم ضرريّ. ومن المعلوم، أنّ حكم الشرع في نظائر المسألة المذكورة ليس من الأحكام المجعولة في الإسلام، وحكمه بالعدم ليس من قبيل الحكم المجعول، بل هو إخبار بعدم حكمه بالضمان؛ إذ لا يحتاج العدم إلى حكم به، نظير حكمه بعدم الوجوب أو الحرمة أو غيرهما، فإنّه ليس إنشاء منه، بل هو إخبار حقيقة.

ومن أنّ المنفيّ ليس خصوص المجعولات، بل مطلق ما يتديّن به ويعامل عليه في شريعة الإسلام، وجوديّاً كان أو عدميّاً، فكما أنّه يجب في حكمة الشارع نفي الأحكام الضرريّة، كذلك يجب جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضرر»(1).

ص: 19


1- الرسائل الفقهيّة: 118 - 119. (المجلّد 23 من تراث الشيخ الأعظم(رحمة الله)).

وقد ذهب المحقّق النائيني(قدس سرّه) إلى عدم شمول حديث نفي الضرر للاُمور العدميّة، وأطال في الاستدلال على ذلك، ولكن يمكن أن يتلخّص كلامه في وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ هذا الحديث ناظر إلى رفع الأحكام المجعولة شرعاً، فبما أنّ عدم الضمان ليس حكماً شرعيّاً مجعولاً من قبل الشارع، فلا يرتفع بالقاعدة.الثاني: أنّه لو التزمنا بشمول الحديث للحكم العدميّ، فلازمه: هو ثبوت وجوب الضمان في مسألة حبس الحرّ، ومعناه: تكفّل الحديث لنفي الضرر غير المتدارك، وقد ذكرنا سابقاً أنّ هذه هو أحد المعاني الأربعة المحتملة من الحديث بدواً، وأنّ مقتضى التحقيق عدم إمكان حمل الحديث عليه.

الثالث: أنّ لازم الالتزام بعموميّة هذا الحديث وشموله للأحكام العدميّة تأسيس فقه جديد؛ وذلك لاستلزامه في مثال الزوجة - أي: التي كان بقاؤها على الزوجيّة مضرّاً بها - ثبوت حقّ الطلاق للحاكم الشرعيّ وهو ممّا لا يمكن الالتزام به(1).

ولكن يمكن أن يقال: الظاهر أنّ الأحكام العدميّة على قسمين:

الأوّل: المقصود منها حكم الشارع بعدم التكليف أو الوضع، وفي

ص: 20


1- انظر: منية الطالب 3: 418 - 423.

هذا القسم لا يبعد جريان القاعدة؛ لكونها ناظرة إلى مطلق ما للشارع من الحكم، بلا فرق بين أن يكون وجوديّاً أو عدميّاً، فإنّ الحكم بالعدم حكم أيضاً، فكما أنّ حكمه بالتكليف أو الوضع إذا صار ضرريّاً يصار إلى نفيه بالقاعدة، فكذلك حكمه بعدم التكليف أو الوضع في مورد خاصّ ينفى بالقاعدة عندما يصبح ضرريّاً.

والثاني: المقصود منها مجرّد عدم حكم الشارع بالتكليف أو الوضع. وفي هذا القسم لا تجري القاعدة؛ لأنّ معنى نفي عدم الحكم بالقاعدة هو إثبات الحكم بها، وهو ضعيف كما ترى،فإنّ القاعدة ليست موضوعةً إلّا لنفي الأحكام الضرريّة، ولو كانت عدميّة، لا لإثبات الأحكام التي لولاها للزم الضرر.

الأمر الرابع: هل المراد من الضرر المنفيّ في القاعدة هو الضرر الشخصيّ أو النوعيّ؟

المراد من الضرر الشخصيّ هو الضرر الفعليّ الوارد على كلّ شخص، ففي كلّ مورد ينشأ فيه ضرر خارجيّ على شخص من قِبل الحكم الشرعيّ، فيكون ذاك الحكم مرتفعاً في حقّه، دون من لا يرد عليه من قبله ضرر؛ فإنّ الحكم لا يرتفع الحكم عنه، فمن الممكن أن يكون الحكم ضرريّاً في حقّ شخص دون آخر، بل بالنسبة إلى الشخص نفسه، هو قد يكون ضرريّاً في مورد دون آخر.

ص: 21

والمراد من الضرر النوعيّ هو: ما يترتّب من الضرر بالنسبة إلى غالب المكلّفين، أو ما يكون منه مترتّباً على نوع الفعل وغالبيّة أفراد الفعل.

ولا يخفى: أنّ الظاهر من هذا الحديث - كما عليه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) أيضاً(1) - هو الضرر الشخصيّ لا النوعيّ.

والسرّ في ذلك: هو حكومة أدلّة الضرر على الحكم الواقعيّ، ومعنى الحكومة إنّما هو رفع الحكم في كلّ مورد نشأ منه الضرر، وأمّا في الموارد التي ليس فيها ضرر، فلا يكون الحكم فيها مرفوعاً، فيكون مشمولاً للإطلاق.وبعبارة أُخرى: فبما أنّ الحديث وارد في مقام الامتنان فلابدّ أن يكون الرفع بلحاظ حال كلّ شخص بحسب نفسه، لوضوح عدم صدق الامتنان على رفع الحكم عن شخص بلحاظ شخصٍ آخر.

وهذا هو ما اختاره الميرزا النائيني) أيضاً، حيث قال - ما نصّه -:

«وبالجملة: مقتضى الحكومة، بل مقتضى كون الحديث وارداً في مقام الامتنان، أن يكون كلّ شخصٍ ملحوظاً بحال نفسه»(2).

ويمكن المناقشة فيه: بأنّ كون الحديث وارداً - كما ذكرنا - في مورد الامتنان، لا يحتّم أن يكون المراد منه هو الضرر الشخصيّ خاصّةً، بل

ص: 22


1- القواعد الفقهيّة 1: 237.
2- منية الطالب 3: 423.

كما يمكن أن يكون الامتنان بحسب حال الشخص نفسه، فكذلك يمكن أن يكون امتناناً وارداً على النوع، فيكون الحديث - بناءً عليه - حاكماً على أدلّة الأحكام الأوّليّة إذا كان يترتّب عليها ضرر نوعيّ أيضاً، فليس هناك من منافاة - أصلاً - بين الحكومة والضرر النوعيّ.

الأمر الخامس: في دعوى عدم شمول الحديث لمورد نفسه:

حاص-ل ه-ذا الإشكال: هو أنّ القاعدة المق-رّرة في رواية سمرة لا تنطبق على مورد الحديث نفسه، فإنّ أمره(صلی الله علیه و آله) بقلع العذق لا يستوجب نفي الضرر؛ لأنّ إبقاء عذق سمرة في بستان الأنصاريّ ليس هو الذي يستوجب الضرر على الأنصاريّ، بل الذي استوجب الضرر هو دخول سمرة في بستانه من دون استئذان منه.

وعليه: فيلزم أن لا تكون القاعدة شاملةً للمورد، وهو مستهجن.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ حكمه(صلی الله علیه و آله) بالقلع لم يكن من جهة تطبيق القاعدة عليه، بل إنّما كان من باب أنّه(صلی الله علیه و آله) له الولاية على النفوس والأموال، فأمره(صلی الله علیه و آله) بقلع العذق من باب الولاية حسماً لمادّة الفساد.

ولكنّه جواب غير تامّ؛ لأنّه مخالف للتعليل المذكور في نفس الموثّقة، فقد ورد فيها أنّه(صلی الله علیه و آله) بعد أن قال: «اقلعها وارمِ بها إليه» علّله بقوله: «فإنّه لا ضرر ولا ضرار»، فلا يمكن القول بأنّ القلع كان من باب إعمال حكومته(صلی الله علیه و آله) وولايته.

ص: 23

وقد أجاب المحقّق النائيني(قدس سرّه) عن هذا الإشكال:

بأنّ قوله(صلی الله علیه و آله) (لا ضرر) ليس علّةً لقطع العذق، بل إنّما هو علّة لوجوب الاستئذان عند دخوله، وضرر الأنصاريّ، وإن كان مستنداً إلى جواز الدخول بغير إذنه، وهو الجزء الأخير لعلّة الضرر، ولكنّ جواز الدخول من غير استئذان ينتهيبالأخير إلى حقّه لإبقاء عذقه في ذلك البستان، وذلك الحقّ، حكم شرعيّ وضعيّ نشأ من قبله الضرر، فيكون الضرر عنواناً ثانويّاً لذلك الحقّ، فيرتفع بارتفاع الضرر، بالمطابقة أو بالالتزام، فلا يرد إشكال حتى بناءً على تطبيقه على مسألة العذق.

قال) - بعد كلامٍ طويل -:

«وتوضيح ذلك: بعد ظهور القضيّة في أنّ سمرة لم يكن مالكاً إلّا للعذق، وأنّ البستان المغروس فيها النخيل كان للأنصاريّ، غاية الأمر: أنّه كان مستحقّاً لإبقائها فيها مجّاناً، إمّا لاستئجاره الأرض للغرس، وإمّا لكون مالكها واحداً ابتداءً، ثمّ انتقل الأرض إلى أحد والنخلة إلى آخر، فعلى أيّ حالٍ، كان سمرة مستحقّاً لإبقائها، فإذا كان كذلك، وكان هذا علّةً لجواز الدخول على الأنصاريّ بلا استئذان، فلو كان المعلول والفرع مستلزماً للضرر، فنفي الضرر رافع لأصل العلّة والأصل ...»، انتهى موضع الحاجة من كلامه«(1).

ص: 24


1- منية الطالب 3: 398 - 399.

وقد أدخل الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) المسألة في باب تقديم الأهمّ على المهمّ، فقال:

«أنّ سوق (لا ضرر) في مقام الامتنان، فلا يجري فيما إذا كان موجباً لضرر الغير؛ لأنّه كما أنّ بقاء حقّ سمرة في إبقاء عذقه في بستان الأنصاريّ - لو سلمنا أنّه منشأ للضرر- كذلك منعه عن حقّه وقلع عذقه ضرر عليه، فيدخل في باب تعارض الضررين، بل تزاحم الحقّين.

فالصواب في الجواب أن يقال: إنّ تقديم حقّ الأنصاريّ لحفظ عرضه من جهة أهمّيّته في نظر الشارع، كما هو الشأن في باب التزاحم، من تقديم الأهمّ على المهمّ، وهو أحد المرجّحات الخمسة في باب التزاحم، بل أهمّها»(1).

هذا، ولكنّك خبير بأنّ ما أفاده(قدس سرّه) وإن كان تامّاً، ولكن يبقى معه ورود إشكال عدم شمول الحديث لمورد نفسه على حاله.

الأمر السادس: في بيان تقديم هذه القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة الواقعيّة:

حيث إنّ الأدلّة الأوّليّة شاملة بعمومها وإطلاقها حتى لموارد الضرر، وبعد أن كانت النسبة بين هذه القاعدة وبين تلك الأدلّة عموم من وجه - فمثلاً -: دليل وجوب الغسل عامّ يثبت هذا الحكم حتى في مورد

ص: 25


1- القواعد الفقهيّة 1: 226 - 227.

الضرر، وقاعدة لا ضرر تنفي الحكم الضرريّ، سواء كان واجباً أم لم يكن، فيتعارضان في مورد الاجتماع وتصادم العنوانين، ومقتضى القاعدة - حينئذٍ - الحكم بتساقطهما، ولكنّهم مع ذلك قدّموا قاعدة (لا ضرر).

وقد ذكروا لذلك وجوهاً:الأوّل: هو حكومة القاعدة على تلك الأدلّة، ولذا تقدّم عليها، وهي حكومة بالتضييق في جانب المحمول؛ فإنّ دليل (لا ضرر) يضيّق ما هو المحمول في تلك الأدلّة، وهو الحكم، ويرفعه بنحو الرفع التشريعيّ في حالة كونه ضرريّاً، بلا فرق بين أن يكون هذا المحمول من قبيل الحكم التكليفيّ أو الوضعيّ.

وبالتالي: فلا يكون هناك تعارض بينهما حتى يحكم بتساقطهما؛ لأنّ التساقط - كما هو معلوم - إنّما هو فرع التعارض، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم.

ولا يخفى: أنّ القاعدة - حينئذٍ - لا تكون شاملةً لما إذا كان رفع الضرر عن شخص سبباً لورود ضرر على الآخر، فلا يجوز قسمة طاحونة - مثلاً - إذا كان في الشركة ضرر على أحد الشركاء، وكان في القسمة ضرر على الآخر.

الثاني: ما اختاره صاحب الكفاية(قدس سرّه)، وحاصله:

أنّنا نلتزم بتقديم قاعدة (لا ضرر) بالجمع العرفيّ؛ فإنّ أحدهما بيان للحكم الثابت للأشياء، ولكن بعناوينها الأوّليّة، وأمّا الآخر - وهو قاعدة

ص: 26

(لا ضرر) - فهو متكفّل لبيان الحكم الثابت للأشياء، ولكن بعناوينها الثانويّة، فيجمع العرف بينهما بحمل دليل نفي الضرر على بيان الحكم الفعليّ، وأدلّة الأحكام الأوّليّة على بيان الحكم الاقتضائيّ.

قال(قدس سرّه):

«ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الأحكام، وتقدّم أدلّته على أدلّتها - مع أنّها عموم من وجه - حيثإنّه يوفّق بينهما عرفاً بأنّ الثابت للعناوين الأوّليّة اقتضائيّ، يمنع عنه فعلاً ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلّته، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانويّة، والأدلّة المتكفّلة لحكمها بعناوينها الاوليّة»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ الجمع العرفيّ - كما أفاده الاُستاذ المحقّق(رحمة الله)(2) - لابدّ له من سبب، كما لو كان أحدهما خاصّاً والآخر عامّاً، فيقدّم الخاصّ في نظر العرف على العامّ، ولا يمكن أن يكون جزافاً، وفيما نحن فيه، ثمّة وجه للتقديم والجمع العرفيّ، وهو كون أحد الدليلين، وهو دليل (لا ضرر) حاكماً - كما عرفنا - على أدلّة الأحكام الواقعيّة الأوّليّة.

ولكنّ صاحب الكفاية(قدس سرّه) استشكل في الحكومة في المقام، بما لفظه:

ص: 27


1- كفاية الاُصول: 382.
2- القواعد الفقهيّة 1: 233.

«هذا لو لم نقل بحكومة دليله على دليله؛ لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله، كما قيل»(1).

وحاصله: أنّ المقام ليس من باب الحكومة في شيء؛ لأنّ الحكومة تتوقّف على كون الدليل الحاكم بصدد التعرّض لحال الدليل المحكوم، ودليل (لا ضرر) - هنا - ليس له نظر إلىأدلّة الأحكام، ولا له تعرّض إلى حالها، بل إنّما يتكفّل ببيان ما هو الواقع من نفي الضرر، وهذا المقدار لا يصحّح الحكومة بل هو كسائر أدلّة الأحكام.

وقد ردّه المحقّق النائيني(قدس سرّه) - بما يبدو منه أنّه قد فهم من كلامه) تخصيص الدليل الحاكم بما يكون متعرّضاً للدليل المحكوم بالمدلول اللّفظيّ المطابقيّ -.

ثمّ تعرّض(قدس سرّه) للفرق بين قرينة المجاز وقرينة التخصيص والتقييد، وحاصل هذا الفرق:

أنّ قرينة المجاز تكون بياناً للمراد الاستعماليّ من اللّفظ وأنّها تأتي لبيان المدلول التصديقيّ له، نظير لفظ (يرمي) في قول القائل: (جاء أسد يرمي)، فإنّه بيان لكون المراد من (أسد) هو الرجل الشجاع، لا الحيوان المفترس.

وأمّا قرينة التخصيص، فهي ليست بياناً للمراد الاستعماليّ، بل للمراد

ص: 28


1- كفاية الاُصول: 382 - 383.

الواقعيّ الجدّيّ، فتكون بصدد بيان ما هو موضوع الحكم واقعاً، وأنّ عنوان العامّ ليس تمام الموضوع، بل جزؤه.

ثمّ أفاد(قدس سرّه) في الفرق بين التخصيص والحكومة أنّ:

«ضابط التخصيص أن لا يكون في اللّفظ إشعار أصلاً بالحكم الثابت في العامّ، فإنّ قوله: (لا تكرم زيداً)، لا تعرّض له بحسب المدلول بالحكم الثابت في جميع أفراد العلماء الشامل لزيد. فكونه بياناً للعامّ إنّما هو بحكم العقل بعد العلم بصدور الخاصّ والعامّ من العاقل الملتفت، فإنّ العقل يحكم بأنّ الملتفت لا يحكم واقعاً بوجوب إكرام جميع الأفراد معحكمه في فردٍ منها بخلاف حكمه في سائر الأفراد، وبعد نصوصيّة الخاصّ أو أظهريّته من العموم في شموله له، يحكم بأنّ المتكلّم لم يقصد من العموم هذا الفرد.

وضابط الحكومة أن يكون هذا الوجه من الجمع مدلولاً لفظيّاً، ولا تختصّ الدلالة اللّفظيّة، بأن يكون مدلول الحاكم هو (أردتُ من المحكوم هذا) حتى يكون شارحاً بلفظ (أي) و(أعني) ونحوهما، فيكون كقرينة المجاز. بل تشمل ما كان كالمقيّد والمخصّص بياناً للمراد من الحكم الواقعيّ كأغلب الحكومات..

إلى أن قال: فالفرق بين التخصيص والحكومة هو أنّ بيانيّة الخاصّ للعامّ إنّما هو بحكم العقل، وبيانيّة الحاكم للمحكوم إنّما هو بنفس مدلوله».

ص: 29

ثمّ بيّن) أقسام الحكومة بقوله:

«منها: ما يتعرّض لموضوع الحكم، كما لو قيل: بأنّ زيداً ليس بعالم، بعد قوله: أكرم العلماء.

ومنها: ما يتعرّض لمتعلّق الحكم الثابت في المحكوم، كما لو قيل بأنّ الإكرام ليس بالضيافة.

ومنها: ما يتعرّض لنفس الحكم، كما لو قيل بأنّ وجوب الإكرام ليس في مورد زيد.

ثمّ إنّ الحكومة كما توجب التضييق، فقد توجب التوسعة أيضاً».

ثمّ ذكر أنّ الوجه في تقدّم الحاكم على المحكوم هو أنّه لا تعارض بين دليليهما أصلاً؛ فإنّ الدليل المحكوم يتكفّل الحكمعلى تقدير تحقّق الموضوع، وليس له تعرّض - أصلاً - لثبوت ذلك التقدير أو عدمه. وأمّا الدليل الحاكم، فهو يتكفّل هدم تقدير ثبوت الموضوع وبيان عدم تحقّقه، وفي مثله فلا تنافي أصلاً بين الدليلين.

وعلى هذا الأساس، فقد بنى) صحّة الترتّب بين الأمر بالضدّين، حيث لا منافاة بين تعلّق الأمر بالأهمّ مطلقاً، وتعلّق الأمر بالمهمّ على تقدير عصيان الأهمّ؛ فإنّ امتثال الأمر بالأهمّ يدعو إلى هدم موضوع الأمر بالمهمّ، فلا يصادمه ولا ينافيه، بل هو كالحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم.

وبعد هذا البيان ذكر) أنّه «لا فرق بين أن يكون المراد من (لا ضرر)

ص: 30

ما اختاره شيخنا الأنصاريّ، وأن يكون المراد منه ما اختاره المحقّق الخراسانيّ)، أي: سواء قيل بأنّ الحكم الضرريّ غير مجعول، أو قيل: بأنّ الموضوع الضرريّ لا حكم له؛ إذ كلاهما حاكمان على أدلّة الأحكام، غاية الفرق: أنّ أدلّة (لا ضرر) على مختار الشيخ) شارحة لأصل الحكم، وعلى مختاره فشارحة لموضوعات الأحكام»(1).

وما ذكره) من تقدّم دليل الحاكم على دليل المحكوم بالمدلول اللّفظيّ تامّ؛ وأمّا ما أفاده من أنّ تقدّم الخاصّ على العامّ من جهة دليل العقل، فغير تامّ، بل لا دخل للعقل في تقدّم أحدهما على الآخر، وليس هذا من مختصّاته.وإنّما تقدّمه - أعني: الخاصّ - على العامّ، فإنّما هو - كما قرّر في محلّه - من باب القرينيّة، حتى لو كان ظهور الخاصّ أضعف من ظهور العامّ، فإنّه مع ذلك يقدّم - أيضاً - عليه.

الأمر السابع: شمول القاعدة للحكم الضرريّ، تكليفيّاً كان أم وضعيّاً

وفي ذلك يقول اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

«بل الحكم الوضعيّ أولى بشمول (لا ضرر) له؛ لأنّ الحكم التكليفيّ بمحض جعله وتشريعه لا يكون موجباً لوقوع الضرر في الخارج، بل

ص: 31


1- انظر في جميع ما نقلناه عنه): منية الطالب 3: 407 - 409.

الضرر يقع في مرحلة الامتثال، فيتوسّط بينه وبين وقوع الضرر إرادة المكلّف واختياره»(1).

وبذلك يتحصّل: أنّ قاعدة (لا ضرر) غير مختصّة بالنهي التكليفيّ عن الإضرار بالغير، بل تعمّه والأحكام الوضعيّة، فكما أنّ دخول سمرة بن جندب على الأنصاريّ بغير استئذان منه إضرار بالغير ومنهيّ عنه تكليفاً، فكذلك البيع الغبنيّ إذا وقع على وجه اللّزوم بنفسه، مصداقاً للإضرار بالغير، فلا يكون ممضىً من قبل الشارع، فلا يكون نافذاً ومؤثّراً لأثره المطلوب منه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الضرر بالنفس، فمثلاً: الوضوء واجب للصلاة، ولكنّه إذا كان يستلزم ضرراً على الشخص،لمرض أو غيره، من جهة استعمال الماء، فيكون مرفوعاً بالقاعدة.

الأمر الثامن :في تعارض الضررين:

وهذا تارةً يتصوّر في حقّ شخصٍ واحد وأُخرى في حقّ شخصين.

والكلام يقع أوّلاً في أنّ الإضرار بالنفس هل هو حرام مطلقاً أم لا، بل يحرم فقط إذا تسبّب في هلاك النفس؟

لا يخفى: أنّ حرمة الضرر على النفس مطلقاً محلّ كلام؛ لعدم الدليل،

ص: 32


1- القواعد الفقهيّة 1: 235.

بل إذا كان الإضرار لأجل أمر عقلائيّ، كالحجامة مثلاً، فلا يمكن أن يحكم بحرمته، أو كضرب السيوف على الهامة إذا كان سبباً للمزيد من الحزن على سيّد الشهداء(علیه السلام) بحيث لم يستوجب هلاك النفس فحرمته بحاجة إلى الدليل.

وأمّا القول بأنّه - أي: ضرب السيوف حزناً على مصابه(علیه السلام) - حرام بعنوان الثانويّ. ففيه: أنّه أهون من ضرب بعض أبناء الجماعة الخناجر في أبدانهم، أو جعل النيران على رؤسهم، بغير غرض عقلائيٍّ يدعو إلى ذلك، وهو في نظر الأجانب - وإن لم يكن لنظرهم قيمة أصلاً في المقام - ليس بأهون وأقبح من هرولة ما يقارب المليونين من الحجّاج كلّ عامٍ ما بين الصفا والمروة.

وكيف كان، فلو فرض توجّه ضررين بالنسبة إلى شخص واحد، فإمّا أن يكونا مباحين أو محرّمين أو مختلفين.فإذا كانا مباحين، فله أن يختار أيّاً منهما أراد.

وأمّا إذا كانا مختلفين، فعليه أن يختار ما ليس بحرام.

وأمّا لو كانا محرّمين، فيختار ما هو أضعف ملاكاً، ويترك ما هو أقوى بحسب الملاك، هذا إن كان أحدهما أقوى ملاكاً، وأمّا لو كانا متساويين ملاكاً، فهو مخيّر بينهما.

وأمّا توجّه الضررين بالنسبة إلى شخصين، فقد مثّل له الفقهاء بما إذا دخل رأس دابّةٍ يملكها شخص في قدرٍ يملكه شخص آخر، ولم يمكن

ص: 33

إخراج رأسها منه إلّا بكسر القدر أو ذبح الدابّة. أو كما لو كان تصرّفه في ملكه يستوجب ضرراً يلحق بجاره، كما إذا أجّج ناراً وكانت هذه النار سبباً لإحراق مزرعة الجار.

ولا يخفى: أنّ قاعدة (لا ضرر) لا تتناول حالة التعارض بين الضررين؛ لأنّها واردة في مقام الامتنان كما أسلفنا، وفي حالة التعارض المذكور لا يُتصوّر الامتنان، وإنّما هي شاملة فقط لما إذا كان الضرر في أحد الطرفين بالنسبة إلى الفعل والترك، لا في كليهما، كما في المثال المتقدّم: فإنّ كلّاً من العملين، أعني: ذبح الدابّة وكسر القدر يصدق عليه أنّه بالنسبة إلى مالكه ضرر، فلو حكمنا بأحدهما لاستوجب ضرراً - لا محالة -.

ومعه: فيكون خلاف الامتنان المسوق له دليل (لا ضرر)، فلابدّ من الالتزام بكون القاعدة منصرفة عن المورد الذي يتعارض فيه الضرران. ومع انصرافها عن مورده، فلابدّ فيه من الأخذ بدليل آخر، كما في الجمع بين الحقوق؛ مراعاةللسيرة العقلائيّة القائمة، فإنّ العقلاء في أمثال هذه الموارد يلتزمون جانب الضرر الأقوى والأشدّ، ففي المثال: حيث إنّ الضرر المترتّب على قتل الحيوان أقوى من الضرر في كسر القدر، فهم يحكمون بلزوم كسر القدر لا الذبح.

وهل الخسارة الواردة - حينئذٍ - على صاحب الدابّة أم على كليهما؟

يمكن أن يقال: بوقوع الخسارة على كليهما بعد أن لم يكن بتفريط من صاحب الدابّة لكي يكون هو وحده الضامن.

ص: 34

ولكنّ الحقّ: أنّ صاحب الدابّة هو الضامن لأنّ ما أدّى إلى كسر القدر هو الدابة، فيكون صاحبها هو الضامن.

ولو قلنا بورود الخسارة على كلٍّ منهما، فلابدّ من تقسيمها عليهما بالتساوي؛ لعدم جواز الترجيح بلا مرجّح.

نعم، إذا فرض حصول التفريط من جانب، كانت الخسارة عليه خاصّةً.

وممّا ذكرنا من أنّه لابدّ من الأخذ بأقوى الضررين تمسّكاً ببناء العقلاء، ظهر فساد ما ذكره الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) بقوله:

«ولا يعتنى بما قيل من تقديم أعظم الضررين وينفى بلا ضرر ذلك الحكم الذي يكون ضرره أكثر وأعظم»(1).

الأمر التاسع :في تعارض القاعدة مع قاعدة «الناس مسلّطون على أموالهم»:

لا يخفى: أنّ قاعدة (لا ضرر) - كما مرّ - حيث كانت شاملةً لكلٍّ من الحكم التكليفيّ والوضعيّ إذا كان ضرريّاً، فهي بإطلاقها من هذه الناحية تشمل حتى الدائرة التي جعل فيها الشارع المقدّس السلطنة للملّاك على أموالهم، فإنّ هذه السلطنة إن كانت ضرريّةً بالنسبة إلى الغير، فهي - أيضاً - تكون منفيّةً ببركة قاعدة (لا ضرر)، وهذا يعني: أنّ هذه القاعدة تكون

ص: 35


1- القواعد الفقهيّة 1: 241.

حاكمةً على القاعدة القائلة بأنّ (الناس مسلّطون على أموالهم).

ولابدّ هنا من إيقاع الكلام في بيان الموارد التي تقع فيها المعارضة بين هاتين القاعدتين، فنقول:

إنّ تصرّف المالك في ماله إذا كان سبباً لتضرّر الغير على أنحاء:

الأوّل: أن فعله لم يكن إلّا بقصد الإضرار بالغير، من دون أن يكون له نفع في هذا التصرّف، أو يكون في تركه ضرر عليه.

والثاني: أن لا يكون من قصده الإضرار بالغير، ولكن لا يكون في تصرّفه هذا نفع له، ولا في تركه ضرر عليه، بل يكون عابثاً في فعله.

والثالث: أن يكون نفع فيه، ولكن ليس في تركه ضرر عليه.

والرابع: أن يتوجّه بسبب تركه ضرر عليه.ولا إشكال في أنّ قاعدة (لا ضرر) تكون حاكمةً على قاعدة السلطنة في النحوين الأوّل والثاني، بناءً على عدم شمول قاعدة السلطنة لمورد الإضرار بالغير، سواء كان قاصداً للإضرار أم لم يكن. وأمّا لو لم نقل بعموميّة قاعدة السلطنة للتصرّفات التي توجب الإضرار بالغير حيث لا يكون للمالك نفع فيه، ولا في تركه ضرر عليه، فلا يبقى مجال للحكومة حينئذٍ؛ لأنّ النحوين - حينئذٍ - خارجان عن عموم قاعدة السلطنة بنحو الخروج التخصّصيّ.

ولكنّ اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) رأى في المقام: أنّ «الإنصاف أنّه لا وجه لاحتمال عدم شمول قاعدة السلطنة للصورتين؛ لأنّ ظاهر الحديث

ص: 36

أنّ لكلّ مالكٍ السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله، ولو كان بقصد الإضرار، وسواء كان مستلزماً للضرر على الغير أم لا، غاية الأمر: يكون ضامناً للضرر الوارد على الغير؛ لأنّه بفعله وإتلافه»(1).

ولكنّ الحقّ: أنّه ليس للمالك التصرّف في ماله مطلقاً بأن يلقي ماله في البحر؛ فإنّ قاعدة السلطنة - مع قطع النظر عن دليل (لا ضرر) - ليس لها عموم على الإطلاق، بل غاية ما يثبت بها أنّه له التصرّف في ماله شريطة أن يكون تصرّفه فيها عقلائيّاً وممّا جرت عليه أو على مثله سيرة العقلاء.

ففي النحوين الأوّلين لا دليل على جواز هذه التصرّفات أصلاً، بل يمكن القول بأنّ قاعدة عموم السلطنة لا تشملهما؛لما بيّناه من أنّه حتى تصرّف المالك في ماله له حدّ معيّن لا يجوز له أن يتخطّاه، فمن الواضحات أنّه لا يجوز له أن يتصرّف في ماله - مثلاً - بإلقائه في البحر، أو أن يتصرّف في معوله بهدم دار الغير، أو بمديةٍ له بشقّ بطن الغير، ففي مثل هذه الموارد، وما أكثرها، لا يمكن أن يقال بالجواز، مضافاً إلى أنّه يثبت عليه الضمان.

وأمّا في النحو الثالث، فقد قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

«مقتضى ما ذكرنا في الصورتين المقدّمتين حكومة قاعدة (لا ضرر) على قاعدة السلطنة؛ لأنّ سلطنة الملّاك على أموالهم حكم شرعيّ وضعيّ

ص: 37


1- القواعد الفقهيّة 1: 243.

على الأموال بعناوينها الأوّليّة، وقد تقدّم حكومة قاعدة (لا ضرر) على الأدلّة الأوّليّة المثبتة للأحكام على موضوعاتها بعناوينها الأوّليّة»(1).

ولكنّ الشيخ الأعظم الأنصاريّ(قدس سرّه) أفاد في المقام أنّ عدم جواز تصرّف المالك في ماله وحرمته فيما إذا كان التصرّف ضرريّاً بالنسبة إلى الغير، ولم يكن تركه ضرريّاً على نفسه، ولكن كان فيه نفع للمالك، فترك مثل هذا التصرّف وحرمته حرجيّ للمالك؛ لأنّه لا شكّ في أنّ عدم قدرة المالك على التصرّفات النافعة حرج عليه، فيقع التعارض بين قاعدة الضرر وقاعدة الحرج، والثانية حاكمة على الاُولى، وعلىفرض عدم الحكومة تكون قاعدة السلطنة هو المرجع بعد تساقط (لا حرج) و(لا ضرر) بالمعارضة(2).

ولكنّ ما ذكره(قدس سرّه) محلّ تأمل؛ لأنّه ليس هناك دليل يدلّ على تقديم قاعدة (لا حرج) على (لا ضرر) بالحكومة.

وقد أورد عليه المحقّق النائيني(قدس سرّه) أنّ المقام ليس من مصاديق الحرج، وإنّ القاعدتين لا تجتمعان في مورد واحد حتى يتعارضا؛ فإنّ مفاد قاعدة (لا ضرر) نفي السلطنة فيما إذا كانت ضرريّة، ونفي السلطنة على تقدير كونه حرجياً أمر عدميّ، ولا يرتفع ﺑ (لا حرج)، فليس المقام من مصاديق

ص: 38


1- المصدر نفسه 1: 243 - 244.
2- انظر: رسائل فقهيّة: 130 - 131.

(لا حرج) أصلاً حتى يقال بأنّ نفي النفي إثبات ويرجع إلى بقاء السلطنة، فيقع التعارض، وذلك من جهة أنّ مفاد لا حرج إنّما هو نفي الحكم الموجود الذي يكون حرجيّاً، لا إثبات حكم لرفع الحرج(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ أدلّة نفي الضرر تشمل كلا الجانبين، أعني: الضرر اللّاحق بالمالك نفسه والضرر اللّاحق بالغير، فيتعارضان ويتساقطان، ومعه: فلابدّ من الرجوع إلى قاعدة السلطنة.

هذا إذا قلنا بأنّ عدم النفع ضرر، فحينئذٍ: تكون قاعدة (لا ضرر) شاملةً لكلا الضررين، فيتساقطان، والمآل - حينئذٍ - إلى قاعدة السلطنة.وأمّا لو لم نقل بذلك، فقاعدة (لا ضرر) بما أنّها حاكمة على أدلّة السلطنة، فتتقدّم.

والكلام بعينه يأتي بالنسبة إلى النحو الرابع، فقاعدة (لا ضرر) حيث تشمل الضرر اللّاحق بالمالك والضرر اللّاحق بالغير فيتعارضان، وبعد تساقطهما، فيكون المرجع إلى قاعدة السلطنة.

وكيف كان، فإنّه يترتّب على ما قلناه من عموم القاعدة، أن يكون الحكم الضرريّ مرفوعاً مطلقاً، بلا فرق بين ما إذا كان من قبيل أن يفعل المكلّف شيئاً يتسبّب من خلاله بالضرر إلى نفسه، أو إلى غيره، فإذا كانت المرضعة قليلة اللّبن - مثلاً - بحيث لو صامت لأضرّ صومها بولدها،

ص: 39


1- راجع: منية الطالب 3: 427 - 430.

فالظاهر عدم صحّة الصوم منها، وأنّه مشمول للقاعدة، فإنّ المنفيّ بها هو الحكم الضرريّ، والحكم بالصوم بالنسبة إليها ضرريّ، ولولا باعتبار نفسها، بل باعتبار رضيعها.

نعم، لو كانت المرضعة أجنبيّةً وآجرت نفسها للرضاع، فالظاهر: أنّه لا يجوز لها ترك الصوم، وإن كان ضرريّاً، بمعنى: أنّه يضرّ بولد الغير، بجفاف لبنها وعجزها عن إرضاعه.

وبهذا تمّ الكلام في قاعدة لا ضرر.

ص: 40

الاستصحاب

اشارة

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل :في بيان الأقوال التي وردت في جريانه وحجّيّته:

لا يخفى: أنّ الأقوال في ذلك كثيرة. وعمدة ما تتركّز عليه هذه الأقوال أنّه بعد الفراغ عن جريان الاستصحاب، فلابدّ من البحث في أنّه هل يجري في الأحكام أم هو مختصّ بالموضوعات؟ ثمّ هل يجري في حالات الشكّ في المقتضي أيضاً أم أنّ جريانه مختصّ بالشكّ في الرافع؟

وبقيّة الأقوال لا فائدة في ذكرها.

ثمّ وقع الكلام في أنّه هل يكون من الاُصول العمليّة أو ليس من الاُصول والأمارات، بل عرش الاُصول وفرش الأمارات؟ وإذا كان من الاُصول، فهل هو أصل شرعيّ أم عقليّ، تنزيليّ أم غير تنزيليّ؟

ص: 41

وجوه بل أقوال.

وینبغي أن يعلم: أنّ مجرى الاستصحاب هو الشكّ في بقاء المتيقّن السابق، سواء كان حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا حكم، فهو من الاُصول العلميّة المحرزة، ولذا كان يقوم مقام القطع دون سائر الاُصول العمليّة.

الأمر الثاني :في بيان المعنى الاصطلاحيّ للاستصحاب:

قال صاحب الكفاية(قدس سرّه) في تعريفه: «ولا يخفى: أنّ عباراتهم في تعريفه، وإن كانت شتّى، إلّا أنّها تشير إلى مفهوم واحد، ومعنى فارد، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه»(1).

وقال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه): «فهو عبارة عن حكم الشارع ببقاء المتيقّن السابق، حكماً كان أو موضوعاً ذا حكم، من حيث ترتيب الآثار الشرعيّة على أنّه متيقّن عند الشكّ في بقائه»(2).

ولا شكّ في أنّ المراد هو الإبقاء الواقعيّ، بل هو إبقاء ظاهريّ، وإنّما عدل صاحب الكفاية) عن تعريفه بأنّه (إبقاء ما كان) وأخذ فيه بدلاً من ذلك (الحكم بالبقاء)؛ لأنّ مورد الاستصحاب حكم أو موضوع ذو حكم، ولو لم يكن هذا الحكم موجوداً وثابتاً واقعاً.

ص: 42


1- كفاية الاُصول: 384.
2- منتهى الاُصول 2: 375.

الأمر الثالث: هل الاستصحاب من المسائل الاُصوليّة أم لا؟

لا يخفى: أنّه من المسائل الاُصوليّة، لا من القواعد الفقهيّة، وإن كان يظهر من الشيخ الأعظم(رحمة الله) التوقّف في كونه مسألة اُصوليّة على تقدير استفادته من الأخبار.

قال): «وأمّا على القول بكونه من الاُصول العمليّة، ففي كونه من المسائل الاُصوليّة غموض؛ من حيث إنّ الاستصحاب - حينئذٍ - قاعدة مستفادة من السنّة...»(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سرّه) فقد قال في المقام ما لفظه:

«والحقّ هو التفصيل بين الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكميّة، والاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعيّة، ففي الأوّل: يكون الاستصحاب من المسائل الاُصوليّة، وفي الثاني: يكون من القواعد الفقهيّة»(2).

وحاصل ما أفاده(قدس سرّه) في وجه هذا التفصيل:

أنّنا عرفنا في تعريف المسألة الاُصوليّة أنّها ما تقع كبرى في قياسات يستنتج منها الحكم الكلّيّ الشرعيّ، فالمسألة الاُصوليّة نتيجتها كلّيّة، ولا تتعلّق بعمل آحاد المكلّفين إلّا بعد التطبيق الخارجيّ.

ص: 43


1- فرائد الاُصول 3: 18.
2- فوائد الاُصول 4: 307 - 308.

وهذا بخلاف القاعدة الفقهيّة، فإنّها وإن كانت تقع كبرى لقياس الاستنباط، ولكنّ نتيجتها إنّما تكون حكماً جزئياً يتعلّق بعمل آحاد المكلّفين بلا واسطة، إذن، فإدخالها في المسألة الاُصوليّة إذا كانت الشبهة حكميّة دون أن يكون موضوعيّة يكون بلا مورد. ثمّ قال):

«إذا عرفت ذلك، فقد ظهر لك: أنّ البحث عن حجّيّة الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكميّة يكون بحثاً عن مسألة اُصوليّة؛ فإنّ النتيجة فيه حكم كلّيّ لا يتعلّق بعمل آحاد المكلّفين إلّا بعد تطبيقها على الأفعال أو الموضوعات الخارجيّة الجزئيّة، ولا عبرة بيقين المقلّد وشكّه في ذلك... إلى أن قال: وأمّا البحث عن حجّيّة الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة، فهو إنّما يكون بحثاً عن قاعدة فقهيّة؛ لأنّ النتيجة فيه حكم عمليّ له تعلّق بعمل الآحاد ابتداءً...»(1).

الأمر الرابع: يتقوّم الاستصحاب باليقين والشكّ:

الاستصحاب، سواء كان حكماً ببقاء الحكم الشرعيّ أم حكماً ببقاء موضوعٍ ذي حكم، يجب أن يكون مشتملاً على أمرين اثنين:

أوّلهما: اليقين مسبقاً بحدوث الشيء، وهو ما يمكن استفادته من نفس الشكّ في البقاء؛ لأنّ معنى كون الشكّ شكّاًفي بقاء الحكم أو الموضوع يدلّ على مفروغيّة حدوثه في مرحلة مسبقة.

ص: 44


1- المصدر نفسه 4: 310 - 311.

والثاني: الشكّ في البقاء، وهو مترتّب على اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة من ناحيتي الموضوع والمحمول؛ إذ مع عدم اتّحادهما، لا يكون من الشكّ في البقاء في شيء، بل إنّما يكون شكّاً في الحدوث؛ إذ لا معنى لبقاء الشيء إلّا استمرار وجوده السابق، ومن المعلوم أنّ هذا الاستمرار منوط باتّحاد اللّاحق في وجوده مع وجود السابق، وأن يكون عينه.

ولا يخفى: أنّ موضوع القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة، تارةً يكون أمراً وجوديّاً، وأُخرى أمراً عدميّاً.

ثمّ إنّ محمول القضيّة قد يكون من المحمولات الأوّليّة، وأُخرى من المحمولات المترتّبة، فالأوّل: كالوجود والعدم المحمولين على الماهيّات، والثاني: كالعدالة والشجاعة والفسق والجبن وغير ذلك.

وفي جميع هذه الصور، لا مانع من جريان الاستصحاب.

غاية الأمر: أنّه يعتبر في جريانه وحدة القضيّتين المشكوكة والمتيقّنة في الموضوع والمحمول، سواء كان المستصحب من الموضوعات الخارجيّة، كحياة زيد ورطوبة الثوب، أم كان من الأحكام الشرعيّة، كوجوب صلاة الجمعة ونجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة.

ثمّ إنّ الموضوعات، تارةً تكون من الاُمور القارّة - وهي التي تكون أجزاؤها مجتمعةً في سلسلة الزمان -، سواء كانتمن الجواهر، كالحيوان والنبات، أم من الأعراض، كالسواد والبياض والعلم والعدالة والفسق وغير

ص: 45

ذلك من الاُمور الخارجيّة، فإذا أحرز حياة زيد أو عدالته - مثلاً - أمكن له إجراء استصحاب حياته أو عدالته لو حصل له الشكّ فيهما بعد ذلك.

وقد تكون من الاُمور غير القارّة، وهي الاُمور التدريجيّة، كالزمان نفسه، أو الزمانيّات، كالماء النابع من العين، أو الدم الخارج من عرق خاصّ.

وفي هذا القسم من الموضوعات قد يقال:

بعدم إمكان جريان الاستصحاب، لعدم إحراز بقاء الموضوع؛ لفرض تقوّم الاُمور التدريجيّة بالتصرّم والتجدّد، كما هو واضح.

ولكنّ الحقّ: جريان الاستصحاب فيها؛ لأنّها وإن لم تكن مجتمعة الأجزاء بحسب الوجود؛ لتصرّم أجزائها، وكون مجيء الجزء اللّاحق مترتّباً على تصرّم السابق.

إلّا أنّ وحدتها حقيقيّة لا تنثلم بذلك ما دامت الأجزاء متّصلة ولم يتخلّل العدم بينها، فلذا كان يجوز استصحاب اللّيل والنهار وجريان الماء من منبعه وما إلى ذلك.

الأمر الخامس :اشتراط الفعليّة في الشكّ واليقين:

يجب في الشكّ واليقين اللّذين هما مدار الاستصحاب - كما عرفنا - أن يكونا فعليّين لا تقديريّين؛ ذلك لأنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان المكلّف فعلاً متيقّناً بحكم أو موضوعذي حكم في الزمان السابق، وأيضاً: إذا كان شاكّاً فعلاً في بقائهما، لا أن يكون شاكّاً ومتيقّناً تقديراً،

ص: 46

بحيث يكون غافلاً بالفعل، وليس له فعلاً: لا يقين بوجود شيءٍ سابقاً، ولا شكّ في بقاء ذلك الشيء لاحقاً، ولكن كان بحيث لو التفت وخرج عن حالة الغفلة هذه يحصل له الشكّ واليقين.

والدليل على لزوم اعتبار ذلك: أنّ كلّ عنوان يؤخذ موضوعاً لأيّ حكمٍ من الأحكام، ففعليّة ذلك الحكم تتوقّف على فعليّة ذلك الموضوع - أعني به: متعلّق المتعلّق -.

والاستصحاب، الذي هو عبارة عن فعليّة وجوب الإبقاء وحرمة النقض، بدوره يكون متوقّفاً على فعليّة الشكّ واليقين، فحيث لا يكونان فعليّين، فلا استصحاب يمكن جريانه في البين.

وتظهر الثمرة لذلك فيمن كان متيقّناً بالحدث ثمّ غفل عن ذلك وصلّى، ثمّ شكّ بعد الفراغ، بأنّه هل تطهّر للصلاة أم لا؟

فهنا تجري قاعدة الفراغ ليُحكم بصحّة صلاته؛ لأنّ الشكّ في الطهارة إنّما حصل بعد العمل، لا قبله، فهو ليس فعليّاً قبل العمل، كي يجري استصحاب الحدث فيؤمر بالطهارة ويُنهى عن الدخول في الصلاة.

وأمّا المتيقّن بالحدث إذا التفت إلى حاله في اللّاحق، وشكّ في بقاء الحدث وعدمه، جرى الاستصحاب في حقّه، ولكن في هذه الحالة، فلو غفل عن ذلك وصلّى، تكون صلاته باطلةً لا محالة لسبق الأمر بالطهارة، ولا تجري قاعدة الفراغ في حقّه؛لأنّ مجرها هو الشكّ الحادث بعد الفراغ لا الشكّ الموجود من قبل العمل؛ لقصور دليلها لذلك، كما ذكر في محلّه.

ص: 47

الأمر السادس :في انقسامات الاستصحاب:

اشارة

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه):

«انقسامات الاستصحاب باعتبار المستصحب، وباعتبار الدليل الذي يدلّ عليه، وباعتبار الشكّ المأخوذ فيه»(1).

أمّا انقسامه باعتبار المستصحب: فإنّ المستصحب قد يكون أمراً وجوديّاً، وقد يكون أمراً عدميّاً، وكلّ واحدٍ منهما: فهو إمّا حكم شرعيّ أو موضوع ذو حكم شرعيّ، وأيضاً: فما فيه المستصحب من الحكم الشرعيّ الوجوديّ والعدميّ، قد يكون حكماً كلّيّاً، وقد يكون حكماً جزئيّاً، وكل واحد من هذين: قد يكون حكماً تكليفيّاً، وقد يكون حكماً وضعيّاً.

وأمّا انقسامه بحسب دليله: فإنّ دليله - أعني: دليل المستصحب - قد يكون عقليّاً، وقد يكون شرعيّاً، والشرعيّ قد يكون لفظيّاً، كالكتاب والسنّة، وقد يكون لبّيّاً كالإجماع.

وأمّا انقسامه باعتبار الشكّ المأخوذ فيه: فإنّ الشكّ قد يكون شكّاً في المقتضي، بحيث يشكّ في أنّ المستصحب هل هو قابل للبقاء في حدّ نفسه من دون أن يكون هناك رافع في البين. وقد يكون شكّاً في الرافع، وذلك عندما يكونالمستصحب قابلاً للبقاء في حدّ نفسه، لو لم يكن رافع في البين.

ص: 48


1- منتهى الاُصول 2: 382.

ثمّ إنّ الشكّ في الرافع قد يكون شكّاً في أصل وجود الرافع، كما أسلفنا، وقد يكون شكّاً في رافعيّة الموجود.

ثمّ إنّ الاستصحاب قد يكون تعليقيّاً وقد يكون تنجيزيّاً، وهو تارةً يتصوّر في الفروع، وأُخرى في الاُمور الاعتقاديّة، كما إذا فرض الشكّ في أنّ الاعتقاد بنبوّة الأنبياء السابقين(علیهم السلام)هل هو واجب علينا أم لا؟ لاحتمال أن يكون مختصّاً بالمسلمين في صدر الإسلام.

التفصيل بين الأحكام الكلّيّة والأحكام الجزئيّة:

ثمّ إنّه قد يقال: بلزوم التفصيل بين الأحكام، والقول بجريان الاستصحاب في الأحكام الجزئيّة دون الكلّيّة؛ إذ لابدّ في جريان الاستصحاب - كما هو معلوم - من أن يكون الموضوع في القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة واحداً؛ ضرورة أنّ لولا هذا الاتّحاد بين موضوعي القضيّتين، فلا يكون عدم الجري العمليّ على طبق القضيّة المشكوكة نقضاً لليقين بالشكّ، بل هو - حينئذٍ - عبارة عن عدم الاعتناء بثبوت محمول لموضوع آخر للشكّ في ثبوته له، وليس من باب عدم الاعتناء ببقاء المحمول لموضوع القضيّة المتيقّنة بواسطة عروض الشكّ في بقائه كي يصدق عليه نقض اليقين بالشكّ.وقد عرفت أنّ حقيقة الاستصحاب ليست إلّا عبارة عن حرمة نقض اليقين باعتبار الجري العمليّ، ووجوب إبقاء اليقين من حيث آثار المتيقّن، ولزوم الجري العمليّ على طبقه.

ص: 49

وهذا الشرط غير متوفّر في استصحاب الأحكام الكلّيّة، وذلك لأنّ الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ لا يأتي ولا يتصوّر إلّا من جهة الشكّ في النسخ، إلّا أن يُفرض تغيّر في موضوعه، بوجود وصف لم يكن، أو بفقد قيد كان مأخوذاً في القضيّة المتيقّنة، أو غير ذلك.

فمثلاً: الماء المتغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة نجس يقيناً، ولا يحصل الشكّ في بقاء نجاسته إلّا بتغيّر في موضوع الحكم المجعول له، كما إذا زال التغيّر من قبل نفسه، لا بوصول المطهّر إليه، ومن المعلوم أنّ الماء الذي تغيّر بهذه النجاسة غير الماء غير المتغيّر بنجاسة أُخرى، فموضوع القضيّة المتيقّنة مغاير لموضوع القضيّة المشكوكة، وليس متّحداً معه، وفي هذا المثال، كان تغيّر الموضوع - كما رأينا - من جهة فقد القيد.

أمّا تغيّر الموضوع لفرض وجود وصف لم يكن في القضيّة المتيقّنة، ففي مثل العصير التمريّ أو الزبيبيّ إذا لم يَغْلِ يقيناً، فإنّه يكون طاهراً وشربه حلالاً، ولكن بعد وجود وصف الغليان قبل ذهاب الثلثين، إذا فُرض حصول الشكّ، فليس إلّا من جهة تغيّر الموضوع، فالحكم بعد نجاسة الماء بعد زوال تغيّره من قبل نفسه لا يكون نقضاً لنجاسة الماء الذي تغيّرشيء من أوصافه الثلاثة بالنجس؛ لاختلاف الموضوعين في القضيّتين.

وكذا الحال بالنسبة إلى الحكم بعدم الحليّة أو بعدم الطهارة للعصير

ص: 50

التمريّ أو الزبيبيّ بعد الغليان، فإنّه - أيضاً - ليس نقضاً للحلّيّة أو الطهارة التي كانت لهما قبل الغليان، لعين تلك الجهة المشار إليها.

وكأنّ من أنكر صحّة جريان الاستصحاب في باب الأحكام الكلّيّة - كالاُستاذ الأعظم(رحمة الله) - لم ينكره إلّا لأجل ارتكاز هذه الشبهة في الأذهان.

قال(قدس سرّه): «التفصيل الثالث في حجّيّة الاستصحاب هو التفصيل بين الأحكام الكلّيّة الإلهيّة وغيرها من الأحكام الجزئيّة والموضوعات الخارجيّة ... إلى أن يقول: فيكون الاستصحاب قاعدة فقهيّة مجعولة في الشبهات الموضوعيّة، نظير قاعدتي الفراغ والتجاوز وغيرهما من القواعد الفقهيّة، وهذا هو الصحيح»(1).

ولكن قد أجاب عنها اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

«بأنّ هذه الشبهة لا يمكن الجواب عنها لو قلنا بلزوم كون وحدة القضيّتين، التي هي ركن الاستصحاب بنظر العقل وبالدقّة؛ لما ذكر. وأمّا لو كانت الوحدة بنظر العرف، فيرجع - حينئذٍ - إلى العرف، وأنّ ما حصل به التغيّر في جانب موضوع القضيّة المتيقّنة هل هو من مقوّماتالموضوع عندهم أم لا، بل أمر خارج عن الموضوع، بحيث إنّ فقده لا يضرّ بصدق النقض عند عدم الاعتناء بحكمه بالشكّ فيه؟»(2).

ص: 51


1- مصباح الاُصول 2: 42، المجلّد 48 من موسوعة الإمام الخوئي(قدس سرّه).
2- منتهى الاُصول 2: 385، بتصرّف يسير.

ولك أن تقول: إنّه من الجائز أن يكون هذا القيد الذي صار سبباً للشكّ في بقاء الحكم بنظر العرف من قبيل الواسطة في الثبوت، لا الواسطة في العروض حتى يكون فقده سبباً لعدم بقاء الموضوع، فلا يصدق النقض على عدم الالتزام بحكمه في ظرف الشكّ.

ومنشأ الفهم العرفيّ أنّه من أيّ واحد من القسمين هو مناسبة الحكم والموضوع، فمثلاً: ما يفهمه العرف في نحو قولهم: (الماء الذي تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بأوصاف النجاسة نجس) بمناسبة الحكم والموضوع، هو أنّ معروض النجاسة إنّما هو جسم الماء، وأنّ التغيّر بأحد الأوصاف يكون علّة للحكم بالنجاسة وواسطة في ثبوتها للماء، لا أنّه من قبيل الواسطة في العروض لكي يكون الماء بوصف كونه متغيّراً موضوعاً، حتى لا يبقى الموضوع بعد زوال التغيّر محفوظاً.

ولا فرق فيما ذكرنا في فهم العرف ونظره بمناسبة الحكم والموضوع بين أن يكون القيد المأخوذ في جانب الموضوع بصورة التوصيف، كقولك: (الماء المتغيّر) أو بصورة القضيّة الشرطيّة، والسرّ في ذلك: أنّ اختلاف العبارة لا يؤثّر في فهم العرف بمناسبات الحكم والموضوع.اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ العرف يفهم من القيد إذا كان مأخوذاً بنحو التوصيف أنّه واسطة في العروض، وإذا كان بنحو الشرط والقضيّة الشرطيّة أنّه واسطة في الثبوت.

ص: 52

التفصيل بين ما كان دليله العقل وما دليله النقل:

وفي المقام تفصيل آخر يرتبط بحجّيّة الاستصحاب، حاصله: أنّ الاستصحاب لا يجري إن كان مدركه دليل العقل، ويجري إن كان دليله الشرع والنقل، بدعوى: أنّ الحكم الشرعيّ الذي يستكشف من الحكم العقليّ وبقاعدة الملازمة، يكون تابعاً له في مقام الإثبات لا محالة، بمعنى: أنّه إذا كان حكم العقل معلوماً كان حكم الشرع معلوماً - أيضاً -، وإذا كان عدمه معلوماً كان عدم حكم الشرع كذلك؛ وذلك لأنّ العلم بوجود أحد المتلازمين هو بعينه علم بوجود الآخر.

وكذلك الحال في طرف العدم، أي: أنّ العلم بعدم أحد المتلازمين يكون بعينه علماً بعدم الآخر، بل وكذلك بالنسبة إلى الشكّ، فإنّ الشكّ في أحدهما - هو بدوره - يكون شكّاً في الآخر.

وحيث إنّه لا معنى للإجمال ولا الإهمال في حكم العقل؛ لأنّ العقل لا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلّا بعد الالتفات إلى موضوع حكمه مع وجود جميع قيوده وخصوصيّاته التي لها دخل في حكمه، فكلّ قيد اعتبره العقل في موضوع حكمه يجب أن يكون دخيلاً في الموضوع.وعلى هذا الأساس: فمع بقاء موضوع الحكم العقليّ بجميع قيوده وخصوصيّاته المأخوذة فيه، والتي اعتبرها العقل في ذلك الموضوع، فالحكم العقليّ باقٍ، بل ومقطوع البقاء، وكذلك يكون الحكم الشرعيّ،

ص: 53

لما ذكرناه من الاستكشاف والتبعيّة. وأمّا إن فقد منه قيد أو خصوصيّة، فيكون الحكم العقليّ مقطوع الارتفاع، فكذلك يكون الحكم الشرعيّ؛ لمكان الملازمة.

وبالجملة: فالحكمان العقليّ والشرعيّ هما دائماً: إمّا مقطوعا البقاء، وإمّا مقطوعا الارتفاع، فلا شكّ في المقام - أصلاً - لكي يتأتّى فيه جريان الاستصحاب.

أقول: ويمكن الجواب عنه بمنع الملازمة بين أن يكون القيد مأخوذاً في موضوع حكم العقل، وبين أن يكون ممّا له دخالة في مناط الحكم، بحيث يؤدّي إلى أن ينتفي مناط ذلك الحكم العقليّ بانتفائه، بل إنّما يصبّ العقل حكمه بالحسن أو بالقبح على الموضوع الذي اجتمعت وتوفّرت فيه كافّة القيود، فيكون حكمه على هذا المجمع بالحسن أو بالقبح حكماً قطعيّاً، ولكن من دون أن يعني ذلك أنّ مدخليّة كلّ واحدٍ من هذه القيود في مناط ذلك الحكم.

وبالجملة: فلا سبيل للعقل إلّا أن يقطع بأنّ ما حكم به من حسن الشيء أو قبحه عند وجود جميع القيود ثابت، وأمّا لو فقد قيد من تلك القيود، فإنّه ولو لم يكن للعقل حكم بالحسن أو بالقبح حينئذٍ، ولكن عدم حكمه - والحال هذه - ليس من جهة أنّه قد قطع وحصل له العلم بعدم وجود المناط للحسن أوللقبح في فاقد القيد، بل من جهة عدم علمه بحصول المناط لهما، فيحتمل وجود هذا المناط، وإن لم يكن له حكم في مورد

ص: 54

فاقد القيد فعلاً؛ لعدم إحرازه لتوفّر المناط وعلمه به.

والحكم الشرعيّ تابع لمناط حكم العقل وجوداً وعدماً، لا لنفس حكم العقل، فمع احتمال وجود المناط في ما هو فاقد للقيد، فيحتمل بقاء الحكم الشرعيّ ولو مع انتفاء حكم العقل، فيتمّ إثباته - أعني: الحكم الشرعيّ الذي لا يزال محتملاً - ببركة التمسّك بالاستصحاب.

الأمر السابع: في أدلّة حجّيّة الاستصحاب:

الدليل الأوّل: بناء العقلاء وسيرتهم:

والمراد ببناء العقلاء أحد معنيين:

الأوّل: عملهم بما هم متديّنون ومتشبّثون بالشريعة، كما في استقرار طريقتهم على بيع المعاطاة، ونحو ذلك، ولكنّ السيرة بهذا المعنى لا تكون حجّةً بمجرّدها كما لا يخفى، بل يحتاج اعتبارها إلى صدور الإمضاء من الشارع.

والثاني: استقرار العقلاء بما هم عقلاء على أمر شرعيّ، كبنائهم على اعتبار الخبر الموثوق الصدور.

وفي محلّ البحث، فلا شكّ في أنّ سيرة العقلاء، بلا فرق بين أن يكونوا من ذوي الأديان أو غيرهم، قائمة على العمل على طبق الحالة السابقة، فإنّ العقلاء في جميع أعمالهموتحرّكاتهم، من التجارة أو زيارة الأصدقاء

ص: 55

أو عيادة المرضى أو غير ذلك، بل هم في جميع حركاتهم الارتكازيّة، يرون أنّ عملهم دائماً يكون على طبق الحالة السابقة، ولا يعتنون بشكّهم في ارتفاعه، وشكّهم هذا لا يمنعهم عن العمل والجري على طبق الحالة السابقة، وبما أنّ الشارع لم يصدر منه ردع ونهي عن هذه السيرة، فيكون عدم ردّه له وردعه عنها كاشفاً عن إمضائه لها.

فإن قلت: لعلّ عملهم على طبق الحالة السابقة كان من جهة غفلتهم عن ارتفاعها، أو لأجل اطمئنانهم ببقائها، أو من جهة رجاء البقاء.

قلت: إنّ إنكار استقرار عملهم على ذلك في ظرف الشكّ الفعليّ، ولو في غير الحالات المشار إليه ليس إلّا ضرباً من المكابرة.

ويدفع الثاني: أنّ فرض اطمئنانهم ببقاء الحالة السابقة منافٍ لأصل الفرض، وهو استقرار عملهم على طبق الحالة السابقة في ظرف الشكّ ببقائها شكّاً فعليّاً، ومعلوم أنّ الشكّ الفعليّ والاطمئنان لا يجتمعان بحال.

ويدفع الثالث: أنّ الاستمرار على طبق الحالة السابقة في الاُمور المهمّة، وخصوصاً في الأعمال التي يكون فيها على تقدير عدم بقاء الحالة السابقة ضرر كثير لا يمكن أن يكون برجاء إصابة الواقع؛ لأنّ العمل برجاء الواقع إنّما يكون في الغالب في مورد لو صادف الواقع لكان فيه نفع، ولا يكونفيه ضرر، أو فقل: يكون فيه احتمال النفع دون احتمال الضرر المهمّ.

ص: 56

وقد أورد صاحب الكفاية(قدس سرّه) على هذا الوجه بإيرادين، إذ قال:

«وفيه: أوّلاً: منع استقرار بنائهم على ذلك تعبّداً، بل إمّا رجاءً واحتياطاً، أو اطمئناناً بالبقاء، أو ظنّاً، ولو نوعاً، أو غفلةً كما هو الحال في سائر الحيوانات دائماً، وفي الإنسان أحياناً.

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكنّه لم يُعلم انّ الشارع به راضٍ وهو عنده ماضٍ، ويكفي في الردع عن مثله ما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم، وما دلّ على البراءة أو الاحتياط في الشبهات، فلا وجه لاتّباع هذا البناء فيما لا بدّ في اتّباعه من الدلالة على إمضائه»(1).

وحاصل إيراده الأوّل: أنّ المقصود من هذا الاستدلال هو إثبات بقائهم على الحالة السابقة على نحو التعبّد وكفاية نفس الوجود السابق بما هو متيقّن في ترتيب آثاره عليه في ظرف الشكّ، ولكنّه ممنوع؛ إذ لا معنى للتعبّد المحض في عمل العقلاء به ارتكازاً، بل لابدّ وأن يكون هناك منشأ عقلائيّ لذلك، وهو:

إمّا الاحتياط، كما لو فرض أنّ ابنه سافر إلى بلد، وكان والده هو المتكفّل بالإنفاق عليه، فإنّ الوالد ولو شكّ في حياةابنه، يرسل الأموال إليه من باب الاحتياط، حذراً من وقوع ابنه في ضيق المعيشة على تقدير بقاء حياته.

ص: 57


1- كفاية الاُصول: 387.

وإمّا الاطمئنان بالبقاء أو الظنّ به، وذلك كالتاجر الذي يرسل البضائع إلى تاجر آخر ساكن في بلد آخر، فإنّه ولو لم يتفحّص عن بقائه في كلّ مرّة، ولكنّه مطمئنّ بحياته، ولذا يرسل إليه البضائع، ولكن لو حدث في تلك البلدة ما يوجب العلم بموت جماعة من زلزال أو وباء، واحتمل أنّ ذلك التاجر كان واحداً منهم، لم يرسل إليه الأموال الخطيرة قطعاً؛ لزوال اطمئنانه - بل ظنّه - بالبقاء.

وإمّا هو الغفلة عن شكّه الفعليّ في بقاء ما كان، كما إذا غيّر مسكنه وغفل عنه، فإنّه قد يسلك الطريق الذي يوصله إلى داره الاُولى، وهذا في الحيوانات أظهر؛ لأجل عادتها التي حصلت له من جهة تكرار الفعل السابق، ومع تبدّل عادتها لا ترجع إلى محلّها الأوّل، إلّا لأجل الغفلة.

وعليه: فليس الارتكازات لدى العقلاء العمل بالمتيقّن السابق تعبّداً في طرف الشكّ في بقائه كي يتّجه الاستدلال به على اعتبار الاستصحاب.

وحاصل الثاني: أنّ حجّيّة هذا البناء العقلائيّ تتوقّف - كبقية الموارد - على إمضاء الشارع، ولو بعدم الردع. ولكنّه محلّ منع؛ إذ لا دليل على الإمضاء، وإنّما الدليل قائم على الردع. وهذا الدليل هو:

أوّلاً: الآيات والروايات المانعة عن العمل بالظنّ وغير العلم، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِعِلْمٌ﴾(1)، فإنّها شاملة للمقام يقيناً؛ إذ المفروض زوال اليقين بالحالة السابقة، وغاية ما يمكن دعواه: هو

ص: 58


1- الإسراء: الآية 36.

وجود الظنّ باستمرارها، وكلّ ما ليس بعلم فإنّه يكون موضوعاً للنهي عن اتّباعه، كما هو ظاهر.

ولكن قد أورد عليه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) بأنّ «هذا الكلام مناقض لما ذكره في باب الاستدلال على حجّيّة خبر الثقة بالسيرة في ردّ من قال بأنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة، من أنّ رادعيّة الآيات دوريّ»(1).

وحاصله: أنّ رادعيّة الآيات عن السيرة القائمة على العمل بالاستصحاب متوقّفة على عمومها لها، وعمومها لها متوقّف على عدم تخصيصها ببناء العقلاء، وعدم التخصيص متوقّف على عدم حجّيّة بناء العقلاء؛ إذ لو كان حجّة لخصّص العموم، فإثبات عدم حجّيّة بنائهم على الاستصحاب بأصالة عموم الآيات متوقّف على عدم حجّيّة بنائهم، وهو الدور المحال.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سرّه) هناك: أنّ الالتزام بتخصيص العموم بالسيرة - أيضاً - دوريٌّ؛ لأنّه يتوقّف على عدم الردع عنها، وهو يتوقّف على تخصيص السيرة للعموم. ولكنّه(قدس سرّه) ذكرأنّ الدور وإن تحقّق من كلا الطرفين، ولكنّه يكفي في الإمضاء عدم ثبوت الردع، ولا يعتبر ثبوت عدمه(2).

ص: 59


1- منتهى الاُصول 2: 410.
2- انظر: كفاية الاُصول: 303. حيث قال): «إنّما يكفي في حجّيّته بها عدم ثبوت الردع عنها؛ لعدم نهوض ما يصلح لردعها، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك، كما لا يخفى...».

الدليل الثاني: الإجماع:

ممّا ادّعي دلالته في المقام على حجّيّة الاستصحاب: الإجماع من الأصحاب، فإنّهم متّفقون قديماً وحديثاً على اعتباره.

قال العلّامة الحلّيّ) في المبادئ:

«ولإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم، ثمّ وقع الشكّ في أنّه هل طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب البقاء على ما كان أوّلاً، ولولا القول بالاستصحاب، لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح»(1).

وقال) - أيضاً - في النهاية: «وأيضاً فالفقهاء بأسرهم، على كثرة اختلافهم، اتّفقوا على أنّا متى تيقّنّا حصول شيء وشككنا في حدوث المزيل، أخذنا بالمتيقّن، وهو عين الاستصحاب؛ لأنّهم رجّحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث»(2).ولكنّ الحقّ: أنّ أمثال هذه الإجماعات إنّما تكون حجّة فيما لو أدّت إلى حدس رأي الإمام(علیه السلام) ودخوله في المجمعين، ولكنّ حدس رأيه(علیه السلام) من اتّفاق الكلّ لا سبيل له في المقام، فإنّ الاتّفاق من الكلّ إنّما يكون موجباً له فيما إذا لم يكن مستند المتّفقين معلوماً، أي: فيما لم يكن هناك مستند يحتمل اعتمادهم عليه، فحينئذٍ: يحدس الإنسان أنّ اتّفاقهم،

ص: 60


1- مبادئ الوصول إلى علم الاُصول: 251.
2- نهاية الوصول إلى علم الاُصول 4: 380.

مع اختلاف سلائقهم وبلدانهم وأعصارهم وأمصارهم لابدّ وأن يكون لسبب متّفق معلوم عند الكلّ، وأنّه ليس إلّا رأي الإمام(علیه السلام).

وأمّا لو كان لهم مستند معلوم، كما هو الحال في المقام، حيث تمسّك البعض لإثبات حجّيّة الاستصحاب ببناء العقلاء، وبعضهم بالظنون الاستحسانيّة، وبعضهم بالأخبار، وبواسطة اختلاف المدارك، أو اختلاف أفهامهم واستظهاراتهم، وقع الخلاف في اعتباره مطلقاً أو عدم اعتباره كذلك أو التفصيل في الحجّيّة بين بعض الاستصحابات وبعض آخر. هذا أوّلاً.

وثانياً: حصول الاتّفاق في الكلّ ممنوع، كيف لا؟(قدس سرّه) وشطر من الشيعة، وهم الأخباريّون، على القول بعدم حجّيّته.

نعم، لا بأس بادّعاء الشهرة المحصّلة.

الدليل الثالث: الأخبار:

اشارة

وهي العمدة في الاستدلال.

من هذه الأخبار:صحيحة زرارة، قال: «قُلْتُ له: الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال(علیه السلام): يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن والقلب، وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك إلى جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال(علیه السلام): لا، حتى يستيقن أنّه

ص: 61

قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلّا، فإنّه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما تنقضه بيقين آخر»(1).

والكلام في هذا الحديث تارةً من ناحية السند، وأُخرى من ناحية الدلالة:

أمّا سنداً، فهي مضمرة، ولكن في الحقيقة، فإنّ إضمارها لا يضرّ بصحّتها، فإنّها وإن نقلت مضمرةً في التهذيب(2)، إلّا أنّها مسندة إلى مولانا أبي جعفر الباقر(علیه السلام) في جملة من كتب الفطاحل والأعلام من أصحابنا، كما نجد ذلك في القوانين(3) والفصول(4) والحدائق(5) والفوائدالمدنيّة(6) للأمين الأسترابادي ومفاتيح الاُصول(7) والوافية(8)، إلى غير ذلك من كتب الأصحاب.

ولا يخفى: أنّ إسنادهم) إلى الإمام(علیه السلام) يكشف عن ظفرهم بالأصل المشتمل على الرواية المسندة.

ص: 62


1- وسائل الشيعة 1: 245، باب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
2- تهذيب الأحكام 1: 8، الحديث 11.
3- انظر: قوانين الاُصول 2: 278.
4- الفصول الغرويّة: 370.
5- الحدائق الناضرة 1: 143.
6- الفوائد المدنيّة: 290.
7- مفاتيح الاُصول: 645.
8- الوافية: 203.

ولكنّ الحقّ: أنّ نسبتهم الرواية المذكورة إلى الإمام(علیه السلام) لعلّها ناشئة ممّا يمكن أن يقال: من أنّ زرارة أجلّ شأناً عن أن يروي بعنوان الإضمار عن غير الإمام(علیه السلام)؛ لكونه) من كبار أجلّاء أصحابه(علیه السلام) ومن عظماء الطائفة ووجوهها، فمن كان في مثل مقامه هذا، فلا يعقل أن يستفتي عن غير المعصوم(علیه السلام). فإضماره هذا يكون - لا محالة - بمنزلة التصريح والإظهار.

وقد يقال: بأنّ ذكرها في كتب الحديث وإثبات الحسين بن سعيد وحمّاد وحريز لها في اُصولهم وكتبهم يكون شاهداً على أنّه حديث مرويّ عن المعصوم(علیه السلام) دون سواه.

ولكن فيه: أنّ مجرّد ذكر الرواية في كتب الحديث واُصوله لا يدلّ على صحّتها.

وقد يقال: بأنّ هذا الإضمار هو كغالب الإضمارات، إنّما نشأ من تقطيع المصنّفين للروايات، وذكرهم كلّ قطعة منهافي الباب المناسب لها، وإلّا، فهي غير مضمرة بحسب الأصل.

لكنّ الحقّ: أنّ ما قيل من الغالبيّة لا ينكر، ولكن لا يعلم أنّ هذه الرواية منها.

وبالجملة: فالعمدة في تصحيح هذه الرواية والبناء عليها هو ما أشرنا إليه من أنّ زرارة أجلّ شأناً من أنّ يستفتي من غير المعصوم(علیه السلام).

هذا تمام الكلام في الناحية السنديّة.

ص: 63

وأمّا دلالةً:

فلا يخفى: أنّ النوم في الحديث لا يمكن حمله على النوم الحقيقيّ؛ لأنّ النوم الحقيقيّ ناقض للطهارة قطعاً، ولكنّ الإمام(علیه السلام) في الرواية جعل الطهارة باقية، فلابدّ من حمله على أنّه شارف على النوم، لا على أنّه حصل له النوم فعلاً. والسائل حينما يسأل الإمام(علیه السلام) عن إيجاب الخفقة والخفقتين للوضوء، فهو سؤال عن شبهة حكميّة حاصلة لديه، وذلك لأحد احتمالين:

فإمّا لأنّه قد اشتبه عنده مفهوم النوم وتردّد بين الأقلّ والأكثر فلم يعرف أهو شامل للخفقة والخفقتين أم لا.

وإمّا لأنّه شكّ في أنّ الخفقة والخفقتين من النواقض المستقلّة، بمعنى: أنّه شكّ في أنّ الخفقة والخفقتين هل هما من مصاديق النوم، ومن جملة مراتبه التي يحصل بها عنوان النوم الناقض - هذا إن قبلنا بأنّ النوم حقيقة مشكّكة، وأنّ لهمراتب متفاوتة - ولو لم يكن أعلى المراتب، وهو الغالب على القلب، الذي تكشف عنه غلبة النوم على حاسّة السمع.

فيكون المراد من سؤاله للإمام(قدس سرّه): أنّ النوم الناقض هل أحد مصاديقه الخفقة والخفقتان؟ أم أنّه منحصر بنوم القلب؟ فتكون الشبهة مفهوميّة وحكميّة.

وأمّا سؤاله الثاني، وهو قوله: «فإن حرّك إلى جنبه شيء»، فهو سؤال عن شبهة موضوعيّة، وهو أنّه قد يحصل الفتور للإنسان في الحاسّتين:

ص: 64

السمع والبصر، فهل يكون هذا أمارةً على حصول النوم الناقض منه أم لا؟ فأجابه الإمام(علیه السلام) بالنفي؛ لأنّ عدم إحساسه بحركة شيء إلى جنبه ليس لازماً مساوياً للنوم، بل اليقظان أيضاً قد لا يلتفت ولا يشعر بشيءٍ حُرّك إلى جنبه بسبب انشغال باله، وكان الجواب منه(علیه السلام): «لا حتى يستيقن أنّه قد نام».

وقوله(علیه السلام): «ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما ينقضه بيقين آخر». يمثّل كبرىً كليّة تنحلّ إلى قضايا متعدّدة بحسب تعدّد أفراد اليقين، فتدلّ على حرمة نقض كلّ فرد من أفراد اليقين بالشكّ فيه.

وقوله: «فإنّه على يقين من وضوئه»، بمنزلة الصغرى، والجملة ظاهرة في أنّ اليقين يكون بالفعل، أي: في نفس زمان تحقّق الشكّ، غايته: أنّ اليقين تعلّق بالحدوث، والشكّ بالبقاء، فهو كان عند عروض الخفقة والخفقتين متيقّناً بتحقّق الوضوء في السابق، وبعروض الخفقة والخفقتين حصل له شكّ في انتقاضه.نعم، لو كان المراد من قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» أنّه كان على يقين من وضوئه ولكن زال ذلك اليقين بالشكّ بطروء الشكّ الساري الموجب لانعدام اليقين بالحدوث، لأمكن أن تكون هذه العبارة المتقدّمة ناظرةً إلى الشكّ الساري وقاعدة اليقين.

ولكن قد عرفت أنّها ظاهرة في فعليّة اليقين بالحدوث، وظهورها هذا آبٍ عن إرادة قاعدة اليقين.

ص: 65

قد يقال: إنّ الحديث لكي يدلّ على حجّيّة الاستصحاب على نحو كلّيّ، فلابدّ أن يثبت به كبرى القياس على نحو العموم الاستغراقيّ، بحيث لو انضمّ إليها الصغرى لأنتج حكماً كلّيّاً إلهيّاً، ولكان قياساً بطريق الشكل الأوّل من القياس الاقتراني الحمليّ كبراه من المسلّمات المفروغ عنها، كقولك: (هذا ما أفتى به المفتي، وكلّ ما أفتى به المفتي يجب اتّباعه، فهذا يجب اتّباعه)، ولكنّ الحديث ليس كذلك، بل هو مخصوص بباب الوضوء، بل وارد في خصوص حدث النوم من بين نواقض الوضوء، ولو ألغينا خصوصيّة النوم - كما عليه الأخباريّون - بقرينة قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» لكان دليلاً على اعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى الشكّ في أيّ ناقضٍ من النواقض، ولو لم يكن النوم، ولكنّه يبقى محصوراً في دائرة الوضوء ونواقضه، إذ يكون المراد - حينئذٍ - من «لا تنقض اليقين» هو اليقين بالوضوء خاصّةً.

وإنّما يدلّ الحديث على حجّيّة الاستصحاب مطلقاً بشرط، وهو أن لا يكون المراد من تلك الجملة هو خصوص اليقينبالوضوء، بل مطلق اليقين، وأن لا تكون (اللّام) في قوله: «اليقين» للعهد. أو فقل: إنّ دلالته على الكبرى الكلّيّة وشموله لكلّ حكمٍ أو موضوع ذي حكم لا يمكن إلّا بتجريد اليقين عن إضافته إلى الوضوء، حتى تكون اللّام - حينئذٍ - للجنس، ليكون المراد مطلق اليقين على نحو العموم الاستغراقيّ، غاية الأمر: أنّ أحد مصاديقه هو اليقين بالوضوء، وقد علّل الإمام(علیه السلام) حرمة

ص: 66

نقض اليقين بالوضوء باندراجه تحت تلك الكبرى الكلّيّة المسلّمة.

والتحقيق: أنّ إضافة اليقين إلى الوضوء في الرواية إنّما كان لأجل أنّه مورد السؤال، ومعلوم أنّ المورد لا يخصّص الوارد، فما دام قوله: «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» مطلقاً، فيكون ظاهراً في أنّ الإمام(علیه السلام) كان بصدد بيان وإعطاء القاعدة الكلّيّة لليقين، وهي أنّه لا يجوز نقض اليقين بالشكّ، كائناً ما كان مورد هذا اليقين، في باب الوضوء كما في غيره، وإنّما ذكر اليقين الوضوء من باب أنّه مصداق لهذه الكبرى.

فالصحيح: أنّه لو كنّا نحن والفهم العرفيّ لهذه العبارة، لم يكن دخل لخصوص متعلّق اليقين المذكور في الرواية، وهو الوضوء، بل إضافته إلى الوضوء - كما عرفنا - ليس إلّا لكونه المسؤول عنه ومورد سؤال السائل، وإلّا، فظاهر الرواية يقتضي أنّ كلّ يقين مهما كان الشيء الذي يتعلّق به، فإنّه لا ينقض بالشكّ به.والحاصل: أنّ قوله: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» يكون من باب الكبرى، وأنّه لا دخل لجملة «فإنّه على يقين من وضوئه» في هذا القياس أصلاً، إلّا من باب ذكر أحد مصاديق تلك الكبرى وإحدى صغرياتها. فهو(علیه السلام) بصدد إعطاء قاعدة كلّيّة تكون الصغرى إحدى مصاديقها.

وممّا يدلّ على عدم اختصاص الرواية بباب الوضوء، وأنّ الإمام(علیه السلام) كان بصدد إعطاء القاعدة الكلّيّة التي تجري في جميع الموارد، سواء كان من المورد المذكور في الرواية أم لم يكن، هو: وقوع هذه الجملة

ص: 67

في أبواب مختلفة من الفقه كبرىً لصغريات متعدّدة غير اليقين والشكّ المتعلّقين بالوضوء أيضاً، كما ورد في الطهارة والنجاسة وفي عدد الركعات، وفي موارد أُخرى ممّا يطول ذكره.

وبالجملة: فما أسهل وأوضح أن يقطع الإنسان بأنّ هذه الرواية غير مختصّة بباب الوضوء، وأنّها ناظرة إلى إعطاء قاعدة كلّيّة مرتكزة في أذهان العقلاء، غير مختصّة بباب الوضوء، وهي عدم نقض اليقين أبداً بالشكّ، أي: أنّه لا تُرفع اليد عن العمل على طبق الحالة السابقة ما لم يعلم بالخلاف أصلاً.

وإذا تمّ أنّ قوله(علیه السلام) «فإنّه على يقين من وضوئه» بمنزلة الصغرى، وأنّ قوله: «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» بمنزلة الكبرى، فتكون الرواية - حينئذٍ - دليلاً تامّاً على إمضاء الشارع لما استقرّ عليه بناء العقلاء، وتصحيحاً لما جرى عليه ديدنهم.ولكن هناك فرق بين الصحيحة وبين بناء العقلاء؛ فإن العقلاء لا يعملون على طبق الحالة السابقة إلّا إذا أفادت الوثوق والاطمئنان ببقاء الحالة السابقة، وأمّا الصحيحة فهي بإطلاقها تنهى عن نقض اليقين بالشكّ مطلقاً، ولو لم يكن هناك وثوق واطمئنان بالبقاء، ما لم يكن هناك يقين آخر ينقضه.

فتكون الرواية - والحال هذه - إمضاءً لما عليه العقلاء، ويكون الغرض من التعليل إنّما هو التنبيه على صغريات المعلّل، كما لو قيل: (لا تشرب

ص: 68

الخمر لأنّه مسكر)، فإنّ ثبوت الحرمة - حينئذٍ - إنّما هو لأجل انطباق عنوان المسكر المفروغ عن حرمته على السائل المسمّى خمراً.

وعليه: فإنّ جملة «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» إنّما هي اشارة إلى شيء مغروس في الذهن، ومرتكز عند العقلاء؛ لأنّ اليقين بما أنّه كاشف ذاتيّ عن الواقع، فلابدّ من سلوكه، وأمّا الشكّ، فبما أنّه محض التحيّر والتردّد لا ينبغي البناء عليه؛ لكونه محتمل الضرر، فيكون الإمام(علیه السلام) قد طبّق في هذا الحديث قاعدة عقلائيّة مسلّمة على الاستصحاب، وإن زال اليقين وتبدّل بالشكّ، فأمر بالأخذ باليقين وعدم الاعتناء بالشكّ.

أو فقل: بما أنّ اليقين والشكّ بمنزلة طريقين يكون أحدهما مأموناً من الضرر دون الآخر، فإذا دار الأمر بينهما فلا إشكال في أنّ المرتكز هو اختيار الطريق المأمون دون محتمل الضرر.ثمّ بما أنّ اليقين قد تعلّق بالحدوث والشكّ بالبقاء، فلم يتعلّق اليقين بنفس ما تعلّق به الشكّ، حتى لا يجوز نقض اليقين بالشكّ، فلا يصدق نقض اليقين بالشكّ عرفاً، فتطبيق هذه الكبرى الكلّيّة المرتكزة في أذهان العقلاء على الاستصحاب في الرواية إنّما هو من باب التعبّد الشرعيّ.

وعلى كلّ حال: فإنّ استظهار العموم لجميع أفراد اليقين يبتني إمّا على أن تكون اللّام في قوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» لاستغراق الجنس، كما هو ظاهر اللّام، أو بتجريد اليقين عن إضافته إلى الوضوء لو كانت للعهد.

ص: 69

ثمّ لا فرق فيما استظهرنا من هذه الجملة بين القول بأنّ جواب الشرط الذي يستفاد من قوله: «وإلّا»، وهو: وإن لم يستيقن أنّه قد نام، محذوف، وهو (لا يجب عليه شيء)، وقد قامت العلّة - وهي قوله: «وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه» - مقامه، أو كانت هذه العلّة نفسها هي الجواب.

ثمّ إنّ قوله: «لا ينقض اليقين» لو كان المراد منه هو خصوص اليقين بالوضوء، لكان تكراراً لقوله: «فإنّه على يقين من وضوئه»، وهو خلاف الظاهر.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سرّه) أنّ قوله «فإنّه على يقين من وضوئه» لا ظهور له في تقيّد اليقين بالوضوء بحيث يكون الأوسط هو اليقين بالوضوء؛ لقوّة احتمال أن يكون قوله «من وضوئه» متعلّقاً بالظرف المقدّر، لا بلفظ اليقين، فكأنهقال: فإنّه من طرف وضوئه على يقين، فيكون الأوسط هو ذات اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء(1).

غاية الأمر: أنّه بناءً على الاحتمال الأوّل فيكون المجموع من الصغرى والكبرى مذكوراً. وأمّا إذا قلنا بأنّ جواب الشرط هو قوله(علیه السلام) «فإنّه على يقين من وضوئه»، فتكون الجملة الخبريّة واردة في مقام الإنشاء، ولكنّ

ص: 70


1- انظر: كفاية الاُصول ص 390، ونصّ كلامه) كالتالي: «مع أنّه غير ظاهر في اليقين بالوضوء؛ لقوّة احتمال أن يكون (من وضوئه) متعلّقاً بالظرف، لا ﺑ (يقين)، وكان المعنى: فإنّه كان من طرف وضوئه على يقين، وعليه: لا يكون الأوسط إلّا اليقين، لا اليقين بالوضوء، كما لا يخفى على المتأمّل».

النتيجة في كليهما واحدة - كما أشرنا - وهي استفادة القاعدة الكليّة.

ولكنّهم مع ذلك قالوا: بأنّ حذف الجواب وإقامة العلّة مقامه كثير، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾(1)، فإنّ الجواب محذوف، أي - واﷲ العالم -: فاعلم أنّه غنيّ عن جهرك.

فإن قيل: ولكنّ الالتزام بحذف الجواب وقيام العلة مقامه خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلّا لدليل، فلابدّ من أن تكون جملة «فإنّه على يقين من وضوئه» هي جملة الجزاء، فمعناه أنّه يجب ترتّب آثار اليقين على الوضوء، ولازمه اختصاص حجّيّة الاستصحاب بباب الوضوء.

قلنا: حذف الجواب وإن كان على خلاف الأصل، ولكنّه أظهر في المقام لأمرين:أوّلهما: ما عرفته من شيوع هذا النوع من الاستعمال في القضايا العرفيّة، كما في الآية المتقدّمة، ومثلها قوله تعالى: ﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ﴾(2)، وقوله: ﴿وَإِن يُكَذّب-ُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ﴾(3).

والثاني: أنّ جملة «فإنّه على يقين من وضوئه» جملة خبريّة، وحملها على الإنشائيّة خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلّا بقرينة، وهي مفقودة في المقام.

ص: 71


1- طه: الآية 7.
2- يوسف: الآية 77.
3- الحجّ: الآية 42.

ومن جملة الأخبار أيضاً:

مضمرة أُخرى لزرارة - والإضمار من مثله لا يضرّ كما ذكرنا -:

قال: «قلْتُ له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شيء من منيّ، فعلّمْتُ أثره إلى أن أُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيْتُ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنّه قد أصابه، فطلبته، فلم أقدر عليه، فلما صلّيْت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد. قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه، ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، ثمّ صلّيت فيه، فرأيت فيه؟ قال: تغسله، ولا تعيد الصلاة. قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كُنْتَ على يقين من طهارتك، ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً. قلت: فإنّيعلمْت أنّه قد أصابه، ولم أدرِ أين هو، فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت: فهل عليّ إن شككْتُ في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تُذهب الشكّ الذي وقع في نفسك. قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككْتَ في موضعٍ منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعْتَ الصلاة وغسلْتَه، ثمّ بنيت على الصلاة؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك، فليس ينبغي

ص: 72

أن تنقض اليقين بالشكّ»(1).

فقد ورد في هذه الرواية في موضعين منها دلالة على حجّيّة الاستصحاب، الجملة الاُولى: «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»، والثانية عينها، ولكن من دون كلمة «أبداً».

فإنّ المفروض في السؤال هو الظنّ بالإصابة وعدم اليقين بها، فاليقين السابق على هذا الظنّ - وهو الظنّ بالإصابة - لا يجوز نقضه بهذا الظنّ، ولو فرض أنّ جريان الاستصحاب في شبهات الموضوعيّة في أمثال هذا المقام مستوجب للفحص، فقد حصل الفحص كما هو مذكور في الصحيحة.

كما أنّ الظاهر منها أنّ الإمام(علیه السلام) بصدد إفادة الكبرى الكليّة، وأنّه(علیه السلام) في الجواب عن السؤال الثالث، حيث قال: «لأنّككنت على يقين...»، أتى في مقام تعليل الحكم بعدم وجوب إعادة الصلاة، بأمر ارتكازيّ، لا بأمر تعبّديّ حتى يختصّ اعتبار الاستصحاب بمورد الرواية.

وبما أنّ اللّام هنا وفي الجملة الثانية، هي كالنصّ في التعليل، يصير كالنصّ في تعليل الحكم بكبرى ارتكازيّة.

قد يقال: إنّ هذا ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل هو من نقض اليقين باليقين؛ لقوله: «ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه»، فبعد رؤيته للنجاسة وتيقّنه بها،

ص: 73


1- تهذيب الأحكام 1: 421، باب 22، الحديث 8.

فيكون من نقض اليقين باليقين، فلا تنطبق الكبرى الكلّيّة التي ادّعينا أنّها ارتكازيّة على المورد، ومعه: فلا يكون المورد مشمولاً للاستصحاب، ولا لقاعدة اليقين.

ولكنّ الحقّ: دلالة الحديث على الاستصحاب؛ لأنّ من الممكن أنّ الذي رآه دم جديد ونجاسة حادثة، ولا تكون تلك المظنونة.

والشاهد على ذلك: أنّ السائل لم يقل «فرأيتها فيه» حتى يكون الضمير عائداً إلى تلك النجاسة المظنونة، بل لعلّه شيء أوقع عليه، كما احتمله الإمام(علیه السلام) في بعض الجمل الآتية.

ولا إشكال بعد ذلك فيما ورد من تعليل الإمام(علیه السلام) لعدم الإعادة بهذه الكبرى، فتكون هذه الكبرى دليلاً على اعتبار الاستصحاب؛ لظهورها في أنّ (اللّام) للجنس، وليست للعهد، كما ذكرناه تماماً في الصحيحة الأُولى، ويأتي هنا - أيضاً - أنّ المورد غير مخصّص للوارد، بل إنّما هو من باب ذكر بعض مصاديق هذه الكبرى.وأمّا الجملة الثانية، وهي قوله(علیه السلام): «فليس ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ»، بعد قوله(علیه السلام) «لعلّه شيء أُوقع عليك»، فدلالتها على الاستصحاب أظهر؛ فإنّه(علیه السلام) قد علّل الحكم بعدم الإعادة بإبراز احتمال حدوث النجاسة بعد الصلاة، ولتقوية هذا الاحتمال قيّد الحكم بعدم الإعادة.

ولكن قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «كون المراد من قوله: (ثمّ صلّيت فيه

ص: 74

فرأيت فيه أنّ النجاسة التي رآها بعد الصلاة) يمكن أن تكون نجاسة حادثة بعدها لا تلك النجاسة المظنونة قبل الصلاة، لا يخلو عن بعد، فالإشكال باقٍ على حاله، أي: تكون الإعادة من نقض اليقين باليقين»(1).

وقد أجيب عن هذا الإشكال بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب، وأنّ الإعادة تكون من نقض اليقين بالشكّ، إنّما هو من باب أنّ الأمر الظاهريّ يقتضي الأجزاء، فإذا قيل بوجوب الإعادة كان معناه عدم إجزاء الأمر الظاهريّ، وعدم الاعتناء بما هو وظيفته ظاهريّة، أعني بها: الاستصحاب، مع أنّه مجزٍ عن الإتيان بالأمر الواقعيّ ثانياً، فتكون الإعادة نقضاً لليقين بالشكّ، وهو نفس ما قد نهى الشارع عنه.

قال صاحب الكفاية(قدس سرّه): «ثمّ إنّه لا يكاد يصحّ التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهريّ للإجزاء، كما قيل؛ ضرورة أنّ العلّة عليه إنّما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهريّ حال الصلاةللإجزاء وعدم إعادتها، لا لزوم النقض من الإعادة، كما لا يخفى»(2).

وفيه:

أوّلاً: أنّ كون الأمر الظاهريّ مقتضياً للأجزاء غير تامّ، كما ذكر في محلّه، ولا يمكن أن يكون استدلال الإمام(علیه السلام) مبتنياً على أمر غير تامّ.

ص: 75


1- منتهى الاُصول 2: 421.
2- كفاية الاُصول: 395.

وثانياً: لو كان المناط هو عنوان إجزاء الأمر الظاهريّ، لكان لابدّ للإمام(علیه السلام) أن يعلّل عدم وجوب الإعادة بنفس هذه العنوان، وهو الإجزاء.

وثالثاً: أنّ التعليل ظاهر في أنّ المناط كلّ المناط في عدم وجوب الإعادة إنّما هو الاستصحاب، حيث لوحظ إجراء الاستصحاب بلحاظ مرحلة ما بعد العمل. نعم، لو كان إجراؤه ملحوظاً حال العمل، لكان محلّ لورود الإشكال.

ورابعاً: ما أفاده صاحب الكفاية(قدس سرّه) من الفرق بين الطهارة الحدثيّة والخبثيّة، فيكفي في الخبثيّة الإحراز حال الالتفات، وبما أنّ الاستصحاب من الاُصول المحرزة، فالشرط حاصل؛ فلا تجب الإعادة.

قال): «ولا يكاد يمكن التفصّي عن هذا الإشكال إلّا بأن يقال: إنّ الشرط في الصلاة فعلاً حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها، ولو بأصلٍ أو قاعدة، لا نفسها، فيكون قضيّة استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انكشفوقوعها في النجاسة بعدها، كما أنّ إعادتها بعد الكشف تكشف عن جواز النقض وعدم حجّيّة الاستصحاب حالها، كما لا يخفى»(1).

وحاصله: أو نقول بأنّ هناك فرقاً بين الطهارة الحدثيّة والطهارة الخبثيّة، فإنّ الطهارة الحدثيّة شرط واقعيّ للصلاة، ولذا لو علم بعد

ص: 76


1- المصدر نفسه: ص 393 - 394.

الصلاة أنّه قد صلّاها بدون الوضوء، تكون صلاته باطلة. وأمّا الطهارة الخبثيّة، فهي شرط علميّ للصلاة، فيكفي إحرازها - ولو بأصل معتبر - في صحّة الصلاة، وليست بشرط واقعيّ، كالطهارة الحدثيّة التي تدور صحّة الصلاة وفسادها مدارها وجوداً وعدماً.

وعليه: فالمكلّف حينما يأتي بالصلاة، إمّا أن يكون ملتفتاً إلى الطهارة الخبثيّة، وإمّا أن يكون غافلاً عنها، فإن كان غافلاً وصلّى، مع وجود النجاسة المغفول عنها في ثوبه، فصلاته صحيحة؛ لعدم كون هذه الطهارة معتبرة في حقّه حال الغفلة. وإن كان ملتفتاً إلى الطهارة الخبثيّة، فالشرط - حينئذٍ - هو إحراز الطهارة، وليس وجودها الواقعيّ.

فلو أحرز الملتفت الطهارة بعلمٍ أو علميٍّ أو بأصل عمليّ، ولو أصالة الطهارة، وصلّى، صحّت صلاته، وإن علم بعد ذلك وقوعها في النجس؛ إذ الشرط في الملتفت هو إحراز الطهارة، لا نفسها، والمفروض أن ذلك قد تحقّق له بالاستصحاب.وبعد أن كان الشرط هو إحراز الطهارة، لا نفس الطهارة الواقعيّة، يحسن تعليل عدم وجوب الإعادة بكون الإعادة نقضاً لليقين بالشكّ؛ لأنّه حال الصلاة كان شاكّاً في بقاء الطهارة بعدما كان قبل الدخول متيقّناً بها، ثمّ ظنّ إصابة النجاسة، والظنّ ملحق بالشكّ حكماً؛ لعدم الدليل على حجّيّته واعتباره، بل جاء الدليل على عدم جواز العمل به، فهو شاكّ في بقاء الطهارة، والاستصحاب قد أوجب إحراز الطهارة في حال

ص: 77

الصلاة، فتكون الإعادة منافيةً للاستصحاب المحرز للطهارة، وموجبةً لجعل هذا الإحراز الاستصحابيّ كالعدم، فبعد جريان الاستصحاب وإحراز الطهارة، تكون الصلاة واجدة للشرط، فتقع صحيحة.

ومن هذه الأخبار أيضاً:

موثّقة إسحاق بن عمّار قال: قال لي أبو الحسن الأوّل(علیه السلام): «إذا شككت فابنِ على يقين، قال: قلت: هذا أصل؟ قال: نعم»(1).

قالوا: الظاهر أنّ هذه الرواية ليست واردة إلّا في مورد الشكّ في الركعات، حيث إنّ صاحب الوسائل ذكرها في ذلك الباب، فيكون مفادها أنّه: إذا شككت في عدد الركعات فابنِ على اليقين، أي: على الأقلّ من عدد الركعات؛ لأنّه المتيقّن، ومعه: فلا يمكن استفادة القاعدة الكلّيّة من هذه الموثّقة، ولا يكون لها دلالة على القاعدة الكلّيّة.ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن استفادة القاعدة الكلّيّة وجريان الاستصحاب في جميع الموارد منها؛ إذ بعد أن كانت الموثّقة مطلقة، فاختصاصها بمورد الشكّ في الركعات غير معلوم، ثمّ على تقدير التنزّل والتسليم بأنّ موردها خاصّ، فقد ذكرنا مراراً أنّه مع عدم كون الوارد في حدّ ذاته خاصّاً، فالمورد لا يصلح لتخصيصه، فيكون حال هذه الجملة حال قوله(علیه السلام) «لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ»، ولا سيّما بعد أن كان كلامه هنا

ص: 78


1- وسائل الشيعة 8: 212، كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.

عقيب سؤال السائل: «هذا أصل؟».

وقد يقال: يمكن أن يكون المراد باليقين فيها خصوص اليقين بالبراءة، أي: الإتيان بصلاة الاحتياط.

وفيه: أنّه على خلاف الظاهر جدّاً.

وأمّا احتمال أن يكون المراد باليقين فيها هو قاعدة اليقين، فهو - أيضاً - في غاية البعد؛ لأنّ الظاهر من قوله(علیه السلام) «فابنِ على اليقين»، أي: ابنِ على اليقين الموجود في ظرف البناء، لا اليقين الموجود سابقاً والذي كان ثمّ انعدم وتبدّل بالشكّ، المسمّى عندهم ﺑ «الشكّ الساري»، وبالتالي: فدلالة الموثّقة على الاستصحاب هو الأظهر، بعدما أقرّ الإمام(علیه السلام) نفسه هذا البناء على اليقين على أنّه أصل، بما يعني: أنّها قاعدة كلّيّة غير مربوطة ولا مختصّة بباب دون باب.

ومن هذه الأخبار أيضاً:

صحيحة أُخرى لزرارة، عن أحدهما' في حديث قال: «إذا لم يَدْرِ في ثلاثٍ هو أو في أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أُخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقينبالشكّ، ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين، ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حالٍ من الحالات»(1).

ص: 79


1- وسائل الشيعة 8: 216 - 217، كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

وهذا الخبر صحيح سنداً ولا غبار عليه ولذا عبّرنا عنه ﺑ (الصحيحة).

وأمّا من ناحية الدلالة، فالمصلّي كان متيقّناً بأنّه قد أتى بالثلاث، وإنّما شكّ في الرابعة، وقد كان قبل الشكّ متيقّناً بعدم إتيانه بالرابعة؛ لأنّه قبل الشروع في الصلاة، وبعد افتتاحها، لم يكن يقيناً آتياً بشيء من الركعات، ثمّ قطع بأنّ هذا العدم قد انتقض بإتيانه بالركعات الثلاث التي هي مُحرَزة بالنسبة إليه، ولم يحصل له شكّ إلّا في الإتيان بالركعة الرابعة، فيستصحب عدمه، فيكون قوله(علیه السلام): «ولا ينقض اليقين بالشكّ» بمنزلة العلّة لهذا الحكم المذكور.

وأمّا جملة «قام فأضاف إليها أخرى»، فمفادها هو الالتزام بالاستصحاب، ولو لم يكن معناه أنّه عمل بالشكّ، ونقض اليقين بالشكّ.

ولكن قد يستشكل في دلالة هذه الرواية بما حاصله:

أنّ قوله: «قام فأضاف إليها أخرى»، يدلّ على أنّ يأتي بركعةٍ بعد الفراغ من دون أن يفصل بتشهد وتسليم، وهذا وإن كان يثبت الاستصحاب، ولكنّه - حينئذٍ - يكون على خلاف المذهب، إذ الالتزام بهذا المضمون يسبّب إيجادقصور في مقتضي الاستصحاب، وعلى فرض ظهورها في ذلك، فيجب حملها على التقيّة.

وأمّا إذا حملنا هذه الجملة على أنّها تكون دالّة على الركعة المنفصلة، كما هو المذهب الحقّ، فلا يعود للخبر - حينئذٍ - دلالة على الاستصحاب،

ص: 80

بل يكون معناه: إذا شككت بين الثلاث والأربع فابنِ على ما يحصل به اليقين ببراءة الذمّة، وليس إلّا البناء على الأكثر، فيكون معناها على خلاف مؤدّى الاستصحاب، وأمّا الإتيان بركعة منفصلة - عند ذاك - فإنّما هو لأجل تتميم الفريضة على فرض نقصانها واقعاً، أو تحسب نافلة على فرض تماميّتها كذلك.

والحاصل: أنّ هناك احتمالين، لابدّ من ترجيح أحدهما على الآخر، أمّا الأوّل، فحاصله: البناء على تماميّة دلالة الصحيحة على الاستصحاب، ولكنّ المانع موجود؛ وهو أنّه على خلاف المذهب. وأمّا الثاني: البناء على دلالة الرواية على لزوم الإتيان بركعتين منفصلتين، فتسلم الرواية - حينئذٍ - من مخالفة المذهب، ولكنّها تكون أجنبيّةً أصلاً عن إثبات اعتبار الاستصحاب؛ لأنّ معناها - على هذا الاحتمال - أنّه إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على ما يحصل به اليقين ببراءة الذمّة، والذي يتحقّق به اليقين عن فراغ الذمّة إنّما هو - كما عرفنا - أن يبني على الأكثر.

وإلى ذلك ذهب الشيخ الأنصاريّ) حيث اعتبر أنّه لا معنى لأن يراد من قوله(علیه السلام) «ولا ينقض اليقين بالشكّ» كبرى الاستصحاب، بل لابدّ أن يراد به لزوم تحصيل اليقينبالبراءة بالكيفيّة المعهودة، كما تدلّ عليه بعض النصوص الأُخرى.

قال): «فالمراد ﺑ (اليقين) .... هو اليقين بالبراءة، فيكون المراد

ص: 81

وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر وفعل صلاةٍ مستقلّة قابلةٍ لتدارك ما يُحتمل نقصه»(1).

وبالجملة: فإذا دار الأمر بين الاحتمالين، كان الترجيح لصالح الاحتمال الثاني، لوجوه:

الأوّل: ظهور «قام فأضاف» في إرادة الركعة المنفصلة؛ لوجود القرينة، وهي قوله(علیه السلام) في صدر الرواية: «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب...».

بل حينما يأمر بالإتيان بالركعة، فليس مراده إلّا الركعة المنفصلة، فقد يقال: بأنّ ذكر الفاتحة قرينة على إرادة ركعتين مفصولتين؛ إذ لو أُريد بيان أحد فردي التخيير من الفاتحة والتسبيحات الأربعة المخيّر بينهما المكلّف في الثالثة والرابعة من الرباعيّات، لكان من المناسب - حينئذٍ - ذكر عِدل الفاتحة أيضاً، وهو التسبيحات، فحيث لم يُذكر العدل، فلا يمكن إثبات التخيير في مورد البحث، فيكون إطلاق الأمر بقراءة الفاتحة منحصراً في الركعتين المفصولتين.

والثاني: أنّ الإتيان بركعة الاحتياط موصولة موافق لمذهب العامّة ومخالف لما عليه مذهب الإماميّة، وهو لزومالبناء على الأكثر، فيتعين - حينئذٍ - إرادة اليقين بالبراءة من البناء على اليقين وعدم نقضه بالشكّ؛

ص: 82


1- فرائد الاُصول 3: 63.

تحفّظاً على أصالة عدم التقيّة.

الثالث: أنّ حمل الرواية على اليقين ببراءة الذمّة موافق لمدلول كثير من الروايات الواردة في كيفيّة صلاة الاحتياط، كقوله(علیه السلام): «إذا سهوْتَ فابنِ على الأكثر»(1)، أو «إذا شككت فابنِ على اليقين»(2)، أو «تأخذ بالجزم»(3) ونحوها؛ إذ كان المراد بالبناء على اليقين هو البناء على الأكثر.

الرابع: فهم الفقهاء اليقين بالبراءة، لا اليقين بعدم الإتيان بالرابعة.

الخامس: أنّه يلزم التفكيك بين المورد والقاعدة؛ لأنّ القاعدة تقتضي الإتيان بها موصولة، فلابدّ من الالتزام بأنّ أصل البناء على اليقين، الذي هو مقتضى الاستصحاب، حكم واقعيّ، لكنّ تطبيقها على المورد بالإتيان بالركعة موصولةً إنّما هو من باب التقيّة.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ لا يراد منه النهي عن نقض اليقين بعدم الإتيان بالرابعة، حتى يكون مؤدّاه هو الاستصحاب، بل المراد من النهي عن رفعاليد عن تحصيل اليقين بالفراغ، بأن يكتفي بعملٍ يشكّ معه في براءة الذمّة، وهذا منحصر في البناء على الأكثر والإتيان بركعة الاحتياط مفصولة؛ لأنّه في الواقع لو كان المأتيّ ثالثاً، لكانت هذه الركعة متمّماً له، ولا يضرّ زيادة التكبير

ص: 83


1- وسائل الشيعة 8: 213، باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.
2- المصدر نفسه 8 : 212، الحديث 2.
3- المصدر نفسه 8 : 213، الحديث 5.

والتشهد والتسليم في صحّة العمل، ولو كانت صلاته تامّة في الواقع، فتكون هذه الركعة نافلة.

وأمّا لو بنى على الأقلّ وأتى بركعة الاحتياط موصولةً، فلعلّه في الواقع قد صلّى أربعاً، فيكون - حينئذٍ - مجموع الركعات التي أتى بها خمساً، فلا يحصل اليقين بالفراغ، ضرورة أنّ الركعة المضافة تكون مانعاً من الصحّة، وإذا لم يأتِ بالركعة الأُخرى، مع بنائه على الأكثر، احتمل نقصان العبادة.

وعليه: فطريق اليقين بالفراغ منحصر في الطريق الذي علّمه الإمام(علیه السلام) في الروايات الأُخرى من البناء على الأكثر والإتيان بركعة الاحتياط مفصولةً.

وقد أُجيب عن هذا الإشكال بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده صاحب الكفاية(قدس سرّه) وحاصله:

أنّ لزوم الإتيان بركعة منفصلة لا يتنافى مع تطبيق الاستصحاب في المقام، وإنّما يتنافى مع إطلاق دليله، فإنّ لزوم الوصل إنّما هو مقتضى إطلاق النقض، فلا مانع من الالتزام بجريان الاستصحاب وتقييد إطلاق دليله بما دلّ على لزوم فصل الركعة، وتقييد الأدلّة ليس بعزيز.

وإليك نصّ كلامه(قدس سرّه):«ويمكن ذبّه بأنّ الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة، بل كان أصل الإتيان بها باقتضائه، غاية الأمر: إتيانها مفصولةً

ص: 84

ينافي إطلاق النقض، وقد قام الدليل على التقييد في الشكّ في الرابعة وغيره، وأنّ المشكوكة لا بدّ أن يُؤتى بها مفصولةً، فافهم»(1).

والوجه الثاني: القول بالتفكيك بين الكبرى والمورد، بأن يقال: إنّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ هو من باب بيان الحكم الواقعيّ، وهو حجّيّة الاستصحاب، وأمّا تطبيقه على خصوص الشكّ في الركعات بالبناء على الأقلّ، فيكون من قبيل التقيّة.

وهذا ما قرّبه المحقّقان النائينيّ والعراقيّ"، حيث قال الأوّل منهما: «فلأنّ حمل الرواية على التقيّة من حيث تطبيق المورد على الاستصحاب ليس بأبعد من حملها على الوظيفة في الشكّ في عدد الركعات، بل حملها على التقيّة أقرب؛ فإنّه ليس فيه تصرّف فيما يقتضيه ظاهر قوله(علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشكّ)، بل التصرّف إنّما يكون من جهة التطبيق، فإنّ الإمام(علیه السلام) استشهد لحكم المورد بالاستصحاب حيث كان مذهب العامّة على الإتيان بالركعة المشكوكة متّصلةً ببقيّة الركعات عملاً بالاستصحاب، فالتقيّة إنّما تكون في الاستشهاد، لا في الاستصحاب»(2).وقال الثاني: «لا ظهور في صدر الرواية في خلاف التقيّة بنحوٍ يمنع من حمل هذه الفقرة عليها، وإعمال التقيّة في إجراء القاعدة وتطبيقها

ص: 85


1- كفاية الاُصول: 396.
2- فوائد الاُصول 4: 361.

على المورد، لا في نفسها، لا بعد فيه ..»(1).

وقد ورد هذا التفكيك في بعض الأخبار، كما عن مولانا الصادق(علیه السلام) في قوله لأبي العبّاس، بعدما سأله اللّعين عن الإفطار في اليوم الذي شهد بعض بأنّه يوم العيد: «ذلك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه، وإن أفطر أفطرنا معه»(2)، فإنّه(علیه السلام) طبّق كبرى «ما للإمام..» على إمام الضلالة العبّاسيّ، وإنّما قال ذلك مخافة ضرب عنقه، كما بيّنه(علیه السلام) بعد خروجه من مجلس اللّعين، ولكنّ نفس حجّيّة حكم الحاكم في الهلال لا تقيّة فيه، وإنّما تطبيقه على العبّاسيّ هو الذي كان فيه تقيّة.

ولذا استدلّ بهذه الرواية على نفوذ حكمه فيه. كما أنّه ورد تطبيق كبرى (رفع ما استكرهوا عليه)، الذي هو حكم واقعيّ، على الحلف بالطلاق والعتاق إكراهاً، مع أنّهما عندنا باطلان، ولو اختياراً، فإسناد بطلانهما حال الإكراه إلى حديث الرفع لم يكن إلّا تقيّةً.

ومن هذه الأخبار أيضاً:ما في خصال الشيخ الصدوق) عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «من كان على يقين، فشكّ، فليمضِ على يقينه؛ فإنّ الشكّ

ص: 86


1- نهاية الأفكار 4: 57.
2- وسائل الشيعة 10: 132، كتاب الصوم، الباب 57 من أبواب ما يمسك عند الصائم ووقت الإمساك، الحديث 5، مع تفاوت يسير.

لا ينقض اليقين»(1).

وفي رواية أُخرى عنه(علیه السلام): «من كان على يقين، فأصابه شكّ، فليمضِ على يقينه؛ فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»(2).

وهاتان الروايتان ضعيفتان سنداً؛ لأنّ سند المفيد) إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) غير معلوم الصحّة، وكذا سند الصدوق) إليه؛ لأنّ في الطريق قاسم بن يحيى، ومجرّد وجوده في كامل الزيارات لا يثبت وثاقته.

وأمّا من ناحية الدلالة، فهل تدلّ على الاستصحاب أو قاعدة اليقين أو تصلح للدلالة على كليهما؟

الظاهر منها - بدواً - أنّها تدلّ على قاعدة اليقين، ولكن مع ذلك، فهناك قرينة داخليّة في ذيل الرواية يمكن أن يفهم منها القاعدة الكلّيّة الارتكازيّة المسمّاة بالاستصحاب. فإنّ قوله(علیه السلام) «من كان على يقين فشكّ» أو «فأصابه شكّ» ظاهر في اختلاف حصول وصفي اليقين والشكّ؛ لأنّ الفاء عاطفة، فتكون ظاهرة في التعقيب، ومعلوم أنّ اختلاف زمان الوصفين مع كون المتعلّق فيهما واحداً يكون في قاعدة اليقين، دون الاستصحاب، ولذا يكون الشكّ في موردها سارياً إلى اليقين ومزيلاً له وموجباً لتبدّله بالشكّ، ولازم هذا:أنّ زمان المتيقّن والمشكوك واحد،

ص: 87


1- الخصال: 619.
2- الإرشاد 1: 302.

وإنّما يكون الاختلاف في زمان حصول الوصفين، والشكّ في القاعدة يتعلّق بالحدوث، ولذلك سمّي بالشكّ الساري؛ لسرايته إلى حدوث اليقين.

وهذا بخلاف الاستصحاب؛ فإنّ الشكّ يرد فيه على شيء لم يرد فيه اليقين، فإنّ اليقين فيه يرد على الحدوث والشكّ على البقاء، فمتعلّق اليقين والشكّ مختلفان.

وبعبارة أُخرى: فإنّ موضوع الاستصحاب أن يتعلّق اليقين بحدوث شيء، ويتعلّق الشكّ ببقائه، والحدوث شيء والبقاء شيء آخر. وأمّا قاعدة اليقين فموضوعها أن يتعلّق اليقين بوجود شيءٍ في زمان، ويتعلّق الشكّ بوجود ذلك الشيء نفسه في نفس الزمان، كما إذا حصل اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة، ثمّ شكّ يوم الاثنين أنّه كان عادلاً يوم الجمعة أم لم يكن، وقد عرفنا أنّه يسمى ﺑ «الشكّ الساري»؛ لأنّ الشكّ يسري إلى نفس اليقين بحدوثه.

ولكن قد عرفنا فيما سبق: أنّ في ذيل الرواية قرينة على أنّ الاستصحاب كان هو المراد من صدر الرواية، دون قاعدة اليقين، وذلك قوله(علیه السلام) «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين»، فإنّه يدلّ على تلك القضيّة الارتكازيّة التي أُريد بها الاستصحاب في غير واحدٍ من أخبار الباب، ومعه: فظاهر الصدر وإن كان يدلّ على قاعدة اليقين، ولكن لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور، مراعاةً لجانب هذه القرينة.

ص: 88

ومن هذه الأخبار:خبر الصفّار عن علي بن محمّد القاساني: قال: «كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من شهر رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب(علیه السلام): اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صم للرؤية وأفطر للرؤية»(1).

والكلام فيه - أيضاً - من جهتين، سنداً ودلالةً:

أمّا من جهة السند، فلأنّ القاساني لا توثيق له، بل حكي تضعيف الشيخ له، ولم يُعلم اتّحاده مع علي بن محمّد بن شيرة القاشاني الموثّق. ودعوى: أنّ ضعف السند منجبر بعمل المشهور غير ثابتة، إذ:

أوّلاً: لا نقول بجابريّة الشهرة.

وثانياً: على تسليم جابريّتها، فثمّة روايات كثيرة صحيحة أُخرى تدلّ على اعتبار الاستصحاب وحجّيّته، فلعلّ المشهور استندوا إلى تلكم الروايات.

وأمّا من جهة الدلالة، فإنّ قوله(علیه السلام): «صم للرؤية» ناظر إلى حكم يوم الشكّ في أوّل شهر رمضان، وقوله(علیه السلام): «أفطر للرؤية» ناظر إلى حكم الشكّ في أنّه يوم الثلاثين من رمضان أم عيد الفطر، وقوله(علیه السلام): «اليقين لا يدخل فيه الشكّ»، أي: أنّ اليقين بشعبان الذي لا يجب فيه الصوم لا يدخله حكماً الشكّ بدخول رمضان حتى يخرج عن حكم شعبان الذي

ص: 89


1- تهذيب الأحكام 4: 159، الحديث 17.

هو عدم الوجوب بصرف الشكّ في دخولرمضان، بل لابدّ من اليقين بدخول رمضان، وقد عبّر(علیه السلام) عن اليقين بدخول شهر رمضان بقوله: «صم للرؤية».

ثمّ بيّن أنّ هذا الحكم غير مختصّ بأول شهر رمضان وباليقين بشعبان والشكّ بدخول رمضان، بل يشمل - أيضاً - الحكم الذي لآخر الشهر عند اليقين برمضان والشكّ في دخول شوّال، فكذلك لا يجوز الخروج عن حكم رمضان بمجرّد الشكّ في دخول شوّال، بل إنّما يرفع اليد عن حكم شهر رمضان والبناء على خروجه بالرؤية فقط، كما كان كذلك بالنسبة إلى شعبان، فإنّ رفع اليد عن حكمه لا يكون - أيضاً - إلّا برؤية الهلال.

قال الشيخ الأنصاريّ) - معلّقاً على الاستدلال بهذه المكاتبة -: «والإنصاف أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب، إلّا أنّ سندها غير سليم».

بتقريب: «أنّ تفريع تحديد كلٍّ من الصوم والإفطار - برؤية هلالَي رمضان وشوّال - على قوله(علیه السلام) (اليقين لا يدخله الشكّ)، لا يستقيم إلّا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولاً بالشكّ، أي: مزاحماً به»(1).

وفي المقابل ذهب صاحب الكفاية) إلى إنكار ظهورها في ذلك، فضلاً عن أن تكون أظهر الروايات دلالةً عليه، ببيان: أنّ جوابه(علیه السلام) عن

ص: 90


1- فرائد الاُصول 3: 71.

يوم الشكّ الذي سُئل فيه عن وجوبالصوم، وكذلك جواز الإفطار أو وجوبه، حكم اليقين برمضان في الأوّل وحكم اليقين بشوّال في الثاني.

قال في الكفاية: «وربّما يقال: إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشكّ يشرف القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنّه لابدّ في وجوب الصوم ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه، وأين هذا من الاستصحاب»(1).

وكيف كان، فلابدّ من تحقيق حال هذه الرواية وأنّها تدلّ على الاستصحاب أم لا؟

ولا يخفى: أنّه لا ينبغي أن يتوهّم أحد أنّ اليقين هنا هو إمّا تمام الموضوع أو جزؤه، ولو على نحو الطريقيّة والمرآتيّة، بل اليقين مأخوذ بما هو مرآة وطريق إلى متعلّق الحكم وموضوعه، وحينئذٍ: فقوله(علیه السلام): «اليقين لا يدخله الشكّ» مع ملاحظة اقترانه بذيل الرواية، وهو قوله(علیه السلام): «صم للرؤية وأفطر للرؤية» يدلّ - في الجملة - على الاستصحاب، فإنّ اليقين بعدم دخول رمضان أو عدم دخول شوّال لا يدخله الشكّ في دخول رمضان في الأوّل أو الشكّ في دخول شوّأل في الثاني، بمعنى: أنّه يجب إبقاء اليقين بما هو مرآة حتى يعلم خلافه، فيكون ظاهراً في الاستصحاب.

ص: 91


1- كفاية الاُصول: ص 397.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ المراد من اليقين ليس هو اليقين بشعبان حتى يكون دالّاً على الاستصحاب ويكونالمعنى: عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، بل يمكن أن يكون المراد من «اليقين لا يدخله الشكّ» هو أنّه يعتبر اليقين في صوم شهر رمضان دخولاً وخروجاً، وبدواً وختاماً، ولا دلالة له على الاستصحاب أصلاً، فتذييل هذه الجملة بقوله: «صم للرؤية وأفطر للرؤية» قرينة على إرادة معنى: أنّ اليقين لا ينقض إلّا باليقين.

فتكون الجملة المذكورة أجنبيّةً عن الدلالة على حجّيّة الاستصحاب، بل الرواية دالّة على الحكم الواقعيّ لصوم شهر رمضان، ولا علاقة لها بالدلالة على الحكم الظاهريّ حتى يقال: بأنّها متكفّلة للدلالة على الاستصحاب.

ويدلّ على هذا المعنى روايات كثيرة:

منها: رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «إذا رأيتموا الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي، ولكن بالرؤية»(1).

ومنها: رواية محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام) في حديث قال: «صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية»(2).

إلى غير ذلك من الأخبار.

ص: 92


1- وسائل الشيعة 10: 252، باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.
2- المصدر نفسه 10: 253، ح5.

وللمحقّق العراقي(قدس سرّه) إشكال في جريان الاستصحاب هنا، وحاصله: عدم إمكان تطبيق الاستصحاب على المورد؛ لأنّ وجوب الصوم إذا كان مترتّباً على بقاء الشهر بمفاد كانالتامّة، فلاستصحابه مجال، وإن كان مترتّباً كون هذا اليوم المعيّن من شهر رمضان بمفاد كان الناقصة، فلا مجال لاستصحاب بقاء الشهر؛ لأنّ إثبات الوجود النعتيّ باستصحاب الوجود المحمولي لا يتمّ إلّا على القول بالأصل المثبت.

والظاهر من قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(1)، هو الثاني؛ لظهوره في اعتبار وقوع الصوم في الشهر. وإحراز رمضانيّة اليوم الذي يقع فيه الصوم لا يمكن أن يتمّ باستصحاب بقاء الشهر؛ لقصوره عن إثبات رمضانيّة هذا اليوم حتى يقع الصوم في شهر رمضان(2).

وقد وافقه عليه السيّد الحكيم(قدس سرّه) في حقائق الاُصول. قال: «هذا مضافاً إلى أنّ جريان الاستصحاب في المقام موقوف على كون وجوب الصوم من آثار بقاء شهر رمضان وكون عدمه من آثار عدم دخوله، فإنّه - حينئذٍ - يترتّب وجوبه على استصحاب بقاء الشهر، وعدم وجوبه على أصالة عدم دخوله، أمّا لو كان وجوب الصوم من آثار كون الزمان المعيّن من رمضان بنحو مفاد كان الناقصة، فاستصحاب بقائه أو عدم دخوله لا يترتّب عليه تعيين حال زمان الشكّ من حيث كونه من رمضان أو من غيره؛ إذ لا يترتّب مفادكان الناقصة على استصحاب

ص: 93


1- البقرة: الآية 185.
2- انظر: نهاية الأفكار 4: 65.

مفاد كان التامّة إلّا على القول بالأصل المثبت ...»(1).

وردّه الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) بأنّه «كلام عجيب؛ لأنّ عدم دخول رمضان أو بقاء شعبان يكفي لرفع وجوب الصوم»(2).

ولكن فيه: أنّه بالنسبة إلى ما ورد في آخر الرواية لا يفيد؛ لأنّ أصالة عدم دخول شوّال لا يثبت بقاء وجوب الصوم في ذلك اليوم المعيّن، إلّا بعد إثبات أنّه من رمضان، وكذلك أصالة بقاء شعبان لا يثبت عدم حدوث وجوب الصوم إلّا بعد إثبات أنّ ذلك اليوم من شهر رمضان، فيكون إشكال المحقّق العراقي(قدس سرّه) وارداً إلى حدٍّ ما.

وممّا استدلّ به على الاستصحاب أيضاً:

روايات أُخرى، منها: «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر»(3)، وقوله(علیه السلام): «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك»(4).

وفي هذه الروايات احتمالات عدّة:الأوّل: الحكم الظاهريّ فقط، أي: قاعدة الحلّ وقاعدة الطهارة.

ص: 94


1- حقائق الاُصول 2: 426.
2- منتهى الاُصول 2: 434.
3- وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، ح 4.
4- وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

الثاني: الطهارة الواقعيّة، كما هو مسلك صاحب الحدائق(قدس سرّه) من أنّ النجاسة حقيقة متقوّمة بالعلم(1).

الثالث: حملها على إفادة الاستصحاب، كما استظهره الشيخ) من بعضها، حيث قال(قدس سرّه): «فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب، والمعنى: أنّ الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم، أي: تستمرّ طهارته المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له»(2).

الرابع: دلالته المغيّى على الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وهو طهارة كلّ شيء وحلّيّته واقعاً وظاهراً، ودلالة الغاية على الاستصحاب.

الخامس: دلالتها على الحكم الظاهريّ مع الاستصحاب.

السادس: دلالتها على الحكم الواقعيّ والاستصحاب.

السابع: الحكم الواقعيّ والظاهريّ فقط دون الاستصحاب.

ولا يخفى: أنّه لا يمكن الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ؛ لأنّ الحكم الظاهريّ واقع في طول الحكم الواقعيّ، وموضوعه في طول موضوع الحكم الواقعيّ، فإنّ الحكم الظاهريّ لا يكون إلّا في ظرف الشكّ واستتار الحكم الواقعيّ والجهل به، فموضوعه هو المقيّد بكونه مجهول الحكم.

ص: 95


1- انظر: الحدائق الناضرة 1: 136.
2- فرائد الاُصول 3: 77.

وعليه: فلا الحكم الواقعيّ ينزل إلى مرتبة الحكم الظاهريّ، ولا العكس، فالحكم الواقعيّ يشمل بإطلاقه لمرتبة الشكّ، كما أنّه لا إطلاق للحكم الظاهريّ يشمل به المرتبة السابقة على موضوعه، أي: الفعل والذات.

وبهذا يتّضح: أنّ ما ذكره صاحب الكفاية(قدس سرّه) في حاشيته على الرسائل(1) من إمكان استفادة الثلاث - أعني: الحكم الواقعيّ والظاهريّ والاستصحاب - من هذه الأخبار، في غير محلّه؛ وذلك لما عرفت من عدم إمكان الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ بإنشاءٍ واحد.

ولعلّه لأجل هذا السبب عدل عن هذا الرأي في الكفاية فقال: «إنّ الغاية فيها إنّما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعاً من الطهارة والحلّيّة ظاهراً، ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه، لا لتحديد الموضوع كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة للشكّ في طهارته أو حلّيّته»(2).

فيكون قد اعترف بذلك بأنّها لا تشمل إلّا الحكم الواقعيّ مع الاستصحاب، ببيان: أنّ مفادها في الصدر هو الحكم الواقعيّ، والغاية تدلّ على الاستصحاب واستمرار هذا الحكم استمراراً ظاهريّاً إلى زمان العلم بالخلاف، لا استمراراً واقعيّاً؛ لأنّ الحكم الواقعيّ لا يمكن أن

ص: 96


1- راجع: درر الفوائد: 312 - 314.
2- كفاية الاُصول: 398.

يكون مغيّاً بالعلم بضدّه تابع لملاكه، والعلم بالخلاف لا يؤثّر فيها.وقد يقال: بأنّه لا يمكن أن تدلّ الجملة على الحكم الواقعيّ والاستصحاب معاً، بعدما عرفته من أنّ جعل الحكم الاستصحابيّ مرتبته متأخّرة عن مرتبة جعل الحكم الواقعيّ، فلابدّ أوّلاً من جعل الحكم الواقعيّ، ثمّ بعد ذلك يصار إلى جعل الحكم باستمرار هذا الحكم الواقعيّ ظاهراً إلى زمان العلم بالخلاف أو بالضدّ.

والجواب: أنّ ذلك ممكن بطريقة تعدّد الدالّ والمدلول؛ لأنّ إثبات الطهارة واقعاً يستفاد من المغيّى، وهو «كلّ شيء طاهر»، فإنّه متكفل لحكم الأشياء واقعاً، وأمّا الغاية، وهي: «حتى تعلم»، فإنّها ظاهرة في الاستصحاب، فهما مستفادان من الرواية بتعدّد الدالّ والمدلول، فلا تكون الجملة دالّة بدلالة واحدة على الحكم الواقعيّ والاستصحاب حتى يقال بعدم الإمكان.

وعليه: فيمكن للرواية - إذاً - أن تكون دالّةً على الحكم الواقعيّ والاستصحاب معاً.

وبعد أن ذكرنا أنّه لا يمكن أن يكون الحكم الواقعيّ مغيّى بالعلم بخلافه، فيكون الإبقاء والاستمرار ظاهريّاً، فيكون النتيجة هو قاعدة الطهارة أو الحلّ.

وبهذا تمّ الكلام في الأخبار العامّة التي ذكروها في مقام الاستدلال على اعتبار الاستصحاب.

ص: 97

وهناك روايات أُخر تدلّ على اعتباره في موارد خاصّة:كقوله(علیه السلام) في موثّقة ابن بكير: «إذا استيقنت أنّك أحدثت فتوضّأ، وإيّاك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنّك قد أحدثت»(1).

ودلالتها على الاستصحاب في المورد ظاهرة، ويفهم من قوله «إيّاك» عقيب الاستيقان بالوضوء لزوم الجري على طبق اليقين السابق بالطهارة، وعدم الاعتناء بالشكّ في انتقاضها ما لم يستيقن بالحدث.

ولكن لا يخفى: أنّها واردة في باب الوضوء، وغايته: إمكان تسريتها والتمسّك بها لإثبات الاستصحاب في الطهارات الثلاث. وأمّا إثبات قاعدةٍ كلّيّة بها، فلا. نعم، يمكن التعدّي بها إلى سائر الأبواب بضميمة عدم القول بالفصل.

وكذلك رواية عبد اﷲ بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اﷲ(علیه السلام) وأنا حاضر: إنّي أعير الذمّيّ ثوبي، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن اُصلّي فيه، فقال أبو عبد اﷲ(علیه السلام): صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرْته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه»(2).

ولا شكّ في ظهور هذه الرواية في الاستصحاب في نفس المورد،

ص: 98


1- الكافي 3: 33، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 3: 521، كتاب الطهارة، الباب 74 من أبواب النجاسات، ح 1.

ولكن لا يمكن - أيضاً - استفادة الكبرى الكلّيّةمنها؛ لأنّ ظاهرها أنّ الحكم بالطهارة مترتّب على كلٍّ من اليقين السابق والشكّ اللّاحق الفعليّ الحاصل بعد ردّ الثوب، ولو كان المقصود بيان قاعدة الطهارة لاقتصر(علیه السلام) في مقام الجواب بأن يقول - مثلاً - لأنّك شاكّ في نجاسته.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ جريان الاستصحاب يكفي فيه وجود اليقين السابق والشكّ اللّاحق، بلا فرق بين أن يكون المستصحب محرزاً باليقين الوجدانيّ أو التعبّديّ، كالأمارات، أو بالاُصول المحرزة، كالاستصحاب.

توضيحه: أنّ قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشكّ» الذي ورد في الأخبار بهذا المضمون أو بما يقرب منه من المضامين اُخذ فيه اليقين بالشيء في الزمان السابق موضوعاً للحكم ببقائه في ظرف الشكّ بما هو طريق محرز لمتعلّقه، وقد ثبت في محلّه قيام الأمارات والاُصول العمليّة المحرزة مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة.

فمعنى: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو حرمة نقض ما أُحرز ثبوته بالشكّ في بقائه، فلا فرق بين أن يحرز ثبوته بمحرز وجدانيٍّ، كالقطع، أو تعبّديٍّ، كالأمارات والاُصول المحرزة.

هذا كلّه لو لم نقل: بأنّ اليقين الذي اُخذ في موضوع الاستصحاب لم يؤخذ فيه من حيث إنّه صفة خاصّة كذائيّة، ولا من حيث كونه طريقاً ومرآةً لمتعلّقه، بل من حيث تنجيز متعلّقه. فحينئذٍ: فلا يكون هناك

ص: 99

فرق بين الاُصول المحرزة وغيرها في قيامها مقام القطع الذي اُخذ فيموضوع الاستصحاب لاشتراك الجميع في كونها تنجّز متعلّقاتها.

ولا يذهب عليك: أنّ أخذ اليقين في موضوع الحكم تارةً يكون على نحو الصفتيّة، وأُخرى على نحو الطريقيّة والكاشفيّة، كما هو كذلك في باب الاستصحاب، وحينئذٍ: فتكون أدلّة الأمارات حاكمة على الاستصحاب، ومعلوم أنّ الحكومة تارةً توجب الضييق وأُخرى توجب التوسعة، ولكنّها في المقام حكومة موسّعة.

ص: 100

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأوّل: في استصحاب الكلّيّ:

اشارة

المستصحب تارةً يكون جزئيّاً وأُخرى يكون كلّيّاً، والجزئيّ لا يفرّق في حجّيّته بين أن يكون حكماً تكليفيّاً كوجوب صلاة الجمعة إذا شكّ في بقائه في حال الحضور، أو وضعيّاً، كملكيّة مالٍ لزيد إذا شكّ في خروجه عن ملكه، أو موضوعاً، كحياة زيد إذا شكّ في بقائها.

وكذا الحال فيما لو كان المستصحب كلّيّاً، فإنّه لا يفرّق في حجّيّة استصحابه بين أن يكون حكماً كلّيّاً، كالطلب الراجحالمشترك بين الوجوب والندب، أو موضوعاً كلّيّاً، كالحدث الجامع بين الأكبر والأصغر، فمثلاً: في قوله تعالى: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾(1)، دلّت الآية الشريفة على أنّ ثبوت الحكم، وهو حرمة مسّ كتابة القرآن للمحدث مطلقاً، سواء كان محدثاً بالأكبر أم الأصغر، فلو علم بالحدث وشكّ في

ص: 101


1- الواقعة: الآية 79.

ارتفاعه، كما لو توضّأ فقط، جرى استصحاب الكلّيّ.

ثمّ إنّ المستصحب قد يكون شخصاً معيّناً، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه، كما لو كان زيد موجوداً، ثمّ غاب، وشككنا في وجوده، فلنا أن نستصحب بقاء وجوده.

وقد يكون المستصحب فرداً مردّداً، كما لو كان مردّداً بين الحدث الأكبر والأصغر، ولابدّ أن يكون المعلوم فيه عنواناً إجماليّاً، حيث كان مردّداً، فلا يكون معلوماً تفصيليّاً.

وقد يستشكل في جريان الاستصحاب في هذه الصورة، بأن يقال: إمّا هذا الكأس نجس أو ذلك، فلو غسل أحد الكأسين، أو انكبّ ماؤه، أو خرج عن محلّ الابتلاء، يقطع بعدم بقاء ذلك العنوان الإجماليّ، فما هو محتمل البقاء هو ذلك الفرض الواقعيّ المعلوم عند اﷲ عزّ وجلّ، وهو لم يكن معلوماً قبلاً، وما كان معلوماً كذلك فهو ذلك العنوان الإجماليّ، فهو غير محتمل البقاء، فلا يجري فيه الاستصحاب؛ لعدم تماميّة أركانه، أي: اليقين السابق والشكّ اللّاحق؛ فإنّ أمثال هذهالعناوين لم تؤخذ موضوعاً للأثر في لسان الأدلّة، وما هو موضوع للأثر، وهو الفرد المعيّن، فليس ممّا علم سابقاً.

وأمّا إذا كان المستصحب كلّيّاً، فله أقسام:

القسم الأوّل: أن يكون الشكّ في بقاء الكلّيّ ناشئاً من الشكّ في بقاء الفرد الذي تحقّق الكلّيّ في ضمنه، كما إذا علم بوجوب صلاة

ص: 102

الجمعة - مثلاً - وشكّ في ارتفاعه زمان الغيبة.

ولا ينبغي الشكّ في أنّه في هذا القسم يصحّ استصحاب الكلّيّ، كما يصحّ استصحاب الفرد، بعدما كان الشكّ في بقاء الكلّيّ وهو الطلب الجامع بين وجوب الجمعة وغيرها ناشئاً من الشكّ في بقاء فرده المعلوم حدوثه.

ولكن قد يستشكل في جريان الاستصحاب في هذا القسم بأنّ الكلّيّ عين الفرد وجوداً، إذ الوجود غير متعدّد، وكذا موضوع الأثر، حتى يقال: بأنّ الاستصحاب يجري في الفرد تارةً وفي الكلّيّ أُخرى، بل يمكن أن يقال: إنّ الاستصحاب الجاري في الفرد سببيّ، وفي الكلّيّ مسبّبيّ، والأصل السببيّ حاكم على الأصل المسبّبيّ.

ولكن سيأتي الجواب عن هذا الإشكال في القسم الثاني.

القسم الثاني: أن يكون الشكّ في بقائه ناشئاً من تردّد الفرد الذي وجد الكلّيّ في ضمنه بين معلوم البقاء وبين ما هو مرتفع قطعاً، كما إذا علمنا بدخول حيوان وبعد ساعات شككنا في أنّه هل كان فيلاً أو بقّاً، فإن كان هو الفيل، فهو باقٍ، وإن كان بقّاً، فلا.فصدور الحدث منه معلوم، غاية الأمر: أنّه مردّد بين الأصغر والأكبر، فإن كان هو الأصغر فقد ارتفع يقيناً، وإن كان هو الأكبر فهو باقٍ يقيناً، فيجوز - حينئذٍ - استصحاب بقاء الكلّيّ، كما بالنسبة إلى الآية المتقدّمة، أعني: قوله تعالى: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، فإنّ أركان الاستصحاب، من اليقين

ص: 103

السابق والشكّ اللّاحق تامّة فيه؛ إذ الكلّيّ يوجد بوجود الفرد، فالحدث الجامع بين الأصغر والأكبر يوجد بوجود أيّ واحدٍ من الأكبر أو الأصغر، وحيث فرضنا أحدهما باقياً قطعاً، فالكلّيّ - لا محالة - يكون باقياً قطعاً.

وحيث إنّ من المحتمل أن يكون وجوده في ضمن الفرد الزائل، فيزول بزواله يقيناً، ومن المحتمل أن يكون في ضمن الفرد الباقي، فهو باقٍ يقيناً، فتكون النتيجة هي وجود الشكّ في بقائه، فتتمّ أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللّاحق، فيجري الاستصحاب بلا محذور.

وقد اعترض على هذا الاستصحاب بإشكالاتٍ:

الإشكال الأوّل: بعد أن عرفنا أنّ نسبة الكلّيّ الطبيعيّ إلى أفراده إمّا هي نسبة الآباء إلى الأبناء، وإمّا هي نسبة أبٍ واحد إلى أبنائه المتعدّدين، وعلى الاحتمال الثاني، وإن أُورد عليه بأنّه كيف يمكن أن يكون شيء واحد موجوداً بكلّه في فرد وهو عين ذلك الفرد، ثمّ في الوقت عينه يكون موجوداً في فردٍ آخر بمعنى: أنّه عين ذلك الفرد الآخر، إلّا أنّ هذا الإيراد غير متّجه؛ لأنّ وحدة الكلّيّ ليست من قبيل الوحدة بالشخص، بل هي إمّا وحدة بالنوع أو بالجنس.وحيث كان الحقّ هو الأوّل، أعني: كون النسبة هي نسبة الآباء إلى الأبناء؛ لأنّ للكلّيّ وجوداتٍ متعدّدة بعدد وجودات أفراده، فيكون وجود طبيعيّ الحدث - مثلاً - في ضمن الحدث الأصغر غير وجوده في ضمن الأكبر، فلا يكون جريان الاستصحاب ممكناً؛ إذ لا علم بحدوث

ص: 104

الجامع، بعد أن كان الترديد بين وجودين متباينين، وبعد أن كان كلّ واحدٍ من هذين الوجودين في حدّ نفسه مشكوك الحدوث.

ولكن فيه: ما أشرنا إليه قريباً، من أنّ الكلّيّ الطبيعيّ بالنسبة إلى أفراده واحد بالنوع أو بالجنس، فكلّ واحد من أنواعه أو أفراده أو أصنافه المختلفة، وإن كان له وجود يباين وجودات سائر الأنواع أو الأفراد أو الأصناف، إلّا أنّ بين تلك الوجودات المتعدّدة وحدةً سنخيّةً واقعيّة نوعيّة أو جنسيّة لا يضرّ معها التعدّد.

والإشكال الثاني: ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الباقي، فيكون الأصل الجاري فيه سببيّاً وفي الفرد الباقي مسبّبيّاً، والأصل السببيّ حاكم على المسبّبيّ، فكما أنّه لو كان هناك ماءٌ مشكوك الكرّيّة مثلاً، وكانت يده مشكوكة الطهارة، مع كون حالتها السابقة هي النجاسة، فباستصحاب الكريّة نحكم بطهارة اليد، ولا تصل النوبة إلى استصحاب نجاسة اليد، فكذلك هنا، إذا ارتفع الشكّ في حدوث الفرد الباقي، فباستصحاب عدم حدوثه يعلم بعدم بقاء الكلّيّ تعبّداً، لما عرفناه من الحكومة.ولكن فيه: أوّلاً: أنّ كون المقام من صغريات جريان أصلين أحدهما سببيّ والآخر مسبّبيّ غير تامّ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ ليس مسبّباً عن حدوث الفرد الباقي، بل الشكّ في بقاء الكلّيّ وارتفاعه مسبّب عن أنّ الفرد الحادث المعلوم حدوثه هل هو الفرد الزائل حتى يكون الكلّيّ

ص: 105

معلوم الارتفاع، أو الفرد الباقي حتى يكون معلوم البقاء؟ فبما أنّ كلا الأمرين غير معلوم، فالبقاء والارتفاع في جانب الكلّيّ - أيضاً - غير معلومين، فيكون محتمل البقاء والارتفاع معاً، ولا أصل لتعيين أنّ الحادث المعلوم هو أيّ واحد منهما.

وثانياً: على الفرض التسليم، فالسببيّة والمسبّبيّة في المقام لا ضير فيهما؛ لأنّهما هنا عقليّان، وفي باب حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ، يجب أن يكون المسبّب من الآثار الشرعيّة لنفس السبب.

وثالثاً: ثمّ إنّه لو فرض للفرد الزائل - أيضاً - أثر شرعيّ، ولو بعد تلفه وزواله كما هو المفروض، فمع ذلك، لا يرد عليه أنّه لا مجال لاستصحاب الفرد الزائل بعد زواله وخروجه عن محلّ الابتلاء.

وقد أجاب المحقّق النائيني) عن هذا الإشكال أيضاً بما يرجع إلى دعوى تساقط الاُصول بالمعارضة قبل الخروج عن محلّ الابتلاء.

قال(قدس سرّه): «... فإنّه بمجرّد العلم بحدوث أحد الفردين، والشكّ فيما هو الحادث، تجري أصالة عدم حدوث كلٍّ منهما، وتسقط بالمعارضة؛ وخروج أحد الفردين عن موردالابتلاء بعد ذلك لا يوجب رجوع الأصل في الفرد الباقي»(1).

وفيه: أوّلاً: أنّه إنّما يتمّ على القول بإمكان جريان الاُصول في أطراف العلم الإجماليّ.

ص: 106


1- فوائد الاُصول 4: 418.

وثانياً: إنّما يتمّ - أيضاً - لو كان حصول العلم الإجماليّ قبل الخروج عن محلّ الابتلاء، وأمّا لو حصل بعد الخروج، فلا علم إجماليّ في البين أصلاً حتى تتعارض الاُصول في أطرافه ونحكم بتساقطها.

والإشكال الثالث - على جريان الاستصحاب -: أنّ استصحاب بقاء الكلّيّ معارض باستصحاب عدمه في ضمن الفرد الكبير، فهذا الاستصحاب التعبّديّ لو ضمّ إلى إحراز عدمه الوجدانيّ في ضمن الفرد الصغير، يحصل إحراز عدمه مطلقاً؛ لأنّه لو كان في ضمنه، فهو يقيناً قد ارتفع، فيقطع معه بعدم بقاء الكلّيّ، فلا مجال لاستصحابه.

ويدفعه: أنّ أصالة عدمه في ضمن الفرد الكبير معارض بأصالة عدمه في ضمن الفرد الصغير في حال حدوث أحدهما والعلم به، فيتساقطان، فيبقى المجال لاستصحاب بقاء الكلّيّ.الشبهة العبائيّة:

ثمّ إنّ ها هنا شبهة منقولة عن السيّد الصدر(قدس سرّه)(1) تسمّى بالشبهة العبائيّة،

ص: 107


1- هو المرحوم السيّد إسماعيل الصدر«؛ إذ ينقل عنه أنّه(قدس سرّه) كان قد زار النجف الأشرف أيّام الشيخ المحقّق الآخوند، فأثار في أوساطها العلميّة مسألةً تناقلوها، وصارت عندهم موضعاً للأخذ والردّ، وعرفت باسم (الشبهة العبائيّة)، قال المحقّق العراقي): «وهذه الشبهة ممّا أورده السيّد المحقّق السيّد إسماعيل الصدر(قدس سرّه) في بعض مجالسه في النجف الأشرف، وقد اشتهرت بالشبهة العبائيّة». انظر: نهاية الأفكار 4: 130.

وهي شبهة تستهدف جريان استصحاب الكلّيّ، وحاصل الشبهة: أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد جانبي عبائته من الأعلى أو الأسفل، فطهّر جانباً معيّناً، كجانب الأسفل - مثلاً -، فيصير بقاء النجاسة في العباءة مشكوكاً؛ لاحتمال أن تكون تلك النجاسة المعلومة بالعلم الإجماليّ في ذلك الطرف الذي طهّره، فأزالها وما بقيت.

فلو لاقى البدن الجانب الأعلى، فلا يمكن الحكم بنجاسته، لما هو معروف عندهم من أنّ ملاقاة أحد أطراف الشبهة المحصورة فقط لا يحكم بنجاسته. وبناءً على صحّة جريان الاستصحاب في هذا القسم من استصحاب الكلّيّ، يجري استصحاب نجاسة العباءة، ولازمه نجاسة ملاقي الجانبين المطهَّر ومشكوك النجاسة، دون ملاقي مشكوك النجاسة فقط.

ولازم ذلك: أنّ انضمام الظاهر إلى الجانب المشكوك طهارته، والذي لم يطهّره، يكون موجباً لنجاسة الملاقي، وهذا غريب، ومنشأ الغرابة فيه هو جريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلّيّ.

وبعبارة أُخرى: فإنّ بدن المصلّي لو لاقى كلا الطرفين، لابدّ أن نقول بنجاسته، وأمّا لو لاقى أحد طرفي الشبهة فقط،فيكون محكوماً بالطهارة، وفيما نحن فيه، حيث فرضنا بدن المصلّي لم يلاقِ إلّا أحد الطرفين فقط، فلابدّ أن نقول بطهارته؛ لأنّ أحد الطرفين صار طاهراً بعد غسله، فملاقاته له لا تؤثّر، فملاقاته للطرف الآخر لا يمكن أن توجب

ص: 108

الحكم بنجاسة الملاقي، وبطلان اللّازم يكشف عن بطلان الملزوم، وهو جريان استصحاب الكلّيّ من هذا القسم، فلابدّ من منع جريان هذا الاستصحاب.

وقد نسب إلى المحقّق النائيني(قدس سرّه) في دفع هذه الشبهة وجهان، أحدهما في أجود التقريرات، والآخر في الفوائد:

أمّا الأوّل: فحاصله: أنّ إثبات النجاسة الملاقي تترتّب على أمرين: «أحدهما: إحراز الملاقاة، وثانيهما: إحراز نجاسة الملاقى (بالفتح)، ومن المعلوم، أنّ استصحاب النجاسة الكلّيّة المردّدة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقّق ملاقاة النجاسة، الذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي، والمفروض أنّ أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة، والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة، فلا يحكم بنجاسة ملاقيهما»(1).

وأمّا الثاني: فحاصله: أيضاً أنّ المثال أجنبيّ بالمرّة عن استصحاب الكلّيّ، فإنّ «محلّ الكلام في استصحاب الكلّيّ إنّما هو فيما إذا كان نفس المتيقّن السابق بهويّته وحقيقته مردّداً بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء،كالأمثلة المتقدّمة [من دوران أمر الحيوان - مثلاً - بين الفيل والبق]، وأمّا إذا كان الإجمال والترديد في محلّ المتيقّن وموضوعه، لا في نفسه وهويّته، فهذا لا يكون من استصحاب الكلّيّ، بل يكون كاستصحاب

ص: 109


1- أجود التقريرات 2: 395.

الفرد المردّد الذي قد تقدّم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد فردي الترديد، فلو علم بوجود الحيوان الخاصّ في الدار، وتردّد بين أن يكون في الجانب الشرقيّ أو في الجانب الغربيّ، ثمّ انهدم الجانب الغربي، واحتمل أن يكون الحيوان تلف بانهدامه... فإنّ استصحاب بقاء المتيقّن لا يجري»(1)، بل هذا ليس من دوران الكلّيّ بين فردين، وإنّما هو من الترديد في مكان فرد معيّن بين مكانين، وهذا الترديد في محلّه ومكانه هو الذي يوجب الشكّ في بقائه؛ لأنّ هذا الترديد بين مكانين أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، وقد ثبت في محلّه عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردّد.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّه ليس من قبيل الفرد المردّد أيضاً؛ لأنّه يكون من قبيل دوران وجود الكلّيّ بين فردين من أفراده، كدوران وجود الإنسان بين زيد وعمرو، فالمقام نظير دوران فرد معيّن من الكلّيّ بين حالتين، كالصحّة والمرض، أو بين مكانين، ككونه في الطرف الشرقيّ من الدار أو الطرف الغربيّ منها.القسم الثالث: من أقسام الاستصحاب الكلّيّ، أن يكون منشأ الشكّ في بقاء الكلّيّ احتمال قيام فرد آخر من مصاديق الكلّيّ مقام الفرد الزائل، وهو على ثلاثة أقسام:

ص: 110


1- فوائد الاُصول 4: 421 - 422، بتصرّف وتلخيص يسيرين.

الأوّل: أن يكون وجود الفرد المشكوك الحدوث والذي يحتمل أن يقوم مقامه مقارناً له وموجوداً معه من أوّل الأمر.

الثاني: أن يكون حدوثه مقارناً لارتفاع وجود معلوم الحدوث وزمان انعدامه، كما إذا فرضنا وجود عمرو في حين ارتفاع وجود زيد، لا قبله.

الثالث: أن يكون مرتبة من مراتب الزائل، لا فرداً مبايناً معه، كاللّون القابض للبصر إذا وجد في ضمن السواد الشديد وزال قطعاً، وشكّ في أنّه هل زال بجميع مراتبه ولم يبقَ منها شيء، أم بقيت منها مرتبة ضعيفة، وهذا - أيضاً - يتصوّر على وجهين:

أوّلهما: أن يكون مرتبة مباينة لما ارتفع قطعاً عند العرف، وإن كانت - بالدقّة العقليّة - من مراتب الحقيقة الواحدة، كما إذا زال الاحمرار وبقي الاصفرار، فإنّهما يعدّان عند العرف متباينين.

والثاني: أن يعدّ عند العرف من مراتب وجود القسم الأوّل.

وفي الصورتين الأُوليين لا يجري الاستصحاب؛ لأنّه لابدّ في جريان الاستصحاب من وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، وهنا ليس كذلك، بل المتيقّن غير المشكوك؛ لأنّ المتيقّن عبارة عن وجود الكلّيّ في ضمن فرد، والمشكوك عبارة عن وجوده في ضمن فرد آخر، بلا فرق بين أن يوجدمقارناً لوجود الفرد الذي وجد الكلّيّ في ضمنه، أو وجد في نفس زمان ارتفاعه؛ لاشتراكهما في أنّ المشكوك وجود الكلّيّ في ضمن فردٍ آخر غير الوجود المتيقّن في ضمنه الكلّيّ.

ص: 111

إن قلت: ما الفرق بين هاتين الصورتين من القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ وبين القسم الثاني؟ حيث قلنا هناك إنّ الوحدة السنخيّة محفوظة، سواء كان الحادث هو الفرد الطويل أم كان هو الفرد القصير في القضيّة المتيقّنة، بمعنى: أنّ الحادث أيّ واحد منهما كان يكون الكلّيّ موجوداً فيه.

قلت: وحيث يحتمل أن يكون الحادث هو الفرد الطويل الباقي، فيحتمل أن يكون الكلّيّ، وهو عين ما تيقّنت به، موجوداً. نعم، يحتمل وجوداً آخر حدث للكلّيّ، ولكن مع ذلك، فاليقين بوجود الكلّيّ حاصل بالضرورة.

وأمّا في هاتين الصورتين، فإنّ المتيقّن هو الوجود المحدود بحدّ الزيديّة - مثلاً -، والمشكوك إنّما هو الوجود المحدود بحدّ العَمريّة - مثلاً -، وهما متباينان؛ لأنّ الكلّيّ إذا كان في ضمن فرد ثمّ ارتفع ذلك الفرد، وكان هناك فرد آخر من أفراد الكلّيّ وقد وجد معه أو مقارناً لارتفاعه، فإنّ وجود الكلّيّ في ضمن ذلك الفرد الأوّل المقارن معه وجوداً، أو حين ارتفاعه، لا يكون عين وجود الكلّيّ بوجوده الأوّليّ.

وأمّا القسم الثالث، ففي صورته الاُولى، وهي ما إذا كان محتمل البقاء مبايناً مع الزائل، فلا يجري الاستصحاب؛ لأنّالقضيّة المتيقّنة ليست عين المشكوكة؛ فإنّ العرف يراهما متباينين، وإن كانت الوحدة محرزة بحسب الدقّة العقليّة؛ لأنّ المناط في تشخيص الوحدة على العرف، لا

ص: 112

العقل.

وفي صورته الثانية، أي: فيما لو كان العرف يعدّ تلك المرتبة واحدةً من مراتب وجود المستصحب، فلا مانع من جريان الاستصحاب - حينئذٍ -؛ لكفاية الوحدة العرفيّة.

تذييل وتعقيب:

لا يخفى: أنّ الحيوان تارةً يكون الشكّ فيه من جهة قابليّته للتذكية، وأُخرى لا يكون من جهة قابليّته لها.

وقد أورد الفاضل التوني(قدس سرّه)(1) على المشهور في حكمهم بالحرمة والنجاسة في الحيوان المشكوك وقوع التذكية فيه من غير جهة الشكّ في قابليّته لها بأصالة عدم التذكية، بأنّه يمتنع جريان أصالة عدم التذكية، وذلك لوجهين:

ص: 113


1- الوافية: 210، وإليك نصّ كلامه): «والسرّ فيه أنّ عدم المذبوحيّة لازم لأمرين: الحياة، والموت حتف أنفه، والموجب للنجاسة ليس هذا اللّازم من حيث هو هو، بل ملزومه الثاني، أعني: الموت، فعدم المذبوحيّة لازم أعمّ لموجب النجاسة، فعدم المذبوحيّة العارض للحياة مغاير لعدم المذبوحيّة العارض للموت حتف أنفه، والمعلوم ثبوته في الزمان الأوّل هو الأوّل، لا الثاني، وظاهرٌ: أنّه غير باقٍ في الوقت الثاني. ففي الحقيقة: تخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب؛ إذ شرطه بقاء الموضوع، وعدمه هنا معلوم. وليس مَثَل المتمسّك بهذا الاستصحاب إلّا مَثَل من تمسّك على وجود عمروٍ في الدار في الوقت الثاني باستصحاب بقاء الضاحك المتحقّق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل، وفساده غنيّ عن البيان».

الوجه الأوّل: أنّ موضوع هذين الحكمين، أعني: الحرمة والنجاسة، في لسان الأدلّة هي الميتة، وهي عبارة عن الموت حتف الأنف، فهي ضدّ التذكية. وإثبات أحد الضدّين باستصحاب عدم الضدّ الآخر يكون من الأصل المثبت.وفيه: أنّ الميتة ليست عبارة عن الموت حتف الأنف، بل عبارة عن غير المذكّى، وإن أبيت إلّا عن كونها الموت حتف الأنف، فهي تشمل مطلق غير المذكّى حكماً، أي: ولو فرض أنّه لم يمت حتف أنفه، بل ذُبح على غير الوجه الشرعيّ، أي: فيكون حراماً ونجساً هو أيضاً، فاستصحاب عدم كونه من المذكّى يكفي لإثبات هذين الحكمين له، ولا نحتاج في ذلك إلى إثبات صدق عنوان الميتة عليه.

فقوله تبارك وتعالى: ﴿إِلاَّ مَا ذكَّ--يْتُمْ﴾(1)، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا حلّيّة إلّا في مورد المذكّى، فالحرمة ليست مرتّبة على أمر وجوديّ، وهو عنوان الميتة فقط، بل موضوعه مطلق غير المذكّى شرعاً، فلو حصل له العلم بأنّه قد ذبح على الوجه غير الشرعيّ، يحصل له العلم بالنجاسة والحرمة، مع أنّه لم يعلم بموته حتف أنفه.

ولكنّ الحقّ: أنّه لو حصل له العلم بكونه مذبوحاً على غير الوجه الشرعيّ، فغاية ما يحصل له العلم به - حينئذٍ - هو الحرمة فقط، لا الحرمة والنجاسة.

ص: 114


1- المائدة: الآية: 3.

والوجه الثاني: أنّ موضوع الحكمين المذكورين، وإن كان عبارة عن عدم التذكية، لكنّ المراد منه هو عدم التذكية في حال زهوق الروح، وإلّا، يلزم أن يكون الحيوان المأكول في حال حياته نجساً لعدم كونه مذكّىً في تلك الحال قطعاً.فإذا كان الأمر كذلك، فليس لما هو الموضوع للحكم حالة سابقة؛ لأنّ عدم التذكية المقيّد بكونه في حال زهوق الروح يستحيل أن يتحقّق حال حياته.

فإن قلت: يكفي عدم التذكية الجامع بين كونه حال الحياة وبين كونه حال زهوق الروح، فإنّ له فردين، فاستصحاب ذلك الجامع بواسطة احتمال وجود الفرد الآخر منه بعد انعدام الفرد الأوّل.

قلنا: في هذا الاستصحاب إشكال من وجهين، إذ:

أوّلاً: أنّ الأثر إنّما يكون للفرد المحتمل الوجود بعد انعدام الفرد الأوّل، وإلّا، فالجامع نفس لا أثر له، واستصحاب الجامع والكلّيّ لترتيب ما للفرد من أثر يكون من الاُصول المثبتة، فلو سلّمنا بصحّة جريانه، لو كان له أثر، ولكن يمتنع جريانه لما ذكرناه هنا.

وثانياً: هذا الاستصحاب من القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ والذي قلنا بعدم صحّته وعدم جريانه.

وقد أجاب اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) عن ذلك بأنّ «موضوع الحرمة والنجاسة، وإن كان هو عدم التذكية في حال زهوق الروح، فيكون الموضوع مركّباً

ص: 115

من جزأين: أحدهما: عدم التذكية، والآخر: زهوق الروح، ولكن لا بنحوٍ يكون الأخير - أي: زهوق الروح - من نعوت الأوّل - أي: عدم التذكية - ومن حالاته ومشخّصاته حتى يكون لعدم التذكية فردان، ويكون أحدهما موضوعاً للأثر دون الفرد الآخر، كما قُرّر في الإشكال، بل هما مجتمعان موضوعان للأثر، بدون أنيكون لوصف الاجتماع - أيضاً - تأثير في الموضوعيّة، ومن البديهيّ: أنّ الموضوع المركّب يمكن إحراز أحد جزأيه بالأصل، والآخر بالوجدان، كما في محلّ الكلام»(1).

وقد ادّعى المحقّق النائيني(قدس سرّه) في المقام أنّ الموضوع المركّب إذا كان من قبيل العرض والمحلّ، فالعرض بما هو نعت لمحلّه وبنحو مفاد كان الناقصة يكون دخيلاً في الموضوع، فاستصحاب الوجود المحموليّ لذلك العرض، أو عدمه المحموليّ، لا يثبت ما هو دخيل في الموضوع، إلّا على القول بصحّة الأصل المثبت، فكما أنّ استصحاب عدم القرشيّة - مثلاً - لا يُثبت الموضوع، فكذلك استصحاب عدم التذكية لا يُثبت صدق عنوان الميتة.

وفي ذلك يقول(قدس سرّه):

«أنّ الموضوع المركّب من عرضين لمحلٍّ واحد، أو من جوهرين، أو من جوهر وعرض لمحلٍّ آخر، كوجود زيد وقيام عمرو، لا يعتبر فيه

ص: 116


1- منتهى الاُصول 2: 451 - 452.

أزيد من الاجتماع في الزمان، إلّا إذا استفيد من الدليل كون الإضافة الحاصلة من اجتماعهما لها دخل في الحكم، كعنوان الحاليّة والتقارن والسبق واللّحوق ونحو ذلك من الإضافات الحاصلة من وجود الشيئين في الزمان.

ولكنّ هذا يحتاج إلى قيام الدليل عليه، وإلّا، فالموضوع المركّب من جزأين لا رابط بينهما إلّا الوجود في الزمان لايقتضي أزيد من اجتماعهما في الزمان، بخلاف ما إذا كان التركيب من العرض ومحلّه، كقيام زيد وقرشيّة المرأة ونحو ذلك من الموضوعات المركّبة من العرض ومحلّه، فإنّه لا يكفي فيه مجرّد اجتماع العرض والمحلّ في الزمان ما لم يَثبت قيام الوصف بالمحلّ»(1).

التنبيه الثاني: استصحاب الاُمور التدريجيّة غير القارّة:

اشارة

هل يجوز جريان الاستصحاب في التدريجيّات مع أنّها غير قارّة بالذات؟ وقبل الخوض في تفاصيل المطلب، لابدّ أوّلاً من تعريف الاُمور التدريجيّة وبيان ما هو المقصود منها.

لا يخفى: أنّ الاُمور التدريجيّة هي ما لا تجتمع أجزاؤها بعضها مع البعض في الوجود زماناً، بل لا يكاد يوجد جزء منها إلّا بعد انعدام

ص: 117


1- فوائد الاُصول 4: 434.

الجزء الذي قبله، كنفس الزمان، فإنّه إذا كان حصول ساعات الزمان على نحو التدريج، بحيث كان وجود كلّ ساعة من الزمان - وكذا كلّ مقطعٍ من مقاطع الزمان، سواء كان ساعةً أو يوماً أو شهراً أو عاماً أو غير ذلك - متوقّفاً على انعدام سابقتها، فكذلك - لا محالة - يكون الزمانيّ، كجريان الماء والتكلّم وأمثال ذلك، وتسمّى ﺑ (التدريجيّات) أو (الاُمور التدريجيّة)، وفي قبالها: ما يعرف ﺑ(الاُمور القارّة)، وهي التي تجتمع أجزاؤها بعضها مع بعض في الوجود زماناً.

وإن شئت قلت: إنّ التدريجيّات هي التي لا يكون لأجزائها تحقّق دفعيّ في آنٍ واحد، بل وجودها تدريجيّ الحصول، بحيث لا يوجد جزء منها إلّا بعد انعدام الجزء السابق عليه، من غير فرق بين أن تكون جوهراً، كزيد وعمرو وغيرهما من أفراد نوع الإنسان، أو عرضاً، كالعلم والعدالة والسواد والبياض ونحوها.

وحيث قد عرفنا أنّ التدريجيّات تشمل الزمان والزمانيّ، فلابدّ من البحث في جريان الاستصحاب في كلٍّ منهما أو عدم جريانه.

أمّا استصحاب نفس الزمان:

فقد يقال: بعدم جريانه؛ لأنّ الموضوع لا يكون واحداً في الحالتين، أعني: حالة اليقين وحالة الشكّ، بل هناك موضوعات متعدّدة بتعدّد أجزاء الزمان ومقاطعه، فلا يكون الشكّ شكّاً بالبقاء؛ لأنّ الجزء الأوّل قد انعدم قطعاً، ولا شكّ في بقائه حتى يجري فيه الاستصحاب، والجزء

ص: 118

الثاني مشكوك الحدوث، والأصل عدمه، لما عرفناه من أنّ وجود كلّ جزء من أجزاء التدريجيّات يكون وجوداً مستقلّ.

ومعه: فلا سبيل إلى اتّحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة؛ إذ لا حقيقة للموجود التدريجيّ إلّا أنّه عبارة عن وجودات وانعدامات متعدّدة ومتتالية، ويجب فيه أن يفرض عدم اجتماع أجزائه في الوجود، فذاته متقوّمة بالأخذ والترك، أي:بوجود جزء وانعدامه ثمّ وجود جزء آخر، وهكذا.. فاليقين قد تعلّق بجزء خاصّ، ولكنّه انعدم، والشكّ قد تعلّق بجزء آخر، فلا مجال لجريان الاستصحاب.

ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن جريان الاستصحاب فيه؛ لأنّ الزمان عبارة عن العناوين التي هي أسماء لقطعات من الزمان، كاليوم واللّيل والاُسبوع والشهر والسنة، وأركان الاستصحاب، من اليقين بوجودها والشكّ في بقائها موجود عرفاً وحقيقةً.

وذلك لانطباق هذه العناوين على قطعة من الزمان توجد بوجود الجزء الأوّل منه حقيقةً وتنعدم بوجود جزء آخر؛ لأنّ معنى التدريجيّة في الوجود كما عرفنا، هي أن يكون الشيء ممّا يوجد شيئاً فشيئاً، ولا يمكن أن يوجد دفعةً واحدة، وإلّا ، لزم الخلف، بل التسلسل، وأن يكون قارّاً، لا غير قارّ، وبما أنّ العدم مقوّم له - حيث إنّه مركّب من الوجود والعدم - فلا يمكن أن يكون رافعاً له، فحينما يتحرّك شخص من داره إلى المسجد - مثلاً -، فإنّ نفس حركته متقوّمة بالوجود والعدم

ص: 119

- وعدم الحركة كالتوقّف في الطريق مثلاً -، فيكون العدم دخيلاً في صميم الحركة، فلا يعقل أن يكون رافعاً لها.

والحاصل: أنّ الموضوع موجود حتى في الحقيقة وبحسب الدقّة العقليّة، فإذا كان هذا الموضوع ممّا يترتّب عليه الحكم الشرعيّ، وشككنا في بقائه، كاليوم من شهر رمضان، فيمكن استصحابه، لتكون النتيجة هي وجوب الإمساك.وإلى هذا ذهب اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه)، ثمّ قال:

«وإن أبيتَ إلّا عن عدم صدق البقاء في الموجودات غير القارّة بالدقّة العقليّة، فمن الواضح المعلوم أنّ في نظر العرف وجود هذه القطعات بوجود أوّل جزء منها، وبعد ذلك يحكمون ببقائها إلى وجود آخر جزءٍ منها وانتهائها، وسيأتي أنّ وحدة القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة، التي لا بدّ منها في جريان الاستصحاب وفي صدق نقض اليقين بالشك، تكون بنظر العرف، لا بالدقّة العقليّة»(1)، أي: فيكون جريان الاستصحاب في الاُمور غير القارّة كجريانه في الاُمور القارّة؛ وذلك لتماميّة أركانه.

وقد يستشكل فيه: بأنّ استصحاب النهار - مثلاً - لا يُثبت أكثر من وجود النهار، كما إذا فرضنا أنّ متعلّق الحكم قد أُخذ فيه الوقوع في

ص: 120


1- منتهى الاُصول 2: 453 - 454.

النهار، كالإمساك في باب الصوم، فإنّه يعتبر فيه أن يكون في النهار، فمع الشكّ في بقاء النهار، لا يجدي استصحاب النهار في إثبات وقوع الإمساك في النهار، فلو فرض أنّ وجود النهار كان موضوعاً للحكم من دون أن يتقيّد به متعلّقه، كان استصحاب النهار - حينئذٍ - مجدياً في إثبات الحكم.

ولكنّ الحقّ: أنّه بعد إثبات وجود النهار بالاستصحاب يثبت عليه الحكم بوجوب الصوم، فيجب عليه الإمساك رجاءً، وإن لم يحرز كون الزمان نهاراً، فإن كان الزمان نهاراً، فهو قدامتثل، وإلّا، فلا يضرّه شيء، فلا يكون الاستصحاب عديم الفائدة.

وبعبارة أُخرى: فإنّه يكفي استصحاب وجود النهار في شغل الذمّة والعقاب المحتمل؛ لاحتمال وجود الحكم بعد احتمال وجود النهار.

أو يمكن أن يقال: بأنّ استصحاب نهاريّة النهار كما يمكن استصحاب بقاء النهار بفرض الوحدة العرفيّة بين الأجزاء المتدرّجة في الوجود، فكذلك يمكن استصحاب نهاريّة الموجود، فإنّها من الأوصاف التدريجيّة كذات الموصوف بها، وتكون حادثة بحدوث الآنات وباقيةً ببقائها، فإذا اتّصف بعض هذه الآنات بالنهاريّة - مثلاً -، وشكّ في اتّصاف الزمان الحاضر بها، يجري الاستصحاب لإثبات بقاء النهاريّة الثابتة في الزمان السابق لغرض وحدة الموصوف، فيكون الشكّ شكّاً في بقاء النهاريّة.

ص: 121

وهذا الوجه هو من إفادات المحقّق العراقيّ(قدس سرّه)، حيث قال:

«إنّ ذوات الآنات المتعاقبة كما تكون تدريجيّةً، كذلك وصف الليليّة والنهاريّة الثابتة لها - أيضاً - تدريجيّة، تكون حادثة بحدوث الآنات وباقيةً ببقائها، فإذا اتّصف بعض هذه الآنات باللّيليّة أو النهاريّة، وشكّ في اتّصاف الزمان الحاضر باللّيليّة أو النهاريّة، فكما يجري الاستصحاب في نفس الزمان، ويدفع شبهة الحدوث فيما كان اسماً لمجموعما بين الحدّين، كذلك يجري الاستصحاب في وصف اللّيليّة أو النهاريّة الثابتة للزمان...»، إلى آخر ما أفاده«(1).

ولكن فيه: أنّ ما ذكره(قدس سرّه) إنّما يتمّ لو كان وصف النهاريّة أمراً آخر وراء ذوات الآنات، وأمّا لو لم يكن كذلك، فلا معنى لجريان الاستصحاب.

هذا كلّه في استصحاب نفس الزمان.

والكلام الآن في الزمانيّات غير القارّة، كالحركة والتكلّم (إلّا أن يقال بأنّ التكلّم من الاُمور القارّة كما كشف عنه العلم الحديث من ثبوت الأصوات) ممّا كان من الحوادث التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، وفي الزمانيّات القارّة المقيّدة بالزمان، كالوقوف بالمشعر أو عرفات مقيّداً بكونه في زمان كذا، أي: من زوال يوم عرفة إلى الغروب

ص: 122


1- انظر: نهاية الأفكار 4: 148 - 149.

في عرفات، وبين طلوع الفجر وطلوع الشمس من يوم العيد في المشعر - مثلاً -.

أمّا الزمانيّات غير القارّة، فحالها حال الزمان نفسه، والإشكال الذي كان وارداً هناك، من عدم إحراز الشكّ بالبقاء جارٍ هنا بعينه، والجواب هو الجواب. فيقال - مثلاً -: الحيض الذي أقلّه ثلاثة وأكثره عشرة أيّام، يوجد بوجود الجزء الأوّل، ويبقى بقاءً حقيقيّاً إلى آخر جزء منه، فيمكن فيه جريان الاستصحاب.لا يقال: لا يمكن تصوّر البقاء الحقيقيّ هنا؛ لأنّه ما لم ينعدم جزء لا يوجد الجزء الآخر، وليس معنى بقاء الشيء إلّا وجود الشيء بتمامه وكماله في الآن الذي قبل ذلك الآن، ومثل هذا غير معقول في الاُمور غير القارّة.

فإنّه يقال: يكفي في ذلك البقاء العرفيّ، فإنّه هو المدار كما أسلفنا.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الشكّ في بقاء الاُمور التدريجيّة:

قد يكون من جهة الشكّ في وجود الرافع، كما إذا احتمل حدوث مانع ما من استمرار إلقاء خطابته بعدما أحرز قابليّة زمان الخطابة للاستمرار إلى زمان كذا، وشكّ قبل انتهاء الساعة في انقطاعها لمانع خارجيّ منعه من التكلّم والمقتضي عن دوام تأثيره فإنّه لا ينبغي الشكّ في جريان الاستصحاب في هذا القسم؛ لتماميّة أركانه.

وقد يكون من جهة الشكّ في استعداده للبقاء، وهو على قسمين: إذ

ص: 123

قد يكون منشأ الشكّ الجهل بالكميّة والمقدار، وقد يكون منشؤه احتمال أن يكون مقدار زائد على المقدار المعلوم:

فالأوّل: كما إذا كان الشكّ في جريان الماء أو سيلان الدم من جهة الشكّ في بقاء شيء من الماء في المنبع أو الدم في الرحم غير ما قد سال وجرى من كلٍّ منهما، وكذا في مثال الخطابة إذا كان الشكّ من جهة الشكّ في أنّ الخطيب هل كان له استعداد التكلّم والقراءة ساعةً أو أقلّ، وكذا في سائر أمثلة الاُمور التدريجيّة.والثاني: كما إذا كان شكّه في جريان الماء في المنبع من جهة احتمال أن يكون المقدار زائداً على المقدار المعلوم أوّلاً، واحتمل ورود مقدار آخر مقارناً لجريان هذا المقدار من المطر أو غيره فيه، وهذا ملحق بالشكّ في المقتضي؛ لأنّه ليس من قبيل الشكّ في المقتضي الاصطلاحيّ، وهو العلم بمقدار استعداد الماء للجريان في مدّة معيّنة، وكذلك فهو خارج عن الشكّ في الرافع.

وفي القسم الأوّل، لا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الذي يجري فيه الاستصحاب إنّما هو الشكّ في البقاء، دون الشكّ في الحدوث، كما في المقام؛ لأنّ الشكّ هنا إنّما هو في جريان جزء آخر من الماء والدم والتكلّم غير ما وجد قبل ذلك وانعدم قطعاً، فالشكّ - حينئذٍ - تعلّق بالحدوث، لا بالبقاء، ومعلوم أنّ الشكّ المعتبر في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء، دون الحدوث، فيشكل فيه جريان الاستصحاب.

ص: 124

وأمّا الثاني، فالاستصحاب فيه جارٍ، بعدما كان الجريان أمراً واحداً شخصيّاً، سواء كان عن المادّة المعلومة أوّلاً أم عن المادّة التي يحتمل زيادتها.

وبعبارة أُخرى: فإن قلنا بأنّ التكلّم أو السيلان يتبدّل من فرد إلى فرد، أو من شخص إلى شخص آخر، باختلاف الدواعي والأغراض، فهو يكون من القسم الأوّل من القسم الثالث من الاستصحاب، وأمّا لو فرض أنّ اختلاف الدواعي لا يضرّ أصلاً بالوحدة الشخصيّة، بمعنى: أنّ حدوث هذا الشخص بسبب داعٍ، وبقاءه بسببٍ آخر، فالعرف يرى بقاء ذلكالشخص، لا انعدامه وحدوث شخص آخر، وإن كان بالدقّة العقليّة كذلك، وحينئذٍ: فلا مانع من جريانه.

بل يمكن أن يقال - أيضاً -: هو من قبيل استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، وذلك بأن يكون ما هو مقطوع بارتفاعه مرتبة منه، مع احتمال بقاء مرتبة ضعيفة أو قويّة مقامه، ومع كون العرف يساعد على ذلك، حيث إنّه - كما تقدّم - يرى وحدة القضيّة المشكوكة والمتيقّنة، فلا يكون هناك مانع من جريان الاستصحاب.

وأمّا الاُمور القارّة المقيّدة بالزمان، كوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال، فنقول: تارةً: يكون الزمان ظرفاً للحكم، وأُخرى: يكون قيداً له.

أمّا في الصورة الاُولى، فلا يكون مانعاً من جريان استصحاب

ص: 125

الوجوب فيما بعد الزوال؛ لأنّ الجلوس - الذي هو الموضوع - لم يكن مقيّداً بشيء، بل كان مرسلاً، وكان مقطوع الوجوب، وإذا شكّ بعد الزوال في بقاء الوجوب يجري الاستصحاب.

وأمّا لو كان الزمان قيداً للحكم أو الموضوع، فلا يجري؛ لأنّ الجلوس بعد الزوال موضوع آخر غير الجلوس قبل الزوال، فيما إذا كان الجلوس مقيّداً بالزمان، كما هو مفروض.

ثمّ إنّه قد حكى الشيخ الأعظم(قدس سرّه)(1) عن الشيخ النراقي)، القول بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدمالأزليّ في محلّ الكلام، أي: فيما إذا كان الحكم الشرعيّ مقيّداً بالزمان، كما إذا ورد الدليل على وجوب الجلوس من يوم الجمعة من شهر كذا - مثلاً - إلى الزوال، ثمّ حصل الشكّ في بقاء ذلك الوجوب بعد الزوال.

فقال: إنّ استصحاب وجوب الجلوس فيما بعد الزوال معارض باستصحاب عدم وجوبه أزلاً في تحقّق تلك القطعة، فيكون واجباً باعتبار استصحاب الوجوديّ، ولكنّه غير واجب باعتبار استصحاب العدميّ، وقد ذكر لذلك أمثلة:

منها: إذا حصل الشكّ في بقاء وجوب الإمساك في اليوم الذي وجب فيه الصيام؛ لعروض مرض.

ص: 126


1- راجع: فرائد الاُصول 3: 208 - 210.

ومنها: ما إذا شكّ بعد خروج المذيّ في بقاء الطهارة الحدثيّة.

ومنها: إذا شكّ في بقاء النجاسة الخبثيّة بعد الغسل مرّة واحدة.

فهو) يقول في جميع هذه الموارد وأمثالها بتعارض استصحاب الوجوديّ مع استصحاب العدم الأزليّ.

ولكن قد تنظّر فيه المحقّق النائيني(قدس سرّه) بأنّ «الظاهر عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ مطلقاً، وإن أُخذ الزمان قيداً للحكم أو الموضوع؛ لأنّ العدم الأزليّ هو العدم المطلق الذي يكون كلّ حادث مسبوقاً به، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كلّ حادث إنّما يكون بحدوث الحادث وشاغليّته لصفحة الوجود، فلو ارتفع الحادث بعد حدوثه وانعدم بعد وجوده،فهذا العدم غير العدم الأزليّ، بل هو عدم آخر بعد وجود الشيء...»(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ العدم الأزليّ والمطلق والذي هو نقيض وجود كلّ شيء ينقض بوجود ذلك الشيء؛ لأنّ وجود كلّ شيء رفعه، فبوجود كلّ شيء، الذي هو نقيض العدم المطلق، يرتفع ذلك العدم المطلق، الذي هو عبارة أُخرى عن العدم الأزليّ، وإلّا، يلزم اجتماع النقيضين، فإذا كان العدم الأزليّ مقطوع الارتفاع فكيف يستصحب؟(قدس سرّه)

ص: 127


1- فوائد الاُصول 4: 445.

التنبيه الثالث: في الاستصحاب التعليقيّ والتنجيزيّ:

اشارة

ولابدّ قبل الشروع في بيان حكم هذا الاستصحاب صحّة أو عدماً من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:

في أنّه ما هو الفرق بين الاستصحابين: التنجيزيّ والتعليقيّ.

أمّا الاستصحاب التنجيزيّ، فالمراد به الاستصحاب في مورد ما لو كان للأمر المشكوك بقاءً وجود فعليّ تنجيزيّ في السابق يشكّ في أنّه باقٍ أم أنّه قد زال، كالماء - مثلاً - إذا تغيّر بالنجاسة، وزال تغيّره من قبل نفسه، وشكّ في بقاء نجاسته بعد الزوال.وأمّا الاستصحاب التعليقيّ، فهو ما لو كان للأمر المشكوك في بقائه وجود تقديريّ، وليس له وجوب فعليّ، كحرمة العنب على تقدير غليانه إذا شكّ فيها - أي: الحرمة - بعد تبدّله إلى زبيب.

وبعبارة أُخرى: فالاستصحاب التعليقيّ هو أن يتبدّل جزء من الموضوع بجزء آخر، فإنّ الحرمة في العصير العنبيّ موضوعها مركّب من العنب والغليان، المعبّر عنه بمثل قولك: العصير العنبيّ إذا غلى يحرم.

وأمّا لو فرض تغيّر جزء الموضوع، كما لو يبس العنب وأصبح زبيباً قبل الغليان، فهذا هو مورد الاستصحاب التعليقيّ، فهل يجري استصحاب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان، ويترتّب

ص: 128

عليه نجاسة الزبيب عند غليانه، إذا فُرض أنّ وصف الزبيبيّة والعنبيّة من حالات الموضوع لا أركانه.

والحاصل: أنّ الاستصحاب التعليقيّ هو استصحاب الحكم الثابت على الموضوع بشرط بعض ما يلحقه من التقادير، وبعد وجود المشروط وتبدّل بعض حالاته قبل وجود الشرط، كما مثّلنا باستصحاب بقاء الحرمة للعنب عند صيرورته زبيباً قبل فرض غليانه.

الأمر الثاني:

أنّه يشترط في الاستصحاب الوجوديّ أن يكون المستصحب شاغلاً لصفحة الوجود في أيّ وعاء كان، سواء كان وعاء العين والخارج أم وعاء الاعتبار، وأمّا التعبّد ببقاء شيء لاوجود له فغير معقول كما هو ظاهر. كما أنّه يعتبر في الاستصحاب - أيضاً - أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً ذا حكم شرعيّ؛ ضرورة أنّه لا معنى للتعبّد بالموضوعات التي لا يترتّب على بقائها أثر وحكم شرعيّ.

الأمر الثالث:

الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام يُفهم من نفس الدليل أو من الخارج أنّها لها دخل في موضوع الحكم، وأنّها تمام الموضوع، بحيث يدور الحكم مدار بقائها، كما إذا ترتّب الحكم بالإباحة والطهارة على العلم بعنوان الحنطة، فإنّ هذا الحكم لا يبقى بتحوّل الحنطة إلى دقيق، ولو كانت حقيقتهما شيء واحد.

ص: 129

وبعبارة ثانية: فإنّ الحكم تارةً: يدور مدار الأسماء والعناوين، كما إذا استفدنا من نفس الدليل، أو من خارج، أنّ لها دخلاً في موضوع الحكم بحيث يكون الحكم دائراً مدار بقاء هذا العنوان، فحينئذٍ: يرتفع الحكم بارتفاعه، ولو مع بقاء الحقيقة، كما إذا فرضنا أنّ لبقاء عنوان الحنطة دخلاً في الحكم بالإباحة والطهارة، فيرتفع الحكم بهما إذا أصبحت الحنطة دقيقاً أو خبزاً.

وأُخرى: يستفاد من دليل الحكم أو من خارج عدم دخل الوصف العنوانيّ في موضوع الحكم، بل يكون الحكم مترتّباً على نفس الحقيقة والذات المحفوظة في جميع التغيّرات والتقلّبات والواردة على الحقيقة، والتي توجب تبدّل ما كانلها من العنوان والاسم إلى عنوان واسمٍ آخر مع انحفاظ الحقيقة وبقائها.

ففي هذه الصورة، يقال: بأنّ الحكم لا يدور مدار الاسم، بخلاف الصورة الاُولى، حيث كان الحكم فيها مترتّباً على العنوان فقط، فإذا زال العنوان، فلا يجوز ترتّب بقاء الحكم مع زوال الوصف العنوانيّ.

وأمّا في صورة كون الحكم وارداً ومترتّباً على الذات نفسها، فالموضوع باقٍ، ولو بعد زوال الوصف العنوانيّ، فيجب ترتّب بقاء الحكم، مهما كان الذي جرى من التغيّرات والتبدّلات.

هذا في صورة ما إذا علم بدخول الوصف العنوانيّ في الحكم أو بعدم دخوله.

ص: 130

وأمّا اذا جهل ذلك ولم يعلم من نفس الدليل أو من خارج بمدخليّة الوصف والعنوان في ترتّب الحكم عليه ولا بعدمه، بل يشكّ في ذلك، فهذا يتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن تكون الحالات الواردة على الحقيقة متباينة بنظر العرف، بحيث تكون الذات الواجدة لعنوان خاصّ مباينةً للذات الفاقدة له، وكان الوصف العنوانيّ بنظر العرف مقوّماً للحقيقة والذات، فإذا ارتفع العنوان عن الذات فيكون موجباً - عندهم - لانعدام حقيقة هذه الذات، وحينئذٍ: فلابدّ من الاقتصار على نفس العنوان الذي أُخذ عنواناً للموضوع والذي جُعل الحكم دائراً مداره، ولا يجوز التعدّي عنه؛ لأنّ الذات الفاقدة للعنوان تكون مباينةًللواجدة، ولا تكون محلّاً للاستصحاب؛ لأنّه يلزم تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وأمّا إذا لم تكن المراتب المتبادلة في نظر العرف موجبة لتبدّل الحقيقة والذات عرفاً، بل كانت المراتب من الحالات التي لا يضرّ تبادلها في صدق بقاء الحقيقة، وكانت الذات باقيةً عرفاً، ففي مثل ذلك يجري استصحاب بقاء الحكم، ويثبت له البقاء في الحالات المتبادلة، ولا يضرّ في جريان الاستصحاب عدم وجود العنوان والاسم بعد بقاء الحقيقة، ولو كان قد أُخذ في ظاهر الدليل عنواناً للموضوع.

ص: 131

فإن قلت: إنّه مع صدق اسم المتيقّن لا نحتاج إلى الدليل وإلى الاستصحاب، بل يكفي في ثبوت الحكم للمشكوك نفس الدليل الذي رتّب الحكم فيه على المسمّى بالاسم.

قلنا: بل لا يكفي ذلك، بل نحتاج معه إلى التمسّك بالاستصحاب؛ إذ يمكن أن لا يكون لدليل الحكم إطلاق يعمّ صورة تبدّل الحالة التي لا تضرّ ببقاء الاسم والعنوان، فنحتاج لذلك في إثبات الحكم مع تبدّل بعض حالات الموضوع إلى الاستصحاب.

وبالجملة: فإنّ الثابت لدينا في المقام بناءً على ما ذكرناه أمران:

أوّلهما: ما يرتبط بمقام الجعل، وهو الحكم المنشأ على الموضوع الكلّيّ، فهذا لا يرتبط بوجود الموضوع في الخارج، بل هو ممّا لا شكّ في بقائه، فإنّه متحقّق ولو لم يكن هناك موضوع، وسواء وجد العنوان أم لم يوجد.والثاني: ما هو راجع إلى مقام الفعليّة، وهو الحكم الفعليّ الذي يثبت عند وجود موضوعه بشرائطه. ومعلوم أنّ هذا الحكم لا يقين بحدوثه قبل أن يتعلّق بمتعلّقه فعلاً، فلا يكون قابلاً للاستصحاب قبل ذلك.

الأمر الرابع:

لا يخفى: أنّ المستصحب تارةً يكون حكماً شرعيّاً، وأُخرى يكون موضوعاً لحكم شرعيّ، فإن كان حكماً شرعيّاً، فهو تارةً يكون كلّيّاً وأُخرى جزئيّاً.

ص: 132

والفرق بين الحكم الكلّيّ والجزئيّ، هو أنّ الأوّل هو الحكم المنشأ الوارد على الموضوع المقدّر وجوده على نحو القضايا الحقيقيّة، كقضيّة «الخمر حرام» فإنّها بحيث إنّه حتى لو لم يوجد فرد للخمر في الخارج، فمع ذلك، يكون الخمر حراماً، وكوجوب الحجّ الذي تمّ إنشاؤه منذ الأزل على المستطيع.

وأمّا الثاني، وهو الحكم الجزئيّ، فهو الحكم الثابت على موضوعه عند تحقّق الموضوع خارجاً، والذي يوجب فعليّة الحكم، كما في وجوب الحجّ الذي لا يكون فعليّاً إلّا بوجود زيد المستطيع.

ثمّ إنّ الشكّ في بقاء الحكم الجزئيّ لا يتصوّر إلّا إذا عرض لموضوعه الخارجيّ ما يشكّ معه في بقاء الحكم، كما إذا زال التغيّر بنفسه فلا إشكال في صحّة استصحابه.

وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ، فهو يتصوّر على وجوه:الوجه الأوّل: الشكّ في بقائه من جهة احتمال النسخ، أي: إزالة ما كان ثابتاً من الحكم بنصٍّ شرعيّ، كما إذا شكّ في نسخ الحكم الكلّيّ المجعول على موضوعه المقدّر وجوده، فيستصحب بقاء الحكم الكلّيّ المترتّب على موضوعه.

ونظير استصحاب بقاء الحكم عند النسخ: استصحاب الملكيّة في العقود العهديّة التعليقة، كعقد الجعالة والسبق والرماية؛ فإنّ المالك ينشأ ملكيّة العوض في هذه العقود على تقدير خاصّ، كردّ الضالّة في

ص: 133

عقد الجعالة، وتحقّق السبق في عقد السبق، وإصابة الهدف في عقد الرماية، فإنّ الملكيّة المنشأة في هذه العقود تشبه الأحكام المجعولة على الموضوعات المقدّرة، كالوجوب للمستطيع.

فلو شككنا في أنّ عقد السبق والرماية هل هو من العقود اللّازمة التي لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين - والمراد من العقود اللّازمة ما هو من قبيل البيع، فإنّ المنشأ فيه الملكيّة المنجّزة دون التعليقيّة - أو من العقود الجائزة التي تنفسخ بذلك، فحيث إنّ الحكم هناك ينشأ من قبل العاقد على تقدير خاصّ، كما عرفنا، فيجري استصحاب بقاء الملكيّة المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين في الأثناء قبل تحقّق السبق أو إصابة الرمي، تماماً كما يجري الاستصحاب لإثبات بقاء الملكيّة المنشأة في العقود التنجيزيّة عند الشكّ في لزومها وجوازها.وقد ذهب الشيخ الأعظم(رحمة الله)(1) إلى المنع من جريان الاستصحاب في باب العقود التعليقيّة، مع أنّه قائل بجريان الاستصحاب التعليقيّ في مثل العنب والزبيب.

ص: 134


1- انظر: المكاسب 5: 23 - 24، قال): «ولم يُعلم وجه صحيح لتقرير هذا الأصل، نعم، هو حسن في خصوص عقد المسابقة وشبهه ممّا لا يتضمّن تمليكاً أو تسليطاً، ليكون الأصل بقاء ذلك الأثر وعدم زواله بدون رضا الطرفين». ثمّ قال): «لكنّ الاستصحاب المذكور إنّما ينفع في إثبات صفة اللّزوم، وأمّا تعيين العقد اللّازم حتى يترتّب عليه سائر آثار العقد اللّازم، كما إذا أُريد تعيين البيع عند الشكّ فيه وفي الهبة، فلا».

ولكنّ الحقّ: جريانه؛ لأنّ حال الملكيّة المنشأة فيها حال الأحكام المنشأة على موضوعاتها، فكما يصحّ استصحاب بقاء الحكم عند الشكّ في نسخه، ولو قبل فعليّته بوجود الموضوع خارجاً، فكذلك يصحّ استصحاب بقاء الملكيّة المعلّقة عند الشكّ في بقائها، ولو قبل فعليّتها، بفعليّة السبق وإصابة الرمي وتحقّقهما خارجاً.

والوجه الثاني: الشكّ في بقاء الحكم على موضوعه المقدّر وجوده عند فرض بعض حالات الموضوع، كما لو شكّ في بقاء النجاسة في الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من قبل نفسه، ولا شكّ في جريان استصحاب بقاء الحكم في هذا الوجه أيضاً، بل هذا القسم من استصحاب الحكم الكلّيّ هو الذي تعمّ به البلوى.

والفرق بين هذا الوجه من استصحاب الكلّيّ وبين الوجه الأوّل معلوم، وهو أنّ الشكّ في الوجه الأوّل إنّما كان من جهة الشكّ في النسخ وعدمه، ولا يتوقّف حصول الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ على فرض وجود الموضوع خارجاً وتبدّل بعض حالاته.وأمّا في الوجه الثاني، فالشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ لا يمكن إلّا بعد فرض وجود الموضوع خارجاً وتبدّل بعض حالاته؛ لوضوح أنّه لولا فرض وجود الماء المتغيّر بالنجاسة والزائل عنه التغيير، فلا يعقل الشكّ في بقاء النجاسة، فلابدّ حينئذٍ - من فرض وجود الموضوع ليمكن حصول الشكّ في بقاء حكمه عند فرض تبدّل بعض حالاته.

ص: 135

ولكن الشكّ هنا لا يتوقّف على فعليّة وجود الموضوع خارجاً، فإنّ حصول الشكّ في بقاء الحكم الجزئيّ هو ما يتوقّف على فعليّة وجود الموضوع، وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ، فيكفي فيه فرض وجود الموضوع، فالوجهان الأوّل والثاني يشتركان من جهة أنّ المستصحب فيهما يكون حكماً كلياً. ويفارق الثاني الأوّل في أنّه متوقّف على حصول الشكّ فيه على فرض وجود الموضوع، بخلاف الأوّل.

والوجه الثالث - من الوجوه التي يمكن تصوّرها في الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ -: هو الشكّ في بقاء الحكم المترتّب على موضوع مركّب من جزأين عند فرض أحد جزأيه، وتبدّل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر، كما إذا شكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المترتّبة على العنب على تقدير الغليان عند فرض وجود العنب وتبدّله إلى الزبيب قبل غليانه. فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان، ويترتّب عليه نجاسة الزبيب عند غليانه إذا فرض أنّ وصفالعنبيّة والزبيبيّة كان من جملة حالات الموضوع، لا من أركانه.

وهذا القسم من الاستصحاب هو الاستصحاب التعليقيّ المصطلح عليه، والمراد به أن يستصحب الحكم بعد وجود المشروط وتبدّل بعض حالاته قبل وجود الشرط، كاستصحاب بقاء الحرمة للعنب عند صيرورته زبيباً قبل فرض غليانه.

ص: 136

وقد وقع الكلام بينهم في جريان هذا الاستصحاب أو عدم جريانه، فهنا قولان:

وأقواهما: عدم الجريان؛ لأنّ الموضوع إذا أصبح مركّباً من جزأين، فالحكم لا يترتّب عليه إلّا بعد وجوده بكلا جزأيه، بل بجميع ما له من الأجزاء والشرائط؛ لأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع هي بمثابة نسبة العلّة إلى المعلول، فكما أنّه لا معنى لتقدّم المعلول على علّته، فلا معنى - أيضاً - لتقدّم الحكم على موضوعه.

والموضوع للنجاسة أو الحرمة في مثال العصير العنبيّ إنّما كان مركّباً من جزأين، هما: العنب والغليان، بلا فرقٍ بين ما إذا أخذ الغليان وصفاً للعنب، كما إذا قلت: (العنب المغليّ يحرم)، أو شرطاً، كما لو قيل: (العنب إذا غلى يحرم)؛ لأنّ مردّ الشرط ومرجعه إلى الموضوع، وهذا كما أنّ الشرط في وجوب الحجّ، وهو الاستطاعة، يرجع - كما تقدّمت إليه الإشارة - إلى الموضوع، ليكون مفاد قولك: (حجّ إذا استطعت) - مثلاً -، أي: (أيّها المستطيع حجّ).بل لنا أن نزيد على ذلك بالقول: بأنّ المنع عن جريان الاستصحاب التعليقيّ لا يتوقّف على رجوع الشرط إلى الموضوع، بل يكفي في هذا المنع أن يكون الشرط علّة لحدوث النجاسة والحرمة للعنب، فإنّه مع عدم الغليان لا نجاسة ولا الحرمة؛ لانتفاء المعلول بانتفاء علّته، كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، غاية الأمر: أنّه في الموضوع يدور بقاء

ص: 137

الحكم - أيضاً - مدار بقائه، وفي العلّة يمكن أن يكون لها دخل في الحدوث فقط، دون البقاء. فلا يجري الاستصحاب التعليقيّ.

نعم، الأثر المترتّب على أحد جزأي المركّب هو أنّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لترتّب عليه الأثر، وهذا المعنى عقليّ، كما أنّه مقطوع البقاء في كلّ مركّب وجد أحد جزأيه، فلا معنى لاستصحابه.

وبالجملة: فإذا شكّ في بقاء الحرمة والنجاسة الواردين على العنب المغليّ، فيمكن إجراء هذا الاستصحاب بوجهين:

الأوّل: فيما إذا شكّ في رفع الحرمة والنجاسة من جهة الشكّ في النسخ.

والثاني: الشكّ في بقائها عند تبدّل بعض حالات الموضوع بعد وجود العنب المغلي بكلا جزأيه، كما ذا شكّ في بقائهما عند ذهاب ثلثيه.

وفي هذين الوجهين، لا إشكال في جريان استصحاب بقائهما، ولكنّ هذا الاستصحاب ليس داخلاً في الاستصحاب التعليقيّ في نظر من يقول به، بمعنى: أنّه ليس هو مرادالقائل بالاستصحاب التعليقيّ. ولكنّنا لا نتصوّر صحّة جريان الاستصحاب عند الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة في غير هاتين الصورتين، فالقائل بالاستصحاب التعليقيّ إن كان قائلاً به بمعنىً لا يرجع إلى استصحاب عدم النسخ، ولا إلى استصحاب الحكم على تقدير وجود الموضوع بجميع ما له من الأجزاء والقيود وتبدّل بعض حالاته ممّا لا يرجع إلى معنىً محصّل.

ص: 138

وقد يقال: يمكن جريان الاستصحاب بوجه آخر لا يرجع إلى الوجهين الأوّلين، بتقريب: أنّنا نستصحب بقاء الحرمة والنجاسة التقديريّين؛ فإنّ العنب قبل غليانه، وإن لم يكن معروضاً للحرمة أو النجاسة الفعليّة حيث لم يتحقّق شرط موضوعها، إلّا أنّه كان معروضاً للحرمة والنجاسة التقديريّة؛ إذ يصدق على العنب متى ما وُجد أنّه حرام أو نجس عند الغليان.

وعلى تقديره، فتكون الحرمة والنجاسة التقديريّة ثابتتين عند صيرورة العنب زبيباً، ووجوده في الخارج على هذه الصفة، فيشكّ في بقاء النجاسة والحرمة التقديريّة بعدما كان عنوان العنبيّة والزبيبيّة من حالات الموضوع، لا من مقوّماته وأركانه، فعدم الغليان إنّما يمنع عن حصول الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة الفعليّة واستصحابهما، لا عن الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة التقديريّة واستصحابهما.

ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الاستصحاب غير جارٍ في المقام، إذ لا معنى لاستصحاب الحرمة والنجاسة الفرضيّتين التقديريّتين؛إذ ليست الحرمة والنجاسة الفرضيّة في العنب غير المغليّ إلّا عبارة عن أنّ العنب لو انضمّ إليه الغليان لترتّبت عليه النجاسة والحرمة، وهذه القضيّة التعليقيّة لا يمكن استصحابها؛ وذلك لأنّها، مضافاً إلى كونها من القضايا العقليّة؛ لأنّها ليست سوى لازمٍ يترتّب على جعل الحكم على موضوعه المركّب الذي وجد أحد جزأيه، فهي مقطوعة البقاء لا مشكوكته.

ص: 139

وقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سرّه) إلى القول بإمكان جريان هذا الأصل؛ حيث قال:

«وتوهّم أنّه لا وجود للمعلّق قبل وجود ما عُلِّق عليه، فاختلّ أحد ركنيه، فاسد؛ فإنّ المعلّق قبله إنّما لا يكون موجوداً فعلاً، لا أنّه لا يكون موجوداً أصلاً، ولو بنحو التعليق، كيف؟(قدس سرّه) والمفروض أنّه مورد فعلاً للخطاب بالتحريم - مثلاً - أو الإيجاب، فكان على يقينٍ منه قبل طروء الحالة، فيشكّ فيه بعده، ولا يعتبر في الاستصحاب إلّا الشكّ في بقاء شيءٍ كان على يقين من ثبوته، واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتاً في ذلك.

وبالجملة: يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم فيما أُهمل أو أُجمل، كان الحكم مطلقاً أو معلّقاً، فببركته يعمّ الحكم للحالة الطارئة اللّاحقة كالحالة السابقة، فيحكم - مثلاً - بأنّ العصير الزبيبيّ يكون على ما كان عليه سابقاً في حال عنبيّته، من أحكامه المطلقةوالمعلّقة لو شكّ فيها، فكما يحكم ببقاء ملكيّته، يحكم بحرمته على تقدير غليانه»(1).

وحاصله: أنّ للحكم المعلّق نحو وجود في مقابل العدم المطلق، ولا دليل على اعتبار أزيد من هذا الوجود للمستصحب في الاستصحاب

ص: 140


1- كفاية الاُصول: 411.

الوجوديّ، فلو شكّ - مثلاً - في سقوط حدّ شرب الخمر بالتوبة قبل قيام البيّنة عليه، فلا مانع من استصحاب وجوب الحدّ المعلّق على عدم التوبة، فأيّ مانع من استصحاب هذا الحكم المعلّق إذا شكّ في بقائه ولم يكن الشكّ فيه لأجل الشكّ في النسخ، بل كان شكّاً ناشئاً من عروض حالة طارئة هي أوجبت الشكّ، كالتوبة في المثال، فالكلام كلّ الكلام، في أنّ التعليق في الأحكام لأجل منعه عن فعليّة وجود الحكم المعلّق، فهل يكون مانعاً من جريان الاستصحاب أم لا؟

ولكن قد عرفت أنّ للحكم المعلّق قبل حصول المعلّق عليه نحو وجود، ونحو وجوده هذا يوجب صحّة جريان الاستصحاب فيه لو شكّ في بقائه.

وخالفه المحقّق النائيني(قدس سرّه)، فذهب إلى نفي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقيّ، ومحصّل ما أفاده:

أنّ للحكم مقامين: مقام الجعل، وهو جعل الحكم الكلّيّ على الموضوع الكلّيّ، ومقام المجعول، وهو الحكم الفعليّ الحاصل بحصول موضوعه بأجزائه وقيوده. والشكّ في بقاءالحكم بلحاظ مقام الجعل والفعليّة في الحكم التعليقيّ غير متصوّر؛ لأنّ المفروض عدم كون الحكم فعليّاً؛ لعدم تحقّق كلا جزأي الموضوع، فليس ثمّة يقين بالحدوث، وليس للحكم التعليقيّ مقام آخر يتصوّر جريان الاستصحاب بلحاظه.

ص: 141

وبالجملة: فإنّ ما له ثبوت فعليّ، وهو الجعل، لا شكّ فيه، وما هو مورد الشكّ، وهو المجعول، فلا يقين بحدوثه(1).

والحقّ ما ذكره(قدس سرّه)؛ لأنّ الكلام تارةً في مقام الجعل، وهو الحكم المنشأ على الموضوع الكلّيّ، فهذا لا يرتبط بفرض وجود الموضوع أصلاً، وهو ممّا لا شكّ في بقائه، وجد العنب أم لا، وأُخرى في مقام الفعليّة، وهو الحكم الفعليّ الذي ثبت عند وجود موضوعه بشرائطه، وهو ممّا لا يقين هناك بحدوثه قبل تعليق المعلّق، فلا يكون قابلاً للاستصحاب.

وقد وافق المحقّق العراقي(قدس سرّه) - أيضاً - على إنكار جريان الاستصحاب المذكور، ولكنّه قرّبه بشكل آخر، ملخّصه:

ص: 142


1- فوائد الاُصول 4: 466 - 467. وإليك نصّ كلامه): «وفي جريان استصحاب الحكم في هذا الوجه وعدم جريانه قولان: أقواهما: عدم الجريان؛ لأنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب إنّما يكون وجوده وتقرّره بوجود الموضوع بما له من الأجزاء والشرائط؛ لأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع نسبة العلّة إلى المعلول، ولا يعقل أن يتقدّم الحكم على موضوعه، والموضوع للنجاسة أو الحرمة في مثال العنب إنّما يكون مركّباً من جزأين: العنب والغليان، من غير فرقٍ بين أخذ الغليان وصفاً للعنب، كقوله: (العنب المغليّ يحرم وينجس)، أو أخذه شرطاً له، كقوله: (العنب إذا غلى يحرم وينجس)؛ لأنّ الشرط يرجع إلى الموضوع، ويكون من قيوده لا محالة؛ فقبل فرض غليان العنب لا يمكن فرض وجود الحكم، ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقائه؛ لما تقدّم من أنّه يعتبر في الاستصحاب الوجوديّ أن يكون للمستصحب نحو وجود وتقرّر في الوعاء المناسب له؛ فوجود أحد جزأي الموضوع المركّب، كعدمه، لا يترتّب عليه الحكم الشرعيّ ما لم ينضمّ إليه الجزء الآخر».

أنّ حقيقة الحكم التكليفيّ ليست إلّا الإرادة والكراهة المبرزة والمظهرة، فهو ليس بأمر مجعول، كالأحكامالوضعيّة، وإنّما هو أمر واقعيّ تكوينيّ يترتّب عليه الأثر العقليّ والعقلائيّ عند إبرازه.

وهذا نصّ كلامه(قدس سرّه):

«حقيقة الأحكام التكليفيّة المستفادة من الخطابات الشرعيّة ليست إلّا الإرادة التشريعيّة المبرزة بأحد مظهراتها، من القول أو الفعل، وأنّ عنوان مثل البعث والتحريك والإيجاب والوجوب ونحوها من العناوين، اعتباريّات محضة منتزعة من مقام إبراز الإرادة، حيث إنّه بإبراز المولى إرادة شيء واشتياقه إليه بإخبارٍ أو إنشاء من قولٍ أو فعل، ينتزع العقل من إرادته المبرزة منه عنوان البعث والوجوب واللّزوم، كلّ باعتبارٍ خاصّ، لا أنّها هي الأحكام التكليفيّة المستفادة من الخطابات، ولذا ترى صحّة انتزاع تلك العناوين بمحض وصول إرادة المولى إلى مقام البروز بإنشائه أو إخباره، ولم يخطر ببال المولى التسبّب بإنشائه إلى تحقّق تلك العناوين.

وبذلك قلنا: إنّ الأحكام التكليفيّة بحقيقتها، التي هي الإرادة التشريعيّة المظهرة بأحد مظهراتها، أجنبيّة بجميع مباديها عن الجعليّات المتصوّرة في باب الأوضاع؛ لأنّ الحقائق الجعليّة عبارة عن اُمور اعتباريّة قوام تحقّقها في الوعاء المناسب لها بالإنشاء والقصد، بحيث كان الإنشاء والقصد من قبيل الجزء الأخير من العلّة التامّة لتحقّقها، نظير الملكيّة

ص: 143

والزوجيّة ونحوهما؛ فإنّ روح الجعل فيها عبارة عن تكوين حقائقها بالإنشاء والقصد بحيث لولا قصدالتسبّب بإنشائها إلى تحقّقها في الوعاء المناسب لها لما كان لها تحقّق أصلاً، فكان الجعل والإنشاء فيها واسطة بينها وبين إرادتها.

وهذا المعنى غير متصوّر في الأحكام التكليفيّة، لا بالنسبة إلى نفس الإرادة؛ لأنّها أمر واقعيّ تدور في تحقّقها مدار تحقّق مباديها، من العلم بالمصلحة والعزم والجزم، ولا بالنسبة إلى حيث إبرازها بإنشاء أو إخبار؛ لكونها من الاُمور المتأصّلة الخارجيّة، ومن مقولة الفعل، فلم يبق إلّا مرحلة البعث والتحريك والوجوب، وقد عرفت أنّ هذه اُمور اعتباريّة انتزاعيّة ينتزعها العقل من مجرّد إبراز الإرادة من المولى، فلا ترتبط بالحقائق الجعليّة»(1).

ولكنّ ما ذكره(قدس سرّه) غير تامّ؛ لأنّ الحكم ليس هو مجرّد حصول الإرادة للمولى، بل المولى يقوم بجعل الحكم واعتباره، وبعد الجعل يصبح له وجود واقعيّ في ظرفه.

وأمّا المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه)، فقد اختار القول التفصيل في إجراء الاستصحاب في الحكم الإنشائيّ بين ما إذا كان الشرط، كالغليان، قيداً للموضوع، بحيث كان الموضوع هو العنب المغليّ، فلم يُلحظ

ص: 144


1- نهاية الأفكار 4: 163 - 164.

في الموضوع إلّا تقدير واحد، وهو تقدير العنب المغليّ، وبين ما إذا كان شرطاً للحكم، لا من قيود الموضوع، بحيث كان الموضوع هو العنب.فهنا تقديران: أحدهما: تقدير العنب، والثاني: تقدير الغليان. فعلى الأوّل: لا يجري الاستصحاب؛ لعدم ثبوت الحكم لذات العنب قبل الغليان؛ لأنّه مضاف إلى العنب المغليّ، والعنب ليس محكوماً بالحرمة الإنشائيّة ولا الفعليّة. وأمّا على التقدير الثاني، فيجري؛ لأنّ الحكم ثابت لذات العنب ومضاف إليه، وإن اُخذ الغليان شرطاً له، لكنّه مضاف إلى ذات العنب، لا إلى العنب المغليّ، فيقال - مثلاً -: يحرم العنب إذا وجد وإذا غلا، فقد جُعلت الحرمة مضافةً إلى ذاته، فمع وجوده تثبت له الحرمة، فيمكن استصحابها عند تبدّل الوصف - مثلاً - إلى الزبيبيّة.

قال(قدس سرّه):

«إن كان الوجوب الشرطيّ التعليقيّ - أو الحرمة كذلك - مرتّباً على الموضوع المتقيّد بما يسمّى شرطاً، كما إذا قلنا بأنّ مرجع قوله: (يحرم العصير العنبيّ إذا غلا) إلى حرمة العصير المغليّ، وأنّ تعليقها باعتبار ترتّبها على موضوع مقدّر الوجود، وأنّ فعليّتها بفعليّة موضوعها، فحينئذٍ: لا مجال لاستصحاب الحرمة المعلّقة، حيث لا شكّ في عدم ارتفاع الحرمة الكلّيّة عن موضوعها؛ إذ ليس الكلام في نسخها، بل الكلام في ارتفاع الحرمة الفعليّة بفعليّة موضوعها.

ص: 145

ومن الواضح: أنّه قبل تبدّل العنبيّة إلى الزبيبيّة، لم يكن الموضوع وهو العصير المغليّ فعليّاً لتكون له حرمةفعليّة فيستصحب، وبعد التبدّل وحصول الغليان، يشكّ في حرمته فعلاً...»

إلى أن قال:

«وإن كان الحكم التعليقيّ حكماً معلّقاً على الشرط حقيقةً، زيادةً على تعليقه على موضوعه المقدّر وجوده، فموضوع الحرمة هو العصير في حالة العنبيّة، والغليان شرط للحكم، لا جزء الموضوع، والحكم المشروط، وإن لم يكن فعليّاً قبل حصول شرطه، كما هو التحقيق، إلّا أنّ الشكّ ليس في بقاء الحكم الإنشائيّ الكلّيّ لموضوعه الكلّيّ، بل الحكم الإنشائيّ المنطبق على هذا الموضوع الجزئيّ، وإن كانت فعليّته منوطةً شرعاً بوجود شرط فعليّته». انتهى موضع الحاجة(1).

وما أفاده) - أيضاً - غير تامّ؛ لأنّ الحكم الإنشائيّ لم يرد على الفرد الخارجيّ، بل إنّما ورد على الطبيعة والكلّيّ، وهو لا يضاف إلى الفرد الخارجيّ إلّا باعتبار كونه مصداقاً من مصاديق الكلّيّ.

ولا يخفى: أنّ القضايا الخارجيّة لابدّ فيها من وجود موضوعها خارجاً، ولا فعليّة للحكم إذا كان مجعولاً على نهج القضايا الخارجيّة

ص: 146


1- نهاية الدراية 3: 203 - 204.

قبل وجود موضوعه خارجاً، وأمّا القضايا الحقيقيّة، فحيث إنّ الحكم فيها لا يرد إلّا على الموضوع المفروض الوجود، سواء كان موجوداً ومتحقّقاًبالفعل، أم كان سيوجد، وسواء قُدِّر له أن يوجد في الخارج أم لم يقدّر له ذلك أصلاً، وبما أنّ تمام الموضوع في هذه القضايا إنّما هو تقدير وجود الموضوع، بلا دخل في ذلك - أصلاً - لوجوده خارجاً وتحقّقه فعلاً، بل ما يتقوّم به فعليّة الحكم في القضايا الحقيقيّة ليس إلّا أن يفرض الوجود له، ولمّا كانت القضايا الشرعيّة - كما هو معروف - من سنخ القضايا الحقيقيّة، لا الخارجيّة، فتكون الحرمة للعصير العنبيّ - مثلاً - فعليّةً بمجرّد فرض الوجود له، ولا تتوقّف على وجوده خارجاً، فيكون المستصحب هو هذه الحرمة نفسها بعد فرض تبدّل حالةٍ من حالات الموضوع.

بل يمكن أن يقال: بأنّ الحكم الشرعيّ تابع للحكم العقليّ في مقام الإثبات، وأمّا في مقام الثبوت، فلا، وإنّما يحتمل أن يكون تابعاً لمناطه فقط.

بل يمكن أن يقال: إنه لا يكون تابعاً لمناطه - أيضاً -، بل حتى لو فرضا انتفاء مناط الحكم العقليّ عند انتفاء قيد من قيوده، ممّا هو دخيل في موضوع حكم العقل، فإنّ ما هو مناط حكم الشرع يحتمل أن يكون موجوداً، وليس من الضروريّ أن يكون مفقوداً بالتبع. ولا يخفى: أنّ هذا الاحتمال يكون ملازماً لاحتمال بقاء الحكم الشرعيّ، بعدما كان

ص: 147

قاطعاً بحدوثه في الزمان المتقدّم، أي: قبل انتفاء هذا القيد، فيجري الاستصحاب حينئذٍ؛ لتماميّة أركانه.اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه بعد فقدان القيد يشكّ في أصل بقاء الموضوع، فلا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الموضوع لابدّ أن يكون معلوماً في كلتا الحالتين.

التنبيه الرابع :في استصحاب أحكام الشرائع السابقة:

اشارة

وأنّه هل يجري أم لا؟

وقد أُورد على جريانه - بعد الاعتراف بجريان استصحاب عدم النسخ في أحكام شريعتنا المقدّسة - باعتراضين:

الاعتراض الأوّل: دعوى اختلاف الموضوع، فإنّ من لا يُجري استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام الشرائع السابقة قد تصوّر أنّ الموضوع لم يكن موجوداً في كلتا الحالتين، نتيجةً لتخيّله بأنّ الأحكام الشرعيّة قد وردت على نحو القضايا الخارجيّة، فإنّ المكلّفين بأحكام كلّ شريعة إنّما هم من أدركوا تلك الشريعة.

ونحن نرى أنّ المدركين للشرائع السابقة قد انقرضوا وماتوا، فلا يعقل - والحال هذه - جريان الاستصحاب في حقّ من أدرك هذه الشريعة ولم يدرك الشرائع السابقة.

وقد أجاب الشيخ الأعظم(قدس سرّه) عن هذا الاعتراض بأنّا نفرض كون

ص: 148

الشخص مدركاً للشريعتين، فيجري في حقّه استصحاب عدم النسخ.

قال): «أنّا نفرض الشخص الواحد مُدركاً للشريعتين، فإذا حرم في حقّه شيء سابقاً، وشكّ في بقاء الحرمة فيالشريعة اللّاحقة، فلا مانع عن الاستصحاب أصلاً؛ فإنّ الشريعة اللّاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الأُولى»(1).

ولكنّ هذا الجواب، كما لا يخفى، غير تامّ؛ لأنّه لا أثر له بالنسبة إلى من لم يدرك الشريعة السابقة.

فالصحيح في ردّ هذا الاعتراض أن يقال:

إنّه إنّما يتوجّه على تقدير جعل الأحكام على نهج القضايا الخارجيّة، بحيث يكون الحكم منصبّاً على الأفراد الموجودة في الخارج، فحينئذٍ: يرد الإشكال بالنسبة إلى أهل هذه الشريعة، حيث إنّهم لم يكونوا موجودين في ذلك الزمان. وأمّا لو كانت الأحكام مجعولةً على نهج القضايا الحقيقيّة، بحيث يكون الحكم وارداً على الطبيعة المقدّرة وجوداتها في الخارج على نحو السريان، فإنّه لا فرق - حينئذٍ - بين الموجودين في ذلك الزمان وبين الموجودين في شيءٍ من الأزمنة المتأخّرة.

الاعتراض الثاني: هو العلم بنسخ الشرائع السابقة، ومع هذا كيف يمكن جريان استصحاب بقاء الشرائع السابقة؟

ولكن يُجاب عن هذا: أنّه إن كان المستشكل يدّعي نسخ جميع

ص: 149


1- فرائد الاُصول 3 : 225 - 226.

الأحكام السابقة، فالعلم به ممنوع، وإن كان مراده العلم الإجماليّ بنسخ جملة من الأحكام دون جميع ما كان من الشرائع السابقة، فنقول: بانحلال هذا العلم الإجماليّ بواسطة الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال من الأحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها.وردّه المحقّق النائيني(قدس سرّه) بقوله:

«فيه: أنّ العلم الإجماليّ بنسخ جملة من الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة ينحلّ بالظفر بمقدار من الأحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها، فتكون الشبهة فيما عدا ذلك بدويّةً، ويجري فيها الأصل بلا مزاحم»(1).

وحاصله: أنّ صرف بقاء أحكام تلك الشرائع السابقة بواسطة الاستصحاب غير مفيد، بل تحتاج حجّيّتها إلى إمضاء من قبل الشارع. كما يرشد إلى ذلك قول النبيّ الأعظم(صلی الله علیه و آله) في خطبة حجّة الوداع:

«ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه، حتى الخدش بالأظفار»(2).

ص: 150


1- فوائد الاُصول 4: 480.
2- وسائل الشيعة 17: 45، كتاب التجارة، الباب 12 من أبواب مقدّماتها، الحديث 2. ولكن لا وجود هناك لهذه الزيادة التي في آخره، أعني: حتى الخدش بالأظفار.

فإنّه يظهر من هذه الخطبة الشريفة أنّه(صلی الله علیه و آله) لم يهمل بيان شيءٍ من الأحكام الشرعيّة، بل بيّن حكم كلّ فعل، وحكم كلّ موضوع، وحينئذٍ: فبعد الفحص والتفتيش عن الأدلّة في مظانّها، يجد دليلاً على كلّ حكمٍ لأيّ فعل من الأفعال أو لكلّموضوع ذي حكم، ويثبت بكلّ دليلٍ يجده على ذلك واحد من الأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة.

ومعه: فلا حاجة له إلى الاستصحاب إن استطاع أن يجد دليلاً موافقاً له في مفاده ومضمونه، وإن لم يستطع أن يجد دليلاً، فلا يجب العمل به؛ لعدم إمضائه من قبل الشارع.

ولكنّ الحقّ: أنّه بعد أن عرفنا أنّ الأحكام واردة ومجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة، بمعنى: أنّ كلّ ما كان له دخل وجوداً أو عدماً في صيرورة الشيء ذا مصلحة، أو كان دخيلاً في وجود المصلحة بعد كونه ذا مصلحة، فإنّه يؤخذ في موضوع التكليف، بكلا معنييه، أعني: المكلّف ومتعلّق المتعلّق للتكليف، بل وكذلك في نفس متعلّق التكليف، والذي هو عبارة عن فعل المكلّف.

فالحكم الشرعيّ إنّما يرد على ما هو مجمع للقيود، وما توفّرت فيه كافّة العناوين التي ثبت لها دخل في الملاك والمصلحة، حتى لو فُرض أنّه كان لوجود المكلّف في زمان كذا، أو من اُمّة كذا، مدخليّة في الملاك والمصلحة، فإنّه يؤخذ قيداً للموضوع، فيكون من المستحيل - حينئذٍ - أن يوجد مثل مجمع القيود هذا ثمّ يتخلّف عنه الحكم الشرعيّ، ولا يكون

ص: 151

ممضىً من قبل الشارع. وأمّا احتمال وجود النسخ، فيصار إلى دفعه ببركة الاستصحاب.

هذا من جهة.

ومن جهةٍ أُخرى، فإنّ دليل الاستصحاب الوارد في هذه الشريعة - هو نفسه - يكون دليلاً على الإمضاء بالنسبة إلىالأحكام السابقة الثابتة به؛ وذلك لأنّ الاستصحاب، سواء كان في الأحكام أم في الموضوعات، ما هو إلّا حكم ظاهريّ مجعول من قبل الشارع، شأنه في ذلك شأن سائر الأحكام الظاهريّة، فإبقاء الأحكام الموجودة في الشرائع السابقة عند احتمال نسخها ببركة الاستصحاب من مجعولات هذه الشريعة وأحكامها، فتكون - لا محالة - ممضاة من قبل الشارع.

الاستصحاب في نفس النبوّة:

اشارة

وأمّا استصحاب النبوّة نفسها، فهل يجري أم لا؟

لا يخفى: أنّ الاستصحاب في الموضوع لابدّ أن يكون ذا أثر شرعيّ، فيتوقّف القول بجريان الاستصحاب في النبوّة على إحراز الأثر الشرعيّ. فنقول:

اعلم أنّ للنبوّة المستصحبة وجوهاً واحتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل:
اشارة

أنّ يراد بالنبوّة تلك الصفة الكماليّة التكوينيّة التي محلّها النفس،

ص: 152

وتكون موجبة للتمكّن من الاستيلاء على التصرّف في الأنفس والآفاق، والفوز بمنصب الرئاسة العامّة الإلهيّة، وهو منصب شامخ يكون موجباً لتلقّي المعارف الإلهيّة من المبدأ الأعلى بلا توسّط بشر.

ولا يخفى: أنّه إن أُريد هذا الاحتمال، فيجب القول بعدم جريان الاستصحاب، وذلك من ناحيتين:

الناحية الاُولى:

أنّ الاستصحاب إنّما يمكن جريانه - كما تقدّم - على تقدير وجود الشكّ في البقاء، وهو هنا مختلّ؛ فإنّ الشكّ في بقاء النبوّة بمعنى: تلك المرتبة القدسيّة لا يكون إلّا لواحدةٍ من جهات ثلاث: إمّا انحطاط نفسه القدسيّة، وإمّا لأجل الموت، وإمّا لأجل مجيء نبيّ آخر، والكلّ لا يكون مجوّزاً لجريان الاستصحاب.

أمّا الأوّل: وهو الانحطاط، فهو إنّما يتصوّر في الملكات الحاصلة للنفس بالكسب، بأن تتحلّى النفس وتتخلّق بفضائل الأخلاق بفعل المجاهدة والترويض لها، كملكة العدالة والجود والإيثار، فيحصل الضعف فيها، بل قد تزول بسبب تسويلات النفس الأمّارة بالسوء. ولكن بما أنّ لملكة النبوّة درجة التحقّق ووصولها من مرتبة القوّة والاستعداد إلى مرتبة الفعليّة المستلزمة لمقام الوحي، فلا محالة: لا يكون لانحطاطها معنى إلّا الانقلاب من الفعل إلى القوّة، وهو مستحيل عادة.

وأمّا الثاني: وهو أن تزول النبوّة بواسطة الموت، فلأنّ الموت

ص: 153

لا يوجب زوال الملكات الراسخة المكتسبة، فضلاً عن هذه الملكة الشامخة، كيف؟(قدس سرّه) والدنيا دار ممرّ، والآخرة دار المقرّ، وهي مزرعة الآخرة، والانتقال من هذا العالم إنّما يكون انتقالاً من عالم أدنى إلى عالم أعلى، فكيف - والحال هذه - يعقل زوالها بالموت؟ وكيف يعقل أن تنقلب النفوس العالية وأن تتحوّل بالموت إلى نفوس سافلة، مع أنّ الموت لو لم يكن موجباً لقوّة المشاهدة، فهو على الأقلّ لا يكون سبباً لإضعافها.وأمّا الثالث: وهو الشكّ في البقاء لمجيء نبيٍّ آخر لاحق للسابق، ولو فرض أنّه كان أكمل من سابقه، فإنّ زيادة كمال شخص لماذا يجب أن تكون سبباً لرفع وزوال كمال شخص آخر أو نقصه؟

والناحية الثانية:

أنّه على فرض التنزّل والقول بإمكان انحطاط النفس عن تلك المرتبة، فمع ذلك لا يمكن جريان الاستصحاب فيها، وذلك لعدم كونها من المجعولات الشرعيّة، كما هو واضح، كما أنّها ليست موضوعاً لأيّ حكم شرعيّ، ومعلوم أنّ الاستصحاب لا يجري حتى يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعيّ.

نعم، يمكن أن يكون هذا الاستصحاب مفيداً في مثل مسألة النذر، فيما لو نذر ﷲ تعالى شيئاً على تقدير بقاء هذه الصفة الكماليّة للنبيّ وعدم انحطاطها.

ص: 154

الاحتمال الثاني:

أن تكون النبوّة من المناصب المجعولة، كولاية الفقيه على الغُيَّب والقصَّر، وولاية الجدّ والأب على الصغير، وكالقضاوة والملكيّة ونحو ذلك من الأحكام الوضعيّة المجعولة.

والنبوّة بهذا المعنى ليست بمعنى كون نفسه المقدّسة محلّاً للمعارف، بل بمعنى أنّه مخبر ومبلّغ من قبله تعالى وسفير مبعوث منه إلى خلقه. فمنصب المخبريّة والسفارة ثابت لهحقيقةً؛ لأنّ النبيّ هو الذي ينبئه اﷲ تعالى بمعارفه، وليس مجرّد أمر اعتباريّ.

ولو أبيت، بدعوى أنّ النبوّة - بهذا المعنى - تكون هي بنفسها مجعولاً شرعيّاً، وليست من الصفات التكوينيّة غير القابلة للاستصحاب، بل هي في حدّ ذاتها تكون قابلة للاستصحاب.

فنقول: مع ذلك، يشكل جريان الاستصحاب فيها - حينئذٍ - من جهة أُخرى، فإنّ لازم جريان استصحاب النبوّة - بعد فرض إمكانه - هو ترتّب آثار النبوّة، كوجوب الإطاعة على النبوّة الثابتة بالاستصحاب، كما كانت تترتّب على النبوّة الثابتة بالقطع.

ولكنّ إجراء هذا الاستصحاب يبقى بحاجة إلى دليل، وهو مفقود في المقام، بل هناك مانع من جريانه؛ وذلك لأنّ هذا الاستصحاب:

لو كان دليل حجّيّته هو الشريعة السابقة يلزم الدور؛ لأنّ جريانه فيها متوقّف على ثبوت حجّيّته من غير ناحية بقاء النبوّة؛ إذ لو كان منوطاً ببقائها

ص: 155

لزم الدور؛ لأنّ بقاءها متوقّف على الاستصحاب، بحسب الفرض، فلو كان اعتبار الاستصحاب متوقّفاً على بقاء النبوّة، لزم الدور، وهو باطل ممتنع، فكذا يمتنع التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقاء النبوّة.

وإن كان دليل حجيّته هو الشريعة اللّاحقة، لم يكن مجدياً في بقاء الشريعة السابقة؛ لأنّ اعتبار الاستصحاب من الشريعةاللّاحقة مستلزم لنسخ الشريعة السابقة، وعدم الشكّ في بقائها أصلاً حتى يجري فيه الاستصحاب.

وإن كان الدليل على حجّيّته هو بناء العقلاء، قلنا: لا يفيد الرجوع إليه إلّا بعد إمضاء الشارع له، فيعود الكلام - حينئذٍ - فإنّ الذي أمضاه هل هو الشرع السابق أم اللّاحق؟ فإن كان هو السابق لزم الدور، بنفس البيان المتقدّم، وإن كان هو اللّاحق، فذلك مساوق للنسخ وعدم الشكّ في البقاء، وهو خلف وموجب لعدم جريان الاستصحاب.

الاحتمال الثالث:

أن يراد بالنبوّة المستصحبة أحكام شريعةٍ ما يشكّ في كونها منسوخة بواسطة شريعة أُخرى.

وبناءً على هذا الاحتمال فإنّ الاستصحاب يمكن جريانه فيها بلا مانع، وهو راجع - حينئذٍ - إلى استصحاب عدم النسخ.

ثمّ هل يمكن - في المقام - إلزام الخصم بواسطة الاستصحاب أم لا؟

فإنّ استصحاب الشرائع السابقة قد يكون لأجل إثبات الدعوى وإقناع

ص: 156

النفس وإثبات المعذوريّة في البقاء على الشريعة السابقة، وقد يكون لإلزام الخصم، ودعوة المسلم إلى اليهوديّة - مثلاً -.

وفي كلا القسمين، فلابدّ أن يتوفّر في الاستصحاب أركان ثلاثة، هي:

أ. اليقين السابق بالثبوت والشكّ اللّاحق بالبقاء.ب. أن يكون المستصحب أثراً شرعيّ أو موضوعاً له أثر كذلك.

ج. الاعتقاد بحجّيّة الاستصحاب، وقيام الدليل على هذه الحجّيّة.

ومع فقدان هذه الاُمور، أو واحد منها فقط، لا يكون الاستصحاب حجّة، كما لا يخفى.

فلو أُريد بالنبوّة تلك الصفة الكماليّة القائمة بنفس النبيّ المقدّسة، التي من شؤونها تلقّي المعارف الإلهيّة والفيوضات الربانيّة، فإنّ اليقين ببقاء النبوّة موجود قطعاً، فلا يكون هناك شكّ في بقائه أيضاً؛ والشرط الثاني، وهو كون المستصحب أثراً شرعيّاً أو ذا أثر شرعيّ غير متحقّق أيضاً.

وأمّا لو اُريد من النبوّة الشريعة، فإنّه وإن كان وجودها متيقّناً، وبقاؤها مشكوكاً، إلّا إنّه - مع ذلك - فلا يمكن جريان الاستصحاب؛ لأنّ حجّيّة الاستصحاب في الشريعة السابقة دور، وفي الشريعة اللّاحقة موجبة لنسخ تلك الأحكام. ثمّ بما أنّ الكتابيّ شاكّ في بقاء شريعته، فهو - إذاً - شاكّ في حجّيّة الاستصحاب، فينتفي الشرط الثالث أيضاً.

ص: 157

ثمّ إنّ هذا الاستصحاب لا يفيد بالنسبة إلى المسلم أيضاً؛ لأنّ له يقيناً بحصول النسخ، فليس شاكّاً في البقاء، فانتفى أحد الأركان الثلاثة.وبعبارة أُخرى: فإنّ جريان الاستصحاب متوقّف على الشكّ في البقاء، وهو ليس بحاصل عند المسلمين؛ إذ المفروض أنّهم يعتقدون بالارتفاع، حيث كانوا مسلمين.

وكذلك، فإنّ ثبوت نبوّة عيسى(علیه السلام) - مثلاً - إنّما ثبتت عندنا وعلمناها من إخبار نبيّنا(صلی الله علیه و آله)، فلو استصحبنا النبوّة السابقة يلزم نفي نبوّة نبيّنا(صلی الله علیه و آله)، ومعه: ينتفي اليقين بالنبوّة السابقة، فيلزم من وجود الاستصحاب عدمه، وهو محال.

وأيضاً، فحيث قد عرفنا النبوّة السابقة من طريق نبيّنا(صلی الله علیه و آله)، بما أنّه نبيّ، فلم يبقَ لدينا شكّ في البقاء أصلاً لكي نستصحب.

وأيضاً، فإنّه لا معنى لاستصحاب النبوّة إلّا وجوب التديّن بما قد جاء به النبيّ السابق؛ إذ لا معنى ولا أثر للاستصحاب إلّا ذلك، وممّا جاء به النبيّ السابق هو التبشير بنبوّة نبيّنا(صلی الله علیه و آله)، فنحن - إذاً - نعلم بثبوت أحكام شرعيّة في الشرائع السابقة، إلّا أنّها مغيّاة بمجيء نبيّنا محمّد(صلی الله علیه و آله) ونبوّته الخاتمة.

ويمكن الجواب - أيضاً - بمضمون ما أجاب به الإمام الرضا(علیه السلام) للجاثليق، وحاصل الجواب: أنّا نؤمن بكلّ عيسى وموسى' بشّرا بنبوّة

ص: 158

محمّد(صلی الله علیه و آله)، ولا نؤمن بكلّ عيسى وموسى لم يخبرا عن نبوّة نبيّنا(صلی الله علیه و آله)(1).وقد يورد على هذا الجواب في المقام: بأنّ موسى وعيسى' ليس كلّيّاً يُعترف ببعض أفراده وتنكر أفراده الأُخرى، بل هو جزئيّ حقيقيّ وشخص معلوم نعترف بنبوّته.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ الإيمان بموسى وعيسى' الشخصين إنّما كان من جهة تبشيرهما بنبيّنا(صلی الله علیه و آله)، ولا طريق إلى الاعتراف بنبوّتهما إلّا من جهة وجود هذه الخصوصيّة.

وبالجملة: فإنّه لم يحصل لأيٍّ من النصراني والمسلم شكّ في بقاء النبوّة لنبيّه حتى تصل النوبة إلى الاستصحاب. وعلى فرض حصول الشكّ لهما، أو لأحدهما، فلابدّ أن يصار إلى رفع هذا الشكّ عن طريق المجاهدة وتحصيل العلم والمعرفة، ولا يفيد إجراء الاستصحاب؛ لأنّه إنّما يوجب الظنّ، فإنّ معرفة الرسول أو الإمام بما أنّها من اُصول الدين، فلا يكتفى فيها بالظنّ، ولو كان من الظنون المعتبرة، بل يجب فيها تحصيل اليقين.

ص: 159


1- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 141، باب ذكر مجلس الرضا(علیه السلام) مع أهل الأديان وأصحاب المقالات في التوحيد، عند المأمون، ح1. وهو حديث طويل جاء فيه: «فقال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه، هل تنكر منهما شيئاً؟ قال الرضا(علیه السلام): أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به اُمّته وأقرّت به الحواريّون، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد(صلی الله علیه و آله) وبكتابه ولم يبشّر به اُمّته...»، الخبر.

فإن قلت: فقد لا يحصل له اليقين ويعجز عن تحصيله، فماذا يصنع حينئذٍ؟

قلنا: الطريق إلى ذلك واضح، فمن أراد أن يسعى ويجاهد مجاهدة حقيقيّة، وألقى العصبيّة وتقليد الآباء جانباً، فإنّ اﷲ تعالى يهديه، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(1).

التنبيه الخامس :في عدم اعتبار الاُصول المثبتة:

اشارة

لا يخفى: أنّ هناك فرقاً بين القطع والأمارات من جهة، وبين الأمارات والاُصول من جهة أُخرى، كما أنّ الاُصول - أيضاً - فيها ما هو تنزيليّ، وفيها ما ليس كذلك.

أمّا القطع فطريقيّته ذاتيّة، ولا يحتاج في حجّيّته إلى جعل من الشارع، بل لا يكون وضعها له ولا رفعها عنه بيد الشارع - بما هو شارع - أصلاً.

وأمّا الأمارات، فهي وإن كان تمتلك كاشفيّة وطريقيّة، غير أنّ حجّيّتها إنّما تكون بالجعل، ومعنى ثبوت الحجّيّة لها إنّما هو تتميم كاشفيّتها وطريقيّتها في عالم الاعتبار التشريعيّ، أي: أنّ الشارع يجعل ما لها من الكشف الناقص تكويناً كشفاً تاماً تشريعاً.

وقد يقال: كيف يمكن تصوّر ذلك؟ والحال أنّ وضع كشفها التكوينيّ

ص: 160


1- العنكبوت: الآية 69.

ورفعها لا يكون بيد الشارع بما هو شارع، ولا يمكن للشارع أن يكمل النقص الذي في كاشفيّة الأمارة بجعل كشفاً تامّاً تكويناً؛ فإنّ هذا باطل يقيناً، كما لا يمكن القول بأنّ تتميمه لكاشفيّة الأمارة يكون تتميماً تشريعيّاً؛ إذ حينئذٍ يكون نصف كاشفيّتها تكوينيّاً ونصفها الآخر تشريعيّاً، وهو - مضافاً إلى عدم إمكانه - على خلاف الوجدان.

ولكن فيه: أنّ المراد من تتميم الكشف تشريعاً هو أنّ هذا الكشف الناقص التكوينيّ يصبح كشفاً تاماً في عالم الاعتبار التشريعيّ.وأمّا الاُصول العمليّة، فالفرق بين الاُصول التنزيليّة وغيرها - بعد أن لم يكن لشيء من الاُصول العمليّة كاشفيّة مطلقاً - إنّما يكمن في أنّ معنى الإحراز في الاُصول التنزيليّة هو البناء العمليّ على أحد طرفي الشكّ على أساس أنّه هو الواقع، من دون أن يكون مثبتاً للواقع وكاشفاً عنه.

وأمّا الاُصول غير المحرزة، فهي حكم الشارع بالبناء العمليّ على أحد طرفي الشكّ، ولكن من دون اعتبار أنّ هذا العمل هو عمل الواقع، أو اعتبار اليقين والجري على طبقه، كي يكون العمل على طبق ذلك المحتمل من جهة بلوغه إلى مرتبة الإثبات؛ وذلك لأنّ جعل الحجّيّة والكاشفيّة لا معنى معقولاً له - كما عرفنا - سوى أنّ الشارع يعتبر هذا الكشف الناقص التكوينيّ كشفاً تامّاً تشريعيّاً، ولا كاشفيّة في الأصل أصلاً، لكي يتأتّى تتميمها من قبل الشارع.

ص: 161

فإذا اتّضح ما بيّنّاه من الفرق بين الأمارات والاُصول، فنقول:

الحقّ في المقام: هو القول بحجّيّة مثبتات الأمارات، دون الاُصول، ولو كانت من الاُصول التنزيليّة.

وقد أفاد صاحب الكفاية(قدس سرّه) في وجه ذلك ما حاصله:

أنّ الأمارات كما تحكي عن مؤدّياتها، فهي كذلك تحكي عن لوازم هذه المؤدّيات، سواء كانت شرعيّة أم عقليّة، وأيضاً: فهي تحكي عن ملزومات المؤدّيات وملازماتها كذلك، شرعيّة كانت أم عقليّة؛ فإنّ مقتضى إطلاق دليل اعتبارها هوأنّها تكون حجّة في جميع هذه الحكايات. وأمّا الاُصول العمليّة، فحتى لو فرضنا أنّها تنزيليّة، إلّا أنّ مفادها ليس إلّا التعبّد بمؤدّياتها، من دون أن يكون فيها حكاية عن شيء أصلاً.

وفي بيان هذا المطلب يقول):

«ثمّ لا يخفى: وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاُصول التعبّديّة وبين الطرق والأمارات؛ فإنّ الطريق أو الأمارة حيث إنّه كما يحكي عن المؤدّى ويشير إليه، كذا يحكي عن أطرافه، من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها، كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها، وقضيّته: حجّيّة المثبت منها، كما لا يخفى.

بخلاف مثل دليل الاستصحاب، فإنّه لا بدّ من الاقتصار ممّا فيه من الدلالة على التعبّد بثبوته، ولا دلالة له إلّا على التعبّد بثبوت المشكوك

ص: 162

بلحاظ أثره، حسبما عرفت، فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه، كسائر الاُصول التعبّديّة...»(1).

وخلاصة ما أفاده(قدس سرّه) من الفرق بين الاُصول والأمارات: هو أنّه في باب الأمارات والحجج الشرعيّة، فبعد أن أصبحت الأمارة بمنزلة العلم، يكون هناك ملازمة بين إثباتها للشيء وبين إثباتها للوازمه وملزوماته وملازماته، بلا فرق بين أن تكون عقليّة أو عاديّة أو شرعيّة، وسواء كانت طرقاً إلىالأحكام الإلهيّة، كأخبار الآحاد، أم أمارات على الموضوعات، كما إذا قامت البيّنة على موضوع خارجيّ، كغروب الشمس. فللأمارات - إذاً - جهتان:

الأُولى: كشفها عن مدلولها؛ لأنّ شأن كلّ أمارة أن تكشف عن مؤدّاها، وهذا الكشف، وإن كان ناقصاً، ولكنّه قد أصبح تامّاً ببركة الجعل الشرعيّ، والكشف عن الشيء كشف عمّا يلازمه من الاُمور التي لا تنفكّ عنه، كالملزومات واللّوازم والملازمات، تبعاً لدلالته على معناه المطابقيّ.

والثانية: إطلاق دليل الحجّيّة الثابت بمقدّمات الحكمة، فيكون دالّاً على حجّيّة الطرق والأمارات في جميع ما لها من الدلالة المطابقيّة والتضمّنيّة والالتزاميّة، من دون تفاوت بينها.

ص: 163


1- كفاية الاُصول: 416.

وهذا بخلاف أدلّة الاستصحاب وغيره من الاُصول العمليّة؛ فإنّها لا دلالة لها بوجه على الملزوم، فضلاً عن اللّازم، حتى يدلّ دليل الاعتبار على حجّيّته، كدلالته على حجّيّة الملزوم؛ فدليل اعتبار الأصل لا يقتضي إلّا التعبّد بنفس المشكوك بترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفسه، دون تلك التي تترتّب على لوازمه وملزومه وملازماته.

فمثلاً: استصحاب بقاء حياة زيد لا يقتضي إلّا التعبّد بالآثار الشرعيّة الثابتة لحياته الواقعيّة، دون الآثار الشرعيّة التي تترتّب على لوازمها، كنبات اللّحية؛ إذ لم يدلّ على لوازم الحياة شيء حتى يتأتّى أن نقول بأنّ لدلالته هذه حجّيّة فيجب الأخذ بها.وبالجملة: فالجهة الاُولى من الجهتين المذكورتين، وهي الكشف عن اللّوازم، موجودة في الطرق والأمارات، ولكنّها مفقودة في الاُصول، وهو ما أوجب القول بحجّيّة مثبتات الأمارات دون الاُصول. فما يترتّب على الأصل - إذاً - إنّما هو الأثر المترتّب على نفس المشكوك بلا واسطة.

واعترض عليه المحقّق النائيني(قدس سرّه) بأنّ ما ذكره من حكاية الأمارات عن مؤدّياتها ولوازم مؤدّياتها وملزوماتها وملازماتها ممّا لا أساس له من الصحّة؛ لأنّ الحكاية عن شيء إنّما هي فرع الالتفات إلى ذلك الشيء وقصده، ولا شكّ في أنّ المخبر - غالباً - غافل عن لوازم ما أخبر به وعن ملزوماته وملازماته، ومع الغفلة عن ذلك، فكيف يمكن أن يدّعى

ص: 164

أنّ البيّنة أو الخبر الموثوق الصدور - مثلاً - تحكي عن لوازم مؤدّياتها وملازماتها وملزوماتها؟(قدس سرّه)

ونصّ كلامه) كالآتي:

«بيان ذلك: هو أنّ الأمارة إنّما تحكي عن نفس المؤدّى، ولا تحكي عن لوازم المؤدّى وملزوماته الشرعيّة بما لها من الوسائط العقليّة أو العاديّة؛ فإنّ البيّنة أو الخبر الواحد إنّما يقوم على حياة زيد أو موت عمرو، فهو إنّما يحكي عن نفس الحياة والموت، ولا يحكي عن نبات اللّحية وما يستتبعه من الآثار الشرعيّة أو العقليّة والعاديّة، بداهة أنّ المخبر بالحياة ربّما لا يلتفت إلى نبات اللّحية، فضلاً عمّا يستتبعه، والحكاية عن الشيء فرع الالتفات إليه، فليسالوجه في اعتبار مثبتات الأمارة كونها حاكيةً عن لوازم المؤدّى وملزوماته...»، انتهى موضع الحاجة(1).

ولكن فيه: أنّ الخبر له دلالات ثلاث: مطابقيّة والتزاميّة وتضمّنيّة، والخبر الثقة يحكي بالدلالة المطابقيّة عن نفس المؤدّى، وبالدلالة الالتزاميّة عن لوازمه العاديّة والعقليّة والشرعيّة، بل الأمر كذلك - أيضاً - بالنسبة إلى ملزوماته وملازماته، فإنّ الأخبار عن وجود العلّة إخبار عن وجود المعلول، وكذلك العكس، فالإخبار عن طلوع الشمس - مثلاً - إخبار عن وجود النهار، وكذلك العكس، كما أنّ الإخبار عن الشيء إخبار

ص: 165


1- فوائد الاُصول 4: 487.

عن ملازماته، فلو أخبر عن طلوع الشمس - مثلاً - فقد أخبر عن إضاءتها للعالَم، الذي هو لازم طلوع الشمس.

وكذلك لو أخبر بوجود النهار، فإنّه إخبار بطلوع الشمس أيضاً، الذي هو ملزومه.

ولو أخبر باستقبال زيد - مثلاً - للقبلة في أواسط العراق، فهو إخبار عن أنّه قد استدبر الجدي هناك.

فلا ينبغي أن ينكر: بأنّ خبر الثقة كما أنّه يحكي عن مدلوله المطابقي، فكذلك هو يحكي ويخبر عن مدلوله الالتزاميّ، وهي لوازمه العقليّة والشرعيّة والعاديّة، وكما أنّ أدلّة حجّيّة الظواهر تكون شاملةً للمدلول المطابقيّ فكذلك هي تكون شاملة للمدلول الالتزاميّ أيضاً.وخلاصة البحث: أنّ الفرق الصحيح بين الأمارات والاُصول هو ما ذكرناه من أنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقيّة بنحو الواسطة في الإثبات، ولو كان من جهة إمضاء ما عند العقلاء، حيث كانوا يبنون على طريقيّة الأمارة، فحكم الأمارات التي تثبت حجّيّتها من الشارع بتتميم الكشف هو حكم الأمارات العقلائيّة، فكما أنّ الأمارات العقلائيّة تثبت مؤدّياتها ولوازمها العقليّة والعاديّة لتلك المؤدّيات وملزوماتها وملازماتها، فكذلك الأمارات الشرعيّة، تثبت جميع ذلك؛ لأنّ إثبات العلّة - كما أشرنا - إثبات للمعلول، وإثبات اللّازم إثبات للملزوم، وكذا العكس.

ص: 166

وبالجملة: فإنّ حال الأمارات هو حال العلم الوجدانيّ، فكما أنّه إذا تعلّق بشيء فإنّه يُثبت ذلك الشيء نفسه، مع جميع لوازمه العقليّة والعاديّة والشرعيّة، فكذلك الطريق المجعول، فإنّه علم - أيضاً -، غاية الأمر: أنّه علم تعبّديّ.

ويتفرّع على ذلك: أنّ مثبتيّة العلم الوجداني ذاتيّة وليست قابلة للجعل، وأمّا مثبتيّة الأمارات الشرعيّة فليست كذلك، بل هي مجعولة شرعاً، إمّا إمضاءً، كما هو الغالب، وإمّا إحداثاً، كما ربما يتّفق.

ولا يخفى: أنّ هذا الفرق المذكور بين العلم الوجدانيّ وبين الأمارات، لا يشكّل مائزاً بينهما فيما هو محلّ البحث، وما نحن بصدده؛ لأنّه بعد الفراغ عن حجّيّة الأمارة وكونها كاشفاً وطريقاً ومثبتاً، وبعد أن أثبتت مؤدّاها وكشفته، فقهراً هيتكشف عن لوازمه وملزوماته وملازماته؛ لمكان الملازمة القائمة بين ثبوت الشيء وانكشافه وبين انكشاف لوازمه وملزوماته وملازماته.

وإن شئت فقل: إنّ حال الأمارات من هذه الجهة هو عينه حال العلم، ولو كان هناك من فرق بينهما، فإنّما هو من جهة أنّ الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات ذاتيّة في الأوّل، دون الثاني، بل هي فيه بجعل من الجاعل، ولكنّه بعد تحقّق هذا الجعل وتماميّته، يصبح كالعلم والقطع تماماً وبلا فرق.

ولك أن تقول: للحجّيّة قسمان:

أ. قسم تكوينيّ، لا يحتاج في إثباته إلى الجعل والاعتبار، بل يكون

ص: 167

ثبوته ذاتيّاً، بل لا يمكن إثباته بالجعل والاعتبار؛ لأنّه بعد كونه ذاتيّاً، كان ثابتاً، فإرادة إثباته ببركة الجعل ما هو إلّا من باب تحصيل الحاصل.

ب. وقسم اعتباريّ، فيحتاج إلى الجعل والاعتبار، ممّن بيده الجعل والاعتبار، ولكنّه بعد الجعل يصبح مصداقاً حقيقيّاً واقعيّاً لما هو الحجّة في عالم الجعل والاعتبار، ويكون وعاؤه الواقع.

ولا يقال: أنّ الحجّيّة والكاشفيّة عن اللّوازم والملزومات والملازمات إنّما يكون في الانكشاف التكوينيّ، بمعنى: أنّ عدم احتمال الخلاف ملازم لانكشاف هذه الاُمور، وأمّا الكشف التعبّديّ، فالأمر فيه ليس على هذه الشاكلة؛ لأنّ باب احتمال الخلاف لا ينسدّ وجداناً، غاية الأمر: أنّه يجب عليه إلقاء احتمال الخلاف تعبّداً؛ لأنّ معنى الحجّيّة المجعولةوالوسطيّة في الإثبات هو ادّعاء أنّه كذلك، وادّعاء ثبوت مؤدّياتها.

وإلّا، فإنّ إيجاد صفة تكوينيّة بالجعل الاعتباريّ غير معقول، فيكون حالها حال سائر التنزيلات، فلابدّ وأن يكون بلحاظ ترتيب آثار المنزّل عليه، وأن يكون له آثار شرعيّة حتى يكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع، حتى يصحّ أن يكون التنزيل بذلك اللّحاظ، فإذا كان لمؤدّى الأمارة شيء من الآثار شرعيّة، التي رفعها ووضعها بيد الشارع، فإذا كان لمؤدّى الأمارة أثر شرعيّ يترتّب على مؤدّاها، وإن كان غير محرز بصرف قيام الأمارة عليه، وهذا هو معنى التنزيل، فيكون حال الأمارة من هذه الجهة حال الاُصول؛ فإنّ دليل اعتبارها يدلّ على العمل على طبق مؤدّياتها،

ص: 168

ولا تعرّض لها أصلاً إلى لوازمها وملازماتها وملزوماتها.

ومعنى التعبّد بالعمل على طبق مؤدّياتها: ترتيب الآثار العقليّة والعاديّة التي لها، أو الشرعيّة التي لا تكون بواسطة أثر عقليّ عليها، وأمّا الآثار العقليّة والعاديّة التي تكون لها بواسطة أحد هذين الأمرين، فلا، لأنّها خارجة عن دائرة التعبّد بها.

فإنّه يقال: ليس معنى حجّيّة الأمارة ثبوت مؤدّياتها حتى يرجع إلى تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع، بل المقصود - ما عرفناه -: من أنّ لهذا المفهوم، أعني: مفهوم الحجّة، قسمين من المصداق:قسم تكوينيّ لا يحتاج إلى اعتبار الحجّيّة، كالقطع، بل لا يمكن فيه جعل الحجّيّة واعتبارها، لمنع تحصيل الحاصل.

وقسم اعتباريّ، يحتاج إلى الجعل، واعتبار من بيده الاعتبار، فبعد جعل الحجّيّة يكون حاله حال التكوينيّ، ويصبح مصداقاً حقيقيّاً واقعيّاً للحجّة والطريق والمثبت.

وهذا له نظير، وهو مفهوم المال، فإنّ له مصداقين - أيضاً -: قسم يقال له: المال، بدون جعل الماليّة له. وقسم آخر لا يصدق عليه المال إلّا بعد صدور الاعتبار بماليّته، كالأوراق النقديّة، أي: بعد اعتبار الماليّة من قبل من بيده الاعتبار، يصبح مالاً.

وحجّيّة الأمارات من هذا القبيل، فبعد اعتبار الحجّيّة لها، يكون حالها في إثبات المتعلّق حال الحجّة التكوينيّة، وكذلك الحجّة عند العقلاء إذا

ص: 169

اعتبروا حجّيّة شيء، يقولون بعد ورود الاعتبار على ذلك الشيء: قد ثبت ذلك الشيء، لا أنّهم يرتّبون آثار ذلك الأمر عليه تعبّداً وبادّعاء وجوده، بل يرون وجوده ثابتاً، كما إذا علموا أو قطعوا بوجوده أيضاً، تكون جميع آثاره وملازماته ولوازمه وملزوماته حجّة، كنفس المؤدّى.

وأمّا الشيخ الأنصاريّ(قدس سرّه) فالظاهر من كلامه) هو التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة خفيّة أو جليّة، فحكم بحجّيّة مثبتات الأوّل دون الثاني، قال):

«نعم، هنا شيء، وهو أنّ بعض الموضوعات الخارجيّة المتوسّطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعيّ، منالوسائط الخفيّة، بحيث يُعَدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكاماً لنفس المستصحب، وهذا المعنى يختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف»(1).

ومحصّل ما أفاده): أنّ هناك فرقاً بين الواسطة الخفيّة والجليّة، فإنّ الواسطة إذا كانت في غاية الخفاء، بحيث يعدّ أثرها أثراً لنفس المستصحب عرفاً بلا واسطة، كاستصحاب رطوبة الثوب الذي ألقته الريح أو غيرها على أرض متنجّسة جافّة، فإنّ نجاسة الثوب ليست أثراً بلا واسطة لرطوبة الثوب الملاقي للأرض، بل هي أثر لسراية النجاسة

ص: 170


1- فرائد الاُصول 3: 244.

من المتنجّس إلى ملاقيه بواسطة الرطوبة، والسراية واسطة عقليّة بين المستصحب، وهي الرطوبة، وبين النجاسة، التي هي أثر السراية، ولكنّه مع ذلك يترتّب نجاسته باستصحاب بقاء رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجّسة، بدعوى خفاء الواسطة، وهي السراية، بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض، لا من آثار السراية، فإذا كانت النجاسة من آثار المستصحب عرفاً، فلا محالة يشملها دليل الاستصحاب؛ لأنّ نظر العرف هو المتّبع في مقام الاستظهار.

وردّه المحقّق النائيني(قدس سرّه) بقوله:«لا أثر لخفاء الواسطة، فضلاً عن جلائها، فإنّه: إن كان الأثر أثراً لذي الواسطة حقيقةً بحسب ما ارتكز عند العرف من مناسبة الحكم أو الموضوع - وإن احتمل ثبوتاً أن يكون للواسطة دخل في ترتّب الأثر على مؤدّى الأصل - فهذا لا يرجع إلى التفصيل في عدم اعتبار الأصل المثبت، فإنّه لم يتخلّل حقيقةً بين مؤدّى الأصل والأثر الشرعيّ واسطة عقليّة أو عاديّة، فلا وجه لاستثناء الواسطة الخفيّة من بين الوسائط والقول باعتبار الأصل المثبت فيها.

وإن كان الأثر أثراً للواسطة حقيقةً، والعرف يتسامح ويعدّه من آثار ذي الواسطة، فلا عبرة بالمسامحات العرفيّة في شيء من الموارد؛ فإنّ نظر العرف إنّما يكون متّبعاً في المفاهيم، لا في تطبيقها على المصاديق، فقد يتسامح العرف في تطبيق المفهوم على ما لا يكون له مصداقاً واقعاً،

ص: 171

كما يشاهد أنّ العرف يتسامح ويطلق أسماء المقادير على ما ينقص عن المقدار أو يزيد يسيراً؛ فالمسامحات العرفيّة لا أثر، وتُضرب على الجدار بعد تبيّن المفهوم»(1).

وبالجملة: فإنّ الحكم الشرعيّ فيما نحن فيه:

إن كان مترتّباً على نفس الواسطة حقيقةً، وكانت هي الموضوع له واقعاً، فلا يمكن إثباته بالأصل الجاري في ذي الواسطة، وإن فرض أنّ العرف يتسامح ويرى الموضوعللحكم هو نفس مؤدّى الأصل نتيجةً لخفاء الواسطة وعدم الالتفات إليها.

وإن كان الحكم الشرعيّ مترتّباً في الواقع على ذي الواسطة، وكانت الواسطة العقليّة أو العاديّة علّة لثبوت الحكم لمؤدّى الأصل، فهذا لا يرجع إلى الأصل المثبت.

الموارد الّتي تمسّكوا فيها بالأصل المثبت:

ولا بأس في المقام بالإشارة إلى بعض الموارد التي تمسّكوا فيها بالأصل المثبت.

منها:

أنّه لو اتّفق الوارثان على إسلام أحدهما المعيّن في أوّل شعبان،

ص: 172


1- فوائد الاُصول 4: 494 - 495.

والآخر في غرّة رمضان، واختلفا في زمان موت المورّث، فادّعى أحدهما موته في أثناء شعبان، وادّعى الآخر كونه في أثناء شهر رمضان، كان المال بينهما نصفين إذا كانا متساويين في الطبقة؛ لأصالة بقاء حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث الآخر.

ولا شكّ في أنّ هذا الاستصحاب من الأصل المثبت؛ لأنّ إسلام الوارث في حال حياة المورّث، والذي هو الموضوع لكونه وارثاً، من اللّوازم العقليّة لبقاء حياة المورّث إلى ذلك الزمان.

وأجاب عنه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

بأنّه «يمكن أن يقال: إنّ موضوع الإرث ليس كون إسلام الوارث في حال حياة المورّث، بحيث تكون الحياة ظرفاًللإسلام، بل موضوع كونه وارثاً: اجتماع إسلامه مع حياة المورّث في زمان واحد، بلا لحاظ إضافة الظرفيّة بينهما، فالموضوع مركّب، أُحرز أحد جزأيه بالوجدان، وهو إسلام الوارث، والآخر بالأصل، وهو حياته في ذلك الزمان»(1).

وهذا نظير ما قيل من كفاية اجتماع المرأة مع القرشيّة، وأحد جزأي هذا الموضوع محرز بالوجدان، والآخر بالأصل.

ولكن قد عرفت، أنّه لا يجري هذا الاستصحاب، بل لابدّ أنّ يثبت

ص: 173


1- منتهى الاُصول 2: 490.

بالاستصحاب أنّ هذه المرأة قرشيّة، ولم تكن له حالة سابقة. وفيما نحن فيه، لابدّ من النظر إلى الأدلّة، فهل هي ناظرة إلى كون الوارث مسلماً في حال حياة المورّث بلحاظ عنوان الظرفيّة بينهما حتى يكون أصلاً مثبتاً، أم لا، بل يكفي اجتماعهما في زمان، ولو لم يكن على نحو الظرفيّة؟

والظاهر من الأدلّة هو الأوّل دون الثاني، فجوابه(قدس سرّه) في غير محلّه، بل هذا الأصل من الأصل المثبت.

ومنها:

حكمهم بضمان من كان يده على مال الغير، وكان مسلّطاً عليه، مع الشكّ في كونه مأذوناً من قبله؛ لأصالة عدم كونهمأذوناً، مع أنّ كون اليد عاديةً، والذي هو موضوع الضمان، من اللّوازم العقليّة لعدم كونه مأذوناً من قبله.

وأجاب عنه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) - أيضاً -:

بأنّ «موضوع الضمان ليس هو عنوان كون اليد عادية، بل موضوعه كون اليد غير مأذونة، فالموضوع مركّب من جزأين: أحدهما أُحرز بالوجدان، وهو اليد على مال الغير، والثاني: عدم كونها مأذونةً، وهو أُحرز بالأصل»(1).

ص: 174


1- منتهى الاُصول 2: 491.

ومنها:

ما ذكره العلّامة في التحرير(1) فيما إذا اختلف الجاني ووليّ الميّت في سراية الجناية، فقال الوليّ: مات بالسراية، وقال الجاني: مات بسبب آخر، أو حصل الاختلاف بينهما، فقال الجاني: إنّ الجناية وقعت على الميّت بعد الموت، وقال الوليّ: بل وقعت قبل الموت، وإنّما كان الموت بسبب الجناية.

فقال العلّامة): في الضمان وعدمه وجهان: من أصالة عدم الضمان، ومن أصالة بقاء حياة المجنيّ عليه إلى زمان وقوع الجناية، فأجاز جريان الاستصحاب، مع أنّ وقوع الجناية على الحيّ، الذي هو موضوع الأثر، من اللّوازم العقليّة لبقاء الحياة.ولكنّ الحقّ: عدم جريان هذا الأصل، حتى لو قلنا بمقالة شيخنا الأنصاريّ(قدس سرّه) من جريان الاستصحاب مع كون الواسطة خفيّة؛ وذلك لعدم خفاء الواسطة هنا.

ومنها:

جريان استصحاب عدم وجود الحاجب عند الشكّ في وجوده في البشرة في محلّ الغسل أو الوضوء؛ لإثبات صحّة الوضوء أو الغسل، ولا شكّ في أنّ صحّتهما منوطة بوصول الماء إلى البشرة، وهذا من اللّوازم العاديّة للمستصحب؛ أي: عدم وجود الحاجب.

ص: 175


1- انظر: تحرير الأحكام 2: 261.

وهو من الأصل المثبت كما لا يخفى، فلا يجري، كما أنّ الواسطة غير خفيّة، فلا مجال لجريانه حتى على القول بمقالة الشيخ الأعظم(رحمة الله) المتقدّم من التفصيل بين الواسطة الخفيّة وغيرها.

نعم، يمكن أن يقال: بصحّة الوضوء أو الغسل بالبناء على عدم وجود الحاجب عند الشكّ في وجوده، لا من باب جريان الاستصحاب والأصل العمليّ، بل من جهة سيرة العقلاء وبنائهم على العدم، وعدم الفحص عن الحاجب عند الغسل أو الوضوء، فإنّ أصالة وجود عدم الحاجب هي كأصالة عدم القرينة وأصالة الظهور وغير ذلك من الأمارات العقلائيّة، وهي - أعني: الأمارات - حجّة، كما مرّ في محلّه.

ومنها:استصحاب بقاء شهر رمضان أو عدم دخول شوّال يوم الشكّ لأجل ترتيب آثار أوّل يوم من شوّال على اليوم الذي بعده، مع أنّه من الأصل المثبت؛ لأنّ معنى كون الغد هو يوم الشكّ ويوم أوّل شوّال ويوم العيد من اللّوازم العقليّة لبقاء شهر رمضان يوم الشكّ، أو لعدم دخول شوّال في ذلك اليوم.

مع أنّ بناءهم على ترتيب آثار يوم العيد على غد يوم الشكّ، من صلاة العيد، وإعطاء الفطرة وغسل يوم العيد، وسائر أحكامه. بل هم يرتّبون آثار اليوم الثاني والثالث وهكذا... إلى آخر الشهر.

ص: 176

مع أنّ كلّ هذه العناوين مشكوكة؛ لأنّ الشكّ في أوّل الشهر مستلزم للشكّ في جميع هذه العناوين.

التنبيه السادس :الشكّ في التقدّم والتأخّر مع العلم بحصوله في زمان خاصّ:

لا يخفى: أنّ الشكّ تارةً يكون في أصل حدوث الحادث سواء كان موضوعاً أو حكماً، وأُخرى في تقدّمه وتأخّره مع العلم بحصوله في زمان خاصّ.

والأوّل لا إشكال في جريان استصحاب العدم فيه؛ لأنّ أركان الاستصحاب موجودة، وهي اليقين السابق والشكّ اللّاحق، وهكذا الحال فيما لو شكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع ذي الحكم، فإنّه بعد العلم بتحقّقه، فيكون وجوده محرزاً في السابق، فيستصحب وجوده إلى زمان العلم بارتفاعه.وهو كما إذا شكّ في طهارة شيء بعد العلم بنجاسته، كما إذا كان الثوب نجساً في السابق، وشكّ في طهارته بدون العصر - مثلاً -، أو كما إذا شكّ في حصول الحلّيّة للذبيحة بتذكية الكتابيّ، فإنّ استصحاب عدم طهارة الثوب وعدم حلّيّة الذبيحة جارٍ بلا مانع.

وأمّا الشكّ في موضوع ذي حكم، كالشكّ في موت غائب - مثلاً - ، فإنّه لا إشكال في جريان استصحاب عدم تحقّقه، وترتيب آثار حياته من

ص: 177

وجوب الإنفاق على زوجته وحرمة تقسيم أمواله، وغيرهما من أحكام الحياة.

وأمّا إذا كان الشكّ في كيفيّة حدوثه من التقدّم والتأخّر بعد العلم بأصل تحقّق، فهو يتصوّر بوجهين:

الأوّل: أن يلاحظ التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى أجزاء الزمان، كما إذا قطع بوجود زيد يوم الجمعة - مثلاً -، وشكّ في أنّ مبدأ وجوده كان يوم الخميس أو الجمعة.

الثاني: أن يلاحظ بالإضافة إلى حادث زمانيّ آخر، كما إذا تعاقب حادثان، كالطهارة والحدث، وهذا - بدوره - له صورتان:

الأُولى: أن يكون الاستصحاب بلحاظ نفس أجزاء الزمان، كما مثّلنا.

والثانية: كما إذا علم بولادة زيد يوم الجمعة وشكّ في تقدّمها على وفاة عمرو أو تأخّرها عنها.

أمّا الأولى، فلا إشكال في جريان الاستصحاب في عدم تحقّق الحادث في الزمان الأوّل، كما إذا علم بموت زيد يومالجمعة ولم يعلم بأنّ حدوث موته كان فيه أو في الخميس، فلا مانع من استصحاب عدم موته يوم الخميس وترتيب آثاره، كوجوب الإنفاق على زوجته، وحرمة تقسيم ماله بين ورّاثه وغير ذلك، عليه.

وأمّا آثار تأخّره عن يوم الخميس، فبما أنّها من الآثار العقليّة لعدم حدوثه في يوم الخميس، فلا يجري الاستصحاب لإثباتها؛ لأنّه بالنسبة

ص: 178

إليها أصل مثبت، والاستصحاب - كما عرفنا - لا يثبت لوازمه العقليّة، فكذا لا يثبت الأثر الشرعيّ المترتّب على لوازمه العقليّة.

وكذا إذا علم بعدم إسلامه يوم الأربعاء، وشكّ في حدوثه يوم الخميس أو يوم الجمعة، فلا إشكال في استصحاب عدم إسلامه إلى زمان اليقين بوجوده، وهو يوم الجمعة، وترتيب آثار عدم حدوثه يوم الخميس؛ لاجتماع أركان الاستصحاب فيه.

وأمّا آثار لازم عدم حدوث الإسلام يوم الخميس، وهو حدوثه يوم الجمعة، أو تأخّر حدوثه عن يوم الخميس، فلا تترتّب على استصحاب عدم إسلامه إلى يوم الجمعة؛ لأنّ الحدوث أمر بسيط منتزع من الوجود المسبوق بالعدم، وهو لازم عقليّ للتعبّد بعدم إسلامه يوم الخميس. وقد عرفنا أنّ أدلّة الاستصحاب قاصرة عن إثبات لوازم المستصحب العاديّة والعقليّة وآثارها الشرعيّة.

وأمّا الثانية، وهي أن يكون استصحاب كلّ منهما بلحاظ زمان حدوث الآخر أو تأخّره عنه أو مقارنته له. فتارةًيكون الحادثان من المتضادّين اللّذين لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد كالطهارة والحدث، وأُخرى لا يكونان كذلك، كإسلام الوارث مع موت المورّث، أو إسلام المتوارثين.

وهذا في صورة كون كليهما معلومي التاريخ يكون خارجاً عن مورد البحث؛ لأنّه لا معنى - حينئذٍ - لجريان الاستصحاب كما هو أوضح

ص: 179

من أن يخفى. وإنّما الكلام فيما لو كان كلّ منهما بالنسبة إلى الآخر من مجهولي التاريخ، أو كان أحدهما فقط معلوم التاريخ.

والحاصل: أنّ مورد البحث فيما نحن فيه، إنّما هو فيما لو كان الشكّ في تقدّم الحادث وتأخّره، لا في أصل حدوثه، أي: أنّ التقدّم والتأخّر ملحوظان بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه، ولكن شكّ في تقدّمه على الحادث الأوّل، أو مقارنته له أو تأخّره عنه. فهذان الحادثان، تارةً يكون تاريخ كليهما مجهولاً، وأُخرى يكون تاريخ أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً.

وقد ذهب بعضهم هنا إلى القول بجريان الاستصحاب في كلتا الصورتين، كما قيل بالعدم مطلقاً.

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سرّه)، فقد ذهب إلى التفصيل بين ما إذا كان كلاهما مجهولي التاريخ، فقال بجريانه فيهما، أو كان أحدهما معلوم التاريخ، فلا يجري فيه، وأمّا الآخر المجهول فيجري فيه.

قال(قدس سرّه) في المقام ما لفظه:«ففي جريان استصحاب عدم حدوث كلٍّ منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر مطلقاً، أو عدم جريانه مطلقاً، أو التفصيل بين ما إذا لم يعلم تاريخ حدوث أحدهما بالخصوص، وبين ما إذا علم ذلك، ففي الأوّل يجري استصحاب عدم حدوث كلٍّ منهما بالإضافة إلى زمان الآخر، وفي الثاني يجري الاستصحاب في خصوص مجهول التاريخ، ولا يجري في

ص: 180

معلوم التاريخ، وجوه، أقواها التفصيل الأخير»(1).

وقبل الدخول في صميم البحث، لابدّ من بيان المحمولات الأربعة من الموجودات والأعدام، فنقول:

إنّ الأثر تارةً يترتّب على الوجود المحموليّ، وأُخرى على الوجود النعتيّ، وثالثة على العدم المحموليّ، ورابعة على العدم النعتيّ.

فالوجود المحموليّ هو نفس الوجود المحمول الأوّلي على الماهيّة، وهو مفاد كان التامّة، كقولك: كان زيد، أي: وجد.

وأمّا الوجود الربطيّ، أو النعتيّ، فهو مفاد كان الناقصة التي تدخل على المبتدأ والخبر فتكون موجبة للربط بينهما، كقولك: كان زيد قائماً، حيث إنّ القيام المحمول على زيد إنّما يكون بعد فرض وجوده، فيكون - لا محالة - أمراً زائداً على نفس وجوده، والذي حقّق هذا الربط ودلّ عليه إنّما هو (كان) الناقصة هذه.وأمّا العدم المحموليّ، فهو ما يقابل الوجود المحموليّ، وهو مفاد ليس التامّة، كما في مثل قولك: زيد معدوم.

وكذلك العدم النعتيّ، فهو مقابل للوجود النعتيّ، وهو مفاد ليس الناقصة، كقولك: زيد ليس بقائم.

ولا يخفى: أنّ التعبير عن الوجود الربطيّ بأنّه وجود نعتيّ، وعن العدم

ص: 181


1- فوائد الاُصول 4: 504.

الذي هو مفاد ليس الناقصة بأنّه عدم نعتيّ، لا يخلو من مسامحة؛ لأنّ الوجود النعتيّ إنّما هو وجود العرض الذي هو من قسم الموجود لنفسه في غيره بغيره(1)، ولكنّ وجوده المحموليّ نعت للغير، وبما أنّ النسب والارتباطات تكون من المعاني الحرفيّة، ولا استقلال لها في الوجود، وبعد أن كانت الأفعال الناقصة تدلّ إمّا على إيجاد الربط وإمّا على سلبه، فالأحسن أن يعبّر عن مفاد كان الناقصة بالوجود الربطيّ، وعن مفاد ليس الناقصة بالعدم الربطيّ.

فإذا اتّضح ذلك نقول:

إذا كان الأثر الشرعيّ مترتّباً على وجود أحد الحادثين، بنحوٍ خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن، دون الحادث الآخر، وذلك كتقدّم رجوع المرتهن عن الإذن على البيع، وتقدّم العيب على العقد، فإنّ رجوع المرتهن عن إذنه قبل البيع يوجب بطلان البيع، كما أنّ تقدّم العيب على العقديوجب الخيار، ونحو ذلك من الأشباه والنظائر، فإنّ احد الحادثين، وهو رجوع المرتهن، وعيب المبيع، في هذين المثالين، لايترتّب عليه

ص: 182


1- لا يذهب عليك: أنّ الوجود تارةً يكون وجوداً في نفسه لنفسه بنفسه، كوجود الباري جلّ وعلا، وأُخرى يكون وجوداً في نفسه لنفسه بغيره، كالجواهر الجسمانيّة، وثالثة يكون وجوداً في نفسه لغيره بغيره، وهو وجودات الأعراض، ورابعةً يكون وجوداً في غيره، وهو وجودات النسب والارتباطات المصطلح عليه - اُصوليّاً - بالمعنى الحرفيّ.

الأثر، إلّا على وجوده بنحو خاصّ، وهو تقدّمه على حادث آخر، وهو البيع؛ إذ لا أثر لرجوع المرتهن عن الإذن بعد البيع، وكذا لا أثر لحدوث العيب في المبيع بعد البيع.

وأمّا الثاني، وهو التأخّر، كما إذا لاقى الثوب المتنجّس الماء؛ فإنّ أثر هذه الملاقاة، وهو الطهارة، مترتّب على الملاقاة بنحو خاصّ، وهو تأخّرها عن كرّيّة الماء، فلا أثر للملاقاة قبل الكرّيّة، ولا مع التقارن، فإنّ المستفاد من مثل (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء)، مع ظهور رجوع الضمير فيه إلى الكرّ، أنّ الماء الذي فرضنا كونه كرّاً لا ينفعل بالملاقاة، فيعتبر في عدم تنجّسه بالملاقاة سبق الكرّيّة، فصورة التقارن - أيضاً - تكون داخلة في مفهوم الانفعال.

وأمّا الثالث: وهو التقارن، كمحاذاة الرجل والمرأة في الصلاة مع وحدة زمان شروعهما في الصلاة، فإنّ المانعيّة - على القول بها - مترتّبة على الحادثين، وهما: صلاتا الرجل والمرأة مع تقارنهما شروعاً وعدم وجود الحائل وعدم الفصل بينهما بعشرة أذرع.

وكتقارن عقدي الاُختين في زمان واحد لرجل، فإنّ البطلان مترتّب على تقارنهما؛ إذ مع اختلافهما زماناً نحكم بصحّة المتقدّم منهما وبطلان المتأخّر.وكتقارن عقدي الاُم وبنتها لرجل، أو تقارن عقدي الفاطميّتين له - بناءً على حرمة الجمع بينهما وبطلان عقديهما -، فإنّ الأثر في هذه

ص: 183

المسائل ونحوها مع تقارن الحادثين، وهما العقدان، هو البطلان، ففيما إذا كان الأثر مترتّباً على أحد الحادثين بنحو خاصّ، من التقدّم أو التأخّر أو التقارن، كتقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع أو تقدّم العيب على البيع، فإنّ له الأثر، وأمّا تأخّرهما، فلا أثر لهما كما ذكرنا، فيجري أصل عدم تقدّم الرجوع والعيب، ويكون الأثر هو صحّة البيع، ولا يجري الأصل في الحادث الآخر، أعني: أصل عدم تقدّم البيع على الرجوع أو العيب؛ لأنّه لا أثر له حتى يجري وينهض لمعارضة ذلك الاستصحاب الجاري في الموضوع ذي الأثر الشرعيّ، كما لو فرض أنّ أحد المتوارثين كان كافراً، فإنّ استصحاب عدم موت المسلم منهما إلى زمان موت الآخر الكافر جارٍ ويترتّب عليه الأثر، وهو ارث المسلم منه.

وأمّا استصحاب عدم موت الكافر إلى زمان موت المسلم، فلا يمكن جريانه؛ وذلك لعدم أثر له شرعاً، حتى في صورة العلم بتأخّر موته عن موت المسلم؛ لأنّ الكافر لا يرث من المسلم.

أمّا إذا كان هناك أثر لكلٍّ منهما، كما في مثال عقد الاُختين أو الفاطميّتين، مع كون الشكّ في تقدّمه أو تأخّره، أي: في تقدّم كلّ عقد أو تأخّره بالنسبة إلى العقد الآخر، فإنّ الاستصحاب في كليهما لا يجري - حينئذٍ - للعلم بكذبأحدهما فيتعارضان؛ لأنّ أركان الاستصحاب تكون متحقّقة في كلّ منهما، وبعد التعارض

ص: 184

يتساقطان.

وكذا لو كان الأثر مترتّباً على وجود أحد الحادثين مع التأخّر، كما في مثل ملاقاة النجس للماء، فإنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة جارٍ لإثبات الأثر، وهو طهارة الثوب المغسول. وأمّا استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة، فلا أثر له، وكذلك في صورة التقارن بين الكرّيّة والملاقاة، بأن وقعا في زمان واحد، فهو - أيضاً - بلا أثر، فلا يجري فيه الاستصحاب.

وقد يفرض إمكان جريان الاستصحاب فيه في حدّ نفسه، ولكنّه مع ذلك لا يجري من جهة أُخرى، فمثلاً: في صورة ما إذا كان الأثر ثابتاً لكلّ واحد من الحادثين، المتقدّم والمتأخّر، كما في مثال عقد الفاطميّتين، وإنّما لا يجري الاستصحاب هنا، لا من جهة تعارض الأصلين، بل من جهة عدم ثبوت حالة سابقة للمستصحب؛ لأنّ اتّصاف موت زيد بكونه مقدّماً على موت عمرو لم يكن له حالة سابقة، ولم يكن متيقّناً في السابق حتى يتعبّد ببقائه في ظرف الشكّ، حيث إنّه في حال حياة زيد لم يكن موت حتى يتّصف بالتقدّم على موت عمرو أو بالتأخّر عنه، وعدم اتّصاف الموت بالتقدّم حال الحياة إنّما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وقد يقال: لنا أن نتمسّك هنا باستصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ موت زيد حال الحياة كما لم يكن بنفسه، فكذلك هو لم يكنوصفه، أعني:

ص: 185

تقدّمه على موت عمرو، وبعد حصول اليقين بموت زيد يشكّ في انتقاض عدم تقدّمه فيستصحب، كاستصحاب عدم قرشيّة المرأة بعد العلم بوجودها.

ولكن فيه: أنّ هناك فرقاً بين الاستصحابين، فإنّ الحكم في استصحاب عدم القرشيّة إنّما ورد على العدم، وأمّا في المقام، فالحكم إنّما ورد على اتّصاف موت زيد بعدم تقدّمه على موت عمرو، لا على عدم اتّصافه بالتقدّم، فاستصحاب عدم الأزليّ، على فرض حجّيّته، إنّما يثبت عدم الاتّصاف بالتقدّم، لا اتّصاف موت زيد بعدم تقدّمه على موت عمرو، إلّا بناءً على الأصل المثبت.

وأمّا الإشكال بأنّه لا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ؛ لأنّ زمانه يكون معلوماً، فموت المورث - مثلاً - كان معلوماً أنّه في غرّة شهر رمضان، فعدم الموت إلى ذلك الزمان معلوم، ومن ذلك الوقت يكون الوقت معلوماً، فمتى يكون الشكّ - أصلاً - حتى يستصحب.

فيمكن الجواب عنه: بأنّ ذلك إنّما يكون بالنسبة إلى نفس أجزاء الزمان، وأمّا بالنسبة إلى زمان حدوث الحادث الآخر، حيث إنّ ذلك الزمان يكون مجهولاً، فقهراً يحصل الشكّ والترديد في بقاء عدم معلوم التاريخ إلى زمان حدوث مجهول التاريخ وفي عدم بقاء عدمه إلى ذلك الزمان.

ص: 186

التنبيه السابع :في جريان استصحاب الصحّة:

فإذا احتمل وجود مانع، كالزيادة، أو قاطع للعمل المركّب بالنسبة إلى الأجزاء السابقة، فهل يجري - حينئذٍ - استصحاب الصحّة أم لا؟

وقد تقدّم الكلام في جريان هذا الاستصحاب عند الحديث عن أصالة الاشتغال، وذلك في باب الاستدلال على عدم بطلان العمل بواسطة الزيادة السهويّة بالاستصحاب.

وقد عرفنا فيما محلّه، أنّ هذا الاستصحاب إنّما يتصوّر بوجهين:

الأوّل: أنّ يكون المراد به استصحاب الصحّة التأهليّة التي كانت لهذه الأجزاء التي عمل بها قبل أن يأتي بهذه الزيادة، أي: أنّها تكون باقية على صلاحيّتها، بحيث لو انضمّ إليها سائر الأجزاء التي لم يأتِ بها، لكان العمل صحيحاً.

والثاني: أن يكون المراد به استصحاب الهيئة الاتّصاليّة التي كانت للعمل المركّب قبل وجود هذه الزيادة، أعني: الجزء الصوريّ للمركّب القائم بمادّته، أي: ذوات الأجزاء، وهذا الجزء الصوريّ، وهو الهيئة الاتّصاليّة، يستكشف من أدلّة القواطع.

وقد يراد بالصحّة - أيضاً -: الصحّة الفعليّة التي تكون قائمة بمجموع العمل، والتي هي عبارة عن تماميّة العمل بما له من الأجزاء والشرائط، وإعدام الموانع المعتبرة فيه عقلاً وشرعاً.

ص: 187

ولكنّ هذا المعنى لا يمكن أن نقول به؛ لأنّه لا يتحقّق إلّا بعد وجود المركّب على النحو الذي أمر به الشارع أو العقل بجميع أجزائه وشرائطه وإعدام موانعه.

التنبيه الثامن: الاستصحاب في الاُمور العقائديّة

فهل هو يجري فيها أم لا؟

وقبل الدخول في محلّ البحث، لابدّ من القول بأنّ الاستصحاب، كما استفدناه من أخبار الباب، هو عبارة عن حكم الشارع بالجري العمليّ على طبق الحالة السابقة عند الشكّ في بقائها مع اليقين بوجودها سابقاً، ولكنّه يحتاج إلى أثر عمليّ حتى يكون الحكم بالجري العمليّ بلحاظ ذلك الأثر، ولا يكفي فيه صرف مجعوليّة المستصحب شرعاً ما لم ينته إلى أثر عمليّ.

وهذا الأثر العمليّ لا يفرّق فيه بين أن يكون من أعمال الجوارح أو من أفعال الجوانح، أعني: الالتزامات والاعتقادات القلبيّة، فلو كان للمستصحب أثر عمليّ، وكان متيقّناً، ثمّ شكّ في بقائه، فيجري الاستصحاب؛ وذلك لتماميّة أركانه، ولا يضرّ كونه من الاُمور الاعتقاديّة والأفعال القلبيّة.

فمثلاً: إذا لم يكن لبقاء النبوّة والإمامة أثر عمليّ، لا يجري الاستصحاب فيهما، وإن كانا من جملة المجعولات الشرعيّة والمناصب

ص: 188

الإلهيّة.وأمّا إن كان لبقائهما أثر عمليّ شرعيّ، فيجري الاستصحاب فيهما، وإن كانا من الاُمور التكوينيّة، لا الشرعيّة.

وقد ذكر المحقّق الخراساني(قدس سرّه) في الكفاية: أنّ الاُمور الاعتقاديّة:

تارةً: يكون المطلوب والمهمّ فيها شرعاً هو الانقياد وعقد القلب، وأمثال ذلك من الأعمال القلبيّة الاختياريّة.

وأُخرى: يكون المطلوب فيها هو تحصيل اليقين والعلم بها.

أمّا الأوّل: فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، إلّا ما قد يتصوّر من أنّ الاستصحاب هو من الاُصول العمليّة، ولكنّ ذلك لا يصلح للمانعيّة منه؛ لأنّ التعبير بالأصل العمليّ ليس له في دليل الاستصحاب أو غيره عين ولا أثر كي يدّعى انصرافه إلى عمل الجوارح دون عمل الجوانح، وإنّما هو تعبير اصطلاحيّ عبّر به الاُصوليّون عمّا كان وظيفةً للشاكّ تعبّداً، لغرض جعل فرق بينه وبين الأمارات الحاكية عن الواقع، وبالتالي: فهو يعمّ عمل الجوانح والجوارح معاً.

وأمّا الثاني: فالاستصحاب في الحكم جارٍ فيه، فلو شكّ في بقاء وجوب اليقين بشيء بعد اليقين بالوجوب، يستصحب البقاء، ولا مانع منه، ويترتّب عليه لزوم تحصيل اليقين بذلك الشيء والعلم به، دون الموضوع؛ لأنّ المفروض كونالمطلوب تحصيل اليقين به، والاستصحاب لا يجدي في ذلك؛ لعدم رفعه الشكّ إلّا تعبّداً، كما

ص: 189

لا يخفى(1).

وملخّص ما أفاده): أنّ الاُمور الاعتقاديّة على قسمين:

الأوّل: أن يكون المطلوب فيها شرعاً مجرّد الالتزام بها وعقد القلب عليها، ولو لم يحصل اليقين بما لها من الخصوصيّات، كتفاصيل عالم البرزخ والبعث والجنّة والنار والميزان، فإنّ الواجب علينا إنّما هو الاعتقاد بها والتسليم والانقياد لها على ما هي عليه، بأن نعتقد بما هو الواقع، فيجري - حينئذٍ - الاستصحاب.

فمثلاً: إذا شككنا في بقاء سؤال منكر ونكير في بعض بقاع الأرض؛ لكرامتها بكرامة من دفن فيها، من نبيٍّ أو وصيّ، فإنّه يجري الاستصحاب في جميع ذلك ويترتّب عليه وجوب الاعتقاد بذلك كلّه، حيث لم يكن هنا فرق في الحكم الشرعيّ بين تعلّقه بعمل جارحيّ وعمل جانحيّ،

ص: 190


1- انظر: كفاية الاُصول: 422، وهاك نصّ كلامه، قال): «وأمّا الاُمور الاعتقاديّة التي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والاعتقاد، بمعنى: عقد القلب عليها من الأعمال القلبيّة الاختياريّة، فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكماً، وكذا موضوعاً، فيما كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق؛ لصحّة التنزيل وعموم الدليل، وكونه أصلاً عمليّاً إنّما هو بمعنى أنّه وظيفة الشاكّ تعبّداً، قبالاً للأمارات الحاكية عن الواقعيّات، فيعمّ العمل بالجوانح كالجوارح، وأمّا التي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها، فلا مجال له موضوعاً، ويجري حكماً، فلو كان متيقّناً بوجوب تحصيل القطع بشيء - كتفاصيل القيامة - في زمان، وشكّ في بقاء وجوبه، يستصحب».

بعد شمول دليل الاستصحاب لكليهما. هذا إذا كان الاستصحاب في الموضوع.

وأمّا إذا كان في الحكم، فكما إذا فرضنا أنّه حصل الشكّ في وجوب اعتقادنا بنبوّة الأنبياء السابقين، لاحتمال وجوبهعلى خصوص المسلمين في صدر الإسلام، مع القطع بوجوده سابقاً، فيجري الاستصحاب قطعاً.

والثاني: أن يكون موضوع وجوب الاعتقاد والتسليم الاُمور الاعتقاديّة بشرط اليقين بها، لا مطلقاً، كوجود الصانع وتوحيده والنبوّة والمعاد؛ فإنّ موضوع وجوب الالتزام والاعتقاد بها إنّما هو معرفتها واليقين بها، لا نفس وجودها واقعاً، وإن لم تتعلّق بها المعرفة، فلا يجري فيها الاستصحاب الموضوعيّ؛ لأنّها لم تكن بوجودها الواقعيّ موضوعاً لوجوب الاعتقاد والتسليم حتى تثبت بالاستصحاب، بل موضوعه هو المعرفة بها، وهي لا تثبت بالاستصحاب. وأمّا الاستصحاب الحكميّ، فلا مانع من جريانه.

وأمّا الشيخ الأنصاريّ(قدس سرّه) فقد قسّم الاُمور الاعتقاديّة المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد والانقياد والتسليم له وعقد القلب عليه إلى قسمين(1):

ص: 191


1- انظر: فرائد الاُصول 3: 259، فما بعدها.

الأوّل: ما يجب فيه أوّلاً بحكم العقل تحصيل العلم واليقين به، ثمّ يجب بحكم العقل بعد العلم واليقين به الاعتقاد به والانقياد والتسليم له وعقد القلب عليه، كالتوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد.

وهذا القسم لا مجال لجريان الاستصحاب فيه موضوعاً، وذلك لأنّه ممّا يجب فيه من تحصيل القطع والمعرفة به، ومعلوم أنّ الاستصحاب ممّا لا يجدي في حصولهما.والثاني: ما لا يجب فيه بحكم العقل ولا الشرع تحصيل اليقين به، ولكن إذا حصل العلم واليقين به بطبعه وجب فيه بحكم العقل والشرع جميعاً الاعتقاد به والانقياد والتسليم له، وذلك كما في تفاصيل البرزخ والقيامة وسؤال النكيرين والصراط والحساب والكتاب والميزان والحوض والجنّة والنار.

وهذا القسم ممّا يجري فيه الاستصحاب حكماً وموضوعاً.

وبناءً على ما تقدّم، يتّضح: أنّه لا يفيد تمسّك الكتابيّ بالاستصحاب لإثبات نبوّة عيسى(علیه السلام)، كما مرّ الكلام فيه مفصّلاً.

ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ) وجّه استصحاب متعلّق الاعتقاد مع الشكّ فيه، بقوله:

«وإن أمكن دفعه بأنّ ما لا يتمشّى مع الشكّ إنّما هو التسليم والانقياد الجزميّ، وأمّا التسليم والانقياد له بعنوان كونه نبيّاً أو إماماً ظاهراً بمقتضى

ص: 192

الأمارة أو الأصل المنقّح، فلا بأس به»(1).

وحاصله: أنّ الانقياد والتسليم ههنا بالإمامة - مثلاً - الظاهريّة، أو النبوّة الظاهريّة؛ لأنّه بعد التعبّد بها، تَثبت ظاهراً، فيسلّم بها بهذا النحو، لا على طريق الجزم واليقين كي يورد عليه بتنافيه مع الشكّ في أصل الإمامة والنبوّة.ولكنّه غير تامّ، لما مرّ من أنّ الرسالة والإمامة من الاُمور التكوينيّة، وليستا من الاُمور المجعولة، حتى يمكن جريان الاستصحاب.

التنبيه التاسع :الرجوع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص:

إذا ورد عامّ أفراديّ، وكان يتضمّن - أيضاً - العموم الأزمانيّ، وخصّص بعض الأفراد، وشكّ في خروج ذلك البعض في جميع الأزمنة أو في بعض تلك الأزمنة، فهل يرجع في زمان الشكّ في الخروج إلى عموم العامّ، أم إلى استصحاب حكم المخصّص؟

فإنّ ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾(2) - مثلاً - له عموم أفراديّ؛ حيث كان (العقود) معرّفاً بالألف واللّام، وهو من صيغ العموم. كما له - أيضاً - عموم أزمانيّ، وإلّا، يلزم لغويّة هذا الحكم؛ لأنّ لزوم الوفاء بالعقد في زمان لا أثر له، فمعنى ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾: وجوب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان.

ص: 193


1- نهاية الأفكار 4: 220.
2- المائدة: الآية 1.

فإذا جاء دليل خيار الغبن وأخرج المعاملة الغبنيّة - مثلاً - عن هذا العموم، وعلمنا بخروجها عن تحت هذا العامّ في آن أوّل الالتفات إلى الغبن، فهل المرجع هو عموم العامّ والحكم باللّزوم في سائر الأزمنة حتى يكون الخيار فوريّاً، أمهو استصحاب حكم المخصّص، حتى يكون الخيار على التراخي؟

وثمرة هذا البحث: هو مسألة فوريّة خيار الغبن، تمسّكاً بعموم ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، فإنّه يدلّ على وجوب الوفاء بالعقد الذي هو كناية عن اللّزوم في كلّ آنٍ وكلّ فرد، وقد خرج عن هذا العموم آن الالتفات إلى الغبن والتمكّن من الفسخ، فإذا لم يفسخ المغبون في آن الالتفات، وشكّ في بقاء الخيار فيما بعده من الآنات، يحكم بسقوطه؛ لعموم ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، كما أنّ من يقول بعدم فوريّة الخيار يتمسّك باستصحاب الحكم المخصّص، وجواز العقد الموجب لكون الخيار على التراخي.

والبحث في هذه المسألة: أنّه مع ورود المخصّص فإنّ التخصيص هل يسقط العامّ عن الحجّيّة رأساً بحيث يمنع عن أصالة العموم مطلقاً؟ أم لا يسقطه كذلك؟ أم يسقطه في الجملة؟

فيه أقوال:

منها: ما عن المحقّق الثاني(قدس سرّه) من التمسّك بالعموم مطلقاً(1).

ص: 194


1- راجع: جامع المقاصد 4: 38.

ومنها: ما عن السيّد بحر العلوم(قدس سرّه) من استصحاب حكم المخصّص مطلقاً(1).ومنها: التفصيل بين المخصّص اللّبّيّ واللّفظيّ بالتمسّك بالعامّ في الأوّل، وبالاستصحاب في الثاني، كما عن صاحب الرياض)(2).

ومنها: القول بالتفصيل بين أن يكون الزمان مفرّداً للعامّ، وبين أن يكون ظرفاً لاستمرار حكمه، بالتشبّث بالعامّ في الأوّل، وبالاستصحاب في الثاني، كما اختاره الشيخ الأعظم(قدس سرّه).

قال): «الحقّ هو التفصيل في المقام، بأن يقال:

إن أُخذ فيه عموم الأزمان أفراديّاً، بأن أُخذ كلّ زمانٍ موضوعاً مستقلّاً لحكم مستقلّ، لينحلّ العموم إلى أحكامٍ متعدّدة بتعدّد الأزمان ... فحينئذٍ: يُعمل عند الشكّ بالعموم، ولا يجري الاستصحاب، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الاُصول، لعدم قابليّة المورد للاستصحاب.

وإن أُخذ لبيان الاستمرار، كقوله: أكرم العلماء دائماً، ثمّ خرج فرد في زمان، وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان، فالظاهر جريان الاستصحاب؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم؛ لأنّ مورد التخصيص الأفراد

ص: 195


1- حكاه عنه الشيخ الأعظم(رحمة الله) في الرسائل، انظر: فرائد الاُصول 3: 276، وعنه: فوائد السيّد بحر العلوم: 116 - 117.
2- انظر: رياض المسائل 8: 281.

دون الأزمنة، بخلاف القسم الأوّل، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم، بل إلى الاُصول الأُخَر»(1).وملخّصه: أنّه لابدّ من التفريق بين ما لوحظ الزمان في أفراد وحصص متعدّدة، بحيث يكون كلّ فرد من أفراد العامّ محكوماً بأحكام متعدّدة بتعدّد آنات الزمان وقطعه، وبين ما إذا لوحظ الزمان قطعة واحدة؛ لاستمرار الحكم، ولا عموم إلّا بلحاظ الأفراد دون الأزمان، فقال بجريان الاستصحاب في نفسه في الثاني، وعدم كونه مورداً لأصالة العموم، بخلاف الأوّل، فإنّه مورد لهذه الأصالة، ولا يجري فيه الاستصحاب.

وأقول:

لا يخفى: أنّه في عالم الثبوت إذا قلنا بكون العامّ بحسب عمومه الأزمانيّ - أيضاً - انحلاليّاً، مثل عمومه الأفراديّ، بمعنى: كون كلّ قطعة من الزمان القابل لوقوع متعلّق التكليف أو الوضع موضوعاً مستقلاً لحكم العامّ، بحيث لا يكون امتثال الحكم أو عصيانه في تلك القطعة بعينها مربوطاً بالامتثال والعصيان في سائر القطعات الأُخرى، بل يكون لكلّ قطعة امتثالها وعصيانها الخاصّ بها.

ففي هذه الصورة: خروج قطعة من الزمان عن تحت العموم الأزمانيّ غير مضرّ أبداً بوجود أصالة العموم بالنسبة إلى القطعات الأُخرى؛ إذ إنّ

ص: 196


1- فرائد الاُصول 3: 274 - 275.

حال أصالة العموم - بناءً على هذا - بالنسبة إلى الأزمان هو حال أصالة العموم بالنسبة إلى الأفراد، فكما أنّ خروج فرد عن تحت العموم باعتبارحكمه لا يكون مضرّاً بشمول العامّ لسائر الأفراد المشكوكة، فكذلك الأمر - أيضاً - في العموم الأزمانيّ.

فخروج المعاملة الغبنيّة في آن الالتفات إلى الغبن عن عموم مثل ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، لا يضرّ بشمول العموم فيه لسائر الآنات والقطعات.

وأنت تعلم: بأنّه مع وجود أصالة العموم فلا يبقى مجال للاستصحاب، بل حتى لو فرض عدم جريان أصالة العموم - التي هي من الأمارات - ففي صورة ما لو كانت كلّ قطعة من الزمن وجوداً مستقلّاً، مع خروج قطعة من الزمن عن تحت العموم يقيناً، فأيضاً لا مجال لجريان استصحاب الحكم المخصّص بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة من قطعات الزمان؛ لأنّه يكون من باب إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس من إبقاء ما كان، الذي هو مورد الاستصحاب.

وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل كان مجموع القطعات موضوعاً واحد، فلا يبقى مجال للتمسّك بعموم العامّ؛ لأنّ الفرد الخارج يقيناً في بعض قطعات الزمان عن تحت العامّ قد خرج عن تحت حكم العامّ رأساً، وليس للعامّ بحسب الزمان أحكام متعدّدة حسب الفرض، بل هو حكم واحد فقط، وقد سقط عن هذا الفرد بواسطة التخصّص، وليس في البين من حكم آخر حتى يثبت بأصالة العموم لهذا الفرد، فإذا شككنا في حكم هذا

ص: 197

الفرد بقاءً بعد خروجه عن تحت العامّ، فلا مجال - حينئذٍ - إلّا للرجوع إلى الاستصحاب.

هذا في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات، فلا فرق بين أن يكون العموم الأزمانيّ مأخوذاً على نحو العموم الأفراديّ عامّاً اُصوليّاً انحلاليّاً، بأن تكون كلّ قطعة من الزمان قد أُخذت موضوعاً مستقلّاً، وبين كونه من قبيل العامّ المجموعيّ.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون شمول العامّ لجميع الأفراد بأحد ألفاظ العموم، أو بنحو العامّ الاُصوليّ بالإطلاق، فلا فرق في شمول العامّ بين أن يقول - مثلاً - (يجب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان)، بأن يدلّ على انحلال هذا الحكم إلى أحكام متعدّدة حسب تعدّد أزمنة لفظ (كلّ) وأمثاله من ألفاظ العموم، أو يكون الدالّ على الانحلال هو الإطلاق، مثل إطلاق: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، حيث إنّه يدلّ على وجوب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان.

فالمناط - إذاً - هو انحلال الحكم باعتبار الأزمنة أيضاً إلى أحكام متعدّدة، مثل انحلاله باعتبار الأفراد، فكما أنّ مورد الانحلال بحسب الأفراد لو علم بخروج فرد عن تحت عموم الحكم، لا مجال لتوهّم جريان استصحاب حكم الفرد الخارج يقيناً بالنسبة إلى الفرد المشكوك، فكذلك في مورد الانحلال بحسب الزمان.

ومن هنا ظهر: أنّ هناك فرقاً بين كون العامّ نهياً، وبين كونه أمراً، ففي

ص: 198

النهي بما أنّه بنفسه يكون ظاهراً في الانحلال بحسب الأفراد والأزمان، أي: الأفراد العرضيّة والطوليّة، فلو علمنا بخروج فرد في زمان عن تحت عموم النهي.مثلاً: لو علمنا بجواز شرب الخمر لأجل كونه دواءً منحصراً، ثمّ شككنا في زمانٍ بعد ذلك الزمان، لا مجال لاستصحاب الجواز، بل لابدّ من الرجوع إلى عموم النهي؛ لأنّ خروج الفرد عن تحت العموم لا يوجب خروج سائر الأفراد.

وأمّا إذا كان أمراً، فلابدّ فيه من استفادة العموم من ألفاظ العموم أو أدواته أو من الإطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة. فإذا استفدنا العموم الاستغراقيّ بالنسبة إلى الأفراد والأزمان، سواء كان ذلك من ألفاظ العموم وصيغه، أو من أدواته، أو من الإطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة، فإذا علمنا بخروج قطعة من الأزمنة عن تحت العموم، وشككنا بالنسبة إلى الأزمنة المتأخّرة، فلا يمكن التشبّث بالاستصحاب، لما ذكرناه، بل المرجع - حينئذٍ - أصالة العموم؛ إذ كما يمكن التمسّك بأصالة العموم بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة في العموم الأفراديّ، فكذلك في الأزمانيّ أيضاً.

ثمّ هذا الذي ذكرناه في العامّ، من تقسيم العامّ إلى قسمين بالنسبة إلى العموم الأزمانيّ، يأتي بالنسبة إلى المخصّص أيضاً، فإنّ المخصّص بدوره:

ص: 199

تارةً: يكون الزمان المأخوذ فيه موضوعاً مستقلّاً، بحيث يكون الفرد الخارج في زمان عن تحت عموم العامّ يكون نفس ذلك الزمان موضوعاً مستقلّاً لحكم المخصّص، بمعنى: أنّه لو فرضنا ثبوت حكم المخصّص له في الزمانالمتأخّر عن ذلك الزمان المتّصل به، فإنّه يكون حكماً آخر لموضوع آخر، وليس من قبيل إبقاء ما كان.

وأُخرى: لا يكون ذلك الزمان موضوعاً مستقلّاً، بل يكون حكم المخصّص من ناحية الزمان مهملاً، وله من هذه الجهة قدر متيقّن، وهو الزمان الذي نقطع بخروجه عن تحت العموم الأزمانيّ.

وحينئذٍ نقول: إن كان من قبيل الأوّل، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه، ولو فرض عدم جريان العموم، كما إذا لم يكن العامّ انحلاليّاً؛ لأنّه يكون - حينئذٍ - من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، لا إبقاء لما كان.

وإن كان من قبيل الثاني، فإن كان العامّ انحلاليّاً، يجب الرجوع إلى العامّ، ويكون من قبيل الشكّ في أصل التخصيص، ومع وجود أصالة العموم، فلا يبقى مجال للاستصحاب.

والحاصل: أنّ صور المسألة أربع:

الصورة الأُولى: أن يكون العامّ انحلاليّاً، وكذلك الخاصّ، ويكون الزمان المأخوذ فيه موضوعاً مستقلّاً لحكم المخصّص. وفي هذه الصورة، لابدّ من الرجوع إلى العامّ في مورد الشكّ، وحينئذٍ: فليس له

ص: 200

أن يطالب بالخيار في الزمان المتأخّر.

ولو فرض عدم إمكان الرجوع إلى العامّ لسبب من الأسباب، فلا مجال للرجوع إلى الاستصحاب، بل لابدّ من الرجوع إلى أصل آخر غيره، لما بيّنّاه.الصورة الثانية: أن يكون العامّ انحلاليّاً - أيضاً -، ولكنّ الخاصّ لا يكون انحلاليّاً، ولا يكون الزمان المأخوذ فيه مستقلّاً، بل يكون مهملاً من هذه الناحية.

وفي هذه الصورة، لابدّ من الرجوع إلى العموم، ولا يمكن الرجوع إلى الخاصّ، بل لو فرض عدم التمكّن من الرجوع إلى العموم، فأيضاً لا يمكن استصحاب الخاصّ، لما عرفنا من أنّه من مصاديق إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

الصورة الثالثة: أن لا يكون العامّ انحلاليّاً، والخاصّ يكون الزمان المأخوذ فيه مستقلّاً. ففي مورد الشكّ، لا يجوز الرجوع إلى العامّ، ولا إلى استصحاب حكم الخاصّ.

أمّا عدم جواز الرجوع إلى العامّ؛ فلعدم أصالة العموم، بل كان حكماً واحداً بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد العامّ في مجموع الأزمنة، وذهب ذلك الحكم عن هذا الفرد الذي خصّص، وليس هناك حكم آخر حتى يتمسّك بعمومه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون التخصيص من أوّل الأزمنة أو أوسطها.

ص: 201

وأمّا عدم جواز الرجوع إلى الاستصحاب؛ فلما تقدّم من أنّه إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس من إبقاء ما كان.

الصورة الرابعة: أن لا يكون العامّ انحلاليّاً، والخاصّ - أيضاً - لا يكون الزمان المأخوذ فيه موضوعاً مستقلاً، فالمرجع فيهذه الصورة هو الاستصحاب، لما ذكرناه من أنّه لا مجال للرجوع إلى العموم، فتصل النوبة إلى الاستصحاب.

التنبيه العاشر: تعذّر بعض قيود المركّب:

إذا تعذّر إتيان بعض أجزاء المركّب أو شرائطه أو تعذّر ترك بعض موانعه، فتارةً يكون هناك دليل اجتهاديّ، من إطلاق دليل أو عموم قاعدة الميسور أو غير ذلك، وأُخرى لا يكون، وحينئذٍ: فهل يمكن التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب الباقي غير المتعذّر أم لا؟

فمثلاً: في الآية الشريفة: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(1)، لو فرض أنّ لها إطلاقاً يشمل كلتا حالتي التمكّن من رمي الجمرة وعدم التمكّن منه، فإذا لم يتمكّن منه، وسقط الأمر عنه بواسطة عدم القدرة، فحينئذٍ: يتمسّك بإطلاق دليل وجوب الحجّ لإثبات وجوب الباقي، وعدم سقوطه بسقوط وجوب ذلك الجزء، أو ذلك الشرط المتعذّر.

ص: 202


1- آل عمران: الآية 97.

وقد تقدّم نظائر لهذه الآية الشريفة المتقدّمة عند الكلام عن أدلّة قاعدة الميسور. فلا نعيد.

وإنّما الكلام هنا في أنّه لو لم يكن هناك دليل اجتهاديّ من إطلاق دليل أو عموم قاعدة أو غير ذلك، فهل يمكن جريان الاستصحاب - بتقريب أنّ الاستصحاب أصل عمليّ، فلاتصل النوبة إليه إلّا بعد فقدان العموم أو الإطلاق، وفقدان إطلاق دليل القيد؛ إذ مع وجود إطلاق في دليل المركّب، وكون دليل القيد مجملاً، فيكون بقاء الوجوب للبقيّة معلوماً بواسطة الإطلاق.

فلا يبقى مجال للاستصحاب؛ وذلك لحكومة إطلاق دليل المركّب، وكذا لو كان لدليل الجزء إطلاق فيسقط الوجوب سواء كان لدليل المركّب إطلاق - أم لا يمكن جريانه؟

وتقرير جريان الاستصحاب في المقام بأن يقال:

إنّ شخص الوجوب كان موجوداً، وشموله لتلك القطعة الباقية غير المتعذّرة، وهو الوجوب النفسيّ الضمنيّ المتعلّق بتلك القطعة الباقية في ضمن تعلّقه المجموع.

فإنّ منشأ اعتبار الوجوب هو الإرادة المنبسطة على جميع الأجزاء والشرائط وإعدام الموانع قبل طروّ التعذّر، وبعد طروّه يشكّ في أنّه هل ارتفعت جميع قطعات تلك الإرادة المنبسطة على مجموع أجزاء المركّب وشرائطها أم أنّ الذي ارتفع هو خصوص القطعة التي كانت

ص: 203

متعلّقة بغير المتعذّر؟ فيجري استصحابه.

وقد يقال: بأنّ لازم ذلك أنّ المستصحب في ظرف اليقين به كان وجوبه من قبيل الوجوب النفسيّ الضمنيّ، ثمّ في ظرف الشكّ صار وجوبه نفسيّاً استقلاليّاً، وهذا المقدار من الاختلاف لايوجب اختلافاً في ذات المستصحب، بل إنّما يوجب التبدّل في حدّه، من الضمنيّة إلى الاستقلاليّة.ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ الاستقلاليّة والضمنيّة متغايران؛ لرجوعهما إلى البشرط شيء والبشرط لا، كما الركعتين في صلاة الحاضر والمسافر. فيكون إجراء الاستصحاب - والحال هذه - من إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس إبقاء لما كان كما كان.

التنبيه الحادي عشر :المراد من الشكّ في البقاء:

المراد من الشكّ في البقاء الذي أُخذ موضوعاً للاستصحاب هو عدم قيام علم أو علميّ على ارتفاع الحالة السابقة أو على بقائها.

والظاهر: أنّ الشكّ قد استعمل بمعناه المتبادر عند العرف، وهو الترديد واحتمال الخلاف، وحيث إنّ احتمال الخلاف تارةً يكون مساوياً لاحتمال الوفاق، وهو الشكّ بمعناه الأخصّ، وأُخرى يكون راجحاً أو مرجوحاً، ويسمّى الأوّل - عادةً - ظنّاً، والثاني وهماً، حيث كان كذلك، فيكون الشكّ بمعناه هنا شاملاً للظنّ - أيضاً -، إذ لم يكن له معنىً في

ص: 204

المقام سوى عدم الجزم بالنسبة الحكميّة.

وعلى هذا الأساس: فالذي يضرّ بتحقّق الشكّ إنّما هو حصول العلم بالبقاء، أو بالارتفاع.

فكلّ من الصور الثلاث - أعني: الشكّ بمعناه الأخصّ، والظنّ، والوهم - لا يوجب خروج القضيّة التي تعلّق بها عنكونها مشكوكة، فتشملها أدلّة الاستصحاب، وتكون بذلك مجرىً له.

وأمّا الظنّ المعتبر، فإنّه بعد تتميم كشفه، يقوم مقام العلم، بل هو علم تعبّداً، كما تقدّم، ولذا سمّي ﺑ (العلميّ)، فإذا قام على البقاء أو على الارتفاع، فلا يبقى مجال للاستصحاب؛ لفرض ارتفاع موضوعه تعبّداً، وهذا هو المقصود من حكومة الأمارات على الاستصحاب.

وأمّا احتمال أن يكون المراد بالشكّ هو خصوص الشكّ المتساوي الطرفين - والذي هو الشكّ بالمعنى الأخصّ - حتى يكون إجراء الاستصحاب في مورد الظنّ بالخلاف، بل وحتى في مورد الظنّ بالوفاق، بحاجة إلى دليل.

فبعيد؛ لأنّ المتفاهم العرفيّ من مثل خطاب (لا تنقض اليقين بالشكّ)، هو عدم جواز نقض اليقين بشيء بصرف احتمال عدم بقائه، سواء كان احتمال العدم مساوياً لاحتمال البقاء، أم كان راجحاً أم مرجوحاً.

ويشهد لذلك قوله(علیه السلام): «ولكن انقضه بيقين آخر»، فلابدّ أن يكون

ص: 205

ما عدا العلم بارتفاع الحالة السابقة مشمولاً للشكّ، وإلّا ، يلزم إهمال حكم الظنّ بالخلاف.

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) في المقام:

«وظنّي: أنّ هذا المعنى الذي ذكروه للشكّ - وهو خصوص كون الاحتمالين متساويين - ليس معنىً لغويّاً أو عرفيّاً للشكّ، وإنّما هو اصطلاح علميّ لبيان استيفاءالحالات الأربع التي تحصل للنفس بالنسبة إلى كلّ قضيّة التفت الإنسان إليها، ولا يخلو من أحدها»(1).

ص: 206


1- منتهى الاُصول 2: 523 - 524.

خاتمة

اشارة

فيها اُمور:

الأمر الأوّل :الكلام في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة:

اشارة

لا يخفى: أنّه بناءً على ما عرفناه من أنّ حقيقة الاستصحاب هي الحكم ببقاء ما كان تعبّداً في ظرف الشكّ في بقائه وجداناً، وهذا يعني: أنّه لابدّ في تحقّق موضوع الاستصحاب، وفي ثبوت المجرى له، من أن يكون هناك قضيّتان: إحداهما: قضيّة متيقّنة، والأُخرى: مشكوكة.

كما أنّه لابدّ من اتّحاد القضيّتين موضوعاً ومحمولاً، وإلّا، فمع اختلافهما من ناحية الموضوع أو المحمول أو كليهما، فلا يجري الاستصحاب.وقد ذهب صاحب الكفاية) إلى أنّ المعتبر في بقاء الموضوع هو بقاء الموضوع بمعنى اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة، بمعنى: أنّ

ص: 207

ما كان متعلّق اليقين سابقاً، فلابدّ وأن يكون هو متعلّق الشكّ أيضاً، فإذا كان المتيقّن هو قيام زيد، فلابدّ أن يكون هو المشكوك، لا قيام عمرو. وأمّا بقاؤه في الخارج فغير معتبر في الاستصحاب، وإنّما هو معتبر في مقام ترتّب الأثر إذا كان الوجود الخارجيّ دخيلاً فيه.

وهاك نصّ كلامه«:

«لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع، بمعنى: اتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة موضوعاً، كاتّحادهما حكماً؛ ضرورة أنّه بدونه لا يكون الشكّ في البقاء، بل في الحدوث، ولا رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقض اليقين بالشكّ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان».

إلى أن يقول:

«وأمّا بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً، فلا يعتبر قطعاً في جريانه؛ لتحقّق أركانه بدونه. نعم، ربّما يكون ممّا لا بدّ منه في ترتيب بعض الآثار، ففي استصحاب عدالة زيد، لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده، وإن كان محتاجاً إليه في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه»(1).وبالجملة: فيجب أن تتّحد القضيّتان المتيقّنة والمشكوكة موضوعاً،

ص: 208


1- كفاية الاُصول: 427.

كاتّحادهما حكماً، أي: محمولاً، فإذا فُرض أنّ موضوع القضيّة المتيقّنة - مثلاً - هو زيد، ومحمولها هو القيام، فيجب أن يكون الموضوع في القضيّة المشكوكة هو - أيضاً - زيد، ويجب أن يكون محمولها هو القيام، بأن يستصحب عند الشكّ قيام زيد نفسه، لا قيام عمرو، ليختلف الموضوع، ولا عدالة زيد، ليختلف المحمول، فلو لم يكن موضوع القضيّتين متحداً كاتّحادهما محمولاً، فالشكّ - حينئذٍ - لم يكن في شكّاً في بقاء الأمر الأوّل، بل يصبح شكّاً في حدوث أمر آخر.

وأيضاً: فلو لم يكن موضوع القضيّتين واحداً، كما كان محمولاً واحداً - أيضاً -، لم يكن رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقضاً لليقين بالشكّ، بل هو لا يكون نقضاً أصلاً، فلو تيقّن في السابق بعدالة زيد، ثمّ شكّ فعلاً بعدالة عمرو، لم يكن هذا الشكّ - كما هو واضح - شكّاً في بقاء ما كان، ولا رفعاً لليد عن اليقين بعدالة زيد، ولا نقضاً لليقين بالشكّ، وهذا واضح.

وقد ذكر الشيخ الأعظم(قدس سرّه) دليلاً على اعتبار بقاء الموضوع، وهو: أنّه لو لم يعلم تحقّق الموضوع فعلاً في ظرف الشكّ، «فإذا أُريد بقاء المستصحب العارض له المتقوّم به، فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع، وهو محال، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، ومن المعلوم: أنّ هذا ليسإبقاءً لنفس ذلك العارض، وإنّما هو حكم بحدوث عارضٍ مثله في موضوع جديد، فيخرج عن الاستصحاب، بل حدوثه للموضوع

ص: 209

الجديد كان مسبوقاً بالعدم، فهو المستصحب دون وجوده»(1).

وحاصله: أنّه لو لم يعلم تحقّق الموضوع فعلاً في ظرف الشكّ، وأُريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوّم به، فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع، وهو محال، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، وهو كذلك، إمّا لاستحالة انتقال من موضوع إلى موضوع آخر؛ للزوم الطفرة، وهي المستلزمة لكون العرض بلا معروض، ولو آناً ما، في حال الانتقال والتحوّل. وإمّا لأنّ المتيقّن سابقاً هو وجوده في الموضوع السابق والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضاً لليقين السابق.

واعترض عليه صاحب الكفاية(قدس سرّه) بما حاصله: أنّ انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر، بل وهكذا بقاؤه في غير محلّ وموضوع، وإن كان محالاً حقيقةً، ولكنّه ممّا لا يستحيل التعبّد به والالتزام بآثاره شرعاً.

قال(قدس سرّه):

«والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر؛ لتقوّمه بالموضوع وتشخّصه به، غريب؛ بداهة أنّاستحالته حقيقةً غير مستلزم لاستحالته تعبّداً والالتزام بآثاره شرعاً»(2).

ص: 210


1- فرائد الاُصول 3: 290 - 291.
2- كفاية الاُصول: ص 427.

ثمّ بعد الفراغ عن أنّه يعتبر بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب لا محالة، فهل اللّازم هو بقاء الموضوع العقليّ الدقّيّ، أم الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، أم الموضوع الذي يحدّده النظر العرفيّ؟

فنقول: بعد أن عرفنا لزوم بقاء الموضوع في جميع حالات جريان الاستصحاب، فليس المراد به بقاء الموضوع الدقّيّ العقليّ؛ لأنّه بعد رجوع القيود إلى الموضوع - كما ذكرنا آنفاً في مثل آية وجوب الحجّ، من أنّ مردّها بعد ملاحظة القيود فيها إلى معنى قولك: أيّها المستطيع حجّ - فلا مجال للاستصحاب في الأحكام الشرعيّة، في كلّ مقام شكّ في بقاء الحكم فيه؛ لأنّ الشكّ فيه لا يكون إلّا من جهة أنّ القيد الذي زال هل هو دخيل في ترتّب الحكم أم ليس بدخيل؟ فلو علم بعدم دخله فيه، فلا يحصل له الشكّ، كما هو واضح، بل يكون لديه علم ببقاء الحكم، ولو علم بدخله فيه، فكذلك، فإنّه يكون لديه علم بارتفاع الحكم.

وعليه: فبناءً على اعتبار بقاء الموضوع الدقّيّ العقليّ، لا يجري الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة، بل يختصّ جريانه بالموضوعات، دون الأحكام.وأمّا إذا كان اللّازم هو بقاء الموضوع الذي يفهم من لسان الدليل، فقد فرّق الشيخ الأعظم(قدس سرّه) بين ما كان الوصف مأخوذاً فيه بنحو الشرط، كقوله: (الماء يتنجّس إذا تغيّر)، والموضوع فيه هو نفس الماء، فإذا زال التغيّر استصحب النجاسة، وبين ما كان مأخوذاً فيه بنحو الوصف

ص: 211

للموضوع، كقوله: (الماء المتغيّر نجس)، فحينئذٍ: إذا زال التغيّر، لم تستصحب النجاسة(1).

وأمّا إذا كان لزوم بقاء ما هو الموضوع بنظر العرف، فإنّ المعيار - حينئذٍ - في جريان الاستصحاب إنّما هو ما يفهمه العرف موضوعاً ومعروضاً للمستصحب، بحسب ما هو مرتكز في أذهانهم وبحسب ما يشخّصونه من مناسبات الحكم والموضوع، ولو في بعض الأمثلة، بعد فرض زوال العناوين المحتمل كونها مأخوذة في لسان الدليل؛ لكون العرف بحسب مرتكزاته يرى عدم تبدّل الموضوع بعد زوال بعض صفاته.

فمثلاً: في الدليل الدالّ على حلّيّة الحنطة، يرى العرف أنّ الحنطة - بحسب هذا الدليل - هي معروض الحلّيّة، ولكنّه في الوقت عينه، يرى بحسب مرتكزاته أنّ عروض الحليّة ليس من مختصّات الحنطة، بل يعمّها ويعمّ الدقيق أيضاً.وبعبارة أُخرى: فإنّه - حينئذٍ - إذا شكّ في بقاء الحكم من جهة بقاء ما

ص: 212


1- فرائد الاُصول 3: 295. قال«: «أن يُرجع في معرفة الموضوع للأحكام إلى الأدلّة، ويُفَرَّق بين قوله: الماء المتغيّر نجس، وبين قوله: الماء ينجس إذا تغيّر، فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر، فيزول الحكم بزواله، وفي الثاني، نفس الماء، فيستصحب النجاسة لو شكّ في مدخليّته التغيّر في بقائها».

هو الموضوع عرفاً، كعنوان القائم وأمثاله من العناوين المشيرة إلى ما هو الموضوع واقعاً، وأنّه من الحالات المتبادلة له، لا الاُمور المقوّمة للموضوع حقيقةً، فإذا ورد الدليل - مثلاً - بأنّ العصير العنبيّ إذا غلى يحرم، فلو جفّ العنب وأصبح زبيباً، فيجري الاستصحاب عندئذٍ، بعدما كان المدار على ما هو الموضوع في نظر العرف.

ولا شكّ في أنّ ما هو مرتكز في أذهانهم في مثل المثال، هو ما يعمّ الزبيب - أيضاً -، وهم يشخّصون أنّ عنوان العنب المأخوذ في لسان الدليل هو من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة، نظير عنوان القائم أو القاعد أو غير ذلك.

نعم، يمكن أن يقال: بأنّ العرف - أيضاً - قد يرون العنوان من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة، ولكنّهم في بعض الأحيان قد يرون العنوان من القيود المقوّمة للموضوع.

فالأوّل: كما مثّلنا. والعنوان المشير عند زواله، فإنّ الحكم لا يزال على حاله، وهو لم يزل، وإذا شكّ في بقائه - أعني: الحكم - استصحب.

وأمّا الثاني، فكما إذا قيل: لا ترفع صوتك عند النائم، وبما أنّ هذا العنوان يكون من العناوين المقوّمة، فإذا زال، فقد زال الحكم من أصله، وإذا شكّ فلا يكون هناك مجال لاستصحابه.

فإذا عرفت هذا، فاعلم:

أنّ النقض وعدمه يختلفان بحسب الموارد، فإذا لم تتّحد القضيّتان

ص: 213

المتيقّنة والمشكوكة موضوعاً كاتّحادهمامحمولاً، فلم يكن رفع اليد عن اليقين في ظرف الشكّ نقضاً لليقين بالشكّ، فإنّ النقض إنّما يصدق فيما إذا كان الموضوع باقياً، فإذا زال عنوان من العناوين المأخوذة في لسان الدليل، وكان العرف يراه من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة وليس من القيود المقوّمة، فرفع اليد - حينئذٍ - عن اليقين في ظرف الشكّ، لا يكون نقضاً، لا بحسب الموضوع العقليّ، ولا بحسب ما هو الموضوع في لسان الدليل؛ لعدم بقائهما، وإن كان يعدّ نقضاً بحسب الموضوع العرفيّ؛ لبقائه وعدم ارتفاعه.

فإذا زالت خصوصيّة من خصوصيّات الموضوع، ممّا يحتمل دخلها في الحكم، ولم تكن مأخوذة في لسان الدليل، ولا من القيود المقوّمة للموضوع في نظر العرف، فرفع اليد - حينئذٍ - عن اليقين في ظرف الشكّ، لا يكون نقضاً بحسب الموضوع العقليّ الدقّيّ؛ لعدم بقائه، ولكنّه يكون نقضاً بحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل والموضوع العرفيّ؛ لبقائهما وعدم ارتفاعهما.

وأمّا إذا زال عنوان من العناوين المأخوذة في لسان الدليل، ممّا يراه العرف - أيضاً - موضوعاً، لا ممّا يراه من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة، فرفع اليد - حينئذٍ - عن اليقين في ظرف الشكّ نقض بحسب الموضوع العقليّ الدقّي، وبحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، وأيضاً بحسب الموضوع العرفيّ.

ص: 214

وقد يقال - بل قد قيل -: بأنّه ما المراد من جعل النظر العرفيّ في مقابل النظر بحسب الدليل؟ فإنّه إن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في مقام تعيّن مفهوم اللّفظ، فهذا يرجع إلى تحكيم الدليل، وليس قسماً آخر. وإن أُريد منه الرجوع إليه في مقام التطبيق وصدق المفهوم على مصاديقه، فلا عبرة بالعرف في هذا المقام كي يحتمل أنّه المحكم والمرجع في تعيّن الموضوع؟

وفي تقريب هذا الإشكال يقول المحقّق العراقي(قدس سرّه):

«إن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في معرفة معنى موضوع الدليل وتشخيص مفهومه، فهو صحيح، إلّا أنّه لا يختصّ بباب الاستصحاب؛ لعموم مرجعيّة نظر العرف في تشخيص مفاهيم الألفاظ وتحديد مداليلها في القضايا الشرعيّة وغيرها، فلا معنى لجعل الموضوع العرفيّ مقابلاً لموضوع الدليليّ في خصوص باب الاستصحاب، لرجوع موضوع الدليليّ - حينئذٍ - إلى الموضوع العرفيّ.

وإن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه فيما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل في مقام التطبيق مع عدم كونه بالنظر الدقّيّ من مصاديقه ... فقد عرفت أنّه لا عبرة بالمسامحات العرفيّة في باب التطبيقات بعد تشخيص المفاهيم»(1).

ص: 215


1- نهاية الأفكار 4: 10، (القسم الثاني).

ولكن لا يخفى: أنّ للعرف نظرين:نظراً من جهة أنّه من أهل المحاورة في مقام التفاهم.

ونظراً آخر من جهة ما يرتكز في ذهنه من مناسبات الأحكام وموضوعاتها، وإنّما يتّحد الموضوع بالنظر العرفيّ مع الموضوع بحسب الدليل، إذا كان المراد بنظر العرف هو النظر الأوّل، وأمّا إذا كان المراد به الثاني، فحينئذٍ: يكون الموضوع في نظر العرف مغايراً له بحسب الدليل.

ثمّ إنّه قد يبيّن إشكال آخر على المقابلة المذكورة، ذكره المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه) في حاشيته على الكفاية، وحاصله:

أنّ لموضوع الحكم مرحلتين: مرحلة الواقع واللّبّ، ومرحلة الإنشاء والدلالة، فهو باعتبار الأُولى عقليّ دقّيّ، وباعتبار الثانية موضوع دليلي، ولا يكون الطلب متعلّقاً بشيء في غير هاتين المرحلتين.

ونظر العرف في الموضوع إنّما هو طريق محض إلى ما هو الموضوع عند الشارع - لعدم كون الموضوعيّة من الاُمور الاعتباريّة المتقوّمة بالاعتبار كي يصحّ للعرف اعتبارها حقيقةً -، وبعد فرض كون الموضوع لا ثبوت له إلّا في مرحلة اللّبّ واللّفظ، فنظر العرف في كون هذا الشيء موضوعاً للحكم مرجعه إلى المسامحة في الموضوع في قبال العقل والنقل، ولا يصحّ أخذه مقابلاً؛ لأنّ المسامحة في الموضوع تقتضي المسامحة في الحكم - بمقتضى التضايف - فلا يقين بثبوت الحكم لهذا الموضوع شرعاً كي يحرم نقضه ورفع اليد عنه.

ص: 216

وإليك نصّ ما أفاده):«وعليه: فيشكل الأمر في الموضوع العرفيّ المسامحيّ، بتقريب: أن موضوعيّة شيءٍ لحكم لها مرحلتان: الأُولى: مرحلة اللّبّ والواقع وفي مقام الثبوت. الثانية: مرحلة الإنشاء والدلالة ومقام الإثبات. فالموضوع باعتبار الأُولى موضوع حقيقيّ عقليّ، وباعتبار الثانية موضوع دليليّ، ولا يكون الشيء معروضاً للطلب في غير هاتين المرحلتين يوصف بالموضوعيّة، فكون الشيء موضوعاً لحكم الشارع ليس إلّا باعتبار تعلّق طلبه به لبّاً أو لفظاً.

وليست الموضوعيّة متقوّمة باعتبار المعتبر حتى يتصوّر اعتبارها من العرف حقيقةً، بل لا بدّ من كون نظر العرف طريقاً محضاً إلى ما هو الموضوع عند الشارع، والمفروض أنّ ذا الطريق لا ثبوت له على التحقيق، إلّا في مرحلة اللّبّ أو اللّفظ، فلا يعقل أن يشكّل نظر العرف المسامحيّ موضوعاً له حكم، بل مرجعه إلى المسامحة في الموضوع مع فرض كون العقل والنقل على خلافه. وحيث إنّ الموضوع مسامحيّ، فمقتضى التضايف كون الحكم كذلك، فثبوت الحكم له - أيضاً - مسامحيّ، فلا يقين بثبوت الحكم من الشارع لهذا الموضوع حتى يكون إبقاؤه واجباً ونقضه محرّماً»(1).

ص: 217


1- نهاية الدراية 3: 276 - 277، بتلخيص منّا.

ويجاب عنه: بأنّ الحكم عبارة عن أمر اعتباريّ، فهو متقوّم بالاعتبار، ولكنّه في عالم الاعتبار وبعد اعتبار المعتبر يكون واقعيّاً.وللموضوع في مقام ترتّب الحكم واقع متحقّق، فالبحث في حقيقة الأمر في أنّ تعيين الموضوع في واقعه هل يكون بنظر العرف وفهمه من الدليل، أو بنظر العقل، أو بنظر العرف بحسب مرتكزاته.

وكيف كان، فإنّ المشهور بين المحقّقين هو الرجوع إلى العرف في مقام تعيين الموضوع.

وقد أثبت المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه) ذلك بما توضيحه:

أنّه كما أنّ حجّيّة الظواهر عند الشارع تستفاد من كونه كأحد أهل العرف في مقام المحاورة والتفهيم، فكذلك إن كان للظاهر مصاديق حقيقيّة، وكان بعضها مصداقاً له بنظر العرف، وكانت بنظر العرف - أيضاً - متعلّقة لإرادته الجدّيّة، كما لو كان مُلقي الكلام أحد أهل العرف، ما لم ينصب قرينة على تعيين مراده الجدّيّ من المصاديق؛ لأنّه إذا لم يكن له اصطلاح خاصّ به، فلابدّ أن يكون قد أراد ما هو عند العرف مصداق حقيقيّ، مع عدم نصب قرينة على العدم.

وعليه: ففيما نحن فيه، يكون مراد الشارع الجدّيّ - حيث لم ينصب قرينة على تعيينه - من مصاديق النقض: مصاديقه العرفيّة الحقيقيّة، ومرجع صدق النقض حقيقة عرفاً إلى تعيينه الموضوع، فإنّه بعدما يرى أنّ الموضوع هو كذا يرى أنّ رفع اليد عن الحالة السابقة نقض حقيقة،

ص: 218

فإذا اعتبرنظره في صدق النقض يكشف عن ذلك عن اعتبار نظره في التعيين(1).

ولكنّ الحقّ: أنّ تعيين موضوع الحكم بنظر العرف إنّما يكون إذا وصل إلى مرتبة القطع بأنّه مراد الشارع، فحينئذٍ: يكون موجباً للتصرّف في حجّيّة لسان الدليل.

ومن المعلوم، أنّ الظاهر إنّما يكون حجّة إذا لم يكن هناك قطع بخلافه، أو كان نظره بمنزلة القرينة الحاليّة، فهو يكون سبباً للتصرّف في ظهور الدليل. وكلامنا هنا إنّما هو في تقديم نظر العرف، ولو لم يصل إلى مرتبة القطع، أو كان لسان الدليل باقياً على حجّيّته وظهوره، فإذا كان ظنّيّاً، فلا دليل على حجّيّة هذا الظنّ، لا شرعاً ولا عقلاً.

ومعه: فلا يمكن التمسّك بالإطلاق والرجوع إلى العرف في مصداق النقض؛ إذ لا دليل على اعتبار العقلاء للنظر العرفيّ في المصداق المبتني

ص: 219


1- انظر نهاية الدراية 3: 283، قال): «كما أنّ حجّيّة الظاهر عند الشارع تستفاد من كونه في مقام محاوراته وإفهامه لمراداته كأحد أهل العرف، فكذلك إذا كان للظاهر مصاديق ومطابقات كلّها من أفراده حقيقة، وكان بعض مصاديقه مصداقاً له بنظر العرف، فإنّ الشارع من حيث مخاطبته مع العرف كأحدهم، فكما يكون المراد الجدّيّ من مصاديق النقض لما هو مصداق عندهم، إذا ألقى هذا الكلام من بعضهم إلى بعض، كذلك إذا ألقى من الشارع إليهم، فإنّ إرادة غيره منهم تحتاج إلى نصب ما يدلّ على تعيينه، دون ما هو متعيّن عندهم، وقد مرّ سابقاً أنّه لا مسامحة هنا، لا في تحديد مفهوم النقض، ولا في تطبيقه على مصاديقه، بل في أمر آخر، وهو تحديد موضوع الحكم الواقعيّ».

على الظنّ في تعيين الموضوع.

ولكنّ المحقّق العراقي(قدس سرّه) أفاد في المقام ما حاصله:

أنّه لا إشكال في احتياج إعمال الاستصحاب إلى نحو من المسامحة في إرجاع القضيّة المشكوكة إلى القضيّة المتيقّنة، لأنّ الإرجاع الحقيقيّ مستلزم لتعلّق الشكّ بما تعلّق به اليقين، وهو مفاد قاعدة اليقين لا الاستصحاب.ثمّ إنّ استفادة البقاء والاتّحاد:

تارةً: تكون من جهة انتزاعهما عن اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، وكون متعلّق الشكّ هو اليقين بالشيء، فإنّه يقتضي نحواً من الاتّحاد بين القضيّتين.

وأُخرى: يكون من جهة إطلاق النقض في المقام المقابل للبقاء الصادق حقيقةً على مجرّد اتّحادهما بأحد الأنظار.

فعلى الأوّل: يكون الخلاف في أنّ المسامحة المحتاج إليها هل هي بمقدار إلغاء خصوصيّة الزمان مع التحفّظ على باقي الخصوصيّات بالدقّة، أو أنّها ملحوظة من سائر الجهات؟

فعلى الوجه الأوّل، لابدّ من جعل مركز البحث في اختلاف الانظار هو موضوع الحكم الذي به قوام البقاء والاتّحاد؛ لأنّ كبرى (لا تنقض اليقين) - المستفاد منها اعتبار الاتّحاد والبقاء - هي من المفاهيم المحرزة، ولا خلاف فيها، ولابدّ من تطبيق عنوانهما على المورد بالدقّة العقليّة،

ص: 220

لا بالمسامحة العرفيّة، والتطبيق الحقيقيّ يختلف باختلاف الأنظار في الموضوع للحكم، فلابدّ من تعيين النظر المحكّم لإحراز تحقّق الاتّحاد والبقاء.

وعلى الوجه الثاني: - وهو ما لوحظت المسامحة من سائر الجهات - فيكون محلّ الخلاف ومركزه هو نفس البقاء والإبقاء التعبّديّ، لا في كبرى المستصحب.

وقد اختار(قدس سرّه) الوجه الثاني، وأنّ المسامحة ملحوظة في الجهات الأُخرى غير خصوصيّة الزمان.وعلى الثاني: - أعني إذا كانت استفادة البقاء على حرمة النقض - فإن قيل: بأنّ النقض حقيقةً يصدق بمجرّد وحدة القضيّتين بأحد الأنظار، فلا شبهة في شموله لجميع الأنظار، وأمّا إن قيل: بأنّ النقض الحقيقيّ لا يصدق إلّا مع وحدة القضيّتين دقّةً، فلا يشمل النقض الادّعائيّ المسامحيّ، بل شموله له يحتاج إلى دليل خاصّ؛ لعدم جامع بين النقض الحقيقيّ والادّعائيّ، إلّا أن يتمسّك بالإطلاق المقاميّ الذي مقتضاه شمول النقض لما كان نقضاً بنظر العرف؛ لأنّ القضيّة مسوقة على طبق الأنظار العرفيّة ويكون مقدّماً على الإطلاق اللّفظيّ الدالّ على اعتبار النقض الحقيقيّ.

هذا ما ذكره المحقّق العراقي) بتلخيص وتصرّف منّا(1).

ص: 221


1- راجع: نهاية الأفكار 4: 11 - 12، (القسم الثاني).

ولكن لا يخفى: أنّ النقض هنا غير قابل لحمله على المعنى الحقيقيّ؛ لأنّه معناه الحقيقيّ يقتضي أن يكون الشكّ قد تعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين، وهذا هو مفاد قاعدة اليقين، لا الاستصحاب؛ لأنّ الشكّ في الاستصحاب إنّما يتعلّق ببقاء ما تيقّن به، وأمّا في قاعدة اليقين فهو يتعلّق بأصل ما تيقّن به، فإذا شكّ بعدالة زيد في يوم الجمعة - مثلاً -، ثمّ شكّ في بقاء عدالته يوم السبت، كان هذا هو مجرى الاستصحاب، وأمّا إذا شكّ بعدالة زيد يوم الجمعة، ثمّ حصل له الشكّ في يوم السبت في أصل ثبوت عدالته في يوم الجمعة، بأن زال ما كانمدركاً لاعتقاده ومنشأً لعلمه، فهذا هو مجرى قاعدة اليقين المعروف بالشكّ الساري.

وبعبارة أُخرى: فإنّ هناك اختلافاً بين الشكّ واليقين؛ لأنّ أحدهما متعلّق بالحدوث، والآخر بالبقاء، فلابدّ أن يحمل على المعنى المسامحيّ للنقض، بعد عدم إمكان حمله على المعنى الحقيقيّ، فيتمسّك بدليل الاستصحاب في كلّ مورد يصدق فيه النقض ولو مسامحةً.

وهناك فرق آخر بين القاعدة والاستصحاب - غير تعلّق الشكّ بأصل ما تيقّن في الأوّل وبالبقاء في الثاني -، وهو جواز اجتماع اليقين والشكّ في الاستصحاب في زمانٍ واحد، بخلاف قاعدة اليقين، فإنّه لا يجوز. ففي الاستصحاب، يمكن أن يقطع فعلاً بعدالة زيد في يوم الجمعة ويشكّ - أيضاً - فعلاً في بقاء عدالته في هذا اليوم، وذلك غير ممكن بالنسبة إلى قاعدة اليقين أصلاً؛ فلا يجوز أن يقطع فعلاً

ص: 222

بعدالته في يوم الجمعة ويشكّ فعلاً في أصل عدالته فى يوم الجمعة، كما هو ظاهر.

وبالجملة: فلابدّ في الاستصحاب من أن يكون اليقين والشكّ طوليّين لا عرضيّين واقعين في زمان واحد.

الأمر الثاني :هل تشمل أخبار الاستصحاب قاعدة اليقين أم لا؟

قد يتوهّم أنّ المدرك في قاعدة اليقين هو نفس أدلّة الاستصحاب، وأنّ أدلّة الاستصحاب تشملها، بتقريب: أنّمدلول هذه الأخبار ممّا لا يختصّ بالشكّ في البقاء فقط، بل الشكّ بعد اليقين ملغىً مطلقاً، سواء كان متعلّقاً بنفس ما تيقّنه، أم لا، أم تعلّق ببقائه.

قال الشيخ الأعظم«:

«وأوّل من صرّح بذلك الفاضل السبزواري) في الذخيرة، في مسألة من شكّ في بعض أفعال الوضوء، حيث قال: والتحقيق: أنّه إن فرغ من الوضوء متيقّناً للإكمال، ثمّ عرض له الشكّ، فالظاهر: عدم وجوب إعادة شيء؛ لصحيحة زرارة: (ولا تنقض اليقين أبداً بالشك)».

ثمّ قال):

«ولعلّه(قدس سرّه) تفطّن له من كلام الحلّيّ في السرائر، حيث استدلّ على المسألة المذكورة بأنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلّا على يقين من إكمالها وليس ينقض الشكّ اليقين».

ص: 223

ثمّ قال:

«لكنّ هذا التعبير من الحلّيّ لا يلزم أن يكون استفاده من أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ. ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء. لكنّ التعبير لا يلزم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين، على ما توهّمه غير واحد من المعاصرين، وإن اختلفوا بين مُدّعٍ لانصرافها إلى خصوص الاستصحاب، وبين منكر له، عامل بعمومها»(1).وقد تصدّى« لدفع هذا التوهّم المذكور وتضعيفه، وقد أفاد في مقام دفعه وجهين:

الوجه الأوّل: - ما ملخّصه على طوله - أنّ الظاهر من الأخبار الدالّة على عدم نقض اليقين بالشكّ هو اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ، فلابدّ أن يلاحظ المتيقّن والمشكوك في قاعدة الاستصحاب غير مقيّدين بالزمان، وإلّا، لم يجز استصحابه كما تقدّم في ردّ شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شيء واحد، - يعني به: الفاضل النراقيّ) على ما تقدّم شرح كلامه في ذيل استصحاب الاُمور التدريجيّة - والمفروض في القاعدة الثانية كون الشكّ متعلّقاً بالمتيقّن السابق بوصف وجوده في الزمان السابق، ومن المعلوم: عدم جواز إرادة الاعتبارين، من اليقين والشكّ، في تلك الأخبار.

إلى أن قال(قدس سرّه): «ثمّ إذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين، فلا بدّ أنّ

ص: 224


1- فرائد الاُصول 3: 304.

يُخصّ مدلولها بقاعدة الاستصحاب؛ لورودها في موارد تلك القاعدة، كالشكّ في الطهارة من الحدث والخبث ودخول هلال شهر رمضان أو شوّال»(1).

الوجه الثاني: ما لفظه: «ثمّ لو سلّمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين، لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية؛ لأنّه إذا شكّ فيما تيقّن سابقاً، أعني: عدالة زيد في يومالجمعة، فهذا الشكّ معارض لفردين من اليقين، أحدهما: اليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة.

الثاني: اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة، فتدلّ بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة باحتمال انتفائها في ذلك الزمان، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في الجمعة، فكلّ من طرفي الشكّ معارض لفرد من اليقين»(2).

وأمّا المحقّق النائيني)، فقد ذهب إلى أنّ في الاستصحاب والقاعدة جهات أربع، هي: جهة اليقين، وجهة المتيقّن، وجهة النقض، وجهة الحكم، ولا يمكن الجمع بين هاتين القاعدتين في اللّحاظ من جميع الجهات.

ص: 225


1- المصدر نفسه: 304 - 308.
2- المصدر نفسه: 309.

«أمّا من جهة اليقين؛ فلأنّ اليقين في باب الاستصحاب إنّما يكون ملحوظاً من حيث كونه طريقاً وكاشفاً عن المتيقّن، وفي القاعدة يكون ملحوظاً من حيث نفسه؛ لبطلان كاشفيّته بعد تبدّله إلى الشكّ.

وأمّا من جهة المتيقّن؛ فلأنّ المتيقّن في الاستصحاب لا بدّ وأن يكون معرّى عن الزمان، غير مقيّد به، وفي القاعدة لا بدّ من لحاظه مقيّداً بالزمان.

وأمّا من جهة النقض؛ فلأنّ نقض اليقين في الاستصحاب إنّما يكون باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العمليّ علىطبق المتيقّن، وفي القاعدة إنّما يكون باعتبار نفس اليقين، وذلك من لوازم لحاظ اليقين موضوعاً أو طريقاً.

وأمّا من جهة الحكم؛ فلأنّ الحكم المجعول في القاعدة إنّما هو البناء العمليّ على ثبوت المتيقّن في زمان اليقين، وفي الاستصحاب هو البناء العمليّ على ثبوت المتيقّن في زمان الشكّ.

فالقاعدة تباين الاستصحاب من كلّ جهة من هذه الجهات الأربع، فلا يمكن أن تعمّها أخبار الباب»(1).

وما ذكره(قدس سرّه) من الفرق، وإن كان محلّاً للتأمّل، ولكنّ ما أفاده من عدم شمول الأخبار للقاعدتين، فلا كلام فيه.

ص: 226


1- فوائد الاُصول 4: 589 - 590.

وقد أفاد المحقّق الخراسانيّ(قدس سرّه) في حاشيته على الرسائل ما حاصله:

أنّه بعد لحاظ اتّحاد متعلّقي الشكّ واليقين؛ حيث كان النقض والإبقاء متوقّفين على ذلك، فلابدّ من إلغاء خصوصيّة الزمان في الاستصحاب، وحينئذٍ: ففي الاستصحاب تتمّ ملاحظة المتيقّن بدون الزمان، وأمّا في القاعدة فيلاحظ المتيقّن مع الزمان، فاللّحاظان في القاعدتين مختلفان، وبذلك يختلف ما هو المؤدّى في إحداهما عن ما هو المؤدّى في الأُخرى.

وحينئذٍ: فإن أُفيد المؤدّيان بمفهوم اسميّ يعمّهما، بحيث يكشف عن اللّحاظين المذكورين - كما إذا قيل: لا تنقضاليقين بالشكّ الذي له تعلّق بما تعلّق به اليقين - فهو، وإلّا، فلا يمكن أداء هذين المؤدّيين بمعنى حرفيّ بحيث لا يكاد يراد منه إلّا أحدهما؛ لعدم إمكان اجتماع اللّحاظين المتنافيين في إنشاء واحد.

ولا يخفى: أنّ أخبار الباب ليس لها مفهوم اسميّ يعمّ المؤدّيين، فيكون مفهومها حرفيّاً، فلا يعمّهما بلحاظهما المتنافيين، فلا يصلح لأن يستفاد من الأخبار - حينئذٍ - إلّا الاستصحاب.

وإليك نصّ كلامه):

«لولا لحاظ اتّحادهما، لما كان العمل على خلاف اليقين نقضاً له بالشّكّ، ولا العمل على طبقه مضيّاً على اليقين، فلا بدّ من عدم ملاحظة الزّمان، وأن متعلّقهما مع ملاحظته اثنين، ومتعلّق الشّكّ واليقين في

ص: 227

القاعدة، وإن كان - أيضاً - متّحداً، إلّا أنّه مع ملاحظة الزّمان، فكان إلغاء الشّكّ والمضيّ على اليقين في الاستصحاب عبارة عن التّعبّد بثبوت المشكوك في اللّاحق، كما كان في السابق، وفي القاعدة عبارة عن التّعبّد بثبوته فيه سابقاً، وإن شكّ في ثبوته كذلك لاحقاً، واختلاف مؤدّاهما، وإن لم يمنع عن الجمع بينهما في كلام واحد مشتمل على ما يعمّهما بمفهومه ويحويهما بمعناه حاكٍ عن حرمة النّقض، ووجوب المضيّ في الواقع باللّحاظين اللّذين كانا موجبين لاختلاف مؤدّى القاعدتين، كما إذا قيل - مثلاً - (لا تنقض اليقين بالشكّ الذي كان له تعلّق بما تعلّق به اليقين)، فإنّ التّعلّق بإطلاقه يعمّ ماإذا كان تعلّقه به بأصل ثبوته الذي لا بدّ فيه من اتّحاد المتعلّقين، ولو مع ملاحظة الزمان أو بقائه الذي لا بدّ من اتّحادهما مع عدم ملاحظته، إلّا أنّه لا يكاد يمكن الجمع بينهما فيما إذا لم يكن هناك ما يحكي عنهما بمفهومه، ويظهر في تحقّقهما بإطلاقه أو عمومه، بل كان إرادتهما بالجمع بين اللّحاظين في خطاب واحد قصد به ضرب كلتا القاعدتين؛ ضرورة امتناع الإنشاء الواحد بلحاظين متنافيين ونظرين متضادّين: لحاظ المتيقّن مع زمانه، ولحاظه بدونه، والنّظر إلى ثبوته في زمان قطع بثبوته فيه من دون نظر إلى بقائه، والنّظر إلى خصوص بقائه»(1).

ولكن يرد عليه: أنّه لا يشترط في الاستصحاب لحاظ المتيقّن بدون الزمان، كما ذكر، بل الذي هو معتبر إنّما هو تعلّق الشكّ بالبقاء

ص: 228


1- درر الفوائد: 388 - 389.

على حدّ تعلّق اليقين بالحدوث فعلاً، لا أن يلحظ عدم الزمان في المتيقّن.

وكيف كان، فإنّ بعض أخبار الباب وإن كانت مختصّةً بالاستصحاب، ولكنّ بعضها مجمل، كموثّقة إسحاق بن عمّار المتقدّمة، وهو قوله(علیه السلام): «إذا شككتَ فابنِ على اليقين. قال: قلت: هذا أصل، قال: نعم»، فإنّها مجملة مردّدة بين قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين، فلا يمكن الاستدلال بها لشيء منهما. والقول بشمولها لكلتا القاعدتين، على تقدير تجويزها ثبوتاً، خلاف الظاهر بلا إشكال.وأمّا قوله(علیه السلام): «من كان على يقين فشكّ»، أو «فأصابه شكّ فليمضِ على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» أو «فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»، فالشيخ(قدس سرّه) - كما تقدّم عند الحديث عن أخبار الباب - حمله على قاعدة اليقين؛ لظهوره في اختلاف زمان الوصفين المعتبر في قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

بينما ادّعى صاحب الكفاية(قدس سرّه) هناك أنّها ظاهرة في الاستصحاب، لقوله(علیه السلام) في آخر الحديث: «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» أو «فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ»، فإنّه يشير إلى القضيّة المرتكزة في الاستصحاب الواردة في الصحاح الثلاث المتقدّمة.

ولكنّ الشيخ الأعظم(قدس سرّه) استدرك قائلاً: «فالانصاف: أنّ الرواية - سيّما بملاحظة قوله(علیه السلام): (فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين)، بملاحظة ما سبق في

ص: 229

الصحاح، من قوله: (لا ينقض اليقين بالشكّ)، حيث إنّ ظاهره مساوقته لها، ظاهرة في الاستصحاب، ويبعد حملها على المعنى الذي ذكرنا»(1)، يعني به: قاعدة اليقين.

الأمر الثالث: في تقدّم الأمارات على الاستصحاب:

ولا شبهة في هذا التقديم ولا كلام، وإنّما الكلام في وجهه، وأنّه هل يكون من باب التخصيص أو التخصّص أو الحكومة أو الورود؟

فلابدّ - أوّلاً - من بيان المراد من كلّ من هذه المصطلحات الأربعة، فنقول:

أمّا التخصيص: فهو إخراج بعض الأفراد عن تحت العامّ الذي ثبت له الحكم، مع حفظ فرديّته ومصداقيّته له، كخروج الفسّاق من العلماء فيما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم فسّاق العلماء).

وأمّا التخصّص: فهو خروج الفرد عن تحت العامّ حقيقة تكويناً وذاتاً، بلا حاجة إلى ما يخرجه، كخروج زيد الجاهل عن تحت قوله: (أكرم العلماء)، من دون أن نحتاج في إخراجه إلى أن يقال: (لا تكرم زيداً الجاهل).

وأمّا الورود: فهو ما إذا كان أحد الدليلين رافعاً لموضوع الآخر حقيقةً، ولكن لا تكويناً، بل بواسطة التعبّد الشرعيّ، فهو من هذه الناحية - وهي

ص: 230


1- فرائد الاُصول 3: 70.

كون الخروج حقيقيّاً - يشترك مع التخصّص، وإنّما يختلف عنه في أنّ الخروج هنا يكون ببركة التعبّد وجعل الشارع واعتباره، ولولا ذلك لما كان بياناً أصلاً حتى يكون متقدّماً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ورافعاً لموضوعها حقيقة.والورود قد يكون حقيقةً، كما في الأمارات بالنسبة إلى الاُصول العقليّة كالبراءة العقليّة والاحتياط والتخيير العقليّين، فإنّ الأمارة إذا قامت على حكم أو موضوع ذي حكم فلا يبقى معها - أصلاً - موضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، بل ينقلب اللّابيان، الذي هو موضوع هذه القاعدة، إلى البيان، وهكذا موضوع الاحتياط والتخيير العقليّين، وهو احتمال العقاب وعدم الترجيح لتقديم أحدهما.

وقد يكون تعبّداً، كما في الأمارات بالنسبة إلى الاُصول الشرعيّة، كالبراءة الشرعيّة والاستصحاب، بناءً على إدخاله في باب الاُصول العمليّة، وكقاعدتي الحلّ والطهارة، بل بناءً على عدم دخوله في الأمارات ولا الاُصول، كما ذكرناه من أنّ الاستصحاب فرش الاُصول وعرش الأمارات؛ فإنّه إذا قامت الأمارة على شيء فالجهل، ولو كان باقياً ولم يرتفع معها حقيقةً، ولكن لا جهل معها شرعاً بعد أن كان الشارع قد نزّلها منزلة العلم، فلا يبقى - بعد ورودها - مجال لمثل حديث الرفع ممّا أُخذ في موضوعه الجهل أو الشكّ.

وأمّا الحكومة: فقال الشيخ الأعظم(رحمة الله) في شرحها في هذا المقام

ص: 231

ما نصّه:

«ومعنى الحكومة - على ما سيجيء في باب التعارض والتراجيح -: أن يحكم الشارع في ضمن الدليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لولا هذا الدليل الحاكم، أو بوجوب العمل في موردٍ بحكمٍ لا يقتضيه دليله لولا الدليل الحاكم، وحاصله: تنزيل شيء خارجٍ عن موضوع دليلٍمنزلةَ ذلك الموضوع في ترتيب أحكامه عليه، أو داخلٍ في موضوعٍ منزلة الخارج منه، في عدم ترتيب أحكامه عليه»(1).

وما ذكره في مبحث التعادل والتراجيح هو التالي:

«وضابط الحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللّفظيّ متعرّضاً لحال دليل الآخر ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون مبيّناً لمقدار مدلوله، مسوقاً لبيان حاله، متفرّعاً عليه، وميزان ذلك: أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغواً خالياً عن المورد»(2).

والحاصل: أنّ الحكومة هي ما إذا كان أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر مفسّراً له متصرّفاً فيه، وذلك:

إمّا في حكمه، كما إذا قال: (أكرم العلماء)، ثمّ قال: (لا وجوب

ص: 232


1- المصدر نفسه 3: 314، ولاحظ - أيضاً - الزيادة المذكورة في الهامش رقم 4 من الصفحة نفسها.
2- المصدر نفسه 4: 13.

لإكرام العالم الفاسق). والفرق بين المخصّص وهذا النوع من الحاكم مع كونهما متساويين في النتيجة: أنّ المخصّص ليس له نظر إلى العامّ، بخلاف الحاكم، فله نظر إلى المحكوم.

وإمّا في موضوعه، كما إذا قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (العالم الفاسق ليس بعالم).ثمّ إنّه لا فرق في تصرّف الحاكم في المحكوم بين أن يكون بنحو التضييق، كما في مثل (لا ربا بين الوالد وولده)، أو بنحو التوسعة، نحو (الصلاة بالبيت طواف). بل قد يكون - أيضاً - بمعنى التغيير والتبديل، كما إذا قال: (لا تجالس الفقراء) ثمّ قال: (ليس الفقير من لا مال له بل الفقير لا دين له).

وكذلك، لا فرق بين أن تكون الحكومة واقعيّة كما في الأمثلة المتقدّمة، وبين أن تكون ظاهريّة، كما إذا قال: (يشترط في الصلاة طهارة الثوب)، ثمّ قال: (كلّ شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه قذر) فيوسع الثاني دائرة الشرط ظاهراً ويجعل الشرط أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة، أو قال: (يجب في الصلاة كذا وكذا من الأجزاء)، ثمّ قال: (رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون)، فيضيّق الثاني دائرة الأجزاء ظاهراً ويخصّصها بصورة العلم فقط، فتكون الحكومة - حينئذٍ - ظاهريّة، وهنا: لا يكون العمل مجزياً عن الحكم الواقعيّ عند انكشاف الخلاف، بل هو، والحال هذه،

ص: 233

﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء﴾(1).

فإذا عرفت ذلك، نقول:

لا يخفى: أنّ الأمارات واردة على الاُصول العقليّة، وحاكمة على الاُصول الشرعيّة.

فهل تقديم الأمارات على الاستصحاب بنحو الورود أو الحكومة أو التخصيص؟وقد صرّح الشيخ الأنصاريّ) في هذا المقام بتقديم دليل الأمارات على دليل الاستصحاب بالحكومة، قال(قدس سرّه) - ما هذا لفظه -:

«لكنّ الشأن في أنّ العمل به [يعني: بما أقامه الشارع مقام العلم بالواقع] من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب، أو من باب التخصّص؟ [ويعني بالتخصّص هنا: الورود]، الظاهر: أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الاُمور على أدلّة الاستصحاب، وليس تخصيصاً بمعنى خروج المورد بمجرّد وجود الدليل عن مورد الاستصحاب؛ لأنّ هذا مختصّ بالدليل العلميّ المزيل وجوده للشكّ المأخوذ في مجرى الاستصحاب».

ثمّ ساق الكلام إلى بيان معنى الحكومة، بعبارة نقلنا نصّها سابقاً.

إلى أن قال:

«ففيما نحن فيه، إذا قال الشارع: (اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك)،

ص: 234


1- النور: الآية 39.

والمفروض أنّ الشكّ موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب، فإنّ الشارع جعل الاحتمال المطابق للبيّنة بمنزلة اليقين الذي ينتقض به اليقين السابق، وجعل - أيضاً - الاحتمال المخالف للبيّنة كالمعدوم، فكأنه لا شكّ حتى يرجع فيه إلى الاستصحاب، فكأنّه قال: لا يُحكم على هذا الشكّ بحكمه المقرّر في قاعدة الاستصحاب، وافرضه كالعدم». انتهى(1).ولكنّه(قدس سرّه) عاد في باب التعادل والتراجيح، ليقول بالتفصيل، ونصّ كلامه:

«فإن كان الأصل ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل، كأصالة البراءة العقليّة والاحتياط والتخيير العقليّين، فالدليل - أيضاً - [يعني: الاجتهاديّ]، وارد عليه، ورافع لموضوعه؛ لأنّ موضوع الأوّل عدم البيان، وموضوع الثاني احتمال العقاب، ومورد الثالث عدم المرجّح لأحد طرفي التخيير، وكلّ ذلك يرتفع بالدليل العلميّ المذكور. [أي: الدليل الذي ثبت اعتباره بالعلم].

وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة، كالاستصحاب ونحوه، كان ذلك الدليل حاكماً على الأصل، بمعنى: أنّه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل، فالدليل العلميّ المذكور وإن لم يرفع موضوعه - أعني الشكّ -، إلّا أنّه يرفع حكم الشكّ، أعني: الاستصحاب».

ص: 235


1- انظر: فرائد الاُصول 3: 314 - 315، وانظر الهامش رقم 2 في ص 315.

ثمّ ساق الكلام إلى بيان ضابط الحكومة، بعبارةٍ نقلنا نصّها - أيضاً -.

إلى أن قال:

«والفرق بينه وبين التخصيص: أنّ كون المخصّص بياناً للعامّ إنّما هو بحكم العقل، الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاصّ، وهذا بيان بلفظه، ومفسّر للمراد منالعامّ، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير». انتهى(1).

وقد خالف في ذلك صاحب الكفاية(قدس سرّه)، الذي ادّعى الورود.

وحاصل ما أفاده(قدس سرّه): أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب ليس إلّا بمناط الورود، وذلك لأنّ الأمارات مهما قامت على خلاف اليقين السابق، فرفع اليد عنه لا يكون نقضاً لليقين بالشكّ، بل باليقين، أي: باليقين التنزيليّ، يعني به: الحجّة، وهكذا الأمر فيما إذا قامت الأمارة المعتبرة على وفق اليقين السابق، فعدم رفع اليد عنه ليس لأجل أن لا يلزم نقض اليقين بالشكّ، بل من جهة لزوم العمل بالحجّة، أي باليقين التنزيليّ، وانتفاء الشك، ولو تعبّداً، لا حقيقةً.

وإليك نصّ كلامه، قال(قدس سرّه):

«والتحقيق: أنّه للورود، فإنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل باليقين، وعدم رفع

ص: 236


1- فرائد الاُصول 4: 12 - 14.

اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به، بل من جهة لزوم العمل بالحجّة»(1).

ثمّ أورد على نفسه بما حاصله: بأنّه إنّما تكون الأمارة واردة على الاستصحاب لو أُخذ بدليلها في مورد الاجتماع مع الاستصحاب، ولكن لماذا لا يؤخذ بدليل الاستصحابويؤخذ بدليل الأمارة؟ وأيّ مرجّح لتقديم جانب الأمارة على جانب الاستصحاب؟

وقد أجاب عنه(2): بأنّ المرجّح لتقديم جانب الأمارة على جانب الاستصحاب، هو أنّا لو أخذنا بجانب الأمارة فلا يلزم منه شيء سوى ارتفاع موضوع الاستصحاب بها، وهو الشكّ، ولزوم نقض اليقين باليقين، وهذا ليس بمحذور.

وإن أخذنا بجانب الاستصحاب ورفعنا اليد عن الأمارة:

فإن كان ذلك من دون ما يُخرج الأمارة عن تحت عموم أدلّة الاعتبار، كان تخصيصاً بلا مخصّص.

وإن كان لأجل الاستصحاب وكونه مخصّصاً لأدلّة اعتبارها، فهذا دور؛ فإنّ مخصّصيّة الاستصحاب لها يتوقّف على اعتبار الاستصحاب

ص: 237


1- كفاية الاُصول: 429.
2- وهذا نصّ الجواب، قال): «فإنّه يقال: ذلك إنّما هو لأجل أنّه لا محذور في الأخذ بدليلها، بخلاف الأخذ بدليله؛ فإنّه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصّص إلّا على وجه دائر؛ إذ التخصيص به يتوقّف على اعتباره معها، واعتباره كذلك يتوقّف على التخصيص به؛ إذ لولاه لا مورد له معها». انظر: كفاية الاُصول: 429.

مع الأمارة، واعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقّف على مخصّصيته لها، وإلّا، فلا مورد له معها، بعدما عرفت من ورود الأمارة عليه.

وبالجملة: ففي مورد الاجتماع مع الاستصحاب، لابدّ من الأخذ بدليل الأمارة دون الاستصحاب، وإلّا، لزم محذور التخصيص بلا مخصّص، أو التخصيص على وجه دائر.

هذا حاصل ما أفاده« موضّحاً.

وسلك المحقّق النائيني) مسلكاً آخر، رأى فيه أنّ التقديم إنّما يكون من باب الحكومة؛ وذلك نظراً إلى أنّ مقتضى التحقيقهو كون المجعول في الأمارة هي الطريقيّة وتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف، وما أشبه ذلك، لا المنجّزيّة؛ لاستلزامه تخصيص الحكم العقليّ بقبح العقاب بلا بيان، وهو غير قابل للتخصيص، ولا لجعل المؤدّى؛ لمحذور اجتماع الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وحينئذٍ: يرتفع موضوع الاستصحاب تعبّداً عند قيام الأمارة، وهو معنى الحكومة؛ لأنّه أوجب التصرّف في عقد الوضع.

قال(قدس سرّه):

«وبالجملة: حكومة الأدلّة المتكفّلة للأحكام الظاهريّة بعضها على بعض، إنّما تكون باعتبار رفع دليل الحاكم موضوع دليل المحكوم في عالم التشريع، مع بقائه في عالم التكوين، فإنّ قيام الأمارة على خلاف مؤدّى الأصل لا يوجب رفع الشكّ خارجاً؛ لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع، فموضوع الأصل محفوظ تكويناً، ولكن لمّا كان المجعول في

ص: 238

باب الأمارات هو الإحراز وإلغاء احتمال الخلاف، كانت الأمارة رافعة للشكّ في عالم التشريع؛ لأنّ المكلّف يكون محرزاً للواقع بحكم التعبّد بالأمارة، فلا يبقى موضوع الأصل». إلى آخر ما أفاده(قدس سرّه)(1).

وقريب من ذلك ما اختاره المحقّق العراقي(قدس سرّه)، ولكن بتعبير آخر، فقد التزم(قدس سرّه) بأنّ قيام الأمارة - بمقتضى دليل الاعتبار - يحقّق غاية الاستصحاب، وهو اليقين، ولم يرَ بأنّه يرفعموضوعه، وهو الشكّ. ولعلّه لأجل أنّ موضوع الاستصحاب ليس عبارة عن عدم العلم كي يكون اعتبار العلم رافعاً لموضوعه، بل عبارة عن أمر وجوديّ، وهو الاحتمال الذي يصل إلى حدّ العلم، ومن الواضح: أنّ اعتبار أحد الضدّين لا يلازم اعتبار عدم الضدّ الآخر، فالتلازم بين الواقعين لا يستلزم التلازم بين الاعتبارين.

وعليه: فاعتبار العلم لا يلازم اعتبار عدم الاحتمال الخاصّ، فلا يكون اعتباره رافعاً لموضوع الاستصحاب.

وإليك نصّ ما أفاده(قدس سرّه):

«إنّ التنزيل المستفاد من أدلّة الأمارات، إمّا أن يكون ناظراً إلى حيث تتميم الكشف وإثبات العلم بالواقع، وإمّا أن يكون ناظراً إلى المؤدّى بإثبات كونه هو الواقع، بلا تكفّله لحيث تتميم كشف الأمارة. فعلى

ص: 239


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 595 - 597.

الأوّل - كما هو التحقيق - يكون تقديم الأمارة على الاُصول التي منها الاستصحاب بمناط الحكومة، لا غيرها؛ إذ هي بدليل تتميم كشفها تكون رافعةً للشكّ الذي أُخذ موضوعاً في الاُصول، ومثبتة للمعرفة المأخوذة غايةً في مثل دليل الحلّيّة ودليل حرمة النقض، وبهذا الاعتبار، تكون ناظرةً إلى نفي الحكم المترتّب على عدم انكشاف الواقع واستتاره، ومعه: لا يكون رفع اليد عن اليقين السابق في الاستصحاب من نقض اليقين بالشكّ، بل كان من نقض اليقين باليقين ...». انتهى موضع الحاجة(1).ولكنّ الحقّ: أنّ ما يفهم من دليل حرمة النقض ليس هو تحديد وتحقيق غاية للاستصحاب، بل إنّما هو عبارة عن تحديد جريان الاستصحاب بارتفاع موضوعه، ونتيجته: ارتفاع الاستصحاب بارتفاع موضوعه؛ ومع وجود اليقين فلا يبقى الشكّ، الذي هو موضوع الاستصحاب، فيشكل القول بالحكومة.

ولكن بعدما عرفت من الفرق بين الورود والحكومة، وأنّ معنى الورود هو أن يكون الدليل رافعاً لموضوع الدليل الآخر. وأمّا الحكومة فهي أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر، فقد يقال:

إنّ دليل الأمارة لا نظر فيه إلى دليل الاستصحاب في مقام الإثبات،

ص: 240


1- نهاية الأفكار 4: 17 - 19. (القسم الثاني).

وإن كان دالّاً على إلغاء الاستصحاب معها في عالم الثبوت والواقع؛ للتنافي بين لزوم العمل بها وبين العمل به لو كان الاستصحاب على خلافها، ولكنّ هذا المعنى، كما أنّه يكون موجوداً في طرف الأمارة، فكذلك هو موجود في طرف الاستصحاب لمنافاة وجوب العمل به مع العمل بها لو كانت على خلافه.

ولكنّ هذا الكلام إنّما يتمّ فيما لو كان الاستصحاب مخالفاً للأمارة، دون ما إذا كان موافقاً لها؛ لأنّه لا منافاة بين وجوب العمل بها وبين العمل به، فيلزم منه اختصاص الحكومة - حينئذٍ - بما إذا كان الاستصحاب مخالفاً للأمارة، مع أنّالأمارة عندهم تكون مقدّمة عليه مطلقاً، بلا فرق بين صورتي الخلاف والوفاق.

فالحقّ - إذاً -: هو القول بالورود، وفاقاً لصاحب الكفاية(قدس سرّه)؛ لأنّ دليل الأمارة لا نظر له بمدلوله اللّفظيّ إلى دليل الاستصحاب أصلاً حتى يكون مفسّراً له، فلا يكون من باب الحكومة.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الأمارة كما تكون واردة على الاستصحاب، فإنّ الاستصحاب - هو أيضاً - يكون وارداً على بقيّة الاُصول، من البراءة والاشتغال والتخيير.

غاية الأمر: أنّ وروده على البراءة الشرعيّة ورود تعبّديّ، بمعنى كونه رافعاً لموضوعها، الذي هو الشك، رفعاً شرعيّاً، لا حقيقيّاً؛ لأنّ الشكّ باقٍ معه واقعاً. وأمّا وروده على الاُصول العقليّة الثلاثة فإنّه يكون وروداً

ص: 241

حقيقيّاً؛ لارتفاع موضوعها بالاستصحاب واقعاً، فببركة الاستصحاب يرتفع اللّابيان، الذي هو موضوع البراءة العقليّة، وينقلب إلى بيان، كما يرتفع به - أيضاً - عدم الأمن من العقوبة، الذي هو موضوع قاعدة الاحتياط، فإنّه بعد جريان الاستصحاب ينقلب إلى الأمن.

كما يرتفع به - أيضاً - عدم الترجيح، الذي هو موضوع حكم العقل بالتخيير في دوران الأمر بين المحذورين، وينقلب إلى الترجيح، فمثلاً: لو علم إجمالاً بأنّ صلاة الجمعة هي إمّا واجبة أو محرّمة، فبعدما كانت الحالة هي الوجوب، يجرياستصحابه، ومعه: فلا يحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك.

بل حتى الشيخ الأعظم(رحمة الله) الذي قال بحكومة الأمارات على الاستصحاب، نجده يقول - هنا أيضاً - بحكومة الاستصحاب على البراءة الشرعيّة، ولا يقول بالتخيير(1).

الأمر الرابع :تقديم الأصل السببيّ على المسبّبيّ:

استدلّ الشيخ الأعظم(رحمة الله) لتقديم الأصل السببيّ على المسبّبيّ باُمور أربعة(2):

الأوّل: الإجماع.

ص: 242


1- انظر: فرائد الاُصول 3: 389.
2- راجع: فرائد الاُصول 3: 394 - 400.

الثاني: مانعيّة السببيّ عن شمول العامّ للمسبّبيّ.

الثالث: لو لم نقل بتقديم السببيّ على المسبّبي لكان الاستصحاب قليل الفائدة.

الرابع: أنّ المستفاد من الأخبار عدم الاعتبار باليقين السابق في المسبّبيّ.

والعمدة من بين هذه الوجوه الأربعة إنّما هو الوجه الثاني، وذلك لأنّ قوله(علیه السلام): «لا ينقض اليقين بالشكّ»، شامل لليقين والشكّ في السببيّ، وبشموله لهما، يكون مانعاً من شموله لليقين والشكّ في المسبّبيّ؛ لأنّ اليقين فيه قد ارتفع بالدليل، فلا يكون في المسبّبيّ نقض لليقين بالشكّ، بل بالدليل.وأمّا إذا قلنا بشموله لليقين والشكّ في المسبّبيّ، كان مستلزماً لنقض اليقين بالشكّ في السببيّ، دون ما يخرجه عن تحت عموم (لا ينقض اليقين بالشكّ).

ومرجع ذلك إلى ما أفاده صاحب الكفاية(قدس سرّه)، حيث قال ما هذا لفظه:

«وبالجملة: فكلّ من السبب والمسبّب، وإن كان مورداً للاستصحاب، إلّا أنّ الاستصحاب في الأوّل بلا محذور، بخلافه في الثاني، ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال، فاللّازم الأخذ بالاستصحاب السببيّ، نعم، لو لم يجرِ هذا الاستصحاب بوجهٍ، لكان الاستصحاب المسبّبي

ص: 243

جارياً، فإنّه لا محذور فيه حينئذٍ مع وجود أركانه وعموم خطابه»(1).

وحاصل كلامه: أنّه لو أخذنا بجانب السببيّ، فإنّه لا يلزم منه شيء سوى نقض اليقين باليقين، وهو ليس بمحذور. بخلاف ما لو أخذنا بجانب المسبّبيّ، فإنّه يلزم من ذلك: إمّا التخصيص بلا مخصّص، أو على وجه دائر.

ففي مثال نجاسة الثوب، وغسله بالماء المشكوك الطهارة، فإن أخذنا باستصحاب طهارة الماء وبنينا على طهارة الثوب المغسول به، فلا يكون هناك سوى نقض اليقين السابق بنجاسة الثوب باليقين بطهارة الماء طهارة ظاهريّةً ناشئة من استصحاب طهارة الماء. وهذا ليس بمحذور.وأمّا إن أخذنا باستصحاب نجاسة الثوب المغسول بماء شكّ في بقاء طهارته، فإن رفعنا اليد عن طهارة الماء بدون ما يخرجه عن تحت دليل الاستصحاب، كان من التخصيص بلا مخصّص.

وإن رفعنا اليد عنه لأجل كون استصحاب نجاسة الثوب مخصّصاً له، كان دوراً. ببيان: أنّ مخصّصية المسبّبيّ للسببيّ ممّا يتوقّف على اعتباره معه، واعتباره معه ممّا يتوقّف على مخصّصيته له، وإلّا، لكان السببيّ وارداً عليه، وهو دور ومحال.

وعليه: فبما أنّ الأصل السببيّ رافع لموضوع الأصل المسبّبيّ، وهو

ص: 244


1- كفاية الاُصول: 431 - 432.

الشكّ، ولو من قبل الشرع، لا العقل، فلا يبقى - حينئذٍ - مجال لجريان الأصل المسبّبيّ، لورود السببيّ عليه.

نعم، لو لم يجرِ الأصل السببيّ لسبب من الأسباب، فحينئذٍ: تصل النوبة إلى الأصل المسبّبيّ، كما إذا فرض عدم جريان استصحاب طهارة الماء لوقوعه طرفاً لعلم إجماليّ، فإنّه يجري - حينئذٍ - الأصل المسبّبيّ، وهو استصحاب نجاسة الثوب المغسول به.

الأمر الخامس :في تعارض الاستصحابين:

إذا تعارض الاستصحابان، ولم يكن أحدهما من آثار الآخر، كما إذا كان الاستصحابان عرْضيّين، كاستصحاب طهارة الإناءين مع العلم الإجماليّ بنجاسة أحدهما، فإنّالاستصحابين لا يجريان معاً؛ لتنجّز العلم الإجماليّ ولزوم المخالفة القطعيّة بجريانهما معاً. كما لا يجري الاستصحاب في بعض الأطراف دون الأطراف الأُخرى؛ لاستلزامه الوقوع في المخالفة الاحتماليّة، وقد تقدّم في محلّه حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة.

وأمّا إذا لم يكن الأصلان في أطراف علم إجماليّ بتكليف فعليّ، بحيث لو أجرينا الأصلين معاً لم يلزم مخالفة قطعيّة، وإذا جرى أحدهما دون الآخر لم يلزم مخالفة احتماليّة - كما في استصحابي النجاسة في أطراف العلم الإجماليّ بالطهارة، أو كإجراء الأصلين في دوران الأمر بين

ص: 245

المحذورين - فحينئذٍ: يجري الأصلان جميعاً؛ وذلك لوجود المقتضي وفقد المانع، كما هو ظاهر.

الأمر السادس: تقدّم التجاوز والفراغ وأصالة الصحّة على الاستصحاب بالتخصيص:

قد يدّعى تقديم هذه القواعد على الاستصحاب؛ لتخصيص أدلّتها لدليل الاستصحاب.

وفصّل الشيخ الأعظم(قدس سرّه) بأنّ القاعدتين وأمثالهما، إن كانت من الأمارات، فيكون تقدّمها على الاستصحاب بمناط الحكومة، طبقاً لمبناه القاضي بتقديم الأمارات على الاستصحاب بالحكومة، وإن كانت من الاُصول شرعيّة، فيكون تقدّمها على الاستصحاب بالتخصيص، إلّا في أصالة الصحّة، فقد تنظّر في تقديمها على الاستصحاب الموضوعيّالذي في مورده من استصحاب عدم الإتيان بالجزء أو الشرط ونحوه، ولم يقل بتقديمها عليه بالتخصيص.

قال« ما لفظه:

«أمّا الكلام في المقام الأوّل [يعني به: معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يتراءى كونها من الاُصول، كاليد ونحوها، يعني التجاوز والفراغ وأصل الصحّة في فعل الغير] فيقع في مسائل:

الأُولى: أنّ اليد ممّا لا يعارضها الاستصحاب بل هي حاكمة عليه. بيان

ص: 246

ذلك: أنّ اليد إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلاً على الملكيّة، من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكاً أو نائباً عنه، وأنّ اليد المستقلّة غير المالكيّة قليلة بالنسبة إليها، وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة تسهيلاً على العباد، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب، على ما عرفت من حكومة أدلّة الأمارات على أدلّة الاستصحاب.

وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها على الملكيّة، أو أنّها كاشفة لكنّ اعتبار الشارع لها ليس من هذه الحيثيّة، بل جعلها في محلّ الشكّ تعبّداً؛ لتوقّف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها، نظير أصالة الطهارة»

إلى أن قال:

«فالأظهر - أيضاً - تقديمها على الاستصحاب».

إلى قوله: «وكيف كان، فاليد على تقدير كونها من الاُصول التعبّديّة - أيضاً - مقدّمة على الاستصحاب، وإن جعلناه [أي:الاستصحاب] من الأمارات الظنيّة؛ لأنّ الشارع نصبها في مورد الاستصحاب. وإن شئت قلت: إنّ دليلها أخصّ من عمومات الاستصحاب»(1).

ثمّ قال بعد ذلك:

«المسألة الثانية: في أنّ أصالة الصحّة في العمل عند الفراغ عنه لا يعارَض بها الاستصحاب: إمّا لكونها من الأمارات، كما يشعر به

ص: 247


1- فرائد الاُصول 3: 321 - 323.

قوله(علیه السلام) - في بعض روايات ذلك الأصل -: (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ). وإمّا لأنّها وان كانت من الاُصول، إلّا أنّ الأمر بالأخذ بها في مورد الاستصحاب يدلّ على تقديمها عليه، فهي خاصّة بالنسبة إليه، يخصَّص بأدلّتها أدلّته»(1).

ثمّ ساق الكلام طويلاً في تحقيق قاعدة التجاوز والفراغ، إلى أن وصل به الكلام إلى أصالة الصحّة في فعل الغير وتحقيق حالها، فذكر في جملة ما ذكره تنبيهات عدّة، ثمّ قال:

«السادس: في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب، فنقول: أمّا تقدّمه على استصحاب الفساد وما في معناه، فواضح»(2).وملخّص ما أفاده(قدس سرّه) في وجه هذا الوضوح: أنّ أصل الصحّة أصل سببيّ، وأمّا أصل الفساد، أي: عدم الأثر عقيب الفعل المشكوك في تأثيره فهو مسبّبيّ.

إلى أن قال:

«وأمّا تقديمه على الاستصحاب الموضوعيّة المترتّب عليها الفساد، كأصالة عدم البلوغ وعدم اختيار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن، فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب، خصوصاً العلّامة وبعض من تأخّر عنه.

ص: 248


1- المصدر نفسه: 325.
2- المصدر نفسه: 373.

والتحقيق: أنّه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر - كما هو ظاهر كلمات جماعة، بل الأكثر - فلا إشكال في تقديمه على تلك الاستصحابات. وإن جعلناه من الاُصول ... ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعيّ نظر».

انتهى موضع الحاجة من كلامه«(1).

ص: 249


1- المصدر نفسه: 373 - 375.

ص: 250

قاعدة القرعة

وأمّا بالنسبة إلى قاعدة القرعة فالاستصحاب مقدّم عليها.

ولابدّ هنا من البحث في أنّ هذه القاعدة هل تجري مطلقاً، أم أنّها لا تجري إلّا في موارد خاصّة، وحينئذٍ: فما هي الموارد التي أجراها فيها الأصحاب؟

وقد استدلّ لهذه القاعدة بأدلّة عدّة:

منها: آيات من الكتاب العزيز، كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُ-نتَ لَدَي-ْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَي-ُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾(1)، وقوله: ﴿فَسَاهَمَ ف--َكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ﴾(2).

ومنها: بعض الأخبار الواردة عن العترة الطاهرة، كخبر دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين وأبي جعفر وأبي عبد اﷲ(: أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل(3).

ص: 251


1- آل عمران: الآية 44.
2- آل عمران: الآية 44.
3- دعائم الإسلام 2: 522.

ورواية محمّد بن حكيم، قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن شيء، فقال لي: كلّ مجهول ففيه القرعة، قلت له: إنّ القرعة تخطئ وتصيب، قال: كلّ ما حكم اﷲ به فليس بمخطئ(1).

وغير ذلك من الأخبار والروايات.ومن هنا اشتهر بين الأصحاب: القرعة لكلّ أمر مشكل(2)، أو القرعة لكلّ أمرٍ مجهول(3).

ومنها: الإجماع.

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه): «فالظاهر أنّه أحد من الإماميّة الاثني عشريّة ما ادّعى عدم اعتباره بنحو السلب الكلّيّ، فهذا الشهيد في كتابه (القواعد) في باب التعادل والتراجيح من مقدّمته في اشتباه القبلة يقول: ذهب السيّد رضيّ الدين بن طاووس هنا إلى الرجوع إلى القرعة، استضعافاً لمستند وجوب الصلاة إلى أربع، وهو حسن، إلى أن يقول: فيرجع إلى القرعة الواردة لكل أمر مشتبه»(4).

ص: 252


1- وسائل الشيعة 27: 259 - 260، باب 13 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى، ح 11.
2- انظر: عوالي اللآلي 2: 112، قال: ونقل عن أهل البيت عليهم السلام: كلّ أمر مشكل فيه القرعة.
3- وسائل الشيعة 27: 259 - 260، باب 13 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى، ح 11، بلفظ: كلّ مجهول ففيه القرعة.
4- القواعد الفقهيّة 1: 64.

وقال ابن إدريس في كتاب القضاء من السرائر:

«وإذا ولد مولود ليس له ما للرجال، ولا ما للنساء، أُقرع عليه، فإن خرج سهم الرجال أُلحق بهم، وورث ميراثهم، وإن خرج سهم النساء أُلحق بهنّ، وورث ميراثهنّ، وكل أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة؛ لما روي عن الأئمّة الأطهار(علیهم السلام)وتواترت به الآثار، وأجمعت عليه الشيعة الإماميّة» انتهى(1).وقال المحقّق النراقيّ(قدس سرّه) في المقام:

«وأمّا الإجماع، فثبوته في مشروعيّة القرعة وكونها مرجعاً للتميّز والمعرفة في الجملة ممّا لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه، كما يظهر لكلّ من تتبّع كلمات المتقدّمين والمتأخّرين في كثير من أبواب الفقه، فإنّهم يراهم مجتمعين على العمل بها، وبناء الأمر عليها طرّاً»(2).

وقال المحقّق الآشتياني(قدس سرّه) ما لفظه:

«أمّا أصل مشروعيّة القرعة فهو ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين، بل إجماعهم عليه بحيث لا يرتاب فيه ذو مسكة، ويكفي في القطع بتحقّق الإجماع ملاحظة الإجماعات المتواترة المنقولة في ذلك من زمان الشيخين إلى زماننا هذا، كما هو واضح لمن راجع كلماتهم، بل يمكن

ص: 253


1- السرائر 2: 173.
2- عوائد الأيّام: 651.

دعوى الضرورة الفقهائيّة عليه»(1).

ولكن قد عرفت - مضافاً إلى أنّها إجماعات منقولة - فهي مظنونة، بل مقطوعة المدركيّة، ومدركها إنّما هو الآيات والروايات الواردة في هذا الباب.

وأمّا مفاد هذه القاعدة وحدودها:

فالكلام يقع فيه في اُمور:

1- فهل تقع القرعة مطلقاً فيما كان له واقع معيّن في الواقع وعالم الثبوت، أو لا تقع إلّا فيما لم يكن له واقع معيّن فيعالم الثبوت، كما إذا قلت: إحدى زوجاتي طالق، أو أحد عبيدي حرّ؟

2- هل هي مختصّة بالشبهات الموضوعيّة أم تشمل الحكميّة أيضاً؟

3- هل هي مختصّة بصورة المنازعة أم لا، بل تشمل موارد لا نزاع فيها ولا قضاء؟

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «العناوين العامّة الواردة في أدلّة القرعة أربعة: عنوان المجهول، وعنوان المشتبه، وعنوان المشكل، وعنوان الملتبس... والأوّلان، أي: عنوان المجهول والمشتبه، ولو كان لهما عموم بحسب المفهوم بحيث إنّ مفهوميهما يشمل الشبهة بصورها الأربع: الحكميّة والموضوعيّة، سواء كانتا بدويّة أو مقرونة بالعلم الإجماليّ.

ص: 254


1- بحر الفوائد: 218 من بحث الاستصحاب.

ولكنّ التتبّع في موارد تلك الروايات والتأمّل فيها والعلّة التي ذكرها الإمام(علیه السلام) - وهو قوله(علیه السلام): (فأيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلى اﷲ) - يوجب الاطمئنان بأنّ المراد من هذه العناوين الأربعة هو المجهول والمشتبه الذي في الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجماليّ إذا كان من المشكلات والمعضلات التي لا طريق إلى إثباتها، وكان الاحتياط إمّا ليس بممكن، أو يوجب العسر والحرج، أو نعلم بأنّ الشارع ما أوجب الاحتياط فيها، ففي مثل هذا المورد شرّع القرعة.ولا فرق بين أن يكون المشتبه من حقوق اﷲ أو من حقوق الناس، ولا بين أن يكون له واقع معيّن في عالم الثبوت والقرعة واسطة ودليلاً في عالم الإثبات، أو لم يكن له واقع معيّن في عالم الثبوت والقرعة واسطة في الثبوت، كما في قوله: إحدى زوجاتي طالق، أو أحد عبيدي حرّ، بناءً على صحّة مثل هذا الطلاق، ومثل هذا العتق»(1).

والحقّ: هو ما ذهب إليه(قدس سرّه)، من عدم شمولها للحكميّة، حيث اختصّ العمل عند العقلاء والعرف بالشبهة الموضوعيّة. كما أنّ الحقّ معه في جريان القاعدة بلا فرق بين ما إذا كان الشيء له واقع معيّن في عالم الثبوت أم لم يكن.

وأيضاً: فهي عامّة وغير مختصّة بباب المنازعات وباب الحقوق

ص: 255


1- القواعد الفقهيّة 1: 65 - 66.

والقضاء، وإن تخيّل البعض أنّها لكونه من مدارك القضاء الشرعيّ تكون كذلك. ومن هنا نرى أنّ هذه القاعدة تجري في مثل الغنم الموطوء المشتبه في قطيع الغنم، وإن كان مقتضى القاعدة في باب العلم الإجماليّ هو لابدّيّة الاجتناب عن الكلّ، ووجوب الموافقة القطعيّة.

ولكن لو قلنا هنا بالاحتياط، فإنّه يكون سبباً لتضييع المال الكثير الذي هو غير متحمّل عادةً، وبعد فرض عدم إمكان تعيين الموطوء، كذا لا يمكن الحكم بحرمة لحم الجميع، وما يترتّب على ذلك، كوجوب إحراق الجميع، فكان ذلك داعياً للشارع لتشريع القرعة، بعدما كان الاحتياط مشكلاً جدّاً.فإن قلت: إذا لم يكن مختصّاً بباب القضاء، فلماذا ذكروها هناك؟

قلنا: بما أنّ أكثر مواردها في باب المنازعات والحقوق فلأجل ذلك ذكروها هناك، وهذا لا يدلّ على اختصاصها بذلك الباب. وقد عرفت جريانها في مثل اشتباه الموطوءة بغيرها، مع أنّه ليس من باب المنازعات.

والحاصل: أنّ مورد القرعة إنّما هو الشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجماليّ، التي يكون الاحتياط فيها غير ممكن، أو غير جائز، وإن كان ممكناً، أو غير واجب، وليس هناك من أصل أو أمارة موافقة للمعلوم بالإجمال كي يكون موجباً لانحلاله، مع عدم إمكان تعيّن المشتبه.

وإذا عرفت ذلك، فهل هي مقدّمة على الاستصحاب أم لا؟

إن كانت من الأمارات كما هو ظاهر كثير من الروايات، كما روي

ص: 256

عنه(صلی الله علیه و آله) أنّه قال: «ليس من قوم تنازعوا، ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اﷲ، إلّا خرج سهم المحقّ»(1)، وقوله(علیه السلام) «كلّما حكم اﷲ به فليس بمخطئ»(2)، فتكون - حينئذٍ - مقدّمة على الاستصحاب، شأنها في ذلك شأن سائر الأمارات. هذا إذا قلنا بأنّه تقع المعارضة بينها وبين الاستصحاب.ولكنّ الظاهر: عدم وقوع المعارضة بينهما أصلاً؛ لأنّ قاعدة القرعة لا تجري في مورد الشبهة الحكميّة البدويّة، ولا الشبهة الحكميّة المقرونة بالعلم الإجماليّ، ولا الموضوعيّة البدويّة. وإنّما يختصّ جريانها - كما عرفنا - بالشبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجماليّ، وهي وإن كانت ممّا يجري فيها الاستصحاب في حدّ ذاتها، إلّا أنّه غالباً يسقط فيها بالمعارضة.

وأمّا إن قلنا بأنّ القرعة من الاُصول، فبما أنّها من أضعف الاُصول، فيتقدّم عليها الاستصحاب؛ لأنّ تشريعها إنّما يكون في مورد لا حيلة فيه ولا علاج؛ لحلّ المشكل والملتبس، ومن هنا قيّدنا موردها بما إذا لم يكن الاحتياط ممكناً أو جائزاً أو واجباً.

بل حتى بناءً على أماريّة قاعدة القرعة، يمكن القول بتقديم الاستصحاب عليها، فإنّه وإن كنّا نقول بأنّ الأمارات واردة أو حاكمة

ص: 257


1- وسائل الشيعة 27: 258، باب 13 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى، ح 5.
2- مرّ تخريجه آنفاً.

على الاُصول، إلّا أنّ ذلك إنّما يتمّ بعد تحقّق موضوع الأمارة، وأمّا إذا كان الأصل، كما هو الحال هنا، رافعاً لموضوع التعبّد بها، فلا، وفيما نحن فيه، فالاستصحاب - على تقدير عدم سقوطه بالمعارضة - يكون رافعاً لموضوع القرعة، وهو كون الأمر مشكلاً ومعضلاً.

ص: 258

الكلام في أصالة الصحّة

اشارة

والكلام فيها في اُمور:

الأمر الأوّل:

هل أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ شيء واحد أم لا؟

ذهب المحقّق الأصفهانيّ(قدس سرّه) إلى الأوّل؛ لأنّه أرجعهما إلى أصالة الصحّة في عمل نفسه وعمل غيره.

ولكنّ الحقّ أنّهما مختلفتان من جهتين:

أمّا الأُولى: فهي الموضوع؛ فإنّ موضوع قاعدة الفراغ هو الشكّ الحادث بعد العمل، ويكون في عمل نفسه. وأمّا قاعدة الصحّة فالشكّ فيها في عمل الغير، أعمّ من أن يكون بعد الفراغ من العمل، أو أثناء مباشرة العمل.

وأمّا الثانية: فهي في منشأ الشكّ؛ فإنّ الشكّ في موارد قاعدة الفراغ

ص: 259

غالباً ما يكون ناشئاً عن الشكّ في الغفلة، وأمّا الغالب في موارد قاعدة الصحّة فهو أن يأتي الشكّ من جهة عدم مبالاة العامل وتسامحه، وبينهما بون شاسع كما لا يخفى.

الأمر الثاني:

استدلّ على حجّيّة هذه القاعدة بالكتاب والسنّة والإجماع والعقل والسيرة المستمرّة بين المسلمين.

أمّا الكتاب:

فقد استدلّوا منه بآيات:

منها: قوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾(1)، وعن أبي جعفر الباقر(علیه السلام): «فقولوا للناس ما تحبّون أن يقال لكم»(2). «فإنّ اﷲ يبغض اللّعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين، المتفحّش السائل الملحف، ويحبّ الحييّ الحليم العفيف المتعفّف»(3).

وقد جاء تفسيرها في الكافي: «قولوا للناس حسناً ولا تقولوا إلّا خيراً حتى تعلموا ما هو؟»(4)، أي: اعتقدوا بذلك ورتّبوا آثار الاعتقاد الصحيح

ص: 260


1- البقرة: الآية 83.
2- الكافي 2: 165، باب اُخوّة المؤمنين بعضهم لبعض، ح10.
3- بحار الأنوار 71: 161.
4- الكافي 2: 164، باب الاهتمام باُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم، ح9.

حتى في معاملاتهم مع الغير.

وفيه: أنّ الآية لا تدلّ على محلّ البحث، بل هي غير مربوطة أصلاً بترتيب آثار الاعتقاد الصحيح، بل لو سُلِّم دلالتها على الأمر بترتيب الآثار، فهي إنّما تدلّ على ترتيب آثار الحسن لا الصحيح.ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾(1)، فإنّ المقصود بالظنّ الذي هو إثم فيها خصوص ظنّ السوء ضرورة أنّ ظنّ الخير لا يكون إثماً، فيكون المراد النهي عن ترتيب آثار ظنّ السوء، بعد أن كان الظنّ غير قابل لتعلّق التكليف به، ومعه: فلابدّ أن يحمل عمله على الصحّة.

ولكن فيه: أنّ الآية لو كانت تدلّ على حرمة ترتيب الآثار فهي إنّما تدلّ على حرمة ترتيب آثار العمل السيِّئ ، لا العمل الفاسد، فيكون الاستدلال بها أجنبيّاً عن المدّعى.

وأمّا السنّة:

فقد استدلّوا منها بروايات:

منها: ما رُوِي من قول أمير المؤمنين(علیه السلام): «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، ولا تظنّنّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً»(2).

ص: 261


1- الحجرات: الآية 12.
2- الكافي 2: 362، باب التهمة وسوء الظنّ، ح3.

ولكنّ هذه الرواية - أيضاً - محمولة على الأمر بحسن الظنّ والاعتقاد بالمؤمن. وعلى فرض التنزل والبناء على أنّ المراد بها هو وجوب ترتيب الآثار، فلا يكون المراد بها إلّا وجوب ترتيب آثار العمل الحسن لا الصحيح، فلا ربط لها فيما نحن فيه.والحقّ - كما أفاده الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) - أنّ عمدة الدليل على هذا الأصل هي «سيرة العقلاء كافّةً، من جميع الملل، في جميع العصور، من أرباب جميع الأديان، من المسلمين وغيرهم، والشارع لم يردع عن هذه الطريقة، بل أمضاها كما هو مفاد الأخبار في أبواب متعدّدة.

بل يمكن أن يقال: لو لم يكن هذا الأصل معتبراً لا يمكن أن يقوم للمسلمين سوق، بل يوجب عدم اعتباره اختلال النظام، كما ادّعاه شيخنا الأعظم الأنصاريّ»(1).

الأمر الثالث:

هل المراد من الصحّة هي الصحّة الواقعيّة أم الصحّة باعتقاد العامل؟

الظاهر: الأوّل، دون الثاني؛ لأنّ الصحّة التي يبني عليها العقلاء في المعاملات بعد وقوعها هي الصحّة الواقعيّة؛ لأنّ الذي يوجب ترتيب الأثر لدى جميع الناس هو خصوص الصحّة الواقعيّة؛ وأمّا اعتقاد الصحّة

ص: 262


1- القواعد الفقهيّة 1: 287.

عند الفاعل، فلا يكون مثمراً للثمر، ولا يكون موجباً لترتيب آثار الصحّة عند سائر الناس، مع أنّنا نرى أنّ جميع الناس يرتّبون آثار هذا الفعل عليه بعد وقوعه من الفاعل، فإذا باع شخص داره، فإنّ الناس يحملونه على الصحّة الواقعيّة، ويرتّبون على فعله هذا آثار الصحّة.

الأمر الرابع:

أنّ العقلاء إنّما يُجْرون هذا الأصل ويحملون على الصحّة فيما إذا كان عنوان العمل محرزاً؛ فإنّ بناء العقلاء قائم على أنّ العمل الصادر من الغير بعد صدوره بعنوان الغسل - مثلاً - واحتمل فقد جزء، أو شرط، أو وجود المانع، يبنون على الصحّة، ولا يعتنون بذلك الاحتمال.

وأمّا لو لم يعلم أنّه هل قصد الغسل أو السباحة فليس لهم بناء على صحّة هذا الغسل.

نعم، الحمل على الصحّة إنّما يتمّ في التوصّليّات، كالتطهير من الخبث، حتى لو لم يحرز أنّه بهذا العمل قصد تطهير ثوبه - مثلاً - أم لا، فلو رأى شخصاً يغسل ثوبه ولو لم يعلم بأنّه كان بصدد تطهير ذلك الثوب، وقلنا بأنّ الغسل شرط، وشككنا في أنّه هل عصره أم لا؟ فيمكن أن يحمل على الصحّة.

وأمّا في التعبّديات، كما إذا شكّ في أنّه هل قصد الغسل أو السباحة، فليس بناؤهم على الصحّة؛ لما عرفت من أنّ هذا الأصل لا يجري إلّا

ص: 263

بعد إحراز عنوان العمل؛ لأنّ قصد العنوان في العناوين القصديّة يكون بمنزلة الموضوع لهذا الأصل، ومعلوم أنّه لا معنى لإجراء هذا الأصل مع كون الشكّ شكّاً في موضوعه.

الأمر الخامس:

أنّ هذا الأصل لا يجري إلّا بعد وجود الشيء، فمثلاً: لو صلّى على الميت، وشككنا في صحّة صلاته، فحينئذٍ: نحملها على الصحّة.

وبعبارة أُخرى: فلو أتى بعمل وشككنا بأنّه صحيح، أي تامّ من ناحية الأجزاء والشرائط وعدم الموانع ويترتّب عليه الأثر المقصود منه أم لا؟ فبمقتضى هذا الأصل نحكم بالصحّة، ويترتّب عليه الأثر المقصود منه.

وأمّا قبل وجوده فلا معنى لأن يحكم عليه بالصحّة، ولا لأن يقال: إنّ ما يريد أن يأتي به صحيح وتامّ ويترتّب عليه الأثر.

فلو شكّ في أثناء عمل شخص بأنّ ما يأتي به هل هو صحيح أم لا؟ لا مورد لجريان أصالة الصحّة؛ فلو أراد رجل أن يصلّي على الميت، أو أن يغسّله، فلا يمكن إجراء أصالة الصحّة قبل وجود هذه المذكورات.

وأمّا في أثناء العمل فبالنسبة إلى الأجزاء التي أتى بها يمكن جريان أصالة الصحّة، دون ما لم يأتِ بها، وهذا من جملة الفروق بين أصالة الصحّة وبين قاعدة الفراغ؛ فإنّه لا يشترط في جريان أصالة الصحّة الدخول في الغير، بخلاف قاعدة الفراغ، فإنّ الدخول في الغير يكون

ص: 264

شرطاً في جريانه.

ويعود السبب في ذلك إلى أنّ معنى أصالة الصحّة عند العقلاء هو أنّ العمل الذي صدر عن الغير، ويشكّ فيه أنّه أوجده صحيحاً تامّاً أم لا، فالعقلاء يبنون على صحّته وتماميّته.

الأمر السادس:

في جريان هذا الأصل في العقود والإيقاعات.

والتحقيق: أنّ أصالة الصحّة فيها تكون مقدَّمةً على أصالة الفساد، التي هي عبارة عن أصالة عدم النقل والانتقال في المعاملة، سواء قلنا بأنّ المدرك هنا - أيضاً - هو سيرة العقلاء، أم الإجماع، ثمّ على الثاني، سواء قلنا بوجود إجماع آخر خاصّ بباب المعاملات، وهي العقود والإيقاعات، أم قلنا بتحقّق إجماع واحد مطلق يدلّ على اعتبارها في جميع الموارد.

وفي المقام قال اُستاذنا المحقّق(رحمة الله):

«إنّما الكلام في أنّ جريانها في مورد الشكّ في صحّتها مطلقاً، سواء أكان الشكّ من جهة احتمال وقوع خلل في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في العوضين، أو لا يجري إلّا في مورد الشكّ في شرائط نفس العقد، دون شرائط المتعاقدين، أو العوضين، أو يجري فيما سوى الشروط العرفيّة للمتعاقدين أو العوضين؟

ص: 265

فبناءً على الاحتمال الأوّل تكون حاكمة على كلّ أصل يقتضي فساد العقد، سواء كان ذلك الأصل المقتضي للفساد جارياً في شرائط العقد، أو في شرائط المتعاقدين، أو في شرائط العوضين.وبناءً على الاحتمال الثاني، تكون حاكمةً على الأصل الذي يقتضي الفساد الجاري في شرائط نفس العقد، دون ما يقتضي الفساد الجاري في شرائط المتعاقدين أو العوضين.

وبناءً على الاحتمال الثالث تكون حاكمةً على كلّ أصل يقتضي الفساد، إلّا إذا كان ذلك الأصل الذي يقتضي الفساد جارياً في الشرائط العرفيّة للعوضين أو المتعاقدين، مثلاً: بناءً على هذا الاحتمال لو شكّ في ماليّة العوضين، أو في رشد المتعاقدين، أو أحدهما، فلا تجري أصالة الصحّة كي تكون حاكمة على أصالة عدم ماليّة العوضين، أو أصالة عدم رشد المتعاقدين، أو أحدهما»(1).

ثمّ إنّ المدرك لو كان هو الإجماع، فالصحيح كما أفاد المحقّق النائيني(قدس سرّه) أنّه «لا يبعد أن تكون أصالة الصحّة في العقود بنفسها معقد الإجماع بالخصوص، مع قطع النظر عن الإجماع على أصالة الصحّة في مطلق عمل الغير، وحيث إنّ أصالة الصحّة في العقود من المسائل المهمّة التي تعمّ بها البلوى، خصوصاً في باب الترافع والتخاصم؛ فإنّ

ص: 266


1- القواعد الفقهيّة 1: 292 - 293.

قطع الخصومة وتشخيص المدّعي والمنكر يتوقّف على تعيين مقدار سعة أصالة الصحّة ليكون المنكر من وافق قوله لها فينبغي بسط الكلام فيها»...

إلى أن يقول:«وليس لمعقد الإجماع إطلاق يعمّ جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد. بل القدر المتيقّن منه هو ما إذا كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً عن الشكّ في تأثير العقد للنقل والانتقال بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لإيجاد المعاملة من حيث نفسه ومن حيث المال المعقود عليه.

وبعبارة أوضح: أهليّة العاقد لإيجاد المعاملة وقابليّة المعقود عليه للنقل والانتقال إنّما يكون مأخوذاً في عقد وضع أصالة الصحّة، فلا محلّ لها إلّا بعد إحراز أهليّة العاقد وقابليّة المعقود عليه، فأصالة الصحّة إنّما تجري إذا كان الشكّ راجعاً إلى ناحية السبب من حيث كونه واجداً للشرائط المعتبرة فيه أو فاقداً له.

وأمّا لو كان الشكّ راجعاً إلى أهليّة العاقد أو قابليّة المعقود عليه للنقل والانتقال، فالمرجع هو سائر الاُصول العمليّة حسب ما يقتضيه المقام».

ثمّ قال:

«إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الشكّ في الصحّة والفساد إن كان مسبّباً عن الشكّ فيما يعتبر في الإيجاب والقبول - من العربيّة والماضويّة والموالاة ونحو ذلك ممّا ذكره الفقهاء رضوان اﷲ تعالى عليهم في شروط العقد - تجري فيه أصالة الصحّة.

ص: 267

وإن كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً عن الشكّ في فقدان شرط من شروط العوضين: فإن كان للشرط دخل في ماليّة العوضين عرفاً أو شرعاً - كالخمر -، أو كانللشرط دخل في قابليّتهما للنقل والانتقال - كالوقف - فلا تجري فيه أصالة الصحّة»(1).

ولا يخفى: أنّ ما ذكره(قدس سرّه) إنّما يتمّ لو كان المدرك هو الإجماع، ولكنّه إجماع منقول ومحتمل المدركيّة. وأمّا لو كان المدرك هي سيرة العقلاء، فهي إنّما تجري فيما إذا شكّ في الشرط المحتمل الفقدان في أنّه هل هو من شرائط المتعاقدين أو العوضين، وكذلك الحال في المانع المحتمل الوجود.

ولذا ردّ المحقّق الأصفهانيّ(2) على المحقّق النائيني" بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ قصور معقد الإجماع غير ضائر بعد قيام السيرة العمليّة على إمضاء المعاملات المشكوكة، ولو كان منشأ الشكّ هو الشكّ في الإخلال بشرط من شرائط العوضين أو المتعاقدين.

الثاني: أنّ الصحّة والفساد في أيّ حال تُضافان إلى العقد دون غيره، وهذا لا يرتبط بإضافة الشرط إلى غيره، فكون الشرط لغيره لا يضرّ في إضافة الفساد للعقد عند انتفاء هذا الشرط. ومعقد الإجماع هو البناء على

ص: 268


1- فوائد الاُصول 4: 654 - 658.
2- انظر: نهاية الدراية 3: 313.

صحّة العقد عند الشكّ، لا البناء على وجود شرط العقد كي لا يكون شاملاً لموردٍ يكون الشكّ فيه في شرط المتعاقدين أو العوضين.الثالث: أنّ الدعوى المذكورة تبتني على انعقاد إجماعين قوليّين: أحدهما: في باب العبادات، والآخر: في باب العقود والإيقاعات بعنوانها.

وأمّا مع انعقاد الإجماع على البناء على صحّة كلّ عمل له أثر - سواء كان عباديّاً أم معامليّاً - فلا وجه للدعوى المذكورة؛ لأنّ الصحّة في معقد الإجماع لم تسند إلى العقد بما هو عقد، بل إلى العمل العباديّ أو المعامليّ، وظاهر أنّ جميع الشرائط دخيلة في ترتّب الأثر على المعاملة بما هي معاملة.

نعم، حتى لو كان المدرك هو السيرة، ولكن مع ذلك فلا يجري هذا الأصل في مورد يعلم بجهل العامل بالصحيح والفاسد، حيث إنّ مطابقة عمله للصحّة الواقعيّة، والحالة هذه، تكون من باب المصادفة ليس غير.

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) ما نصّه:

«فتلخّص من مجموع ما ذكرنا: أنّ ما شكّ في صحّته وفساده، تارةً هو السبب، أي: العقد، وأُخرى هو المسبّب أي: المعاملة الكذائيّة، كالبيع - مثلاً -.

فإن كان هو العقد واحتمل عدم صحّته، أي: عدم تماميّته من حيث الأجزاء والشرائط وعدم الموانع، بحيث يشكّ في ترتّب الأثر المقصود

ص: 269

منه عليه، ولو انضمّ إليه سائر الشرائط المعتبرة في المتعاقدين، فلا شكّ في جريان أصالة الصحّة في نفس العقد إذا لم يكن الشرط المحتمل الفقدان، أو المانع المحتمل الوجود ممّا له دخل في تحقّق عنوانالعقد عرفاً؛ لما ذكرنا من لزوم تحقّق ما هو موضوع أصالة الصحّة.

فبعد إحراز ما هو موضوع أصالة الصحّة يثبت به الشرط المحتمل الفقدان، وأيضاً: يثبت عدم المانع المحتمل الوجود، فيترتّب على ذلك العقد الأثر المقصود، أي: المعاملة الفلانية إذا انضمّ إليه سائر ما اعتبر في المعاملة من شرائط المتعاقدين، كبلوغهما ورضائهما، بمعنى: عدم كونهما مكرهين، أو أحدهما مكرهاً، وأمثال ذلك، ومن شرائط العوضين، ككونهما قابلين للنقل والانتقال، كأن لا يكون أحدهما حرّاً مثلاً، وأن يكونا مملوكين، بأن لا يكونا من قبيل الخمر والخنزير.

وذلك من جهة أنّ صحّة العقد ليس معناها ترتّب أثر المعاملة الصحيحة عليه بمجرّده، بل معنى صحّته أن يترتّب الأثر المطلوب من المعاملة عليه لو انضمّ إليه سائر ما اعتبر من المعاملة من شرائط المتعاقدين والعوضين، وذلك من جهة أنّ الصحّة التعبّديّة الثابتة بأصالة الصحّة ليست بأعظم من الصحّة المحرزة بالوجدان، ومعلوم أنّ صحّة العقد واقعاً وقطعاً لاتترتّب عليها آثار صحّة المعاملة ما لم ينضمّ إليه جميع الشرائط التي للمتعاقدين، وأيضاً للعوضين.

وأمّا إن كان ما شكّ في صحّته وفساده هو المسبّب، أي: المعاملة

ص: 270

الكذائيّة لأجل احتمال خللٍ، من فقد شرط، أو وجود مانع للعقد أو للمتعاقدين أو العوضين، فيجري هذا الأصل فيها ويحكم بصحّتها، سواء كان الشرط المحتملالفقدان، أو المانع المحتمل الوجود، من شرائط العقد أو موانعه، أو من شرائط المتعاقدين وموانعهما، أو العوضين، أو نفس المسبّب كذلك، ما لم يكن من مقوّمات تحقّق المعاملة عرفاً؛ لما بيّنّا مفصّلاً، فلا نعيد»(1).

وأمّا المحقّق العراقي) فقد ذهب إلى جريان الأصل عند الشكّ في أي شرط مع إحراز الشرائط العرفيّة للعقد؛ فإنّه بعد أن ذكر أمرين:

الأوّل: أنّ الشرائط المعتبرة في صحّة العقد وتأثيره الفعليّ لترتّب الأثر ليست على نمط واحد:

فمنها: ما يرجع اعتباره إلى دخله في السبب، وهو العقد، كالموالاة بين الإيجاب والقبول، والماضويّة، وغيرهما.

ومنها: ما يرجع اعتباره إلى دخله في قابليّة المسبّب للتحقّق، وهذه الطائفة: بين ما يكون محلّه المتعاقدين، كالبلوغ والعقل وغيرهما، وبين ما يكون محلّه العوضين، كالمعلوميّة والماليّة، وبين ما يكون محلّه نفس المسبّب، كعدم الربويّة والغرريّة في البيع.

والثاني: أنّ صحّة كلّ شيء بحسبه؛ لكونها بمعنى التماميّة، وتماميّة

ص: 271


1- القواعد الفقهيّة 1: 295 - 296.

كلّ شيء إنّما هي بلحاظ وفائه بالأثر المرغوب عنه، في قبال فاسده، الذي لا يكون كذلك، فصحّة الإيجاب بمعنى أنّه لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد، وصحّة العقد عبارة عن تماميّته في نفسه، بحيث لو ورد علىمحلٍّ قابل لأثر فيه النقل والانتقال، وترتّب عليه الأثر المرغوب. فهي - أعني: الصحّة - في العقد عبارة عن مفاد قضيّة تعليقيّة، لا تنجيزيّة، وهو كونه بحيث لو ورد على محلٍّ قابل لاتّصف بالمؤثّريّة الفعليّة.

ثمّ بعد أن ذكر هذين الأمرين أفاد):

أنّ الشكّ في الصحّة والفساد إن كان مسبّباً عن الشكّ في وجود بعض الشرائط العرفيّة للسبب أو المسبّب، كالشكّ في التوالي بين الإيجاب والقبول المعتبر عرفاً، ومطلق الماليّة في العوضين، فلا تجري أصالة الصحّة، لا في السبب، ولا في المسبّب؛ لرجوع هذا الشكّ إلى الشكّ في مجرى أصالة الصحّة، مع أنّه لابدّ من إحراز عنوان موضوعه عرفاً.

وإن كان مسبّباً عن الشكّ في وجود بعض الشرائط الشرعيّة مع إحراز الشرائط العرفيّة، فإن كان الشرط المشكوك فيه من شرائط العقد، جرت أصالة الصحّة في العقد؛ لأنّه عقد عرفيّ مشكوك الصحّة والفساد شرعاً.

وإن كان من شرائط المسبّب، كالبيع، فلا تجري أصالة الصحّة في العقد لإحراز صحّته؛ لأنّها مفاد قضيّة تعليقيّة، وهي محرزة ولو مع القطع بانتفاء شرط المسبّب، وإنّما تجري في نفس المسبّب، وهو البيع - مثلاً -؛ لأنّه بيع عرفيّ مشكوك الصحّة والفساد شرعاً، وإن كان من شرائط

ص: 272

السبب والمسبّب، بأن كان الشكّ من الجهتين، جرت أصالة الصحّة في السبب والمسبّب(1).والحقّ: أنّه مع كون الدليل هو السيرة فيجري هذا الأصل في جميع صور الشكّ في صحّته وفساده بعد إحراز موضوع الصحّة عرفاً، بلا فرق بين أن يكون الشكّ في ناحية السبب، أي: العقد، أو المسبّب، أي: عناوين المعاملات المذكورة في أبواب العقود والإيقاعات.

ومعلوم: أنّ جميع الشكوك التي يكون محلّها إمّا العقد أو المتعاقدين أو العوضين ترجع إلى السبب أو المسبّب أو كذبهما فيكفي في جريانها إحراز القابليّة العرفيّة دون الشرعيّة، خلافاً للاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) الذي قال باختصاص جريان أصالة الصحّة في مورد الشكّ في شروط العقد دون غيره، واشترط في جريانها إحراز القابليّة الشرعيّة والعرفيّة في الفاعل والمورد(2)، واختصّ جريان الأصل في موارد الشكّ في شروط العقد دون غيره، وذلك تبعاً لاُستاذه المحقّق النائيني)(3).

فإنّه بعد أن حرّر موضوع المسألة وبيّن صور الشكّ، وذكر أنّ المحقّق الثاني والعلّامة" ذهبا إلى عدم جريان أصالة الصحّة عند الشكّ في قابليّة

ص: 273


1- راجع: نهاية الأفكار 4: 28.
2- انظر: مصباح الاُصول 2: 395.
3- راجع: فوائد الاُصول 4: 654. قال(قدس سرّه): «الأمر الثاني: لا يبعد أن تكون أصالة الصحّة في العقود بنفسها معقد الإجماع بالخصوص...».

الفاعل أو المورد العرفيّة والشرعيّة، حكم بصحّة ما ذهب إليه متمسّكاً بذلك بعدم وجود دليل لفظيّ لأصالة الصحّة كي يتمسّك بعمومه وإطلاقه، بلدليلها ليس سوى السيرة، ولم يحرز قيامها على ترتيب آثار الصحيح عند الشكّ في القابليّة، وهو كافٍ في الحكم بعدم جريان أصالة الصحّة، بل المحرز قيامها على عدم ترتيب الآثار، وقد ضرب(قدس سرّه) لذلك مثالين:

أحدهما: ما لو باع زيد دار عمرو مع اعترافه بكونها دار عمرو، وشكّ في كونه وكيلاً عن عمرو أو لا.

والثاني: ما لو طلّق زيد زوجة عمرو، وشكّ في كونه وكيلاً عنه.

فإنّ العقلاء لا يرتّبون آثار البيع الصحيح أو الطلاق الصحيح على ما صدر من زيد، وهذا لا يرجع إلّا لعدم ترتيب آثار الصحّة عند الشكّ في القابليّة.

ثمّ قال(قدس سرّه): «وأمّا ما ذكره الشيخ) من قيام السيرة على ترتيب الآثار على المعاملات الصادرة من الناس في الأسواق مع عدم إحراز قابليّة الفاعل، فهو وإن كان مسلّماً، إلّا أنّه من جهة قاعدة اليد، فإنّه لولاها لما استقام للمسلمين سوق، فلا ربط له بأصالة الصحّة.

وإن شئتَ قُلْت: قابليّة الفاعل في الموارد المذكورة محرزة بقاعدة اليد، لا أنّ أصالة الصحّة جارية مع عدم إحراز القابليّة، فالأمثلة المذكورة خارجة عن محلّ الكلام»(1).

ص: 274


1- انظر: مصباح الاُصول 2: 395 - 396، (المجلّد 48 من موسوعة الإمام الخوئي¨).

الأمر السابع :

اختلاف الصحّة بحسب مواردها:

لا يخفى: أنّ الصحّة على قسمين: تأهّليّة وفعليّة.

أمّا التأهّليّة: فهي عبارة عن قابليّة الجزء لكي يترتّب عليه الأثر الشرعيّ لو انضمّ إليه غيره من الأجزاء ممّا له دخل في ترتّب هذا الأثر، وفي الواقع، هي عبارة عن قابليّة ذلك الجزء فيما لو انضمّت إليه بقيّة الأجزاء أن يشكّل مع تلك الأجزاء مجموعاً هو عبارة عن عبادة أو معاملة تامّة.

وأمّا الصحّة الفعليّة: فهي الصحّة بمعنى تماميّة جميع الأجزاء والشرائط، سواء كان موردها عبادة أم عقداً، بحيث يترتّب عليه ما له من الآثار فعلاً.

فاتّصاف الجزء بالصحّة التأهّليّة لا يتوقّف على انضمام بقيّة الأجزاء فعلاً إليه، وأمّا الصحّة الفعليّة، فالاتّصاف بها متوقّف على توفّر جميع الأجزاء، فالمتّصف بها ليس إلّا المجموع المركّب، وهو لا يتّصف بغيرها، وأمّا الذي يتّصف بالصحّة التأهّليّة فليس إلّا الجزء.

ومن هنا يتّضح: أنّ صحّة كلّ شيء بحسبه، فالجزء لا يتّصف بالصحّة الفعليّة، والكلّ بالنسبة إلى أثره بعكسه، فهو لا يتّصف إلّا بالصحّة الفعليّة.

ومن هنا ظهر: أنّ جريان أصالة الصحّة في الإيجاب في البيع - مثلاً - لا يجدي لإثبات الصحّة في الإجازة، بمعنى: أنّه لا تثبت إجازة المالك به؛ لأنّها صحّة تأهليّة، فلا تدلّ على أزيد من صحّة الإيجاب.

ص: 275

وكذا ما إذا شكّ في تحقّق القبض في الصرف والسلم، فإنّ جريان أصالة الصحّة في العقد لا يدلّ على تحقّق القبض في المجلس الذي هو شرط في صحّة تلك المعاملة ووقوع النقل والانتقال شرعاً.

ولكن يمكن القول هنا بجريان أصالة الصحّة فيما لو أحرزنا تحقّق المعاملة في نظر العرف، فإذا شككنا - حينئذٍ - في عدم وجود شرط اعتبره الشارع في صحّة المعاملة، كمثل القبض في المجلس في مسألة بيع الصرف، أمكن التمسّك بأصالة الصحّة لإثبات وجوده.

وكذلك فقد يستشكل في جريان أصالة الصحّة في موارد:

منها: بيع الوقف بعد ثبوت عدم صحّة هذا البيع لو خُلّي ونفسه، وأنّه لا يجوز إلّا بطروّ شيءٍ من المجوّزات التي ذكروها لبيعه، فإذا ادّعى البائع للوقف وجود شيءٍ من هذه المجوّزات، فهل تثبت أصالة الصحّة وجوده - أعني: المجوّز - وصحّة بيعه؟ الظاهر العدم بعد أن كان بناء بيع الوقف على الفساد.

نعم، يمكن إثبات الصحّة من ظهور حال المسلم في أنّه لا يرتكب ما لا يجوز، إلّا أنّ هذا المعنى مغاير لأصالة الصحّة التي ثبتت حجّيّتها ببناء العقلاء.

ولكن يمكن القول: بأنّ البائع للوقف إن كان هو الناظر أو الحاكم الشرعيّ، فحيث إنّه يمكن أن يكون صحيحاً مع وجود أحد المسوّغات، وحيث إنّ وجود المسوّغ لم يكن من مقوّمات تحقّق بيع الوقف عرفاً، بل

ص: 276

هو ممّا اعتبره الشارع فيصحّته، فتجري أصالة الصحّة حينئذٍ، وتكون حاكمةً على أصالة عدم وجود المسوّغ، كما هو شأن أصالة الصحّة في سائر المقامات، حيث تُقدَّم على جميع الاُصول العدميّة.

ومنها: ما لو ادّعى الراهن إذن المرتهن في بيع العين المرهونة، فإنّ أصالة صحّة البيع لا تثبت إذنه، وقد مرّ أنّ الرهن إذا كان قد حصل عرفاً، فإذنه للبيع إن كان من مقوّمات تحقّق البيع عرفاً فأصالة الصحّة لا تجري، وإلّا فتجري.

الأمر الثامن:

لا يخفى: أنّ الأفعال والعناوين القصديّة إنّما تجري فيها أصالة الصحّة إذا كان الفاعل لذلك الفعل قد قصد عنوان ذلك العنوان القصديّ، فإذا كان الشخص نائباً عن أحدٍ في الحجّ أو زيارة أحد المعصومين(علیهم السلام)- مثلاً -، فاذا لم ينوِ النيابة عن المنوب عنه، فإنّ النيابة لا تقع؛ لأنّها من العناوين القصديّة، وبالتالي: فلا يمكن جريان أصالة الصحّة.

أمّا لو أحرز المستنيب أنّ النائب قصد بفعله النيابة عن قبله بمحرز وجدانيّ أو تعبّدي، ولكن شكّ في أنّ النائب هل أتى بالحجّ بجميع ما اعتبر فيه من الأجزاء والشرائط وعدم الموانع، فتجري أصالة الصحّة في فعل النائب، ويثبت بها أنّه قد جيء به بجميع ما اعتبر فيه وجوداً وعدماً، فيسقط عن المنوب عنه.

ص: 277

الأمر التاسع:

في أنّ أصالة الصحّة هل هي أصل أم أمارة؟

وقع الكلام في ذلك بين الأصحاب. فإن قلنا بأنّها من الأمارات، وقد عرفنا أنّ الحجّيّة في باب الأمارات من باب تتميم الكشف، فيستفاد منها ترتيب جميع الآثار التي لذلك الفعل الذي تجري فيه أصالة الصحّة إذا كان صحيحاً واقعاً، حتى ولو كانت من اللّوازم العقليّة التي لها آثار شرعيّة.

وإن قلنا بأنّها من الاُصول العمليّة، بلا فرق بين أن تكون من الاُصول المحرزة أم لا، فلا يثبت بها إلّا الآثار الشرعيّة التي تكون لذلك الفعل، ولا يثبت بها الحكم الشرعيّ الذي يترتّب بواسطة الأثر العقلي.

وبذلك يتّضح: أنّه لابدّ لإثبات كونها من الأمارات أو الاُصول من الرجوع إلى مدرك اعتبارها. وقد اختار المحقّق الأنصاريّ) - على ما يستظهر من كلامه - أنّها من الاُصول، حيث قال) ما عبارته:

«أنّ الثابت من القاعدة المذكورة الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتّب عليه الآثار الشرعيّة المترتّبة على العمل الصحيح، أمّا ما يلازم الصحّة من الاُمور الخارجة عن حقيقة الصحيح فلا دليل على ترتّبها عليه، فلو شكّ في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك، كالخمر والخنزير، أو بعينٍ من أعيان ماله، فلا يحكم بخروج تلكالعين من

ص: 278

تركته، بل يحكم بصحّة الشراء وعدم انتقال شيءٍ من تركته إلى البائع؛ لأصالة عدمه»(1).

وقد يُفصّل بين ما إذا كان منشأ الشكّ في الصحّة احتمال تعمّد الإخلال بما يعتبر في العمل من الأجزاء والموانع أو احتمال عروض الغفلة والسهو مع علم الفاعل بالحكم، فتكون من الأمارات؛ لأنّ احتمال التعمّد خلاف ظاهر حال الفاعل، كما أنّ احتمال عروض الغفلة والسهو منافٍ لما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بالأذكريّة حين الفعل، حيث إنّ ورود هذه الكلمة في ذلك الباب لا يوجب اختصاصها به؛ لأنّه أمر عام يشمل العامل والحامل، والأوّل، أي: العامل، في قاعدة الفراغ, وأمّا الثاني، وهو الحامل، ففيما نحن بصدده.

وأمّا لو كان منشأ الشكّ احتمال جهل الفاعل بالحكم - بناءً على شمول القاعدة له - فلا محالة يكون أصلاً تعبّدياً حينئذٍ؛ وذلك لعدم وجود ملاك الأماريّة فيه أصلاً.

ولكنّ المحقّق النائيني(قدس سرّه) أورد على ذلك بما حاصله:

أنّ غاية ما يستفاد من التعليل بالأذكريّة وكذلك ظهور حال المسلم هو حمل فعله على الصحّة عند فاعله، لا الصحّة الواقعيّة التي نحن بصددها، ومعه: فلا مجال لأن يُعدّ هذاالأصل من الأمارات المعتبرة، بل لا يكون

ص: 279


1- فرائد الاُصول 3: 371.

- حينئذٍ - إلّا من سنخ الاُصول العمليّة(1).

والتحقيق أن يقال: إنّ تعيين كون هذه القاعدة أصلاً أو أمارةً لابدّ أن يرجع فيه - كما ذكرنا - إلى مدرك اعتبارها؛ فإن كان المدرك هو الإجماع، فالقدر المتيقّن من معقده هو ترتيب الآثار الشرعيّة التي للفعل بلا واسطة لازمه العقليّ، دون الآثار الشرعيّة التي تترتّب عليه بواسطة الآثار العقليّة.

وأمّا إذا كان المدرك هو بناء العقلاء، فإن كان بناؤهم على اعتبارها من ناحية ظهور حال المسلم، بل حال كلّ فاعل عاقل، مسلماً كان أم غير مسلم، في أنّه يأتي بعمله صحيحاً تامّاً، لا فاسداً ناقصاً، ففي هذه الحالة، فإن قلنا بأنّ بناءهم من جهة تتميمهم الكشف الناقص الموجود في ظهور حالهم، فتكون أمارة، وحينئذٍ: فتكون مثبتاتها حجّة، كما هو الحال في كلّ أمارة.

وأمّا إذا قلنا بأنّ بناءهم ليس من باب تتميم الكشف، بل هم إنّما يعملون على طبق ذلك الظهور من دون أن يروه طريقاً كاشفاً في عالم اعتبارهم، وإنّما يعملون على طبقه عمل المتيقّن، فيكون أصلاً

ص: 280


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 654، وإليك نصّ كلامه، قال(قدس سرّه): «نعم، لو كان المستند في اعتبار أصالة الصحّة ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على ما هو الفاسد، كان المراد من الصحّة هي الصحّة عند الفاعل، ولكن هذا إنّما يتمّ مع علم الفاعل بما هو الصحيح والفاسد، وأمّا مع جهله بذلك فلا معنى لحمل فعله على الصحيح عنده، كما لا يخفى».

محرزاً.وإن كان عملهم على طبق ذلك الظهور من دون أن يبنوا على كونه من باب عمل المتيقّن، فيكون من الاُصول غير المحرزة.

وإذا عرفت هذا، فحيث كان المدرك في اعتبارها عندنا هو بناء العقلاء، والظاهر أنّه من باب تتميم الكشف، فتكون القاعدة المزبورة من الأمارات، ومعه: فتترتّب عليها جميع الآثار الشرعيّة، وتكون مثبتاتها حجّةً أيضاً.

الأمر العاشر:

في تقديم هذه القاعدة على الاستصحابات الموضوعيّة.

فنقول: تارةً: نقول بأماريّة هذه الأصالة وجريانها على الإطلاق، أي: شرائط العقد والعوضين والمتعاقدين، وحينئذٍ: فتكون حاكمة على الاُصول الموضوعيّة العدميّة؛ لأنّها تكشف عن وجود تلك الشرائط تعبّداً، ومعه: فلا يبقى موضوع للاستصحاب أصلاً، فتقدّم تلك القاعدة على أصالة الفساد في المعاملات، وأصالة الاشتغال في العبادات؛ إذ بعد أن كان الشكّ في بقاء شغل الذمّة في الاُمور العباديّة أو في حصول النقل والانتقال في المعاملات مسبّباً عن الشكّ في صحّة ذلك العمل العباديّ، أو الشكّ في صحّة ذلك العقد الصادر من العاقد، فتكون أصالة الصحّة أمراً سببيّاً، فتكون مقدّمةً بهذا الملاك على الأصل المسبّبيّ.

ص: 281

وأُخرى: نقول بأنّها من الاُصول المحرزة، وحينئذٍ: فتقديمها على سائر الاُصول بحاجة إلى دليل، فيقع التعارض بينهما بعدما كان كلاهما من الاُصول المحرزة.

قال المحقّق النائيني) في المقام ما هذا لفظه:

«قد اختلف كلمات الأعلام في حكومة أصالة الصحّة في العقود على جميع الاُصول الموضوعيّة المقتضية لفساد العقد، والمتحصّل من الكلمات أقوال ثلاثة:

الأوّل: حكومتها على كلّ أصلٍ يقتضي فساد العقد، سواء كان الأصل جارياً في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في شرائط العوضين، فلو اختلف المتعاقدان في كون العقد واجداً لشرائط الصحّة - من العربيّة والماضويّة أو في بلوغ العاقد، أو في قابليّة أحد العوضين للنقل والانتقال - قُدِّم قول من يدّعي الصحّة، ولا تجري أصالة عدم بلوغ العاقد، أو عدم كون المال قابلاً للنقل والانتقال لو فرض أنّ في البين أصلاً موضوعيّاً يقتضي عدم قابليّة المال للانتقال، فتكون أصالة الصحّة حاكمة على جميع الاُصول السببيّة والمسبّبيّة المقتضية لفساد العقد.

الثاني: حكومتها على خصوص الأصل الذي يقتضي فساد العقد من حيث الشرائط الراجعة إلى تأثيره: من العربيّة والماضويّة ونحو ذلك... فلو كان الشكّ متمحّضاً في تأثير السبب وكونه واجداً للشرائط المعتبرة فيه، كان الأصل فيه الصحّة. وأمّا لو كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً

ص: 282

عن الشكّ في شرائط المتعاقدين أو شرائط العوضين، فلا تجري فيه أصالة الصحّة.

والحاصل: أنّ أصالة الصحّة إنّما تكون حاكمة على خصوص أصالة عدم النقل والانتقال وبقاء المال على ملك مالكه، فإذا لم يكن في مورد الشكّ إلّا أصل عدم الانتقال كانت أصالة الصحّة حاكمة عليه. وأمّا إذا كان في مورد الشكّ أصل موضوعيّ آخر يقتضي الفساد، كأصالة عدم بلوغ العاقد، أو عدم قابليّة المال للنقل والانتقال، فلا تجري فيه أصالة الصحّة.

الثالث: حكومتها على كلّ أصل يقتضي فساد العقد إلّا إذا كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً عن الشكّ في الشرائط العرفيّة للعوضين أو المتعاقدين، كماليّة العوضين ورشد المتعاقدين فى الجملة».

إلى أن قال: «والتحقيق: أنّ أصالة الصحّة إنّما تقدّم على أصالة بقاء المال على ملك مالكه، ولا تقدّم على سائر الاُصول الموضوعيّة الأُخَر؛ فإنّه لا دليل على أصالة الصحّة في العقود سوى الإجماع، وليس لمعقد الإجماع إطلاق يعمّ جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد، بل القدر المتيقّن منه هو ما إذا كان الشكّ في الصحّة والفساد مسبّباً عن الشكّ في تأثير العقد للنقل والانتقال بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لإيجاد المعاملة

ص: 283

من حيث نفسه ومن حيث المال المعقود عليه»(1).ولكن لا يخفى: أنّ ما ذكره) إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المدرك لاعتبارها هو الإجماع، وأمّا لو قلنا بأنّ المدرك لذلك هو السيرة العقلائيّة، فهي - حينئذٍ - بإطلاقها تعمّ جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد بلا استثناء.

وقد علّق المحقّق العراقي(قدس سرّه) على كلامه) هذا بما نصّه:

«أقول: الأَولى أن يقال: إنّه بعدما كان مرجع الصحّة والفساد إلى تماميّة الشيء من حيث ترتّب الأثر عليه وعدمه، فلا محيص من أن يكون مركز هذا الأصل ما يتصوّر له الصحّة والفساد، ولازم ذلك هو: كون مجرى هذا الأصل تارةً هو السبب، وأُخرى المسبّب من حيث تماميّته في قابليّته للترتّب على المسبّب، وحيث إنّ مجرى هذا الأصل لا بدّ وأن يكون محرزاً بالوجدان، فلا محيص - في فرض الشكّ في قابليّة المسبّب للتأثّر - أن يرجع الشكّ إلى قابليّته شرعاً مع كون المسبّب محرزاً عرفاً بالوجدان.

ثمّ إنّ الشكّ في تماميّة المسبّب أو السبب: تارةً: من جهة قيدٍ يكون محلّه العقد أو المتعاقدين أو العوضين، أو محلّه نفس المسبّب، وعلى أيّ حال: جميع هذه القيود راجعة إمّا إلى السبب أو المسبّب؛ لاستحالة تماميّة السبب وقابليّة المسبّب وعدم الأثر، وحينئذٍ: فكلّ مورد يكون الشكّ في قيدٍ من ناحية العرف، لا مجرى [فيه] لأصالة الصحّة؛ لعدم إحراز العنوان. وكلّ مورد يكون

ص: 284


1- فوائد الاُصول 4: 655 - 657.

الشكّ في قيد شرعيّ، يجري فيه أصالة الصحّة؛ لعموم التعليل في رواية (اليد)،بعد الجزم بعدم الفرق في الجريان من حيث المورد، وبطلان الترجيح بلا مرجّح، كما لا يخفى.

وأمّا توهّم كفاية أجزاء العقد عرفاً في إثبات تماميّة السبب، فهو كما ترى؛ إذ مهما شكّ في وجود قيدٍ من قيود نفس العقد فأصالة الصحّة في نفس العقد لا يقتضي أزيد في تماميّة العقد في المؤثّرية، وليس شأنه إثبات قابليّة المحلّ للتأثّر، فمع الشكّ فيه عرفاً للشكّ في فقد قيدٍ عرفيّ، لا يُنتج مثل هذا الأصل ترتّب المسبّب على السبب.

نعم، لو أحرز قابليّته العرفيّة، وتحقّق مثل هذا البيع، فيحتاج في إثبات تماميّته إلى إجراء أصالة الصحّة في المسبّب»(1).

ص: 285


1- فوائد الاُصول 4: 657، الهامش.

ص: 286

الكلام في تعارض الاستصحابين

اشارة

لا يخفى: أنّ الشكّ في بقاء أحد المستصحبين إمّا أن يكون مسبّباً عن الشكّ في بقاء المستصحب الآخر، وإمّا أن يكونالشكّ في بقاء كلّ من المستصحبين مسبّباً عن أمر آخر، ولا يمكن أن يكون الشكّ في كلّ منهما مسبّباً عن الآخر؛ لاستحالته عقلاً؛ إذ لا يعقل أن تكون علّة الشيء معلولاً له.

فالأوّل يسمّى بالاستصحاب السببيّ والمسبّبيّ، حيث إنّ الشكّ في بقاء أحدهما يكون مسبّباً شرعاً عن بقاء الشكّ في الآخر، كما إذا غسلت الثوب النجس بالماء المستصحب الطهارة؛ فإنّه بعد إجراء استصحاب طهارة الماء تكون هذه الطهارة المستصحبة سبباً شرعيّاً لطهارة الثوب الذي غسل بذلك الماء، فيكون الشكّ شكّاً في تحقّق السبب، وهو طهارة الماء سبباً للشكّ في طهارة ذلك الثوب.

ومعه: يكون الاستصحاب في الأصل السببيّ حاكماً عليه في جانب

ص: 287

الأصل المسبّبيّ. فالأصل السببيّ مقدّم دائماً، بلا فرق بين أن يكون كلا الأصلين تنزيليّاً مشمولاً لقوله(علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشكّ)، أو أن يكون أحدهما أصلاً تنزيليّاً والآخر غير تنزيليّ.

ولا يخفى: أنّ المراد بالأصل التنزيليّ هو ما يكون المجعول فيه هو البناء العمليّ على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشكّ، وتنزيله عملاً منزلة الواقع. وأمّا الأصل غير التنزيليّ فهو ما يكون المجعول فيه مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ، من دون أن يكون الجعل متكفّلاً لثبوت الواقع في أحد الطرفين.

ويدخل في القسم الأوّل: الاستصحاب، وقاعدة الفراغ والتجاوز، وأصالة الصحّة، فإنّ جميع هذه الاُصول متكفّلةللتنزيل والإحراز، والمجعول فيها هو البناء العمليّ على ثبوت الواقع إن كان مؤدّى الأصل مقام الثبوت، كما هو الشأن في الاستصحاب، أو البناء العمليّ على الإتيان بالواقع إن كان مؤدّى الأصل مقام الفراغ والسقوط، كما هو الحال في قاعدة الفراغ والتجاوز.

ويدخل في القسم الثاني: البراءة والاحتياط وأصالة الحلّ والطهارة، فإنّ المجعول في هذه الاُصول مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ، من دون أن تكون متكفّلة لثبوت الواقع أو الإتيان به.

وأمّا الثمرة بين الاُصول المحرزة وغيرها، فتظهر - على ما ذكره المحقّق النائيني) - في موارد عديدة:

ص: 288

منها: قيام الاُصول المحرزة مقام القطع الطريقيّ، دون الاُصول غير المحرزة.

ومنها: عدم جريان الاُصول المحرزة في أطراف العلم الإجماليّ مطلقاً، سواء كان مؤدّاها نفي التكليف المعلوم بالإجمال ولزم من جريانها مخالفة عمليّة، أو كان مؤدّاها ثبوت التكليف المعلوم بالإجمال ولم يلزم من جريانها مخالفة عمليّة؛ فإنّ التعبّد ببقاء الواقع في كلّ واحدٍ من أطراف العلم الإجماليّ ينافي العلم الوجدانيّ بعدم بقاء الواحد في أحدهما، وكيف يعقل العلم ببقاء النجاسة - مثلاً - في كلّ واحد من الإناءين مع العلم بطهارة أحدهما، ومجرّد أنّه لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عمليّة لا يقتضي صحّة التعبّد ببقاءالنجاسة في كلٍّ منهما؛ فإنّ الجمع في التعبّد ببقاء مؤدّى الاستصحابين يناقض العلم الإجماليّ بالخلاف.

وهذا بخلاف الاُصول غير المحرزة؛ فإنّه لمّا كان المجعول فيها مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ، فلا مانع من التعبّد بها في أطراف العلم الإجماليّ إذا لم يلزم منها مخالفة عمليّة(1).

وبالجملة: فالأصل السببيّ، ولو لم يكن تنزيليّاً، مقدّم على الأصل المسبّبيّ، ولو كان تنزيليّاً، فلو كان هناك ماء لا يعلم حالته السابقة وأنّه

ص: 289


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 693، بتصرّف يسير في عبارته.

طاهر أو نجس، وغسلت به الثوب النجس، فبعد جريان أصالة الطهارة في الماء، وهي ليست بأصل تنزيليّ، تقدّم على استصحاب نجاسة الثوب، والذي هو أصل تنزيليّ، لما عرفت من أنّ الأصل السببيّ حاكم على الأصل المسبّبيّ ورافع لموضوعه في عالم التعبّد والتشريع؛ إذ بعد أن كان المشكوك، وهو طهارة الثوب في المثال المتقدّم، من الآثار الشرعيّة لطهارة الماء، فإذا جاء دليل تعبّدي على طهارة ذلك الماء الذي غسل هذا الثوب به، فمن جملة آثاره: رفع الخبث عن هذا الثوب الذي غُسل به، وأنّه لم يبقَ لذلك الثوب نجاسة، وإن كان ثبوت الطهارة لذلك الماء بمفاد أصالة الطهارة.

وبعبارة أُخرى: لم يبقَ في مقام العمل شكّ في نجاسة الثوب حتى تستصحب نجاسته، وليس هذا الارتفاع الذي نقول به للشكّ بارتفاع حقيقيّ، حتى يقال بأنّ ترتيب آثار الطهارة علىالماء تعبّداً لا يوجب ارتفاع الشكّ حقيقةً؛ لأنّه من الاُمور التكوينيّة، وهي لا ترتفع إلّا بأسبابها التكوينيّة، بل ما هو إلّا الرفع التعبّديّ.

والحاصل: أنّ الدليل الذي يثبت طهارة الماء، سواء كان أصلاً تنزيليّاً أم غير تنزيليّ، فهو موجب لرفع الشكّ في مرحلة الإثبات والظاهر، لا في مرحلة الثبوت والواقع، وإلّا، كان وارداً لا حاكماً، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني) ذكر أنّ حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ مشروطة بأمرين:

ص: 290

أحدهما: أن تكون السببيّة شرعيّة لا عقليّة.

والثاني: أن يكون الأصل في جانب السبب رافعاً لموضوع المسبّب، وإلّا، فلا حكومة كما ينبغي.

ومثّل لعدم كونه رافعاً بالشكّ في مأكول اللّحم والشكّ في جواز الصلاة فيه، حيث إنّ الشكّ الثاني مسبّب شرعاً عن الشكّ الأوّل، وأصالة الحلّ في الشكّ الأوّل لا ترفع الشكّ الثاني الذي هو موضوع عدم جواز الصلاة؛ لما ذكره من أنّ جواز الصلاة موضوعه العناوين المحلّلة كالغنم وأمثاله.

وإليك نصّ كلامه«:

«فإن كان الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر: فلا إشكال في حكومة الاستصحاب السببيّ على الاستصحاب المسبّبي، بل في حكومة كلّ أصل سببيّ على كلّ أصل مسبّبي - ولو لم يكن الأصل السببيّ من الاُصول المحرزة - إذا كان الأصل السببيّ واجداً لشرطين:أحدهما: أن يكون ترتّب المسبّب على السبب شرعيّاً لا عقليّاً، بمعنى: أن يكون أحد طرفي الشكّ المسبّبيّ من الآثار الشرعيّة المترتّبة على أحد طرفي الشكّ السببيّ، فالشكّ في بقاء الكلّيّ لأجل الشكّ في حدوث الفرد الباقي خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ بقاء الكلّيّ ببقاء الفرد عقليّ، فلا يكون استصحاب عدم حدوث الفرد حاكماً على استصحاب بقاء الكلّيّ، بل يجري استصحاب بقاء الكلّيّ في عرض استصحاب عدم حدوث الفرد،

ص: 291

ولا معارضة بينهما، وقد تقدم تفصيل ذلك في استصحاب الكلّيّ.

ثانيهما : أن يكون الأصل السببيّ رافعاً للشكّ المسببيّ، فالشكّ في جواز الصلاة في الثوب لأجل الشكّ في اتّخاذه من الحيوان المحلّل خارج عن محلّ الكلام أيضاً، فإنّ أصالة الحلّ في الحيوان، وإن كان تجري، إلّا أنّها لا تقتضي جواز الصلاة في الثوب، لبقاء الشكّ في جواز الصلاة فيه على حاله؛ لأنّ أصالة الحلّ لا تُثبت كون الثوب متّخذاً من الأنواع المحلّلة، على ما تقدّم بيانه أيضاً في استصحاب الكلّيّ»(1).

وقد ردّه الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) بأنّه «كلام عجيب؛ لأنّ كلامنا في هذا المقام في الأصل السببيّ والمسبّبيّ، فإذا كان الشكّ في الأصل المسبّبيّ مسبّباً شرعاً عن بقاء الشكّ في الأصل السببيّ، فإذا ارتفع السبب - أي: الشكّ - ولو تعبّداً، ومنحيث الجري العمليّ، فمحال أن يبقى المسبّب الذي هو معلول له، وإلّا، تخلّف المعلول عن علّته.

وأمّا المثل الذي ذكره: فإن قلنا: إنّ الشكّ في جواز الصلاة مسبّب عن الشكّ في الحلّيّة، فلا محالة يرتفع بأصالة الحلّ، وأمّا إن قلنا: بأنّ الشكّ في جواز الصلاة مسبّب عن الشكّ في أنّه من العناوين المحلّلة، فليس مسبّباً عن الحلّيّة حتى يلزم منه رفع الموضوع في جانب المسبّب.

ص: 292


1- فوائد الاُصول 4: 682.

والحاصل: أنّ كون الشكّ في الأصل المسبّبيّ معلولاً للشكّ السببيّ شرعاً ومن آثاره، ومع ذلك لا يرتفع بارتفاعه بالأصل في طرف السبب، من المتناقضات، ومن الالتزام ببقاء المعلول مع زوال علّته، ولو تعبّداً ومن حيث الجري العمليّ، لا حقيقةً ووجداناً»(1).

وما ذكره(قدس سرّه) هو الصحيح؛ لأنّ الأصل في جانب السبب إنّما يكون رافعاً لموضوع المسبّب تعبّداً، ومن حيث الجري العمليّ، بعدما كان الشكّ في الأصل المسبّبيّ مسبّباً شرعاً عن بقاء الشكّ في الأصل السببيّ.

فإذا ارتفع الشكّ، ولو ببركة جريان الأصل في السبب، فمحال أن يبقى المسبّب الذي هو المعلول له؛ لعدم إمكان انفكاك المعلول وتخلّفه عن علّته، وبعدما كان الشكّ في جوازالصلاة مسبّباً عن الشكّ في الحلّيّة، فهذا الشكّ يرتفع - لا محالة - بجريان أصالة الحلّ.

ثمّ إنّه قد يقال: إنّما يتقدّم الأصل السببيّ على المسبّبيّ فيما إذا كان لكلّ واحدٍ منهما دليل مستقلّ، حتى يكون أحد الدليلين رافعاً لموضوع دليل الآخر، وأمّا إذا كان لكليهما دليل واحد يشمل بعمومه الاثنين، كما في مورد البحث هنا، في مثل قوله(علیه السلام): لا تنقض اليقين بالشكّ، الذي هو شامل بعمومه للأصل السببيّ والمسبّبيّ معاً، فكيف يمكن أن يكون دليل

ص: 293


1- منتهى الاُصول 2: 542 - 543.

واحد بالنسبة إلى أحدهما، وهو الأصل السببيّ، حاكماً، وبالنسبة إلى الآخر، وهو الأصل المسبّبيّ، محكوماً؟(قدس سرّه) ليس هذا إلّا أن يكون شيء واحد حاكماً على نفسه، وهذا واضح البطلان.

ولكن يُجاب عن هذا الإشكال: بأنّ العامّ هنا من قبيل العامّ الانحلاليّ، ومعلوم أنّ العموم الانحلاليّ هو في حكم القضايا المتعدّدة، ومن هنا أمكن أن يكون هذا العامّ بالنسبة إلى الأصل السببيّ حاكماً، وبالنسبة إلى الأصل المسبّبيّ محكوماً؛ إذ له انطباقات متعدّدة على حسب تعدّد وجودات الطبيعة، وهذا المقدار كافٍ في أن يكون الشيء الواحد حاكماً بالنسبة إلى أصلٍ، ومحكوماً بالنسبة إلى آخر.

وقد يستشكل أيضاً: بأنّ نسبة دليل الاستصحاب، أعني: لا تنقض اليقين بالشكّ، إلى كلا الأصلين: السببيّ والمسبّبي، على حدٍّ سواء، فلا معنى لتقديم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الأصل السببيّ على الاستصحاب في جانب المسبّبيّ حتىلا يبقى موضوع للأصل المسبّبيّ، بل جريان الأصل ابتداء في الأصل المسبّبيّ ممكن، وموضوعه باقٍ على حاله. فإذا قلنا باعتبار الأصل المثبت، فإذا أجرينا الأصل المسبّبيّ أوّلاً، يرتفع موضوع الاستصحاب في الشكّ السببيّ.

ولكن فيه: أنّ الأصل المثبت ليس بحجّة، فجريان الاستصحاب في الأصل المسبّبيّ أوّلاً، لا يرفع موضوع الاستصحاب في الأصل السببيّ، وأمّا جريان الاستصحاب في الأصل السببيّ أوّلاً، فهو رافع لموضوع

ص: 294

الاستصحاب في الأصل المسبّبيّ بمدلوله المطابقي، لا من جهة القول بحجّيّة الأصل المثبت.

نعم، يبقى الإشكال في أنّه كيف يتقدّم الأصل السببيّ على المسبّبيّ حتى تكون النتيجة رفع موضوعه؟

وفي ذلك يقول اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «نعم، يبقى الكلام في أصل تقديم أصل السببيّ على المسبّبيّ حتى ينتج رفع موضوعه، وأنّه لا وجه له لإخراج الشكّ المسبّبيّ عن تحت العامّ، أي: قوله(علیه السلام): لا تنقض اليقين بالشكّ، بإدخال الشكّ السببيّ، مع أنّ نسبة العامّ إلى كليهما على حدٍّ سواء. فمقتضى القاعدة إجراء الاستصحاب في كليهما معاً، وفي رتبةٍ واحدة، بلا تقديم أحدهما على الآخر، فيكون الموضوع باقياً في كلا الاستصحابين، فيتساقطان؛ للعلم الإجماليّ بكذب أحدهما، فلا حكومة في البين».

ثمّ أجاب(قدس سرّه) عنه بقوله: «ولكن يمكن أن يقال: إنّ العامّ وإن كان شموله للأصل السببيّ والمسبّبيّ في عرضٍ واحد،ولكنّ شموله للأصل المسبّبيّ يحتاج إلى مؤونة، وهي عدم شموله للأصل السببيّ وخروجه عن تحته، وذلك لما ذكرنا من أنّ دخوله تحت العامّ يوجب رفع موضوع الأصل المسبّبيّ، فيكون خارجاً بالتخصّص. وأمّا خروج الأصل السببيّ إذا كان، لا بدّ وأن يكون بالتخصيص، ولا مخصّص في البين إلّا على وجه دائر محال. فالأمر يدور بين خروج المسبّبيّ بالتخصّص، أو خروج السببيّ على وجه محال، أي: بلا مخصّص، أو على وجه دائر.

ص: 295

وبعبارة أُخرى: فرديّة الأصل المسبّبيّ للعامّ المذكور تنجيزيّ؛ لأنّه وجدانيّ، فليس شمول العامّ، أي: قوله(علیه السلام): لا تنقض اليقين بالشكّ، له معلَّقاً على أمر، بخلاف شموله للمسبّبيّ، فإنّه معلّق على عدم شموله للأصل المسبّبيّ، وإلّا، يرفع موضوعه بالحكومة ولا يشمله»(1).

وقد ذهب المحقّق النائيني) إلى القول بحكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ، ولو قلنا باعتبار الاُصول المثبتة؛ لأنّه على هذا المبنى أيضاً فإثباتها للوازمها فرع وجودها، والمفروض عدم تحقّق موضوع المسبّبيّ مع جريان الأصل السببيّ حتى يثبت لوازمها العقليّة.

قال(قدس سرّه): «والحاصل: أنّ جريان الأصل المسبّبيّ يتوقّف على الشكّ في مؤدّاه، والشكّ في مؤدّاه يتوقّف على عدم جريانالأصل السببيّ؛ إذ مع جريانه يرتفع الشكّ في مؤدّى الأصل المسبّبيّ، وعدم جريان الأصل السببيّ يتوقّف على جريان الأصل المسبّبيّ وإثباته اللّوازم العقليّة. وأمّا جريان الأصل السببيّ فهو لا يتوقّف على شيء؛ لأنّ موضوعه محرز بالوجدان، وليس له في مرتبة جريانه رافع»(2).

هذا كلّه، إذا كان الشكّ في أحدهما من الآثار الشرعيّة لبقاء الشكّ في الآخر والذي يسمّى بالأصل السببيّ والمسبّبيّ.

ص: 296


1- منتهى الاُصول 2: 544 - 545.
2- فوائد الاُصول 4: 685.

وأمّا القسم الثاني:

وهو ما إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّباً عن الشكّ في الآخر، ولكن عقلاً لا شرعاً، فإذا قلنا بعدم حجّيّة الأصل المثبت، وأنّ الاُصول ليست بحجّة في لوازمها ومثبتاتها، فلا يكون الأصل السببيّ - حينئذٍ - حاكماً على الأصل المسبّبيّ، بل يكون حال الأصلين حال ما إذا كان الشكّ في كلّ واحد منهما مسبّباً عن أمر آخر، ويرجع إلى القسم الثالث من الاستصحابين المتعارضين.

وفي هذا القسم - أي: القسم الثالث - لا تعارض بين الأصلين في حدّ ذاتيهما، بل منشأ التعارض هو العلم الإجماليّ بكذب أحد الاستصحابين؛ إذ لا تنافي بين الحكم ببقاء شيء في موضوع ببركة الاستصحاب مع بقاء شيء آخر في موضوع آخر ببركة استصحاب آخر فيه لولا ذلك العلم الإجماليّ.وفي هذا القسم، فإن أجرينا الاستصحابين معاً، فإمّا أن يلزم من ذلك مخالفة عمليّة قطعيّة وإمّا أن لا يلزم منه مخالفة كذلك. فإن لزم منه المخالفة العمليّة القطعيّة لم يجز إجراء كلا الاستصحابين والجمع بينهما، وهو ما عليه المشهور، بل المتّفق عليه.

نعم، نُسِب إلى المحقّق الخونساريّ وصاحب القوانين(1) أنّ العلم

ص: 297


1- نسبه إليهما الشيخ الأعظم(قدس سرّه) في الرسائل، حيث قال: «ثمّ إنّ المخالف في المسألة ممّن عثرنا عليه هو الفاضل القمّي(قدس سرّه) والمحقّق الخونساري في ظاهر بعض كلماته...»، انظر: فرائد الاُصول 2: 296، وانظر - أيضاً - : مشارق الشموس في شرح الدروس: 77، وقوانين الاُصول: 2: 37.

الإجماليّ مقتضٍ لتنجّز التكليف، وليس بعلّة تامّة حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعيّة، ولكنّ هذا القول باطل، كما حقّق في محلّه، مضافاً إلى كونه مخالفاً للاتّفاق.

وقال المحقّق النائيني(قدس سرّه) في المقام ما نصّه:

«هل الأصل في تعارض الاُصول يقتضي التخيير في أعمال أحدها؟ أو أنّ الأصل في تعارض الاُصول يقتضي التساقط؟

فقد يقال - بل قيل -: إنّ الأصل يقتضي التخيير، قياساً لها على تعارض الطرق والأمارات على القول بالسببيّة فيها، على ما سيأتي - إن شاء اﷲ تعالى - في مبحث التعادل والتراجيح: من أنّ الأصل في تعارض الأمارات هو التساقط بناءً على الطريقيّة والتخيير بناءً على السببيّة».

ثمّ قال(قدس سرّه): «والأقوى هو التساقط؛ فإنّ التخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين ممّا لا دليل عليه، ولا يقتضيهأدلّة اعتبار الاُصول؛ لأنّ أدلّة اعتبارها تقتضي إعمال كلّ أصلٍ بعينه، فإذا لم يمكن ذلك فلا بدّ من التساقط...». إلى آخر ما جاء في كلامه«(1).

هذا كلّه فيما يلزم فيه المخالفة القطعيّة العمليّة.

ص: 298


1- فوائد الاُصول 4: 688.

وأمّا إذا لم تكن هناك مخالفة كهذه - فبتعبير الاُستاذ المحقّق(رحمة الله) - «هل هناك لا مانع من إجراء كلا الأصلين مطلقاً، أو لا يجوز مطلقاً، أو التفصيل بين الاُصول التنزيليّة مثل الاستصحاب فلا يجوز، وبين غير التنزيليّة فيجوز؟ وجوه».

وقد اختار(قدس سرّه) التفصيل بالقول بعدم الجريان بالنسبة إلى الاُصول التنزيليّة، وبالجريان بالنسبة إلى غير التنزيليّة(1).

أمّا الشيخ الأنصاريّ(قدس سرّه) فإنّه - أيضاً - فرّق بين الاستصحاب وغيره، وقال في الاستصحاب بعدم الجريان من جهة عدم الدليل في عالم الإثبات، لا عدم إمكانه في عالم الثبوت؛ لأنّ الدليل على الاستصحاب هو قوله(علیه السلام): «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين مثله».

فهذه الرواية من حيث الصدر، وإن كانت تشمل أطراف العلم الإجماليّ؛ لأنّ كلّ واحد منها مشكوك مسبوق باليقين الإجماليّ، فأركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّاللّاحق فيه تمام، إلّا أنّ ذيل الرواية، أعني قوله(علیه السلام): «ولكن انقضه بيقين مثله»، ينفي الاستصحاب؛ للعلم الإجماليّ بارتفاع الحالة السابقة في أحدهما، فمثلاً: لو كان هناك كأسان نجسان، فعلم بطهارة أحدهما، فاستصحاب النجاسة في الكأسين ولو كان لا يلزم منه مخالفة عمليّة أصلاً، إلّا أنّه مع ذلك لا يجري؛

ص: 299


1- منتهى الاُصول 2: 547.

لتناقض صدر الرواية وذيلها، فالصدر يُثبت والذيل ينفي(1).

هذا. ولكنّ حديث التناقض بين الذيل والصدر إنّما يتمّ فيما إذا كان المراد من قوله(علیه السلام): «ولكن انقضه بيقين مثله» هو الأعمّ من التفصيليّ والإجماليّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ المراد منه هو اليقين التفصيليّ لا الإجماليّ؛ وذلك من جهة أنّه لابدّ في الاستصحاب من وحدة متعلّق الشكّ واليقين، وإلّا، فلا يصدق النقض، وبعدما كان متعلّق الشكّ هو خصوص الفرد، فلابدّ أن يكون متعلّق اليقين - أيضاً - هو نفس الفرد، وهو غير ممكن إلّا أن يكون اليقين تفصيليّاً. هذا أوّلاً.

وثانياً: ليس المدرك في حجّيّة الاستصحاب في مقام الإثبات منحصراً بهذه الرواية التي هي مذيّلة بهذا الذيل، بل هنا روايات أُخرى ليس لها هذا الذيل.

ص: 300


1- فرائد الاُصول 3: 410. وإليك نصّ ما أفاده(قدس سرّه): «... بل لأنّ العلم الإجماليّ هنا بانتقاض أحد اليقينين يوجب خروجهما عن مدلول (لا تنقض)؛ لأنّ قوله: (لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين مثله) يدلّ على حرمة النقض بالشكّ، ووجوب النقض باليقين، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين، فلا يجوز إبقاء كلٍّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشكّ؛ لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله، ولا إبقاء أحدهما المعيّن؛ لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح، وأمّا أحدهما المخيّر فليس من أفراد العامّ...».

فالحقّ: أنّ المانع من جريان الاستصحاب، بل وكذلك الأمارات ومطلق الاُصول، هو أنّ البناء على بقاء الحالة السابقة على أنّه متيقّن في الطرفين وإلغاء الشكّ وأنّ الواقع منكشف في الأمارات مع العلم بالخلاف إجمالاً لا يجتمعان، لمكان التناقض والتهافت.

ولكنّ الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) أشار إلى موارد كثيرة ذكر أنّهم يجرون فيها الاستصحاب مع العلم إجمالاً بمخالفة أحدهما للواقع.

قال(قدس سرّه): «مثلاً: إذا توضّأ بمائع مردّد بين الماء والبول - ولو غفلةً حتى يتمشّى منه قصد القربة - فهم يجرون استصحاب طهارة البدن مع بقاء الحدث، فهم يفكّكون بين المتلازمين في الواقع في الحكم الظاهريّ؛ فإنّ طهارة البدن في الفرض، وإن كان ملازماً في الواقع مع ارتفاع الحدث، وكذلك بقاء الحدث ملازم بحسب الواقع مع نجاسة البدن، ولكن في مقام الظاهر لا مانع من تفكيك المتلازمين والالتزام بطهارة البدن وبقاء الحدث».

ثمّ قال): «والسرّ في ذلك: أنّ جعل الحكم الظاهريّ على خلاف الواقع لا مانع منه في صورة استتار الواقع، وإن كان يعلم إجمالاً أنّ أحد الجعلين مخالف للواقع، ولكن لا يعلم بخالفة كلّ واحدٍ من الجعلين في مورده.

ونظائر ما ذكرنا من التفكيك بين المتلازمين في الواقع بحسب الحكم الظاهريّ في الفقه كثير جداً».

ص: 301

ثمّ قال: «ولكن يمكن أن يقال في جواب هذا الإشكال: بأنّه فرق بين أن يكون مؤدّى الاستصحابين متّفقين في أمر نعلم تفصيلاً بمخالفته للواقع، كما أنّه في الفرع المذكور يكون الأمر هكذا؛ فإنّ استصحاب نجاسة الكأسين اللّذين يعلم بطهارة أحدهما متّفقان في نجاسة ذلك الذي نعلم تفصيلاً بطهارته، وكذلك الاستصحابان في عدم زوجيّة كلّ واحدةٍ من المرأتين اللّتين نعلم تفصيلاً بزوجيّة إحداهما متّفقان في نفي زوجيّة من نعلم تفصيلاً بزوجيّتها، وهي مصداق إحداهما؛ فإنّه في الصورة الاُولى - أي: فيما إذا كان مؤدّى الاستصحابين جمعاً مخالفاً لما هو معلوم بالتفصيل - نقول بعدم جريان الاستصحابين ولو لم يكونا مستلزمين للمخالفة العلميّة.

وفي الصورة الثانية - أي: فيما إذا كان التفكيك بين المتلازمين بحسب الواقع في الحكم الظاهريّ إذا لم يكن مخالفاً لما هو معلوم بالتفصيل، ولم يكن دليل خارجيّ، من إجماع أو غيره، على عدم جواز التفكيك، ولو ظاهراً - نقول بجريانهما، وموارده في الفقه كثيرة»(1).

ص: 302


1- منتهى الاُصول 2: 548 - 549.

مبحث التعادل والتراجيح

اشارة

وفيه اُمور:

الأمر الأوّل: في تعريفهما:

لا يخفى: أنّ التعادل مأخوذ من العدل، وهو التسوية، ولذا يسمّى أحد الحملين عدلاً، لمساواته مع الآخر في الوزن، والمراد به فيما نحن فيه: تساوي الدليلين.

وأمّا التراجيح فهو مأخوذ من الترجيح، وهو بمعنى: أن يكون أحد الدليلين ذا مزيّة موجبة لتقديمه على الآخر في الباب، وهو تقدّم أحد الدليلين المتعارضين لأجل مزيّة فيه.

ثمّ إنّ من الفقهاء من أتى بهذا اللّفظ مفرداً، أي: بلفظ (الترجيح)، ومنهم من عبّر بلفظ الجمع، أي: (التراجيح).

فمن أتى به مفرداً كان نظره إلى نفس الفعل، أعني: تقديم أحد الدليلين

ص: 303

بعينه على الآخر، لكونه مرجَّحاً على ذلك الآخر بسبب مزيّة فيه.

ومن أتى به بلفظ الجمع فنظره إلى الحاصل من أقسام المرجّحات من حيث صفات الراوي بأقسامها أو من حيث مضمون الرواية أو جهة الصدور، وهكذا، فحينئذٍ: يتعدّد الترجيح، أي: المرجّح.

وقد حكي عن بعض الطلبة في النجف الأشرف أنّه حضر بحث بعض الأساتذة الذي تحدّث لمدّة أربعة أشهر حول أنّصاحب المعالم(قدس سرّه) لماذا اختار في عنوان هذا البحث (التراجيح) بلفظ الجمع على (الترجيح) بلفظ المفرد.

الأمر الثاني :في أنّه من المسائل الاُصوليّة:

الظاهر: أنّ هذا البحث من المسائل الاُصوليّة - خلافاً لمن عدّه في خاتمة المسائل الاُصوليّة، لا في صميمها، سواء قلنا بأنّ المسائل الاُصوليّة هي ما يبحث فيها عن عوارض الدليل على الحكم الشرعيّ وجعلنا المائز بين المسائل الاُصوليّة والفقهيّة هو المحمول، أم قلنا بأنّ المائز بين المسائل الاُصوليّة والفقهيّة أنّ المسائل الاُصوليّة لا يكون المجتهد والمقلّد فيها على حدٍّ سواء، بل هي من مختصّات وشؤون الأوّل، وأمّا الفقهيّة فيكونان فيها على حدٍّ سواء.

وفي المقام قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) ما نصّه:

«المناط في كون المسألة اُصوليّة وقوع نتيجة البحث عنها كبرىً في

ص: 304

قياس الاستنباط، ولا شكّ أنّ نتيجة البحث في هذه المسألة سواء كان هو التخيير مطلقاً بعد فقد المرجّحات. وأمّا مع وجود المرجّحات، فالترجيح وتقديم ذي المزيّة هو تعيين الحجّة وتشخيصها: إمّا معيّناً، أعني: خصوص ذي المزيّة، أو مخيّراً مطلقاً، أو في خصوص صورة فقد المرجّح فيكون - بعد تشخيص ما هو الحجّة - ذلك المعيّن أو المختار في المخيّر كبرى في قياس، يستنتج من ذلك القياس الحكم الفرعيّ الكلّيّ الإلهيّ.فالإنصاف: أنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل الاُصوليّة، وفائدة حجّيّة الخبر الواحد لا يتمّ إلّا بهذه المسألة»(1).

الأمر الثالث: في تعريف التعارض:

لا يخفى: أن التعارض بين الدليلين إنّما يكون باعتبار عدم إمكان اجتماع المحكي والمنكشف بهما بحيث تؤول حكايتهما إلى اجتماع الضدّين.

وإن شئت قلت: إنّ التعارض هو التنافي الذي يقع بين الدليلين باعتبار تنافي مدلوليهما في عالم الجعل والتشريع، فالتنافي أوّلاً وبالذات يكون بين المدلولين أنفسهما، ونسبته الى الدليلين ليست إلّا بالمسامحة، بل

ص: 305


1- منتهى الاُصول 2: 550.

لا تنافي بين الدليلين في مرحلة الدلالة حقيقةً؛ لأنّ كليهما يفيد الظنّ النوعيّ.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ أحد الدليلين المتعارضين يُثبت ما هو الضدّ للآخر، نحو: (ثمن العذرة سحت) و(لا بأس ببيع العذرة)، فإنّ التعارض إنّما عرض لمثل هذين الدليلين باعتبار كونهما يثبتان المتنافيين ويحكيان عن المتناقضين، فالتعارض يحصل من جهة التنافي بين مدلوليهما بحيث لا يمكن اجتماعهما في وعاء الاعتبار، فمفادهما جمعاً هو اجتماع الضدّين، أو أنّ أحدهما ينفي ما ثبت الآخر فيكون من باب اجتماع النقيضين.ثمّ إنّ التنافي قد يكون لأجل عدم امتناع اجتماع الدليلين ذاتاً في حدّ أنفسهما، أو من جهة تنافي اللّوازم، أو من جهة التنافي بين الاُمور الخارجية، كالخبرين اللّذين يدلّ أحدهما على وجوب صلاة الظهر والآخر على وجوب صلاة الجمعة، مع أنّا نعلم من خارج بأنّ الواجب ظهر الجمعة هو صلاة واحدة هي إحداهما.

الأمر الرابع :في شرائط حصول التعارض:

إنّما يحصل التعارض بين الدليلين باُمور:

الأوّل: وحدة الموضوع، نحو: الصلاة واجبة، والصلاة ليست بواجبة؛ إذ لو كان موضوع الدليلين متعدّداً فلا يكون هناك تعارض، كما في الأصل العمليّ الذي يقع مقابلاً للدليل الاجتهاديّ، فإنّ موضوع الأصل العمليّ

ص: 306

هو الأشياء بوصف كونها مجهولة، بخلاف موضوع الدليل الاجتهاديّ، فإنّه الأشياء بما هي، وكذلك، فإنّ الدليل الاجتهاديّ حاكم على الأصل؛ لأنّه لا يجري الاستصحاب إلّا في مقام لا يكون فيه دليل اجتهاديّ.

والثاني: وحدة المحمول ووحدة القيود المأخوذة من الزمان أو المكان. وعندئذٍ: فلا فرق في وجود التنافي بين أن يكون في تمام المدلول أو في جزئه فقط في العامّين من وجه، أمّا لو كان بينهما عموم وخصوص مطلقاً، فإن كان العرف يجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ فهو، وإلّا، فإن كان الخاصّ منفصلاً فيعقد لكلّ منهما ظهور منافٍ للآخر.والثالث: أن يكون كلّ واحد من الدليلين واجداً لشرائط الحجّيّة بحيث لا يكون التوقّف في العمل بكلّ واحدٍ منهما إلّا من جهة معارضة الآخر له، بحيث لو فرض عدم وجود المعارض لكان من اللّازم العمل به.

أمّا لو لم يكن أحد الدليلين حجّة، كما لو علم بكذب أحدهما وعدم صدوره عن الإمام(علیه السلام)، فلا يكون - حينئذٍ - من باب تعارض الدليلين والحجّتين، بل يكون من باب اشتباه الحجّة باللّاحجّة، فلابدّ أن يعمل فيه بقواعد العلم الإجماليّ، لا بقواعد باب التعارض؛ لأنّ التعارض مأخوذ فيه أن يكون بين دليلين، وظاهر لفظ (الدليلين) أن يكونا حجّتين، وذلك واضح.

وقد عرفت أنّ التعارض إنّما يلحق الدليلين ثانياً وبالعرض، والذي

ص: 307

يتّصف به أوّلاً وبالذات هو مدلول الدليلين وما يكشفان عنه ويؤدّيان إليه، مطابقةً أو التزاماً. فإذا تكاذب الدليلان في المؤدّى امتنع اجتماع المدلول المطابقيّ أو الالتزاميّ لأحدهما مع مدلول الآخر كذلك في عالم الجعل والتشريع، فلا محالة: يقع التعارض بين الدليلين مطلقاً أو في بعض الأفراد والأحوال.

بلا فرق بين أن يكون التكاذب بينهما بأنفسهما ابتداءً وبين أن يكون التكاذب بينهما لأمر خارج، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر وعلمنا من الخارج أنّ الوجوب لا يلحق إلّا إحدى هاتين الصلاتين فقط؛ فإنّ الدليلين هنا، وإن لم يتكاذبا ابتداءً ولم يمتنع اجتماعمؤدّاهما ثبوتاً، إلّا أنّه بعد العلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين يقع التكاذب بين الدليلين، فإنّ كلاً منهما يثبت مؤدّاه وينفي بلازمه مؤدّى الآخر، فيَؤُول الأمر إلى امتناع اجتماع المؤدّيين.

الأمر الخامس :في الفرق بين التعارض والتزاحم:

وحاصل الفرق بينهما: أنّه في باب التعارض لا يكون الملاك ثابتاً لكلّ واحد من الحكمين، بل يكون المقتضي والملاك ثابتاً لأحدهما غير المعيّن فقط، وأمّا في باب التزاحم، فيكون الملاك ثابتاً وموجوداً في كلّ واحدٍ منهما.

وقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سرّه) إلى أنّه متى ما ثبت وجود الملاك لكلا

ص: 308

الحكمين فالمورد من موارد التزاحم ، ومتى لم يثبت وجود الملاكين كان المورد من موارد التعارض(1).

وفي المقابل، ذهب المحقّق النائيني(قدس سرّه) إلى اختلاف موردي التزاحم والتعارض، فلكل منهما مقام مستقلّ عن مقام الآخر وينفرد عنه، وذلك: لأنّ التنافي بينهما:

إن كان يرجع إلى التنافي في مرحلة الجعل والتشريع بحيث لا يمكن جعل كلا الحكمين فهو التعارض، كالتنافي بينوجوب الشيء وحرمته، فإنّه يستحيل جعل كلا الحكمين من المولى لتضادّهما.

وإن كان يرجع إلى التنافي في عالم الامتثال ومرحلة فعليّة الحكمين بأن كان جعل كلا الحكمين في نفسه وبنحو القضيّة الحقيقيّة ممكناً للمولى، فلا تنافي بينهما في عالم الجعل، وإنّما التنافي بينهما في مرحلة فعليّتهما، باعتبار عدم إمكان امتثالهما معاً؛ لعدم تحقّق موضوعيهما معاً، فهو التزاحم، كوجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الثابتين بدليليهما في زمانٍ واحد، فإنّ جعل كلا الحكمين لا محذور فيه؛ لأنّ جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقيّة، وهو لا ينظر إلى ثبوت الموضوع وعدمه، بل هو ثابت ولو لم يكن الموضوع ثابتاً وموجوداً، فاجتماع الغريقين مع عدم القدرة إلّا على إنقاذ أحدهما لا يوجب التنافي بين

ص: 309


1- انظر: كفاية الاُصول: ص 440. قال(قدس سرّه): «وأمّا لو كان المقتضي للحجّيّة في كلّ واحدٍ من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين ...».

الحكمين في عالم الجعل، بل في عالم الفعليّة، لأجل التردّد في صَرف القدرة في هذا الطرف، فيكون حكمه فعليّاً دون الآخر، وبالعكس.

ولا يخفى: أنّ تعيين أحدهما ليس من شأن المولى والجاعل؛ إذ لا يرتبط بمولويّته وبجعله، بل من وظائف غيره، وهو لا يضرّ بنفس الجعل؛ لأنّه ينفي موضع الحكم الآخر، لا أنّه ينفي الحكم عن موضوعه

هذا توضيح ما أفاده(قدس سرّه)، وإليك نصّ عبارته:

«وحاصله: أنّ التزاحم وإن كان يشترك مع التعارض في عدم إمكان اجتماع الحكمين، إلّا أنّ عدم إمكان الاجتماع في التعارض إنّما يكون في مرحلة الجعل والتشريع، بحيثيمتنع تشريع الحكمين ثبوتاً؛ لأنّه يلزم من تشريعهما اجتماع الضدّين أو النقيضين في نفس الأمر.

وأمّا التزاحم فعدم إمكان اجتماع الحكمين فيه إنّما يكون في مرحلة الامتثال، بعد تشريعهما وإنشائهما على موضوعهما المقدّر وجوده، وكان بين الحكمين في عالم الجعل والتشريع كمال الملاءمة، من دون أن يكون بينهما مزاحمة في مقام التشريع والإنشاء.

وإنّما وقع بينهما المزاحمة في مقام الفعليّة بعد تحقّق الموضوع خارجاً؛ لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال، فيقع التزاحم بينهما لتحقّق القدرة على امتثال أحدهما، فيصلح كلّ منهما لأن يكون تعجيزاً مولويّاً عن الآخر ورافعاً لموضوعه، فإنّ كلّ تكليفٍ

ص: 310

يستدعي حفظ القدرة على متعلّقه، وصَرفها نحوه، وإن لزم منه سلب القدرة عن التكليف الآخر.

والمفروض ثبوت القدرة على كلٍّ منهما منفرداً، وإن لم يمكن الجمع بينهما، فكلٌّ من الحكمين يقتضي حفظ موضوعه ورفع موضوع الآخر بصرف القدرة إلى امتثاله، فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال»(1).

وتظهر الثمرة في هذا الخلاف:

بين المحقّقين الخراساني والنائيني" في موردٍ يتوارد فيه الحكمان المتنافيان على موضوع واحد، ولم يكن التنافي ناشئاًعن عجز المكلّف عن الجمع بين الامتثالين مع ثبوت الملاك لكلٍّ من الحكمين، كالصلاة في الدار المغصوبة بناءً على الاتّحاد والانحصار، فإنّها مشمولة لدليل (صلِّ) ودليل (لا تغصب).

فهذا المورد عند المحقّق الخراساني(قدس سرّه) يكون داخلاً في باب التزاحم؛ لوجود الملاك.

وأمّا عند الميرزا النائيني(قدس سرّه) فهو من موارد التعارض؛ لرجوع التنافي إلى عالم الجعل لا إلى مرتبة الفعليّة؛ لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.

ص: 311


1- فوائد الاُصول 4: 704 - 705.

الأمر السادس: مرجّحات بابي التعارض والتزاحم:

أمّا مرجّحات باب التعارض، فهي ترجع إمّا إلى قوّة السند، كأوثقيّة الراوي وأعدليّته، أو كون الرواية أشهر، ونحو ذلك ممّا سيأتي الكلام فيه، وإمّا إلى قوّة الدلالة، ككونها أظهر، كما سيأتي.

وأمّا مرجّحات باب التزاحم فهي اُمور خمسة:

الأوّل: أن يكون أحد المتزاحمين مضيّقاً والآخر موسّعاً، فالمضيّق يقدّم على الموسّع؛ لأنّ المضيّق بالنسبة إلى الفرد المزاحم من الموسّع معه يكون مُخرجاً للطبيعة عن تساوي الإقدام عليها بالنسبة إلى أفرادها الطوليّة؛ فإنّ التخيير في تطبيق الصلاة الماُمور بها على أيّ فردٍ شاء بحسب الأوقات التي هي بين الحدّين عقليّ من جهة تساوي إقدام الماُمور بهفي تحصيل المصلحة الملزمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، فإذا كان تطبيقه للفرد المزاحم موجباً لفوات مصلحةٍ ملزمة يخرج بالنسبة إلى هذا الفرد عن التساوي، فلا يرخّص العقل في التطبيق على هذا الفرد، ولذلك يحكم بتقديم المضيّق على الموسّع، ولو كان الموسّع أقوى منه ملاكاً وأهمّ.

الثاني: أن يكون أحد المتزاحمين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة والآخر مشروطاً بالقدرة العقليّة، فيقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على الآخر.

والسرّ في ذلك: أنّ القدرة الشرعيّة دخيلة في الملاك ومأخوذة في

ص: 312

موضوع الحكم، وما لم يتحقّق لم يوجد لا خطاب ولا ملاك؛ لأنّها مأخوذة في الموضوع، فما هو المشروط بالقدرة العقليّة يذهب بموضوع ما هو المشروط بالقدرة الشرعيّة. ولا يمكن القول بالعكس؛ لأنّ موضوع المشروط بالقدرة العقليّة ليس مقيّداً بها، بل هو مطلق من هذه الجهة، وهذا معنى أنّ المقيّد بالقدرة العقليّة يكون مقدّماً على الآخر.

الثالث: أن يكون أحد المتزاحمين أهمّ من الآخر من حيث الملاك والمصلحة، فإنّ الأهمّ مقدّم على غيره في نظر العقل.

الرابع: أن يكون أحد الواجبين المتزاحمين مقدّماً في الوجود في مقام الامتثال على الآخر، مثل العاجز عن القيام في جميع ركعات صلاته وليس قادراً إلّا على القيام في بعض الركعات، فحينئذٍ: لابدّ له القيام في أوّل ركعة من ركعات صلاته، ثمّ إذا عجز يجلس في سائر ركعاته.والوجه في لزوم صرف قدرته في المقدّم في الوجود: أنّ التكليف بالنسبة إليه قد صار فعليّاً في الزمان المتقدّم ومحرّكاً نحو الامتثال، والقدرة على الامتثال في ذلك الزمان موجودة، وليس في ذلك الزمان واجب يزاحمه في صرف القدرة، بل ينبغي أن لا يعدّ هذا المفروض من أقسام الواجبين المتزاحمين.

فلو فرض أنّه كان عاجزاً من صوم تمام الشهر - مثلاً - ولا يقدر إلّا على صوم نصفه، فهل يصحّ أن يقال - حينئذٍ - إنّه مخيّر بين أن يصوم نصفه الأوّل وبين أن يصوم نصفه الثاني فيجوز أن يفطر في النصف الأوّل

ص: 313

مع كمال قدرته؟(قدس سرّه) أوليس هذا بمردود ومستنكر عند العقلاء، بل وعند كلّ خبير بأحكام الدين؟(قدس سرّه)

نعم، لو كان الواجب المتأخّر الذي لا يمكن جمعه في الامتثال مع الواجب المتقدّم له أهمّيّة عظمى بحيث إنّه لو قدّم الواجب المتقدّم يفوّت مصلحةً لا يرضى المولى بتفويتها، فحينئذٍ: يحكم العقل بلزوم حفظ القدرة وسقوط الواجب المقدّم عن الفعليّة.

ولكنّك خبير: بأنّ هذا فرض آخر لا ربط له بما نحن فيه، والذي فرضنا أنّه يتمحور حول الواجبين المتساويين في الملاك والمصلحة، ويكون المرجّح الموجب لصرف القدرة هو مجرّد تقدّمه في الوجود.

الخامس: أن يكون أحدهما له البدل دون الآخر، فيقدّم ما ليس له البدل على ما له البدل.والوجه في ذلك: أنّه لو قدّم ما ليس له البدل لا يفوّت مصلحة ما له البدل بالمرّة، بل له - حينئذٍ - الانتقال إلى البدل. بل الانتقال إلى البدل:

إمّا موجب لاستيفاء تمام مصلحة المبدل في حال التزاحم - إن قلنا بأنّ مصلحة البدل هي بمقدار المبدل بعد تحقّق موضوعه والانتقال إليه -.

وإمّا موجب لاستيفاء مقدار مهمّ من المصلحة الفائتة بواسطة ترك المبدل، بخلاف ما لو قدّم ما له البدل، فإنّه يفوت مصلحة ما ليس له البدل ولا يستوفي شيئاً منه.

ص: 314

ثمّ إنّ من جملة الفروق بين التزاحم والتعارض - أيضاً - أنّ مرجّحات باب التعارض اُمور تعبّديّة، وإلّا فمقتضى القاعدة - بناءً على المسلك القائل بأنّ حجّيّة الروايات هي من باب الطريقيّة لا السببيّة - هو تساقطهما، وأنّ النوبة لا تصل إلى التخيير إذا كانتا متساويتين، ولا إلى الترجيح إذا كان لأحدهما مزيّة على الآخر، ولكنّ الشارع حكم بالتخيير عند تساويهما، وبالترجيح عند وجود مزايا مخصوصة أو منصوصة أو مطلق المزيّة.

ولا يخفى: أنّ التعارض إنّما يتحقّق بين الدليلين فيما لو كان النفي الذي هو مدلول أحد الدليلين، مع الإثبات الذي هو مدلول دليل الآخر، واردين على موردٍ واحد؛ لأنّ مرجع التعارض إلى التناقض في مدلولي الدليلين، فلذلك لابدّ من كونهما واردين على موردٍ واحد، أو فقل: إنّه يعتبر فيه الوحدات المعتبرة في تحقّق التناقض.وعلى هذا الأساس: لا يمكن أن يكون أحدهما حاكماً على الآخر؛ لأنّ دليل المحكوم يثبت الحكم على تقدير ثبوت موضوعه، وليس متكفّلاً لإثبات ذلك التقدير، أي: إثبات ما هو موضوع الحكم.

فمثلاً: ثمّة قاعدة مفادها: أنّه متى ثبت الشكّ في عدد الركعات في الصلوات الرباعيّة بعد إكمال السجدتين يبني على الأكثر، وهذه القاعدة لا تنهض لإثبات موضوعها، بل مفادها أنّه إنّما يبني على الأكثر على تقدير وجود مثل ذلك الشكّ المذكور، فلو جاء دليل كان مفاده نفي

ص: 315

الشكّ عن كثير الشكّ، لا يمكن لقاعدة البناء على الأكثر أن تعارضه؛ لأنّ القاعدة تثبت شيئاً غير ما ينفيه الدليل الآخر، وهو (لا شكّ لكثير الشكّ) - مثلاً -، فلم يرد النفي والإثبات على محلٍّ واحد، وقد ذكرنا أنّه يشترط في تحقّق التعارض والتنافي أن يكون الدليلان واردين على مورد واحد.

وأمّا لو كان أحدهما وارداً والآخر موروداً، فبما أنّ دليل الذي هو وارد على دليلٍ آخر يفني موضوع المورود فلا يبقى شيء في البين حتى يقع التعارض بينهما.

وكمثال على ذلك: دليل البراءة العقليّة، موضوعه: عدم البيان، فإذا جاء بيان من قبل الشارع، أو من قبل العقل، سواء كان أمارة أم أصلاً، تنزيليّاً أم غير تنزيليّ، شرعيّاً كان أو عقليّاً، فإنّه لا يبقى موضوع لحكم العقل حقيقةً وتكويناً، لا بصرف التعبّد، فينتفي حكم العقل من البين، وليس هناك شيء متبقٍّ حتى يقال بأنّه معارض أو غير معارض.ثمّ لو كان هناك دليلان بينهما عموم وخصوص مطلق، فهل يقع بينهما التعارض ليقدّم الخاصّ على العامّ، ويكون هذا التقديم علاجاً؟ أم لا يقع، بل يكون حالهما حال الحاكم والمحكوم، أي: فلا تعارض بينهما؟

لا شكّ في أنّه في المخصّص إذا كان منفصلاً ينعقد للعامّ ظهورٌ في العموم، فإذا كان مخالفاً للدليل الخاصّ في السلب والإيجاب، فيقع التعارض بينهما في تلك القطعة التي هي محلّ اجتماعهما،

ص: 316

فأحدهما ينفي الحكم والآخر يثبته كما هو المفروض، ولكن عند العرف لا تعارض بينهما، بل هم يقدّمون الخاصّ على العامّ من دون أيّ توقّف في ذلك.

وإنّما يقع البحث في أن هذا التقدّم هل هو لأجل حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ عليها في طرف العامّ أو لأجل التوفيق العرفيّ من جهة أظهرية الخاصّ في تلك القطعة على العامّ، أو تقديم الخاصّ على العامّ من جهة التخصّص، كتقديم الأدلّة المتكفّلة للعناوين الثانويّة، كأدلّة نفي الضرر أو الحرج على الأدلّة الأوّليّة، من باب الجمع العرفيّ، فيحمل الأوّليّ على الحكم الفعليّ، والثاني على الاقتضائيّ.

والتحقيق أن يقال: إنّ الخاصّ:

تارةً: يكون قطعيّ السند والدلالة، كالنصّ المتواتر، أو الخبر المحفوف بالقرائن القطعيّة، أو كان آيةً من القرآن هي نصّ في الدلالة، وفي هذه الحالة، يقدّم الخاصّ في تلك القطعة بالتخصّص؛ لأنّ حجّيّة العامّ في تلك القطعة إنّماتكون بأصالة الظهور، ولا محلّ لأصالة الظهور مع العلم بالعدم، كما هو مدلول الخاصّ القطعيّ سنداً ودلالة.

وإنّما كان هذا الخروج خروجاً بالتخصّص؛ لانتفاء موضوع الحجّيّة للعام تكويناً وحقيقة؛ لأنّ موضوع هذه الحجّيّة هو العامّ الذي لم يرِدْ دليل على خلافه وكان أقوى ظهوراً منه، وفي محلّ الفرض قد ورد دليل على خلافه فعلاً، وهو أقوى منه قطعاً، فالموضوع منتفٍ.

ص: 317

وتارةً: يكون ظنّيّاً بحسب الدلالة وقطعيّاً بحسب السند، أو يكون ظنّيّاً دلالةً وسنداً.

وفي هذين الموردين ذهب الشيخ الأنصاري(قدس سرّه) إلى القول بأنّه لابدّ من تقديم أقوى الظهورين في تلك القطعة التي هي مجمع العنوانين، فإذا كان ظهور (أكرم العلماء) - مثلاً - في العالم الفاسق أقوى من ظهور (لا تكرم العالم الفاسق) فيه، فيقدّم العامّ في مورد اجتماع العنوانين ويطرح الخاصّ. وإن كان ظهور الخاصّ في تلك القطعة أقوى - كما هو كذلك غالباً - فيقدّم الخاصّ.

وأمّا إذا كانا متساويين في درجة الظهور فيتساقطان(1).وقد ادّعى المحقّق النائيني(قدس سرّه) أنّ مبنى الشيخ(قدس سرّه) في الاُصول في هذه المسألة مغاير لما التزم به من المبنى في الفقه، حيث التزم بتقديم الخاصّ على العامّ مطلقاً.

وفي ذلك يقول) ما لفظه: «والشيخ(قدس سرّه) في المقام، وإن عارض ظهور الخاصّ مع ظهور العامّ وحكم بأنّه يؤخذ بأقوى الظهورين، إلّا أنّه لم يلتزم بذلك في شيءٍ من المسائل الفقهيّة، فإنّه لم يتّفق في موردٍ

ص: 318


1- وإليك نصّ عبارته(قدس سرّه) في المقام، قال: «ثمّ الخاصّ إن كان قطعيّاً تعيّن طرح عموم العامّ، وإن كان ظنّيّاً دار الأمر بين طرحه وطرح العموم، ويصلح كلّ منهما لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر، فلا بدّ من الترجيح» وقال أيضاً: «وأمّا الحكم بالتخصيص فيتوقّف على ترجيح ظهور الخاصّ، وإلّا، أمكن رفع اليد عن ظهوره وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه». انظر: فرائد الاُصول 4: 14 - 15.

عامل مع الخاصّ والعامّ معاملة التعارض، بل يقدّم الخاصّ مطلقاً على العامّ... »(1).

وقد يقال في الاعتذار عن الشيخ الأعظم(قدس سرّه) - على تقدير تماميّة هذه الدعوى -: لعلّه(قدس سرّه) لم يجد أقوائيّةً في ظهور العامّ على ظهور الخاصّ في غالبيّة الموارد.

ولكنّ الحقّ: هو تقديم ظهور الخاصّ على ظهور العامّ، بلا فرق بين أن تكون الأقوائيّة لصالح ظهور العامّ أو الخاصّ؛ وذلك لأنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف العامّ؛ إذ إنّ ظهور العامّ في العموم وكاشفيّته عن إرادة العموم متوقّف على أن لا يكون هناك قرينة على عدم إرادة العموم، فإذا كان التعبّد بظهور الخاصّ وأنّه كاشف عن مراد المتكلّم قرينةً على عدم إرادة العموم، فيقدّم على ظهور العامّ في العموم، ويكون ذكر الخاصّ دليلاً على عدم حجّيّة العامّ؛ لأنّ العامّإنّما ينفي القيد تعبّداً، لا تكويناً، ومعه: فيكون المراد من العامّ هو ما عدا تلك القطعة التي ينفيها الخاصّ.

ويتّضح ما ذكرناه فيما لو فرض أنّ العامّ والخاصّ - كليهما - كانا في كلام واحد صادر من متكلّم واحد، فإنّ العرف - حينئذٍ - لا يتوقّف في حمل العامّ على ما عدا الخاصّ.

ص: 319


1- فوائد الاُصول 4: 721.

ومن هنا ينقدح: لزوم حمل العامّ الصادر من الإمام المتقدّم زماناً على الخاصّ، ولو أتى هذا الخاصّ على لسان الإمام المتأخّر؛ فإنّ كلامهم(علیهم السلام)هو من قبيل الكلام الصادر عن شخص واحد في مجلس واحد؛ لأنّ جميعهم(في مقام بيان حكم اﷲ كشخص واحد، فجاز أن يخصّص العامّ الوارد عن الإمام المتقدّم بالخاصّ الوارد عن الإمام المتأخّر.

ولذا، فإنّ الظهور الوضعيّ وإن كان أقوى من الظهور الإطلاقيّ، ولكن في مثل (رأيت أسداً يرمي)، فإنّ ظهور (الأسد) في الحيوان المفترس أقوى من ظهور (يرمي) في الإنسان؛ لأنّه بالإطلاق، وذاك بالوضع، ولكن مع ذلك، يقدّم ظهور (يرمي) في الإنسان، فيقال: المراد من هذه العبارة هو الرجل الشجاع؛ لأنّه مع حكومة القرينة على ذيها لا يبقى مجال لأن تلاحظ الأقوائيّة والأضعفيّة بين الحاكم والمحكوم، وكذا ما نحن فيه، أعني: حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ على أصالة الظهور في طرف العامّ.

وأمّا بالنسبة للنصّ والظاهر، وكذا الأظهر مع الظاهر، فلا شكّ في أنّه يقدّم كلّ من النصّ والأظهر على الظاهر، وذلك لأنّ حجّيّة الظاهر مقيّدة بما إذا لم يكن هناك ما هو أقوى منهظهوراً، فورود النصّ أو ما هو أظهر يستوجب خروج الظاهر عن موضوع الحجّيّة، فلا يكون بينهما - حينئذٍ - تدافع، فلا تعارض.

وكذا يقال - أيضاً - بالنسبة إلى المطلق مع المقيّد، والعامّ مع الخاصّ،

ص: 320

فيخرج هذان الموردان عن باب التعارض بالمعنى الذي ذكرناه؛ لأنّه لا تنافي ولا تدافع بينهما في نظر العرف والعقلاء كما عرفت.

الأمر السابع :في حكم التعارض:

اشارة

اعلم: أنّ التعارض تارة يكون بين دليلين فقط، وأُخرى يكون بين أكثر من اثنين، فالأوّل: كما إذا قام أحد الدليلين على الوجوب والآخر على الحرمة. والثاني: كما إذا قام دليل ثالث في المثال المتقدّم على الإباحة.

وعلى كلا التقديرين: فإمّا أن يكون في أحد المتعارضين مزيّة مع كون الآخر فاقداً لها، وإمّا أن لا يكون في أحدهما مزيّة لا توجد في الآخر، بل هما متساويان في المزايا والخصوصيّات.

وعلى الأوّل: فالمزيّة تارةً تكون في السند، وأُخرى في جهة الصدور، وثالثة في الدلالة.

والمزيّة في السند ككون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، وكصفات الراوي من كونه أوثق أو أعدل أو أصدق.والمزيّة في جهة الصدور ككون الإمام(علیه السلام) في مقام بيان حكم اﷲ الواقعيّ، لا أنّه في مقام التقيّة وستر الحكم الواقعيّ خوفاً من الأعداء، ومثالها: مخالفة أحد المتعارضين للعامّة.

والمرجّح من جهة الدلالة ومضمون أحدهما ومفاده أنّه حكم اﷲ، كموافقة الكتاب.

ص: 321

فإن كانا متساويين في المزايا والخصوصيّات، ولم يكن لأحدهما مزيّة في إحدى الجهات الثلاث على الأُخرى، فالقاعدة الأوّليّة مع قطع النظر عن جعل ثانويّ واقعيّ أو ظاهريّ تقضي بالتساقط بناءً على الطريقيّة، والتخيير بناءً على الموضوعيّة.

توضيح ذلك: أنّ حجّيّة الروايات بناءً على الطريقيّة ليست إلّا من باب تتميم كشفها وجعلها في عالم الاعتبار كاشفاً تامّاً.

وأمّا مؤدّياتها فتبقى على ما كان، من دون إحداث شيء من المصلحة أو المفسدة فيها من قبل قيام الأمارة عليها، فإن كان جعل كلا المؤدّيين غير ممكن - كما هو كذلك في باب التعارض - فلا يمكن أن يكون الاثنان جمعاً طريقاً فعليّاً إلى الحكم الواقعيّ.

نعم، كلّ واحد منهما له اقتضاء الطريقيّة، وهو مشمول لأدلّة جعلها طريقاً، ولكن بما أنّهما متساويان في شرائط الطريقيّة، ولا يمكن الأخذ بهما جميعاً؛ للزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين، ولم يكن هناك وجه للتخيير؛ لعدم الملاك في الواقع لكلّ واحد منهما، ولم يكن تعيين أحدهما إلّا من باب الترجيح بلا مرجّح، فلا محالة يتساقطان.وإن كان أحدهما حائزاً على المزيّة دون الآخر، فهذه المزيّة الموجودة إن كانت في السند أو في جهة الصدور كان لابدّ من الأخذ بصاحب المزيّة وطرح الآخر. ويدلّ على ذلك أخبار الترجيح التي سيأتي البحث فيها في محلّه مفصّلاً.

ص: 322

وأمّا إذا كانت المزيّة في الدلالة، فاللّازم - حينئذٍ - هو الجمع بين المتعارضين، ولا يجوز طرح أحدهما.

بل قد ادّعي الإجماع على ذلك، كما عن ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللئالي، حيث قال - ما نصّه -: «فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء»(1)، وهي القاعدة المعروفة بقاعدة «أنّ الجمع بين الدليلين اُولى من الطرح».

ولا يخفى: أنّ الجمع الذي اُولى هو من الطرح إنّما هو الجمع في الدلالة؛ ضرورة أنّه لو كان الجمع بينهما في الدلالة ممكناً ارتفع بينهما التعارض والتكاذب.

وعلى هذا الأساس: فالقاعدة المذكورة تشمل صورة تعادل المتعارضين في السند، وصورة ما إذا كان لأحدهما مزيّة تستوجب ترجيحه في السند؛ لأنّه في هذه الصورة الثانية يلزم بتقديم ذي المزيّة طرح الآخر مع فرض إمكان الجمع.

فيكون مقتضى القاعدة - إذاً -

أنّه مع إمكان الجمع لا يجوز طرحهما معاً، ولا طرح أحدهما غير المعيّن - كما هومقتضى القول بالتخيير -، ولا طرح أحدهما المعيّن، أعني به: غير ذي المزيّة مع الترجيح.

وهنا، فإن كان مراده من الجمع الجمع العرفيّ فهو كلام حسن؛ لأنّ الجمع العرفيّ يكون إمّا بالورود أو بالحكومة أو بالنصّ والظاهر، ولذا

ص: 323


1- عوالي اللآلي 4: 136.

عند تعارض العامّ والخاصّ - أيضاً - يرجع إلى الحكومة؛ إذ لا تعارض بينهما حقيقةً، فمردّ الجمع العرفيّ في حقيقة الأمر إلى العمل بمضمون كلا الدليلين.

وإن كان مراده مطلق الجمع ورفع اليد عن ظاهر كليهما أو أحدهما، بتأويلهما أو تأويل أحدهما:

فأوّلاً: لا وجه - حينئذٍ - لكونه أَولى، بل هو غير جائز؛ لما فيه من ترك العمل بأصالة الظهور. وليس ترك الأخذ بها أَولى من ترك الأخذ بصدور أحدهما.

وثانياً: هذا يكون سبباً لطرح أخبار الترجيح عند وجود المرجّحات والمزايا، خصوصاً المنصوصة منها، أو حملها على خصوص ما لا يمكن الجمع فيه ولو بالتأويل، ومعلوم أنّه هذا المورد في غاية الندرة.

هل المرجّحات عرضيّة أم مترتّبة:

ثمّ إنّه قد وقع الخلاف فيما بينهم في أنّ هذه الأنواع من المرجّحات هل كلّ واحد منها مرجّح في عرض الآخر بحيث لو كان أحد المرجّحات متوفّراً في أحد المتعارضين وكان في الآخر مرجّح آخر فيقع التزاحم، فلابدّ من أن يُعمل بقواعدباب التزاحم، فيقدّم ما هو الأقوى مناطاً منهما، وإلّا، كان لابدّ من التخيير؟ أم لا، بل هي مترتّبة في مقام الترجيح، فبعض الأنواع يكون مقدّماً على بعض؟

ص: 324

وبالجملة: فهل هذه المرجّحات عرضيّة أو مترتّبة؟

الظاهر: أنّها كذلك، ولأجل ذلك وقع الخلاف بينهم في أنّ المرجّح الجهتيّ مقدّم على السنديّ أو العكس.

ولكن مع ذلك، فقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سرّه) إلى أنّها عرضيّة ولا ترتيب بينها بناءً على التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها؛ إذ بناءً على التعدّي يكون مناط الترجيح بشيءٍ هو أن يكون ذلك الشيء موجباً لأقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع، فإذا كان لكلّ واحدٍ من المتعارضين مزيّة توجب أقربيّته إلى الواقع فيقع التزاحم بينهما، ويقدّم الأقوى مناطاً.

والوجه في ذلك: أنّ العقل يرى أنّ الأهمّ يكون صالحاً للمانعيّة عن المهمّ ثبوتاً؛ لحكمه بلزوم صرف القدرة إلى متعلّقه دون متعلّق المهمّ، فمن هنا يكون مانعاً عن شمول الإطلاق للفرد المهمّ في صورة المزاحمة، ولا يرى المانعيّة في طرف المهمّ؛ لكونه لا يصلح للمنع من ثبوت الأهمّ، فلا يبقى هناك تنافٍ بين الإطلاقين؛ لأنّ أحد الإطلاقين بضميمة حكم العقل بلزوم صرف القدرة إلى الفرد الأهمّ لا يشمل المهمّ بعد عدم القدرة على متعلّقه، وبذلك يخرج المورد موضوعاً عن باب التعارض، فلا يجري فيه أحكام التعارض.وأمّا لو لم يكن أحدهما أقوى مناطاً، فالمرجع - حينئذٍ - إلى إطلاقات التخيير.

هذا بناءً على التعدّي من المنصوص إلى غيره.

ص: 325

وأمّا بناءً على عدم التعدّي، فلكونها مرتبةً وجهٌ، وهو الترتيب المذكور في الروايات.

ولكنّ الحقّ: أن المرجّح الصدوري مقدّم طبعاً على المرجّح الجهتيّ والمضمونيّ؛ لأنّه بعد التعبّد بصدور الخبر تصل النوبة إلى السؤال عن أنّه هل كان المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ أو صدر هذا الكلام منه تقيّةً وخوفاً؟

على أنّ ظاهر الكلام هو مرادهم في مقام التفهيم والتفهّم، كما قام عليه بناء العقلاء.

وأمّا أصالة الصدور فهو أصل تعبّديّ مدركه أدلّة حجّيّة خبر العادل، وإن كان المدرك لذلك - أيضاً - هو بناء العقلاء.

هذا كلّه في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات فقد ذكروا اُموراً لترجيح أحد الدليلين على الآخر:

منها:

أن يكون أحد الدليلين عامّاً والآخر خاصّاً، والخاصّ - كما تقدّم - تارةً يكون قطعيّ السند والدلالة فيقدّم على العامّ تخصّصاً.

وأمّا في ما عدا هذه الصورة، أي: في الصور الثلاث الأُخَر، أي: فيما إذا كان الخاصّ بحسب الدلالة والسند ظنّيّاً،أو كان مختلفاً بحسبهما، فيقدّم على العام، ولكن بالحكومة لا بالورود.

ص: 326

ومنها:

ما إذا كان أحد المتعارضين عامّاً اُصوليّاً والآخر إطلاقاً شموليّاً، كقوله: (أكرم العلماء)، حيث إنّه عامّ اُصوليّ مقدّم على قوله: (لا تكرم الفسّاق) في مادّة الاجتماع، وهو العالم الفاسق؛ لأنّ شمول العامّ الاُصوليّ لمورد الاجتماع كان بالوضع، وشمول الإطلاق الشموليّ له بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، واللّازم لتماميّة مقدّمات الحكمة عدم القرينة على التقييد، ويكفي في القرينيّة شمول العموم لمورد الاجتماع بالوضع من دون اشتراطه بشيء.

وقد يورد عليه: بأنّ كون العموم بالوضع يصير قرينةً وبياناً لعدم شمول الإطلاق لمورد الاجتماع إذا قلنا بأنّ مطلق البيان القرينة ولو كانت منفصلة عن الكلام الملقى إلى المخاطب في مجلس التخاطب يكفي في منع التمسّك بالإطلاق وعدم جريان مقدّمات الحكمة؛ إذ حينئذٍ مع وجود تلك القرينة المنفصلة لا ينعقد للمطلق ظهور في الإطلاق.

وأمّا إذا كان أساس مقدّمات الحكمة على كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده بخصوص الكلام الملقى إلى المخاطب في مجلس التخاطب، لا به وبكلامٍ آخر منفصلٍ عنه ولو بعد سنين، كما عليه بناء العرف والعقلاء في محاوراتهم، فلا محالة ينعقد ظهور إطلاقيّ للكلام، وتتحقّق الدلالة التصديقيّة النوعيّة التي يدور عليها مدار الحجّيّة في باب الألفاظ.

ص: 327

والحاصل: أنّ القرينة المنفصلة لا تمنع من تحقّق الظهور الإطلاقيّ، فإذا تحقّق الظهور الإطلاقيّ، ثمّ جاءت قرينة منفصلة تصلح لأن تكون مقيّداً للإطلاق، يقع التعارض بينها وبين الظهور الإطلاقيّ، فيقدّم أقوى الظهورين، وليس المقام من قبيل المقتضى التعليقيّ والمقتضى التنجيزيّ لكي يقال بأنّ المقتضى التنجيزيّ يرفع موضوع المقتضى التعليقيّ.

ولكنّ الحقّ: أنّ كلّ جملة صدرت من المتكلّم فدلالته التصديقيّة بمعنى: أنّ هذا هو الذي قاله المتكلّم موقوف على إتمام الكلام، وإلّا، فما دام مشغولاً بالكلام له أن يُلْحق بكلامه ما شاء من القيود، وبعد أن أتمّ كلامه وسكت يصحّ أن يُسنِد إليه مضمون الجملة، ويقال - حينئذٍ -: بأنّ هذا مضمون ما قاله فلان، ويصحّ إسناده إليه بعنوان أنّه قاله، لا يتوقّف على شيء.

وأمّا ان هذا مراده من هذا الكلام، فيتوقّف على عدم إتيان قرينةٍ على الخلاف، فلو أتى بقرينةٍ على خلاف هذا المضمون، بحيث تبدّل مع وجود تلك القرينة إلى معنىً آخر.

ولو كانت تلك القرينة منفصلة، فيظهر أنّ مراده هذا المضمون الأخير دون المضمون الأوّل، أي: غير ما قال أوّلاً، وهذا القسم هي الدلالة التصديقيّة التي قالوا بأنّها تابعة للإرادة.ولا معنى لأن يقال: إنّ ما هو ظاهر الجملة بعد تماميّتها كاشف عن المراد الواقعيّ حتى ولو جاء المتكلّم بقرينة منفصلة على عدم إرادته.

ص: 328

وقد يقال: إنّ بناء أهل المحاورة على الأخذ بظاهر الجملة وعدم التوقّف في العمل به.

ولكنّ هذا، وإن كان حقّاً، إلّا أنّه إنّما يكون معتبراً هنا من جهة وجود الاُصول العقلائيّة، وهي أصالة عدم القرينة وأصالة عدم المخصّص وأصالة عدم المقيّد.

وأمّا بعد وجود القرينة والمخصّص والمقيّد، ولو كانت منفصلة، بل ولو كان مجيئها بعد سنين، فلا يكون حال هذه الجملة حالها قبل الإتيان بهذه القرينة، ولا يكون ظاهرها الذي كان لها قبل وجود هذه الأشياء هو المراد.

وكذلك، فلا معنى - أيضاً - لأن يقال: تقع المعارضة بين ما كان ظاهر الجملة وبين ظهور هذه الأشياء، فيؤخذ بأقوى الظهورين؛ فإنّ ظهور القرينة يكون حاكماً على ظهور ذي القرينة، ويقدّم متى وجدت، متّصلةً كانت أم منفصلة.

وإذا عرفت هذا، يتّضح:

أنّ الدلالة التصديقيّة بمعنى: أن يكون هذا هو مراد المتكلّم، والذي هو المناط في لزوم الأخذ بالظاهر والعمل على طبقه في باب ظواهر الألفاظ، متوقّف على عدم مجيء قرينةٍ على أنّ الظاهر ليس بمراد، فإذا جاءت قرينة على خلافه، فلا يكون هذا الظاهر كاشفاً عن المراد والمناط حينئذٍ.

ص: 329

ومنها:ما إذا كان أحد المتعارضين من قبيل الإطلاق الشموليّ ﻛ (لا تكرم الفاسق) والآخر من قبيل الإطلاق البدليّ ﻛ (أكرم عالماً)، فكلا الإطلاقين وإن كانا بمقدّمات الحكمة، ولكنّ تقييد الإطلاق البدليّ مقدّم على تقييد الإطلاق الشموليّ؛ لأنّ الإطلاق البدلي ورد على نحو تعلّق التكليف بصرف الوجود، والطبيعة بالنسبة إلى وجودات جميع الأفراد متساوي الإقدام في انطباق صرف الوجود عليها، فالعقل يحكم بالتخيير في مقام انطباقها على كلّ فرد من الأفراد بواسطة إجراء مقدّمات الحكمة، بخلاف الإطلاق الشموليّ، فإنّه ليس كذلك.

وخلاصة البحث: أنّ جريان مقدّمات الحكمة في الإطلاق البدليّ مشروط بشرط، وهو تساوي إقدام الأفراد، بخلاف الجريان في الإطلاق الشموليّ، فإنّه ليس مشروطاً بشرط؛ لأنّ إطلاق الشموليّ عبارة عن تعلّق الحكم بوجود الطبيعة السارية، وهو من هذه الناحية يشترك مع العامّ الاستغراقيّ.

وإنّما الفرق بينهما في أنّ دلالة اللّفظ على الاستيعاب وشمول الحكم لجميع الأفراد وعدم خروج فرد عن تحته بتوسّط الوضع، فهذا عامّ استغراقيّ، وإن كان بتوسّط مقدّمات الحكمة وإنّه فرد أو صنف من أفرادها خارج عن تحت هذا الحكم؛ لعدم الملاك، أو لوجود مانعٍ فيه، كان عليه البيان، وإلّا، هو الذي أخلّ بغرضه فهذا إطلاق شموليّ.

ص: 330

ومنها:

ما إذا كان أحد المتعارضين العامّين من وجه وارداً في مورد الاجتماع، فلابدّ أن يخصّص الآخر؛ لأنّ تخصيصالمورد قبيح، فإذا كان السؤال عن جواز إكرام العالم الفاسق، وقال في الجواب: (أكرم العلماء)، وصدر منه - أيضاً - قبلاً أو بعداً، (لا تكرم الفسّاق)، فلابدّ أن يقدّم عموم (أكرم العلماء) ويخصّص عموم (لا تكرم الفسّاق)، وإن كان بينهما عموم من وجه، وإلّا، يلزم تخصيص المورد، وهو قبيح كما لا يخفى.

ومنها:

ما إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن في مقام التخاطب، فيكون نصّاً فيه.

ولا يخفى: أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب وإن كان لا ينفع في مقام تقييد المطلق ما دام لم يصل إلى حدٍّ يوجب انصراف المطلق إلى المقيّد، إلّا أنّ وجود القدر المتيقّن ينفع في مقام رفع التعارض عن الدليلين.

هذا فيما إذا كان ثبوت القدر المتيقّن للمطلق بنحوٍ يكون موجباً لانصرافه، وإلّا، فإنّ كلّ مطلق له قدر متيقّن، فإنّ الدليل يكون كالنصّ في القدر المتيقّن، فيصلح لأن يكون قرينةً على التصرّف في الدليل الآخر، فلو كان مفاد أحد الدليلين - مثلاً - وجوب إكرام العلماء، وكان مفاد الدليل الآخر حرمة إكرام الفسّاق، وعلم من حال الآمر أنّه يبغض العالم

ص: 331

الفاسق ويكرهه أشدّ كراهة من الفاسق غير العالم، فالعالم الفاسق متيقّن الاندراج في عموم قوله: (لا تكرم الفسّاق)، ويكون بمنزلة التصريح بحرمة إكرام العالمالفاسق، فلابدّ أن يخصّص (أكرم العلماء) بما عدا الفسّاق منهم.

ومنها:

ما إذا كانت أفراد أحد العامّين بمرتبةٍ من القلّة بحيث لو خصّص بما عدا مورد الاجتماع مع العامّ الآخر يلزم تخصيص الأكثر، فلو قلت: (أكرم العلماء) و(لا تكرم النحويّين)، فلو خصّص العلماء بما عدا مورد الاجتماع من النحويّين يلزم التخصيص المستهجن، فيخصّص ما لا يلزم منه التخصيص المستهجن.

ومنها:

ما إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص.

وينبغي - أوّلاً - الكلام في معنى النسخ، فنقول:

النسخ في اللّغة بمعنى النقل والتغيير، ومنه: تناسخ المواريث والدهور، ويأتي بمعنى الإزالة، كما يقال: نسخت الشمس الظلّ(1).

وأمّا في الاصطلاح فهو عبارة عن رفع الحكم الثابت في الدين بارتفاع أمده وزمانه.

ص: 332


1- انظر - مثلاً - : لسان العرب 3: 61 فما بعدها، مادّة (نسخ).

ولكي تتّضح حقيقة هذا المعنى من النسخ نقول:

لا يخفى: إنّ الحكم المجعول من قبل الشارع في الواقع له نحوان من الثبوت:

الأوّل: ثبوت ذلك الحكم في مرحلة التشريع والتقنين، وهو في هذه المرحلة مجعول على نهج القضايا الحقيقيّة، بمعنى:أنّ ثبوته في هذه المرحلة لا يتوقّف على ثبوت الموضوع فعلاً في الخارج ولا على عدم ثبوته.

كما إذا قال الشارع - مثلاً -: (الخمر حرام)؛ فإنّ معناه: أنّه في كلّ وقت وُجد فيه الخمر فإنّه يكون حراماً، فالخمر ولو لم يكن له ثبوت خارجيّ إلّا أنّه متّصف بالحرمة فعلاً على تقدير وجوده، فثبوت الحرمة له غير مقيّد بوجوده الخارجيّ.

نعم، فعليّة هذه الحرمة متوقّفة على وجود الموضوع.

فرفع الحكم في هذه المرحلة، أعني: مرحلة التشريع والإنشاء، لا يكون إلّا بالنسخ؛ وذلك لأنّه لم يكن لموضوع هذا الحكم في نظر المقنّن - في هذه المرحلة - وجود فعليّ، واقعيّ أو ظاهريّ، حتى يتغيّر الحكم بتغيّر الموضوع، كما هو الشأن في النحو المثال الآتي، كما في الكلب الذي نجاسته متوقّفة على وجوده، فإذا استحال ملحاً تغيّر الموضوع، فتغيّر الحكم بتغيّره، فصار طاهراً.

والثاني: ثبوت الحكم وتحقّقه وصيرورته فعليّاً في الخارج، وذلك

ص: 333

إنّما يكون فيما إذا كان الموضوع موجوداً في الخارج ومتحقّقاً فيه فعلاً، كتحقّق وجود الخمر في الخارج، فإنّ الحرمة مستمرّة بوجود الموضوع، فإذا ذهب الموضوع ذهب الحكم بذهابه، حتى إذا تبدّل الخمر خلاً ذهبت عنه الحرمة. ولكنّ هذا ليس من النسخ في شيء، كما هو واضح.

وعليه: فينحصر مورد البحث في النحو الأوّل خاصّةً.وقد وقع البحث بينهم في أنّ النسخ في الأحكام هل هو ممكن أم لا؟

والمعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو القول بإمكانه وعدم استحالته، وخالف في ذلك اليهود والنصارى فقالوا باستحالته.

والحقّ: هو القول بالإمكان؛ لعدم كون النسخ بالمعنى المذكور مستلزماً لأيّ محذور، كنسبة الجهل أو عدم الحكمة إليه عزّ وجلّ، بل جاز أن يكون الحكم المجعول مقيّداً من أوّل الأمر بزمانٍ خاصّ معلوم عنده تعالى، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الذي قُيّد به.

فإذا اتّضح ذلك نقول:

إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص، فأيّهما يقدّم على الآخر النسخ أم التخصيص؟

قد يقال: بتقديم التخصيص؛ لكثرته، حتى قيل: ما من عامٍّ إلّا وقد خُصّ؛ ولمكان ندرة النسخ.

ص: 334

ولكنّ الحقّ: أنّه قد يُقدّم التخصيص على النسخ، وقد يُقدّم النسخ، ومن هنا، كان لابدّ أوّلاً من بيان كافّة صور المسألة وشقوقها، وهي كما يلي:

فإنّ العامّ والخاصّ المتنافيين:

تارةً يردان في زمان واحد، وأُخرى في زمانين.

وعلى تقدير أن يكونا واردين في زمانين: فالمتأخّر إمّا هو العامّ أو الخاصّ.وعلى التقديرين: فالعامّ أو الخاصّ المتأخّر: إمّا أنّه ورد بعد حضور وقت العمل بالمتقدّم أو قبله. فهذه شقوق المسألة.

أمّا الصورة الاُولى: وهي ما إذا كانا واردين في زمانٍ واحد، فيقدّم الخاصّ؛ لا لأنّ التخصيص أكثر مع كون النسخ نادراً؛ فإنّ كثرة وجود الشيء لا تكون سبباً للخروج عما هو الظاهر، بل لأنّه إذا تقارن الخاصّ مع العامّ، كان الخاصّ سبباً لعدم كاشفيّة ظهور العامّ في العموم، وأنّ العموم هو مراد المتكلّم؛ لأنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ حاكمة - كما مرّ - على أصالة الظهور في طرف العامّ، ويكون من قبيل ظهور القرينة مع ظهور ذي القرينة.

وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذا كانا واردين في زمانين، وكان الخاصّ هو المتأخّر ولكن قبل حضور وقت العمل بالعامّ، فكذلك يكون تقديم الخاصّ هو المتعيّن، لعين ما ذكرناه في الصورة الأُولى.

ص: 335

وأمّا الصورة الثالثة: وهي عين السابقة، ولكن مع كون الخاصّ وارداً بعد حضور وقت العمل بالعامّ.

وقد يقال: بأنّه يتعيّن في هذه الصورة النسخ، وإلّا، يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو قبيح.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ تأخير البيان عن وقت العمل بالعموم لعلّه كان لمصلحة في التأخير، فمفاد العمومات المتقدّمة بالنسبة إلى الخاصّ حكم ظاهريّ، كما أنّ البراءة قبل صدور كثيرٍ من الأحكام مفادها حكم ظاهريّ، وبعد صدورها تكون حكماً واقعيّاً مخالفاً لذلك الحكم الظاهريّالذي هو مؤدّى البراءة، فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة بالنسبة إلى الحكم الواقعيّ؛ لأنّه لا حكم واقعيّ في البين حتى يكون البيان متأخّراً عن وقت الحاجة ويكون قبيحاً؛ لأنّه لا حكم واقعيّ بالنسبة إلى تلك القطعة التي تكون مجمعاً لعنواني العامّ والخاصّ.

ولكن يرد هنا الإشكال التالي:

وهو أنّ مفاد العامّ لابدّ أن يكون بالنسبة إلى القطعة التي لا تتعنون بعنوان الخاصّ حكماً واقعيّاً، وبالنسبة إلى القطعة التي هي مجمع العنوانين حكماً ظاهريّاً، مع أنّه دليل واحد، وكلام واحد. مضافاً إلى أنّ أصالة العموم ناظرة إلى الحكم الواقعيّ، لا أنّها ناظرة إلى إثبات حكم الشاكّ في الحكم الواقعيّ.

وخلاصة الكلام في المقام: أنّ الخاصّ إذا ورد بعد العامّ وبعد زمان

ص: 336

العمل به، فالاحتمالات ثلاثة:

الأوّل: أن يكون الخاصّ ناسخاً لا مخصّصاً، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنّه قبيح.

وفيه: أنّ كون هذه المخصّصات مع كثرتها ناسخة بعيدة غاية البعد؛ لأنّ كثيراً من هذه المخصّصات صادرة عن الأئمّة المتأخّرين، والحال أنّ العمومات صادرة عن الأئمّة المتقدّمين، فيلزم أن يكون أكثر هذه الخاصّات ناسخةً لا مخصّصة، مع أنّهم قالوا بندرة النسخ وكثرة التخصيص، حتى اشتهر - كما أسلفنا - أنّه ما من عامٍّ إلّا وقد خصّ، بلقيل: لا يمكن أن تكون ناسخة؛ لأنّ النسخ لابدّ أن يكون بتوسّط الوحي، ومعلوم أنّه قد انقطع بعد النبيّ(صلی الله علیه و آله).

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا: بأنّه غير تامّ؛ لأنّ الوحي وإن كان قد انقطع بعد النبيّ(صلی الله علیه و آله)، إلّا أنّ انقطاعه لا يلازم عدم جواز النسخ بعده(صلی الله علیه و آله)؛ إذ من الممكن أنّه(صلی الله علیه و آله) أودع الحكم الناسخ عند الوصيّ حتى يظهره في وقته، وهكذا الوصيّ عند وصيّه، وهو عند وصيّ آخر، إلى أن يحين وقت إظهاره، فيظهره من كان عنده من الأئمّة(.

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه): «والدليل على ذلك: أنّه وردت أخبار صحيحة في تفويض دين اﷲ إلى الأئمّة المعصومين(، ولا معنى للتفويض إلّا ذلك؛ إذ احتمال أن يكون المراد بالتفويض أن يقولوا من عندهم من دون أن يكون من قبل اﷲ، مخالف لاُصول المذهب، بل الدين. واحتمال أن

ص: 337

يكون بالإلهام من قبل اﷲ تعالى إليهم، وإن كان ممكناً في حدّ نفسه، ولكنّه أيضاً مرتبة من الوحي، والظاهر: انقطاع الوحي بجميع مراتبه»(1).

الثاني: احتفاف العامّ بالمخصّصات المتّصلة، ولم يصل إلينا إلّا هذه المخصّصات المنفصلة.

الثالث: أن يكون مفاد العامّ حكماً ظاهريّاً بالنسبة إلى حكم الخاصّ، والحكم الواقعيّ لتلك القطعة من العامّ هو مفاد تلكالمخصّصات المنفصلة، وإنّما تأخّر بيانها لمصالح اقتضت التأخير.

بقي صورتان من الصور الخمس التي يدور فيها الأمر بين النسخ والتخصيص، وهما فيما إذا كان الخاصّ وارداً قبل العامّ، بلا فرق بين أن يكون ورود العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، أو قبله.

فهل يقدّم التخصيص أو النسخ على الإطلاق، أي: في الصورتين جميعاً، أم أنّ هناك فرقاً بين ما لو كان الورود بعد حضور وقت العمل فيكون نسخاً، أم قبله، فيكون تخصيصاً؟

الحقّ: أنّه في كلتا الصورتين يقدّم التخصيص على النسخ، بل تقديمه على النسخ في هاتين الصورتين أوضح من تقديمه عليه في الصور المتقدّمة؛ فإنّ اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة المتقدّمة في مقام بيان مراده هو أَولى من اعتماده على القرينة المنفصلة المتأخّرة، فإذا كان

ص: 338


1- منتهى الاُصول 2: 572 - 573.

الخاصّ متقدّماً على العامّ، فالمتكلّم يُلقي العامّ، ولكنّه يريد به ما عدا الخاصّ؛ لأنّه مع وجود الخاصّ المتقدّم لا يبقى ظهور للعامّ في إرادة العموم؛ لأنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ مقدّمة - كما تقدّم غير مرّة - على أصالة الظهور في طرف العامّ وحاكمة عليها، ومعه: فتكون أصالة الظهور في طرف العامّ ساقطةً عن الحجّيّة.

لا يقال: بعد تأخّر العامّ عن الخاصّ فمراد المتكلّم إنّما هو العموم.فإنّه يقال: بعد قيام القرينة لم يتبقّ أيّ عموم في البين لكي يكون ناسخاً للخاصّ.

فالحقّ: أنّه في جميع الصور الخمس يقدّم الخاصّ على العامّ، لا من جهة كثرة الخاصّ؛ لأنّه لا اعتبار بهذه الكثرة - كما ذكرنا - وهي لا تنهض دليلاً على التقديم.

بل لزوم تقديم الخاصّ إنّما هو لأنّه مع وجوده يكون المتكلّم قد أتى بقرينةٍ تدلّ على تصرّفه في ظهور العامّ، فلا يبقى له ظهور في العموم، ويُعْلم أنّ المراد من العامّ إنّما هو ما عدا الخاصّ.

وقد ذكر صاحب الكفاية(قدس سرّه): أنّ التخصيص منافٍ لما التزم به في تقديم العامّ على المطلق من أقوائيّة ظهور العامّ؛ لأنّه تنجيزيّ، وظهور الإطلاق تعليقيّ؛ لأنّ ظهور الكلام في الدوام والاستمرار إنّما هو بالإطلاق، بخلاف ظهوره بالعموم، فإنّه بالوضع، فمقتضى ذلك الوجه أنّه لابدّ من تقديم أصالة العموم على الإطلاق فيما نحن فيه، لا العكس.

ص: 339

وأمّا شيوع التخصيص، فهو إنّما يوجب أقوائيّة الظهور الإطلاقيّ لو كان من قبيل القرائن المكتنفة للكلام، بحيث يوجب تبدّل ظهور العامّ، وإلّا، فهو لا يقتضي الأقوائيّة، وإن أوجب الظنّ بالتخصيص.

قال(قدس سرّه) ما لفظه:

«ولا يخفى: أنّ دلالة الخاصّ أو العامّ على الاستمرار والدوام إنّما هو بالإطلاق لا بالوضع، فعلى الوجه العقليّ في تقديم التقييد على التخصيص، كان اللّازم في هذاالدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضاً، وأنّ غلبة التخصيص إنّما توجب أقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العامّ في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابةٍ تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام، وإلّا، فهي وإن كانت مفيدة للظنّ بالتخصيص، إلّا أنّها غير موجبة لها كما لا يخفى»(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سرّه) فقد أفاد في المقام ما حاصله:

أنّ الدوام والاستمرار ليس ثابتاً بالإطلاق حتى يكون الكلام في ترجيح أحد الظهورين، بل هو ثابت بالاستصحاب؛ إذ ليس في المقام ظهوران يعارض أحدهما الآخر، وإنّما المعارضة البدويّة بين الاستصحاب وأصالة العموم، ولا كلام في تقدّمها عليه، فالالتزام

ص: 340


1- كفاية الاُصول: ص 451.

بالنسخ بحسب قواعد المعارضة متعيّن. إلّا أنّه لما كان بناء العقلاء منعقداً على عدم العمل بأصالة العموم لو كان هناك خاصّ، ولو كان سابقاً أو لاحقاً؛ لأنّه يكون قرينة عليه، لم يمكن الالتزام بأصالة العموم فيما نحن فيه.

فعدم الالتزام بالعموم إنّما كان لهذا الأمر، لا لأقوائيّة دليل الاستمرار؛ إذ دليله الأصل، ولا ظهور فيه(1).توضيح ذلك: أنّ الدوام والاستمرار:

تارةً: يلحظ وصفاً وعارضاً على الجعل، نظير الحكم بوجوب الحجّ على المستطيع؛ فإنّه قد لا تحصل الاستطاعة أصلاً، فلا ثبوت للحكم الفعليّ مع استمرار هذا الجعل ودوامه مطلقاً.

وأُخرى: يكون وصفاً للمجعول دون الجعل، نظير جعل وجوب التسبيح ساعةً عند الدخول إلى البلد؛ فإنّ الاستمرار ساعةً من

ص: 341


1- راجع: فوائد الاُصول 4: 739, وإليك نصّ كلامه): «ودعوى أنّ النسخ يكون من قبيل تقييد الإطلاق، فيقدّم على تخصيص العامّ، لا تخلو عن مغالطة؛ فإنّ النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت، وثبوت أحكام الشريعة في جميع الأزمنة ليس من جهة إطلاق الأدلّة، بل من جهة قوله(علیه السلام): حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ونحو ذلك من الأدلّة الدالّة على استمرار أحكام الشريعة وعدم نسخها، فلو ثبت نسخ الحكم في موردٍ فإنّما هو تخصيص لهذه الأدلّة، لا تقييد لإطلاق الأدلّة الأوّليّة المتكفّلة لبيان أصل ثبوت الأحكام في الشريعة...».

شؤون المجعول، وهو الوجوب، دون الجعل؛ إذ الجعل واحد، كما لا يخفى.

والنسخ الذي يرجع إلى قطع الاستمرار ورفع الدوام إنّما يرتبط باستمرار الجعل لا المجعول؛ فإنّ الاستمرار وعدمه في المجعول لا يرتبط بالنسخ أصلاً.

وإذا كان الاستمرار من صفات الجعل ويتوقّف عليه توقّف العارض على معروضه لم يصلح الدليل المتكفّل لإنشاء الجعل لبيان الاستمرار؛ لأنّه متأخّر عن وجود الجعل، والدليل الإنشائيّ إنّما يتكفّل إيجاد الجعل، فيمتنع أن يتكفّل بنفسه بإثبات استمراره، بل لابدّ من دليل آخر يتكفّل بيان الاستمرار.وليس من الأدلّة الاجتهاديّة ما يصلح لبيان ذلك، إلّا ما يتوهّم من قوله(صلی الله علیه و آله) :«حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1).

وهذا الدليل ظاهر في بيان دوام الشريعة المحمّديّة بما لها من الأحكام والمجموع بما هو مجموع، لا دوام كلّ حكم من أحكامه.

وعليه: فالدليل الذي يتكفّل بإثبات الاستمرار إنّما هو الاستصحاب،

ص: 342


1- انظر: وسائل الشيعة 27: 169، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 52، والحديث عن رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله) بلفظ: «أيّها الناس(قدس سرّه) حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة».

فباستصحاب الحكم يثبت بقاؤه ودوامه واستمراره.

وإذا كان الاستمرار ثابتاً بالاستصحاب لم يصلح لمعارضة أصالة العموم فيما نحن فيه؛ لأنّها دليل اجتهاديّ حاكم أو وارد عليه بلا كلام. مع امتناع جريان الاستصحاب في بعض الصور، وهي صورة تأخّر الخاصّ؛ فإنّه مع احتمال كون الدليل مخصّصاً، وأنّ حكم العامّ لم يكن ثابتاً للخاصّ من حينه، لا مجال لاستصحاب الحكم؛ لأنّ الشكّ في أصل الحدوث، فيبتني جريانه على قاعدة اليقين، وهي غير تامّة.

والذي يتلخّص من كلامه أمران:

الأوّل: أنّ استمرار الجعل لا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفّل لبيان الجعل؛ لأنّه متأخّر عن وجود الجعل، فلا يمكنبيانه بنفس الدليل المتكفّل لايجاد الجعل، فالدليل عليه هو الاستصحاب إذ لا دليل اجتهاديّاً يتكفّل بيانه.

والثاني: أنّ الخاصّ المتقدّم والمتأخّر يكون قرينة على العامّ بحيث يسلم ظهوره.

وكيف كان، فخلاصة القول في المقام: أنّ صور دوران الأمر بين النسخ والتخصيص ستّة: لأنّ العامّ والخاصّ إمّا مجهولا التاريخ من حيث زمان الصدور، أو معلوما التاريخ. وعلى الثاني: فهما إمّا متقارنان أو أحدهما مقدّم والآخر مؤخّر. والمؤخّر إمّا أن يصدر قبل حضور وقت العمل بالمقدّم أو بعده، فتصير صور المسألة ستّاً:

ص: 343

الاُولى: فيما إذا كان كلاهما مجهولي التاريخ.

الثانية: فيما إذا كانا متقارنين زماناً.

والثالثة: فيما إذا ورد الخاصّ بعد العامّ، وبعد حضور وقت العمل به.

الرابعة: فيما إذا كان الخاصّ بعد العامّ أيضاً، ولكن قبل حضور وقت العمل به.

الخامسة: فيما إذا كان العامّ بعد الخاصّ، ولكن قبل حضور وقت العمل به أيضاً.

السادسة: فيما إذا كان العامّ بعد الخاصّ أيضاً، ولكن بعد حضور وقت العمل به.

وفي هذه الصور جميعاً يكون التخصيص مقدّماً على النسخ، وذلك لعدم بقاء ظهور للعامّ، وكون الخاصّ قرينة على عدم إرادة العموم في العام.وقد يقال: بتقديم النسخ على التخصيص فيما إذا دار الأمر بينهما؛ بدعوى: أنّ التخصيص عبارة عن التصرّف في العموم الأفرادي الذي كان للعامّ بالوضع، والنسخ عبارة عن تقييد الإطلاق.

فإذا دار الأمر بين التصرّف فيما هو بالإطلاق أو التصرّف فيما هو بالوضع، قدّم الأوّل.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الأمر في الحقيقة يرجع الدوران بين التقييد والتخصيص؛ لأنّ مرجع النسخ إلى التقييد، وعند دوران الأمر بين التقييد

ص: 344

والتخصيص، فالتقييد مقدّم.

ولكن فيه: أنّ النسخ متوقّف على شمول العامّ حكماً لمورد الخاصّ حتى يكون الحكم ثابتاً لأفراد الخاصّ التي هي تحت دائرة العموم، وبمجيء الخاصّ قبل العامّ، أو بعده، يرتفع حكم العامّ عن تلك القطعة التي هي مجمع العنوانين: عنوان العامّ وعنوان الخاصّ.

وقد عرفت أنّ وجود الخاصّ قبل العامّ أو بعده يكون قرينةً على عدم إرادة العموم، ومع هذه القرينة لا يبقى موضوع للنسخ حتى تصل النوبة إلى تقديم النسخ بدعوى: أنّه من تقييد الإطلاق الذي هو بمقدّمات الحكمة على التخصيص الذي هو تصرّف في العموم الأفراديّ الذي هو بالوضع.

وأيضاً: فإنّ الدوام والاستمرار في حكم العامّ الذي هو موضوع النسخ ليس بإطلاق الحكم؛ لعدم إمكان شمول إطلاق الحكم للحالات الواردة على نفس الحكم المتأخّر عنه؛ لأنّه من الانقسامات الثانويّة، كالعلم والجهل بالحكم.فكذلك دوام الحكم واستمراره لابدّ وأن يكون بدليلٍ آخر، كقوله(صلی الله علیه و آله): «حلال محمّد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»، فيكون النسخ - أيضاً - تخصيصاً؛ لأنّه تصرّف في عموم أفراد الزمان.

هذا كلّه لو كان التعارض بين دليلين فقط.

ص: 345

الأمر الثامن :فيما لو كان التعارض بين أكثر من دليلين:

لو فرض أنّ التعارض كان بين أكثر من دليلين، فهل يقدّم بعضها على بعضها الآخر تخصيصاً أو تقييداً، فيوجب انقلاب النسبة بينها بعد التقييد والتخصيص في بعضها أم لا يقدّم؟ بل كلّ واحدٍ منها يلاحظ مع غيره كما هو كذلك في حدّ نفسه من دون تقييده أو تخصيصه أوّلاً ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين غيره بعد ملاحظته مقيّداً أو مخصّصاً؟

ولتوضيح المطلب وبيان ما هو الحقّ من هذين الاحتمالين نذكر مقدّمة حاصلها: أنّ للظهور التصديقيّ في قبال الظهور التصوّري معنيين:

أوّلهما: ظهور الكلام فيما قال.

والثاني: ظهوره فيما أراد.

والأوّل ينعقد بعد تمام الكلام والفراغ منه، وليس متوقّفاً على عدم مجيء قرينة منفصلة على خلاف ظاهر الألفاظ. نعم، لو كان في الكلام قرينة متّصلة مذكورة في نفس الكلام، فهي دخيلة، وجوداً وعدماً، في انعقاد ذلك الظهور، وليسهذا الظهور هو ما عليه مدار الحجّيّة، بل مدار الحجّيّة على الظهور التصديقيّ بالمعنى الثاني، وهو ظهور الكلام فيما أراد؛ إذ بعدما عرفنا أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فإرادة المولى هي التي تكون منشأً للآثار واستحقاق الثواب على موافقتها والعقاب على مخالفتها.

ص: 346

وأمّا الثاني: أي: الظهور التصديقيّ بعنوان ما أراده المتكلّم، متوقّف على عدم مجيء قرينة، ولو كانت منفصلة، على أنّ الظاهر ليس بمراد له، فلو جاءت قرينة منفصلة على عدم إرادة الظاهر، وأنّ الظاهر ليس بمراد له، فالجملة لا تكون دالّة بالدلالة التصديقيّة على أنّ الظاهر مراده، فلو كان العامّ والخاصّ كلّ منهما في جملتين مستقلّتين، فأصالة الظهور في طرف الخاصّ، ولو كان في كلام منفصل، قرينة على عدم إرادة الشمول والعموم بنحو يشمل عنوان العامّ وعنوان الخاصّ، بل يكشف عن أنّ مقدار الخاصّ كان خارجاً من أوّل الأمر.

وقد عرفت أنّ الحجّيّة تدور مدار الإرادة سعةً وضيقاً، فلو لم يكن العامّ شاملاً للخاصّ من حيث المراديّة - كما هو المفروض - فليس بحجّة في ذلك المقدار، فلا تعارض بين العامّ والخاصّ؛ لأنّ التعارض فرع الحجّيّة، وما ليس بحجّة لا ينهض لأن يكون معارضاً لحجّةٍ أُخرى.

فلو كان هناك دليلان متعارضان بالتباين، كقوله: (أكرم العلماء)، وقوله: (لا تكرم العلماء)، فإنّ النسبة بينهما هي التباين، ثمّ ورد دليل آخر مخصّص لأحدهما، كقوله:(يستحبّ إكرام العلماء العدول)، فهذا يخصّص قوله: (لا تكرم العلماء)، ويصير قرينةً على عدم إرادة العموم من قوله: (لا تكرم العلماء) بالنسبة إلى العدول منهم، فليس بحجّة في العلماء العدول، فكأنّه من أوّل الأمر قال: (لا تكرم العلماء غير العدول) فتنقلب النسبة من التباين إلى العموم والخصوص المطلق. فتكون نتيجة

ص: 347

الجمع بين هذين الكلامين وجوب إكرام العلماء العدول دون الفسّاق منهم، فلا يصحّ إنكار انقلاب النسبة بقول مطلق.

وخلاصة القول: أنّ المخصّص المنفصل عين المخصّص المتّصل من ناحية أنّ العام لا يكون شاملاً لأفراد، وكذلك من ناحية كاشفيّته عن المراد، وإنّما الفرق بينهما أنّ المخصّص المنفصل لا يصادم ظهور العامّ بعنوان ما قال لا بعنوان ما أراد.

فإذا كان هناك عامّ وخاصّ، فلا يمكن أن يكون حال هذا العامّ مع وجود هذا الخاصّ في مقام معارضته لدليل آخر مثل حال هذا الخاصّ مع فرض عدم هذا الخاصّ؛ لأنّ العامّ مع فرض عدم وجود الخاصّ تكون حجّيّته أوسع ويكون كاشفاً عمّا يراد، وشاملاً لجميع الأفراد، بما فيها أفراد ذلك الخاصّ، وأمّا مع فرض وجود الخاصّ فلا تكون شاملة لأفراد الخاصّ.

فإذا عرفت ذلك، ظهر ما في كلام صاحب الكفاية(قدس سرّه) الذي ذكره في مقام ردّ انقلاب النسبة من «أنّ النسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات. وتخصيص العامّ بمخصّص منفصل،ولو كان قطعيّاً، لا ينثلم به ظهوره، وإن انثلم به حجّيّته»(1).

وذلك لأنّ المخصّص المنفصل، ولو لم يكن - كما أفاده - كالمتّصل

ص: 348


1- كفاية الاُصول: 452.

من جهة عدم انثلام ظهور العامّ به، لكنّ ذلك هو الظهور التصديقيّ بمعنى ما قال، لا بمعنى ما أراد.

والنسبة بين المتعارضات والأدلّة وإن كانت باعتبار الظهورات، إلّا أنّ الظهورات التصديقيّة الكاشفة عن المراد لا صرف الظهور بعنوان ما قال، فما هو المناط في المعارضة هو هذا الظهور الكاشف عمّا أراد، وبه يكون الكلام حجّة، لا عن ما قال؛ لأنّه ليس بحجّة، وما لا يكون بحجّة فكيف يمكن أن يكون معارضاً لحجّة أُخرى.

ومن هنا ظهر الحال فيما أفاده المحقّق العراقي(قدس سرّه) بقوله: «والتحقيق: أنّ مدار الجمع بعدما كان على تقديم أقوى الظهورين، وأنّ القرائن المنفصلة لا توجب انقلاب الظهور أيضاً، فلا محيص - حينئذٍ - من لا بدّيّة ملاحظة كلّ واحدٍ مع الآخر في [أنفسهما] مع قطع النظر عن جمع كلّ واحدٍ مع الغير؛ إذ المفروض أنّ الجمع لا يوجب انقلاب الظهور شدّةً وضعفاً»(1).

فقد عرفت أنّ الظهور الذي لا ينثلم مغاير للظهور الذي عليه مدار الحجّيّة، أي: الظهور التصديقيّ الكاشف عن مرادالمتكلّم، وهذا الظهور هو الذي مدار الحجّيّة، وعليه يدور وقوع التعارض بين الأدلّة، وهو غير باقٍ مع وجود القرينة المنفصلة على الخلاف.

ص: 349


1- مقالات الاُصول 2: 482.

وكيف كان، فإنّه بناءً على ما اختاره(قدس سرّه) فبين (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق من العلماء) - مثلاً - عموم وخصوص من وجه، وكذا بين (أكرم العلماء) وبين (يستحبّ إكرام العدول)، فالنسبة الأوّليّة باقية بحالها، فلا يخصّص قوله: (يستحبّ إكرام العدول) بغير العلماء، بل النتيجة هي إمّا التخيير أو التساقط.

وأمّا بناءً على ما اخترناه، فيخصّص قوله: (يستحبّ إكرام العدول) بغير العالم العادل، وسائر العدول يكون إكرامهم مستحبّاً بدليل (يستحبّ إكرام العدول) بعد تخصيصه بغير العلماء، بواسطة قوله: (أكرم العلماء العدول) الحاصل من تخصيص قوله: (أكرم العلماء)، بقوله: (لا تكرم الفسّاق من العلماء).

وكذا تنقلب النسبة لو كان هناك عامّان متباينان، وكان دليل ثالث أخصّ من أحدهما، كقوله: (لا ترث الزوجة من العقار)، وقوله (ترث الزوجة من العقار)، فهما عامّان متباينان، فإذا ورد الدليل الثالث، وكان مفاده أنّ الزوجة التي لها ولد من الميّت ترث من العقار، فتنقلب النسبة؛ لأنّها تخصّص بقوله: (لا ترث الزوجة من العقار)، فتنقلب النسبة - حينئذٍ - بينه وبين العامّ الآخر من التباين إلى العموم والخصوص المطلق.فالنتيجة: أنّ اُمّ الولد من الزوجة ترث، والزوجة التي ليس لها ولد من الزوج الميت لا ترث.

هذه إحدى صور التعارض بين أكثر من دليلين.

ص: 350

صورة أُخرى: ما إذا كان هناك عامّ وخاصّان وكان بينهما تباين، كقوله: (أكرم العلماء) وقوله: (لا تكرم الكوفيّين من العلماء) وقوله: (لا تكرم البصريّين من العلماء)، فإنّ النسبة بين الخاصّين هي التباين، ولا شكّ في وجوب تخصيص العامّ بكلٍّ منهما ما لم يصل إلى حدّ التخصيص المستهجن.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم(قدس سرّه) فصّل بين صور التعارض:

فحكم في بعضها بعدم صحّة الترتيب في العلاج، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات إلى الدليل نسبةً واحدة، كما لو كانت نسبتها نسبة الخاصّ إلى العامّ، نظير: ما لو ورد: (أكرم العلماء)، ثمّ ورد: (لا تكرم النحويّين)، و(لا تكرم الصرفيّين).

وحكم في البعض الآخر بملاحظة الترتيب في العلاج، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات مختلفة، كما إذا ورد عامّ ثمّ ورد عامّ آخر نسبته مع الأوّل نسبة العموم من وجه، ثمّ ورد مخصّص لأحدهما، نظير: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق من العلماء)، و(يستحبّ إكرام العدول)؛ فإنّه حكم بتخصيص (أكرم العلماء)، بدليل: (لا تكرم فسّاقهم)، فتنقلب نسبته إلى دليل: (يستحبّ إكرام العدول) إلى نسبة الأخصّ مطلقاً فيتخصّص به. وتكون النتيجة:حرمة إكرام فسّاق العلماء ووجوب إكرام عدولهم، واستحباب إكرام العدول من غير العلماء.

ص: 351

وقد استدلّ على صحّة عدم الترتيب في الأوّل:

أوّلاً: بأنّ تقديم أحد الخاصّين المعيّن على العامّ، ثمّ ملاحظة نسبة العامّ مع الخاصّ الآخر، ترجيح بلا مرجّح، فيتعيّن ملاحظتهما معاً بالنسبة إلى العامّ.

وثانياً: بأنّه مع تخصيص العامّ بأحد المخصّصين، لا ينعقد له ظهور في الباقي إلّا مع إحراز عدم المخصّص، ومع وجود الخاصّ الآخر لا مجال لإحراز عدم المخصّص حتى بالأصل، فلا ينعقد له ظهور في الباقي كي يصلح لمعارضة الخاصّ الآخر، وملاحظة النسبة بينهما.

وبالجملة: انعقاد ظهور العامّ في الباقي حتى يكون صالحاً للمعارضة يتوقّف على العلاج بالنسبة إلى الخاصّ الآخر ونفي مخصّصيّته، والعلاج بالنسبة إليه يتوقّف على انعقاد ظهوره كي تلاحظ النسبة بينه وبين الدليل الآخر.

وبهذا الدليل دفع توهّم صحّة الترتيب في العلاج، مع كون أحد الخاصّين ثابتاً بالإجماع أو العقل؛ فإنّه وإن أقرّه في نفس الترتيب؛ لأنّه يكون كالمخصّص المتّصل الذي لا إشكال في تقدّمه على العامّ، لكنّه لم يقرّه في دعوى انقلاب النسبة به كما ادّعاه المتوهّم.

واستدلّ على ملاحظة الترتيب في الثاني:

باستلزام عدم الترتيب لمحذور طرح النصّ أو طرح الظاهر في مدلوله أجمع؛ وذلك لأنّه لو لم يرتّب في العلاجوقدّم العامّ الآخر وخصّص به

ص: 352

العامّ، كما لو خصّص (أكرم العلماء) ﺑ (يستحبّ إكرام العدول)، فإمّا أن يخصّص العامّ بالخاصّ، وهو (لا تكرم فسّاق العلماء) أو لا. فعلى الثاني: يلزم طرح النصّ؛ لأنّ الخاصّ نصّ في مدلوله، والعامّ ظاهر فيه، وعلى الأوّل: يلزم طرح الظاهر مطلقاً، وهو ممنوع؛ لأنّ العامّ نصّ في منتهى التخصيص، فيلزم من طرحه طرح أحد النصّين، وهو محذور كما لا يخفى(1).

وأمّا المحقّق النائيني(قدس سرّه) فقد ذكر وجهاً لتقريب انقلاب النسبة، وتوضيحه:

أنّ للكلام دلالاتٍ ثلاث:

أ. دلالة تصوّريّة، وهي انتقال المعنى من اللّفظ عند إبرازه، وهي لا تتوقّف على صدور اللّفظ عن اختيار وإرادة، وهي نفس الدلالة الوضعيّة عند بعض.

ب. ودلالة تصديقيّة، وهي الحاصلة من ضمّ بعض أجزاء الكلام إلى بعض، وملاحظة القرائن المحفوف بها الكلام، فقد يكون دالّاً على غير المعنى الوضعيّ الأوّليّ، لوجود القرائن المغيّرة لظهوره الأوّليّ، ويسند المجموع إلى المتكلّم، ويُحكم بأنّه قصد تفهيم هذا المعنى المستفاد من الكلام. وهذه الدلالة تتوقّف على صدور الكلام عن إرادةٍ وقصد.

ص: 353


1- انظر في جميع ما ذكرناه: فرائد الاُصول 4: 102.

ج. ودلالة ثالثة على كون المعنى المقصود تفهيمه هو المراد جدّاً وواقعاً، ويعبّر عنها - أيضاً - بالدلالة التصديقيّة في الكشف عن المراد الجدّيّ.

وموضوع الحجّيّة إنّما هو القسم الثالث من الدلالات المذكورة؛ فإنّ الكشف النوعيّ للكلام عن المراد الجدّيّ هو الذي يكون موضوعاً للحجّيّة والاعتبار عند العقلاء.

والمعارضة بين الأدلّة إنّما هي باعتبار الكشف النوعيّ لكلٍّ منها عن المراد الجدّيّ المنافي للآخر، بحيث لا يمكن الالتزام بكلٍّ منها، وإلّا، فمع الغضّ عنه لا تعارض بين الأدلّة بلحاظ المستعمل فيه في كلٍّ منها؛ إذ مع العلم بأنّه لا مراد جدّيّاً على طبق المستعمل فيه والمقصود بالتفهيم لا يكون هناك تزاحم وتعارض بين الأدلّة.

وإليك نصّ ما أفاده«:

«وقد أشرنا إلى الوجه في انقلاب النسبة في مثل هذه الموارد، وحاصله: أنّ ملاحظة النسبة بين الأدلّة إنّما هي لأجل تشخيص كونها متعارضة أو غير متعارضة.

وقد تقدّم: أنّ تعارض الأدلّة إنّما هو لأجل حكايتها وكشفها عمّا لا يمكن جعله وتشريعه لتضادّ مؤدّياتها، فالتعارض بين الأدلّة إنّما يكون بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الأمريّ.

ومن الواضح: أنّ تخصيص العامّ يقتضي تضييق دائرة كشفه وحكايته؛

ص: 354

فإنّ التخصيص يكشف - لا محالة - عن عدم كون عنوان العامّ تمام المراد، بل المراد هو ماوراء الخاصّ؛ لأنّ دليل الخاصّ لو لم يكشف عن ذلك يلزم لغويّة التعبّد به وسقوطه عن الحجّيّة، فلازم حجّيّة دليل المخصّص هو سقوط دليل العامّ عن الحجّيّة في تمام المدلول وقَصْر دائرة حجّيّته بما عدا المخصّص، وحينئذٍ: لا معنى لجعل العامّ بعمومه طرف النسبة؛ لأنّ النسبة إنّما تلاحظ بين الحجّتين، فالذي يكون طرف النسبة هو الباقي تحت العامّ الذي يكون العامّ حجّةً فيه، فلو خصّص أحد العامّين من وجه بمخصّص متّصل أو منفصل يسقط عن الحجّيّة في تمام المدلول، ويكون حجّةً فيما عدا عنوان الخاصّ، فتلاحظ النسبة بينه بمقدار حجّيّته وبين العامّ الآخر، ولا محالة تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق»(1).

وخلاصة الكلام في المقام: أنّ جهة انقلاب النسبة هو أنّ العامّ قبل تخصيصه يكون حجّة دالّة على تمام المدلول، ولكن بعد ورود الخاصّ، ولو كان منفصلاً، لا يكون حجّة إلّا فيما عدا مدلول الخاصّ، فقهراً تتضيّق دائرة حجّيّته. وقد تقدّم آنفاً أنّ التعارض يقع بين حجّتين أو الحجج باعتبار كشفها عن المراد الواقعيّ، وعدم إمكان اجتماعهما، أو عدم اجتماعها، إذا كانا، أو كانت، مراداً واقعيّاً، فحينئذٍ: تتغيّر النسبة بينهما بتغيّر مدلولهما. والقول بعدم تغيّر النسبة، وعدم انقلابها، بعد

ص: 355


1- فوائد الاُصول 4: 747 - 748، بتصرّف يسير.

وجود المخصّص المنفصل مساوق للقول بعدمتضييق دائرة حجّيّة العامّ بواسطته، وهو كما ترى، ولا يقول به من ينكر الانقلاب في النسبة.

تتميم :في نسبة أدلّة ضمان العارية بعضها إلى بعض:

وقد ذكر اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه) - كما في مصباح الاُصول - «أنّ الأخبار الواردة في ذلك الباب على طوائف:

منها: ما يدلّ على نفي ضمان العارية بقول مطلق.

ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان مع عدم الاشتراط وإثباته معه.

ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدراهم وإثباته فيها.

ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدنانير وإثباته فيها.

ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضّة وإثباته في عاريتهما».

ثمّ ذكر) بعد ذلك: أنّ نسبة ما يدلّ على ثبوت الضمان مع الاشتراط مع سائر المخصّصات هي نسبة العموم من وجه؛ «إذ ربما يكون الاشتراط في غير عارية الدرهم والدينار، وربما يكون الاشتراط في عاريتهما، وربما تكون عارية الدرهم أو الدينار بلا اشتراط. وكذا الحال بالنسبة إلى ما يدلّ على الضمان في عارية الذهب والفضّة، فإنّ النسبة بينه وبين ما يدلّ على الضمان مع الاشتراط أيضاً العموم منوجه، فمقتضى القاعدة هو تخصيص العامّ بجميع هذه المخصّصات».

ص: 356

إلى أن قال: «وأمّا ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدرهم وإثباته فيها، وما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدينار وإثباته فيها، فهما بمنزلة رواية واحدة دالّة على نفي الضمان في غير عارية الدرهم والدينار، وإثباته في عاريتهما»؛ لأنّ العقد الإيجابيّ من كلّ منهما يقيّد العقد السلبيّ من الآخر؛ لأنّه ينافيه وأخصّ منه، فيجمع بينهما كذلك، ويكونان بمنزلة دليل واحد، وتقع المعارضة بعد ذلك بينه وبين ما دلّ على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضّة وإثباته فيهما؛ لأنّ النسبة بين العقد السلبيّ لهذا الدليل وبين العقد الإيجابيّ لما دلّ على نفي ضمان غير عارية الذهب والفضّة هي العموم من وجه؛ لأنّ العقد السلبيّ لهذا الدليل مفاده نفي الضمان عن غير عارية الدرهم والدينار، سواء كان ذهباً أم فضّةً أم غيرهما، والعقد الإيجابيّ لذلك مفاده إثبات ضمان عارية الذهب والفضة، سواء كان درهماً أم ديناراً أم غيرهما من غير المسكوك.

ويدور الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين، ومقتضى القاعدة هو التساقط، إلّا أنّها غير تامّة ههنا؛ لأنّ رفع اليد عن إطلاق دليل ثبوت ضمان عارية الذهب والفضّة في مورد المعارضة بالتساقط - يلزم تخصيصه بالفرد النادر -؛ لأنّإعارة الدينار والدرهم نادرة؛ لعدم الانتفاع بها مع بقاء عينها غالباً، وهو مستهجن(1).

ص: 357


1- انظر: مصباح الاُصول 2: 476 - 477.

ولا بأس هنا باستعراض تلك الطوائف من الروايات الواردة في باب العارية، مع الإشارة إلى كيفيّة الجمع فيما بينها، فنقول:

من هذه الروايات:

ما يدلّ على عدم الضمان في العارية مطلقاً من حيث المستعير والمال، أو الشيء المستعار، كصحيحة الحلبي عن الصادق(علیه السلام):

«ليس على مستعيرٍ عارية ضمان، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن»(1).

ومنها: ما يدلّ على عدم ضمان العارية مطلقاً من حيث المال المستعار، ولكن من حيث المستعير مشروط بكونه مأموناً، كرواية مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد'، قال:

«سمعته يقول لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأموناً»(2).

ومنها: ما يدلّ على عدم الضمان إلّا في عارية الدراهم، كرواية عبد الملك عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:«ليس على صاحب العارية ضمان إلّا أن يشترط صاحبها، إلّا الدراهم، فإنّها مضمونة، اشترط صاحبها أو لم يشترط»(3).

ومنها: ما يدلّ على عدم الضمان إلّا في عارية الدنانير، كرواية عبد اﷲ

ص: 358


1- وسائل الشيعة 19: 93، باب 1 من أبواب كتاب العارية ح 6.
2- وسائل الشيعة 19: 94، باب 1 من أبواب كتاب العارية ح 10.
3- وسائل الشيعة 19: 97، باب 3 من أبواب كتاب العارية ح 3.

ابن سنان قال:

«قال أبو عبد اﷲ(علیه السلام) لا تضمن العارية، إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمان، إلّا الدنانير فإنّها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضماناً»(1).

ومنها: ما يدلّ على عدم الضمان إلّا في عارية مطلق الذهب والفضة، كرواية اسحاق بن عمار عنه(علیه السلام):

«قال: العارية ليس على مستعيرها ضمان إلّا ما كان من ذهب أو فضّة، فإنّهما مضمونان، اشترطا أو لم يشترطا»(2).

فإذا لاحظت هذه الطوائف من أخبار الباب نقول:

لا يخفى: أنّ الطائفة الاُولى والثانية مشتركان في نفي الضمان مطلقاً، من أيّ جنسٍ كان المال المستعار، من الدنانير أو الدراهم أو غيرهما، من الذهب أو الفضة أوغيرهما، وإنّما الاختلاف بين الطائفتين في أنّ الطائفة الثانية تشترط كون المستعير مأموناً.

ومعه: فيمكن حمل الطائفة الاُولى على الثانية، وتكون النتيجة: أنّه إنّما لا يكون هناك ضمان فيما إذا كان المستعير مأموناً.

وأمّا الطائفة الثالثة والرابعة فلكلٍّ منهما عقد سلبيّ وعقد إيجابيّ.

أمّا العقد السلبيّ في الثالثة - وهي رواية عبد الملك عن أبي

ص: 359


1- وسائل الشيعة 19: 96، باب 3 من أبواب كتاب العارية ح 1.
2- وسائل الشيعة 19: 97، باب 3 من أبواب كتاب العارية ح 4.

عبد اﷲ(علیه السلام) - هو عدم الضمان في كلّ عارية إذا لم يشترط صاحبها الضمان، إلّا في عارية الدراهم، فكلّ عارية غير عارية الدراهم اذا لم يشترط فيها صاحبها الضمان من أيّ جنسٍ كان ليس فيها ضمان. والعقد الإيجابيّ هو أنّه في عارية الدراهم ضمان مطلقاً.

فهذا العقد الإيجابيّ يخصّص العمومات أو يقيّد المطلقات التي كان مفادها عدم الضمان في كلّ عاريةٍ من أيّ جنسٍ كان؛ لأنّه أخصّ منها.

وكذلك الطائفة الرابعة، أي: رواية عبد اﷲ بن سنان، فهي - أيضاً - لها عقد سلبيّ وعقد إيجابيّ، فالعقد السلبيّ فيها عبارة عن: عدم الضمان في كلّ عارية لم يشترط فيها الضمان من أيّ جنسٍ كان، إلّا أن تكون من جنس الدنانير، والعقد الإيجابيّ فيها عبارة عن ثبوت الضمان في عارية الدنانير مطلقاً، سواء اشترط صاحبها الضمان أم لم يشترط.وهذا العقد الإيجابيّ في هذه الطائفة - أيضاً - يخصّص العمومات التي كان مفادها عدم الضمان مطلقاً من أيّ جنسٍ كان؛ لأنّه - كذلك - أخصّ منها.

وقد عرفنا سابقاً أنّه لو كان للعامّ مخصّصات متعدّدة ﻛ (أكرم العلماء) ثمّ جاء (لا تكرم الشعراء) ثمّ ورد (لا تكرم الأدباء) ثمّ ورد (لا تكرم البصريّين) ثمّ ورد (لا تكرم الكوفيّين) فإنّ العامّ يُخصّص بالكلّ، ما لم يصل إلى حدّ التخصيص المستهجن.

ص: 360

الأمر التاسع :في مقتضى القاعدة الأوّليّة عند عدم المرجّح:

اشارة

لو لم تكن لأحد المتعارضين من ناحية الدلالة مزيّة وتعذّر الجمع العرفيّ، فهل مقتضى القاعدة الأوّليّة هو التساقط - مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير - أم لا؟

بل مقتضى القاعدة الأوّليّة عدم سقوطهما، بل لابدّ من الجمع بينهما ولو بنحوٍ من التأويل.

والكلام في هذه المسألة يقع في مقامين: الأوّل: بناءً على الطريقيّة. والثاني: بناءً على السببيّة.

أمّا المقام الأوّل:

فحيث إنّ مضمونها ومؤدّاهما لا يمكن أن يكون مجعولاً جمعاً؛ لكونه من اجتماع الضدّين أو النقيضين مطابقةً أو التزاماً، فلا يمكن أن يكون كلاهما طريقاً وكاشفاً عن الحكمالواقعيّ، فمع العلم بأنّهما ليسا بمجعولين جمعاً كيف يمكن أن يقول أحد بأنّ كليهما - جمعاً - طريق.

وحاصل الكلام: أنّه بناء على الطريقيّة، فكلّ واحدٍ منهما ليس حجّة في خصوص مؤدّاه. وأمّا بالنسبة إلى نفي الحكم الثالث، فإن كان التعارض بينهما من جهة تنافي مؤدّاهما وعدم إمكان اجتماعهما؛ لاستلزامه اجتماع الضدّين أو النقيضين، فهما يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة، فإذا ورد روايتان مفاد إحداهما وجوب صلاة الجمعة، ومفاد

ص: 361

الأُخرى استحبابها، فهما مشتركان في نفي الكراهة والحرمة والإباحة بالدلالة الالتزاميّة، فالمدلول المطابقيّ لإحداهما الوجوب، وللأُخرى الاستحباب، إذ لازم كونه واجباً، وكذلك مستحبّاً، أنّه ليس محكوماً بسائر الأحكام الخمسة.

فإن قلت: دلالة الجملة على المعنى الالتزاميّ فرع دلالتها على المعنى المطابقيّ، وفي المقام، ليس الخبران حجّة بالنسبة إلى مدلولهما المطابقيّ؛ لسقوطهما عن الحجّيّة بالنسبة إليه، كما هو المفروض.

قلنا: إنّ تبعيّة دلالة اللّفظ والكلام على مدلوله الالتزاميّ لدلالته عن مدلوله المطابقيّ في عالم الوجود، لا في عالم الحجّيّة، فيمكن التفكيك في عالم الحجّيّة بعد وجودهما معاً لوجود محذور في حجّيّة إحداهما دون الأُخرى، كما في المقام؛ لأنّه في المثل المذكور لكلّ واحدٍ منهما دلالة مطابقيّة، وهي دلالتهما في نفس مؤدّاهما من الوجوب في إحداهماوالاستحباب في الأُخرى. والأُخرى التزاميّة، وهي دلالة كلٍّ منهما على نفي غير مؤدّاهما، فبالنسبة إلى نفي غير مؤدّى الاثنين كلاهما مشتركان فيها، بخلاف حجّيّة دلالتهما المطابقيّة؛ فإنّ فيها استلزام اجتماع الضدّين أو النقيضين، ولأجل ذلك يقع التفكيك في الحجّيّة بين الدلالتين.

وأمّا إذا كان التعارض بينهما لأجل دليلٍ خارجيٍّ على أنّ كلا المؤدّيين غير مجعول من دون أن يكون بين نفس المؤدّيين - من حيث أنفسهما - تضادّ أو تناقض، كما في الروايتين الواردتين في صلاة يوم الجمعة، حيث

ص: 362

إنّ إحداهما تدلّ على وجوب صلاة الجمعة في يومها، والأُخرى على وجوب صلاة الظهر فيه.

وليس بينهما تضادّ وتنافٍ في أنفسهما، ولكن من جهة وجود دليلٍ خارجيّ على عدم مجعوليّتهما جميعاً يقع بينهما التعارض.

ففي مثل هذا القسم لا يدلّان إلّا على إثبات مؤدّاهما من دون دلالتهما على نفي حكمٍ آخر، بل كلّ واحدٍ منهما يدلّ على مؤدّاه، أي: وجوب صلاة الظهر - مثلاً - أو وجوب صلاة الجمعة، فلو سقطا بالتعارض واحتملنا وجوب صلاة أُخرى في ذلك اليوم لا مانع من إجراء البراءة.

نعم، لو علمنا بوجوب صلاةٍ في ذلك اليوم، والتعارض وقع في تعيين ذلك الواجب، فأحد الدليلين كان مفاده أنّ الصلاة الواجبة في يوم الجمعة - مثلاً - هي خصوص صلاة الجمعة، وكان مفاد الدليل الآخر أنّ الصلاة الواجبة المعلوم وجوبهافي يوم الجمعة هي إمّا صلاة الظهر وإمّا صلاة الجمعة، فلو تساقط الدليلان بالتعارض لا يمكن إجراء البراءة، بل لابدّ من الاحتياط بالجمع بين الصلاتين، أي: صلاة الظهر وصلاة الجمعة، من باب لزوم الاحتياط ووجوب الموافقة القطعيّة في أطراف العلم الإجماليّ، ومثال ورود الروايتين اللّتين تدلّ إحداهما على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة والأُخرى على وجوب صلاة الظهر من هذا القبيل.

هذا كلّه بناءً على الطريقيّة.

ص: 363

وأمّا المقام الثاني:

أي: بناءً على السببيّة والموضوعيّة، فهل مقتضى القاعدة - أيضاً - هو تساقطهما، أو لا، بل مقتضى الأصل هو التخيير؟

فنقول: السببيّة والموضوعية على أربعة أقسام:

الأوّل: هو كون الأحكام الواقعيّة تابعةً لآراء المجتهدين، وليس هناك في الواقع أحكام واقعيّة محفوظة بحيث قد يصيب المجتهد ويصل إليها بواسطة الأمارات والأدلّة، وقد يخطئ، ولذا سمّوا ﺑ «المصوّبة»؛ لأنّه بناءً على هذا المسلك الباطل لا يمكن وقوع الخطأ في اجتهاداتهم، وهذا هو التصويب الأشعريّ المحال.

الثاني: أن تحدث في مؤدّى الأمارات والاُصول بواسطة قيامهما على الحكم الشرعيّ مصلحة أو مفسدة تكون غالبة على المصلحة أو مفسدة الواقع، فيكون الحكم مجعولاً على طبقهما دون الواقع، فيكون الحكم الواقعيّ الفعليّ هو مؤدّىالأمارات والاُصول، ويبقى الحكم الواقعيّ الأصليّ في مرتبة الشأن، وهذا هو التصويب المعتزليّ، وليس بمحال، ولكنّ الإجماع منعقد على خلافه، وإن كان يظهر كلام جماعةٍ قبول هذا القسم.

الثالث: هو القول بالمصلحة السلوكيّة.

الرابع: هو ما عن المحقّق العراقي(قدس سرّه) من أنّ متعلّقات وموضوعات الأحكام لها مصالح ومفاسد في الرتبة السابقة على الجهل بتلك الأحكام،

ص: 364

وهي مناطات الأحكام الواقعيّة، ولها مصالح ومفاسد في الرتبة المتأخّرة عن الجهل بها، وهي مناطات الأحكام الظاهريّة.

والفرق بين هذا القسم وبين القسم الثاني، وهو السببيّة المعتزليّة، أنّه في القسم الثاني تنكسر المصالح والمفاسد الواقعيّة، فلا تقتضي جعلاً على طبقها، فليس في البين إلّا تلك الأحكام الظاهريّة.

وأما في هذا القسم، فلكلّ متعلّق وموضوع جُعل حكمان: واقعيّ وظاهريّ، ولا تناقض ولا تضادّ في البين؛ لاختلاف الرتبة بين الحكمين، فلا الحكم الواقعيّ ينزل إلى رتبة الحكم الظاهريّ، ولا الحكم الظاهريّ يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، بل كلّ منهما يقف على موضوعه، وقد تقدّم وجه البطلان في مسألة الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وذكرنا هناك أنّ الحكم الظاهريّ ولو لم يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، إلّا أنّ الحكم الواقعيّ بإطلاقه يشمل حتىمرتبة الظاهر، وينزل حتى إلى تلك المرتبة، فيحصل منه اجتماع للضدّين.

ثمّ لا يخفى: أنّ مقتضى القاعدة بناءً على السببيّة التصويبيّة بكلا قسميها، أي: الأشعريّة والمعتزليّة، بل حتى بناءً على السببيّة المخطّئة - وهي التي قال بها المحقّق العراقي(قدس سرّه) - هو التخيير؛ لأنّه لو فرض أن الأخبار كانت على نحو السببيّة، وكان في كلّ واحدٍ منها ملاك ومصلحة، فالعقل يحكم بالامتثال بمقدار القدرة، وهو أن يمتثل أحدهما في ظرف عدم امتثال الآخر.

ص: 365

أمّا إذا كانت إحدى الأمارتين تثبت حكماً، والأُخرى تنفي ذلك الحكم، بحيث تكون الأمارتان مختلفتين في الإيجاب والسلب، ويكون الجمع بين مفاديهما من قبيل الجمع بين النقيضين، لا الضدّين، فلا يمكن القول بالتخيير، بعد أن كان مفاد إحدى الأمارتين هو رفع مؤدّى الأُخرى، بل من جهة أنّ أحد الملاكين، ملاك الحرمة أو ملاك الوجوب، غير موجود، فلا وجه للقول بالتخيير حينئذٍ.

وأمّا السببيّة بمعنى أن تكون المصلحة في سلوك الأمارة:

فربّما يقال: بأنّ مقتضى الأصل - أيضاً - هو التخيير؛ لأنّ في سلوك كلٍّ من الطريقين المتعارضين مصلحة يجب استيفاؤها مع الإمكان. ولكن حيث لا يمكن سلوك كليهما؛ لأنّه مستلزم لاجتماع الضدّين أو النقيضين، فالعقل يحكم بلزوم استيفاء إحدى المصلحتين لأنّه ممكن، وهذا هو التخيير.ولكنّ الحقّ: أنّ المصلحة السلوكيّة - بناءً على القول بها - تعني أنّ المولى يجعل مصلحةً في الطريق لأجل ما فات العبد من مصلحة الواقع بسبب جعل هذه الأمارة حجّة وطريقاً، فإذا سقطت طريقيّته بواسطة التعارض، فليس هناك طريق حتى يكون لسلوكه مصلحة، فليس هناك مصلحة سلوكيّة في البين حتى تكون مستدعيةً لحكم العقل بالتخيير.

وخلاصة الكلام: أنّه بعد ما عرفنا أنّ التزاحم الموجب للتخيير على تقدير عدم كونه مختصّاً بمورد الحكمين المتزاحمين، فهو لا يثبت إلّا

ص: 366

بين المصلحتين المتزاحمتين، اللّتين لا يمكن استيفائهما معاً، ولكن يمكن استيفاء أحدهما غير المعيّن. وهذا لا يأتي في محلّ الكلام، حيث إنّ المتعارضين سقطا عن الطريقيّة، فليس في سلوكهما مصلحة حتى يحكم العقل بالتخيير في استيفاء أيّهما شاء.

الأمر العاشر :حكم الخبرين بعد أن كان مقتضى الأصل تساقطهما:

اشارة

لا يخفى: أنّ ما قلناه من سقوط الخبرين المتعارضين كان بمقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة، وإلّا، فبمقتضى الأخبار العلاجيّة المستفيضة، بل المتواترة، في هذا الباب، فلا إشكال في عدم التساقط إذا لم يكن لأحدهما مرجّح أو مزيّة، بل كانا متكافئين من جميع الجهات.

نعم، اختلفت آراء الأصحاب بعد ذلك على أقوالٍ عدّة:الأوّل: وهو المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع، وهو الحكم بالتخيير والأخذ بأيّهما شاء.

والثاني: التوقّف في الفتوى والعمل بما يوافق الاحتياط، ولو كان الاحتياط مخالفاً لهما، كالجمع بين القصر والإتمام إذا تعارضت الأدلّة بالنسبة إليهما. والمراد من التوقّف في الفتوى أن يتوقّف في الفتوى على طبق أحدهما.

الثالث: العمل بما يطابق منهما الاحتياط، فإن لم يكن فيهما ما يطابق الاحتياط فلابدّ من التخيير بينهما.

ص: 367

ومنشأ هذا الاختلاف في الآراء هو اختلاف الأخبار، فلابدّ من النظر فيها للوقوف على أصحّ الأقوال، بعدما عرفنا أنّ القاعدة الأوّليّة بحكم العقل هي التساقط، فكيف يمكن القول بعدم تساقطهما حينئذٍ، بل كيف يصحّ القول بالتخيير بينهما مع وجود منافاة ظاهرة بين الحكم بالتساقط وبين الحكم بالتخيير.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّه لو فرض قيام الإجماع أو ورود الأخبار بعدم تساقط المتعارضين، فإنّ هذا يكون كاشفاً عن جعل جديدٍ لحجّيّة أحد الخبرين بالفعل لا على التعيين، وذلك لا يتنافى مع ما قلناه سابقاً من تساقط المتعارضين بناءً على الطريقيّة؛ لأنّ حكمنا بالتساقط إنّما كان من جهة عدم قصور أدلّة حجّيّة الأمارة عن شمولها للمتعارضين أو لأحدهما لا على التعيين.ولكن لا يضرّ في ذلك أن يرِد دليل خاصّ يتضمّن بيان حجّيّة أحدهما غير المعيّن بجعلٍ جديد، لا بنفس الجعل الأوّل الذي تتضمّنه الأدلّة العامّة.

وهذا لا يستلزم القول بكون الأمارة مجعولة على نحو السببيّة؛ لأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان عدم التساقط باعتبار الجعل الأوّل الذي تتضمّنه الأدلّة العامّة.

وبعبارة أُخرى: لو كنّا نحن وتلك الأدلّة العامّة الدالّة على حجّيّة الأمارة، فإنّه لا يبقى دليل لنا على حجّيّة أحد المتعارضين؛ لقصور

ص: 368

تلك الأدلّة عن شمولهما لهما، فلابدّ أن نحكم بعدم الحجّيّة لكليهما معاً.

ولكن بعد فرض ورود دليل خاصّ في صورة التعارض بالخصوص على حجّيّة أحدهما، فلابدّ من الأخذ به، ويدلّ على أنّ أحدهما حجّة بجعل جديد.

وعلى هذا، ومع أنّ التعارض بناءً على القاعدة الأوّليّة موجب للتساقط، إلّا أنّ الذي يستفاد من هذا الدليل الخاصّ هو قاعدة ثانويّة مجعولة من قبل الشارع.

وأمّا التخيير، فلا يمكن أيضاً استفادته من الأدلّة العامّة لأنّه لا نفهم منها لا المعذّريّة والمنجّزيّة، بل يجوز ترك العمل بهما معاً، وإن استلزم مخالفة الواقع؛ إذ لا منجز للواقع بالمتعارضين بمقتضى هذه الأدلّة العامّة.

وأمّا بالنسبة إلى الدليل الخاصّ والجعل الجديد فإنّه يكشف عن أنّ كلّ واحدٍ من المتعارضين منجّز للواقع على تقدير إصابته له، ومعذّر للمكلّف على تقدير خطئه، فلا يجوزللمكلّف ترك العمل بكليهما معاً؛ لأنّه لو تركهما فلا منجّزيّة لأحدهما غير المعيّن ولا معذّريّة، فلا يكون له معذّر عندئذٍ في مخالفة الواقع، مع أنّه لو أخذ أحدهما وخالف الواقع كان معذوراً، فهو مخيّر في الأخذ بأحدهما، فإن صادف الواقع فقد تنجّز به، وإن خالف الواقع كان معذوراً.

ص: 369

فإذا اتّضح ذلك، نقول:

اعلم أنّ أخبار الباب على أقسام:

منها: ما يدلّ على التخيير مطلقاً.

ومنها: ما يدلّ على التخيير في صورة التعادل.

ومنها: ما يدلّ على التوقّف.

ونشير فيما يلي إلى بعض هذه الأخبار:

1- خبر الحسن بن جهم عن الرضا(علیه السلام) قال: «قلتُ: يجيئنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(1).

وهذا الحديث يدلّ على التخيير بين المتعارضين مطلقاً، من دون تقييد ولا اشتراط بشيء، ولكنّ صدر هذه الرواية الذي لم نذكره دالّ على عرضهما على الكتاب والسنة أوّلاً، فهي دالّة على أنّ التخيير إنّما هو بعد فقدان المرجّح، ولو في الجملة.فذيل الحديث يقيّد بالصدر؛ لأنّ ما ورد فيه أنّ التخيير إنّما يرد بعد فقدان المرجّح، حيث قيّده بالعرض على الكتاب والسنّة.

2- خبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث، وكلّهم ثقة، فموسّع عليك حتى ترى القائم(علیه السلام) فتردّ

ص: 370


1- وسائل الشيعة 27: 121 - 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح40.

إليه»(1).

ويمكن أن يقال: بأنّ هذه الرواية - أيضاً - تدلّ على التخيير مطلقاً في زمان عدم التمكّن من الوصول إلى الإمام(علیه السلام)، إلى زمان التمكّن منه(علیه السلام).

ولكنّها واردة في فرض التمكّن من لقاء الإمام والأخذ منه، فلا يمكن التمسّك به، لعدم العلم بشموله لزمان الغيبة؛ فإنّ الرخصة في التخيير في المدّة القصيرة لا تستلزم الرخصة في التخيير أبداً، ولا تدلّ عليها.

3- ذيل مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال: «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(2). فقد دلّت هذه الرواية على التوقّف في زمان الحضور والتمكّن من الوصول إليهم(. وهي ظاهرة في أنّه بعد فقد المرجّحات يجب التوقّف عند التعادل.4- منها مكاتبة علي بن عيسى كتب إليه(علیه السلام) يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك(علیهم السلام)قد اختلف علينا فيه... فكتب(علیه السلام): «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(3).

فقد يستفاد منها: أنّها دالّة على التوقّف مطلقاً، سواء كان في حال

ص: 371


1- وسائل الشيعة 27: 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح41.
2- تهذيب الأحكام 6: 302 - 303، باب من الزيادات في القضايا والأحكام، ح 52.
3- وسائل الشيعة 27: 119 - 120، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح36.

الحضور أم في حال الغيبة.

ولكن فيه: أنّ هذه المكاتبة خارجة عن محلّ البحث؛ إذ هي ليست ظاهرةً في التوقّف، بل ظاهرها: أنّه لابدّ من الأخذ بالخبر المعلوم الصدور، وردّ المشكوك إليهم، ولا يجوز العمل به؛ لعدم حجّيّته، فمفادها أجنبيّ عن محلّ البحث.

وعلى هذا الأساس، يتلخّص أنّ أخبار الباب على ثلاث طوائف:

أمّا الاُولى والثانية منها فتدلّان على التخيير مطلقاً، أو مقيّداً بزمان الحضور.

وأمّا الثالثة، فهي تدلّ على التوقّف في حال الحضور.

وليس بين الأُوليين تعارض؛ لما ذكرناه في محلّه من أنّ التقييد إمّا أن يكون في المتخالفين بالسلب والإيجاب، أو فيما إذا أُحرز في المثبتين وحدة المطلوب وأنّ المطلوب هو صرف الوجود.

وأمّا إذا كان المطلوب في المطلق هو الطبيعة المرسلة، فلا وجه للتقييد حينئذٍ. فيقع التعارض بين ما دلّ على التوقّف فيحال الحضور، وما دلّ على التخيير في أيّ زمانٍ مطلقاً، فيتعارضان ويتساقطان، وتكون النتيجة هي الأخذ بالأخبار الدالّة على التخيير مطلقاً، أي: سواء كان في زمان الحضور أم الغيبة، لا في خصوص زمان الغيبة.

5- مكاتبة عبد اﷲ بن محمّد إلى أبي الحسن(علیه السلام): «اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم:

ص: 372

أن صلّهما في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلّهما إلّا على الأرض، فأعلمني، كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقّع(علیه السلام): موسّع عليك بأيّةٍ عملْت»(1).

6- جواب مكاتبة الحميري إلى الحجّة(علیه السلام): «في الجواب عن ذلك حديثان: أمّا أحدهما: فإذا انتقل من حالةٍ إلى أُخرى فعليه التكبير. وأمّا الآخر: فإنّه رُوي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية، وكبّر، ثمّ جلس، ثمّ قام، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير. وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى. وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(2).

ولكنّ هذه الرواية مكاتبة، فلا بأس بالأخذ بها إذا كان بنحو التأييد، لا الاستدلال. وهي من جهة الدلالة - أيضاً - غير تامّة، وإن استظهر البعض منها التخيير مطلقاً؛ إذ منالمحتمل قريباً أنّ المراد بيان التخيير في العمل بالتكبير، لبيان عدم وجوبه، وليس لبيان التخيير بين المتعارضين. والدليل على ذلك قوله(علیه السلام): «كان صواباً»، ومعلوم أنّ المتعارضين لا يمكن أن يكون كلاهما صواباً.

7- ومرفوعة زرارة المرويّة عن عوالي اللآلي، وقد جاء في آخرها:

ص: 373


1- وسائل الشيعة 4: 330، الباب 15 من أبواب القبلة، ح8.
2- وسائل الشيعة 27: 121، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح39.

«إذاً فتخيّر أحدهما، فتأخذ به وتدع الآخر»(1).

وهذه الرواية تامّة من ناحية الدلالة؛ لأنّها تدلّ على التخيير بعد فقد المرجّحات وفرض التعادل، لأنّ الفقرة المذكورة قد جاءت بعد ذكر المرجّحات وفرض التساوي من جميع الجهات.

وإنّما الكلام في سندها؛ فإنّها ضعيفة بسبب الرفع، إلّا أن يحصل الاطمئنان بها بعد قبول الأصحاب لها، وإلّا، فهي من أهمّ الأخبار من جهة الدلالة.

8- خبر سماعة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «سألته عن رجلٍ اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ كلاهما يرويه: أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ فقال(علیه السلام): يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعةٍ حتى يلقاه»(2).فقد استدلّ بقوله: «فهو في سعة» على التخيير مطلقاً، ولكن:

أوّلاً: هذه الرواية لا تدلّ على التخيير المطلق، بل في فرض التمكّن من لقاء الإمام أو كلّ من يخبره عن رأي الإمام بحيث يحصل من إخباره اليقين.

وثانياً: يمكن أن يقال: أنّ الاُولى في هذه الرواية أن يقال بدلالتها على

ص: 374


1- عوالي اللّآلي 4: 133، ح 229.
2- وسائل الشيعة 27: 108، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح5.

التوقّف، لا التخيير، حيث ورد فيها كلمة «أرجئه»، وأمّا عبارة «في سعة»، فهي ظاهرة في التخيير بين الفعل والترك، باعتبار أنّ الأمر في مفروض السؤال يدور بين المحذورين، وهما الوجوب والحرمة، لا التخيير بين الروايتين؛ لأنّ العمل بأحدهما لابدّ منه، وهو لا يعدّ إرجاءً، بل الإرجاء هو ترك العمل بهما معاً، فلا دلالة لهذه الرواية - إذاً - على التخيير بين المتعارضين.

وعن الكليني): أنّه في روايةٍ أُخرى: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك»(1).

فقد يقال: بأنّها دالّة على التخيير بين المتعارضين على الإطلاق، ولو كانت مذكورة في ذيل تلك الرواية.

ولكنّ الظاهر: أنّها رواية مستقلّة، والدليل على ذلك قوله(علیه السلام): «بأيّهما أخذْتَ من باب التسليم وسعك»، ولو كانت جزءاً من تلك، كان لابدّ أن يقال: «بأيّهما أَخَذَ من باب التسليم».9- وفي عيون أخبار الرضا(علیه السلام) للصدوق، في خبر طويل، جاء في آخره: «فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً، أو بأيّهما شئت، وسعك الاختيار من باب التسليم، والاتّباع، والردّ إلى رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله)»(2).

ص: 375


1- المصدر نفسه: ح6.
2- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 1: 24، باب ما جاء في الحديثين المختلفين، ح 45.

10- خبر سماعة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام)، قُلْتُ: «يَرِد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالأخذ به، والآخر ينهانا عنه؟ قال: لا تعمل بواحدٍ منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله. قُلْتُ: لا بدّ أن نعمل بواحدٍ منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامّة»(1).

11- مرسلة صاحب عوالي اللآلي، فإنّه بعد روايته المرفوعة المتقدّمة عن زرارة، قال: «وفي روايةٍ أنّه(علیه السلام) قال: إذن فأرجئه حتى تلقى إمامك فتسأله»(2).

وهذه - أيضاً - تامّة دلالةً، ولكنّها غير تامّة سنداً.

ثمّ إنّ ما ورد من إطلاقات التخيير يحمل على المقيّدات، وهو التخيير بعد فقد المرجّحات. فتكون النتيجة هي التوقّف أو الرجوع إلى التخيير بعد فقد المرجّحات.

والحقّ: أن مقتضى القاعدة الأوّليّة هو التساقط، وأخبار التوقّف - مع كثرتها وصحّة بعضها - لا تنافي قاعدة التساقط؛ لأنّ نتيجة الإرجاء والتوقّف لا تزيد على التساقط، بل هي منلوازمه، فتكون أخبار التوقّف على طبق القاعدة. وأمّا أخبار التخيير، فلا يمكنها أن تعارض أخبار التوقّف، وبالتالي: فلا يمكن الخروج بها عن القاعدة.

ص: 376


1- وسائل الشيعة 27: 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح42.
2- عوالي اللّآلي 4: 133.

وقد يقال: بأنّ أدلّة التخيير مطلقة تشمل زمن الحضور وغيره، وأخبار التوقّف مقيّدة به، فالنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فيحمل المطلق على المقيّد، لتكون النتيجة هي التخيير في زمان الغيبة.

ولكنّ الحقّ: أنّ أخبار التوقّف واردة بلسان الإرجاء إلى حين ملاقاة الإمام، ولا يستفاد منها تقييد الحكم بالتوقّف بزمان الحضور؛ لأنّ استفادة ذلك إنّما تكون بدلالة مفهوم الغاية، وقد مرّ في محلّه أنّ الغاية إذا كانت قيداً للموضوع أو المحمول فقط، فلا يكون لها دلالة على المفهوم.

نعم، يفهم منها المفهوم إذا كان التقييد بالغاية راجعاً إلى الحكم. والغاية فيما نحن فيه غاية لنفس الإرجاء، لا لحكمه، وهو الوجوب، أي: أنّ نفس الإرجاء هو المغيّى، لا الوجوب المتعلّق به.

والحاصل: أنّه لا يفهم من أخبار التوقّف إلّا أنّه لا يجوز الأخذ بالأخبار المتعارضة المتكافئة، ولا العمل بواحدٍ منها، وإنّما يُحال الأمر في شأنها إلى الإمام، ويؤجّل البتّ فيها إلى ملاقاته لتحصيل الحجّة على الحكم بعد السؤال عنه.

وبناءً على هذا، فالأخبار المتعارضة لا تصلح لإثبات الحكم، ولا يجوز الفتوى والعمل بأحدها، ويكون الأمر - حينئذٍ - منحصراً بملاقاة الإمام(علیه السلام) والسؤال عنه، فلو لمتحصل الملاقاة، لغيبة الإمام - مثلاً -، فلا يجوز الإقدام على العمل بأحد المتعارضين.

وعليه: فيكون بين هذه الأخبار وبين أخبار التخيير تباين، لا عموم

ص: 377

وخصوص، فتتعارض وتتساقط، وتكون أخبار التوقّف، كما أشرنا، مطابقةً للقاعدة.

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ من شروط التعارض أن يكون كلّ منهما حائزاً على شرائط الحجّيّة، والتعارض بينهما إنّما يتصوّر بعد فقد المرجّحات، فحجّيّة كلّ واحدٍ منهما متوقّفة على عدم كون الآخر راجحاً؛ إذ لا تعارض بين الحجّة واللّاحجّة، والمرجوح ليس بحجّة فعليّة.

فكما أنّ الواجب في باب الاُصول العمليّة هو الفحص عن الدليل في مورد الشكّ في الحكم الشرعيّ، فإذا لم يظفر بالدليل تصل النوبة إلى الاُصول العمليّة؛ لأنّ اعتبار الأصل العمليّ وحجّيّته متوقّف على عدم الدليل على الحكم الشرعيّ، فيجب أن يفحص أوّلاً لإثبات ما هو موضوع الحجّة، فكذلك في مورد البحث، فإنّ الواجب هو الفحص أوّلاً لإثبات ما هو الحجّة، فيبحث عن المرجّحات، وما يرجّح الحجّة على الأُخرى، ولو أنّ كلّ واحدة منهما في حدّ نفسها هي حجّة، وذلك من جهة أنّ التخيير إنّما يتصوّر بمعنى الأخذ بأيّة واحدةٍ من الروايتين المتعارضتين بعد فقد المزايا، فالفحص عن وجود تلك المزايا إنّما يرجع في حقيقته إلى الفحص عن الحجّة.وينبغي أن يُعلم: أنّ الأخبار التي تدلّ على التخيير لا تشمل اختلاف النسخ؛ لأنّ ظاهر قوله: «يأتي عنكم الخبران المتعارضان أو المختلفان»،

ص: 378

أو قوله: «يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين» هو أن يكون هناك روايتان وحديثان يرويان عن الإمام(علیه السلام)، وكلّ واحدٍ منهما يناقض الآخر بالدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة، واختلاف النسخ ما هو إلّا عبارة عن أنّ هناك خبراً واحداً معيّناً، هو إمّا هذا أو ذاك، أي: إمّا الموجود في هذه النسخة أو ذاك الذي في تلك.

ثمّ هل المراد من التخيير هو التخيير في العمل أو التخيير بالأخذ بإحدى الروايتين باعتبار أنّها حجّة؟

الظاهر: أنّ المراد من التخيير المستفاد من الروايات هو التخيير في المسألة الاُصوليّة، أي: التخيير في الأخذ بإحدى الروايتين بعنوان أنّهاحجّة، لا التخيير في المسألة الفرعيّة، بمعنى: كونه مخيّراً في العمل على طبق أيّة واحدةٍ شاء؛ وذلك لأنّ الظاهر من قوله(علیه السلام): «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» أنّ المراد من الأخذ بأيٍّ منهما هو الأخذ بما هو حجّة، لا مجرّد العمل على طبقه.

ويمكن أن يكون المراد من قوله(علیه السلام) «إذاً فتخيّر» هو ذلك - أيضاً -، فإنّه ظاهر في أنّ المراد من الأخذ هو الأخذ بأحدهما الذي يكون حجّة، لا صرف أنّك مخيّر في العمل على طبق أحدهما.نعم، قوله(علیه السلام): «فموسّع عليك»، ولو كان له ظهور في أنّ متعلّق التوسعة هو العمل، ولكنّه قابل للتأويل، بأن يكون المتعلّق هو الأخذ بإحداهما طريقاً إلى العمل.

ص: 379

وإذا عرفت ذلك، فهل هناك ثمرة في القول بكون التخيير بمعنى الأخذ بما هو حجّة، حتى تكون المسألة اُصوليّة، أو بمعنى التخيير في العمل، حتى تكون فرعيّة؟

قد ذكروا هنا فروقاً بينهما، نعرض عن تفصيلها حذراً من الإطناب والتطويل.

نعم، يبقى حكم الشكّ في أن التخيير هل هو في المسألة الاُصوليّة أو المسألة الفرعيّة؟ فنقول: مرجع الشكّ في المسألة الاُصوليّة إلى الشكّ في بقاء موضوع الاستصحاب؛ وذلك لأنّ موضوع الاستصحاب على تقدير كون التخيير في المسألة الاُصوليّة غير باقٍ قطعاً، وعلى تقدير كونه في المسألة الفرعيّة باقٍ يقيناً. فإذا شكّ في أنّ المسألة هي من أيٍّ من القسمين يكون الشكّ شكّاً في بقاء الموضوع، أي: في بقاء موضوع الاستصحاب.

فصل :في تقييد أدلّة التخيير بأدلّة الترجيح:

اشارة

هل التخيير بعد فقد المرجّحات، أو حتى مع وجودها، نسب إلى المشهور القول بالأوّل، وحُكِي عن بعضٍ القول بالثاني، وهو الحكم بالتخيير مطلقاً، تمسّكاً بإطلاق التخيير، وحينئذٍ: فتحمل أخبار الترجيح على الاستحباب.ولكنّ الصحيح: أنّ هذه الإطلاقات تقيّد بأدلّة الترجيح، كما هي

ص: 380

القاعدة في باب الإطلاق والتقييد، ولا يمكن التمسّك بالإطلاقات مع وجود المقيّد، فلابدّ من الخروج عن إطلاق أدلّة التخيير بظهور أدلّة الترجيح في الوجوب؛ فإنّ المطلق مهما بلغ من الظهور لا يقاوم المقيّد لأظهريّته وحاكمية المقيّد.

ويدلّ على قول المشهور روايات:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة، قال: «سألْتُ أبا عبد اﷲ(علیه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما - إلى أن قال: - فإن كان كلّ واحدٍ اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حَكَما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: الحكم ما حَكَم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على صاحبه. قال: فقال: ينظر إلى ما كان من رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، - إلى أن قال: - فإن كان الخبران عنكم مشهورين، قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جُعلْتُ فداك، أرأيتَ إن كان الفقيهان عَرَفا حكمه من الكتابوالسنّة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة،

ص: 381

والآخر مخالفاً لهم، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد، فقلت: جُعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(1).

ومنها: ما عن الحسن بن الجهم، عن الرضا(علیه السلام)، قال: «قلت: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب اﷲ عزّ وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا، قلت: يجيئنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(2).

وعنه - أيضاً - عن العبد الصالح(علیه السلام): قال: «إذا جاءك الحديثان المختلفان، فقسهما على كتاب اﷲ وأحاديثنا، فإن أشبهها فهو حقّ، وإن لم يشبهها فهو باطل»(3).

ومنها: ما رواه القطب الراوندي سعيد بن هبة اﷲ، بسنده الصحيح عن الصادق(علیه السلام)، قال: «إذا ورد عليكم حديثانمختلفان فاعرضوهما على كتاب اﷲ، فما وافق كتاب اﷲ فخذوه، وما خالف الكتاب فردّوه، فإن لم

ص: 382


1- وسائل الشيعة 27: 106 - 107، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح1.
2- وسائل الشيعة 27: 121 - 122، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح40.
3- وسائل الشيعة 27: 123 - 124، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح48.

تجدوهما في كتاب اﷲ فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1).

ودلالة هذه الروايات على وجوب الترجيح بالمرجّحات المذكورة فيها واضحة لا شكّ فيها.

وأمّا أخبار التخيير، فهي وإن كانت كثيرة وقويّة، وواردة في مقام البيان، إلّا أنّ إطلاقاتها لا تعارض ظهور هذه المرجّحات المذكورة، وأكثر روايات الترجيح جمعاً وإحاطةً بهذه المرجّحات هي المرفوعة، ويليها المقبولة.

وقد أُورد على الاستدلال بكلٍّ منهما لوجوب الترجيح بإشكالات عدّة نذكر منها:

ما قد يستشكل به على المقبولة، وحاصله: أنّ مورد المرجّحات المذكورة إنّما هو الحكمان في الروايتين اللّتين هما مستند حكمهما، وفي ذلك المورد لابدّ من الترجيح لقطع الخصومة؛ إذ مع التخيير لا ترفع الخصومة، ولا ينقطع النزاع.

ولكن قد عرفت أنّ التخيير هنا هو في المسألة الاُصوليّة، أي: في أخذ أحدهما وجعله حجّة، فالترجيح - أيضاً - يكون معناه: أخذ ذي المزيّة حجّة، فإذا كان ما هو الحجّة هو الذي فيه المزيّة، وغيره ليس بحجّة، فلا فرق بين أن يكون المجتهد في مقام الحكم أو مقام

ص: 383


1- وسائل الشيعة 27: 118، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح29.

الفتوى، بل يجب فيكليهما العمل على طبق الحجّة. وأمّا احتمال أنّ الشارع قد جعل ما له المزيّة حجّةً في باب الحكم دون الفتوى فبعيد.

المرجّحات المدّعى أنّها منصوص عليها:
اشارة

ذكرنا آنفاً أنّ من شرائط تحقّق التعارض أن يكون كلّ من الدليلين حجّة وواجداً لشرائط الحجّيّة في حدّ نفسه؛ إذ لا تعارض بين الحجّة واللّاحجّة، فإذا بحثنا عن المرجّحات فمعنى ذلك: أنّنا نبحث عمّا يرجّح الحجّة على الأُخرى، بعد فرض كون كليهما حجّةً في أنفسهما، لا أنّ الكلام عن أصل حجّيّة الحجّة، أو عمّا يميّزها عن اللّاحجّة.

وكيف كان، فالمرجّحات المذكورة في الروايات والمدّعى ورود النصّ بها خمسة:

أوّلها: الترجيح بالأحدث تاريخاً.

الثاني: الترجيح بصفات الراوي.

الثالث: الترجيح بالشهرة.

الرابع: الترجيح بموافقة الكتاب.

الخامس: الترجيح بمخالفة العامّة.

ولابدّ أوّلاً - من التعرّض بالتفصيل لكلّ واحدة من هذه المرجّحات الخمسة:

ص: 384

1) الترجيح بالأحدث:

ورد بالنسبة إلى هذا الترجيح روايات عدّة، نكتفي منها بما رواه الكلينيّ)بسنده إلى أبي عبد اﷲ(علیه السلام): قال: «أرأيتك لو حدّثْتك بحديث العامّ، ثمّ جئتني من قابلٍ فحدّثتك بخلافه، بأيّهما كُنْتَ تأخذ؟ قال: قُلْتُ: كُنْتُ آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك اﷲ»(1).

فقد يقال بدلالة هذا الخبر على الترجيح.

ولكنّ الحقّ: أنّه لا دلالة بها على ما نحن فيه، أي: أنّها لا تدلّ على الترجيح بالأحدث من باب القاعدة العامّة، أي: بالنسبة إلى كلّ مكلّف، وفي جميع العصور؛ لأنّه لا دلالة على محلّ البحث إلّا أن يُفهم منها أنّ الأحدث هو الحكم الواقعيّ، ولكنّها ليست ناظرةً إلى بيان ذلك، بل لعلّ حكمه هذا كان حكماً ظاهريّاً بالنسبة إليه من باب التقيّة، لا حكماً واقعيّاً ووظيفةً عامّةً بالنسبة إلى جميع المكلّفين، وفي جميع الأزمنة، حتى في زمن الغيبة، وعليه: فلا دلالة فيها على مرجّحيّة الأحدثيّة.

2) الترجيح بالصفات:

ورد الترجيح بالصفات في مرفوعة زرارة المتقدّمة الذكر، والتي ورد فيها: «فقلت جُعِلْتُ فداك، يأتي عنكم الخبران أوالحديثان

ص: 385


1- الكافي 1: 67، باب اختلاف الحديث، ح8.

المتعارضان..

إلى أن يقول(علیه السلام): خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك» الخبر..(1).

ولكنّ هذه الرواية مرفوعة، وهي قد وردت في كتاب عوالي اللآلي، وقد طعن صاحب الحدائق) في هذا الكتاب كما في مؤلّفه، إذ قال:

«فإنّا لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللآلي، مع ما هي عليه من الرفع والإرسال، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار، والإهمال، وخلط غثّها بسمينها، وصحيحها بسقيمها»(2)، وعليه: فلا يمكن الاعتماد عليها بحالٍ من الأحوال.

فالعمدة في المقام هي مقبولة عمر بن حنظلة، المتقدّمة - أيضاً -، وفيها: «الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

وهذه الرواية تلقّاها الأصحاب بالرضا والقبول؛ فإنّ راويها هو صفوان بن يحيى الذي هو من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

وقد يستشكل في الاستدلال بهذه الرواية بأنّها واردة في باب التعارض بين الحكمين، لا الروايتين، كما هو محلّ الكلام.

ص: 386


1- عوالي اللّآلي 4: 133، ح 229.
2- الحدائق الناضرة 1: 99.

ولكن فيه: أنّ الحكم والفتوى في الصدر الأوّل كانا يقعان بنصّ الأحاديث، لا بتعبير من الحاكم أو المفتي، كما هو الحال في العصور المتأخّرة استنباطاً من الأحاديث، ولذا تعرّضت هذه المقبولة للرواية والراوي؛ لمكان ارتباط الرواية بالحكم.

وقد يستشكل في الاستدلال بها - أيضاً -: بأنّ ما يظهر من الرواية أنها مختصّة بالحاكم؛ لأنّ اعتبار شيء في الراوي بما هو حاكم مغاير لاعتباره فيه بما هو راوٍ ومحدّث.

والذي يظهر منها: أنّ ترجيح الأعدل والأورع والأفقه إنّما هو بما هو حاكم، وفي مقام نفوذ حكمه، لا في مقام قبول روايته. ويشهد لذلك أنّها جعلت من جملة المرجّحات كونه (أفقه) في عرض كونه (أعدل) و(أصدق)، وأيّ ربطٍ للأفقهيّة بترجيح الرواية من جهة كونها رواية؟(قدس سرّه)

ولكن مع ذلك، يمكن القول:

بأنّ ذكر وجوب الترجيح بها في مورد الحكمين لا يدلّ على الاختصاص بذلك المورد كما هو الحال في غالب الأخبار، فإنّ السؤال غالباً ما يكون عن الموارد الخاصّة، والإمام(علیه السلام) يجيب بما هو يعمّ المورد وغيره. مع أنّ صدر الرواية وإن كان مختصّاً بالحكمين، ولكنّه بعد ذلك يكون بصدد بيان حكم الروايتين المتعارضتين على نحو الكلّيّة، وفي أيّ مقامٍ كان، لا في خصوص مورد الحكمين.

بل يمكن أن يقال: إنّ الرواية المشتملة على مقاطع يمكن أن يكون كلّ

ص: 387

مقطع منها دالّاً على مورد، بأن يكون مقطعما ناظراً إلى مورد الحكمين - مثلاً -، وآخر ناظراً إلى مورد الروايتين المتعارضتين، ولذا نرى أنّ الرواية انتقلت بعد ذلك إلى الترجيح بالرواية بما هي رواية، معلّلةً لوجوب أخذ المشهور دون الشاذّ بقوله(علیه السلام): «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»، والحكم والفتوى مشتركان في هذا التعليل، ومن هنا، وتمسّكاً بعموم هذا التعليل، تعدّى بعضهم من المرجّحات المنصوصة إلى مطلق المرجّحات، كما سنشرحه إن شاء اﷲ.

3) الترجيح بالشهرة:

لا يخفى: أنّ الشهرة المرجّحة على قسمين: الشهرة العمليّة، والشهرة الفتوائيّة.

والشهرة الفتوائيّة يشترط في تقوية الرواية بالعمل بها أمران:

الأوّل: أن يعرف استناد الفتوى إلى الرواية، ولا يكفي مجرّد مطابقة فتوى المشهور للرواية.

والثاني: أن تكون هذه الشهرة قديمة، أي: واقعة في عصر المعصومين(، أو في العصور اللّاحقة التي تمّ فيها جمع الروايات وتحقيقها، وذلك لقرب ذلك الزمان من زمان الأئمّة، وكون الأصحاب فيه أقدر على معرفة أحوال الرواة.

وأمّا الشهرة في العصور المتأخّرة فيشكل كونها مقوّيةً للعمل بالرواية،

ص: 388

إلّا أن تتّصل بشهرة المتقدّمين.وفي ذلك يقول الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) - ما لفظه -: «وذلك من جهة أنّ المتأخّرين حيث يفتون بالأدلّة العقليّة والاستحسانات، فلا يستكشف من كون فتواهم على طبق الرواية أنّهم استندوا في هذه الفتوى إلى تلك الرواية؛ إذ من الممكن أن يكون مدركهم شيئاً آخر غير هذه الرواية من الظنون والاستحسانات والأدلّة العقليّة»(1).

وهذه الشهرة لم يرد لها أثر في الأخبار بحيث تدلّ على الترجيح بها، إلّا أن يكون بمناط الترجيح بكلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع في مقام التعارض.

وأمّا الشهرة العمليّة - وهي عبارة عن عمل المشهور على طبقها مستنداً إليها في مقام الفتوى - فيقع البحث في أنّها هل تجبر الخبر الضعيف مع قطع النظر عن وجود ما يعارضه أم لا؟

قد يقال بالجابريّة، خصوصاً إذا كانت قديمة؛ لأنّ العمل بالخبر عند المشهور من القدماء ممّا يوجب الوثوق بصدوره. والوثوق هو المناط في الحجّيّة.

وبالعكس من ذلك، فإنّ إعراض الأصحاب عن روايةٍ يكون موجباً لوهنها، وإن كان راويها ثقةً، أو كانت تامّة السند، بل كلّما قوي سند

ص: 389


1- منتهى الاُصول 2: 613.

الرواية، وأعرض الأصحاب عنها، كان إعراضهم هذا أكثر دلالةً على وهنها.ولكنّ الحقّ: أنّه لا دليل على جابريّة هذه الشهرة ولا على كاسريّتها، خلافاً لما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) بقوله:

«ولا شبهة في صحّة الترجيح بهذه الشهرة، بل هي مدار حجّيّة الخبر الضعيف؛ إذ بها ينجبر الضعف ويدخل في موضوع الحجّيّة الذي هو عبارة عن الخبر الموثوق الصدور، فيكون من مرجّحات الصدور، كما عليه المشهور»(1).

وأمّا الشهرة في الرواية - وهي أن تكون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، مع كون رواتها متعدّدين، خصوصاً إذا كان تعدّد الرواة في كلّ طبقة - فهي من المرجّحات.

بل إنّ الظاهر من قوله(علیه السلام): «خذ بما اشتهر بين أصحابك» هو هذا المعنى من الشهرة. بل دلّت عليه - أيضاً - المقبولة المتقدّمة، في قوله(علیه السلام): «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»؛ إذ المراد من المجمع عليه إنّما هو المشهور، بدليل تعقيب السائل بقوله: «فإن كان الخبران عنكما مشهورين».

وقد يقال: إنّ المسألة لا تكون داخلة في محلّ البحث، بل تكون داخلة

ص: 390


1- المصدر نفسه 2: 612 - 613.

في باب الحجّة واللّاحجّة؛ فإنّ شهرة الرواية في عصر الأئمّة(علیهم السلام)توجب كون الخبر مقطوع الصدور، وعلى الأقلّ، توجب الوثوق بصدوره.

وإذا كان كذلك، فالشاذّ الذي هو معارض له، إمّا أن يكون مقطوع العدم، أو أن يكون موثوقاً بعدمه، فلا تشمله أدلّةحجّيّة الخبر، فتكون ناظرةً إلى تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، وقد عرفت أنّه أجنبيّ عمّا نحن فيه.

ولكنّ الحقّ: أنّ الشاذّ المقطوع العدم خارج عن المسألة يقيناً، وأمّا الموثوق بعدمه من جهة حصول الثقة الفعليّة بالمعارضة، فلا يضرّ ذلك في كونه مشمولاً لأدلّة حجّيّة الخبر، ولو لم يكن منوطاً بالوثاقة الفعليّة بخبره. وق-د م-رّ ف-ي مح-لّه، أن-ّه يكفي وثاقة الراوي في الأخذ بخبره، ولا يشترط حصول الظنّ الفعليّ به، ولا عدم الظنّ بخلافه، فيكون مشمولاً لأدلّة حجّيّة الخبر.

4) الترجيح بموافقة الكتاب:

في ذلك روايات عدّة:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة، حيث ورد فيها: «ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة، فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة، والآخر مخالفاً لهم»... إلخ.

ص: 391

ومنها: خبر الحسن بن أبي الجهم المتقدّم - أيضاً -: فقد جاء في صدره: «قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال: ما جاءك عنا فقسْه على كتاب اﷲ عزّ وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا».وقد استشكل صاحب الكفاية في ذلك - بما نصّه -:

«مع أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً، وجهه: قوّة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة، بشهادة ما ورد في أنّه زخرف وباطل وليس بشيء، أو أنّه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار...»(1).

ولكنّ الحقّ: أن روايات الباب على قسمين:

فقسم منها في مقام بيان أصل حجّيّة الخبر، لا في مقام المعارضة بغيره، والتعبيرات التي ذكرها في الكفاية مختصّة بهذا القسم.

والقسم الآخر: في مقام بيان ترجيح أحد المتعارضين، وهذه لم تشتمل على مثل تلك التعبيرات التي ذكرها صاحب الكفاية)، كما في كلٍّ من المقبولة ورواية الحسن بن جهم.

والقسم الأوّل: يُحمل على المخالفة لصريح الكتاب؛ لأنّه هو الذي يصحّ أن يقال فيه: إنّه زخرف وباطل ولم نقله، ونحو ذلك.

ص: 392


1- كفاية الاُصول: ص 444.

وأمّا القسم الثاني: فيحمل على المخالفة لظاهر الكتاب، لا لنصّه، وهذه المخالفة - كما ورد في المقبولة - تكون بعد أن يكون كلّ واحدٍ من الخبرين حجّة ومشهوراً، وقد روى كلاً منهما الثقات، ثمّ فَرَض السائل موافقتهما معاً للكتاب بعد ذلك، وذلك بقوله: «إذا كان الفقيهان عرفا حكمهمن الكتاب والسنّة»، وهذا لا يتصوّر إلّا أن يكون كلّ واحدٍ موافقاً للظاهر، وإلّا، لزم وجود نصّين متباينين في الكتاب.

وكذلك ورد في خبر الحسن المتقدّم: «فإن كان يشبههما فهو منّا»، فإنّ التعبير بكلمة «يشبههما» يدلّ على أنّ المقصود هو الموافقة والمخالفة للظاهر.

5) الترجيح بمخالفة العامّة:

يستفاد هذا الترجيح من المقبولة المتقدّمة، حيث إنّها ظاهرة في أنّ الترجيح بين الخبرين - بعد فرض حجّيّتهما في أنفسهما - هو بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة.

التعدّي من المرجّحات والمزايا المنصوصة:

ثمّ هل لابدّ من الاقتصار على المرجّحات المنصوصة أو يجوز التعدّي إلى غيرها؟

وجهان، بل قولان.

ص: 393

أقربهما: وجوب الاقتصار عليها؛ لأنّ إطلاقات باب التخيير لابدّ من الأخذ بها إلّا في مورد قام الدليل على تقييدها، وقيام الدليل على تقييدها إنّما ورد بالنسبة إلى المرجّحات المنصوصة فقط، فهي تقيّد تلك المطلقات؛ لأنّ أصالة الظهور في جانب المقيّدات تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف الإطلاقات، فتقدّم عليها، وتقيّد الإطلاقات بها.وأمّا المرجّحات غير المنصوصة، فلم يقم عليها دليل حتى تقدّم على المطلقات.

نعم، ذكروا بعض الاُمور في الأخذ بالمرجّحات غير المنصوصة:

منها: الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة، والأوثقيّة في المرفوعة، فإنّ مناط الترجيح بهما إنّما هو من جهة الأقربيّة إلى الصدور. فكلّ موردٍ يتحقّق فيه هذا المناط يكون موجباً للترجيح، سواء كان من المرجّحات المنصوصة أم من غيرها.

ولكن فيه: أنّا لا سبيل لنا إلى العلم بهذه المناطات، فليس إلّا مجرّد الظنّ بالمناط، أي: بأنّ الأقربيّة إلى الصدور - مثلاً - هو المناط، وهو لا يغني من الحقّ شيئاً.

نعم، لو كان المناط مقطوعاً، فحجّيّته معلومة بالضرورة، فنأخذ به، ولعلّ الترجيح بهما يكون لخصوصيّة فيهما، لا لمجرّد كونهما أقرب إلى الصدور من الفاقد لهاتين الصفتين.

ومنها: التعليل الوارد في الأخذ بما يخالف العامّة، وهو: أنّ الرشد

ص: 394

في خلافهم.

ومنها: أنّ مخالفة العامّة لأحد الخبرين المتعارضين مع موافقة الآخر لهم مثل كون أحدهما موافقاً للكتاب وكان الآخر مخالفاً له ممّا يوجب الاطمئنان بصدور الموافق وعدم صدور المخالف في الموردين. فإذا حصل الاطمئنان بصدور أحدهما المعيّن مع عدم الاطمئنان بعدم صدور الآخر - منأيّ سببٍ حصل - يكون مرجّحاً؛ لأنّ الاطمئنان أمر عقلائيّ لازم الاتّباع.

نعم، إذا حصل الظنّ غير الاطمئنانيّ بالصدور، فلا يكون حجّة إذا كان من غير المزايا المنصوصة.

ومنها: قوله(علیه السلام) - في مقام الترجيح بالشهرة بالأخذ بالمشهور وترك الشاذّ النادر -: «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»؛ فإنّ تعليله(علیه السلام) بعدم الريب فيه يدلّ على مرجّحيّة كلّ شيء يكون موجباً للأقربيّة وعدم الريب إذا كان فيه مزيّة بالنسبة إلى مقابله، ويكون الترجيح دائراً مدار هذا التعليل، فكلّ مزيّة كانت سبباً لعدم الريب بالنسبة إلى ما ليس له مثل هذه المزيّة يكون مرجّحاً بحكم هذا التعليل.

وليس المراد به نفي الريب بقولٍ مطلق حتى يكون مساوقاً للعلم بالصدور، ليكون خارجاً عن محلّ البحث؛ لأنّه لو كان كذلك يدور الأمر بين الحجّة واللّاحجّة، ومحلّ البحث إنّما هو فيما إذا كان كلاهما حجّة، بل المراد بنفي الريب نفي أقلّيّة الريب النسبيّ، كما إذا كان أحدهما

ص: 395

مشهوراً بين المحدّثين، فإذا كانت هذه هي العلّة يمكن التعدّي إلى المزايا والمرجّحات غير المنصوصة.

ولكنّ الحقّ: أنّ الظاهر من (لا) النافية للجنس هو نفي الريب بقولٍ مطلق، أو فقل: نفي الريب بجميع مراتبه، لا أنّه منفيّ بالنسبة، وهذا كناية عن حصول الاطمئنان بصدوره بواسطة الشهرة، ويكون هذا إشارة إلى أنّ المزايا الموجبة للاطمئنان بصدور ذي المزيّة مرجّحاً، ولو لم تكن من المزاياالمنصوصة، لا أنّه يكون سبباً للتعدّي إلى كلّ المزايا ولو لم تكن كذلك، حصل الاطمئنان بها أم لم يحصل.

وخلاصة القول: أنّ مقتضى الأصل الأوّليّ وإن كان عبارة عن تقديم كلّ ذي مزيّة؛ للقطع بحجّيّته؛ لأنّه إمّا أن يكون حجّةً تخييراً أو تعييناً، بخلاف ما ليس فيه المزيّة، إلّا أنّه لمّا وردت أخبار التخيير منعت من وصول النوبة إلى هذا الأصل، فحينما يقول(علیه السلام) في مقام الجواب عن السؤال عن العمل بأيّ واحدٍ من المتعارضين: «موسّع عليك»، أو قوله(علیه السلام): «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك»، أو غيرهما من الروايات، فلا يبقى مجال لهذا الأصل أصلاً.

نعم، لو جاء الدليل، وكان مقيِّداً لهذه الإطلاقات، كما هو كذلك بالنسبة إلى المرجّحات المنصوصة، فتقيَّد تلك الإطلاقات؛ لأنّ أصالة الظهور في طرف القيد حاكمة على أصالة الظهور في طرف الإطلاق.

ص: 396

نعم، بالنسبة إلى المزايا غير المنصوصة، فليس هناك شيء في البين يكون سبباً لتقييد تلك المطلقات؛ لأنّه ليس هناك دليل على حجّيّة تلك المقيّدات، ولا يمكن التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها؛ لعدم العلم بالمناط.

أقسام المرجّحات المنصوصة:

المرجّحات المنصوصة على أقسام؛ لأنّ:بعضها راجع إلى الصدور، ككون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، أو كصفات الراوي، من الأوثقيّة والأعدليّة والأصدقيّة.

وبعضها راجع إلى جهة الصدور؛ ككون الإمام(علیه السلام) في مقام بيان الحكم الواقعيّ، لا أنّه في مقام التقيّة وستر الحكم الواقعيّ خوفاً من الأعداء، وذلك كمخالفة أحد المتعارضين للعامّة.

وبعضها راجع إلى جهة المضمون، ومفاده أنّه حكم اﷲ، كموافقة الكتاب.

فإذا عرفت ذلك، فهل كلّ واحدٍ من هذه الأنواع مرجّح في عرض الآخر، بحيث لو كان أحدها لخبر، وآخر في خبر آخر، فلابدّ من دخول المسألة في باب التزاحم، ويلزم الرجوع إلى مرجّحاته، وتقديم أقواهما مناطاً؟ أم لا، بل هي مترتّبة في مقام الترجيح، فبعض الأنواع مقدّم على بعض آخر؟

ص: 397

في ذلك خلاف بين الأعلام.

وها هنا خلافان:

الأوّل: في أنّها هل هي مترتّبة أو عرضيّة؟

والثاني: بعد الفراغ عن أنّها ليست عرضيّة، بل مترتّبة، وقع الخلاف في أنّ المرجّح الجهتيّ مقدّم على السنديّ أو العكس؟

أمّا الخلاف الأوّل: فقد ذهب صاحب الكفاية(قدس سرّه) إلى أنّها عرضيّة، ولا ترتيب بينها بناءً على التعدّي من المرجّحاتالمنصوصة إلى غيرها؛ إذ بناءً على التعدّي يكون مناط الترجيح بشيءٍ هو أن يكون ذلك الشيء موجباً لأقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع، فإذا كان لكلّ واحدٍ من المتعارضين مزيّة توجب أقربيّته إلى الواقع فيقع التزاحم بينهما، ويقدّم ما هو الأقوى مناطاً، ولو لم يكن أحدهما أقوى، فالمرجع إلى إطلاقات التخيير. وأمّا لو لم نقل بالتعدّي، فلكونها مرتّبةً وجه، وترتيبها - حينئذٍ - هو الترتيب المذكور في الروايات.

وإليك نصّ ما أفاده رحمة الله:

«ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات لو قيل بالتعدّي وإناطة الترجيح بالظنّ أو بالأقربيّة إلى الواقع؛ ضرورة أنّ قضيّة ذلك تقديم الخبر الذي ظنّ صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما، والتخيير بينهما إذا تساويا، فلا وجه لإتعاب النفس في بيان أنّ أيّهما يقدّم أو يؤخّر، إلّا تعيين أنّ أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.

ص: 398

وأمّا لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة، فله وجه؛ لما يتراءى من ذكرها مرتّباً في المقبولة والمرفوعة»، انتهى موضع الحاجة(1).

وإن شئت قلت: إنّ استنباط الحكم الواقعيّ من الرواية متوقّف على اُمور ثلاثة، وهي: أصالة الصدور، وأصالة جهة الصدور، وأصالة الظهور.والمتكفّل للأوّل هو أدلّة حجّيّة خبر الواحد، كآية النبأ وغيرها.

وأمّا المتكفّل لإثبات أصالة جهة الصدور فهو بناء العقلاء على أنّ كلّ متكلّم هو بصدد بيان مراده الواقعيّ، لا أنّه يتكلّم خوفاً أو تقيّةً.

وأمّا الثالث، فيتكفّل به - أيضاً - بناء العقلاء وسيرتهم المنعقدة على أنّ الظاهر من الكلام هو ما يكون مراد المتكلّم في مقام الفهم والتفهيم وعامّة المحاورات.

وأصالة الصدور أصل تعبّديّ، مدركه حجّيّة خبر الواحد، وإن كان المدرك له هو بناء العقلاء أيضاً وسيرتهم القائمة على قبول خبر الثقة، وقد أمضى الشارع المقدّس هذه الطريقة، فهي - أيضاً - تكون من الاُصول العقلائيّة، ولكنّ اصطلاحهم عدّ هذا الأصل من جملة الاُصول التعبّديّة.

وكيف كان، فسواء كانت من الاُصول العقلائيّة أم من الاُصول التعبّديّة غير العقلائيّة، فإنّ رتبتها تكون متقدّمة على رتبة الأصلين الآخرين، أعني: أصالة الظهور، وأصالة جهة الصدور؛ وذلك لأنّ ظهور الجملة

ص: 399


1- كفاية الاُصول: 453 - 454.

في كونه مراداً للمتكلّم، ومثله كون المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ، لا في مقام الخوف من الأعداء والتقيّة، واقعان في الرتبة المتأخّرة عن صدور الكلام عن المتكلّم؛ لأنّ مجرى الأصلين الآخرين إنّما هو الكلام الصادر المسلّم بحجّيّته.

ثمّ هل هناك ترتيب بين أصالة الصدور وأصالة الظهور أم لا؟الحقّ: أنّه لا ترتيب بينهما؛ لأنّ كلّ واحدةٍ منهما لغو بدون الأُخرى؛ إذ لا معنى للتعبّد بصدور ما لا ظهور له، أو ظهور ما لم يثبت صدوره.

وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما هو منقول عن الوحيد البهبهاني(قدس سرّه) من تقديم المرجّح الجهتيّ على المرجّح السنديّ(1).

كما ظهر - أيضاً - ما في الكفاية من إنكار الترتيب بين المرجّحات لو قلنا بالتعدّي من المزايا والمرجّحات المنصوصة إلى غيرها(2).

نعم، الأصل المضموني متأخّر عن المرجّح الجهتيّ، بأن يتعبّد بأنّ مضمون الكلام هو تمام المراد، لا جزؤه متأخّر عن التعبّد بجهة الصدور؛ إذ لا معنى للتعبّد بكون مضمون الكلام هو تمام المراد ما لم يحرز أنّه

ص: 400


1- حكاه عنه جملة من الأعلام، منهم: الآخوند الخراساني) في الكفاية: 454، والميرزا النائيني) على ما في فوائد الاُصول 4: 779.
2- انظر: كفاية الاُصول: 453، قال(قدس سرّه): «ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات لو قيل بالتعدّي...».

بصدد بيان مراده، لا في مقام الخوف من الأعداء والتقيّة.

وخلاصة البحث: أنّ الأقوال في المسألة أربعة:

الأوّل: قول صاحب الكفاية(قدس سرّه)، وحاصله: أنّ المرجّحات في عرضٍ واحد، فلو كان أحد الخبرين المتعارضين واجداً لبعضها، والخبر الآخر واجداً لبعضٍ آخر، وقع التزاحم بينالخبرين، فيقدّم الأقوى مناطاً، فإن لم يكن أحدهما أقوى مناطاً يتخيّر بينهما(1).

والثاني: القول المنسوب إلى الوحيد البهبهاني(قدس سرّه)، وهو أنّ المرجّح الجهتيّ مقدّم على أصل الصدور، فالمخالف للعامّة اُولى بالتقديم على الموافق لهم، ولو كان هذا الموافق مشهوراً.

والثالث: ما اختاره المحقّق النائيني(قدس سرّه)(2)، وهو القول بأنّها مترتّبة، ولكن على العكس من ترتيب الوحيد البهبهاني، أي: أنّه يقدّم المرجّح الصدوريّ على غيره، فيقدّم المشهور الموافق للعامّة على الشاذّ المخالف لهم.

والرابع: أنّها مترتّبة حسبما جاء في المقبولة، فالأوّل - كما يظهر من

ص: 401


1- المصدر نفسه: 454.
2- فوائد الاُصول 4: 779. قال): «وقيل بتقديم المرجّح السنديّ على المرجّح الجهتيّ والمرجّح المضمونيّ، فيُقَدَّم الخبر المشهور على الخبر المخالف للعامّة أو الموافق للكتاب. وهذا هو الأقوى، فإنّ التعبّد بجهة الصدور متأخّر في الرتبة عن التعبّد بأصل الصدور».

المقبولة - هو المشهور، فإن تساويا في الشهرة قُدِّم الموافق للكتاب والسنّة، فإن تساويا في الموافقة لهما، قُدِّم المخالف للعامّة.

ولكنّ الذي يظهر من الأخبار أنّه لا تفاضل في الترجيح بين هذه الاُمور المذكورة فيها، والدليل على ذلك: أنّه في جملةٍ من الأخبار جرى الاقتصار على مرجّحٍ واحد فقط، كما أنّ المقبولة والمرفوعة - أيضاً - لم تذكرا المرجّحات كلّها،مضافاً إلى أنّهما لم تتّفقا على الترتيب بينها، فالمقبولة - مثلاً - ذكرت الشهرة أوّلاً، بخلاف المرفوعة.

ولا يخفى: أنّه بعد الاقتصار على المرجّحات المنصوصة، فلابدّ من الرجوع إلى الروايات، لنرى مدى دلالتها، وكيف يمكن الجمع العرفيّ فيما بينها؛ إذ استفادة الترتيب بين المرجّحات من الأخبار والروايات مشكل.

وقد أصرّ المحقّق النائيني(قدس سرّه) على أنّ مقتضى القاعدة هو تقديم المرجّح الصدوري على الجهتيّ، وبنى على ذلك كون الخبر صادراً لبيان الحكم الواقعيّ، لا لغرضٍ آخر متفرّعٍ على فرض صدوره حقيقةً أو تعبّداً؛ لأنّ جهة الصدور من شؤون الصادر، فما لا صدور له فلا معنى لأنّ يتكلّم عنه بأنّه صادر لبيان الحكم الواقعيّ أو لبيان غيره.

وعليه: فإذا كان الخبر الموافق للعامّة مشهوراً، وكان الخبر الشاذّ مخالفاً لهم، كان الترجيح للخبر المشهور، دون الشاذّ المخالف لهم؛ لأنّ مقتضى الحكم بحجّيّة المشهور هو أنّ الشاذّ غير حجّة، فلا معنى

ص: 402

لحمله على بيان الحكم الواقعيّ ليحمل المشهور على التقيّة؛ إذ لا تعبّد بصدور الشاذّ حينئذٍ.

قال): «والمقصود في المقام بيان تقديم المرجّح الصدوريّ على المرجّح الجهتيّ؛ فإنّ القاعدة تقتضي ذلك، مضافاً إلى دلالة أدلّة الترجيح عليه»، إلى آخر ما جاء في كلامه)، وهو كلام طويل، فراجعه(1).ثمّ إنّ صاحب الكفاية(قدس سرّه) أرجع جميع المرجّحات إلى المرجّح الصدوريّ، ولذلك قال بعدم الترتّب بينها إذا قلنا بالتعدّي، كما نقلنا عنه آنفاً.

وقد تبعه على ذلك المحقّق العراقي(قدس سرّه)، وأفاد في وجه ذلك ما لفظه:

«أنّ موضوع الأصل الجهتيّ والدلاليّ هو الكلام الصادر من المعصوم(علیه السلام)، ولا بدّ في جريانهما من إحراز موضوعهما بالوجدان أو التعبّد، وبعد سقوط المتعارضين عن الحجّيّة الفعليّة وعدم شمول عموم السند لهما، وعدم مرجّحٍ سنديٍّ في البين حسب الفرض لذي المرجّح الجهتيّ أو المضمونيّ، لم يحرز كلام الإمام حتى ينتهي إلى ترجيح أصله العقلائيّ على غيره. وحينئذٍ: فبعد عدم كفاية مجرّد اقتضاء الحجّيّة لمثل هذا الترجيح، فلا محيص من إرجاع هذين المرجّحين إلى المرجّح

ص: 403


1- انظر: فوائد الاُصول 4: 779 - 783.

الصدوريّ...»، إلى آخر كلامه«(1).

وحاصله: أنّه لا معنى للتعبّد بصدور كلامٍ ليس في مقام بيان مراده الواقعيّ، بل في مقام الخوف والتقيّة، أو التعبّد بصدور كلام ليس مضمونه تمام المراد، بل يحتاج إلى دليلٍ على ذلك، أي: التعبّد بأنّ مضمونه هو تمام المراد، فالذي لم يحرز أنّه في مقام بيان مراده، أو لم يحرز أنّ مضمونه تمام مراده، فالتعبّد بصدوره لغو، وليس بحجّة.فالمرجّح الجهتيّ - مثل مخالفة العامّة - يرجع إلى أنّ الخبر المخالف لهم أقرب إلى صدوره من الخبر الموافق لهم، فيكون مورد التعبّد بصدوره دون الموافق.

وكذا الأمر في المرجّح المضمونيّ، فإذا كان أحد المتعارضين موافقاً للكتاب، فبناءً على أن تكون موافقة الكتاب من المرجّحات المضمونيّة، يكون أقرب إلى الصدور من ذلك الخبر الآخر المخالف للكتاب، فأصالة الصدور تشمله دون ذاك.

وبالتالي: فترجع جميع أنواع المرجّحات إلى المرجّح الصدوريّ، غاية الأمر: أنّه يختلف مرجّح الصدور، فتارةً: يكون لأجل صفات الراوي التي ترجع إلى كونه أصدق من الآخر، وأُخرى: لأجل اشتهار الرواية بين المحدّثين، وثالثةً: لأجل مخالفة أحدهما للعامّة، ورابعةً:

ص: 404


1- نهاية الأفكار 4: 203.

لأجل موافقة أحدهما للكتاب.

ولكنّ الحقّ: عدم إمكان إرجاع المرجّحات إلى مرجّحٍ واحد، وهو المرجّح الصدوريّ؛ فإنّ الشهرة بين الأصحاب مخصّصة لأدلّة حجّيّة خبر الواحد، وكذلك صفات الراوي الموجبة لأقربيّة صدور الرواية التي فيها هذه المزايا، بمعنى: أنّه لو لم تكن إحداهما مشهورةً، أو لم يكن راويها أصدق وأوثق، لكانت أدلّة حجّيّة الخبر الواحد تشمل الخبر الآخر - أيضاً - في عرض هذه التي لها المزايا.ولكنّ الشهرة وصفات الراوي خصّصت الحجّيّة بهذه التي لها المزايا، وأخرجت ذلك الآخر عن تحت أدلّة حجّيّة الخبر الواحد.

وأمّا المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة فهي مخصّصة للاُصول العقلائيّة؛ أي: أصالة كون المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ، فإذا كان مخالفاً للعامّة، فالمخالفة في الخبر المخالف يمنع عن جريان أصالة كون المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ بالنسبة إلى الخبر، وكذلك الأمر في المرجّح المضمونيّ، فمثلاً: موافقة الكتاب توجب تخصيص الأصل العقلائيّ بالخبر الموافق، وإخراج الخبر المخالف عن دائرة الأصل العقلائيّ.

فهناك فرق بين المرجّحات الصدوريّة وبين المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة، فإنّ إحداهما موجبة للتصرّف في عموم أدلّة حجّيّة خبر الواحد أو إطلاقها، والأُخرى موجبة للتصرّف في الاُصول العقلائيّة.

ص: 405

وقد يستشكل في المقام: بأنّ مخالفة الخبر للكتاب وموافقته للعامّة توجب خروجه عن دائرة الحجّيّة؛ لما ورد في الأخبار الكثيرة من أنّ «ما خالف قول ربّنا لم نقله»، أو «باطل»، أو «زخرف» أو «اطرحه على الجدار»، ونحو ذلك(1)..وعلى هذا الأساس: فالخبر المخالف للكتاب ليس بحجّة، وكذا الخبر الموافق للعامّة مقابل الخبر المخالف لهم ليس بحجّة؛ وذلك لعدم جريان الأصل العقلائيّ، أعني: أصالة كون المتكلّم في مقام بيان مراده الواقعيّ بالنسبة إلى الخبر الموافق لهم مع وجود الخبر المخالف لهم، والذي هو بحسب المضمون ضدّ هذا الموافق أو نقيضه.

ومعه: فكيف يمكن أن يقال: إنّ كون الخبر موافقاً للكتاب أو مخالفاً للعامّة من المرجّحات؟ إذ إنّ معنى المرجّح هو أنّه يكون سبباً لترجيح إحدى الحجّتين على الأُخرى بعد شمول دليل الحجّيّة لكليهما.

وبناءً على ما ذكرنا: فإنّ الخبرين الموافق للعامّة والمخالف للكتاب ليسا بحجّة، ولا مشمولين لدليل الحجّيّة أصلاً، فلا يكون من قبيل تعارض الحجّتين، بل من قبيل تعارض الحجّة واللّاحجّة، فشيء من المخالفة للعامّة والموافقة للكتاب لا يكون من المرجّحات.

والجواب عن هذا الإشكال: أنّ مخالفة الكتاب على أقسام: الأوّل:

ص: 406


1- راجع في هذه الأخبار: وسائل الشيعة 27: 106، فما بعدها، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

المخالفة بالتباين، والثاني: المخالفة بالعموم والخصوص المطلق، والثالث: المخالفة بالعموم والخصوص من وجه.

ولا يخفى: أنّ المخالفة التي توجب سقوط الخبر المخالف عن الحجّيّة إنّما هي المخالفة بالتباين، ولذا جُعل عدمها شرطاً لحجّيّة الخبر، والمخالفة للكتاب التي هي من المرجّحات هي المخالفة بالعموم المطلق أو من وجه؛ للعلمبوجود رواياتٍ كثيرة نعلم بصدورها عنهم(علیهم السلام) مع كونها مخالفةً لعموم الكتاب، إمّا من وجهٍ أو مطلقاً.

فإن قيل: إنّ المقدار المعلوم من صدور الأخبار المخالفة تخصّص بها عمومات تلك الأخبار التي مفادها عدم صدور الخبر المخالف.

قلنا: بل لسان تلك العمومات آبٍ عن التخصيص؛ فإنّ قوله(علیه السلام) - مثلاً -: «ما خالف قول ربّنا زخرف»، أو «باطل»، أو «اطرحه عرض الجدار»، يأبى عن التخصيص، كما هو واضح. فلابدّ وأن يكون مرادهم من المخالفة خصوص نوعٍ منها، وهو الذي لم يصدر منهم علیهم السلام، وهو المخالفة بالتباين، فإنّها لم تصدر منهم قطعاً.

فصل :في التعارض بين العامّين من وجه:

اشارة

إذا وقع التعارض بين روايتين بينهما عموم وخصوص من وجه، فهل يكون المرجّح هو الأخبار العلاجيّة، فعند وجود المرجّحات الترجيح، وعند فقدها التخيير، أم لا، بل يعمل في مادّة الافتراق بكلّ واحدٍ منهما،

ص: 407

وفي مادّة الاجتماع يحكم بالتساقط، ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة؟

وقد فرّق المحقّق النائيني(قدس سرّه) بين المرجّحات الصدورية فقال بعدم جواز الرجوع إليها، بخلاف المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة، فيجوز الرجوع إليها.وفي ذلك يقول(قدس سرّه): «الظاهر: أنّه لا يجوز الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة في تعارض العامّين من وجه، بل لا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات الجهتيّة، ومع فقدها، فإلى المرجّحات المضمونيّة»(1).

ولكنّك خبير بأنّ مبنى هذا الكلام هو عدم إرجاع المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة إلى المرجّحات الصدوريّة، وإلّا، لم يبقَ مجال للفرق بينهما، كما هو ظاهر؛ لأنّه بناءً على مسلك إرجاع المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة جميعاً إلى الصدوريّة، لا يبقى موضوع للمرجّح غير المرجّحات الصدوريّة.

ولكنّ هذا المسلك غير صحيح. فيبقى هناك مجال للفرق، وذلك بأن يقال: إنّ الصدور لا يتبعّض، فالرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة وترجيح أحدهما مستلزم لإسقاط مادّة الافتراق بلا وجه.

وأمّا المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة، ففي مادّة الاجتماع فيمكن

ص: 408


1- فوائد الاُصول 4: 792 - 793.

الأخذ بهما، كما يمكن العمل بكليهما في مادّة الافتراق، ولا يأتي في البين أيّ محذور أصلاً.

فمثلاً: إذا ورد (أكرم السادات) وورد (لا تكرم الفسّاق)، ففي مادّتي الافتراق يعمل بكليهما، فيقال بوجوب إكرام السيّد غير الفاسق وحرمة إكرام الفاسق غير السيّد. وأمّا في مادّة الاجتماع، فإذا كان وجوب إكرام السيّد الفاسق مخالفاً للعامّة،أو كان موافقاً للكتاب، يؤخذ بهذين المرجّحين اللّذين أحدهما مرجّحٌ جهتيّ، وهو مخالفة العامّة، والثاني مرجّح مضمونيّ، وهو موافقة الكتاب، ويقال بوجوب إكرام السيد الفاسق، ويطرح الدليل الآخر، وهو (لا تكرم الفسّاق) في مادّة الاجتماع، لا من جهة التعبّد بعدم صدوره من هذه الجهة، أي: باعتبار مادّة الاجتماع، حتى يقال بأنّ السند لا يتبعّض، ولا معنى للتعبّد بصدوره بالنسبة إلى بعض المدلول، وعدم صدوره بالنسبة إلى البعض الآخر، بل يرجع إلى عدم حجّيّته وكاشفيّته عن مراده الواقعيّ بالنسبة إلى بعض مدلوله بعد الفراغ من صدوره.

ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن العمل حتى بالمرجّح الصدوريّ أيضاً؛ لأنّ الذي لا يمكن التعبّد به هو التبعّض الحقيقيّ في السند، وأمّا المجازيّ، فلا مانع منه؛ لما نراه كثيراً من التفكيك بين اللّوازم والملزومات.

والمشهور هو التساقط والرجوع إلى الاُصول العمليّة مطلقاً في مادّة الاجتماع.

ص: 409

والحقّ: أنّه لابدّ من العمل بالمرجّحات في الأصل الصدوريّ، والعمل في مادّة الافتراق بكلٍّ من الجهتيّ والمضمونيّ. ولو فرضنا عدم مرجّح في البين، فالتخيير في مادّة الاجتماع.

وقد يمكن توجيه فتوى المشهور بالتساقط بأنّ التساقط هو المطابق لمقتضى القاعدة، وأمّا الأخبار العلاجيّة فهي منصرفة عن مورد المتعارضين بالعموم الوجهيّ؛ لأنّ ظاهرقوله: «يأتي عنكم الخبران المتعارضان فبأيّهما نعمل؟» إنّما هو الخبران المتعارضان بالتباين، دون التعارض بالعموم والخصوص مطلقاً أو من وجه.

في ترجيح أحد المتعارضين بالأصل:

إذا كانت إحدى الروايتين المتعارضتين موافقة للأصل، فهل صرف الموافقة للأصل تصلح لأن تكون مرجّحاً، كما إذا كانت الرواية الدالّة على نجاسة الماء الكرّ الذي تغيّر من قبل نفسه، من دون حاجةٍ إلى وصول الماء المطهّر إليه، مطابقةً للأصل، كالاستصحاب - مثلاً -، فترجّح على الرواية الأُخرى التي تدلّ على طهارته بواسطة موافقته للاستصحاب، أم لا، بل موافقة إحداهما للأصل غير كافيةٍ لترجيحها على الأُخرى؟(قدس سرّه)

الصحيح: عدم كفاية ذلك؛ لأنّ الاُصول العمليّة مطلقاً، شرعيّةً كانت أم عقليّة، تنزيليّة أم غير تنزيليّة، مجراها هو الشكّ في الحكم الواقعيّ بعد الفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به، فموضوع هذا الأصل لا يتحقّق

ص: 410

إلّا بعد فقد الدليل، فهو متأخّر عن وجود الدليل، ففي رتبة وجود الدليل لا موضوع للأصل، وفي رتبة عدمه، ولو بواسطة سقوطه بالمعارضة، وإن كانت النوبة تصل إلى الأصل، ولكن في هذه المرتبة يكون الأصل مرجعاً، لا مرجّحاً.

وبذلك يظهر: أنّ ما صنعه بعض الفقهاء من الحكم بكون موافقة الأصل مرجّحاً لأحد الخبرين المتعارضين في غيرمحلّه. ولعلّ نظرهم إلى أنّ حجّيّة الاُصول العمليّة هي من باب الظنّ - على خلاف ما هو المعروف والمشهور -، خصوصاً في مثل الاستصحاب في الأحكام.

وأمّا الترجيح بالظنون غير المعتبرة:

فإن لم نقل بالتعدّي من المرجّحات المنصوصة فحالها معلوم، كما في مثل الشهرة في الفتوى.

وإن قلنا بالتعدّي إلى كلّ مرجّح، فلا بأس بالترجيح بها، شريطة أن لا تكون من الظنون المنصوص على النهي عنها، كالقياس، وأمّا إذا كان من الظنون المنهيّ عنها، فإن كان دليل النهي عن العمل به يمنع من مطلق استعمالها، فلا يجوز الترجيح بها؛ لأنّه نوع من الاستعمال لها، وإن كان يمنع من خصوص العمل على طبقها بما أنّها حجّة، فيمكن أن يجعل مرجّحاً؛ لعدم شمول النهي - حينئذٍ - لمثل الترجيح بها.

ص: 411

ص: 412

مبحث الاجتهاد والتقليدوفيه مقامان:

اشارة

المقام الأوّل: في الاجتهاد.

والمقام الثاني: في التقليد.

أمّا المقام الأوّل:

اشارة

ففيه اُمور:

الأمر الأوّل :أنّه من المسائل الاُصوليّة أو الفقهيّة:

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «المسألة الاُصوليّة ما يكون واسطةً للإثبات بالنسبة الى المسائل الفقهيّة، ومباحث الاجتهاد بعضها عقليّة، كمسألة إمكان التجزّي وعدم إمكانه، وبعضها فقهيّة، وذلك كحجّية رأيه وفتواه للمقلّدين، بل ولعمل نفسه، وكالحكم بالإجزاء وعدمه بالنسبة الى

ص: 413

الأعمال السابقة بعد تبدّل رأيه»(1).

وعلى هذا، فيكون ذكر هذه المسألة في علم الاُصول من باب المجاراة لديدن المحقّقين.

الأمر الثاني :تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً:

أمّا لغةً:

يظهر لمن تتبّع كلام اللّغويّين أنّ بين معنيي: الجهد (بالضمّ) والجهد (بالفتح) اختلافاً وتغايراً. وفي المصباح المنير: الجهد بالضمّ في الحجاز، وبالفتح في غيرهم: الوسع والطاقة، وقيل: المضموم الطاقة والمفتوح المشقّة(2).

وأمّا في لسان العرب، فقال: «جهد، الجَهدْ، والجُهدْ: الطاقة، تقول: اجهد جهدك، وقيل: الجَهدْ المشقّة، والجُهْد الطاقة... وهو بالفتح: المشقّة، وقيل: هما لغتان الوسع والطاقة، فأمّا في المشقّة والغاية فالفتح لا غير»(3).

وأمّا اصطلاحاً:

فقد عرّفه الاُستاذ الأعظم بأنّه: «استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة

ص: 414


1- منتهى الاُصول 2: 618.
2- انظر: المصباح المنير: 65، مادّة (الجهد).
3- لسان العرب 3: 133، مادّة (جهد).

على الأحكام الشرعيّة أو تعيين الوظيفة عند عدم الوصول إليها»(1).

وقال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «والحقّ أنّه عبارة عن ملكة بسيطة يقتدر بواسطتها على تشكيل القياس الذي يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ الفرعيّ بتحصيل الكبريات أوّلاً، وضمّ الصغريات إليها ثانياً بعد تشخيصها»(2).ولكن لا يخفى: أنّ ما ذكره(قدس سرّه) غير تامّ؛ فإنّ التوسعة في التلبّس بالمبدأ بنحو الملكة إنّما هي من مضامين الهيئة، لا المادّة، كما يقال: المجتهد من له ملكة الاجتهاد، وإن لم يكن متلبّساً بالمبدأ فعلاً، بأن كان نائماً أو غافلاً أو نحو ذلك من الاُمور التي تشغله عن التصدّي الفعليّ لاستنباط حكم المسألة.

وقد يعرّف الاجتهاد بأنّه «استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعيّ»(3).

وقد يورد على هذا التعريف بوجوه من الإشكال:

منها:

لزوم الدور؛ لما أُخذ فيه من كلمة (الفقيه)؛ فإنّ معرفة الاجتهاد - على هذا - تكون متوقّفةً على معرفة الفقيه، ومعرفة الفقيه متوقّفة على معرفة

ص: 415


1- مصباح الاُصول 2: 521، (المجلّد 48 من موسوعة الإمام الخوئي).
2- منتهى الاُصول 2: 618.
3- حكاه في الفصول عن الحاجبيّ، انظر: الفصول الغرويّة: 387.

الاجتهاد؛ إذ لا تتحقّق له الفقاهة إلّا أن يكون مجتهداً، وهو ليس إلّا الدور المحال.

وقد يُجاب عن هذا الدور بأنّ المراد من لفظ (الفقيه) الوارد في هذا التعريف هو من مارس الفقه، احترازاً عن العامّيّ البحت، فلا يلزم الدور حينئذٍ؛ لعدم توقّف معرفة الفقيه بهذا المعنى على معرفة الاجتهاد.

وفيه: أنّه مجاز لا حقيقة؛ لأنّ من قرأ الكتب الفقهيّة وزاول رؤوس المسائل ولم تحصل له بعد قوّة على استنباط الأحكاموردّ الفروع إلى الاُصول، فلا يسمّى استفراغ وسعه هذا اجتهاداً.

ومنها:

ما أُخذ فيه من قيد (تحصيل الظنّ)؛ فإنّ الظنّ ليس بحجّةٍ عندنا؛ لورود النهي عن العمل به كتاباً وسنّةً، بل وإجماعاً وعقلاً أيضاً، كما هو مقرّر في محلّه.

الأمر الثالث :في مبادئ الاجتهاد:

لا يخفى: أنّ حصول الاجتهاد متوقّف على جملة من العلوم، و عمدة تلك العلوم هو علم الاُصول؛ لأنّه المتكفّل بمعرفة الكبريات التي لو انضمّت إليها الصغريات لكانت واسطةً في إثبات محمولات المسائل الفقهيّة لموضوعاتها.

قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه): «ومن جملة العلوم التي يحتاج إليها في

ص: 416

تحصيل الاجتهاد هو علم المنطق؛ لترتيب ذلك القياس. ومن جملتها: علوم العربيّة، من اللّغة والنحو والصرف وغيرها، وذلك من جهة فهم ألفاظ الآية والرواية وتشخيص الظاهر عن غيره.

وأمّا احتياجه إلى علم الرجال والرواية فشديد إن قلنا بأنّ موضوع الحجّة في باب حجّيّة الخبر الواحد هو الخبر المزكّى بتزكية عدلين؛ لأنّ مدرك أغلب الأحكام هو الخبر الواحد، ولا طريق إلى تحصيل مثل هذا الخبر إلّا بالرجوع إلى الرجال ومعرفة علم الدراية.وإن قلنا بأنّ موضوع الحجّيّة هو الخبر الموثوق الصدور فالاحتياج إليه قليل؛ لأنّ الموثوق كما أنّه يحصل من تزكية العدلين، كذلك يحصل من عمل الأصحاب، بل ربّما يكون عمل الأصحاب خلفاً عن سلف آكد في هذا المعنى، ولذلك ترى أنّ إعراضهم عن الخبر المزكّى يوجب خروجه عن موضوع الحجّيّة - أي: الوثوق بالصدور - ومن هذه الجهة قالوا بعد إعراضهم عنه: كلّما ازداد صحّةً ازداد وهناً»(1).

وأمّا اللّغة فممّا لا شكّ في الاحتياج إليه بعد أن كانت أكثر الأحكام مستفادةً من الكتاب والسنّة، وهما عربيّان، فلابدّ فى استنباط الأحكام منهما إلى معرفة اللّغة، ولو بالمقدار الذي تتوقّف عليه معرفة مواضع الحاجة منهما، وذلك لا يكون في الأعمّ الأغلب إلّا بمراجعة أقوال أهل

ص: 417


1- منتهى الاُصول 2: 618 - 619.

اللّغة.

فإن قلت: قول اللّغويّ ليس بحجّة بعد أن لم يدلّ على حجّيّته دليل.

قلنا: إنّ قول اللّغويّ لا يكون سبباً لإثبات المعنى الحقيقيّ، وإنّما يرجع إليه الفقيه لحصول الاطمئنان بالظاهر.

وكذلك يحتاج الفقيه إلى معرفة قواعد العربيّة؛ لأنّها ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد - أيضاً -، لوضوح الاحتياج في معرفة الأحكام إلى معرفة مثل الفاعل والمفعول وغيرهما ممّا يتوقّف على معرفته استنباط الأحكام. نعم، معرفة بعض المسائل والقواعد العربيّة لا يتوقّف عليها الاستنباط، كمعرفةالفارق بين البدل وعطف البيان، ونحو ذلك، فهذه لا يتوقّف عليها الاجتهاد.

وأمّا علم المنطق، فالصحيح - كما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) - أنّه لا يتوقّف الاجتهاد عليه أصلاً؛ «لأنّ المهمّ في المنطق إنّما هو بيان ما له دخالة في الاستنتاج من الأقيسة والأشكال، كاعتبار كلّيّة الكبرى وكون الصغرى موجبةً في الشكل، مع أنّ الشروط التي لها دخل في الاستنتاج ممّا يعرفه كلّ عاقل، حتى الصبيان؛ لأنّك إذا عرضت على أيّ عاقلٍ قولك: هذا حيوان، وبعض الحيوان مؤذٍ، لم يتردّد في أنّه لا ينتج: أنّ هذا الحيوان مؤذٍ.

وعلى الجملة: المنطق إنّما يحتوي على مجرّد اصطلاحات علميّة لا تمسّها حاجة المجتهد بوجه؛ إذ ليس العلم به ممّا له دخل في الاجتهاد

ص: 418

بعد معرفة الاُمور المعتبرة في الاستنتاج بالطبع»(1).

ومن هنا، ظهر فساد ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين(قدس سرّه) من أنّه لابدّ للمجتهد من «معرفة الأشكال الأربعة، وشرائط إنتاجها، وتمييز عقيمها من منتجها، ويدخل في ذلك معرفة العكس المستوي، وعكس النقيض، ممّا يتوقّف عليه الاستنباط في بعض المقامات، وغيرها من المباحث الرائجة منه في غالب المحاورات. نعم، لا يجب الوقوف علىتفاصيل الشرطيّات والاقترانيّات وأشباههما ممّا لا وقوف لتحصيل الحكم الشرعيّ عليه»(2).

ثمّ يقول الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه):

«والذي يوقفك على هذا: ملاحظة أحوال الرواة وأصحاب الأئمّة عليهم أفضل الصلاة؛ لأنّهم كانوا يستنبطون الأحكام الشرعيّة من الكتاب والسنّة من غير أن يتعلّموا علم المنطق ويطّلعوا على مصطلحاته الحديثة.

والعمدة فيما يتوقّف عليه الاجتهاد بعد معرفة اللّغة العربيّة وقواعدها علمان:

أحدهما: علم الاُصول، ومساس الحاجة إليه في الاجتهاد ممّا لا يكاد

ص: 419


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 13، (المجلّد 1 من موسوعة الإمام الخوئي).
2- تهذيب الاُصول 3: 139.

يخفى؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة ليست من الاُمور الضروريّة التي لا يحتاج إثباتها إلى دليل، وإنّما هي اُمور نظريّة يتوقّف على الدليل والبرهان، والمتكفّل لأدلّة الأحكام وبراهينها من الحجج و الأمارات وغيرهما ممّا يؤدّي إلى معرفة الأحكام الشرعيّة علم الاُصول، وما من حكم نظريّ إلّا ويستنبط من تلك الأدلّة، فعلى المستنبط أن يتقنها ويحصّلها بالنظر والاجتهاد؛ لأنّها لو كانت تقليديّة لأدّى إلى التقليد في الأحكام؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين»، إلى أن يقول: «وثانيهما: علم الرجال»(1).وربّما يقال: بأنّ اللّازم هو التفصيل، فإنّه لو كان موضوع الحجّيّة هو الخبر المزكّى، فبما أنّ مدرك الأحكام غالباً هو خبر الواحد، ولا طريق إلى إحراز هذا الخبر إلّا بالرجوع إلى علم الرجال. وأمّا لو كان موضوع الحجّيّة هو الخبر الموثوق الصدور، فالاحتياج إليه قليل؛ لأنّ الوثوق كما يحصل بتزكية العدلين، فكذلك يحصل بعمل الأصحاب.

ولكنّ الحقّ: أنّه حتى لو كان المبنى في حجّيّة الخبر هو حصول الاطمئنان والوثوق

ص: 420


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 13.

بالخبر، فنحن بحاجة إلى معرفة الرجال؛ إذ كما يحصل الاطمئنان بعمل الأصحاب، فكذلك يمكن أن يحصل الاطمئنان بالخبر الممدوح أو الموثّق رواته، وهذا لا يحصل إلّا بمعرفة الرجال الواردين في سلسلة السند.

ويتابع اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه) بعد قوله السابق: «وثانيهما: علم الرجال»، فيقول:

«وذلك لأنّ جملةً من الأحكام الشرعيّة، وإن كانت تستفاد من الكتاب، إلّا انّه أقلّ قليل، وغالبها يستفاد من الأخبار المأثورة عن أهل البيت(، وعلى ذلك: إن قلنا بأنّ الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور، أو أنّها ممّا نطمئنّ بصدورها؛ لأنّ الأصحاب عملوا على طبقها ولم يناقشوا في إسنادها، وهذا يفيد الاطمئنان بالصدور، فقد استرحنا من علم الرجال؛ لعدم مساس الحاجة إلى معرفة أحوال الرواة، كما سلك ذلك المحقّق الهمداني(قدس سرّه) حيث قال:[ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية على اتّصافها بالصحّة المطلوبة، وإلّا، فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواتها على سبيل التحقيق لولا البناء على المسامحة في طريقها، والعمل بظنون غير ثابتة الحجّيّة، بل المدار على وثاقة الراوي، أو الوثوق بصدور الرواية، وإن كان بواسطة القرائن الخارجيّة التي عمدتها كونها مدوّنة في الكتب الأربعة، أو مأخوذة من الاُصول المعتبرة مع اعتناء الأصحاب بها، وعدم إعراضهم عنها، إلى أن قال: ولأجل ما تقدّمت الإشارة إليه جرت سيرتي على ترك الفحص عن حالتهم]، انتهى.

ص: 421

وإنّما اللّازم - حينئذٍ - مراجعة أنّ الرواية هل هي معمول بها عندهم لتكون حجّة، أو أنّها مُعرض عنها لتسقط عن الاعتبار، ومعه: لا تمسّ الحاجة إلى علم الرجال إلّا في بعض الموارد، كما إذا لم يظهر لنا عمل الأصحاب على طبق الرواية أو إعراضهم عنها؟

وأمّا إذا بنينا على ما هو الصحيح عندنا من أنّ عمل الأصحاب والمشايخ قدّس اﷲ أسرارهم على طبق روايةٍ لا يكون جابراً لضعف دلالتها؛ إذ المتّبع حسب سيرة العقلاء هو الظهور، ومن الظاهر: أنّ عملهم على طبق الرواية لا يجعلها ظاهرةً في المعنى المراد، كما لا ينجبر بعملهم ضعف سندها، فإنّ السيرة العقلائيّة التي هي العمدة في حجّيّة الخبر، وكذا الأخبار التي ادّعينا تواترها إجمالاً، وبعض الآيات المذكورة في محلّها، إنّما تدلّ علىاعتبار الخبر الموثوق أو الممدوح رواته، أو الرواية التي يُطمأنّ بصدورها عنهم - لو اتّفق في مورد -. وأمّا الخبر الضعيف فلم يدلّنا دليل على اعتباره إذا عمل المشهور على طبقه.

فلا محالة: تزداد الحاجة إلى علم الرجال، فإنّ به يعرف الثقة عن الضعيف، وبه يتميّز الغثّ عن السمين. ومعه: لا مناص من الرجوع إليه للتفتيش عن أحوال الرواة الواقعين في سلسلة السند واحداً بعد واحد، ليظهر أنّه موثوق به، ليؤخذ بخبره، أو أنّه ضعيف لئلّا يعتمد على إخباره، حتى الرواة الواقعين في السند بعد ابن ابي عمير وزرارة وأضرابهما ممّن

ص: 422

ادّعوا الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم في الرجال؛ وذلك لأنّ هذا الإجماع ليس بأزيد من الإجماعات المنقولة التي لا نعتمد عليها في الأحكام». إلى آخر ما أفاده«(1).

ثمّ إنّه قد يقال: بأنّ الاجتهاد يحتاج إلى ملكه قدسيّة تحصل من الممارسة على فعل الواجبات وترك المحرّمات، بل المواظبة على أداء بعض المستحبّات المهمّة وترك المكروهات كذلك، وتحلّي النفس بالأخلاق الفاضلة وتخليتها عن الرذائل؛ لأنّه «ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اﷲ تبارك وتعالى أن يهديه...»، كما في الخبر(2).وبعبارة أُخرى: فإنّ تشخيص الصغريات وتطبيق الكبريات عليها، والذي هو المدار في جودة الاستنباط، فإن أجاد التطبيق والتشخيص فهو جيّد الاستنباط، وإلّا فلا، فهذا لا يتسنّى له أن يحصل إلّا لمن شملته العناية الإلهيّة، ورزق توفيقاً ربّانيّاً، بأن نوّر اﷲ تعالى قلبه بنور العلم والمعرفة، وحينئذٍ: تحصل له ملكة قدسيّة بعد التعب والجدّ وممارسة العلوم التي ذكرناها، وحينئذٍ: يتمكّن من استنباط الأحكام عن مداركها، وإلّا فليس كلّ من يتعب نفسه ويشتغل اشتغالاً جدّيّاً في العلوم المذكورة يحصل له هذه الملكة القدسيّة.

ص: 423


1- المصدر نفسه 1: 13 - 14.
2- انظر: بحار الأنوار 1: 225، ح 48.

وردّه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه) بقوله:

«ولكن أنت خبير، بأنّه إن أُريد من هذا الكلام: أنّ الصور العلميّة تُفاض على النفوس بعنايةٍ ربّانيّة، ومن قبل اﷲ جلّ وعلا، والتوفيق من اﷲ بتوجيه الأسباب وتهيئتها للمتعلّم، ولا بدّ في النفس من قابليّةٍ ولياقةٍ لهذه العطايا الربّانيّة، فهذا حقّ ومحض الواقع. ولكن لا اختصاص له بعلم الفقه وملكة الاجتهاد، بل هذا هو الحال في جميع العلوم، بل الحال في جميع العطايا الإلهيّة.

وإن أُريد أمر زائد على هذا في خصوص ملكة الاجتهاد، وأنّه لا تحصل هذه الملكة إلّا للورع المتّقي، والذي هذّب نفسه عن الرذائل وتحلّى بالفضائل، فهذا معلوم بالوجدان؛ إذ هذه الملكة - أيضاً - كسائر ملكات العلوم تحصل للعادل والفاسق، بل المؤمن والكافر؛ فإنّ كلّ من له استعداد فطريّوجَدَّ واجتهد في طلبها من طرقها المتعارفة، سواء أكان عادلاً أم فاسقاً، يحصّلها، فإنّ اﷲ لا يضيع عمل عامل»(1).

والحقّ: أنّ العناية الربّانيّة والملكة القدسيّة وتنويرها للقلب وقابليّة النفس لورود فيوضات العلم الربّانيّ، وإن كانت سبباً للزيادة بلا إشكال، ولكنّ عدمها لا يكون سبباً لانتفاء الاجتهاد، بل يمكن أن يحصل للمتّقي وللفاسق على حدٍّ سواء.

ص: 424


1- منتهى الاُصول 2: 620.

الأمر الرابع :التجزّي في الاجتهاد:

هل هو ممكن أم لا؟

قد يقال: بأنّه غير ممكن؛ بعد أن كانت ملكة الاجتهاد - كسائر الملكات - بسيطة؛ نظراً لكونها كيفاً نفسانيّاً، والكيف غير قابل للقسمة، وإنّما القابل للقسمة هو الكمّ، فتلك الملكة غير قابلة للتجزّي.

ولكنّ الحقّ: أنّها وإن كانت بسيطة؛ ولكنّها ذات مراتب مختلفة من جهة الكمال والنقص، فربّما تحصل مرتبة ناقصة منها دون المرتبة الكاملة. وليس المراد من التجزّي الحصول على نصف الملكة - مثلاً - أو ثلثها، حتّى يقال: بأنّ ملكة الاجتهاد كيف، والكيف غير قابل للتجزّي، بل هي نظير ملكة الشجاعة أو الكرم، فكما يصحّ أن يقال: فلان أشجع من فلان أو أكرم منه، دون: فلان حصل على نصف ملكة الشجاعة أوالكرم، فكذلك يمكن تصوّر التجزّي في الاجتهاد بالمعنى الذي ذكرناه، وهو تفاوت المراتب، فيقال - مثلاً - : من اجتهد في بابٍ من أبواب الفقه حصل على ملكة الاجتهاد في ذلك الباب خاصّةً دون غيره، وبذلك يكون التجزّي ممكناً.

وقد يقال: بعدم إمكان حصول مرتبة المطلق إلّا بعد حصول مرتبة التجزّي، وإلّا يلزم الطفرة، وهي محال.

يقول الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه): «بل لا يبعد أن يقال: إنّ المطلق من الاجتهاد

ص: 425

مسبوق بالتجزّي دائماً، وإنّ أيّ مجتهد مطلق، كان متجزّياً في زمانٍ ثمّ قوي وترقّى شيئاً فشيئاً حتى تمكّن من استنباط أكثر الأحكام أو كلّها؛ وذلك لأنّ دعوى أنّ الرجل قد أصبح مجتهداً مطلقاً من ساعته أو ليلته، من غير أن يكون مسبوقاً بالتجزّي في زمانٍ ممّا لا شاهد له، بل هي أمر غير عاديّ، ولا نستعهد وقوعه بوجه. ولعلّه إلى ذلك أشار صاحب الكفاية(قدس سرّه) بقوله: (بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق - عادةً - غير مسبوق بالتجزّي).

نعم، ليس ذلك من المستحيلات العقليّة، نظير اجتماع الضدّين أو النقيضين؛ وذلك لأنّ المسائل الفقهيّة في عرضٍ واحد، ولا تقدّم لبعضها على بعض آخر زماناً أو رتبةً، بأن يكون التمكّن من استنباط بعضها مقدّمةً للقدرة على استنباط بعضها الآخر، حتى يتوهّم أنّ المتأخّر يستحيل أن يتحقّق قبل حصول المتقدّم، حيث إنّ تحقّق ذي المقدّمة من دون مقدّمته في المقام يستلزم الطفرة المحال، فأيّ مانع لدىالعقل من أن تحصل ملكة الاجتهاد المطلق دفعةً واحدة، ولو بالإعجاز والإفاضة من اﷲ - جلّت عظمته -»(1).

ولكنّ الحقّ في المقام: هو ما ذكره الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) بما نصّه:

«أنّه إن قلنا في المقام بأنّ حصول تلك الملكة تدريجيّ، فهذا حقّ بلا كلام، وأمّا إن قلنا بأنّه يمكن أن يوجد دفعةً، بمعنى: أنّه بعد الممارسة

ص: 426


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 21.

وتحصيل العلوم التي لها دخل في حصولها توجد ملكة الاجتهاد المطلق دفعةً، فلا يبقى لهذا الكلام وجه»(1).

وقد يقال: بأنّه لا يكون هناك مجتهد مطلق، بل هذه الملكة لا يمكن تحصيلها لكلّ أحد؛ لأنّ الفقيه مهما بلغ إلى أيّ مرتبةٍ من العلم والفقاهة، فهو يبقى - مع ذلك - متردّداً في حكم بعض المسائل، ولذلك فهو يأمر بالاحتياط.

ولكنّ الحقّ: أنّ الفقيه لا يصبح متردّداً في أيّ حكم من الأحكام، بل إمّا أن يحصل له العلم والعلميّ على الحكم أم لا، فإن حصل الأوّل، فلا معنى لتردّده، وكذا العلميّ، فإن وردت أمارة على الحكم، وكان لها معارض، فإن كانت هناك مزيّة لأحدهما فيأخذ بذي المزيّة، وإلّا فيتخيّر، هذا إذا كان من سنخ الأخبار.وأمّا إن كان من غير الأخبار، فالحكم هو التساقط والرجوع إلى الاُصول العمليّة، ومجاري الاُصول معلومة واضحة لدى الفقيه، فليس هناك أيّ تردّد أصلاً.

نعم، في بعض الموارد يصدر الاحتياط من بعض الفقهاء الذين لهم ورع شديد، وذلك ليس من جهة جهلهم بالحكم وعدم قدرتهم على استنباط الحكم وبيان الوظيفة، بل إنّما هو من شدّة ورعهم وتقواهم،

ص: 427


1- منتهى الاُصول 2: 621.

ومن باب ما ورد في الحديث: «أخوك دينك، فاحتط لدينك بما شئت»(1).

ولا يخفى: أنّ المجتهد المطلق لابدّ أن يعمل بما استنبطه من الأحكام، ولا يجوز له التقليد والرجوع إلى الغير.

أمّا وجوب العمل بما استنبطه، فلحصوله على الحجّة، أمارةً كانت أم أصلاً، تنزيليّاً أو غير تنزيليّ؛ لأنّ مفاد تلك الأدلّة بتوسّط أدلّة حجّيّتها يكون حكماً ظاهريّاً في حقّه، فيجب عليه العمل على طبقه.

وأمّا حرمة التقليد عليه فيما اجتهد فيه؛ فلأنّه يرى المخالف له في الفتوى جاهلاً، وأنّ ما يقوله ذلك الغير ليس هو الحكم الشرعيّ، فكيف - إذاً - يرجع إليه؟(قدس سرّه)

وأمّا المتجزّي، لو قلنا بإمكان وقوعه، فهل يجوز له العمل بما استنبطه أم لا؟ وهل يحرم عليه التقليد أم لا؟

الحقّ: جواز العمل بما استنبطه؛ لأنّه عالم به، فإنّه بعدما استنبطه من الأمارات أو الاُصول، فالواجب عليه العمل به بحكم أدلّة اعتبارها، تماماً كما مرّ في المجتهد المطلق.وكذلك يحرم عليه الرجوع إلى الغير فيما استنبطه، وأيضاً: من جهة أنّه يرى أنّ الغير المخالف له في الفتوى جاهل فيما أفتى به، فلا يمكن له الرجوع إليه؛ لأنّه - حينئذٍ - من رجوع العالم إلى الجاهل.

ص: 428


1- انظر: وسائل الشيعة 27: 167، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 46.

وأمّا رجوع الغير إليه وتقليده فيما استنبطه، فلا إشكال في جوازه مع توفّر أمرين:

أوّلهما: أن يستنبط جملةً معتدّاً بها من الأحكام حتى يصدق عليه أنّه فقيه وعالم.

وثانيهما: أن يكون أعلم من غيره؛ إذ لو كان هناك مجتهد مطلق أعلم فيجب الرجوع إليه مع عدم أعلميّة المجتهد المتجزّي.

وقد ذكر الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) - تعليقاً على قول صاحب العروة): «وكونه مجتهداً مطلقاً فلا يجوز تقليد المتجزّي» ما نصّه -:

«وما أفاده(قدس سرّه) بناءً على الاستدلال على وجوب التقليد بدليل الانسداد هو الصحيح؛ وذلك لأنّ بطلان غير التقليد من الطرق وانسدادها على العامّيّ المقلّد يقتضي وجوب رجوعه إلى عالمٍ ما؛ إذ النتيجة جزئيّة، والمقدار المتيقّن هو الرجوع إلى المجتهد المطلق دون المتجزّي، كما أفاده.

كما أنّ الحال كذلك فيما لو استدللنا على وجوبه بالأدلّة اللّفظيّة من الكتاب والسنّة؛ لأنّ قوله - عزّ من قائل -: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ ...﴾ (1)، دلّ على أنّ الحذر إنّما يجب عند إنذارالمنذر الفقيه، ولا دلالة لها بوجهٍ على وجوبه عند إنذار كلّ منذرٍ وإن لم يصدق أنّه فقيه.

ص: 429


1- التوبة: الآية 122.

كما أنّ الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاصٍ معيّنين دلّتنا على الرجوع إلى يونس بن عبد الرحمن وأمثاله من أكابر الفقهاء والرواة، ولم تدلّنا على جواز الرجوع إلى من عرف مسألةً أو مسألتين، ولم يكن من أضراب هؤلاء الأكابر من الرواة»(1).

ولكن قد ذكرنا أنّه يجوز تقليده إذا كان قد استنبط جملة معتدّاً بها من المسائل بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه، لا عنوان من استنبط مسألةً أو مسألتين، أو نحو ذلك، فقط، ففي هذه الحالة، إذا كان هو الأعلم، فيجب الرجوع إليه، ولو مع وجود المجتهد المطلق؛ لقيام السيرة العقلائيّة على ذلك. وأمّا الإرجاع إلى بعض الأشخاص، فهو لا يدلّ على عدم جواز الرجوع إلى غيرهم، إلّا إذا كان في مقام الحصر، ولعلّ الإرجاع إليهم لأنّهم كانوا أعلم من غيرهم.

ولذلك قال الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه): «نعم، مقتضى السيرة العقلائيّة عدم الفرق في رجوع الجاهل إلى العالم بين أن يكون مجتهداً مطلقاً أو متجزّئاً؛ لوضوح أنّ جاهلهم بشيء يرجع إلى العالم به، وإن لم يكن له معرفة بغيره من الاُمور، فتراهم يراجعون الطبيب الأخصّائيّ بالعيون - مثلاً - وإن لم يكن له خبرة بغيرها من الجهات، وكذلك من له معرفةببعض المسائل دون بعض، وإن كان قليلاً، بل قد يقدّمون نظر المجتهد المتجزّي على

ص: 430


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 189 - 190.

قول المجتهد المطلق عند المعارضة، كما إذا كان المتجزّي أعلم من المجتهد المطلق؛ لممارسته ودقّته في العلوم العقليّة، وكونه أقوى استنباطاً منه فيما يرجع إلى تلك المباحث من المسائل، كوجوب مقدّمة الواجب وبحثي الضدّ والترتّب وغيرها، وإن لم يكن له قوّة بتلك المثابة في المسائل الراجعة إلى مباحث الألفاظ كغيرها»(1).

وقد يقال: لهذه السيرة رادع من الكتاب والسنّة.

أمّا من الكتاب: فبقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(2)، والجاهل يجب عليه تعييناً السؤال عن أهل الذكر، لا أنّه واجب مخيّر بأن يكون غير ماُموراً بالسؤال من أهل الذكر أو غيرهم مخيّراً بينهما، ومن الواضح، أنّ من يعلم مسألة أو مسألتين فلا يصدق عليه أنّه من أهل الذكر، فالمتعيّن هو الرجوع إلى المجتهد المطلق، دون المتجزّي.

وفيه: أوّلاً: أنّه إنّما يصحّ لو كانت الآية دالّةً على وجوب التقليد، وأنّ السؤال مقدّمة للعمل، ولكنّ ظاهرها أنّ السؤال إنّما هو من باب المقدّمة لحصول العلم، ويمكن أن يكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود، وقد أمر اﷲ تعالى الجاهلين بالسؤال عنهم لكونهم عالمين بالتوراة، فالآيةالكريمة واردة في باب تعلّم اُصول الدين، أي: إذا لم يكن لكم علم بالبراهين والحجج والكتب فاسألوا أهل الذكر فإنّهم يعلمون بذلك.

ص: 431


1- المصدر نفسه 1: 190.
2- النحل: الآية 43.

وثانياً: حتى على فرض التنزّل والقول بكون الآية شاملةً لمورد التقليد، فلا يتمّ ما ذكر؛ لأنّنا لم نقل بجواز تقليد المتجزّي إلّا إذا كان يعلم جملةً من الأحكام المعتدّ بها بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه والعالم، وحينئذٍ، فإذا صدق عليه هذا العنوان، صدق عليه - أيضاً - عنوان (أهل الذكر).

وأمّا آية النفر، فهي وإن أمكن أن تكون ظاهرةً في وجوب التقليد، إلّا أنّها - أوّلاً - ليست في مقام الحصر لتدلّ على أنّ وجوب الحذر يترتّب على إنذار الفقيه حتى يقال: إنّ العالم المتجزّي ليس بفقيه، فلا تكون الآية صالحةً للرادعيّة. وثانياً: قد عرفت أنّ جواز الرجوع المتجزّي إنّما هو بعد استنباطه لجملة من الأحكام بحيث يصدق عليه عنوان الفقيه.

وأمّا الروايات:

فمنها: قوله(علیه السلام): «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه..»(1).

ولكنّها واردة في بيان أوصاف من يجوز تقليده، لا في مقام بيان أنّه لابدّ أن يكون فقيهاً، وأنّ الفقاهة معتبرة فيه.ومنها: مقبولة ابن حنظلة المتقدّمة، حيث ورد فيها: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً»(2).

ص: 432


1- وسائل الشيعة 27: 131، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، ح 20.
2- مرّ تخريجها آنفاً.

وفيه: أوّلاً: أنّ هذه المقبولة واردة في باب القضاء، ولابدّ من دليل يثبت أنّ ما اعتبر في القاضي هو بعينه معتبر في المجتهد.

وثانياً: أنّها معارضة بحسنة أبي خديجة، حيث ورد فيها: «ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا...»(1)، حيث دلّت على أنّ من تعلم شيئاً من قضاياهم(علیهم السلام)كافٍ في أن يصبح قاضياً، وهذا متحقّق في المتجزّي كالمطلق.

والحاصل: أنّ الكتاب والسنّة لا يدلّان على عدم جواز الرجوع إلى المتجزّي مطلقاً، بل إذا لم يصدق عليه عنوان الفقيه، والمتجزّي إذا استنبط جملةً معتدّاً بها من الأحكام صدق هذا العنوان عليه، فيكون تقليده جائزاً.

وأمّا ما قد يُدّعى من الإجماع على عدم الجواز، فقد عرفت حاله؛ فإنّ هذه الإجماعات مضافاً إلى كونها منقولة، فهي محتملة المدركيّة.بقي الكلام فيما إذا كان المجتهد المطلق لم يستنبط ولو في موردٍ واحد فهل يجوز له أن يقلّد الغير أم لا؟ وهل يجوز للغير تقليده أم لا؟

لا يخفى: أنّه لمّا كان حائزاً على ملكة الاستنباط، فلا تشمله أدلّة رجوع الجاهل إلى العالم، فلا يجوز له الرجوع إلى الغير.

لا يقال: إنّ الملكة بمجرّدها لا تفيد، بل لابدّ وأن يكون فقيهاً بالفعل،

ص: 433


1- وسائل الشيعة 27: 13، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح 5.

وما دام لم يستنبط فلا يصدق عليه عنوان العالم والفقيه، فيجوز له الرجوع إلى الغير.

فإنّه يقال: إنّ صاحب الملكة والمتمكّن من الاستنباط، وإن كان لم يستنبط فعلاً، إلّا أنّه لا يمكنه الرجوع إلى الغير بعد أن رأى عدم حجّيّة فتوى المخالف، وبعد عدم صدق الجاهل عليه عرفاً.

وأمّا رجوع الغير إليه، فلا يجوز؛ لأنّ الأدلّة الدالّة على جواز التقليد تستفاد - كما عرفنا - من العقل أو الكتاب أو السنّة أو السيرة العقلائيّة، وهي بأجمعها منصرفة عمّن لم يستنبط، ولو كانت لديه ملكة الاجتهاد.

وأمّا ثبوت الولاية للمتجزّي على أموال الغيّب والقصّر:

فيقول الاُستاذ المحقّق(رحمة الله):

«إنّ مسألة الولاية - كما حقّقناها في محلّها - لها درجات ثلاث:الأُولى: أن يكون له الولاية على الحسبيّات فقط، أي: الاُمور التي نعلم بمحبوبيّتها عند الشارع وعدم رضائه بتركها، كحفظ أموال الغيّب والقصّر وسائر ما شابههما.

الثانية: الولاية على الاُمور النوعيّة التي هي عبارة عن الأعمال التي تُعمل لأجل مصالح المسلمين، وذلك كأعمال الولاة والسلاطين، فما كان من شؤونهم يكون داخلاً في هذا القسم.

الثالثة: الولاية المطلقة حتى على الاُمور الشخصيّة، وذلك كطلاق زوجة زيد - مثلاً - أو بيع داره، بل هبتها، لشخص.

ص: 434

والولاية بهذا المعنى الأخير على الظاهر عدمه للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة من المسلّمات، ولم يقل بها أحد في حقّ الفقيه إلّا من شذّ ولا يعتنى بكلامه.

كما أنّ القسم الأوّل من المسلّمات ثبوته له، حتى أنّه لو لم يكن هناك مجتهد يجب أن يقوم بها عدول المؤمنين، وعلى فرض عدمهم، فلازمٌ أن يقوم بها فسّاق المؤمنين، كلّ ذلك لأجل ما ذكرنا من محبوبيّتها للشارع وعدم رضائه بتركها.

وأمّا القسم الثاني، ففيه كلام طويل، وهو محلّ الخلاف، ونحن رجّحنا ثبوته للفقيه الجامع للشرائط في محلّه؛ لقوله(علیه السلام): (مجاري الاُمور بيد العلماء الاُمناء على حلاله وحرامه) (1)».

ثمّ قال(قدس سرّه):«وأمّا شموله للمتجزّي في غاية الإشكال؛ لأنّ موضوع هذه الولاية هو عنوان العلماء والفقهاء، أو رواة الحديث، وكلّ هذه العناوين منصرفة عن المتجزّي، إلّا أن يكون المتجزّي بمرتبةٍ بحيث يعرف جملةً مهمّةً ومقداراً معتدّاً به من الأحكام الشرعيّة، بحيث يصدق وينطبق هذه العناوين أو أحدها عليه»(2).

ص: 435


1- انظر: بحار الأنوار 97: 80، الحديث 37، بتفاوت يسير.
2- منتهى الاُصول 2: 625.

الأمر الخامس :التخطئة والتصويب:

لا يخفى: أنّ المجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وكما في الاُمور العقليّة لا يمكن تصويب كلا الرأيين المتنافيين؛ لأنّه يستلزم اجتماع الضدّين أو النقيضين، بل لابدّ أن يكون أحدهما صواباً والآخر خطأً، ولا يمكن أن تكون جميع آراء العقلاء صائبةً، فكذلك - أيضاً - في الشرعيّات، فإذا اختار أحد المجتهدين رأياً، كوجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة، وقال المجتهد الآخر بوجوب صلاة الجمعة فيه، وقلنا بأنّ الحكم الثابت واقعاً في يوم الجمعة هو إمّا الظهر أو الجمعة، فأحد هذين الرأيين فقط يكون صواباً، وأمّا الآخر فهو خطأ لا محالة، ولا يمكن القول بأنّ كلا الرأيين صواب؛ لتأديته - أيضاً - إلى اجتماع النقيضين.وفي هذه المسألة خلاف كبير بين فقهاء المسلمين، فقسم منهم، وهم فقهاء العامّة، يقولون بالتصويب، وقسم آخر، وهم الخاصّة، يقولون بالتخطئة.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم في المقام: أنّ التصويب على قسمين:

الأوّل: التصويب المحال، وهو المنسوب إلى الأشاعرة، وحاصله: أنّه ليس في الواقع حكم ﷲ تعالى، وأنّ المجتهد مصيب دائماً؛ إذ قيام الأمارات والطرق لديه يكون سبباً لحدوث المصلحة في الشيء الذي انتهى إليه، وهذه المصلحة تستتبع جعل الحكم على طبقها، فليس هناك

ص: 436

من حكم واقعيّ وراء ما أدّى إليه قيام الأمارة أو الأصل عند المجتهد، فتكون النتيجة: تبعيّة الحكم الواقعيّ لآراء المجتهدين، وأنّ جعل الحكم يكون متأخّراً عن قيام الأمارة عليه.

وهذا المعنى من التصويب باطل ومحال؛ وذلك لأنّه لو لم يكن هناك من حكم واقعيّ مجعول قبل الأمارة، فعن ماذا تكون الأمارة كاشفة وحاكية؟ ضرورة أنّه لا يعقل تحقّق الكشف من دون مكشوف، فلو توقّف ثبوته على قيام الأمارة عليه للزم الدور المحال.

أضف إلى ذلك، أنّ هذا المعنى من التصويب يستلزم اختصاص الأحكام الشرعيّة بخصوص من قامت عنده الأمارة، وهو مخالف لما دلّ على أنّه ما من واقعة إلّا وﷲ فيها حكم يشترك فيه الجاهل والعالم، من قامت عنده الأمارة، ومن لم تقم عنده.والثاني: التصويب الباطل، لا لمكان استحالته، بل لقيام الإجماع على بطلانه. وهو المنسوب إلى المعتزلة. وحاصله: أنّه ولو كان في الواقع أحكام مجعولة حسبما فيها من المصالح، والأمارات تكون حاكية عنها، ولكن إذا فرض قيام الأمارات عند المجتهد، فإنّ قيامها هذا يكون سبباً لحدوث مصلحة فيما أدّت إليه أقوى ممّا فيه من المصلحة الواقعيّة، فما أدّت إليه الأمارة هو الحكم الفعليّ بالنسبة إلى المجتهد، ولابدّ أن يعمل طبق مؤدّاها هي، دون الواقع، وبذلك تصبح الأحكام الواقعيّة غير فعليّة، بل هي - حينئذٍ - مجرّد أحكامٍ صوريّة.

ص: 437

وهذا المعنى وإن كان معقولاً في حدّ نفسه، وليس فيه من استحالة عقليّة، إلّا أنّ الإجماع قام على بطلانه، وعلى أنّ الأمارة لا تكون مغيّرة للواقع، كما أنّ المستفاد من الأخبار هو اشتراك الجاهل والعالم في الحكم، ما يعني عدم صحّة القول بأنّ الأحكام الواقعيّة مختصّة بالعالمين بها فقط.

على أنّ ذلك هو ما تقتضيه - أيضاً - إطلاقات أدلّة الأحكام في حدّ نفسها، فإنّ الدليل الذي دلّ على حرمة الخمر - مثلاً - مقتضى إطلاقه هو عدم اختصاص هذه الحرمة بالعالمين بها فقط، بل أنّ الخمر يكون حراماً مطلقاً، علم المكلّف بحرمته أم لم يعلم، قامت أمارة على الخلاف أم لم تقم.

وأمّا توهّم أنّ تعميم الحكم الواقعيّ للجاهلين لازمه اجتماع حكمين متضادّين على موضوع واحد، وهو محال؛ ببيان: أنّالشيء الواحد - حينئذٍ - يكون في حقّ الجاهل محكوماً بحكمين، أحدهما: الحكم الواقعيّ، والآخر: الحكم الظاهريّ.

ففاسد؛ لما قرّرناه في محلّه في مبحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ.

فالحقّ - إذاً - هو القول بالتخطئة كما عليه أصحابنا.

الأمر السادس :في الإجزاء بعد تبدّل الرأي:

لا يخفى: أنّ الأمر تارةً: يكون واقعيّاً أوّليّاً، وأُخرى: واقعيّاً ثانويّاً، وثالثةً: يكون ظاهريّاً، فلو أتى بالماُمور به على طبق أمره، فإنّه مجزٍ له

ص: 438

قطعاً؛ لحصول الغرض منه، فيكون الأمر ساقطاً قهراً؛ ضرورة أنّه لو لم يسقط لكان من قبيل طلب الحاصل، والامتثال عقيب الامتثال، وهو أمر غير معقول؛ إذ بعد سقوط الأمر لا يبقى معنى للامتثال الثاني أصلاً.

وقد يقال: بل هو ممكن وواقع، كما في صلاة المنفرد إذا صلّاها، فيعيدها جماعة.

ولكن قد عرفت: بأنّ هذا ليس من قبيل الامتثال بعد الامتثال، أي: انبعاثه ثانياً عن أمر المولى؛ إذ بعد سقوط الأمر بالانبعاث الأوّل الذي أتى فيه بالماُمور به بجميع أجزائه وشرائطه مع إعدام موانعه، فلا يبقى أمر - أصلاً - حتى ينبعث عنه ثانياً.

ولذا قال اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):«وأمّا مسألة إعادة المنفرد صلاته جماعةً، أو الإمام مرّةً واحدةً أُخرى إماماً، فليس من قبيل تبديل الامتثال، بل من جهة أنّ الغرض الأقصى حيث لم يحصل بعد، فللعبد أن يأتي بفردٍ آخر من طبيعة الماُمور به، لا بعنوان الامتثال الثاني، أو بعنوان تبديل الامتثال؛ لأنّ الامتثال حصل بالإتيان الأوّل، وسقط الأمر، بل برجاء أن يكون أحبّ إليه من الفرد الأوّل، فيختاره لغرضه الأقصى.

وهذا المعنى متوقّف على أمرين:

أحدهما: عدم حصول الغرض الأصليّ بمجرّد وجود الماُموربه أو اختياره لغرضه الأصليّ بمجرّد وجوده.

ص: 439

وثانيهما: احتمال أن يكون ما يريد أن يأتي به ثانياً هو الذي يختاره المولى، وبعد وجود هذا الاحتمال، لا فرق بين أن يكون ما يريد أن يأتي به ثانياً في نظره أفضل من الذي أتى به أوّلاً أو مساوياً له، ولا يحتاج إلى وجود دليلٍ على هذا الأمر بعد هذا الاحتمال أيضاً إذا جاء به برجاء أنّه هو المختار. نعم، استحبابه يحتاج إلى الدليل، كما أنّهم أفتوا في الموردين المتقدّمين لأجل ذلك»(1).

وقد تقدّم في محلّه في مبحث الإجزاء كلام مفصّل يرتبط بهذا البحث، فلا نعيد.

وإنّما الكلام فيما نحن فيه، في أنّ القاعدة في مورد تبدّل رأي المجتهد، أو العدول من مجتهدٍ إلى الآخر مع تخالفهما في الفتوى، هل تقتضي الإجزاء، إلّا أن يدلّ الدليل علىعدمه، أم أنّها تقتضي عدم الإجزاء ووجوب الإعادة في الوقت والقضاء خارجه؟

لا يخفى: أنّه بناءً على السببيّة - بمعنى: أنّه من طرف قيام الأمارة أو الأصل توجد مصلحة في المتعلّق - فيمكن أن نقول بالإجزاء، أمّا بناءً على الطريقيّة فالإجزاء بحاجةٍ إلى الدليل، لأنّه الآن لا يرى ذلك طريقاً، بل يراه مخطئاً، فالصلاة التي أتى بها - مثلاً - بفتوى المجتهد الأوّل بتسبيحة واحدة، مع فتوى المجتهد الثاني بعدم كفاية التسبيحة الواحدة،

ص: 440


1- منتهى الاُصول 1: 242.

فهو لا يراها الآن تامّةً؛ لأنّه لم يأتِ بالماُمور به التامّ، ولم يأتِ بما هو بدل عنه، فالإجزاء يحتاج إلى دليل. وعليه: فمقتضى القاعدة هو القول ببطلان ما أتى به أوّلاً، ولابدّ من الإعادة في الوقت والقضاء خارجه.

وقد يقال: بأنّ هذا الكلام تامّ فيما لو كان هناك حجّة معتبرة على الخلاف، كما لو أحرز بالعلم الوجدانيّ أنّه على خلاف الواقع. وأمّا إذا كان كلّ من الاجتهادين ممّا يحتمل مخالفته للواقع، فعمل المقلّد وإن كان يجب أن يكون مطابقاً للاجتهاد اللّاحق، ولكنّ الاجتهاد الأوّل قد كان حجّة في ظرفه، والثاني، وإن كان حجّة بالفعل، إلّا أنّه مع ذلك لا يكشف عن عدم حجّيّة الاجتهاد الأوّل في ظرفه، فلا وجه لبطلان الأعمال المتقدّمة التي أتى بها على طبق الاجتهاد الأوّل، حيث إنّه في ظرفه كان متّصفاً بالحجّيّة.

ولكن قد عرفت أنّ قيام الحجّة الثانية ولو لم يكن كاشفاً عن عدم حجّيّة الاجتهاد الأوّل في ظرفه، إلّا أنّ مقتضاها،أعني: الحجّة الثانية، هو ثبوت مدلولها من أوّل الأمر، لا أنّها مختصّة بعصر دون عصر، فيكون العمل على طبق الحجّة الأُولى باطلاً بعد قيام الحجّة الثانية، فلابدّ من الإعادة والقضاء، فإنّ احتمال مخالفة الحجّتين للواقع، وإن كان موجوداً، لكنّ هذا الاحتمال يلغى بالنسبة إلى الحجّة الثانية؛ لأنّ حجّيّتها فعليّة بحسب الفرض، فلا يكون له في صورة مخالفتها مؤمّن من العقاب، والعقل يستقلّ بلزوم تحصيل المؤمّن، فإذا

ص: 441

كان عمله مطابقاً مطلقاً للحجّة الثانية، كان له المؤمّن، فاندفع عنه احتمال الضرر، وأمّا ما أتى به المكلّف أوّلاً، فهو حيث كان مخالفاً لمقتضى الحجّة الثانية، فلا يحصل للمكلّف العلم بمطابقته للواقع، وعليه: قإذا تبدّل رأي المجتهد في جميع أبواب الفقه، من العبادات أو المعاملات، بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ، والأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة، فمقتضى القاعدة أنّه لابدّ من الإعادة أو القضاء، وهذا مساوق للقول بعدم الإجزاء.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية)(1) نسب إلى صاحب الفصول(قدس سرّه) القول بالتفصيل بين الأحكام ومتعلّقاتها والموضوعات، والقول بالإجزاء في الأحكام دون الموضوعات، والدليل الذي ذكره لعدم الإجزاء في الموضوعات: هو أنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين.قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه): «وقد أشكل في فهم مراده من هذه العبارة، حتى أنّه قيل: إنّ شيخنا الأعظم(قدس سرّه) بعث أحد عظماء تلامذته للسؤال عن صاحب الفصول عن معنى هذه العبارة، فما أتى صاحب الفصول بشيءٍ في مقام الجواب يمكن أن يركن النفس إليه»(2).

فهذا التفصيل منه(قدس سرّه) لا دليل عليه.

ص: 442


1- انظر: كفاية الاُصول: 470، نقلاً عن الفصول الغرويّة: 409، في فصل رجوع المجتهد عن الفتوى.
2- منتهى الاُصول 2: 629.

وقد يستدلّ على الإجزاء باُمور:

منها: لزوم العسر والحرج على القول بعدمه، وهما منفيّان في الشريعة المقدّسة، خصوصاً بالنسبة إلى العبادات، فلو أنّ شخصاً قلّد مجتهداً لمدّة طويلة، ثمّ تبدّل رأي هذا المجتهد، أو مات وقلّد مجتهداً آخر بعده، وكانت فتوى المجتهد الثاني مخالفةً لفتوى المجتهد الأوّل، فإنّ القضاء بالنسبة إلى المقلّد، والحال هذه، يكون حرجيّاً.

ولكن فيه: أنّ الكلام إنّما هو في مقتضى القواعد الأوّليّة، والإجزاء إنّما يثبت بالقواعد الثانويّة، وقاعدة العسر والحرج لا تنافي عدم الإجزاء ووجوب القضاء بالقاعدة الثانويّة.

وأيضاً: فقد مرّ في محلّه أنّ الحرج والضرر المنفيّين في الشريعة هما الحرج والضرر الشخصيّان، لا النوعيّان، والضرر والحرج الشخصيّان يختلفان بحسب اختلاف الموارد والأشخاص، فينبغي أن يقال - حينئذٍ -: بأنّه إذا كان هناكحرج في موردٍ بالنسبة إلى شخصٍ ما، فيرتفع الحكم بالنسبة إلى هذا الشخص دون غيره ممّن لا حرج عليه.

ومنها: الإجماع.

وفيه: أنّه قد عرفت مراراً حال هذه الإجماعات، وأنّها - من جهةٍ - منقولة، ومن جهةٍ أُخرى: محتملة المدركيّة.

قال اُستاذنا الأعظم(رحمة الله) في المقام ما لفظه:

«والجواب عن ذلك: أنّ الإجماع المدّعى لو كان محصّلاً لم نكن

ص: 443

نعتمد عليه، لما يأتي بيانه، فما ظنّك بما إذا كان إجماعاً منقولاً بالخبر الواحد، وسرّه: أنّ تحصيل الإجماع في المسألة دونه خرط القتاد؛ إذ كيف يمكن استكشاف قوله(علیه السلام) في المقام ولم يتعرّض أكثر الأصحاب للمسألة، ولم يعنونوها في كلماتهم؟(قدس سرّه)

هذا. على أنّا لو سلّمنا اتّفاقهم، أيضاً: لم يمكننا الاعتماد عليه؛ لأنّا نعلم أو نظنّ، ولا أقلّ من أنّا نحتمل استنادهم في ذلك إلى بعض الوجوه المستدلّ بها في المقام، ومعه: لا يكون الإجماع تعبّديّا كاشفاً عن قوله(علیه السلام)»(1).

ومنها: سيرة المتشرّعة، وقد ادّعوا بأنّ هذه السيرة جارية على عدم لزوم الإعادة أو القضاء، حيث لم نستعهد أحداً يعيد أو يقضي ما أتى به من العبادات مدّة حياته إذا عدل عن رأيه، أو تبدّلت فتوى مجتهده، وهذه السيرة لم يكن هناك رادع عنها في الشريعة المقدّسة، فلابدّ أن نقولبالإجزاء عدم وجوب الإعادة أو القضاء إذا عدل المجتهد عن رأيه.

وفيه: أنّ إثبات اتّصال هذه السيرة المستمرّة بزمان المعصوم(علیه السلام) بحاجة إلى دليل.

يقول الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه): «على أنّا لو سلّمنا استكشاف السيرة بوجه،

ص: 444


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 43.

فمن أين يمكننا إحراز اتّصالها بزمان المعصومين(؛ إذ لا علم لنا بأنّ شخصاً واحداً، فضلاً عن جماعةٍ، اتّفق له العدول في عصرهم(، وبنى على عدم إعادة الأعمال المتقدّمة، ولم يردع عنه الإمام(علیه السلام)، حتى نستكشف اتّصال السيرة بزمانهم، وكونها ممضاةً عندهم(، ومن الممكن أن تكون السيرة مستندةً إلى فتوى جماعةٍ من الفقهاء قدّس اﷲ أسرارهم.

والذي يوقفك على ذلك: أنّ المسألة لو كانت عامّة البلوى في عصرهم(علیهم السلام)لسئل عن حكمها، ولو في روايةٍ واحدة، وحيث لم ترد إشارة إلى المسألة في شيءٍ من النصوص، فنستكشف بذلك: أنّ كثرة الابتلاء بها إنّما حدثت في الأعصار المتأخّرة، ولم يكن منها في عصرهم(علیهم السلام)عين ولا أثر. فالسيرة - على تقدير تحقّقها - غير محرزة الاتّصال بعصرهم، ولا سبيل معه إلى إحراز أنّها ممضاة عندهم(علیهم السلام)أو غير ممضاة»(1).وممّا ذكرنا ظهر: أنّ الإجزاء خلاف القاعدة، فلابدّ من الإعادة في الوقت، والقضاء خارج الوقت. نعم، لو قلنا بشمول قاعدة (لا تعاد) للجاهل القاصر، ففي الصلاة، إذا كان الإخلال بغير الوقت والقبلة والركوع والسجود والطهور فهي مجزية.

ص: 445


1- المصدر نفسه 1: 44.

وأمّا المقام الثاني:

اشارة

والكلام فيه في التقليد.

وهو: «الالتزام بالعمل برأي الغير ولو لم يعمل بعد»، أو «رجوع الغير إلى من ثبت حجّيّة قوله عنده»، وبعبارة أُخرى: هو «نفس العمل برأي الغير مستنداً إليه».

قال الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه):

«والصحيح هو الثاني؛ لأنّ الذي يجب على العامل بالتكاليف الشرعيّة هو أن يكون له حجّة على أنّ عمله هذا مبرئ للذمّة، وتلك الحجّة: إمّا علم أو علميّ، والعامّيّ غير المحتاط حيث إنّه عاجز عن استعمال الحجج التفصيليّة ليس شيء له أقرب إلى الواقع من أن يجعل عمله مستنداً إلى رأي من هو قادر على استعمال تلك الحجج واستعملها فعلاً»(1).

فالمقلّد لابدّ له من أن يستند ويتّكئ في عمله على قول الغير.ولكنّ صاحب الكفاية(قدس سرّه) لم يرتضِ بذلك، بل قال: بأنّ التقليد هو الأخذ والالتزام، ومنع عن تفسيره بالعمل استناداً إلى رأي الغير، نظراً إلى أنّ التقليد إذا كان نفس العمل على طبق فتوى الغير فأوّل عملٍ يصدر من المكلّف يصدر من غير تقليد؛ فإنّ ذلك العمل غير مسبوق بالتقليد الذي

ص: 446


1- منتهى الاُصول 2: 631.

هو العمل، مع أنّ العمل لابدّ أن يكون مسبوقاً بالتقليد؛ لأنّ المكلّف لابدّ أن يستند في أعماله إلى حجّة، فكما أنّ المجتهد يستند إلى اجتهاده، وهو أمر سابق على عمله، كذلك العامّيّ، لابدّ أن يستند إلى التقليد، ويلزم أن يكون التقليد سابقاً على عمله.

وإليك نصّ كلامه(قدس سرّه):

«وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات، أو للالتزام به في الاعتقاديّات تعبّداً، بلا مطالبة دليلٍ على رأيه، ولا يخفى: أنّه لا وجه لتفسيره بنفس العمل؛ ضرورة سبقه عليه، وإلّا كان بلا تقليد، فافهم»(1).

وقد أجاب عن هذا اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه): بأنّ «التقليد - كما مرّ - لون وعنوان للعمل، فهو أمر مقارن معه، ولا يعتبر فيه السبق زماناً، فإذا عمل المكلّف عملاً مستنداً إلى فتوى الغير، كان ذلك العمل مقروناً بالتقليد لا محالة، وهو كافٍفي صحّته، ولا دليل على اعتبار سبق التقليد على العمل»(2).

وخلاصة الكلام: أنّه ليس هناك ما يدلّ على أنّ معنى لابدّيّة أن يكون عمل العامّيّ عن تقليد هو لزوم سبق التقليد على العمل، بل معناه: أنّ عمل العامّيّ يجب أن يكون مستنداً إلى رأي المجتهد إن لم يحتط،

ص: 447


1- كفاية الاُصول: 472.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 60.

فنفس عمله بهذا العنوان هو مصداق لمفهوم التقليد أيضاً، ولا دليل على مسبوقيّة التقليد على العمل، فيكون المقام كإعطاء مال إلى شخص بقصد أن يكون ملكاً له بعوض ماليّ، فهذا يصدق عليه مفهوم البيع، فكذلك نفس عمل العامّيّ مستنداً إلى رأي الغير، يصدق عليه التقليد أيضاً.

ثمّ إنّه لا ثمرة فقهيّة في كون التقليد هو الالتزام أو العمل، اللّهمّ إلّا في النذر، وفي مسألة البقاء على تقليد الميّت، فإن قلنا بأنّ التقليد هو الالتزام، ولو لم يعمل بعد، فلو مات مجتهده، فيجوز له أن يبقى على تقليده، وأمّا إذا قلنا بأنّه هو العمل، فلا يجوز له البقاء على تقليده ما لم يعمل بفتاواه في حياته، لأنّه يكون من تقليد الميّت ابتداءً، ولو كان في أثناء حياته ملتزماً بأن يعمل على طبقها.

ولا بأس هنا بالتعرّض لمعنى الاحتياط، فنقول:

الاحتياط هو أن يأتي بما يحتمل وجوبه، ويترك ما يحتمل حرمته، فبالاحتياط يحرز الواقع - وهذا هو الوجه في حجّيّته وجوازه -، ويمكن أن يقال: بأنّ العمل به يكون أفضل منالعمل بالاجتهاد والتقليد؛ لأنّه لم يخالف الواقع أصلاً، لكن قد لا يمكن العمل بالاحتياط في بعض الموارد، كما إذا دار الأمر بين المحذورين، أو لكثرة أطراف الشبهة، بحيث لا يتمكّن المكلّف من الإتيان بجميع أطرافها، وكما إذا كان العمل عباديّاً، فالمكلّف لا يتمكّن من إتيانها بنحو الامتثال الإجماليّ، مع التمكّن من الإتيان بها على نحو التفصيل.

ص: 448

ولا يخفى: أنّ العامل بالاحتياط لابدّ له من أن يعرف موارد الاحتياط، وإلّا، فلا يجوز له العمل بالاحتياط؛ إذ قد يكون الاحتياط في مخالفة الاحتياط.

والاحتياط قد يكون في العبادات، وقد يكون في المعاملات.

أمّا الأوّل، فلا مانع منه، استلزم الاحتياط فيها تكرار العمل، أو لم يستلزم.

وقد يتوهّم لزوم قصد الوجه فيها، بدليل عقليٍّ أو نقليّ.

ولكن فيه: أنّ كليهما مفقودان؛ أمّا العقل، فهو لا يرى توقّف الإطاعة على أزيد من لزوم الانبعاث عن بعث المولى خارجاً، ولا يرى دخل شيء آخر فيها جزماً.

وأمّا النقل، فلا أثر للإلزام بهذا القصد في الأخبار، مع ما نراه من كثرة ابتلاء الناس بالعبادات، وليس هناك من داعٍ للإخفاء في مثل هذه الاُمور عادةً، بل الداعي إلى الإظهار موجود، فهذا أدلّ دليل على عدم لزومه.

وأماّ التوصّليّات، فبما أنّ المفروض سقوط العمل فيها بمجرّد وجود الماُمور به في الخارج، فلا يعتبر فيها شيءآخر ،فإذا فرض تحقّقه في الخارج، ولو في ضمن اُمور متعدّدة، فيسقط الأمر لا محالة، بلا فرق بين العقود والإيقاعات وغيرهما، فمتى أوجد المكلّف ما هو سبب للملكيّة عند الشارع فيترتّب عليه الأثر لا محالة، بلا فرقٍ بين أن يكون متمكّناً من العلم التفصيليّ أم لا، وسواء كان مستلزماً للتكرار، كتردّد المايع بين

ص: 449

أن يكون مضافاً أو مطلقاً، أم لا؛ لأنّ المقصود من التوصّليّة - كما قلنا - إنّما هو حصول المتعلّق وتحقّقه بأيّ وجهٍ اتّفق، وكذا في المعاملات بالمعنى الأخصّ، فإنّ الاحتياط فيه حسن ومشروع، فلو فرض أنّ صيغة النكاح إمّا أن تحصل بلفظ (زوّجْتُ) أو (أنكحْتُ)، فيجوز له أن يجمع بين الصيغتين، كما إذا شكّ في أنّ الطلاق له يتحقّق بالجملة الفعليّة ﻛ (طلّقتك)، أو الاسميّة ﻛ (أنت طالق) أو (زوجتي طالق)، فلا مانع من أن يجمع بين الصيغتين.

ثمّ لو شككنا في أنّ الاحتياط والامتثال الإجماليّ هو في عرض الامتثال التفصيليّ أم في طوله، أي: أنّ الانبعاث لابدّ أن يكون مستنداً إلى الأمر جزماً، أو يكفي الانبعاث إذا استند إلى احتمال الأمر يكفي في الامتثال، فلا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال؛ لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في كيفيّة الطاعة والامتثال، وحينئذٍ: نقول بمنع الاحتياط، وأنّه لابدّ من الامتثال تفصيلاً.

ولكن يمكن أن يقال: بعد فرض أنّ الاحتياط يكون في عرض الامتثال التفصيليّ، فإنّ الإضافة إلى اﷲ عزّ وجلّكما تتحقّق بالإتيان على وجه التفصيل، فهي تتحقّق - أيضاً - بالإتيان على وجه الإجمال؛ لأنّه - أيضاً - نحو إضافة إلى اﷲ سبحانه، فإنّه لو أتى بالعمل رجاءً يكون ممتثلاً - أيضاً -، والفقهاء متّفقون على أنّه لا فرق بين الإتيان التفصيليّ والإجماليّ، بل كلاهما يكون واقعاً على وجه الإطاعة والانقياد للمولى.

ص: 450

وفي المقام يقول اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه):

«على أنّا لو شككنا في ذلك فالمرجع هو البراءة دون الاشتغال؛ إذ لا شكّ لنا في مفهوم العبادة، وإنّما الشكّ في واقعها وما يتّصف به العمل بالعبادة، فمرجع الشكّ - حينئذٍ - إلى أنّ الشارع هل اعتبر في متعلّق الأمر التحرّك عن تحريكه، والتحرّك عن احتمال الأمر والتحريك، فالجامع بين الاحتمالين، وهو لزوم الإتيان بالعمل بقصد الامتثال، معلوم، واعتبار كونه على وجه التفصيل، أعني: اعتبار كون التحرّك مستنداً إلى تحريك المولى مشكوك فيه، ومعه: يرجع إلى البراءة عن اعتبار ما يشكّ فيه بناءً على ما هو الصحيح عندنا من جريان البراءة في مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير»(1).

ثمّ إنّ الوجوب النفسيّ لا يتصوّر في الاحتياط؛ لأنّه عنوان لنفس العمل، لا أنّه طريق لمعرفة الأحكام.

يقول الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه):«أمّا احتمال أن يكون الوجوب النفسيّ في تلك الطرق مستنداً إلى المصلحة الواقعيّة الباعثة على الإيجاب الواقعيّ، فيدفعه: أنّه إنّما يتمّ فيما إذا أثبتنا وجوبها شرعاً؛ فإنّه في مقام التعليل - حينئذٍ - يمكن أن يقال: إنّ وجوبها منبعث عن نفس المصلحة الواقعيّة، إلّا أنّه أوّل الكلام؛ لعدم قيام

ص: 451


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 52.

الدليل على وجوب الاجتهاد والاحتياط. نعم، لا بأس بذلك في التقليد بناءً على دلالة الأدلّة على وجوبه الشرعيّ، كما بنى عليه بعض مشايخنا المحقّقين(قدس سرّه)»(1).

وأمّا ما قد يقال: من أنّه يمكن استفادة الوجوب النفسيّ في التقليد، من مثل ما ورد من أنّ «طلب العلم فريضة»(2)، وقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(3)، وغيرهما.

ففيه: أنّ تعلّم الأحكام ليس بواجبٍ نفسيّ، بل هو طريق إلى العمل، كما ورد في بعض الروايات أنّه:

«إذا كان يوم القيامة قال اﷲ تعالى للعبد: أكُنْتَ عالماً؟ فإن قال: نعم، قال: أفلا عملْتَ بما علمْتَ؟ وإن قال: كُنْتُ جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت؟ فتلك الحجّة البالغة ﷲ تعالى»(4).وقد عرفت: أنّ السؤال أوّلاً إنّما كان عن العمل، لا عن التعلّم، فلا يجب العلّم وجوباً نفسيّاً، ولأنّه لو ترك التعلّم ولم يصلّ - مثلاً - فليس هناك إلّا عقاب واحد، وهو العقاب من جهة تركه للعمل، لا عقابان.

ص: 452


1- المصدر نفسه 1: 6.
2- وسائل الشيعة 27: 25، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، ح 15.
3- النحل: الآية 43.
4- بحار الأنوار 2: 180، باب 25، ح 3.

حجّيّة التقليد وجوازه:

لا ينبغي الشكّ في جواز التقليد للعامّيّ في الأحكام الشرعيّة، وذلك لسيرة العقلاء وبنائهم العمليّ؛ فإنّه قائم على رجوع الجاهل إلى العالم في كلّ مسألة، ولولا هذا لاختلّ نظام العالم، ولم يعهد عن الشارع ردع عن هذه السيرة، بل على العكس، فهو قد أمضى عملهم هذا وأقرّهم عليه، ويستفاد الإمضاء من الآيات والروايات.

أمّا الآيات:

فمنها: آية النفر.

ومنها: قوله تعالى: ﴿فَاسْأَل---ُواْ أَهْلَ الذكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(1).

وأمّا السنّة:

فمنها: ما روي من قول عبد العزيز بن المهتدي للإمام(علیه السلام): «لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالمديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم»(2).

وهو مطلق يشمل قبول قول الثقه في الرواية والفتوى.

ومنها: قوله(علیه السلام) حينما سأله ابن ابي يعفور عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة: «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ؛ فإنّه سمع من

ص: 453


1- النحل: الآية 43.
2- وسائل الشيعة 27: 147، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 33.

أبي، وكان عنده وجيهاً»(1).

ومنها: قوله(علیه السلام) لشعيب العقرقوفي بعد سؤاله عمّن يرجع إليه: «عليك بالأسديّ، يعني: أبا بصير»(2).

ومنها: قول أبي جعفر لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي اُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك»(3).

ومنها: التوقيع الشريف: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اﷲ»(4).وغير ذلك من الروايات، وهي كثيرة يمكن دعوى حصول الاطمئنان بدلالتها على جواز التقليد، مع اختلاف مضامينها.

وقد يستدلّ على جواز التقليد بالإجماع.

ولكن قد عرفت مراراً حال هذه الإجماعات، وأنّها ليست تعبّديّة كاشفة عن قول المعصوم، مضافاً إلى أنّها مظنونة المدركيّة، بل يمكن القطع بأنّ مدركه هو أمثال هذه الروايات التي نقلناها، مضافاً إلى عدم تحقّق الإجماع هنا مع اتّفاق الأخباريّين على عدم جواز التقليد.

ص: 454


1- المصدر نفسه 27: 144، ح 23.
2- المصدر نفسه 27: 142، ح 15.
3- رجال النجاشي: 10، الترجمة رقم 7.
4- وسائل الشيعة 27: 140، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9.

مسألة :هل يجوز تقليد الميّت ابتداءً؟

في المسألة أقوال:

1. جواز تقليد الميّت مطلقاً، ابتداءً واستدامةً.

2. عدم الجواز مطلقاً.

3. المنع منه ابتداءاً، والقول بجوازه استدامةً.

4. التفصيل بين أن يكون الظنّ الحاصل من قوله أقوى من الظنّ الذي يحصل من قول الحيّ، فيجوز، وإلّا، فلا.

5. التفصيل بين أن يكون المجتهد الحيّ الجامع لشرائط الفتوى موجوداً، وبين أن لا يكون كذلك، ففي الأوّل لا يجوز، وفي الثاني يجوز.

فبناءً على القول بالانسداد وأنّ النتيجة بناءً على الحكومة ليست مهملةً بالنسبة إلى مراتب الظنّ، وأنّ العقل يحكم بتقديم الظنّ الأقوى الحاصل من أحد الفتويين على الظنّ القويّ، فحينئذٍ: أيّ واحدٍ من الظنّين كان أقوى فيجب الأخذ به.ولكن فيه: أنّ حجّيّة التقليد - كما مرّت إليه الإشارة - لم يكن من جهة الانسداد، بل الدليل عليه هو السيرة وبناء العقلاء، وما ورد من الآيات والأخبار.

وأمّا التفصيل الأخير، فقال فيه اُستاذنا المحقّق(قدس سرّه):

«وأمّا التفصيل الثاني المنقول عن العلّامة والأردبيليّ والشيخ سليمان

ص: 455

البحرانيّ والشيخ عليّ بن هلال، فليس - أيضاً - تفصيلاً في هذه المسألة؛ لأنّ الكلام في هذه المسألة في الجواز وعدم الجواز بعد الفراغ عن إمكان الرجوع إلى الحيّ، وأمّا في مورد عدم إمكان الرجوع إلى الحيّ؛ لبُعْد البلاد، وعدم الوسيلة، أو لانقراض الاجتهاد - العياذ باﷲ -، فلا مناص من الرجوع إلى الميّت إن لم يمكن الاحتياط، أو لم نقل بوجوبه؛ لأدلّة نفي العسر أو للإجماع»(1).

فتبقى الأقوال الثلاثة الأُخرى، وهي: جواز التقليد مطلقاً، وعدم جوازه مطلقاً، والمنع من تقليد الميت ابتداءً وجوازه استدامةً.

أمّا القول بجواز التقليد ابتداءً، فهو قول العامّة برمّتهم بعد حصرهم المذاهب في الأربعة الذين ماتوا قبل أزيد من ألف سنة. وقد ينسب هذا القول - أيضاً - إلى أصحابنا من الأخباريّين، ولكنّ هؤلاء في الحقيقة منكرون للاجتهاد، وبابه مسدود عندهم، وإنّما هم يقولون بأنّ وظيفة الفقيه -بعد أن كان العامّيّ عاجزاً عنه بنفسه - هو أن يفسّر قول المعصوم(علیه السلام) ويبيّنه للعامّيّ، وهذا المعنى لا يفرّق فيه بين الحيّ والميّت.

وقد يستدلّ للقول بعدم الجواز بوجوه:

الأوّل: الإجماع.

ص: 456


1- منتهى الاُصول 2: 638 - 639.

وفيه: أنّه لو قلنا بحجّيّته فلا تضرّ مخالفة الأخباريّين؛ لأنّ مخالفتهم ليست من جهة أنّهم يجوّزون تقليد الميّت ابتداءً، بل خلافهم مسلكيّ ومبنائيّ؛ لأنّهم ينكرون التقليد بالمعنى المصطلح؛ فإنّ المجتهد عندهم ليس إلّا الناقل للرواية، ولو بالمعنى، ولا يعتبرون الحياة في الرواية. ولكنّ أصل مبناهم هذا باطل؛ لأنّ العقل - كما عرفنا - هو الذي يحكم بلزوم رجوع الجاهل إلى العالم، لكونه من أهل الخبرة، مع كون رأيه دخيلاً، لا لمجرّد أنّه راوٍ؛ لأنّ الفقيه والمفتي إنّما هو الناظر في الأخبار، القادر على تمييز الصحيح من السقيم، الخبير بكيفيّة الجمع بين المتعارضين، وحمل العامّ على الخاصّ، والمطلق على المقيّد.

لا يقال: لنا أن ننقض المقام بمثل نقل الرواية، فإنّه لا يمكن لأحد الإشكال في شمولها للميّت، وليس من فرقٍ بين المقامين.

فإنّه يقال: إنّ ما يفهمه العرف من دليل حجّيّة قول الراوي هو أنّ المرجع هو الرواية، لا الراوي، والرواية لا تسقط بموت الراوي، بل ليس دور الراوي إلّا أن يقوم بنقل الرواية، لا أنّه يفتي حقيقةً على حسب رأيه ونظره.ومن الظاهر: أنّ حجّيّة الرواية وجواز العمل بها لا يتوقّفان على حياة الرواي بوجهٍ، بل يجوز العمل بها، سواء كان المحدّث بها حيّاً أم ميتاً. وأمّا المرجع في الفتوى فهو المجتهد نفسه، لا الفتوى، على أنّ مثل الحديث المتقدّم «من كان من الفقهاء ...»، حصر جواز الرجوع في

ص: 457

الرجوع إلى الفقيه، فمن لا يصدق عليه عنوان (الفقيه) بالفعل، فلا يجوز الرجوع إليه.

الثاني: وهو منسوب إلى المحقّق الثاني، وحاصله: عدم بقاء رأي المجتهد بعد موته، فليس هناك شيء حتى يكون موضوعاً للحجّيّة(1).

قال الاُستاذ المحقّق(رحمة الله): «هذا الدليل هو عمدة أدلّتهم؛ لأنّ الإجماع - مضافاً إلى مخالفة الأخباريّين وهم شطر كبير من علماء الشيعة، وجمع من المجتهدين - في أمثال المقام، ممّا يكون للمجمعين مدارك عقليّة ونقليّة، ويسندون فتاواهم إلى تلك المدارك، ليس هو الإجماع الاصطلاحيّ الذي بنينا على حجّيّته في الاُصول»(2).

وكيف كان، فيمكن بيان هذا الوجه بطريقتين:

الأُولى: أنّه إذا مات الشخص، فبعد موته تنكشف له الواقعيّات، فإذا كان قد استنبط شيئاً ما في حال حياته، وكان ما استنبطه خطأً في تلك الحالة، فذلك الاجتهاد لم يبقَ علىحاله، بل يتبدّل لا محالة، ومعه: فلم يبقَ موضوع لحجّيّة رأيه.

وأجاب عنها الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) بأنّ هذا «توهّم محض؛ لأنّ النفس في كلّ صورة علميّةٍ حصلت لها من تصوّرٍ أو تصديقٍ أو ملكةٍ من الملكات

ص: 458


1- انظر: رسائل المحقّق الكركي 2: 253.
2- منتهى الاُصول 2: 640.

الفضيلة أو الرذيلة، تحشر مع تلك الملكات والصور - علميّةً كانت أو ظنيّة - لا تزيد ولا تنقص، كما هو محقّق في محلّه.

وبعبارة أُخرى: النفس في بدء خلقتها ليس فيها شيء من العلوم والصور، حتى البديهيّات، بل صرف استعداد لتحصيل العلوم، ولذلك تسمّى في هذه المرتبة بالعقل الهيولائي، وبعدما وهبها اﷲ تعالى البديهيّات، فإذا شرع في التكسّب، يحصل من هذه التصوّرات البديهيّة والتصديقات البديهيّة التي وهبها اﷲ لها التصوّرات النظريّة والتصديقات النظريّة، فكلّ شيء اكتسبته وحصل لها من الصور العلميّة من التصوّرات والتصديقات يبقى له إذا كان في حال الحياة بلغ إلى مرتبة العقل بالفعل، وكلّ شيء لم يكتسبه ولم يحصله باقية على جهلها بالنسبة إليه. ولعلّ هذا هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَ-ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَة ِ أَعْمَى﴾(1)، فدعوى: أنّ جميع الواقعيّات ينكشف له، لا أساس له.هذا مع أنّه يمكن أن يقال: فبناءً على ما ذكر، من المحتمل بقاء الرأي، غاية الأمر: كان ظانّاً به، وبعد الموت يصير متيقّناً، واختلاف الظنّ واليقين لا يوجب تبدّل الرأي، فيستصحب بقاؤه، وأثره: بقاء حجّيّته»(2).

الثانية: أنّ العرض لا يوجد إلّا بوجود موضوعه، فإذا لم يبقَ الموضوع

ص: 459


1- الإسراء: الآية 72.
2- منتهى الاُصول 2: 640 - 641.

والمعروض، لم يبقَ العرض أيضاً، والإنسان بعد الموت يكون جماداً، حيث لا إدراك له ولا شعور، كما هو محقّق ومشاهد بالوجدان، فكيف - إذاً - يبقى له رأي؟ هذا من قبيل وجود العرض بلا معروض، والصفة بلا موصوف، وهو محال.

وأجاب عن هذا الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه):

«بأنّ هذا الكلام لا يستقيم إلّا على مذهب من يقول بأنّ من مات فات، وينكر الحشر والنشور، أو من ينكر تجرّد النفس وبقاءها بعد بوار البدن، ولا بدّ له - حينئذٍ - من القول بأنّ المعاد خلق جديد، أو إعادة للمعدوم، وهذه اُمور يتنفّر عنها الطبع الصحيح، وينكرها العقل الصريح، ومخالف لما صدر، مستفيضاً، بل متواتراً، من النبيّ(صلی الله علیه و آله) وأهل بيت العصمة(، بل القرآن الكريم في موارد متعدّدة وآيات كثيرة»(1).

وهنا، فبعد وصول الأمر إلى الشكّ، وشككنا بأنّه هل يبقى الرأي للميت أم لا؟ فهل يمكن جريان الاستصحاب أم لا؟الصحيح: العدم؛ لأنّ من شروط جريان الاستصحاب أن يكون الموضوع في القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة واحداً، والعرف هنا لا يرى أنّ صاحب الرأي في القضيّة المتيقنة هو عينه صاحب الرأي في القضيّة المشكوكة، فلذلك لا يجري الاستصحاب.

ص: 460


1- المصدر نفسه 2: 642.

هذا كلّه، لو وصلت النوبة إلى الشكّ. ولكن قد عرفت أنّها لا تصل إليه؛ لأنّ الملكة إذا حصلت للنفس فهي باقية له، ولا تزول ببوار البدن.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّه لا مانع من القول بجواز التقليد الميّت ابتداءً لو لم يكن هناك إجماع في البين.

وقد استدلّ المجوّزون بوجوهٍ أيضاً:

الأوّل: الإجماع.

وقد عرفت حاله، بل لو لم نقل بأنّه لا يدلّ على عدم الجواز، فلا يمكن الاستدلال به - أيضاً - على الجواز.

الثاني: السيرة العقلائيّة.

ولكنّ إثبات هذه السيرة في باب تقليد الميت ابتداء، وأنّها مستمرّة إلى زمان المعصوم(علیه السلام) في غاية الإشكال، وأمّا بالنسبة إلى البقاء على تقليده، فيمكن ادّعاء السيرة، ولكن سيأتي الكلام فيه مفصّلاً.

الثالث: الآيات، ومنها: آيتا النفر والسؤال؛ بدعوى: أنّها مطلقة غير مقيّدة بالحياة.

ولكن لا يتمّ ذلك إلّا لو قلنا بأنّ المراد من (أهل الذكر) في آية السؤال هم الفقهاء، مع أنّ الظاهر من الآية أنّ الخطابموجّه إلى أهل الكتاب، أو المراد من أهل الذكر هو الأئمّة(، فتكون خارجةً عن محلّ البحث. وكيف كان، فلا إطلاق في الآيات يشمل الميت؛ لأنّ الميت لا يتأتّى منه الإنذار، ولا يصدق عليه عنوان أهل الذكر؛ لأنّ الظاهر من الآيتين

ص: 461

وغيرهما أنّ أمثال هذه العناوين مأخوذة على نحو الفعليّة، وذلك لا يكون إلّا في حال الحياة، كما هو أوضح من أن يخفى.

وقد استشكل في ذلك بعض المعاصرين بأنّه لو أنذر ونام، أو أغمى عليه، فعلم إنذاره من لم يكن حاضراً في مجلس الخطاب والإنذار، فهل يمكن أن يقال بعدم اعتبار الإنذار بالنسبة إليه؟

ولكن فيه: أنّ مثل هذا الشخص يصدق عليه عنوان المنذِر بالفعل، دون من مات قبل مئات السنين، فذاك لا يصدق عليه المنذر، كما هو ظاهر.

الرابع: الأخبار والروايات. وهي على قسمين:

القسم الأوّل: أخبار يظهر منها إرجاع الإمام(علیه السلام) إلى بعض أصحابه، كإرجاعه إلى زرارة بقوله: «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس»، مشيراً إلى زرارة، وما تقدّم من إرجاع ابن أبي يعفور إلى محمّد بن مسلم، وإرجاع العقرقوفي إلى أبي بصير، وإرجاع عليّ بن مسيّب إلى زكريّا بن آدم بقوله(علیه السلام): «عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا»، وإرجاعه إلى يونس بن عبد الرحمن، وقوله لأبان بن تغلب:«اجلس في مسجد الكوفة وأفتِ بين النّاس، فإنّي اُحبّ أن يرى في أصحابي مثلك»، ونحو ذلك(1).

ص: 462


1- انظر في هذه الأخبار - وقد مرّ تخريج معظمها - : وسائل الشيعة 27: 136، فما بعدها، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.

وهذه الروايات وإن كان بعضها وارداً في أخذ الحديث، إلّا أنّ بعضها الآخر وارد في أخذ الفتوى، ولكنّ هذا البعض الآخر لا إطلاق له ليشمل تقليد الميت ابتداءً.

وأمّا القسم الثاني: فهو الأخبار العامّة الواردة في باب التقليد، كقوله(علیه السلام): «من كان من الفقهاء...» إلخ، ونحوه.

وهذه لا إطلاق لها لتشمل حالة كون الفقيه ميتاً، وعلى فرض التنزّل، وفرضنا أنّ لها إطلاقاً، إلّا أنّ هذا الإطلاق لا يشمل مورد التعارض، بل هو منصرف عنه.

الخامس: الاستصحاب، وهو على ثلاثة أقسام:

أوّلها: استصحاب الحكم الوضعيّ، وهو الحجّة.

والثاني: استصحاب الحكم الواقعيّ المحكيّ بالرأي.

والثالث: استصحاب الحكم الظاهريّ.

أمّا استصحاب الحكم الوضعيّ: فكقولك: إنّ فتوى المجتهد كانت حجّةً قبل موته، فإذا شككنا في بقائها على حجّيّتها أو عدمها، استصحبنا حجّيّتها.

ولكنّ استصحاب الحكم الوضعيّ إنّما يجري لو كان الحكم الوضعيّ مجعولاً بجعل مستقل، وأمّا لو قلنا بأنّ الحجّيّة منتزعة من الحكم الظاهريّ الراجع إلى العمل بالواقع على تقدير المصادفة، وإلى الرخصة على تقدير المخالفة، فيجريالاستصحاب في منشأ الانتزاع،

ص: 463

لا فيها؛ لأنّه ليس لها أثر شرعاً، ولا هي موضوعة للأثر الشرعيّ.

على أنّ هذا الاستصحاب إنّما يجري لو كان موضوع الحجّيّة هو مجرّد حدوث الرأي، وأمّا لو قلنا بأنّ الموضوع هو الرأي حدوثاً وبقاءً، فلا؛ لعدم وجود الموضوع؛ لأنّ الرأي لم يبقَ، بل هو ينتفي بالموت.

فإن قيل: لا نسلّم زوال الموضوع بالموت، فإنّ الموضوع هو النفس الناطقة، وهي باقية.

قلنا: إنّ المعتبر من وحدة الموضوع في الاستصحاب إنّما هو النظر العرفيّ، والعرف يرى زوال الموضوع بالموت، تماماً كما يرى زوال الموضوع بزوال الرأي والملكة بواسطة الجنون والهرم.

فإن قلت: إنّ حجّيّة فتوى المجتهد الميّت مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة، أي: أنّها حجّة لكلّ مفروض الوجود في الخارج، أي: متى ما وجد فلابدّ من الرجوع إلى فتوى العالم، بلا فرق بين أن يكون معاصراً للعالم، أو وجد بعد موته، كما تقول: الخمر حرام شربه، أي: متى ما وجد في الخارج فهو حرام شربه.

قلت: بل الحجّيّة مترتّبة على الرأي والنظر، ولا رأي بعد الموت، بل الميت - كما أشرنا آنفاً - يكون جماداً بنظر العرف، وحاله في ذلك حال سائر الجمادات؛ لاشتراكه معها في أنّه لا إدراك له ولا شعور، كما هو المشاهد بالوجدان، فكيف يبقى له رأي؟

ص: 464

وبالجملة: فلا يمكن المساعدة على جريان الاستصحاب؛ لأنّ المراد بالحجّيّة إن كانت هي الحجّيّة الفعليّة، فهي مشكوكة الحدوث؛ لأنّ المتيقّن عدم الحجّيّة الفعليّة بالنسبة إلى العامّيّ غير موجود في عصر المجتهد الميت.

وإن كان المراد بها الحجّيّة الشأنيّة، فكذلك لا يجري الاستصحاب؛ للشكّ في سعة دائرة الحجّيّة المُنشأة وضيقها؛ لأنّا لا نعلم بأنّ هذا الرأي هل كان حجّةً بالنسبة إلى من أدرك المجتهد الحيّ بالخصوص، أو أنّه عامّ حتى بالنسبة إلى من لم يدركه؟

وأمّا القسم الثاني: وهو استصحاب الحكم الواقعيّ، فلا إشكال في عدم جريانه؛ لأنّه يتوقّف على اليقين بالحدوث، وليس لنا يقين بذلك.

وأمّا جريان استصحاب الأحكام الظاهريّة فهو متوقّف على وجود الحكم الظاهريّ، وقد أثبتنا أنّ حجّيّة الأمارات ليست إلّا من باب المنجّزيّة والمعذّريّة، وليست من باب إنشاء أحكام ظاهريّة في مقابل الحكم الواقعيّ؛ لتأديته إلى التصويب.

نعم، لو قلنا بأنّ الشارع المقدّس كما أنّه جعل أحكاماً واقعيّة يشترك فيه الجاهل والعالم، فكذلك جعل أحكاماً ظاهريّة، وهي مختصّة بمن قامت الأمارة عنده، أمكن جريان الاستصحاب، ولكنّ هذا المبنى غير صحيح، كما مرّ في محلّه.

ص: 465

مسألة :البقاء على تقليد الميت:

والكلام تارةً في صورة موافقة رأيه لرأي الحيّ الذي يجب تقليده، وأُخرى في صورة المخالفة، وهذه على قسمين: الأوّل: مع العلم بالمخالفة. والثاني: في صورة احتمال المخالفة.

أمّا في صورة الموافقة: فلا إشكال في الجواز؛ لأنّ وجوب التقليد طريقيّ، والمطلوب أن يكون العمل مطابقاً لما هو الحجّة بالفعل، فسواء فرضنا أنّ فتوى الميّت حجّة أو ليست بحجّة، فقد جاء عمله مطابقاً لما هو الحجّة بالفعل، وهي فتوى الحيّ. فلا يظهر أيّ ثمرة يبن القولين: القول بأنّ قول الميّت حجّة، والقول بالعدم. نعم، يمكن أن تظهر الثمرة بناءً على القول بأنّ التقليد هو الالتزام بالعمل، فإن تقليد الميت - حينئذٍ - إنّما يكون صحيحاً إذا كان رأيه حجّة.

وأمّا إذا كان رأي الميّت مخالفاً لرأي الحيّ، ففيه أقوال ثلاثة:

1- وجوب البقاء على تقليد الميت خصوصاً إذا كان أعلم.

2- حرمة البقاء على تقليده مطلقاً.

3- والتفصيل بين ما لو كان قد التزم بتقليده فعلاً حال الحياة، وما إذا عمل بالفتوى.

ولكنّ الحقّ: أنّ مآل هذا التفصيل إلى ما مرّ من أنّ التقليد هل هو العمل أو الالتزام؟ فعلى الأوّل: لا يصحّ له البقاء؛لعدم صدق عنوان

ص: 466

التقليد عليه، بخلاف الثاني؛ لأنّ مجرّد الالتزام - بناءً عليه - كافٍ في تحقّق عنوان التقليد.

وقد يستدلّ لجواز البقاء بوجوه:

الأوّل: السيرة العقلائيّة، فإنّها قائمة على عدم رجوع الجاهل فيما كان أخذه من العالم في كلّ صنف، كما كان دأب الراجعين إلى أصحاب الأئمّة(، فإنهم ما كانوا يعودون عمّا أخذوه منهم، بل كانوا يعملون به ولو بعد سماعهم بموت من أخذوا منه قبل العمل به، كما نرى فيمن راجع الطبيب فأعطاه وصفة لكي يعمل بها إلى حينٍ من الزمن، ثمّ مات الطبيب بعد إعطاء الوصفة، فإنّه لا يبقى متحيّراً في العمل بها بعد موته، ولا يرى داعياً للرجوع إلى طبيبٍ آخر قبل انتهاء المدّة التي كان قد عيّنها له. ولم يرد شيء يكون رادعاً لهذه السيرة، وما قد يذكر من وجود الردع، فإنّما هو في مورد التقليد الابتدائيّ، حيث قلنا هناك: إنّ إحراز مثل هذه السيرة لم يثبت، وأنّه لا أقلّ من الشكّ، وأمّا في المقام، فلا شكّ في ثبوتها فيه كما بيّنّا.

الثاني: الإجماع. وقد عرفت الحال فيه. ولا أقلّ من أنّه لا يمكن التمسّك به بعد وجود دعوىً بالإجماع على الخلاف.

الثالث: إطلاق الآيات والأخبار، كآية النفر وآية الذكر؛ فإنّهما تشملان المورد وتقتضيان العمل على طبق الإنذار والسؤال مطلقاً، ولا دليل يدلّ على لزوم أن يكون المنذر والمسؤول منه حيّين حال العمل بفتواهما،

ص: 467

ومثله يقالبالنسبة إلى الفقيه، فإنّ فتواه حجّة سواء موجوداً حال العمل أم لم يكن.

وهكذا بالنسبة إلى الروايات المتقدّمة التي ورد فيها الأمر بالرجوع إلى بعض أصحاب الإمام كزرارة ومحمّد بن مسلم وزكريّا بن آدم، أو ما تقدّم - أيضاً - من الروايات الدالّة على جواز التقليد، كقوله(علیه السلام): «من كان من الفقهاء...» إلخ.

وبالجملة: فالآيات والروايات إنّما دلّت على وجوب الأخذ ممّن هو أهل للأخذ والعمل بقوله، ولا دلالة فيها على تقييد جواز العمل بما إذا كان حيّاً حين العمل. نعم، لابدّ أن يكون حيّاً عند السؤال منه أو الرجوع إليه والأخذ منه، ولكن قد ذكرنا سابقاً أنّ الإطلاق لا يشمل صورة التعارض.

الرابع: الاستصحاب، وهو على ثلاثة أقسام كما مرّ.

أمّا استصحاب بقاء الحجّيّة، فقد مرّ الكلام فيه في إثبات حجّيّة التقليد ابتداءً.

وأمّا استصحاب الحكم الواقعيّ، فلا وجه له أصلاً؛ لأنّ الحكم الواقعيّ إمّا غير متيقّن الحدوث، أو أنّه ليس بمشكوك البقاء، وفي الاستصحاب لابدّ من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء؛ لأنّ الحكم الواقعيّ إذا حدث وتحقّق فلا معنى لارتفاعه إلّا بالنسخ، ولا معنى للشكّ به بعد موت المجتهد؛ لأنّ الحكم الواقعيّ إذا ثبت بالنسبة إلى

ص: 468

شخص قطعاً فلا يرفع بموت المجتهد الذي يقلّده، فإذا حصل له الشكّ فيه بعد الموت، فهو يرجع إلى الشكّ في أصل الحدوث، كما ذكرنا في استصحاب الحكم في التقليد الابتدائيّ.وأمّا استصحاب الحكم الظاهريّ، فقد ذكرنا - أيضاً - أنّه إذا أراد أن يستصحب الأحكام الظاهريّة، أي: التي هي مؤدّى اجتهاد الميّت، أو مؤدّى حجّيّة قوله وفتواه سابقاً، فهذا الاستصحاب إنّما يجري بناءً على أن يكون المؤدّى مجعولاً في باب الطرق والأمارات، فحينئذٍ: يكون مفاد آراء المجتهد أحكاماً ظاهريّة للمقلّدين ولنفسه في حال الحياة، فلو شكّ في بقائها بعد الموت، فيستصحب.

وأمّا بناءً على ما هو الحقّ من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الطريقيّة وتتميم الكشف والوسطيّة في الإثبات، وليس المؤدّى، فليس هناك حكم ظاهريّ، بل إنّما هو ظاهر الحكم، ويكون كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً.

نعم، لو قلنا بأنّ الشارع كما جعل أحكاماً واقعيّة يشترك فيه العالم والجاهل، فهو كذلك جعل أحكاماً ظاهريّة، وهي مختصّة بمن قامت عنده الأمارة أو الأصل على ذلك الحكم، كان ما ذكر - حينئذٍ - تامّاً.

وبعبارةٍ أُخرى: فلو قلنا بأنّ الأحكام الظاهريّة لها وجود في مقابل الأحكام الواقعيّة، فلا معنى لعدم جريان الاستصحاب؛ لأنّ هذه

ص: 469

الأحكام كانت موجودة في حال الحياة يقيناً، ونشكّ في بقائها بعد موته، فنستصحب.

نعم، يمكن القول: بأنّه حتى بناءً على ما اخترناه من أنّه ليس المجعول في باب الأمارات إلّا الطريقيّة، فإنّه مع ذلك يمكن جريان الاستصحاب؛ لأنّ معنى الاستصحاب هو إثبات الملازمة بين الثبوت والبقاء، فبعد موت المجتهد يستصحبالحكم الذي كان مؤدّى الفتوى على تقدير ثبوت هذا الحكم؛ إذ إنّ المستفاد من دليل الاستصحاب هو جريانه عند القطع بالحكم الواقعيّ أو بموضوعٍ ذي حكمٍ واقعيّ، فمعنى: (لا تنقض اليقين بالشكّ)، أي: لا يجوز نقض الحكم المتيقّن واقعاً أو الموضوع ذي الحكم الواقعيّ بواسطة الشكّ.

فإذا قامت الأمارة أو الأصل على حكمٍ شرعيّ، فإنّ هذا القيام يكون بمنزلة حصول القطع بذلك الحكم، فيجري الاستصحاب في مؤدّاهما بهذا الاعتبار، فإذا علمنا بأنّ المجتهد حكم بشيءٍ من جهة قيام الأمارة أو الأصل عليه، فإنّ ذلك يكون بمنزلة ما إذا قطعنا بالحكم، فإذا حصل الشكّ بعد موته فيستصحب.

ثمّ لا يخفى: بأنّه لو قلنا بجواز تقليد الميّت، فتارةً يكون مساوياً للحيّ في الأعلميّة، وأُخرى يكون الميّت أعلم من الحيّ، وثالثة يكون الحيّ أعلم.

أمّا مع التساوي وكونهما متّفقين في الفتوى، فقد ذكرنا أنّه لا معنى

ص: 470

للبحث عن أنّه لابدّ من تقليد الحيّ أو الميت، بعدما كان عمله مطابقاً لما هو الحجّة على أيّ حال.

وأمّا إذا كانا متساويين في العلم، ولكن اختلفا في الفتوى، ولم يعلم أعلميّة أحدهما، ففي هذه الصورة قد يقال: بعدما قلنا بجواز تقليد الميّت فلا يجوز الرجوع إلى الحيّ؛ لأنّه أن كان مقتضى الأدلّة هو حجّيّة فتوى المجتهد الميّت، فلا معنى لجواز الرجوع إلى الحيّ، وإلّا، يلزم أن يكون في الواقعةالواحدة حجّتان فعليّتان، وحينئذٍ: فربما يكونان من اجتماع الضدّين أو النقيضين.

ولكن فيه: أنّ عدم الجواز إنّما هو لمكان الإجماع، والقدر المتيقّن منه هو المجتهد الميّت. على أنّ الأمر يدور بين التعيين والتخيير؛ فإنّ حجّيّة فتوى الميّت معلومة من جهة جريان الاستصحاب، إمّا تعييناً أو تخييراً، وإذا دار الأمر بين التعيين والتخيير، يؤخذ بالتعيين.

ويردّه: أنّ فتوى الحيّ أيضاً محتملة التعيينيّة، فبما أنّ لنا علماً إجماليّاً بحجّيّة أحدهما بخصوصه، فلابدّ من الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين، بعد تساقطهما وعدم شمول الأدلّة والإطلاقات للمتعارضين، وليس هناك دليل على إمكان الأخذ بأحدهما بخصوصه، وبعد أن علمنا بأنّ هناك أحكاماً واقعيّة منجّزة في حقّ المكلّف، ولا يمكن الخروج عن عهدتها إلّا بذلك، إلّا أن يدلّ دليل على عدم وجوب الاحتياط على العامّيّ، أو لم يتمكّن من الاحتياط، وحينئذٍ: فهل يجوز الرجوع إلى أحدهما المعيّن

ص: 471

أم أنّه لابدّ من التخيير؟ الأقوى: هو الثاني؛ لأنّه بعد سقوطهما لا معنى للرجوع، فلابدّ من التخيير؛ لأنّه بعد عدم التمكّن من الامتثال الجزميّ تصل النوبة إلى الامتثال الاحتماليّ.

وأمّا في صورة أعلميّة أحدهما، فلابدّ من الرجوع إلى الأعلم، سواء كان هو الحيّ أم الميّت؛ لأنّ أدلّة جواز البقاء على تقليد الميت تجعل الميت كالحيّ، فكما إذا كان هناك مجتهدان كلاهما على قيد الحياة لابدّ من تقليد الأعلم منبينهما، حتى إذا قلّدت المجتهد الحيّ غير الأعلم لابدّ من الرجوع إلى الأعلم، فكذلك هنا؛ للسيرة العقلائيّة، فإذا كان الحيّ هو الأعلم فيجب الرجوع إليه، وإذا كان الميت هو الأعلم فيجب البقاء على تقليده.

مسألة:

الأقوى جواز البقاء على تقليد الميت وإن كان لم يعمل بفتاواه بعد؛ لأنّه بناءً على جريان استصحاب بقاء الحكم، أو جريان استصحاب الحجّيّة فلا يشترط العمل في جواز البقاء؛ لأنّ هذا الشرط لم يكن لازماً في جواز جريان هذا الاستصحاب. وكذا لو قلنا بأنّ المستند هو السيرة العقلائيّة أو الإطلاقات التي تقتضي جواز الرجوع، فإنّ هذا الشرط لم يكن مشترطاً في شيءٍ من هذه الأدلّة.

أضف إلى ذلك: أنّ مسألة جواز البقاء على تقليد الميت لم تكن دائرةً مدار العمل، ولا مبنيّةً على دخول العمل في معنى التقليد، حتى يقال:

ص: 472

بأنّ معنى التقليد إن كان هو العمل برأي الغير فلا يتحقّق عنوان البقاء على تقليده إلّا في المسائل التي كان قد عمل بها برأي الميت، وإن كان هو الالتزام، فلا وجه لاشتراط العمل في الحكم بجواز البقاء، بل يكفي مجرّد الأخذ والالتزام بالعمل قبل موت المجتهد.

العدول من الحيّ إلى الحيّ:

تارةً: يكون الثاني أعلم، وأُخرى: يكون مساوياً. وثالثاً: يكون الأوّل أعلم. وفي هذه الصورة: تارةً: يُعلم بالمخالفة بينهما في الفتوى، وأُخرى: لا يعلم.

فإذا كان المجتهد الذي يريد أن يعدل إليه أعلم، وكان عالماً بالمخالفة بينهما، كان العدول إليه واجباً، ولا يجوز له بعد ذلك الرجوع إلى المقلّد الأوّل.

كما أنّه إذا كان الأوّل أعلم، مع العلم بالمخالفة بينهما في الفتوى، لم يجز العدول.

وأمّا إذا كان الثاني أعلم، ولم يعلم بالمخالفة بينهما، جاز له أن يبقى على تقليد الأوّل، أو الرجوع إلى الثاني الذي هو أعلم. وكذا يتخيّر في صورة التساوي - أيضاً -، ولكن مع عدم العلم بالمخالفة.

وقد يقال: بعدم جواز العدول والحالة هذه؛ لأنّ التخيير ابتدائيّ، لا استمراريّ.

ص: 473

ولكنّ الحقّ: أنّ التخيير هنا عقليّ، وليس كالتخيير في باب الخبرين المتعارضين؛ لأنّ التخيير هناك شرعيّ، وبعد الأخذ بأحد الخبرين يرتفع موضوع التخيير. وإذا كان التخيير عقليّاً، جاز ابتداءً واستمراراً؛ لأنّ انطباق الكلّيّ على الفرد والمصداق دائميّ.

وأمّا في صورة العلم بالمخالفة بين المتساويين، يتساقطان، فلا يجوز له البقاء على الأوّل، ولا الرجوع إلى الثاني،وحينئذٍ: تصل النوبة إلى التخيير، ومع عدم التمكّن من الامتثال الجزميّ تصل النوبة إلى الامتثال غير الجزميّ.

قد يقال: بعدم جواز العدول تمسّكاً باستصحاب بقاء الحكم في حقّ المقلّد.

وفيه: أنّه معارض باستصحاب بقاء التخيير قبل الأخذ بأحدهما. ولكنّ استصحاب عدم التخيير لا يجري؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة غير متّحدة مع المشكوكة؛ لأنّ من له الخيار من الأوّل كان هو المتحيّر، وبعد الأخذ بأحدهما زالت حيرته، أو أنّ من له الخيار هو الذي لم تقم لديه الحجّة الفعليّة، وبعد الأخذ بإحدى الفتويين صارت بأخذه لها حجّة فعليّة، فلا موضوع لاستصحاب التخيير.

كما أنّ الاستصحاب الأوّل لا يجري - أيضاً -؛ لأنّه حين الشكّ بالبقاء لابدّ وأن يكون متيقّناً بالحدوث؛ وهو قبل العدول كان له علم بحجّيّة الفتوى في حقّه، وبعد العدول لا علم بالحجّيّة، فلا يبقى يقين في البين.

ص: 474

فصل :في لزوم تقليد الأعلم

هل يجب على العامّيّ تقليد الأعلم أم يجوز له تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم؟

المشهور والمعروف بين الأصحاب هو الأوّل، وادّعى المحقّق الكركي(قدس سرّه) الإجماع عليه(1)، والذي يظهر من كلامالسيّد علم الهدى في الذريعة(2) أنّه من المسلّمات عند الشيعة، وذهب بعضهم إلى التخيير بين الأعلم وغيره.

والكلام في هذا الفصل في موردين:

الأوّل: هل يجوز للعامّيّ الرجوع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم أم لا؟

الثاني: هل يمكن للمجتهد أن يفتي بجواز الرجوع إلى غير الأعلم أم لا، بل لابدّ أن يحكم بوجوب تقليد الأعلم؟

أمّا المورد الأوّل: فمن المسلّم أنّ العقل يستقلّ بلزوم الرجوع إلى الأعلم، كما هو مقتضى بناء العقلاء، وإنّ المتيقّن من الخروج عن أصالة حرمة العمل بالظنّ إنّما هو الظنّ الحاصل من قول الأعلم، وأمّا الحاصل من قول غيره فمشكوك فيه في صورة وجود الأعلم، فيبقى تحت أصالة

ص: 475


1- رسائل المحقّق الكركي 1: 80، و 3: 176.
2- انظر: الذريعة 2: 801.

عموم الحرمة, وتكون المسألة من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير؛ للعلم بجواز تقليد الأعلم على كلّ حال؛ لأنّ فتوى الأعلم إمّا أن تكون في عرض فتوى غير الأعلم، فيجوز للعامّيّ الرجوع إلى هذا وذاك، أو أنّها متقدّمة على غيرها، وحيث إنّ فتوى الأعلم متيقّنة الحجّيّة، وفتوى غير الأعلم مشكوكة الحجّيّة، فيستقلّ عقل العامّيّ بلزوم الرجوع إلى الأعلم؛ لأنّ قول غير الأعلم والأخذ به مع وجود الأعلم مقترن باحتمال العقاب، بعد أن كانت حجّيّته في طول قول الأعلم، لا في عرضه، ومعلوم أنّ دفع الضرر المحتمل واجب بمقتضى العقل.وأمّا المورد الثاني: فتارةً يكون فتوى غير الأعلم مطابقةً لفتوى الأعلم، وأُخرى نعلم بمخالفتهما في الفتوى. وثالثةً نشكّ في المخالفة أو الموافقة.

أمّا في الصورة الأُولى: فلا ثمرة للبحث عن وجوب الرجوع إلى الأعلم أو عدمه؛ لأنّ الوظيفة إنّما هي العمل بما هو الحجّة، وبعد التطابق بين فتوى الأعلم وفتوى غيره، وعمل المكلّف بها، فقد فرّغ ذمّته، ولا نحتاج إلى ما هو أزيد من ذلك في إحراز صدق استناد عمله إلى فتوى الأعلم.

وأمّا في الصورة الثانية: وهي صورة العلم بالمخالفة، ولو إجمالاً، فقد يقال بعدم وجوب الرجوع إلى الأعلم - حينئذٍ - تعييناً.

وقد يستدلّ لذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: إطلاق الأدلّة من الآيات والروايات، كآيتي النفر

ص: 476

والإنذار، وجملة من الأخبار المتقدّمة؛ فمثلاً: وجوب التحذّر عقيب إنذار المنذر مطلق، سواء كان المنذر هو أعلم من غيره أم لم يكن، ما يدلّ على عدم تعيّن الأعلم عند الدوران بينه وبين غير الأعلم. وحمله على صورة تساوي المنذرين حمل على الفرد النادر.

وقد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق بقوله:

«وفيه: أنّه وإن سلمنا نحن دلالة آية النفر على لزوم التقليد على العامّيّ بالدلالة الالتزاميّة، ولكن لا نسلّم دلالتهاعلى أنّها في مقام البيان، حتى من جهة اختلاف المنذرين في العلم والفضيلة مع اختلافهم في الفتوى»(1).

ويمكن الجواب - أيضاً -: بأنّ إطلاق أدلّة الحجّيّة لا يشمل المتعارضين؛ لأنّه يستلزم الجمع بين الضدّين تارةً، والنقيضين أُخرى، وشمول الأدلّة لأحدهما معيّناً ترجيح بلا مرجّح، ومخيّراً لا دليل عليه، فمقتضى القاعدة هو التساقط في كلّ دليلين متعارضين إلّا إذا دلّ دليل من الخارج على ترجيح أحدهما أو على التخيير.

ومثل هذا البيان يجري بالنسبة إلى الأخبار الواردة في الرجوع إلى العلماء وأصحاب الأئمّة(؛ فإنّه لا إطلاق فيها - أيضاً -؛ لأنّه لم يظهر منها أنّ الإمام(علیه السلام) كان في مقام البيان من هذه الجهة، بل الظاهر أنّه في مقام البيان من ناحية أصل الإرجاع إليهم، وهو لا يشمل صورة العلم

ص: 477


1- منتهى الاُصول 2: 633.

بالخلاف. نعم، في صورة احتمال الخلاف، كما في مورد هذه الروايات، لا بأس بالعمل بقول المجتهد مطلقاً.

الوجه الثاني: السيرة المستمرّة من المتشرّعة على الأخذ بفتوى من كان له صلاحيّة الفتوى، من غير الفحص عن الأعلم، مع اختلافهم من جهة العلم والفضيلة، ولم ينكر أحد منهم ذلك، ولو كان الرجوع إلى الأعلم واجباً، لكان الواجب عليهم الفحص.وفيه: أنّ إثبات قيام السيرة على الرجوع إلى غير الأعلم مع مخالفته للأعلم محلّ إشكالٍ، بل منع، بل السيرة قائمة على الرجوع إلى الأعلم مع العلم بمخالفة غير الأعلم له، كما نرى في مراجعة المريض للطبيب الأخصّائي، وما يتراءى من رجوع المتشرّعة إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم والمخالفة بينهما، هو إمّا لأجل اعتقادهم بأنّ من أخذوا منه هو الأعلم، وإمّا لعدم علمهم بالمخالفة بينهما في الفتوى.

الوجه الثالث: أنّ وجوب تقليد الأعلم يلزم منه العسر والحرج، وهما منتفيان في الشريعة المقدّسة؛ لأنّ تشخيص الأعلم عن غيره في غاية الصعوبة، ولذا نسب إلى بعض المحقّقين المعاصرين القول بأنّ الكبرى مسلّمة ولا نقاش فيها، وإنّما النقاش في الصغرى، أي: في تمييز الأعلم عن غيره، فإنّه في غاية الصعوبة لسكّان المدن، فضلاً عن أهل القرى والبوادي، ولا سيّما العجائز؛ إذ كيف يتمكّن هؤلاء من التمييز بين من هو أحسن سليقةً وأجود استنباطاً؟(قدس سرّه)

ص: 478

وفيه: أمّا فيما يتعلّق بتشخيص مفهوم الأعلم، فسيأتي أنّ المراد منه من كان أقوى استنباطاً للأحكام وأحسن سليقةً في تطبيق الكبريات على الصغريات.

وأمّا فيما يتعلّق بتشخيص مصاديقه وتمييزها، فهو ليس بأصعب من تشخيص أصل الاجتهاد، فكما أنّ نفس الاجتهاد يثبت بالعلم الوجدانيّ وبالشياع المفيد للعلم، وبالبيّنة، وبالعدل الواحد، فكذلك الأعلميّة.

وفي المقام يقول الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه):«والتحقيق في هذا المقام: هو أنّه مع قطع النظر عن الأدلّة الواردة في هذا الباب، وأنّه هل لها إطلاق أو ليس لها ذلك؟ مقتضى الأصل الأوّليّ هو تعيّن الأعلم، وذلك: أمّا بالنسبة إلى العامّيّ: فمن جهة أنّه إذا احتمل أن يكون للأعلميّة دخل في الحجّيّة، فيحكم عقله حكماً بتّيّاً بلزوم متابعة الأعلم؛ للشكّ في أنّ متابعة الآخر هل [هو] مبرئ لذمّته أم لا؟ فحكمه بلزوم تقليد الأعلم يكون من باب الاحتياط العقليّ وملاك الأمن من العقوبة. نعم، إذا تساوى في نظره الأعلم وغيره فيما هو مناط التقليد، ولم يحتمل أن يكون لتلك الخصوصيّة دخل أصلاً، فقهراً عقله يحكم بالتخيير.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّه كما أنّ أصل وجوب التقليد ليس بتقليديّ؛ لاستلزامه الدور، فكذلك مسألة وجوب الأعلم؛ لاستلزامه الخلف لو

ص: 479

أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم؛ لأنّه يلزم من حكم العقل بتعيّن الرجوع إلى الأعلم عدم تعيّنه، وهذا هو الخلف.

ولكن أنت خبير: بأنّ حكم العقل بلزوم تقليد الأعلم حكم احتياطيّ، مثل حكمه بلزوم الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة التحريميّة، فإذا قام دليل على جواز تقليد غير الأعلم، وهو فتوى الأعلم، فلا يبقى موضوع للحكم العقليّ الاحتياطي. نعم، لو كان حكمه حكماً استقلاليّاً نفسيّاً لكان يلزم هذا المحذور.وأمّا بالنسبة إلى المجتهد، فمن جهة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجّة، ولا شكّ في أنّ معلوم الحجّيّة منهما، تعييناً أوتخييراً، حجّة، وهو فتوى الأعلم، والمشكوك، وهو فتوى المفضول، تجري فيه أصالة العدم»(1).

وأمّا أدلّة المثبتين، فوجوه:

الأوّل: دعوى الإجماع على لزوم تقليد الأعلم.

ولكن قد عرفت مراراً أنّ هذه الإجماعات التي مدركها الأدلّة النقليّة والعقليّة لا تكون من قبيل الإجماعات التعبّديّة المصطلح عليها، وبالتالي: فلا اعتبار بها.

والثاني: بناء العقلاء، وأنّهم عند الاختلاف يأخذون بقول الأعلم، كما

ص: 480


1- منتهى الاُصول 2: 635.

هو المشاهد في غير الأحكام من الحرف والصنايع، ولا يلتفتون إلى قول غير الأعلم. نعم، لو كانت فتوى غير الأعلم موافقةً للاحتياط، ولو كان الأعلم مخالفاً له في الفتوى، رجعوا - حينئذٍ - إلى فتواه، لا لأنّ فتواه هي الحجّة، بل لأجل العمل بالاحتياط ودرك الواقع، وعليه: فلا يمكن إسناد فتوى غير الأعلم إلى اﷲ تعالى، ولا الإتيان بما أفتى به بقصد الأمر بعد أن لم تثبت حجّيّته.

الثالث: الروايات، وهي كثيرة، منها: مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة، وفيها: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههماوأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر»(1).

وهذه الرواية وإن استشكلوا فيها سنداً، إلّا أنّها مقبولة، وقد تلقّاها الأصحاب بالقبول، وقد ورد بمضمونها - تقريباً - روايات أُخرى كثيرة، وفيها قرائن يطمئنّ معها بصحّتها.

واستشكل فيها - أيضاً -: بأنّها أجنبيّة عن المقام؛ لأنّها وردت في مقام الحكومة ودفع الخصومة، وفي ذلك المقام لابدّ من تعيين أحدهما للأخذ بحكمه، ولا معنى للحكم بالتخيير؛ لاستلزامه بقاء الترافع على حاله؛ لأنّ كلّ واحد منهما ربّما يختار غير ما اختاره الآخر، فتبقى الخصومة على حالها، فإذا ثبت أنّ التعيين لازم، فالأعلم يكون هو المقدّم،

ص: 481


1- وسائل الشيعة 27: 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 1.

فلا ملازمة بين تقديم الأفضل في باب الخصومة بعد صدور الحكم عن الاثنين، وبين تقديمه في باب الفتوى، فهذه الرواية كما لا يمكن التعدّي من موردها إلى الروايتين المتعارضتين، فكذلك لا يمكن التعدّي منها إلى الفتويين المتعارضتين.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال: بعدم القول بالفصل والإجماع المركّب؛ لأنّ كلّ من يقول بتقليد الأعلم في مقام الحكم يقول بتقديمه في مقام الفتوى، والتفصيل بينهما خرق للإجماع. نعم، هناك من يقول بعدم التقديم في كليهما، وأمّا القائل بالتفصيل فليس في البين أصلاً.والأفضل في الجواب عنها أن يقال: إنّ تعيين الأفضل وإن كان وارداً في باب الخصومة، ولكنّ هذا التقديم والترجيح وقع من جهة مدرك الحكم، وهو ليس إلّا الفتوى.

ومن الروايات - أيضاً -: ما عن أمير المؤمنين(علیه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك»(1).

ولا يرد على هذه الرواية أنّها وردت في باب القضاء؛ لما ذكرناه من أنّ التقديم في أمثال هذه الروايات هو باعتبار مدرك الحكم، وليس هو إلّا الفتوى.

والذي يظهر من هذه الرواية: هو أنّها لم ترد في لزوم تعيين الأفضليّة

ص: 482


1- وسائل الشيعة 27: 159، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح 17.

المطلقة، بل إنّما وردت في الأفضليّة الإضافيّة، أي: بالإضافة إلى الوالي الذي يعيّنه. ولا شكّ في أنّ هذه الروايات وأمثالها إرشاد إلى حكم العقل، وإنّما قيّد فيها ﺑ (أفضل رعيّتك) من جهة عدم إمكان الرجوع إلى الأعلم على الإطلاق.

ومنها - أيضاً -: ما ورد عن داود بن حصين عن الصادق(علیه السلام) في مورد اختلاف الحكمين، قال(علیه السلام): «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا فينفذ حكمه، ولا يلتفت إلى الآخر»(1).فإنّها وإن وردت في باب القضاء، ولكن لا نرى فيها خصوصيّة لشرط الأعلميّة في هذا الباب دون غيره من الأبواب، وما ذكر من الإشكال والجواب في الروايتين السابقتين يأتي بعينه هنا أيضاً.

ومنها: ما روي من قول الإمام الجواد(علیه السلام) لعمّه: «يا عمّ، إنّه عظيم عند اﷲ أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الاُمّة من هو أعلم منك؟»(2).

قال اُستاذنا الأعظم(قدس سرّه): «وهذه الرواية وإن كانت تدلّ على اعتبار الأعلميّة المطلقة في المفتي، إلّا أنّها ضعيفة سنداً؛ لإرسالها، إذن لا يمكن الاستدلال بها بوجه»(3).

ص: 483


1- وسائل الشيعة 27: 113، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 20.
2- انظر: بحار الأنوار 50: 100.
3- التنقيح 1: 117.

وقد يستشكل في دلالة هذه الجملة على الأعلميّة المطلقة بأنّها أجنبيّة عن محلّ الكلام، فإنّ موردها هو من أفتى بما لم يعلم، والبحث إنّما هو في لزوم الرجوع إلى الأعلم.

وكيف كان، فالذي يظهر من هذه الروايات هو وجوب الرجوع إلى الأعلم؛ للاطمئنان بصدورها على نحو الإجمال من المعصوم(علیه السلام)، ومع الإصرار على الخدشة فيها تكفينا السيرة العقلائيّة الجارية في مجالات الأحكام وغيرها من الحرف والصنائع والعلوم، ولم يردع عنها الشارع، بل أمضاها.يقول الاُستاذ المحقّق(قدس سرّه) في المقام - ما نصّه -:

«والحاصل: أنّ هذه الأخبار لا قصور في دلالتها على لزوم الرجوع إلى الأفضل عند العلم بالاختلاف في فتواهما، وإذا ظهر ذلك لك، فعلى فرض أن يكون هناك إطلاقات للآيات والروايات تدلّ على جواز تقليد المفضول، مع وجود الأفضل، مع مخالفة فتواه لفتوى المفضول، لا بدّ أن يقيّد بهذه الأخبار، مع أنّه تقدّم أنّه لا إطلاق في البين أصلاً»(1).

ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ لزوم الرجوع إلى الأعلم، وكذا الفحص عنه لغرض الرجوع إليه، إنّما هو فيما إذا علم بالمخالفة مع غير الأعلم في الفتوى، ولم يمكن العمل بالاحتياط. وأمّا إذا كانا متّفقين في الفتوى، أو

ص: 484


1- منتهى الاُصول 2: 637.

أراد الاحتياط بالجمع بين الفتويين مع إمكان ذلك، بأن لم يكن بينهما تضادّ أو تناقض، أو كانت فتوى غير الأعلم موافقةً للاحتياط، فلا يجب الفحص حينئذٍ، كما أنّه إذا لم يمكن الاحتياط في صورة المخالفة في الفتوى يجب عليه الفحص؛ لأنّ الإطلاقات لا تشمل المتعارضين، فيجب الرجوع إلى الأعلم؛ لأنّ قول غير الأعلم ليس بحجّة، فيكون المورد من باب اشتباه الحجّة باللّاحجّة، فلابدّ من الفحص، فإذا عمل بفتوى أحدهما من دون أن يفحص عن الأعلم لم يقطع بفراغ ذمّته؛ لاحتمال أن يكون الأعلم غيره، ولاحتمال أنّ ما عمل به لم يكن معذّراًله، واحتمال وقوعه في المخالفة والعقاب المحتمل، ودفع ضرر المحتمل واجب.

كما أنّه إذا فحص وعجز عن معرفة الأفضل فلابدّ له من العمل بالاحتياط بعد أن كانت الأحكام الواقعيّة، ومن بينها أحكام إلزاميّة، منجّزة في حقّه بالعلم الإجماليّ، كما بيّنّاه في محلّه، وليس هناك طريق إلى العمل على طبق فتوى الأعلم، ومع الفحص والعجز عن معرفة الأعلم فلابدّ له من الاحتياط حتى يحصل له العلم بالموافقة دفعاً للضرر المحتمل.

فإن قلت: مع عدم التمكّن - أيضاً - يمكنه الأخذ بأحدهما، كما لو كان مظنون الأعلميّة أو محتملها.

قلنا: قد عرفت أنّ الإطلاقات لا تشمل المتعارضين، فيتساقطان،

ص: 485

فلا يكون أيّ واحد من الفتويين حجّة ليكون المظنون منهما أو محتملهما حجّة.

وهكذا يأتي هذا البحث - أيضاً - فيما لو علم بالاختلاف بينهما وجهل التفاصيل.

وقد يقال: يمكن هنا إثبات التخيير باستصحاب عدم أعلميّة أحدهما على الآخر، نظراً إلى القطع بعدمها قبل أن يصل إلى مرتبة الاجتهاد.

ولكن يجاب عنه: بأنّ هذا الاستصحاب لا يثبت به التساوي إلّا بنحو التمسّك بالأصل المثبت؛ فإنّ موضوع التخيير هو التساوي، وهو غير محرز في المقام.إلّا أن يقال: يكفي في الرجوع إلى التخيير عدم الأعلميّة، ولا نحتاج إلى إثبات التساوي بإطلاقات الأدلّة، بل يكفي عدم إحراز الأعلميّة ولو إجمالاً.

ولو علم العامّيّ باختلافهما في الفضيلة على نحو الإجمال، ولم يعلم اختلافهما في الفتوى، أو لم يعلم باختلافهما، لا في الفتوى، ولا في الفضيلة، فلا يجب الفحص عن الأعلم بينهما؛ لأنّ أدلّة لزوم الرجوع إلى الأعلم ناظرة إلى صورة العلم بالمخالفة، وأمّا مع عدم العلم بذلك، فهو مخيّر له الرجوع إلى أيٍّ منهما.

قد يقال: لا يمكن التمسّك بالإطلاق في المقام؛ لأنّه من باب التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة؛ فإن صورة العلم بالمخالفة قد خرجت

ص: 486

يقيناً، فمع الشكّ في المخالفة يكون التمسّك بالإطلاق تمسّكاً في الشبهات المصداقيّة.

ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن إدخال الفرد المشكوك في العموم بالأصل؛ فإنّ فرديّة الفرد للعموم قد تكون بالوجدان وقد تكون بالأصل أيضاً، والمخالفة بين المجتهدين أمر حادث، فمع الشكّ في تحقّقها يبنى على عدمها بمقتضى الاستصحاب، بأن يقال - مثلاً -: إنّ المجتهدين كانا في زمانٍ ولم يكونا متخالفين في الفتوى، ولو من جهة عدم بلوغهما مرتبة الاجتهاد، فمقتضى الأصل أنّهما الآن كما كانا عليه سابقاً.

التخيير عند تساوي المجتهدين:

إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة، فتارةً: لا يعلم بالمخالفة بينهما فيما هو محلّ الابتلاء، وأُخرى يعلم بالمخالفة كذلك.

أمّا في صورة العلم بالتساوي وعدم العلم بالمخالفة: فيتخيّر المقلّد في الرجوع إلى أيّهما شاء، فإنّ الإطلاقات تشمل فتوى كلاّ من المجتهدين المتساويين، وقد ذكرنا أنّه يجوز الرجوع إلى غير الأعلم في صورة عدم العلم بمخالفته للأعلم، ففي صور التساوي وعدم العلم بالمخالفة، يجوز ذلك بطريقٍ اُولى.

وأمّا في صورة العلم بالمخالفة بينهما فالمعروف بينهم هو القول بالتخيير، وفيه إشكال؛ فإنّ الحجّيّة التخييريّة:

ص: 487

إن كانت بمعنى جعل الحجّيّة على هذا وذاك يستلزم الجمع بين الضدّين أو النقيضين وهو محال.

وإن كانت بمعنى: أن تكون الحجّة هي الجامع بين الفتويين، فهي - أيضاً - غير ممكنة؛ لعدم إمكان جعل الحجّيّة للجامع بين النفي والإثبات، ولو تنزّلنا وقلنا بإمكانه، فلا تشمله الإطلاقات، لأنّها - كما أشرنا مراراً - لا تشمل المتعارضين أو النقيضين.

وأمّا جعل الحجّيّة على كلّ واحدٍ منهما حجّة مشروطاً بعدم الأخذ بالآخر، فهو وإن كان ممكناً، ولا يأتي في مورده محذور الجمع بين الضدّين والنقيضين، ولكن حيث كان يترتّب عليه أن يتّصف كلّ منهما بالحجّيّة الفعليّة، إذا ترك المكلّف الأخذ بهما معاً، ولا معنى لجعل الحجّيّة لكلاالمتعارضين، ولا لفعليّتهما معاً؛ ولا تشملهما الإطلاقات، لأنّها لا تشمل المتعارضين، كما مرّ.

وأمّا الحجّيّة التخييريّة بمعنى جعل الحجّيّة على كلّ من الفتويين مشروطةً بالأخذ بها، لا بعدم الأخذ بالآخر، فهي مقبولة ولا يترتّب عليها أيّ إشكال ثبوتاً، ولكن لا دليل عليها في مرحلة الإثبات؛ لأنّ ما دلّ على حجّيّة فتوى الفقيه مطلق غير مقيّدة بالأخذ بها.

وقد يستدلّ للقول بالتخيير بالإجماع.

وفيه: أنّه ممنوع صغرىً وكبرى؛ أمّا كبرىً، فلأنّه منقول، والمنقول من الإجماع ليس بحجّة. وأمّا صغرىً، فلأنّه أمثال هذه الموارد من المسائل

ص: 488

المستحدثة، ولم يتعرّض السابقون لها، فلا مجال لدعوى إجماعهم على القول بالتخيير فيها، وعلى فرض ثبوته، فإنّه إجماع مدركيّ، أو محتمل المدركيّة.

وقد يستدلّ له بالإطلاقات - أيضاً -.

ولكن قد مرّ مراراً أنّها لا تشمل مثل الفتويين المتعارضين؛ لتأديته إلى الجمع بين الضدّين أو النقيضين، ولا يمكن الأخذ بإحدى الفتويين دون الأُخرى؛ لأنه من الترجيح بلا مرجّح.

وأمّا التمسّك بالسيرة العقلائيّة، فمندفع، بعدم تسليم انعقادها بحيث تشمل صورة التعارض في الفتوى بين المتساويين، كما نرى ذلك منهم خارجاً؛ فإنّهم لا يعتمدون على أقوال الأطبّاء إذا اختلفوا في تشخيص العلاج كيفما كان، بل يحتاطون ما أمكنهم الاحتياط.وأما سيرة المتشرعة، فكذلك لا يمكن التمسّك بها؛ إذ لم يحرز اتّصالها بزمان المعصوم(علیه السلام).

فتحصّل: أنّه في صورة العلم بالمخالفة بينهما فلابدّ من الاحتياط، ومع عدم الإمكان يتخيّر بحكم العقل؛ لأنّ التكاليف منجّزة في حقّه، ولا طريق له إلى الخروج عن عهدتها سوى هذا.

مسألة: إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة ما فهل للعامّيّ الرجوع إلى غير الأعلم أم لا؟

ص: 489

في المسألة صور عدّة:

الأُولى: أن يكون للأعلم فتوى في المسألة، وتكون مخالفة لفتوى غير الأعلم، وفي هذه الصورة لابدّ من الأخذ بفتوى الأعلم، ولا يجوز له الرجوع إلى غير الأعلم.

الثانية: أن يكون له فتوى، ولكن تكون موافقةً لفتوى غير الأعلم، ففي هذه الصورة له أن يعمل بفتوى غير الأعلم.

الثالثة: ليس له فتوى، ولكنّه أفتى بوجوب الاحتياط على مقلّديه، وعيّن لهم الوظيفة من جهة فتواه بالحكم الظاهريّ، فلا يجوز للمقلّد في هذه الصورة الرجوع إلى غير الأعلم مع وجود فتوى الأعلم، ولو كانت فتوىً بالاحتياط؛ لأنّ إفتاءه، ولو بحكم ظاهريّ، يكون مانعاً عن حجّيّة فتوى غير الأعلم.

الرابع: أن يفتي بالاحتياط، ولكن من جهة عدم علمه وعدم جزمه بالحكم الواقعيّ في المسألة، وفي هذه الصورة، فللعامّيّ أن يختار الرجوع إلى غيره، الأعلم فالأعلم، لأنّه -حينئذٍ - يكون من باب رجوع الجاهل إلى العالم، ولا مانع من أن تشمله إطلاقات الأدلّة بعد أن لم يكن للأعلم فتوى مخالفةً ومعارضةً له، ولكن لا يجوز له الرجوع إلى مطلق غير الأعلم، بل إنّما يجوز مع رعاية الأعلم فالأعلم، وذلك لعين ما ذكرناه آنفاً من وجوب الرجوع إلى الأعلم.

نعم، لو أفتى بالاحتياط مع العلم بأنّ قوله معارض لقول غير الأعلم،

ص: 490

وكان هذا الحكم بالاحتياط منه تخطئةً لفتوى غير الأعلم، لم يجز له الرجوع - حينئذٍ - إلى غير الأعلم بل لابدّ من العمل بالاحتياط الذي أفتى به الأعلم.

حكم عمل الجاهل المقصّر والقاصر:

اعلم أنّ الجاهل على أقسام؛ لأنّه إمّا قاصر، أو مقصّر، والثاني على قسمين: ملتفت وغير ملتفت. والكلام في هذه المسألة في مقامين:

الأوّل: في أنّ الجاهل هل يستحقّ العقاب على أعماله مطلقاً أم لا؟

والثاني: في أنّ أعمال الجاهل هل هي محكومة بالصحّة أم لا؟

أمّا المقام الأوّل:

فلا يخفى: أنّ الجاهل القاصر غير مستحقّ للعقاب على عمله، ولو كان غير مطابق للواقع؛ لأنّه غافل عن كونه مخالفاً للواقع، كما إذا استند إلى أمارة شرعيّة، أو إلى فتوىمن يجوز تقليده، وكانتا مخالفتين للواقع؛ فإنّ الجاهل القاصر غافل، والغافل حال غفلته لا يكون قابلاً لتوجّه التكليف إليه.

وأمّا الجاهل المقصّر فلا شكّ في أنّه يستحقّ العقاب إذا كان عمله على خلاف الواقع، وإنّما الكلام في أنّ عقابه هذا هل كان بسبب مخالفة عمله للواقع أم لأنّه كان تاركاً للفحص والتعلّم.

والحقّ: أنّ استحقاق العقاب لا يكون على تركه التعلّم، بل على

ص: 491

مخالفته للواقع عند ترك التعلّم والفحص، لما قرّرناه في محلّه من أنّ وجوب التعلّم ليس بنفسيّ، بل هو وجوب طريقيّ وإرشاديّ محض.

نعم، يمكن أن نقول بعدم استحقاق العقاب إذا كان عمله مطابقاً لفتوى من يجب تقليده في ذلك الوقت، ولو كان مخالفاً لفتوى المجتهد الفعليّ، ولا يحتاج في التقليد إلى الاستناد إلى الحجّة، إلّا أن نقول بأنّ الحجّة بوجودها الواقعيّ غير كافية في المعذّريّة.

لكنّ الحقّ: كفاية مطابقته لفتوى المجتهد حين العمل؛ لأنّه حصل منه التقليد قهراً، وكان عمله صحيحاً، ولا يحتاج إلى مطابقة عمله لفتوى المجتهد حين الانكشاف.

وأمّا ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) من أنّه «يمكن الالتزام باستحقاق المقصّر للعقاب حتى إذا كان عمله مطابقاً للواقع، إلّا أنّه يختصّ بما إذا كان ملتفتاً حال العمل؛ وذلك لأنّه مع الالتفات واحتمال صحّة العمل وفساده، إذا أتى به غير مبالٍ بمخالفته للواقع، لكان ذلك مصداقاً بارزاً للتجرّي القبيح،وبذلك يستحق العقاب على عمله، وإن كان مطابقاً للواقع»(1).

ففيه: أوّلاً: أنّ قبح التجرّي لا يكون سبباً لاستحقاقه العقاب. وثانياً: أنّه مع الالتفات، إذا حصل الإتيان به بعنوان الرجاء، وتحقّق منه قصد

ص: 492


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 160.

القربة، فعمله صحيح، ولا يستحقّ عليه العقاب بعد أن كان مطابقاً للواقع، ولا سيّما لما ذكرناه من أنّ وجوب التعلّم إرشاديّ محض، وأمّا إذا لم يتمشّ منه قصد القربة، فعمله باطل، ولو كان بعد الإتيان به مطابقاً للواقع؛ لأنّه إذا لم يعلم بصحّة العمل فكيف يأتي به بقصد الأمر؟

وأمّا المقام الثاني:

وهو الكلام في صحّة عمله:

فلا يخفى: أنّ عمل الجاهل المقصّر، كالقاصر، محكوم بالصحّة، ولو كان ملتفتاً حال العمل، شريطة أن يكون عمله مطابقاً للواقع. أمّا في التوصّليّات: فواضح؛ لأنّه يمكن الإتيان بها مطلقاً ولو من غير اختيار، أو كان نائماً، أو غافلاً، وأتى بالعمل وكان مطابقاً فيكفي.

وأمّا إذا كان العمل عباديّاً فيكفي الإتيان به برجاء أنّه ممّا أمر اﷲ سبحانه به، وهذا المقدار من الإضافة إليه تعالى كافٍ، ويمكن صدوره من الجاهل المقصّر، فإذا غفل وأتى به بهذا النحو، ووقع مطابقاً للواقع، فقد وقع صحيحاً، وكفى، ولا يحتاج إلى الجزم بأنّ ما يأتي به هو الماُمور به.لا يقال: يشترط في صحّة العمل الجزم والعلم التفصيليّ به، والجاهل المقصّر لا يتمشّى منه قصد القربة؛ لعدم علمه برجحان العمل وممدوحيّته، مضافاً إلى أنّ التحرّك نحو العمل لابدّ وأن يكون بداعي أمر المولى، ومن قصد الاقتصار على أحد الفعلين فهو ليس قاصداً لامتثال

ص: 493

الأمر الواقع على كلّ تقدير. نعم، هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل للواقع، لا مطلقاً، وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها.

فإنّه يقال: قد عرفت أنّه لا يحتاج عند الإتيان بالعمل إلى الجزم بالنيّة، ولا إلى العلم بأنّ ما يأتي به الماُمور به، بل يكفي الإتيان به برجاء أنّه الماُمور به، فيكون قصد القربة موجوداً؛ لأنّه لم يأتِ بالعمل إلّا ﷲ تعالى، ويحصل ذلك بمجرّد احتمال الأمر، ويكفي أن يكون الداعي هو احتمال الأمر، من دون أن يحتاج إلى العلم في صحّة العمل.

ما هو المراد من الأعلم:

اشارة

والكلام في هذا البحث من جهتين:

الأُولى: في إمكان الأعلميّة وعدمها.

والثانية: في معنى الأعلميّة.

أمّا الجهة الأُولى:

فقد يقال: إنّه لا معنى للأعلميّة لما بيّناه في محلّه من أنّ الاجتهاد يحصل باكتساب الملكة والقوّة القدسيّة، وحقيقة تلك القوّة القدسيّة هو النور الذي يقذفه اﷲ في قلب من يشاء،وهي كسائر الملكات بسيطة لا تركيب فيها؛ لأنّها من الكيفيّات النفسانيّة، فلا تقبل القسمة، فالمناط من الاجتهاد هو الحصول على هذه القوّة التي يقتدر بها على استنباط

ص: 494

الأحكام وردّ كلّ فعل إلى أصله، وأمرها دائر بين الوجود والعدم.

ولكن قد ذكرنا سابقاً في بحث التجزّي أنّ هذه الملكة وإن كانت بسيطة، ولكنّها ذات مراتب متفاوته من جهة الكمال والنقص، فربّما يحصل على المرتبة الناقصة دون الكاملة، ولا تلازم بينهما في الوجود، فهي من الملكات المشكّكة، كسائر الملكات من العدالة والشجاعة والسخاوة ونحوها، وهي وإن كانت من الاُمور غير المحسوسة، إلّا أنّ هناك طرقاً محسوسة يستكشف بها تلك الملكات ومراتبها.

ومعه: فتكون الأعلميّة محكومةً بالإمكان لا محالة، ومن هنا يصل الكلام إلى الجهة الثانية.

وأمّا الجهة الثانية:

فنقول فيها: إنّ الأعلميّة التي عرفنا إمكانها هي بمعنى الحصول على أعلى مراتب الكمال من تلك القوّة والملكة.

ولا يخفى: أنّ الأعلميّة وإن كانت تصدق على كثرة الاطّلاع على خصوصيّات المسائل، والإحاطة بالفروع والأقوال والكلمات، وإحكام المباني والكبريات، لكونها أقرب إلى معنى التفضيل المدلول عليه بهيئة أفعل من هذه المادّة، ولكن ليست هذه المعاني هي المرادة هنا.وإنّما المراد بالأعلم من يكون أجود فهماً وأشدّ مهارةً من غيره في تطبيق الكبريات على الصغريات. فالأعلميّة متوقّفة على أمرين: أوّلهما: العلم بالقواعد والكبريات، والثاني: شدّة المهارة وجودة الفهم وحسن

ص: 495

السليقة في التطبيق، كما يظهر من بقيّة الحرف والصنائع، وإنّما قلنا بأنّ المراد من الأعلم هو هذا المعنى الثاني؛ لأنّ كلمة (أعلم) لم ترد في شيء من الأدلّة حتى يرجع في فهمه إلى العرف واللّغة، بل ثبوت وجوب الرجوع إلى الأعلم إنّما هو - كما عرفنا - بملاك التمسّك ببناء العقلاء، وهم لا يريدون به إلّا هذا المعنى الثاني، أي: من كان أقوى استنباطاً، لا بمعنى من كان كثير الاطّلاع على المباني والفروع.

طرق معرفة الاجتهاد والأعلميّة:

اشارة

يُعرف اجتهاد المجتهد وأعلميّته باُمور:

الأوّل: العلم الوجدانيّ:

فإنّ حجّيّته ذاتيّة، لا بجعل الجاعل، لا نفياً ولا إثباتاً، بل العلم بالشيء ليس إلّا إثباته وإحرازه، لا أنّه مجرّد طريق إلى الإثبات.

الثاني: البيّنة.

وقد استدلّ على حجّيّة البيّنة بوجوه:

أوّلها: الإجماع.

وفيه: ما عرفته مراراً من حال أمثال هذه الإجماعات.

والثاني: الروايات، كموثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «سمعته يقول: كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته، وهو سرقة،

ص: 496

أو المملوك عندك، ولعلّه حرٌّ قد باع نفسه، أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك، وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(1).

وقد استشكل على الاستدلال هذه الرواية:

أوّلاً: من ناحية السند، وأنّها ضعيفة، وليست صحيحة.

ولكن فيه: أنّه يمكن أن يحصل لنا الاطمئنان بصدورها بعدما كان لمضامينها وجود في سائر الموثّقات، وبعد عمل المشهور بها فتأمل.

وثانياً: من جهة دلالتها، بدعوى: أنّها دالّة على حجّيّة البيّنة في الحرمة والحكم التكليفيّ، ولا تدلّ على حجّيّتها في باب الموضوعات الخارجيّة، فضلاً عن دلالتها على العموم.

وفيه: أنّ الظاهر منها كونها بصدد بيان ضابطة عامّة؛ لأنّ كلمة (الأشياء) الواردة في متنها جمع معرّف باللّام، وهي مع ذلك مؤكّدة بكلمة (كلّ)، فتكون بصدد بيان قاعدة كلّيّة مفادها أنّ البيّنة، وإن كانت لغةً بمعنى الاستبانة، إلّا أنّها هنا بمعنى: قول الشاهدين العادلين، ويكفينا في حجّيّتها بناء العقلاء على العمل بها، مع عدم ردع الشارع عنها إلّا في بعض الموارد،كالزنا دلّ الدليل الخاصّ على أنّه لابدّ فيه من شهادة أربعة.

ص: 497


1- انظر: وسائل الشيعة 17: 89، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

فالبيّنة واقعة في مقابل العلم الوجدانيّ؛ لأنّها وردت في الرواية في قبال الاستبانة التي هي العلم الوجدانيّ، فيكون معنى الرواية: أنّ البيّنة كالعلم الوجدانيّ جعلت غايةً للحلّ، فقوله(علیه السلام): (الأشياء كلّها على هذا)، أي: على الحلّيّة، حتى يستبين أمرها أو تقوم عليه البيّنة، فالرواية غير مختصّة بالحرمة المترتّبة على الموارد المذكورة فيها، بل هي تدلّ على حجّيّة البيّنة في الموضوعات مطلقاً.

إن قلت: على فرض التنزّل يمكن لنا أن نستدلّ بالرواية لإثبات الضابطة في خصوص مورد دوران الأمر بين الحلّيّة والحرمة، كما في الرواية، لا في إثباتها مطلقاً كقاعدةٍ كلّيّة تشمل كافّة الموارد.

قلنا: بل يمكن التعدّي من هذا المورد إلى غيره من الشبهات الموضوعيّة بدلالة الفحوى؛ لأنّ الشارع حكم بالتوسعة في باب الحلّيّة والطهارة مع عدم العلم بهما واحتمال ما يقابلهما، فاعتبر البيّنة، التي هي في قوّة العلم، سبباً لإثبات ما يقابلهما، أي: الحرمة والنجاسة، فتثبت البيّنة غير الحلّيّة والطهارة، ممّا هو أضيق منهما دائرةً، بطريق اُولى، بل يمكن أن يستفاد من قوله(علیه السلام): (الأشياء كلّها) قاعدة كلّيّة عامّة لكلّ مورد، فالأشياء على حالتها الأوليّة التي يقتضيها الأصل، والذي هو في كلّ شيء بحسبه، من الحلّيّة والحرمة والوجوب والموضوعات الخارجيّة حتى يستبين أوتقوم به البيّنة، فيكون ذكر الحليّة في الرواية من باب أنّه مورد السؤال، وإلّا، فلا خصوصيّة فيه، ومعلوم أنّ المورد لا يكون

ص: 498

مخصّصاً لعموم اللّفظ.

أو نقول: بما أنّ البيّنة جعلها الشارع في قوّة العلم، وحيث إنّ حجّيّة العلم ذاتيّة، والبيّنة ليست كذلك، فتحتاج حجّيّتها إلى دليل، ولمّا حكم الشارع بأنّها في مقام إثبات الموضوعات كالعلم، فكما أنّه إذا علم بشيء يترتّب عليه حكمه، وكذلك كما أنّه إذا قامت الأمارة على حرمة الشيء أو نجاسته أو طهارته أو حلّيّته أو ملكيّته أو اجتهاده أو أعلميّته، فيترتّب عليها أحكامها، فكذلك لو قامت البيّنة على عدالة شخص تجوز الصلاة خلفه إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد، لما ذكرنا مراراً من أنّ الأدلّة لا تشمل المتعارضين؛ لأنّ شمولها لكليهما مستلزم للجمع بين الضدّين أو النقيضين، ولأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح.

وقد يستشكل في دلالة هذه الرواية أيضاً: بأنّ قوله(علیه السلام): (حتى يستبين أو تقوم به البيّنة)، ناظر إلى العلم والعلميّ، وأمّا إثبات حجّيّة البيّنة، أعني: شهادة العدلين فلا، وأنّها دليل على إثبات الموضوعات مطلقاً وفي جميع الموارد، فيحتاج إلى دليل غير هذه الرواية؛ لأنّ البيّنة لغةً هي الشيء الواضح، وكون المراد منها في الرواية البيّنة بمعناها المصطلح، أي: شهادة العدلين، يحتاج إلى دليل.

ولكنّ الحقّ: أنّها من المنقولات الشرعيّة، وأنّ النبيّ(صلی الله علیه و آله) كان يعتمد على إخبار العدلين عند الترافع، ولو كان المراد منالبيّنة في الرواية هو

ص: 499

مطلق الحجّة الواضحة، لكان يلزم أن يكون قسم الشيء قسيماً له؛ لأنّ الاستبانة، وهي العلم، قسم من الحجّة الواضحة؛ فلابدّ أن يكون المراد من البيّنة في الرواية هو معناها التي نُقلت إليه شرعاً، وهو شهادة العدلين.

والثالث: الشياع المفيد للعلم:
اشارة

وهل هو من قسم العلم أم أنّه قسيمه؟ وعلى الثاني، فما هو الدليل على حجّيّته؟

لا يخفى: أنّه إذا كان المراد منه العلْم الشخصيّ، فهو ليس قسيماً للعلم، بل قسم منه، أو فقل: هو أحد أسباب حصول العلم، والعلم حجّة من أيّ سبب حصل. وإذا كان المراد منه العلْم النوعيّ، كان قسيماً للعلم، ولا دليل على حجّيّته؛ لأنّا نرى كثيراً من الشائعات تستند إلى اُمورٍ لا واقع لها.

وبعبارة أُخرى: فإنّ الشياع إن كان سبباً للعلم فهو داخل فيه، نظير الخبر المتواتر، ولكن كما لم يذكر الخبر المتواتر في عرض العلم في طرق الاجتهاد، فالاُولى - حينئذٍ - عدم ذكره هو أيضاً. وإن كان غير مفيد للعلم، فلا دليل على حجّيّته.

مسألة: لو كان هناك مجتهد ميّت يحرّم البقاء على تقليد الميّت، فمات ورجع إلى الحيّ الذي يقول بجواز البقاء أو وجوبه، فهل يجوز له البقاء على تقليد من يقول بحرمة البقاء أم لا؟

ص: 500

لا يجوز البقاء على تقليد الميت بفتوى الميت نفسه بجواز البقاء، بل يجب على المكلّف الرجوع في ذلك إلى الحيّ الأعلم، فلو قلّد الحيّ، وكان يقول بجواز البقاء، أو بوجوبه، وكان الميت يقول بحرمة البقاء، فللمقلّد أن يبقى في جميع المسائل على فتوى الميت ما عدا مسألة البقاء على تقليد الميت؛ لأنّه يلزم منه التناقض؛ فإنّ الحكمين متنافيين ولا يمكن الجمع بينهما، وذلك أنّ فتوى الحيّ: إمّا أن تكون شاملةً لجميع المسائل، حتى مسألة حرمة البقاء، أو شاملةً لجميع المسائل ما عدا مسألة حرمة البقاء، أو شاملةً لمسألة حرمة البقاء فقط. ولا شكّ في عدم إمكان الاحتمالين الأوّل والثالث، فيبقى الاحتمال الثاني فقط، فإنّ فتوى الحيّ لا يمكن أن تكون شاملةً لمسألة حرمة البقاء؛ للقطع بعدم حجّيّة فتوى الميت بحرمة البقاء وبكونها مخالفةً للواقع الفعليّ، وهو قول المجتهد الذي يجب الرجوع إليه بالفعل.

وجوب التعلّم

يجب على المكلّف بالنسبة إلى العبادات العلم بأجزائها وشرائطها وموانعها ومقدّماتها؛ وذلك لأنّه بعد أن علم بأنّ عليه تكاليف منجّزة في حقّه، يستقلّ عقله بلزوم امتثالها وتفريغ الذمّة تجاهها، وهو ما لا يمكن حصوله إلّا بالتعلّم ومعرفة الأجزاء والشرائط والموانع والمقدّمات.

ص: 501

وهل هذا الوجوب مقدّميّ أم نفسيّ تهيّئيّ أم نفسيّ محض أم عقليّ؟لا شكّ ولا شبهة في عدم كونه وجوبه غيريّاً؛ لأنّ الوجوب الغيريّ يكون ناتجاً من وجوب ذي المقدّمة، مع أنّه بعد دخول الوقت لا يجب الإتيان بذي المقدّمة، لعجزه عنها بعد فوت المقدّمة، وقبل الوقت لم يكن واجباً حتى يترشّح منه الوجوب إلى المقدّمة.

كما أنّه ليس بواجب نفسيّ بحيث تكون المصلحة قائمةً في نفس التعلّم، بل إنّما هو وجوب طريقيّ، بحيث تكون المصلحة قائمةً في نفس الواجب وذي المقدّمة. فالتعلّم مقدّمة للعمل، وليس تركه هو الذي يوجب العقاب، بل إنّما يكون العقاب على ترك ذي المقدّمة.

وهو - أيضاً - ليس وجوباً نفسيّاً تهيّئيّاً، بأن يكون الوجوب الأصليّ ثابتاً بدليلٍ مستقلّ مراعاةً لمصلحة ذي المقدّمة، ويسمّى (تهيّئيّاً) لأنّ فائدته التهيّؤ والاستعداد لواجب آخر، وهو يندرج في الوجوب النفسيّ من حيث عدم كونه متولّداً من وجوب ذي المقدّمة، وإن كان يشبه الوجوب الغيريّ المقدّميّ من حيث كونه ثابتاً لمصلحة في غيره.

وهذا الوجوب من قبيل الوجوب العقليّ، وهو لا يستفاد من إطلاق الأدلّة الدالّة على لزوم الإتيان بالواجب؛ فهو لورود الوجوب عليه يكشف عن وجود ملاك فيه، مع أنّه لا ملاك فيه، بل هو في ذي المقدّمة. فإذا كان ترك الواجب مستنداً إلى ترك التعلّم، ولو قبل الوقت، كان التعلّم واجباً عليه بحكم العقل.

ص: 502

فإذا عرفت ذلك، فالأقوال في مسألة استحقاق العقاب على ترك التعلّم ثلاثة:

أوّلها: استحقاق العقاب على تركه مطلقاً، إذا أدّت مخالفته إلى ترك الواجب.

وهو غير صحيح؛ لما عرفنا من كون وجوبه طريقيّاً، ولذا، لو استند ترك الواجب إلى شيءٍ آخر غير التعلّم، فلا يعاقب المكلّف بشيء.

والثاني: أنّ العقاب يكون على ترك التعلّم إذا أدّى إلى مخالفة العمل للواقع.

وهذا - أيضاً - ليس بصحيح؛ لأنّ وجوبه ليس وجوباً نفسيّاً محضاً، ولا ملاك هناك إلّا ملاك الواقع.

والثالث: أنّ العقاب يكون على ترك الواقع عند ترك التعلّم، وهذا هو القول الصحيح.

ثمّ إنّه لا إشكال في وجوب التعلّم لو قلنا بوجوب معرفة الوجه والتميّز، أو قلنا بعدم جواز العمل بالاحتياط والامتثال الإجماليّ مع التمكّن من العلم التفصيليّ، وإلّا، فلو علم إجمالاً بأنّ عمله كان واجداً لجميع الأجزاء والشرائط، وفاقداً لجميع الموانع، وقع صحيحاً. بل الحقّ: لزوم الحكم بالصحّة - أيضاً - لو تمكّن من الإتيان بالعمل رجاءً، وكان مطابقاً لما هو الواقع بالفعل، لا ما هو الواقع حال العمل.

ص: 503

مسألة: إذا تبدّل رأي المجتهد، فهل يجوز المقلّد أن يبقى على رأيه الأوّل أم لا؟

الظاهر: العدم؛ لعدم شمول دليل جواز التقليد لمثل هذا البقاء، وعدم حجّيّة الفتوى الأُولى بعد العدول عنها وعدم إحراز مطابقتها للواقع، ولأنّ وجوب رجوع الجاهل إلى العالم، المستفاد من مثل السيرة العقلائيّة، إنّما يكون فيما لو لم يعترف المجتهد بخطأ فتواه السابقة، وأنّها كانت مصاديق الجهل بواقع الحكم، فالرأي الأوّل غير باقٍ على حجّيّته، ولمّا كانت الفتوى الثانية مطلقةً، فتكون كاشفة عن عدم حجّيّة الفتوى الأُولى من أوّل الأمر.

مسألة: إذا عدل المجتهد عن الفتوى إلى التوقّف والتردّد، فهل للمقلّد أن يبقى على رأيه الأوّل أم لا؟

الظاهر: أنّه بعد عدوله عن الفتوى إلى التوقّف والتردّد واعترافه بخطأ المستند الفتوى الأُولى، لم يعد رأيه الأوّل حجّة ولا طريقاً إلى الواقع، بل في حقيقة الأمر، لا يكون له فتوى بالفعل، فيكون من مصاديق الجاهل في هذه المسألة، فيتعيّن على المقلّد - حينئذٍ - إمّا أن يعمل بالاحتياط، وإمّا أن يرجع إلى غيره، الأعلم فالأعلم، حتى يحصل له اليقين بفراغ ذمّته؛ لأنّه، والحال هذه، هو العالم بالفعل، والرجوع إليه من باب رجوع الجاهل إلى العالم.

ص: 504

مسألة: لو كان هناك مجتهدان متساويان في العلم، فهل يجوز للمقلّد تقليد أيّهما شاء، أم يجوز له التبعيض في المسائل بينهما، أم عليه الأخذ بقول من هو أعدل أو أورع منهما؟

قد مرّ فيما سبق ما يوضح الحال في هذه المسألة، وذكرنا أنّه إن كانا متوافقين في الفتوى فله أن يقلّد أيّاً شاء منهما؛ لأنّ الأدلّة تشمل كلتا الفتويين. وأمّا في صورة العلم بالمخالفة بينهما، فلابدّ له من الاحتياط؛ وذلك لعدم شمول الأدلّة والإطلاقات للمتعارضين، وهكذا يقال بالنسبة إلى السيرة، وأمّا ما قد يُدّعى من الإجماعات، فكلّها مخدوشة، كما مرّ.

وأمّا في صورة التوافق، هل يجوز له التبعيض بينهما في المسائل؟

الظاهر: الجواز، لما عرفت من أنّه مع عدم العلم بالمخالفة بينهما فالحجّيّة ثابتة لكلتا الفتويين، ففي صورة الموافقة تثبت لهما معاً - أيضاً - بطريقٍ اُولى.

وأمّا الترجيح بينهما في العدالة أو الأورعيّة فأجنبيّ عن مورد البحث. نعم، أرسل صاحب الجواهر(قدس سرّه) إمكان الترجيح بذلك إرسال المسلّمات، حيث قال في المقام - ما لفظه -:

«نعم، مع تساويهما في العلم يُقَدَّم الأعدل؛ لكونه أرجح - حينئذٍ -، فيكون الحاصل حينئذٍ ترجيح أعلم الورعين،وأورع العالمين؛ لقاعدة

ص: 505

قبح ترجيح المرجوح على الراجح»(1).

مسألة: لو قلّد مجتهداً يقول بحرمة العدول حتى إلى الأعلم، ووجد من هو أعلم منه، فهل يجب عليه البقاء على تقليده ولا يجوز له العدول مطلقاً أم لا؟

الظاهر: أنّه لابدّ له من العدول إلى ذلك المجتهد الأعلم؛ لأنّ تقليد الأعلم - كما أسلفنا - واجب، لا يُفَرَّق فيه بين الابتداء والاستدامة، مع العلم بالمخالفة، وعدم كون فتوى غير الأعلم موافقةً للاحتياط، ولا يمكن الاستناد في البقاء على تقليد غير الأعلم إلى فتوى نفسه؛ لما يلزم منه من الدور، ففي هذه الحالة لابدّ له من الرجوع إلى الأعلم. وأمّا في صورة عدم العلم بالمخالفة، فيجوز له البقاء على تقليد غير الأعلم، كما يجوز له العدول إلى الأعلم، وإن كان الأوّل يفتي بعدم جواز العدول؛ فإنّ فتواه هذه - كما عرفنا - لا أثر ولا حجّيّة لها.

مسألة: إذا قلّد شخصاً بتخيّل أنّه زيد، فتبيّن أنّه عمرو، فهل وقع تقليده هذا صحيحاً أم لا؟

قد يقال: بأنّ الحكم بالصحّة في المقام مشروط بشرطين:

أوّلهما: التساوي في الفضيلة.

ص: 506


1- جواهر الكلام 4: 43.

والثاني: أن لا يكون تقليده على وجه التقييد، بحيث لو علم بأنّ من قلّده كان زيداً لم يكن ليقلّده بوجه؛ لأنّه إنّما أرادأن يقلّد عمراً بخصوصه، وأمّا لو كان تقليده لأحدهما على سبيل الداعي، كما لو كان بحيث لو علم أنّ من قلّده زيد كان ليقلّده أيضاً، فيصحّ بلا إشكال.

ولكنّ الحقّ: أنّ الشرط الأوّل غير صحيح؛ لما مرّ من أنّه مع عدم العلم بالمخالفة يجب الحكم بصحّة التقليد. وأمّا في صورة التساوي، مع العلم بالمخالفة، يجب عليه الاحتياط، كما أنّه في صورة وجود الأعلم يجب الرجوع إليه. وأمّا الشرط الثاني، فإن قلنا بأنّ التقليد عبارة عن الالتزام بقول مجتهد معيّن، أو العمل كذلك، فالشرط صحيح؛ لأنّه لم يتحقّق منه التقليد حينئذٍ.

وأمّا ما أفاده الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) من أنّ الموجودات الشخصيّة و«الاُمور الخارجيّة ليست مورداً للتقييد؛ فإنّ الموجود الشخصيّ والأمر الخارجيّ لا إطلاق له ليكون قابلاً لتقييده...»(1)؛

لأنّ النسبة بينهما من قبيل الملكة والعدم، وكلّ ما لا يمكن فيه الإطلاق فلا يمكن فيه التقييد.

فغير تامّ؛ لإمكان التمسّك فيها بالإطلاق الأحواليّ بلا مانع.

ولكنّ الحقّ: لا أثر لهذا التقييد بعدما كان قول كلا المجتهدين حجّة

ص: 507


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 263.

وجامعاً للشرائط، فمقامنا نظير غسل الثوب الخارجي بعنوان أنّه من زيد، فبان أنّه من عمرو، فإنّه لا يؤثّر على تحقّق الطهارة، فإنّها تحصل كيفما اتّفق؛لوضوح أنّ التوصّليّات لا تحتاج إلى القصد، بل تحصل ولو بدون قصد واختيار، ومثله التقليد، فإنّه قد حصل من المكلّف بعد أن كان عمله مستنداً إلى الحجّة، فيكون صحيحاً، وإن تخلّف الداعي.

طرق تعلّم الفتوى:

تُعلم فتوى المجتهد باُمور:

الأوّل: أن يسمع منه شفاهاً. وذلك لما ثبت في محلّه من حجّيّة ظواهر الكلام مطلقاً، ولو لم يكن مفيداً للظنّ، بل ولو مع الظنّ غير المعتبر على الخلاف، بل يمكن الاستفادة من قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ل--ّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(1)، الدالّ على حجّيّة إنذار المنذر، وهو ليس إلّا الإخبار عن الحلال والحرام، وكذا يمكن الاستفادة ممّا تقدّم من الروايات الواردة عنهم(علیهم السلام)المشتملة على الإرجاع إلى آحاد الرواة ومن يأخذون معالم دينهم منهم. وكذلك يستفاد في المقام ممّا تقتضيه السيرة العقلائيّة القائمة على الرجوع إلى أهل الخبرة؛ فإنّ قول الطبيب - مثلاً - إنّما يكون حجّةً لأنّ ما أخبر به

ص: 508


1- التوبة: الآية 122.

مطابق لتشخيصه، فكذلك يكون قول المجتهد وإخباره عن آرائه وفتاواه.الثاني: إخبار عدلين بها. لما تقدّم من عموم حجّيّة البيّنة إلّا في موارد قام الدليل على عدم اعتبارها فيها، كما مثّلا سابقاً من الشهادة بالزنا ونحوه.

الثالث: إخبار عدل واحد، بل يكفي إخبار شخص موثّق بها، ولكن بشرط أن يحصل الاطمئنان من قوله.

ولكنّ الحقّ: عدم ثبوت الموضوعات بخبر العدل الواحد؛ لأنّه لا دليل على حجّيّته فيها؛ لأنّ ما ورد في الخبر المتقدّم أنّ الأشياء كلّها على ذلك حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة، وإخبار العدل الواحد لا يندرج تحت القسم الأوّل ولا تحت القسم الثاني. نعم، هو حجّة في الأحكام.

اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّه حجّة في محلّ الكلام؛ لأنّه إخبار عن فتوى المجتهد بالدلالة المطابقيّة، وبدون واسطة، والإخبار عن الفتوى إخبار عن قول الإمام(علیه السلام)، فإذا قلنا بحجّيّة خبر العدل والثقة إمّا مطلقاً أو في محلّ البحث، فلا نحتاج إلى الاطمئنان الشخصيّ، بل يكفي فيه الاطمئنان النوعيّ، وعليه: فيمكن القول بكفاية إخبار الشخص الموثق - أيضاً -، ولو لم يكن عادلاً.

الرابع: الوجدان في رسالته العمليّة، وهي تارةً: كتبها المجتهد بنفسه وبخطّه أو جمعها غيره وهو أمضاها، وأُخرى: كتبها عنه غيره.

ص: 509

أمّا في الصورة الأُولى: فتدخل في باب إخبار المجتهد عمّا أدّى إليه نظره ورأيه؛ لأنّ الكتابة نوع منالإخبار عن الفتوى، فتشملها الأدلّة التي تدلّ على حجّيّة إخبار المجتهد.

وأمّا في الصورة الثانية: فلابدّ أن يكون الكاتب موثّقاً، ويندرج - أيضاً - في باب إخبار الثقة، فتشملها أدلّة حجّيّة إخباراته شريطة أن يكون مأموناً من الخطأ، ولو بضميمة أصالة عدم الخطأ، وأمّا مع رؤية أغلاط كثيرة فيها فلا يجري الأصل المذكور.

مسألة: لو قلّد من ليس أهلاً للفتوى مدّةً من الزمن كما إذا علم أنّه لم يكن عادلاً أو مجتهداً، ثمّ التفت، وجب عليه العدول، لأنّ تقليده باطل، والحال هذه، وهذا يعني: أنّ عدوله إلى تقليد من هو أهل للفتوى لا يكون تقليداً على الحقيقة، وإنّما هو عدول بحسب اعتقاده.

وأمّا بالنسبة إلى أعماله السابقة، فإذا كانت مطابقةً لفتوى من يجب تقليده بالفعل، صحّت، وإلّا، كانت باطلةً، وإن كانت مطابقةً لفتوى المجتهد الذي يجب تقليده في ذلك العصر.

وكذا لو قلّد غير الأعلم، والتفت لاحقاً، وجب عليه العدول إلى الأعلم إذا كان مخالفاً له في الفتوى، وتقليده لغير الأعلم محكوم بالبطلان، إذا كان تقليده له من دون فحص. وأمّا إذا كان قد قلّده بعد الفحص، وقلنا بلزوم الرجوع إلى الأعلم من باب الاحتياط، فالأحوط العدول إليه.

ص: 510

وأمّا لو قلنا بحرمة العدول حتى إلى الأعلم، كما هو قول بعضٍ، فلابدّ له - حينئذٍ - من الرجوع إلى أحوط القولين، وليس له العدول؛ لأنّه على خلاف الاحتياط.

مسألة: لو علم إجمالاً بأعلميّة أحد شخصين، ولم يمكن التعيين بينهما، فتارةً يكونا متوافقين في الرأي، فيكون كلا الرأيين حجّةً كما مرّ. وأُخرى يختلفان، وفي هذه الصورة لابدّ من الاحتياط كما مرّ - أيضاً - إن أمكن، دفعاً للضرر المحتمل.

وأمّا ما قد يقال: من إمكان الأخذ بفتوى مظنون الأعلميّة، فيرد عليه: أنّه لا يفيد؛ لعدم القطع بخروجه عن عهدة التكليف إذا عمل بقول مظنون الأعلميّة.

وأمّا إذا لم يتمكّن من الاحتياط، كما لو أفتى أحدهما بوجوب صلاة الجمعة في يومها، وأفتى الآخر بوجوب صلاة الظهر، وكان هناك مرجّح في البين لجهة الظنّ بأعلميّة أحدهما، وقلنا بأنّ بناء العقلاء قائم على الأخذ بفتوى مظنون الأعلميّة أو محتملها، فحينئذٍ: يؤخذ بفتوى مظنونها.

وأمّا إذا لم يكن أحدهما مظنون الأعلميّة ولا محتملها، فعندئذٍ: تصل النوبة إلى التخيير.

وقد يقال: لابدّ من اللّجوء إلى القرعة في محلّ البحث.

ولكن فيه: أنّه لا يمكن التمسّك بالقرعة في المقام بعد إعراض

ص: 511

المشهور وعدم عملهم بها في المورد، حتى لوقيل بورود رواياتٍ كثيرة تدلّ عليها، وبأنّ بعضها شامل للمورد.

مسألة: إذا شكّ في عروض ما يوجب عدم جواز تقليد المجتهد، كالموت أو الجنون أو النسيان، أو عدم جواز البقاء على الرأي الأوّل، كتبدّل الموضوع، فهل يجوز له البقاء على رأيه أم لا؟

الصحيح: أنّه يجوز له البقاء، تمسّكاً بالاستصحاب إلى حين العلم بالحال، ولا يجب عليه الفحص؛ لعدم وجوبه في الشبهات الموضوعيّة، كما قرّر في محلّه.

مسألة: لو علم بعد مدّة من الزمن أنّه كان يعمل بلا تقليد، ولم يعلم مقدار هذه المدّة، فماذا يصنع؟

أمّا لو انكشفت موافقة الفتوى التي عمل بها لفتوى المجتهد الذي يكون قوله حجّة بالفعل بالنسبة إليه، وتأتّى منه قصد القربة بالنسبة إلى العمل الذي أتى به في وقته، فيكون عمله هذا صحيحاً، ولا يحتاج لا إلى الإعادة ولا القضاء؛ فإنّ المدار في الصحّة وعدمها إنّما هو على مطابقة عمله لما هو الحجّة والواقع، وهو قول المجتهد الفعليّ الذي يجب عليه أن يعمل برأيه فعلاً، دون المجتهد الذي كان يجب عليه أن يعمل برأيه في زمان العمل؛ لسقوط فتاواه عن الحجّيّة بالموت أو غيره من الأسباب.أمّا إذا لم ينكشف له الحال، ولم يعلم أنّ أعماله هل كانت مطابقةً للواقع

ص: 512

أم مخالفة له؟ فلابدّ له من الإعادة؛ لإطلاق ما ورد عن الصادق(علیه السلام)، من قوله: «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فأمضه، ولا إعادة عليك فيه»(1)، وكذلك موثّقة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام): «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو»(2)؛ فإنّهما وإن كان ظاهرهما هو عدم وجوب القضاء، ولكنّهما منصرفتان إلى صورة التذكّر خاصّةً، ولو بقرينة روايتين أُخريين وردتا:

إحداهما: حسنة ابن بكير، قال: «قُلْتُ له: الرجل يشكّ بعدما يتوضّأ؟ قال: هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»(3).

والثانية: ما عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) أنّه قال: «إن شكّ الرجل بعدما صلّى فلم يدرِ أثلاثاً صلّى أم أربعاً؟ وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ، لم يُعد الصلاة، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك»(4).ولكن قد عرفنا أنّ هذه الروايات ناظرة إلى ما يقضيه الطبع في الأعمّ الأغلب، وهي إرشاد إلى ذلك فلا يمكن التمسّك بقاعدة الفراغ فيما نحن فيه، لأنّه بحسب الفرض كان حين العمل غافلاً، وإن فرضنا أنّ

ص: 513


1- وسائل الشيعة 1: 471، الباب 42 من أبواب الوضوء ح6.
2- وسائل الشيعة 8: 237 - 238 الباب 23 من أبواب الخلل في الصلاة ح 3.
3- وسائل الشيعة 1: 471، الباب 42 من أبواب الوضوء ح 7.
4- وسائل الشيعة 8: 246 الباب 27 من أبواب الخلل في الصلاة ح 3.

عمله كان صحيحاً، فمن باب المصادفة والاتّفاق، لا من جهة مطابقته للطبع والعادة.

وأمّا إذا انكشف له أنّ ما أتى به كان على خلاف الواقع، فلابدّ من الحكم بالبطلان؛ لما أشرنا إليه من أنّ المدار في الحكم في صحّة العمل وفساده إنّما هو كونه مطابقاً للواقع أو مخالفاً له، ولا سبيل إلى التعرّف على ذلك إلّا الرجوع إلى فتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده عند الالتفات، لا ذاك الذي سقطت فتواه عن الحجّيّة لسببٍ من الأسباب، كالموت ونحوه.

مسألة: من عمل مدّةً من الزمن بناءً على تقليد شخص، ولكن لم يعلم أنّ تقليده له كان صحيحاً، فهل يبني على الصحّة مطلقاً أم لا؟

ولا يخفى: أنّ المراد من التقليد الصحيح هو أن يكون على طبق الموازين والقواعد الشرعيّة وليس عن هوى النفس - مثلاً -.

أمّا في صورة ما إذا كان المجتهد جامعاً للشرائط، وكان العمل مطابقاً لرأيه، فلا إشكال في الحكم بالصحّة؛ لجريان أصالة الصحّة، من دون أن يؤثّر عليه الشكّ في أنّ الاستناد إلى فتواه هل كان على طبق الموازين أم لم يكن، ولا دليلعلى أنّ الاستناد إلى ذلك المجتهد يجب أن يكون مطابقاً للموازين الشرعيّة. وبالجملة: فإنّ صحّة التقليد يكفي فيها أن يكون عمله مطابقاً لفتوى من هو جامع للشرائط.

ص: 514

وأمّا إذا كان شكّه في الصحّة ناجماً عن الشكّ في أنّ هذا المجتهد هل كان جامعاً للشرائط أم لا؟ فإن كان جامعاً للشرائط، كما إذا كان قد حصل له القطع بذلك، أو شهد لديه بذلك شاهدان، ثمّ شكّ بعد ذلك في أنّ قطعه السابق كان جهلاً مركّباً، أو ظهر له فسق الشاهدين، وصار سبباً لشكّه هذا، فلابدّ له - حينئذٍ - من الفحص عن استجماع مقلَّده للشرائط، ولا يجوز له البقاء على تقليده، بلا فرقٍ بين أن يكون الشكّ من قبيل الشكّ الساري أم من غيره، بل حاله - حينئذٍ - كما لو كان قد شكّ ابتداءً في أنّه جامع للشرائط، فكما لا يجوز له أن يقلّده، فكذلك لو شكّ في ذلك بقاءً أيضاً.

وأمّا إذا كان الشكّ في صحّة تقليده وعدمها بالإضافة إلى أعماله التي أتى بها على طبقه، فإذا علم بمطابقتها للواقع، كما إذا عمل بالاحتياط فأتى بالسورة - مثلاً - أو بالتسبيحات ثلاثاً، فلا إشكال في صحّة عمله حينئذٍ، ولا يجب عليه الإعادة فيما يرجع إلى الأركان، لورودها في مثل حديث (لا تعاد). وأمّا في غير الأركان من الأجزاء، كما لو أخلّ بالسورة، وجبت عليه الإعادة، إلّا إذا قلنا بأنّ حديث (لاتعاد) يشمل الجاهل بالحكم، ولكنّه لا يشملها؛ لكونها معارضاً ومضادّاً للأدلّة الأوّليّة.مسألة: إذا قلّد مجتهداً ثمّ شكّ في أنّه جامع للشرائط أم لا؟

قد يقال: لابدّ له من الفحص، ولا يجوز له أن يعمل بأقواله بعد الشكّ،

ص: 515

ولا فرق بين الشكّ الطارئ والشكّ الساري.

ونقول: إذا قلّد من هو جامع للشرائط المعتبرة في المرجعيّة من جهة قطعه بذلك أو قيام البيّنة عليه، ولكن شكّ بعد ذلك في استجماعه للشرائط؛ لاحتمال زوالها عنه، فإنّه أحرز استجماعه للشرائط حدوثاً، ولكنّه شكّ في ارتفاعها بقاءً، ولا ينبغي الإشكال في جواز البقاء على تقليده تمسّكاً باستصحاب بقائه على الشرائط المعتبرة، فيبقى على تقليده إلى أن يعلم بارتفاعها، كما أنّ أعماله السابقة التي أتى بها وفقاً لفتواه كانت صحيحة؛ لأنّ المفروض أنّه عندما قلّد، فقد قلّد شخصاً جامعاً للشرائط، ثمّ طرأ له الشكّ بعد ذلك.

وأمّا إذا كان شكّه من قبيل الشكّ الساري، فيرجع الشكّ إلى أنّه هل كان من أوّل الأمر جامعاً للشرائط أم لا؟ كما لو كان يعلم سابقاً بأنّه كان جامعاً للشرائط، ولكن بعد ذلك شكّ في أنّه كان من أوّل الأمر جامعاً لها؛ لاحتمال خطئه في عمله، أو للشكّ في عدالة الشهود، فالشكّ - حينئذٍ - يسري إلى اليقين السابق، فيزيله، فيجب عليه الفحص، وليس له أن يبقى على تقليده له، فإنّ فتواه وإن كانت حجّةً حدوثاً، إلّا أنّها سقطت عن الحجّيّة بقاءً؛ لزوال العلم؛ أو سقوط البيّنة عن الاعتبار؛ فكما يجب الفحص عن التقليد الابتدائيّ، لعدم حجّيّة مشكوك الحجّيّة، يجب كذلك الفحص عن صحّة التقليد استدامةً؛ لعدم وجود المؤمّن من العقاب.

ص: 516

فإن قلت: إنّ قاعدة اليقين تجري في الشكّ الساري، كما يجري الاستصحاب في الشكّ الطارئ، فكما أنّ الشكّ في البقاء يكون مجرى للاستصحاب، فكذلك الشكّ في الحدوث يكون مجرىً لقاعدة اليقين، ففي الحالتين يجوز للمكلّف البقاء على تقليد من قلّده سابقاً، لأنّ حجّيّة فتاواه مسبوقة باليقين، والشكّ بعد ذلك يكون ملغىً ببركة (لا تنقض اليقين بالشكّ)، الشامل لكلتا القاعدتين.

قلت: قد عرفنا في محلّه أنّ عدم جواز نقض اليقين بالشكّ إمّا أن يشمل مورد الشكّ الطارئ، وهو المعبّر عنه بالاستصحاب، أو الشكّ الساري، المعبّر عنه بقاعدة اليقين، ولا يمكن أن يكون الخبر شاملاً لكليهما معاً؛ إذ ليس هناك من جامع بين القاعدتين، فإنّ اليقين باقٍ بناءً على الاستصحاب، وزائل بناءً على قاعدة اليقين، ومتعلّقا اليقين والشكّ متّحدان زماناً في قاعدة اليقين، ومختلفان زماناً في باب الاستصحاب، فلمّا لم يمكن أن يكون الخبر شاملاً للقاعدتين، كان لابدّ من إرادة إحداهما فقط، وليست هي قاعدة اليقين؛ لأنّ موردها منطبق على الاستصحاب والشكّ الطارئ، ما يعيّن إرادته من الخبر، وإلّا، يلزم عدم شمول الخبر لمورده، وهو قبيح.

مسألة: من ليس أهلاً للفتوى هل يجوز له الإفتاء أم لا؟

والكلام في هذه المسألة يقع في اُمور:

ص: 517

الأمر الأوّل: حرمة إفتائه إذا لم يكن جامعاً للشرائط.

والأمر الثاني: حرمة تصدّيه للقضاء.

أمّا الأمر الأوّل:

فقد يستدلّ له:

تارةً: بأنّ هذا المنصب هو من المناصب الإلهيّة، فيكون مختصّاً بالنبيّ أو الإمام أو نائبه، الخاصّ أو العامّ، وأمّا من لا أهليّة له، فلم يثبت له الإذن، فتصدّيه في حدّ نفسه حرام، وإفتاؤه حرام آخر.

وفيه: أنّه لم يظهر من الأدلّة كونه من المناصب المختصّة لكي يحتاج إلى الإذن، وأمّا الأدلّة التي ورد فيها ذكر للشرائط التي ينبغي توفّرها، فهي إنّما تدلّ على شرائط حجّيّة الفتوى، لا على الحكم التكليفيّ الذي هو جواز الإفتاء و عدمه.

وأُخرى: بأنّه إغراء للجاهل.

وفيه: أنّه ليس إغراءً للجاهل مطلقاً؛ لأنّ فتواه قد تكون موافقةً لفتوى المجتهد الجامع للشرائط، أو مطابقةً للاحتياط، وحينئذٍ: فلا مانع من إفتائه من هذه الناحية.

ويمكن أن يقال: إنّ من ليس أهلاً للفتوى لعدم حيازته على ملكة الاجتهاد، فإذا أفتى الناس، فقد أفتاهم بغير علم، فلا إشكال في حرمة إفتائه هذا؛ لأنّه إسناد الحكم إلى اﷲ تعالى من دون حجّة، وقد قال تعالى:

ص: 518

﴿قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾(1). وعن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال:«رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار»(2).أمّا من كان له ملكه الاجتهاد، ولكن لم يكن له أهليّة للفتوى من سائر الجهات، فلا دليل على تحريم إخباره عن نظره وفتواه؛ فإنّه ليس بكذب، فيصدق على إفتائه هذا أنّه ممّا أذن اﷲ به، فإن كان ما أفتى به حسب اجتهاده هو حكم اﷲ تعالى، فقد قضى بالحقّ وهو يعلم، فليس هناك افتراء على اﷲ في فتواه هذه. وإنّما الكلام في أنّه هل يصدق عليه أنّه إغراء للجاهل، ولكن قد عرفنا أنّه في هذه الحالة لا إغراء، وبخاصّةٍ إذا كان يرى نفسه أعلم.

وأمّا الأمر الثاني:

وهو حرمة تصدّيه للقضاء، فالظاهر أنّه من الأحكام المتّفق عليها عند الأصحاب، وقد استدلّوا له برواياتٍ عدّة، استفادوا منها أنّه من المناصب المختصّة بالمعصوم(علیه السلام)، فلا يجوز لأحد التصدّي له إلّا بإذنه.

منها: رواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(علیه السلام) لشريح: يا شريح(قدس سرّه) قد جلسْتَ مجلساً لا يجلسه إلّا نبيٌّ أو وصيّ نبيٍّ أو شقيّ»(3).

ص: 519


1- يونس: الآية 59.
2- وسائل الشيعة 27: 22، باب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
3- وسائل الشيعة 27: 17، باب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

ومنها: صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «اتّقوا الحكومة؛ فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، لنبيٍّ أو وصيّ نبيّ»(1).ولكن لم يظهر من هاتين الروايتين أنّه لا يجوز القضاء، إلّا مع الإذن وإنّما ظهر منهما أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يحكم مع وجود المعصوم(علیه السلام)، فولاية القضاء لم تثبت لغيره في عرضه.

نعم، ورد في صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(2)، فهي تدلّ على أنّ أصل جواز القضاء يحتاج إلى جعلٍ من قِبَلهم(، فلابدّ للقاضي أن تكون له الأهليّة للقضاء؛ إذ كيف ينصّب الإمام من ليس أهلاً له؟

وهل يشترط فيمن يتصدّى للقضاء أن يكون مجتهداً أم لا؟

المشهور على الأوّل، بل قد يُدّعى عليه الإجماع.

وذهب إلى الثاني صاحب الجواهر(قدس سرّه)(3) مستفيداً من إطلاق جملة من الآيات والروايات التي تقتضي عدم الفرق بين المجتهد وغيره.

ص: 520


1- وسائل الشيعة 27: 17، باب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
2- وسائل الشيعة 27: 13 - 14، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
3- انظر: جواهر الكلام 40: 15.
أمّا الآيات:

فكقوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾(1).وقوله: ﴿يَا أَي-ُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ﴾(2).

وقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَ-ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(3).

فإنّ إطلاق هذه الآيات دالّ على أنّه لا فرق في الحاكم بين أن يكون مجتهداً وبين أن لا يكون كذلك.

ولكن لا يخفى: أنّها ليست في مقام البيان من جميع الجهات، والتي منها كفاية مطلق العالم، بل نراها خاليةً عن ذكر العلم أصلاً، فضلاً عن بيان كيفيّته، بل إنّما هي في مقام البيان من جهة الحكم بالعدل والحقّ وغيرهما.

وأمّا الروايات:

فمنها: ما عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام): «القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنّة، رجل قضى بجور وهو يعلم، فهو في النّار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم، فهو في النّار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم، فهو في

ص: 521


1- النساء: الآية 58.
2- المائدة: الآية 8.
3- المائدة: الآية 47.

النّار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم، فهو في الجنّة»(1).والرواية مطلقة؛ لأنّ المراد من العلم فيها هو العلم الذي يحصل له عن اجتهاد أو عن تقليد، وليس في مقام البيان من ناحية أنّ علمه الذي يستند إليه في الحكم يجب أن يكون عن اجتهاد ولا يجوز أن يكون عن تقليد.

ومنها: ما ورد في صحيحة أبي خديجة المتقدّمة، من قوله(علیه السلام): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا...» الخبر.

ولكنّ الإنصاف: أنّه لا إطلاق لها؛ لأنّها ليست بصدد بيان أنّ العلم الحاصل له لابدّ أن يكون عن اجتهادٍ أو عن تقليد.

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الباب.

وهي على فرض تسليم ثبوت الإطلاق لها، يقيّد بمقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة مراراً، والصريحة في أنّ القاضي لابدّ أن يكون ناظراً في الحلال والحرام عارفاً بالأحكام «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ...»(2).

ص: 522


1- وسائل الشيعة 27: 22، باب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
2- مرّ تخريجها آنفاً.

وكذلك التوقيع الشريف بخطّ مولانا صاحب الزمان.: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اﷲ»(1).مسألة: يجب على العامّيّ في زمان الفحص عن المجتهد، أو عن الأعلم، أن يحتاط في أعماله في زمان الفحص، بأن يأخذ بأحوط الأقوال حتى يثبت له الاجتهاد أو الأعلميّة لدى من يجب عليه تقليده، لكي يحصل له بذلك الأمن من العقاب؛ إذ بدونه لا يكاد يحصل له ذلك، ولاسيّما بعد أن علم بوجود أحكامٍ إلزاميّة في الشريعة المقدّسة، فلابدّ له من الخروج عن عهدتها، ولا يمكن ذلك إلّا بالاحتياط.

ولكن لا يخفى: أنّ الحكم بإيجاب الاحتياط في زمان الفحص عن المجتهد واضح. وأمّا في زمان الفحص عن الأعلم، فالحكم بإيجابه مشكل، وذلك لما عرفنا من أنّ مسألة جواز الاحتياط، بما أنّها خلافيّة، فلابدّ له من تقليد محتمل الأعلميّة، ومع عدم وجود محتمل الأعلميّة يسقط الحكم بوجوب تقليد الأعلم، فيرجع - حينئذٍ - إلى الأخذ بأحوط الأقوال.

مسألة: المأذون والوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقاف، أو

ص: 523


1- وسائل الشيعة 27: 140، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9.

في أموال القصّر، ينعزل إذا مات موكّله.

بل قد يقال: ببطلان ذلك بالإغماء، فضلاً عن الجنون والموت.

فإنّ الوكيل هو الوجود التنزيليّ للموكّل، ومن هنا، تُنسب تصرّفاته إلى موكّله، وإذا كان كذلك، فإذا زال الأصل، فلا محالة: يكون زواله سبباً لزوال الفرع، وإن شئت قُلْتَ: إنّمن مقوّمات الوكيل وجود الموكّل الذي ينزّله منزلة نفسه في التصرّفات التي يجيزها له.

وأمّا إذا جعله منصوباً من قبله، كما إذا نصّبه متولّياً للوقف، أو قيّماً على القُصّر، فإنّه لا تبطل توليته وقيموميّته بموته على الأظهر.

ولابدّ أوّلاً - من إحراز أنّ الفقيه تثبت له الولاية مطلقاً في زمان الغيبة لكي يتمكّن من نصب المتولّي والقيّم ونحوهما، وبعد إحراز أنّه يتمكّن من ذلك، تصل النوبة إلى الحديث عن أنّ توليته وقيموميّته هل تبطلان بالموت أم لا؟

بل يمكن أن يقال: إنّ هذا الجعل من الوظائف الراجعة إلى القضاة، كما يستفاد من قوله(علیه السلام) في المقبولة: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»، وبما أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة أنّ منصب القضاء منصب نيابيّ، فالأفعال الصادرة منه هي الصادرة عن الإمام(علیه السلام)؛ إذ هو منصوب من قبله، فمنصوبه منصوب الإمام(علیه السلام)، وعليه: فلا معنى للتفصيل بين ما إذا قصد تنصيبه عن نفسه، فينعزل بموت الفقيه أو الحاكم، وبين ما لو قصد تنصيبه عن الإمام(علیه السلام)، فلا ينعزل.

ص: 524

بل يمكن القول: بأنّ الجعل لو كان من قبل المجتهد، فإنّه ينعزل بموته، وأمّا لو كان من قبل اﷲ تعالى فعزله - حينئذٍ - بحاجةٍ إلى دليل.

فلو جعل شخصاً قيّماً أو متولّياً، ثمّ مات الجاعل، يبقى القيّم والمتولّي على حاله، ما لم يقم الحاكم الجديد بعزلهما، وهذا ما عليه ديدن العرف والعقلاء، وحتى ولاة الجور منهم.ثمّ لو شككنا في كيفيّة الجعل وأنّه هل كان بنحو النصب حتى يُحكم ببقائه، أم بنحو الإذن والوكالة حتى يحكم بزواله، فهل مقتضى الأصل - حينئذٍ - هو بقاء سلطنته أم لا؟

الحقّ: أنّ المقام - حينئذٍ - يندرج في القسم الثاني من استصحاب الكلّي، كما لو كان المستصحب موجوداً في ضمن أحد الفردين الطويل والقصير، فإنّ الأصل ولو لم يكن جارياً في فرد الكلّيّ ومصداقه، إلّا أنّه يمكن جريانه في الكلّيّ نفسه، شريطة أن يكون هو موضوعاً للأثر. ولكن مع ذلك، ففيما نحن فيه، لا يجري الاستصحاب في الكلّيّ - أيضاً -؛ لعدم وجود أمر متعلّق بالجامع لكي يتأتّى جريان الاستصحاب فيه. هذا مضافاً إلى أنّ هذا الأصل إنّما يجري - بناءً على صحّة جريانه - فيما لو كان الشكّ من قبيل الشكّ في المقتضي. وأمّا لو قلنا بعدم جريانه هناك، فمن الواضح، أنّه لا يجري هنا - أيضاً -.

فما قد يقال: من أنّ المقام يكون من قبيل الشكّ في الرافع؛ لأنّ السلطنة بطبعها وذاتها قابلة للبقاء، إلّا أن يزيلها الزائل والرافع.

ص: 525

ففي غير محلّه؛ لإمكان أن يكون القصور في المقتضي بالنسبة إلى مجعوليّة السلطنة، فإنّ مورد الشكّ هو عدم ترتّب الأثر فيما أوقفه الحاكم أو الفقيه.

مسألة: من بقي على تقليد الميت من دون إجازة الحيّ، فهو كمن عمل بلا تقليد؛ لأنّ عمله هذا لم يكن مستنداً إلى حجّةمعتبرة، ولا يفيده حجّيّة ما كان يستند إليه سابقاً؛ لسقوطها، ولو كان رأي الحيّ هو البقاء؛ لأنّه لم يقّلده بحسب الفرض. نعم، لو كان جاهلاً بالجهل البسيط أو المركّب، ولم يكن ملتفتاً حين العمل، ولكن جاء عمله مطابقاً للواقع، صحّ، وأمّا إذا لم يوافق عمله الواقع، أو رأى من رأيه حجّة بالفعل، فهو يكون باطلاً، كما اتّضح ممّا قد أسلفناه.

مسألة: الوكيل في الإتيان بعملٍ عن الغير، كما إذا صار وكيلاً عنه في إجراء عقد، أو نائباً عنه للحجّ، فهل يجب عليه العمل بمقتضى تقليد الموكلّ أو تقليد نفسه؟

لا يخفى: أنّ تفريغ ذمّة الغير عمّا اشتغلت به، تارةً: يكون من قبل المتبرّع، وأُخرى: من الوليّ، وثالثةً: من الوصيّ، ورابعةً: من الوكيل. فهذا المفرّغ لذمّة الغير هل يتعيّن عليه أن يأتي بالعمل على حسب ما هو الصحيح عنده، اجتهاداً أو تقليداً، أو على حسب ما هو الصحيح عند من يريد إفراغ ذمّته؟

ص: 526

قد يقال: عليه أن يعمل على ما هو الصحيح عند الموصي والموكلّ والمستأجر؛ فإنّ كلاً من الوصيّ والوكيل والأجير يكون نائباً عن الغير، ووجوداً تنزيليّاً له، والتكليف - في حقيقة الأمر - متوجّه إلى الغير، فيجب على كلّ واحد من هؤلاء السعي إلى تحقيق العمل الصحيح عند الموصي والموكلّ وأمثالهما، لكي يبرّئ ذمّته ممّا قد انشغلت به من العمل.نعم، لو كان العمل عباديّاً، وكان الإتيان به على كيفيّةٍ ما باطلاً في نظر الأجير - مثلاً -، لم تصحّ الإجارة - حينئذٍ -؛ لعدم تمشّي قصد القربة منه، وعدم قدرته على الإتيان بالعمل العباديّ على هذه الكيفيّة متقرّباً به إلى المولى سبحانه.

وقد يقال - في المقابل -: بل اللّازم هو رعاية تقليد الوكيل نفسه؛ إذ إنّ إطلاق الوكالة يقتضي جواز عمل الوكيل بنظره، وتطبيق عمل الموكّل عليه، ومجرّد التفات الموكّل إلى الاختلاف غير كافٍ في تقييد إطلاق التوكيل، ففي مقام الإثبات، لا مانع من الأخذ بالإطلاق إذا تمّت مقدّمات الحكمة، ولم يكن هناك قرينة مانعة من الأخذ بالإطلاق، وهكذا الحال بالنسبة إلى الوصيّ والأجير - أيضاً -.

فما لم تكن هناك قرينة على تقييد العمل بالوصيّة بشخص معيّن، أو على تقييد العمل بالإجارة على طبق نظر مجتهد معيّن، فإنّ مقتضى هذا الإطلاق جواز العمل على حسب تقليد الوصيّ والأجير.

ص: 527

وقد يقال: بلزوم الجمع بين التقليدين؛ لعدم ترجيح أحد الطرفين على الآخر.

ولكنّ الحقّ: هو ما ذكره الاُستاذ الأعظم(قدس سرّه) من التفصيل، بقوله: «فإن كان المتصدّي للتفريغ هو المتبرّع أو الوليّ، كالولد الأكبر، فإذا أراد تفريغ ذمّة والده الميت عن الصلاة والصيام، فلا مناص من أن يفرّغا ذمّة الميت بما هو الصحيح عندهما حتى يسوغ لهما الاجتزاء به في تفريغ ذمّته وجوباً أو استحباباً... إلى أن يقول: وأمّا لو كانالمتصدّي للتفريغ هو الوكيل أو الوصيّ، فلا مناص من أن يراعيا الصحيح عند الموصي أو الموكّل»(1).

وبعبارة أُخرى: فإنّ الوكيل أو الوصيّ بما أنّهما يقومان مقام الموكّل والموصي، وليس العمل عملهما، فلابدّ أن يأتيا بالعمل على حسب نظر الموكّل والموصي، إذ هما من يتوجّه التكليف إليهما، وهذا بخلاف الوليّ والمتبرّع؛ فإن التكليف متوجّه إليهما ابتداءً، نعم، لو كان العمل عباديّاً، وكان باطلاً في نظر الأجير، لم تصحّ الإجارة له، ولم يستحقّ الاُجرة.

مسألة: إذا كان البائع مقلّداً لمن يقول بصحّة العقد بالفارسيّة - مثلاً -،

ص: 528


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى 1: 324.

وكان المشتري مقلّداً لمن يقول ببطلانه، فلو أجرى العقد بالفارسيّة وقع باطلاً، فالعقد إمّا أن يقع على النحو الصحيح عند المتعاقدين معاً، وإلّا كان فاسداً.

في المسألة قولان:

أوّلهما: هو البطلان بالنسبة إلى كلٍّ من المتعاملين؛ لأنّ المعاملة هي المعاقدة بين الالتزامين، فتكون - لا محالة - قائمةً بالطرفين، فلابدّ من صحّتها عند الطرفين معاً.

والثاني: الصحّة؛ لأنّها لمّا كانت قائمةً بالطرفين، فإذا كانت صحيحةً بالإضافة إلى أحد الطرفين، دلّ ذلك بالدلالة الالتزاميّة على صحّتها بالنسبة إلى الطرف الآخر أيضاً.

ولكنّ الحقّ: أنّهما وإن كانا متلازمين بحسب الواقع، ولكنّ ذلك لا يوجب تلازمهما بحسب الظاهر، فالتفكيك بينهماممكن بناءً على أن الطريقيّة في باب الأمارات، دون السببيّة. فإذا قامت الحجّة على الصحّة عند أحدهما، فيكون العقد المزبور صحيحاً بالنسبة إليه، وفاسداً بالنسبة إلى الآخر.

وأمّا لو قلنا بالسببيّة، فلابدّ من الالتزام بالبطلان بالنسبة إلى كلا الطرفين؛ لانقلاب الواقع إلى مؤدّى الأمارة بناءً على هذا القول، فلو دلّت الأمارة عند أحدهما على الصحّة، وكان الحكم في الواقع فساداً، تبدّل الفساد إلى الصحّة، ولم يمكن - حينئذٍ - أن يجتمع الحكم بالصحّة

ص: 529

في أحد الطرفين مع الحكم بالفساد في الطرف الآخر؛ إذ ليس هناك - حينئذٍ - حكم ظاهريّ ليمكن التفكيك بين المتعاملين بحسب الصحّة والفساد، والحكم بالصحّة - مثلاً - في أحد الطرفين واقعاً لا يجتمع مع الحكم بالفساد واقعاً في الطرف الآخر، كما هو أوضح من أن يخفى.

مسألة: في باب المرافعات، هل يكون اختيار تعيين الحاكم بيد المدّعي أو المدّعى عليه، أم أنّه لابدّ من الرجوع في ذلك إلى الأعلم؟

قد يقال: هو اختيار المدّعي؛ لأنّه هو الذي يطالب بالحقّ، فلو رفع أمره إلى الحاكم، وجبت على المنكر الإجابة، وأمّا لو رفع المنكر أوّلاً أمره إلى الحاكم، فلا يجب على المدّعي الإجابة؛ إذ المدّعي هو المطالب بالحقّ، ولا حقّ لغيره.ولكنّه غير تامّ؛ لأنّ الحقّ المزعوم أنّه ثابت للمدّعي، إن كان المراد به الحقّ المدّعى به، فهو أوّل الكلام، وإن كان المراد به حقّ الدعوى، فهو لا يوجب تقديم ما اختاره.

وكيف كان، فالصور في المسألة أربع؛ لأنّ الحاكمين إمّا أن يتساويا في العلم، أو أن يكون أحدهما أعلم من الآخر. وعلى كلٍّ من التقديرين: فإمّا أن يكون أحد الخصمين مدّعياً والآخر منكراً، وإمّا أن

يكون كلاهما متداعيين.

أمّا إذا كان الحاكمان متساويين في العلم، وكان أحد الخصمين مدّعياً

ص: 530

والآخر منكراً، فالحقّ: أنّ اختيار التعيين يكون بيد المدّعي؛ لما ذكرناه من أنّه هو المطالب بالحقّ، وإذا سكت لم يكن هناك نزاع في البين.

وأمّا إذا لم يكن الحاكمان متساويين في الفضيلة، وكان كلّ واحدٍ من الخصمين مدّعياً، لم يكن وجه لتقديم ما اختاره أحدهما دون الآخر.

وأمّا إذا كان أحد الحاكمين أعلم من الآخر، فالمشهور لزوم اختيار الأعلم والرجوع إليه مطلقاً، سواء كانا متداعيين أو كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً، لما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة من قوله(علیه السلام): «فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم، فقال: الحكم ما حَكَم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما».هذا، ولكنّ موردها صورة اختلاف الحكمين، والتعدّي إلى مورد البحث يحتاج إلى دليل، ولكنّ مقتضى صدر الرواية هو الإطلاق. نعم، لو كانت الشبهة حكميّةً، وقد تعيّن تقليد الأعلم للمتخاصمين، وجب الترافع عنده بناءً على وجوب تقليد الأعلم.

مسألة: حكم الحاكم الجامع للشرائط هل يكون نافذاً حتى بالنسبة إلى مجتهدٍ آخر أم لا؟

الظاهر: أنّه كذلك، بعد أن كان القضاء بمعنى فصل الخصومة، وبعد أن كان ردّه موجباً للغويّة القضاء، مع العلم بأنّ أصل الثبوت وعدم جواز

ص: 531

الردّ هو من المرتكزات عند العقلاء، فلا نحتاج في عدم جواز الردّ وعدم جواز نقض الحكم إلى الإجماع.

مضافاً إلى ما ورد من الروايات من أمثال مقبولة ابن حنظلة «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اﷲ، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اﷲ، وهو على حدّ الشرك باﷲ».

ومقتضى إطلاق هذه المقبولة وغيرها من الروايات، هو عدم جواز الردّ مطلقاً حتى مع العلم بالخلاف، ولكن سيأتي أنّه في بعض الصور، التي منها: صورة العلم بالخلاف، يجوز ردّه.

وكيف كان، فما هو الفرق بين الفتوى والحكم حتى يجوز نقض الأوّل دون الثاني؟أمّا الفتوى فيراد بها - كما في الجواهر - «الإخبار عن اﷲ تعالى بحكم شرعيٍّ متعلّقٍ بكلّيّ، كالقول بنجاسة ملاقي البول أوالخمر».

وأمّا الحكم «فهو إنشاء إنفاذٍ من الحاكم، لا منه تعالى، لحكم شرعيٍّ أو وضعيّ أو موضوعهما في شيء مخصوص»(1).

وبالجملة: فالذي يظهر من الروايات أنّ اعتبار حكم الحاكم إذا كان صادراً عن الميزان الصحيح، ليس من باب أنّه أمارة على الواقع كالفتوى، بل إنّما هو لأجل أنّ له موضوعيّة في فصل الخصومات وحلّ المرافعات.

ص: 532


1- انظر: جواهر الكلام 40: 100.

فإذا عرفت هذا، فهل يجوز نقض حكم الحاكم أم لا؟

فنقول: إنّ حكم الحاكم:

تارةً: يكون معلوم المطابقة للواقع، فلا إشكال - حينئذٍ - في وجوب متابعته وحرمة نقض هذا الحكم.

وأُخرى: يكون معلوم المخالفة له، وقد أشرنا إلى خروج هذه الصورة عن الإطلاق، وأنّه يجوز ردّ حكمه والحالة هذه؛ لأنّ هذا الحكم، وإن كان له موضوعيّة في المرافعات، إلّا أنّه لا يغيّر الواقع عمّا هو، بل الواقع باقٍ على حاله، فقد يكون هذا الحكم مطابقاً له، وقد يكون مخالفاً له، كما دلّ على ذلك صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اﷲ(علیه السلام) قال: «قال رسول اﷲ (صلی الله علیه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكمألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجلٍ قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النّار»(1). فإنّها صريحة في بقاء الحكم الواقعيّ على حاله، وعدم كون حكم الحاكم مغيّراً للواقع.

وثالثةً: لا يعلم بالمخالفة والموافقة، وحينئذٍ: فمقتضى الإطلاق هو عدم جواز نقض حكمه، والقضاء - كما أشرنا - إنّما هو بمعنى فصل الخصومات، فلو جاز ردّه؛ لاختلّ النظام وبقيت الخصومة والنزاع.

ورابعةً: يظهر بطلان الاجتهاد الأوّل لقصور وتساهل، كما إذا علم

ص: 533


1- وسائل الشيعة 27: 232، الباب 2 من أبواب كيفيّة الحكم، الحديث 1.

بأنّه عمل بالعامّ قبل أن يفحص عن المخصّص تساهلاً، فمقتضى الأصل هو عدم حرمة الردّ ونقض الحكم؛ لأنّه في الواقع ليس بحكم إلهيّ، ولا يصدق الحكم على إنشاء مثل هذا الشخص بعد أن لم يكن قد عمل بما هو وظيفته في إصدار الحكم.

كما يجوز نقض الحكم، إذا كان الحاكم قد اعتمد على بيّنةٍ غير عادلة مع اعتقاد عدالتها، ثمّ انكشف العدم، فإنّ هذا التهاون يؤدّي إلى بطلان الحكم الصادر منه في هذا المورد، وكذا لو كان قد اعتمد على روايةٍ يعتقد ظهورها في الحكم، وهي غير ظاهرةٍ فيه عند الحاكم الآخر، فهذا الحكم وإن كان صادراً عن الحاكم الجامع للشرائط، وعن مبادئ مشروعة، واجتهاد صحيح، وكان طريقاً إلى الواقع، إلّا أنّه يسقط عنالطريقيّة عند العلم بوقوع خطأ في طريقه ومبادئه، تماماً كما يسقط عن الطريقيّة عند العلم بمخالفته للواقع.

اللّهمّ إلّا أن يقال بأنّ قوله(علیه السلام): «فإذا حكم بحكمنا»، يُراد منه أنّ الحكم هو ما يكون بنظر المجتهد والقاضي حكم اﷲ، وليس هو الحكم الواقعيّ. فيكون الإطلاق شاملاً حتى لمورد العلم بالخطأ في مبادئه.

مسألة: إذا عرضت للمكلّف مسألة لا يعلم حكمها، ولم يكن من هو أهل للفتوى حاضراً، فلابدّ من تأخير الواقعة وعدم العمل بها حتى يسأل، إلّا إذا تمكّن من الاحتياط، فإنّه لا يجب عليه التأخير حينئذٍ، بل يعمل

ص: 534

بالاحتياط الذي هو في عرض الاجتهاد و التقليد.

كما أنّه مع وجود غير الأعلم، وعدم العلم بالمخالفة، والتمكّن من الرجوع إليه، يعمل بقوله.

وأمّا إذا علم بالمخالفة الإجماليّة في المسائل المبتلى بها يلزمه الرجوع إلى الأعلم أو الاحتياط، وان لم يمكن ذلك رجع إلى مجتهدٍ آخر، الأعلم فالأعلم؛ تمسّكاً بالسيرة العقلائيّة. فإن لم يتمكّن حتى من الرجوع إلى غير الأعلم، ولا إلى رسالته، كان عليه العمل بقول المشهور.

والمدرك في ذلك إنّما هو دليل الانسداد الصغير، والفرق بينه وبين الانسداد الكبير أنّه إنّما يجري في مورد الأحكام الكلّيّة، وأمّا الانسداد الصغير فهو يجري في الموارد الخاصّة، وأمّا مقدّماته الأربع، فهي تجري في كلاالانسدادين، ومعه: فلابدّ له أن يعمل بالظنّ عند تعذّر الاحتياط، وأوّل مراتب الظنّ هو قول المشهور فإنّه أقرب إلى الواقع من القول النادر.

ولكنّ العامّيّ إذا عمل بقول المشهور، ثمّ انكشف بعد ذلك له مخالفته لرأي المجتهد الفعليّ الذي كان عليه أن يقلّده، فلابدّ له من الإعادة والقضاء، بلا فرق بين فقد جزء أو شرط أو ركن من الأركان؛ لأنّه يصدق على ما أتى به أنّه غير مطابق للواقع.

إلّا أنّ وجوب الإعادة إنّما يثبت إذا قلنا بأنّ نتيجة الانسداد هي حجّيّة

ص: 535

الظنّ من باب الحكومة، فالعقل - حينئذٍ - يحكم بعدم الإجزاء، وكذا إذا قلنا بالكشف، وقلنا بأنّ الأحكام الظاهريّة غير مجزية، وأمّا بناءً على أنّ الأحكام الظاهريّة توجب الإجزاء فلا موجب للإعادة.

مسألة: إذا قلّد مجتهداً، ثمّ مات فرجع إلى تقليد غيره، ثمّ مات، فقلّد من يقول بوجوب البقاء على تقليد الميت، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأوّل أو الثاني؟

الظاهر هو الثاني؛ وذلك لانقطاع تقليده الأوّل بعد الرجوع إلى الثاني، مع عدم كون الرجوع إليه بمنزلة البقاء على تقليد الميت، بل هو بمنزلة التقليد الابتدائيّ.

وفي المسألة صور، فإنّه تارةً يكون المجتهد الأوّل أعلم، وأُخرى يكون الأعلم هو المجتهد الثاني، وثالثةً يكون الحيّ هو الأعلم. والكلام تارةً في صورة العلم بالمخالفة، وأُخرىفي صورة عدم العلم بها. ثمّ إنّ كلّاً من الثلاثة تارةً يقول بوجوب البقاء، وأُخرى بالجواز، وثالثةً بالحرمة.

أمّا إذا أفتى المجتهد الحيّ بوجوب البقاء، كان عليه البقاء على تقليد المجتهد الأوّل إذا علم بالمخالفة في الفتوى بين المجتهد الأوّل والثاني، وكان المجتهد الأوّل أعلم؛ لأنّ فتوى الحيّ كما تكون حجّة بالنسبة إلى الوقائع اللّاحقة، فهي كذلك حجّة بالنسبة إلى الوقائع السابقة، وإنّما

ص: 536

عدل إلى المجتهد الثاني لعدم كونه يرى جواز البقاء، فكان معذوراً في عدوله، ولكن حيث لم تكن هذه الفتوى حجّةً في نظر المجتهد الحيّ حدوثاً، فكيف يعقل أن تكون حجّةً بقاءً، أي: بعد موته؟(قدس سرّه)

وأمّا مع عدم العلم بالمخالفة بينهما، فيجوز له أن يبقى على تقليد أيّ واحدٍ منهما يشاء.

وهكذا الحال بالنسبة إلى المجتهد الحيّ مع العلم بالمخالفة، فلا إشكال في وجوب البقاء إذا كان المجتهد الأوّل هو الأعلم، وأمّا إذا كان المجتهد الثاني أعلم، وعلم بالمخالفة بينه وبين المجتهد الأوّل، وجب البقاء على تقليد المجتهد الثاني، خصوصاً إذا كان أعلم من الحيّ - أيضاً -.

وأمّا في صورة عدم العلم بالمخالفة يجوز له البقاء على تقليد الأوّل أو الثاني. وأمّا إذا كان الأعلم هو الحي، فيجب الرجوع إليه مع العلم بالمخالفة، وإلّا، يجوز له البقاء أو العدول إلى الحيّ، كما إذا كان المجتهد الأوّل أو الثانيمتساويين في الفضيلة وغير متخالفين في الفتوى، وحكم الحيّ بوجوب البقاء.

وأمّا لو كانا متخالفين في الفتوى فيجب عليه الاحتياط؛ لأنّ الأدلّة لاتشمل المتعارضين.

وهكذا لو كان المجتهد الحيّ مساوياً في الفضيلة للمجتهد الأوّل، وكان الأوّل أعلم من الثاني، ففي هذه الصورة - أيضاً - لابدّ من الاحتياط.

ص: 537

مسألة: في احتياطات الأعلم إذا لم يكن له فتوىً، فللمقلّد أن يعمل بها، كما له أن يرجع إلى غيره، الأعلم فالأعلم.

أمّا جواز الرجوع إلى غيره، فلأنّ الأعلم جاهل بالحكم في مورد الاحتياط، فيكون الرجوع إلى غيره من باب الرجوع إلى الأعلم، لا من باب الرجوع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم.

وأمّا جواز العمل بالاحتياط، فبناءً على أنّ الامتثال الإجماليّ جائز حتى مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ، وإلّا، كان لابدّ له إمّا أن يعمل باحتياطاته، وإمّا أن يرجع إلى الأعلم من بعده.

وأمّا لزوم الرجوع بعده إلى الأعلم فالأعلم، فهو إنّما يثبت في صورة العلم بالمخالفة بين الأعلم فالأعلم، كما مرّ سابقاً، وأمّا إذا كان المجتهد الأعلم الثاني - أيضاً - قائلاً بالاحتياط، فلابدّ من الرجوع إلى الأعلم بعده.مسألة: الاحتياط المذكور في الرسالة العمليّة تارةً يكون استحبابيّاً، كما إذا كان مسبوقاً بالفتوى، كما يقال - مثلاً -: «الأقوى كفاية التسبيحة الواحدة وإن كان الأحوط الإتيان بالثلاث»، أو كان مسبوقاً بالاحتياط، كما يقال: «الأحوط قراءة السورة وإن كان الأقوى عدم وجوبها». وأُخرى يكون وجوبيّاً، وهو ما لم يكن معه فتوى، ويسمّى ﺑ «الاحتياط المطلق». وفيه يتخيّر المقلّد بين أن يعمل به وبين أن يرجع إلى مجتهد آخر.

ص: 538

وأمّا في صورة سبق الفتوى، أو سبق الاحتياط، فلا يجب العمل بالاحتياط؛ لأنّه استحبابيّ، ولا يجوز الرجوع إلى الغير، لأنّه مع وجود فتوىً للأعلم، وهي حجّة متعيّنة، لا يجوز له الرجوع إلى غير الأعلم، ولو كان موافقاً للاحتياط؛ لأنّ قوله - والحال هذه - ليس بحجّة، فيكون من باب الاستناد إلى ما ليس بحجّة شرعاً.

إلّا أن يقال: بأنّ فتواه إذا كانت موافقةً للاحتياط، فيكون عمله في الواقع عملاً بالاحتياط، ولذا يمكن القول بأنّه بناءً على جواز الامتثال الإجماليّ مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ فيكون مخيّراً بين العمل بفتوى المجتهد وبين الاحتياط، كما مرّ.

مسألة: لا يخفى: أنّ تشخيص موارد الاحتياط عسر؛ لأنّ الاحتياط إنّما يكون حسناً في نفسه في حقّ من كان عارفاً بموارده، متمكّناً من تشخيصها.وفي موارد الاحتياط نقول:

الاحتياط قد يكون بالإتيان بالفعل، وقد يكون بالترك، وقد يكون بالجمع بين الفعل والترك، كما إذا تردّد الدم بين الحيض والاستحاضة، فتجمع الحائض بين تروك الحيض وأفعال الاستحاضة، وقد يكون بالجمع بين الأمرين أو الاُمور، كدوران الأمر بين الظهر والجمعة، أو تردّد القبلة إلى جهتين أو أكثر، وقد يكون بترك الأمرين، كما في مورد

ص: 539

الخنثى؛ فإنّ الأحوط له ترك اللّباس المختصّ بالرجال أو المختصّ بالنساء، بل قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط، مثلاً: الأحوط ترك الوضوء بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر من جهة اختلافهم في كونه رافعاً للحدث أم لا، فحينئذٍ: يكون الاحتياط في ترك الوضوء بهذا الماء، فلو فرض أنّ الماء كان منحصراً به فالأحوط الوضوء به. وقد يتعارض الاحتياطان، وفي هذه الحالة، لابدّ من إحراز الأهمّ منهما، والعمل به وترك المهمّ.

مسألة: هل يجوز التقليد في اُصول الدين، بأن يأخذ بقول الغير في الاُصول بلا دليلٍ - أيضاً -، كما يجوز ذلك في فروع الدين، أم لا؟

أمّا في فروع الدين، فالتقليد لازم على العوامّ باتّفاق العلماء؛ لأنّ استنباط الأحكام الشرعيّة يحتاج إلى مقدّمات كثيرة، وهو عسر على عامّة الناس، والاحتياط - أيضاً - عسر كما بيّنّا؛ لعدم القدرة على معرفة موارده غالباً، بل حتى لو كان ممكناً،وقلنا بوجوبه لكلّ أحد، يلزم اختلال النظام، ولذلك يحكم العقل على كلّ من له صنعة يستقلّ بها كسب اُمور معاشه، بأنّ عليه أن يرجع إلى المجتهد الجامع للشرائط ليعمل حسب رأيه، كما أشار إلى ذلك سبحانه وتعالى في قوله: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ل--ّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَل--ِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(1).

ص: 540


1- التوبة: الآية 122.

وأمّا التقليد في اُصول الدين:

فقد يقال: بعدم جوازه، بل قد يُدّعى عليه الإجماع.

ولكن قد ذكرنا مراراً أنّه ليس بحجّة، وعلى تقدير حجّيّته في المسائل الفرعيّة إذا كان كاشفاً عن قول المعصوم(علیه السلام)، فلا دليل على حجّيّة مثل هذا الإجماع في الاُمور العقليّة والاُصول الاعتقاديّة. هذا. مضافاً إلى أنّ المسألة خلافيّة، وفيها أقوال كثيرة.

وقد يقال: إنّ اﷲ تبارك وتعالى قد ذمّ التقليد في اُصول الدين بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾(1).

ولكن يُجاب عنه: بأنّ اﷲ تعالى إنّما ذمّ في القرآن الكريم قبول قول الغير تعبّداً من دون حصول يقين، والكفّار لم يكن يحصل لهم اليقين، ولا كانوا يعتمدون على الأدلّة والبراهين،بل كانوا يكتفون بالمظنّة والخيالات، كما تشير إليه الآية المباركة: ﴿وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾(2).

ومن هنا، فلو حصل للعوامّ الذين يتعلّمون اُصول دينهم من كلام العلماء والمتديّنين الذين لهم كمال الوثوق بقولهم، ولا يحتملون منهم الكذب في اُمور دينهم، لو حصل لهم يقين بقولهم، كان كافياً.

وأمّا ما قد يقال: من أنّ اليقين بالمعارف لا يمكن أن يحصل بالتقليد،

ص: 541


1- الزخرف: الآية 23.
2- الجاثية: الآية 24.

فمحلّ تأمّل؛ فإنّ حصول المعارف الحقّة كما قد يأتي من النظر والاستدلال، فكذلك قد يأتي من ناحية التقليد أيضاً.

فإن قلت: المعرفة الحاصلة من التقليد تزول بالشكّ، وأمّا المعرفة الحاصلة من النظر والاستدلال، فلا تزول به.

قلت: ليس ذلك مسلّماً على إطلاقه، بل المعرفة بالنظر والاستدلال - أيضاً - ممّا يمكن أن تزول بالتشكيك. وعلى فرض التنزّل، فما دام اليقين باقياً، فهو كافٍ. نعم، لو زال اليقين بسبب شبهة أُلقيت من قبل المعاندين وأعداء الدين، كان لابدّ له من الرجوع إلى أهل الخبرة حتى يحصل له اليقين عن طريق البرهان والاستدلال.

وكذلك لا يجري التقليد في مسائل اُصول الفقه؛ لخروجها عن محلّ الابتلاء بالنسبة إلى العامّيّ، وعلى فرض كونها محلّ الابتلاء فلا ثمرة لها، وما قيل أو يقال: من أنّه تظهرثمرة لذلك بالنذر، فمندفع بأنّ متعلّق النذر لابدّ وأن يكون راجحاً.

فإن قلت: كيف حكمتم بأنّه لا يجوز التقليد في المسائل الاُصوليّة، مع قولهم بجوازه بالنسبة إلى مسألة أصل التقليد، أو مسألة تقليد الأعلم.

قلنا: بل هذه من المسائل الفرعيّة، لا الاُصوليّة؛ لعدم وقوعها في طريق استنباط الأحكام، أي: لعدم وقوعها حدّ أوسط لإثبات الحكم الكلّيّ الإلهيّ.

ثمّ هل يجوز التقليد في مبادئ الاستنباط، كعلوم العربيّة والمنطق

ص: 542

وغيرها أم لا؟ بل لا يكفي أن يقلّد في علم النحو نحويّاً خاصّاً، وفي علم المنطق منطقيّاً كذلك، وهكذا، بل لابدّ له من تحصيل العلم بذلك، ولو بمراجعة كتبهم؛ وذلك لأنّ أدلّة التقليد قاصرة عن شمولها لأمثال ذلك.

ولكن يمكن أن يقال: بأنّ عدم جواز التقليد إنّما يكون في كلّيّاتها التي تقع في طريق استنباط الحكم الكلّيّ؛ لخروجها عن محلّ ابتلاء العامّيّ، وأمّا ما يقع في مقام تشخيص الماُمور به وتمييزه عن غيره، كالمسائل التي لها علاقة بتصحيح الأذان والأقامة وصيغ العقود والإيقاعات وأمثال ذلك، من قبيل: مسائل الإدغام والمدّ والوقف وغيرها، وكان غير متمكّن من تحصيلها بنفسه، فيجوز له فيها أن يكون مقلّداً لمن أهل الخبرة في هذا المجال.مسألة: هل يجوز التقليد في الموضوعات المستنبطة العرفيّة أو اللّغويّة أم لا؟

تنقسم الموضوعات الشرعيّة إلى قسمين:

قسم يُسمّى بالموضوعات المستنبطة، وهي ما يكون مفهومها غير واضح بذاتها وحدودها، بل تحتاج إلى إعمال فكر ونظر، بلا فرقٍ بين أن تكون عرفيّة، كالغناء والآنية، أو لغويّةً كالصعيد، أو من المخترعات الشرعيّة - بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة -. وهذا القسم يمكن فيه التقليد.

ص: 543

وقسم يُسَمّى بالموضوعات الصرفة، وهي ما يكون مفهومها واضحاً، وحيث إنّها لا تحتاج إلى الاجتهاد وإعمال النظر، فلا تكون بحاجة إلى تقليد.

والسرّ في الحكم بجواز التقليد في القسم الأوّل دون الثاني: أنّ الموضوعات المستنبطة لها جهتان وحيثيّتان، فإنّها من حيث استتباعها للأحكام الشرعيّة يكون مرجعها إلى الشارع، ومن حيث أنفسها يكون بيانها موكولاً إلى العرف إن كانت عرفيّة، أو اللّغة إن كانت لغويّة. وأمّا القسم الثاني، فلما بيّنّاه من كونه واضحاً حتى عند العامّيّ، فيستغني عن التقليد.

مسألة: هل يجوز للمقلّد إجراء أصالة البراءة أو الطهارة أو الاستصحاب في الشبهات الحكميّة أم لا؟ وهل يجوز ذلك في الشبهات الموضوعيّة أم لا؟

أمّا الشبهة الحكميّة، وكذا ما يكون ملحقاً بها - وهي المسمّاة بالشبهة المصداقية، كما لو كان عندك إناء فيه ماء، فصببتفيه التراب تدريجاً، إلى أن شككت في أنّ ما فيه هل هو ماء أم وحل، فإنّها ليست بحكميّة، لعدم وجود ملاك الحكميّة فيها، وهو فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين، وليست موضوعيّةً أيضاً؛ لعدم توفّر ما هو معيار الشبهة الموضوعيّة فيها، وهو التردّد في الموضوعات الخارجيّة.

ص: 544

ولكن مع ذلك فحكمها حكم الشبهة الحكميّة - فلا يمكن للعامّيّ إجراء الاُصول فيها؛ وذلك لأنّ جريانها مشروط بإعمال الفحص، والعامّيّ عاجز عنه، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه.

وأمّا الشبهة الموضوعيّة، فحيث إنّ إجراء الاُصول فيها ليس مشروطاً بالفحص، فيجوز له إجراء الأصل إذا كان قد قلّد من يجيز إجراءها، ثمّ على فرض أنّها بحاجةٍ إلى الفحص - أيضاً -، فهو متمكّن من ذلك؛ لأنّ منشأ الشكّ في الشبهة الموضوعيّة كما عرفنا هو التردّد في الاُمور الخارجيّة، فهو - مثلاً - قادر على حساب ما يملكه عند الشكّ في حصول الاستطاعة له.

مسألة: المجتهد غير العادل، أو مجهول الحال، لا دليل على حجّيّة رأيه، وإن كان موثوقاً به في فتواه، فلا يجوز تقليده بناءً على أنّ العدالة شرط على نحو الموضوعيّة، وأمّا إذا قلنا بأنّها معتبرة على نحو الطريقيّة، كانت فتواه حجّة حينئذٍ؛ لأنّ الفرض هو حصول الوثوق بما يخبره، فجاز الأخذ بقوله وإن لم يكن عادلاً.مسألة: لابدّ في العمل بفتوى المجتهد من العلم بصحّته، ولا يفيد الظنّ بها، إلّا ما خرج منه بالدليل، كالظنّ الحاصل من البيّنة أو من ظواهر الألفاظ التي هي حجّة بدليل بناء العقلاء، سواء كان من المجتهد نفسه أم من الناقل، وأمّا المكتوب في رسالته العمليّة، فيكون حجّة بناءً على

ص: 545

خروجها عن حرمة العمل بالظنّ، بتقريب: أنّ الخطّ نفس اللّفظ بنظر العقلاء، وهم لا يفرّقون بينهما، وإلّا، فالعمل بها مشكل.

والحمد ﷲ أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً...

ونحمده على ما وفّقنا به من إتمام هذه الدورة الاُصوليّة، ونسأله أن يجعل هذا الجهد خالصاً لوجهه الكريم، والصلاة على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 546

الفهرس

ص: 547

ص: 548

الفهرس

قاعدة لا ضرر ولا ضرار(7-40)

قاعدة لا ضرر ولا ضرار.... 7

الأمر الأوّل: في مدرك هذه القاعدة .... 7

الأمر الثاني: في بيان مفردات هذه الفقرة ..... 11

الأمر الثالث: هل تشمل القاعدة الأحكام العدميّة أم لا؟..... 18

الأمر الرابع: هل المراد من الضرر المنفيّ في القاعدة هو الضرر .... 21

الأمر الخامس: في دعوى عدم شمول الحديث لمورد نفسه ..... 23

الأمر السادس: في بيان تقديم هذه القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة الواقعيّة .... 25

الأمر السابع: شمول القاعدة للحكم الضرريّ، تكليفيّاً كان أم وضعيّاً.... 31

الأمر الثامن: في تعارض الضررين ... 32الأمر التاسع: في تعارض القاعدة مع قاعدة «الناس مسلّطون على أموالهم»..... 35

الاستصحاب (41-100)

الاستصحاب.... 41

الأمر الأوّل: في بيان الأقوال التي وردت في جريانه وحجّيّته .... 41

الأمر الثاني: في بيان المعنى الاصطلاحيّ للاستصحاب ..... 42

ص: 549

الأمر الثالث: هل الاستصحاب من المسائل الاُصوليّة أم لا؟..... 43

الأمر الرابع: يتقوّم الاستصحاب باليقين والشكّ ..... 44

الأمر الخامس: اشتراط الفعليّة في الشكّ واليقين .... 46

الأمر السادس: في انقسامات الاستصحاب ... 48

التفصيل بين الأحكام الكلّيّة والأحكام الجزئيّة .... 49

التفصيل بين ما كان دليله العقل وما دليله النقل .... 53

الأمر السابع: في أدلّة حجّيّة الاستصحاب ... 55

تنبيهات الاستصحاب (101-206)تنبيهات الاستصحاب.... 101

التنبيه الأوّل: في استصحاب الكلّيّ ..... 101

الشبهة العبائيّة 107

التنبيه الثاني: استصحاب الاُمور التدريجيّة غير القارّة .... 117

التنبيه الثالث: في الاستصحاب التعليقيّ والتنجيزيّ ... 128

التنبيه الرابع: في استصحاب أحكام الشرائع السابقة 148

التنبيه الخامس: في عدم اعتبار الاُصول المثبتة ..... 160

التنبيه السادس: الشكّ في التقدّم والتأخّر مع العلم بحصوله في زمان خاصّ .... 177

التنبيه السابع: في جريان استصحاب الصحّة .... 187

التنبيه الثامن: الاستصحاب في الاُمور العقائديّة.... 188

التنبيه التاسع: الرجوع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص .... 193

التنبيه العاشر: تعذّر بعض قيود المركّب ..... 202

التنبيه الحادي عشر: المراد من الشكّ في البقاء ..... 204

ص: 550

خاتمة (207-249)

خاتمة... 207

الأمر الأوّل: الكلام في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ..... 207

الأمر الثاني: هل تشمل أخبار الاستصحاب قاعدة اليقين أم لا؟. 223

الأمر الثالث: في تقدّم الأمارات على الاستصحاب .... 230

الأمر الرابع: تقديم الأصل السببيّ على المسبّبيّ .... 242

الأمر الخامس: في تعارض الاستصحابين .... 245

الأمر السادس: تقدّم التجاوز والفراغ وأصالة الصحّة على ... 246

قاعدة القرعة (251-258)

قاعدة القرعة..... 251

الكلام في أصالة الصحّة (259-285)

الكلام في أصالة الصحّة.. 259

الأمر الأوّل ... 259

الأمر الثاني .... 260الأمر الثالث .... 262

الأمر الرابع .... 263

الأمر الخامس .... 264

الأمر السادس .... 265

الأمر السابع: اختلاف الصحّة بحسب مواردها .... 275

الأمر الثامن .... 277

ص: 551

الأمر التاسع .... 278

الأمر العاشر..... 281

الكلام في تعارض الاستصحابين (287-302)

الكلام في تعارض الاستصحابين.... 287

مبحث التعادل والتراجيح (303-412)

مبحث التعادل والتراجيح.. 303

الأمر الثاني: في أنّه من المسائل الاُصوليّة ... 304

الأمر الثالث: في تعريف التعارض .... 305

الأمر الرابع: في شرائط حصول التعارض .... 306

الأمر الخامس: في الفرق بين التعارض والتزاحم ..... 308

الأمر السادس: مرجّحات بابي التعارض والتزاحم .... 312

الأمر السابع: في حكم التعارض .... 321

الأمر الثامن: فيما لو كان التعارض بين أكثر من دليلين ... 346

تتميم: في نسبة أدلّة ضمان العارية بعضها إلى بعض ... 356

الأمر التاسع: في مقتضى القاعدة الأوّليّة عند عدم المرجّح ... 361

الأمر العاشر: حكم الخبرين بعد أن كان مقتضى الأصل تساقطهما 367

فصل: في تقييد أدلّة التخيير بأدلّة الترجيح .... 380

المرجّحات المدّعى أنّها منصوص عليها .... 384

التعدّي من المرجّحات والمزايا المنصوصة .... 393

فصل: في التعارض بين العامّين من وجه .... 407

في ترجيح أحد المتعارضين بالأصل .... 410

ص: 552

وأمّا الترجيح بالظنون غير المعتبرة ... 411

مبحث الاجتهاد والتقليد (413-546)مبحث الاجتهاد والتقليد... 413

الأمر الأوّل: أنّه من المسائل الاُصوليّة أو الفقهيّة ..... 413

الأمر الثاني: تعريف الاجتهاد لغةً واصطلاحاً ..... 414

الأمر الثالث: في مبادئ الاجتهاد .... 416

الأمر الرابع: التجزّي في الاجتهاد ..... 425

الأمر الخامس: التخطئة والتصويب .... 436

الأمر السادس: في الإجزاء بعد تبدّل الرأي ..... 438

حجّيّة التقليد وجوازه .... 453

مسألة: هل يجوز تقليد الميّت ابتداءً؟.... 455

مسألة: البقاء على تقليد الميت 466

العدول من الحيّ إلى الحيّ ..... 473

فصل: في لزوم تقليد الأعلم..... 475

حكم عمل الجاهل المقصّر والقاصر ..... 491

ما هو المراد من الأعلم .... 494

طرق معرفة الاجتهاد والأعلميّة .... 496

وجوب التعلّم..... 501

طرق تعلّم الفتوى 508

الفهرس (547-553)

الفهرس..... 547

ص: 553

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.